روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الضمان
هو صحيح بالاجماع، وفيه بابان.
الاول: في أركانه، وهي خمسة. الاول: المضمون عنه. ولا يشترط رضاه بالاتفاق، لان قضاء دينه بغير إذنه جائز، فضمانه أولى، وكما يصح الضمان عن الميت اتفاقا سواء خلف وفاء، أم لا. ولا يشترط معرفة المضمون عنه على الاصح.

(3/473)


قلت: وسواء كان المضمون عنه حرا، أم عبدا، أم معسرا. والله أعلم. الركن الثاني: المضمون له، ويشترط معرفته على الاصح. وعلى هذا لا يشترط رضاه على الاصح وقول الاكثرين، فان شرطناه، لم يشترط قبوله لفظا على الاصح، فإن شرطناه، فليكن بينه وبين الضمان ما بين الايجاب والقبول في سائر العقود. وإن لم نشترطه، جاز أن يتقدم الرضى على الضمان. فإن تأخر عنه، فهو إجارة إن جوزنا وقف العقود، قاله الامام، وفرع على قولنا: لا يشترط رضاه، فقال: إذا ضمن بغير رضاه، نظر إن ضمن بغير إذن المضمون عنه، فالمضمون له بالخيار، إن شاء طالب الضامن، وإن شاء تركه. وإن ضمن بإذنه، فحيث قلنا: يرجع الضامن على المضمون عنه، يجبر المضمون له على قبوله، لان ما يؤديه في حكم ملك المضمون عنه. وإن قلنا: لا يرجع، فهو كما لو قال لغيره: أد ديني ولم يشترط الرجوع، وقلنا: لا يرجع. وهل لمستحق الدين والحالة هذه أن يمتنع من القبول ؟ وجهان بناء على أن المؤدى يقع فداء، أم موهوبا لمن عليه الدين ؟ إن قلنا بالثاني، لم يكن له الامتناع، وهو الاشهر، فحصل في معرفة المضمون عنه، وله أوجه. أصحها: يشترط معرفة المضمون له فقط. والثاني: يشترط معرفتهما. والثالث: لا. ورابع حكاه الامام: يشترط معرفة المضمون عنه فقط، وهو غريب ضعيف. قلت: وإذا شرطنا قبول المضمون له، فللضامن الرجوع عن الضمان قبل قبوله، قاله في الحاوي لانه لم يتم الضمان، فأشبه البيع. والله أعلم. الركن الثالث: الضامن. وشرطه: صحة العبارة، وأهلية التبرع. أما صحة العبارة، فيخرج عنه الصغير، والمجنون، والمبرسم الذي يهذي،

(3/474)


فلا يصح ضمانهم. ولو ضمن إنسان ثم قال: كنت صبيا يوم الضمان، وكان محتملا، قبل قوله مع يمينه. وكذا لو قال: كنت مجنونا وقد عرف له جنون سابق، أو أقام به بينة، وإلا فالقول قول المضمون له مع يمينه. وفي ضمان السكران، الخلاف المذكور في تصرفاته. قلت: هذا في السكران بمعصية. فأما السكران بمباح، فكالمجنون. والله أعلم. وأما الاخرس، فإن لم يكن له إشارة مفهومة، ولا كتابة، لم نعرف أنه ضمن حتى نصحح أو نبطل، وإن كانت له إشارة مفهومة، صح ضمانه بها كبيعه وسائر تصرفاته. وفي وجه: لا يصح ضمانه، إذ لا ضرورة إليه، بخلاف سائر التصرفات. ولو ضمن بالكتابة، فوجهان، سواء أحسن الاشارة، أم لا. أصحهما: الصحة، وذلك عند القرينة المشعرة، ويجري الوجهان في الناطق وفي سائر التصرفات. وأما أهلية التبرع، فلا يصح ضمان المحجور عليه لسفه وإن أذن الولي، لانه تبرع، وتبرعه لا يصح بإذن الولي. كذا قال الامام، والغزالي: إن الضمان تبرع، وإنما يظهر هذا حيث لا رجوع. وأما حيث ثبت الرجوع، فهو قرض محض. ويدل عليه نص الشافعي رضي الله عنه: أنه لو ضمن في مرض موته بغير إذن المضمون عنه، حسب من ثلثه. وإن ضمن باذنه، فمن رأس المال، لان للورثة الرجوع على الاصيل، وهو وإن لم يكن تبرعا فلا يصح من السفيه كالبيع وسائر التصرفات المالية. فان أذن فيه الولي، فليكن كما لو كان في البيع.

(3/475)


قلت: الذي قاله الامام، هو الصواب. وقد صرح الاصحاب بأنه لا يصح ضمانه من غير فرق بين الاذن وعدمه. وقول الرافعي: إنه ليس تبرعا، فاسد، فإنه لو سلم أنه كالقرض، كان القرض تبرعا. وقوله: إذا أذن الولي، كان كالبيع، يعني فيجري فيه الوجهان، فاسد أيضا، فان البيع، إنما صح على وجه، لانه لا يأذن إلا فيما فيه ربح أو مصلحة، والضمان غرر كله بلا مصلحة. وأما ضمان المريض، فقال صاحب الحاوي: هو معتبر من الثلث، لانه تبرع. فان كان عليه دين مستغرق، فالضمان باطل. وإن خرج بعضه من الثلث، صح فيه. فلو ضمن في مرضه، ثم أقر بدين مستغرق، قدم الدين ولا يؤثر تأخر الاقرار به. والله أعلم. وأما المحجور عليه لفلس، فضمانه كشرائه. فرع ضمان المرأة صحيح، مزوجة كانت أو غيرها، ولا حاجة إلى إذن الزوج كسائر تصرفاتها. فرع في ضمان العبد بغير إذن سيده مأذونا كان أو غيره، وجهان. أحدهما: صحيح يتبع به إذا عتق، إذ لا ضرر على سيده، كما لو أقر باتلاف مال وكذبه السيد. وأصحهما: لا يصح. وإن ضمن بإذن سيده، صح. ثم إن قال: اقضه مما تكسبه، أو قال للمأذون: اقضه مما في يدك، قضى منه. وإن عين مالا وأمر بالقضاء منه، فكمثل. وإن اقتصر على الاذن في الضمان، فإن لم يكن مأذونا، ففيه أوجه، أصحها: يتعلق بما يكسبه بعد الاذن كالمهر. والثاني: يكون في ذمته إلى أن يعتق لانه أذن في الالتزام دون الاداء. والثالث يتعلق برقبته. وإن كان مأذونا له في التجارة، فهل يتعلق بذمته أم بما يكسبه بعد ؟ أم به وبما في يده من الربح الحاصل ؟ أم بهما وبرأس المال ؟ فيه أوجه، أصحها: آخرها.

(3/476)


وحيث قلنا: يؤدي مما في يده، فلو كان عليه ديون، ففيه أوجه عن ابن سريج، أحدها: يشارك المضمون له الغرماء، كسائر الديون. والثاني: لا يتعلق الضمان بما في يده أصلا، لانه كالمرهون بحقوق الغرماء. والثالث: يتعلق بما فضل عن حقوقهم رعاية للجانبين. قلت: أصحها: الثالث. والله أعلم. وهذا إذا لم يحجر القاضي عليه. فإن حجر باستدعاء الغرماء، لم يتعلق الضمان بما في يده قطعا. وأم الولد والمدبر، كالقن في الضمان، وكذا من بعضه حر إن لم يكن بينه وبين سيده مهاياة، أو كانت وضمن في نوبة السيد. فإن ضمن في نوبته، صح قطعا. ويجوز إن ضمن في نوبته، أن يخرج على الخلاف في المؤن والاكساب النادرة، هل تدخل في المهاياة ؟ والمكاتب بلا إذن، كالقن، وبالاذن، قالوا: هو على القولين في تبرعاته. فرع ضمن عبد باذن سيده، وأدى في حال رقه، فحق الرجوع لسيده. وإن أدى بعد عتقه، فالرجوع للعبد على الاصح. ولو ضمن العبد لسيده عن أجنبي، لم يصح لانه يؤدي من كسبه وهو لسيده، ولو ضمن لاجنبي عن سيده، فإن لم يأذن السيد، فهو كما لو ضمن عن أجنبي. وإن أذن، صح. ثم إن أدى قبل عتقه، فلا رجوع، وبعده، وجهان بناء على ما لو أجره ثم أعتقه في المدة، هل يرجع بأجرة المثل لما بقي ؟ قلت: لو ثبت على عبد دين بالمعاملة فضمنه سيده، صح كالاجنبي. ولو ضمن السيد لعبده دينا على أجنبي، فإن لم يكن على العبد دين من التجارة، فالضمان باطل. وإلا فوجهان، قاله في الحاوي. والله أعلم.

