روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب اللقيط
يقال للصبي الملقي الضائع: لقيط، وملقوط، ومنبوذ، وفيه بابان.
الباب الأول : في أركان الالتقاط الشرعي وأحكامه. أما الاركان، فثلاثة.
أحدها : نفس الالتقاط، وهو فرض كفاية. ومن أخذ لقيطا، لزمه الاشهاد عليه على المذهب لئلا يضيع نسبه. وقيل: في وجوبه قولان أو وجهان كاللقطة. وقيل: إن كان ظاهر العدالة، لم يلزمه. وإن كان مستورها، لزمه. فإن أوجبنا الاشهاد فتركه، قال في الوسيط: لا تثبت ولاية الحضانة، ويجوز الانتزاع، وهذا يشعر باختصاص الاشهاد الواجب بابتداء الالتقاط. وإذا أشهد، فليشهد

(4/483)


على اللقيط وما معه، نص عليه.
الركن الثاني : اللقيط، وهو كل صبي ضائع لا كافل له، فيخرج بقيد الصبي البالغ، لانه مستغن عن الحضانة والتعهد، فلا معنى للالتقاط. لكن لو وقع في معرض هلاك، أعين ليتخلص. وفي الصبي الذي بلغ سن التمييز تردد للامام، والاوفق لكلام الاصحاب: أنه يلتقط، لحاجته إلى التعهد. والمراد بالضائع: المنبوذ. وأما غير المنبوذ، فإن لم يكن له أب ولا جد ولا وصي، فحفظه من وظيفة القاضي، فيسلمه إلى من يقوم به، لانه كان له كافل معلوم، فإذا فقد، قام القاضي مقامه. وقولنا: لا كافل له، المراد بالكافل: الاب والجد ومن يقوم مقامهما. والملتقط ممن هو في حضانة أحق هؤلاء، لا معنى لالتقاطه، إلا أنه لو حصل في مضيعة أخذ ليرد إلى حاضنه. قلت: معناه: يجب أخذه لرده إلى حاضنه. والله أعلم.

(4/484)


الركن الثالث : الملتقط، ويشترط فيه أمور. أحدها: التكليف، فلا يصح التقاط الصبي والمجنون الثاني: الحرية، فالعبد إذا التقط ينتزع منه إن لم يأذن سيده. وإن أذن أو علم به فأقره في يده، جاز وكان السيد هو الملتقط، وهو نائبه في الاخذ والتربية، والمكاتب إذا التقط بغير إذن السيد، انتزع منه أيضا. وإن التقط باذنه، ففيه الخلاف في تبرعاته بالاذن، لكن المذهب الانتزاع، لان في الالتقاط ولاية وليس هو من أهلها. فإن قال له السيد: التقط لي صغيرا، فالسيد هو الملتقط. ومن بعضه حر إذا التقط في يومه، هل يستحق كفالته ؟ وجهان حكاهما في المعتمد. الثالث: الاسلام، فالكافر يلتقط الطفل الكافر دون المسلم لانه أولى به، وللمسلم التقاط الصبي المحكوم بكفره. الرابع: العدالة، فليس للفاسق الالتقاط. ولو التقط، انتزع منه، وأما من ظاهر حاله الامانة، إلا أنه لم يختبر، فلا ينتزع من يده، لكن يوكل القاضي به من يراقبه بحيث لا يعلم لئلا يتأذى. فإذا وثق به، صار كمعلوم العدالة. وقبل ذلك

(4/485)


لو أراد المسافرة به، منع وانتزع منه، لانه لا يؤمن أن يسترقه. الخامس: الرشد، فالمبذر المحجور عليه، لا يقر اللقيط في يده. فرع لا يشترط في الملتقط الذكورة قطعا، ولا الغنى. وقيل: لا يقر في يد الفقير، والصحيح الاول.
فصل إذا ازدحم اثنان على لقيط، نظر، إن ازدحما قبل الاخذ، وطلب كل واحد أخذه وحضانته، جعله الحاكم في يد من رآه منهما أو من غيرهما، إذ لا حق لهما قبل الاخذ. وإن ازدحما بعد الاخذ، فإن لم يكن أحدهما أهلا للالتقاط، سلم اللقيط إلى الآخر. وإن كانا أهلين، قدم أسبقهما بالالتقاط. وهل يثبت السبق بالوقوف على رأسه بغير أخذ ؟ وجهان. أصحهما: لا. وإن لم يسبق واحد منهما، فقد يختص أحدهما بصفة تقدمه، وقد يستويان، والصفات المقدمة أربع. إحداها: الغنى، فإذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا، فقيل: يستويان. والاصح تقديم الغني. وعلى هذا لو تفاوتا في الغنى، فهل يقدم أكثرهما مالا ؟ وجهان. قلت: الاصح لا يقدم. والله أعلم الثانية: البلد، فلو كان أحدهما بلديا والآخر قرويا أو بدويا، ففيه كلام نذكره إن شاء الله تعالى في فصل الاحكام. الثالثة: من ظهرت عدالته بالاختبار، يقدم على المستور على الاصح. الرابعة: الحر أولى من المكاتب وإن التقط بإذن سيده. ولو كان أحدهما عبدا التقط بإذن سيده، فالاعتبار بالسيد والآخر، ولا تقدم المرأة على الرجل، بخلاف الام في الحضانة، لان شفقتها أكمل، ويتساوى المسلم والذمي في اللقيط المحكوم بكفره، وقيل: يقدم المسلم، وقيل: الذمي، والاول أصح. وإذا استويا في

(4/486)


الصفات وتشاحا، أقرع بينهما على الصحيح المنصوص وقول الجمهور. وقال ابن خيران: يقدم الحاكم من رآه منهما أصلح للقيط، فإن استويا أو تحير، أقرع. قال الاصحاب: ولا يخير الصبي بينهما، وإن كان ابن سبع سنين فأكثر، بخلاف تخييره بين الابوين، لان هناك يعول على الميل بسبب الولادة. وقال الامام: يحتمل أن يخير ويقدم اختياره على القرعة، وإذا خرجت القرعة لاحدهما، فترك حقه للآخر، لم يجز، كما ليس للمنفرد نقل حقه إلى غيره. ولو ترك حقه قبل القرعة، فوجهان. أصحهما: ينفرد به كالشفيعين والثاني: لا بل يرفع إلى الحاكم حتى يقره في يد الآخر إن رآه، وله أن يختار أمينا آخر فيقرع بينه وبين الآخر. وقال الامام تفريعا على الثاني: إن التارك لا يتركه الحاكم، بل يقرع بينه وبين صاحبه. فإن خرج عليه، ألزمه القيام بحضانته بناء على أن المنفرد إذا شرع في الالتقاط، لا يجوز له الترك، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل وأما أحكام الالتقاط.

(4/487)


فمنها: أن الذي يلزم الملتقط حفظ اللقيط ورعايته. فأما نفقته، فلا تلزمه، وسيأتي بيان محلها إن شاء الله تعالى. فإن عجز عن الحفظ لامر عرض، سلمه إلى القاضي، وإن تبرم به مع القدرة، فوجهان بناء على أن الشروع في فرض الكفاية هل يلزم الاتمام ويصير الشارع متعينا ؟ وموضع ذكره كتاب السير، والاصح هنا: أن له التسليم إلى القاضي، واختاره ابن كج، ولا خلاف أنه يحرم عليه نبذه ورده إلى ما كان. واعلم أنهم يستعملون في هذا الباب لفظ الحضانة، والمراد منه الحفظ والتربية، لا الاعمال المفصلة في الاجارة، لان فيها مشقة ومؤنة كثيرة، فكيف تلزم من لا تلزمه النفقة ؟ وقد أوضحه البغوي فقال: نفقة اللقيط وحضانته في ماله إن كان له مال، ووظيفة الملتقط حفظه وحفظ ماله. فرع الملتقط البلدي، إذ وجد لقيطا في بلدته، أقر في يده، وليس له نقله إلى البادية إن أراد الانتقال إليها)، بل ينتزع منه لمعنيين. أحدهما: أن عيش البادية خشن، ويفوته العلم بالدين والصنعة. والثاني: تعريض نسبه للضياع. فلو كان الموضع المنتقل إليه من البادية في بياض البلدة يسهل عليه تحصيل ما يراد منها، فعلى المعنى الاول: ل يمنع. وعلى الثاني: إن كان أهل البلد يختلطون بهم، فكذلك، وإلا، منع. وكما ليس له نقله إلى البادية، فليس له نقله إلى قرية. ولو أراد نقله إلى بلدة أخرى، أو التقطه غريب في تلك

(4/488)


