روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الوقف
فيه بابان.
الباب الأول : في أركانه وشروطه، وفيه طرفان.
الطرف الأول : في أركانه، وهي أربعة.
الركن الأول : الواقف، ويشترط كونه صحيح العبارة، أهلا للتبرع.

(4/377)


الركن الثاني : الموقوف، وهو كل عين معينة مملوكة ملكا يقبل النقل يحصل منها فائدة أو منفعة تستأجر لها. احترزنا بالعين، حق المنفعة، وعن الوقف، الملتزم في الذمة، وبالمعينة، عن وقف أحد عبديه، وبالمملوكة، عما لا يملك، وبقبول النقل، عن أم الولد والملاهي. وأردنا بالفائدة: الثمرة واللبن ونحوهما، وبالمنفعة: السكنى واللبس ونحوهما. وقولنا: تستأجر لها، احتراز من الطعام ونحوه. ونوضحه بمسائل. إحداها: يجوز وقف العقار والمنقول، كالعبيد، والثياب، والدواب، والسلاح، والمصاحف، والكتب، سواء المقسوم والمشاع، كنصف دار ونصف بد، ولا يسري الوقف من نصف إلى نصف.

(4/378)


فرع وقف نصف عبد، ثم أعتق النصف الآخر، لم يعتق الموقوف. الثانية: يجوز وقف ما يراد لعين تستفاد منه، كالاشجار للثمار، والحيوان للبن والصوف والوبر والبيض، وما يراد لمنفعة تستوفى منه، كالدار، والارض. ولا يشترط حصول المنفعة والفائدة في الحال، بل يجوز وقف العبد والجحش الصغيرين، والزمن الذي يرجى زوال زمانته، كما يجوز نكاح الرضيعة. الثالثة: لا يصح وقف الحر نفسه، لان رقبته غير مملوكة، وكذلك مالك منافع الاموال دون رقابها، لا يصح وقفه إياها، سواء ملك مؤقتا، كالمستأجر، أم مؤبدا، كالموصى له بالمنفعة. الرابعة: لا يصح وقف أم الولد على الاصح. فإن صححنا فمات السيد، عتقت. قال المتولي: لا يبطل الوقف، بل تبقى منافعها للموقوف عليه، كما لو أجرها ومات. وقال الامام: تبطل، لان الحرية تنافي الوقف، بخلاف الاجارة، وهذا مقتضى كلام ابن كج، ويجري الوجهان في صحة وقف المكاتب، ويصح وقف المعلق عتقه بصفة. فإذا وجدت الصفة، فإن قلنا: الملك في الوقف للواقف، أو لله تعالى، عتق وبطل الوقف. وإن قلنا: للموقوف عليه، لم يعتق ويبقى الوقف بحاله. ويجوز وقف المدبر، ثم هو رجوع إن قلنا: التدبير وصية، فإن قلنا: تعليق بصفة، فهو كالمعلق عتقه. الخامسة: لا يصح وقف الكلب المعلم على الاصح. وقيل: لا يصح

(4/379)


قطعا، لانه غير مملوك. السادسة: في وقف الدراهم والدنانير وجهان، كاجارتهما، إن جوزناها، صح الوقف لتكرى، ويصح وقف الحلي لغرض اللبس. وحكى الامام أنهم ألحقوا الدراهم ليصاغ منها الحلي بوقف العبد الصغير، وتردد هو فيه. السابعة: لا يصح وقف ما لا يدوم الانتفاع به، كالمطعوم والرياحين المشمومة، لسرعة فسادها. الثامنة: وقف ثوبا أو عبدا في الذمة، لم يصح كما لو أعتق عبدا في الذمة. ولو وقف أحد عبديه، لم يصح على الصحيح كالبيع. وقيل: يصح كالعتق. التاسعة: يجوز وقف علو الدار دون سفلها. العاشرة: يصح وقف الفحل للضراب، بخلاف إجارته، لان الوقف قربة يحتمل فيها ما لا يحتمل في المعاوضات. الحادية عشرة: لا يصح وقف الملاهي. فرع أجر أرضه ثم وقفها، صح على المذهب، وبه قطع الشيخ أبو علي، لانه مملوك بشرائطه، وليس فيه إلا العجز عن صرف منفعته إلى جهة الوقف في

(4/380)


الحال، وذلك لا يمنع الصحة، كما لو وقف ماله في يد الغاصب. وفي فتاوى القفال: أنه على الخلاف في الوقف المنقطع الاو. وقيل: إن وقفه على المسجد صح، لمشابهته الاعتاق، وإن وقف على إنسان، فخلاف. فرع استأجر أرضا ليبني فيها، أو يغرس، ففعل، ثم وقف البناء والغراس، صح على الاصح. ولو وقف هذا أرضه، وهذا بناءه، صح بلا خلاف، كما لو باعاه. وإذا قلنا بالصحة، ومضت المدة، وقلع مالك الارض البناء، فان بقي منتفعا به بعد القلع، فهو وقف كما كان. وإن لم يبق، فهل يصير ملكا للموقوف عليه ؟ أم يرجع إلى الواقف ؟ فيه وجهان، وأرش النقص الذي يؤخذ من القالع، يسلك به مسلك الوقف. قلت: الاصح: صحة وقف ما لم يره، ولا خيار له عند الرؤية. والله أعلم.
الركن الثالث : الموقوف عليه، وهو قسمان. القسم الاول: أن يكون شخصا معينا، أو جماعة معينين، فشرطه أن يمكن تمليكه، فيجوز الوقف على ذمي من مسلم وذمي، كما تجوز الوصية له، ولا يصح الوقف على الحربي والمرتد على الاصح، لانهما لا دوام لهما. فرع لا يصح الوقف على من لا يملك، كالجنين، ولا يصح على

(4/381)


العبد نفسه، قال جماعة: هذا تفريع على قولنا: لا يملك. فان ملكناه، صح الوقف عليه. وإذا عتق، كان له دون سيده، وعلى هذا قال المتولي: لو وقف على عبد فلان وملكناه، صح وكان الاستحقاق متعلقا بكونه عبد فلان، حتى لو باعه أو وهبه، زال الاستحقاق. ولك أن تقول: الخلاف في أنه هل يملك مخصوص بما إذا ملكه السيد ؟ فأما إذا ملكه غيره، فلا يملك بلا خلاف، وحينئذ إذا كان الواقف غير السيد، كان الوقف على من لا يملك. أما إذا أطلق الوقف عليه، فهو وقف على سيده. كما لو وهب له، أو أوصى له، وإذا شرطنا القبول، جاء خلاف في استقلاله به، كالخلاف في أنه هل يستقل بقبول الهبة والوصية، وقد سبق في باب معاملات العبيد. فرع لو وقف على مكاتب، قال الشيخ أبو حامد: لا يصح كالوقف على القن. وقال المتولي: يصح في الحال وتصرف الفوائد إليه، ونديم حكمه إذا عتق إن أطلق الوقف. وإن قال: تصرف الفوائد إليه ما دام مكاتبا، بطل استحقاقه. و إعجز، بأن لنا أن الوقف منقطع الابتداء. فرع وقف على بهيمة وأطلق، هل هو كالوقف على العبد حتى يكون وقفا على مالكها ؟ وجهان. أصحهما: لا، لانها ليست أهلا بحال. ولهذا لا تجوز الهبة لها والوصية. والثاني: نعم. واختار القاضي أبو الطيب أنه يصح وينفق عليها منه ما بقيت، وعلى هذا، فالقبول لا يكون إلا من المالك. وحكى المتولي في قوله: وقفت على علف بهيمة فلان، أو بهائم القرية، وجهين كصورة الاطلاق، قال: والخلاف فيما إذا كانت البهيمة مملوكة. فلو وقف على الوحوش، أو علف الطيور المباحة، فلا يصح بلا خلاف.

(4/382)


فرع في وقف الانسان على نفسه وجهان. أصحهما: بطلانه، وهو المنصوص. والثاني: يصح، قاله الزبيري. وحكى ابن سريج أيضا، وحكى عنه ابن كج: أنه يصح الوقف، ويلغو شرطه، وهذا بناء على أنه إذا اقتصر على قوله: وقفت، صح، وينبغي أن يطرد في الوقف على من لا يجوز مطلقا. ولو وقف على الفقراء، وشرط أن تقضى من غلة الوقف زكاته ديونه، فهذا وقف على نفسه وغيره ففيه الخلاف. وكذلك لو شرط أن يأكل من ثماره، أو ينتفع به ولو استبقى الواقف لنفسه التولية، وشرط أجرة، وقلنا: لا يجوز أن يقف على نفسه، ففي صحة هذا الشرط وجهان كالوجهين في الهاشمي هل يجوز أن يأخذ سهم العاملين إذا عمل على الزكاة. قلت: الارجح هنا جوازه. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: ويتقيد ذلك بأجرة المثل، ولا يجوز الزيادة إلا من أجاز الوقف على نفسه. والله أعلم ولو وقف على الفقراء، ثم صار فقيرا، ففي جواز أخذه وجهان إذا قلنا: لا يقف على نفسه، لانه لم يقصد نفسه وقد وجدت الصفة، ويشبه أن يكون الاصح الجواز، ورجح الغزالي المنع، لان مطلقة ينصرف إلى غيره. وأعلم أن للواقف أن ينتفع بأوقافه العامة كآحاد الناس، كالصلاة في بقعة

(4/383)


جعلها مسجدا، والشرب من بئر وقفها ونحو ذلك. قلت: ومن هذا النوع، لو وقف كتابا على المسلمين للقراءة فيه ونحوها، أو قدرا للطبخ فيها، أو كيزانا للشرب بها ونحو ذلك، فله الانتفاع معهم. والله أعلم فرع لو قال لرجلين: وقفت على أحدكما، لم يصح، وفيه احتمال عن الشيخ أبي محمد. القسم الثاني: الوقف على غير معين، كالفقراء والمساكين، وهذا يسمى وقفا على الجهة، لان الواقف يقصد جهة الفقر والمسكنة، لا شخصا بعينه، فينظر في الجهة، إن كانت على المعصية، كعمارة الكنيسة وقناديلها وحصرها، وكتب التوراة والانجيل، لم يصح، سواء وقفه مسلم أو ذمي، فنبطله إذا ترافعوا إلينا. أما ما وقفوه قبل المبعث على كنائسهم القديمة، فنقره حيث نقر الكنائس. ولو وقف لسلاح قطاع الطريق، أو لآلات سائر المعاصي، فباطل قطعا. وإن لم تكن جهة معصية، نظر، فإن ظهر فيه قصد القربة، كالوقف على المساكين، وفي سبيل الله تعالى، والعلماء والمتعلمين، والمساجد والمدارس والربط والقناطر، صح الوقف. وإن لم يظهر القربة، كالوقف على الاغنياء، فوجهان، بناء على أن المرعي بالوقف على الموصوفين جهة القربة، أم التمليك ؟ فحكى الامام عن المعظم: أنه القربة، ولهذا لا يجب استيعاب المساكين، بل يجوز الاقتصار على ثلاثة منهم. وعن القفال أنه قال: التمليك كالوصية وكالوقف على المعين، وهذا الوجه اختيار الامام وشيخه، وطرق العراقيين توافقه، حتى ذكروا أن الوقف على المساجد والربط، تمليك المسلمين منفعة الوقف. فإن قلنا بالاول، لم يصح

