روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب السرقة
هي موجبة للقطع بالنص والاجماع، وفيه ثلاثة أبواب :
الأول : فيما يوجب القطع، وهو السرقة ولها ثلاثة أركان :
أحدها : المسروق، وله ستة شروط، أحدها: أن يكون نصابا، وهو ربع دينار من الذهب الخالص، فلا قطع فيما دونه، ويقطع بربع دينار قراضة بلا خلاف، ولو سرق دينارا

(7/326)


مغشوشا، فإن بلغ خالصه ربعا، قطع، وإلا فلا، ولو سرق دراهم أو غيرها، قوم بالذهب، وحكي أن ابن بنت الشافعي رحمهما الله اختار مذهب داود، وهو أنه يجب القطع بسرقة القليل، ولا يعتبر نصاب. قلت: هذا غلط مخالف للاحاديث الصحيحة الصريحة في اعتبار ربع دينار. والله أعلم. والاعتبار بالذهب المضروب، فبه يقع التقويم، حتى لو سرق شيئا يساوي ربع مثقال من غير المضروب، كالسبيكة وحلي لا تبلغ ربعا مضروبا بالقيمة،

(7/327)


فلا قطع على الاصح، وبه قال الاصطخري وأبو علي ابن أبي هريرة والطبري، وصححه الامام وغيره، وجزم به العبادي، ولو سرق خاتما وزنه دون ربع، وقيمته بالصنعة تبلغ ربعا، فلا قطع على الصحيح، والخلاف في المسألتين راجع إلى أن الاعتبار بالوزن أو بالقيمة، وأما التبر الذي إذا خلص نقص، فلا قطع في سرقة ربع منه، بل يشترط أن يخلص منه رحع، ولا سرق فلوسا ظنها دنانير، قطع إن بلغت قيمتها نصابا، وإلا فلا، ولو سرق دنانير ظنها فلوسا لا تبلغ قيمتها نصابا، قطع، ولو سرق ثوبا خسيسا وفي جيبه ربع دينار، أو ما تبلغ قيمته نصابا ولم يعلم بالحال، وجب القطع على الاصح، لانه أخرج نصابا من حرزه بقصد السرقة. فرع لو أخرج نصابا من حرز دفعتين فصاعدا، نظر إن تخلل اطلاع المالك وإعادته الحرز بإصلاح النقب أو إغلاق الباب، فالاخراج الثاني سرقة أخرى، فإن كان المخرج في كل دفعة دون النصاب، لم يجب القطع، وإن لم يتخلل الاطلاع والاعادة، ففيه أوجه، أصحها: يجب القطع، والثاني: لا، والثالث: إن عاد وسرق ثانيا بعد ما اشتهر خراب الحرز، وعلم به الناس أو المالك، فلا قطع، وإن عاد قبله، قطع، والرابع: إن عاد تلك الليلة، قطع، وإن عاد في ليلة أخرى، فلا، والخامس: إن لم يطل الفصل بين الاخراجين، قطع، وإن طال، فلا، والسادس: إن كان يخرج شيئا فشيئا، ويضعه خارج البيت أو خارج الباب، حتى تم نصابا ولم يفارق الحرز، قطع، وإن ذهب بالمسروق أولا إلى بيته ونحوه مسرعا وعاد ولو مع قرب الفصل، فلا قطع. فرع انثيال الحنطة ونحوها عند فتح أسفل وعائه أو نحوه، هل هو كإخراجه باليد ؟ وجهان، أحدهما: لا، لانه خرج بسبب لا مباشرة، والسبب ضعيف فلا يقطع به، وأصحهما: نعم، لانه بفعله هتك الحرز، فعلى هذا لو أخرج بيده أو انثال دفعة ما يساوي نصابا، قطع، وإن أخرجه شيئا فشيئا على التواصل، أو انثال كذلك، قطع على المذهب، وقيل: وجهان، ولو طر جيبه أو كمه، فسقطت الدراهم شيئا فشيئا فكانثيال الحبوب، ولو أخذ طرف منديل أو جذع، وأخرجه من الحرز جرا، قطع، لانه شئ واحد، ولو أخرج نصفه وترك النصف الآخر في الحرز

(7/328)


لخوف أو غيره، فلا قطع وإن كان حصة المخرج أكثر من نصاب، لانه مال واحد، ولم يتم إخراجه. فرع لو جمع من البذر المبثوث في الارض ما بلغ نصابا، فإن لم تكن الارض محرزة، فلا قطع، وإن كانت فوجهان، أصحهما: يقطع، لان الارض تعد بقعة واحدة، والبذر المفرق فيها كأمتعة في زوايا بيت، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان إحراز الارض. فرع لو أخرج اثنان من حرز نصابا أو أكثر ولم يبلغ نصابين، فلا قطع عليهما وإن أخرجا ما يبلغ نصابين، قطعا جميعا، وإن انفرد كل واحد بإخراج، قطع من بلغ ما أخرجه نصابا دون من لم يبلغ ما أخرجه نصابا. فرع قال الامام: إذا كان المسروق عرضا تبلغ قيمته بالاجتهاد ربع دينار فقد يوجد للاصحاب أنه يجب الحد، والذي أرى الجزم به أنه لا يجب ما لم يقطع المقومون ببلوغها نصابا، وللمقومين قطع واجتهاد، والقطع من جماعة لا يزلون معتبر، ومن جماعة لا يبعد الزلل منهم فيه احتمالان، أحدهما: يكفي، كما تقبل الشهادة مع احتمال الغلط، والثاني: المنع، لان الشهادة تستند إلى معاينة، وقال الروياني في جمع الجوامع: لو شهد عدلان بسرقة، فقوم أحدهما المسروق نصابا، والآخر دونه، فلا قطع، وأما المالك فإن رضي بأقل القيمتين فذاك وله أن يحلف مع الذي شهد بالاكثر ويأخذه، ولو شهدا بأنه نصاب، وقومه آخران بدونه، فلا قطع، ويؤخذ في الغرم بالاقل، وقال أبو حنيفة بالاكثر. فرع القيمة تختلف بالبلاد والازمان، فيعتبر في كل مكان وزمان قيمة ذلك المكان والزمان. فرع ادعى السارق نقص قيمة المسروق عن النصاب، لم يقطع، فإن قامت بينة بأن قيمته نصاب، قطع. فرع نقصت قيمة المسروق في الحرز عن نصاب، بأن أكل بعضه، أو أحرقه، وأخرج دون نصاب، فلا قطع، وإن نقص بعد الاخراج، قطع، ولو شق الثوب في الحرز، أو ذبح الشاة في الحرز، ثم أخرجه، فعليه ضمان النقص، وإن