(3/477)


الركن الرابع: الحق المضمون، وشرطه ثلاث صفات: كونه ثابتا، لازما، معلوما. الصفة الاولى: الثبوت، وفيها مسائل. إحداها: إذا ضمن ما لم يجب، وسيجب بقرض أو بيع، وشبههما، فطريقان. أحدهما: القطع بالبطلان، لانها وثيقة، فلا تسبق وجوب الحق كالشهادة. وأشهرهما على قولين. الجديد، البطلان. والقديم، الصحة، لان الحاجة قد تدعو إليه. ونقل الامام، فروعا على القديم. أحدها: إذا قال ضمنت لك ثمن ما تبيع فلانا، فباع شيئا بعد شئ، كان ضامنا للجميع، لان ما من أدوات الشرط، فتقتضي التعميم، بخلاف ما إذا قال: إذا بعت فلانا، فأنا ضامن، لا يكون ضامنا إلا ثمن ما باعه أولا، لان إذا ليست من أدوات الشرط. والثاني: إن شرطنا معرفة المضمون له عند ثبوت الدين، فهنا أولى. وإلا، فوجهان. وكذا معرفة المضمون عنه. والثالث: لا يطالب الضامن ما لم يجب الدين على الاصيل، وليس له الرجوع بعد لزومه. وأما قبله، فعن ابن سريج، أن له الرجوع. وقال غيره: لا، لان وضعه على اللزوم. وأما إذا قلنا بالجديد، فقال: أقرض فلانا كذا وعلي ضمانة، فأقرضه، فالصحيح، أنه لا يجوز، وجوزه ابن سريج. المسألة الثانية: ضمان نفقة المدة الماضية للزوجة، صحيح سواء كانت نفقة الموسرين أو المعسرين. وكذا ضمان الادم، ونفقة الخادم، وسائر المؤن. ولو ضمن نفقة اليوم، فكمثل، لانها تجب بطلوع الفجر. وفي ضمان نفقة الغد والشهر المستقبل، قولان بناء على أن النفقة تجب بالعقد أم بالتمكين ؟ إن قلنا بالاول وهو

(3/478)


القديم، صح، وإن قلنا بالثاني، وهو الجديد الاظهر، فلا، هكذا نقله عامة الاصحاب. وأشار الامام إلى أنه على قولين مع قولنا: ضمان ما لم يجب باطل، لان سبب وجوب النفقة ناجز وهو النكاح. فإن جوزنا ضمن نفقة المستقبل، فله شرطان. أحدهما: أن يقدر مدة. فإن أطلق، لم يصح فيما بعد الغد، وفيه وجهان كما لو قال أجرتك كل شهر بدرهم، هل يصح في الشهر الاول ؟ الشرط الثاني: أن يكون المضمون نفقة المعسر، وإن كان المضمون عنه موسرا لانه ربما أعسر. وفي التتمة وجه، أنه يجوز ضمان نفقة الموسر والمتوسط، لان الظاهر استمرار حاله. فرع لا يجوز ضمان نفقة القريب لمدة مستقبلة. وفي نفقة يومه وجهان، لان سبيلها سبيل البر والصلة. ولهذا، تسقط بمضي الزمان وبضيافة الغير. المسألة الثالثة: باع شيئا فخرج مستحقا، لزمه رد الثمن، ولا حاجة فيه إلى شرط والتزام. قال القفال: ومن الحماقة اشتراط ذلك في القبالات. وإن ضمن عنه ضامن ليرجع المشتري عليه بالثمن لو خرج المبيع مستحقا، فهذا ضمان العهدة، ويسمى ضمان الدرك. أما ضمان العهدة، فقال في التتمة إنما سمي به لالتزامه ما في عهدة البائع رده، والدرك لالتزامه الغرم عند إدراك المستحق عين ماله. وفي صحة هذا الضمان، طريقان. أحدهما: يصح قطعا. وأصحهما: على قولين. أظهرهما: الصحة للحاجة إليه. والثاني: البطلان. فإن صححنا، فذلك إذا ضمن بعد قبض الثمن. فأما قبله، فوجهان. أصحهما. المنع لانه إنما يضمن ما دخل

(3/479)


في ضمان البائع ولا يوجد ذلك قبل القبض. والثاني: الصحة لانه قد تدعو إليه حاجة بأن لا يسلم الثمن إلا بعده. فرع كما يصح ضمان العهدة للمشتري، يصح ضمان نقص الصنجة للبائع بأن جاء المشتري بصنجة ووزن بها الثمن، فاتهمه البائع فيها، فضمن ضامن نقصها إن نقصت. وكذا ضمان رداءة الثمن إذا شك البائع، هل المقبوض من النوع الذي يستحقه ؟ فإذا خرج ناقصا، أو رديئا، طالب البائع الضامن بالنقص وبالنوع المستحق إذا رد المقبوض على المشتري. ولو اختلف البائع والمشتري في نقص الصنجة، صدق البائع بيمينه. فإذا حلف، طالب المشتري بالنقص ولا يطالب الضامن على الاصح، لان الاصل براءته. ولو اختلف البائع والضامن في نقصها، فالمصدق الضامن على الاصح، لان الاصل براءته بخلاف المشتري، فان ذمته كانت مشغولة. فرع لو ضمن عهدة الثمن، إن خرج المبيع معيبا ورده، أو بان فساد البيع بغير الاستحقاق كفوات شرط معتبر في البيع، أو اقتران شرط مفسد، فوجهان. أصحهما: الصحة. وهو الذي ذكره العراقيون للحاجة. والثاني: المنع لندور الحاجة، ولانه في المعيب ضمان ما لم يجب. فإن قلنا يصح إذا ضمن صريحا، فحكى الامام والغزالي وجهين في اندراجه تحت مطلق ضمان العهدة. فرع في مسائل تتعلق بضمان الدرك إحداها: من ألفاظ هذا الضمان، أن يقول للمشتري: ضمنت لك عهدته، أو دركه، أو خلاصك منه. ولو قال: ضمنت لك خلاص المبيع، لم يصح لانه لا يستقل بتخليصه إذا استحق. ولو ضمن عهدة الثمن وخلاص المبيع معا، لم يصح ضمان الخلاص. وفي العهدة قولا الصفقة. ولو شرط في البيع كفيلا بخلاص المبيع، بطل، بخلاف ما لو شرط كفيلا بالثمن. الثانية: يشترط أن يكون قدر الثمن معلوما للضامن. فان لم يكن، فهو كما لو لم يكن قدر الثمن في المرابحة معلوما.

(3/480)


الثالثة يجوز ضمان المسلم فيه للمسلم إليه لو خرج رأس المال مستحقا بعد تسليم المسلم فيه، ولا يجوز قبله على الاصح. ولا يجوز ضمان رأس المال للمسلم لو خرج المسلم فيه مستحقا، لان المسلم فيه في الذمة، والاستحقاق لا يتصور فيه، وإنما يتصور في المقبوض، وحينئذ يطالبه المسلم بمثله لا برأس المال. الرابعة: إذا ظهر الاستحقاق، فالمشتري يطالب من شاء من البائع والضامن. ولا فرق في الاستحقاق بين أن يخرج مستحقا أو كان شقصا ثبت فيه شفعة ببيع سابق، فأخذه الشفيع بذلك البيع، ولو بان فساد البيع بشرط أو غيره، ففي مطالبته الضامن، وجهان. أحدهما: نعم كالاستحقاق. والثاني: لا للاستغناء عنه بامكان حبس المبيع حتى يسترد الثمن. ولو خرج المبيع معيبا فرده المشتري، ففي مطالبته الضامن بالثمن، وجهان، وأولى بأن لا يطالب، لان الرد هنا بسبب حادث وهو مختار فيه، فأشبه الفسخ بخيار شرط أو مجلس أو تقايل، هذا إذا كان العيب مقرونا بالعقد. أما إذا حدث في يد البائع بعد العقد، ففي التتمة أنه لا يطالب الضامن بالثمن وجها واحدا، لانه لم يكن سبب رد الثمن مقرونا بالعقد، ولم يكن من البائع تفريط فيه. وفي العيب الموجود عند العقد، سبب الرد موجود عند العقد، والبائع مفرط بالاخفاء، فالتحق بالاستحقاق على رأي. قلت: أصح الوجهين الاولين، لا يطالب. ولو خرج المبيع معيبا وقد حدث عند المشتري عيب، ففي رجوعه بالارش على الضامن، الوجهان. والله أعلم. ولو تلف المبيع قبل القبض بعد قبض الثمن، وانفسخ العقد، هل يطالب الضامن بالثمن ؟ إن قلنا ينفسخ من أصله، فهو كظهور الفساد بغير الاستحقاق. وإن قلنا: من حينه، فكالرد بالعيب. ولو خرج بعض المبيع مستحقا، ففي صحة البيع في الباقي قولا الصفقة، وإن قلنا: يصح وأجاز المشتري، فإن قلنا: يجيز بجميع الثمن، لم يطالب الضامن بشئ. وإن قلنا: بالقسط، طالبه بقسط المستحق من الثمن. وإن فسخ، طالبه بالقسط، ومطالبته بحصة الباقي من الثمن، كمطالبته عند الفسخ بالعيب. وإن قلنا: لا يصح ففي مطالبته بالثمن طريقان. أحدهما: أنه كما لو بان فساد العقد بشرط ونحوه، والثاني: القطع بتوجه المطالبة لاستناد الفساد