(4/384)


الوقف على الاغنياء واليهود والنصارى والفساق، والاصح: الجميع. ويجوز أن يخرج على هذا الاصل، الخلاف في صحة الوقف على قبيلة كالعلوية وغيرهم ممن لا ينحصر فيهم. في صحته قولان كالوصيته هلهم فإن راعينا القربة، صح، وإلا، فلا، لتعذر الاستيعاب، والاشبه بكلام الاكثرين ترجيح كونه تمليكا، وتصحيح الوقف على هؤلاء. ولهذا صحح صاحب الشامل الوقف على النازلين في الكنائس من مارة أهل الذمة وقال: هو وقف عليهم، لا على الكنيسة، لكن الاحسن توسط لبعض المتأخرين، وهو تصحيح الوقف على الاغنياء، وإبطاله على اليهود والنصارى وقطاع الطريق وسائر الفساق، لتضمنه الاعانة على المعصية.
فصل في مسائل تتعلق بهذا الركن إحداها: يجوز الوقف على سبيل الله، وهم المستحقون سهم الزكاة. الثانية: إذا وقف على سبيل البر، أو الخير، أو الثواب، صح، ويصرف إلى أقارب الواقف. فان لم يوجدوا، فإلى أهل الزكاة. وقال في التهذيب: الموقوف على سبيل البر أو الخير أو الثواب، يجوز صرفه إلى ما فيه صلاح المسلمين من أهل الزكاة، وإصلاح القناطر، وسد الثغور، ودفن الموتى وغيرها، وقال بعض أصحاب الامام: إن وقف على جهة الخير، صرف (في) مصارف الزكاة، ولا يبنى به مسجد ولا رباط. وإن وقف على جهة الثواب، صرف إلى أقاربه. والذي قطع به الاكثرون، ما قدمناه. قالوا: ولو جمع بين سبيل الله تعالى، وسبيل الثواب، وسبيل الخير، صرف الثلث إلى الغزاة، والثث إلى أقاربه، والثلث إلى الفقراء والمساكين والغارمين وابن السبيل وفي الرقاب، وهذا يخالف ما سبق.

(4/385)


الثالثة: يصح الوقف على أكفان الموتى، ومؤنة الغسالين والحفارين، وعلى شراء الاواني والظروف لمن تكسرت عليه. الرابعة: يصح الوقف على المتفقهة - وهم المشتغلون بتحصيل الفقه - مبتدئهم وهنتهيهم، وعلى الفقهاء، ويدخل فيه من حصل منه شيئا وإن قل. الخامسة: الوقف على الصوفية، حكي عن الشيخ أبي محمد أنه باطل، إذ ليس للتصوف حد يعرف، والصحيح المعروف صحته، وهم المشتغلون بالعبادة في أغلب الاوقات، المعرضون عن الدنيا. وفصله الغزالي في الفتاوى فقال: لا بد في

(4/386)


الصوفي من العدالة وتر ك الحرفة، ولا بأس بالوراقة والخياطة وشبههما إذا تعاطاها أحيانا في الرباط لا في الحانوت، ولا تقدح قدرته على الكسب، ولا اشتغاله بالوعظ والتدريس، ولا أن يكون له من المال قدر لا تجب فيه الزكاة، أو لا يفي دخله بخرجه، وتقدح الثروة الظاهرة والعروض الكثيرة، ولا بد أن يكون في زي القوم، إلا أن يكون مساكنا، فتقوم المخالطة والمساكنة مقام الزي، قال: ولا يشترط لبس المرفعة من شيخ، وكذلك ذكر المتولي. السادسة: وقف على الارقاء الموقوفين لسدانة الكعبة وخدمة قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، صح على الاصح. السابعة: لو وقف على دار أو حانوت، قال الحناطي: لا يصح إلا أن يقول: وقفت على هذه الدار على أن يأكل فوائده طارقوها، فيصح على الاصح. الثامنة: وقف على المقبرة لتصرف الغلة في عمارة القبور، قال المتولي: لا يصح، لان الموتى صائرون إلى البلى، فلا تليق بهم العمارة. التاسعة: وقف ضيعة على المؤن التي تقع في قرية كذا من جهة السلطان، ففي فتاوى القفال: أنه صحيح، وصيغته أن يقول: تصدقت بهذه الضيعة صدقة محرمة على أن تستغل، فما فضل عن عمارتها صرف إلى هذه المؤن. العاشرة: في فتاوى القفال، أنه لو قال: وقفت هذه البقرة على الرباط الفلاني ليشرب من لبنها من نزله، أو ينفق من نسلها عليه، صح، فان اقتصر على قوله: وقفتها عليه، لم يصح وإن كنا نعلم أنه يريده، لان الاعتبار باللفظ. وقد بقيت مسائل من هذا الفصل تأتي منثورة في آخر الباب إن شاء الله تعالى.
الركن الرابع : الصيغة، فلا يصح الوقف إلا بلفظ، لانه تمليك للعين

(4/387)


والمنفعة، أو المنفعة، فاشبه سائر التمليكات، لان العتق مع قوته وسرايته لا يصح إلا بلفظ، فهذا أولى. فلو بنى على هيئة المساجد أو على غير هيئتها، وأذن في الصلاة فيه، لم يصر مسجدا، وكذا لو أذن في الدفن في ملكه، لم يصر مقبرة سواء صلي في ذاك ودفن في ذا، أم لا. وألفاظ الوقف على مراتب. إحداها: قوله: وقفت كذا، أو حبست، أو سبلت، أو أرضي موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، فكل لفظ من هذا صريح، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه: كل هذا كناية، وفي وجه: الوقف صريح، والباقي كناية، وفي وجه: التسبيل كناية والباقي صريح. الثانية: قوله: حرمت هذه البقعة للمساكين أو أبدتها، أو داري محرمة أو مؤبدة، كناية على المذهب، لانها لا تستعمل إلا مؤكدة للاولى. الثالثة: تصدقت بهذه البقعة، ليس بصريح، فان زاد معه شيئا، فالزيادة لفظ أو نية، فأما اللفظ، ففيه أوجه. أصحها: إن قرن به بعض الالفاظ السابقة، بأن قال: صدقة محرمة، أو محبسة، أو موقوفة، أو قرن به حكم الوقف فقال: صدقة لا تباع ولا توهب، التحق بالصريح، لانصرافه بهذا عن التمليك المحض. والثاني: لا يكفي قوله: صدقة محرمة أو مؤبدة، بل لا بد من التقييد بأنها لا تباع ولا توهب، ويشبه أن لا يعتبر هذا القائل في قوله: صدقة موقوفة مثل هذا التقييد. والثالث: لا يكون صريحا بلفظ ما، لانه صريح في التمليك المحض. وأما النية، فإن أضاف إلى جهة عامة بأن قال: تصدقت به على المساكين ونوى الوقف، فوجهان: أحدهما: أن النية لا تلتحق باللفظ في الصرف عن صريح

(4/388)


الصدقة إلى غيره. وأصحهما: تلتحق فيصير وقفا. وإن أضاف إلى معين فقال: تصدقت عليك، أو قاله لجماعة معينين، لم يكن وقفا على الصحيح، بل ينفذ فيما هو صريح فيه وهو التمليك المحض، كذا قاله الامام. ولك أن تقول: تجريد لفظ الصدقة عن القرائن اللفظية، يمكن تصويره في الجهات العامة، ولا يمكن في معينين إذا لم نجوز الوقف المنقطع، فإنه يحتاج إلى بيان المصارف بعد المعينين، وحينئذ فالمأتي به لا يحتمله غير الوقف، كما أن قوله: تصدقت به صدقة محرمة أو موقوفة، لا يحتمل غير الوقف. فرع لو قال: جعلت هذا المكان مسجدا، صار مسجدا على الاصح، لاشعاره بالمقصود واشتهاره فيه. وقطع الاستاذ أبو طاهر والمتولي والبغوي، بأنه لا يصير مسجدا، لانه لم يوجد شئ من ألفاظ الوقف. قال الاستاذ: فإن قال: جعلته مسجدا لله تعالى، صار مسجدا. وحكى الامام خلافا للاصحاب في استعمال لفظ الوقف فيما يضاهي التجريد، كقوله: وقفت هذه البقعة على صلاة المصلين وهو يريد جعلها مسجدا، والاصح صحته.
فصل إذا كان الوقف على جهة، كالفقراء، وعلى المسجد والرباط، لم يشترط القبول. ولو قال: جعلت هذا للمسجد، فهو تمليك لا وقف، فيشترط قبول القي وقبضه كما لو وهب شيئا لصبي. وإن كان الوقف على شخص أو جماعة معينين، فوجهان. أصحهما عند الامام وآخرين: اشتراط القبول. فعلى هذا، فليكن متصلا بالايجاب كما في البيع والهبة. والثاني: لا يشترط كالعتق، وبه قطع البغوي والروياني. قال الروياني: لا يحتاج لزوم الوقف إلى القبول، لكن لا يملك عليه إلا بالاختيار، ويكفي الاخذ دليلا على الاختيار. وخص المتولي الوجهين بقولنا: ينتقل الملك في الموقوف إلى الموقوف عليه، وإلا، فلا يشترط قطعا.

(4/389)


قلت: صحح الرافعي في المحرر الاشتراط. والله أعلم وسواء شرطنا القبول، أم لا، لو رده بطل حقه كالوصية والوكالة، وشذ البغوي فقال: لا يبطل بالرد كالعتق. فعلى الصحيح: لو رد ثم رجع، قال الروياني: إن رجع قبل حكم الحاكم برده إلى غيره، كان له. وإن حكم به لغيره، بطل حقه. هذا في البطن الاول، أما البطن الثاني والثالث: فنقل الامام والغزالي، أنه لا يشترط قبوله قطعا، لان استحقاقهم لا يتصل بالايجاب، ونقلا في ارتداده بردهم وجهين، لان الوقف قد ثبت ولزم فيبعد انقطاعه، وأجرى المتولي الخلاف في اشتراط قبولهم وارتداده بردهم بناء على أنهم يتلقون الحق من الواقف، أم من البطن الاول ؟ إن قلنا بالاول، فقبولهم وردهم كقبول الاولين وردهم، وإلا، فلا يعتبر قبولهم وردهم كالميراث، حسن، ولا يبعد أن لا يتصل الاستحقاق بالايجاب مع اشتراط القبول، كما في الوصية.
الطرف الثاني : في شروط الوقف، وهي أربعة.
الأول : التأبيد، بأن يقف على من لا ينقرض، كالفقراء والمساكين، أو على من ينقرض ثم على من لا ينقرض، كقوله: وقفت على ولدي ثم على الفقراء، أو على زيد ثم عقبه. ثم الفقراء والمساجد والربط والقناطر، كالفقراء والمساكين، فان عين مساجد أو قناطر، فوجهان. وفي معنى الفقراء العلماء على الصحيح، وفي

(4/390)


فتاوى القفال خلافه، لانهم قد ينقطعون. فصل لو قال: وقفت هذا سنة، فالصحيح الذي قطع به الجمهور، أن الوقف باطل. وقيل: يصح وينتهي بانتهاء المدة. وقيل: الوقف الذي لا يشترط فيه القبول، لا يفسد بالتوقيت كالعتق، وبه قال الامام ومن تابعه. وفي مطلق الوقف قول آخر سنحكيه في الهبة إن شاء الله تعالى. فصل إذا وقف وقفا منقطع الآخر، بأن قال: وقفت على أولادي، أو قال: وقفت على زيد ثم على عقبه ولم يزد، ففي صحته ثلاثة أقوال. أظهرها عند الاكثرين: الصحة. منهم القضاة: أبو حامد، والطبري، والروياني، وهو نصه في المختصر. والثاني: البطلان، وصححه المسعودي والامام. والثالث: إن كان الموقوف عقارا، فباطل. وإن كان حيوانا، صح، لان مصيره إلى الهلاك، وربما هلك قبل الفوقوف عليه. فإن صححنا، فإذا انقرض المذكور، فقولان. أحدهما: يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف، أو إلى ورثته إن كان مات. وأظهرهما: يبقى وقفا، وفي مصرفه أوجه. أصحها وهو نصه في المختصر: يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور.

