روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب الردة
هي من أفحش أنواع الكفر، وأغلظها حكما، وفيه بابان :
الأول : في حقيقة الردة، ومن تصح منه، وفيه طرفان.
الأول : في حقيقتها، وهي قطع الاسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو كفر، وتارة بالفعل، والافعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات،

(7/283)


والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها، قال الامام: في بعض التعاليق عن شيخي أن الفعل بمجرده لا يكون كفرا، قال: وهذا زلل عظيم من المعلق ذكرته للتنبيه على غلطه، وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عناء أو استهزاء، هذا قول جملي، وأما التفصيل فقال المتولي: من اعتقد قدم العالم، أو حدوث الصانع، أو نفى ما هو ثابت للقديم بالاجماع، ككونه عالما قادرا، أو أثبت ما هو منفي عنه بالاجماع، كالالوان، أو أثبت له الاتصال والانفصال، كان كافرا، وكذا من جحد جواز بعثة الرسل، أو أنكر نبوة نبي من الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم، أو كذبه، أو جحد آية من القرآن مجمعا عليها، أو زاد في القرآن كلمة واعتقد أنها منه، أو سب نبيا، أو استخف به، أو استحل محرما بالاجماع كالخمر واللواط، أو حرم حلالا بالاجماع، أو نفى وجوب مجمع على وجوبه، كركعة من الصلوات الخمس، أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالاجماع، كصلاة سادسة وصوم شوال، أو نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة، أو ادعى النبوة بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - أو صدق مدعيا لها، أو عظم صنما بالسجود له، أو التقرب إليه بالذبح باسمه، فكل هذا كفر. قلت: قوله: إن جاحد المجمع عليه يكفر، ليس على إطلاقه، بل الصواب فيه تفصيل سبق بيانه في باب تارك الصلاة عقب كتاب الجنائز، ومختصره أنه إن جحد مجمعا عليه يعلم من دين الاسلام ضرورة، كفر إن كان فيه نص، وكذا إن لم يكن فيه نص في الاصح، وإن لم يعلم من دين الاسلام ضرورة بحيث لا يعرفه كل المسلمين، لم يكفر. والله أعلم. قال المتولي: ولو قال المسلم: يا كافر بلا تأويل، كفر، لانه سمى الاسلام

(7/284)


كفرا، والعزم على الكفر في المستقبل كفر في الحال، وكذا التردد في أنه يكفر أم لا، فهو كفر في الحال، وكذا التعليق بأمر مستقبل، كقوله: إن هلك مالي أو ولدي تهودت، أو تنصرت، قال: والرضى بالكفر كفر، حتى لو سأله كافر يريد الاسلام أن يلقنه كلمة التوحيد، فلم يفعل، أو أشار عليه بأن لا يسلم، أو على مسلم بأن يرتد، فهو كافر بخلاف ما لو قال لمسلم: سلبه الله الايمان، أو لكافر: لا رزقه الله الايمان، فليس بكفر، لانه ليس رضى بالكفر، لكنه دعا عليه بتشديد الامر والعقوبة عليه. قلت: وذكر القاضي حسين في الفتاوى وجها عيفا، أن من قال لمسلم: سلبه الله الايمان، كفر. والله أعلم. ولو أكره مسلما على الكفر، صار المكره كافرا، والاكراه على الاسلام، والرضى به، والعزم عليه في المستقبل ليس بإسلام، ومن دخل دار الحرب، وشرب معهم الخمر، وأكل لحم الخنزير، لا يحكم بكفره، وارتكاب كبائر المحرمات ليس بكفر، ولا ينسلب به اسم الايمان، والفاسق إذا مات ولم يتب لا يخلد في النار. فرع في كتب أصحاب أبي حنيفة رحمه الله اعتناء تام بتفصيل الاقوال والافعال المقتضية للكفر، وأكثرهما مما يقتضي إطلاق أصحابنا الموافقة عليه، فنذكر ما يحضرنا مما في كتبهم. منها: إذا سخر باسم من أسماء الله تعالى، أو بأمره، أو بوعده أو وعيده،

(7/285)


كفر، وكذا لو قال: لو أمرني الله تعالى بكذا لم أفعل، أو لو صارت القبلة في هذه الجهة ما صليت إليها، أو لو أعطاني الجنة ما دخلتها. قلت: مقتضى مذهبنا والجاري على القواعد أنه لا يكفر في قوله لو أعطاني الجنة ما دخلتها، وهو الصواب. والله أعلم. ولو قال لغيره: لا تترك الصلاة، فإن الله تعالى يؤاخذك، فقال: لو واخذني الله بها مع ما بي من المرض والشدة، ظلمني، أو قال المظلوم: هذا بتقدير الله تعالى، فقال الظالم: أنا أفعل بغير تقدير الله تعالى، كفر، ولو قال: لو شهد عندي الانبياء والملائكة بكذا ما صدقتهم، كفر، ولو قيل له: قلم أظفارك، فإنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا أفعل وإن كان سنة، كفر. قلت: المختار أنه لا يكفر بهذا إلا أن يقصد استهزاء. والله أعلم. واختلفوا فيما لو قال: فلان في عيني كاليهودي، والنصراني في عين الله تعالى، أو بين يدي الله تعالى، فمنهم من قال: هو كفر، ومنهم من قال: إن أراد الجارحة، كفر، وإلا فلا، قالوا: ولو قال: إن الله تعالى جلس للانصاف، كفر، أو قام للانصاف، فهو كفر، واختلفوا فيما إذا قال الطالب ليمين خصمه، وقد أراد الخصم أن يحلف بالله تعالى: لا أريد الحلف بالله تعالى، إنما أريد الحلف بالطلاق والعتاق، والصحيح أنه لا يكفر، واختلفوا فيمن نادى رجلا اسمه عبد الله، وأدخل في آخره حرف الكاف الذي يدخل للتصغير بالعجمية، فقيل: يكفر، وقيل: إن تعمد التصغير كفر، وإن كان جاهلا لا يدري ما يقول، أو لم يكن له قصد، لا يكفر، واختلفوا فيمن قال: رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت، وأكثرهم على أنه لا يكفر، قالوا: ولو قرأ القرءان على ضرب الدف أو القضيب، أو قيل له: تعلم الغيب، فقال: نعم، فهو كفر، واختلفوا فيمن خرج لسفر، فصاح العقعق، فرجع هل يكفر ؟ قلت: الصواب أنه لا يكفر في المسائل الثلاث. والله أعلم. ولو قال: لو كان فلان نبيا، آمنت به، كفر، وكذا لو قال: إن كان ما قاله الانبياء صدقا نجونا، أو قال: لا أدري أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - انسيا أم جنيا، أو قال: إنه جن، أو صغر عضوا من أعضائه على طريق الاهانة، واختلفوا فيما لو قال: كان

