روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب حد الزنى
هو من المحرمات الكبائر، وموجب للحد، وفيه بابان
الأول : فيما يوجب الحد، ومعرفة الحد
وضابط الموجب أن إيلاج قدر الحشفة من الذكر في فرج محرم يشتهى طبعا لا شبهة فيه سبب لوجوب الحد، فإن كان الزاني محصنا، فحده الرجم ولا يجلد معه، وقال ابن المنذر من أصحابنا: يجلد، ثم يرجم، وإن كان غير محصن، فواجبه الجلد والتغريب، وسواء في هذين الرجل والمرأة، ويشترط في المحصن هنا ثلاث صفات.

(7/305)


إحداها: التكليف، فلا حد على صبي ولا مجنون، لكن يؤدبان بما يزجرهما. الثانية: الحرية، فليس الرقيق والمكاتب وأم الولد ومن بعضه رقيق محصنين. الثالثة: الوطئ في نكاح صحيح، ويكفي تغييب الحشفة، ولا يشترط كونه ممن ينزل، ويحصل بوطئ في الحيض والاحرام، وعدة الشبهة، ولا يحصل بالوطئ بملك اليمين، وهل يحصل بالوطئ بشبهة أو في نكاح فاسد ؟ قولان، المشهور وبه قطع الجمهور: لا، وهل يحصل بوطئ زوجة قبل التكليف والحرية ؟ وجهان، أصحهما عند الجمهور، وهو ظاهر النص: لا، فلا يجب الرجم على من وطئ في نكاح صحيح وهو صبي أو مجنون أو رقيق، ثم زنى بعد كماله، وحكي وجه ثالث أنه يحصل بوطئ الصبي دون الرقيق، ووجه رابع عكسه، فإن شرطنا وقوعه في حال الكمال، فهل يشترط كون الزاني الآخر كاملا حينئذ ؟ فيه ثلاثة أقوال، أظهرها: لا، فلو كان أحدهما كاملا دون الآخر، صار الكامل محصنا، لانه حر مكلف وطئ في نكاح صحيح، والثاني: نعم، فلو كان أحدهما غير كامل، لم يصر الكامل محصنا، والثالث: إن كان نقص الناقص بالرق، صار الكامل محصنا، وإن كان بصغر أو جنون، فلا، وقال الامام: هذا الخلاف في صغيرة أو صغير لا يشتهيه الجنس الآخر، فإن كان مراهقا، حصل قطعا. فرع إذا زنى البكر بمجصنة، أو المحصن ببكر، رجم المحصن منهما، وجلد الآخر وغرب. فرع الرقيق يجلد خمسين، سواء فيه القن والمكاتب وأم الولد، ومن

(7/306)


بعضه حر، وفيمن نصفه حر ونصفه رقيق وجه أنه يحد ثلاثة أرباع حد الحر، ووجه ثالث أنه إن كان بينه وبين سيده مهايأة ووافق نوبة نفسه فعليه حد الحر، وإلا فحد العبد، والصحيح الاول، وهل يغرب العبد نصف سنة أم سنة أم لا يغرب ؟ أقوال، أظهرها: الاول.
فصل في تغريب الحر وفيه مسائل: إحداها: تغرب المرأة كما يغرب الرجل، لكن هل تغرب وحدها ؟ وجهان، أصحهما: لا، هكذا أطلق مطلقون الوجهين، وخصهما الامام والغزالي بما إذا كان الطريق آمنا، فعلى هذا يشترط محرم أو زوج يسافر معها، وفي النسوة الثقات عند أمن الطريق وجهان، وربما اكتفى بعضهم بواحدة ثقة، وشرط بعضهم أن يكون معها زوج أو محرم، فإن قلنا بالاصح، فتطوع الزوج، أو محرم بالسفر، أو وجدت نسوة ثقات يسافرن فذاك، وإن لم يخرج المحرم ولا الزوج إلا بأجرة، أعطي أجرة، وهل هي في مالها أم في بيت المال ؟ وجهان كأجرة الجلاد، أصحهما: الاول، وإن امتنع من الخروج بأجرة، لم يجبر على الاصح كما في الحج، فعلى هذا قياس اشتراط المحرم أن يؤخر التغريب حتى يتيسر، وذكر الروياني أنها تغرب، ويحتاط الامام في ذلك، وإن قلنا بالاجبار وهو محكي عن ابن سريج فاجتمع محرمان أو محرم وزوج فأيهما يقدم ؟ لم يتعرض الاصحاب. قلت: يحتمل وجهين كنظائره، أحدهما: الاقراع، والثاني: يقدم باجتهاده من يراه، وهذا أرجح. والله أعلم. الثانية: يغرب الزاني إلى مسافة القصر، وقيل: يجوز دونها، وقيل: يكفي التغريب إلى موضع لو خرج المبكر إليه، لم يرجع بيومه، لاطلاق لفظ التغريب، والصحيح الاول، ولو رأى الامام التغريب إلى فوق مسافة القصر، فعل، وقال المتولي: إن كان على مسافة القصر موضع صالح لم يجز التغريب إلى ما فوقه، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، غرب عمر رضي الله عنه إلى الشام، وعثمان رضي الله عنه إلى مصر، والبدوي يغرب عن حلته وقومه، ولا يمكن من الاقامة