البلدة وأراد نقله إلى بلدته، فعلى المعنى الاول: لا يمنع، وعلى الثاني: يمنع وينتزع اللقيط منه. والا ول هو المنصوص، وبه قال الجمهور. قال المتولي: ولا فرق بين سفر النقلة والتجارة والزيارة. ولو وجد القروي لقيطا في قريته أو قرية أخرى أو في بلدة، يقاس بما ذكرناه في البلدي. ولو وجد الحضري اللقيط في بادية، نظر، إن كان في مهلكة، فلا بد من نقله، وللملتقط أن يذهب به إلى مقصده. ومن قال في اللقطة: يعرفها في أقرب البلاد، يشبه أن يقول: لا يذهب به إلى مقصده رعاية للنسب. وإن كان في حلة أو قبيلة، فله نقله إلى البلدة والقرية على المذهب، وبه قطع الجمهور. وعن القاضي حسين: أنه على وجهين بناء على المعنيين. ولو أقام هناك، أقر في يده قطعا. أما البدوي، فإذا التقط في قرية أو بلدة وأراد المقام بها أقر في يده. وإن أراد نقله إلى البادية أو قرية أو بلدة أخرى، فعلى ما ذكرناه في الحضري. وإن وجده في حلة أو قبيلة في البادية، فإن كان من أهل حلة مقيمين في موضع راتب، أقر في يده، وإن كان ممن ينتقلون من موضع إلى موضع منتجعين، ففي منعه وجهان. قلت: أصحهما لا منع. والله أعلم فرع لو ازدحم على لقيط في البلدة أو القرية مقيم بها وظاعن، قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: المقيم أولى. قال الاصحاب: إن كان الظاعن يظعن إلى البادية أو إلى بلدة أخرى، وقلنا: ليس للمنفرد الخروج به إلى بلدة، فالمقيم أولى، وإن جوزناه له ذلك، فهما سواء. ولو اجتمع على لقيط في القرية قروي مقيم بها وبلدي، قال ابن كج: القروي أولى، وهذا يخرج على منع النقل من بلد إلى بلد. فإن جوزنا، وجب أن يقال: هما سواء. قلت: المختار الجزم بتقديم القروي مطلقا، كما قاله ابن كج، وإنما نجوز النقل إذا لم يعارضه معارض. والله أعلم

(4/489)


ولو اجتمع حضري وبدوي على لقيط في البادية، نظر، إن وجد في حلة أو قبيلة، والبدوي في موضع راتب، فهما سواء. وقال ابن كج: البدوي أولى إن كان مقيما فيهم. وإن كان منتجعا، فإن قلنا: يقر في يده لو كان منفردا، فهما سواء، وإلا، فالحضري أولى. وإن وجد في مهلكة، قال ابن كج: الحضري أولى. وقياس قوله: تقديم البدوي أو من كان مكانه أقرب إلى موضع الالتقاط، أقرب. فرع اللقيط قد يكون له مال يستحقه بكونه لقيطا أو بغيره، فالاول: كالوقف على اللقطاء والوصية لهم، والثاني: كالوصية لهذا اللقيط والهبة له والوقف عليه، ويقبل له القاضي من هذا ما يحتاج إلى القبول. ومن الاموال التي يستحقها، ما يوجد تحت يده واختصاصه، فإن للصغير يدا واختصاصا كالبالغ، والاصل الحرية ما لم يعرف غيرها، وذلك كثيابه التي هو لابسها والمفروشة تحته والملفوفة عليه، وما غطي به من لحاف وغيره، وما شد عليه وعلى ثوبه، أو جعل في جيبه من حلي ودراهم وغيرها، وكذا الدابة التي عنانها بيده، أو هي مشدودة في وسطه أو ثيابه، والمهد الذي هو فيه، وكذا الدنانير المنثورة فوقه والمصبوبة تحته وتحت فراشه. وفي التي تحته، وجه ضعيف. ولو كان في خيمة أو دار ليس فيهما غيره، فهما له. وعن الحاوي وجهان في البستان. قلت: وطرد صاحب المستظهري الوجهين في الضيعة وهو بعيد، وينبغي القطع بأنه لا يحكم له بها. والله أعلم ولو كان بقربه ثياب وأمتعة موضوعة، أو دابة، فوجهان. أصحهما: لا تجعل له كما لو كانت بعيدة. والثاني: بلى، لان هذا يثبت اليد والاختصاص، ألا ترى أن الامتعة الموضوعة في السوق بقرب الشخص تجعل له. والمال المدفون تحت

(4/490)


اللقيط لا يجعل له، لانه لا يقصد بالدفن الضم إلى الطفل، بخلاف ما يلف عليه ويوضع بقربه. فلو وجدت معه أو في ثيابه رقعة مكتوب فيها: إن تحته دفينا له، فوجهان. أصحهما عند الغزالي: أنه له بقرينة المكتوب. والثاني: لا أثر للرقعة، وهو الموافق لكلام الاكثرين. قال الامام: ومن عول على الرقعة ليت شعري ما يقول لو أرشدت الرقعة إلى دفين بالعبد منه، أو دابة مربوطة بالبعد منه. قلت: مقتضاه أن نجعله للقيط، فإن الاعتماد إنما هو على الرقعة، لا على كونه تحته. والله أعلم ولو كانت دابة مشدودة باللقيط وعليها راكب، قال ابن كج: هي بينهما. ثم إن ما سوى الدفين من هذه الاموال إذا لم يجعل للقيط، فهو لقطة، والدفين قد يكون لقطة وقد يكون ركازا كما سبق. فرع إذا عرف للقيط مال، فنفقته في ماله. فان لم يعرف، فقولان. أظهرهما: ينفق عليه الامام من بيت المال من سهم المصالح. والثاني: يستقرض له الامام من بيت المال أو بعض الناس. فإن لم يكن في بيت المال شئ ولم يقرض أحد، جمع الامام أهل الثروة من البلد وقسط عليهم نفقته وجعل نفسه منهم. ثم إن بان رقيقا، رجعوا على سيده. وإن بان حرا أو له مال أو قريب، فالرجوع عليه. وإن بان حرا لا قريب له ولا مال ولا كسب، قضى الامام حقهم من سهم الفقراء أو

(4/491)


المساكين أو الغارمين كما يراه. قلت: اعتباره القريب غريب، قل من ذكره، وهو ضعيف، فإن نفقته القريب تسقط بمضي الزمان. والله أعلم أما إذا قلنا بالاظهر: إنه ينفق من بيت المال، فان لم يكن فيه مال، أو كان هناك ما هو أهم، كسد ثغر يعظم ضرره لو ترك، قام المسلمون بكفايته، ولم يجز لهم تضييعه. ثم هل طريقه طريق النفقة، أم طريق القرض ؟ قولان. أظهرهما والذي يقتضي كلام العراقيين وغيرهم: ترجيحه أنه طريق القرض. فإن قلنا: طريق النفقة، فقام به بعضهم، اندفع الحرج عن الباقين. وإن امتنعوا، أثموا كلهم، وطالبهم الامام. فإن أصروا، قاتلهم، وعند التعذر يقترض على بيت المال وينفق عليه، وإن قلنا: طريق القرض، يثبت الرجوع. وعلى هذا، إن تيسر الاقتراض، فذاك، وإلا، قسط الامام نفقته على الموسرين من أهل البلد، ثم إن ظهر عبدا، فالرجوع على سيده. وإن ظهر له مال أو اكتسب، فالرجوع عليه. فإن لم يكن له شئ، قضي من سهم المساكين أو الغارمين. وإن حصل في بيت المال مال قبل بلوغه ويساره، قضي منه. وإن حصل في بيت المال، أو حصل للقيط مال دفعة واحدة، قضي من مال اللقيط كما لو كان له مال وفي بيت المال مال. ولم يتعرض الاصحاب لطرد الخلاف، في أنه إنفاق أو إقراض، إذا كان في بيت المال مال وقلنا: نفقته منه، والقياس طرده. قلت: ظاهر كلامهم، أنه إنفاق، فلا رجوع لبيت المال قطعا، وهذا هو

(4/492)


المختار الظاهر والله أعلم وحيث قلنا: يقسطها الامام على الاغنياء، فذاك عند إمكان الاستيعاب. فإن كثروا أو تعذر التوزيع عليهم، قال الامام: يضربها السلطان على من يراه منهم باجتهاده. فإن استووا في اجتهاد، تخير، والمراد أغنياء تلك البلدة أو القرية. فصل إذا كان للقيط مال، هل يستقل الملتقط بحفظه ؟ وجهان. أحدهما: لا، بل يحتاج إلى إذن القاضي، إذ لا ولاية للملتقط. وأرجحهما على ما يقتضيه كلام البغوي: الاستقلال. قلت: رجح الامام الرافعي أيضا في المحرر هذا الثاني. والله أعلم ولو ظهر منازع في المال المخصوص باللقيط، فليس للملتقط مخاصمته على الاصح، وسواء قلنا: له الاستقلال بالحفظ، أم لا، فليس له إنفاقه على اللقيط إلا بإذن القاضي إذا أمكن مراجعته. فإن أنفق، ضمن، ولم يكن له الرجوع على اللقيط كمن في يده مال وديعة ليتيم أنفقها عليه. وحكى ابن كج وجها أنه لا يضمن، (وهو شاذ)، وإذا رفع الامر إلى الحاكم، فليأخذ المال منه ويسلمه إلى أمين لينفق منه على اللقيط بالمعروف، أو يصرفه إلى الملتقط يوما يوما. ثم إن خالف الامين وقتر عليه، منع منه، وإن أسرف، ضمن كل واحد من الامين والملتقط الزيادة، والقرار على الملتقط إن كان سلم إليه، لحصول الهلاك في يده. وهل