(7/286)


طويل الظفر، واختلفوا فيمن صلى بغير وضوء متعمدا، أو مع ثوب نجس، أو إلى غير القبلة. قلت: مذهبنا ومذهب الجمهور، لا يكفر إن لم يستحله. والله أعلم. ولو تنازع رجلان، فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر: لا حول لا تغني من جوع، كفر، ولو سمع أذان المؤذن فقال: إنه يكذب، أو قال وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنى: باسم الله تعالى، واستخفافا باسم الله تعالى، كفر، ولو قال: لا أخاف القيامة، كفر، واختلفوا فيما لو وضع متاعه في موضع وقال: سلمته إلى الله تعالى، فقال له رجل: سلمته إلى من لا يتبع السارق إذا سرق، ولو حضر جماعة، وجلس أحدهم على فكان رفيع تشبها بالمذكرين، فسألوه المسائل وهم يضحكون، ثم يضربونه بالمخراق، أو تشبه بالمعلمين، فأخذ خشبة، وجلس القوم حوله كالصبيان، وضحكوا واستهزؤوا، وقال: قصعة ثريد خير من العلم، كفر. قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألتي التشبه. والله أعلم. ولو دام مرضه واشتد فقال: إن شئت توفني مسلما، وإن شئت توفني كافرا، صار كافرا، وكذا لو ابتلي بمصائب، فقال: أخذت مالي، وأخذت ولدي، وكذا وكذا، وماذا تفعل أيضا، أو ماذا بقي ولم تفعله، كفر، ولو غضب على ولده أو غلامه، فضربه ضربا شديدا، فقال رجل: لست بمسلم، فقال: لا، متعمدا كفر، ولو قيل له: يا يهودي، يا مجوسي، فقال: لبيك، كفر، قلت: في هذا نظر إذا لم ينو شيئا. والله أعلم. ولو أسلم كافر، فأعطاه الناس أموالا، فقال مسلم: ليتني كنت كافرا فأسلم، فأعطى، قال بعض المشائخ: يكفر. قلت: في هذا نظر، لان جازم بالاسلام في الحال والاستقبال، وثبت في الاحاديث الصحيحة في قصة أسامة رضي الله عنه حين قتل من نطق بالشهادة،

(7/287)


فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ قال: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل يومئذ، ويمكن الفرق بينهما. والله أعلم. ولو تمنى أن لا يحرم الله تعالى الخمر، أو لا يحرم المناكحة بين الاخ والاخت، لا يكفر، ولو تمنى أن لا يحرم الله تعالى الظلم أو الزنى، وقتل النفس بغير حق، كفر، والضابط أن ما كان حلالا في زمان فتمنى حله لا يكفر، ولو شد الزنار على وسطه، كفر، واختلفوا فيمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه، والصحيح أنه يكفر، ولو شد على وسطه حبلا، فسئل عنه، فقال: هذا زنار، فالاكثرون على أنه يكفر، ولو شد على وسطه زنارا، ودخل دار الحرب للتجارة، كفر، وإن دخل لتخليص الاسارى، لم يكفر، قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألة التمني وما بعدها إذا لم تكن نيه. والله أعلم. ولو قال معلم الصبيان: اليهود خير من المسلمين بكثير، لانهم يقضون حقوق معلمي صبيانهم، كفروا، قالوا: ولو قال: النصرانية خير من المجوسية، كفر، ولو قال: المجوسية شر من النصرانية، لا يكفر. قلت: الصواب أنه لا يكفر بقوله: النصرانية خير من المجوسية إلا أن يريد أنها دين حق اليوم. والله أعلم. قالوا: ولو عطس السلطان، فقال له رجل: يرحمك الله، فقال آخر: لا تقل للسلطان هذا، كفر الآخر. قلت: الصواب أنه لا يكفر بمجرد هذا. والله أعلم.

(7/288)