(7/307)


بينهم، ولو عين السلطان جهة لتغريبه، فطلب الزاني جهة غيرها، فهل يجاب أم يتعين ما عينه الامام ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، قال البغوي: لا يرسله الامام إرسالا بل يغربه إلى بلد معين، وإذا غرب إلى بلد معين، فهل يمنع من الانتقال إلى بلد آخر ؟ وجهان، أصحهما: لا، وبه قطع المتولي واختاره الامام. الثالثة: قال البغوي: لا يمكن المغرب من أن يحمل معه أهله وعشيرته، لانه لا يستوحش حينئذ، وله أن يحمل جارية يتسرى بها، وما يحتاج إليه للنفقة وقال المتولي: لو خرج معه عشيرته، لم يمنعوا. الرابعة: الغريب إذا زنى، يغرب من بلد الزنى تنكيلا وإبعادا عن موضع الفاحشة، لا يغرب إلى بلده ولا إلى بلد بينه وبين بلده دون مسافة القصر، ولو رجع هذا الغريب إلى بلده فهل يمنع ؟ وجهان، أصحهما: نعم، ثم هذا في غريب له وطن، فإن لم يكن، بأن هاجر حربي إلى دار الاسلام ولم يتوطن بلدا، قال المتولي: يتوقف الامام حتى يتوطن بلدا ثم يغربه، ولو زنى مسافر في طريقه، غرب إلى غير مقصده. الخامسة: إذا رجع المغرب إلى البلد الذي غرب منه، رد إلى الموضع الذي غرب إليه، وهل تستأنف المدة أم يبني ؟ وجهان، أصحهما: تستأنف، وهما راجعان إلى أنه هل يجوز تفريق سنة التغريب. السادسة: لا يعتقل في الموضع الذي غرب إليه، لكن يحفظ بالمراقبة والتوكيل به، فإن احتيج إلى الاعتقال خوفا من رجوعه، اعتقل. السابعة: لو زنى ثانيا في البلد المغرب فيه، غرب إلى موضع آخر، قال ابن كج: وتدخل بقية مدة الاول، لان الحدين من جنس فيتداخلان. الثامنة: لو أراد الحاكم تغريبه فخرج بنفسه، وغاب سنة، ثم عاد، قال ابن كج قال بعض الاصحاب: يكفيه ذلك، والصحيح خلافه، لان المقصود التنكيل، ولا يحصل إلا بتغريب الامام. التاسعة: قال ابن كج: مؤنة المغرب بقدر مؤنة الحضر في ماله، وما زاد في بيت المال، وهذا غريب.

(7/308)


قلت: الصواب أن الجميع في ماله. والله أعلم. العاشرة: يجوز تقديم التغريب على المجلد. فرع ذكر الروياني أن الاصح أنه لا يلزم المغرب أن يقيم في بلد الغربة حتى يكون كالحبس له، فلا يمكن من الضرب في الارض، لانه كالنزهة، ومما يناسب التغريب النفي في قطع الطريق، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وثبت في الحديث نفي المخنثين وهو تعزيز. فرع ليس من شرط الاحصان الاسلام، فإذا زنى ذمي مكلف حر وطئ في نكاح صحيح، رجم، ولو ارتد محصن، لم يبطل إحصانه، فلو زنى في الردة أو بعد الاسلام رجم.
فصل قولنا : إيلاج الفرج في الفرج، يدخل فيه اللواط، وهو من الفواحش الكبائر، فإن لاط بذكر، ففي عقوبة الفاعل قولان، أظهرهما: أن حده حد الزنى، فيرجم إن كان محصنا، ويجلد ويغرب إن لم يكن محصنا،

(7/309)