(7/329)


كان المخرج نصابا، قطع، وإلا فلا. فرع سواء كان النصاب المسروق لواحد أو لجماعة، فيجب القطع إذا اتحد الحرز. الشرط الثاني: أن يكون مملوكا لغير السارق، فلا قطع على من سرق مال نفسه من يد غيره، كيد المرتهن والمستأجر والمستعير والمودع [ وعامل القراض والوكيل والشريك، فلو أخذ مع ماله نصابا آخر، لزمه القطع، ولو سرق ما اشتراه من يد البائع في زمن الخيار أو بعده، فلا قطع، وإن سرق معه مالا آخر، فإن كان قبل أداء الثمن، قطع، وإن كان بعده، فلا قطع على الاصح، كمن سرق من دار اشتراها، ولو وهب له شئ، فسرقه بعد القبول وقبل القبض، فالصحيح أنه لا قطع، بخلاف ما لو أوصى له بشئ فسرقه قبل موت الموصي، فإنه يقطع، وإن سرق بعد موت الموصي وقبل القبول، بني على أن الملك في الوصية بماذا يحصل ؟ إن قلنا: بالموت، لم يقطع، وإلا قطع، ولو أوصى بمال للفقراء، فسرقه فقير بعد موته، لم يقطع، كسرقة المال المشترك وإن سرقه غني، قطع. فرع لو طرأ الملك في المسروق قبل إخراجه من الحرز، بأن ورثه السارق، أو اشتراه، أو اتهبه وهو في الحرز، فلا قطع، وإن طرأ الملك بعد إخراجه من الحرز، لم يسقط القطع، لكن لو وقع ذلك قبل الرفع إلى القاضي لم يمكن استيفاء القطع بناء على أن استيفاء القطع يتوقف على دعوى المسروق منه ومطالبته بالمال كما سيأتي إن شاء الله تعالى. فرع إذا ادعى السارق أن ما أخذه على صورة السرقة ملكه، فقال: كان قد غصبه مني، أو من مورثي، أو كان وديعة لي عنده، أو عارية، أو كنت اشتريته منه، أو وهبه لي وأذن لي في قبضه، أو أذن لي في أخذه، لم يقبل قوله في المال، بل يصدق المأخوذ منه بيمينه في نفي الغصب والبيع والهبة، وبلا يمين في قوله: أذن لي في أخذ ماله، ويسقط القطع بدعوى الملك على الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور، وفيه وجه أو قول مخرج، ويجري الخلاف فيما لو ادعى أن

(7/330)


المسروق منه عبده، وهو مجهول النسب، أو أن الحرز ملكه غصبه منه المسروق منه، وفيما إذا شهد عليه بزنى، فادعى أن المرأة زوجته، أو كانت أمة، فقال: باعنيها مالكها، ورأى الامام الاصح في حد الزنى أنه لا يسقط بهذه الدعوى بناء على المذهب فيما إذا قامت بينة أنه زنى بأمة فلان الغائب أنه يحد، ولا ينتظر حضور الغائب بخلاف مثله في السرقة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولا يجري فيمن قطع يد إنسان وادعى أنه أذن له في قطعها، بل يقتص منه بلا خلاف، لان القطع حق آدمي، فهو كالمال، ولو أقر المسروق منه أن المال كان ملك السارق، فلا قطع بلا خلاف، وإذا قلنا: بالمنصوص، فسرق شخصان، وادعيا أن المسروق ملكهما، لم يقطعا، وإن ادعاه أحدهما لنفسه أولهما وأنكره الآخر، واعترف بالسرقة، فلا قطع على المدعي، وفي المنكر وجهان، أصحهما: يقطع، ولو قال أحدهما: هذا ملك شريكي وأخذت معه بإذنه، وأنكر الشريك، فالذي نقله الاصحاب أنه كالصورة المتقدمة، لا قطع على من يدعي ملك الشريك، وفي الآخر الوجهان، وقال البغوي: ينبغي أن يقال: يقطع المنكر، وفي المدعى الوجهان، ولو سرق عبد وادعى أن المسروق ملك سيده، فإن صدقه السيد، فلا قطع، وكذا إن كذبه على الاصح. فرع قال الامام: يجري الخلاف في دعوى الملك إذا ظهرت صورة السرقة، فإن سرق من حرز هو بما فيه في يد رجل، ولم تقم بينة مفصلة، فقال السارق: هو ملكي، فعلى قولنا بسقوط القطع ببقاء النزاع بينهما في المال، فيصدق المأخوذ منه بيمينه، وإن قلنا: لا يسقط القطع بالدعوى، فإن حلف المسروق منه، ثبت القطع مع المال، ويجئ الخلاف في أن القطع يثبت باليمين المردودة، والاصح ثبوته كما سنذكره إن شاء الله تعالى، ويجري أيضا فيما لو قامت بينة مفصلة يثبت مثلها في السرقة، فقال السارق: كان أباحه، أو وهبه، أو باعه لي، واعتمد الشهود ظاهر الحال، أما إذا قال: لم يزل ملكي وكان غصبنيه، أو قال: ما سرقت أصلا، فهذا يناقض قول الشهود ويكذبهم، فهل يسقط به الحد

(7/331)


تفريعا على أن الدعوى التي لا تكذبهم مسقطة ؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم، قال ابن كج: موضع الخلاف في أن القطع يسقط بدعوى السارق الملك ما إذا حلف المسروق منه على نفي الملك الذي يدعيه، أما لو نكل حلف وحلف السارق، فيستحق المال، ويسقط عنه القطع بلا خلاف، ولو نكل السارق أيضا، فيشبه أن يجئ فيه الخلاف. الشرط الثالث: أن يكون محترما، فلو سرق خمرا، أو كلبا، أو جلد ميتة غير مدبوغ، فلا قطع، سواء سرقه مسلم أم ذمي، لانه ليس بمال، فلو كان الاناء الذي فيه الخمر يساوي نصابا، قطع على الاصح المنصوص، وإن كان فيه بول، فالمذهب وجوب القطع، وطرد صاحب البيان فيه الوجهين، وطردهما فيما يستهان به، كقشور الرمان، وهو بعيد، بل الصواب القطع بالوجوب، ولو سرق آلات الملاهي، كالطنبور والمزمار، أو صنما، فإن كان لا يبلغ بعد الكسر والتغيير نصابا، فلا قطع، وإن بلغه، قطع على الاصح عند الاكثرين منهم العراقيون والروياني، لانه سرق نصابا من حرز، واختار الامام وأبو الفرج الزاز أنه لا قطع من الملاهي فأشبه الخمر، ولانه غير محرز، لان كل أحد مأمور بإفساد الآت الملاهي، ويجوز الهجوم على الدور لكسرها وإبطالها، ولانه لا يجوز إمساكها، فهي كالمغصوب يسرق من حرز الغاصب، ثم الوجهان فيما إذا قصد السرقة، أما إذا قصد بإخراجها أن يشهد تغييرها وإفسادها، فلا قطع بلا خلاف، ولو كسر ما أخذه في الحرز، ثم أخرجه وهو يبلغ نصابا، قطع على المذهب، ولو سرق آنية ذهب أو فضة، ففي المهذب والتهذيب إنه يقطع لانها تتخذ للزينة، والوجه ما قاله صاحب البيان أنه يبنى على اتخاذها، إن جوزناه قطع، وإلا فلا، كالملاهي، وكذا ذكره الامام، لكنه رأى نفي القطع بعيدا.

