روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الجنايات
وهي القتل والقطع والجرح الذي لا يزهق ولا يبين، وقتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر. قلت: قال البغوي: هو أكبر الكبائر بعد الكفر، وكذا نص عليه الشافعي في كتاب الشهادات من المختصر وتقبل التوبة منه. ولو قتل مسلم، ثم مات قبل التوبة، لا يتحتم دخوله النار، بل هو في خطر المشيئة كسائر أصحاب الكبائر، فإن

(7/3)


دخلها، لم يخلد فيها خلافا للمعتزلة والخوارج. والله أعلم. ويتعلق بالقتل الذي هو ليس مباحا سوى عذاب الآخرة مؤاخذات في الدنيا: القصاص والدية والكفارة، لكن لا يجتمع القصاص والدية، لا وجوبا ولا استيفاء، وأما الكفارة فأعم منهما، فتجب مع كل واحد منهما، وقد تنفرد عنهما. قلت: ويتعلق به أيضا التعزير في صور منها: إذا قتل من نساء أهل الحرب أو صبيانهم. والله أعلم. ثم القصاص لا يختص بالنفس، بل يجري في غير النفس من الاطراف وغيرها، والكلام فيه قسمان، أحدهما: في موجب القصاص، والثاني: في حكمه، استيفاء وعفوا، والاول نوعان، قصاص نفس وقصاص طرف وجراحات، فنذكر موجب القصاص وواجبه في النفس ثم في الطرف، أما موجب القصاص في النفس فله ثلاثة أركان: القتل والقتيل والقاتل. الركن الاول: القتل وهو كل فعل عمد محض مزهق للروح عدوان من حيث كونه مزهقا، فهذا هو القتل الذي يتعلق به القصاص، وقولنا: كل فعل، ليشمل الجرح وغيره، وقولنا: عدوان، احتراز من القتل الجائز، وقولنا: من حيث كونه مزهقا، احتراز عما إذا استحق حز رقبته قصاصا فقده نصفين، فإنه لا يتعلق به قصاص، وإن كان عدوانا، لانه ليس بعدوان من حيث كونه مزهقا، وإنما هو عدوان من حيث إنه عدل عن الطريق المستحق

(7/4)


فيحتاج إلى بيان العمدية والمزهق، وتعلق القصاص بالمباشرة والسبب، وحكم اجتماع السبب والمباشرة، وبيان حكم اجتماع المباشرتين، وبيان اجتماع السببين، فأما اجتماع السببين، فمؤخر إلى كتاب الديات، وأما الاربعة الباقية، فنعقد فيها أطرافا:
الطرف الأول : في بيان العمدية، وتمييز العمد من الخطأ وشبه العمد، فإذا صدر منه فعل قتل غيره، نظر، إن لم يقصد أصل الفعل بأن زلق، فسقط على غيره، فمات به، أو تولد الهلاك من اضطراب يد المرتعش، أو لم يقصد الشخص وإن قصد الفعل، بأن رمى صيدا، فأصاب رجلا، أو قصد رجلا، فأصاب غيره، فهذا خطأ محض لا يتعلق به قصاص، وإن قصد الفعل والشخص معا، فهذا قد يكون عمدا محضا، وقد يكون شبه عمد، وفي التمييز بينهما عبارات للاصحاب يجمعها أربعة أوجه، أحدها: أنه إذا وجد القصدان وعلمنا حصول الموت بفعله، فهو عمد محض، سواء قصد الاهلاك، أم لا، وسواء كان الفعل مهلكا غالبا، أم نادرا، كقطع الانملة، وإن شككنا في حصول الموت به، فهو شبه عمد، والثاني: إن ضربه بجارح، فالحكم على ما ذكرنا، وإن ضربه بمثقل، اعتبر مع ذلك في كونه عمدا أن يكون مهلكا غالبا، فإن لم يكن مهلكا غالبا، فهو شبه عمد، واعترض الغزالي على الاول، بأنه لو ضرب كوعه بعصا، فتورم الموضع، ودام الالم حتى مات، فقد علمنا حصول الموت به ولا قصاص فيه، بل تجب الدية، وعلى الثاني بأن العمدية أمر حسي لا يختلف بالجارح والمثقل، وكما يؤثر الجارح في الظاهر بالشق يؤثر المثقل في الباطن بالترضيض، وفي كلام الامام نحو هذا، والوجه الثالث واختاره الغزالي: أن لافضاء الفعل إلى الهلاك ثلاث مراتب: غالب وكثير ونادر، والكثير: هو المتوسط بين الغالب والنادر، ومثاله، الصحة والمرض والجذام، فالصحة هي الغالبة في الناس، والمرض كثير ليس بغالب، والجذام نادر، فإن ضربه بما يقتل غالبا، جارحا كان أو مثقلا، فعمد، وإن كان يقتل كثيرا فهو عمد إن كان جارحا كالسكين الصغير، وإن كان مثقلا، كالسوط والعصا، فشبه عمد، وإن كان يقتل نادرا، فلا قصاص، مثقلا كان أو جارحا، كغرز إبرة لا يعقبه ألم ولا ورم، والفرق بين الجارح والمثقل على هذا الوجه أن الجراحة لها أثر في الباطن قد يخفى، ولان الجرح وهو طريق الاهلاك غالبا بخلاف المثقل، والوجه الرابع وهو

(7/5)


الذي اقتصر عليه الجمهور، أنه إن ضربه بما يقتل غالبا، فعمد محض، وإن لم يقتل غالبا، فشبه عمد، فهذه عبارات الاصحاب في التمييز، والقصاص مختص بالعمد المحض دون الخطأ وشبه العمد. فرع جرحه بمحدد من حديد أو خشب أو حجر أو قصب أو زجاج أو نحاس أو غيرها، فمات في الحال أو بعد مدة بسراية تلك الجراحة وجب القصاص. والطعن بالسنان، وغرز المسلة كالضرب بالسيف، وهذا في الجراحات التي لها تأثير، فأما إبانة فلقة من اللحم خفيفة فهو كغرز الابرة كذا ذكره الامام، وإذا غرز إبرة فمات، نظر، إن غرزها في مقتل، كالدماغ والعين وأصل الاذن والحلق وثغرة النحر والاخدع، وهو عرق العنق، والخاصرة والاحليل والانثيين والمثانة والعجان، وهو ما بين الخصية والدبر، وجب القصاص، وإن غرزها في غير مقتل، نظر، إن ظهر أثر الغرز بأن تورم الموضع، للامعان في الغرز، والتوغل في اللحم، وبقي متألما إلى أن مات، وجب القصاص على المذهب، وحكى ابن كج وابن الصباغ فيه

(7/6)


وجهين وإن لم يظهر أثر، ومات في الحال، فثلاثة أوجه، أصحها: لا يجب القصاص، ولكنه شبه عمد، فيجب الدية، والثاني: يجب القصاص، والثالث: لا يجب قصاص ولا دية، وفي الرقم للعبادي أن الغرز في بدن الصغير والشيخ الهم ونضو الخلق، يوجب القصاص بكل حال، ولو غرز إبرة في جلدة العقب ونحوها، ولم يتألم به، فمات، فلا قصاص ولا دية، لعلمنا بأنه لم يمت به، والموت عقبه موافقة قدر، فهو كما لو ضربه بقلم، أو ألقى عليه خرقة، فمات في الحال. في فرع لو ضربه بمثقل كبير يقتل غالبا كحجر، أو دبوس كبيرين، أو أحرقه، أو صلبه، أو هدم عليه حائطا، أو سقفا، أو أوطأه دابة، أو دفنه حيا، أو عصر خصيته عصرا شديدا، فمات، وجب القصاص، وإن ضربه بسوط، أو عصا خفيفة، أو رماه بحجر صغير، نظر، إن والى به الضرب حتى مات، أو اشتد الالم، وبقي متألما حتى مات، وجب القصاص، وإن لم يوال واقتصر على سوط أو سوطين، فإن كان في مقتل، أو في شدة الحر أو البرد المعينين على الهلاك، أو كان المضروب صغيرا أو ضعيفا بأصل الخلقة أو بعارض، وجب القصاص، لانه مهلك غالبا، وإن لم يكن شئ من ذلك، فهو شبه عمد، وإن خنقه، أو وضع على فمه يده، أو مخدة ونحوها حتى مات بانقطاع النفس، وجب القصاص، وإن خلاه وهو حي، وجب القصاص أيضا إن انتهى إلى حركة المذبوح، أو ضعف وبقي متألما حتى مات، وإن زال الضعف والالم، ثم مات، فقد انقطع أثر ذلك الفعل،

(7/7)


فإن كانت مدة الامساك على الفم قصيرة لا يموت مثله في مثلها غالبا، فهو شبه عمد. فرع لو ضربه اليوم ضربة، وغدا ضربة، وهكذا فرق الضربات حتى مات، فوجهان حكاهما ابن كج، لان الغالب السلامة عند تفريق الضربات، وقال المسعودي: لو ضربه ضربة وقصد أن لا يزيد، فشتمه، فضربه ثانية، ثم شتمه، فضربه ثالثة حتى قتله، فلا قصاص لعدم الموالاة، وينبغي أن لا ينظر إلى صورة الموالاة ولا تقدر مدة التفريق، بل يعتبر أثر الضربة السابقة والآلام الحاصلة بها، فإن بقيت ثم ضربه أخرى، فهو كما لو والى. فرع الضرب بجمع الكف، كالضرب بالعصا الخفيفة. فرع لو سقاه دواء أو سما لا يقتل غالبا، لكنه يقتل كثيرا، فهو كغرز الابرة في غير مقتل، لان في الباطن أغشية رقيقة تنقطع به، وفي إلحاقه بالمثقل احتمال. فرع حبسه في بيت فمات جوعا، أو عطشا، نظر، إن كان عنده طعام وشراب فلم يتناوله خوفا أو حزنا، أو أمكنه طلبه ولو بالسؤال، فلم يفعل، لم يجب على حابسه قصاص ولا ضمان، لان المحبوس قتل نفسه، وإن منعه الطعام والشراب، ومنعه الطلب حتى مات، نظر، إن مضت مدة يموت مثله فيها غالبا بالجوع أو العطش، وجب القصاص، وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة وضعفا، والزمان حرا وبردا، وإن لم تمض هذه المدة، ومات، فإن لم يكن به جوع أو عطش سابق، فهو شبه عمد، وإن كان به بعض جوع أو عطش، ففي وجوب القصاص ثلاثة أقوال، أظهرها: أنه إن علم الحابس جوعه السابق، لزمه القصاص، وإلا فلا، والثاني: يجب القصاص في الحالين، والثالث: عكسه، وشبهوا الجاهل بمن دفع رجلا دفعا خفيفا، فسقط على سكين وراءه، والدافع جاهل بها، لا قصاص عليه، فإن أوجبنا القصاص، وجبت دية عمد بكمالها إن كان عالما، ودية شبه عمد إن كان جاهلا، وإن لم نوجب القصاص، فقولان،

(7/8)


أحدهما: تجب الدية بكمالها، وإنما سقط القصاص للشبهة، وأظهرهما وبه قطع الاكثرون: تجب نصف دية العمد، أو شبه العمد. ولو منعه الشراب دون الطعام، فلم يأكل المحبوس خوفا من العطش، فمات، فلا قصاص قطعا، ولا ضمان أيضا على الاصح، وبه قطع البغوي، لانه المهلك نفسه، وقال القفال: يجب، ولو حبسه، وراعاه بالطعام والشراب، فمات في الحبس، فإن كان عبدا، ضمنه باليد، وإن كان حرا، فلا ضمان أصلا، سواء مات حتف أنفه، أو بانهدام سقف، أو جدار عليه، أو بلسع حية ونحوها. ولو حبسه وعراه حتى مات بالبرد، فهو كما لو حبسه، ومنعه الطعام والشراب، ذكره القاضي حسين. ولو أخذ طعامه، أو شرابه، أو ثيابه في مفازة، فمات جوعا، أو عطشا، أو بردا، فلا ضمان، لانه لم يحدث فيه صنعا. فرع لو سحر رجلا، فمات، سألناه، فإن قال: قتلته بسحري، وسحري يقتل غالبا، لزمه القصاص، وإن قال: قد يقتل، والغالب أنه لا يقتل، فهو إقرار بشبهة العمد، وإن قال: قصدت غيره، فتأثر به لموافقة الاسم الاسم، فهو إقرار بالخطإ، وفي الحالين دية شبه العمد، والخطأ يكون في ماله، ولا يلزم العاقلة إلا أن يصدقوه، وسيعود ذكر السحر إن شاء الله تعالى في كتاب الديات، ثم في كتاب دعوى الدم، ولنا وجه ضعيف مذكور هناك، أن السحر لا حقيقة له، فلا قصاص فيه.
الطرف الثاني : في بيان المزهق.
فالفعل الذي له مدخل في الزهوق، إما أن لا يؤثر في حصول الزهوق، ولا في حصول ما يؤثر في الزهوق، وإما أن يؤثر في الزهوق ويحصله، وإما أن يؤثر في حصول ما يؤثر في الزهوق، فأما الاول، فكحفر البئر مع التردي أو التردية، وكالامساك مع القتل، وأما الثاني فكالقد، وحز الرقبة، والجراحات السارية، وأما الثالث، فكالاكراه المؤثر في القد، فالاول شرط، والثاني علة، والثالث سبب، ولا يتعلق القصاص بالشرط، ويتعلق بالعلة، وكذا بالسبب على تفصيل وخلاف سنراه إن شاء الله تعالى. ثم السبب ثلاثة أضرب:

(7/9)


الاول: ما يولد المباشرة توليدا حسيا، وهو الاكراه، فإذا أكرهه على قتل بغير حق، وجب القصاص على الآمر على الصحيح المنصوص، وبه قطع الجمهور، وعن ابن سريج أنه لا قصاص، لانه متسبب، والمأمور مباشر آثم بفعله، والمباشرة مقدمة، وقد سبق بيان حقيقة الاكراه في كتاب الطلاق، والذي مال إليه المعتبرون هنا ورجحوه، أن الاكراه على القتل لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل، أو ما يخاف منه التلف، كالقطع والجرح والضرب الشديد بخلاف الطلاق، وحكم الاكراه الصادر من الامام أو نائبه أو المتغلب سواء فيما ذكرناه. الضرب الثاني: ما يولدها شرعا وهو الشهادة، فإذا شهدوا على رجل بما يوجب قتله قصاصا، أو بردة، أو زنى وهو محصن، فحكم القاضي بشهادتهم وقتله بمقتضاها، ثم رجعوا وقالوا: تعمدنا وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا، لزمهم القصاص، ولو شهدوا بما يوجب القطع قصاصا، أو في سرقة، فقطع، ثم رجعوا وقالوا: تعمدنا، لزمهم القطع، وإن سرى فعليهم القصاص في النفس، وإن رجع الشهود وقالوا: لم نعلم أنه يقتل بقولنا، أو رجع المزكي أو القاضي أو الوالي وحده أو مع الشهود، فسيأتي بيان كل ذلك في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. وإنما يجب القصاص على الشهود بالرجوع واعترافهم بالتعمد، لا بكذبهم، حتى لو تيقنا كذبهم بأن شاهدنا المشهود بقتله حيا، فلا قصاص عليهم لاحتمال أنهم لم

(7/10)


يتعمدوا، ولا يلزمهم القصاص بالرجوع إلا إذا أخرجت شهادتهم مباشرة الولي عن كونها عدوانا، أما إذا اعترف الولي بكونه عالما بكذبهم، فلا قصاص عليهم، وعلى الولي القصاص، رجعوا أم لم يرجعوا. الضرب الثالث: ما يولدها توليدا عرفيا، كتقديم الطعام المسموم، فإذا أوجروه سما صرفا، أو مخلوطا وهو مما يقتل غالبا، سواء كان موحيا أو غير موح، فمات، لزمه القصاص، وإن كان لا يقتل غالبا وقد يقتل فهو شبه عمد، فلا قصاص على المشهور، وحكى ابن كج قولا: إنه يجب القصاص، لان للسم نكاية في الباطن كالجرح، فعلى المشهور لو كان السم لا يقتل غالبا، لكن أوجره ضعيفا بمرض أو غيره ومثله يقتل مثله غالبا، وجب القصاص، ولو قال المؤجر: كان مما لا يقتل غالبا، ونازعه الولي، فالقول قول المؤجر بيمينه، فإن ساعدته بينة، فلا يمين عليه، وإن أقام الولي بينة على ما يقوله، وجب القصاص، ولو اتفقا على أنه كان من هذا السم الحاضر، وشهد عدلان أنه يقتل غالبا، وجب القصاص، ولو قال: لم أعلم أنه سم، أو لم أعلم أنه يقتل غالبا، ونازعه الولي، فهل يصدق المؤجر ؟ قولان، قال الروياني: فيما إذا قال: لم أعلم كونه قاتلا، أظهرهما: لا يصدق، فيجب القصاص، ولو لم يوجره السم القاتل، لكن أكرهه على شربه، فشربه، قال الداركي وغيره: في وجوب القصاص قولان، أظهرهما: الوجوب، والوجه أن يكون هذا كإكراهه على قتل نفسه، وسيأتي إن شاء الله تعالى. فرع لو ناوله الطعام المسموم وقال: كله، أو قدمه إليه وضيفه به، فأكله، ومات به، فإن كان صبيا أو مجنونا، لزمه القصاص، سواء قال لهما: هو

(7/11)


مسموم أم لا، وذكروا مثله في الاعجمي الذي يعتقد أنه لا بد من الطاعة في كل ما يشار عليه به، ولم يفرقوا بين الصبي المميز وغيره، ولا نظروا إلى أن عمد الصبي عمد أم خطأ، وللنظرين محال، وإن كان بالغا عاقلا، فإن علم حال الطعام، فلا شئ على المناول والمقدم، بل الآكل هو المهلك نفسه، وإلا ففي القصاص قولان، وهما جاريان فيما لو غطى رأس بئر في دهليزه، ودعا إلى داره ضيفا، وكان الغالب أنه يمر على ذلك الموضع إذا أتاه، فأتاه وهلك بها، أظهرهما: لا قصاص، وطرد البغوي القولين فيما لو قال: كل، وفيه شئ من السم، لكنه لا يضرك، وفيما إذا جعل السم في جرة ماء على الطريق فشرب منه، ومات، ولتكن الصورة فيما إذا كان على طريق شخص معين، إما مطلقا، وإما في ذلك الوقت، وإلا فلا تتحقق العمدية، فإذا قلنا: لا قصاص، وجبت الدية على الاظهر، فإن هذا أقوى من حفر البئر، وفي قول: لا تجب تغليبا للمباشرة، ولو دس السم في طعام رجل، فأكله صاحبه جاهلا بالحال، ومات، فطريقان، أصحهما: أنه على القولين، إذا كان الغالب أنه يأكل منه، والثاني: القطع بالمنع، لانه لم يوجد منه تغرير، ولا حمل على الاكل، وإنما وجد منه إتلاف طعامه، فعليه ضمانه، ولو دسه في طعام نفسه فدخل شخص داره بغير إذنه وأكله، فلا ضمان، فإن كان الرجل ممن يدخل داره، ويأكل انبساطا، فهل يجري القولان في القصاص، أم يقطع بنفيه ؟ طريقان.

(7/12)


فصل فيما إذا جرى سبب وقدر المقصود على دفعه وفيه مسائل: إحداها: جرحه جراحة مهلكة، فلم يعالجها المجروح حتى مات، وجب القصاص على الجارح، لان مجرد الجراحة مهلك، بخلاف ما لو حبسه والطعام عنده فلم يأكل حتى مات، لان الحبس بمجرده ليس مهلكا. الثانية: غرقه في ماء، فإن أمسكه فيه حتى مات، أو تركه وفيه حياة، ولكن تألم به، وبقي متألما حتى مات، فعليه القصاص، وإن ألقاه في الماء، فمات به، نظر إن كان الماء بحيث لا يتوقع الخلاص منه كلجة البحر التي لا تنفع فيها السباحة، وجب القصاص، سواء كان الملقى يحسن السباحة أم لا، وإن كان يتوقع الخلاص منه، فإن كان قليلا لا يعد مثله مغرقا، بأن كان راكدا في موضع منبسط، فمكث الملقى فيه مضطجعا، أو مستلقيا حتى هلك، فلا قصاص ولا دية، فإنه المهلك نفسه، ومثله لو فصده فلم يعصب نفسه حتى مات، لان الدفع موثوق به، لكن لو كتفه وألقاه على هيئة لا يمكنه الخلاص، فعليه القصاص، وإن كان يعد مغرقا كالانهار الكبار التي لا يخلص منها إلا بالسباحة، فإن كان الملقى مكتوفا، أو صبيا، أو زمنا، أو ضعيفا، أو قويا لا يحسن السباحة، وجب القصاص، وإن كان يحسنها، فمنعه منها عارض موج، أو ريح، فلا قصاص، ولكنه شبه عمد، وإن ترك السباحة بلا عذر، حزنا أو لجاجا، ففي وجوب الدية وجهان، أو قولان، أصحهما: لا تجب، وقيل: لا تجب قطعا، وقيل: عكسه، ولا قصاص على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: يجب إن أوجبنا الدية. المسألة الثالثة: لو ألقاه في نار لا يمكنه الخلاص منها، لعظمها أو كونها في وهدة، أو كونه مكتوفا، أو زمنا، أو صغيرا، فمات فيها، أو خرج منها متأثرا متألما، وبقي متألما إلى أن مات، فعليه القصاص، وإن أمكنه التخلص، فلم يفعل حتى هلك، فلا تجب الدية على الاظهر، ولا قصاص على الصحيح،

(7/13)


ولكن يجب ضمان ما تأثر بالنار بأول الملاقاة قبل تقصيره في الخروج، سواء كان أرش عضو أو حكومة قطعا. فرع قال الملقي: كان يمكنه الخروج مما ألقيته فيه من ماء أو نار، فقصر، وقال الولي: لم يمكنه، فأيهما يصدق بيمينه ؟ وجهان، ويقال: قولان، لتعارض براءة الذمة، مع أن الظاهر أنه لو تمكن لخرج. قلت: الراجح تصديق الولي. والله أعلم. فرع كتفه وطرحه على الساحل، فزاد الماء وهلك به، إن كان في موضع يعلم زيادة الماء فيه، كالمد بالبصرة، وجب القصاص، وإن كان قد يزيد، وقد لا يزيد، فهو شبه عمد، وإن كان بحيث لا يتوقع زيادته، فاتفق سيل نادر، فخطأ محض.
الطرف الثالث : في اجتماع السبب والمباشرة، أو الشرط. أما الشرط والمباشرة إذا اجتمعا، فالقصاص والدية يتعلقان بالمباشرة فقط، فلو حفر بئرا في محل عدوان أو غيره، فردي رجل فيها شخصا، فالضمان على المردي دون الحافر، ولو أمسك رجلا، فقتله آخر، فالضمان على القاتل، ولا شئ على الممسك، إلا أنه يأثم إذا أمسكه للقتل، ويعزر. هذا في الحر، أما لو كان المقتول عبدا، فيطالب الممسك بالضمان باليد والقرار على القاتل، ولو أمسك محرم صيدا، فقتله محرم آخر، فقرار الضمان على القاتل، وتتوجه المطالبة على الممسك، هذا هو المذهب، وفيه خلاف سبق في الحج. ولو قدم صبيا إلى هدف، فأصابه سهم كان أرسله الرامي قبل تقديم الصبي، فقتله، فالرامي كالحافر، والمقدم كالمردي، فعليه القصاص، أما إذا اجتمع السبب والمباشرة فهو ثلاثة أضرب:

(7/14)


أحدها: أن يغلب السبب المباشرة، بأن أخرجها عن كونها عدوانا مع توليده لها، مثل أن شهدوا عليه بما يوجب الحد، فقتله القاضي، أو جلاده، أو بما يوجب القصاص، فقتله الولي أو وكيله، فالقصاص على الشهود، دون القاضي والولي ونائبهما. الضرب الثاني: أن يصير السبب مغلوبا، بأن رماه من شاهق، فتلقاه رجل بسيف، فقده نصفين، أو ضرب رقبته قبل وصوله الارض، فالقصاص على القاد، ولا شئ على الملقي، سواء عرف الحال أم لا، وفي وجه: يجب عليه الضمان بالمال، لا بالقصاص، والصحيح: الاول. ولو ألقاه في ماء مغرق، كلجة بحر، فالتقمه حوت، فعلى الملقي القصاص على الصحيح المنصوص، وخرج الربيع قولا: إنه لا قصاص، لكن تجب دية مغلظة، وقيل: إن التقمه الحوت قبل الوصول إلى الماء، فلا قصاص، كمسألة القاد، وإلا فيجب، والصحيح أنه لا فرق، وفي كلام الشيخ أبي حامد وغيره من العراقيين، ما يشعر بأن القولين في الالتقام قبل وصوله الماء، والقطع بوجوب القصاص إذا كان بعده، وفرق الامام بين مسألة القد والالتقام، بأن القد قتل صدر من فاعل مختار بفعل وروية، فيقطع أثر السبب الاول، والحوت يلتقم بطبعه كالسبع الضاري، فلم يقطع أثر السبب الاول، ولذلك قلنا: لو أمسكه، فقتله آخر، فالقصاص على القاتل دون الممسك، ولو أمسكه وهدفه لوثبة سبع ضار، فافترسه، فالقصاص على الممسك، لان الحيوان الضاري يفعل بطبعه عند التمكن، وكأنه آلة لصاحب السبب الاول نازل منزلة ما لو ألقاه في بئر وكان في سفلها نصل منصوب فمات به، فالقصاص على الملقي، بخلاف ما إذا كان الطارئ فعل صاحب رأي، فإنه يبعد تنزيله منزلة الآلة، وبني على هذا أنه لو كان في سفل البئر حية عادية بطبعها، أو نمر ضار، فقتله، وجب القصاص على المردي، ولو كان هناك مجنون ضار على طبع السباع، فكذلك، وإن لم يكن ضاريا، كان كالعاقل في إسقاط الضمان عن المردي، فلم يجعل الهلاك الحاصل بالسبع الضاري كالتلقي بالسيف، وأطلق البغوي نفي الضمان إذا

(7/15)


افترسه السبع قبل أن يصل إلى الارض، ولا فرق في مسألة القد، بين أن يكون القاد ممن يضمن أو ممن لا يضمن، كالحربي، ولو رفع الحوت رأسه، فألقمه فاه، لزمه القصاص بلا خلاف، ولو ألقاه في ماء غير مغرق، فالتقمه حوت، فلا قصاص قطعا، لانه لم يقصد إهلاكه، ولم يشعر بسبب الهلاك، فأشبه ما لو دفع رجلا دفعا خفيفا، فألقاه، فجرحه بسكين كان هناك لم يعلم به الدافع، فلا قصاص، ولكن تجب في الصورتين دية شبه العمد، كذا ذكره ابن الصباغ والبغوي وغيرهما، وحكاه ابن كج عن الاصحاب، ثم قال: ينبغي أن لا تتعلق به دية كما لا يتعلق به قصاص. الضرب الثالث: أن يعتدل السبب والمباشرة، كالاكراه، فإذا أكره على القتل، وجب القصاص على الآمر، كما سبق، وفي المأمور قولان، أظهرهما: وجوب القصاص أيضا، لانه آثم بالاتفاق بخلاف قتل الصائل، وسواء في جريان القولين كان المكره سلطانا أو متغلبا، وقيل: هما في السلطان، فإن كان متغلبا، وجب القصاص قطعا، فإن أوجبنا القصاص، فآل الامر إلى الدية، فهي عليهما كالشريكين، وللولي أن يقتص من أحدهما، ويأخذ نصف الدية من الآخر، وإن لم نوجب القصاص على المأمور، ففي وجوب نصف الدية، وجهان، أحدهما: لا يجب، تنزيلا له منزلة الآلة، وأصحهما: يجب وهو المنصوص، وبه قطع الاكثرون، فإن أوجبناه، وجبت الكفارة، وحرم الميراث، وهل تكون نصف الدية في ماله أم على عاقلته ؟ فيه تردد للامام. قلت: الارجح أنه في ماله. والله أعلم. وإن قلنا: لا دية، وجبت الكفارة على الاصح، لانه آثم، فإن أوجبنا الكفارة، حرم الارث، وإلا فوجهان، أصحهما: الحرمان.