(4/391)


والثاني: إلى المساكين. والثالث: إلى المصالح العامة مصارف خمس الخمس. والرابع: إلى مستحقي الزكاة. فإن قلنا: إلى أقرب الناس إلى الواقف، فيعتبر قرب الرحم، أم استحقاق الارث ؟ وجهان. أصحهما: الاول، فيقدم ابن البنت على ابن العم، لان المعتبر صلة الرحم. وإذا اجتمع جماعة، فالقول في الاقرب كما سيأتي في الوصية للاقرب. وهل يختص بفقراء الاقارب، أم يشاركهم اغنياؤهم. قولان. أظهرهما: الاختصاص. وهل هو على سبيل الوجوب، أم الاستحباب ؟ وجهان. وإن قلنا: يصرف إلى المساكين، ففي تقديم جيران الواقف وجهان. أصحهما: المنع، لانا لو قدمنا بالجوار، لقدمنا بالقرابة بطريق الاولى. فرع قال: وقفت هذا على زيد شهرا، على أن يعود إلى ملكي بعد الشهر، فباطل على المشهور. وفي قول: يصح، فعلى هذا هل يعود ملكا بعد الشهر، أم يكون كالمنقطع حتى يصرف بعد الشهر إلى أقرب الناس إلى الواقف ؟ قولان حكاهما البغوي.
الشرط الثاني : التنجيز. فلو قال: وقفت على من سيولد لي، أو على مسجد سيبني، ثم على الفقراء أو قال: على ولدي ثم على الفقراء ولا ولد له، فهذا وقف منقطع الاول، وفيه طريقان. أحدهما: القطع بالبطلان. والثاني: على القولين في منقطع الآخر. والمذهب هنا البطلان، وهو نصه في المختصر، فان صححنا، نظر، إن لم يمكن انتظار من ذكره كقوله: وقفت على ولدي ولا ولد له، أو على مجهول أو ميت، ثم على الفقراء، فهو في الحال مصروف إلى الفقراء، وذكر الاول لغو. وإن أمكن، إما بانقراضه كالوقف على عبد، ثم على الفقراء، وإما بحصوله، كولد سيولد (له)، فوجهان. أحدهما: تصرف الغلة إلى الواقف حتى ينقرض الاول. وعلى هذا، ففي ثبوت الوقف في الحال وجهان.

(4/392)


والثاني وهو الاصح: تنقطع الغلة عن الواقف. وعلى هذا أوجه. أصحها: تصرف في الحال إلى أقرب الناس إلى الواقف، فإذا انقرض المذكور أولا، صرف إلى المذكور بعده وعلى هذا، فالقول في اشتراط الفقر وسائر التفاريع على ما سبق. والثاني: يصرف إلى المذكورين بعده في الحال. والثالث: أنه للمصالح العامة. فرع وقف على وارثه في مرض الموت، ثم على الفقراء، وقلنا: الوقف على الوارث باطل، أو صحيح، فرده باقي الورثة، فهو منقطع الاول. وكذا لو وقف على معين يصح الوقف عليه، ثم على الفقراء، فرده المعين، وقلنا بالصحيح: إنه يرتد بالرد، فمنقطع الاول. فرع إذا علق الوقف فقال: إذا جاء رأس الشهر، أو قدم فلان، فقد وقفته، لم يصح على المذهب. وقيل: على الخلاف في منقطع الاول، وأولى بالفساد. فرع وراء منقطع الاول فقط أو الآخر فقط صور. إحداها: أن يكون متصل الاول والآخر والوسط، فصحيح. الثانية: أن يكون منقطعها جميعا، فباطل قطعا. الثالثة: متصل الطرفين منقطع الوسط، بأن وقف على أولاده، ثم رجل مجهول، ثم الفقراء، فان صححنا منقطع الآخر، فهذا أولى، وإلا، فوجهان. اصحهما الصحة، ويصرف عند توسط الانقطاع إلى أقرب الناس إلى الواقف، أو إلى المساكين، أو المصالح، أو الجهة العامة المذكورة آخرا ؟ فيه الخلاف السابق. الرابعة: أن ينقطع الطرفان دون الوسط، وقف بأن على رجل مجهول، ثم على أولاده فقط، فان أبطلنا منقطع الاول، فهذا أولى، وإلا، فالاصح بطلانه أيضا. فان صححنا، ففيمن يصرف إليه الخلاف السابق.
الشرط الثالث : الإلزام. فلو وقف بشرط الخيار، أو قال: وقفت بشرط أني أبيعه، أو أرجع فيه متى شئت، فباطل، واحتجوا له بأنه إزالة ملك إلى

(4/393)


الله سبحانه وتعالى، كالعتق، أو إلى الموقوف عليه، كالبيع والهبة، وعلى التقديرين، فهذا شرط مفسد. لكن في فتاوى القفال أن العتق لا يفسد بهذا الشرط، وفرق بينهما بأن العتق مبني على الغلبة والسراية. وعن ابن سريج، أنه يحتمل أن يبطل الشرط، ويصح الوقف. ولو وقف على ولده أو غيره بشرط أن يرجع إليه إذا مات، فهو باطل على المذهب. وعن البويطي، أنه على قولين أخذا من مسألة العمرى. ولو وقف وشرط لنفسه أن يحرم من شاء، أو يقدم أو يؤخر، فالشرط فاسد على الاصح. هذا إذا أنشأ الوقف بهذا الشرط، فلو أطلقه ثم أراد أن يغير ما ذكره بحرمان أو زيادة، أو تقديم أو تأخير، فليس له قطعا. فان صححنا شرطه لنفسه، فشرطه لغيره، ففاسد على الاصح. وإن أفسدناه، ففي فساد الوقف خلاف مبني على أن الوقف كالعتق، أم لا ؟ هذا مجموع ما حضرني من كتب الاصحاب. والذي قطع به جمهورهم، بطلان الشرط والوقف في هذه الصور كلها، وشذ الغزالي فجعل هذه الصور ثلاث مرابب. الاولى: وقفت بشرط أن أرجع متى شئت، أو أحرم المستحق وأحول الحق إلى غيره متى شئت، ففاسد. الثانية: بشرط أن أغير قدر المستحق للمصلحة، فهو جائز. الثالثة: يقول: أغير تفصيله، فوجهان، وهذا الترتيب لا يكاد يوجد لغيره، ثم فيه لبس، فان التحويل المذكور في الاولى هو التغير المذكور في الثانية، والمذهب ما ذكره الجمهور.

(4/394)


فصل لو شرط الواقف أن لا يؤجر الوقف، فأوجه. أصحها: يتبع شرطه كسائر الشروط. والثاني: لا، لتضمنه الحجر على مستحقي المنفعة. والثالث: إن منع الزيادة على سنة، اتبع، لانه من مصالحه، وإن منع مطلقا، فلا. فان أفسدنا الشرط، فالقياس فساد الوقف به. وقال الشيخ أبو عاصم: إذا شرط أن لا يؤجر أكثر من سنة، لم يخالف. وقيل: إن كان الصلاح في الزيادة، زيد، وهذا تصحيح للوقف مع فساد الشرط. قلت: ليس هذا فسادا للشرط مطلقا، بخلاف مسألتنا. والله أعلم فصل إذا جعل داره مسجدا، أو أرضه مقبرة، أو بنى مدرسة، أو رباطا، فلكل أحد أن يصلي ويعتكف في المسجد، ويدفن في المقبرة، ويسكن المدرسة بشرط الاهلية، وينزل الرباط، وسواء فيه الواقف وغيره. ولو شرط في الوقف اختصاص المسجد بأصحاب الحديث، أو الرأي، أو طائفة معلومين، فوجهان. أحدهما: لا يتبع شرطه. فعلى هذا قال المتولي: يفسد الوقف لفساد الشرط. والثاني: يتبع ويختص بهم رعاية للشرط وقطعا للنزاع في إقامة الشعائر، ويشبه أن تكون الفتوى بهذا وإن كان الغزالي اقتصر على الاول في الوجيز. قلت: الاصح اتباع شرطه، وصححه الرافعي في المحرر. والمراد بأصحاب الحديث: الفقهاء الشافعية، وبأصحاب الرأي: الفقهاء الحنفية، هذا عرف أهل خراسان. والله أعلم

(4/395)


ثم الوجهان، فيما إذا قال: على أصحاب الحديث، فإذا انقرضوا فعلى عامة المسلمين، أما إذا لم يتعرض للانقراض، ففيه خلاف. قلت: يعني اختلفوا في صحة الوقف لاحتمال انقراض هذه الطائفة، والاصح أو الصحيح الصحة. والله أعلم ولو شرط في المدرسة والرباط الاختصاص، اختص قطعا. ولو شرط في المقبرة الاختصاص بالغرباء، أو بجماعة معينين، فالوجه أن يرتب على المسجد. فان قلنا: يختص، فالمقبرة أولى، وإلا، فوجهان، لترددها بين المسجد والمدرسة، وإلحاقها بالمدرسة أصح، فان المقابر للاموات كالمساكن للاحياء، وهذا كله إذا شرط في حال الوقف. أما إذا وقف مطلقا، ثم خصص المدرسة أو المسجد أو غيرهما، فلا اعتبار به قطعا.
الشرط الرابع : بيان المصرف، فلو قال: وقفت هذا واقتصر عليه، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما عند الاكثرين: بطلان الوقف كقوله: بعت داري بعشرة، أو وهبتها، ولم يقل لمن، ولانه لو قال: وقفت على جماعة، لم يصح، لجهالة المصرف. فإذا لم يذكر المصرف، فأولى أن لا يصح. الثاني: يصح، وإليه ميل الشيخ أبي حامد، واختاره صاحب المهذب والروياني، كما لو نذر هديا أو صدقة ولم يبين المصرف، وكما لو قال: أوصيت بثلثي، فانه يصح ويصرف إلى المساكين. وهذا إن كان متفقا عليه، فالفرق مشكل. قلت: الفرق، أن غالب الوصايا للمساكين، فحمل المطلق عليه، بخلاف الوقف، ولان الوصية مبنية على المساهلة، فتصبح بالمجهول والنجس وغير ذلك، بخلاف الوقف. والله أعلم فإن صححنا، ففي مصرفه الخلاف في منقطع الآخر إذا صححناه. وعن ابن