(7/332)


الشرط الرابع: أن يكون الملك تاما قويا وفيه مسائل: إحداها: إذا سرق أحد الشريكين من حرز الآخر مالهما المشترك، فهل يقطع ؟ قولان، أظهرهما: لا، لان له في كل قدر جزءا وإن قل، فيصير شبهة، كوطئ المشتركة، فعلى هذا لو سرق ألف دينار له منه قدر دينار شائعا، لم يقطع، والثاني: نعم، إذ لا حق له في نصيب الشريك، فعلى هذا ثلاثة أوجه، قال الاكثرون: إن كان المال بينهما بالسوية، فسرق نصف دينار فصاعدا، فقد سرق من الشريك نصابا، وإن كان ثلثاه للسارق، فإذا سرق ثلاثة أرباع فقد سرق منه نصابا، والثاني: إنما يجعل سارقا لنصاب من الشريك إذا زاد المأخوذ على قدر حقه بنصاب، فلو كان بينهما مناصفة، فسرق نصف المال وزيادة ربع دينار، أو كان ثلثاه للسارق، فسرة ثلثيه وزيادة لا تبلغ ربع دينار، فلا قطع، والثالث: إن كان المشترك مما يجبر على قسمته، كالحبوب وسائر المثليات، فلا قطع حتى يزيد المأخوذ على قدر حصته بنصاب، وإن كان مما لا يجبر فيه، كالثياب، فإذا سرق نصف دينار إن اشتركا بالسوية أو ثلاثة أرباع دينار إن كان الثلثان للسارق، قطع. الثانية: إذا سرق من مال بيت المال، نظر إن سرق مما أفرز لطائفة مخصوصين وليس السارق منهم، قطع، قال الامام: وكذا الفئ المعد للمرتزقة تفريعا على أنه ملكهم، وإن سرق من غيره، فأوجه، أحدها وهو مقتضى إطلاق العراقيين: لا قطع، سواء كان غنيا أو فقيرا، وسواء سرق من الصدقات، أو مال المصالح، والثاني: يقطع، وأصحها: التفصيل، فإن كان السارق صاحب حق في المسروق، بأن سرق فقير من الصدقات، أو مال المصالح، فلا قطع، وإن لم يكن صاحب حق فيه، كالغني، فإن سرق من الصدقات، قطع، وإن سرق من المصالح، فلا قطع على الاصح، لانه قد يصرف ذلك إلى عمارة المساجد والرباطات والقناطير فينتفع بها الغني والفقير، أما إذا سرق ذمي مال المصالح، فالصحيح أنه يقطع، لانه مخصوص بالمسلمين، ولا ينظر إلى إنفاق الامام عليهم عند الحاجة، لانه إنما ينفق للضرورة، وبشرث الضمان، ولا ينظر إلى انتفاعه بالقناطر والرباطات، لانه إنما ينتفع تبعا، وفي وجه: لا قطع، واختاره البغوي وقال:

(7/333)


ينبغي أن لا يكون إنفاق الامام عليه بشرط الضمان، قال: وهذا في مال المصالح، أما لو سرق من مال من مات ولم يخلف وارثا فعليه القطع، لانه إرث للمسلمين خاصة، ولو كفن مسلم من بيت المال، فسرق نباش كفنه، قطع إذا لم يبق لغير الميت فيه حق، كما لو كساه حيا. الثالثة: إذا سرق ستر الكعبة وهو محرز بالخياطة عليه، فالمذهب وجوب القطع وبه قطع الجمهور ونقل ابن كج فيه قولين، والمعروف الاول، وألحقوا باب المسجد وجذعه وتأزيره وسواريه، فأوجبوا القطع بسرقتها، قالوا: ولا قطع بسرقة ما يفرش في المسجد من حصير وغيره، ولا في القناديل المسرجة، لانها معدة لانتفاع الناس، والقناديل التي لا تسرج، ولا يقصد منها إلا الزينة كالابواب، هذه طريقة الجمهور، ورأى الامام تخريج وجه في الابواب والسقوف، لانها من أجزاء المسجد، والمسجد مشترك وذكر في الحصر والقناديل ونحوها ثلاثة أوجه، ثالثها: الفرق بين ما يقصد به الاستضاءة أو الزينة، وكل هذا في المسلم، أما الذمي إذا سرق الباب أو الحصير أو غيرهما، فيقطع بلا خلاف، وذكر الفوراني في سرقة بكرة اليد المسبلة أنه يقطع، وكذا حكاه البغوي قال: والوجه عندي أنها كحصير المسجد، لانها لمنفعة الناس. الرابعة: لو سرق مالا موقوفا، أو مستولدة وهي نائمة، أو مجنونة، وجب القطع على الاصح بخلاف المكاتب، لانه في يد نفسه، وكذا من بعضه حر، ولو سرق من غلة الارض الموقوفة أو ثمرة شجرة موقوفة، قطع بلا خلاف، فلو كان للسارق استحقاق، أو شبهة استحقاق، بأن وقف على جماعة، فسرقه أحدهم، أو سرق أبو بعض الموقوف عليهم، أو ابنه، أو وقف على الفقراء، فسرق فقير، فلا قطع بلا خلاف. فرع الصحيح وجوب الحد على من زنى بجارية بيت المال، وإن لم يجب القطع بسرقة مال. الشرط الخامس: أن لا يكون فيه شبهة استحقاق للسارق وفيه مسائل:

(7/334)


