روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الهبة
قسم الشافعي رضي الله عنه العطايا، فقال: تبرع الانسان بماله على غيره، ينقسم إلى معلق بالموت وهو الوصية، وإلى منجز في الحياة، وهو ضربان. أحدهما: تمليك محض، كالهبات والصدقات. والثاني: الوقف. والتمليك المحض: ثلاثة أنواع: الهبة، والهدية، وصدقة التطوع. وسبيل ضبطها أن نقول: التمليك لا بعوض هبة. فإن انضم إليه حمل الموهوب من مكان إلى مكان الموهوب له إعظاما له أو إكراما، فهو هدية، وإن انضم إليه كون التمليك للمحتاج تقربا إلى الله تعالى، وطلبا لثواب الآخرة، فهو

(4/426)


صدقة، فامتياز الهدية عن الهبة بالنقل والحمل من موضع إلى موضع، ومنه إهداء النعم إلى الحرم، ولذلك لايدخل لفظ الهدية في العقار بحال، فلا يقال: أهدى إليه دارا، ولا أرضا، وإنما يطلق ذلك في المنقولات كالثياب والعبيد، فحصل من هذا أن هذه الانواع تفترق بالعموم والخصوص، فكل هدية وصدقة هبة، ولا تنعكس. ولهذا لو حلف لا يهب، فتصدق، حنث، وبالعكس لا يحنث. واختلفوا في أنه هل يشترط في حد الهدية أن يكون بين المهدي والمهدي إليه رسول أو متوسط، أم لا ؟ فحكى أبو عبد الله الزبيري، فيما إذا حلف لا يهدي إليه، فوهب له خاتما أو نحوه يدا بيد، هل يحنث ؟ وجهين. والاصح: أنه لا يشترط، وينتظم أن يقول لمن حضر عنده: هذه هديتي أهديتها لك. وهذه الانواع الثلاثة مندوب إليها، وتفترق في أحكام، وتشترك في أحكام، وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. قلت: قال أصحابنا: وفعلها مع الاقارب ومع الجيران أفضل من غيرهم. والله أعلم فرع ينبغي أن لا يحتقر القليل فيمتنع من إهدائه، وأن لا يستنكف المهدى إليه عن قبول القليل. قلت: ويستحب للمهدى إليه أن يدعو للمهدي، ويستحب للمهدي إذا دعا له المهدى إليه، أن يدعو أيضا له، وقد أوضحت ذلك مع بيان ما يدعو به في كتاب الاذكار. والله أعلم فصل ويشتمل الكتاب على بابين.
أحدهما : في أركان الهبة وشرط لزومها. أما أركانها فأربعة.
الركن الأول والثاني : العاقدان، وأمرهما واضح.
الركن الثالث : الصيغة. أما الهبة، فلا بد فيها من الايجاب والقبول باللفظ، كالبيع وسائر التمليكات.

(4/427)


وأما الهدية، ففيها وجهان. أحدهما: يشترط فيها الايجاب والقبول، كالبيع والوصية، وهذا ظاهر كلام الشيخ أبي حامد والمتلقين عنه. والثاني: لا حاجة فيها إلى إيجاب وقبول باللفظ، بل يكفي القب‍ ض ويملك به، وهذا هو الصحيح الذي عليه قرار المذهب ونقله الاثبات من متأخري الاصحاب، وبه قطع المتولي والبغوي، واعتمده الروياني وغيرهم، واحتجوا بأن الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقبلها، ولا لفظ هناك، وعلى جرى ذلك الناس في الاعصار، ولذلك كانوا يبعثون بها على أيدي الصبيان الذين لا عبارة لهم. فإن قيل: هذا كان إباحة لا هدية وتمليكا، فجوابه أنه لو كان إباحة، لما تصرفوا فيه تصرف الملاك، ومعلوم أن ما قبله النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان يتصرف فيه ويملكه غيره. ويمكن أن يحمل كلام من اعتبر الايجاب والقبول على الامر المشعر بالرضى دون اللفظ، ويقال: الاشعار بالرضى قد يكون لفظا وقد يكون فعلا. فرع الصدقة كالهدية بلا فرق فيما ذكرناه، وسواء فيما ذكرناه في الهدية الاطعمة وغيرها. فرع في مسائل تتعلق بما سبق إحداها: حيث اعتبرنا الايجاب والقبول، لا يجوز التعليق على شرط، ولا التوقيت على المذهب، وفيهما كلام سنذكره في العمرى إن شاء الله تعالى، وكذلك لا يجوز تأخير القبول عن الايجاب، بل يشترط التواصل المعتاد كالبيع، وعن ابن سريج جواز تأخير القبول كما في الوصية، وهذا الخلاف حكاه كثيرون في الهبة، وخصه المتولي بالهدية، وجزم بمنع التأخير في الهبة، والقياس التسوية بينهما. ثم في الهدايا التي يبعث بها (من) موضع إلى موضع، وإن اعتبرنا اللفظ والقبول على الفور، فاما أن يوكل الرسول

(4/428)


ليوجب ويقبل المبعوث إليه، وإما أن يوجب المهدي ويقبل المهدى إليه عند الوصول إليه. الثانية: إذا كانت الهبة لمن ليس له أهلية القبول، نظر، إن كان الواهب أجنبيا، قبل له من يلي أمره من ولي ووصي وقيم. وإن كان الواهب ممن يلي أمره، فان كان غير الاب والجد، قبل له الحاكم أو نائبه. وإن كان أبا أو جدا، تولى الطرفين. وهل يحتاج إلى لفظي الايجاب والقبول، أم يكفي أحدهما ؟ وجهان كما سبق في البيع. قال الامام: وموضع الوجهين في القبول، ما إذا أتى بلفظ مستقل، كقوله: اشتريت لطفلي، أو اتهبت له كذا. أما قوله: قبلت البيع والهبة، فلا يمكن الاقتصار عليه بحال. فرع لا اعتبار بقبول متعهد الطفل الذي لا ولاية له عليه. الثالثة: إذا وهب لعبد غيره، فالمعتبر قبول العبد. وفي افتقاره إلى إذن سيده خلاف سبق. الرابعة: وهب له شيئا فقبل نصفه، أو وهب له عبدين، فقبل أحدهما، ففي صحته وجهان. والفرق بينه وبين البيع، أن البيع معاوضة. الخامسة: غرس أشجارا وقال عند الغراس: أغرسه لابني، لم يصر للابن. ولو قال: جعلته لابني وهو صغير، صار للجبن، لان هبته له لا تقتضي قبولا،