(4/396)


سريج، يصرفه الناظر فيما يراه من البر كعمارة المساجد، والقناطر، وسد الثغور، وتجهيز الموتى وغيرها.
فصل في مسائل تتعلق بالباب
الأولى : وقف على رجلين، ثم على المساكين، فمات أحدهما، ففي نصيبه وجهان. أصحهما وهو نصه في حرملة: يصرف إلى صاحبه. والثاني: إلى المساكين، والقياس: أن لا يصرف إلى صاحبه ولا إلى المساكين، بل صار الوقف في نصيب الميت منقطع الوسط. قلت: معناه: يكون صرفه مصرف منقطع الوسط، لانه يجئ خلاف في صحة الوقف. والله أعلم الثانية: وقف على شخصين ولم يذكر من يصرف إليه بعدهما، وصححنا الوقف، فمات أحدهما، فنصيبه للآخر، أم حكمه حكم نصيبها إذا ماتا ؟ فيه وجهان. الثالثة: وقف على بطون، فرد البطن الثاني وقلنا: يرتد بردهم فهذا وقف منقطع الوسط، وسبق بيانه، وفيه قول أو وجه: أنه يصرف إلى البطن الثالث. الرابعة: يصح الوقف على أقارب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جوزنا الوقف على قوم غير محصورين، ولا يكون كصرف الزكاة إليهم. الخامسة: قال: وقفت داري على المساكين بعد موتي، قال الشيخ أبو محمد: أفتى الاستاذ أبو إسحاق بصحة الوقف بعد الموت، ووافقه أئمة عصره، وهذا كأنه وصية. يدل عليه أن في فتاوى القفال، أنه لو عرض الدار على البيع، صار راجعا فيه. السادسة: قال: جعلت داري هذه خانقاه للغزاة، لم تصر وقفا بذلك. ولو قال: تصدقت بها صدقة محرمة، ليصرف من غلتها كل شهر إلى فلان كذا، ولم يزد عليه، ففي صحة هذا الوقف وجهان. فان صح، ففي الفاضل عن المقدار أوجه. أحدها: الصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف. والثاني: إلى المساكين والثالث: يكون ملكا للواقف.

(4/397)


السابعة: قال: جعلت داري هذه للمسجد، أو سلم دارا إلى قيم المسجد وقال: خذها للمسجد، أو قال: إذا مت فأعطوا من مالي ألف درهم للمسجد، أو فداري للمسجد، لا يكون شيئا، لانه لم توجد صيغة وقف ولا تمليك، ولك أن تقول: إن لم يكن صريحا في التمليك، فلا شك أنه كناية. الثامنة: قال: وقفت داري على زيد وعلى الفقراء، بني على ما إذا أوصى لزيد وللفقراء، فان جعلناه كأحدهم، صح الوقف ولا يحرم زيد. وإن قلنا: له النصف، صح الوقف في نصيب الفقراء. وأما النصف الثاني، فمنقطع الآخر، فان لم يصح، جاء تفريق الصفقة. وهذه المسألة مع المسألتين قبلها منقولة في فتاوى القفال. التاسعة: في فتاوى القفال: أنه لو قال: وقفتها على المسجد الفلاني، لم يصح حتى يبين جهته فيقول: وقفت على عمارته، أو وقفت عليه ليستغل فيصرف إلى عمارته أو إلى دهن السراج ونحوهما، ومقتضى إطلاق الجمهور صحته. قلت: وقد صرح البغوي وغيره بصحته. والله أعلم العاشرة: في فتاوى القفال: أنه لو وقف على رباط أو مسجد معين، ولم يذكر المصرف إن خرب، فهو منقطع الآخر. وفصل صاحب التتمة فقال: إن كان في موضع يستبعد في العادة خرابه، بأن كان في وسط البلدة، فهو صحيح، وإن كان في قرية أو حارة، فهو منقطع الآخر. قلت: ومما يتعلق بهذا الباب.
الباب الثاني : في أحكام الوقف الصحيح إذا صح الوقف، ترتب عليه أحكام. منها: ما ينشأ من اللفظ المستعمل في الوقف ويختلف باختلاف الالفاظ.

(4/398)


ومنها: ما يقتضيه المعنى، فلا يختلف باختلاف اللفظ، ويجمع الباب طرفان.
الطرف الأول : في الاحكام اللفظية، والاصل فيه، أن شروط الواقف مرعية ما لم يكن فيها ما ينافي الوقف، وفيه مسائل. المسألة الاولى: قال: وقفت على أولادي، وأولاد أولادي، فلا ترتيب، بل يسوى بين الجميع. ولو زاد فقال: ما تناسلوا، أو بطنا بعد بطن، فكذلك، ويحمل على التعميم على الصحيح. وقال الزيادي: قوله: بطنا بعد بطن، يقتضي الترتيب. ولو قال: على أولادي ثم على أولاد أولادي، ثم على أولاد أولاد أولادي ما تناسلوا أو بطنا بعد بطن، فهو للترتيب، ولا يصرف إلى البطن الثاني شئ ما بقي من الاول واحد، ولا إلى الثالث ما بقي من الثاني أحد، كذا أطلقه الجمهور. والقياس فيما إذا مات واحد من البطن الاول، أن يجئ في نصيبه الخلاف السابق فيما لو وقف على شخصين أو جماعة ثم على المساكين فمات واحد، فالى من يصرف نصيبه ؟ ولم أر تعرضا إليه إلا لابي الفرج السرخسي، فانه سوى بين

(4/399)


الصورتين، وحكى فيهما وجهين. أحدهما: أن نصيب الميت لصاحبه. والثاني: أنه لاقرب الناس إلى الواقف، وكذا ذكر صاحب الايضاح ان يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف. قلت: الصحيح: ما أطلقه الجمهور، لان من بقي بعد موت بعض الاولاد يسمون أولادا، بخلاف ما إذا مات أحد الشخصين. ثم إن مراعاة الترتيب لا تنتهي عند البطن الثالث والرابع، بل يعتبر الترتيب في جميع البطون، فلا يصرف إلى بطن وهناك أحد من بطن أقرب، صرح به البغوي وغيره. والله أعلم ولو قال: على أولادي وأولاد أولادي الاعلى فالاعلى، أو الاقرب فالاقرب، أو الاول فالاول، أو يبدأ بالاعلى منهم، أو على أن لا حقص لبطن وهناك أحد فوقهم، فمقتضاه الترتيب أيضا. ولو قال: فمن مات من أولادي فنصيبه لولده، اتبع شرطه. فرع قال: على أولادي، ثم على أولاد أولادي، وأولاد أولاد أولادي، فمقتضاه الترتيب بين البطن الاول ومن دونهم، والجمع بين من دونهم. ولو قال: على أولادي وأولاد أولادي، ثم على أولاد أولاد أولادي، فمقتضاه الجمع أولا، والترتيب ثانيا. فرع قال: على أولادي وأولاد أولادي ومن مات منهم فنصيبه لاولاده، فمات واحد، فنصيبه لاولاده خاصة، ويشاركون الباقين فيما عدا نصيب أبيهم.

(4/400)


المسألة الثانية: إذا وقف على الاولاد، ففي دخول أولاد الاولاد ثلاثة أوجه، أصحها: لا يدخلون. والثاني: يدخلون. والثالث: يدخل أولاد البنين دون أولاد البنات، وهذا الخلاف عند الاطلاق، وقد يقرن باللفظ ما يقتضي الجزم بخروجهم، كقوله: وقفت على أولادي، فإذا انقرضوا فلاحفادي الثلث، والباقي للفقراء. ولو وقف على الاولاد، ولم يكن له إلا أولاد الاولاد، حمل اللفظ عليهم، قاله المتولي وغيره. ولو وقف على أولاده وأولاد أولاده، ففي دخول أولاد أولاد أولاده الخلاف. الثالثة: الوقف على الاولاد، يدخل فيه البنون والبنات والخنثى المشكل. الرابعة: الوقف على البنين، لا يدخل فيه الخنثى، وفي دخول بني البنين والبنات الاوجه الثلاثة. الخامسة: الوقف على البنات، لا يدخل فيه الخنثى، وفي بنات الاولاد الاوجه. السادسة: وقف على البنين والبنات، دخل الخنثى على الاصح. وقيل: لا، لانه لا يعد من هؤلاء، ولا من هؤلاء. السابعة: وقف على بني تميم، وصححنا مثل هذا الوقف، ففي دخول نسائهم وجهان. أحدهما: المنع، كالوقف على بني زيد. وأصحهما: الدخول، لانه يعبر به عن القبيلة. الثامنة: وقف على أولاده وأولاد أولاده، دخل فيه أولاد البنين والبنات. فان قال: على من ينتسب إلي من أولاد أولا دي، لم يدخل أولاد البنات على الصحيح. فرع المستحقون في هذه الالفاظ، لو كان أحدهم حملا عند الوقف، هل

(4/401)


يدخل حتى يوقف له شئ ؟ فيه وجهان حكاهما المتولي. أحدهما: نعم كالميراث، ويستحق الغلة في مدة الحمل. والصحيح: لا، لانه قبل الانفصال لا يسمى ولدا. وأما غلة ما بعد الانفصال، فيستحقها قطعا. وكذا الاولاد الحادث علوقهم بعد الوقف، يستحقون إذا انفصلوا. هذا هو الصحيح المقطوع به في الكتب. وفي أمالي السرخسي خلافة. قلت: ومما يتفرع على الصحيح أنه لا يستحق غلة مدة الحمل: أنه لو كان الموقوف نخلة، فخرجت ثمرتها قبل خروج الحمل، لا يكون له من تلك الثمرة شئ، كذا قطع به الفوراني والبغوي، وأطلقاه. وقال الدرامي في الاستذكار: في الثمرة التي أطلعت ولم تؤبر، قولان، هل لها حكم المؤبرة فتكون للبطن الاول، أو لا فتكون للثاني ؟ وهذان القولان يجريان هنا. والله أعلم فرع المنفي باللعان، لا يستحق شيئا، لانقطاع نسبه، وخروجه عن كونه ولدا. وعن أبي إسحاق: أنه يستحق، وأثر اللعان مقصور على الملاعن. قلت: فلو استلحقه بعد نفيه، دخل في الوقف قطعا، ذكره البغوي. والله أعلم التاسعة: قال: وقفت على ذريتي أو عقبي أو نسلي، دخل فيه أولاد البنين والبنات، قريبهم وبعيدهم. ولو حدث حمل، قال المتولي: يوقف نصيبه قطعا، لانه من نسله وعقبه قطعا. ولو وقف على عترته، قال ابن الاعرابي وثعلب: هم ذريته. وقال القتيبي: هم عشيرته، وهما وجهان للاصحاب. أصحهما: الثاني، وقد روي ذلك عن زيد بن أرقم. قلت: هذان المذهبان، مشهوران لاهل اللغة، غير مختصين بالمذكورين، لكن أكثر من جعلهم عشيرته، خصهم بالاقربين. قال الازهري: قال بعض أهل اللغة: عترته: عشيرته الادنون. وقال الجوهري: عترته: نسله ورهطه الادنون. وقال الزبيري: عترته: أقرباؤه من ولد وغيره، ومقتضى هذه الاقوال أنه يدخل ذريته عشيرته الادنون، وهذا هو الظاهر المختار. والله أعلم العاشرة: قال: على عشيرتي، فهو كقوله: على قرابتي. وإذا قال: على