(7/16)


فرع إذا أوجبنا القصاص على المكره والمكره جميعا، وكان أحدهما مكافئا للمقتول دون الآخر، وجب القصاص على المكافئ دون الآخر، كشريك الاب، فإذا أكره عبد حرا على قتل عبد، أو ذمي مسلما على قتل ذمي، وجب القصاص على الآمر دون المأمور، ولو أكره حر عبدا على قتل عبد، أو مسلم ذميا على قتل ذمي، فالقصاص على المأمور، ولو أكره الاب أجنبيا على قتل الولد، أو الاجنبي الاب، فالقصاص على الاجنبي. فرع إذا أكره بالغ صبيا مراهقا على قتل، فلا قصاص على الصبي، وأما المكره، فيبنى على أن عمد الصبي عمد أم خطأ ؟ فإن قلنا: عمد وهو الاظهر، فعليه القصاص، وإن قلنا: خطأ، فلا، لانه شريك مخطئ، قال الامام: هذا إذا قلنا: يجب القصاص على المكره والمكره، وجعلناهما كالشريكين، فأما إن قلنا: لا قصاص على المكره، ففي وجوب القصاص على المكره مع قولنا عمد الصبي خطأ، وجهان، وأما الدية، فجميعها على المكره إن لم نوجب على المكره شيئا، وإن أوجبنا عليه نصفها، فنصفها على المكره، ونصفها في مال الصبي إن قلنا: عمده عمد، وإن قلنا: خطأ، فعلى عاقلته، ولو أكره مراهق بالغا، فلا قصاص على المراهق، وفي البالغ: القولان، إن قلنا: عمد الصبي عمد، وإن قلنا: خطأ، فلا قصاص قطعا، لانه شريك مخطئ. فرع أكره رجل رجلا على أن يرمي إلى طلل علم الآمر أنه إنسان، وظنه المأمور حجرا أو صيدا، أو على أن يرمي سترة وراءها إنسان، وعلمه الآمر دون المأمور، فلا قصاص على المأمور، ويجب على الآمر على الصحيح، فإنه آلة له، ووجه المنع أنه شريك مخطئ، فإن آل الامر إلى الدية، فوجهان، أحدهما: تجب كلها على الآمر واختاره البغوي، والثاني: عليه نصفها وعلى عاقلة المأمور نصفها، ولو أكرهه على أن يرمي إلى صيد، فرمى، وأصاب رجلا فقتله، فلا قصاص على واحد منهما، لانهما لم يتعمدا، وأما الدية فجميعها على عاقلة الآمر إن لم نضمن المكره، وإلا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصفها، ولو أكرهه على

(7/17)


صعود شجرة، أو نزول بئر، ففعل، فزلق وهلك، فالصحيح أنه شبه عمد، فلا قصاص، لانه لا يقصد به القتل غالبا، وهذا هو الذي ذكره الفوراني والبغوي والروياني، وقال الغزالي: يجب القصاص. فرع لو قال: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، ففي وجوب القصاص، قولان، أظهرهما: لا يجب، فإن أوجبناه، فعفي عنه على مال، وجب جميع الدية، وإن لم نوجبه، فعليه نصف الدية إن أوجبنا الضمان على المكره، وجميعها إن لم نوجبه، ويجري القولان، فيما لو أكرهه على شرب سم، فشربه وهو عالم به، وإن كان جاهلا، فعلى المكره القصاص قطعا، ولو قال: اقطع يدك وإلا قتلتك، فهو إكراه قطعا، ذكره أبو الحسن العبادي. فرع قال: اقتلني وإلا قتلتك، فهذا إذن منه في القتل وإكراه، ولو تجرد الاذن، فقتله المأذون له، ففي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تجب للورثة ابتداء عقب هلاك المقتول، أم تجب للمقتول في آخر جزء من حياته ثم تنتقل إليهم ؟ إن قلنا بالاول، وجبت ولم يؤثر إذنه، وإلا فلا، وهذا الثاني أظهر، كذا ذكره البغوي والغزالي وغيرهما، لانه ينفذ منها ديونه ووصاياه، ولو كانت للورثة لم

(7/18)


يكن كذلك، وأما القصاص، فلا يجب على المذهب، وبه قطع الجمهور، وعن سهل الصعلوكي طرد الخلاف فيه، ولو قال: اقطع يدي، فقطعها، فلا قصاص ولا دية قطعا، لانه إتلاف مأذون فيه، فصار كإتلاف ماله بإذنه، ولو أذن عبد في القتل، أو القطع، لم يسقط الضمان، وفي وجوب القصاص إذا كان المأذون له عبدا، وجهان، أما إذا انضم الاكراه إلى الاذن، فسقوط القصاص أقوى، وأما الدية، فإن لم نوجبها عند تجرد الاذن فمع الاكراه أولى، وإن أوجبناها، بني على أن المكره هل عليه نصف الدية ؟ إن قلنا: نعم، فعليه نصفها، وإلا فلا. واعلم أن الائمة نقلوا أن المكره على قتله، يجوز له دفع الآمر والمأمور جميعا، وأنه لا شئ عليه إذا قتلهما، وأن للمأمور دفع الآمر، ولا شئ عليه إذا أتى الدفع على نفسه، فعلى هذا إذا قتله دفعا ينبغي أن يحكم بأنه لا قصاص ولا دية بلا تفصيل ولا خلاف، وقد أشار إلى هذا أبو الحسن العبادي فقال: إذا قال: اقتلني وإلا قتلتك، فإن لم يقتله، فهو استسلام، وإن قتله، فهو دفع، ويمكن أن يقال: موضع التفصيل والخلاف ما إذا أمكنه الدفع بغير القتل، وإنما لا يلزمه شئ إذا لم يمكنه الدفع بغيره، ولو قال: اقذفني وإلا قتلتك، فقذفه، فقيل: لا حد، كما لو قال: اقطعني، قال البغوي: والصحيح وجوبه، لانه قد يستعين بالغير في قتل نفسه وقطعه، ولا يستعان به في القذف، فجعل القاذف مبتدئا. قلت: هذا الذي قاله البغوي عجب، والصواب: أنه لا حد. والله أعلم. فرع لو قال: اقتل زيدا أو عمرا وإلا قتلتك، فهذا ليس بإكراه، بل تخيير، فمن قتله منهما كان مختارا لقتله، وإنما المكره من حمل على قتل معين لا يجد عنه محيصا، وفي الرقم وجه أنه إكراه، ونقله المتولي عن اختيار القاضي حسين، وليجئ مثله في الطلاق، والصحيح الاول، فعلى هذا من قتله منهما،

(7/19)


لزمه القصاص، ولا شئ على الآمر غير الاثم. فرع لو أكره رجلا على أن يكره ثالثا على قتل رابع، ففعلا، وجب القصاص على الآمر، وفي الثاني والثالث: القولان، لانهما مكرهان.
فصل إذا أمره السلطان بقتل رجل ظلما، فقتله المأمور، نظر إن ظن المأمور أنه يقتله بحق، فلا شئ على المأمور، لان الظاهر أنه لا يأمر إلا بحق، ولان طاعة السلطان واجبة فيما لا يعلم أنه معصية، واستحب الشافعي رحمه الله أن يكفر لمباشرته القتل، وأما الآمر، فعليه القصاص، أو الدية والكفارة، وإن علم المأمور أنه يقتله ظلما، فهل ينزل أمره منزلة الاكراه ؟ وجهان، ويقال: قولان، أحدهما: لا، وإنما الاكراه بالتهديد صريحا كما في غير السلطان، فعلى هذا لا شئ على الآمر سوى الاثم، ويلزم المأمور القصاص، أو الدية والكفارة، والثاني: ينزل منزلة الاكراه لعلتين، إحداهما: أن الغالب من حالة السطوة عند المخالفة، والثاني: أن طاعته واجبة في الجملة، فينتهض ذلك شبهة، فإذا نزلناه منزلة الاكراه، فعلى الآمر القصاص، وفي المأمور، القولان في المكره، ولو أمره صاحب الشوكة من البغاة، كان كأمر إمام العدل، لان أحكامه نافذة، ولو أمره غير السلطان بالقتل بغير الحق، كالزعيم والمتغلب، فقيل: نظر، إن لم يخف من مخالفته المحذور، فعلى المأمور القصاص أو الدية والكفارة، وليس على الآمر إلا الاثم، ولا فرق بين أن يعتقده حقا، أو يعرف كونه ظلما، لانه ليس بواجب الطاعة، وإن كان يخاف من مخالفته المحذور، بأن اعتيد منه ذلك، ففيه الخلاف المذكور في الامام أن المعلوم هل يجعل كالملفوظ به، والقياس جعله كالملفوظ، وإلى ترجيحه مال الغزالي وغيره، وفي أمر السلطان مقتضى ما ذكره الجمهور تصريحا ودلالة لا ينزل منزلة الاكراه، فحصل من هذا أن أمر السلطان من حيث هو سلطان لا أثر له، وإنما النظر إلى خوف المحذور. فرع لو أمر السيد عبده بقتل رجل ظلما فقتله، فإن كان العبد مميزا لا يرى طاعة السيد واجبة في كل ما يأمره به، فالقصاص على العبد، ولا شئ على السيد

(7/20)


سوى الاثم، فإن عفا، أو كان مراهقا، تعلق الضمان برقبته، وكذا لو أمره بإتلاف مال، فأتلفه، وإن كان صغيرا لا يميز، أو مجنونا ضاريا، أو أعجميا يرى طاعة السيد واجبة في كل شئ، فهو كالآلة، والقصاص أو الدية على السيد. وفي تعلق المال برقبة مثل هذا العبد، وجهان، أحدهما: نعم، لانه متلف، وأصحهما: لا، لانه كالآلة، فأشبه ما لو أغرى بهيمته على إنسان فقتلته، لا يتعلق بها ضمان، ولو أمر عبد غيره، فكذلك الحكم إن كان العبد بحيث لا يفرق بين أمر سيده وغيره، ويسارع إلى ما يؤمر به، فإن قلنا: يتعلق الضمان برقبته، فبيع فيه، فعلى الآمر قيمته للسيد، وإذا لم تف قيمته بالواجب، فعلى الآمر الباقي، وكذا لو كان الآمر السيد، وليس هذا التعلق كتعلق الارش برقبة سائر العبيد، ولو أمر أجنبي هذا العبد بقتل نفسه، ففعل، فعلى الآمر الضمان إن كان صغيرا أو مجنونا، ولا يجب إن كان أعجميا، لانه لا يعتقد وجوب الطاعة في قتل نفسه بحال، لكن لو أمره ببط جراحة أو فتح عرق على مقتل، وجب الضمان، لانه لا يظنه قاتلا، فيجوز أن يعتقد وجوب الطاعة، هكذا حكي عن النص، فإن كان الاجنبي الآمر عبدا، فليكن القصاص على هذا التفصيل، كما سيأتي نظيره إن شاء الله تعالى. فرع لو أمر رجل صبيا أو مجنونا حرا بقتل شخص، فقتله، قال البغوي: إن كان لهما تمييز، فلا شئ على الآمر سوى الاثم، وتجب الدية في مال المأمور مغلظة، إن قلنا: عمده عمد، وإن قلنا: خطأ، فعلى عاقلته مخففة، وإن لم يكن لهما تمييز، وكانا يسارعان إلى ما أغريا به، أو كان المجنون ضاريا، فالقصاص أو كمال الدية على الآمر، وليا كان، أو أجنبيا، ولو أمر أحدهما بقتل نفسه، ففعل، فعلى الآمر القصاص، ولو أن مثل هذا الصبي أو المجنون قتل، أو أتلف مالا من غير أمر أحد، ففي تعلق الضمان بهما الخلاف السابق في التعلق برقبة العبد، لانه يشبه إتلاف البهيمة العادية، ذكره الشيخ أبو محمد. قلت: قال أصحابنا: لو أمر صبيا لا يميز بصعود شجرة، أو نزول بئر،

(7/21)


ففعل، فسقط فهلك، فعلى عاقلة الآمر الدية. والله أعلم. فرع لو أكره رجل عبدا صغيرا مميزا على قتل، فقتل، فهل تتعلق الدية برقبته ؟ قال الامام: يبنى على أن المكره الحر هل تلزمه الدية ؟ إن قلنا: نعم، فنعم، وإلا ففي التعلق برقبته الخلاف السابق في التعليق برقبة العبد الاعجمي، لنزوله منزلة الآلة. فرع لو أمره الامام بصعود شجرة، أو نزول بئر، فامتثل، فهلك به، فإن قلنا: أمره ليس بإكراه، فلا ضمان، كما لو أمره أحد الرعية، وإن قلنا: إكراه، فإن كان يتعلق بمصلحة المسلمين، فالضمان على عاقلة الامام، أو في بيت المال ؟ فيه القولان المعروفان في نظائره، وإن تعلق به خاصة، فالضمان على عاقلته.
فصل فيما يباح بالإكراه
الإكراه على القتل المحرم لا يبيحه، بل يأثم بالاتفاق إذا قتل، وكذا لا يباح الزنى بالاكراه، ويباح بالاكراه شرب الخمر والافطار في رمضان، والخروج من صلاة الفرض، وإتلاف مال الغير، ويباح أيضا كلمة الكفر، وفي وجوب التلفظ بهما وجهان، أحدهما: نعم حفظا لنفسه، كما يجب أكل الميتة للضرورة، والثاني - وهو الصحيح: لا يجب للاحاديث الصحيحة في الحث على الصبر على الدين، واقتداء بالسلف، فعلى هذا الافضل أن يثبت ولا يتلفظ، وإن قتل، وقيل: إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو، أو القيام بأحكام الشرع، فالافضل أن يتلفظ، وإلا، فالافضل الامتناع، ولا يجب شرب الخمر عند الاكراه على الصحيح، ويمكن أن يجئ مثله في الافطار في

(7/22)


رمضان، ولا يكاد يجئ في الاكراه على إتلاف المال، ثم إذا أتلف مال غيره بالاكراه، فللمالك مطالبة المكره الآمر بالضمان، وفي مطالبة المأمور وجهان، أحدهما: لا يطالب، لانه إتلاف مباح له بالاكراه، وأصحهما: يطالب، لكنه يرجع بالمغروم على الآمر، هذا هو المذهب، وقيل: إن الضمان على المأمور، ولا رجوع له، وقيل: يتقرر الضمان عليهما بالسوية، كالشريكين، والقول في جزاء الصيد إذا قتله المحرم مكرها، كالقول في ضمان المال. فرع ذكره الرافعي في مسائل منثورة قبل كتاب الديات. يجوز للمكره على إتلاف مال، ولصاحب المال دفع المكره بما أمكنهما، وليس لصاحب المال دفع المكره، بل يلزمه أن يقي روحه بماله، كما يناول المضطر طعامه. فصل إذا أنهشه حية، أو ألدغه عقربا يقتل غالبا، فقتلته، وجب القصاص، وإن لم يقتل غالبا، فهل هو عمد، أم شبه عمد ؟ قولان، أظهرهما: الثاني، وإن لم ينهشها، ولكن ألقى الحية عليه، أو ألقاه عليها، أو قيده وطرحه في موضع فيه حيات وعقارب، فقتلته، فلا قصاص ولا ضمان، سواء كان الموضع واسعا أو ضيقا، لانه لم يلجئها إلى قتله، بل هي قتلته باختيارها، فهو كالممسك مع القاتل. ولو عرضه لافتراس سبع يقتل غالبا، كالاسد والنمر والذئب، وهدفه له حتى صار السبع كالمضطر إلى قتله، لزمه القصاص، نص عليه، فإن كان السبع مما لا يقتل غالبا، فهو كالحية التي لا تقتل غالبا، وإن أرسل عليه السبع، أو أغرى به كلبا عقورا في موضع واسع كالصحراء، فقتله، أو طرحه في مسبعة أو بين يدي سبع في الصحراء مكتوفا، أو غير مكتوف، فقتله، فلا قصاص ولا ضمان، سواء كان المطروح صغيرا أو كبيرا، لانه لم يلجئه إلى قتله، والذي وجد منه ليس بمهلك، وهو كالممسك مع القاتل، وفي الصبي وجه، أنه يجب الضمان، ولو

(7/23)


أغراه به في موضع ضيق، أو حبسه معه في بئر، أو بيت، فقتله، وجب القصاص، مكتوفا كان أو غير مكتوف، لانه إلجاء السبع إلى قتله، وليس السبع كالحية، حيث لم يفرق فيها بين الموضع الواسع والضيق، لان الحية تنفر من الآدمي، والسبع يقصده في المضيق ويتوثب، وفي الموضع الواسع لا يقصده قصده في المضيق، إنما يقصده دفعه ويمكن التحرز منه والفرار، فهذا هو المنصوص، والمذهب، وبه قطع الجمهور، وعن القاضي حسين أن الحية إن كانت تقصد ولا تنفر، فهي كالسبع، وأنها أنواع مختلفة الطباع، وأن السبع إذا كان ضاريا شديد العدو ولا يتأتى الهرب منه في الصحراء، وجب القصاص، وجعل الامام هذا بيانا لما أطلقه الاصحاب واستدراكا، وأما البغوي وغيره فجعلوا المسألة مختلفا فيها، وحكى ابن كج قولا أنه لو جمع بينه وبين حية في بيت، وجب القصاص كالسبع، وقولا أنه لا يجب في السبع، وهما غريبان، وحيث أوجبنا القصاص في الحية والسبع فذلك إذا قتل في الحال، أو جرح جراحة تقتل غالبا، أما إذا جرحه جرحا لا يقتل مثله غالبا، فهو شبه عمد، وكأن تلك الجراحة صدرت من المغري، وإذا أمكن المغرى عليه الفرار، فلم يفر، قال الامام: هو كترك السباحة، والمجنون الضاري في ذلك كالسبع، ولو ربط في داره كلبا عقورا، ودعا إليها رجلا، فافترسه الكلب، فلا قصاص ولا ضمان، ولم يجعل على الخلاف السابق في حفر البئر في الدهليز وتغطية رأسها، لان الكلب يفترس باختياره، ولانه ظاهر يمكن دفعه بعصا وسلاح.
الطرف الرابع : في اجتماع مباشرتين، فإذا صدر فعلان مزهقان من شخصين،

(7/24)


نظر، إن وجدا معا، فهما قاتلان، سواء كانا مذففين بأن حز أحدهما رقبته، وقده الآخر نصفين، أو لم يكونا، بأن أجاف كل منهما، أو قطعا عضوين، ومات منهما، وإن كان أحدهما مذففا دون الآخر، فقياس ما سنذكره إن شاء الله تعالى أن يكون المذفف هو القاتل، وإن طرأ فعل أحدهما على الآخر فله حالان. أحدهما: أن يوجد فعل الثاني بعد انتهاء المجني عليه إلى حركة المذبوح، إما عقب الفعل الاول لكونه مذففا، وإما لسرايته وتأثيره، فالقاتل هو الاول، ولا شئ على الثاني سوى التعزير، لانه هتك حرمة ميت، فعزر، كما لو قطع عضو ميت، والمراد بحركة المذبوح الحالة التي لا يبقى معها الابصار والادراك، والنطق والحركة الاختياريان، وقد يقد الشخص، وتترك أحشاؤه في النصف الاعلى فيتحرك ويتكلم بكلمات لكنها لا تنتظم، وإن انتظمت، فليست صادرة عن روية واختيار، والحالة المذكورة وهي التي تسمى حالة اليأس، لا يصح فيها الاسلام، ولا شئ من التصرفات، ويصير فيها المال للورثة، ولو مات قريب لمن انتهى إليها، لم يورث منه، ولو أسلم كافر، أو عتق رقيق فيها، لم يزاحم سائر الورثة، وكما لا يصح فيها الاسلام، لا تصح فيها الردة، هذا هو الصحيح، وبه قطع الاصحاب، وفي كتاب ابن كج: أنها تصح، لان الكافر يوقن حينئذ، فإعراض المسلم قبيح، وهذا ليس بشئ، ومن قطع حلقومه ومريه، أو أبينت حشوته من جوفه، فقد انتهى إلى حركة المذبوح، ولو أصاب الحشوة حرق، أو قطع، وتيقن موته بعد يوم أو يومين، وجب القصاص على قاتله في ذلك الحال. الحال الثاني: أن يوجد فعل الثاني قبل انتهائه إلى حركة المذبوح، فينظر، إن كان الثاني مذففا بأن جرحه الاول، وحز الثاني رقبته، أو قده، فالقاتل هو الثاني، وأما الاول فليس عليه إلا القصاص في العضو المقطوع، أو المال على ما

(7/25)


يقتضيه الحال، ولا فرق بين أن يتوقع البرء من الجرح السابق لو لم يطرأ الحز، وبين أن يستيقن الهلاك بعد يومين أو نحو ذلك، لان حياته في الحال مستقرة، وتصرفاته نافذة، وإن لم يكن الثاني مذففا أيضا، ومات بسرايتهما، بأن أجافاه، أو قطع الاول يده من الكوع، والثاني من المرفق، فمات، فهما قاتلان، لان القطع الاول قد انتشرت سرايته وألمه ولو شك في الانتهاء إلى حركة المذبوحين، عمل فيه بقول أهل الخبرة. فرع المريض المشرف على الموت يجب القصاص على قاتله، قال القاضي وغيره: سواء انتهى إلى حالة النزع أم لا، ولفظ الامام: أن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت، وبدت اماراته، وتعثرت الانفاس في الشراسيف، لا يحكم له بالموت، بل يلزم قاتله القصاص، وإن كان يظن أنه في مثل حال المقدود، وفرقوا بينهما بأن إنهاء المريض إلى تلك الحالة غير مقطوع به، وقد يظن به ذلك، ثم يشفى، بخلاف المقدود، ولان المريض لم يسبق فعل بحال القتل وأحكامه عليه حتى يهدر الفعل الثاني والقد ونحوه بخلافه.
فصل فيما إذا قتل إنسانا يظنه على حال وكان بخلافه وفيه مسائل: الاولى: قتل من ظنه كافرا، بأن كان عليه زي الكفار، أو رآه يعظم آلهتهم، فبان مسلما، نظر، إن كان ذلك في دار الحرب، فلا قصاص قطعا، ولا دية على الاظهر، وتجب الكفارة قطعا، وإن كان في دار الاسلام، وجبت الدية والكفارة قطعا، وكذا القصاص على الاظهر، فإن لم نوجبه، فهل الدية مغلظة أم مخففة على العاقلة ؟ قولان. الثانية: قتل من ظنه مرتدا أو حربيا، فلم يكن، فعليه القصاص، فإن عهده مرتدا، أو ظن أنه لم يسلم وكان أسلم، فالنص وجوب القصاص، ونص فيما لو عهده ذميا أو عبدا، فقتله ظانا أنه لم يسلم، ولم يعتق، فبان خلافه، أنه لا قصاص، فقيل: في الجميع قولان، وقيل: بظاهر النصين، لان المرتد يحبس فلا

(7/26)


يخلى، فقاتله مقصر بخلاف الذمي والعبد، وقيل: يجب القصاص في الجميع، لانه ظن لا يبيح القتل، والمذهب وجوب القصاص في الجميع، وإن أثبتنا الخلاف، كما لو علم تحريم القتل، وجهل وجوب القصاص، ولو عهده حربيا فظن أنه لم يسلم، فقيل: كالمرتد، وقيل: لا قصاص قطعا، لان المرتد لا يخلى، والحربي يخلى بالمهادنة، ويخالف العبد والذمي، فإنه ظن لا يفيد الحل والاهدار، بخلاف الحربي، ولو ظنه قاتل أبيه، فقتله، فبان غيره، وجب القصاص على الاظهر، لانه يلزمه التثبت، ولم يعهده قاتلا حتى يستصحبه، ولو قال: تبينت أن أبي كان حيا حين قتلته، وجب القصاص قطعا، وحيث قلنا: لا قصاص في هذه الصور، فقال: ظننته كافرا أو رقيقا، فقال الولي: بل علمته مسلما حرا، فالقول قول القاتل، لانه أعرف، ونقل الغزالي في موضع القولين فيما إذا قال: ظننته قاتل أبي، طريقين، أحدهما: موضعهما إذا تنازعا، أما إذا صدقه الولي، فلا قصاص قطعا، والثاني: طرد القولين في الحالين، لانه ظن من غير مستند شرعي. الثالثة: ضرب مريضا ضربا يقتل المريض دون الصحيح، فمات منه، فإن علم مرضه، فعليه القصاص قطعا، وكذا إن جهله على الصحيح، لان جهله لا يبيح الضرب. الركن الثاني: القتيل. وشرط وجوب القصاص كونه معصوم الدم بالاسلام، أو الجزية، أو الامان، فالحربي مهدر، والمرتد مهدر في حق المسلم، وأما في حق ذمي ومرتد آخر، ففيه خلاف يأتي قريبا إن شاء الله تعالى، ومن عليه قصاص إذا قتله غير مستحقه، لزمه القصاص، والزاني المحصن إن قتله ذمي، فعليه

(7/27)


القصاص، وإن قتله مسلم، فلا على الاصح المنصوص. قلت: قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: الخلاف إذا قتل قبل أن يأمر الامام بقتله، فإن قتل بعد أمر الامام بقتله، فلا قصاص قطعا. والله أعلم. فرع في فتاوى القفال: أن من ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها، وكان يؤمر بفعلها، فلا يفعلها، فقتله إنسان، فلا قصاص، وليكن هذا جوابا على الاصح المنصوص في الزاني المحصن، قال: فلو جن قبل فعلها، لم يقتل في حال الجنون، فلو قتله حينئذ رجل، لزمه القصاص، وكذا لو سكر، ولو جن المرتد، أو سكر، فقتله رجل، فلا قصاص لقيام الكفر. الركن الثالث: القاتل. وشرطه أن يكون ملتزما للاحكام، فلا قصاص على صبي ولا مجنون، كما لا قصاص على النائم إذا انقلب على شخص، لانه ليس لهما أهلية الالتزام، ومن يقطع جنونه له حكم المجنون في حال جنونه، وحكم العاقل في حال عقله، ومن لزمه قصاص بإقرار، أو بينة، ثم جن، استوفي منه حال جنونه، لانه لا يقبل الرجوع بخلاف ما لو أقر بحد، ثم جن، لا يستوفى منه، والمذهب وجوب القصاص على السكران، ومن تعدى بشرب دواء مزيل للعقل، وفيه خلاف سبق في الطلاق. فرع لو قال القاتل: كنت يوم القتل صغيرا، وقال الولي: بل بالغا، صدق القاتل بيمينه، لان الاصل الصغر، وهذا بشرط الامكان، ولو قال: أنا الآن

(7/28)


صغير، صدق، ولا قصاص ولا يمين عليه، لان اليمين لاثبات المحلوف عليه، ولو ثبت صباه، لبطلت يمينه، ولو قال: كنت مجنونا عند القتل، وكان عهد له جنون، صدق، وإلا فلا، لان الاصل السلامة، ولو اتفقا على أنه كان زائل العقل، وقال القاتل: كنت مجنونا، وقال الوارث: بل سكران، صدق القاتل، ولو أقام القاتل بينة أنه كان يوم القتل مجنونا، وأقام الوارث بينة أنه كان حينئذ عاقلا تعارضتا. فرع يجب القصاص على المرتد، والمعصوم، لالتزامه الاحكام، ولا يجب على الحربي، كما لا يضمن المال لعدم التزامه، هذا هو الصحيح، وبه قطع الجمهور، وقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراييني: يلزم الحربي ضمان النفس والمال، لانه مخاطب بفروع الشرع، قال أبو الحسن العبادي: ويعزى هذا إلى المزني في المنثور.
باب ما يشترط مساواة القتيل القاتل فيه لوجوب القصاص وما لا يؤثر اختلافهما فيه الخصال التي يفضل القاتل القتيل بها كثيرة، ولا يؤثر منها في منع القصاص إلا ثلاث وهي: الاسلام والحرية والولادة، فإن استوى القاتل والمقتول في عدم الثلاثة، أو وجود ما يمكن وجوده، جرى القصاص بينهما، وإلا قتل المفضول بالفاضل ولا عكس. الخصلة الاولى: الاسلام، فلا يقتل مسلم بكافر، حربيا كان أو ذميا، أو

(7/29)


معاهدا، ويقتل الذمي والمعاهد بالمسلم، ويقتل الذمي بالذمي وإن اختلفت ملتهما، كيهودي ونصراني، ولو قتل ذمي ذميا، ثم أسلم القاتل، اقتص منه، ولو جرح ذمي ذميا، أو معاهدا، وأسلم الجارح، ثم مات المجروح بالسراية، وجب القصاص على الاصح عند الجمهور، وقطع به جماعة، وهذا الخلاف في قصاص النفس، فإن جرح جرحا يوجب قصاصا، كقطع طرف، ثم أسلم القاطع، ثم سرى، وجب القصاص في الطرف قطعا، ثم إذا طرأ إسلام القاتل بعد القتل، أو بعد قطع الطرف، استوفى الامام القصاص بطلب الوارث، ولا يفوضه إليه حذارا من تسليط الكافر على المسلم، إلا أن يسلم، فيفوضه إليه، ولو قتل مسلم ذميا، ثم ارتد، أو جرحه، ثم ارتد، ثم مات المجروح، فلا قصاص، لعدم المكافأة حالة الجناية، ولو قتل ذمي مسلما، ثم أسلم، لم يسقط عنه القصاص، ولو قتل عبد مسلم عبدا مسلما لكافر، فهل يثبت القصاص، وجهان: أحدهما: وجوب القصاص، وبه قال الشيخ أبو حامد والماوردي، وأصحهما عند المتأخرين، وهو اختيار القاضي أبي الطيب والقفال: لا قصاص، لانه لا يقتل بجزء الحرية جزء الحرية، وبجزء الرق جزء الرق، بل يقتل جميعه بجميعه، ولهذا لو كان القتل خطأ، أو آل الامر إلى المال، وأوجبنا نصف الدية ونصف القيمة مثلا، لا نقول: نصف الدية في مال القاتل، ونصف القيمة في رقبته، بل يجب ربع الدية، وربع القيمة في ماله، وربع الدية وربع القيمة في رقبته، وهذا متفق عليه، ولو وقع الاستيفاء شائعا، لزم قتل البعض الحر بالبعض الحر والرقيق معا. فرع قتل عبد مسلم حرا ذميا، أو حر ذمي عبدا مسلما، أو قتل كافر ابنه المسلم، أو الابن المسلم أباه الكافر، لا قصاص، لان الحر والمسلم والاب لا يقتل بمفضوله. فرع قتل المكاتب أباه وهو يملكه، فلا قصاص على الاصح، ولو قتل

(7/30)


عبدا له غير أبيه، فلا قصاص على المذهب، وقيل: وجهان، لان المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. قلت: إذا أوجبنا القصاص، استوفاه سيد المكاتب، لانهما عبدان للسيد، قتل أحدهما الآخر، فهو كما لو قتله أجنبي. والله أعلم. الخصلة الثالثة: الولادة، فلا قصاص على والد يقتل ولده، والام كالاب وكذلك الاجداد والجدات وإن علوا من قبل الاب والام جميعا، وحكى ابن القاص وابن سلمة قولا في الاجداد والجدات، وهو شاذ منكر، قال الامام: هذا لا يقبله الاصحاب منصوصا ولا مخرجا، ولو حكم قاض بقتل الوالد بولده، قال ابن كج: ينقض حكمه، وليكن هذا فيما يوافقنا فيه مالك رحمه الله، فإنه روي عنه أنه إن أضجعه وذبحه، فعليه القصاص، وإن حذفه بالسيف، فلا، لاحتمال قصده التأديب، وعندنا: لا فرق. فرع يقتل الولد بالوالد، وكذا سائر المحارم بعضهم ببعض. فرع قتل الاب الرقيق عبد ابنه، فلا قصاص، لان قصاصه لابنه، ولو قتل الابن الرقيق عبد أبيه، فللاب القصاص. فرع لو قتل من يرثه ولد القاتل، لم يجب القصاص، مثاله: قتل زوجة ابنه، أو زوجته وله منها ولد، أو قتلت أم الولد سيدها وله منها ولد، ولو ثبت عليه قصاص، فورث ولده القصاص، أو بعضه، بأن قتل أبا زوجته، ثم ماتت الزوجة، ولها منه ولد، أو قتل ابن عتيق ولده ثم مات العتيق وورثه الولد، فلا قصاص، وكذا

(7/31)


لو ورث القاتل القصاص، بأن قتل أحد الابنين أباه، ثم مات الابن الآخر، فورثه القاتل. فرع تداعى رجلان مولودا مجهولا، ثم قتله أحدهما، أو قتلاه، فلا قصاص في الحال، فإن ألحقه القائف بأحدهما، وكانا مشتركين في القتل، فلا قصاص على الذي ألحق به، ويقتص من الآخر، وحكى ابن كج وجها شاذا أنه لا يقتص من الآخر، لان إلحاق القائف مبني على الاشباه، وهو ضعيف، فلا يرتب عليه القصاص الذي يسقط بالشبهات وإن كان القاتل أحدهما، فألحقه بالآخر، اقتص منه، وكذا لو ألحقه بغيرهما، ويعود فيه وجه ابن كج، وإن رجعا عن الدعوة، لم يقبل رجوعهما، لانه صار ابنا لاحدهما، وفي رجوعه إبطال حق الولد، وإن رجع أحدهما، وأصر الآخر، فهو ابن الآخر، فيقتص من الراجع إن اشتركا في قتله، أو إن انفرد هو بقتله، هذا إذا لحق المولود أحدهما بالدعوة، أما إذا لحق بالفراش، بأن نكحت معتدة وأتت بولد يمكن كونه من الاول ومن الثاني، أو فرض وطئ شبهة، فإنما يتعين أحدهما بإلحاق القائف، أو بانتساب المولود بعد بلوغه، فلو نفاه أحدهما، فهل يتعين للثاني، أم يبقى الابهام حتى يعرض على القائف، أو ينتسب ؟ قولان، أظهرهما: ثانيهما، فإذا ألحقه القائف بأحدهما، اقتص من الآخر إن انفرد بقتله، أو شارك فيه، وإن ألحقه بأحدهما، أو انتسب بعد البلوغ، فقتله الذي لحقه، لم يقتص منه، فإن أقام الآخر بينة بنسبه، لحقه واقتص من الاول. فرع أخوان لاب وأم، قتل أحدهما الاب والآخر الام، فلهما حالان، أحدهما: أن يقتلاهما معا، والثاني: على التعاقب، والاعتبار في المعية والتعاقب بزهوق الروح لا بالجرح. الحال الاول: أن يقتلاهما معا، فكل واحد يستحق القصاص على الآخر،

(7/32)


فإن عفا أحدهما، فللمعفو عنه أن يقتص من العافي، وإن لم يعف، قدم للقصاص من خرجت قرعته، وإذا استوفى أحدهما بقرعة، أو بالمبادرة بلا قرعة، فإن قلنا: القاتل بحق لا يحرم الميراث، ولم يكن المقتص محجوبا، سقط القصاص عنه، لانه ورث القصاص المستحق على نفسه، أو بعضه، وإن قلنا: يحرم الميراث وهو المذهب، أو كان هناك من يحجبه، فلوارث المقتص منه أن يقتص من المبادر. الحال الثاني: أن يتعاقب القتلان، فإن كانت الزوجية باقية بين الاب والام، فلا قصاص على القاتل أولا، ويجب على القاتل الثاني، فإذا اقتص القاتل الاول من الثاني، وقلنا: القاتل بحق يحرم الميراث، أو كان المقتص محجوبا، فلورثة المقتص منه نصيبه من دية القتيل الاول يطالبون به القاتل الاول، وإن لم تكن الزوجية باقية بين الاب والام، فلكل واحد منهما حق القصاص على الآخر، وهل يقدم بالقرعة، أم يقتص من المبتدئ بالقتل ؟ وجهان، ميل القاضي حسين والامام إلى الاول، وبالثاني أجاب الروياني وغيره. قلت: لم يعبر عن ترجيح الوجهين بما ينبغي، فقد قطع بالاقراع الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ وغيرهم، وقطع بالثاني القاضي أبو الطيب والبغوي وغيرهما، ونقله الامام عن الاصحاب، مع أنه رجح الاقراع، والارجح ما نقله عن الاصحاب. والله أعلم. ولو بادر من أردنا الاقتصاص منه بالقرعة أو لابتدائه بالقتل، عاد النظر في أن القاتل هل يحرم الميراث وأنه هل خلف المقتول من يحجبه كما سبق، وحكى الروياني عن الاصحاب فيما إذا وقع القتلان معا، وأقرعنا للابتداء، فخرجت القرعة لاحدهما، أنه لو وكل من خرجت قرعته وكيلا، جاز، لانه يقتص له في حياته، ولو وكل الآخر، لم يجز، لانه يقتص له بعد قتله، ولا تبقى الوكالة حينئذ، قال: وعندي أن توكيله صحيح أيضا، ولهذا لو بادر وكيله، فقتل، لم يلزمه شئ، لكن إذا قتل موكله، بطلت الوكالة. قلت: ولو وكل كل واحد من الاخوين وكيلا قبل الاقراع، صح، ثم يقرع بين الوكيلين، فإذا اقتص أحدهما، انعزل الآخر. والله أعلم.