(4/429)


بخلاف ما لو جعله لبالغ، كذا قاله الشيخ أبو عاصم، وهو ملتفت إلى الانعقاد بالكنايات، وإلى أن هبة الابلابنه الصغير يكفي فيها أحد الشقين. السادسة: لو ختن ابنه واتخذ دعوة، فحملت إليه هدايا ولم يسم أصحابها الاب ولا الابن، فهل تكون الهدية ملكا للاب، أم للابن ؟ فيه وجهان. قلت: قطع القاضي حسين في الفتاوى بأنه للابن، وأنه يجب على الاب أن يقبلها لولده، فإن لم يقبل، أثم. قال: وكذا وصي وقيم، يقبل الهدية والوصية للصغير. قال: فإن لم يقبل الوصي الوصية والهدية، أثم وانعزل لتركه النظر. وفي فتاوى القاضي: أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي قال: تكون ملكا للاب، لان الناس يقصدون التقرب إليه، وهذا أقوى وأصح. والله أعلم السابعة: بعث إليه هدية في ظرف، والعادة - في مثلها رد الظرف، لم يكن الظرف هدية. فان كان العادة أن لا يرد كقوصرة التمر، فالظرف هدية أيضا، وقد يميز القسمان بكونه مشدودا فيه وغير مشدود. وإذا لم يكن الظرف هدية، كان أمانة في يد المهدي إليه، وليس له استعماله في غير الهدية. وأما فيها، فان اقتضت العادة تفريغه، لزم تفريغه. وإن اقتضت التناول منه، جاز التناول منه، قال البغوي: ويكون عارية. الثامنة: بعث كتابا إلى حاضر أو غائب، وكتب فيه أن اكتب الجواب على ظهره، لزمه رده، وليس له التصرف فيه، وإلا، فهو هدية يملكها المكتوب إليه، قاله المتولي. وقال غيره: يبقى على ملك الكاتب، وللمكتوب إليه الانتفاع به على سبيل الاباحة.

(4/430)


قلت: هذا الثاني حكاه صاحب البيان عن حكاية القاضي أبي الطيب عن بعض الاصحاب، والاول أصح. والله أعلم التاسعة: أعطاه درهما وقال: ادخل به الحمام، أو دراهم وقال: اشتر بها لنفسك عمامة ونحو ذلك، ففي فتاوى القفال: أنه إن قال ذلك على سبيل التبسط المعتاد، ملكه وتصرف فيه كيف شاء. وإن كان غرضه تحصيل ما عينه لما رأى به من الشعث والوسخ، أو لعلمه بأنه مكشوف الرأس، لم يجز صرفه إلى غير ما عينه. قلت: وقال القاضي حسين في الفتاوى: وهل يتعين ؟ يحتمل وجهين. وقال: ولو طلب الشاهد مركوبا ليركبه في أداء الشهادة، فأعطاه دراهم ليصرفها إلى مركوب، هل له صرفها إلى جهة أخرى ؟ وجهان. الصحيح المختار، ما قاله القفال. قال القاضي: ولو قال: وهبتك هذه الدراهم بشرط أنك تشتري بها خبزا لتأكله، لم تصح الهبة، لانه لم يطلق له التصرف. والله أعلم العاشرة: سئل الشيخ أبو زيد رحمه الله تعالى عن رجل مات أبوه، فبعث إليه رجل ثوبا ليكفنه فيه، هل يملكه حتى يمسكه ويكفنه في غيره ؟ فقال: إن كان الميت ممن يتبرك بتكفينه لفقه وورع، فلا، ولو كفنه في غيره، وجب رده إلى مالكه. الحادية عشرة: في فتاوى الغزالي: أن خادم الصوفية الذي يتردد في السوق ويجمع لهم شيئا يأكلونه، يملكه الخادم الصرف ولا يلزمه الصرف إليهم، إلا أن المروءة تقتضي الوفاء بما تصدى له، ولو لم يف، فلهم منعه من أن يظهر الجمع لهم والانفاق عليهم. وإنما ملكه لانه ليس بولي ولا وكيل عنهم، بخلاف هدايا الختان.

(4/431)


قلت: ومن مسائل الفصل، أن قبول الهدايا التي يجئ بها الصبي المميز، جائز باتفاقهم، وقد سبق في كتاب البيع، وإنه يجوز قبول هدية الكافر، وأنه يحرم على العمال وأهل الولايات قبول هدية من رعاياهم. والله أعلم.
فصل في العمرى والرقبى أما العمرى، فقوله: أعمرتك هذه الدار مثلا، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك، أو ما عشت، أو حييت، أو بقيت، وما يفيد هذا المعنى. ثم له أحوال. أحدها: أن يقول مع ذلك: فإذا مت، فهي لورثتك أو لعقبك وهي الهبة بعينها، لكنه طول العبارة فإذا مات. فالدار لورثته، فان لم يكونوا، فلبيت المال، ولا يعود إلى الواهب بحال. الثاني: يقتصر على قوله: جعلتها لك عمرك، ولم يتعرض لما سواه، فقولان. أظهرهما وهو الجديد: أنه يصح، وله حكم الهبة. والقديم: أنه باطل. وقيل: إن القديم: أن الدار تكون للمعمر حياته. فإذا مات، عادت إلى الواهب أو ورثته كما شرط. وقيل: القديم: أنها تكون عارية يستردها متى شاء، فإذا مات، عادت إلى الواهب.