(3/481)


إلى الاستحقاق، هذا كله إذا كانت صيغة الضمان كما ذكرنا في المسألة الاولى. أما إذا عين جهة الاستحقاق، فقال: ضمنت لك الثمن متى خرج المبيع مستحقا، فلا يطالب بجهة أخرى. وكذا لو عين جهة غير الاستحقاق، لم يطالب عند الاستحقاق. الخامسة: اشترى أرضا وبنى فيها، أو غرس ثم خرجت مستحقة، فقلع المستحق البناء والغراس، فهل يجب ارش النقص على البائع وهو ما بين قيمته قائما ومقلوعا ؟ وجهان. الاصح المنصوص، وجوبه. فعلى هذا، لو ضمنه ضامن، نظر إن كان قبل ظهور الاستحقاق، أو بعده وقبل القلع، لم يصح. وإن كان بعدهما، إن كان قدره معلوما. ولو ضمن رجل عهدة الارض وارش نقص البناء والغراس في عقواحد، لم يصح في الارش، وفي العهدة قولا الصفقة. ولو كان المبيع بشرط أن يعطيه كفيلا بهما، فهو كما لو شرط في البيع رهنا فاسدا. وقال جماعة من الاصحاب: ضمان نقص البناء والغراس، كما لا يصح من غير البائع، لا يصح من البائع، وهذا إن أريد به أنه لغو. كما لو ضمن العهدة لوجوب الارش عليه من غير التزام، فهو جار على ظاهر المذهب. وإلا، فهو ذهاب منهم إلى أنه لا ارش عليه. الصفة الثانية: اللزوم. والديون الثابتة، ضربان. أحدهما: ما لا يصير إلى اللزوم بحال، وهو نجوم الكتابة، فلا يصح ضمانها على الصحيح. ولو ضمن رجل عن المكاتب غير النجوم، فان ضمن لاجنبي، صح. وإذا غرم، رجع على المكاتب إن ضمنه باذنه. وإن ضمنه لسيده، نبني على أن ذلك الدين، هل يسقط بعجزه ؟ وفيه وجهان. إن قلنا: نعم وهو الاصح، لم يصح كضمان النجوم الضرب الثاني: ماله مصير إلى اللزوم. فان كان لازما في حال الضمان،

(3/482)


صح ضمانه سواء كان مستقرا أم لا كالمهر قبل الدخول، والثمن قبل قبض المبيع، ولا نظر إلى احتمال سقوطه، كما لا نظر إلى احتمال سقوط المستقر بالابراء، والرد بالعيب وشبههما. وإن لم يكن لازما حال الضمان، فهو نوعان. أحدهما: الاصل في وضعه اللزوم، كالثمن في مدة الخيار، وفي ضمانه وجهان. أصحهما: الصحة. قال في التتمة هذا الخلاف، إذا كان الخيار للمشتري أو لهما. أما إذا كان للبائع، فقط، فيصح قطعا لان الدين لازم في حق من عليه. وأشار الامام إلى أن تصحيح الضمان، مفرع على أن الخيار لا يمنع نقل الملك في الثمن إلى البائع. أما إذا منعه، فهو ضمان ما لم يجب. النوع الثاني: ما الاصل في وضعه الجواز، كالجعل في الجعالة، وفيه وجهان كما سبق في الرهن به، وموضع الوجهين بعد الشروع في العمل وقبل تمامه، كما سبق هناك. وضمان مال المسابقة، إن جعلناها إجارة، صح، وإلا فكالجعل. الصفة الثالثة: العلم، وفيه صور. احداها: ضمان المجهول، فيه طريقان، كضمان ما لم يجب. فان صححناه، فشرطه أن يمكن الاحاطة به، بأن يقول: أنا ضامن ثمن ما بعته فلانا،

(3/483)


وهو جاهل به، لان معرفته متيسرة. أما إذا قال: ضمنت لك شيئا مما لك على فلان، فباطل قطعا. والقولان في صحة ضمان المجهول يجريان في صحة الابراء عنه. وذكروا للخلاف في الابراء مأخذين. أحدهما: الخلاف في صحة شرط البراءة عن العيوب، فإن العيوب مجهولة الانواع والاقدار. والثاني: أن الابراء هل هو اسقاط كالاعتاق ؟ أم تمليك المديون ما في ذمته، ثم إذا ملكه سقط ؟ وفيه رأيان. إن قلنا: اسقاط، صح الابراء عن المجهول. وإلا، فلا، وهو الاظهر. ويتخرج على هذا الاصل مسائل. منها: لو عرف المبرئ قدر الدين ولم يعرفه المبرأ. إن قلنا: اسقاط، صح، وإلا فيشترط علمه كالمتهب. ومنها: لو كان له دين على هذا، ودين على هذا، فقال: أبرأت أحدكما. إن قلنا اسقاط، صح، وأخذ بالبيان. وإلا فلا، كما لو كان له في يد كل واحد عبد، فقال: ملكت أحدكما العبد الذي في يده. ومنها: لو كان لابيه دين على رجل، فأبرأه منه وهو لا يعلم موت الاب، إن قلنا: إسقاط صح، كما لو قال لعبد أبيه: أعتقك، وهو لا يعلم موت الاب. إن قلنا: تمليك، فهو على الخلاف فيما لو باع مال أبيه على ظن أنه حي، فبان ميتا. ومنها: أنه لا يحتاج إلى القبول إن جعلناه اسقاطا، وإن جعلناه تمليكا، لم يحتج إليه على الصحيح المنصوص. فإن اعتبرنا القبول، ارتد بالرد، وإلا، فوجهان. قلت: أصحهما: لا يرتد. والله أعلم. وهذه المسائل، ذكرها في التتمة مع أخوات لها. واحتج للتمليك بأنه لو قال للمديون: ملكتك ما في ذمتك، صح وبرئت ذمته من غير نية وقرينة، ولولا أنه تمليك، لافتقر إلى نية أو قرينة، كما إذا قال لعبده: ملكتك رقبتك، أو لزوجته: ملكتك نفسك، فإنه يحتاج إلى النية. فرع لو اغتابه فقال اغتبتك، فاجعلني في حل ففعل، وهو لا يدري ما اغتابه به، فوجهان. أحدهما: يبرأ لانه اسقاط محض، كمن قطع عضوا من عبد ثم عفا سيده عن القصاص، وهو لا يعلم عين المقطوع، فإنه يصح. والثاني: لا لان المقصود رضاه، ولا يمكن الرضى بالمجهول، ويخالف القصاص، فإنه مبني

(3/484)


على التغليب والسراية بخلاف اسقاط المظالم. الصورة الثانية: ضمان أروش الجنايات، صحيح إن كان دراهم أو دنانير. وفي ضمان إبل الدية، إذا لم نجوز ضمان المجهول، وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: الصحة. وقيل: يصح قطعا كما يصح الابراء عنها. وإذا دفع الحيوان وكان الضمان يقتضي الرجوع، فهل يرجع بالحيوان ؟ أم بالقيمة ؟ قال الامام: لا يبعد أن يجرى فيه الخلاف المذكور في إقراض الحيوان. ولا يجوز ضمان الدية عن العاقلة قبل تمام السنة، لانها غير ثابتة بعد. الصورة الثالثة: إذا منعنا ضمان المجهول، فقال: ضمنت مما لك على فلان من درهم إلى عشرة، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما الصحة لانتفاء الغرر، فعلى هذا، يلزمه عشرة على الاصح. وقيل: ثمانية. وقيل: تسعة. قلت: الاصح: تسعة، وسنوضحه في الاقرار إن شاء الله تعالى. والله أعلم. وإن قال ضمنت لك ما بين درهم وعشرة، فإن عرف أن دينه لا ينقص عن عشرة، صح وكان ضامنا لثمانية. وإلا، ففي صحته في الثمانية القولان، أو الوجهان. ولو قال ضمنت لك الدراهم التي لك على فلان، وهو لا يعرف مبلغها، فهل يصح الضمان في ثلاثة لدخولها في اللفظ على كل حال ؟ كما لو أجر كل شهر بدرهم، فهل يصح في الشهر الاول، وهذه المسائل بعينها جارية في الابراء. فرع يصح ضمان الزكاة عمن هي عليه على الصحيح. وقيل: لا لانها حق لله تعالى ككفالة بدن الشاهد لاداء الشهادة. فعلى الصحيح، يعتبر الاذن عند الاداء على الاصح.