(7/33)


فرع أربعة إخوة، قتل الثاني أكبرهم، ثم الثالث أصغرهم، ولم يخلف القتيلان غير القاتلين، فللثاني أن يقتص من الثالث، ويسقط عن الثاني القصاص، لانه ورث ما كان الصغير يستحقه عليه. فرع قتل زيد ابنا لعمرو، وعمرو ابنا لزيد، وكل واحد من الابوين متفرد بالارث، فلكل واحد منهما القصاص على الآخر، وحكى ابن كج عن ابن أبي هريرة وابن القطان، أنه لا قصاص بينهما، بل يقع التقاص، والصحيح الاول، ولا بد من مجئ هذا الوجه في الاخوين. قلت: قد صرح صاحب البيان بنقل الوجه في الاخوين عن ابن اللبان. والله أعلم. فرع لو شهد الابن على أبيه بما يوجب القتل، قبلت شهادته على الصحيح، ونقل ابن كج عن ابن أبي هريرة أنها لا تقبل. فرع يكره للجلاد قتل والده حدا وقصاصا.
فصل فيما لا يؤثر اختلاف القاتل والمقتول فيه وفيه مسائل إحداها: يقتل الذمي بالمعاهد وبالعكس، كما يستويان في الدية، وفي الاول احتمال للامام، ولو أسر الامام حربيا بالغا، فقتله ذمي قبل أن يرى الامام إرقاقه أو غيره، فلا قصاص، لانه على حكمه الذي كان حتى يرقه الامام. الثانية: يقتل الرجل بالمرأة، وبالخنثى، وبالعكس، كما يقتل العالم بالجاهل، والشريف بالخسيس، والشيخ بالصبي، والشاب وبالعكس. فرع فيما لو قطع ذكر خنثى مشكل وأنثياه وشفراه. وهو مبني على أصلين، أحدهما: أنه هل يجب القصاص في شفري المرأة ؟ فيه خلاف، والثاني: أن العضو الاصلي لا يقطع بزائد، ويقطع الزائد بالزائد إذا اتحد المحل، وسنذكر الاصلين إن شاء الله تعالى، فإذا قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه، فلا قصاص في الحال، لاحتمال أنه إمرأة، ثم إن صبر المقطوع إلى التبين، فذاك، فإن بان ذكرا اقتص في الذكر والانثيين، وأخذ حكومة الشفرين،

(7/34)


وإن بان أنثى، فلا قصاص، وله دية الشفرين، وحكومة الذكر والانثيين، وإن لم يصبر، نظر، إن قال: عفوت عن القصاص، وطلب حقه من المال، أعطي المستيقن، وهو دية الشفرين وحكومة الذكر والانثيين، ثم إن بان أنثى، فمعه حقه، وإن بان ذكرا، فله مائتان من الابل عن الذكر والانثيين، وله حكومة الشفرين، فيحسب ما كان معه ويعطى الباقي، وحكى الامام وجها أنه إنما يعطى في الابتداء حكومة كل عضو، لانه المتيقن في ذلك العضو، فلا نوجب دية الشفرين، قال: وهذا ضعيف، لان استحقاق القدر المذكور متيقن، وإن لم تتحقق جهته، وإنما يصح ذلك إذا تعدد الجاني، فقطع قاطع ذكره وأنثييه، وآخر شفريه، وعفا عن القصاص، فلا نوجب على كل واحد إلا حكومة ما قطعه، وأما إذا لم يعف عن القصاص وطلب ما يجب له من المال مع القصاص، فوجهان، أحدهما: لا نعطي شيئا، قاله ابن أبي هريرة والقفال، لانا لا ندري ما الواجب، وأصحها: يعطى المستيقن مع القصاص، وفي قدره ثلاثة أوجه، أحدها: أقل الحكومتين من حكومة الشفرين على تقدير الذكورة، وحكومة الذكر والانثيين على تقدير الانوثة، والثاني: حكومة العضو المقطوع آخرا، لانه قطعه والدم سائل من الاول، فحكومته أقل، وأصحهما: يعطى أقل الامرين من حكومة الشفرين بتقدير الذكورة، وحكومة الذكر والانثيين مع دية الشفرين، أما إذا قطعت إمرأة ذكر الخنثى وأنثييه وشفريه، فإن صبر إلى التبين، توقفنا كما في الرجل، فإن بان ذكرا، فله ديتان للذكر والانثيين وحكومة الشفرين، وإن بان أنثى، فلها حكومة الذكر والانثيين والقصاص في الشفرين، إن أجرينا فيهما القصاص، وإلا فلها ديتهما أيضا، وإن لم يصبر، بني على أن القصاص هل يجري في الشفرين ؟ إن قلنا: نعم، قيست الصورة بما ذكرنا في الرجل، فإن عفا عن القصاص، سلم إليه دية الشفرين وحكومة الذكر والانثيين، وإن لم يعف، ففي وجه، لا يعطى شيئا، وفي وجه، يعطى أقل الحكومتين، وفي وجه، حكومة المقطوع آخرا، وفي وجه، حكومة الذكر والانثيين ليوقع القصاص في الشفرين، وإن قلنا: لا يجري القصاص فيهما، فالحكم كما لو أجريناه، فعفا، ولو قطع رجل ذكره وأنثييه، وإمرأة شفريه، ولم يعف، لم يطالب واحد منهما بمال لتوقع القصاص في حق كل واحد بناء على جريان القصاص في الشفرين، فإن منع، فلا يوقع فيهما، فتجب حكومتهما على المرأة، وإن قطع رجل شفريه،

(7/35)


وإمرأة ذكره وأنثييه، فلا مجال للقصاص، فيطالب كل واحد بحكومة ما قطع، ولو قطع مشكل جميع ذلك من مشكل، فلا قصاص في الحال، فإن بانا ذكرين، أو أنثيين، قطع الاصلي بالاصلي، والزائد بالزائد إن تساوى الزائدان، وإلا ففي الزائد الحكومة، وإن بان أحدهما ذكرا والآخر أنثى، فقد سبق حكمه، ولو عفا المقطوع قبل التبين، دفع إليه المتيقن، وهو دية الشفرين، وحكومة الذكر والانثيين، وإن لم يعف، فقد نقل الامام وأبو الحسن العبادي: أنه يدفع إليه أقل الحكومتين، والصحيح أنه لا يدفع إليه شئ في الحال، لان القصاص متوقع في الجميع، وبيان حال الخنثى قد يكون بشئ من العلامات الحسية، كالبول والمني ونحوهما، فحكمه كما ذكرنا، وقد يكون بالرجوع إلى قوله وإخباره عن ميله إلى الرجال أو النساء، فإن أخبر عن حاله، ثم جني عليه، اعتمدنا قوله، فإذا قال: أنا رجل، ثم قطعه رجل، أوجبنا القصاص، وإن جني عليه، ثم قال: أنا رجل، فهل يقبل قوله لايجاب القصاص ولايجاب دية الذكر والانثيين ؟ فيه وجهان، أحدهما: نعم، كما قبل الجناية، وأصحهما على ما ذكره القفال والامام: المنع، لانه متهم، وشبهوا بما إذا شهد برؤية هلال شوال، فردت شهادته، ثم أكل، لا يعزر، ولو أكل ثم شهد، عزر للتهمة، وبما لو ثبت بشهادة رجل وامرأتين أنه غصب، ثم قال: إن كنت غصبت فامرأتي طالق، يقع الطلاق، ولو قال أولا: إن غصبت فهي طالق، فشهد رجل وامرأتان بغصبه، لا تطلق على الاصح، ولو اختلف الجاني والمقطوع، فقال الجاني: أقررت بأنك إمرأة، فلا قصاص لك، وقال: بل قلت: إني رجل، فقولان وأظهرهما: القول قول الجاني، لان الاصل براءته من القصاص، وهذا نصه في مواضع، والثاني: قول المقطوع، لانه أعرف بحاله. فرع لو قطع الخنثى المشكل ذكر رجل وأنثييه، وقف، فإن بان ذكرا، اقتص منه، وإن بان أنثى، فعليه ديتان ولا قصاص، فإن طلب منه مالا قبل التبين ولم يعف، لم يعط، لان القصاص متوقع. فرع لو قطعت يد الخنثى، وجب القصاص، سواء قطعها رجل أو إمرأة، فلوآل الامر إلى المال، لم يؤخذ إلا اليقين، وهو نصف دية المرأة، وكذا لو قتل لا تؤخذ إلا دية إمرأة.

(7/36)


المسألة الثالثة: إذا قتلت الجماعة واحدا، قتلوا به، سواء قتلوه بمحدد أو مثقل، أو ألقوه من شاهق، أو في بحر، أو جرحوه جراحات مجتمعة أو متفرقة، وأثبت ابن الوكيل قولا أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ونقل الماسرجسي عن القفال قولا قديما أن الولي يقتل واحدا من الجماعة أيهم شاء، ويأخذ حصة الآخرين من الدية، ولا يقتل الجميع، ويكفي للزجر كون كل واحد منهم خائفا من القتل، وهذان القولان شاذان واهيان، والمشهور قتل الجماعة بالواحد، ثم للولي أن يقتل جميعهم، وله أن يقتل بعضهم، ويأخذ حصة الباقين من الدية، وله أن يقتصر على الدية، فتكون على جميعهم دية واحدة موزعة على عددهم، سواء كانت جراحة بعضهم أفحش أو عدد جراحات بعضهم أكثر، أم لم يكن شئ من ذلك، وسواء كان لجراحة بعضهم أرش مقدر، أم لم يكن، ثم إذا كانت الجماعة عشرة مثلا،

(7/37)


فالولي يستحق دم كل واحد بكماله، وعن الحليمي أنه إنما يستحق عشر دم كل واحد، لكنه يجوز قتله، لانه لا يمكن استيفاؤه إلا باستيفاء الباقي، والصواب الاول، وبه قطع الجمهور، قال الامام: قول الحليمي بعيد، وكيف يريق تسعة أعشار دم غير مستحقة لتحصيل عشر. المسألة الرابعة: إذا قتل واحد جماعة، يقتل بأحدهم ووجبت دية الباقين في ماله، وسيأتي القول فيمن يقتل به في بابه إن شاء الله تعالى، ولو قطع أيدي جماعة، قطع بواحد، وللباقين الدية، وحكى الروياني وجها أنه إذا وقعت الجنايات معا، قتل، أو قطع بهم جميعا، ويرجع كل واحد من المستحقين إلى حصته من الدية، وهذا شاذ ضعيف، هذا إذا كان القاتل حرا وقتل الجماعة في غير المحاربة، فإن كان عبدا، أو قتل في المحاربة، فسيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل في اجتماع سببين مختلفين في اقتضاء القصاص الجنايات الصادرة من جماعة الواردة على واحد المستعقبة موته إن كانت بحيث يجب القصاص

(7/38)


لو انفردت كل واحدة، وجب القصاص على الشركاء كما سبق، وإلا فإما أن لا يجب القصاص بواحدة منها لتقاعد الفعل عن إيجاب القصاص بأن قتلوه خطأ، أو لعدم الكفاءة بأن قتل حران عبدا، فلا قصاص، وإما أن يجب القصاص ببعضها دون بعض، ولعدم الوجوب في حق البعض أسباب، أحدها: أن تكون جناية بعضهم ضعيفة لا تؤثر في الزهوق كالخدشة الخفيفة فلا اعتبار بها، وكأنه لم توجد سوى الجنايات الباقية. الثاني: أن يغلب بعضها بقوته بحيث يقطع نسبة الزهوق إلى سائر الجنايات، بأن جرحه جماعة، ثم حز رقبته آخر، فقصاص النفس على الحاز، وأما الاولون، فجارحون، يتعلق بفعلهم مقتضاه من قصاص أو دية مغلظة أو مخففة، وقد سبق بيانه في الطرف الرابع من الركن الاول، وعد من نظائره أن يصعد به على كرسي، ويربط في عنقه حبلا، ويشده إلى فوق، فيجئ آخر فينحي ما تحت قدميه، فالقاتل هو المنحي. الثالث: أن تندمل بعض الجراحات، ثم يوجد الباقي، فعلى من اندملت جراحته ما تقتضيه جراحته ولا يلزمه قصاص النفس، لان القتل هو الجراحة السارية، وإذا جرحه اثنان متعاقبان، وادعى الاول الاندمال، وأنكر الولي، فلا قصاص على الاول، وإذا عفا عن الثاني، لم يأخذ منه إلا نصف الدية، وإنما يأخذ منه كمال الدية إذا قامت بينة بالاندمال، الرابع: أن يكون فعل أحدهما خطأ، بأن جرحه أحدهما عمدا، والآخر خطأ، فلا قصاص على واحد منهما، وعلى عاقلة المخطئ نصف دية الخطأ، وفي مال العامد نصف دية العمد إن كانت جناية لا توجب قصاصا، أو آل الامر إلى الدية، فإن قطع طرفا، فعليه قصاصه، وكذا لو جرح أحدهما عمدا، والآخر شبه عمد، لا قصاص على واحد منهما، وتجب نصف دية شبه العمد على عاقلة صاحبه، وحكى الروياني في جمع الجوامع أنه قيل: إن للشافعي رحمه الله قولا أنه يجب القصاص على شريك المخطئ، ذكره المزني في العقارب وتمنى الامام أن يكون هذا قولا في المذهب، والمشهور المنصوص في كتب ] الشافعي وقطع به الاصحاب، أنه لا قصاص. الخامس: أن يمتنع القصاص من بعضهم لمعنى فيه، فله حالان، أحدهما: أن يكون فعل من لا قصاص عليه مضمونا، بأن شارك الاب أجنبيا في قتل الولد، فعلى الاجنبي القصاص، وعلى الاب نصف الدية المغلظة، ومثله لو شارك حر عبدا في قتل عبد أو مسلم ذميا في قتل ذمي، لا قصاص على الحر والمسلم، ويجب على

(7/39)


العبد والذمي، ولو جرح ذمي ذميا، ثم أسلم المجروح، فجرحه مسلم، أو جرح عبد عبدا، ثم عتق المجروح، فجرحه حر ومات منهما، فعليهما القصاص، لان كل واحد لو انفرد بجنايته لزمه القصاص. الحال الثاني: أن لا يكون مضمونا، بأن جرح حربي ومسلم مسلما، ومات منهما، أو قطعت يد إنسان في سرقة أو قصاص، ثم جرحه رجل عدوانا، أو جرح مسلم مرتدا أو حربيا، ثم أسلم، فجرحه غيره، أو جرح ذمي حربيا، ثم عقدت الذمة للمجروح، فجرحه ذمي آخر، أو جرح صائلا، ثم جرحه غيره، ففي وجوب القصاص في الصور، قولان، أظهرهما: الوجوب كشريك الاب، والثاني: لا، بل عليه نصف الدية، ولو جرحه سبع، أو لدغته عقرب أو حية، وجرحه مع ذلك رجل، فطريقان، أشهرهما: طرد القولين، والثاني: القطع بأن لا قصاص، وهذا أصح عند القاضي حسين، والامام والغزالي، وموضع الطريقين فيما يقتضيه كلام الامام أن يقصد السبع الجراحة، فأما إذا وقع السبع عليه بلا قصد، فلا قصاص قطعا، وقال البغوي: لا فرق بين أن يقصده السبع بالجرح أم لا، ففيه الطريقان، ثم الخلاف فيما إذا كان جرح السبع بحيث يحصل منه الموت غالبا، وإلا فشريكه شريك الجارح شبه عمد، ولو جرح رجل عبده، وجرحه عبد، أو عتق، فجرحه عبد، أو حر ثم مات منهما، ففي وجوب القصاص على شريك السيد طريقان، أشهرهما، طرد القولين، والثاني: القطع بالوجوب، لان فعل السيد مضمون بالكفارة، فشريكه شريك عامد ضامن، كشريك الاب، ولو جرح نفسه، وجرحه غيره، بني على أن قاتل نفسه هل عليه كفارة ؟ إن قلنا: نعم، فكشريك السيد، وإلا فكشريك الحربي، وكيف كان فالمذهب الوجوب، ولو رمى اثنان سهمين إلى مسلم في صف الكفار، وقد علم أحدهما أنه مسلم، ولم يعلم الآخر أن هناك مسلما، فوجوب القصاص على العالم مبني على الخلاف في شريك السيد، لان

(7/40)


فعل الجاهل مضمون بالكفارة. فرع وجوب القصاص على شريك الصبي والمجنون العامدين، يبنى على أن عمدها عمد أم خطأ ؟ إن قلنا: عمد وهو الاظهر، وجب، وإلا فلا، كذا أطلقه مطلقون، وعن القفال وغيره أن الخلاف في صبي يعقل عقل مثله، وفي مجنون له نوع تمييز، فأما من لا تمييز له بحال، فعمده خطأ، وشريكه شريك مخطئ قطعا، وعلى هذا جرى الائمة، منهم البغوي. فرع إذا جرح شخص شخصا جراحتين إحداهما: عمد، والاخرى: خطأ، فمات بهما، فلا قصاص في النفس، لان الزهوق لم يحصل بعمد محض، وتجب نصف الدية المغلظة في ماله، ونصف المخففة على عاقلته، وقد يتعلق القصاص بجراحة العمد، بأن تكون قطع طرف، وكذا لو جرح حربيا أو مرتدا، فأسلم، فجرحه ثانيا، أو قطع يد إنسان قصاصا، أو بسرقة، ثم جرحه، أو قطع يده الاخرى ظلما، أو قطع الصائل دفعا، فلما ولى، جرحه، أو قطع يده الاخرى، فلا قصاص في النفس، ويثبت موجب الجراحة الواقعة في حال العصمة من قصاص، أو دية مغلظة، وكذا لو جرح العادل الباغي في القتال، ثم جرحه بعده، أو السيد عبده ثم جرحه بعد عتق، أو جرح حربي مسلما، ثم أسلم الجارح، وجرحه ثانيا، ولو قطع مسلم يد ذمي، فأسلم، فقطع يده الاخرى، أو حر يد عبد، فعتق، فقطع يده الاخرى، ومات بالسراية، فلا قصاص في النفس، ويجب قصاص الطرف المقطوع بعد الاسلام والحرية، فإن اقتص في الطرف، أخذ نصف الدية، وإن عفا، أخذ دية حر مسلم، ولو قطع ذمي يد ذمي، فأسلم القاطع، ثم قطع يده الاخرى، ومات بالسراية، فلا قصاص في النفس، ويجب قصاص الطرف المقطوع أولا، فإن عفا المستحق، أخذ دية ذمي. فرع إذا داوى المجروح نفسه بسم قاتل، بأن شربه، أو وضعه على الجرح، فإن كان السم مذففا، فالمجروح قاتل نفسه، وليس على الجارح قصاص في النفس، وإنما عليه أرش جراحته أو القصاص إن تعلق بها قصاص طرف، وإن كان السم مما لا يقتل غالبا، فالجارح شريك لصاحب شبه عمد، فلا قصاص عليه في النفس، بل عليه نصف الدية المغلظة، أو القصاص في الطرف إن اقتضته، وإن

(7/41)


كان السم قاتلا غالبا فإن لم يعلم المجروح ذلك، فهو كالحالة الثانية، وإن علمه، ففي وجوب القصاص على الجارح طريقان، أصحهما: أنه كشريك جارح نفسه، والثاني: لا يجب قطعا، لانه شريك مخطئ، لكونه قصد التداوي لا الاهلاك. فرع لو خاط جرحه في لحم ميت، لم يؤثر، لانه لا يؤلم، وعلى الجارح القصاص، أو كمال الدية، وإن خاطه تداويا في لحم حي، وكان ذلك مما يقتل غالبا، ففي وجوب القصاص على الجارح الطريقان في التداوي بالسم القاتل غالبا، وفي الصورتين لا فرق بين أن يفعل المجروح ذلك بنفسه، أو يأمر به، ولا شئ على المأمور، ولو استقل به غيره، فهو والاول جارحان متعديان، ولو تولاه الامام في مجروح، فإن كان بالغا رشيدا، فكذلك، لانه لا ولاية له عليه، وإن كان صغيرا أو مجنونا، فداواه لمصلحته، فمات، ففي وجوب القصاص على الامام قولان، كما لو قطع سلعة من صغير، أو مجنون، فمات منه، فإن قلنا: لا قصاص، وجب نصف دية مغلظة، وهل هي على عاقلة الامام أم في بيت المال ؟ فيه القولان المعروفان، وحكم الجارح يبنى على الخلاف فيما إذا تولاه المجروح بنفسه، فإن جعلنا وجوب القصاص عليه على الخلاف في مشاركة العامد الذي لا يضمن، لم يجب هنا القصاص، لانه شارك من فعله مضمون بالقصاص، أو الدية، وإن نزلنا المجروح منزلة المخطئ لقصده التداوي، ولم نوجب القصاص على شريكه، فكذا هنا، ولو قصد الخياطة في لحم ميت، فغلط وخاط في حي، فالجارح شريك مخطئ قطعا، قال القفال: وكذا لو قصد الخياطة في الجلد فغلط وأصابت الابرة اللحم، وأما الكي فكالخياطة، فينظر أكوى لحما ميتا أو حيا يؤلم وله سراية، ولا اعتبار بالمداواة بما لا يضر، ولا يخشى منه هلاك، ولا بما على المجروح من قروح، ولا بما به من مرض وضنى. فرع قطع أصبع رجل، فتأكل موضع القطع، فقطع المقطوع كفه خوفا من السراية، نظر، إن لم يتآكل إلا موضع القطع، فليس على الجاني إلا القصاص في الاصبع، أو أرشها إن لم يسر إلى النفس، فإن سرى، ففي وجوب القصاص

(7/42)


على الجاني في النفس، الخلاف المذكور في الخياطة، ولو جرح عضوا، فداواه المجروح فتأكل العضو، فسقط، فإن كان ما داواه به لا يورث التآكل، فعلى الجارح ضمان العضو، وإن كان يورث التآكل فليس عليه إلا أرش الجراحة، فلو قال الجاني: داويت بما يحدث منه التآكل، وأنكر المجني عليه، صدق المجني عليه بيمينه، لان الجناية معلومة، وغيرها من الاسباب غير معلوم، قال البغوي: ويحتمل أن يقال: المصدق الجاني بيمينه، لان الاصل براءته، ولو قطع يد إنسان ومات المقطوع، فقال الوارث: مات بالسراية، وقال الجاني: بل قتل نفسه، فأيهما المصدق بيمينه ؟ وجهان، أصحهما: الوارث، وهو نصه في الام. فرع ضرب جماعة رجلا بسياط، أو عصى خفيفة حتى قتلوه، نظر، إن كانت ضربات كل واحد منهم قاتلة لو انفردت، فعليهم القصاص، وإن آل الامر إلى الدية، فهل توزع عليهم على عدد الضربات، أم على عدد الرؤوس ؟ قولان، أرجحهما الاول، لان الضربات تلاقي ظاهر البدن، فلا يعظم فيها التفاوت بخلاف الجراحات، وإن لم يكن ضرب كل واحد قاتلا، بأن ضربه كل واحد من العدد الكثير ضربة، فمات، فثلاثة أوجه، أحدها: لا قصاص على واحد، والثاني: يجب على الجميع القصاص، لئلا يصير ذريعة إلى القتل، وأصحها: أنهم إن تواطؤوا على أن يضربوه تلك الضربات، فعليهم القصاص، وإن وقعت اتفاقا، فلا، وإذا لم نوجب القصاص، وجبت الدية قطعا، كذا قاله الامام، وذكر البغوي أنه لو ضربه واحد سوطين، أو ثلاثة، وآخر خمسين سوطا، أو مائة قبل زوال ألم الاول، ولا تواطؤ، فلا قصاص على واحد منهما، لان ضرب الاول شبه عمد، والثاني شريك له، ويجب بضرب الاول نصف دية شبه العمد، وبضرب الثاني نصف دية العمد، وأنه لو ضربه واحد خمسين، ثم ضربه الآخر سوطين قبل زوال ألم الاول، فإن كان الثاني عالما بضرب الاول، فعليهما القصاص لظهور قصد

(7/43)


الاهلاك فيهما، وإن كان جاهلا، فلا قصاص على واحد منهما، لانه لم يظهر قصد الاهلاك من الثاني، والاول شريكه، ويجب بضرب الاول نصف دية العمد، وبضرب الثاني نصف دية شبه العمد، وفرق بينه وبين ما إذا ضرب مريضا سوطين، جاهلا مرضه، حيث يجب القصاص، بأن هناك لم يجد من يحيل عليه القتل سوى الضارب، وليكن الحكم بتنصيف الدية في الصورتين تفريعا على أن التوزيع على الرؤوس دون الضربات. فرع جرحه رجل، ونهشته حية، ومات منهما، فالجارح شريك الحية وقد سبق بيان القصاص، وإذا آل الامر إلى المال، فعليه نصف الدية، ولو جرحه مع ذلك سبع، فوجهان، أصحهما: عليه ثلث الدية، والثاني: نصفها، ويجعل غير الآدمي جنسا.
باب تغير حال المجروح بين الجرح والموت للتغير أحوال: أحدها: أن يطرأ المضمن وفيه مسائل: إحداها: إذا جرح مرتدا أو حربيا بقطع يد أو غيره، ثم أسلم، أو عقدت للحربي ذمة، ثم مات من تلك الجراحة، فلا قصاص قطعا، ولا دية على الصحيح المنصوص، وقيل: لا دية قطعا، لانه قطع غير مضمون، فلم تضمن سرايته، كسراية القصاص والسرقة. الثانية: جرح حربي مسلما، ثم أسلم، أو عقدت له ذمة، ثم مات المجروح، قطع البغوي بأنه لا ضمان، ونقل بعضهم لزوم الضمان، لانه مضمون في الحالين. قلت: الصحيح: لا ضمان. والله أعلم. الثالثة: جرح عبد نفسه، ثم أعتقه، فمات بالسراية، فلا ضمان على السيد على المذهب والمنصوص، وقيل: قولان، ثانيهما: وجوب الدية.

(7/44)


الرابعة: رمى مرتدا أو حربيا، فأسلم، ثم أصابه السهم، فلا قصاص لعدم الكفاءة في أول أجزاء الجناية، وتجب الدية على المذهب وهو المنصوص، وقيل: لا تجب، وقيل: تجب في المرتد دون الحربي، لان المرتد لا يجوز لغير الامام قتله، ولان المرتد يقتل بالسيف ولا يرشق بالنشاب، فرشقه ممنوع، ويجري الخلاف فيما إذا رمى إلى قاتل أبيه، ثم عفا عنه قبل الاصابة، وهو أولى بالوجوب من المرتد، وفيما إذا رمى إلى عبد نفسه، ثم أعتقه قبل الاصابة، وهو أولى بالوجوب، لان العبد معصوم مضمون بالكفارة. الخامسة: حفر بئرا في محل عدوان، فتردى فيها مسلم كان مرتدا وقت الحفر، أو حر كان عبدا، وجبت الدية بلا خلاف، لان الحفر ليس سببا ظاهرا للاهلاك، ولا يتوجه نحو معين فلا يؤثر وجوده في زمن الاهدار بخلاف الرمي. فرع لو تغير حال الرامي، بأن رمى حربي إلى مسلم، ثم أسلم قبل الاصابة، ففي وجوب الضمان وجهان. فرع إذا قلنا بوجوب الضمان فيما إذا جرح حربيا، فأسلم ثم مات، وفيما إذا جرح عبد نفسه، ثم أعتقه فمات، فالواجب دية حر مسلم، وكذلك في مثلهما من صور الرمي. ثم الذي رأى الامام القطع به وتابعه عليه الغزالي أن الدية في طريان الاسلام والعتق بعد الجرح تكون مخففة، وعلى العاقلة، كما لو رمى إلى صيد، فأصاب آدميا، وأما في طريانهما بعد الرمي، ففي الدية الواجبة خلاف مذكور في الديات. الحال الثاني: أن يطرأ المهدر، فإذا جرح مسلما، ثم ارتد، ثم مات بالسراية، أو ذميا، فنقض العهد، ثم مات، فلا يجب قصاص النفس، ولا ديتها، ولا الكفارة، لانها تلفت وهي مهدرة، وأما ما يتعلق بالجراحة، ففيه صورتان،

(7/45)


إحداهما: أن تكون الجراحة مما يوجب القصاص، كالموضحة وقطع اليد، ففي وجوب القصاص في الموضحة والطرف، قولان، أظهرهما: الوجوب، فعلى هذا قال الشافعي رحمه الله في المختصر: لوليه المسلم أن يقتص، فقيل: أراد بالولي، السلطان، لانه وارث للمرتد، وقال الجمهور: يستوفيه قريبه الذي كان يرثه لولا الردة، لان القصاص للتشفي، وذلك يتعلق بالقريب دون السلطان، فعلى هذا لو كان القريب صغيرا أو مجنونا انتظر بلوغه وإفاقته ليستوفي. الصورة الثانية: أن تكون الجراحة موجبة للمال دون القصاص، كالجائفة والهاشمة، أو من جنس ما يوجب القصاص، وقلنا: لا قصاص، أو عفي عنه، فهل يجب المال ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الوجوب، فعلى هذا فيما يجب وجهان، أصحهما ويحكى عن النص: أنه يجب أقل الامرين من الارش الذي تقتضيه الجراحة ودية النفس، والثاني، وبه قال الاصطخري: يجب أرش الجراحات بالغا ما بلغ، فيجب فيما إذا قطع يديه ورجليه ديتان، وعلى كل حال فالواجب فئ لا يأخذ القريب منه شيئا، هذا إذا طرأت الردة بعد الجرح، فلو طرأت بعد الرمي وقبل الاصابة، فلا ضمان باتفاقهم. فرع قطع يده، ثم ارتد المقطوع، واندمل جرحه، فله قصاص اليد، فإن مات قبل أن يقتص، اقتص وليه، ومن الولي ؟ فيه الخلاف السابق، فإن كانت الجناية توجب المال، قال البغوي: إن قلنا: ملكه باق، أخذه، وإن قلنا: زائل، وقف، فإن عاد إلى الاسلام، أخذه، وإلا، أخذه الامام. الحال الثالث: أن يتخلل المهدر بين الجرح والموت، فإذا جرح مسلم مسلما، ثم ارتد المجروح، ثم أسلم ومات بالسراية، وجبت الكفارة قطعا، وأما القصاص، فنص أنه لا يجب، ونص فيما إذا جرح ذمي ذميا، أو مستأمنا فنقض العهد، والتحق بدار الحرب، ثم جدد العهد، ومات بالسراية، أن في وجوب القصاص قولين، وللاصحاب طريقان، أصحهما في المسألتين، قولان، أحدهما: وجوب القصاص، لانه مضمون بالقصاص في حالتي الجرح والموت، والثاني: لا، لتخلل حالة الاهدار، والطريق الثاني: تنزيل النصين على حالين، فحيث قال: لا قصاص، أراد إذا طالت مدة الاهدار، بحيث يظهر أثر السراية،

(7/46)


وحيث قال: يجب، فذلك إذا قصرت المدة بحيث لا يظهر للسراية أثر، وإذا قلنا بطريقة القولين، ففي موضعهما طريقان، أحدهما: تخصيصهما بما إذا قصرت المدة، فإن طالت، لم يجب القصاص قطعا، والثاني: طردهما في الحالين قاله ابن سريج وابن سلمة وابن الوكيل، والاصح عند الجمهور: تخصيص القولين بقصر المدة، والاظهر منها عند الجمهور، أنه لا قصاص، وأما الدية، ففيها أقوال، أظهرها عند الجمهور: يجب كمال الدية، والثاني: نصفها، والثالث: ثلثاها، والرابع: أقل الامرين من كل الدية وأرش الجراحة، وهذان الاخيران مخرجان، ثم قال الجمهور: تختص الاقوال بما إذا طالت مدة الاهدار، فإن قصرت، وجب كل الدية قطعا، وقيل بطردها في الحالين، قال الامام: وإذا أوجبنا القصاص، فآل الامر إلى المال، ففيه هذا الخلاف، وقال البغوي: إذا أوجبنا القصاص، فعفي، وجب كمال الدية بلا خلاف، وإنما الخلاف إذا لم نوجب قصاصا، وهذا أرجح. فرع رمى إلى مسلم فارتد وعاد إلى الاسلام، ثم أصابه السهم، فلا قصاص على المذهب، وبه قطع الجمهور، قال الامام: ويجئ فيه قول. الحال الرابع: أن يطرأ ما يغير قدر الدية، فيجب ما يقتضيه يوم الموت، لان الضمان بدل التالف، فيعتبر وقت التلف، وقد يكون التغير من الاكثر إلى الاقل، وقد ينعكس، مثال الاول: جنى على نصراني، فتمجس ثم مات، فإن قلنا: يقر النصراني إذا تمجس على التمجس، فعلى الجاني دية مجوسي، وإن قلنا: لا يقر، فهو كما لو ارتد المجروح ومات، فعلى الاصح: يجب الاقل من أرش الجناية على نصراني ودية نفسه، وعلى قول الاصطخري: يجب الارش بالغا ما بلغ، ولو جرح نصرانيا، فنقض المجروح العهد، والتحق بالحرب، ثم سبي واسترق، ومات بالسراية، فلا قصاص في النفس، ويجب قصاص الطرف إن كانت الجناية بقطع طرف، وإن أراد المستحق المال، ففيما يجب، قولان، أحدهما: أقل الامرين من أرش جنايته حرا، وكمال قيمته عبدا، وعلى هذا هو لورثته

(7/47)