والثاني: يقتل محصنا كان أو غيره، وفي كيفية قتله أوجه، أحدها: بالسيف كالمرتد، والثاني: يرجم تغليظا عليه، والثالث، يهدم عليه جدار، أو يرمى من شاهق حتى يموت أخذا من عذاب قوم لوط - صلى الله عليه وسلم -. قلت: أصحهما بالسيف. والله أعلم. وأما المفعول به، فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكرها، فلا حد عليه، ولا مهر، لان منفعة البضع غير متقومة، وإن كان مكلفا طائعا، فإن قلنا: إن الفاعل يقتل، قتل المفعول به بما يقتل الفاعل، وإن قلنا: حده حد الزنى، جلد المفعول به وغرب محصنا كان أو غيره، وإن وطئ امرأة أجنبية في دبرها، فطريقان، أصحهما: أنه كاللواط بذكر، فيجئ في الفاعل القولان، وتكون عقوبة المرأة الجلد والتغريب على الاصح، وقيل: هو زنى في حقها، فترجم المحصنة، وتجلد وتغرب غيرها، ولو لاط بعبده، فهو كاللواط بأجنبي، ولو وطئ زوجته أو أمته في دبرها، فالمذهب أن واجبه التعزيز، وقيل: في وجوب الحد قولان، كوطئ الاخت المملوكة. فرع المفاخذات ومقدمات الوطئ، وإتيان المرأة، لا حد فيها، ولو وجدنا رجلا وامرأة أجنبيين تحت لحاف، ولم يعرف غير ذلك لم نحدهما، ويجب تعزيز في هذه الصور، ولو وجدنا بامرأة خلية حبلا، أو ولدت وأنكرت الزنى، فلا حد. قلت: ولو لم تنكر، ولم تعترف، بل سكتت فلا حد، وإنما يجب الحد ببينة أو اعتراف. والله أعلم. والاستمناء حرام، وفيه التعزيز، ولو مكن امرأته أو جاريته من العبث بذكره، فأنزل، قال القاضي حسين في أول فتاويه: يكره، لانه في معنى العزل.
فصل أما قولنا : المشتهي طبعا، فيحترز عن صورتين إحداهما: إذا أولج في فرج ميتة، فلا حد في الاصح، الثانية إتيان البهيمة حرام، وفي واجبه أقوال، أظهرها: التعزيز، والثاني: القتل محصنا كان أو غيره، والثالث: حد الزنى، فيفرق بين المحصن وغيره، وقيل: واجبه واجب اللواط، وقيل: التعزيز

(7/310)


قطعا، فإن قلنا: يقتل، ففي كيفيته الخلاف السابق في اللوط، وفي قتل البهيمة ثلاثة أوجه، أصحهما: تقتل المأكولة دون غيرها، وسواء أتاها في دبرها أو قبلها، وقيل: إن أتاها في دبرها، لم نقتلها، وهل يحل أكلها إذا كانت مأكولة فذبحت ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وقيل: يحل قطعا، فإن قلنا: لا يحل أكلها، أو كانت غير مأكولة، فهل يجب ضمانها إذا كانت لغير الفاعل ؟ وجهان. أصحهما: نعم، فعلى هذا هل الضمان على الفاعل أم في بيت المال، أصحهما: الاول كالوجهين في أجرة الجلاد، وإن قلنا: يحل أكلها، ففي التفاوت بين قيمتها حية ومذبوحة الوجهان، ولو مكنت امرأة قردا من نفسها، كان الحكم كما لو أتى الرجل بهيمة، حكاه البغوي وغيره، ولا يثبت اللواط وإتيان البهيمة إلا بأربعة عدول، وقيل: إن قلنا: الواجب التعزيز، كفى عدلان، وهو ضعيف مخالف للنص. فصل أما قولنا: لا شبهة فيه، فالشبهة ثلاثة أقسام في المحل والفاعل والجهة. أما الشبهة في المحل، فوطئ زوجته الحائض والصائمة والمحرمة، وأمته قبل الاستبراء، وجارية ولده، لا حد فيه، ولو وطئ أمته المحرمة عليه بمحرمية رضاع أو نسب أو مصاهرة، كأخته منهما وبنته وأمه من رضاع، وموطوءة أبيه وابنه، لم يجب الحد على الاظهر، ولو وطئ جارية له فيها شرك، أو أمته المزوجة، أو المعتدة من غيره، أو المجوسية والوثنية، أو أسلمت أمة ذمي فوطئها قبل أن تباع، فلا حد على المذهب، وقيل: فيه القولان، فإن قلنا: لا حد، ثبت النسب والمصاهرة، وإلا فلا، وقيل: يثبت النسب وتصير الجارية أم ولد بلا خلاف. وأما الشبهة في الفاعل، فمثل أن يجد امرأة في فراشه، فيطأها ظانا أنها زوجته أو أمته، فلا حد، وإذا ادعى أنه ظن ذلك، صدق بيمينه، نص عليه، وسواء كان ذلك ليلة الزفاف أو غيرها، ولو ظنها جارية له فيها شرك فكانت غيرها، وقلنا: لا يجب الحد بوطئ المشتركة، قال الامام فيه تردد، يجوز أن يقال: لا حد، لانه ظن ما يسقط الحد، ويجوز أن يقال: يحد، لانه علم التحريم، وإنما