(3/485)


فرع يجوز ضمان المنافع الثابتة في الذمة كالاموال. فصل في كفالة البدن ويسمى أيضا، كفالة الوجه، وهي صحيحة على المشهور. وقيل: تصح قطعا، فتجوز ببدن من عليه مال، ولا يشترط العلم بقدره على الاصح. والثاني: يشترط بناء على أنه لو مات، غرم الكفيل المال. ويشترط أن يكون المال مما يصح ضمانه. فلو تكفل ببدن مكاتب للنجوم التي عليه، لم يصح. فإن كان عليه عقوبة، فإن كانت لآدمي كالقصاص وحد القذف، صحت الكفالة على الاظهر. وقيل: لا تصح قطعا. وإن كانت حدا لله تعالى، لم تصح على المذهب. وقيل: قولان. وضبط الامام والغزالي من تكفل ببدنه فقالا: حاصل كفالة البدن التزام إحضار المكفول ببدنه، فكل من يلزمه حضور مجلس الحكم عند الاستعداء أو يستحق إحضاره، تجوز الكفالة ببدنه، فيخرج على هذا الضابط صور، منها: الكفالة ببدن امرأة يدعي رجل زوجيتها، صحيحة. وكذلك الكفالة بها، لمن تثبت زوجيته. قال في التتمة والظاهر، أن حكم هذه الكفالة حكم الكفالة ببدن من ادعي عليه القصاص، لان المستحق عليها لا يقبل النيابة. ومنها: لو تكفل ببدن عبد آبق لمالكه، قال ابن سريج: يصح ويلزمه السعي في رده. ويجئ فيه مثما حكينا في الزوجة. ومنها: الميت قد يستحق إحضاره ليقيم الشهود الشهادة على صورته إذا تحملوها كذلك ولم يعرفوا اسمه ونسبه. وإذا كان كذلك، صحت الكفالة ببدنه.

(3/486)


ومنها: الصبي، والمجنون، قد يستحق إحضارهما لاقامة الشهادة على صورتها في الاتلاف، وغيره، فتجوز الكفالة فيهما. ثم إن كفل بإذن وليها، فله مطالبة الولي بإحضارهما عند الحاجة، وإن كفل بغير إذنه، فهو كالكفالة ببدن العاقل البالغ بغير إذنه. ومنها: قال الامام: لو تكفل رجل ببغداد ببدن رجل بالبصرة، فالكفالة باطلة، لان من بالبصرة لا يلزمه الحضور ببغداد للخصومات، والكفيل فرع المكفول به. وإذا لم يجب حضوره، لا يمكن إيجاب الاحضار على الكفيل. وهذا الذي قاله، تفريع على أنه لا يلزم إحضار من هو على مسافة القصر، وفيه خلاف يأتي إشاء الله تعالى. فرع الحق الذي تجوز بسببه الكفالة، إن ثبت على المكفول ببدنه بإقرار أو بينة، فذاك. وإن لم يثبت، لكنه ادعى عليه، فلم ينكر وسكت، صحت الكفالة أيضا. وإن أنكر، فوجهان. أحدهما: أنها باطلة. لان الاصل البراءة والكفالة بمن لا حق عليه باطلة. وأصحهما: الصحة لان الحضور مستحق. ومعظم الكفالات إنما تقع قبل ثبوت الحق. فرع تجوز الكفالة ببدن الغائب، والمحبوس، وإن تعذر تحصيل الغرض في الحال، كما يجوز للمعسر ضمان المال. فرع يشترط كون المكفول ببدنه معينا. فلو قال: كفلت بدن أحد هذين، لم يصح كما لو ضمن أحد الدينين. فصل في ضمان الاعيان فإذا ضمن عينا لمالكها وهي في يد غيره،

(3/487)


نظر، إن كانت مضمونة عليه كالمغصوب، والمستعار، والمستام، والامانات إذا خان فيها، فله صورتان. إحداهما: يضمن رد أعيانها. فالمذهب الذي عليه الجمهور، أنه على قولي كفالة البدن. وقيل: يصح قطعا. والفرق أن حضور الخصم ليس مقصودا في نفسه، وإنما هو ذريعة إلى تحصيل المال، فالتزام المقصود، أولى. فإن صححنا، فردها، برئ من الضمان. وإن تلفت وتعذر الرد، فهل عليه قيمتها ؟ وجهان، كما لو مات المكفول ببدنه. فان أوجبنا، فهل يجب في المغصوب أكثر القيم ؟ أم قيمته يوم التلف لان ا لكفيل لم يكن متعديا ؟ وجهان. قلت: الثاني أقوى. والله أعلم. ولو ضمن تسليم المبيع وهو بعد في يد البائع، جرى الخلاف في الضمان. فإن صححناه وتلف، انفسخ البيع. فان لم يدفع المشتري الثمن، لم يطالب الضامن بشئ. وإن كان دفعه، عاد الوجهان في أن الضامن، هل يغرم ؟ فان غرمناه، فهل يغرم الثمن ؟ أم أقل الامرين من الثمن وقيمة المبيع ؟ وجهان. أصحهما: أولهما. الصورة الثانية: أن يضمن قيمتها لو تلفت. قال البغوي: يبنى على أن المكفول ببدنه لو مات، هل يغرم الكفيل الدين ؟ إن قلنا: نعم، صح ضمان القيمة لو تلف العين. وإلا، فلا، وهو الصحيح لهذا، ولان القيمة قبل تلف العين، غير واجبة. أما إذا لم تكن العين مضمونة على من هي في يده كالوديعة والمال في يد الشريك، والوكيل، والوصي، فلا يصح ضمانها قطعا، لانها غير مضمونة الرد أيضا، وإنما يجب على الامين التخلية فقط. ولو تكفل ببدن العبد الجاني جناية توجب المال، فهو كضمان العين. ومنهم من قطع بالمنع. والفرق أن العين المضمونة مستحقة، ونفس العبد ليست مستحقة، وإنما المقصود تحصيل الارش من بدله، وبدله مجهول. فرع باع شيئا بثوب أو بدراهم معينة، فضمن قيمته، فهو كما لو كان

(3/488)


الثمن في الذمة وضمن العهدة. فرع رهن ثوبا ولم يسلمه، فضمن رجل تسليمه، لم يصح لانه ضمان ما ليس بلازم. فرع في مسائل من الكفالة إحداها: إذا عين في الكفالة مكانا للتسليم، تعين. وإن أطلق، فالمذهب أنها تصح ويجب التسليم في مكان الكفالة. وقيل: هو كما لو أطلق السلم. وإذا أتى الكفيل بالمكفول به في غير الموضع المستحق، جاز قبوله، وله أن يمتنع إن كان فيه غرض، بأن كان قد عين مجلس الحكم، أو موضعا يجد فيه من يعينه على خصمه. فان لم يختلف الغرض، فالظاهر أنه يلزمه قبوله. فان امتنع، رفعه إلى الحاكم ليقبض عنه. فان لم يكن حاكم، أشهد شاهدين أنه سلمه إليه. الثانية: يخرج الكفيل عن العهدة بتسليمه في المكان الذي وجب فيه التسليم، سواء طلبه المستحق أم أباه، بشرط أن لا يكون هناك حائل كيد سلطان، ومتغلب، وحبس بغير حق ينتفع بتسليمه. وحبس الحاكم بالحق، لا يمنع صحة التسليم، لامكان إحضاره ومطالبته بالحق. ولو حضر المكفول به وقال: سلمت نفسي إليك عن جهة الكفيل، برئ الكفيل كما يبرأ الضامن بأداء الاصيل الدين. ولو لم يسلم نفسه عن جهة الكفيل، لم يبرأ الكفيل لانه لم يسلمه إليه هو، ولا احد عن جهته، حتى قال القاضي حسين: لو ظفر به المكفول له في مجلس الحكم وادعى عليه، لم يبرأ الكفيل. وكذلك لو سلمه أجنبي، لا عن جهة الكفيل. وإن سلمه عن جهة الكفيل، فإن كان باذنه، فهو كما لو سلمه الكفيل. وإن كان بغير إذنه، فليس على المكفول به قبوله، لكن لو قبل: برئ الكفيل. ولو كفل رجل لرجلين، فسلم إلى أحدهما، لم يبرأ من حق الآخر. ولو كفل رجلان لرجل، فسلم أحدهما، قال في التهذيب: إن كفلاه على الترتيب، وقع تسليمه عن

(3/489)


المسلم دون صاحبه، سواء قال: سلمت عن صاحبي أم لم يقل. وإن كفلاه معا، فوجهان. قال المزني: يبرأ أيضا صاحبه، كما لو دفع أحد الضامنين الدين. وقال ابن سريج والاكثرون: لا يبرأ، كما لو كان بالدين رهنان، فانفك أحدهما، لا ينفك الآخر، ويخالف قضاء الدين، فإنه يبرئ الاصيل، وإذا برئ، برئ كل ضامن. ولو كانت المسألة بحالها، وكفل كل واحد من الكفيلين بدن صاحبه، ثم أحضر أحدهما المكفول به وسلمه، فعلى قول المزني: يبرأ كل واحد عن الكفالة الاولى وعن كفالة صاحبه. وعلى قول ابن سريج: يبرأ المسلم عن الكفالتين، ويبرأ صاحبه عن كفالته دون الكفالة الاولى. الثالثة: كما يخرج الكفيل عن العهدة بالتسليم، يبرأ أيضا إذا أبرأه المكفول له. ولو قال المكفول له: لا حق لي قبل المكفول به أو عليه، فوجهان. أحدهما: يبرأ الاصيل والكفيل. والثاني: يرجع. فإن فسر بنفي الدين، فذاك. وإن فسر بنفي الوديعة والشركة ونحوهما، قبل قوله، فإن كذباه، حلف. الرابعة: إذا غاب المكفول ببدنه، نظر، إن غاب غيبة منقطعة والمراد بها أن لا يعرف موضعه وينقطع خبره، فلا يكلف الكفيل إحضاره. وإن عرف موضعه، فإن كان دون مسافة القصر، لزمه إحضاره لكن يمهل مدة الذهاب والاياب ليحضره. فإن مضت المدة ولم يحضره، حبس. وإن كان على مسافة القصر، فوجهان. أصحهما: يلزمه إحضاره. والثاني: لا يطالب به. ولو كان غائبا حال الكفالة، فالحكم في إحضاره كما لو غاب بعد الكفالة.