احداها: سرق مستحق الدين مال المدين، نص أنه لا قطع، فقيل بإطلاقه، والاصح: التفصيل، فإن أخذه لا بقصد استيفاء الحق، أو بقصده، والمدين غير جاحد ولا مماطل، قطع، وإن قصده وهو جاحد أو مماطل، فلا قطع، ولا فرق بين أن يأخذ من جنس حقه، أو من غيره، وقيل: يختص بمن أخذ جنس حقه، والصحيح الاول، ولو أخذ زيادة على قدر حقه، فلا قطع على الصحيح، لانه إذا تمكن من الدخول والاخذ، لم يبق المال محرزا عنه، وقيل: إن بلغت الزيادة نصابا وهي مستقلة، قطع. الثانية: من يستحق النفقة بالبعضية على المسروق منه، لا يقطع بسرقة ماله، ويقطع بسرقة مال الاخ وسائر الاقارب، ولو سرق أحد الزوجين مال الآخر، إن لم يكن محرزا عنه، فلا قطع، وإلا فثلاثة أقوال، أظهرها: يقطع، والثاني: لا، والثالث: يقطع الزوج دون الزوجة، وقيل: يقطعان بلا خلاف، قال الاصحاب: ومن لا يقطع بسرقة مال شخص، لا يقطع عبده بسرقة مال ذلك الشخص، فلا يقطع العبد بسرقة مال أبي سيده وابنه، وفي قطع عبد أحد الزوجين بسرقته مال الآخر الخلاف، وفي وجه يقطع العبد وإن لم يقطع سيده، ورجحه الامام، والصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور هو الاول، لان يد العبد كيد السيد، ولو سرق مكاتب أحد الزوجين مال الآخر وقلنا: لا قطع على العبد فوجهان، كما لو سرق المكاتب مال سيده، ففيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن القاضي حسين أنا إذا لم نقطع أحد الزوجين بسرقة مال الآخر، ينبغي أن لا يقطع ولد أحدهما بسرقة مال الآخر، وغلط القاضي في ذلك، ولو كان لرجل زوجتان، سرقت إحداهما مال الاخرى، أو سرق مال زوجة أبيه، أو ابنه، فالمذهب وجوب الحد، ولا يقطع العبد بسرقة مال سيده بخلاف ما لو زنى بجاريته، والمدبر وأم الولد ومن بعضه حر في كل ذلك كالقن، وكذا المكاتب في الاصح، ولا خلاف أن السيد لا يقطع بما

(7/335)


في يد مملوكه وإن قدرنا له ملكا، ولو سرق ممن بعضه مملوكه ما ملكه ببعضه الحر، قال القفال: لا يقطع، وقال الشيخ أبو علي: يقطع. الثالثة: لو أخذ المال على صورة السرقة على ظن أن المأخوذ ملكه، أو ملك أبيه، أو ابنه أن الحرز ملكه، فلا قطع على الاصح للشبهة. فرع في صور يتوهم أنها شبهة، وليست مؤثرة، فلا أثر لكون المسروق مباح الاصل، كالحطب والحشيش والصيد ومال المعدن، ولا لكونه معرضا للفساد، كالرطب والتين والرياحين والشواء والهريسة والجمد والشمع المشتعل، ولو سرق عينا فقطع، ثم سرقها من المالك الاول أو غيره، قطع ثانيا، ولا يشترط كون المسروق في يد المالك، بل السرق من يد المودع والمرتهن والوكيل وعامل القراض والمستعير والمستأجر، يوجب القطع، والخصم فيها الما - ك، وإذا قلنا: الماء لا يملك، فلا قطع بسرقته، وإن قلنا: يملك، قطع في الاصح، ووجه المنع أنه تافه، ويجري الوجهان في سرقة التراب، لانه لا تقصد سرقته لكثرته، ويجب القطع بسرقة المصحف وكتب التفسير والحديث والفقه، وكذا الشعر الذي يحل الانتفاع به، وما لا يحل الانتفاع به لا قطع فيه إلا أن يبلغ الجلد والقرطاس نصابا، ويجب القطع بسرقة قرون الحيوان. الشرط السادس: كونه محرزا، فلا قطع في سرقة ما ليس بمحرز، ويختلف الحرز باختلاف الاحوال والاموال، والتعويل في صيانة المال وإحرازه على شيئين، أحدهما: الملاحظة والمراقبة، والثاني: حصانة الموضع ووثاقته، فإن لم يكن للموضع حصانة، كالموضوع في صحراء، أو مسجد، أو شارع، اشترط مداومة اللحاظ، وإن كان له حصانة، وانضم إليها اللحاظ المعتاد، كفى، ولم تشترط مداومته، ويحكم في ذلك العرف، وتفضيله بمسائل: احداها: الاصطبل حرز الدواب مع نفاستها وكثرة قيمتها، وليس حرزا للثياب والنقود، والصفة في الدار وعرصتها حرزان للاواني وثياب البذلة دون الحلي

(7/336)


والنقود، لان العادة فيها الاحراز في المخازن، وكذا الثياب النفيسة تحرز في الدور، وفي بيوت الحانات وفي الاسواق المنيعة، والمتبن حرز للتبن دون الاواني والفرش. واعلم أن ما كان حرزا لنوع كان حرزا لما دونه، وإن لم يكن حرزا لما فوقه. الثانية: إذا نام في صحراء، أو مسجد، أو شارع على ثوبه، أو توسد عيبته أو متاعه، أو اتكأ عليه، فسرق الثوب من تحته، أو العيبة، أو أخذ المنديل من رأسه، أو المداس من رجله، أو الخاتم من أصبعه، وجب القطع، لانه محرز به، ولو زال رأسه عما توسده، أو انقلب في النوم عن الثوب وخلاه، فلا قطع بسرقته، ولو رفع السارق النائم عن الثوب أولا، ثم أخذه، فلا قطع، ولو وضع متاعه أو ثوبه بقربه في الصحراء أو المسجد، فإن نام أو ولاه ظهره، أو ذهل عنه بشاغل، لم يكن محرزا، وإن كان متيقظا يلاحظه فتغفله السارق، وأخذ المال، قطع على الصحيح، وهل يشترط أن لا يكون في الموضع زحمة الطارقين ؟ وجهان، أحدهما: لا، وتكفي الملاحظة، لكن لا بد بسبب الزحمة من مزيد مراقبة وتحفظ، وأصحهما: نعم، وتخرجه الزحمة عن كونه محرزا، وأجري الوجهان في الخباز والبزاز وغيرهما إذا كثرت الزحمة على حانوته، قال الامام: ولو وضع المتاع في شارع، ولاحظه جمع، صار عدد اللاحظين في معارضة عدد الطارقين، كلاحظ في الصحراء في معارضة طارق، ويشترط كون الملاحظ بحيث يقدر على المنع لو