(7/311)


جهل وجوب الحد، وكان من حقه أن يمتنع. قلت: هذا الثاني هو الظاهر الجاري على القواعد في نظائره. والله أعلم. وأما الشبهة في الجهة، فقال الاصحاب: كل جهة صححها بعض العلماء، وأباح الوطئ بها، لا حد فيها على المذهب، وإن كان الواطئ يعتقد التحريم، وذلك كالوطئ في النكاح بلا ولي، كمذهب أبي حنيفة، وبلا شهود كمذهب مالك، ونكاح المتعة، وقيل: يجب في النكاح بلا ولي على من يعتقد تحريمه دون غيره، وقيل: يجب على من أعتقد الاباحة أيضا، كما نحد الحنفي على شرب النبيذ، ولو وطئ المرهونة بإذن الراهن، وجب الحد على الصحيح. فرع لو تزوج بنته أو غيرها من محارمه بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أو من طلقها ثلاثا، أو من لاعنها، أو نكح من تحته أبع خامسة، أو نكح أختا على أخت، أو معتدة أو مرتدة، أو نكح ذات زوج، أو نكح كافر مسلمة ووطئ عالما بالحال، وجب الحد، لانه وطئ صادف محلا لا ملك له فيه ولا شبهة ملك، وهو مقطوع بتحريمه، فتعلق به الحد، وحكى ابن كج فيمن نكح أخته من رضاع، ووطئ وادعى جهل التحريم، قولين في تصدقيه، ولا خلاف أنه لا يقتل في الاخت من النسب، ولو نكح وثنية أو مجوسية، قال البغوي: وجب الحد، وقال الروياني في جمع الجوامع: لا حد في المجوسية للخلاف، ولو ادعى الجهل بكونها معتدة، أو مزوجة، حلف إن كان ما يدعيه ممكنا، ولا حد، نص عليه، وعن القاضي أبي حامد أنه نقل أن اليمين مستحبة، ولو قالت المرأة: علمت أني معتدة أو مزوجة، حدت، وإن لم يحد الواطئ، ولو استأجر امرأة، فزنى بها، لزمها الحد ولو أباحت له الوطئ لزمهما الحد، ولو أباح وطئ جاريته لغيره، فعلى ما ذكرنا في الرهن، ولو زنت خرساء بناطق، أو عكسه، أو زنى بامرأة له عليها قصاص، لزمهما الحد، ويقبل إقرار الاخرس، ولو زنى مكلف بمجنونة، أو مراهقة، أو نائمة، حد، ولو مكنت مكلفة مجنونا أو مراهقا، أو استدخلت ذكر نائم، لزمها الحد، ولو قال: زنيت بها، فأنكرت، لزمه حد الزنى وحد القذف، ولو زنى في دار الحرب، وجب عليه الحد، والمشهور أن للامام أن يقيمه هناك إن لم يحف فتنة، وفي قول: لا يقيمه هناك.

(7/312)


فصل يشترط لوجوب الحد كون الفاعل مختارا مكلفا، فلو أكره رجل على الزنى، فزنى لم يجب الحد على الاصح، ولا حد على صبي ولا مجنون، ومن جهل تحريم الزنى لقرب عهده بالاسلام، أو لانه نشأ ببادية بعيدة عن المسلمين، لا حد عليه، ومن نشأ بين المسلمين وقال: لم أعلم التحريم، لم يقبل قوله، ولو علم التحريم، ولم يعلم تعلق الحد به، فقد جعله الامام على التردد الذي ذكره فيمن وطئ من يظنها مشتركة فكانت غيرها. قلت: الصحيح الجزم بوجوب الحد، وهو المعروف في المذهب، والجاري على القواعد. والله أعلم. فصل يشترط للحد ثبوت الزنى عند القاضي ببينة أو إقراره، ويستحب لمن ارتكب كبيرة توجب الحد الله تعالى أن يستر على نفسه، وهل يستحب للشهود ترك الشهادة في حدود الله تعالى ؟ وجهان، أصحهما: لا، لئلا تتعطل. قلت: الاصح أن الشاهد إن رأى المصلحة في الشهادة، شهد، وإن رآها في الستر، ستر. والله أعلم. وإذا ثبت الحد، لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه، وإذا قرأ على نفسه بزنى، ثم رجع عنه سقط الحد، وهل يستحب له الرجوع ؟ وجهان، أحدهما: نعم كالستر ابتداء، والثاني: لا، لان الهتك قد حصل. قلت: مقتضى الحديث الصحيح في قصة ماعز رضي الله عنه أنه يستحب فهو الراجح والله أعلم. ولو قال: زينت بفلانة، فهو مقر بالزنى قاذف لها، فإن أنكرت، أو قالت:

(7/313)


كان تزوجني، لزمه وحد القذف، فإن رجع، سقط حد الزنى وحده، ولو قال: زنيت بها مكرهة، لم يجب حد القذف، ويجب مع حد الزنى المهر، ولا يسقط المهر بالرجوع، ولو رجع بعد ما أقيم بعض الحد، ترك الباقي، ولو قتله شخص بعد الرجوع، ففي وجوب القصاص وجهان نقلهما ابن كج، وقال: الاصح لا يجب، وبه قال أبو إسحق لاختلاف العلماء في سقوط الحد بالرجوع، ولو رجع بعد ما جلد بعض الحد، فأتم الامام الحد، فمات منه، والامام يعتقد سقوط الحد بالرجوع، فنقل ابن قطان في وجوب القصاص قولين، فإن قلنا: لا يجب، نصف الدية، أم يوزع على السياط ؟ قولان، وقال ابن كج: عندي لا قصاص، والرجوع كقوله: كذبت، أو رجعت عما أقررت به، أو ما زنيت، أو كنت فأخذت، أو لمست فظننته زنى، ولو شهدوا على إقراره بالزنى، فقال: ما أقررت، أو قال بعد حكم الحاكم بإقراره: ما أقررت، فالصحيح أنه لا يلتفت إلى قوله، لانه تكذيب للشهود والقاضي، وعن أبي إسحق والقاضي أبي الطيب: يقبل، لانه غير معترف في الحال، وإن قال: لا تقيموا علي الحد، أو هرب، أو امتنع من الاستسلام، فهل هو رجوع ؟ وجهان، أصحهما: لا، لكن يخلي في الحال ولا يتبع، فإن رجع فذاك، وإلا أقيم عليه حد، ولو أتبع الهارب، فرجم، فلا ضمان، لان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوجب عليهم في قضية ماعز رضي الله عنه شيئا، والرجوع عن الاقرار بشرب الخمر، كالرجوع عن الاقرار بالزنى، وفي الرجوع عن الاقرار بالسرقة وقطع الطريق خلاف يأتي في السرقة إن شاء الله تعالى. فرع لو تاب من ثبت زناه، فهل يسقط الحد عنه بالتوبة ؟ قولان، أظهرهما وهو الجديد: لا يسقط، لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى إسقاط الحدود والزواجر، ثم قيل: القولان فيمن تاب قبل الرفع إلى القاضي، فأما بعده، فلا يسقط قطعا، وقيل: هما في الحالين. فرع إذ ثبت زناه ببينة، لم يسقط الحد برجوع ولا بالتماس ترك الحد، ولا بالهرب ولا غيرها، هذا هو المذهب، وفيه خلاف حكاه الامام، ولو أقر بالزنى، ثم شهد عليه أربعة بالزنى، ثم رجع عن الاقرار، هل يحد ؟ وجهان، قال ابن القطان: نعم، وأبو إسحق: لا، إذ لا أثر للبينة مع الاقرار وقد بطل

(7/314)


الاقرار. فرع الكلام في عدد الشهود لزنى ورجوع بعضهم أو كلهم مذكور في كتاب الشهادات، وهناك يذكر إن شاء الله تعالى كيفية الشهادة وأنه يشترط تفسير الزنى بخلاف القذف، فإنه لو قال: زنيت، كان قاذفا لحصول العار، وهل يشترط في الاقرار بالزنى التفسير كالشهادة أم لا كالقذف ؟ وجهان. قلت: الاشتراط أقوى، ويستأنس فيه بقصة ماعز رضي الله عنه. والله أعلم. وسواء شهدوا بالزنى في مجلس، أو مجالس متفرقة، ولو شهدوا ثم غابوا، أو ماتوا، فللحاكم أن يحكم بشهادتهم ويقيم الحد. وتقبل الشهادة بالزنى بعد تطاول الزمن، ولو شهد أربعة على امرأة بالزنى، وشهد أربع نسوة أنها عذراء، فلا حد للشبهة، ولو قذفها قاذف، لم يلزمه حد القذف لوجود الشهادة، واحتمال عود البكارة، وكذا لا يجب حد القذف على الشهود، ولو أقامت هي أربعة على أنه أكرهها على الزنى وطلبت المهر، وشهد أربع نسوة أنها عذراء، فلا حد عليه للشبهة، وعليه المهر، لانه يثبت مع الشبهة، ولا يجب عليها حد القذف لشهادة الشهود، ولو شهد اثنان أنه وطئها بشبهة، وأربع نسوة أنها عذراء، فلا حد عليه