(4/493)


يجوز أن يترك المال في يد الملتقط ويأذن له في الانفاق منه ؟ تقدم عليه مسألة، وهي أنه إذا لم يكن للقيط مال واحتيج إلى الاقتراض له، هل يجوز للقاضي أن يأذن للملتقط في الانفاق عليه من مال نفسه (ليرجع) ؟ نص أنه يجوز، ونص في الضالة، أنه لا يأذن لواجدها في الانفاق من مال نفسه ليرجع على صاحبها، بل يأخذ المال منه ويدفعه. إلى أمين، ثم الامين يدفع إليه كل يوم قدر الحاجة، فقال جمهور الاصحاب: المسألتان على قولين. أحدهما: المنع فيهما. وأظهرهما عند الشيخ أبي حامد: الجواز فيهما للحاجة، لكثرة المشقة، ويلحق الامين بالاب في ذلك، وسبق مثل هذا الخلاف في إنفاق المالك عند هرب عامل المساقاة والجمال، وأجراه أبو الفرج السرخسي في إنفاق قيم الطفل من مال نفسه. وقالت طائفة بظاهر النصين، وفرقوا بأن اللقيط لاولي له في الظاهر. رجعنا إلى إذن الحاكم للملتقط في الانفاق من مال اللقيط، فالاكثرون طردوا الطريقين في جوازه، والاحسن ما أشار إليه ابن الصباغ، وهو القطع بالجواز كقيم اليتيم يأذن له القاضي في الانفاق من ماله عليه، وينبغي أن يجري هذا الخلاف في تسليم ما اقترضه القاضي على الجمال الهارب إلى المستأجر، ولا ذكر له هناك. وإذا جوزناه، فبلغ اللقيط واختلفا فيما أنفق، فالقول قول الملتقط إذا ادعى قدر الايفاء في الحال، وقد سبق في هرب الجمال وجه: أن القول قول الجمال، والقياس طرده هنا. وإن ادعى زيادة على اللائق، فهو مقر بتفريطه، فيضمن، ولا معنى للتحليف. قال الامام: لكن لو وقع النزاع في عين، فزعم الملتقط أنه أنفقها، فيصدق لتنقطع المطالبة بالعين، ثم يضمن كالغاصب إذا ادعى التلف، هذا كله أذا أمكن مراجعة القاضي. فان لم يكن هناك قاض، فهل ينفق من مال اللقيط عليه بنفسه، أم يدفعه إلى أمين لينفق عليه ؟ قولان. أظهرهما: الاول. فعلى هذا، إن أشهد لم يضمن على الصحيح، وإلا، ضمن على الاصح.

(4/494)


الباب الثاني : في أحكام اللقيط هي أربعة.
الأول : الاسلام، وإسلام الشخص قد يثبت بنفسه استقلالا، وقد يثبت تبعا. أما القسم الاول، فالبالغ العاقل، يصح منه مباشرة الاسلام بالنطق إن كان ناطقا، وبالاشارة إن كان أخرس. وأما المجنون والصبي الذي لا يميز، فلا يصح إسلامهما مباشرة بلا خلاف، ولا يحكم بإسلامهما إلا بالتبعية. وأما الصبي المميز، ففيه أوجه. الصحيح المنصوص: لا يصح إسلامه. والثاني: يتوقف. فإن بلغ واستمر على كلمة الاسلام، تبينا كونه مسلما من يومئذ. وإن وصف الكفر، تبينا أنه كان لغوا. وقد يعبر عن هذا بصحة إسلامه ظاهرا لا باطنا. والثالث: يصح إسلامه حتى يفرق بينه وبين زوجته الكافرة ويورث من قريبه المسلم، قاله الاصطخري. وعلى هذا، لو ارتد، صحت ردته، لكن لا يقتل حتى يبلغ. فإن تاب، وإلا، قتل. قلت: الحكم بصحة الردة، بعيد، بل غلط. والله أعلم فإذا قلنا بالصحيح، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: يحال بينه وبين أبويه وأهله الكفار لئلا يفتنوه. فإن بلغ ووصف الكفر، هدد وطولب بالاسلام. فإن أصر، رد إليهم. وهل هذه الحيلولة مستحبة، أم واجبة ؟ وجهان. أصحهما: مستحبة، فليتلطف بوالديه ليؤخذ منهما. فإن أبيا، فلا حيلولة. هذا في أحكام الدنيا.

(4/495)


فأما ما يتعلق بالآخرة، فقال الاستاذ أبو إسحاق: إذا أضمر الاسلام كما أظهره، كان من الفائزين بالجنة، ويعبر عن هذا بصحة إسلامه باطنا لا ظاهرا. قال الامام: في هذا إشكال، لان من يحكم له بالفوز لاسلامه، كيف لا يحكم باسلامه ؟ ويجاب عنه بأنه قد يحكم بالفوز في الآخرة وإن لم يحكم بأحكام الاسلام في الدنيا، كمن لم تبلغه الدعوة.
فصل للتبعية في الإسلام ثلاث جهات. إحداها: إسلام الابوين أو أحدهما، ويتصور ذلك من وجهين. أحدهما: أن يكون الابوان أو أحدهما مسلما يوم العلوق، فيحكم بإسلام الولد، لانه جزء من مسلم، فإن بلغ ووصف الكفر، فهو مرتد. والثاني: أن يكونا كافرين يوم العلوق، ثم يسلما أو أحدنما، فيحكم باسلام الولد في الحال. قال الامام: وسواء اتفق الاسلام في حال اجتنان الولد أو بعد انفصاله، وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يفترق فيه هذان الوجهان بإسلامه. وفي معنى الابوين الاجداد والجدات، سواء كانوا وارثين أم لم يكونوا، فإذا أسلم الجد أبو الأب، أو أبو الأم، تبعه الصبي إن لم يكن الاب حيا قطعا، وكذا إن كان على الاصح. ثم إذا بلغ هذا الصبي، فإن أفصح بالاسلام، تأكد ما حكمنا به. وإن أفصح بالكفر، فقولان. المشهور: أنه مرتد، لانه سبق الحكم باسلامه جزما، فأشبه من باشر الاسلام ثم ارتد، وما إذا حصل العلوق في حال الاسلام. والثاني: أنه كافر أصلي، لانه كان محكوما بكفره أولا وأزيل تبعا، فإذا استقل، زالت

(4/496)


التبعية. ويقال: إن هذا القول مخرج، ومنهم من لم يثبته وقطع بالاول. فإن حكمنا بكونه مرتدا لم قص شيئا مما أقضيناه من أحكام الاسلام. وإن حكمنا بأنه كافر أصلي، فوجهان. أحدهما: إمضاؤها بحالها، لجريانه في حال التبعية. وأصحهما: أنا نتبين بطلانها، ونستدرك ما يمكن استدراكه، حتى يرد ما أخذه من تركه قريبة المسلم، ويأخذ من تركه قريبه الكافر ما حرمناه منه، ونحكم بأن إعتاقه عن الكفارة لم يقع مجزئا. هذا فيما جرى في الصغر. فأما إذا بلغ ومات له قريب مسلم قبل أن يفصح بشئ، أو أعتق عن الكفارة في هذا الحال، فإن قلنا: لو أفصح بالكفر كان مرتدا، أمضينا أحكام الاسلام ولا تنقض. وإن جعلناه كافرا أصليا، فإن أفصح بالكفر، تبينا أنه لا إرث ولا إجزاء عن الكفارة. وإن فات الافصاح بموت أو قتل، فوجهان. أحدهما: إمضاء أحكام الاسلام كما لو مات في الصغر. وأصحهما: نتبين الانتقاض، لان سبب التعبية الصغر وقد زال، ولم يظهر في الحال حكمه في نفسه، فيرد الامر إلى الكفر الاصلي. وعن القاضي حسين: أنه إن مات قبل الافصاح وبعد البلوغ، ورثه قريبه المسلم. ولو مات له قريب مسلم، فارثه عنه موقوف. قال الامام: أما التوريث منه، فيخرج على أنه لو مات قبل الافصاح، هل ينقض الحكم ؟ وأما توريثه، فإن أراد بالتوقف أنه يقال: لو أفصح بالاسلام، فهو قريب، ويستفاد به الخروج من الخلاف. وأما لو مات القريب، ثم مات هو، وفات الافصاح، فلا سبيل إلى الفرق بين توريثة والتوريث عنه. ولو قتل بعد البلوغ وقبل الافصاح، ففى تعلق القصاص بقتله قولان أحدهما: نعم كما لو قتل قبل البلوغ وأظهرهما: لا، للشبهة وانقطاع التبعية. وأما الدية، فالذي أطلقوه وحكوه عن نص الشافعي رضي الله عنه: تعلق الدية الكاملة بقتله، وقياس قولنا: إنه لو أفصح بالكفر كان كافرا أصليا، أن لا نوجب الدية الكاملة على رأي، كما أنه إذا فات الافصاح بالموت يرد الميراث على رأي. قلت: الصواب ما قاله الشافعي والاصحاب رضي الله عنهم. والله أعلم فرع المحكوم بكفره إذا بلغ مجنونا، حكمه حكم الصغير، حتى إذا أسلم أحد والديه تبعه. وإن بلغ عاقلا ثم جن، فكذلك على الاصح. الجهة الثانية: تبعية السابي، فإذا سبى المسلم طفلا منفردا عن أبويه، حكم

(4/497)


باسلامه، لانه صار تحت ولايته كالابوين. قلت: هذا الذي جزم به، هو الصواب المقطوع به في كتب المذهب، وشذ صاحب المهذب فذكر في كتاب السير في الحكم باسلامه وجهين، وزعم أن ظاهر المذهب: أنه لا يحكم به، وليس بشئ، وإنما ذكرته تنبيها على ضعفه لئلا يغتر به. والله أعلم فلو سباه ذمي، فوجهان. أحدهما: يحكم باسلامه، لانه من أهل دار الاسلام. وأصحهما: لا، لان كونه من أهل الدار لم يؤثر فيه ولا في أولاده، فغيره أولى. فعلى هذا، لو باعه الذمي لمسلم، لم يحكم باسلامه.