(7/337)


اطلع على سارق إما بنفسه، وإما بالاستغاثة، فإن كان ضعيفا لا يبالي به السارق، والموضع بعيد عن الغوث، فليس بحرز، بل الشخص شائع مع ماله، وينبغي أن لا يفرق بين كون الصحراء مواتا أو غيره. واعلم أن الركن الاول في كونه محرزا الملاحظة، فلا تكفي حصانة الموضع على أصل الملاحظة، حتى إن الدار المتفردة في طرف البلد لا تكون حرزا وإن تناهت في الحصانة، وكذا القلعة المحكمة، لانه إذا لم يكن الموضع على أصل الملاحظة، حتى إن الدار المنفردة في طرف البلد لا تكون خطر، لكن لا يحتاج مع الحصانة إلى دوام الملاحظة بخلاف ما ذكرنا في الصحراء. فرع لو أدخل يده في جيب إنسان أو كمه، وأخذ المال، أو طر جيبه، أو كمه، وأخذ المال، قطع، لانه محرز به، وسواء ربطه من داخل الكم، أم من خارجه أم لم يربطه ؟ وإن أخذه من رأس منديل على رأس، قال البغوي: إن كان قد شده عليه، قطع، وإلا فلا. الثالثة: الدار إن كانت منفصلة عن العمارات، بأن كانت في بادية، أو في الطرق الخراب من البلد، أو في بستان، فليست بحرز إن لم يكن فيها أحد، سواء كان الباب مفتوحا أو مغلقا، فإن كان فيها صاحبها، أو حافظ آخر، نظر إن كان نائما والباب مفتوح، فليست حرزا، وإن كان مغلقا فوجهان، الذي أجاب به الشيخ أبو حامد ومن تابعه: أنه محرز، والذي يقتضيه إطلاق الامام والبغوي خلافه. قلت: الذي قاله أبو حامد أقوى، وجزم الرافعي في المحرر بأنه غير محرز. والله أعلم. وإن كان من فيها متيقظا، فالامتعة فيها محرزة، سواء كان الباب مفتوحا أو مغلقا، لكن لو كان ممن لا يبالي به وهو بعيد عن الغوث، فالحكم على ما ذكرناه في الملحوظ بعين الضعيف في الصحراء، وإن كانت الدار متصلة بدور أهله، نظر إن كان الباب مغلقا وفيها صاحبها، أو حافظ آخر، فهي حرز لما فيها ليلا ونهارا متيقظا كان الحافظ أو نائما، وإن كان الباب مفتوحا، فإن كان من فيها نائما لم يكن حرزا ليلا قطعا، ولا نهارا في الاصح، وقيل: حرز نهارا في زمن الامن من النهب وغيره،

(7/338)


وإن كان من فيها متيقظا لكنه لا يتم الملاحظة بل يتردد في الدار، فتغفله إنسان فسرق، لم يقطع على الاصح المنصوص للتقصير بإهمال المراقبة مع فتح الباب، ولو كان يبالغ في الملاحظة بحيث يحصل الاحراز بمثله في الصحراء، فانتهز السارق فرصة، قطع بلا خلاف، ولو فتح صاحب الدار بابها، وأذن للناس في الدخول كشراء متاعه، كما يفعله من يخبز في داره فوجهان، لان الزحمة تشغل، فأما إذا لم يكن فيها أحد، فالمذهب وبه قطع البغوي: أنه إن كان الباب مغلقا، فهو حزر بالنهار في وقت الامن، وليس حرزا في وقت الخوف ولا في الليل، وإن كانت مفتوحا، لم يكن حرزا أصلا، ومن جعل الدار المنفصلة عن العمارات حرزا عند إغلاق الباب فأولى أن يجعل المتصلة بها عند الاغلاق حرزا، وإذا ادعى السارق أن صاحب الدار: نام، أو ضيع ما فيها وأعرض عن اللحاظ، فقال الغزالي: يسقط القطع بمجرد دعواه، كما في دعوى الملك، ويجئ فيه الوجه المذكور هناك. واعلم أن الامر في كل هذا مبني على العادة الغالبة في الاحراز، وعلى هذا الاصل، قال الاصحاب: النقد والجوهر والثياب لا تكون محرزة إلا بإغلاق الباب عليها، وأمتعة العطارين والبقالين والصيادلة إذا تركها على باب الحانوت ونام فيه، أو غاب عنه، فإنه ضم بعضها إلى بعض وربطها بحبل، أو علق عليها شبكة، أو وضع لوحين على باب الحانوت مخالفين، كفى ذلك إحرازا في النهار، لان الجيران والمارة ينظرونها، وإن تركها مفرقة ولم يفعل شيئا مما ذكرناه، لم تكن محرزة، وأما بالليل، فلا تكون محرزة إلا بحارس، قال الروياني. والبقل والفجل قد يضم بعضه إلى بعض، ويطرح عليه حصير، ويترك على باب الحانوت وهناك حارس ينام ساعة، ويدور ساعة، فيكون محرزا، وقد يزين العامي حانوته أيام العيد بالامتعة النفيسة، ويشق عليه رفعها ليلا، فيتركها، ويلقى عليها نطعا، وينصب حارسا، فتكون محرزة بخلاف سائر الايام، لان أهل السوق يعتادون ذلك، فيقوى بعضهم ببعض، والثياب على باب حانوت القصار والصباغ، كأمتعة العطارين، هذا فيما ينقل في العادة إلى داخل بناء ويغلق عليه باب، فأما الامتعة الثقيلة التي يشق نقلها،

(7/339)