(7/315)


للشبهة ويجب المهر، ولو شهد أربعة عليها بالزنى، وشهد أربع نسوة أنها رتقاء، فليس عليها حد الزنى، ولا عليهم حد القذف لانهم رموا من لا يمكنه الجماع، ولو شهد أربعة بالزنى وعين كل واحد منهم زاوية من زاويا بيت، فلا حد على المشهود عليه، وفي وجوب حد القذف على الشهود خلاف يأتي إن شاء الله تعالى لانه لم يتم عددهم في زنية، ولو شهد اثنان أن فلانا أكره فلانة على الزنى، لم يثبت الزنى وهل يثبت المهر ؟ يبنى على أنه إذا شهد بالزنى أقل من أربعة هل عليهم حد القذف، إن قلنا: لا، وجب المهر، وإلا فلا، ولو شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة، وآخر أنه زنى بها طائعة، لم يجب عليها حد الزنى، وهل يجب على الرجل ؟ يبنى على أن شاهدي الطواعية هل عليهما حد القذف للمرأة، قولان، إن قلنا: نعم، وهو الاظهر، فلا، الشاهدين فاسقان، وإن قلنا: لا، وجب على الاصح، لاتفاقهم على زناه، وكذلك يجب عليه المهر، ولا خلاف أنه لا يجب حد القذف على شاهدي الاكراه ولا يجب حد القذف للرجل.
الباب الثاني : في استيفاء الحد فيه طرفان :
الأول : في كيفيته، وفيه مسائل: إحداها: إقامة الحدود على الاحرار إلى الامام، أو من فوض إليه الامام، وإذا أمر باستيفائه، جاز للمفوض إليه، ولا يجب حضور الامام، سواء ثبت بالبينة أو الاقرار، ولا حضور الشهود إذا ثبت بالبينة، لكن يستحب حضورهم وابتداؤهم بالرجم، ويستحب أن يستوفى بحضرة جماعة أقلهم أربعة. الثانية: لا يقتل المحصن بالسيف، لان المقصود التمثيل به وتنكيله بالرجم فيرجم، وليس لما يرجم به تقدير، لا جنسا ولا عددا، فقد تصيب الاحجار مقاتله، فيموت سريعا، وقد تبطئ موته، ولا يرمى بصخرة تذفف، ولا يطول تعذيبه بالحصيات الخفيفة، بل يحيط الناس به فيرمونه من الجوانب بحجارة معتدلة ومدر ونحوها حتى يموت، فإن كان رجلا لم يحفر له عند الرجم سواء ثبت زناه بالبينة أم بالاقرار، وفي المرأة أوجه، أحدها: يستحب أن يحفر إلى صدرها ليكون أستر لها، والثاني: لا يستحب، بل هو إلى خيرة الامام، وأصحها: إن ثبت زناها بالبينة يستحب أن يحفر، وإن ثبت بالاقرار، فلا ليمكنها الهرب إن رجعت.

(7/316)


الثالثة: الصحيح الذي قطع به الجمهور أن الرجم لا يؤخر للمرض، لان نفسه مستوفاة، فلا فرق بينه وبين الصحيح، وقيل: إن ثبت بالاقرار، أخر حتى يبرأ، لانه ربما رجع في أثناء الرمي فيعين ذلك على قتله، ومثل هذا الخلاف يعود في أنه هل يرجم في شدة الحر والبرد ؟ وإن كان الواجب الجلد، فإن كان المرض مما يرجى، زواله، أخر حتى يبرأ، وكذا المحدود والمقطوع في حد وغيره لا يقام عليه حد آخر حتى يبرأ، وفي وجه: لا يؤخر، بل يضرب في المرض بحسب ما يحتمله من ضرب بعثكال وغيره، ولو ضرب كما يحتمله، ثم برأ هل يقام عليه حد الاصحاء ؟ وجهان حكاهما ابن كج وليكونا مبنيين على أنه هل تؤخر إقامة الجلد أم تستوفى بحسب الامكان ؟ إن قلنا بالاول، فالذي جرى ليس بحد، فلا يسقط كما لو جلد المحصن لا يسقط الرجم، وإن قلنا بالثاني، لم يعد الحد، وإن كان المرض مما لا يرجى زواله، كالسل والزمانة، أو كان مخدجا وهو الضعيف الخلقة الذي لا يحتمل السياط، لم يؤخر إذ لا غاية تنتظر، ولا يضرب بالسياط، بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ، وهو الغصن ذو الفروع الخفيفة، ولا يتعين العثكال، بل له الضرب بالنعال وأطراف الثياب، كذا حكاه ابن الصباغ والروياني وغيرهما، فلو كان على الغصن مائة فرع، ضرب به دفعة واحدة، وإن كان عليه خمسون، ضرب به مرتين، وعلى هذا القياس، ولا يكفي الوضع عليه، بل لا بد مما يسمى ضربا، وينبغي أن تمسه الشماريخ، أو ينكبس بعضها على بعض لثقل الغصن، ويناله الالم، فإن لم تمسه، ولا انكبس بعضها على بعض، أو شك فيه، لم يسقط الحد، وفي النهاية وجه ضعيف أنه لا يشترط الايلام، ولا تفرق السياط على الايام، وإن احتمل التفريق، بل يقام عليه الممكن ويخلى سبيله، ولو كان لا يحتمل السياط المعتبرة في جلد الزنى، وأمكن ضربه بقضبان وسياط خفيفة فقد تردد فيه الامام وقال: ظاهر كلام الاصحاب أنه يضرب بالشماريخ، والذي أراه أنه يضرب بالاسواط، لانه أقرب إلى صور الحد، ولو برأ قبل أن يضرب بالشماريخ، أقيم عليه حد الآصحاء، وإن برأ بعد، لم يعد عليه، وفي إقامة الضرب بالشماريخ مقام الضربات والجلد بالسياط مزيد كلام نذكره في الايمان إن شاء الله تعالى. فرع يؤخر قطع السرقة إلى البرء، ولو سرق من لا يرجى زوال مرضه، قطع على الصحيح، لئلا يفوت الحد، ولو وجب حد القذف على مريض، قال ابن