(3/490)


الخامسة: إذا مات المكفول به، ففي انقطاع طلب الاحضار عن الكفيل، وجهان. أصحهما: لا ينقطع، بل عليه إحضاره ما لم يدفن إذا أراد المكفول له إقامة البينة على صورته، كما لو تكفل ابتداء ببدن الميت. والثاني: ينقطع. وهل يطالب الكفيل بمال ؟ وجهان. أصحهما: لا لانه لم يلتزمه. كما لو ضمن المسلم فيه فانقطع، فإنه لا يطالب برد رأس المال. والثاني: يطالب، وبه وقال ابن سريج لانه وثيقة كالرهن. وعلى هذا، هل يطالب بالدين، أم بأقل الامرين من الدين ودية المكفول به ؟ وجهان بناء على القولين، في أن السيد يفدي الجاني بالارش، أم بأقل الامرين من الارش وقيمة العبد ؟ قلت: المختار، المطالبة بالدين فإن الدية غير مستحقة، بخلاف قيمة العبد. قال صاحب الحاوي: ولو مات الكفيل، فعلى مذهب الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم، بطلت الكفالة ولا شئ في تركته. وعلى قول ابن سريج: ينبغي أن لا تبطل، لانها عنده قد تفضي إلى مال بتعلق بالتركة، لكن لم أر له فيه نصا. ولو مات المكفول له، بقي الحق لوارثه. فإن كان له غرماء وورثة، وأوصى إلى زيد بإخراج ثلثه، لم يبرأ الكفيل إلا بالتسليم إلى الورثة والغرماء والوصي. فلو سلم إلى الورثة والغرماء والموصى لهم، دون الوصي، ففي براءته وجهان حكاهما ابن سريج. والله أعلم. السادسة: لو هرب المكفول به إلى حيث لا يعلم، أو توارى، ففي مطالبة الكفيل بالمال، خلاف مرتب على الموت، وأولى بأن لا يطالب، إذ لم نأيس من إحضاره. السابعة: إذا تكفل وشرط أنه [ إن ] عجز عن تسليمه، غرم الدين. فان قلنا: يغرم عند الاطلاق، صح، وإلا، فالكفالة باطلة. الثامنة: يشترط رضى المكفول ببدنه على الصحيح، ولا يشترط رضى

(3/491)


المكفول له على الصحيح. فإذا كفل بغير رضى المكفول به، فأراد إحضاره لطلب المكفول له، نظر، إن قال: أحضر خصمي، فللكفيل مطالبته بالحضور، وعليه الاجابة لا بسبب الكفالة، بل لانه وكله في إحضاره. وإن لم يقل ذلك، بل قال: أخرج عن حقي، فهل له مطالبة المكفول به ؟ وجهان. أحدهما: لا كما لو ضمن عنه بغير إذنه مالا، وطالب المضمون له الضامن، فإنه لا يطالب المضمون عنه. وذكروا على هذا أنه يحبس، واستبعده الائمة لانه حبس على ما لا يقدر عليه. والثاني: نعم، لان المطالبة بالخروج عن العهدة، تتضمن التوكيل في الاحضار. التاسعة: لو تكفل ببدن الكفيل كفيل، ثم كفيل، ثم كذلك آخرون بلا حصر، جاز، لانه تكفل بمن عليه حق لازم، وقياسا على ضمان المال. ثم إذا برئ واحد برئ من بعده دون من قبله. العاشرة: في موت المكفول له، ثلاثة أوجه، أصحها: بقاء الكفالة وقيام وارثه مقامه، كما لو ضمن له المال، والثاني: تبطل، لانها ضعيفة. والثالث: إن كان عليه دين، أو له وصي، بقيت، وإلا، فلا، لان الوصي نائبه والدين لا بد منه. الركن الخامس: الصيغة، وفيه مسائل. الاولى: لا بد من صبغة دالة على التزام، كقوله: ضمنت لك مالك على فلان، أو تكفلت ببدن فلان، أو أنا باحضار هذا المال أو هذا الشخص كفيل، أو ضامن، أو زعيم، أو حميل، أو قبيل. وفي البيان وجه: أن لفظ القبيل ليس

(3/492)


بصريح، ويطرد هذا الوجه في الحميل وما ليس بمشهور في العقد. ولو قال: خل عن فلان والدين الذي لك عليه عندي، فليس بصريح في الضمان. ولو قال: دين فلان إلي، فوجهان. قلت: أقواهما: ليس بصريح. والله أعلم. ولو قال: أؤدي المال، أو احضر الشخص، فهذا ليس بالتزام، وإنما هو وعد. ولو تكفل فأبراه المستحق، ثم وجده ملازما للخصم فقال: خله وأنا على ما كنت عليه من الكفالة، صار كفيلا. الثانية: لو شرط الضامن، أو الكفيل الخيار لنفسه، لم يصح الضمان. فلو شرط للمضمون له، لم يضر، لان الخيار في المطالبة والابراء له أبدا. الثالثة: لو علق الضمان بوقت أو غيره فقال: إذا جاء رأس الشهر، فقد ضمنت، أو إن لم يؤد مالك غدا، فأنا ضامن، لم يصح على المذهب، كما لا يصح مؤقتا، كقوله: أنا ضامن إلى شهر، فإذا مضى ولم أغرم، فأنا برئ. وعن ابن سريج أنه إذا جاز على القديم ضمان المجهول وما لم يجب، جاز التعليق. قال الامام: ويجئ في تعليق الابراء القولان، لانه اسقاط فإذا قلنا بالقديم، فقال: إذا بعت عبدك بألف، فأنا ضامن لثمن، فباعه بألفين، قال ابن سريج: لا يكون ضامنا لشئ. وفي وجه: يصير ضامنا لالف. ولو باعه بخمسمائة، ففي كونه ضامنا لها، الوجهان. ولو قال: إذا أقرضته عشرة، فأنا ضامن لها، فأقرضه خمسة عشر، فهو ضامن للعشرة على الوجهين، لان من أقرض خمسة عشر، فقد أقرض عشرة، والبيع بخمسة عشر ليس بيعا بعشرة. وإن أقرضه خمسة، فعن ابن سريج: تسليم كونه ضامنا لها. قال الامام: وهو خلاف قياسه، لان الشرط لم يتحقق. ولو علق كفالة البدن بمجئ الشهر، فإن جوزنا تعليق المال، فهي أولى، وإلا، فوجهان، كالخلاف في تعليق الوكالة، والفرق أن الكفالة مبنية على المصلحة والحاجة. ولو علقها بحصاد الزرع، فوجهان مرتبان، وأولى بالمنع، لانضمام الجهالة. وإن علقها بقدوم زيد، فأولى بالمنع، للجهل بأصل حصول القدوم، فإن

(3/493)