قالوا: ولو سقى فاسق ولده خمرا، فنثر أقرباؤه الدراهم والسكر، كفروا. قلت: الصواب أنهم. لا يكفرون. والله أعلم. قالوا: ولو قال كافر لمسلم: اعرض علي الاسلام، فقال: حتى أرى، أو اصبر إلى الغد، أو طلب عرض الاسلام من واعظ، فقال: اجلس إلى آخر المجلس، كفر، وقد حكينا نظيره عن المتولي، قالوا: ولو قال لعدوه: لو كان بينا لم أؤمن به، أو قال: لم يكن أبو بكر الصديق رضي الله عنه من الصحابة، كفر، قالوا: ولو قيل لرجل: ما الايمان، فقال: لا أدري، كفر، أو قال لزوجته: أنت أحب إلى من الله تعالى، كفر، وهذه الصور تتبعوا فيها الالفاظ الواقعة في كلام الناس وأجابوا فيها اتفاقا أو اختلافا بما ذكر، ومذهبنا يقتضي موافقتهم في بعضها، وفي بعضها يشترط وقوع اللفظ في معرض الاستهزاء. قلت: قد ذكر القاضي الامام الحافظ أو الفضل عياض رحمه الله في آخر كتابه الشفاء بتعريف حقوق نبينا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه جملة في الالفاظ المكفرة غير ما سبق، نقلها عن الائمة، أكثرهم مجمع عليه، وصرح بنقل الاجماع فيه. والله أعلم. فمنها: أن مريضا شفي ثم قال: لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم استوجبه، فقال بعض العلماء: يكفر ويقتل، لانه يتضمن النسبة إلى الجور، وقال آخرون: لا يتحتم قتله ويستتاب ويعزر، وأنه لو قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أسود، أو توفي قبل أن يلتحي، أو قال: ليس هو بقرشي، فهو كفر، لان وصفه بغير صفته نفي له وتكذيب به، وأن من ادعى أن النبوة مكتسبة، أو أنه يبلغ بصفاء القلب إلى مرتبتها، أو ادعى أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة، أو ادعى أنه يدخل الجنة ويأكل من ثمارها، ويعانق الحور، فهو كافر بالاجماع قطعا، وأن من

(7/289)


دافع نص الكتاب أو السنة المقطوع بها المحمول على ظاهره، فهو كافر بالاجماع، وأن من لم يكفر من دان بغير الاسلام كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح مذهبهم، فهو كافر وإن أظهر مع ذلك الاسلام واعتقده، وكذا يقطع بتكفير كل قائل قولا يتوصل به إلى تضليل الامة، أو تكفير الصحابة، وكذا من فعل فعلا أجمع المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحا بالاسلام مع فعله، كالسجود للصليب، أو النار والمشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير وغيرها، وكذا من أنكر مكة، أو البيت، أو المسجد الحرام، أو صفة الحج، وأنه ليس على هذه الهيئة المعروفة، أو قال: لا أدري أن هذه المسماة بمكة هي مكة أم غيرها، فكل هذا أو شبهه لا شك في تكفير قائله إن كان ممن يظن به علم ذلك، ومن طالت صحبته المسلمين، فإن كان قريب عهد بإسلام، أو بمخالطة المسلمين، عرفناه ذلك، ولا يعذر بعد العريف، وكذا من غير شيئا من القرآن، أو قال: ليس بمعجز، أو قال: ليس في خلق السماوات والارض دلالة على الله تعالى، أو أنكر الجنة أو النار، أو البعث أو الحساب، أو اعترف بذلك، ولكن قال: المراد بالجنة والنار والبعث والنشور، والثواب والعقاب غير معانيها، أو قال: الائمة أفضل من الانبياء.
الطرف الثاني : فيمن تصح ردته وشرطها التكليف
فلا تصح ردة صبي ولا مجنون، ومن ارتد ثم جن لا يقتل في جنونه، وكذا من أقر بالزنى ثم جن، لا يقام عليه الحد، لانه قد يرجع عن الاقرار بخلاف ما لو أقر بقصاص، أو حد قذف ثم جن، فإنه يستوفى في جنونه، لانه لا يسقط برجوعه، وبخلاف ما لو قامت بينة بزناه، ثم جن، قال البغوي: هذا كله على سبيل الاحتياط، فلو قتل في حال الجنون، أو أقيم عليه الحد، فمات لم يجب شئ، وتصح ردة السكران على المذهب كما سبق في طلاقه، فإن

(7/290)


صححناها، فارتد في سكره، أو أقر بالردة، وجب القتل، لكن لا يقتل حتى يفيق فيعرض عليه السلام، وفي صحة استتابته في السكر وجهان حكاهما البغوي، أحدهما: نعم، لكن يستحب أن تؤخر إلى الافاقة، والثاني: المنع، وبه قطع ابن الصباغ، لان الشبهة لا تزول في ذلك الحال، ولو عاد إلى الاسلام في السكر، صح إسلامه، وارتفع حكم الردة، وسبق ذكر طريق أنه يصح تصرف السكران فيما عليه دون ماله، فعلى هذا لا يصح إسلامه وإن صحت ردته، وقيل: لا يصح قطعا، والمذهب الاول، فإن صححنا إسلامه، فقتله رجل، لزمه القصاص والضمان على المشهور، وحكي قول في إهداره، وإن قلنا: لا تصح ردة السكران، فقتل تعلق بقتله القصاص والضمان، وعن ابن القطان: تجب الدية دون القصاص للشبهة، والصحيح الاول، ولو ارتد صاحيا، ثم سكر فأسلم، حكى ابن كج القطع بأنه لا يكون إسلاما، والقياس جعله على الخلاف.
فصل المؤمن إذا أكره على أن يتكلم بكلمة الكفر فتكلم بها، لا يحكم بردته، فلا تبين زوجته، ولو مات ورثه ورثته المسلمون، وسبق في أول الجنايات أنه يباح له التكلم بكلمة الكفر بالاكراه، وأن الاصح أنه لا يجب، وأن الافضل أن يقبت ولا يتكلم بها، وهل تقبل الشهادة على الردة مطلقا، أم لا تقبل حتى يفصل لاختلاف الناس فيما يوجبها ؟ فيه قولان، أظهرهما: الاول، وعلى هذا لو شهد

(7/291)