(4/432)


الثالث: أن يقول: جعلتها لك عمرك، فإذا مت عادت إلي أو إلى ورثتي إن كنت مت. فان قلنا بالبطلان في الحال الثاني، فهنا أولى. وإن قلنا بالصحة والعود إلى الواهب، فكذا هنا. وإن قلنا بالجديد، فوجهان. أحدهما: البطلان. والصحيح: الصحة، وبه قطع الاكثرون، ونسووا بينه وبين حالة الاطلاق، وكأنهم أخذوا باطلاق الاحاديث الصحيحة وعدلوا به عن قياس الشروط الفاسدة. وأما الرقبى: فهو أن يقول: وهبت لك هذه الدار عمرك، على أنك إن مت قبلي عادت إلي. وإن مت قبلك استقرت لك، أو جعلت هذه الدار لك رقبى، أو أرقبتها لك. وحكمها حكم الحال الثالث من العمرى، وحاصله طريقان. أحدهما: القطع بالبطلان. وأصحهما: قولان. الجديد الاظهر: صحته، ويلغو الشرط. فالحاصل أن المذهب صحة العمرى والرقبى في الاحوال الثلاثة، فإذا صححناهما وألغينا الشرط، تصرف المعمر في المال كيف شاء. وإن أبطلنا العقد أو جعلناه عارية، فلا يخفى أنه ليس له التصرف بالبيع ونحوه وإن قلنا بصحة العقد والشرط، فباع الموهوب له ثم مات، فقد ذكر الامام احتمالين. أصحهما عنده: لا ينفذ البيع، لان مقتضى البيع التأبيد، وهو لم يملك إلا مؤقتا، فكيف يملك غيره ما لم يملكه ؟ والثاني: ينفذ كبيع المعلق عتقه على صفة، وبهذا قطع ابن كج وعلله بأنه ملك في الحال، والرجوع أمر يحدث، وشبهه برجوع نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول. فإذا صححنا بيعه، فيشبه أن يرجع الواهب في تركته بالغرم رجوع الزوج إذا طلق بعد خروج الصداق عن ملكها. قال الامام: وفي رجوع المال إلى ورثة الواهب إذا مات قبل الموهوب له، استبعاد، لانه إثبات ملك لهم فيما لم يملكه المورث، لكنه كما لو نصب شبكة فوقع بها صيد بعد موته، يكون ملكا للورثة. والصحيح: أنه تركة تقضى منها ديونه وتنفذ الوصايا. فرع قال: جعلت هذه الدار لك عمري أو حياتي، فوجهان. أحدهما: أنه كقوله: جعلتها لك عمرك أو حياتك، لشمول اسم العمرى. وأصحهما: البطلان، لخروجه عن اللفظ المعتاد، ولما فيه من تأقيت الملك، فانه قد يموت الواهب أولا، بخلاف العكس، فإن الانسان لا يملك إلا مدة حياته، فلا توقيت

(4/433)


فيه. وأجري الخلاف فيما لو قال: جعلتها لك عمر فلان. وخرج من تصحيح العقد وإلغاء الشرط في هذه الصرة وجه: أن الشرط الفاسد لا يفسد الهبة، وطرد ذلك في الوقف. ثم منهم من خص الخلاف في هذه القاعدة بما هو من قبيل الاوقات، كقوله: وهبتك أو وقفتها سنة. ومنهم من طرده في كل شرط، كقوله: وهبتك بشرط أن لا تبيعه إذا قبضته ونحو ذلك، وفرقوا بين البيع والهبة والوقف، بأن الشرط في البيع يورث جهالة الثمن فيفسد البيع. والمذهب فساد الهبة والوقف بالشروط المفسدة للبيع، بخلاف العمرى، لما فيها من الاحاديث الصحيحة. فرع لو باع على صورة العمرى فقال: ملكتكها بعشر عمرك، قال ابن كج: لا يبعد عندي جوازه تفريعا على الجديد. وقال أبو علي الطبري: لا يجوز. فرع لا يجوز تعليق العمرى، كقوله: إذا مات أو قدم فلان أو جاء رأس الشهر فقد أعمرتك هذه الدار، أو فهي لك عمرك. فلو علق بموته فقال: إذا مت فهذه الدار لك عمرك، فهي وصية تعتبر من الثلث. فلو قال: إذا مت فهي لك عمرك، فإذا مت عادت إلى ورثتي، فهي وصية بالعمرى على صورة الحالة الثالثة. فرع جعل رجلان كل واحد منهما داره للآخر عمره، على أنه إذا مات قبله، عاد ت إلى صاحب الدار، فهذه رقبى من الجانبين. فرع قال: داري لك عمرك، فإذا مت فهي لزيد، أو عبدي لك عمرك، فإذا مت فهو حر، صحت العمرى على قوله الجديد، ولغا المذكور بعدها.
الركن الرابع : الموهوب، فما جاز بيعه، جازت هبته، وما لا، فلا، هذا

(4/434)