(4/498)


ولو سبي ومعه أحد أبويه، لم يحكم باسلامه قطعا. فلو كانا معه ثم ماتا، لم يحكم بإسلامه أيضا، لان التعبية إنما تثبت في ابتداء السبي. قلت: معن سبي معه أحد أبويه، أن يكونا في جيش واحد وغنيمة واحدة، ولا يشترط كونها في ملك رجل. قال البغوي في كتاب الظهار: إذا سباه مسلم، وسبى أبويه غيره، إن كان في عسكر واحد، تبع أبويه. وإن كان في عسكرين، تبع السابي. والله أعلم فرع حكم الصبي المحكوم بإسلامه تبعا للسابي إذ بلغ، حكم المحكوم بإسلامه تبعا لابويه إذا بلغ. فرع المحكوم باسلامه تبعا لابيه أو للسابي إذا وصف الكفر، فإن جعلناه كافرا أصليا، ألحقناه بدار الحرب. فان كان كفره مما يقر عليه بالجزية، قررناه برضاه. وإن وصف كفرا غير ما كان موصوفا به، فهو انتقال من ملة إلى ملة، وفيه تفصيل وخلاف مذكور في كتاب النكاح. وأما تجهيزه والصلاة غلته ودفنه في مقابر المسلمين إذ فات بعد البلوغ وقبل الافصاح، فيتفرع على القولين في أنه لو أفصح بالكفر كان كافرا أصليا أو مرتدا ؟ ورأى الامام أن يتساهل في ذلك ويقام فيه شعار الاسلام. قلت: الذي رآه الامام هو المختار أو الصواب، لان هذه الامور مبنية على

(4/499)


الظواهر، وظاهره الاسلام. والله أعلم الجهة الثالثة: تبعية الدار. فاللقيط يوجد في دار الاسلام أو دار الكفر. الحال الاول: دار الاسلام، وهي ثلاثة أضرب. أحدها: دار يسكنها المسلمون، فاللقيط الموجود فيها مسلم وإن كان فيها أ هل ذمة، تغليبا للاسلام. الثاني: دار فتحها المسلمون وأقروها في يد الكفار بجزية، فقد ملكوها، أو صالحوهم ولم يملكوها، فاللقيط فيها مسلم إن كان فيها مسلم واحد فأكثر، وإلا، فكافر على الصحيح. وقيل: مسلم، لاحتمال أنه ولد من يكتم إسلامه منهم. الثالث: دار كان المسلمون يسكنونها، ثم جلوا عنها وغلب عليها الكفار، فإن لم يكن فيها من يعرف بالاسلام، فهو كافر على الصحيح. وقال أبو إسحاق: مسلم، لاحتمال أن فيها كاتم إسلامه. وإن كان فيها معروف بالاسلام، فهو مسلم، وفيه احتمال للامام. وأما عد الاصحاب الضرب الثالث دار إسلام، فقد يوجد في كلامهم ما يقتضي أن الاستيلاء القديم يكفي لاستمرار الحكم، ورأيت لبعض المتأخرين تنزيل ما

(4/500)


ذكروه على ما إذا كانوا لا يمنعون المسلمين منها، فإن منعوهن، فهي دار كفر. الحال الثاني: دار الكفر. فإن لم يكن فيها مسلم، فاللقيط الموجود فيها محكوم بكفره. وإن كان فيها تجار مسلمون ساكنون، فهل يحكم بكفره تبعا للدار، أو باسلامه تغليبا للاسلام ؟ وجهان. أصحهما: الثاني، ويجريان فيما لو كان فيها أسارى، ورأى الامام ترتيب الخلاف فيهم على التجار، لانهم مقهورون. قال: ويشبه أن يكون الخلاف في قوم ينتشرون، إلا أنهم ممنوعون من الخروج من البلدة، فأما المحبوسون في المطامير، فيتجه أن لا يكون لهم أثر كما لا أثر لطروق العابرين من المسلمين، وحيث حكمنا بالكفر، فلو كان أهل البقعة أصحاب ملل مختلفة، فالقياس أن يجعل من أصونهم دينا. فرع الصبي المحكوم بإسلامه بالدار، إذا بلغ وأفصح بالكفر، فهو كافر أصلي على المذهب. وقيل: قولان كالمسلم تبعا لابويه أو السابي. أحدهما: أنه أصلي. والثاني: أنه مرتد. فإذا قلنا: أصلي، فهل نتوقف في حال صباه في الاحكام التي يشترط لها الاسلام ؟ وجهان. أصحهما: لا، بل نمضيها كالمحكوم باسلامه تبعا لابيه. والثاني: نتوقف حتى يبلغ فيفصح بالاسلام. فإن مات في صباه، لم يحكم بشئ من أحكام الاسلام، وهذا ضعيف. فرع اللقيط الموجود في دار الاسلام، لو ادعى ذمي نسبه وأقام عليه بينة،

(4/501)


لحقه وتبعه في الكفر، وارتفع ما كنا نظنه. وإن اقتصر على مجرد الدعوى، فالمذهب أنه مسلم، وهو المنصوص، وبه قطع أبو إسحاق وغيره، وصححه الاكثرون. وقيل: قولان. ثانيهما: يحكم بكفره، لانه يلحقه بالاستحقاق. فإذا ثبت نسبه، تبعه في الدين كما لو أقام البينة. وحجة المذهب: أنا حكمناه باسلامه، فلا نغيره بمجرد دعوى كافر. وأيضا فيجوز أن يكون ولده من مسلمة، وحينئذ لا يتبع الدين النسب. وعلى الطريقين، يحال بينهما كما ذكرنا فيما إذا وصف المميز الاسلام. ثم إذا بلغ ووصف الكفر، فإن قلنا: يتبعه فيه، قرر، لكنه يهدد، ولعله يسلم، وإلا، ففي تقريره ما سبق من الخلاف. فرع سبق أن اللقيط المسلم، ينفق عليه من بيت المال إذا لم يكن له مال. فأما المحكوم بكفره، فوجهان. أصحهما: كذلك، إذ لا وجه لتضييعه. الحكم الثاني: جناية اللقيط، والجناية عليه. أما جنايته، فإن كانت خطأ، فموجبها في بيت المال، ولا نخرج ذلك على الخلاف في التوقف، كما لا نتوقف في صرف تركته إلى بيت المال. وإن كانت عمدا، نظر، إن كان بالغا، فعليه القصاص بشرطه. وإن جنى قبل البلوغ، فإن قلنا: عمد الصبي عمد، وجبت الدية مغلظة في ماله. فإن لم يكن له مال، ففي ذمته إلى أن يجد. وإن قلنا: خطأ، وجبت مخففة في بيت المال. ولو أتلف مالا، فالضمان عليه، فإن كان

(4/502)


اللقيط محكوما بكفره، فالتركة فيئ، ولا تكون جنايته في بيت المال. وأما الجناية عليه، فإن كانت خطأ، نظر، إن كانت على نفسه، أخذت الدية ووضعت في بيت المال. وقياس من قال بالتوقف في أحكامه: أن لا يوجب الدية الكاملة، ولم أره. قلت: الصواب، الجزم بالدية الكاملة. والله أعلم وإن كانت على طرفه، فواجبها حق اللقيط يستوفيه القاضي، ويعود فيه القياس المذكور. وإن كانت عمدا، فإن قتل، وجب القصاص على الاظهر. وقيل: يجب قطعا، وهو نصه في المختصر، لانه مسلم معصوم. وإن قتل بعد البلوغ والافصاح بالاسلام، وجب قطعا. وقيل: على الخلاف، لان القصاص حق للمسلمين، ولا يتصور رضى كلهم باستيفائه. وإن قتل بعد البلوغ قبل الافصاح، فعلى الخلاف. وقيل: لا يجب قطعا، لقدرته على الافصاح الواجب. وإن كانت الجناية على الطرف، وجب القصاص على المذهب. وقيل: قولان. ثانيهما: يتوقف. فإن بلغ وأفصح، تبينا وجوبه، وإلا، فعدمه. وإن كان الجاني على النفس أو الطرف كافرا رقيقا، وجب على المذهب. وقيل: قولان، لانه حق للمسلمين، ولا يتصور رضاهم. فرع إذا أوجبنا له القصاص، فقصاص النفس يستوفيه الامام إن رآه مصلحة. وإن رأى العدول إلى الدية، عدل، وليس له العفو مجانا، لانه خلاف مصلحة المسلمين. وأما قصاص الطرف، فإن كان اللقيط بالغا عاقلا، فالاستيفاء إليه، وإلا، فليس للامام استيفاؤه. وقال القفال: يجوز في المجنون، لانه ليس لافاقته زمن معين، وهذا ضعيف عند الاصحاب. وأضعف وجه حكاه السرخسي في