عدلان بردته فقال: كذبا، أو ما ارتددت، قبلت شهادتهما، ولا يغنيه التكذيب، بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلما، ولا ينفعه ذلك في بينونة زوجته، وكذا الحكم لو شرطنا التفصيل، ففصلا، وكذبهما، فلو قال: كنت مكرها فيما فعلته، نظر إن كانت قرائن الاحوال شهد له، بأن كان في أسر الكفار، أو كان محفوفا بجماعة منهم وهو مستشعر، صدق بيمينه، قال صاحب البيان وغيره: وكذا الحكم لو قامت بينة بإقراره بالبيع وغيره وكان مقيدا أو محبوسا، فقال: كنت مكرها، وإن لم تشهد القرائن بصدقه، بأن كان في دار الاسلام، لم يقبل قوله، وأجريت عليه أحكام المرتدين، وكذا لو كان في دار الحراب وهو مخلى آمن، ولو لم

(7/292)


يقل الشاهدان: ارتد، بل قالا: تلفظ بكلمة الكفر، فقال: صدقا، ولكنني كنت مكرها، قال الشيخ أبو محمد وتابعوه عليه: يقبل قوله، لانه ليس فيه تكذيب الشاهد بخلاف ما أذا شهد بالردة، فإن الاكراه ينافي الردة ولا ينافي التلفظ بكلمتها، قال الشيخ: والجزم أن يجدد كلمة الاسلام، فلو قتل قبل التجديد، فهل يكون قتله مضمونا، لان الردة لم لم تثبت أم لا، لان لفظ الردة وجد والاصل الاختيار ؟ فيه قولان قال الامام: والقولان إذا لم يدع الاكراه، أو لم يحلف عليه، فأما إذا ادعاه وحلف عليه، فقد ثبت الاكراه بالحجة، فنقطع بأنه مضمون، وفيما ذكرناه دلالة بينة على أنهما لو شهدا بردة الاسير، ولم يدع إكراها، حكم بردته، ويؤيده ما حكي عن القفال، أنه لو ارتد أسير مع الكفار، ثم أحاط بهم المسلمون، فاطلع من الحصن وقال: أنا مسلم وإنما تشبهت بهم خوفا، قبل قوله وحكم بإسلامه، وإن لم يدع ذلك حتى مات، فالظاهر أنه ارتد طائعا، وإن مات أسيرا، وعن نص الشافعي رحمه الله أنهما لو شهدا بتلفظ رجل بالكفر وهو محبوس أو مقيد، لم يحكم بكفره، وإن لم يتعرض الشاهدان للاكراه، وفي التهذيب أن من دخل دار الحرب وكان يسجد للصنم، ويتكلم بالكفر، ثم قال: كنت مكرها، فإن فعله في مكان خال، لم يقبل قوله كما لو فعله في دار الاسلام، وإن فعله بين أيديهم، قبل قوله إن كان أسيرا، وإن كان تاجرا، فلا. فرع مات معروف بالاسلام عن ابنين مسلمين، فقال أحدهما: مات مسلما، وقال الآخر: كفر بعد إسلامه ومات كافرا، فإن بين سببه، فقال: سجد لصنم، أو تكلم بكلام كفر به، فلا إرث له، ويصرف نصيبه إلى بيت المال، وإن أطلق، فثلاثة أقوال، أحدها: يصرف إليه نصيبه ولا أثر لاقراره، لانه قد يتوهم ما ليس بكفر كفرا، والثاني: يجعل فيئا، والثالث وهو الاظهر: يستفصل، فإن ذكر ما هو كفر، كان فيئا، وإن ذكر ما ليس بكفر، صرف إليه، ولو قال: مات كافرا، لانه كان يشرب الخمر ويأكل الخنزير، فهل يرثه ؟ قولان، أظهرهما: نعم. فرع تلفظ أسير بكلمة كفر مكرها، لا يحكم بكفره، فإن مات هناك، مات مسلما وورثه ورثته المسلمون، فإن رجع إلى دار الاسلام، عرض عليه الدين لاحتمال أنه كان مختارا فيما أتى به، وهنا ثلاثة أشياء، أحدها: أطلق الجمهور

(7/293)


العرض، وشرط له ابن كج أن لا يؤم الجماعات ولا يقبل على الطاعات بعد العود إلينا، فإن فعل ذلك فلا عرض. الثاني: سكت الجمهور عن كون هذا العرض مستحبا أم واجبا، وقال ابن كج: مستحب، لانه لو أكره على الكفر في دار الاسلام لا يعرض الاسلام عليه بعد زوال الاكراه بإتفاق الاصحاب. الثالث: إذا امتنع بعد العرض، فالمنقول أنه يحكم بكفره، ويستدل بامتناعه على أنه كان كافرا عند التلفظ، ومقتضى هذا أن الحكحم بكفره من يومئذ، قال الامام: وفي الحكم بكفره احتمال، ولو مات قبل العرض والتلفظ بالاسلام، فالصحيح أنه كما لو مات قبل أن يعود إلينا، وقيل: يموت كافرا وكان من حقه إذا جاء أن يتكلم بكلمة الاسلام. فرع ارتد الاسير مختارا ثم رأيناه يصلي صلاة المسلمين في دار الحرب، فالصحيح المنصوص أنه يحكم بإسلامه بخلاف ما لو صلى في دار الاسلام لا يحكم بإسلامه، لانها في دار الحرب لا تكون إلا عن اعتقاد، وفي دار الاسلام قد تكون للتقية، وقال الامام: قال العراقيون: هي إسلام، ثم استبعده وقال: الوجه في قياس المراوزة القطع بأنه ليس إسلاما، كما لو رأينا الكافر الاصلي يصلي في دار الحرب، وسوى صاحب البيان بين الاصلي والمرتد، فقال: إذا صلى الكافر الاصلي بدار الحرب، حكم بإسلامه، ولو صلى في دار الاسلام، لم يحكم به. قلت: هذا المنقول عن صاحب البيان هو قول القاضي أبي الطيب، وقد سبقت حكاية الرافعي له في صلاة الجماعة، وشذ المتولي، فحكاه هناك عن نص الشافعي رحمه الله، والصحيح الذي عليه الاصحاب أنه لا يكون إسلاما من الاصلي بخلاف المرتد، لان علقة الاسلام باقية في المرتد، فصلاته عود منه إلى ما كان، ثم سواء في كل ما ذكرنا الصلاة منفودا وإماما ومقتديا، وهذا إذا لم يسمع منه لشهد فيها، فإن سمعناه، فهو مسلم حيث ما كان، وأي كافر كان، وفيه وجه شاذ سبق في باب الاذان. والله أعلم.
الباب الثاني : في حكم الردة
أحكامها كثيرة متفرقة في الابواب، والمقصود هنا نفسه وولده وماله، أما نفسه، فمهدرة، فيجب قتله إن لم يتب، سواء انتقل إلى دين أهل