(4/402)


قرابتي أو أقرب الناس إلي، فعلى ما سنذكره في الوصية إن شاء الله تعالى. وقال المتولي: قوله: على قبيلتي أو عشيرتي، لا يدخل فيه إلا قرابة الاب. ثم إذا كانوا غير محصورين، ففيهم الخلاف السابق. ثم من حدث بعد الوقف يشاركون الموجودين عند الوقف على الصحيح، وعن البويطي منعه. الحادية عشرة: اسم المولى يقع على المعتق ويقال له: المولى الاعلى، وعلى العتيق ويقال له: المولى الاسفل، فإذا وقف على مواليه وليس له إلا أحدهما، فالوقف عليه. وإن وجدا جميعا، فهل يقسم بينهما، أم يختص به الاعلى، أم الاسفل، أم يبطل الوقف ؟ فيه أربعة أوجه. أصحها في التنبيه الاول. وفي الوجيز الرابع. قلت: الاصح، الاول، وقد صححه أيضا الجرجاني في التحرير وحكى الدارمي وجها خامسا، أنه موقوف حتى يصطلحوا، وليس بشئ. والله أعلم.
فصل يرعى شرط الواقف في الاقدار، وصفات المستحقين، وزمن الاستحقاق. فإذا وقف على أولاده وشرط التسوية بين الذكر والانثى، أو تفضيل أحدهما، اتبع شرطه. وكذا الوقف على العلماء بشرط كونهم على مذهب فلان، أو على الفقراء بشرط الغربة أو الشيخوخة، اتبع. ولو قال: على بني الفقراء، أو على بناتي الارامل، فمن استغنى منهم، وتزوج منهن، خرج عن الاستحقاق. فان عاد فقيرا، أو زال نكاحها، عاد الاستحقاق. قلت: ولم أر لاصحابنا تعرضا لاستحقاقها في حال العدة، وينبغي أن يقال: إن كان الطلاق بائنا، أو فارقت بفسخ أو وفاة، استحقت، لانها ليست بزوجة في زمن العدة. وإن كان رجعيا، فلا، لانها زوجة. والله أعلم قال العبادي في الزيادات: لو وقف على أمهات أولاده إلا على من تزوج منهن، فتزوجت، خرجت، ولا تعود بالطلاق، والفرق من حيث اللفظ، أنه أثبت الاستحقاق لبناته الارامل وبالطلاق صارت أرملة، وهنا جعلها مستحقة إلا أن تتزوج، وبالطلاق لا تخرج عن كونها تزوجت. ومن حيث المعنى أن غرضه أن تفي له أم ولده فلا يخلفه عليها أحد، فمن تزوجت لم تف ولو طلقت.

(4/403)


فرع لو شرط صرف غلة السنة الاولى إلى قوم، وغلة السنة الثانية إلى آخرين، وهكذا ما بقوا، اتبع شرطه. فرع قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرض أولادي وأولاد أولادي، فعلى الفقراء، فهذا وقف منقطع على الوسط الصحيح، وحكمه ما سبق، لانه لم يجعل لاولاد الاولاد شيئا، وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق الفقراء. وقيل يستحقون بعد انقراض أولاد الصلب. فرع وقف على بنيه الاربعة، على أن من مات منهم وله عقب، فنصيبه لعقبه، ومن مات ولا عقب له، فنصيبه لسائر أصحاب الوقف، ثم مات أحدهم عن ابن، وآخر عن ابنين، وثالث ولا عقب له، فنصيب الثالث بين الرابع وابن الاول الاول وابني الثاني بالسوية. ولو قال: وقفت على بني الخمسة ومن سيولد لي على ما افصله، ثم فصل فقال: ضيعة كذالابني فلان، وحصة كذا لفلان، إلى أن ذكر الخمسة، ثم قال: وأما من سيولد لي، فنصيبه أن من مات من الخمسة ولا عقب له يصرف حقه إليه، فمات واحد من الخمسة ولا عقب له، وولد للواقف ولد، يصرف إلى المولود نصيب الميت، وليس له شئ آخر بقوله أولا: وقفت على بني ومن سيولد لي، لان التفصيل المذكور آخرا بيان لما أجمله أولا، وقد جرت عادة الشروطيين بمثله. فرع قال: وقفت على سكان موضع كذا، فغاب بعضهم سنة ولم يبع داره، ولا استبدل دارا، لا يبطل حقه، ذكره العبادي. فرع وقف على زيد بشرط أن يسكن موضع كذا، ثم بعده على الفقراء والمساكين، فهذا (وقف) منقطع، لان الفقراء إنما يستحقون بعد انقراضه، واستحقاقه مشروط بشرط قد يتخلف.
فصل الصفة والاستثناء عقيب الجمل المعطوف بعضها على بعض يرجعان إلى الجميع. مثال الصفة: وقفت على أولادي وأحفادي وإخوتي المحتاجين منهم. ومثال الاستثناء: وقفت على أولادي وأحفادي وإخوتي، إلا أن يفسق واحد

(4/404)


منهم، هكذا أطلقه الاصحاب. ورأى الامام تقييده بقيدين. أحدهما: أن يكون العطف بالواو، فان كان ب‍ ثم اختصت الصفة والاستثناء بالجملة الاخيرة. والثاني: أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل. فان تخلل، كقوله: على أن من مات منهم وله عقب، فنصيبه بين أولاده للذكر مثل حظ الانثيين، وإن لم يعقب، فنصيبه للذين في درجته، فإذا انقرضوا، فهو مصروف إلى إخوتي إلا أن يفسق أحدهم، فالاستثناء يختص بالاخوة. والصفة المتقدمة على جميع الجمل، كقوله: وقفت على فقراء أولادي وأولاد أولادي وإخوتي، كالمتأخرة عن جميعها، حتى يعتبر الفقر في الكل. فرع البطن الثاني هل يتلقون الوقف من الواقف، أم من البطن الاول ؟ فيه وجهان. أصحهما: من الواقف.
الطرف الثاني : في الأحكام المعنوية، فمنها اللزوم في الحال، سواء أضافه إلما بعد الموت، أم لم يضفه، وسواء سلمه، أم لم يسلمه، قضى به قاض، أم لا.

(4/405)


قلت: وسواء في هذا كان الوقف على جهة، أو شخص، وسواء قلنا: الملك في رقبة الوقف لله تعالى، أم للموقوف عليه، أم باق للواقف، ولا خلاف في هذا بين أصحابنا إلا ما شذ به الجرجاني في التحرير فقال: إذا كان على شخص وقلنا: الملك للموقوف عليه، افتقر إلى قبضه كالهبة، وهذا غلط ظاهر وشذوذ مردود، نبهت عليه لئلا يغتر به. والله أعلم وإذا لزم، امتنعت التصرفات القادحة في غرض الوقف وفي شرطه. وسواء في امتناعها الواقف وغيره. وأما رقبة الوقف، فالمذهب وهو نصه في المختصر هنا: أن الملك فيها انتقل إلى الله تعالى. وفي قول: إلى الموقوف عليه. وخرج قول: أنه باق على ملك الواقف. وقيل: بالاول قطعا. وقيل: بالثاني قطعا. وقيل: إن كان الوقف على معين، ملكه قطعا. وإن كان على جهة، انتقل إلى الله تعالى قطعا، واختاره الغزالي، ولا فرق عند جمهور الاصحاب. هذا كله إذا وقف على شخص أو جهة عامة. فأما إذا جعل البقعة مسجدا أو مقبرة، فهو فك عن الملك كتحرير الرقيق، فينقطع عنها اختصاصات الآدميين قطعا.
فصل فوائد الوقف ومنافعه، للموقوف عليه، يتصرف فيها تصرف الملاك في الاملاك. فإن كان شجرة، ملك الموقوف عليه ثمارها، ولا يملك أغصائها إلا فيما يعتاد قطعه كشجر الخلاف، فأغصانها كثمر غيرها، وإن كان الموقوف

(4/406)


بهيمة، ملك صوفها ووبرها ولبنها قطعا، ويملك نتاجها أيضا على الاصح كالثمرة. والثاني: تكون وقفا تبعا لامه كولد الاضحية. وقيل: الوجهان في ولد الفرس والحمار، فأما ولد النعم، فيملكه قطعا، لان المطلوب منها الدر والنسل. وقيل: لا حق فيه للموقوف عليه، بل يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، إلا أن يصرح بخلافه، وهذا الخلاف في نتاج حدث بعد الوقف. فإن وقف البهيمة وهي حامل، فان قلنا: الحادث وقف، فهذا أولى، وإلا، فوجهان بناء على أن الحمل هل له حكم، أم لا ؟ وهذا المذكور في الدر والنسل هو فيما إذا أطلق أو شرطهما للموقوف عليه. فلو وقف دابة على ركوب إنسان، ولم يشرط له الدر والنسل، قيل: حكمهما حكم وقف منقطع الآخر. وقال البغوي: ينبغي أن يكون للواقف، وهذا أوجه، لان الدر والنسل لا مصرف لهما أولا ولا آخرا. فرع قالوا: لو وقف ثور للانزاء، جاز، ولا يجوز استعماله في الحراثة. فرع لا يجوز ذبح البهيمة المأكولة الموقوفة، وإق خرجت عن الانتفاع، كما لا يجوز إعتاق العبد الموقوف، لكن لو صارت بحيث يقطع بموتها، قال المتولي: تذبح للضرورة. وفي لحمها، طريقان. أحدهما: يشترى بثمنه بهيمة من جنسها وتوقف. والثاني: إن قلنا: الملك فيها ينتقل إلى الله تعالى، فعل فيه الحاكم ما رآه مصلحة. وإن قلنا: للموقوف عليه أو للواقف، صرف اليهما. فرع إذا ماتت البهيمة الموقوفة، فالموقوف عليه أحق بجلدها. وإذا دبغه، ففي عوده وقفا وجهان. قال المتولي. أصحهما: العود.
فصل المنافع المستحقة للموقوف عليه، يجوز أن يستوفيها بنفسه، ويجوز أن يقيم غيره مقامه باعارة أو إجارة، والاجرة ملك له. هذا إن كان الوقف مطلقا، فان قال: وقفت داري ليسكنها من يعلم الصبيان في هذه القرية، فللمعلم أن يسكنها، وليس له أن يسكنها غيره بأجرة ولا بغيرها. ولو قال: وقفت داري على أن تستغل وتصرف غلتها إلى فلان، تعين الاستغلال، ولم يجز له أن يسكنها، كذا

(4/407)