هو الغالب. وقد يختلفان، فتجوز هبة المشاع سواء المنقسم وغيره، وسواء وهبه للشريك أو غيره، وتجوز هبة الارض المزروعة مع زرعها ودون زرعها وعكسه. فرع لو وهب لاثنين، فقبل أحدهما نصفه، فوجهان كالبيع. وقطع صاحب الشامل بالتصحيح. فرع لا تصح هبة المجهول، ولا الآبق والضال، وتجوز هبة المغصوب لغير الغاصب إن قدر على الانتزاع، وإلا، فوجهان. وأما هبته للغاصب، فقد ذكرناها في كتاب الرهن. وتجوز هبة المستعار لغير المستعير ثم إذا قبض الموهوب له بالاذن، برئ الغاصب والمستعير من الضمان، وتجوز هبة المستأجرة إذا جوزنا بيعها، وإلا، ففيها الوجهان. ثم قال الشيخ أبو حامد وغيره: ولو وكل الموهوب له الغاصب أو المستعير أو المستأجر في قبض ما في يده في نفسه، وقبل، صح. وإذا مضت مدة يتأنى فيها القبض، برئ الغاصب والمستعير من الضمان، وهذا يخالف الاصل المشهور في أن الشخص لا يكون قابضا مقبضا، وفي هبة المرهون وجهان. إن صححناها، انتظرنا، فإن بيع في الرهن، بأن بطلان الهبة. وإن فك الرهن، فللواهب الخيار من الاقباض. ويجري الوجهان في هبة الكلب، وجلد

(4/435)


الميتة قبل الدباغ، والخمر المحترمة. والاصح من الوجهين في هذه الصور كلها البطلان، قياسا على البيع. والثاني: الصحة، لانها أخف من البيع. قال الامام: من صحح فيها، فحقه تصحيحها في المجهول والآبق كالوصية. فرع إذا وهب الدين لمن هو عليه، فهو إبراء، ولا يحتاج إلى القبول على المذهب. وقيل: يحتاج اعتبارا باللفظ. وإن وهبه لغير من هو عليه، لم يصح على المذهب. وقيل: في صحته وجهان، كرهن الدين. فإن صححنا، ففي افتقار لزومها إلى قبض الدين، وجهان. فإن قلنا: لا يفتقر، فهل يلزم بنفس الايجاب والقبول كالحوالة ؟ أم لا بد من إذن جديد ويكون ذلك كالتخلية فيما لا يمكن نقله ؟ وجهان. فرع رجل عليه زكاة وله دين على مسكين، فوهب له الذين بنية الزكاة، لم يقع الموقع، لانه إبراء بتمليك وإقامة الابراء مقام التمليك إبدال، وذلك لا يجوز في الزكاة، هكذ قال صاحب التقريب. ولك أن تقول: ذكروا وجهين في أن هبة الدين ممن عليه (الدين) تنزل منزلة التمليك، أم هو محض إسقاط ؟ وعلى هذا خرج اعتبار

(4/436)


القبول فيها. فإن قلنا: تمليك، وجب أن يقع الموقع. ولو كان الدين على غير المسكين، فوهبه للمسكين بنية الزكاة، وقلنا: تصح الهبة ولا يعتبر القبض، أجزأه عن الزكاة، ويطالب المسكين والمديون.
فصل وأما شرط لزوم الهبة، فهو القبض، فلا يحصل الملك في الموهوب والهدية إلا بقبضهما، هذا هو المشهور. وفي قول قديم: يملك بالعقد كالوقف. وفي قول مخرج: الملك موقوف، فإن قبض، تبينا أنه ملك بالعقد. ويتفرع على الاقوال أن الزيادة الحادثة بين العقد والقبض، لمن تكون ؟ ولو مات الواهب أو الموهو ب له بعد العقد وقبل القبض، فوجهان. وقيل: قولان. أحدهما: ينفسخ العقد، لجوازه، كالشركة والوكالة. وأصحهما: لا ينفسخ، لانه يؤول إلى اللزوم. كالبيع الجائز، بخلاف الشركة. فعلى هذا، إن مات الواهب تخير الوارث في الاقباض. وإن مات الموهوب له، قبض وارثه إن أقبضه الواهب. ويجري الخلاف في جنون أحدهما وإغمائه. قلت: قال البغوي: ويقبض بعد الافاقة منهما، ولا يصح القبض في حال الجنون والاغماء. والله أعلم.

(4/437)


فرع القبض المحصل للملك، هو الواقع باذن الواهب، فلو قبض بلا إذنه، لم يملكه، ودخل في ضمانه، سواء ض في مجلس العقد أو بعده. ولو كان الموهوب في يد الموهوب له، فحكمه ما سبق في كتاب الرهن. ولو أذن في القبض، ثم رجع عنه قبل القبض، صح رجوعه، فلا يصح القبض بعده. وكذا لو أذن، ثم مات الآذن أو المأذون له قبل القبض، بطل الاذن. فرع بعث هدية إلى إنسان، فمات المهدى إليه قبل وصولها إليه، بقيت الهدية للمهدي. ولو مات المهدي، لم يكن للرسول حملها إلى المهدي إليه، وكذا المسافر إذا اشترى لاصدقائه هدايا، فمات قبل وصولها إليهم، فهي له تركة. فرع كيفية القبض في العقار والمنقول، كما سبق في البيع. وحكينا هنا قولا، أن التخلية في المنقول قبض. قال المتولي: لا جريان له هنا، لان القبض هناك مستحق، وللمشتري المطالبة به، فجعل التمكين قبضا، وفي الهبة غير مستحق، فاعتبر تحقيقه ولم يكتف بالوضع بين يديه. قلت: فلو كان الموهوب مشاعا، فإن كان غير منقول، فقبضه بالتخلية، وإن كان منقولا، فقبضه بقبض الجميع. قال أصحابنا: صاحب الشامل وآخرون: فيقال للشريك ليرضى بتسليم نصيبه أيضا إلى الموهوب له، ليكون في يده وديعة حتى يتأتى القبض ثم يرده إليه. فإن فعل، (فقبض الموهوب الجميع، ملك. وإن امتنع، قيل للموهوب له: وكل الشريك في القبض لك. فإن فعل) نقله الشريك وقبضه له. فإن امتنعا، نصب الحاكم من يكون في يده لهما فينقله ليحصل القبض، لانه لا ضرر في ذلك عليهما. (والله أعلم) فرع لو أتلف المتهب الموهوب، لم يصر قابضا، بخلاف المشتري إذا أتلف المبيع، والفرق ما سبق في الفرع قبله. ولو أذن الواهب للموهوب له في أكل

(4/438)