(7/317)


كج: يقال للمستحق: اصبر إلى البرء، أو اقتصر على الضرب بالعثكال، وفي التهذيب أنه يجلد بالسياط، سواء يرجى زوال مرضه أم لا، لان حقوق الآدمي مبنية على الضيق، وجلد الشرب كجلد الزنى. فرع الرابعة: لا يقام الجلد في حر ولا برد شديدين، بل يؤخر إلى اعتدال الوقت، وكذا القطع في السرقة بخلاف القصاص وحد القذف، وأما الرجم، فإن ثبت بالبينة، لم يؤخر، لانه مقتول، وكذا إن ثبت بالاقرار على الصحيح. فرع لو جلد الامام في مرض أو شدة حر، أو برد، فهلك المجلود بالسراية، فالنص أنه لا يضمن، ونص أنه لو ختن أقلف في شدة حر أو برد، فهلك، ضمن، فقيل في وجوب الضمان فيهما: قولان، وقيل: بظاهر النصيحة وهو الاصح، لان الجلد ثبت بالنص، والختان بالاجتهاد، فإن أوجبنا الضمان، فهل يضمن جميعه أم نصفه ؟ وجهان، وهل الضمان على عاقلة الامام أم في بيت المال ؟ قولان سبقا، قال الامام: إن لم نوجب الضمان فالتأخير مستحب قطعا، وإن أوجبناه فوجهان، أحدهما: أن التأخير واجب، وضمناه لتركه الواجب، والثاني: يجوز التعجيل ولكن بشرط سلامة العاقبة كما في التعزير، وفي عبارة الغزالي ما يشعر بأن الراجح استحباب التأخير، وفي المهذب وغيره الجزم بأنه لا يجوز التعجيل في شدة الحر والبرد، ويجوز أن يقال بوجوب التأخير مع الاختلاف في وجوب الضمان، كما يجب على آحاد الناس تفويض رجم الزاني المحصن إلى الامام مع الاختلاف في ضمانه لو بادر بقتله. قلت: المذهب وجوب التأخير مطلقا. والله أعلم. ولو عجل جلد المريض قبل برئه، فهلك، ففي ضمانه الخلاف في الجلد في الحر والبرد بلا فرق.

(7/318)