(4/503)


جواز الاقتصاص، حيث يجوز له أخذ الارش. والمذهب: المنع قطعا. وإذا لم يقتص، فهل له أخذ أرش الجناية ؟ نظر، إن كان المجني عليه مجنونا فقيرا، فله وإن كان صبيا غنيا، فلا، وإن كان مجنونا غنيا، أو صبيا فقيرا، فالاصح المنع. وحيث منعنا الارش، أو لم نر المصلحة فيه، يحبس الجاني إلى البلوغ والافاقة، وإذا جوزناه فأخذه، ثم بلغ الصبي أو أفاق المجنون وأراد أن يرده ويقتص، ففي تمكنه وجهان شبيهان بما لو عفا الولي عن الشفعة للمصلحة فبلغ وأراد الاخذ، وهما مبنيان على أن أخذ المال عفو كلي وإسقاط للقصاص، أم سببه الحيلولة لتعذر الاستيفاء ؟ وقد يرجح الاول بأن الحيلولة إنما تكون إذا جاءت من قبل الجاني كا باق المغصوب. قلت: الراجح الاول. والله أعلم وما ذكرناه في أخذ الارش للقيط، جار في كل طفل يليه أبوه أو جده بلا فرق. وحكى الامام عن شيخه، أنه ليس للوصي أخذه، قال: وهذا حسن إن جعلناه إسقاطا. وإن قلنا: للحيلولة، فينبغي أن لا يجوز للوصي أيضا.
الحكم الثالث (1) : نسب اللقيط، وهو كسائر المجهولين، فإذا استلحقه حر مسلم، لحقه، وقد سبق في كتاب الاقرار ما يشترط الاستلحاق، ولا فرق في ذلك بين الملتقط وغيره، لكن يستحب أن يقال للملتقط: من أين هو لك ؟ فربما توهم أن الالتقاط يفيد النسب. وإذا ألحق بغير الملتقط، سلم إليه، لانه أحق من الاجنبي. واستلحاق الكافر، كاستلحاق المسلم في ثبوت النسب، لاستوائهما
__________
كذا بالأصل، ولم يتكلم على الحكم الثاني

(4/504)


في الجهات المثبتة للنسب. وإن استلحقه عبد، لحقه إن صدقه السيد، وكذا إن كذبه على الاظهر. وقيل: لا يلحق قطعا. وقيل: يلحق قطعا إن كان مأذونا له في النكاح ومضى زمان إمكانه، وإلا، فقولان. والمذهب: للحوق مطلقا، ويجري الخلاف في إقرار العبد بأخ أو عم. وقيل بالمنع هنا قطعا، لان لظهور نسبه طريقا آخر، وهو إقرار الاب أو الجد، ويجري فيما لو استلحق حر عبد غيره وهو بالغ فصدقه، لما فيه من قطع الارث المتوهم بالولاء. وقيل: يثبت هنا قطعا، ويجري فيما لو استلحق المعتق غيره. والمنع هنا أبعد، لاستقلاله بالنكاح والتسري. وإذا صححنا استلحاق العبد، فلا يسلم إليه اللقيط، لانه لا يتفرغ لحضانته وتربيته، ولا نفقة عليه، إذ لا مال له. فرع استلحقته امرأة وأقامت بينة، لحقها ولحق زوجها إن أمكن العلوق منه، ولا ينتفي عنه إلا بلعان. هذا إذا قيدت البينة أنها ولدته على فراشه. فإن لم تتعرض للفراش، ففي ثبوت نسبه من الزوج وجهان. قلت: الاصح المنع. والله أعلم وإن لم تقم بينة واقتصرت على الدعوى، فهل يلحقها، أم لا ؟ أم يلحق الخلية دون المزوجة ؟ فيه أوجه. أصحها: الثاني. فإن ألحقنا ولها زوج، لم يلحقه على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. وباللحوق قال ابن سلمة. واستلحاق الامة كالحرة إن جوزنا استلحاق العبد، فإن أثبتناه، لم يحكم برق الولد لمولاها على المذهب، وبه قطع ابن الصباغ والمتولي، وذكر البغوي فيه وجهين.
فصل ادعى نسب اللقيط اثنان، ففيه صور. إحداها: ادعاه حر وعبد، فإن قلنا: يصح استلحاق العبد، فهما سواء، وإلا، فيلحق بالحر. الثانية: ادعاه مسلم وكافر، يستويان فيه. الثالثة: اختص أحدهما بيد، نظر، إن كان صاحب اليد هو الملتق، لم يقدم، لان اليد لا تدل على النسب، بل إن استلحقاه معا ولا بينة، عرض معهما

(4/505)


على القافة كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وإن استلحقه الملتقط أولا، حكمنا بالنسب، ثم ادعاه الآخر، قال الشافعي رضي الله عنه: يعرض الولد مع الثاني على القائف، فإن نفاه عنه، بقي لاحقا بالملتقط باستلحاقه. وإن ألحقه بالثاني، عرض مع الملتقط عليه، فإن نفاه عنه، فهو للثاني، وإن ألحقه به أيضا، فقد تعذر العمل بقول القائف فيوقف. وإن كان صاحب اليد غير الملتقط، فإن كان استلحقه وحكم (له) بالنسب، ثم جاء آخر وادعى نسبه، لم يلتفت إليه. وإن لم يسمع استلحاقه إلا بعدما جاء الثاني واستلحقه، فهل يقدم صاحب اليد، أم يستويان ؟ وجهان. أصحهما: الثاني. الرابعة: تساويا ولا بينة، عرض الولد على القائف، فبأيهما ألحقه لحق. فإن لم يوجد قائف، أو تحير، أو ألحقه بهما، أو نفاه عنهما، ترك حتى يبلغ، فإذا بلغ، أمر بالانتساب إلى أحدهما، ولا ينسب بالنشهي، بل يعول فيه على ميل الطبع الذي يجده الولد إلى الوالد إلى القريب والقريب بحكم الجبلة. وقيل: لا يشترط البلوغ، بل يخير إذا بلغ سن التمييز كالتخيير بين الابوين في الحضانة. والصحيح اشتراطه. والفرق أن الاختيار في الحضانة لا يلزم، بل له الرجوع، وهنا يلزم، وعليهما النفقة مدة الانتظار. فإذا انتسب إلى أحدهما، رجع الآخر عليه بما أنفق. ولو لم ينتسب إلى واحد منهما، لفقد الميل، بقي الامر موقوفا. ولو انتسب إلى غيرهما وادعاه ذلك الغير، ثبت نسبه منه. وفيه وجه: أنه إن كان الرجوع إلى انتسابه بسبب إلحاق القائف بهما جميعا، لم يقبل انتسابه إلى غيرهما. والصحيح الاول. وإذا انتسب إلى أحدهما لفقد القائف، ثم وجد، عرضناه عليه. فإن ألحقه بالثاني، قدمنا قوله على الانتساب، لانه حجة أو حكم. وقال أبو إسحاق: يقدم الانتساب. قال: وعلى هذا، فمتى ألحقه القائف بأحدهما، فللآخر أن ينازعه ويقول: يترك حتى يبلغ فينتسب. ولو ألحقه القائف بأحدهما، وأقام الآخر بينة، قدمت البينة،

(4/506)