(7/294)


كتاب أم لا، حرا كان أو عبدا، أو امرأة، فإن تاب وعاد إلى الاسلام، قبلت

(7/295)


توبته وإسلامه، سواء كان مسلما أصليا، فارتد، أو كافرا أسلم ثم ارتد، وسواء كان الكفر الذي ارتد إليه كفرا ظاهرا، أو غيره، ككفر الباطنية، وسواء كان ظاهر الكفر، أو زنديقا يظهر الاسلام، ويبطن الكفر، وسواء تكررت منه الردة والاسلام، أم لا، فيقبل إسلام الزنديق ومن تكررت ردته وغيره، هذا هو الصحيح المنصوص في المختصر وبه قطع العراقيون، والوجه الثاني: لا يقبل إسلام الزنديق، قال الروياني في الحلية: والعمل على هذا، والثالث عن القفال الشاشي: أن المتناهين في الخبث، كدعاة الباطنية، لا تقبل توبتهم ورجوعهم إلى الاسلام ويقبل من عوامهم، والرابع عن الاستاذ أبي إسحق الاسفراييني: أنه إن أخذ ليقتل، فتاب، لم تقبل، وإن جاء تائبا ابتداء، وظهرت أمارات الصدق، قبلت، والخامس عن أبي إسحق المروزي: لا يقبل إسلام من تكررت ردته، وعلى الصحيح إذا تكررت ردته، وعزر. ويقتل المرتد بضرب الرقبة دون الاحراق وغيره، ويتولاه الامام أو من ولاه، فإن قتله غيره، عزر، ويستتاب المرتد قبل قتله، وهل الاستتابة واجبة أم مستحبة ؟ قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما: واجبة، وعلى التقديرين في قدرها قولان، أحدهما: ثلاثة أيام، وأظهرهما: في الحال، فإن تاب وإلا قتل ولم يمهل، وقيل: لا يجب الامهال ثلاثا قطعا، وإنما الخلاف في استحبابه، ولا خلاف أنه لا يخلى في مدة الامهال، بل يحبس، ولا خلاف أنه لو قتل قبل الاستتابة، أو قبل مضي مدة الامهال، لم يجب بقتله شئ، وإن كان القاتل مسيئا بفعله. فرع إذا وجب قتل المرتد إما في الحال، وإما بعد الاستتابة، فقال: عرضت لي شبهة فأزيلوها، لاعود إلى ما كنت عليه، فهل نناظره لازالتها وجهان، أحدهما: نعم، لان الحجة مقدمة على السيف، والثاني: لا، لان الشبه لا تنحصر، فيورد بعضها بإثر بعض فتطول المدة، فحقه أن يسلم، ثم يستكشفها من العلماء، والاول أصح عند الغزالي، وحكى الروياني الثاني عن النص،

(7/296)


واستبعد الخلاف، وعن أبي إسحق أنه لو قال: أنا جائع فأطعموني، ثم ناظروني، أو كان الامام مشغولا بما هو أهم منه، أخرناه، ولا يجوز استرقاق المرتد بحال، سواء فيه الرجل والمرأة. فصل أما ولد المرتد، فإن كان منفصلا، أو انعقد قبل الردة، فمسلم، حتى لو ارتدت حامل، لم يحكم بردة الولد، فإن بلغ وأعرب بالكفر، كان مرتدا بنفسه، وإن حدث الولد بعد الردة، فإن كان أحد أبويه مسلما، فهو مسلم بلا خلاف، وإن كانا مرتدين، فهل هو مسلم، أم مرتد، أم كافر أصلي ؟ فيه ثلاثة أقوال، أظهرها: مسلم. قلت: كذا صححه البغوي، فتابعه الرافعي، والصحيح أنه كافر، وبه قطع جميع العراقيين، نقل القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد أنه لا خلاف فيه في المذهب، وإنما الخلاف في أنه كافر أصلي أم مرتد، والاظهر: مرتد. والله أعلم.

(7/297)