النصارى، سواء كانوا عندنا أم في دار الحرب، كذا حكاه ابن كج والروياني، وفي قول غريب، يكون لبيت المال. قلت: قد جزم البغوي على هذا القول بأنه لسيده، لانه بدل روحه وكانت ملكه. والله أعلم. وأظهرهما: أن الواجب للوارث، والباقي للسيد، ولو أن الذي ملكه أعتقه، فمات حرا فقولان في أن الواجب أقل الامرين من الارش، ودية حر ذمي، وعلى القولين فالواجب لورثته، ولو أسلم وعتق ومات، ففي القصاص قولان، وفي المال الواجب قولان، هل هو دية حر مسلم، أم أقل الامرين من الارش ودية حر مسلم ؟ وعلى القولين، فهو لورثته المسلمين. مثال العكس: جرح ذميا، فأسلم، أو عبدا لغيره، فعتق، ثم مات، نظر، إن مات بعد الاندمال، وجب أرش الجناية، ويكون الواجب في العبد لسيده، فلو قطع يديه، أو فقأ عينيه، لزمه كمال قيمته، سواء كان العتق قبل الاندمال أم بعده، وقيل: إن كان الاندمال بعد العتق، فعليه دية حر، والصحيح الاول، وإن مات بالسراية، لم يجب قصاص النفس إذا كان جارح الذمي مسلما، وجارح العبد حرا، وتجب فيه دية حر مسلم، لانه كان مضمونا أولا، وهو في الانتهاء حر مسلم، ولا فرق بين أن تكون القيمة أقل من الدية، أو أكثر، حتى لو فقأ عيني عبد قيمته تساوي مائتين من الابل، أو قطع يديه، لم يجب إلا مائة، ثم إن كانت الدية مثل القيمة أو أقل، فالجميع للسيد، وإن كانت أكثر، فالزيادة على القيمة للورثة، لانها وجبت بالحرية، وقال المزني: إذا كانت القيمة أكثر، وجبت بكمالها للسيد، ولو قطع إحدى يدي عبد، فعتق ومات بالسراية، أوجبنا كمال الدية، وفيما للسيد منها قولان، أحدهما: أقل الامرين من

(7/48)


كل الدية، وكل القيمة، وأظهرهما: أقل الامرين من كل الدية، ونصف القيمة، وهو أرش الطرف المقطوع في ملكه. فصل قطع يد عبد، فعتق، ثم جاء آخر، فقطع يده الاخرى، أو رجله، نظر، إن اندملت الجراحتان، فلا قصاص على الاول إن كان حرا، وعليه نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص، أو نصف الدية، وإن مات منهما، فلا قصاص على الاول في النفس، ولا في الطرف إن كان حرا، وأما الثاني، فللوارث أن يقتص منه في الطرف، وكذا في النفس على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: لا قصاص، وقيل: قولان كشريك المبيع، وإذا أوجبنا القصاص، فعفا المستحق، فعليهما كل الدية للسيد، أقل من نصف الدية ونصف القيمة، ويكون حقه فيما يجب على الاول دون الثاني، وإن اقتص الوارث من الثاني، بقي على الاول نصف الدية، فإن كان قدر نصف القيمة أو أقل، أخذه السيد، وإن كان أكثر، فالزيادة للوارث ولو قطع حر يد عبد، فعتق، ثم قطع يده الاخرى، فمات منهما، فللوارث القصاص في الطرف الثاني ولا يجب قصاص النفس على الصحيح، فلو عفا المستحق عن قصاص الطرف، ففيهما الدية، وإن استوفاه، بقي نصف الدية، وحكم ما للسيد في الحالين على ما ذكرنا فيما إذا كان القاطع غيره، ولو قطع إصبع عبد، فعتق، ثم قطع آخر يده، ومات منهما، فعليهما الدية، وللسيد على أحد القولين: الاقل من نصف الدية، ونصف القيمة، وعلى الاظهر: الاقل من نصف الدية، وعشر القيمة. فرع قطع إحدى يدي عبد، فعتق، ثم جرحه رجلان، بأن قطع أحدهما يده الاخرى، والآخر رجله، ومات، فلا قصاص على الاول، لا في النفس ولا في الطرف إن كان حرا، وعلى الآخرين القصاص في الطرف، ويجب أيضا في النفس على المذهب، وأما الدية، فتجب على الثلاثة أثلاثا، ولا حق للسيد فيما يجب على الآخرين، وإنما يتعلق حقه بما على الاول، وفيما يستحقه القولان، فعلى القول الاول: أقل الامرين من ثلث الدية، وثلث القيمة، وعلى الثاني: الاقل من ثلث الدية، وأرش الجناية في ملكه وهو نصف القيمة، فلو كانت الصورة بحالها، فعاد الاول وجرح بعد العتق جراحة أخرى ومات بسراية الجميع، فالدية عليهم أثلاثا لما سبق أنا ننظر إلى عدد الجارحين، لا إلى الجراحات، ثم الثلث الواجب على

(7/49)


الجاني الاول واجب عن جنايتيه، فتقابل الجناية الواقعة في الرق سدس الدية، فللسيد على القول الاول الاقل من سدس الدية الواجب بالجناية في ملكه، أو سدس القيمة، وعلى الثاني الاقل من سدس الدية أو نصف القيمة وهو أرش الجناية في ملكه. ولو قطع يد عبد، فعتق، فجرحه آخر جراحة، فعاد الاول، فجرحه أخرى، فعليهما الدية نصفين، والنصف الواجب على الاول وجب بجنايتي الرق والحرية، فحصة الجناية الاولى ربع الدية، فللسيد في القول الاول الاقل من ربع الدية وربع القيمة، وعلى الثاني الاقل من ربع الدية، ونصف القيمة، وبه أجاب ابن الحداد في هذه الصورة، وذكر القاضي أبو الطيب أنه الاظهر، ولو جنى اثنان على عبد معتق، ثم جنى عليه ثالث، ومات بالسراية، فعليهم الدية أثلاثا، وللسيد في القول الاول الاقل من ثلثي الدية وثلثي القيمة، وفي الثاني الاقل من ثلثي الدية وأرش جنايتي الرق، ولو جنى عليه ثلاثة في الرق، فعتق، ثم جنى رابع ومات، فعليهم الدية أرباعا، للسيد في القول الاول الاقل من ثلاثة أرباع الدية وثلاثة أرباع القيمة، وفي الثاني الاقل من ثلاثة أرباع الدية وأرش جنايات الرق، ولو جنى اثنان في الرق، وثلاثة بعد ما عتق، فالدية عليهم أخماسا، للسيد في القول الاول الاقل من خمسي الدية وخمسي القيمة، وفي الثاني الاقل من خمسي الدية وأرش جنايتي الرق، ولو أوضح عبدا، فعتق، فقطع آخر يده، ومات منهما، فعليهما الدية، وللسيد على القول الاول أقل الامرين من نصف الدية، ونصف القيمة، وعلى الثاني الاقل من نصف الدية ونصف عشر القيمة، وهو أرش الموضحة، ولو أوضحه، فعتق، فجاء تسعة فجرحوه ومات، فعليهم الدية أعشارا، وللسيد على القول الاول الاقل من عشر الدية وعشر القيمة، وعلى الثاني الاقل من عشر الدية، ونصف عشر القيمة، وهو أرش الموضحة ولو جرحه الاول جرحا آخر مع التسعة، فالدية عليهم كذلك للسيد، الاقل من نصف عشر الدية ونصف عشر القيمة على القولين، لانه لم يجب بالجناية واقفة وسارية إلا نصف عشر الضمان، وهكذا يتفق القولان إذا اتفق قدر الضمان على التقديرين، كما إذا جنى خمسة في الرق، وأرش جناياتهم نصف القيمة، وخمسة بعد العتق، فللسيد على القولين الاقل من نصف الدية ونصف القيمة. فرع قطع حر يد عبد، فعتق، فحز آخر رقبته، فقد أبطل الحز السراية،

(7/50)


فعلى الاول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص، أو كمال الدية للوارث، ولو قطع حر يد عبد، فعتق، ثم قطع آخر يده الاخرى، ثم حزت رقبته، فإن حزه ثالث، فقد بطلت سراية القطعين، فعلى الاول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص في الطرف، أو نصف الدية للوارث، وعلى الثالث القصاص في النفس، أو كمال الدية، وإن حزه الاول، نظر، إن حزه بعد اندمال قطعه، فعليه نصف القيمة للسيد، والقصاص في النفس، أو كمال الدية للوارث، وعلى الثاني نصف الدية، وإن حزه قبل الاندمال، فعليه القصاص في النفس، ثم إن قلنا بالصحيح: إن بدل الطرف يدخل في النفس، فإن اقتص الوارث، سقط حق السيد، وإن عفا، وجب كمال الدية للسيد منه الاقل من نصف الدية، ونصف القيمة على أحد القولين كما سبق، هذا هو الصحيح، وقال القاضي أبو الطيب: عندي يسقط حق السيد وإن عفا الوارث، لانه إذا سقط حكم الطرف، صار الحكم للنفس، وكان المأخوذ بدل النفس المفوتة بعد زوال ملك السيد، وعلى قول ابن سريج والاصطخري: أن بدل الطرف لا يدخل في النفس، يكون للسيد عليه نصف القيمة، وللوارث القصاص في النفس، أو كمال الدية، وإن حز الثاني، بطلت سراية الاول، فعلى الاول نصف القيمة للسيد، والثاني قطع طرف حز ثم قتله، فإن قتله بعد الاندمال، فللوارث أن يقتص منه في الطرف والنفس، وله أن يأخذ نصف الدية لليد، ودية كاملة للنفس، فإن شاء، اقتص فيهما، وإن شاء، أخذ بدلهما، وإن شاء، بدل أحدهما وقصاص الآخر، وإن قتله قبل الاندمال، فللوارث القصاص في النفس بقطع اليد، وله أخذ دية النفس فقط. فرع قد عرفت أن الواجب فيما إذا جنى على عبد، فعتق، وسرت الجناية إلى نفسه، إنما هو الدية، والدية الابل، قال الاصحاب: تؤخذ الدية، وتصرف إلى السيد حصته على التفصيل السابق من الابل، وليس للوارث أن يقول: أستوفي الابل، وأدفع إليه ما يستحقه من الدراهم، أو الدنانير، زاعما أنه إنما يستحق القيمة، والقيمة دراهم أو دنانير، لان ما يستحقه يستحقه من عين الدية التي هي الواجبة وليست مرهونة بحقه، بخلاف الدين مع التركة، وليس للسيد أن يكلف الجاني تسليم الدراهم، ولو أتى الجاني بالدراهم، ففي إجبار السيد على قبولها وجهان، أرجحهما عند الامام والغزالي: نعم، وحاصله تخيير الجاني بين تسليم

(7/51)


الدية والدراهم، ولو أبرأ السيد الجاني عما يستحقه من الدية، برئ، وليس للورثة المطالبة به. فرع رمى إلى ذمي، فأسلم، أو عبد، فعتق قبل الاصابة، وجب دية حر مسلم، ولا قصاص إذا كان الرامي حرا مسلما، وكذا لو رمى ذمي إلى ذمي، أو إلى عبد، ثم أسلم الرامي، أو عتق قبل الاصابة، لا قصاص، لانه لا كفارة عند الاصابة. فرع قد يعبر عن مسائل الباب في تغير الحال بين الجرح والموت، وبين الرمي والاصابة، فيقال: كل جرح أوله غير مضمون لا ينقلب مضمونا بتغير الحال في الانتهاء، وإن كان مضمونا في الحالين، اعتبر في قدر الضمان الانتهاء، وفي القصاص تعتبر الكفاءة في الطرفين والوسط، وكذا إذا تبدل الحال بين الرمي والاصابة، اعتبر في القصاص الكفاءة في الطرفين والوسط، وكذا يعتبر الطرفان والوسط في تحمل العاقلة وبالله التوفيق.
باب القصاص في الأطراف فيه فصول أربعة:
الأول : في أركانه وهي ثلاثة: القطع والقاطع والمقطوع، وكما يعتبر في القتل أن يكون عمدا محضا عدوانا يعتبر ذلك في الطرف، فلا يجب القصاص بالجراحات، وإبانة الاطراف إذا كانت خطأ، أو شبه عمد، ومن صور شبه العمد: أن يضرب رأسه بلطمة أو حجر لا يشج غالبا لصغره، فيتورم الموضع، ويتضح العظم، وقد يكون الضرب بالعصا الخفيفة، والحجر المحدد عمدا في الشجاج، لانه يوضح غالبا، ويكون شبه عمد في النفس، لانه لا يقتل غالبا، ولو أوضحه بما يوضح غالبا، ولا يقتل غالبا، فمات من تلك الموضحة، فعن الشيخ أبي حامد أنه يجب القصاص في الموضحة، ولا يجب في النفس، واستبعده ابن الصباغ

(7/52)


وغيره، لانه إذا كانت هذه الآلة توضح في الغالب كانت كالحديدة، وفق ء العين بالاصبع عمد، لانها في العين تعمل عمل السلاح ويعتبر في القاطع كونه مكلفا ملتزما للاحكام، وفي المقطوع كونه معصوما كما ذكرنا في النفس، ومن قتل به الشخص، قطع به، ومن لا، فلا. ولا يشترط في قصاص الطرف التساوي في البدل، فيقطع العبد بالعبد، والمرأة بالرجل وبالعكس، والذمي بالمسلم، والعبد بالحر، ولا عكس فيهما، وتقطع الجماعة بالواحد إذا اشتركوا بأن وضعوا السكين على اليد، وتحاملوا عليها دفعة واحدة حتى أبانوها، أو ضربوه ضربة اجتمعوا عليها، ولو تميز فعل الشركاء، بأن قطع هذا من جانب، وهذا من جانب حتى التقت الحديدتان، أو قطع أحدهما بعض اليد، وأبانها الآخر، فلا قصاص على واحد منهما، ويلزم كل واحد منهما حكومة تليق بجنايته، وينبغي أن يبلغ مجموع الحكومتين دية اليد، وعن صاحب التقريب حكاية قول: إنه يقطع من كل واحد منهما بقدر ما قطع إن أمكن ضبطه، والمشهور الاول، ولو جزا حديدة جز المنشار، فقال الجمهور: هما فعلان متميزان، وقال ابن كج: هو اشتراك موجب للقصاص، قال الامام: هذا يصور صورتين، إحداهما: إن يتعاونا في كل جذبة وإرساله، فتكون من صور الاشتراك، والثانية: أن يجذب كل واحد إلى جهة

(7/53)


نفسه، ويفتر عن الارسال في جهة صاحبه، فيكون البعض مقطوع هذا، والبعض مقطوع ذاك، ويكون الحكم ما قاله الجمهور.
الفصل الثاني : فيما يوجب قصاص الطرف الجنايات فيما دون النفس ثلاثة أنواع: جرح يشق، وقطع يبين، وإزالة منفعة بلا شق ولا إبانة. النوع الاول: الجرح، ويتعلق به القصاص في الجملة، قال الله تعالى * (والجروح قصاص) * ثم تنقسم إلى واقعة على الرأس والوجه، وإلى غيرها. الضرب الاول: الواقعة على الرأس والوجه، وتسمى الشجاج، وهي عشر، إحداها: الحارصة وهي التي تشق الجلد قليلا نحو الخدش، وتسمى الحرصة أيضا، الثانية: الدامية: وهي التي تدمي موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها دم، هكذا نص عليه الشافعي وأهل اللغة، قال أهل اللغة: فإن سال منها دم، فهي الدامعة بالعين المهملة، وذكر الامام والغزالي في تفسيرها: سيلان الدم وهو خلاف الصواب، الثالثة: الباضعة وهي التي تبضع اللحم بعد الجلد، أي: تقطعه، الرابعة: المتلاحمة وهي التي تغوص في اللحم، ولا تبلغ الجلدة بين اللحم والعظم، وتسمى اللاحمة أيضا، الخامسة: السمحاق وهي التي تبلغ تلك الجلدة، وتسمى تلك الجلدة السمحاق، وقد تسمى هذه الشجة: الملطى والملطاة واللاطئة، السادسة: الموضحة وهي التي تخرق السمحاق، وتوضح العظم،

(7/54)


السابعة: الهاشمة وهي التي تهشم العظم، أي: تكسره، الثامنة: المنقلة وهي التي تنقل العظم من موضع إلى موضع، ويقال: هي التي تكسر وتنقل، ويقال: هي التي تكسر العظم حتى يخرج منها فراش العظام، والفراشة: كل عظم رقيق، وفراش الرأس: عظام رقاق تلي القحف، التاسعة: المأمومة وهي التي تبلغ أم الرأس، وهي خريطة الدماغ المحيطة به، ويقال لها: الآمة أيضا، العاشرة: الدامغة وهي التي تخرق الخريطة وتصل الدماغ وهي مذففة. فهذه العشرة هي المشهورة، وذكر فيها ألفاظ أخر تؤول إلى هذه، وجميع هذه الشجاج تتصور في الجبهة كما تتصور في الرأس، وكذلك تتصور ما عدا المأمومة والدامغة في الخد، وفي قصبة الانف، واللحي الاسفل، إذا عرفت هذا، فالقصاص واجب في الموضحة، لتيسر ضبطها، واستيفاء مثلها، ولا قصاص فيما بعدها من الهاشمة والمنقلة وغيرهما، وأما ما قبلها، فلا قصاص في الحارصة قطعا، ولا في الباضعة والمتلاحقة والسمحاق على المذهب، والدامية كالحارصة، وقيل: كالباضعة، فإن أوجبنا القصاص في المتلاحمة والباضعة، فإن كان على رأس كل واحد من الشاج والمشجوج موضحة، تيسرت معرفة النسبة بهما، وإن لم تكن، راجعنا أهل الخبرة لينظروا في المقطوع والباقي، ويحكموا بأنه نصف، أو ثلث بالاجتهاد بعد غمر رأس الشاج والمشجوج، ويحكمون أيضا عند القصاص، ويعمل باجتهادهم، فإن شكوا في أن المقطوع نصف أو ثلث أخذ باليقين. الضرب الثاني: الجراحات في سائر البدن، فما لا قصاص فيه إذا كان على الرأس والوجه لا قصاص فيه إذا كان على غيرهما، وأما الموضحة التي توضح عظم الصدر، أو العنق، أو الساعد أو الاصابع، ففي وجوب القصاص فيها وجهان،

(7/55)


أحدهما: لا، كما لا يجب فيها أرش مقدر، وأصحهما: نعم، وهو ظاهر النص لتيسر استيفاء المثل، وإذا اختصرت، وأجبت في الجراحات في جميع البدن بالمختار، قلت: يجب القصاص في الجراحة على أي موضع كانت بشرط أن تنتهي إلى عظم ولا تكسره. النوع الثاني: قطع الطرف، فيجب القصاص بقطع الطرف بشرط إمكان المماثلة، وأمن استيفاء الزيادة، ويحصل ذلك بطريقين: أحدهما: أن يكون للعضو مفصل توضع عليه الحديدة وتبان، والمفصل موضع اتصال عضو بعضو على منقطع عظمين، وقد يكون ذلك بمجاورة محضة، وقد يكون مع دخول عضو في عضو، كالمرفق والركبة، فمن المفاصل الانامل والكوع والمرفق ومفصل القدم والركبة، فإذا وقع القطع على بعضها، اقتص من الجاني، قال الامام: وفي بعض التعاليق عن شيخي حكاية وجه بعيد في المرفق والركبة، قال: وأظنه غلطا من المعلق، ومن المفاصل أصل الفخذ والمنكب، فإن أمكن القصاص بلا إجافة، اقتص، وإلا فلا، سواء كان الجاني أجاف أم لا، لان الجوائف لا تنضبط، وحكى الامام وجها شاذا أنه يجري القصاص إذا كان الجاني أجاف، وقال أهل البصر: يمكن أن يقطع، ويجاف مثل تلك الجائفة. الطريق الثاني: أن يكون للعضو حد مضبوط ينقاد لآلة الابانة، فيجب القصاص في فق ء العين، وفي الاذن، والجفن، والمارن، والذكر والانثيين قطعا، وفي الشفة واللسان على الصحيح، وفي الشفرين والاليتين على الاصح عند الاكثرين، ولا قصاص في إطار الشفة بكسر الهمزة وتخفيف الطاء المهملة، وهو المحيط بها، لانه ليس له حد مقدر، والكلام

(7/56)


في قدر الشفتين والشفرين والاليتين يأتي في الديات إن شاء الله تعالى. فرع لو قطع بعض الاذن، أو بعض المارن من غير إبانة، وجب القصاص على الاظهر، لاحاطة الهواء بهما، وإمكان الاطلاع عليهما من الجانبين، ويقدر المقطوع بالجزئية، كالثلث والربع، لا بالمساحة، ولو قطع بعض الكوع، أو مفصل الساق والقدم، ولم يبن، فلا قصاص على الاظهر، لانها تجمع العروق والاعصاب، وهي مختلفة الوضع تسفلا وتصعدا، فلا يوثق بالمماثلة فيها بخلاف المارن، ولو قطع فلقة من الاذن، أو المارن، أو اللسان، أو الحشفة، أو الشفة، وأبانها، وجب القصاص على الصحيح، وتضبط بالجزئية، ولو أبان قطعة من الفخذ، فلا قصاص، كذا جزم به الغزالي، ويشبه أن يجئ فيه خلاف كالباضعة. فرع قطع يدا أو عضوا، وبقي المقطوع متعلقا بجلده، وجب القصاص، أو كمال الدية، لانه أبطل فائدة العضو، ثم إذا انتهى العضو في الاقتصاص إلى تلك الجلدة، فقد فصل القصاص، ويراجع الجاني أهل الخبرة في تلك الجلدة، ويفعل مصلحته من القطع والترك. فرع لا قصاص في كسر العظام، لعدم الوثوق بالمماثلة، لكن للمجني عليه أن يقطع أقرب مفصل إلى موضع الكسر، ويأخذ الحكومة للباقي، وله أن يعفو، ويعدل إلى المال، ولو أوضح رأسه مع الهشم، فللمجني عليه أن يقتص في الموضحة، ويأخذ الهشم ما بين أرش الهاشمة والموضحة، وهو خمس من الابل، ولو أوضح ونقل، فللمجني عليه أن يقتص في الموضحة، ويأخذ ما بين الموضحة والمنقلة، وهو عشر من الابل، ولو أوضح وأم، فله أن يوضح، ويأخذ ما بين الموضحة والمأمومة، وهو ثمانية وعشرون بعيرا وثلث بعير، لان في المأمومة ثلث الدية.

(7/57)


فرع قطعه من الكوع، فأراد المجني عليه أن يلقط أصابعه، فليس له ذلك، فلو بادر وفعله، عزر، ولا غرم عليه، لانه يستحق إتلاف الجملة، فلا يلزمه بإتلاف البعض غرم، كما أن مستحق قتل النفس لو قطع طرف الجاني، لا غرم عليه، قال البغوي: وهل له أن يعود ويقطع الكف ؟ وجهان، أصحهما: نعم، كما أن مستحق النفس لو قطع يد الجاني له أن يعود ويحز رقبته، ولو طلب حكومة الكف تدخل في دية الاصابع وقد استوفى الاصابع المقابلة بالدية، ولو قطع يده من المرفق، فأراد أن يقطع من الكوع، أو يقطع أصبعا، ويرضى بها قصاصا ومالا، لم يكن له ذلك، لانه عدول عن محل الجناية مع القدرة عليه، وقيل: إن رضي بذلك بلا مال، جاز، والصحيح الاول، فلو خالفنا فقطع من الكوع، عزر ولا غرم لما سبق، ولو أراد بعد ذلك أن يقطع من المرفق، قال الامام: لا يمكنه، وجعله البغوي على وجهين، ولو طلب حكومة الساعد لم نثبتها له، كذا نقله الامام عن الاصحاب، ونقله البغوي أيضا، ثم قال: وعندي أنها تثبت. فرع لو كسر عظم العضد، وأبان اليد منه، فللمجني عليه أن يقطع من المرفق، ويأخذ الحكومة لما بقي، وإن عفا، فله دية الكف، وحكومة للساعد، وحكومة للمقطوع من العضد، فلو أراد أن يترك المرفق، ويقطع من الكوع، فهل له ذلك ؟ وجهان، أرجحهما عند البغوي: يجوز، لعجزه عن محل الجناية، ومسامحته، وأرجحهما عند الروياني وغيره لا، لانه عدول عما هو أقرب إلى محل الجناية ولو أراد التقاط الاصابع، لم يمكن قطعا، ولو أراد أخذ أصبع واحدة، فالقياس أنه على الوجهين في قطع الكوع، فإذا قلنا: ليس له القطع من الكوع، فقطع، ثم أراد القطع من المرفق، لم يكن وليس له حكومة الساعد، وإن قلنا: له القطع من الكوع، فقطع، فله حكومة الساعد على الاصح، وتجب له حكومة المقطوع من العضد، هكذا جزم به الاصحاب، وحكى الغزالي فيه وجهين، والصواب الاول، لان استيفاء تلك البقية متعذر شرعا، ولم يوجد من المجني عليه فيها تقصير وعدول، ولم أجد هذين الوجهين لغير الغزالي.

(7/58)


فرع لو قطعه من نصف الساعد، قطع من الكوع وأخذت حكومة نصف الساعد، فلو عفا، فله دية الكف، وحكومة لنصف الساعد، ولو أراد أن يلتقط أصابعه، لم يكن، فلو فعل، لم يمكن من القطع من الكوع، قال البغوي: وليس له حكومة الكف، وله حكومة نصف الساعد، ويجئ في حكومة نصف الساعد الخلاف. فرع لو قطع يده من نصف الكف، لم يقتص في الكف، وله التقاط الاصابع. وإن تعددت الجراحة، لانه لا سبيل إلى إهماله، وليس بعد موضع الجراحة إلا مفاصل متعددة، وهل تجب مع قطعها حكومة نصف الكف، أم تدخل الحكومة في فرع من الام: لو قطعها، كدخولها في استيفاء الدية ؟ وجهان، أصحهما: الوجوب فرع: من " الام ": لو شق كفه حتى انتهى إلى مفصل، ثم قطع من المفصل أو لم يقطع، اقتص منه إن قال أهل الخبرة: يمكن أن يفعل به مثله. النوع الثالث: إبطال المنافع وهي لا تباشر بالتفويت، وإنما تفوت تبعا لمحلها، وقد ترد الجناية على غير محلها، وتفوت هي بالسراية لارتباط بينها وبين محل الجناية، فلو أوضح رأسه، فذهب ضوء عينيه، فالنص أنه يجب القصاص في الضوء كما يجب في الموضحة، ونص فيما إذا قطع أصبعه فسرى إلى الكف، أو إلى أصبع أخرى بتآكل أو شلل، أنه لا يجب القصاص في محل السراية، فقيل: فيهما قولان، والمذهب تقرير النصين، والفرق أن الضوء ونحوه من اللطائف لا تباشر بالجناية، وإنما تقصد بالجناية على محلها، أو محل آخره، وإذا أوجبنا القصاص في الضوء بالسراية، فالذي صححه الامام نقلا ومعنى أن السمع كالبصر، وحكى فيما إذا أبطل بطش عضو بالسراية تردد الاصحاب، منهم من ألحقه بالضوء، وبه قال صاحب التقريب ومنهم من رأى البطش عسر الازالة،

(7/59)


كالاجسام، وإليه ميل الشيخ أبي محمد، وفي العقل أيضا تردد لبعده عن التناول بالسراية، قال: ولا يبعد إلحاق الكلام بالبصر، ورتبها فجعل البصر والسمع في درجة، ويليهما الكلام، ويليه البطش، ويليه العقل، وذكر صاحب المهذب أنه لو جنى على رأسه، فذهب عقله، أو على أنفه، فذهب شمه، أو على أذنه، فذهب سمعه، فلا قصاص في العقل والشم والسمع، والاقرب منع القصاص في العقل، ووجوبه في الشم والبطش والذوق، لان لها محال مضبوطة، ولاهل الخبرة طرق في إبطالها، وإذا ذهب الضوء بالموضحة، واقتصصنا في الموضحة، فلم يذهب ضوء الجاني، أذهب بأخف ما يمكن، كتقريب حديدة محماة من عينيه، أو طرح كافور فيها ونحوهما، وإن ذهب ضوء الجاني، حصل القصاص، وفيه شئ يأتي إن شاء الله تعالى. ولو هشم رأسه، فذهب ضوؤه، عولج بما يزيل الضوء ولا يقابل الهشم بالهشم، ولو لطمه، فذهب ضوؤه واللطمة بحيث تذهب الضوء غالبا، فالمنقول عن نصه في الام أنه يلطم مثل لطمته، فإن ذهب الضوء فعلى ما ذكرنا في الموضحة، وإلا أزيل بالمعالجة، وإن ابيضت الحدقة، أو شخصت، فعل به ما يفضي إليه إن أمكن، ونسب صاحب المهذب هذا المنقول عن النص إلى بعض الاصحاب، ثم قال: ويحتمل أن لا يقتص في اللطمة كما لا يقتص بالهاشمة، لانه لا قصاص في اللطمة لو انفردت، وهذا حسن، وجعله صاحب التهذيب وجها، وقال: هو الاصح. فرع إذا قلنا: لا يجب القصاص في الاجسام بالسراية، فقطع أصبعه، فسرى القطع إلى الكف وسقطت، فلا يجب القصاص إلا في تلك الاصبع، وإذا اقتص في الاصبع، فسرى إلى الكف فالنص أن السراية لا تقع قصاصا، بل يجب على الجاني دية باقي اليد، ونص فيما إذا أوضحه فذهب ضوؤه وشعر رأسه، فاقتص في الموضحة، فذهب ضوء الجاني وشعر رأسه أيضا، أنه يكون مستوفيا حقه، ولو لم يذهب ضوء الجاني، ونبت شعره، فعليه دية البصر وحكومة الشعر. وفي هذا

(7/60)


النص إيقاع الشعر مقابلا للشعر وهو من الاجسام، فاقتضى وقوع السراية في الاجسام قصاصا، فقيل: قولان في أن السراية في الضوء والكف هل تقع قصاصا ؟ وقيل: في الكف قولان، ويقع الضوء قطعا، والمذهب أن السراية لا تقع قصاصا في الكف ولا في الشعر، ولو عفا المجني عليه عن قصاص الاصبع، فله دية اليد، وإن اقتص، فلم يسر القطع إلى غير تلك الاصبع، أو سرى وقلنا: لا يقع قصاصا، فله أربعة أخماس دية الكف للاصابع الاربع، ولا تجب لمنابتها من الكف حكومة، بل تدخل في ديتها، وفي دخول حكومة خمس الكف في قصاص الاصبع، وجهان سيعودان إن شاء الله تعالى، وما يجب من الدية يجب مغلظا في مال الجاني، لانه وجب بجناية عمد موجبة للقود، وقيل: على العاقلة، والصحيح الاول، وله المطالبة به عقب قطع الاصبع، وفي صورة الموضحة المذهبة للبصر، لو أوضحه، فلم يذهب ضوؤه في الحال، لا يطالب بالدية، بل ينتظر، فلعله يسري إلى البصر فيحصل الاقتصاص، وكذا في النفس، لو قطع أصبعه فسرى إلى نفسه، فقطع الولي أصبع الجاني، ينتظر السراية ولا يطالب بالدية في الحال. فرع له تعلق بالسراية. لو قتل مستحق القصاص الجاني خطأ، أو ضربه بسوط خفيف، فهل يصير مستوفيا ؟ فيه خلاف، ومثله: لو وثب الصبي، أو المجنون على قاتل مورثه فقتله، هل يصير مستوفيا ؟ وجهان، أصحهما: لا، فعلى هذا ينتقل حقه إلى الدية، وتجب الدية بقتل الجاني، وهل تكون عليه أم على عاقلته ؟ يبنى على الخلاف في أن عمدهما عمد أم خطأ، ويجري فيما إذا ثبت قصاص لصبي أو مجنون، فوثب على القاطع فقطع طرفه، هل يكون مستوفيا لحقه ؟ ثم موضع الخلاف إذا لم يكن من الجاني تمكين، فأما إذا أخرج يده إلى الصبي أو المجنون فقطعه، فلا يكون مستوفيا لحقه بلا خلاف، ويكون قطعه هدرا.
الفصل الثالث : في المماثلة وهي معتبرة في وجوب القصاص في الطرف، كالكفاءة في النفس، فلا يقابل طرف بغير جنسه، كاليد بالرجل، وإذا اتحد

(7/61)


الجنس، لم يؤثر التفاوت في الصغر والكبر، والطول والقصر، والقوة والضعف، والضخامة والنحافة، كما لا تعتبر مماثلة النفسين في هذه الامور، وكذلك تقطع يد الصانع بيد الاخرق، كما يقتل العالم بالجاهل، وإنما يؤثر التفاوت في أمور: أحدها: تفاوت المحل والقدر، أما المحل، فلا تقطع اليد اليمنى باليسرى، ولا اليسرى باليمنى، وكذا الرجل والعين والاذن، ولا يقطع من الجنس الاعلى بالاسفل، وكذا العكس، وكذا في الشفة، ولا أصبع ولا أنملة بغيرها، ولا أصبع زائدة بزائدة أخرى، إذا اختلف محلهما، بأن كانت زائدة بجنب الخنصر، وزائدة الجاني بجنب الابهام. وأما القدر، فالتفاوت في الحجم صغرا وكبرا، وطولا وقصرا لا يؤثر في الاعضاء الاصلية قطعا، وكذا في الزائدة على الاصح، فإن قلنا: تؤثر، وكانت زائدة الجاني أكبر، لم يقتص منه، وإن كانت زائدة المجني عليه أكبر، اقتص، وأخذ حكومة قدر النقصان، ثم الخلاف فيما رأى الامام فيما إذا لم يؤثر تفاوت الحجم في الحكومة، فإن أثر، فلا قصاص، قال: والاختلاف في الكون وسائر الصفات لا يؤثر بعد التساوي في الحكومة، وتقطع الزائدة بالاصلية إذا اتفق محلهما، ولا شئ له لنقصان الزائدة، كما لو رضي بالشلاء عن السليمة. فرع نقلوا عن النص أنه لو كانت زائدة الجاني أتم، بأن كان لاصبعه الزائدة ثلاث مفاصل، ولزائدة المجني عليه مفصلان، لم تقطع بها، لان هذا أعظم من تفاوت المحل. فرع الكلام في قصاص الموضحة يتعلق بالمساحة والمحل، أما المساحة، فمعتبرة طولا وعرضا، فلا تقابل ضيقة بواسعة، ولا يقنع بضيقة عن واسعة، فتذرع موضحة المشجوج بخشبة أو خيط، ويحلق ذلك الموضع من رأس الشاج، إن كان عليه شعر، ويخط عليه بسواد أو حمرة، ويضبط الشاج حتى لا يضطرب، ويوضح بحديدة حادة كالموسى، ولا يوضح بالسيف، وإن كان