لانها حجة في كل خصومة، وقيل: لا يغير ما حكمنا به ولا يعمل بالبينة. فرع ادعت امرأتان نسب لقيط أو مجهول غيره، ولا بينة، وقبلنا استلحاق المرأة، ففي عرض الولد معهما على القائف وجهان أحدهما: المنع. و الاصح المنصوص: العرض، لانه حكم أو حجة، فأشبه البينة، فإذا ألحقه بأحداهما وهي ذات زوج، لحق زوجها أيضا كما قامت البينة. وقيل: لا يلحقه، وهو ضعيف. الخامسة: أقام كل واحد بينة بنسبه، وتعارضتا، ففي التعارض في الاموال قولان. أظهرهما: التساقط. فعلى هذا تسقطان أيضا هنا على الصحيح، ويرجع إلى قول القائف. وقيل: لا تسقطان وترجح إحداهما بقول القائف، ولا يختلف المقصود على الوجهين. والقول الثاني: تستعملان بالوقف، أو القسمة، أو القرعة ؟ فيه ثلاثة أقوال معروفة، ولا يجئ هنا الوقف للاضرار بالطفل ولا القسمة، فلا مجال لها في النسب، ولا تجئ القرعة أيضا على الاصح وقول الاكثرين، لانها لا تدخل النسب، وأثبتها الشيخ أبو حامد. ولو اختص أحدهما باليد، لم ترجح بينته بها. وفي الافصاح للمسعودي، وأمالي أبي الفرج الزاز: أنه لو أقام أحدهما بينة بأنه في يده من سنة، والثاني بينة أنه في يده من شهر، وتنازعا في نسبه، فصاحب السنة مقدم، لكن هذا كلام غير مهذب، فإن ثبوت اليد لا يقتضي ثبوت النسب. وإن فرض تعرض البينتين لنفس النسب، فلا مجال للتقدم والتأخر فيه. وإن شهدتا على الاستلحاق، فيبنى على أن الاستلحاق من شخص هل يمنع غيره من الاستلحاق بعد ؟ وقد سبق بيانه. فرع ادعاه امرأتان، وأقامتا بينتين، قال الشافعي رضي الله عنه: أريته القائف معهما، فبأيتهما ألحقه لحقها ولحق زوجها. فمن الاصحاب من قال: هذا تفريع على قول الاستعمال، وترجيح بقول القائف، كما يرجح في الاملاك بالقرعة، وهذا يوافق ما سبق عن الشيخ أبي حامد. وعلى هذا، يلحق الزوج قطعا، لان الحكم بالبينة. ومنهم من قال: هذا جواب على قول التساقط، وكأنه لا بينة، فيرجع إلى القائف. وعلى هذا، ففي لحوقه بالزوج الخلا ف السابق.

(4/507)


فرع ألحقه القائف بأحدهما، ثم بالآخر، لم ينقل إليه، إذا الاجتهاد ينقض بالاجتهاد. فرع وصف أحد المتداعيين أثر جراحة أو نحوه أو بظهره أو بعض أعضائه الباطنة، وأصاب، لا يقدم.
فصل تنازعا في الالتقاط وولاية الحفظ والتعهد، فإن تنازعا عند الاخذ أو قبله، فقد سبق بيانه. وإن قال كل واحد: أنا الملتقط فلي حفظه، فإن اختص بيد، وقال الآخر: أخذه مني، فالقول قول صاحب اليد مع يمينه. فإن أقاما بينتين، قدمت بينة صاحب اليد. وإن لم يكن في يد واحد منهما، فهو كما لو وجداه معا وتشاحا في حفظه، فيجعله الحاكم عند من يراه منهما أو من غيرهما. وإن كان في يدهما، فإن حلفا أو نكلا، فحكمه كما سكرنا إذا ازدحما على الاخذ معا وهما متساويا الحال. وإن حلف أحدهما فقط، خص به. ولو أقام كل واحد بينة وهو في يدهما، أو لا في يد واحد منهما، فإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين بتاريخ واحد، أو إحداهما مؤرخة والاخرى مطلقة، فهما متعارضتان. فإن قلنا بالتساقط، فكأنه لا بينة. وإن قلنا بالاستعمال، فلا يجئ الوقف ولا القسمة، وتجئ القرعة، فيسلم لمن خرجت قرعته. وإن قيدتا بتاريخين مختلفين، قدم السابق، بخلاف المال، فإنه لا يقدم فيه بسبق التاريخ على الاظهر، لان الاموال تنتقل، والملتقط لا ينتزع منه ما دامت الاهلية. فإذا ثبت السبق، لزم استمراره. هكذا فرق الاصحاب، قال أبو الفرج الزاز: هذا إذا قلنا: من التقط اللقيط ثم نبذه لا يسقط حقه. فإن أسقطناه، فهو على القولين في الاموال، لانه ربما نبذه الاول فالتقطه غيره، وهذا حسن. ويتفرع على تقديم البينة المصرحة بالسبق، ما إذا كان اللقيط في يد أحدهما وأقام من في يده البينة، وأقام الآخر بينة أنه كان في يده وانتزعه منه صاحب اليد، فتقدم بينة مدعي الانتزاع، لاثباتها السبق.
الحكم الرابع : الحرية والرق، وللقيط في ذلك أربعة أحوال.

(4/508)


الاول: أن لا يقر على نفسه بالرق، ولا يدعي رقه أحد، فيحكم بحريته، لان ظاهر حاله الحرية، ولان غالب الناس أحرار، هذا هو المذهب، وقد سبق أن من الاصحاب من يتوقف في إسلامه. قال الامام: وذلك التردد يجري هنا وأولى، لقوة الاسلام واقتضائه الاستتباع للوالد والسابي، بخلاف الحرية. ثم ذكر الامام تفصيلا متوسطا فقال: يجزم بالحرية ما لم ينته الامر إلى إلزام الغير شيئا، فإن انتهى، ترددنا إن لم يعتر ف الملتزم بحريته، فنحكم له بالملك فيما نصادفه في يده جزما. وإذا أتلفه متلف، أخذنا منه الضمان وصرفناه إليه، لان المال المعصوم مضمون على المتلف، فليس التضمين بالحرية، وميراثه لبيت المال قطعا، وأرش جنايته الخطأ في بيت المال قطعا، قال الامام: ويحتمل أن يخرج على التردد المذكور، لان مال بيت المال لا يبذل إلا عن تحقق. ولو قتل اللقيط، فقد ذكرنا في وجوب القصاص خلافا، وينضم إليه التردد في الحرية، فمن لا يجزم القول باسلامه وحريته، لا يوجب القصاص على الحر المسلم بقتله، ويوجبه على الرقيق الكافر. ومن يجزم بهما، يخرج وجوب القصاص بكل حال على قولين - بناء على أنه ليس له وارث معين -، الاظهر: وجوبه. وإذا قتل خطأ، فالواجب الدية على الصحيح، أخذا بظاهر الحديث، وأقل الامرين من الدية والقيمة في الثاني، بناء على أن الحرية غير متيقنة. قال الامام: وقياس هذا أن نوجب الاقل من قيمته عبدا، ودية مجوسي، لامكان الحمل على التمجس، وقد يرتب القصاص على الدية فيقال: إن لم نوجب الدية، فالقصاص أولى، وإلا، فوجهان. الحال الثاني: أن يدعي شخص رقه ولا بينة. ومن ادعى رق صغير لا تتيقن حريته، سمعت دعواه، لامكانها. فإن لم يكن في يده، لم يقبل قوله إلا ببينة، لان الظاهر الحرية، فلا تترك إلا بحجة، بخلاف النسب، فإن قبوله

(4/509)


مصلحة للصبي وثبوت حق له. وإن كان في يده وقد عرفنا استنادها إلى التقاطه، فقولان. أحدهما: يحكم له بالرق كيد غير الملتقط، وكما لو التقط مالا - بإدعاه ولا منازع، يقبل قوله ويجوز شراؤه منه. وأظهرهما: لا يقبل إلا ببينة، لان الاصل الحرية، ويخالف المال، فإنه مملوك وليس في دعواه تغيير صفة له، واللقيط حر ظاهرا، وفي دعواه تغيير صفة. وإن لم يعرف استنادها إلى الالتقاط، حكم لصاحبها بالرق الذي يدعيه على الصحيح الذي قطع به الجمهور، لان الظاهر ممن في يده يتصرف فيه تصرف المالكين، ولا معارض له، ولا سبب يحال عليه أنه ملكه، وسواء كان الصغير مميزا أو غيره مقرا أو منكرا على الاصح. والثاني: إن كان مميزا منكرا، احتاج المدعي إلى البينة. فعلى الاصح: يحلف المدعي، واليمين واجبة على الاصح المنصوص. وقيل: مستحبة. ثم إذا بلغ الصبي وأقر بالرق لغير صاحب اليد، لم يقبل. وإن قال: أنا حر، لم يقبل أيضا على الاصح، إلا أن يقيم بينة بالحرية، ولكن له تحليف السيد، قاله البغوي. والثاني: يقبل، قاله أبو علي الثقفي. فرع رأى صغيرا في يد إنسان يأمره وينهاه ويستخدمه، هل له أن يشهد له بالملك ؟ قال أبو علي الطبري: فيه وجهان. وقال غيره: إن سمعه يقول: هو عبدي، أو سمع الناس يقولون: إنه عبده، شهد له بالملك، وإلا، فلا. قلت: هذا أصح. والله أعلم فرع صغيرة في يد رجل يدعي نكاحها، فبلغت وأنكرت، يقبل قولها،

(4/510)