ذكرت الصورتان في فتاوى القفال وغيره. ولو كان الوقف مطلقا، فقال الموقوف عليه: اسكن الدار، فقال الناظر: أكريها لاصرف غلتها في مرمتها، فله أن يكري. فرع متى وجب المهر، فوطئ الموقوفة، فهو للموقوف عليه كاللبن والثمرة. فرع لا يجوز وطئ الموقوفة لا للواقف ولا للموقوف عليه، وإن قلنا: الملك فيها لهما، لانه ملك ضعيف. ولو وطئت فلها أحوال. أحدها: أن يطأها أجنبي. فإن لم يكن هناك شبهة، لزمه الحد، والولد رقيق. ثم هل هو ملك طلق، أم وقف ؟ وجهان كنتاج البهيمة، ويجب المهر إن كانت مكرهه. وإن كانت مطاوعة عالمه بالحال، فقيه خلاف سبق في الغصب وإن كان هناك شبهة فلا حد ويجب المهر والولد حر وعليه قيمته، ويكون ملكا للموقوف عليه إن جعلنا الولد ملكا، وإلا، فيشتري بها عبد ويوقف. الحال الثاني: أن يطأها الموقوف عليه. فان لم يكن شبهه، فقيل: لا حد لشبهة الملك، وبه قطع ابن الصباغ. والاصح: أنه يبنى على أقوال الملك، فان جعلناه له، فلا حد، إلا، فعليه الحد. ولا أثر لملك المنفعة، كما لو وطئ الموصى له بالمنفعة الجارية، وهل الولد ملك أو وقف ؟ فيه الوجهان. وإن وطئ

(4/408)


بشبهة، فلا حد، والولد حر، ولا قيمة عليه إن ملكناه ولد الموقوفة، وإن جعلناه وقفا اشترى بها عبد آخر ويوقف، وتصير الجارية أم ولد له إن قلنا: الملك للموقوف عليه، فتعتق بموته وتؤدى قيمتها من تركته. ثم هل هي لمن ينتقل الوقف إليه بعده ملك، أم يشترى بها جارية وتوقف ؟ فيه خلاف نذكره في قيمة العبد الموقوف إذا قتل، ولا مهر على الموقوف عليه بحال، لانه لو وجب لوجب له. الحال الثالث: أن يطأها الواقف. فان لم يكن الوطئ بشبهة تفرع على الخلاف في الملك. فان لم نجعل الملك له، فعليه الحد، والولد رقيق. وفي كونه ملكا أو وقفا، الوجهان. ولا تكون الجارية أم ولد له. وإن جعلنا الملك له، فلا حد. وفي نفوذ الاستيلاد إن أولدها الخلاف في استيلاد الراهن، لتعلق حق الموقوف عليه بها، وهذا أولى بالمنع. وإن وطئ بشبهة، فلا حد، والولد حر نسيب وعلية قيمته، وفيما يفعل بها الوجهان. وتصير أم ولد له، إن ملكناه، تعتق بموته وتؤخذ قيمتها. من تركته وفيما يفعل بها الخلاف. فرع في تزويج الموقوفة، وجهان. أحدهما: المنع لما فيه من النقص، وربما ماتت من الطلق، فيفوت حق البطن الثاني. وأصحهما: الجواز، تحصينا لها وقياسا على الاجارة. فعلى هذا، إن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو الذي تزوجها ولا يحتاج إلى إذن أحد. وإن قلنا: لله سبحانه وتعالى زوجها السلطان ويستأذن الموقوف عليه، وكذا إن قلنا: وكذا إن قلنا: للواقف زوجها بإذن الموقوف عليه، هذا كلام الجمهور. وحكى الغزالي وجهين، في أن السلطان هل يستأذن الموقوف عليه، وفي أنه هل يستأذن الواقف أيضا ؟ ويلزم مثله في استئذان الواقف إذا زوج الموقوف عليه، والمهر للموقوف عليه بكل حال. وولدها من الزوج للموقوف عليه ملكا أو وقفا ؟ على الخلاف السابق.

(4/409)


قلت: ولو طلبت الموقوفة التزويج، فلهم الامتناع. والله أعلم فرع ليس للموقوف عليه أن يتزوج الموقوفة إن قلنا: إنها ملكه، وإلا،. فوجهان. أصحهما: المنع احتياطا، وعلى هذا لو وقفت عليه زوجته انفسخ النكاح.
فصل حق تولية أمر الوقف في الاصل للواقف، فإن شرطها لنفسه أو لغيره، اتبع شرطه، وأشار في النهاية إلى خلاف فيما إذا كان الوقف على معين، وشرط التولية لاجنبي، هل يتبع شرطه إذا فرعنا على أن الملك في الوقف للموقوف عليه ؟ والمذهب: الاول، وبه قطع الجمهور. وسواء فرض في الحياة أو أوصى، فكل منهما معمول به. وإن وقف ولم يشرط التولية لحد، فثلاثة طرق. أحدها: هل النظر للواقف، أم للموقوف عليه، أم للحاكم ؟ فيه ثلاثة أوجه. والطريق الثاني: يبنى على الخلاف في ملك الرقبة، فإن قلنا: هو للواقف، فالتولية له على الاصح. وقيل: للحاكم، لتعلق حق الغير به. وإن قلنا: لله تعالى، فهي للحاكم. وقيل: للواقف إذا كان الوقف على جهة عامة، فان قيامه بأمر الوقف من تتمة القربة. وقيل: للموقوف عليه إن كان معينا، لان الغلة والمنفعة له. وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فالتولية له. والطريق الثالث قاله كثيرون: التولية للواقف بلا خلاف. والذي يقتضي كلام معظم الاصحاب: الفتوى به أن يقال: إن كان الوقف على جهة عامة، فالتوالية للحاكم كما لو وقف على مسجد أو رباط. وإن كان على معين، فكذلك إن قلنا: الملك ينتقل إلى الله تعالى. وإن جعلناه للواقف، أو الموقوف عليه، فكذلك التولية. فرع لابد من صلاحية المتولي لشغل التولية، والصلاحية بالامانة،

(4/410)


والكفاية في التصرف، واعتبارهما كاعتبارهما في الوصي والقيم، وسواء في اشتراطهما المنصوب للتولية والواقف إذا قلنا: هو المتولي عند الاطلاق، وسواء الوقف على الجهة العامة والاشخاص المعينين. وقيل: لا تشترط العدالة إذا كان الوقف على معينين ولا طفل فيهم. فإن خان، حملوه على السداد. والصواب المعروف هو الاول. حتى لو فوض إلى موصوف بالامانة والكفاية، فاختلت إحداهما، انتزع الحاكم الوقف منه. وقبول المتولي ينبغي أن يجئ فيه ما في قبول الوكيل والموقوف عليه. فرع وظيفة المتولي العمارة، والاجارة، وتحصيل الغلة، وقسمتها على المستحقين، وحفظ الاصول والغلات على الاحتياط، هذا عند الاطلاق. ويجوز أن ينصب الواقف متوليا لبعض الامور دون بعض، بأن يجعل إلى واحد العمارة وتحصيل الغلة، وإلى آخر حفظها وقسمتها على المستحقين، أو يشرط لواحد الحفظ واليد، ولآخر التصرف. ولو فرض إلى اثنين، لم يستقل أحدهما بالتصرف. ولو قال: وقفت على أولادي على أن يكون النظر لعدلين منهم، فإن لم يكن فيهم إلا عدل واحد، ضم إليه الحاكم عدلا آخر. فرع لو شرط الواقف للمتولي شيئا من الغلة، جاز، وكان ذلك أجرة عمله، فلو لم يشرط شيئا، ففي استحقاقه أجرة عمله الخلاف السابق فيما لو

(4/411)


استعمل إنسانا ولم يذكر له أجرة. ولو شرط للمتولي عشر الغلة أجرة لعمله، ثم عزله، بطل استحقاقه. وإن لم يتعرض لكونه أجرة، ففي فتاوى القفال: أنه لا يبطل استحقاقه، لان العشر وقف عليه، فهو كأحد الموقوف عليهم، ويجوز أن يقال: إذا اثبتنا الاجرة بمجرد التفويض، أخذا من العادة، فالعادة تقتضي أن المشروط للمتولي أجرة عمله، وإن لم يصفه بأنه أجرة، ويلزم من ذلك بطلان الاستحقاق بالعزل. فرع ليس للمتولي أن يأخذ من مال الوقف شيئا على أن يضمنه. ولو فعل، ضمن. ولا يجوز ضم الضمان إلى مال الوقف. وإقراض مال الوقف حكمه حكم إقراض مال الصبي. فرع للواقف أن يعزل من ولاه، وينصب غيره، كما يعزل الوكيل، وكأن المتولي نائب عنه. هذا هو الصحيح، وبه قال الاصطخري، وأبو الطيب ابن سلمة. وفي وجه: ليس له العزل، لان ملكه زال فلا تبقى ولايته عليه، ويشبه أن تكون المسألة مفروضة في التولية بعد تمام الوقف دون ما إذا وقف بشرط أن تكون التولية لفلان، لان في فتاوى البغوي: أنه لو وقف مدرسة على أصحاب الشافعي

(4/412)


رضي الله عنه، ثم قال لعالم: فوضت إليك تدريسها، أو اذهب ودرس فيها، كان له إبداله بغيره. ولو وقف بشرط أن يكون هو مدرسها، أو قال حال الوقف: فوضت تدريسها إلى فلان، فهو لازم لا يجوز تبديله، كما لو وقف على أولاده الفقراء، لا يجوز التبديل بالاغنياء، وهذا حسن في صيغة الشرط، وغير متضح في قوله: وقفتها وفوضت التدر يس إليه. قلت: هذا الذي استحسنه الامام الرافعي، هو الاصح أو الصحيح. ويتعين ن تكون صورة المسألة كما ذكر. ومن أطلقها، فكلامه محمول على هذا. وفي فتاوى الشيخ أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: أنه ليس للواقف تبديل من شرط النظر له حال إنشاء الوقف وإن رأى المصلحة في تبديله، ولا حكم له في ذلك وأمثاله بعد تمام الوقف. ولو عزل الناظر المعين حالة إنشاء الوقف نفسه، فليس للواقف نصب غيره، فإنه لا نظر له بعد أن جعل النظر في حالة الوقف لغيره، بل ينصب الحاكم ناظرا. وفيها: أنه إذا جعل في حالة الوقف النظر لزيد بعد انتقال الوقف من عمرو إلى الفقراء، فعزل زيد نفسه قبل انتقاله إلى الفقراء، لم ينفذ عزله، ولا يملك الواقف

(4/413)