فإذا قلنا: إنه مسلم، لا يسترق بحال، وإن مات صغيرا ورثه قرابته المسلمون، ويجزئ عتقه عن الكفارة إن كان رقيقا، وإن بلغ وأعرب بالكفر، فمرتد، وإن قلنا: كافر أصلي، جاز استرقاقه، قال الامام: ويجوز عقد الجزية معه إذا بلغ وهو كالكافر الاصلي في كل معنى، والذي قطع به البغوي وغيره، وحكاه الروياني عن المجموع أنه لا يجوز عقد جزية له، لانه ليس كتابيا، وإن قلنا: إنه مرتد، لم يسترق بحال، ولا يقتل حتى يبلغ فيستتاب، فإن أصر، قتل، وأولاده أولاد المرتدين، حكمهم حكم أولاد المرتدين. قلت: قال البغوي: لو كان أحد الابوين مرتدا والآخر كافرا أصليا، فإن قلنا: إذا كانا مرتدين يكون الولد مسلما، كان هنا مسلما أيضا، وإن قلنا: يكون هناك مرتدا أو كافرا أصليا، كان هنا كافرا أصليا، يقر بالجزية إن كان الاصلي ممن يقربها، كما لو كان أحد أبويه مجوسيا والآخر وثنيا، وإن كان الاصلي كتابيا، كان الولد كتابيا. والله أعلم. فرع الذمي والمستأمن إذا نقض العهد، ولحق بدار الحرب، وترك ولده عندنا، لا يجوز استرقاقه، فإذا بلغ وقبل الجزية فذاك، وإلا فلا يجبر ويلحق بالمأمن، وفي وجه: يسترق ولده بلحوقه بدار الحرب، وفي وجه: إن هلك هناك، أو استرق، استرق ولده. فصل وأما ماله، فهل يزول ملكه عنه بنفس الردة ؟ فيه أقوال، أحدها: نعم لزوال عصمة الاسلام، وقياسا على النكاح، والثاني: لا، كالزاني المحصن، وأظهرها: موقوف، فإن مات مرتدا، بان زواله بالردة، وإن أسلم، بان أنه لم يزل، لان بطلان أعماله يتوقف على موته مرتدا، فكذا ملكه، ومنهم من قطع باستمرار ملكه، وجعل الخلاف في أنه هل يصير بالردة محجورا عليه في التصرف، والخلاف في زوال الملك يجري في ابتداء التملك إذا اصطاد، أو احتطب، فإن قلنا: يزول، قال الامام: ظاهر القياس أنه يثبت الملك لاهل الفئ فيما اصطاد واحتطب، كما يحصل ملك السيد فيما احتطب العبد، قال: وليكن شراؤه واتهابه، كشراء العبد واتهابه بغير إذن السيد، حتى يجئ الخلاف، والذي ذكره المتولي أنه

(7/298)


يبقى على الاباحة كما إذا اصطاد المحرم لا يملكه، ويبقى الصيد على الاباحة، وإن قلنا: يبقى ملك المرتب فيما احتطبه، أو اصطاده ملكه كالحربي، وإن قلنا: موقوف، فموقوف، فإن عاد إلى الاسلام، بان أنه ملكه من يوم الاخذ، وإن مات مرتدا، قال المتولي: حكم بأن المأخوذ باق على الاباحة، وعلى قياس ما ذكره الامام يبين أنه لاهل الفئ، وعلى الاقوال كلها، تقضى من ماله ديونه التي لزمته قبل الردة، لانها لا تزيد على الموت، وقد تكون نفقة الزوجة من الدين اللازم قبل الردة، ولا تكون نفقة القريب منه لسقوطها بمضي الزمان، وقال الاصطخري: لا تقضى ديونه على قول زوال الملك، ويجعل المال كالتالف، والمذهب الاول، وأما في مدة الردة، فينفق عليه من ماله، وتكون نفقته كحاجة الميت إلى الكفن بعد زوال ملكه، ونقل ابن كج عن ابن الوكيل، أنه لا ينفق عليه على قول زوال الملك، بل ينفق عليه مدة الاستتابة من بيت المال، وهذا شاذ ضعيف، وهل تلزمه نفقة زوجاته الموقوف نكاحهن، ونفقة قريبة، وغرامة ما يتلفه من الردة على قول زوال الملك ؟ وجهان، قال ابن سلمة والاصطخري: لا، واختاره المتولي، إذ لا ملك له وأصحهما عند الجمهور: نعم، كما أن من حفر بئر عدوان، ومات، وحصل بها إتلاف، يؤخذ الضمان من تركته، وإن زال ملكه بالموت. فرع إذا قلنا بزوال ملكه، فأسلم، عاد ملكه بلا خلاف، لان إزالة ملكه عقوبة، فعاد بالتوبة. فرع إذا قلنا بزوال ملكه لا يصح تصرفه ببيع وشراء وإعتاق ووصية وغيرها، لانه لا مال له، وفي الشراء ما سبق عن الامام، وإن قلنا: يبقى ملكه منع من التصرف، نظرا لاهل الفئ، وهل يصير بنفس الردة محجورا عليه، أم لا بد من ضرب القاضي ؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الثاني، ومنهم من قطع به، وخص الخلاف بقولنا: ملكه موقوف، ثم على الوجهين، هل هو كحجر السفيه، لانه أشد من تضييع المال أم كحجر المفلس، لانه لصيانة حق غيره ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، فإن قلنا: لا بد من ضرب القاض، ولم يضرب نفذت تصرفاته، وإن قلنا: يحصل الحجر بلا ضرب أو بالضرب فضرب، فإن جعلناه كحجر السفه، لم ينفذ تصرفه في الحال في المال، وإذا أقر بدين، لم يقبل

(7/299)