(7/62)


أو صح به، لانه لا تؤمن الزيادة، وكذا لو أوضح بحجر، أو خشب، يقتص منه بالحديدة، كذا ذكره القفال وغيره، وتردد فيه الروياني، ثم يفعل ما هو أسهل عليه من الشق دفعه واحدة، أو شيئا فشيئا، ويرفق في موضع العلامة، ولا عبرة بتفاوت الشاج والمشجوج في غلظ الجلد واللحم، وأما المحل، فإن أوضح جميع رأسه، ورأساهما متساويان في المساحة، أوضح جميع رأسه، وإن كان رأس الشاج أصغر، استوعبناه إيضاحا، ولا يكفي به ولا ينزل لاتمام المساحة إلى الوجه، ولا إلى القفا، بل يؤخذ قسط ما بقي من الارش إذا وزع على جميع الموضحة، وإن كان رأس الشاج أكبر، لم يوضح جميعه، بل بقدره بالمساحة والاختيار في موضعه إلى الجاني، وقيل: إلى المجني عليه، وقيل: يبتدئ من حيث بدأ الجاني، ويذهب به في الجهة التي ذهب إليها إلى أن يتم القدر، والصحيح الاول وبه قطع الاكثرون، فإن كان في رأس الجاني موضحة، والباقي بقدر ما فيه القصاص، تعين، وصار كأنه كل الرأس، ولو أراد أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس، وبعضه من مؤخره، لم يكن له ذلك على الصحيح، لانه يأخذ موضحتين بدل موضحة، ولو أراد أن يستوفي البعض ويأخذ للباقي قسطه من الارش مع تمكنه من استيفاء الباقي، لم يكن له ذلك على الاصح، بخلاف ما لو أوضح في موضعين، فإن له أن يقتص في أحدهما، ويأخذ أرش الآخر، لانهما جنايتان، ولو أوضح الجاني بعض الرأس، كالقذال والناصية، أوضحنا ذلك القدر وتممناه من الرأس إن بقي من حقه شئ، وقيل: لا يجوز مجاوزة ذلك الموضع، والاول هو الصحيح المنصوص، ولو أوضح جبهته، وجبهة الجاني أصغر، لم يرتق إلى الرأس،

(7/63)


وليجئ في مجاوزة موضع من الوجه إلى موضع يلاصقه الوجهان، وإذا أوجبنا القصاص في موضحة سائر البدن، فأوضح ساعده وساعد الجاني أصغر، لم يجاوزه إلى العضد ولا إلى الكتف، كما في الوجه والرأس. فرع لو زاد المقتص في الموضحة على قدر حقه، نظر، إن زاد باضطراب الجاني، فلا غرم، وإن زاد عمدا، اقتص منه في الزيادة ولكن بعد اندمال الموضحة التي في رأسه، وإن آل الامر إلى المال، أو أخطأ باضطراب يده، وجب الضمان، وفي قدره وجهان، أحدهما: يوزع الارش عليهما، فيجب قسط الزيادة، وأصحهما: يجب أرش كامل، ولو قال المقتص: أخطأت بالزيادة، فقال المقتص منه: بل تعمدتها، صدق المقتص بيمينه، ولو قال: تولدت الزيادة باضطرابك، وأنكر، فأيهما يصدق ؟ وجهان، لان الاصل براءة الذمة وعدم الاضطراب. فرع اشترك جماعة في موضحة، بأن تحاملوا على الآلة وحزوها معا، ففيه احتمالان للامام، أحدهما: يوزع عليهم، ويوضح من كل واحد قدر حصته لامكان التجزئة، بخلاف القتل، والثاني: يوضح من كل واحد مثل تلك الموضحة، كالشركاء في القطع، وبهذا قطع البغوي، ويجري الاحتمالان فيما لو آل الامر إلى المال، هل يجب على كل واحد أرش كامل أم يوزع عليهم ؟ قال الامام: وهذا الثاني أقرب، وبالاول قطع البغوي. فرع ما ذكرنا أنه يحلق شعر رأس الشاج عند الاقتصاص، مفروض فيما

(7/64)


إذا كان لكل منهما شعر، فإن لم يكن للشاج شعر، فلا حلق، وإن لم يكن على رأس المشجوج شعر، وكان على رأس الشاج شعر، لم يمكن من القصاص لما فيه من إتلاف شعر لم يتلفه، نص عليه في الام ولا يضر التفاوت في خفة الشعر وكثافته. فرع لو شك هل أوضح بالشجة أم لا، لم يقتص مع الشك، ويبحث عن الحال بمسمار حتى يعرف، ويشهد به شاهدان، أو يعترف به الجاني، لان حكم الايضاح يتعلق بالانتهاء إلى العظم حتى لو غرز إبرة فانتهت إلى العظم، كان ذلك موضحة، وإن كان لا يظهر العظم للناظر. التفاوت الثاني في الصفات التي يؤثر التفاوت فيها وفيه مسائل: إحداها: مطلق التفاوت لا يؤثر، بل تقطع اليد البيضاء بالسوداء، والسليمة بالبرصاء، ويد الصانع بيد الاخرق. الثانية: لا تقطع يد أو رجل صحيحة بشلاء وإن رضي به الجاني، وإنما الواجب في الطرف الاشل الحكومة، كما لا يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي وإن رضي الجاني، فلو خالف المجني عليه، وقطع الصحيحة، لم تقع قصاصا، بل عليه نصف الدية، ولو سرى فعليه القصاص في النفس، فإن كان قطع بإذن الجاني، فلا قصاص عند السراية، لانه بإذنه، ثم ينظر، إن قال الجاني: اقطع يدي، وأطلق، جعل المجني عليه مستوفيا لحقه، ولم يلزمه شئ، وإن قال: اقطعها عوضا عن يدك، أو قصاصا، فوجهان، أحدهما وبه قطع البغوي: أن على المجني عليه نصف الدية، وعلى الجاني الحكومة، لانه لم يبذلها مجانا، والثاني: لا شئ على المجني عليه، وكأن الجاني أدى الجيد عن الردئ، وقبضه المستحق. الثالثة: اليد الشلاء، والرجل الشلاء، هل تقطعان بالصحيحتين ؟ وجهان،

(7/65)


أحدهما: لا، لان الشرع لم يرد بالقصاص فيها، والثاني وهو الصحيح الذي عليه الاصحاب: أنه يراجع أهل البصر، فإن قالوا: لو قطعت لم ينسد فم العروق بالحسم، ولم ينقطع الدم، لم تقطع بها، وتجب دية يده، وإن قالوا: تنقطع، فله قطعها، وتقع قصاصا، كقتل الذمي بالمسلم، وليس له أن يطلب بسبب الشلل أرشا. الرابعة: هل تقطع الشلاء بالشلاء ؟ وجهان، أحدهما: لا، لان الشلل علة، والعلل يختلف تأثيرها في البدن، والثاني وهو الصحيح الذي قطع به الجمهور: أنهما إن استويا في الشلل، أو كان شلل يد القاطع أكثر، قطعت بها، والشرط أن لا يخاف نزف الدم كما ذكرنا، وإن كان الشلل في يد المقطوع أكثر، لم يقطع بها. فرع قال الشيخ أبو محمد: المراد بالشلل في اليد والرجل زوال الحس والحركة، وقال الامام: لا يشترط زوال الحس بالكلية، وإنما الشلل بطلان العمل. الخامسة: لا أثر لتفاوت البطش، بل تقطع يد القوي بيد الشيخ الذي ضعف بطشه، لكن لو كان النقص بجناية، بأن ضرب رجل يده فنقص بطشها، وألزمناه الحكومة، ثم قطع تلك اليد كاملة البطش، فقد حكى الامام أنه لا قصاص، وأنه لا تجب دية كاملة على الاصح، وهذا كما سبق أن من صار إلى حالة المحتضر بلا جناية، لو حز إنسان رقبته، لزمه القصاص، ولو انتهى إلى تلك الحالة بجناية، فلا قصاص على حازه. السادسة: تقطع يد السليم ورجله بيد الاعسم ورجل الاعرج، لانه لا خلل في اليد والرجل، والعسم: تشنج في المرفق، أو قصر في الساعد أو العضد.

(7/66)


السابعة: لا اعتبار بإخضرار الاظفار واسودادها وزوال نضارتها، فإنها علة ومرض في الاظفار، والطرف السليم يستوفى بالعليل، وأما التي لا أظفار لها، فالصحيح الذي ذكره العراقيون وغيرهم: أنه لا تقطع بها سليمة الاظفار، وأنها تقطع بالسليمة، وكذا حكاه الامام عنهم ونسبه إلى النص، لكن عن الشيخ أبي حامد وغيره، أنه تكمل فيها الدية، وللامام احتمال في جريان القصاص وإن عدمت الاظفار، لانها زوائد، ولو لم يجر القصاص لما تمت دية اليد والاصبع الساقط ظفرها، وقال البغوي: ينقص من الدية شئ. الثامنة: لا تقطع يد صحيحة بيد فيها أصبع شلاء، ولا تقطع من الكوع يد مسبحتها شلاء بيد وسطاها شلاء، فإن استويا في الشلل، فهما كالشلاوين. التاسعة: إذا قطع سليم اليد يدا شلاء، ثم شلت يده، فعن القفال أنه خرج في الاقتصاص منه قولين، ثم رجع وقطع بالمنع، وهو الذي رآه الامام مذهبا، والمذكور في التهذيب أنه يقتص منه، وكذا لو قطع يدا ناقصة أصبعا، ثم سقطت تلك الاصبع من القاطع، بخلاف ما لو قطع حر ذمي يد عبد، ثم نقض العهد، وسبي واسترق لا يقطع، ولو قتله لا يقتل، وفرق بأن القصاص هناك سقط لعدم الكفاءة، والكفاءة تراعى حال الجناية، والامتناع هنا لزيادة حسية في يد القاطع والاعتبار فيها بحال الاستيفاء، فإذا زالت، قطع، ولهذا لو قطع الاشل يدا شلاء، ثم صحت يد القاطع، لا يقتص منه لوجود الزيادة عند الاستيفاء، قال: وكذا اليد ذات الاظفار لا تقطع بما لا أظفار لها، فلو سقطت أظفار القاطع، قطعت بها، والتي لا أظفار لها تقطع بمثلها، فلو نبتت أظفار القاطع لم تقطع لحدوث الزيادة. العاشرة: يجب في قطع الذكر، وفي قطع الانثيين وإشلالها القصاص، سواء قطع الذكر والانثيين معا، أو قدم الذكر، أو الانثيين، ولو دق خصييه، ففي

(7/67)


التهذيب أنه يقتص بمثله إن أمكن، وإلا وجبت الدية، ويشبه أن يكون الدق ككسر العظام، ولو قطع، أو أشل إحدى الانثيين وقال أهل البصر: يمكن القصاص من غير إتلاف الاخرى، اقتص، وذكر الروياني أن الماسرجسي قال: إنه ممكن وإنه وقع في عهده لرجل من أهل فراوة. والقول في قطع الذكر الصحيح بالاشل وبالعكس، والاشل بالاشل على ما ذكرنا في اليد والرجل، وشلل الذكر أن يكون منقبضا لا ينبسط، أو منبسطا لا ينقبض، هذه عبارة الجمهور وقيل: هو الذي لا يتقلص في البرد ولا يسترسل في الحر، وهو بمعنى العبارة الاولى، ولا اعتبار بالانتشار وعدمه، ولا بالتفاوت في القوة والضعف، بل يقطع ذكر الفحل الشاب بذكر الخصي والشيخ والصبي والعنين، لانه لا خلل في نفس العضو وإنما تعذر الانتشار لضعف في القلب أو الدماغ وسواء الاقلف والمختون. الحادية عشرة: تقطع أذن السميع بأذن الاصم وبالعكس، وهل تقطع الاذن الصحيحة بالمستحشفة ؟ قولان، أظهرهما: نعم، لبقاء الجمال والمنفعة من جمع الصوت ورد الهوام بخلاف اليد الشلاء، وبيان الاستحشاف يأتي في الديات إن شاء الله تعالى، وسواء المثقوبة وغيرها إذا كان الثقب للزينة ولم يورث شينا ونقصا، فإن أورث نقصا فلتكن المثقوبة كالمخرومة، ولا تقطع صحيحة بمخرومة، وهي التي قطع بعضها، ولكن يقطع منها بقدر ما كان بقي من المخرومة، وهذا إذا قلنا: يجب القصاص في بعض الاذن كما سبق، فإن شقت ولم يبن منها شئ، فنقل الامام عن العراقيين أنه لا تقطع الصحيحة بها أيضا، لفوات الجمال، قال: ولست أرى الامر كذلك لبقاء الجرم بصفة الصحة.

(7/68)


قلت: هذا الذي قاله الامام ضعيف. والله أعلم. وتقطع المخرومة بالصحيحة ويؤخذ من الدية بقدر ما ذهب من المخرومة، وسواء في المثقوبة والمخرومة المرأة والرجل. الثانية عشرة: يقطع أنف الصحيح بأنف الاخشم، لان الشم ليس في جرم الانف، وهل يقطع الانف السليم بالمجذوم ؟ قال البغوي: إن كان في حال الاحمرار، قطع به، وإن اسود، فلا قصاص، لانه دخل في حد البلى، وإنما تجب فيه الحكومة، ولم يفرق الجمهور بين الاحمرار والاسوداد، وقالوا: يجب القصاص ما لم يسقط منه شئ، فإن سقط، لم يقطع به الصحيح، لكن يقطع منه ما كان بقي من المجني عليه إن أمكن، وإن كان بأنف الجاني نقص كنقص المجذوم جرى القصاص وفيه وجه، قال الامام: هو غلط. الثالثة عشرة: لا تؤخذ العين السليمة بالحدقة العمياء، والصورة القائمة من الحدقة كاليد الشلاء، وتؤخذ القائمة بالصحيحة إذا رضي المجني عليه، ويقطع جفن البصير بجفن الاعمى لتساوي الجرمين، وفقد البصر ليس في الجفن. الرابعة عشرة: لا يقطع لسان ناطق بأخرس ويجوز العكس برضى المجني عليه، ويقطع لسان المتكلم بلسان الرضيع إن ظهر فيه أثر النطق بالتحريك عند البكاء وغيره، وإلا فلا، فإن بلغ أوان التكلم ولم يتكلم، لم يقطع به المتكلم. فرع قطع أذن شخص، فألصقها المجني عليه في حرارة الدم فالتصقت، لم يسقط القصاص ولا الدية عن الجاني، لان الحكم يتعلق بالابانة وقد وجدت، ثم ذكر الشافعي والاصحاب رحمهم الله أنه لا بد من قطع الملصق لتصح صلاته وسببه نجاسة الاذن إن قلنا: ما يبان من الآدمي نجس، وإلا فسببه الدم الذي ظهر في محل القطع فقد ثبت له حكم النجاسة فلا تزول بالاستبطان ويجيئ فيه ما سبق في كتاب الصلاة في الوصل بعظم نجس والتفصيل بين أن ينبت اللحم على موضع النجاسة،

(7/69)


أو لا ينبت، وبين أن يخاف التلف من القطع أو لا يخاف، ولو قطعها قاطع، فلا قصاص عليه، لانها مستحقة الازالة، وإن لم يوجب إزالتها لخوف التلف مثلا، فلو سرى قطع القاطع إلى النفس، حكى الامام عن المحققين أن عليه القصاص، قال: ولا يبعد خلافه، ثم هي وإن كانت مستحقة الازالة فليس للجاني أن يقول: أزيلوها ثم اقطعوا أذني، لان إزالتها من باب الامر بالمعروف لا اختصاص له به، والنظر في مثله إلى الامام، ولو اقتص المجني عليه فألصق الجاني أذنه، فالقصاص حاصل بالابانة، وأما قطع ما ألصق فلا يختص به المجني عليه، ولو قطع بعض أذنه ولم يبنه، ففي القصاص في ذلك القدر خلاف سبق، وذلك إذا بقي غير ملتصق، فأما إذا ألصقه المجني عليه، فالتصق، فيسقط القصاص والدية عن الجاني، ويرجع المجني عليه إلى الحكومة، كالافضاء إذا اندمل يسقط الدية، ولذلك نقول: لو جاء رجل وقطع الاذن بعد الالتصاق، لزمه القصاص، أو الدية الكاملة، هذا هو الصحيح المنصوص، وقيل: لا يسقط القصاص في القدر المقطوع، كما لا يسقط قصاص الموضحة بالاندمال، ولا يجب قطع الملصق قبل تمام الابانة، وهكذا أطلقوه، وفيه نظر إن عللنا بظهور الدم، ولو استأصل أذنه، وبقيت معلقة بجلدة، وجب القصاص بلا خلاف، فلو ألصقها المجني عليه، لم يجب قطعها، وفي سقوط القصاص عن الجاني هذا الخلاف، ولو أبان أذنه، فقطع المجني عليه بعض أذنه مقتصا، فألصقه الجاني، فللمجني عليه أن يعود، ويقطعه لاستحقاقه الابانة. فرع ربط السن المقلوعة في مكانها، وثبوتها، كإلصاق الاذن المقطوعة فيما ذكرناه.
فصل في السن القصاص، وإنما يجب إذا قلعها، فلو كسرها، فلا قصاص، كذا ذكره البغوي وغيره، وحكى ابن كج عن نصه في الام أنه إذا كسر بعض سنه يراجع أهل الخبرة، فإن قالوا: يمكن استيفاؤه بلا زيادة ولا صدع في الباقي، اقتص منه، وبهذا قطع صاحب المهذب ولا تؤخذ السن الصحيحة

(7/70)


بالمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة مع قسط الذاهب من الارش، وتؤخذ الزائدة بالزائدة بالشرط السابق، ولو قلع سن رجل، وليس للجاني تلك السن، فلا قصاص، وتؤخذ الدية، فلو نبت بعد ذلك، فلا قصاص أيضا، لانها لم تكن موجودة حال الجناية. فرع إذا قلع مثغور وهو الذي سقطت رواضعه سن صبي لم يثغر، فلا قصاص في الحال ولا دية، لانها تعود غالبا، فإن نبتت، فلا قصاص ولا دية، ولكن عليه الحكومة إن نبتت سوداء، أو معوجة، أو خارجة عن سمت الاسنان، أو بقي شين بعد النبات، وإن نبتت أطول مما كانت، أو نبت معها سن شاغية، فكذلك على الاصح، وإن نبتت أقصر مما كانت، وجب بقدر النقص من الارش، وإن جاء وقت نباتها، بأن سقط سائر الاسنان، وعادت، ولم تنبت المقلوعة، أريناه أهل الخبرة، فإن قالوا: يتوقع نباتها إلى وقت كذا، توقفنا تلك المدة، فإن مضت ولم تنبت، أو قالوا: فسد المنبت ولا يتوقع النبات، وجب القصاص على المذهب، وبه قطع الاصحاب، وحكى الغزالي فيه قولين، لان سن الصغير ناقصة، ولم يذكر الخلاف غير الغزالي، ثم إذا أوجبنا القصاص، فالاستيفاء إنما يكون بعد البلوغ، فإن مات الصبي قبل بلوغه، اقتص وارثه في الحال، أو أخذ الارش، وإن مات قبل حصول اليأس، وقبل تبين الحال، فلا قصاص، وفي الارش وجهان يأتيان في الديات إن شاء الله تعالى. فرع قلع مثغور سن مثغور، وجب القصاص، فلو نبت سن المجني عليه، ففي سقوط القصاص قولان، أحدهما: يسقط، لان العائد قائم مقام الاول، كما في غير المثغور، وأظهرهما: لا يسقط، لان هذا هبة جديدة من الله تعالى، وعلى القولين لا ننتظر العود، بل للمجني عليه أن يقتص، أو يأخذ الدية في الحال، وقيل: يراجع أهل الخبرة، فإن قالوا: قد يعود إلى مدة كذا، انتظر تلك المدة، ويكون الحكم كما ذكرنا في غير المثغور، ولو التأمت الموضحة والتحمت،

(7/71)


لم تسقط الدية ولا القصاص، لان العادة فيها الالتحام، وكذا حكم الجائفة، وعن صاحب التقريب وجه أنها إذا التحمت، زال حكمها، ورأى الامام تخصيص هذا الوجه على ضعفه بما إذا نفذت الحديدة إلى الجوف، وحصل خرق من غير زوال لحم دون ما إذا زال شئ، ونبت لحم جديد، ورأى طرده في مثلها في الموضحة، ولو قطع لسانا فنبت، ففي سقوط القصاص طريقان، أحدهما: قولان كالسن، والمذهب القطع بالمنع، لان عوده بعيد جدا، فهو هبة محضة، وجنس السن معتاد العود، التفريع على القولين في عود السن، فإذا اقتص المجني عليه، أو أخذ الارش، ثم نبتت سنه، فليس للجاني قلعها، وهل يسترد الارش إن كان المجني عليه أخذه ؟ وجهان أو قولان، إن قلنا: العائد كالاول، استرد، وإن قلنا: هبة، فلا، وإن كان المجني عليه اقتص، فهل يطالبه الجاني بأرش السن ؟ يبنى على الخلاف، وقال ابن سلمة: لا يطالب هنا قطعا لتعذر استرداد القصاص، وهذا ضعيف، ولو تعدى الجاني، فقلع العائد وقد اقتص منه، فإن قلنا: العائد كالاول، لزمه الارش بهذا القلع لتعذر القصاص وقد وجب له على المجني عليه الارش بالعود ففيه الكلام في التقاص، وإن جعلناه هبة، لزمه الارش بالقلع الثاني، وعلى هذا القول لو لم يقتص منه أولا وأخذ الارش، فللمجني عليه أن يقتص للقلع الثاني، فلو لم يكن اقتص للاول ولا أخذ الارش، لزمه قصاص وأرش، أو أرشان بلا قصاص، أما إذا اقتصصنا من الجاني فعاد سنه دون المجني عليه، فإن قلنا: العائد كالاول، فهل للمجني عليه القلع ثانيا ؟ وجهان، أحدهما: لا، لانه قابل قلعا بقلع فلا تثنى عليه العقوبة، لكن له الارش لخروج القلع الاول عن كونه قصاصا، وكأنه تعذر القصاص بسبب، والثاني: نعم، لان الجاني أفسد منبته، فيكرر عليه حتى يفسد منبته، وإن قلنا: هبة، فلا شئ للمجني عليه وقد استوفى حقه بما سبق، وهذا هو الاظهر، ولو اقتص، فعاد سن الجاني والمجني عليه معا، فلا شئ لواحد منهما على الآخر باتفاق القولين. فرع قلع غير مثغور سن مثغور، قال ابن كج: للمجني عليه أن يأخذ الارش إن شاء، ويقتص إن شاء، وليس له مع القصاص شئ آخر كما في أخذ

(7/72)


الشلاء بالصحيحة، هذا إذا كان غير المثغور بالغا، وإلا فلا قصاص، وفي أمالي أبي الفرج أنه يقال له: إن قلعت سنه الآن، فالظاهر منها العود، فاصبر إلى أن يصير مثغورا، فإن استعجل، أجيب وشرط عليه أن لا حق له فيما يعود. فرع قلع غير مثغور سن غير مثغور، فلا قصاص في الحال، فإن نبتت، فلا قصاص ولا دية، وإن لم تنبت وقد دخل وقته، فالمجني عليه يأخذ الارش أو يقتص، فإن اقتص ولم يعد سن الجاني فذاك، وإن عادت، فهل يقلع ثانيا ؟ وجهان، أصحهما: نعم، قاله الامام. التفاوت الثالث في العدد وفيه مسائل: إحداها: قطع يدا كاملة الاصابع، ويد الجاني ناقصة أصبعا، فللمجني عليه أن يأخذ دية اليد، وله أن يقطع اليد الناقصة، ويأخذ الارش للاصبع، ولو كانت ناقصة أصبعين، فله قطع يده وأرش أصبعين، ولو قطع أصبعين وله أصبع واحدة، فللمجني عليه قطع الموجودة، وأرش المفقودة، ولو قطع أصبعا صحيحة، وتلك الاصبع منه شلاء، فأراد المجني عليه قطع الشلاء وأخذ شئ للشلل، لم يكن له. الثانية: إذا كان النقص في يد المجني عليه، بأن قطع السليم ناقصة بأصبع، فليس للمجني عليه قطع اليد الكاملة، لكن له أن يلتقط الاصابع الاربع، وله أخذ ديتها، فإن التقطها فقد ترك كف الجاني مع قطعه كفه، فله حكومة خمس الكف، وهو ما يقابل منبت أصبعه الباقية، وهل له حكومة أربعة أخماسها ؟ وجهان، أحدهما: لا، بل تدخل تحت قصاص الاصابع، كما تدخل تحت ديتها، وأصحهما: نعم، لان القصاص ليس من جنسها، ويجري الوجهان فيما إذا كانت يد الجاني زائدة بأصبع، ويد المجني عليه معتدلة، فلقط الخمس لتعذر القطع من الكوع بسبب الزائدة، وهل تدخل حكومة الكف تحت قصاص الخمس ولو أخذ دية

(7/73)


الاصابع الاربع في الصورة الاولى، دخلت حكومة منابتها فيها على الصحيح، وقيل: لا تدخل، بل تختص قوة الاستتباع بالكل، وأما حكومة الخمس الباقي من الكف، فتجب على الصحيح، وحكي وجه أن كل أصبع تستتبع الكف كما تستتبعها كل الاصابع. الثالثة: إذا قطع كفا لا أصابع لها، فلا قصاص إلا أن تكون كف القاطع مثلها، ولو قطع صاحب هذه الكف يد سليم، فله قطع كفه ودية الاصابع، حكاه ابن كج عن النص. الرابعة: إذا كان على يد الجاني أصبعان شلاوان، ويد المجني عليه سليمة، فإن شاء قطع يده وقنع بها، وإن شاء لقط الثلاث السليمة وأخذ دية أصبعين، وفي استتباع الثلاث حكومة منابتها واستتباع دية الاصبعين حكومة منبتهما الخلافان السابقان، ولو كانت يد الجاني سليمة، ويد المعني عليه فيها أصبعان شلاوان، لم يجب القصاص من الكوع، ولكن للمجني عليه قطع الثلاث السليمة وحكومة الشلاوين، ويعود الخلاف في استتباع القصاص في الثلاث حكومة منابتها، وفي استتباع حكومة الشلاوين حكومة منبتهما وجهان، أصحهما عند الامام والغزالي والبغوي: المنع، وهو ظاهر نصه في المختصر والثاني: أنه يستتبع، وبه قطع العراقيون. الخامسة: قطع كفا لها أصبع فقط خطأ، وجبت دية تلك الاصبع، والصحيح أنه تدخل حكومة منبتها فيها، وأنه يجب حكومة باقي الكف، وعلى الوجه المحكي في آخر المسألة الثانية: لا حكومة أصلا. فرع في التهذيب أنه لو كانت أصابع إحدى يديه وكفها أقصر من الاخرى، فلا قصاص في القصيرة، لانها ناقصة، وفيها دية ناقصة بحكومة. السادسة: سبق أن الزائد من الاعضاء يقطع بالزائد إذا اتحد المحل، وذكرنا خلافا في اشتراط التساوي في الحجم، فلو فرض شخصان لكل منهما أصبع زائدة،

(7/74)


قطع أحدهما زائدة الآخر، اقتص منه إذا حصل شرطه، وكذا لو قطع أحدهما يد الآخر، ولو قطع المعتدل يدا لها أصبع زائدة، قطع، وأخذ منه حكومة للزائدة، سواء كانت معلومة بعينها أم لا، وإن شاء المجني عليه أخذ دية اليد وحكومة الزائدة، ولو قطع صاحب الاصابع الست يد معتدل، لم تقطع يده من الكوع إلا أن تكون الزائدة نابتة في الاصابع وللمجني عليه لقط الخمس الاصليات، ويعود الوجهان في استتباع قصاصها حكومة الكف، فإن كانت الزائدة بجنب أصلية بحيث لو قطعت الاصلية سقطت الزائدة، لم تقطع، بل يقتصر على قطع الاربع ويأخذ دية الخامسة، ولو كانت نابتة على أصبع وأمكن قطع بعضها مع الاربع بأن كانت نابتة على الانملة الوسطى من أنمله، قطعت الانملة العليا مع الاربع، وأخذ ثلثا دية أصبع، هذا إذا كانت في الست زائدة معلومة بعينها، أما إذا كانت الست كلها أصلية، بأن انقسمت القوة في الست على ستة أجزاء متساوية في القوة والعمل بدلا عن القسمة على خمسة أجزاء، فللمجني عليه أن يلتقط منها خمسا على الولاء من أي جانب شاء، هكذا أطلق، ولك أن تقول: إن لم تكن الست على تقطيع الخمس المعهودة فهذا قريب، وإن كانت على تقطيعها، فمعلوم أن صورة الابهام من الخمس تباين صورة باقيها، فإن كانت التي تشبه الابهام على طرف، فينبغي أن يلقط الخمس من ذلك الجانب، وإن وقعت ثانية وكانت التي تليها على الطرف كالملحقة بها، فينبغي أن يلقط الخمس من الجانب الآخر، قال الامام: ويختلج في النفس أن يقال: ليس له لقط الخمس لوقوع الست على نظم يخالف نظم الخمسة المعتدلة، ثم إنه لا يستكمل حقه بقطع الخمس، لانها خمسة أسداس اليد، فله مع ذلك سدس الدية، لكن يحط من السدس شئ لان الخمس الملقوطة وإن كانت خمسة أسداس، فهي في الصورة كالخمس المعتدلة، وتقدير المحطوط إلى رأي المجتهد، ولو بادر المقطوع فقطع الست، قال البغوي: يعزر ولا شئ عليه، ولو قيل: يلزمه شئ لزيادة الصورة، لم يبعد، ولو قطع صاحب الست أصبعا لمعتدل، قطعت أصبعه، وأخذ ما بين خمس دية اليد وسدسها، وهو بعير وثلثا بعير، لان خمسها عشرة، وسدسها ثمانية وثلث، وقياس ما سبق أن يقال: يحط من قدر التفاوت شئ، ولو قطع معتدل اليد اليد الموصوفة، قطعت يده، وأخذ منه شئ للزيادة المشاهدة، كذا حكاه الامام وغيره، ولو قطع أصبعا، لم يقتص،

(7/75)


لما فيه من استيفاء خمس سدس، ولكن يأخذ منه سدس دية اليد، ولو قطع أصبعين، قطع منه أصبع، وأخذ ما بين ثلث دية اليد وخمسها، وهو ستة أبعرة وثلثان، ولو قطع ثلاثا، قطع منه أصبعان وأخذ ما بين نصف دية لايد وخمسيها، وهو خمسة أبعرة، ولو بادر المجني عليه، وقطع بأصبعه المقطوعة أصبعا منها، قال الامام: هو كمن قطع يدا شلاء فابتدر المجني عليه، وقطع بها الصحيحة. المسألة السابعة: إذا قطع صاحب الست يد معتدل، وقال أهل البصر: نعلم أن واحدة من الست زائدة، وهي ملتبسة، فليس للمجني عليه قطع الخمس، لان الزائدة لا تقطع بالاصلية عند اختلاف المحل، ولا يؤمن أن تكون الزائدة هي إحدى المستوفيات، ولو بادر وقطع خمسا، عزر، ولا شئ له، ولا شئ عليه، لاحتمال أن المقطوعات أصليات، وإن بادر وقطع الكل، فعليه حكومة للزائدة، وإن قال أهل البصر: لا ندري أهي كلها أصليات، أم خمس منها أصلية، وواحدة زائدة، فلا قصاص أيضا، فلو قطع جميعها أو خمسا منها، عزر، ولا شئ له، ولا عليه، لانه إن قطع الكل، احتمل أنهن أصليات، وإن قطع خمسا احتمل أن الباقية زائدة. الثامنة: في الزائدة من الانامل قد أجرى الله سبحانه وتعالى العادة أن كل أصبع سوى الابهام منقسمة ثلاثة أقسام وهي الانامل الثلاث، فلو انقسمت على خلاف العادة أصبع بأربع أنامل، فلها حالان، أحدهما: أن تكون الاربع أصلية عند أهل البصر، وقد يستدل عليه بأن تكون غير مفرطة الطول، وتناسب باقي الاصابع، فإذا قطع صاحبها أنملة لمعتدل، قطعت منه أنملة، لكن لا يتم بها حق المجني عليه، لان أنملته ثلث الاصبع، وهذه ربعها، فيطالب بما بين الربع والثلث من دية أصبع، وهو خمس أسداس بعير، وإن قطع أنملتين، قطعنا منه أنملتين، وطالبناه بما بين نصف دية الاصبع وثلثها، وهو بعير وثلثا بعير، وإن قطع أصبع معتدل بتمامها، فهل يقطع أصبعه بها ؟ وجهان، أحدهما: نعم، وبه قطع الغزالي والروياني، وصححه الامام، وأصحهما عند البغوي: المنع، فعلى هذا يقطع ثلاث أنامل هي ثلاثة أرباع حصته، ويطالب بالتفاوت بين جميع الدية، وثلاثة أرباعها، وهو بعيران ونصف، ولو بادر المجني عليه، وقطع أصبعه، عزر ولا شئ عليه، ولو قطع معتدل أنملة من له هذه الاصبع، لم تقطع أنملته، لكن يؤخذ منه