عزل زيد في الحال ولا بعدها كما تقدم. وفيها: أنه ليس للناظر أن يسند ما جعل له من الاسناد قبل مصير النظر إليه. وفيها: أنه لو شرط النظر للارشد من أولاد أولاده، فكان الارشد من أولاد البنات، ثبت له النظر. وفيها: أنه إذا شرط النظر للارشد من أولاده، فأثبت كل واحد منهم أنه الارشد، اشتركوا في النظر من غير استقلال إذا وجدت الاهلية في جميعهم. فان وجدت في بعضهم، اختص بذلك، لان البينات تعارضت في الارشد، فتساقطت وبقي أصل الرشد، فصار كما لو قامت البينة برشد الجميع من غير تفصيل، وحكمه التشريك لعدم المزية. وأما عدم الاستقلال، فكما لو أوصى إلى شخصين مطلقا. وفيها: أنه لو كان له النظر على مواضع في بلدان، فأثبت أهلية نظره في مكان منها، ثبت أهليته في باقي الاماكن من حيث الامانة، ولا تثبت من حيث الكفاية، إلا أن تثبت أهليته للنظر في سائر الوقوف. والله أعلم فرع في فتاوى البغوي: أنه لا يبدل بعد موت الواقف القيم الذي نصبه، كأنه يجعل بعد موته كالوصي.
فصل نفقة العبد والبهيمة الموقوفين من حيث شرط الواقف، فإن لم يشرط، ففي الاكساب وعوض المنافع. فإن لم يكن العبد كاسبا، أو تعطل كسبه ومنافعه لزمانة أو مرض، أو لم يف كسبه بنفقته بني على أقوال الملك. فإن قلنا: الملك للموقوف عليه، لزمه النفقة. وإن قلنا: لله تعالى، ففي بيت المال كما لو أعتق من لا كسب له. وإن قلنا: للواقف، فهي عليه. فإذا مات، ففي بيت المال، قاله المتولي، لان التركة انتقلت إلى الورثة، والرقبة لم تنتقل إليهم، فلا يلزمهم النفقة. وقياس قولنا: أن رقبة الوقف الوقف للواقف، انتقالها إلى وارثه، وإذا مات، فمؤنة تجهيزه كنفقته. وأما العقار الموقوف، فنفقته من حيث شرط. فإن لم يشرط، فمن غلته. فإن لم يكن غلة، لم يجب على أحد عمارته كالملك الطلق، بخلاف الحيوان تصان روحه. فصل للواقف ولمن ولاه الواقف إجارة الوقف. وإذا لم ينصب الواقف

(4/414)


للتولية أحدا، فالخلاف فيمن له التولية قد سبق، فإن قلنا: المتولي هو الحاكم، فهو الذي يؤجره، وإن قلنا: إنه الموقوف عليه بناء على أن الملك له، يمكن من الاجارة على الصحيح. فإن كان الموقوف عليه جماعة، اشتركوا في الايجار، فان كان فيهم طفل، قام وليه مقامه. والثاني: لا، لانه ربما مات في المدة فيكون تصرفه في نصيب غيره. فإن كان الواقف جعل لكل بطن منهم الاجارة، فلهم الاجارة قطعا. وإذا أجر الموقوف عليه بحكم الملك وجوزناه، فزادت الاجرة في المدة، أو ظهر طالب بالزيادة، لم يتأثر العقد به، كما لو أجر الطلق. ولو أجر المتولي بحكم التولية، ثم حدث ذلك، فكذلك الحكم على الاصح، لان العقد جرى بالغبطة في وقته، فأشبه ما إذا باع الولي مال الطفل ثم ارتفعت القيمة بالاسواق، أو ظهر طالب بالزيادة. والثاني: ينفسخ العقد، لانه بان وقوعه، بخلاف الغبطة في المستقبل. والثالث: إن كانت الاجارة سنة فما دونها، لم يتأثر العقد. وإن كانت أكثر، فالزيادة مردودة، وبه قطع أبو الفرج الزاز في الامالي.
فصل إذا اندرس شرط الواقف، ولم تعرف مقادير الاستحقاق، أو كيفية الترتيب بين أرباب الوقف، قسمت الغلة بينهم بالسوية. وحكى بعض المتأخرين أن الوجه: التوقف إلى اصطلاحهم، وهو القياس. ولو اختلف أرباب الوقف في شرط الوقف، ولا بينة، جعلت الغلة بينهم بالسوية. فإن كان الواقف حيا، رجع إلى قوله، كذا ذكره صاحبا المهذب. والتهذيب ولو قيل: لا رجوع إلى قوله، كما لا رجوع إلى قول البائع إذا اختلف المشتريان منه في كيفية الشراء، لما كان بعيدا. قلت: الصواب: الرجوع إليه، والفرق ظاهر. وقولهم: جعل بينهم، هو فيما إذا كان في أيديهم، أو لا يد لواحد منهم. أما لو كان في يد بعضهم، فالقول قوله. قال الغزالي وغيره. فإن لم يعرف أرباب الوقف، جعلناه كوقف مطلق لم

(4/415)


يذكر مصرفه، فيصرف إلى تلك المصارف. والله أعلم.
فصل في تعطل الموقوف واختلال منافعه له سببان. السبب الاول: أن يحصل بسبب مضمون، بأن يقتل العبد الموقوف. فاما أن لا يتعلق بقتله قصاص، وإما أن يتعلق. الضرب الاول: ينظر فيه، هل القاتل أجنبي، أم الموقوف عليه، دم الواقف. الحال الاول: إذا قتله أجنبي، لزمه قيمته. وفي مصرفها طريقان. أحدهما: تخريجها على أقوال ملك الرقبة، إن قلنا: لله تعالى، اشترى بها عبدا يكون وقفا مكانه، فإن لم يوجد، فبعض عبد. وإن قلنا: للموقوف عليه أو الواقف، فوجهان. أصحهما: كذلك لئلا يتعطل غرض الواقف وحق باقي البطون. والثاني: يصرف ملكا إلى من حكمنا له بملك الرقبة، وبطل الوقف. والطريق الثاني: القطع بأنه يشترى بها عبد يكون وقفا. والاصحاب متفقون على أن الفتوى بأنه يشترى عبد. وإذا اشتري عبد وفضل شئ من القيمة، فهل يعود ملكا للواقف، أم يصرف إلى الموقوف عليه ؟ وجهان في فتاوى القفال رحمه الله تعالى. قلت: الوجهان معا ضعيفان، والمختار أنه يشترى به شقص عبد، لانه بدل جزء من الموقوف، والتفريع على وجوب شراء عبد. والله أعلم ثم العبد الذي يجعل بدلا، يشتريه الحاكم إن قلنا: الملك في الرقبة لله تعالى. وإن قلنا للموقوف عليه، فالموقوف عليه. وإن قلنا: للواقف، فوجهان، ذكره أبو العباس الروياني في الجرجانيات. ولا يجوز للمتلف أن يشترى العبد ويقيمه مقام الاول، لان من ثبت في ذمته شئ، ليس له استيفاؤه من نفسه لغيره. فرع العبد المشترى، هل يصير وقفا بالشراء، أم لا بد من وقف جديد ؟ وجهان جاريان في بدل المرهون إذا أتلف. وبالثاني قطع المتولي، وقال: الحاكم

(4/416)


هو الذي ينشئ الوقف، ويشبه أن يقال: من يباشر الشراء يباشر الوقف. قلت: الاصح: أنه لا بد من إنشاء الوقف فيه، ووافق المتولي آخرون. والله أعلم فرع لا يجوز شراء عبد بقيمة الجارية، ولا عكسه. وفي جواز شراء الصغير بقيمة الكبير وعكسه، وجهان حكاهما في الجرجانيات. قلت: أقواهما: المنع، لاختلاف الغرض بالنسبة إلى البطون من أهل الوقف. والله أعلم الحال الثاني والثالث: إذا قتله الموقوف عليه أو الواقف، فإن صرفنا القيمة إليه في الحالة الاولى ملكا، فلا قيمة عليه إذا كان هو القاتل، وإلا، فالحكم والتفريع كالحالة الاولى. الضرب الثاني: ما يتعلق به القصاص، فإن قلنا: الملك للواقف أو الموقوف عليه، وجب القصاص ويستوفيه المالك منهما. وإن قلنا: لله تعالى، فهو كعبيد بيت المال. والاصح: وجوب القصاص، قاله المتولي، ويستوفيه الحاكم. فرع حكم أروش الاطرا ف والجنايات على العبد الموقوف فيما دون النفس حكم قيمته في جميع ما ذكرناه، هذا هو الصحيح. وفي وجه: يصرف إلى الموقوف عليه على كل قول كالمهر والاكساب. فرع إذا جنى العبد الموقوف جناية موجبة للقصاص، فللمستحق الاستيفاء. فإن استوفى، فات الوقف كموته. وإن عفا على مال، أو كانت موجبة للمال، لم تتعلق برقبته، لتعذر بيع الوقف، لكن يفدى كأم الولد إذا جنت. فان قلنا: الملك للواقف، فداه، وإن قلنا: لله تعالى، فهل يفديه الواقف، أم بيت المال، أم يتعلق بكسبه ؟ فيه أوجه. أصحها: أولها. وإن قلنا: للموقوف عليه، فداه على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقيل: على الواقف. وقيل: إن قلنا:

(4/417)


الوقف لا يفتقر إلى القبول، فعلى الواقف، وإلا، فعلى الموقوف عليه. وحيث أوجبنا الفداء على الواقف، فكان ميتا، ففي الجرجانيات أنه أن ترك مالا، فعلى الوارث الفداء. وقال المتولي: لا يفدي من التركة، لانها انتقلت إلى الوارث. فعلى هذا (هل) يتعلق بكسبه، أم ببيت المال كالحر المعسر الذي لا عاقلة له ؟ وجهان. ولو مات العبد عقب الجناية بلا فصل، ففي سقوط الفداء وجهان. أحدهما: نعم، كما لو جنى القن ثم مات. وأصحهما: لا، وبه قال ابن الحداد. ويجري الخلاف، فيما إذا جنت أم الولد وماتت، وتكرر الجناية من العبد الموقوف كتكررها من أم الولد. قلت: وحيث أوجبنا الارش في جهة، وجب أقل الامرين من قدر قيمته والارش، كذا صرح به الاصحاب، منهم صاحبا المهذب والتهذيب. وأما قول صاحب البيان: إذا أوجبنا على الموقوف عليه تعين الارش، فشاذ باطل. والله أعلم السبب الثاني: أن يحصل التعطل بسبب غير مضمون. فان لم يبق شئ منه ينتفع به، بأن مات الموقوف، فقد فات الوقف. وإن بقي، كشجرة جفت، أو قلعتها الريح، فوجهان. أحدهما: ينقطع الوقف كموت العبد. فعلى هذا، ينقلب الحطب ملكا للواقف. وأصحهما لا ينقطع. وعلى هذا، وجهان. أحدهما: يباع ما بقي، لتعذر الانتفاع بشرط الواقف. فعلى هذا، الثمن كقيمة المتلف. فعلى وجه: يصرف إلى الموقوف عليه ملكا. وفي وجه: يشترى به شجرة، أو شقص شجرة من جنسها، لتكون وقفا. ويجوز أن يشترى به ودي يغرس موضعها. وأصحها: منع البيع. فعلى هذا، وجهان. أحدهما: ينتفع باجارته جذعا إدامة للوقف في عينه. والثاني: يصير ملكا للموقوف عليه، واختار المتولي وغيره الوجه الاول إن أمكن استيفاء منفعة منه مع بقائه، والوجه الثاني إن كانت منفعته في استهلاكه. فرع زمانه الدابة الموقوفة، كجفاف الشجرة.