الطرف الثاني : في بيان مستوفيه
فإن كان المحدود حرا، فالمستوفي الامام، أو من فوض إليه كما سبق، هذا هو المذهب والمنصوص وبه قطع الاصحاب، وحكي عن القفال رواية قول: إنه يجوز للآحاد استيفاؤه حسبة، كالامر بالمعروف، وليس بشئ. وإن كان مملوكا، فلسيده إقامة الحد عليه، وله تفويضه إلى غيره، ولا يحتاج إلى أذن الامام فيه، وسواء العبد والامة، وخرج ابن القاص قولا في العبد كأنه ألحقه بالاجبار على النكاح ولم يوافق عليه، بل قطع الاصحاب بأن له إقامته عليهما، ويجوز للامام أيضا إقامته على الرقيق، ومن بدر إليه منهما وقع الموقع، وهل الاولى للسيد أن يقيمه بنفسه ليكون أستر، أم الاولى تفويضه إلى الامام، ليخرج من خلاف أبي حنيفة في إلحاقه بالحر ؟ وجهان نقلهما الشيخ أبو خلف الطبري. قلت: أصحهما الاول لثبوت الحديث فيه، ولا يراعى الخروج من خلاف يخالف السنة. والله أعلم. ولو تنازع في إقامته الامام والسيد، فأيهما أولى ؟ فيه احتمالات للامام أظهرها: الامام لعموم ولايته، والثاني: السيد لغرض إصلاح ملكه، والثالث: إن كان جلدا فالسيد، وإن كان قتلا أو قطعا، فالامام، لان إعمال السلاح بصاحب الامر أليق، والعبد المشترك يقيم حده ملاكه، وتوزع السياط على قدر الملك، فإن حصل كسر، فوض المنكسر إلى أحدهم، وهل يغربه السيد إن قلنا بتغريب العبد ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لانه بعض الحد، والمدبر وأم الولد والمعلق عتقه، كالقن والمكاتب، كالحر على الصحيح، وعن ابن القطان، كالقن، ومن بعضه حر لا يحده إلا الامام، وهل إقامة السيد الحد بالولاية على ملكه، كولاية التزويج، أم تأديبا وإصلاحا، كمعالجته بالفصد والحجامة ؟ وجهان. فرع فيما يقيمه السيد على رقيقه من العقوبات، أما التعزير، فله ذلك في حقوق الله تعالى، كما يؤدبه لحق نفسه، وفيه وجه ضعيف، لان التعزير غير مضبوط، فيفتقر إلى اجتهاده، وأما الحدود، فله الجلد في الزنى والقذف والشرب، وفي الشرب وجه، لان للسيد في بضع أمته وعبده حقا، فإنه لا يتزوج إلا بإذنه بخلاف الشرب، وقياس هذا الفرق مجئ الوجه في جلد القذف، وهل له

(7/319)


قطعه في السرقة والمحاربة، وقتله في الردة ؟ وجهان، الاصح المنصوص: نعم، لاطلاق الخبر، ومنهم من جزم بجواز القطع، وأجرى ابن الصباغ وجماعة هذا الخلاف في القطع والقتل قصاصا، وفي التهذيب أن الاصح أن القطع والقتل إلى الامام. فرع في أحوال السيد إن جمع شروط الولاية أقام الحد، وإن كان السيد امرأة، فهل تقيمه هي أم السلطان أم وليها ؟ فيه أوجه، أصحها الاول، وللفاسق والمكاتب والكافر إقامته على رقيقهم على الاصح بناء على أن سبيله سبيل الاصلاح، وفي كتاب ابن كج أن السيد لا يحد عبيد مكاتبه على المذهب، وإن قلنا: يحدهم المكاتب إذ لا تصرف له فيهم، وفيه أنه ليس لكافر أن يحد عبده المسلم بحال، وهل يقيم الاب والجد والوصي والقيم الحد على رقيق الطفل ؟ وجهان، وقيل: لا يجوز لغير الاب والجد وفيهما الوجهان، ويشبه أن يقال: إن قلنا: الحد إصلاح، فلهم قامته، وإن قلنا: ولاية، ففيه الخلاف، وهل يجوز كون السيد جاهلا ؟ وجهان بناء على أنه إصلاح أم ولاية ؟ ويشترط كونه عالما بقدر الحد وكيفيته. فرع العقوبة التي يقيمها السيد على عبده، يقيمها إذا أقر العبد عنده بموجبها، فلو شاهده السيد، فله إقامتها على الاصح، وله سماع البينة بذلك على الاصح، لانه يملك إقامة هذا الحد، فيسمع بينته كالامام، وعلى هذا ينظر تزكية الشهود، ويشترط كونه عالما بصفاتهم، وأحكام الحدود، وقيل: ليس له سماعها، وإنا يحده بعد ثبوته عند الامام. فرع قذف رقيق زوجته الرقيقة، هل يلاعن بينهما السيد كما يقيم الحد ؟ وجهان، ولو قذف العبد سيده، فله إقامة الحد عليه، ولو قذف السيد عبده، فله رفع الامر إلى القاضي ليعزره، ولو زنى ذمي، ثم نقض العهد واسترق، لم يسقط عنه الحد، ويقيمه الامام لا السيد، لانه لم يكن مملوكا يومئذ، ولو زنى عبد، فباعه سيده، فإقامة الحد إلى المشتري اعتبارا بحال الاستيفاء.

(7/320)


فرع من قتل حدا بالرجم وغيره، غسل وكفن، وصلي عليه، ودفن في مقابر المسلمين.

(7/321)