طعام الموهوب، فأكله، أو في إعتاق الموهوب، فأعتقه، أو أمر الموهوب له الواهب باعتاقه، فأعتقه، كان قابضا. فرع لو باع الواهب الموهوب قبل الاقباض، حكى الشيخ أبو حامد: أنه إن كان يعتقد أن الهبة غير لازمة، صح بيعه وبطلت الهبة. وإن اعتقد لزومها وحصول الملك بالعقد، ففي صحة بيعه قولان، كمن مال أبيه يظن أنه حي، فبان ميتا. فرع في مسائل محكية عن نص الشافعي رضي الله عنه لو قال: وهبته له وملكه، لم يكن إقرارا بلزوم الهبة، لجواز أن يعتقد لزومها وحصول الملك بالعقد، والاقرار يحمل على اليقين. ولو قال: وهبته له وخرجت إليه منه، فإن كان الموهوب في يد المتهب، كان إقرارا بالقبض، وإن كان في يد الواهب، فلا. ولو قيل له: وهبت دارك لفلان وأقبضته ؟ فقال: نعم، كان إقرارا بالهبة والاقباض.
الباب الثاني : في حكم الهبة في الرجوع والثواب فيه طرفان.
الطرف الأول : في الرجوع، فالهبة تنقسم إلى مقيدة بنفي الثواب، ومقيدة باثباته، ومطلقة. أما المقيدة بنفي الثواب، فتلزم بنفس القبض، ولا رجوع فيها إلا للوالد، فإنه يرجع فيما وهبه لولده كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل ينبغي للوالد أن يعدل بين أولاده في العطية، فإن لم يعدل، فقد فعل مكروها، لكن تصح الهبة. والاولى في هذا الحال، أن يعطي الآخرين ما يحبه العدل. ولو رجع، جاز. وإذا أعطى وعدل، كره له الرجوع. وكذا لو

(4/439)


كان ولدا واحدا، فوهب له، كره الرجوع إن كان الولد عفيفا بارا، فان كان عاقا أو يستعين بما أعطاه في معصية، فلينذره بالرجوع. فإن أصر، لم يكره الرجوع. فرع في كيفية العدل بين الاولاد في الهبة، وجهان. أصحهما: أن يسوي بين الذكر والانثى. والثاني: يعطي الذكر مثل حظ الانثيين. قلت: وإذا وهبت الام لاولادها، فهي كالاب في العدل بينهم في كل ما ذكرناه، وكذلك الجد والجدة، وكذا الابن إذا وهب لوالديه. قال الدارمي: فان فضل فليفضل الام. والله أعلم.
فصل للأب الرجوع في هبته لولده. وعن ابن سريج: أنه إنما يرجع إذا قصد بهبته استجلاب بر أو دفع عقوق فلم يحصل، فإن أطلق الهبة ولم يقصد ذلك، فلا رجوع والصحيح الجواز مطلقا وأما الام والاجداد والجدات من جهة الاب والام، فالمذهب أنهم كالاب. وفي قول: لا رجوع لهم. وقيل: ترجع الام. وفي غيرها، قولان. وقيل: يرجع آباء الاب، وفي غيرهم قولان. ولا رجوع لغير الاصول كالاخوة والاعمام وغيرهم من الاقارب قطعا. وسواء في ثبوت

(4/440)


الرجوع للوالد كانا متفقين في الدين، أم لا. ولو وهب لعبد ولده، رجع. ولو وهب لمكاتب ولده، فلا. وهبته لمكاتب نفسه كالاجنبي. ولو تنازع رجلان مولودا، ووهبا له، فلا رجوع لواحد منهما. فإن ألحق بأحدهما، فوجهان، لان الرجوع لم يكن ثابتا ابتداء. قلت: أصحهما: الرجوع، وبه قطع ابن كج، لثبوت بنونه في الاحكام. والله أعلم فرع حكم الرجوع في الهدية حكمه في الهبة. ولو تصدق على ولده، فله الرجوع على الاصح المنصوص. قال المتولي: ولو أبرأه من دين، بني على أن الابراء إسقاط، أو تمليك ؟ إن قلنا: تمليك، رجع، وإلا، فلا. قلت: ينبغي أن لا يرجع على التقديرين. والله أعلم فرع وهب لولده، ثم مات الواهب، ووارثه أبوه لكون الولد مخالفا في الدين، فلا رجوع للجد. فرع الموهوب، إما أن لا يكون باقيا في سلطنة المتهب، وإما أن يكون. القسم الاول: أن لا يكون، بأن أتلف، أو زال ملكه عنه ببيع أو غيره، أو وقفه، أو أعتقه، أو كاتبه، أو استولدها، أو وهبه وأقبضه، أو رهنه وأقبضه، فلا

(4/441)


رجوع له، ولا قيمة أيضا. وحكى الامام خلافا، في أن الرهن هل يمنع الرجوع، مبنيا على ما سبق من صحة هبة المرهون ؟ فإن قلنا: لا تصح، لم يصح الرجوع، وإلا، توقفنا. فإن فك الرهن، بان صحة الرجوع، وذكر أيضا ترددا في كتابة العبد بناء على صحة بيعه. ولا يمتنع الرجوع بالرهن والهبة إذا لم يقبضا، ولا بالتدبير وتعليق العتق بصفة، ولا بزراعة الارض وتزويج الامة قطعا، ولا بالايجار على المذهب، وبه قطع الاكثرون، وتبقى الاجارة بحالها كالتزويج. وقال الامام: إن صححنا بيع المستأجر، رجع، وإلا، فان جوزنا الرجوع في المرهون وتوقفنا، صح الرجوع هنا ولا توقف، بل الرقبة للراجع، ويستوفي المستأجر المنفعة إلى انقضاء المدة. وإن منعنا الرجوع في المرهون، ففي المستأجر تردد، وخرج على هذا، ترددا فيما إذا أبق العبد الموهوب من يد المتهب، هل يصح رجوع الواهب، مع قولنا: لا تصح هبة الآبق، لان الهبة تمليك مبتدأ والرجوع بناء فيسامح فيه ؟ ولو جنى وتعلق الارش برقبته، فهو كالمرهون في امتناع الرجوع. لكن لو قال: أنا أفديه وأرجع، مكن، بخلاف ما لو كان مرهونا فأراد أن يبذل قيمته ويرجع، لما فيه من إبطال تصرف المتهب. ولو زال ملك المتهب ثم عاد بإرث أو شراء، ففي عود الرجوع وجهان. وقال الغزالي: قولان. أصحهما: المنع. واحتج أبو العباس الروياني لهذا الوجه، بأنه لو وهب لابنه، فوهبه الابن لجده، فوهبه الجد لابن ابنه الذي وهبه، فإن حق الرجوع للجد الذي حصل منه هذا الملك، لا للاب، ولا يبعد أن يثبت القائل الاول الرجوع لهما جميعا.