(4/418)


قلت: هذا إذا كانت الدابة مأكولة، فإنه يصح بيعها للحمها، فان كانت غير مأكولة، لم يجئ الخلاف في بيعها، لانه لا يصح بيعها إلا على الوجه الشاذ في صحة بيعها اعتمادا على جلدها. والله أعلم فرع حصر المسجد إذا بليت، ونحاتة أخشابق إذا نخزت، وأستار الكعبة إذا لم يبق فيها منفعة ولا جمال، في جواز بيعها وجهان. أصحهما: تباع، لئلا تضيع وتضيق المكان بلا فائدة. والثاني: لا تباع، بل تترك بحالها أبدا. وعلى الاول، قالوا: يصرف ثمنها في مصالح المسجد. والقياس: أن يشترى بثمن الحصير حصير، ولا يصرف في مصلحة أخرى، ويشبه أن يكون هو المراد باطلاقهم. وجذع المسجد المنكسر إذا لم يصلح لشئ سوى الاحراق، فيه هذا الخلاف. وإن أمكن أن يتخذ منه ألواح أو أبواب، قال المتولي: يجتهد الحاكم ويستعمله فيما هو أقرب إلى مقصود الواقف. ويجري الخلاف في الدار المنهدمة، وفيما إذا أشرف الجذع على الانكسار والدار على الانهدام. قال الامام: وإذا جوزنا البيع، فالاصح صرف الثمن إلى جهة الوقف. وقيل: هو كقيمة المتلف، فيصرف إلى الموقوف عليه ملكا على رأي، وإذا قيل به فقال الموقوف عليه: لا

(4/419)


تبيعوها واقلبوها إلى ملكي، فلا يجاب على المذهب، ولا تنقلب عين الوقف ملكا، وقيل: تنقلب ملكا بلا لفظ. فرع لو انهدم المسجد، أو خربت المحلة حوله وتفرق الناس عنها فتعطل المسجد، لم يعد ملكا بحال، ولا يجوز بيعه، لامكان عوده كما كان، ولانه في الحال يمكن الصلاة فيه. ثم المسجد المعطل في الموضع الخراب، إن لم يخف من أهل الفساد نقضه، لم ينفض. وإن خيف، نقض وحفظ وإن رأى الحاكم أن يعمر بنقضه مسجدا آخر، جاز، وما كان أقرب إليه، فهو أولى، ولا يجوز صرفه إلى عمارة بئر أو حوض، وكذا البئر الموقوفة إذا خرب‍ ت، يصرف نقضها إلى بئر أخرى أو حوض، لا (إلى) المسجد، ويراعي غرض الواق‍ ف ما أمكن. فرع جميع ما ذكرناه في حصر المسجد ونظائرها، هو فيما إذا كانت موقوفة على المسجد. أما ما اشتراه الناظر للمسجد، أو وهبه له واهب، وقبله الناظر، فيجوز بيعه عند الحاجة بلا خلاف، لانه ملك، حتى إذا كان المشتري للمسجد شقصا، كان للشريك الاخذ بالشفعة. ولو باع الشريك، فللناظر الاخذ بالشفعة عند الغبطة، هكذا ذكروه. قلت: هذا إذا اشتراه الناظر ولم يقفه. أما إذا وقفه، فإنه يصير وقفا قطعا، وتجري عليه أحكام الوقف. والله أعلم فرع لوقف على ثغر، فاتسعت خطة الاسلام حوله، تحفظ غلة الوقف، لاحتمال عودة ثغرا.

(4/420)


فرع قال أبو عاصم العبادي: لو وقف على قنطرة، فانخرق الوادي وتعطلت تلك القنطرة واحتيج إلى قنطرة أخرى، جاز النقل إلى ذلك الموضع. فرع إذا خرب العقار الموقوف على المسجد وهناك فاضل من غلته، بدئ منه بعمارة العقار. فرع قال ابن كج: إذا حصل مال كثير من غلة المسجد، أعد منه قدر ما لو خرب المسجد أعيدت به العمارة، والزائد يشترى به للمسجد ما فيه زيادة غلة. وفي فتاوى القفال: أن الموقوف لعمارة المسجد لا يشترى به شئ أصلا، لان الواقف وقف على العمارة.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بالباب إحداها: وقف على الطالبيين، وجوزناه، كفى الصرف إلى ثلاثة، ويجوز أن يكون أحدهم من أولاد علي، والثاني من أولاد جعفر، والثالث من أولاد عقيل، رضي الله عنهم. ولو وقف على أولاد علي وأولاد عقيل وأولاد جعفر رضي الله عنهم، فلا بد من الصرف إلى ثلاثة من كل صنف. الثانية: وقف شجرة، ففي دخول المغرس وجهان، وكذا حكم الاساس مع البناء. الثالثة: وقف على عمارة المسجد، لا يجوز صرف الغلة إلى النقش والتزويق، وذكر في العدة أنه يجوز دفع أجرة القيم منه، ولا يجوز صرف شئ منه إلى الامام والمؤذن، والفرق أن القيم يحفظ العمارة. قال: ويجوز أن يشترى منه البواري، ولا يشترى الدهن على الاصح. والذي ذكره البغوي وأكثر من تعرض

(4/421)


للمسألة: أنه لا يشترى منه الدهن ولا الحصير. والتجصيص الذي فيه إحكام، معدود من العمارة. وإذا وقف على عمارة المسجد، جاز أن يشترى منه سلم لصعود السطح، ومكانس يكنس بها، ومساحي لنقل التراب، لان ذلك كله لحفظ العمارة. ولو كان يصيب بابه المطر ويفسده، جاز بناء ظلة منه، وينبغي أن لا يضر بالمارة. ولو وقف على مصلحة المسجد، لم يجز النقش والتزويق، ويجوز شراء الحصر والدهن، والقياس جواز الصرف إلى الامام والمؤذن أيضا. والموقوف على الحشيش والسقف، لا يصرف إلى الحصير ولا بالعكس، والموقوف على أحدهما لا يصرف إلى اللبود ولا بالعكس. ولو وقف على المسجد مطلقا، وجوزناه، قال البغوي: هو كالوقف على عمارة المسجد. وفي الجرجانيات في جواز الصرف إلى النقش والتزويق في هذه الصورة وجهان. وفي فتاوى الغزالي: أنه يجوز هنا صرف الغلة إلى الامام والمؤذن، وأنه يجوز بناء منارة للمسجد، ويشبه أن يجوز بناء المنارة من الموقوف على عمارة المسجد أيضا. ولو وقف على النقش والتزويق، فوجهان قريبان من الخلاف في جواز تحلية المصحف. قلت: الاصح: لا يصح الوقف على النقش والتزويق، لانه منهي عنه. والله أعلم الرابعة: إذا قال المتولي: أنفقت كذا، فالظاهر قبول قوله عند الاحتمال. الخامسة: لا يجوز قسمة العقار الموقوف بين أرباب الوقف. وقال اب القطان: إن قلنا: القسمة إفراز، جاز، فإذا انقرض البطن الاول، انقضت القسمة، ويجوز لاهل الوقف المهايأة، قاله ابن كج. السادسة: لا يجوز تغيير الوقف عن هيئته، فلا تجعل الدار بستانا ولا حماما، ولا بالعكس، إلا إذا جعل الواقف إلى الناظر ما يرى فيه مصلحة للوقف. وفي فتاوى القفال: أنه يجوز أن يجعل حانوت القصارين للخبازين، فكأنه احتمل تغيير النوع دون الجنس. ولو هدم الدار أو البستان ظالم، أخذ منه الضمان وبني به أو غرس

(4/422)


ليكون وقفا مكان الاول. ولو انهدم البناء وانقلعت الاشجار، استغلت الارض بالاجارة لمن يزرعها أو يضرب فيها خيامه، ثم تبنى وتغرس من غلتها، ويجوز أن يقرض الامام الناظر من بيت المال، أو يأذن له في الاقتراض أو الانفاق من مال نفسه على العمارة بشرط الرجوع، وليس له الاقتراض دون إذن الامام. السابعة: لو تلف الموقوف في يد الموقوف عليه من غير تعد، فلا ضمان عليه. قلت: ومن ذلك الكيزان المسبلة على أحواض الماء والانهر ونحوها، فلا ضمان على من تلف في يده شئ منها بلا تعد. فإن تعدى، ضمن، ومن التعدي، استعماله في غير ما وقف له. والله أعلم الثامنة: لو انكسر المرجل والطنجير الموقوفان، ووجد متبرع بالاصلاح، فذاك، وإلا، اتخذ منه أصغر وأنفق الباقي على إصلاحه. فان لم يمكن اتخاذ

(4/423)


مرجل وطنجير، اتخذ منه ما يمكن من قصعة ومغرفة وغيرهما، ولا حاجة هنا إلى إنشاء وقفه، فإنه غير الموقوف. التاسعة: الوقف على الفقراء، هل يختص بفقراء بلد الواق ؟ فيه الخلاف المذكور فيما لو أوصى للفقراء. وهل يجوز الدفع (منه) إلى فقيرة لها زوج يمونها ؟ فيه خلاف سبق في أول قسم الصدقات. قلت: سبق هناك، أن الاصح أنه لا يدفع إليها ولا إلى الابن المكفي بنفقة أبيه، قال صاحب المعاياة: ولو كان له صنعة يكتسب بها كفايته ولا مال له، استحق الوقف باسم الفقر قطعا. وفي هذا الذي قاله احتمال. والله أعلم العاشرة: سئل الحناطي عن شجرة تنبت في المقبرة، هل يجوز للناس الاكل من ثمرها ؟ فقال: قيل: يجوز، وعندي الاولى أن تصرف في مصالح المقبرة. قلت: المختار: الجواز. والله أعلم قلت: وإن غرسها مسبلة للاكل، جاز أكلها بلا عوض، وكذا إن جهلت نيته حيث جرت العادة به، وسبق في كتاب الصلاة أنها تقلع. والله أعلم الحادية عشرة: قال الائمة: إذا جعل البقعة مسجدا، فكان فيها شجرة، جاز للامام قلعها باجتهاده. وبماذا ينقطع حق الواقف عن الشجرة ؟ قال الغزالي في الفتاوى: مجرد ذكر الارض لا يخرج الشجرة عن ملكه كبيع الارض، وحينئذ لا يكلف تفريغ الارض، ولك أن تقول: في استتباع الارض للشجر في البيع قولان. وإذا قال: جعلت هذه الارض مسجدا، فلا تدخل الشجرة قطعا، لانها لا تجعل مسجدا. ولو جعل الارض مسجدا، ووقف الشجرة عليها، فعلى هذه الصورة ونحوها ينزل كلام الاصحاب. الثانية عشرة: أفتى الغزالي بأنه يجوز وقف الستور لتستر بها جدران المسجد، وينبغي أن يجئ فيه الخلاف السابق في النقش والتزويق.

(4/424)


الثالثة عشرة: لو وقف على دهن السراج للمسجد، جاز وضعه في جميع الليل، لانه أنشط للمصلين. قلت: إنما يسرج جميع الليل إذا انتفع به من في المسجد كمصل ونائم وغيرهما. فإن كان المسجد مغلقا ليس فيه أحد، ولا يمكن دخوله، لم يسرج، لانه إضاعة مال. والله أعلم

(4/425)