إقراره، وإن جعلناه كمفلس، فهل تبطل تصرفاته أم توقف ؟ قولان كما في المفلس، وإقراره بالدين وبالعين كما سبق في المفلس، وإن قلنا بالوقف، فكل تصرف يحتمل الوقف، كالعتق والتدبير والوصية، موقوف أيضا، وأما البيع والهبة والكتابة ونحوها، فهي على قولي وقف العقود، فعلى الجديد هي باطلة، وعلى القديم توقف، إن أسلم حكم بصحتها، وإلا فلا، ولا يصح نكاحه ولا إنكاحه، لسقوط ولايته، وحكى البغوي على قولنا: لا يزول ملكه وجها أنه يجوز تزويج أمته إذا لم يحجر الحاكم عليه، كسائر تصرفه المالي، قال: وهذا غير قوي، وقطع المتولي وغيره بهذا. فرع على الاقوال كلها لا يعتق بالردة مدبر المرتد، ولا أم ولده، فإن مات مرتدا، عتقت المستولدة، وفي المدبر كلام يأتي إن شاء الله تعالى. فرع سواء في جميع ما ذكرناه التحق المرتد بدار الحرب، أم كان في قبضة الامام، وعلى الاقوال يوضع مال مرتد عند عدل، وأمته عند امرأة ثقة، لانا وإن قلنا ببقاء ملكه، فقد تعلق به حق المسلمين، فيحتاط، ويؤجر عقاره ورقيقه وأم ولده ومدبره، ويؤدي مكاتبه النجوم إلى الحاكم، وإذا لحق بدار الحرب ورأى الحاكم الحظ في بيع الحيوان، فعل، وإذا ارتد وعليه دين مؤجل، فإن قلنا بزوال ملكه، حل الدين كما لو مات، وإن قلنا: لا يزول، لم يحل، وإن قلنا بالوقف، فعاد إلى الاسلام، بان أنه لم يحل، وإذا استولد جاريته، نفذ الاستيلاء إن أبقينا ملكه، وإن أزلناه فلا، فإن أسلم، فقولان، كما لو استولد المشتري الجارية المبيعة في زمن الخيار، وقلنا: الملك للبائع، فتم البيع. فصل إذا ارتد جماعة، وامتنعوا بحصن وغيره، وجب قتالهم، ويقدم على قتال غيرهم، لان كفرهم أغلظ، ولانهم أعرف بعورات المسلمين، ويتبع في القتال مدبرهم، ويذفف على جريحهم، ومن ظفرنا به، استتبناه، وهل عليهم ضمان ما أتلفوه من نفس ومال في القتال ؟ فيه خلاف سبق في قتال البغاة، وإذا أتلف المرتد في غير القتال، فعليه الضمان والقصاص، ويقدم القصاص على قتل الردة، فإن بادر الامام بقتله عن الردة، أو عفا المستحق، أو مات المرتد، أخذت الدية من ماله، ولو جنى خطأ ومات، أو قتل مرتدا، أخذت الدية من ماله عاجلا، ولو وطئت

(7/300)


مرتدة بشبهة أو مكرهة، فإن قلنا: الردة لا تزيل الملك، فلها مهر المثل، كما لو وطئت زانية محصنة بشبهة بخلاف ما لو وطئت حربية بشبهة، فلا مهر، لان مالها غير مضمون، فكذا منفعة بضعها، ومال المرتدة مضمون، وإن قلنا: يزول ملكها، لم يجب، كما لو وطئ ميتة على ظن أنها حية بشبهة، وإن قلنا: الملك موقوف، فالمهر موقوف، ولو أكره مرتد على عمل، فالقول في أجرة مثله كما في المهر، ولو استأجره وسمى أجرة، بني على صحة عقوده، وحكم المسمى إن صححنا عقوده، وأجرة المثل إن لم نصححها حكم المهر، ولو زنى في ردته، أو شرب، فهل يكفي قتله، أم يحد ثم يقتل ؟ وجهان، أصحهما: الثاني.
فصل فيما تحصل به توبة المرتد وفي معناها إسلام الكافر الأصلي وقد وصف الشافعي رضي الله عنه توبته فقال: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويبرأ من كل دين خالف الاسلام، وقال في موضع: إذا أتى بالشهادتين، صار مسلما، وليس هذا باختلاف قول عند جمهور الاصحاب كما ذكرنا في كتاب الظهار، بل يختلف الحال باختلاف الكفار وعقائدهم، قال البغوي: إن كان الكافر وثنيا أو ثنويا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال: لا إله إلا الله، حكم بإسلامه، ثم يجبر على قبول جميع الاحكام، وإن كان مقرا بالوحدانية، منكرا نبوة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، لم يحكم بإسلامه حتى يقول مع ذلك: محمد رسول الله، فإن كان يقول: الرسالة إلى العرب خاصة، لم يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله إلى جميع الخلق، أو يبرأ من كل دين خالف الاسلام، وإن كان كفره بجحود فرض أو استباحة محرم، لم يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويرجع عما اعتقده، ويستحب أن يمتحن كل كافر أسلم بالايمان بالبعث، ولو قال كافر: أنا ولي محمد، لم يصح إسلامه كذا ولو قال: أنا مثلكم، أو مسلم أو آمنت، أو أسلمت، لم يصح إسلامه، ولو قال: أنا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو دينكم حق، حكم بإسلامه ولو أقر بركن من أركان الاسلام على خلاف عقيدته، كفرضية إحدى الصلوات، أو أقر بتحريم الخمر والخنزير، حكم بإسلامه، وما يصير به المسلم كافرا إذا جحده، يصير به الكافر

(7/301)