(7/76)


ربع دية أصبع، ولو قطع أنملتين، فللمجني عليه أن يقطع منه أنملة ويأخذ بعيرا وثلثين، ولو قطع ثلاث أنامل، فله أن يقطع أنملتين ويأخذ خمسة أسداس بعير، ولو قطع الاصبع بتمامها، قطعت أصبعه، ولم يلزمه شئ آخر، هكذا ذكره الامام والروياني. الحال الثاني: أن تكون الانملة العليا زائدة خارجة عن أصل الخلقة، فإن قطع صاحبها أصبع معتدل، لم يقطع أصبعه، لما فيها من الزيادة، وتؤخذ منه الدية، ولو قطعها معتدل، قطعت أصبعه، وأخذت منه حكومة للزائدة، وتختلف الحكومة بكون الزائدة عاملة أم لا، ولو قطع المعتدل أنملة منها، فلا قصاص، وعليه الحكومة، ولو قطع أنملتين، قطع منه أنملة وأخذت الحكومة للزائدة، ولو قطع ثلاثا، قطعت منه أنملتان وأخذت الحكومة. فرع لو كان لانملة طرفان، أحدهما أصلي عامل، والآخر زائد غير عامل، ففي الاصل القصاص والارش الكامل، وفي الآخر الحكومة، ولو قطع صاحبها أنملة معتدل، قطع منه الاصلي إن أمكن إفراده، وإن كانا عاملين مشتدين، قال الامام: القول فيهما قريب من القول في الاصابع الست الاصليات، وإن قطع المعتدل أحد الطرفين، لم تقطع أنملته، وإن قطعهما معا، قطعت أنملته، ولزمه لزيادة الخلقة شئ، وإن قطع صاحبها أنملة معتدل، لم يقطع طرفا أنملته، بل يختار المقطوع أحدهما فيقطعه، ويأخذ معه نصف الارش، ويحط منه شئ، هذا كله إذا نبت طرفا تلك الانملة على رأس الانملة الوسطى، فلو لقي رأسها عظم، ثم انشعب الطرفان من ذلك العظم، فإن لم يكن مفصل بين العظم وبينها، فليس ذلك موضع القصاص، وإن كان لكل طرف مفصل هناك، فالعظم الحائل بين الشعبتين والانملة الوسطى أنملة أخرى، وهي أصبع لها أربع أنامل، والعليا منها ذات طرفين، ولو كان على الساعد كفان، أو على الساق قدمان، فحكمه كالانملتين على رأس أصبع. المسألة التاسعة: لو كانت أصبع ليس لها إلا أنملتان، وهي تناسب سائر

(7/77)


الاصابع في الطول، فللامام فيه احتمالان، أحدهما: ليست أصبعا تامة، وإنما هي أنملتان، وأصحهما: انها أصبع تامة، لكنها ذات قسمين، كما لو كان لها أربع أنامل كانت أصبعا ذات أربع أقسام، ولو وجدت أصبع لا مفصل لها، قال الامام: الارجح عندي نقصان شئ من الدية، لان الانثناء إذا زال، سقط معظم منافع الاصبع، وقد ينجر هذا إلى أن لا تقطع أصبع السليم بها. العاشرة: سليم اليد قطع الانملة الوسطى من فاقد العليا، فلا سبيل إلى الاقتصاص مع بقاء العليا، فإن سقطت بآفة أو جناية، اقتص من الوسطى، وللقفال احتمال أنه لا يقتص، ومثله لو قطع السليم كفا لا أصابع لها، فحكمه ما ذكرنا، فلو بادر المجني عليه فقطع الوسطى مع العليا، فقد تعدى، وعليه أرش العليا، ولو أراد طلب أرش الوسطى في الحال للحيلولة، فليس له ذلك على الصحيح إلا أن يعفو، ولو كانت العليا مستحقة القطع قصاصا، فليس له أيضا طلب أرش الوسطى من غير عفو على الاصح، وقيل: له، لان استيفاء القصاص مرتقب، ومن صور استحقاق العليا بالقصاص ما نص عليه في المختصر وهو أن تقطع الانملة العليا من رجل، والوسطى من آخر فاقد للعليا، فلصاحب العليا القصاص فيها أولا، وإن كان قطعه متأخرا، فإن طلب القصاص، اقتص، ويمكن مستحق الوسطى من استيفائها، قال أبو بكر الطوسي: ولو اتفقا على وضع الحديدة على مفصل الوسطى واستوفيا الانملتين بقطعة واحدة، جاز، وقد هونا الامر عليه، وإن لم يطلب صاحب العليا القصاص، صبر صاحب الوسطى أو عفا. فرع قطع الانملة العليا لرجل، والعليا والوسطى لغيره، نظر، إن سبق قطع الانملة، فلصاحبها الاقتصاص فيها، ويتخير الآخر بين أن تقطع الوسطى، ويأخذ دية العليا، وبين أن يعفو ويأخذ ديتهما، ولو بادر صاحب الانملتين فقطعهما، كان مستوفيا لحقه، ويأخذ الآخر دية العليا من الجاني. الفصل الرابع في وقت الاقتصاص في الجروح المستحب في قصاص الجروح والاطراف التأخير إلى الاندمال، فلو طلب المستحق الاقتصاص في

(7/78)


الحال، مكن منه على المذهب والمنصوص، لان القصاص في تلك الجراحة ثابت وإن سرت إلى النفس، أو شاركه غيره في الجرح، وأما المال، فلا يتقدر، فقد تعود الديتان في اليدين والرجلين إلى واحدة بالسراية إلى النفس، وقد يشاركه جماعة، فيقل واجبه، وقيل: في التعجيل في المال والقصاص قولان، فإن قلنا: يعجل المال، ففي قدر المعجل وجهان، أحدهما: تعجل أروش الجراحات وديات الاطراف وإن كثرت، فإن حصلت سراية، استرد، والثاني: لا يعجل إلا دية نفس، لاحتمال السراية. قلت: الثاني الاصح. والله أعلم.
باب اختلاف الجاني ومستحق الدم فيه مسائل: إحداها: قد ملفوفا في ثوب نصفين وقال: كان ميتا، وقال الولي: كان حيا، فأيهما يصدق ؟ قولان، أظهرهما: الولي، وقيل: يفرق بين أن يكون ملفوفا على هيئة التكفين، أو في ثياب الاحياء، قال الامام: وهذا لا أصل له، ويجري القولان فيما لو هدم عليه بيتا وادعى أنه كان ميتا، وأنكر الولي، وسواء قلنا: المصدق الولي، أو الجاني، فللولي أن يقيم بينة بحياته ويعمل بها، وللشهود أن يشهدوا بالحياة إذا كانوا رأوه يتلفف في الثوب، ويدخل البيت، وإن لم يتيقنوا حياته حالة القد والانهدام استصحابا لما كان، ولكن لا يجوز أن يقتصروا على أنهم رأوه يدخل البيت ويتلفف في الثوب، ذكره البغوي وغيره. قلت: وإذا صدقنا الولي بلا بينة، فالواجب الدية دون القصاص، ذكره المحاملي والبغوي، وقال المتولي: هو على الخلاف في استحقاق القود بالقسامة. والله أعلم.

(7/79)


الثانية: قتل شخصا، وادعى رقه، وقال قريبه: كان حرا، فالنص أن القول قول القريب، ونص أنه لو ادعى رق المقذوف، فقيل بظاهر النصين، والاصح أن فيهما قولين، أظهرهما: تصديق القريب، لان الغالب الثالثة: قطع طرفه، وادعى والظاهر الحرية، ولهذا حكمنا بحرية اللقيط المجهول. الثالثة: قطع طرفه، نقصه بشلل في اليد أو الرجل أو الذكر، أو فقد أصبع أو بخرس أو عمى، وأنكره المجني عليه، ففيه نصوص وطرق مختصرها أربعة أقوال، أحدها: يصدق المجني عليه، والثاني: الجاني، والثالث: يصدق المجني عليه إلا في العضو الظاهر عند إنكار أصل السلامة، لانه يمكن إقامة البينة، والمراد بالعضو الباطن ما يعتاد ستره مروءة، وقيل: ما يجب وهو العورة، وبالظاهر ما سواه، وإذا صدقنا الجاني، احتاج المجني عليه إلى بينة بالسلامة، ثم الاصح أنه يكفي قول الشهود: كان صحيحا، ولا يشترط تعرضهم لوقت الجناية، وقيل: إن شهدوا بالسلامة عند الجناية، كفى ولا يحتاج معها إلى يمين، وإن شهدوا أنه كان سليما، احتاج معها إلى اليمين لجواز حدوث النقص، ثم تجوز الشهادة بسلامة العين إذا رأوه يتبع بصره الشئ زمنا طويلا ويتوقى المهالك، ولا يجوز بأن يروه يتبعه بصره زمنا يسيرا، لانه قد يوجد من الاعمى، وكذلك تجوز الشهادة بسلامة اليد والذكر برؤية الانقباض والانبساط. فرع إذا اختلفا في أصل العضو، فقيل بإطلاق الخلاف في أن المصدق أيهما ؟ وأنكر الامام هذا، وقال: من أنكر أصل العضو، أنكر الجناية عليه، فيقطع بتصديقه، وإنما الخلاف إذا اختلفا في صحته، ومنه ما إذا قطع كفه، واختلفا في نقص أصبع، وليس منه ما إذا ادعى المقطوع قطع الذكر والانثيين، وقال الجاني: لم أقطع إلا أحدهما.

(7/80)


الرابعة: قطع يديه ورجليه ومات، فقال الجاني: مات بالسراية، فعلي دية، وقال الولي: بل مات بعد الاندمال، فعليك ديتان، نظر، إن لم يمكن الاندمال في تلك المدة لقصرها كيوم ويومين، فالقول قول الجاني بلا يمين، وقيل: بيمين، قاله الشيخ أبو حامد، لاحتمال الموت بعارض، كحية وسم مذفف، والصحيح الاول، لان الاختلاف في الاندمال فقط، فلا ينظر إلى غيره، وإن أمكن الاندمال في تلك المدة، ففيه أوجه، أصحها: أن القول قول الولي بيمينه، وبهذا قطع الاكثرون، والثاني: إن مضت مدة طويلة لا يمكن أن تبقى الجراحة فيها غير إمندملة، صدق الولي بلا يمين، وإلا فيمين، قطع به ابن الصباغ والروياني، والثالث: إن كان احتمال الاندمال مع إمكانه بعيدا، صدق الجاني بيمينه، وإلا فالولي، وادعى الامام اتفاق الاصحاب عليه، وليس كما ادعى، ولو اختلفا في مضي زمن الاندمال، صدق الجاني، لان الاصل أنه لم يمض. ولو قال الجاني: مات بالسراية، أو قتلته أنا قبل الاندمال، وقال الولي: بل مات بسبب آخر، بأن قال: قتل نفسه، أو قتله آخر، أو شرب سما موحيا، فأيهما يصدق ؟ وجهان، أصحهما: الولي، لان الاصل بقاء الديتين بالجنايتين، والاصل عدم السبب الآخر، ولو اقتصر الولي على أنه مات بسبب آخر ولم يعينه، قال الصيدلاني: لا يلتفت إلى قوله إن قصر الزمان ولم يمكن فيه الاندمال، فإن أمكن، فإن صدقناه بيمينه ولم نحوجه إلى بينة، قبل قوله، وحلف أنه مات بسبب آخر، وإن لم نصدقه وأحوجناه إلى البينة، فلا بد من التعيين لتصور إقامة البينة، قال الامام: ولا يبعد طرد الوجهين، وإن لم يمكن الاندمال، ولو اتفقا على أن الجاني قتله، لكن قال: قتلته قبل الاندمال، فعلى دية، وقال الولي: بل بعده، فعليك ثلاث ديات، والزمان محتمل للاندمال، صدق الولي في بقاء الديتين، والجاني في نفي الثالثة، ويجئ وجه أنه يصدق الجاني مطلقا. فرع لو قطع إحدى يديه ومات، فقال الجاني: مات بسبب آخر، فعلي نصف الدية، وقال الولي: مات بالسراية، فعليك دية، فأيهما يصدق ؟ وجهان، أصحهما: الولي، ولو قال الجاني: مات بعد الاندمال فعلي نصف دية، وقال الولي: مات بالسراية، والزمن محتمل للاندمال، فالمصدق الجاني على الاصح، ولو اختلفا في مضي زمن الامكان، فالمصدق الولي، لان الاصل عدم المضي، ولو

(7/81)


قتله الجاني بعد القطع، وقال: قتلته قبل الاندمال، فعلي دية، وقال الولي: بعده، فعليك دية ونصف، فالمصدق الجاني. فرع جرحه بقطع يد أو غيره، فمات، فقال الجاني: حز آخر رقبته، فليس علي قصاص النفس، وقال الولي: بل مات بسراية جرحك، فأيهما يصدق ؟ وجهان، أصحهما: الولي، وبه قطع الداركي. ولو قال الولي: مات بالسراية، وقال الجاني: مات بعد الاندمال، قال الامام: إن طالت المدة، وكان الظاهر الاندمال، صدق الجاني بيمينه، وإن قصرت المدة، وبعد احتمال الاندمال، فالمصدق الولي، وقيل: في المصدق قولان مطلقا متى كانت المدة محتملة، وإن لم تحتمل المدة الاندمال، صدق الولي بلا يمين، وإن لم تحتمل بقاء الجرح، صدق الجاني بلا يمين. فرع حيث صدقنا مدعي الاندمال، فأقام الآخر بينة بأن المجروح لم يزل متألما من الجراحة حتى مات، رجعنا إلى تصديقه. الخامسة: أوضحه موضحتين، ثم رفع الحاجز بينهما وقال: رفعته قبل الاندمال، فليس علي إلا أرش واحد، وقال المجني عليه: بل بعده، فعليك أرش ثلاث موضحات، قال الاصحاب: إن قصر الزمان، صدق الجاني بيمينه، وإن طال، صدق المجني عليه، وإذا حلف المجني عليه، ثبت الارشان، ولا يثبت الثالث على الاصح، ولو وجدنا الحاجز مرتفعا، وقال الجاني: رفعته أنا، أو ارتفع بالسراية، وقال المجني عليه: بل رفعه آخر، أو رفعته أنا، فالظاهر تصديق المجني عليه، ولو كان الموجود موضحة واحدة، فقال الجاني: هكذا أوضحت، وقال المجني عليه: بل أوضحت موضحتين، وأنا رفعت الحاجز بينهما، صدق الجاني. قلت: باب الاختلاف واسع، وإنما أشار هنا إلى مسائل منه، وباقيها مفرق

(7/82)


في مواضعه، ومنها: لو قطع أصبعه، فداوى جرحه وسقطت الكف، فقال الجاني: تآكل بالدواء، وقال المجني عليه: بل تآكل بسبب القطع، قال المتولي: نسأل أهل الخبرة، فإن قالوا: هذا الدواء يأكل اللحم الحي والميت، صدق الجاني، وإن قالوا: لا يأكل الحي، صدق المجني عليه، وإن اشتبه الحال، صدق المجني عليه، لانه أعرف به، ولا يتداوى في العادة بما يأكل. والله أعلم.
باب استيفاء القصاص فيه أطراف :
الأول : فيمن له ولاية الاستيفاء، أما القصاص، فيستحقه جميع الورثة على فرائض الله تعالى، وفي وجه تستحقه العصبة خاصة، وفي وجه يستحقه الوارثون بالنسب دون السبب، حكاهما ابن الصباغ، وهما شاذان، والصحيح الاول وبه قطع الجمهور، ولو قيل: من ليس له وارث خاص، فهل للسلطان أن يقتص من قاتله، أم يتعين، أخذ الدية ؟ فيه قولان سبقا في كتاب اللقيط، وإن خلف بنتا، أو جدة، أو أخا لام، فإن قلنا: للسلطان الاستيفاء إذا لم يكن وارث، استوفاه مع صاحب الفرض، وإلا فالرجوع إلى الدية. فرع لو كان في الورثة غائب، أو صبي، أو مجنون، انتظر حضور الغائب أو إذنه، وبلوغ الصبي، وإفاقة المجنون، وليس للآخرين الانفراد بالاستيفاء. فرع إذا انفرد صبي، أو مجنون باستحقاق القصاص، لم يستوفه وليه سواء فيه قصاص النفس والطرف، وأما أخذ الولي له الدية، وجواز رد المستحق لها إذا كمل واقتصاصه، فقد ذكرناه في كتابي الحجر واللقيط، ويحبس القاتل إلى أن يبلغ الصبي ويفيق المجنون، ولا يخلى بالكفيل، فقد يهرب، ويفوت الحق،

(7/83)


وكذلك يحبس إلى أن يقدم الغائب، كما لو وجد الحاكم مال ميت مغصوبا، والوارث غائب، فإنه يأخذه حفظا لحق الميت، وذكر ابن الصباغ أنه لا يحبس في قصاص الطرف إلى قدوم الغائب، لان الحاكم لا ولاية له على الغائب المكلف، كما لا يأخذ ماله المغصوب، وفي كلام الامام وغيره ما ينازع فيه ويشعر بأنه يأخذ مال الغائب ويحفظه له، وأنه يحبس لقصاص الطرف، وفي أمالي السرخسي أن الشيخ أبا علي قال: لا يحبس القاتل، لانه عقوبة زائدة، وحمل الحبس في كلام الشافعي رحمه الله على التوقف للانتظار، والصحيح الاول، وبه قطع الجماهير قال الاصحاب: وحبسه أهون عليه من تعجيل القتل، ولا طريق إلى حفظ الحق سواه. فصل إذا كان القصاص لجماعة حضور كاملين، فليس لهم أن يجتمعوا على مباشرة قتله، لان فيه تعذيبا، ولكن يتفقون على واحد يستوفيه، أو يوكلون أجنبيا، فإن طلب كل واحد أن يستوفيه بنفسه، أقرع، فمن خرجت قرعته، تولاه بإذن الباقين، فلو أخروا لم يكن له الاستيفاء بخلاف ما إذا تنازعوا في التزويج، فخرجت قرعة واحد، فإنه يزوج، ولا يحتاج إلى إذن الباقين، لان القصاص مبني على الاسقاط ولجميعهم ولبعضهم تأخيره كإسقاطه، والنكاح لا يجوز تأخيره، هذا هو الصحيح، وعن القفال تفريعا أنه لا يفرع بينهم إلا بإذنهم بخلاف القرعة في القسمة وبين الاولياء، وحكى الامام وغيره وجها أنه لا حاجة بعد خروج القرعة إلى إذن الباقين، لتظهر فائدة القرعة، وإلا فاتفاقهم على واحد مغن عن القرعة، ولا شك أنه لو منع بعضهم من خرجت له القرعة من الاستيفاء، لم يكن له الاستيفاء، وهل يدخل في القرعة العاجز عن الاستيفاء، كالشيخ والمرأة ؟ وجهان، وقيل: قولان، أصحهما عند الاكثرين: لا، لانه ليس أهلا للاستيفاء، والقرعة إنما تكون بين المستوين في الاهلية، والثاني: نعم، فإن خرجت القرعة له، وكل،

(7/84)


فإن قلنا: لا يدخل، فخرجت القرعة لقادر، فعجز، أعيدت بين الباقين، وإن قلنا: يدخل، لا تعاد، لكن يستنيب، هذا كله إذا كان المستحق القصاص في النفس لحز الرقبة، فأما قصاص الطرف، وقصاص النفس المستحق بقطع الطرف ونحوه، فسيأتي إن شاء الله تعالى. فصل من عليه قصاص إذا قتله أجنبي، لزمه القصاص كما سبق، ويكون هذا القصاص لورثته، لا لمن كان يستحق القصاص عليه، قال البغوي: فلو عفا ورثته عن القصاص على الدية، فالدية للورثة على الصحيح، وقيل: لمن له القصاص، كما إذا قتل المرهون تكون قيمته مرهونة، وهو ضعيف، وأما إذا بادر أحد ابني المقتول الحائزين، فقتل الجاني بغير إذن الآخر، فينظر أوقع ذلك قبل عفو أخيه أم بعده ؟ الحالة الاولى: إذا قتله قبل العفو، ففي وجوب القصاص عليه، قولان، أظهرهما: لا يجب، لان له حقا في قتله، فصار شبهة، والقولان فيما إذا قتله عالما بالتحريم، فإن جهل، فلا قصاص بلا خلاف، الحالة الثانية: أن يقتله بعد العفو، فإن علم العفو، وحكم الحاكم بسقوط القصاص عن الجاني، لزمه القصاص قطعا، وإن لم يحكم به، لزمه أيضا على المذهب، وقيل: لا، لشبهة اختلاف العلماء، وإن جهله، فإن قلنا: لا قصاص إذا علمه، فهنا أولى، وإلا فوجهان، ولو قتله العافي، أو عفوا، ثم قتله أحدهما، لزمه القصاص قطعا. التفريع على الحالة الاولى، فإذا أوجبنا القصاص على الابن المبادر، وجبت دية الاب في تركة الجاني، وكانت بينهما نصفين، وإن عفا مجانا، أو أطلق العفو، وقلنا: العفو المطلق لا يوجب الدية، أخذها الاخوان، وإن عفا على الدية، أو أطلق وجعلنا المطلق موجبا للدية، فللاخ الذي لم يقتل نصف الدية في تركة الجاني، وللمبادر النصف وعليه دية الجاني بتمامها، ويقع الكلام في التقاص، وقد يصير النصف بالنصف قصاصا، ويأخذ وارث الجاني النصف الآخر، وقد يختلف

(7/85)


القدر بأن يكون المقتول أولا رجلا، والجاني امرأة، وإذا قلنا بالاظهر، ولم نوجب القصاص على المبادر، فلاخيه نصف الدية، وممن يأخذها ؟ قولان، أحدهما: من أخيه المبادر، وأظهرهما: من تركة الجاني، فإذا قلنا: يأخذ من أخيه، فأبرأ أخاه، برئ، وإن أبرأ وارث الجاني، لم يصح، لانه لا حق له عليه، ولو أبرأ وارث الجاني المبادر عن الدية، لم يسقط النصف الثابت عليه لاخيه، وأما النصف الثابت للوارث، فيبنى على التقاص في الدينين، هل يحصل بنفس الوجوب ؟ إن قلنا: نعم، فالعفو لغو، وبمجرد وجوبهما، سقطا، وإن قلنا: لا يحصل حتى يتراضيا، صح الابراء، وسقط ما ثبت للوارث على المبادر، ويبقى للمبادر النصف في تركة الجاني، وإن قلنا: حق الذي لم يقتل في تركة الجاني لا على أخيه، فلوارث الجاني على المبادر دية تامة، وللمبادر نصف الدية في تركة الجاني، فيقع النصف تقاصا، ويأخذ وارث الجاني منه النصف الآخر، فلو أبرأ الذي لم يقتل أخاه، فإبراؤه لغو إذ لا شئ له عليه، ولو أبرأ وارث الجاني، صح، ولو أسقط وارث الجاني الدية عن المبادر، فإن قلنا: يقع التقاص بنفس الوجوب، فقد سقط النصف بالنصف، ويؤثر الاسقاط في النصف الآخر، فلا يبقى لاحدهما على الآخر شئ، وإن قلنا: لا يقع التقاص إلا بالتراضي، سقط حق الوارث بإسقاطه، وبقي للمبادر نصف الدية في تركة الجاني، وإذا كان المبادر جاهلا بالتحريم، وجبت الدية بقتله، وهل يكون في ماله لقصده القتل، أم على عاقلته، لان الجهل كالخطأ ؟ قولان، فإن قلنا: في ماله، فالابن الذي لم يقتل يأخذ نصف الدية من أخيه، أو من تركة الجاني، فيه القولان، وإن قلنا: على العاقلة، أخذ الابنان الدية من تركة الجاني في الحال، ووارث الجاني يأخذ ديته من عاقلة المبادر، كما تؤخذ الدية من العواقل، هذا تفريع الحالة الاولى، أما إذا قتله بعد عفو أخيه، فإن أوجبنا القصاص، واقتص وارث الجاني، فلورثة المقتص منه نصف الدية في تركة الجاني، وأما العافي، فلا شئ له إن عفا مجانا، وإن عفا على نصف الدية، عاد الخلاف في أنه ممن يأخذه، وإن لم يقتص منه الوارث، بل عفا، نظر في حال العفوين وما يقتضيانه من وجوب المال وعدمه، وإن لم نوجب القصاص، فإن كان الآخر عفا على الدية، أو مطلقا، وقلنا: المطلق يقتضي الدية، فللابنين دية أبيهما، وعلى المبادر دية الجاني، فيقع ما له وما عليه في التقاص، ويأخذ الآخر

(7/86)


النصف من أخيه، أو من تركة الجاني على الخلاف، وإن عفا مجانا أو مطلقا وقلنا: لا يوجب المال، فلا شئ للعافي، وللمبادر نصف دية أبيه، وعليه جميع دية الجاني، وما ذكرناه في المسألة من صور مجئ الخلاف في التقاص كذا أطلقه الاصحاب وفيه نظر، لان شرط التقاص استواء الديتين في الجنس والصفة حتى لا يجري إذا كان أحدهما مؤجلا والآخر حالا واختلف أجلهما، وهنا أحد الديتين في ذمة الابن المبادر لورثة الجاني، والآخر يتعلق بتركة الجاني ولا يثبت في ذمة أحد، وهذا الاختلاف أشد من اختلاف قدر الاجل. فصل الواحد إذا قتل جماعة، قتل بأحدهم وللباقين الديات، وكذا لو قطع أطراف جماعة كما سبق، وفي البيان وجه أنه يقتل بالجميع وليس بشئ، فلو رضي الاولياء بأن يقتل بهم جميعا ويرجع كل واحد إلى ما يبقى له من الدية عند توزيع القصاص عليهم، لم يجابوا إليه بلا خلاف، قاله الامام، ثم ينظر إن قتلهم مرتبا، قتل بالاول، فإن عفا ولي الاول، قتل بالثاني وهكذا يراعى الترتيب، وإن لم يعف ولي الاول ولا اقتص، فلا اعتراض عليه، وليس لولي الثاني المبادرة بقتله، فلو فعل، عزر ولا غرم، بل يقع قتله عن القصاص المستحق له، وينتقل الاول إلى الدية، وفي وجه يغرم للاول دية قتله، ويأخذ من تركة الجاني دية قتيل نفسه، وليس بشئ، ولو كان ولي القتيل الاول غائبا أو صبيا أو مجنونا، حبس القاتل حتى يحضر الولي، أو تكمل حاله، وحكى الفوراني قولا عن رواية حرملة أن للثاني الاقتصاص، ويصير الحضور والكمال مرجحا، والمشهور الاول، وأما إذا قتلهم معا، بأن هدم عليهم جدارا أو جرحهم وماتوا معا، فيقرع بينهم، فمن خرجت قرعته.، قتل به، فإن خرجت لواحد، فعفا وليه، اعيدت القرعة بين الباقين، وكذا لو عفا، بأن خرجت قرعته، وهذا الاقراع واجب على مقتضى كلام الجمهور، وحكى أبو الفياض وغيره أنه مستحب وللامام أن يقتله بمن شاء منهم، قال الروياني: وهو الاصح، وعليه جرى ابن كج وغيره، وحكوا عن نص الشافعي

(7/87)


رحمه الله أنه قال: أحببت أن يقرع بينهم، ولو رضوا بتقديم واحد بلا قرعة، جاز، فإن بدا لهم، ردوا إلى القرعة، ذكره الامام، ولو كان ولي بعض القتلى غائبا أو صبيا أو مجنونا، فالمذهب الانتظار إذا أوجبنا الاقراع، وفي الوسيط عن رواية حرملة أن للحاضر والكامل الاقتصاص، وإذا أشكل الحال، فلم يدر أقتلهم دفعة أو مرتبا، أقرع بينهم، فإن أقر بسبق قتل بعضهم، اقتص منه وليه، ولولي غيره تحليفه إن كذبه. فرع إذا قتل مرتبا، فجاء ولي الثاني يطلب القصاص، ولم يجئ الاول، فعن نص الشافعي رضي الله عنه قال: أحببت أن يبعث الامام إلى ولي الاول، ليعرف أهو طالب أو عاف، فإن لم يبعث وقتله بالثاني، كرهته ولا شئ عليه، لان لكلهم عليه حق القود، ويشبه أن تكون الكراهة كراهة تحريم، ويؤيده أنه قال في الام: فقد أساء. فرع قتل جماعة جماعة، فالقاتلون كشخص، فإن قتلوهم مرتبا، قتلوا بالاول، وإلا فيقرع، فمن خرجت قرعته، قتلوا به، وللباقين الديات في تركات القاتلين. فرع إذا قتل عبد جماعة أحرارا أو عبيدا، فوجهان، أحدهما: يقتل بجميعهم، لان في تخصيص بعضهم تضييع حق الآخرين، ولان العبد لو قتلهم خطأ، تضاربوا في رقبته، فكذا في قصاصه بخلاف الحر، وأصحهما عند الاكثرين: لا يقتل بجميعهم، بل يكون كالحر المعسر، يقتل بواحد، وللباقين

(7/88)


الديات في ذمته يلقى الله تعالى بها، فعلى هذا إن قتلهم مرتبا، قتل بالاول، وإن قتلهم معا، أقرع، وقتل بمن خرجت قرعته، ولو عفا ولي الاول، أو ولي من خرجت قرعته على مال، تعلق المال برقبته، وللثاني قتله وإن بطل حق الاول، لان تعلق المال لا يمنع القصاص، كجناية المرهون، وإن عفا الثاني أيضا على مال، تعلق المالان برقبته ولا يرجح بالتقدم، كما لو أتلف أموالا لجماعة في أزمنة. فرع إذا تمالا على الجاني أولياء القتيل، فقتلوه جميعا، فثلاثة أوجه، أصحها: يقع القتل موزعا على جميعهم، ويرجع كل واحد بقسط ما بقي من ديته، والثاني: يقرع ويجعل القتل واقعا عمن خرجت قرعته، وللباقين الديات، والثالث قاله الحليمي: يكتفى به عن جميعهم، ولا رجوع إلى شئ من الدية. فرع قتل رجلا، وقطع طرف آخر، وحضر المستحقان، يقطع طرفه، ثم يقتل، سواء تقدم قتله، أم قطعه ليجمع بين الحقين، وإن قطع يمين زيد، ثم أصبعا من يمين عمرو، وحضرا، قطعت يمينه لزيد ويأخذ عمرو دية الاصبع، فإن عفا زيد، قطعت أصبعه لعمرو، وإن كان قطع الاصبع أولا، قطعت أصبعه للاول، ويأخذ الثاني دية اليد، وإن شاء، قطع ما بقي من يد الجاني، وأخذ دية الاصبع، وإن وقع القطعان معا، أقرع، فمن خرجت قرعته مكانه يقدم قطعه. فصل ليس لمستحق القصاص استيفاؤه إلا بإذن الامام أو نائبه، وعن أبي إسحاق ومنصور التميمي أن المستحق يستقل بالاستيفاء كالاخذ بالشفعة وسائر الحقوق، والصحيح المنصوص الاول، وسواء فيه قصاص النفس والطرف، وإذا استقل به عزر، لكنه لا غرم عليه، ويقع عن القصاص، ولو استقل المقذوف باستيفاء حد القذف بإذن القاذف، أو بغير إذنه، ففي الاعتداد به وجهان، فإن قلنا: لا يعتد به، ترك حتى يبرأ ثم يحد، ولو مات منه، وجب القصاص إن جلده بغير إذنه، وإن كان بإذنه، فلا قصاص، وفي الدية خلاف، كما لو قتله بإذنه، ثم إذا طلب المستحق أن يستوفي القصاص بنفسه، فإن لم يره أهلا له كالشيخ والزمن

(7/89)