(4/442)


ولو وهب له عصيرا فصار خمرا، ثم صار خلا، فله الرجوع على المذهب. وحكى بعضهم وجهين في زوال الملك بالتخمر، ووجهين في عود الرجوع تفريعا على الزوال. وإذا انفك الرهن أو الكتابة بعجز المكاتب، ثبت الرجوع على المذهب. ولو حجر على المتهب بالفلس، فلا رجوع على الاصح كالرهن. وقيل: يرجع، لان حقه سابق، فانه يثبت من حين الهبة. قلت: ولو حجر عليه بالسفه، ثبت الرجوع قطعا، لانه لم يتعلق به حق غيره، قاله المتولي وآخرون. والله أعلم ولو ارتد وقلنا: لا يزول ملكه، ثبت الرجوع. وإن قلنا: يزول، فلا. فإن عاد إلى الاسلام، ثبت الرجوعلى المذهب. وقيل: على الخلاف فيما لو زال ملكه ثم عاد. ولو وهب الابن المتهب الموهوب لابنه، أو باعه له أو ورثه منه، فلا رجوع للجد على المذهب. قلت: ولو وهبه المتهب لاخيه من أبيه، قال في البيان: ينبغي أن لا يجوز للاب الرجوع قطعا، لان الواهب لا يملك الرجوع، فالاب أولى. ولا يبعد تخريج الخلاف لانهم عللوا الرجوع بأنه هبة لمن للجد الرجوع في هبته، وهذا موجود هنا. والله أعلم القسم الثاني: أن يكون باقيا في سلطنة المتهب، فإن كان بحاله، أو ناقصا، فله الرجوع، وليس على المتهب أرش النقص، وإن كان زائدا، نظر، إن كانت الزيادة متصلة، كالسمن وتعلم صنعة، رجع فيه مع الزيادة. وإن كانت منفصلة كالولد، والكسب، رجع في الاصل وبقيت الزيادة للمتهب. وإن وهب جارية أو بهيمة حاملا، فرجع قبل الوضع، رجع فيها حاملا. وإن رجع بعد الوضع، فإن قلنا: للحمل حكم، رجع في الولد مع الام، وإلا، ففي الام فقط. وإن وهبها حائلا ورجع وهي حامل، فإن قلنا: لا حكم للحمل، رجع فيها حاملا، وإلا، فلا يرجع إلا في الام، وهل له الرجوع في الحال، أم عليه الصبر إلى الوضع ؟ وجهان. ولو وهبه حبا فبذره ونبت، أو بيضا فصار فرخا، فلا رجوع، لان ماله

(4/443)


قال البغوي: هذا إذا ضمنا الغاصب بذلك، وإلا، فقد وجد عين ماله فيرجع. ولو كان الموهوب ثوبا فصبغه الابن، رجع في الثوب، والابن شريك بالصبغ. ولو قصره، أو كانت حنطة فطحنها، أو غزلا فنسجه، فإن لم تزد قيمته، رجع ولا شئ للابن. وإن زادت، فإن قلنا: القصارة عين، فالابن شريك. وإن قلنا: أثر، فلا شئ له. ولو كان أرضا فبنى فيها أو غرس، رجع الاب في الارض، وليس له قلع البناء والغراس مجانا، لكنه يتخير بين الابقاء بأجرة، أو التملك بالقيمة، أو القلع. وغرامة النقص كالعارية. ولو وطئ الابن الموهوبة، قال ابن القطان: لا رجوع وإن لم تحبل، لانها حرمت على الاب، والصحيح: ثبوت الرجوع. فرع فيما يحصل به الرجوع يحصل بقوله: رجعت فيما وهبت، أو ارتجعت، أو استرددت المال، أو رددته إلى ملكي، أو أبطلت الهبة، أو نقضتها وما أشبه ذلك، هكذا أطلقوه. وحكى الروياني في الجرجانيات وجهين في أن الرجوع نقض وإبطال للهبة، أم لا ؟ فعلى الثاني: ينبغي أن لا يستعمل لفظ النقض والابطال، إلا أن يجعل كناية عن المقصود. وذكر الروياني هذا، أن اللفظ الذي يحصل به الرجوع، صريح وكناية فالصريح: رجعت. والكناية تفتقر إلى النية، كأبطلت الهبة وفسختها. فلو لم يأت بلفظ، لكن باع الموهوب، أو وهبه لآخر، أو وقفه، فثلاثة أوجه. أصحها: لا يكون رجوعا. والثاني: رجوع وينفذ التصرف. والثالث: رجوع فلا ينفذ التصرف. ولو أتلف الطعام الموهوب، أو أعتق العبد، أو وطئ، لم يكن رجوعا على الاصح. والثاني: رجوع. وأشار الامام إلى وجه ثالث: أنه إن أحبلها بالوطئ وحصل الاستيلاد، كان رجوعا، وإلا، فلا. فعلى الاصح: يلزمه بالاتلاف القيمة ويلغو الاعتاق، وعليه بالوطئ مهر المثل، وباستيلاد القيمة. قلت: ولا خلاف أن الوطئ حرام على الاب وإن قصد به الرجوع، كذا قاله