وعلى المدعي البينة. وهل يحكم في صغرها بالنكاح ؟ قال ابن الحداد: نعم كالرق. والاصح: المنع. وفرق الاصحاب، بأن اليد في الجملة دالة على الملك، ويجوز أن يولد وهو مملوك والنكاح طارئ، فيحتاج إلى البينة. الحال الثالث: أن يدعي رقه مدع ويقيم عليه بينة حيث يحتاج مدعي الرق إلى بينة كما فصلناه. وهل يكفي إقامة البينة على الرق أو الملك مطلقا ؟ قولان. أحدهما: نعم كما لو شهد بملك دار أو ثوب وغيرهما، وهذا اختيار المزني، وهو نصه في الدعاوى وفي القديم. والثاني: لا، لاحتمال اعتماد الشاهد ظاهر اليد، ويكون يد التقاط. وإذا احتمل ذلك مع أن اللقيط محكوم بحريته بظاهر الدار، لم يزل ذلك إلا بيقين، وأمر الرق خطر، وهذا نصه (هنا)، وهو الاصح عند الامام والبغوي والروياني وآخرين، ورجح ابن كج وأبو الفرج الزاز الاول، ويؤيده أن من الاصحاب من قطع به، وحمل نصه هنا على الاحتياط، ولان البينة بمطلق الملك ليست بأقل من دعوى غير الملتقط رق الصغير في يده. قلت: كل من الترجيحين ظاهر، وقد رجح الرافعي في المحرر الثاني. والله أعلم ويجري القولان، سواء كان المدعي هو الملتقط أو غيره، هكذا ذكره الجمهور. وذكر الامام كلاما يتخرج منه ومما ذكره غيره قول: أن البينة المطلقة تكفي في غير الملتقط، ولا تكفي فيه. والمذه‍ ب: أنه لا فرق. وإذا قلنا: لم يكتف بالبينة المطلقة، شرطنا تعرض الشهود لسبب الملك من الارث أو الثراء أو الالتهاب ونحوها. ومن الاسباب أن يشهدوا أن أمته ولدته مملوكا له. فإن اقتصروا على أن أمته ولدته، أو أنه ولد أمته، فطريقان. قال الجمهور: قولان. أظهرهما: يكفي. والثاني: لا. وقيل: يكفي قطعا، وهو نصه هنا. وإن شهدوا أنه ملكه ولدته مملوكته قال البغوي: يكفي قطعا، وهو نصه هنا. وإن شهدوا أنه ملكه ولدته مملوكته، قال البغوي: يكفي قطعا، وإن شهدوا بأن أمته ولدته في ملكه، قال الاصحاب: يكفي قطعا. وقال الامام: لا يكتفى به تفريعا على وجوب التعرض

(4/511)


لسبب الملك، فقد تلد في ملكه حرا بالشبهة وفي نكاح الغرور، وقد تلد مملوكا لغيره بأن يوصي بحملها وتكون الرقبة للوارث، وهذا حق. ويشبه أن لا يكون فيه خلاف، ويكون قولهم: في ملكه، مصروفا إلى المولود - كقولك: ولدته في مشيمة - لا إلى الولادة، ولا إلى الوالدة، وحينئذ يكون قولهم: ولدته مملوكا له، ويكفي المدعي في دعواه قوله: هو ملكي، وإنما يشترط ذكر السبب إن شرطناه في صيغة الشهود. فرع تقبل هذه الشهادة من رجل وامرأتين على القولين، لان الغرض إثبات الملك. وإذا اكتفينا بالشهادة على أنه ولدته أمته، قبل من أربع نسوة أيضا، لانها شهادة على الولادة، ثم يثبت الملك في ضمنها كثبوت النسب في ضمن الشهادة على الولادة. ولو شهدن أنه ملكه ولدته أمته، قال القاضي حسين: ثبت الملك والولادة، وذكر الملك لا يمنع ثبوت الولادة، ثم يثبت الملك ضمنا لا بتصريحهن. فرع لو شهدت البينة لمدعي الرق باليد، قال في المهذب: إن كان المدعي الملتقط، لم يحكم له. وإن كان غيره، فقولان. والاصح ما ذكره صاحب الشامل وغيره: أن المدعي إذا أقام البينة أنه كان في يده قبل التقاط الملتقط، قبلت وثبتت يده، ثم يصدق في دعوى الرق، لما سبق أن صاحب اليد على الصغير إذا لم يعرف أن يده عن التقاط، يصدق في دعوى الرق، وبمثله قطع البغوي فيما

(4/512)


إذا أقام الملتقط بينة أنه كان في يده، قبل إن التقطه، لكن نقل ابن كج في هذه الصورة عن النص، أنه لا يرق حتى يقيم البينة على سبب الملك. الحال الرابع أن يقر على نفسه بالرق وهو بالغ عاقل، فينظر، إن كذبه المقر له، لم يثبت الرق. فلو عاد بعد ذلك فصدقه، لم يلتفت إليه، لانه لما كذبه ثبتت حريته بالاصل، فلا يعود رقيقا. وإن صدقه، نظر، إن لم يسبق الاقرار ما يناقضه، قبل على المشهور كسائر الاقارير. وفي قول حكاه صاحب التقريب: لا يقبل، لانه محكوم بحريته بالدار، فلا ينقض، كالمحكوم باسلامه بالدار، لو أفصح بالكفر، لا ينقض ما حكمنا به في قول، بل يجعل مرتدا. وإن سبقه ما يناقضه، ففيه صور. إحداها: إذا أقر بالحرية بعد البلوغ، ثم أقر بالرق، لا يقبل على المذهب، وبه قطع الاصحاب. ونقل الامام وجهين، ثانيهما القبول. الثانية: إذا أقر بالرق لزيد، فكذبه، ثم أقر لعمرو، لم يقبل على المذهب والمنصوص والذي قطع به الجمهور، بل يكون حرا، وعن ابن سريج قبوله. الثالثة: إذا وجدت منه تصرفات يقتضي نفوذها الحرية، كبيع ونكاح وغيرهما، ثم قامت بينة برقه، نقضت تصرفاته المقتضية للحرية، وجعلت صادرة عن عبد لم يأذن له سيده، ويسترد ما قبضه من زكاة أو ميراث وما أنفق عليه من بيت المال، وتباع رقبته فيها. فلو لم تقم بينة، لكن أقر بالرق، فإن قلنا بالقول الذي حكاه صححب التقريب فاقراره لاغ. لكن لو كان نكح، فاقراره اعتراف بتحريمها، فيؤاخذ به. وإن قلنا بالمشهور، ففيه طرق، حاصلها أنه تثبت أحكام الارقاء في المستقبل على المذهب. وقال ابن سلمة: قولان. ثانيهما: أنه يقى على أحكام الحرية مطلقا. وقيل: يبقى فيما يضر بغيره، وكلاهما شاذ ضعيف. وأما الماضي، فيقبل إقراره فيما يضر به من التصرفات السابقة قطعا، ولا يقبل فيما يضر بغيره على الاظهر. ويتفرع على القولين فروع. أحدها: إذا نكح قبل الاقرار، نظر، أذكر هو، أم أنثى، فإن كان أنثى فزوجها الحاكم على [ الحرية ثم أقرت بالرق. فإن قبلنا الاقرار فيما يضر غيره، فالنكاح فاسد، ولا شئ على الزوج إن لم يدخل بها، وإن دخل، فعليه مهر المثل

(4/513)


للمقر له. فإن كان سلم المهر إليها، استرده إن كان باقيا، وإلا، رجع عليها بعد العتق، والاولاد منها أحرار، لظنه الحرية، وعلى الزوج قيمتهم للمقر له، ويرجع عليها بالقيمة إن كانت هي الغارة. وفي الرجوع بالمهر قولان معروفان. وفي العدة وجهان. أصحهما: يلزمها قرءان، لان عدة الامة بعد ارتفاع النكاح الصحيح قرءان، ونكاح الشبهة في المحرمات كالنكاح الصحيح، وبهذا قطع الشيخ أبو حامد وصاحبا المهذب والشامل. والثاني: لا عدة عليها، إذ لا نكاح، ولكن تستبرئ بقرء بسبب الوطئ. قال الامام: ويجب طرد هذا الخلاف في كل نكاح شبهة على أمة. وإن قلنا: لا يقبل الاقرار فيما يضر غيره، فالكلام في أمور. أحدها: لا يحكم بانفساخ نكاحها، بل يبقى كما كان. قال الامام: سواء فرقنا بين الماضي والمستقبل، أم لا، ويصير النكاح كالمستوفى المقبوض، واستدرك ابن كج فقال: إن كان الزوج ممن لا يحل له نكاح الاماء، انفسخ نكاحه، لان الاولاد الذين يلدهم في المستقبل أرقاء كما سنذكره إن شاء الله تعالى، فليس له الثبات عليه، وهذا حسن، لكن صرح ابن الصباغ بخلافه. قلت: الاصح: أنه لا ينفسخ كما قال ابن الصباغ، كالحر إذا وجد الطول بعد نكاح الامة. والله أعلم ثم أطلق الاصحاب أن للزو خيار فسخ النكاح، ونص عليه في المختصر. قال الشيخ أبو علي: هذا إذا نكحها على أنها حرة، فإن توهم الحرية ولم يجر شرطها، ففيه خلاف نذكره في النكاح إن شاء الله تعالى. الثاني: في المهر، ومتى ثبت للزوج الخيار، ففسخ قبل الدخول، فلا شئ عليه، وإن كان بعده، لزمه أقل الامرين من المسمى ومهر المثل. وإن أجاز، لزمه المسمى، قاله البغوي. فإن طلقها بعد الاجازة وقبل الدخول، لزمه نصف

(4/514)