والمرأة، لم يجبه، وأمره أن يستنيب، وإن رآه أهلا له، فإن كان المطلوب قصاص النفس، والطالب الولي، فوضه إليه بخلاف الجلد في القذف لا يفوض إلى المقذوف، لان تفويت النفس مضبوط، والجلدات يختلف موقعها، والتعزير كحد القذف، وإن كان المطلوب قصاص الطرف، والطالب المجني عليه، فوجهان، أحدهما: يفوضه إليه كالنفس، لان إبانة الطرف مضبوطة، وأصحهما: المنع، لانه لا يؤمن أن يردد الحديدة، ويزيد في الايلام. فرع يستحب للامام أن يحضر الاقتصاص عدلين متيقظين، ليشهدا إن أنكر المقتص، ولا يحتاج إلى القضاء بعلمه إن كان الترافع إليه. فرع يتفقد الامام السيف، ويقتص بصارم لا كال، فلو كان الجاني قتل بكال، فهل يقتص بكال أم يتعين الصارم ؟ وجهان، أصحهما: الاول، وإذا لم نجوز بالكال، فبان بعد الاستيفاء كلاله، عزر المستوفي. فرع يضبط الجاني في قصاص الطرف، لئلا يضطرب، فيؤدي إلى استيفاء زيادة. فرع إذا أذن للولي في ضرب الرقبة، فأصاب غيرها، واعترف بأنه تعمد، عزر، وكذا لو ادعى الخطأ فيما لا يقع الخطأ بمثله، بأن ضرب رجله أو وسطه، لكن لا يمنع من الاستيفاء، ولا يعزل، لانه أهل له، وإن تعدى بفعله، كما لو جرحه قبل الارتفاع إلى الحاكم، لا يمنع من الاستيفاء، وفيه وجه، أو قول ضعيف: أنه يعزل، ويؤمر بالاستنابة، لانه لا يؤمن أن يتعدى ثانيا، ولو ادعى

(7/90)


الخطأ فيما يمكن فيه الخطأ، بأن ضرب كتفه، أو رأسه مما يلي الرقبة، حلف، ولا يعزر إذا حلف، لكن يعزل، لان حاله يشعر بعجزه وخرقه، وحكي قول، أو وجه: انه يعذر بالخطأ ولا يعزل، قال الامام: وهذا الوجه ينبغي أن يكون مخصوصا بما إذا لم يتكرر الخطأ منه، ولم يظهر خرقه، فإن ظهر فليمنع بلا خلاف، قال: وعزله على الصحيح ينبغي أن يكون مخصوصا بمن لم تعرف مهارته في ضرب الرقاب، فأما الماهر فينبغي أن لا يعزل بخطأ اتفق له بلا خلاف. فرع هل يمنع من الاستيفاء بالسيف المسموم، وجهان، الصحيح: المنع، هكذا أطلقهما مطلقون، وخصهما الامام بما إذا كان تأثير السم في التقطع، واكتفيت بتأخر عن الدفن، فإن كان يؤثر قبل الدفن، منع بلا خلاف لما فيه من هتك الحرمة وعسر الغسل والدفن، وحيث يمنع، فلو بان بعد القطع أنه كان مسموما، عزر، وأما في قصاص الطرف، فيمنع من المسموم بلا خلاف، فلو استوفاه بمسموم، فمات المقتص منه، فلا قصاص، لانه مات من مستحق وغيره، وتجب نصف الدية، وهل تكون على المستوفي، أم على عاقلته ؟ وجهان، أصحهما: الاول، وحكى ابن كج وجها غريبا أنه يجب القصاص، قال: ولو كان السم موحيا، وجب القصاص بلا خلاف. فرع لينصب الامام من يقيم الحدود ويستوفي القصاص بإذن المستحقين له، ويرزقه من خمس خمس الفئ والغنيمة المرصد للمصالح، فإن لم يكن عنده من سهم المصالح شئ، أو كان واحتاج إليه لاهم منه، فأجرة الاقتصاص على المقتص منه، لانها مؤنة حق لزمه أداؤه، وقيل: على المقتص، والصحيح المنصوص الاول، وبه قطع الجمهور، وفي أجرة الجلاء في الحدود، والقاطع في السرقة، وجهان، أصحهما: على المجلود والسارق، لانها تتمة الحد الواجب عليه، والثاني: في بيت المال، ومنهم من خص الايجاب في بيت المال بما إذا لم يكن للجاني مال، وأجرة الجلاد في القذف كأجرة الاقتصاص، وإذا قلنا: تجب في

(7/91)


بيت المال، فلم يكن فيه ما يمكن صرفه إليه، اقترض الامام على بيت المال إلى أن يجد سعة، قال الروياني: أو يستأجر بأجرة مؤجلة، أو يسخر من يقوم به على ما يراه، والاستئجار قريب والتسخير بعيد، وبتقدير جوازه يجوز أن يأخذ الاجرة ممن يراه من الاغنياء ويستأجر بها، ولو قال الجاني: أنا أقتص من نفسي، ولا أؤدي الاجرة، فهل يقبل منه ؟ وجهان، قال الداركي: نعم، وأصحهما: لا، فعلى هذا لو قتل نفسه، أو قطع طرفه بإذن المستحق، ففي الاعتداد به عن القصاص وجهان، أحدهما: لا، كما لو جلد نفسه في الزنى بإذن الامام، وفي القذف بإذن المقذوف، لا يسقط الحد عنه، وكما لو قبض المبيع من نفسه بإذن المشتري، لا يعتد به، والثاني: نعم، لحصول الزهوق، وإزالة الطرف، بخلاف الجلد فإنه قد لا يؤلم نفسه، ويوهم الايلام، فلا يتحقق حصول المقصود، وفي البيع المقصود إزالة يد البائع، ولم تزل، قال البغوي: ولو قطع السارق يد نفسه بإذن الامام اعتد به عن الحد، وهل يمكنه إذا قال: أقطع بنفسي ؟ وجهان، أقربهما: نعم، لان الغرض التنكيل، ويحصل بذلك.
الطرف الثاني : في وقت الاقتصاص لمستحق القصاص استيفاؤه على الفور إذا أمكن، فلو التجأ الجاني إلى الحرم، جاز استيفاؤه منه في الحرم، سواء فيه قصاص النفس والطرف، ولو التجأ إلى المسجد الحرام، قال الامام: أو غيره من المساجد، أخرج منه وقتل، لان هذا تأخير يسير، وفيه صيانة للمسجد، وفيه وجه ضعيف أنه تبسط الانطاع، ويقتل في المسجد تعجيلا لتوفية الحق وإقامة الهيبة.

(7/92)


قلت: ولو التجأ إلى الكعبة، أو إلى ملك إنسان، أخرج قطعا. والله أعلم. فصل لو قطع طرفه، فمات بالسراية، فسيأتي إن شاء الله تعالى أن القصاص يستوفى بمثله، فإذا قطع طرف الجاني، فله أن يحز رقبته في الحال، وله أن يؤخر، فإن مات بالسراية، فذاك، وإلا حز رقبته، لانه استحق إزهاق روحه، فإن شاء عجل، وإن شاء أخر. فصل لا يؤخر قصاص الطرف لشدة الحر والبرد، ولا بسبب المرض وإن كان مخطرا، وكذا لا يؤخر الجلد في القذف بخلاف قطع السرقة والجلد في حدود الله تعالى، لان حقوق الله تعالى مبنية على التخفيف، هكذا قطع به الغزالي والبغوي وغيرهما، وفي جمع الجوامع للروياني أنه نص في الام على أنه يؤخر قصاص الطرف بهذه الاسباب، ولو قطع أطراف رجل، فللمجني عليه أن يقتص في الجميع متواليا سواء قطعها الجاني متوالية أم متفرقة، وقيل: يفرق مطلقا، وقيل: يفرق إن فرق، ويوالي إن والى، والصحيح الاول، لانها حقوق واجبة في الحال. فصل المرأة الحامل لا يقتص منها في نفس ولا طرف، ولا تحد للقذف، ولا في حدود الله تعالى قبل الوضع، سواء الحامل من زنى أو غيره، وسواء وجبت العقوبة قبل الحمل أم بعده، حتى إن المرتدة لو حبلت من زنى بعد الردة، لا تقتل حتى تضع، وإذا وضعت لا تستوفى العقوبة حتى تسقي الولد اللبأ، ومال القاضي أبو الطيب إلى أنها لا تمهل لارضاعه اللبأ، لانه قد يعيش دونه، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، لان الغالب أنه لا يعيش بدونه مع أنه تأخير يسير، ثم إذا أرضعته اللبأ، فإن لم يكن هناك من يرضعه، ولا ما يعيش به الولد من لبن بهيمة وغيره،

(7/93)


فوجهان، قال ابن خيران: يقتص منها، ولا يبالى بالطفل، والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه يجب التأخير إلى أن توجد مرضعة أو ما يعيش به، أو ترضعه هي حولين وتفطمه، لانه إذا وجب تأخير العقوبة احتياطا للحمل، فوجوبه بعد وجود الولد، وتيقن حياته أولى، فلو بادر مستحق القصاص والحالة هذه فقتلها، فمات الطفل، فالصحيح أنه قاتل للطفل عمدا، فيلزمه قوده، كما لو حبس رجلا في بيت ومنعه الطعام، وبهذا قطع الشيخ أبو حامد، ونقله ابن كج عن النص، وعن الماسرجسي قال: سمعت ابن أبي هريرة يقول: عليه دية الولد، فقلت له: أليس لو غصب طعام رجل في البادية أو كسوته، فمات جوعا أو بردا، لا ضمان عليه، فتوقف، فلما عاد إلى الدرس قال: لا ضمان فيهما، أما إذا أمكن تربية الولد بمراضع يتناوبن عليه، أو بلبن شاة ونحوه، ولم توجد مرضعة راتبة، فيستحب للمستحق أن يصبر لترضعه هي لئلا يفسد خلقه ونشوؤه بالالبان المختلفة ولبن البهيمة، فإن لم يصبر وطلب القصاص، أجيب إليه، ولو وجدت مرضعة راتبة، فله الاقتصاص في الحال، ولو وجد مراضع وامتنعن، أجبر الحاكم من يرى منهن بالاجرة. والجلد في القذف كالقصاص، وأما الرجم وسائر حدود الله تعالى، فلا تستوفى وإن وجدت مرضعة، بل ترضعه هي، وإذا انقضى الارضاع لم يستوف أيضا حتى يوجد للطفل كافل، والفرق بين الحدود والقصاص أنها على المساهلة كما سبق. فرع تحبس الحامل في القصاص إلى أن يمكن الاستيفاء كما ذكرنا فيما إذا كان في المستحقين صبي، ولو كان عليها رجم، أو غيره من حدود الله تعالى، لم تحبس على الصحيح، لانه على التخفيف، وقيل: تحبس، كالقصاص، قال الامام: وإطلاق هذا الوجه بعيد، والاقرب أنه مخصوص بما إذا ثبت بالبينة، فإن ثبت بالاقرار، فلا معنى للحبس مع أنه بعرض السقوط بالرجوع. فرع جميع ما ذكرناه إذا ثبت الحمل بإقرار المستحق، أو شهادة النسوة، فلو ادعت الجانية الحمل، هل يمتنع عنها بمجرد دعواها ؟ وجهان، قال

(7/94)


الاصطخري: لا، وقال الجمهور: نعم وهو الصحيح، قال الامام: ولا أدري أيقول هؤلاء بالصبر إلى انقضاء مدة الحمل أم إلى ظهور المخايل، والارجح الثاني، فإن التأخير أربع سنين من غير ثبت بعيد، قال الغزالي: فعلى قول الاصطخري: لا يمكن الاقتصاص من منكوحة يخالطها زوجها، وهذا إن أراد به إذا ادعت الحمل، فهو كذلك، وإن أراد الامتناع بمجرد المخالطة والوطئ بغير دعواها، فليس كذلك، لان الاصل عدم الحمل. فرع إذا قتلت الحامل على خلاف ما أمرنا به، نظر، إن بادر إليه الولي مستقلا، أثم ووجبت غرة الجنين إن انفصل ميتا، وتكون على عاقلة الولي، وإن انفصل حيا متألما فمات، وجبت الدية، وإن أذن له الامام في قتلها، فقتلها، فنتكلم في ثلاثة أشياء، أحدها: الاثم وهو تبع للعلم فإن علم الولي والامام بالحمل، أثما، وإن جهلا، فلا، وإن علم أحدهما، اختص بالاثم. الثاني: الضمان، فإن لم ينفصل الجنين، فلا ضمان، وإن انفصل ميتا، ففيه الغرة والكفارة، وإن انفصل حيا متألما فمات به، ففيه دية وكفارة، وإن انفصل سليما، ثم مات، لم يجب فيه شئ. الثالث: فيمن عليه الضمان، فإن كان الامام والولي عالمين أو جاهلين، فالصحيح المنصوص أن الضمان على الامام، لان البحث عليه، وهو الامر به، وقيل: على الولي، لانه المباشر، وقيل: عليهما بالسوية، وإن كان الامام عالما، والولي جاهلا، فإن أوجبنا الضمان إذا علما على الامام، فهنا أولى، وإلا فوجهان، وإن كان الولي عالما والامام جاهلا، فالصحيح أن الضمان على الولي، وقيل: على الامام لتقصيره، وحيث ضمنا الولي، فالغرة على عاقلته، والكفارة في ماله، وحيث ضمنا الامام، فإن كان عالما ففي ماله، وإن كان جاهلا، فعلى القولين في أن ما يجب بخطأ الامام في الاجتهاد، هل هو على عاقلته أم في بيت المال ؟ أظهرهما وهو المنصوص هنا: أنه على عاقلته، وبه قطع ابن

(7/95)


سلمة وأبو علي الطبري، وإذا قلنا: الدية والغرة في بيت المال، ففي الكفارة وجهان، لقربها من القربات، وبعدها من التحمل، ولو باشر القتل نائب الامام، أو جلاده دون الولي، فإن كان جاهلا، فلا ضمان عليه بحال، لانه سيف الامام، وإن كان عالما، فخلاف مرتب على ما إذا أذن الامام للولي وعلم الولي، وأولى بأن لا ضمان، لانه آلة الامام، ولهذا لا كفارة عليه إذا جرى على يده قتل بغير حق، وهل يؤثر علم الولي مع الجلاد ؟ وجهان، أصحهما: نعم، حتى إذا كانوا عالمين، ضمنوا أثلاثا، هذا كله في ضمان الجنين، أما الام فلا يجب ضمانها، لانها تلفت في حد أو عقوبة عليها، قال البغوي: هذا إذا ماتت بألم الضرب، فإن ماتت بألم الولادة، وجبت ديتها، وإن ماتت منهما، وجب نصف ديتها والمراد إذا ضربها في الحد، فأفضى إلى الاجهاض وماتت. فرع إذا لم يعلم الامام الحمل فأذن للولي في القتل، ثم علم، فرجع عن الاذن، ولم يعلم الولي رجوعه، فقتل، فعلى من الضمان ؟ يبنى ذلك على ما إذا عفا الموكل عن القصاص ولم يعلم الوكيل، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. فرع ليس المراد مما أطلقناه من العلم بالحمل وعدمه، حقيقة العلم، بل المراد ظن مؤكد بمخايله وبالله التوفيق.
الطرف الثالث : في كيفية المماثلة
وهي مشترطة في استيفاء القصاص، فإذا قتله قتلا موحيا بمحدد، كسيف وغيره، أو بمثقل، أو خنقه، أو غرقه في ماء، أو ألقاه في نار، أو جوعه حتى مات، أو رماه من شاهق، فللولي أن يقتله بمثل ما قتل به، ويستثنى عن هذه القاعدة ثلاث صور، إحداها: إذا قتله بسحر، اقتص منه بالسيف، لان عمل السحر حرام ولا ينضبط، الثانية: إذا قتله باللواط، وهو مما يقتل غالبا، بأن لاط بصغير، فالصحيح أنه يقتل بالسيف كمسألة السحر، والثاني: تدس في دبره خشبة قريبة من آلته ويقتل بها، قاله أبو إسحق والاصطخري، قال

(7/96)


المتولي: هذا إن توقع موته بالخشبة، وإلا فالسيف، والثالث: لا يجب به القصاص، لانه لا يقصد به الاهلاك، فيكون القتل به خطأ، أو شبه عمد، وهو غريب ضعيف، الثالثة: إذا أوجره خمرا حتى مات، فثلاثة أوجه، الصحيح: أنه يقتل بالسيف، والثاني: يوجر مائعا، كخل أو ماء أو شئ مر، والثالث: لا قصاص، لانه لا يقصد به القتل وهو غريب ضعيف، ولو سقاه بولا، فكالخمر، وقيل: يسقى بولا، لانه يباح عند الضرورة بخلاف الخمر، ولو أوجره ماء نجسا، أو جر ماء طاهرا. فرع كما ترعى المماثلة في طريق القتل، ترعى في الكيفية والمقدار، ففي التجويع يحبس مثل تلك المدة ويمنع الطعام، وفي الالقاء في الماء والنار يلقى في ماء ونار مثلهما، ويترك تلك المدة، وتشد قوائمه عند الالقاء في الماء إن كان يحسن السباحة، وفي التخنيق يخنق بمثل ما خنق مثل تلك المدة، وفي الالقاء من الشاهق يلقى من مثله وتراعى صلابة الموضع، وفي الضرب بالمثقل يراعى الحجم وعدد الضربات، وإذا تعذر الوقوف على قدر الحجر، أو قدر النار، أو عدد الضربات فعن القفال أنه يقتل بالسيف، وعن بعضهم يؤخذ باليقين. قلت: هذا الثاني أصح. والله أعلم. فرع متى عدل المستحق من غير السيف إلى السيف، مكن منه، لانه أوحى وأسهل، قال البغوي: وهو الاولى، وأشار الامام إلى وجه أنه لا يعدل من الخنق إلى السيف، والمذهب: الاول. فرع إذا جوع الجاني مدة تجويعه، أو ألقي في النار مثل مدته، أو ضرب بالسوط والحجر كضربه، فلم يمت، فقولان، أحدهما: يزاد في ذلك الجنس حتى يموت، والثاني: يقتل بالسيف، وفرق جماعة فقالوا: يفعل الاهون منهما، وهذا

(7/97)


أقرب، والاول: أظهر عند البغوي، وقيل: يعدل في السوط والحجر إلى السيف، قال الامام: ولو قتل نحيفا بضربات تقتل مثله غالبا، وعلمنا أو ظننا طنا مؤكدا أن الجاني لا يموت بتلك الضربات لقوة جثته، فالوجه القطع بأنه لا يضرب، ثم قال: وفيه احتمال. فرع هذا الذي ذكرناه في الاقتصاص بالقتل الموحي، فأما غير الموحي من القتل، كالجروح وقطع الاطراف إذا سرت إلى النفس، فله حالان، أحدهما: أن تكون الجراحة بحيث يقتص فيها لو وقفت، كالموضحة وقطع الكف، فللمستحق أن يحز رقبته، وله أن يوضحه أو يقطع كفه، ثم إن شاء حز رقبته في الحال، وليس للجاني أن يقول: أمهلوني مدة بقاء المجني عليه بعد جنايتي، لان القصاص ثابت في الحال، وعن ابن القطان أن له ذلك، والصحيح الاول، وإن شاء أمهله إلى السراية كما سبق، وليس للجاني أن يقول: أريحوني بالقتل أو العفو، بل الخيرة للمستحق، وإذا اقتص في موضحة الجناية، أو قطع العضو المقطوع مثله، لم يكن له أن يوضح موضعا آخر، ولا أن يقطع عضوا آخر بلا خلاف، بل ليس له إلا حز الرقبة. الحال الثاني: أن تكون الجراحة بحيث لا يقتص فيها لو وقفت، كالجائفة وقطع اليد من نصف الساعد، فهل يجوز استيفاء القصاص بهذا الطريق تحقيقا للمماثلة، أم يجب العدول إلى حز الرقبة ؟ قولان، أظهرهما عند الاكثرين: الاول، فعلى هذا لو أجافه كجائفته، فلم يمت، فهل يزاد في الجوائف، وجهان، أصحهما: لا، قال البغوي: وإذا قلنا: يجوز الاقتصاص بطريق الجائفة، فقال: أجيفه، ثم أعفو قال: ولو أجافه ثم عفا عنه، عزر على ما فعل، ولم يجبر على قتله، فإن مات، بان بطلان العفو، والقولان في أنه هل يستوفى القصاص بالجائفة ونحوها ؟ يجريان فيما قطع يدا شلاء، ويد القاطع صحيحة، أو ساعدا ممن لا كف له، والقاطع سليم، هل يستوفى القصاص بقطع اليد والساعد ؟ فرع المماثلة مرعية في قصاص

(7/98)


الطرف، كما هي مرعية في قصاص النفس بشرط إمكان رعايتها، فلو أبان طرفا من أطرافه بمثقل، لم يقتص إلا بالسيف، ولو أوضح رأسه بالسيف، لم يوضح بالسيف، بل يوضح بحديدة خفيفة، فإن كان الطريق موثوقا به مضبوطا، قوبل بمثله، كفق ء العين بالاصبع. فرع قطعه رجل من الكوع، ثم قطع آخر ساعده من المرفق قبل اندمال القطع الاول، فمات بالسراية، فالقصاص عليهما، وطريق استيفائه من الاول أن تقطع يده من الكوع، فإن لم يمت، حزت رقبته، وأما الثاني، فإن كان له ساعد بلا كف، اقتص منه بقطع مرفقه، ثم يقتل، وإن كانت يده سليمة، فهل تقطع من المرفق ثم تحز رقبته، أم يقتصر على الحز ؟ قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما: الاول، وهو نصه في المختصر لترد الحديدة على موردها في الجناية، ولا عبرة بزيادة الكف الهالكة بهلاك النفس، ولو أراد الولي العفو عن الاول بعد أن أقطعه من الكوع، قال الاصحاب: لا يجوز أن يعفو على مال، لان الواجب عليه نصف الدية، فإنه أحد القاتلين، وقد استوفى النصف باليد التي قطعها، وإن أراد أن يعفو عن الثاني على مال، فله نصف الدية إلا قدر أرش الساعد، فإنه لم يستوف منه إلا الساعد. فرع إذا اقتص من قاطع اليد، ثم مات المجني عليه بالسراية، فللولي أن يحز رقبته، وله أن يعفو ويأخذ نصف الدية، واليد المستوفاة مقابلة بالنصف، فإن مات الجاني، أو قتل ظلما، أو في قصاص آخر، تعين أخذ نصف الدية من تركته، ولو قطع يدي رجل، فقطعت يداه قصاصا، ثم مات المجني عليه بالسراية، فللولي حز رقبة الجاني، فلو عفا، فلا مال له، لانه استوفى ما يقابل الدية، وهذه صورة يستحق فيها القصاص ولا تستحق الدية بالعفو عليها، ولو اقتص من قاطع اليد، فمات بالسراية، فلا شئ على المقتص، ولو ماتا جميعا بالسراية بعد الاقتصاص في اليد، نظر، إن مات المجني عليه أولا، أو ماتا معا، فوجهان، الصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا شئ على الجاني، والثاني: أن في تركته نصف الدية، نقله ابن كج عن عامة الاصحاب، وإن مات الجاني أولا، فهل يجب في تركته نصف الدية، أم لا شئ ؟ وجهان، أصحهما: الاول، فلو كان ذلك في الموضحة، وجب تسعة أعشار الدية ونصف عشرها، وقد أخذ بقصاص الموضحة نصف العشر.

(7/99)


فرع قطعه، فحز المقطوع رقبة الجاني، فإن مات المقطوع بالسراية، صار قصاصا، وإن اندمل، قتل قصاصا، وفي تركة الجاني نصف الدية لقطعه اليد، هكذا ذكره البغوي. فرع قطع يد رجل وقتل آخر ثم مات المقطوع بالسراية فقد قتل شخصين، نقل صاحب الشامل عن الاصحاب أنه يقتل بالمقتول دون المقطوع، لان قصاص المقطوع وجب بالسراية وهي متأخرة عن وجوبه للمقتول، لكن لولي المقطوع أن يقطع يده، فإذا قتله الآخر، أخذ نصف الدية من تركته، وتوقف في تخصيص الاقتصاص في النفس بالمقتول، ولو أنه بعد ما قطع واحدا، وقتل آخر قطعت يده قصاصا، ومات بالسراية، فلولي المقتول الدية في تركته، وإن قطع قصاصا ثم قتل قصاصا، ثم مات المقطوع الاول، فلوليه نصف الدية في تركة الجاني. فصل سبق أنه لا تقطع يمين بيسار ولا عكسه، ولو وجب القصاص في يمين واتفقا على قطع يسار بدلها، لم يكن بدلا، كما لو قتل غير القاتل برضاه بدلا، لا يقع بدلا، ولكن لا قصاص في اليسار لشبهة البذل وتجب ديتها، ومن علم منهما فساد هذه المصالحة، أثم بقطع اليسار، وهل يسقط قصاص اليمين بما جرى ؟ وجهان، أصحهما: نعم، ولو قال مستحق قصاص اليمين للجاني: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها المستحق، فللمخرج أحوال، أحدهما: أن يعلم أن اليسار لا تجزئ عن اليمين، وأنه يخرج اليسار ويقصد بإخراجها الاباحة للمقتص، فلا قصاص في اليسار ولا دية، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الاصحاب، وقالوا: قد بذلها صاحبها مجانا، وإن لم يتلفظ بإباحة قالوا: والفعل بعد السؤال كالاذن في المسؤول، حتى لو قال لاجنبي: أخرج يدك لاقطعها، أو قال: ملكني قطعها، فأخرجها، كان ذلك إباحة، ولو قال: ناولني متاعك لالقيه في البحر، فناوله كان كما لو نطق بالاذن فيه، فلا يجب ضمانه إذا ألقاه في البحر، ولو قدم طعاما إلى من استدعاه، كان كما لو قال له: كل، وحكى ابن القطان وجها أنه يجب ضمان اليسار إذا لم يتلفظ المخرج بالاذن في القطع، وحمل نص الشافعي

(7/100)


على ما إذا أذن لفظا، والصحيح الاول، وبه قطع الاصحاب، وسواء علم القاطع أنها اليسار، وأنها لا تجزئ أم لا، لكن إذا علم، عزر، وعن ابن سلمة احتمال في وجوب القصاص إذا كان عالما، ولو قصد شخص قطع يد رجل ظلما، فلم يدفعه المقصود وسكت حتى قطع، فهل يكون سكوته إهدارا ؟ وجهان، الصحيح: لا، لانه لم يوجد منه لفظ ولا فعل، فصار كسكوته عن إتلاف ماله، والثاني: نعم، لانه سكوت محرم، فدل على الرضى، ولو سرى قطع اليسار إلى نفس المخرج، ففي وجوب الدية الخلاف السابق فيما إذا قال: اقتلني، فقتله، وبني وجوب الكفارة على المقطوع يساره على الخلاف في أن قاتل نفسه هل تلزمه الكفارة ؟ هذا حكم قطع اليسار في هذه الحالة، وأما قصاص اليمين، فيبقى كما كان، لكن إذا سرى قطع اليسار إلى النفس، فات القصاص، فيعدل إلى دية اليد، فلو قال القاطع: قطعت اليسار على ظن أنها تجزئ عن اليمين فوجهان، أحدهما: لا يسقط قصاصه في اليمين، لانه لم يسقطه ولا اعتاض عنه، وأصحهما وبه قطع البغوي واختاره الشيخ أبو حامد والقاضي حسين: يسقط، لانه رضي بسقوطه اكتفاء باليسار، فعلى هذا يعدل إلى دية اليمين، لان اليسار وقعت هدرا، وطرد الوجهان فيما لو جاء الجاني بالدية وطلب من مستحق القطع متضرعا إليه أن يأخذها ويترك القصاص، فأخذها، فهل يجعل الاخذ عفوا، ولو قال القاطع: علمت أن اليسار لا تجزئ عن اليمين شرعا، لكن جعلتها عوضا عنها، اطرد الخلاف، وجعل الامام هذه الصورة أولى بالسقوط، الحال الثاني: أن يقول: قصدت بإخراج اليسار إيقاعها عن اليمين لظني أنها تقوم مقامها، فنسأل المقتص لم قطع ؟ وله في جوابه ألفاظ أحدها أن يقول: ظننت أنه أباحها بالاخراج، فلا قصاص عليه في اليسار، وفيه احتمال للامام، ويبقى قصاص اليمين كما كان قطعا، الثاني: أن يقول: علمت أنها اليسار، وأنها لا تجزئ ولا تجعل بدلا، ففي وجوب القصاص وجهان، أصحهما: لا يجب، لكن تجب الدية، وعلى الوجهين يبقى قصاص اليمين، الثالث: أن يقول: قطعتها عوضا عن اليمين، وظننتها تجزئ كما ظنه المخرج، فالصحيح أنه لا قصاص في اليسار، وأنه يسقط قصاص اليمين، ولكل واحد منهما دية ما قطعه الآخر، الرابع: أن يقول: ظننت المخرجة اليمين، فلا قصاص في اليسار على المذهب، وفي التهذيب فيه وجهان، كما لو قتل رجلا وقال: ظننته

(7/101)


قاتل أبي فلم يكن، فإن لم نوجب القصاص، وجبت الدية علي الاصح، لانه لم يبذلها مجانا ويبقى قصاص اليمين على المذهب، ويجئ فيه الخلاف السابق. الحال الثالث: أن يقول المخرج: دهشت فأخرجت اليسار، وظني أني أخرج اليمين، فيسأل المقتص عن قصده في قطعه اليسار، وله في جوابه صيغ، إحداها: أن يقول: ظننت أن المخرج قصد الاباحة، فقياس مثله في الحال الثاني أن لا يجب القصاص في اليسار، والذي ذكره البغوي أنه يجب القصاص كمن قتل رجلا وقال: ظننت أنه أذن لي في القتل، وهذا يوافق الاحتمال المذكور هناك وهو المتوجه في الموضعين. الثانية: أن يقول: علمت أنها اليسار وأنها لا تجزئ، قال الاصحاب: لا قصاص فيه، وفيه احتمال للامام. الرابعة: أن يقول: ظننتها اليمين، فلا قصاص على المذهب، وفي جميع هذه الصيغ يبقى قصاص اليمين إلا إذا قال: ظننت أن اليسار تجزئ، فإن الاصح سقوطه، وإذا سقط القصاص من الطرفين، فلكل واحد منهما الدية على الآخر، ولو قال القاطع: دهشت فلم أدر ما قطعت، قال الامام: لا يقبل منه ويلزمه القصاص في اليسار، لان الدهشة لا تليق بحال القاطع، وفي كتب الاصحاب لا سيما العراقيين، أن المخرج لو قال: لم أسمع من المقتص: أخرج يمينك، وإنما وقع في سمعي: أخرج يسارك، فأخرجتها، فالحكم فيه كقوله: دهشت، فأخرجت وأنا أظنها اليمين. فرع جميع ما ذكرناه في القصاص، فأما إذا وجب قطع يمينه في السرقة، فقال الجلاد للسارق: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها، فقولان، أحدهما ويقال: إنه قديم، ويقال: مخرج: إن الحكم كما ذكرنا في القصاص، والثاني وهو المشهور: أنه يقع قطع اليسار عن الحد، فيسقط قطع اليمين، لان المقصود التنكيل وقد حصل، ولان الحد مبني على التخفيف، واستدرك القاضي حسين، فحمل ما أطلقه الاصحاب على الحالين الاخيرين من الاحوال الثلاثة، وقال في الحال الاول وهو الاخراج بقصد الاباحة: ينبغي أن لا يسقط قطع اليمين، كما لو قطع السارق يسار نفسه، أو قطعها غيره بعد وجوب قطع اليمين. فرع لو كان المقتص منه مجنونا، فهو كما لو أخرج اليسار مدهوشا، ولا يتحقق منه البدل، ولو كان المقتص منه عاقلا، والمستحق مجنونا، فقطع يمين المقتص منه مكرها له، فهل يكون مستوفيا لحقه ؟ فيه خلاف سبق، فإن قلنا: لا

(7/102)


يصير مستوفيا وهو الصحيح، انتقل حقه إلى الدية، ويجب للجاني دية يده، فإن جعلنا عمده عمدا، فالدية في ماله، والصورة من صور التقاص، وإن جعلناه خطأ، فدية اليسار على عاقلته ولا تقاص، ولو قال لمن عليه القصاص: أخرج يمينك، فأخرجها، فقطعها المجنون، قال الاصحاب: لا يصح استيفاؤه، وينتقل حقه إلى الدية، ولا ضمان عليه، لانه أتلفها ببذله وتسليطه، وإن أخرج يساره، فقطعها، فهي مهدرة ويبقى حقه في قصاص اليمين. فرع حيث أوجبنا دية اليسار في الصور السابقة، فهي في ماله، لانه قطع متعمدا، وعن نصه في الام أنها تجب على العاقلة. فرع حيث قلنا: يبقى القصاص في اليمين، لا يستوفى حتى يندمل قطع اليسار لما في توالي القطعين من خطر الهلاك، نص عليه، ولو قطع طرفي رجل معا، اقتص فيهما معا، ولا يلزمه التفريق، نص عليه، فقيل: فيهما قولان، والمذهب تقرير النصين، والفرق أن خطر الموالاة في الصورة الاولى يحصل من قطع مستحق وغير مستحق. فرع قال المخرج: قصدت بالاخراج إيقاعها عن اليمين، وقال القاطع: أخرجتها بقصد الاباحة، فالمصدق المخرج لانه أعرف بقصده. فرع ثبت له القصاص في أنملة، فقطع من الجاني أنملتين، سئل، فإن اعترف بالتعمد، قطعت منه الانملة الثانية، وإن قال: أخطأت وتوهمت أني أقطع أنملة واحدة، صدق بيمينه، ووجب أرش الانملة الزائدة، وهل هي في ماله أم على عاقلته ؟ قولان، أو وجهان، أصحهما: في ماله. وبالله التوفيق (2).
باب العفو عن القصاص
هو مستحب، فإن عفا بعض المستحقين، سقط القصاص وإن كره الباقون،