(4/444)


الامام، لاستحالة إباحة الوطئ لشخصين، ولا خلاف أن المتهب يستبيح الوطئ قبل الرجوع. لكن إذا جرى وطئ الاب الحرام، هل يتضمن الرجو ع ؟ فيه الخلاف. والله أعلم ولو صبغ الثوب الموهوب، أو خلط الطعام بطعام نفسه، لم يكن رجوعا، بل هو كما لو فعل الغاصب ذلك. فرع الرجوع في الهبة حيث يثبت، لا يفتقر إلى قضاء القاضي. وإذا رجع ولم يسترد المال، فهو أمنة في يد الولد، بخلاف المبيع في يد المشتري بعد فسخ البيع، لان المشتري أخذه على حكم الضمان. فرع لو اتفق الواهب والمتهب على فسخ الهبة حيث لا رجوع، فهل ينفسخ كما لو تقايلا، أم لا كالخلع ؟ فيه وجهان عن الجرجانيات. قلت: لا يصح الرجوع إلا منجزا. فلو قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد رجعت، لم يصح. قال المتولي: لان الفسوخ لا تقبل التعليق. والله أعلم.
الطرف الثاني : في الثواب، قد سبق أن الهبة مقيدة بنفي الثواب، وإثباته، ومطلقة، ومضى الكلام في المقيدة، وفرعناها على المذهب والذي قطع به الجمهور وهو صحتها. وقيل: إنها باطلة إذا أوجبنا الثواب في المطلقة، لانه شرط يخالف مقتضاها.

(4/445)


وأما القسم الثاني: وهي المطلقة، فينظر، إن وهب الاعلى للادنى، فلا ثواب، وفي عكسه قولان. أظهرهما عند الجمهور: لا ثواب. والثاني: يجب الثواب، فعلى هذا، هل (هو) قدر قيمة الموهوب، أم ما يرضى به الواهب، أم ما يعد ثوابا لمثله في العادة، أم يكفي ما يتمول ؟ فيه أربعة أوجه. وقيل: أقوال. أصحها: أولها، والخيار في جنسه إلى المتهب. فعلى الاصح، لو اختلف قدر القيمة، فالاعتبار بقيمة يوم القبض على الاصح. وقيل: بيوم بذل الثواب. ثم إن لم يثب ما يصلح ثوابا، فللواهب الرجوع إن كان الموهوب بحاله. قلت: قال أصحابنا: ولا يجبر المتهب على الثواب قطعا. والله أعلم فإن زاد زيادة منفصلة، رجع فيه دونها. وإن زاد متصلة، رجع فيه معها على الصحيح. وقيل: للمتهب إمساكه وبذل قيمته بلا زيادة. وإن كان تالفا، فوجهان. وقيل: قولان منصوصان في القديم. أصحهما: يرجع بقيمته. والثاني: لا شئ له كالاب في هبة ولده. وإن كان ناقصا، رجع فيه. وفي تغريمه المتهب أرش النقصان الوجهان. وقيل: له ترك العين والمطالبة بكمال القيمة. قلت: وإن كانت جارية قد وطئها المتهب، رجع الواهب فيها، ولا مهر على المتهب، لانه وطئ ملكه. والله أعلم وأما إذا وهب لنظيره، فالمذهب القطع بأن لا ثواب. وقيل: فيه القولان. وعن صاحب التقريب طرد القولين في هبة الاعلى للادنى، وهو شاذ. قلت: وحكى صاحب الابانة والبيان وجها أنه إذا وهب لنظيره ونوى الثواب، استحقه، وإلا، فقولان. فإن اختلفا في النية، فأيهما يقبل قوله ؟ وجهان. والمذهب: أنه لا يجب الثواب في جميع الصور. قال المتولي: إذا لم يجب فأعطاه المتهب ثوبا، كان ذلك ابتداء هبة. حتى لو وهب لابنه فأعطاه الابن

(4/446)


ثوابا، لا ينقطع حق الرجوع، ولا يجب في الصدقة ثواب بكل حال قطعا، صرح به البغوي وغيره، وهو ظاهر. وأما الهدية، فالظاهر أنها كالهبة. والله أعلم وأما القسم الثالث: فالمقيدة بالثواب، وهو إما معلوم، وإما مجهول. فالحالة الاولى: المعلوم، فيصح العقد على الاظهر، ويبطل على قول. فإن صححنا، فهو بيع على الصحيح. وقيل: هبة. فإن قلنا: هبة، لم يثبت الخيار والشفعة، ولم يلزم قبل القبض. وإن قلنا: بيع، ثبتت هذه الاحكام. وهل تثبت عقب العقد، أم عقب القبض ؟ قولان. أظهرهما: الاول. ولو وهبه حليا بشرط الثواب، أو مطلقا وقلنا: الهبة تقتضي الثواب، فنص في حرملة أنه إن أثابه قبل التفرق بجنسه، اعتبرت المماثلة. وإن أثابه بعد التفرق بعرض، صح، وبالنقد لا يصح، لانه صرف، وهذا تفريع ذلى أنه بيع. وفي التتمة أنه لا بأس بشئ من ذلك، لانا لم نلحقه بالمعاوضات في اشتراط العلم بالعوض، وكذا سائر الشروط، وهذا تفريع على أنه هبة. وحكى الامام الاول عن الاصحاب، وأبدى الثاني احتمالا. وخرج على الوجهين ما إذا وهب الاب لابنه بثواب معلوم. فإن جعلنا العقد بيعا، فلا رجوع، وإلا، فله الرجوع. وإذا وجد بالثواب عيبا وهو في الذمة، طالب بسليم. وإن كان معينا، رجع إلى عين الموهوب إن كان باقيا، وإلا، طالب ببدله. واستبعد الامام مجئ الخلاف أنه بيع أم هبة هنا، حتى لا يرجع على التقدير الثاني وإن طرده بعضهم. وإذا جعلناه هبة، فكافأه بدون المشروط إلا أنه قريب، ففي شرح ابن كج، وجهان في أنه هل يجبر على القبول لان العادة فيه مسامحة ؟ قلت: والاصح أو الصحيح: لا يجبر. والله أعلم الحالة الثانية: إذا كان الثواب مجهولا، فإن قلنا: الهبة لا تقتضي ثوابا، بطل العقد، لتعذر تصحيحه بيعا وهبة، وإن قلنا: تقتضيه، صح، وهو تصريح