كالحطب، فهي محرزة بأن يشد بعضها إلى بعض، وكذلك الخزف والقدور تحرز بالشرائح التي تنصب على وجه الحانوت، وإن تركت متفرقة لم تكن محرزة، وفي وجه لا يكفي الشد، بل يشترط أن يكون عليها باب مغلق، أو يكون على سطح محوط، والاول أصح حيث جرت العادة به، وكذا الطعام في الغرائر في موضع البيع محرزا إذا شد بعضها إلى بعض بحيث لا يمكن أخذ شئ منه إلا بحل الرباط، أو فتق بعض الغرائر، نص عليه الشافعي رحمه الله، والحطب والقصيل على السطح المحوط محرزان، والاجذاع الثقال على أبواب المساكين محرزة، وقال البغوي: متاع البقال في الحانوت في الليل محرز في وقت الامن إذا كان الباب، مغلقا، وفي غير وقت الامن لا بد من حارس، ومتاع البياع والبزار، لا يكون محرزا إلا بالحارس، وإن الكدس في الصحراء والبذر المستتر بالتراب، والزرع والقطن، قصيلا كانا، أو اشتد الحرب وخرج الجوزق ليست محرزة إلا بحارس، وفي جمع الجوامع للروياني أن الزرع في المزارع محرز وإن لم يكن حارس، وفي تعليقه الشيخ إبراهيم المروزذي أن الزرع إذا كان قصيلا لا يحتاج إلى حارس لانه يحفظ مثله في العادة، وهذا يجري في البذر المستتر، ولو كانت هذه الاشياء في محوط فهي كالثمار في البساتين، والثمار على الاشجار إنك كانت في برية لا تكون محرزة إلا بحارس، وفي الكرم والبساتين المحوطة كذلك إن كانت بعيدة عن الطرق والمساكن، وإن كانت متصلة بها، والجيران يراقبونها في العادة، فهي محرزة، وإلا فيحتاج إلى حارس والاشجار في أفنية الدور محرزة، وفي البرية تحتاج إلى حارس، والحنطة في مطامير المفازة، والتبن في المتبن، والثلج في المثلجة، والجمد في المجمدة في الصحراء غير محرزة إلا بحارس، وباب الدار والحانوت والمغلاق والحلقة على الباب محرزة بالتركيب والتسمير، وكذا الآجر إذا سرق من صحن الدار، أو استخرجه من الجدار داخلا أو خارجا، ليلا أو نهارا، وجب القطع، والشرط في كونها محرزة أن تكون الدار بحيث تحرز ما فيها، ولو كان باب الدار مفتوحا، فدخل داخل، وقلع باب بيت وأخرجه، فعن أبي إسحق أنه لا قطع، كما لو أخذ متاعا منها، وقال الاكثرون: يقطع، والباب محرز بالتركيب كباب الدار، والقفل على الباب محرز كالباب والحلقة، وقال ابن سلمة: ليس

(7/340)


بمحرز، لانه للاحراز به لا لاحرازه، والاول أصح. المسألة الرابعة: الخيام بربطها وتنضيد الامتعة فيها له تأثير في الاستغناء عن دوام اللحاظ المعتبر في الامتعة الموضوعة في الصحراء، لكنها ليست كالدور في الحصانة، لانها في نفسها قابلة للسرقة، فإذا ضرب في صحراء خيمة، وآوي إليها متاعا، فسرق منها، أو سرقت هي، نظر إن لم يشد أطنابها، ولم يرسل أذيالها، فهي وما فيها كالمتاع الموضوع في الصحراء، وإن شدها بالاوتاد وأرسل أذيالها، فإن لم يكن صاحبها فيها، فلا قطع، وقيل: الخيمة محرزة دون ما فيها، والصحيح الاول، وإن كان صاحبها في نفسها مستيقظا، أو نائما، أو نام بقربها، وجب القطع بسرقتها أو سرقة ما فيها لحصول الاحراز في العادة، قال الائمة: والشرط أن يكون هناك من يتقوى به، فأما إذا كان في مفازة بعيدة عن الغوث وهو ممن لا يبالي به، فليس بحرز، ولو ضرب خيمة بين العمارة، فهو كالمتاع الموضوع بين يديه في السوق، وهل يشترط إسبال باب الخيمة إذا كان من فيها نائما ؟ وجهان، أصحهما: لا، ولو شدها بالاوتاد ولم يرسل أذيالها وكان يمكن دخولها من كل وجه، فهي محرزة وما فيها كيس بمحرز، هكذا ذكروه، وقد يفهم منه أن الامتعة والاحمال إذا شد بعضها ببعض تكون محرزة بعض الاحراز، وإن لم يكن هناك خيمة، ولو أن السارق يجئ النائم في الخيمة، ثم سرق، فلا قطع، لانها لم تكن حرزا حين سرق. الخامسة: المواشي في الابنية المغلقة الابواب محرزة إن اتصلت بالعمارة، سواء كان صاحبها فيها أم لم يكن، للعادة، وإن كانت في برية، لم تكن محرزة إلا إذا كان صاحبها فيها مستقيظا، أو نائما، فإن كان الباب مفتوحا، اشترط كونه مستيقظا، ويكفي أن يكون المراح من حطب أو حشيش، وأما في غير الابنية فلها أحوال. احدها: أن تكون الابل ترعى في صحراء، فهي محرزة إذا كان معها حافظ يراها جميعا، ويبلغها صوته، فإن لم ير بعضها، لكونه في وهدة أو خلف جبل أو حائط، فذلك البعض غير محرز، ولو نام، أو تشاغل لم تكن محرزة، ولو لم يبلغ صوته بعضها ففي المهذب وغيره أن ذلك البعض غير محرز، وسكت آخرون عن اعتبار بلوغ الصوت اكتفاء بالنظر، لانه إذا قصد ما يراه أمكنه العدو إليه، وحكم

(7/341)