مسلما إذا أقر به، ويجبر على قبول سائر الاحكام، فإن امتنع، قتل كالمرتد، ولو أقر يهودي برسالة عيسى - صلى الله عليه وسلم -، ففي قول يجبر على الاسلام، لان المسلم لو جحد رسالته، كفر، نقل هذا كله البغوي وهو طريقة، ذكرنا في كتاب الكفارات أن الامام نسبها إلى المحققين، والذي عليه الجمهور خلافها. فرع في المنهاج للامام الحليمي أنه لا خلاف أن الايمان ينعقد بغير القول المعروف، وهو كلمة لا إله إلا الله، حتى لو قال: لا إله غير الله، أو لا إله سوى الله، أو ما عدا الله، أو ما من إله إلا الله، أو لا إله إلا الرحمن، أو لا رحمن إلا الله، أو لا إله إلا البارئ، أو لا بارئ إلا الله، وان قوله: أحمد أو أبو القاسم رسول الله، كقوله: محمد رسول الله، وأنه لو قال كافر: آمنت بالله، نظر، إن لم يكن على دين قبل ذلك، صار مؤمنا بالله تعالى، وإن كان يشرك بالله تعالى غيره، لم يكن مؤمنا حتى يقول: آمنت بالله وحده وكفرت بما كنت أشرك به، وان قوله أسلمت لله، أو أسلمت وجهي لله، كقوله: آمنت بالله، وأنه لو قيل لكافر: أسلم لله، أو آمن بالله، فقال: أسلمت أو آمنت، يحتمل أن يجعل مؤمنا، وأنه لو قال: أؤمن بالله أو أسلم لله، فهو إيمان، كما أن قول القائل: أقسم بالله، يمين، ولا يحمل على الوعد إلا أن يريده، وأنه لو قال: الله ربي، أو الله خالقي، فإن لم يكن له دين قبل ذلك، فهو إيمان، وإن كان يقول بقدم شئ مع الله تعالى، لم يكن مؤمنا حتى يقر بأنه لا قديم إلا الله، وكذا الحكم لو قال: لا خالق إلا الله، وأنه لو قال اليهودي المشبه: لا إله إلا الله، لم يكن إسلاما حتى يتبرأ من التشبيه ويقر بأنه ليس كمثله شئ، فإن قال مع ذلك: محمد رسول الله، فإن كان يعلم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم -، جاء بنفي التشبيه، كان مؤمنا، وإلا فلا بد أن يتبرأ من التشبيه، وطرد هذا التفصيل فيما إذا قال من يزعم قدم أشياء مع الله: لا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى إذا كان يعلم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - جاء ينفي ذلك، كان مؤمنا، وأن الثنوي إذا قال: لا إله إلا الله، لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من القول بقدم الظلمة والنور

(7/302)


أن لا قديم إلا الله كان مؤمنا، وأن الوثني إذا قال: لا إله إلا الله، فإن كان يزعم أن الوثن شريك لله تعالى، صار مؤمنا، وإن كان يرى أن الله تعالى هو الخالق ويعظم الوثن لزعمه أنه يقربه إلى الله تعالى، لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الوثن، وأنه لو قال البرهمي وهو الموحد الجاحد للرسل: محمد رسول الله، صار مؤمنا، ولو أقر برسالة نبي قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن مؤمنا، ويجئ فيه القول الذي حكاه البغوي في يهودي أقر بنبوة عيسى - صلى الله عليه وسلم -، وأن المعطل إذا قال: محمد رسول الله، فقد قيل يكون مؤمنا لانه أثبت المرسل وإن الكافر لو قال: لا إله إلا الذي آمن به المسلمون، صار مؤمنا. ولو قال: آمنت بالذي لا إله غيره، أو بمن لا إله غيره، لم يكن مؤمنا، لانه قد يريد الوثن، وأنه لو قال: آمنت بالله وبمحمد، كان مؤمنا بالله لاثباته الاله، ولا يكون مؤمنا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى يقول: بمحمد النبي، أو بمحمد رسول الله، وأن قوله: آمنت بمحمد النبي، إيمان برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله: آمنت بمحمد الرسول، ليس كذلك، لان النبي لا يكون إلا لله تعالى، والرسول قد يكون لغيره، وان الفلسفي إذا قال: أشهد أن الباري سبحانه وتعالى علة الموجودات أو مبدؤها أو سببها، لم يكن ذلك إيمانا حتى يقر أنه مخترع لما سواه ومحدثه بعد أن لم يكن، وأن الكافر إذا قال: لا إله إلا المحيي المميت، فإن لم يك من الطبائعيين، كان مؤمنا، وإن كان منهم، فلا حتى يقول: إلا الله، أو إلا الباري، أو اسما آخر لا تأويل لهم فيه، وأن الكافر إذا قال: لا إله إلا المالك، أو الرازق، لم يكن مؤمنا، لانه قد يريد السلطان الذي يملك أمر الجند ويرتب أرزاقهم، ولو قال: لا مالك إلا الله، أو لا رازق إلا الله، كان مؤمنا، وبمثله أجاب فيما لو قال: لا إله إلا الله العزيز، أو العظيم، أو الحكيم، أو الكريم، وبالعكوس، وانه لو قال: لا إله إلا الله الملك الذي في السماء، أو إلا ملك السماء، كان مؤمنا، قال الله تعالى: * (أأمنتم من في السماء) *. ولو قال: لا إله إلا ساكن السماء، لم يكن مؤمنا، وكذا لو قال: لا إله إلا الله ساكن السماء، لان السكون محال على الله تعالى، وأنه لو قال: آمنت بالله إن شاء، أو إن كان شاء بنا، لم يكن مؤمنا، وأنه لو قال اليهودي: أنا برئ من اليهودية، أو نصراني: أنا برئ من النصرانية، لم يكن مؤمنا، لانه ضد اليهودية غير منحصر في الاسلام، وكذا لو قال: برئ من كل ملة

(7/303)


تخالف الاسلام، فليس مؤمنا، لانه لا ينفي التعطيل، لانه مخالف وليس بملة، فإن قال: من كل ما يخالف الاسلام من دين ورأي وهوى، كان مؤمنا، وأنه لو قال: الاسلام حق، لم يكن مؤمنا، لانه قد يقر بالحق ولا ينقاد له، وهذا يخالف ما حكينا عن البغوي في قوله: دينكم حق، وأنه لو قال لمعتقد ملة: أسلم، فقال: أسلمت، أو أنا مسلم، لم يكن مقرا بالاسلام، لانه قد يسمي دينه الذي هو عليه إسلاما، ولو قال في جوابه: أنا مسلم مثلكم، كان مقرا بالاسلام، ولو قيل لمعطل: أسلم، فقال: أنا مسلم، أو من المسلمين، كان مقرا بالاسلام، لانه لا دين له يسميه إسلاما، وقد يتوقف في هذا. وبالله التوفيق.

(7/304)