جوزنا، فوجد الشرط المعلق عليه، صار كفيلا. الرابعة: لو وقت كفالة البدن فقال: أنا كفيل به إلى شهر، فإذا مضى، برئت، فوجهان، وقيل: قولان. أصحهما: البطلان، كضمان المال. ولو نجز الكفالة وشرط التأخير في الاحضار شهرا، جاز للحاجة كمثله في الوكالة، وتوقف فيه الامام، وجعل الغزالي في الوسيط هذا التوقف وجها. فإذا صححنا فأحضره قبل المدة وسلمه، وامتنع المكفول له من قبوله، نظر، هل له غرض في الامتناع بأن كانت بينته غائبة أو دينه مؤجلا، أم لا ؟ وحكم القسمين، على ما سبق فيمن سلمه في غير المكان المعين. ولو شرط لاحضاره أجلا مجهولا، كالحصاد، ففي صحة الكفالة، وجهان. أصحهما: المنع. الخامسة: لو ضمن الدين الحال حالا، أو أطلق، لزمه حالا، وإن ضمن المؤجل مؤجلا بأجل، أو أطلق لزمه لاجله. وإن ضمن الحال مؤجلا بأجل معلوم، فوجهان. أحدهما: لا يصح الضمان، للاختلاف. وأصحهما: الصحة، للحاجة، وعلى هذا، فالمذهب ثبوت الاجل، فلا يطالب إلا كما التزم، وبهذا قطع الجمهور. وشذ إمام الحرمين فادعى إجماع الاصحاب على أن الاجل لا يثبت، وأن في فساد الضمان لفساده، وجهين. أصحهما: الفساد. أما لو ضمن المؤجل حالا، والتزم التبرع بالتعجيل مضموما إلى التبرع بأصل الضمان، فوجهان كعكسه، أصحهما: الصحة. وعلى هذا، هل يلزمه الوفاء بالتعجيل ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لو التزم الاصيل التعجيل. وعلى هذا، هل يثبت الاجل في حقه مقصودا، أم تبعا ؟ فيه وجهان. وفائدتهما فيما لو مات الاصيل والحالة هذه. ولو ضمن المؤجل إلى شهرين مؤجلا إلى شهر، فهو كضمان المؤجل حالا. السادسة: لو تكفل ببدن رجل، أو نفسه، أو جسمه، أو روحه، صح. وإن

(3/494)


تكفل بعضو منه، فأربعة أوجه. أحدها: أنه باطل، كالبيع والاجارة، بخلاف العتق والطلاق، لان لهما قوة وسراية، وبهذا قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب. واختاره ابن الصباغ. الثاني: يصح. والثالث: إن كان عضوا لا يبقى البدن دونه، كالرأس، والقلب، والكبد، والدماغ، صح. وإن بقي دونه، كالرجل، واليد، لم يصح. وقال في التهذيب: هذا أصح. والرابع: ما عبر به عن جميع البدن، كالرأس، والرقبة، يصح. وما لا، كاليد، والرجل، فلا. قال القفال: هذا أصح. وللوجه حكم سائر الاعضاء، كذا قاله الجمهور. وقال الامام: يصح قطعا، لشهرة هذا العقد بكفالة الوجه. وأما ا لجزء الشائع، كالنصف والثلث، فكالجزء الذي لا يبقى البدن دونه، فيكون فيه وجهان. قلت: قطع صاحب الحاوي بصحة الكفالة فيما لو كفل برأسه، أو وجهه، أو عينه، أو قلبه وفؤاده وغيرها مما لا يحيى دونه، أو جزء شائع. والله أعلم. فرع في مسائل تتعلق بالباب إحداها: ضمن عن رجل ألفا، وشرط للمضمون له أن يعطيه كل شهر درهما ولا يحسبه من الضمان، فالشرط باطل. وفي بطلان الضمان، وجهان. قلت: أصحهما: البطلان. والله أعلم. الثانية: ضمن أو كفل، ثم ادعى أنه لم يكن على المضمون عنه، والمكفول حق، فالقول قول المضمون له. وهل يحلف، أم يقبل بلا يمين ؟ وجهان عن ابن سريج. فإن قلنا بالاول، فنكل، حلف الضامن، وسقطت عنه المطالبة. ولو أقر أنه ضمن، أو كفل بشرط الخيار، وأنكر المضمون له الشرط، بني ذلك على

(3/495)


تبعيض الاقرار. إن قلنا: لا يبعض، فالقول قول الضامن مع يمينه. وإن بعضناه، فقول المضمون له. الثالثة: قال الكفيل: برئ المكفول، وأنكر المكفول له، قبل إنكاره بيمينه. فإن نكل فحلف الكفيل، برئ، ولا يبرأ المكفول. الرابعة: قال تكفلت ببدن زيد، فإن أحضرته، وإلا فأنا كفيل ببدن عمرو، لم يصح. ولو قال للمكفول له: أبرئ الكفيل، وأنا كفيل المكفول، قال الاكثرون: لا وقال ابن سريج: يصح. الخامسة: الكفالة ببدن الاجير المعين، صحيحة على الصحيح. ومن قال بتغريم الكفيل عند موت الاصيل، لم يصححها، لانه إذا مات، انفسخ العقد وسقط الحق. قلت الباب الثاني فيما يترتب على الضمان الصحيح من الاحكام وهي ثلاثة. الاول: أن تتجدد للمضمون له مطالبة الضامن، ولا تنقطع مطالبته عن المضمون عنه، بل له مطالبتهما جميعا، ومطالبة أيهما شاء. قلت: وله مطالبة أحدهما ببعضه، والآخر بباقيه. والله أعلم. فلو ضمن بشرط براءة الاصيل، لم يصح على الاصح، لانه ينافي مقتضاه. والثاني: يصح الضمان والشرط. والثالث: يصح الضمان فقط. فإن صححناهما، برئ الاصيل، ورجع الضامن عليه في الحال إن ضمن بإذنه، لانه حصل براءته كما لو أدى. ومهما أبرأ مستحق الدين الاصيل، برئ (الضامن) لسقوط الحق، كما لو أدى الاصيل الدين، أو أحال مستحقه على إنسان، أو أحال المستحق غريمه عليه. وكذا يبرأ ببراءته ضامن الضامن. ولو أبرأ الضامن، ولم يبرأ

(3/496)


الاصيل، لكن يبرأ ضامن الضامن. ولو أبرأ لا تلغى ضامن الضامن، لم يبرأ ضامن. فرع ضمن دينا مؤجلا، فمات الاصيل، حل عليه الدين، ولم يحل على الضامن على الصحيح. وقال ابن القطان: يحل، لانه فرعه، فعلى الصحيح، لو أخر المستحق المطالبة، كان للضامن أن يطالبه بأخذ حقه من تركة الاصيل، أو إبرائه، لانه قد تهلك التركة، فلا يجد مرجعا إذا غرم. وفي وجه ضعيف: ليس له هذه المطالبة. ولو مات الضامن، حل عليه الدين. فإن أخذ المستحق المال من تركته، لم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه قبل حلول الاجل، وفي وجه شاذ: لا يحل بموت الضامن. الحكم الثاني: في مطالبة الضامن المضمون عنه بالاداء، ومداره على وجهين خرجهما ابن سريج رحمه الله، في أن مجرد الضمان يوجب حقا للضامن على الاصيل ويثبت علقة بينهما، أم لا ؟ فإذا طالب المضمون له الضامن بالمال، فله مطالبة الاصيل بتخليصه إن ضمن بإذنه. وفي وجه شاذ: ليس له، وليس له مطالبته قبل أن يطالب على الاصح. وهل للضامن تغريم الاصيل قبل أن يغرم حيث يثبت له الرجوع ؟ وجهان، بناء على التخريج المذكور. وليكن الوجهان تفريعا على أن ما يأخذه عوضا عما يقضي به دين الاصيل، يملكه. وفيه وجهان بناء على التخريج. ولو دفعه الاصيل ابتداء بلا مطالبة، فإن قلنا: يملكه، فله التصرف فيه، كالفقير إذا أخذ الزكاة المعجلة، لكن لا يستقر ملكه عليه، بل عليه رده. ولو هلك عنده، ضمنه كالمقبوض بشراء فاسد. ولو دفعه إليه وقال: اقض به ما ضمنت عني، فهو وكيل الاصيل، والمال أمانة في يده. ولو حبس

(3/497)


المضمون له الضامن، فهل له حبس الاصيل ؟ وجهان بناء على التخريج. إن أثبتنا العلقة بينهما. فنعم وإلا فلا، وهو الاصح. ولو أبرأ الضامن الاصيل عما سيغرم، إن أثبتنا العلقة، صح الابراء، وإلا، فعلى الخلاف في الابراء عما لم يجب، ووجد سبب وجوبه. ولو صالح الضامن الاصيل عن العشرة التي سيغرمها على خمسة، إن أثبتناها في الحال، صح الصلح، وكأنه أخذ عوض بعض الحق وأبرأ عن الباقي، وإلا، فلا يصح. ولو ضمن عن الاصيل ضامن للضامن، ففي صحته، الوجهان. وكذا لو رهن الاصيل عند الضامن شيئا بما ضمن. والاصح في الجميع: المنع. ولو شرط في ابتداء الضمان أن يعطيه الاصيل ضامنا بما ضمن، ففي صحة الشرط الوجهان. فإن صححنا فوفى، وإلا فللضامن فسخ الضمان. وإن أفسدناه، فسد به الضمان على الاصح. الحكم الثالث: الرجوع. أما غير الضامن إذا أدى دين غيره بغير إذنه، فلا رجوع، لانه متبرع. وإن أدى بإذنه، رجع إن شرط الرجوع قطعا. وكذا إن أطلق على الاصح. وفي وجه ثالث: إن كان حالهما يقتضي الرجوع، رجع، وإلا، فلا، كنظيره من الهبة. وأما الضامن، فله أربعة أحوال. الحال الاول: يضمن بإذن ويؤدي بإذن، فيرجع سواء شرط الرجوع، أم لا. قال الامام: ويحتمل أن ينزل منزلة الاذن في الاداء بلا ضمان، حتى يقال: إن شرط الرجوع، رجع، وإلا فعلى الخلاف. وفي كلام صاحب التقريب رمز إليه.