(4/447)


بمقتضى العقد، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى الغزالي وجها: أنه يبطل بناء على أن العوض يلحقه بالبيع. فرع نص الشافعي رضي الله عنه أنه لو وهب لاثنين بشرط الثواب، فأثابه أحدهما فقط، لم يرجع في حصة المثيب، وأنه لو أثاب أحدهما عن نفسه وعن صاحبه ورضي به الواهب، لم يرجع الواهب على واحد منهما. ثم إن أثاب إذن بغير الشريك، لم يرجع عليه. وإن أثاب بإذنه، رجع بالنصف إن أثاب ما يعتاد ثوابا لمثله. فإن زاد، فمتطوع بالزيادة. فرع خرج الموهوب مستحقا بعد الثواب، رجع بما أثاب على الواهب. وإن جرج بعضه مستحقا، فله الخيار بين أن يرجع على الواهب بقسطه من الثواب، وبين أن يرد الباقي ويرجع بجميع الثواب. وقيل: تبطل الهبة في الكل. وقيل: لا يجئ قول الابطال هنا.

(4/448)


فرع قال: وهبتك ببدل، فقال: بلا بدل، وقلنا: مطلق الهبة لا يقتضي ثوابا، فهل المصدق الواهب، أم المتهب ؟ وجهان، وبالاول قطع ابن كج. قلت: الثاني، أصح. والله أعلم.
فصل في مسائل تتعلق بالكتاب هبة منافع الدار، هل هي إعارة ؟ لها وجهان في الجرجانيات، ولا يحصل الملك بالقبض في الهبة الفاسدة. وهل المقبوض بها مضمون كالبيع الفاسد ؟ أم لا، كالهبة الصحيحة ؟ وجهان. ويقال: قولان. قلت: أصحهما: لا ضمان، وهو المقطوع به في النهاية والعدة والبحر والبيان، ذكروه في باب التيمم. قال المتولي: وإذا حكمنا بفساد الهبة، فسلم المال بعد ذلك هبة، فإن كان يعتقد فساد الاولى، صحت الثانية، وإلا، فوجهان بناء على من باع مال أبيه على أنه حي فكان ميتا. وهذه مسائل متعلقة بالكتاب. إحداها: قال لرجل: كسوتك هذا الثوب، ثم قال: لم أرد الهبة، قال صاحب العدة: يقبل قوله، خلافا لابي حنيفة رضي الله عنه، لانه يصلح للعارية، فلا يكون صريحا في الهبة. الثانية: قال: منحتك هذه الدار، أو الثوب، فقال: قبلت وأقبضه، فهو هبة، قاله في العدة. الثالثة: في فتاوى الغزالي: لو كان في يد ابن الميت عين، فقال: وهبنيها

(4/449)


أبي وأقبضنيها في الصحة، فأقام باقي الورثة بينة بأن الاب رجع فيما وهب لابنه، ولم تذكر البينة ما رجع فيه، لا تنتزع من يده بهذه البينة، لاحتمال أن هذه العين ليست من المرجوع فيه. ويقرب من هذا، لو وهب وأقبض ومات، فادعى الوارث كون ذلك في المرض، وادعى المتهب كونه في الصحة، فالمختار أن القول قول المتهب. الرابعة: دفع إليه ثوبا بنية الصدقة، فأخذه المدفوع إليه ظانا أنه وديعة أو عارية، فرده على الدافع، لا يحل للدافع قبضه، لانه زال ملكه، فإن الاعتبار بنية الدافع. فإن قبضه، لزمه رده إلى المدفوع إليه، ذكره القاضي حسين. الخامسة: بر الوالدين مأمور به، وعقوق كل واحد منهما محرم معدود من الكبائر بنص الحديث الصحيح، وصلة الرحم مأمور بها، فأما برهما، فهو الاحسان إليهما، وفعل الجميل معهما، وفعل ما يسرهما من الطاعات لله تعالى وغيرها مما ليس بمنهي عنه، ويدخل فيه الاحسان إلى صديقهما، ففي صحيح

(4/450)


مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من أبر البر، أن يصل الرجل أهل ود أبيه. وأما العقوق، فهو كل ما أتى به الولد مما يتأذى (به) الوالد أو نحوه تأذيا ليس بالهين، مع أنه ليس بواجب. وقيل: تجب طاعتهما في كل ما ليس بحرام، فتجب طاعتهما في الشبهات. وقد حكى الغزالي هذا في الاحياء عن كثير من العلماء، أو أكثرهم. وأما صلة الرحم، ففعلك مع قريبك ما تعد به واصلا غير منافر ومقاطع له، ويحصل ذلك تارة بالمال، وتارة بقضاء حاجته أو خدمته أو زيارته. وفي حق الغائب بنحو هذا، وبالمكاتبة وإرسال السلام عليه ونحو ذلك. السادسة: الوفاء بالوعد، مستحب استحبابا متأكدا، ويكره إخلافه كراهة ديدة، ودلائله من الكتاب والسنة معلومة، وقد ذكرت في كتاب الاذكار فيه بابا، وبينت فيه اختلاف العلماء في وجوبه. والله أعلم

(4/451)