المسمى، وفيه إشكال، لان المقر له يزعم فساد النكاح، فإذا لم يكن دخول، وجب أن لا يطالب بشئ، وقد يشعر بهذا إطلاق الغزالي. قلت: الراجح: أنه لا يلزمه شئ لما ذكره. والله أعلم فإن كان الزوج أعطاها الصداق، لم يطالب به ثانيا. الثالث: أولادها، فالذين حصلوا قبل الاقرار أحرار، ولا يلزم للزوج قيمتهم. والحادثون بعده أرقاء، لانه وطئها عالما برقها. قال الامام: هذا ظاهر إن قبلنا الاقرار فيما يضر بالغير في المستقبل. فإن لم نقبله، فيحتمل أن يقال بحريتهم لصيانة حق الزوج، كما أدمنا النكاح صيانة له، ويحتمل أن يقال برقهم، وهو ظاهر ما أطلقه الاصحاب، لان العلوق الرابع: تردد الامام في أنا إذا متوهم فلا يجعل مستحقا بالنكاح، بخلاف الوطئ الرابع أدمنا النكاح، تسلم إلى الزوج تسليم الاماء، أم تسليم الحرائر ؟ فالظاهر: الثاني، وإلا، لعظم الضرر على الزوج واختلت مقاصد النكاح، ويؤيده قول الشافعي رضي الله عنه في المختصر: لا أصدقها على فساد النكاح، ولا على ما يجب عليها للزوج. الخامس: في العدة. وأما عدة الطلاق، فإن كان رجعيا وطلقها، ثم أقرت، فعليها ثلاثة أقراء، وله الرجعة في جميعها، لانه ثبت ذلك بالطلاق. وإن أقرت ثم طلقها، فكذلك على الصحيح الذي قطع به الاكثرون، لان النكاح أثبت له الرجعة في ثلاثة أقراء. والثاني: تعتد بقرئين، لانه أمر يتعلق بالمستقبل كارقاق أولادها، وصححه أبو الفرج الزاز، وحكاه عن ابن سريج. وإن كان الطلاق بائنا، فهو كالرجعي على الاصح، لان العدة فيهما لا تختلف. والثاني: تعتد بقرئين مطلقا،

(4/515)


لانها رقيقة وليست للزوج رجعة. وأما عدة الوفاة، فإنها بشهرين وخمسة أيام، عدة الاماء، نص عليه، سواء أقرت قبل موت الزوج أو بعده في العدة، لانها حق الله تعالى، فقبل في قولها انتقاضها، وليس فيها إضرار بأحد. وفي وجه: لا يجب عليها عدة الوفاة أصلا، لانها تزعم بطلان النكاح من أصله وقد مات الزوج، فعلى هذا، إن جرى دخول، لزمها الاستبراء. قال الامام: والقول في أنه بقرء، أم بقرئين، على ما سبق في التفريع على القول. فإن لم يجر دخول، فهل تستبرئ بقرء كما لو اشتريت من امرأة أو مجبوب، أم لا استبراء أصلا لانقطاع حقوق الزوج ؟ فيه احتمالان للامام، وبالثاني قطع الغزالي. هذا كله إذا كان المقر أنثى. فان كان ذكرا فبلغ ونكح ثم أقر بالرق، فإن قبلنا إقراره مطلقا، فهذا نكاح فاسد، فيفرق بينهما، ولا مهر إن لم يقع دخول، وإن وقع، فعليه مهر المثل، كذا قاله الجمهور. وقال في المهذب - وأبداه الامام احتمالا -: أن عليه الاقل من مهر المثل والمسمى. ثم متعلق الواجب ذمته، أم رقبته ؟ قولان أظهرهما: الاول. وإن قبلنا إقراره فيما يضره دون غيره، حكمنا بانفساخ النكاح، ولم نقبل قوله في المهر، فعليه نصف المسمى إن لم يدخل، وجميعه إن دخل، ويؤدي ذلك مما في يده أو من كسبه في الحال أو المستقبل، فإن لم يوجد، ففي ذمته إلى أن يعتق. الفرع الثاني: إذا كانت عليه ديون وقت الاقرار بالرق وفي يده أموال، فإن قبلنا إقراره مطلقا، فالاموال تسلم للمقر له، والديون في ذمته. وإن قبلناه فيما يضره دون غيره، قضينا الديون مما في يده. فإن فضل من المال شئ، فهو للمقر له، وإن بقي من الدين شئ، ففي ذمته إلى أن يعتق. الفرع الثالث: إذا باع أو اشترى بعد البلوغ، ثم أقر بالرق، فإن قبلنا الاقرار مطلقا، فالبيع والشراء باطلان، فإن كان ما باعه باقيا في يد المشتري، أخذه المقر له، وإلا، طالبه بقيمته. والثمن إن أخذه المقر وأتلفه، فهو في ذمته إلى أن يعتق، وإن كان باقيا رده، وما اشتراه إن كان باقيا في يده، رده إلى بائعه، وإلا، استرد الثمن من البائع، وحق البائع يتعلق بذمته، وإن قلنا: لا يقبل فيما يضر غيره، لم نبطلهما، ثم ما باعه إن لم يستوف ثمنه، استوفاه المقر له، وإن كان استوفاه، لم

(4/516)


يطالب المشتري ثانيا، وما اشتراه إن كان وزن ثمنه، فقد تم العقد وسلم المبيع للمقر له. وإن لم يزن، فان كان في يده مال حين أقر بالرق، وزن الثمن منه، وإلا، فهو كافلاس المشتري، فيرجع البائع إلى عين ماله إن كان باقيا، وإلا، فهو في ذمة المقر حتى يعتق. الفرع الرابع: جنى ثم أقر بالرق، فان كانت الجناية عمدا، فعليه القصاص، سواء كان المجني عليه حرا أو عبدا. وإن كانت خطأ، فان كان في يده مال، أخذ ارش منه، كذا قاله البغوي، وهو خلاف قياس القولين، لان أرش الخطأ لا يتعلق بما في يد الجاني حرا كان أو عبدا، وإن لم يكن في يده مال، تعلق الارش برقبته على القولين. وقال القاضي أبو الطيب: إن قلنا: لا يقبل إقراره فيما يضر غيره، فالارش في بيت المال. فلو زاد الارش على قيمة الرقبة، فالزيادة في بيت المال على هذا القول قطعا. الفرع الخامس: جني عليه فقطع طرفه، ثم أقر بالرق، فان كانت الجناية عمدا والجاني عبدا، اقتص منه. وإن كان حرا، فلا قصاص، ويكون كالخطأ. وإن كانت خطأ، فان قبلنا إقراره مطلقا، فعلى الجاني كمال قيمته إن صارت قتلا، وإلا، فما تقتضيه جراحة العبد. وإن قبلناه فيما يضره دون غيره وكانت الجناية قطع يد، فان لم يزد نصف القيمة على نصف الدية، فالواجب نصف القيمة، وإن زاد، فهل يجب نصف الدية، أم نصف القيمة ؟ وجهان. أصحهما: الاول. هذا كله تفريع على تعلق الدية بقتل اللقيط. وفيه وجه سبق أن الواجب الاقل من الدية والقيمة، وذلك الوجه مطرد في الطرف.

(4/517)


فرع لا فرق في جميع ما ذكرناه، بين أن يقر بالرق ابتداء، وبين أن يدع رقه شخص فيصدقه، فلو ادعى رجل رقه، فأنكره، ثم أقر له، ففي قبوله وجهان، لانه بالانكار لزمه أحكام الاحرار. قلت: ينبغي أن يفصل، فان قال: لست بعبد، لم يقبل إقراره بعده، وإن قال: لست بعبد لك، فالاصح القبول، إذ لا يلزم من هذه الصيغة الحرية. والله أعلم فرع ادعى مدع رقه، فأنكر ولا بينة، فإن قبلنا إقراره بالرق، فله تحليفه، وإلا، فلا، إلا إذا جعلنا اليمين مع النكول كالبينة، فله التحليف.
فصل إذا قذف لقيطا صغيرا، عزر، وإن كان بالغا، حد إن اعترف بحريته. فان ادعى رقه، فقال المقذوف: بل أنا حر، فالقول قول المقذوف على الاظهر. وقيل: قطعا. ويجري الطريقان، فيما لو قطع حر طرفه وادعى رقه وقال: بل أنا حر. وقيل: يجب القصاص قطعا، لان الحد يغني عنه التعزير، لاشتراكهما في الزجر. فان لم نوجب القصاص، أوجبنا الدية في اليدين، ونصفها في إحداهما على الاصح. وعلى الثاني: القيمة أو نصفها. ولو قذف اللقيط واعترف بأنه (حر)، حد حد الاحرار. وإن ادعى أنه رقيق، وصدقه المقذوف، حد حد العبيد. وإن كذبه، فأي الحدين يحد ؟ قولان بناء على إقراره، إن قبلناه مطلقا، فحد العبيد، وإن منعناه فيما يضر غيره، فحد الاحرار. وحكى في المعتمد وجها: أنه إن أقر لمعين، قبل إقراره وحد حد العبيد، وإن لم يعين، حد حد الاحرار.
انتهى الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس وأوله: (كتاب الفرائض)

(4/518)