الخيل والبغال والحمير وهي ترعى حكم الابل، وكذا الغنم إذا كان الراعي على نشز من الارض يراها جميعا فهي محرزة إذا بلغها صوته، وإن كانت متفرقة. الثاني: أن تكون سائرة، أما الابل فإن كانت مقطورة يسوقها سائق، فمحرزة إن انتهى نظره إليها، وإن كانت يقودها اشترط أن ينظر إليه كل ساعة، وينتهي نظره إليها إذا التفت، فإن كان لا يرى البعض لحائل جبل أو بناء، فذلك البعض غير محرز، وحكى ابن كج وجها أنه لا يشترط انتهاء النظر إلى آخرها، وليجئ هذا في سوقها، ولو ركب الحافظ أولها فهو كقائدها، ولو ركب غير الاول، فهو لما بين يديه كسائق، ولما خلفه كقائد، وحيث يشترط انتهاء نظره إليها ففي اشتراط بلوغ الصوت ما سبق، وقد يستغنى بنظر المارة عن نظره إذا كان يسيرها في سوق مثلا، أما إذا لم تكن مقطورة، بأن كانت تساق أو تقاد، فمنهم من أطلق أنها غير محرزة، لانها لا تسير هكذا غالبا، وبهذا قطع البغوي وقال صاحب الافصاح: المقطورة وهذه سواء، وبهذا أخذ الروياني، المعتبر أن تقرب منه، ويقع نظره عليها، ولا تعتبر صورة القطر، فإن اعتبرناه، فيشترط أن لا يزيد القطار الواحد على تسعة للعادة الغالبة، فإن زاد فهي كغير المقطورة، ومنهم من أطلق ذكر القطر ولم يقيد بعدد، والاصح توسط ذكره أبو الفرج السرخسي فقال: في الصحراء لا يتقيد بعدد، وفي العمران يعتبر ما جرت العادة بأن يجعل قطارا، وهو ما بين سبعة إلى عشرة، فإن زاد، لم تكن الزيادة محرزة، والخيل والبغال والحمير والغنم السائرة، كالابل السائرة إذا لم تكن مقطورة، ولم يشترطوا القطر فيها، لكنه معتاد في البغال، ويختلف عدد الغنم المحرزة بالواحد بالبلد والصحراء. الثالث: أن تكون الابل مناخة، فإن لم يكن معها أحد، فليس محرزة، وإن كان معها صاحبها، فإن كانت معقولة، لم يضر نومه ولا اشتغاله عنها، لان في حل المعقولة ما يوقظ النائم والمشتغل، وإن لم تكن معقولة اشترط أن ينظر إليها ويلاحظها. فرع الطعام على دابة محرزة محرز، فيقطع سارقه سواء من الوعاء، أو مع الوعاء، أو مع الدابة، ولو ساق بقرة وتبعها عجلها، فإنما يكون العجل محرزا إذا قرب منه بحيث يراه إذا التفت، وأن يلتفت كل ساعة كما سبق في قائد القطار،

(7/342)


وعن المسعودي أن الغنم المرسلة في سكة تشرع إليها أبواب الدور لا تكون محرزة حتى تأوي إلى موضع، وليكن هذا فيما إذ كثرت، وتعذرت الملاحظة، ومن دخل مراحا، وحلب الغنم، أو جز صوفها وأخرج منه نصابا، قطع. السادسة: إذا نبش قبرا وسرق منه الكفن، فالمذهب وجوب القطع في الجملة، وبه قطع الجمهور وحكى ابن خيران وابن الوكيل قولا آخر أنه لا قطع فيه بحال، لانه موضوع للبلى لا للاحراز، ويتفرع على المذهب صور. إحداها: إن كان القبر في بيت محرز، قطع بسرقة الكفن منه، وكذا لو كانت المقبرة محفوفة بالعمارة يندر تخلف الطارقين عنها في زمن يتأتى فيه النبش، أو كان عليها حراس مرتبون، ولو كان القبر في مفازة وبقعة ضائعة، فوجهان، أحدهما: ليس بحرز، وبه قطع صاحب المهذب والغزالي وعزاه إلى جماهير الاصحاب، لان السارق يأخذ من غير خطر، والثاني واختاره القفال والقاضي، ورجحه العبادي: القبر حرز للكفن حيث كان، لان النفوس تهاب الموتى، ولو كان القبر في بيت محرز فسرق الكفن حافظ البيت، فعلى الوجه الاول لا قطع، وعلى الثاني: يجب، ولو كان القبر في مقابر البلاد الواقعة على طرف العمارة، فإن كان لها حارس، وجب القطع، وإلا فوجهان، أصحهما: يجب أيضا، لانه حرز في العادة. الثانية: لو وضع في القبر شئ سوى الكفن، قال الامام: إن كان القبر في بيت، تعلق القطع بسرقته، وإن كان في المقابر فوجهان، أصحهما وبه قطع الجمهور: لا قطع للعادة، بخلاف الكفن، لان الشرع قطع فيه النباش، وجعله محرزا لضرورة التكفين والدفن، وخص الامام الوجه الآخر بما إذا كان من جنس الكفن، كثوب وضع فيه، وكما لو كفن في زيادة على خمسة أثواب، ففي الزيادة على الخمسة التي تلي الميت الوجهان، وليس الوجه مختصا فقد حكاه الروياني فيما لو وضع في القبر مضربة، أو وسادة للميت، وعن بعضهم أنه أجراه فيما لو وضع معه دراهم أو دنانير، بل في الرقم للعبادي أن القفال أوجب القطع فيما لو دفن معه مال في برية، والتابوت الذي يدفن فيه كالاكفان الزائدة، والزيادة على ما استحب تطييب الميت به، كسائر الاموال، وعن الماسرجسي أنه يقطع بالقدر

(7/343)


المتسحب كالكفن. الثالثة: إذا كفن من تركته، فلمن الكفن ؟ فيه أوجه، أصحها: للورثة، لكن يقدم الميت فيه كقضاء دينه وإن كان الملك للورثة، وعلى هذا لو سرقه بعض الورثة، أو ولد بعضهم، فلا قطع، والثاني: يبقى على ملك الميت لحاجته إليه وإن كان لا يثبت له الملك ابتداء، كما يبقى الدين عليه وإن لم يثبت عليه ابتداء، والثالث: أن الملك فيه لله عزوجل، فإن قلنا: الملك فيه للوارث، فهو الخصم في السرقة، وإن قلنا: للميت، فهل الخصم الوارث أم الحاكم ؟ وجهان، وإن قلنا: لله عزوجل، فالخصم الحاكم، هذا ما ذكره الاصحاب، وقال الامام: إن كان من يقول: الملك لله تعالى أو للميت، يقول: يتعين رده بعد ما أخذه النباش إلى الميت، ولا يجوز للوارث إبداله، فالتفريع والخلاف في أن الخصم من هو صحيح، لكن هذا قول عري عن التحصيل، والوجه عندي أن للوارث إبداله بعد انفصاله عن الميت، وحينئذ يجب الجزم بأنه الخصم لا غير، ولو أكل الميت سبع، أو ذهب به سيل، وبقي الكفن، فإن قلنا: إنه ملك الورثة، اقتسموه، وإن قلنا: ملك الميت، فالاصح أنه يجعل في بيت المال لمصالح المسلمين، والثاني: أنه للورثة، وإن قلنا: لله تعالى، جعل في بيت المال قطعا، هذا كله إذا كفن من تركته، فإن كفنه أجنبي، أو كفن من بيت المال، فلمن الملك فيه ؟ فيه طريقان: أحدهما: على الاوجه، والثاني: للاجنبي، أو على حكم بيت المال، ويكون كالعارية. قلت: هذا أصح. والله أعلم. والقول في أن الخصم في السرقة من هو، وفي أنه لو أكله سبع إلى من يرد الكفن ؟ مبني على الخلاف في الملك. فرع كفن سيد عبده، فهل الكفن ملك السيد أم لا يملكه أحد ؟ وجهان، أصحهما: الاول، ولو سرق الكفن وضاع، كفن ثانيا من التركة، فإن لم يكن، فهو كمن مات ولا تركة له. قلت: هكذا جزم صاحب التتمة بأنه يجب تكفينه ثانيا من التركة، وقال