(3/498)


الحال الثاني: أن يضمن ويؤدي بلا إذن، فلا رجوع. الثالث: يضمن بغير إذن، ويؤدي بالاذن، فلا رجوع على الاصح. فلو أذن في الاداء بشرط الرجوع، ففيه احتمالان للامام، أحدهما: يرجع كما لو أذن في الاداء بهذا الشرط من غير ضمان. والثاني: لا، لان الاداء مستحق بالضمان، والمستحق بلا عوض لا يجوز مقابلته بعوض كسائر الحقوق الواجبة. قلت: الاحتمال الاول أصح. والله أعلم. الرابع: يضمن بالاذن، ويؤدي بلا إذن، فأوجه. الاصح المنصوص: يرجع. والثاني: لا. والثالث: إن أدى من غير مطالبة أو بمطالبة، ولكن أمكنه استئذان الاصل، لم يرجع، وإلا فيرجع. فرع حوالة الضامن المضمون له على إنسان، وقبوله حوالة المضمون له عليه، ومصالحتهما عن الدين على عوض، وصيرورة الدين ميراثا للضامن، كالاداء في ثبوت الرجوع وعدمه.

(3/499)


فصل في كيفية الرجوع فإن كان ما دفعه إلى رب الدين من جنس الدين وعلى صفته، رجع به. وإن اختلف الجنس، فالكلام في المأذون في الاداء بلا ضمان، ثم في الضامن. أما الاول، فالمأذون بشرط الرجوع أو دونه، إن أثبتناه لو صالح على غير الجنس، ففي رجوعه أوجه. أصحها: يرجع. والثاني: لا. والثالث: إن قال: أد ديني أو ما علي، رجع، وإن قال: أد ما علي من الدنانير مثلا، فلا رجوع. وإذا قلنا: يرجع، رجع بما سنذكر في الضامن إن شاء الله تعالى. وأما الضامن، إذا صالح على غير الجنس، فيرجع بلا خلاف، لان بالضمان ثبت المال في ذمته كثبوته في ذمة الاصيل، والمصالحة معاملة مبنية عليه. ثم ينظر، فإن كانت قيمة المصالح عليه أكثر من قدر الدين، لم يرجع بالزيادة. وإن لم تكن أكثر، كمن صالح عن ألف بعبد يساوي تسعمائة، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: يرجع بتسعمائة. والثاني: بالالف. ولو باعه العبد بألف، ثم تقاصا، رجع (بالالف) بلا خلاف. ولو قال: بعتك العبد بما ضمنته لك عن فلان، ففي صحة البيع، وجهان. فإن صححنا، فهل يرجع بما ضمنه ؟ أم بالاقل مما ضمنه، ومن قيمة العبد ؟ وجهان. قلت: المختار الصحة، وأنه يرجع بما ضمنه. والله أعلم. أما إذا اختلفت الصفة، فإن كان المؤدى خيرا، بأن أدى الصحاح عن المكسرة، لم يرجع بالصحاح. وإن كان بالعكس، ففيه الخلاف المذكور في خلاف الجنس. وعن الشيخ أبي محمد، القطع بالرجوع.

(3/500)


فرع في مسائل تتعلق بالرجوع إحداها: ضمن عشرة، وأدى خمسة، وأبرأه رب المال عن الباقي، لم يرجع إلا بالخمسة المغرومة، وتبقى الخمسة الاخرى على الاصيل. ولو صالحه من العشرة على خمسة، لم يرجع إلا بالخمسة أيضا، لكن يبرأ الضامن والاصيل عن الباقي. الثانية: ضمن ذمي لذمي دينا على مسلم، ثم تصالحا على خمر، فهل يبرأ المسلم لان المصالحة بين ذميين، أم لا، كما لو دفع الخمر بنفسه ؟ وجهان. فإن قلنا بالاول، ففي رجوع الضامن على المسلم، وجهان، لان ما أدي ليس بمال، إلا أنه أسقط الدين. قلت: الاصح: لا يبرأ، ولا يرجع. والله أعلم. الثالثة: ضمن عن الضامن آخر، وأدى الثاني، فرجوعه على الاول، كرجوع الاول على الاصيل، فيراعى الاذن وعدمه. وإذا لم يثبت له الرجوع على الاول لم يثبت بأدائه للاول الرجوع على الاصيل إذا وجد شرطه فلو أراد الثاني أن يرجع على الاصيل، ويترك الاول نظر، إن كان الاصيل قال له: اضمن عن ضامني، ففي رجوعه عليه، وجهان. كما لو قال لانسان: أد ديني وليس كما لو قال: أد دين فلان، حيث لا يرجع قطعا على الآمر، لان الحق لم يتعلق بذمته. وإن لم يقل له: اضمن عن ضامني، فإن كان الحال لا يقتضي رجوع الاول على الاصيل، لم يرجع الثاني عليه. وإن اقتضاه، فكذلك على الاصح، لانه لم يضمن عن الاصيل. ولو أن الثاني ضمن عن الاصيل أيضا، فلا رجوع لاحد الضامنين على الآخر، وإنما الرجوع للمؤدي على الاصيل. ولو ضمن عن الاول والاصيل معا، فأدى، فله أن يرجع على

(3/501)


أيهما شاء، وأن يرجع على هذا بالبعض، وعلى ذاك بالبعض، ثم للاول الرجوع على الاصيل بما غرم بشرطه. الرابعة: على زيد عشرة، ضمنها اثنان، كل واحد خمسة، وضمن كل واحد عن الآخر، فلرب المال مطالبة كل واحد منهما بالعشرة، نصفها عن الاصيل، ونصفها عن الآخر، فإن أدى أحدهما العشرة، رجع بالنصف على الاصيل، وبالنصف على صاحبه. وهل له الرجوع بالجميع على الاصيل إذا كان لصاحبه الرجوع عليه لو غرم ؟ فيه الوجهان. وإن لم يؤد إلا خمسة، نظر، هل أداها عن الاصيل، أو عن صاحبه، أو عنهما ؟ ويثبت الرجوع بحسبه. الخامسة: ضمن الثمن، فهلك المبيع له أو وجد به عيبا فرده، أو ضمن الصداق، فارتدت المرأة قبل الدخول، أو فسخت بعيب، نظر، إن كان ذلك قبل أن يؤدي الضامن، برئ الضامن والاصيل. وإن كان بعده، فإن كان بحيث يثبت الرجوع، رجع بالمغروم على الاصيل، وضمن ر ب الدين للاصيل ما أخذ إن كان هالكا. وإن كان باقيا، رده بعينة. وهل له إمساكه ورد بدله ؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا رد المبيع بعيب وعين دراهمه عند البائع، فأراد إمساكها ورد مثلها، والاصح: المنع. وإنما يغرم للاصيل دون الضامن، لان في ضمن الاداء عنه إقراضه وتمليكه إياه. وإن كان بحيث لا يثبت للضامن الرجوع، فلا شئ له على الاصيل، ويلزم المضمون له رد ما أخذ. وعلى من يرد ؟ فيه الخلاف فيمن تبرع بالصداق وطلق الزوج قبل الدخول، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. السادسة: أدى الضامن الدين، ثم وهبه رب الدين له، ففي رجوعه على الاصيل، وجهان بناء على القولين فيما لو وهبت الصداق للزوج، ثم طلقها قبل الدخول. قلت: الاصح: الرجوع. والله أعلم. السابعة: لرجل على رجلين عشرة، وضمن كل واحد ما على الآخر، فلرب الدين أن يطالبهما، ومن شاء منهما بالعشرة، فإن أداها أحدهما، برئا

(3/502)