(7/103)


ولو عفا عن عضو من الجاني، سقط القصاص كله، ولو أقت العفو، تأبد، ويشتمل الباب على طرفين: أحدهما : في حكم العفو، وهو مبني على أن موجب العمد في النفس والطرف ماذا ؟ وفيه قولان، أظهرهما عند الاكثرين: أنه القود المحض، وإنما الدية بدل منه عند سقوطه، والثاني: أنه القصاص أو الدية، أحدهما لا بعينه، وعلى القولين للولي أن يعفو على الدية بغير رضى الجاني، ولو مات أو سقط الطرف المستحق، وجبت الدية، وحكي قول قديم أنه لا يعدل إلى المال إلا برضى الجاني، وأنه لو مات الجاني، سقطت الدية وليس بشئ، فإذا قلنا: الواجب أحدهما لا بعينه، فعفا عن القصاص والدية جميعا، فلا مطالبة بواحد منهما، ولو قال: عفوت عما وجب لي بهذه الجناية، أو عن حقي الثابت عليك وما أشبهه، فلا مطالبة أيضا بشئ، نقله ابن كج عن النص، ولو قال: عفوت على أن لا مال لي، فوجهان، أحدهما: أنه كعفوه عنهما، والثاني: لا تسقط المطالبة بالمال، لانه لم يسقطه، وإنما شرط انتفاءه، وإلى هذا مال الصيدلاني، ولو عفا عن

(7/104)


القصاص، تعينت الدية، ولو عفا عن الدية، فله أن يقتص، فلو مات الجاني بعد ذلك، فله الدية لفوات القصاص بغير اختياره، ونقل ابن كج قولا أنه لا مال له، والمشهور الاول، وهل له أن يعفو بعد هذا عن القصاص ويرجع إلى الدية ؟ فيه ثلاثة أوجه، أصحهما وهو محكي عن النص: لا، فعلى هذا لو عفا مطلقا، لم يجب شئ، والثاني: نعم، وحاصل هذا الوجه أن العفو عن الدية لغو، والولي على خيرته كما كان، والثالث: إن عفا على الدية، وجبت، وإن عفا مطلقا، فلا، فإن قلنا: لا رجوع إلى الدية استقلالا، فلو تراضيا بمال من جنس الدية أو غيره بقدرها، أو أقل، أو أكثر، فوجهان، أحدهما: لا يجوز كما لا تجوز المصالحة عن حد القذف على عوض، والصحيح الجواز، لان الدم متقوم شرعا، كالبضع بخلاف العرض، ولو جرى الصلح مع أجنبي، جاز أيضا على الاصح، كاختلاع الاجنبي وأولى، لان حقن الدم مرغب فيه، ولو عفا، أو صالح عن القصاص على مال قبل أن يعفو عن الدية، فإن كان المصالح عليه من غير جنس الدية، جاز، سواء كانت قيمته بقدر الدية، أم أقل، أو أكثر، وإن كان من جنسه، فسيأتي إن شاء الله تعالى، ويجري الخلاف فيما لو ثبت القصاص بلا دية، وصورته ما إذا قطع يديه، فسرى إلى النفس، فقطعت يد الجاني قصاصا، أو قطعت يداه قصاصا، ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه، فإنه يجوز حز رقبته، ولا يجوز العفو على الدية كما سبق، ولو قال: عفوت عنك ولم يذكر القصاص ولا الدية، أو قال: عفوت عن أحدهما، ولم يعين، فوجهان، أحدهما: يحمل على القصاص ويحكم بسقوطه، وأصحهما: يقال له: اصرف الآن إلى ما شئت منهما، ولو قال: اخترت الدية، سقط القصاص ووجبت الدية، ويكون كقوله: عفوت عن القصاص، هذا

(7/105)


هو الصحيح، وبه قطع الجمهور، وعن القفال أن اختياره أحدهما لا يسقط حقه من الثاني، بل يبقى خياره كما كان، ولو قال: اخترت القصاص، فقياس القفال ظاهر، وأما على الصحيح، فهل له الرجوع إلى الدية لانها أخف، أم لا كعكسه ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، قاله البغوي، هذا كله تفريع على قولنا: الواجب أحدهما، أما إذا قلنا: الواجب القصاص بعينه، فلو عفا عنه على الدية، وجبت، وإن عفا عنه على مال آخر، فإن كان من جنس الدية، فسيأتي إن شاء الله تعالى، وإن عفا، أو صالح على غير جنسها، وقبل الجاني، ثبت المال، وسقط القود، وإن لم يقبل الجاني، لم يثبت المال قطعا، ولم يسقط القصاص على الاصح، فإن قلنا: يسقط القصاص، فهل تثبت الدية ؟ قال البغوي: هو كما لو عفا مطلقا، ولو عفا عن القود على نصف الدية، قال القاضي حسين: هذه معضلة أسهرت الجلة، قال غيره: هو كعفوه عن القود ونصف الدية، فيسقط القود، ونصف الدية، ولو عفا عن القود مطلقا ولم يتعرض للدية، لم تجب دية على المذهب، لان القتل لم يوجبها على هذا القول، والعفو إسقاط ثابت لا إثبات معدوم، فإن قلنا: لا تثبت الدية بنفس العفو، فاختارها بعد العفو، قال ابن كج: تثبت الدية، ويكون اختيارها بعد العفو كالعفو عليها، وحكي عن النص أن هذا الاختيار يكون عقب العفو، وعن بعض الاصحاب أنه يجوز فيه التراخي، ولو عفا عن الدية، فهو لغو على هذا القول، فله بعد ذلك العفو عن القود على الدية، فلو عفا مطلقا، عاد الخلاف في وجوب الدية. فصل لو كان مستحق القصاص محجورا عليه، نظر، إن كان مسلوب العبارة، كالصبي والمجنون، فعفوه لغو، وإلا فإن كان الحجر عليه لحق غيره، كالحجر بالفلس، فله أن يقتص، ولو عفا عن القصاص، سقط، وأما الدية، فإن قلنا: موجب القتل أحد الامرين، فليس له العفو عن المال، وإذا تعين المال بالعفو عن القصاص، دفع إلى غرمائه، ولا يكلفه تعجيل القصاص، أو العفو ليصرف المال إليهم، وإن قلنا: موجب القتل القصاص، فعفا على مال، ثبت المال، وإن عفا مطلقا، ثبتت الدية إن قلنا: المطلق يوجب الدية، وإن قلنا: لا يوجبها، لم

(7/106)


تثبت، وإن قال: عفوت على أن لا مال، فإن لم يوجب مطلق عفوه المال، فالمعتد بالنفي أولى، وإلا فوجهان، أصحهما: لا يوجبه، لئلا يكلف المفلس الاكتساب، وعفو المريض مرض الموت، وعفو الورثة عن القصاص مع نفي المال إذا كان على التركة دين أو وصية، كعفو المفلس، وأما الحجور عليه لسفه، فيصح منه إسقاط القصاص واستيفاؤه، وفيما يرجع إلى الدية حكمه حكم المفلس على الاصح، وبه قطع الجمهور، وقيل: لا يصح عفوه عن المال بحال، كالصبي، وعفو المكاتب عن الدية تبرع، فلا يصح بغير إذن سيده، وبإذنه قولان. فصل لو صالح من القصاص على أكثر من الدية من جنسها، بأن صالح على مائتين من الابل، فإن قلنا: الواجب أحد الامرين، لم يصح، كالصلح من ألف على ألفين، وإن قلنا: الواجب القود بعينه، صح على الاصح، وثبت المال المصالح عليه.
فصل إذا سقط القصاص بعفو بعض المستحقين، فللباقين الدية بالحصة، وأما العافي، فإن عفا على حصته من الدية، ثبتت، وإن نفى المال، لم تثبت، وإن أطلق، فإن قلنا: موجب القتل أحد الامرين: ثبتت، وإلا فعلى الخلاف في أن مطلق العفو، هل يوجب الدية ؟
الطرف الثاني : في العفو الصحيح والفاسد وألفاظه وفيه مسائل: إحداها: إذا قال لغيره: اقطع يدي، والقاتل مالك لامره، فقطع المأذون له يده، فلا قصاص ولا دية، كما لو أذن في إتلاف ماله، فلا ضمان بإتلافه، فلو سرى القطع، أو قال: اقتلني، فقتله، فقد سبق في فصل الاكراه أنه لا قصاص على المذهب، ولا دية على الاظهر، فإن قلنا: لا دية، وجبت الكفارة على الاصح ولا تؤثر فيها الاباحة، وقيل: تسقط تبعا.

(7/107)


الثانية: قطع عضو زيد، كيده أو أصبعه، فعفا عن موجب الجناية قودا أو أرشا، فللجناية أحوال، أحدها: أن تندمل، فلا قصاص ولا أرش، وقال المزني: يجب أرشه، وسواء اقتصر على قوله: عفوت عن موجبها، أو قال: وعما يحدث منها، لانه لم يحدث شئ، ولو قال: عفوت عن هذه الجناية، ولم يزد، نص في الام أنه عفو عن القصاص، وعن الاصحاب أنه تفريع على قولنا: موجب العمد القود فإن قلنا: أحد الامرين، ففي بقاء الدية احتمالان للروياني، الثاني: أن يسري القطع إلى النفس، فلا قصاص في النفس، كما لا قصاص في الطرف، وعن ابن سريج وابن سلمة وجوب قصاص النفس، لانه لم يدخل في العفو، فعلى هذا إن عفا عن القصاص، فله نصف الدية فقط، لسقوط نصفها بالعفو عن اليد، والصحيح الاول، وأما المال، فهو قسمان، أرش اليد والزيادة عليه إلى تمام الدية، فأما أرش اليد، فينظر، إن جرى لفظ الوصية بأن قال: أوصيت له بأرش هذه الجناية، فهي وصية للقاتل، وفيها القولان، فإن أبطلناها، لزمه أرش اليد، وإن صححناها، سقط الارش إن خرج من الثلث، وإلا سقط منه قدر الثلث، وإن جرى لفظ العفو أو الابراء أو الاسقاط، بأن قال: عفوت عن أرش هذه الجناية، أو أبرأته، أو أسقطته، فقيل: هو كالوصية للاتفاق على أنه يعتبر من الثلث، فيكون على القولين، والمذهب أنه يسقط قطعا، لانه إسقاط ناجز، والوصية ما تعلق بالموت، وأما الزيادة فهي واجبة إن اقتصر على العفو عن موجب الجناية ولم يقل: وما يحدث منها، فإن قال: وما يحدث، نظر، إن قاله بلفظ الوصية، كقوله: أوصيت له بأرش هذه الجناية وأرش ما يحدث منها، أو يتولد، أو يسري إليه، بني على القولين في الوصية للقاتل، ويجئ في جميع الدية ما ذكرناه في أرش اليد، وإن قال: عفوت عنه، أو أبرأته من ضمان ما يحدث، أو أسقطته، لم يؤثر فيما يحدث على الاظهر، فيلزمه ضمانه، لانه إسقاط قبل الثبوت، والثاني: يؤثر، فلا يلزمه شئ، هذا كله إذا كان الارش دون الدية، فأما إذا قطع يديه، فعفا عن أرش الجناية وما يحدث منها، فإن لم نصحح الوصية، وجبت الدية بكمالها، وإن صححناها، سقطت بكمالها إن وفى بها الثلث، سواء صححنا الابراء عما لم يجب، أم لم نصححه. الثالث: أن يسري إلى عضو آخر، بأن قطع أصبعه فتأكل باقي الكف بها، ثم اندمل، فلا قصاص، ويمكن أن يجئ فيه خلاف، وأما

(7/108)


الدية، فتسقط دية العضو المقطوع بالعفو، ولا يسقط ضمان السراية على الاصح، فإن قال: عفوت عن هذه الجناية وما يحدث منها، فإن لم نوجب الضمان إذا أطلق، فهنا أولى، وإلا فعلى الخلاف في الابراء عما لم يجب وجرى سبب وجوبه. المسألة الثالثة: جنى عبد جناية توجب المال، وعفا المجني عليه عن أرشها، ثم مات بالسراية، أو اندمل الجرح، وعفا في مرض الموت، فإما أن يطلق العفو، وإما أن يضيفه إلى السيد، أو إلى العبد، فإن أطلقه، انبنت صحته على أن أرش جناية العبد يتعلق برقبته فقط أم بها وبالذمة حتى يطالب بما فضل بعد العتق ؟ وفيه قولان مذكوران في الديات، فإن قلنا: يتعلق بالرقبة فقط، صح العفو، لانه تبرع على غير القاتل وهو السيد، وإن قلنا: يتعلق بالذمة أيضا، ففائدة العفو تعود إلى العبد، فيبنى على الوصية للقاتل، إن صححناها، صح العفو، وإلا فلا، وحكى الامام وجهين إذا قلنا بالتعلق بالذمة في أن المجني عليه هل يملك فك الرقبة عن التعلق، وجعل الحق في الذمة خاصة كما يملك فك المرهون ؟ قال: وعلى الوجهين يبقى تعلق الارش بالرقبة إذا أبطلنا العفو، وأما إذا أضاف العفو إلى السيد، فقال: عفوت عنك، فيصح إن علقنا الارش بالرقبة فقط، وإلا فلا، وإن أضافه إلى العبد، فإن قلنا: يتعلق بالرقبة فقط، لم يصح، وإلا فعلى القولين في الوصية للقاتل، أما إذا كانت الجناية موجبة للقصاص، فالعفو عن العبد صحيح، فإنه عليه بكل حال. المسألة الرابعة: جرح حر رجلا خطأ، فعفا عنه، ثم سرت الجناية إلى النفس، بني على أن الدية في قتل الخطأ تجب على العاقلة ابتداء، أم على القاتل، ثم تتحملها العاقلة، وفيه خلاف مذكور في بابه، فإن قال: عفوت عن العاقلة، أو أسقطت الدية عنهم، أو قال: عفوت عن الدية، فهذا تبرع على غير القاتل، فينفذ إذا وفى الثلث به، ويبرؤون، سواء جعلناهم متأصلين أم متحملين، وإن قال للجاني: عفوت عنك، لم يصح، وقيل: إن قلنا: يلاقيه الوجوب ثم

(7/109)


يحمل عنه، صح، والمذهب الاول، لانه بمجرد الوجوب ينتقل عنه، فيصادفه العفو، ولا شئ عليه، هذا إذا ثبتت الجناية بالبينة، أو باعتراف العاقلة، فأما إذا أقر القاتل، وأنكرت العاقلة، فالدية على القاتل، ويكون العفو تبرعا على القاتل، ففيه الخلاف، ولو عفا الوارث بعد موت المجني عليه عن العاقلة، أو مطلقا، صح، ولو عفا عن الجاني، لم يصح، لانه لا شئ عليه، فإن ثبت بإقراره، صح. فرع لو كان الجاني ذميا وعاقلته مسلمين أو حربيين، فالدية في ماله، فإن عفا عنها، فهي وصية للقاتل، وفيها القولان. الخامسة: جنى عليه جناية توجب القصاص لو اندملت، كقطع يد، فعفا على الدية، ثم سرت إلى النفس، لم يجب القصاص في النفس، وفيه الوجه المنسوب إلى ابن سريج وابن سلمة، ولو جنى بما لا قصاص فيه، كالجائفة وكسر الذراع، فأخذ المجني عليه الارش، ثم سرت إلى النفس، وجب القصاص، وفيه احتمال للامام، ولو كان المجني عليه قد قال والحالة هذه: عفوت عن القصاص، فهو لغو، لان هذه الجناية لا قصاص فيها، ولو عفا المجني عليه عن قطع اليد ونحوها على الدية، ثم عاد الجاني فحز رقبته، نظر، إن حز بعد الاندمال، فعليه القصاص في النفس ودية اليد، وإن حز قبل الاندمال، فوجهان، أحدهما: لا قصاص، لانه عفا عن بعض النفس، لكن له الباقي من الدية، وأصحهما: يجب القصاص، فعلى هذا لو عفا عن القصاص، فهل له دية كاملة، أم الباقي من الدية ؟ وجهان، أصحهما: الثاني. السادسة: عفا الوارث بعد موت المجني عليه، صح، ولو وجب على الجاني قصاص طرف إنسان ونفسه، نظر، إن كان مستحق هذا غير مستحق ذاك، فلا شك أن عفو أحدهما لا يسقط حق الآخر، ومن صوره أن يقطع عبد يد عبد، فيعتق

(7/110)


المجني عليه، ثم يسري إلى نفسه، فالقصاص في اليد للسيد، وفي النفس لورثة العتيق، وإن استحقهما واحد، فعفا عن النفس، وأراد القصاص في الطرف، فله ذلك على المذهب، وانفرد الغزالي بحكاية وجه فيه، وإن عفا عن الطرف، لم يسقط قصاص النفس على الاصح، ولو استحق قصاص النفس بقطع الطرف، بأن كان الجاني قد قطع المجني عليه، ومات بالسراية، ثم عفا الولي عن قصاص النفس، فليس له قطع الطرف، لان المستحق هو القتل، والقطع طريقه، وقد عفا عن المستحق، وإن عفا عن القطع، فله حز رقبته على الاصح، ولو قطع يد رجل ثم حز رقبته قبل الاندمال، فعفو الولي عن القطع لا يسقط حز الرقبة، وكذا عفوه عن النفس لا يسقط القطع. السابعة: إذا قتل رجلا بالقطع الساري، فقطعه الولي، ثم عفا عن النفس مجانا، فإن سرى القطع، بان بطلان العفو، وإن وقف، صح العفو، ولم يلزمه لقطع اليد شئ، وكذا لو كان قتله بغير القطع، وقطع الولي يده متعديا، ثم عفا عنه، لا ضمان عليه، ولو رمى الولي إلى الجاني ثم عفا عنه قبل الاصابة، ففي نفوذه وجهان، أحدهما: لا ينفذ لخروج الامر عن اختياره، وأصحهما: أنه كقطع اليد، فإن لم يصب السهم، فالعفو صحيح مفيد، وإن أصابه وقتله، تبينا بطلان العفو، وفي وجوب الدية على العافي وجهان سبقا في باب تغير الحال بين الجرح والموت، أصحهما: الوجوب، لانه محقون الدم عند الاصابة. الثامنة: قطع ذمي يد مسلم، فاقتص منه، أو يد ذمي، فاقتص منه، ثم أسلم المقطوع، ثم مات بالسراية، فللولي القصاص في النفس، فإن عفا على مال، فهل له نصف الدية، أم خمسة أسداس دية مسلم ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، لانه يستحق دية مسلم سقط منها ما استوفاه وهو يد ذمي بسدس دية مسلم، ولو قطع ذمي يد مسلم، فاقتص منه، ومات المسلم بالسراية، فعفا الولي، فعلى الوجه الاول لا شئ له، وعلى الاصح له ثلثا دية المسلم، لانه استوفى ما يقابل ثلث دية المسلم، ولو قطعت امرأة يد رجل، فاقتص منها، ثم مات الرجل بالسراية،

(7/111)


وعفا الولي فعلى الوجه الاول، له نصف الدية، وعلى الاصح، ثلاثة أرباعها، ولو قطعت المرأة يدي رجل، فاقتص منها، ثم مات المجني عليه بالسراية، وعفا الولي، فلا شئ له على الوجه الاول، وعلى الاصح، له نصف الدية، ولو قطع يد حر، فاقتص منه، ثم عتق العبد، ومات المجني عليه بالسراية، ففي وجه يسقط نصف الدية، وعلى السيد أقل الامرين من نصف دية الحر وكمال قيمة العبد، لانه صار مختارا للفداء، وفي وجه يسقط من دية الحر بقدر نصف قيمة العبد، وعلى السيد الاقل من باقي الدية، وكمال قيمة العبد. التاسعة: سبق في كتاب الوكالة أن التوكيل في استيفاء القصاص جائز في حضرة الموكل، وكذا في غيبته على المذهب، وحد القذف كالقصاص، وسواء جوزناه أم لا، فإذا استوفاه الوكيل، صار حق الموكل مستوفى، كما لو وكله في بيع سلعة توكيلا فاسدا، فباع الوكيل، صح البيع. إذا عرفت هذا، فإذا وكل وغاب، أو تنحى الوكيل بالجاني ليقتص منه، فعفا الموكل، نظر، إن لم يعلم أكان العفو قبل القتل أم بعده، فلا شئ على الوكيل، وإن عفا بعد قتله، فهو لغو، وإن عفا، ثم قتل الوكيل، فإن كان عالما بالعفو، فعلى الوكيل القصاص، وإن كان جاهلا به، فلا قصاص على المذهب والمنصوص وبه قطع الاصحاب، وحكى الشيخ أبو محمد في السلسلة قولا مخرجا: أنه يجب القصاص، وليس بشئ، فإن ادعى على الوكيل العلم بالعفو، فأنكر، صدق بيمينه، فإن نكل، حلف الوارث واستحق القصاص، وفي وجوب الدية إذا قتله جاهلا قولان: أظهرهما: تجب، لانه بان أنه قتله بغير حق، ولو عزله، فقتله الوكيل جاهلا العزل، ففي وجوب الدية القولان، فإن لم نوجب الدية، وجبت الكفارة على الاصح، وإذا أوجبنا الدية، فهي مغلظة على المشهور، وفي قول مخففة، فإن قلنا: مخففة، فهي على العاقلة، وإن قلنا: مغلظة، فهي على الوكيل على الاصح، لانه متعمد، وإنما سقط القصاص للشبهة، وقيل: على العاقلة، لانه جاهل بالحال، فأشبه المخطئ، فإن قلنا: على الوكيل، فهل هي حالة أم مؤجلة ؟ وجهان، حكاهما الامام. قلت: أصحهما: حالة. والله أعلم. ثم الدية هنا تكون لورثة الجاني لا تعلق للموكل بها بخلاف ما إذا ثبت

(7/112)


القصاص لابنين، وبادر أحدهما، وقتل الجاني، يجب عليه نصف الدية للآخر على أحد القولين والفرق أن القاتل هناك أتلف حق أخيه، فتعلق الاخ ببدله، والوكيل هنا قتل بعد سقوط حق الموكل، ونقل ابن كج عن بعضهم جعله على الخلاف، ثم إذا غرم الوكيل، أو عاقلته الدية، فهل يرجع الغارم على العافي ؟ فيه أوجه، أصحها: لا، لان العافي محسن بالعفو غير مغرر بخلاف الغاصب إذا قدم الطعام المغصوب إلى الضيف، والثاني: نعم، والثالث: يرجع بها على الاصح، كما لا تضرب على العاقلة، وهل للموكل العافي دية قتيله ؟ ينظر، إن عفا مجانا أو مطلقا، وقلنا: المطلق لا يوجب الدية، فلا شئ له، وإن عفا على مال، أو مطلقا، وقلنا: يوجب المال، فله الدية في تركة الجاني مغلظة إن أوجبنا بقتل الوكيل، الدية، وإن لم نوجبها به، فلا دية للموكل لخروج العفو على هذا التقدير عن الفائدة. وبالله التوفيق.
باب في مسائل منثورة :
إذا جنى عبد على حر جناية، تعلق الارش برقبته، فاشتراه بالارش، فإن جهل أحد المتبايعين عدد الابل الواجبة أو سنها، لم يصح البيع، وإن علما ذلك، ولم يبق إلا الجهل بأوصافها، ففي صحة البيع الوجهان، أو القولان في صحة الصلح من إبل الدية على مال، وقد سبق في كتاب الصلح، وإن كانت الجناية موجبة للقصاص، فاشتراه بالارش، فهو اختيار للمال، وإسقاط للقصاص، وحيث صححنا البيع، فوجد المشتري بالعبد عيبا، فله الرد، فإذا رد، بقي الارش متعلقا بالرقبة، ولا يكون السيد ملتزما للفداء، بل له الخيار بين الفداء، وتسليمه للبيع، ولو اشتراه المجني عليه بمال غير الارش، صح ولم يسقط القصاص، فلو صالح عن القود على مال، جاز وإن كانت الدية مجهولة، فإن تلفت عين المال المصالح عليه، أو استحقت، أو ردها بعيب، فلا رجوع إلى القصاص، فهل يرجع بقيمة

(7/113)


العين، أم بضمان الجناية ؟ قولان بناء على أن بدل الصلح عن الدم مضمون ضمان العقد أم ضمان اليد، وقد ذكرناه في كتاب البيع، فإن قلنا: يرجع بضمان الجناية، فهو على السيد لاختياره الفداء ببذل المال، وهل عليه أرش الجناية بالغا ما بلغ، أم الاقل من الارش وقيمة العبد ؟ قولان يذكران في موضعهما إن شاء الله تعالى، ولو كانت الجناية موجبة للمال، وصالح من الابل على مال، ففي صحته الخلاف، فإن صححناه، فهلك المصالح عليه قبل القبض، أو خرج مستحقا، أو رده بعيب، فالرجوع إلى الارش بلا خلاف، لان الصلح هنا عن المال، ويكون السيد مختارا للفداء، وهل يلزمه الارش أم الاقل ؟ فيه القولان. فرع جنى حر على حر جناية توجب القصاص، فصالحه على عين، كعبد وثوب، جاز وإن لم تكن الدية معلومة لهما، فإن تلفت العين قبل القبض، أو خرجت مستحقة، أو ردها بعيب، فلا رجوع إلى القصاص، فهل يرجع بقيمة العين أم بأرش الجناية ؟ يبنى على أن بدل الصلح عن الدم مضمون ضمان العقد أم ضمان اليد ؟ وإن كانت الجناية موجبة للدية، فصالح عنها على عين، أو اشترى بها عينا، إما من العاقلة في الخطأ، وإما من الجاني في العمد، نظر، أعلما عدد الابل وأسنانها أم لا، وحكمه ما بينا، وإذا صح، فتلف المصالح عليه، أو رده بعيب، رجع إلى الارش بلا خلاف، لانه يمكن الرجوع إلى المصالح عنه، لانه مال بخلاف القصاص. فرع جنت حرة على رجل، فتزوجها على القصاص، أو تزوجها وارثه على القصاص، جاز، وسقط القصاص، وإن طلقها قبل الدخول، فهل يرجع بنصف أرش الجناية، أم بنصف مهر المثل ؟ قولان، أظهرهما: الاول، وإن كانت الجناية موجبة للدية، فنكحها عليها، صح النكاح، وفي صحة الصداق ما سبق في الاعتياض عن إبل الدية. فرع إذا أوجبت الجناية مالا معلوم القدر والوصف، بأن أتلف مالا أو قتل عبدا، ووجبت قيمته، فصالحه المستحق على عين وهما يعلمان، صح الصلح بلا خلاف، فإن تلفت قبل القبض، أو ردت بعيب، فالرجوع بالارش بلا خلاف، وإن كان الجاني والحالة هذه عبدا، كان السيد مختارا للفداء، فإن صالح على رقبته،

(7/114)


ثم رده بعيب، لم يكن مختارا، بل الارش في رقبته كما كان حتى لو مات سقط حق المجني عليه. فصل قطع يدي رجل ورجليه، فمات، فقطع الولي يدي الجاني وعفا عن الباقي على الدية، لم تكن له الدية، لانه استوفى ما يقابلها، ولو عفا على غير جنسها، فوجهان، أحدهما: لا يجب كالدية، والثاني: يجب ويكون عوضا عن القصاص الذي تركه، ولو قطع إحدى يديه، وعفا عن الباقي على الدية، فله نصف الدية فقط. فصل قتل مسلم ذميا، فقتل ولي الذمي القاتل بغير حكم حاكم، فعليه القصاص، نقله الروياني عن والده. فصل أكره رجلا على أن يرمي صيدا، فرماه، فأصاب آدميا فقتله، فهما قاتلان خطأ، فعلى كل منهما كفارة، وعلى عاقلة كل واحد نصف الدية، وهل لعاقلة المكره الرجوع بما يغرمون على المكره ؟ نقل الروياني عن والده أنه يحتمل أن لا يرجعوا وإن كان متعديا، كما لا يرجعون في شبه العمد على القاتل، قال: ويحتمل أن لا يجب شئ على المكره وعاقلته، لانه لم يتلف ما أكرهه عليه. فصل قطع يديه عمدا، فمات بالسراية، فقطع الوارث إحدى يدي الجاني، فمات قبل قطعه الاخرى، فلا شئ للوارث في تركة الجاني، لانه إذا سرت الجراحة إلى النفس سقط حكم الاطراف وصارت النفس بالنفس، وقد قتله فصار كحز الرقبة، ولو قطع يدي رجل، فاندملتا، فقطع إحدى يدي الجاني، فمات، فله دية اليد الاخرى من تركته، لانه استحق قصاصها وقد فات بما لا ضمان عليه فأشبه سقوطها بآفة، ولو قطع إحدى يدي الجاني، وعفا عن الاخرى على ديتها وقبضها، ثم انتقضت جراحة المجني عليه، ومات بها، فلا قصاص لورثته، لانه مات من جراحتين إحداهما معفو عنها، ولا شئ لهم من الدية، لانه استوفى نصف الدية، واليد المقابلة بالنصف. فصل في فتاوى البغوي: أنه لو قتل أحد عبدي الرجل الآخر، فللسيد القصاص، ولا يثبت له مال على عبده، فلو أعتقه، لم يسقط القصاص، ولو عفا بعد العتق مطلقا، لم يثبت المال، لان القتل لم يقتضه، وإن عفا بعد العتق على

(7/115)


مال، ثبت المال، وأنه لو قطع يدي رجل، إحداهما عمدا، والاخرى خطأ، فمات منهما، فلا قصاص في النفس وتجب الدية، نصفها في مال الجاني ونصفها على عاقلته، فإن استوفى الولي قصاص اليد المقطوعة عمدا، فمات الجاني منه، كان مستوفيا لحقه ولا يبقى له شئ على العاقلة، كما لو قتل من له عليه القصاص خطأ، فإنه يكون مستوفيا حقه، وأنه إذا وجب القصاص على مرتد، فقتله الولي عن جهة الردة، نظر، إن كان ولي القصاص هو الامام، فله الدية في تركة المرتد، لان للامام قتله عن الجهتين، وإن كان غير الامام، وقع قتله عن القصاص ولا دية له، لان غير الامام لا يملك قتله عن الردة، قال: وكذا لو اشترى عبدا مرتدا، وقتله المشتري قبل القبض عن جهة الردة، ينفسخ العقد إن كان المشتري هو الامام، وإن كان غيره صار قابضا، كما لو قتله ظلما محضا، وأنه لو ضرب زوجته بالسوط عشر ضربات فصاعدا متوالية، فماتت، فإن قصد في الابتداء العدد المهلك، وجب القصاص، وإن قصد تأديبها بسوطين أو ثلاثة، ثم بدا له فجاوز، لم يجب القصاص، لانه اختلط العمد بشبه العمد، وأن الوكيل باستيفاء القصاص إذا قال: قتلته بشهوة نفسي لا عن جهة الموكل، لزمه القصاص وينتقل حق الموكل إلى التركة، وأنه لو ضرب سنه، فزلزلها، ثم سقطت بعد ذلك، وجب القصاص وكذا لو ضرب يده، فاضطربت أو تورمت، ثم سقطت بعد أيام، وأنه لو أشكلت الحادثة على القاضي، فتوقف، فروى شخص خبرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، وقتل القاضي بها رجلا، ثم رجع الراوي وقال: كذبت وتعمدت، ينبغي أن يجب القصاص كالشاهد إذا رجع والذي ذكره القفال في الفتاوى، والامام أنه لا قصاص بخلاف الشهادة فإنها تتعلق بالحادثة، والخبر لا يختص بها. فصل في فتاوى الغزالي: لو افتصد فمنعه رجل من أن يعصب العرق حتى

(7/116)


مات، أو عصبه فحله رجل ومنعه من إعادة العصابة حتى مات، وجب القصاص. فصل في التتمة أنه لو قتله بالدخان، بأن حبسه في بيت وسد منافذ البيت، فاجتمع فيه الدخان وضاق نفسه، فمات، وجب القصاص، وأنه لو رمى إلى شخصين أو جماعة وقصد إصابة أي واحد منهم كان، فأصاب واحدا، ففي القصاص وجهان، لانه لم يقصد عينه. قلت: الارجح وجوبه. والله أعلم. وأن حلمة الرجل تقطع بحلمة الرجل، وحلمة المرأة تقطع بحلمة المرأة، والثدي بالثدي، وفيما إذا لم يتدل وجه ضعيف، لانه لا يتميز عن لحم الصدر، وفي قطع حلمة المرأة بحلمة الرجل وجهان بناء على وجوب الدية في حلمة الرجل، وتقطع حلمة الرجل بحلمة المرأة بلا خلاف وبالله التوفيق.

(7/117)