جميعا، وللمؤدي الرجوع بخمسة على صاحبه إن وجد شرط الرجوع. وإن أدى كل واحد خمسة عما عليه، فلا رجوع. وإن أدى عن الآخر، جاء خلاف التقاص. وإن أدى أحدهما خمسة، ولم يؤد الآخر شيئا، فإن أداها عن نفسه، برئ مما عليه، وبقي على صاحبه ما كان عليه والمؤدي ضامن له. وإن أداها عن صاحبه، رجع بها عليه، وبقي عليه، ما كان عليه، وصاحبه ضامن له. وإن أداها عنهما، فلكل نصف حكمه. وإن أدى ولم يقصد شيئا، فهل يقسط عليهما ؟ أو يقال: اصرف إلى ما شئت ؟ وجهان سبق نظيرهما في آخر الرهن. ومن فوائدهما، أن يكون بنصيب أحدهما رهن. فإن قلنا: له صرفه، فصرفه إلى ما به الرهن، انفك، وإلا، فلا. ولو قال المؤدي: أديت عما علي، فقال القابض: بل عن صاحبك، صدق المؤدي بيمينه. فإذا حلف، برئ مما عليه، لكن لرب الدين مطالبته بخمسة على الصحيح، لان عليه خمسة أخرى، إما بالاصالة، وإما بالضمان. وفي وجه: لا مطالبة له، لانه إن طالبه عن الاصالة، فالشرع يصدق المؤدي في البراءة منها. وإن طالبه بالضمان، فرب الدين معترف بأنه أدى عنه. وإن أبرأ رب الدين أحدهما عن جميع العشرة، برئ أصلا وضمانا، وبرئ الآخر من الضمان دون الاصل. وإن أبرأ أحدهما عن خمسة، نظر، إن أبرأ عن الاصل، برئ عنه، وبرئ صاحبه عن ضمانه وهي عليه ضمانة ما على صاحبه. وإن أبرأه عن الضمان وبرئ عنه، وبقي عليه الاصيل، وبقي على صاحبه الاصل والضمان وإن أبرأه عن الخمسة من الجهتين جميعا، سقط عنه نصف الاصل ونصف الضمان، وعن صاحبه نصف الضمان (وبقي عليه الاصل، ونصف الضمان)، فيطالبه بسبعة ونصف، ويطالب المبرأ بخمسة. وإن لم ينو عند الابراء شيئا، فهل يحمل على النصف، أم يخير ليصرف إلى ما شاء ؟ فيه الوجهان. ولو قال: أبرأت عن الضمان، فقال المبرأ: بل عن الاصل، فالقول قول المبرئ. الثامنة: ادعى أن له على زيد وعلى غائب ألفا باعهما به عبدا قبضاه، أو عن جهة أخرى، وأن كل واحد منهما ضمن ما على الآخر وأقام بذلك بينة، فأخذ الالف

(3/503)


من زيد، نص أنه يرجع على الغائب بنصف الالف. قال الجمهور هذا إذا لم يكن وجد من زيد تكذيب للبينة. فان كان، لم يرجع، لانه مظلوم بزعمه، فلا يطالب غير ظالمه، وهذا هو الاصح. وقال ابن خيران: يرجع وإن صرح بالتكذيب، لان البينة أبطلت حكم إنكاره. فرع جميع ما سبق من رجوع المأذون له في الاداء، والضامن على الاصيل، مفروض فيما إذا أشهد على الاداء رجلين أو رجلا وامرأتين. فلو أشهد واحدا اعتمادا على أنه يحلف معه، أو أشهد مستورين، فبانا فاسقين، كفى ذلك على الاصح. ولا يكفي إشهاد من يعلم سفره عن قرب، لانه لا يفضي إلى المقصود. أما إذا أدى بلا إشهاد، وأنكر رب المال، فإن أدى في غيبة الاصيل، فمقصر، فلا يرجع إن كذبه الاصيل قطعا، وكذا إن صدقه على الاصح. وهل يحلف الاصيل إذا كذبه ؟ قال في التتمة: يبنى على أنه لو صدقه، هل يرجع عليه ؟ إن قلنا: نعم، حلفه على نفي العلم بالاداء، وإلا بني على أن النكول ورد اليمين، كالاقرار، أم كالبينة ؟ إن قلنا: كالاقرار، لم يحلفه لان غايته أن ينكل فيحلف الضامن، فيكون كتصديقه، وذلك لا يفيد الرجوع. وإن قلنا: كالبينة، حلفه طمعا في أن ينكل، ويحلف، فيكون كالبينة. ولو كذبه الاصيل وصدقه رب المال، رجع على الاصح، لسقوط المطالبة، فإنه أقوى من البينة. وأما إذا أدى بحضور الاصيل، فيرجع على الصحيح المنصوص. ولو توافق الاصيل والضامن على أنه أشهد، ولكن مات الشهود أو غابوا، ثبت الرجوع على الصحيح. وقيل: لا، وهو شاذ ضعيف. ولو قال الضامن: أشهدت وماتوا، وأنكر الاصيل الاشهاد، فهل القول قول الاصيل، لان الاصل عدم الاشهاد، أو قول الضامن، لان الاصل عدم التقصير ؟ وجهان. أصحهما: الاول. ولو قال: أشهدت فلانا وفلانا، فكذباه، فهو كما لو لم يشهد. ولو قالا: لا ندري وربما نسينا، ففيه تردد للامام. ومتى لم تقم بينة بالاداء، وحلف رب المال، بقيت مطالبته

(3/504)


بحالها. فإن أخذ المال من الاصيل، فذاك. وإن أخذ من الكفيل مرة أخرى، فقيل: لا يرجع بشئ، والاصح: أنه يرجع. وهل يرجع بالمغروم أولا لانه مظلوم بالثاني، أم بالثاني لانه المسقط للمطالبة ؟ وجهان. قلت: ينبغي أن يرجع بأقلهما. فان كان الاول، فهو يزعم أنه مظلوم بالثاني. وإن كان الثاني، فهو المبرئ، فهو المبرئ، ولان الاصل براءة ذمة الاصيل من الزائد. والله أعلم.
فصل الضمان في مرض الموت، إذا كان بحيث يثبت الرجوع، ووجد الضامن مرجعا، فهو محسوب من رأس المال. وإن لم يثبت الرجوع، أو لم يجد مرجعا لموت الاصيل معسرا، فمن الثلث. ومتى وفت تركة الاصيل بثلثي الدين، فلا دور، لان صاحب الحق إن أخذه من ورثة الضامن، رجعوا بثلثيه في تركة الاصيل. وإن أخذ تركة الاصيل وبقي شئ، أخذه من تركة الضامن ويقع تبرعا، لان ورثة الضامن لا يجدون مرجعا. وإن لم تف التركة بالثلثين، فقد يقع الدور، كمريض ضمن تسعين، ومات وليس له إلا تسعون، ومات الاصيل وليس له إلا خمسة وأربعون، فرب المال بالخيار، إن شاء أخذ تركة الاصيل كلها ولا دور حينئذ، ويطالب ورثة الضامن بثلاثين، ويقع تبرعا إذ لم يبق للاصيل تركة يرجع فيها، وإن أراد الاخذ من تركة الضامن، لزم الدور، لان ما يغرمه ورثة الضامن، يرجع إليهم بعضه، لان المغروم صار دينا لهم على الاصيل، فيتضاربون به مع رب المال في تركة الاصيل، ويلزم من رجوع بعضه زيادة التركة ومن زيادة التركة زيادة المغروم، ومن زيادة المغروم زيادة الراجع. وطريق استخراجه أن يقال: يأخذ رب المال من ورثة الضامن شيئا، ويرجع إليهم مثل نصفه، لان تركة الاصيل نصف تركة الضامن، فيبقى عندهم تسعون إلا نصف شئ، وهو يعدل مثلي ما تلف بالضمان، والتالف نصف شئ، ومثلا شئ، فإذا تسعون إلا نصف شئ يعدل شيئا. وإذا جبرنا وقابلنا، عدلت تسعون شيئا ونصفا فيكون الشئ ستين، فبان أن المأخوذ ستون، وحينئذ يكون الستون دينا لهم على

(3/505)


الاصيل، وقد بقي لرب المال ثلاثون، فيتضاربون في تركته بسهمين وسهم، وتركته خمسة وأربعون، يأخذ منها الورثة ثلاثين، ورب الدين خمسة عشر، ويتعطل باقي دينه وهو خمسة عشر، ويكون الحاصل للورثة ستين، ثلاثين بقيت عندهم، وثلاثين أخذوها من تركة الاصيل، وذلك مثلا ما تلف ووقع تبرعا، وهو ثلاثون. ولو كانت المسألة بحالها، لكن تركة الاصيل ثلاثون، فيأخذ رب الدين شيئا، ويرجع إلى ورثة الضامن مثل ثلثه، لان تركة الاصيل ثلث تركة الضامن، فيبقى عندهم تسعون ناقصة ثلثي شئ تعدل مثلي التالف بالضمان، وهو ثلثا شئ، فمثلاه شئ وثلث. فإذن تسعون إلا ثلث شئ يعدل شيئا وثلثا، فإذا جبرنا وقابلنا، عدلت تسعون شيئين فيكون الشئ خمسة وأربعين، وذلك ما أخذه رب الدين، وصار دينا لورثة الضامن على الاصيل، وبقي لرب الدين عليه خمسة وأربعون أيضا، فيتضاربون في تركته بسهم وسهم، فتجعل بينهما مناصفة. ولو كانت تركة الاصيل ستين، فلا دور، بل لرب الدين أخذ تركة الضامن كلها، ثم هم يأخذون تركة الاصيل كلها بحق الرجوع، ويقع الباقي تبرعا. قلت: وهذه مسائل منثورة، تتعلق بالضمان. وترك بياضا في الاصل.

(3/506)