(7/344)


صاحب الحاوي: إذا كفن من ماله وقسمت التركة، ثم سرق الكفن، استحب للورثة تكفينه ثانيا، ولا يلزمهم ذلك، وهذا قوي. والله أعلم. وإنما يقطع النباش إذا أخرج الكفن من جميع القبر، أما إذا أخرجه من اللحد إلى فضاء القبر، وتركه هناك لخوف أو غيره، فلا يقطع، هكذا نص عليه الشافعي رحمه الله عنه، ويجوز أن يخرج على الخلاف في الاخراج من بيت إلى صحن الدار. فصل إذا كان الحرز ملكا للسارق، نظر إن كان في يد المسروق منه بإجارة، فسرق منه المؤجرة، قطع، لان المنافع مستحقة للمستأجر، وفي هذا الاستبدال إعلام بأن التصوير فيمن استحق بالاجارة إيواء المتاع دون من استأجر أرضا للزراعة فآوى إليها ماشية، وإن كان الحرز في يده بإعارة وسرق المعير منه مال المستعير، قطع على الاصح المنصوص، وقيل: لا، وقيل: إن دخل الحرز بنية الرجوع عن العارية فلا قطع، وإن دخل بنية السرقة قطع، ولو أعار عبدا لحفظ مال، أو رعي غنم، ثم سرق مما يحفظه عبده، فقيل: يقطع قطعا، وقيل: فيه الاوجه، ولو أعار قميصا، فلبسه المستعير، وطر المعير جيبه، وأخذ ما فيه، قطع ولو كان الحرز في يده بغصب، فسرق مالك الحرز منه، فلا قطع، لان دخوله جائز فليس محرزا عنه، وإن سرق منه أجنبي، لم يقطع على الاصح، ولو اشترى الحرز، وسرق منه قبل القبض مال البائع، فإن لم يكن أدى الثمن، قطع، وإلا فلا على الاصح، ولو غصب مالا، أو سرقة ووضعه في حرزه، فجاء مالك المال وسرق من ذلك الحرز مالا للغاصب، فلا قطع على الاصح، لان له دخول الحرز وهتكه لاخذ ماله، وخصص جماعة الوجهين بما إذا كان مال الغاصب متميزا لا عن ماله، سواء أخذه وحده أم مع مال نفسه، فأما إذا كان مخلوطا به بحيث لا يتميز أحدهما، فلا قطع قطعا، وهذا تفريع على أن المال المشترك لا يقطع به الشريك،

(7/345)


ولو سرق أجنبي المال المغصوب أو المسروق، لم يقطع على الاصح. فصل سرق طعاما في عام القحط والمجاعة، فإن كان يوجد عزيزا بثمن غال، قطع، وإن كان لا يوجد ولا يقدر عليه، فلا قطع، وعلى هذا يحمل ما جاء عن عمر رضي الله عنه: لا قطع في عام المجاعة.
الركن الثاني : نفس السرقة، وهي أخذ المال على وجه الخفية، فلا قطع على من أخذ عيانا، كالمختلس والمنتهب، فالمختلس: هو من يعتمد الهرب، والمنتهب: الذي يعتمد القوة والغلبة، ولا يقطع المودع إذا جحد، وفيه ثلاثة أطراف: الاول في إبطال الحرز، وقد يكون بالنقب وفتح الباب، وقد يكون بتغييبه عن نظر الملاحظ، وفيه صور: الاولى: إذا نقب، ثم عاد وأخرج نصابا في ليلة أخرى، فإن علم صاحب الحرز بالنقب، أو كان ظاهرا يراه الطارقون، وبقي كذلك، فلا قطع، لانتهاك الحرز، وإلا فيقطع على الاصح، وبه قال ابن سريج وغيره، كما لو نقب وأخرج المال آخر، ولو نقب واحد، ودخل آخر الحرز وأخرج المال في الحال، أو بعده لم يقطع واحد منهما، ويضمن الاول الجدار. والثاني ما أخذه، وقيل: في وجوب القطع على الثاني قولان، والمذهب الاول، فلو كان في الدار حافظ قريب من النقيب، وهو يلاحظ المتاع فهو محرز به، فيقطع الآخذ. وإن كان الحافظ نائما، لم يقطع في الاصح كما سبق فيمن نام في الدار وبابها مفتوح.

(7/346)


الثانية: تعاون شريكان على النقب، وأخرجا نصابين، بأن أخرج كل واحد نصابا، أو حملا متاعا يساوي نصابين، لزمهما القطع، وإن تعاونا على النقب، وانفرد أحدهما بالاخراج، فالقطع على المخرج خاصة، وحكى الامام في المخرج وجها شاذا جدا، ولو نقب واحد، ودخل مع آخر، وأخرجا المال، قطع الجامع بين النقب والاخراج دون الآخر، ولو اشتركا في النقب ولو يخرجا إلا نصابا، فقد سبق أنه لا قطع على واحد منهما، ولو أخرج أحدهما بعد الاشتراك في النقب ثلثا، والآخر سدسا، قطع صاحب الثلث دون الآخر، وفيما يحصل به الاشتراك في النقب وجهان، أحدهما: لا يحصل بأخذ آلة واحدة ويستعملاها معا، كما لا يحصل الاشتراك في قطع اليد إلا بأن يمرا حديدة واحدة، وأصحهما: تحصل الشركة وإن أخذ هذا لبنات وهذا لبنات. الثالثة: الشريكان في النقب، إذا دخل أحدهما ووضع المتاع قريبا من النقب، أو دخل أحد السارقين ووضعه قريبا من باب الحرز، وأدخل الآخر يده وأخذه، فالقطع على الثاني المخرج دون الاول، وكذا لو وقف أحدهما على طرف السطح، ونزل الآخر وجمع الثياب وربطها بحبل، فرفعها الواقف، فالقطع عليه لا على الاول، وعليهما الضمان، ولو وضع الداخل المتاع خارج الحرز أو الباب، وأخذه الآخر، فالقطع على المخرج دون الآخذ، ولو وضع المتاع على وسط النقب، فأخذه الآخر وأخرجه وهو يساوي نصابين فقولان، أحدهما: يقطعان، وأظهرهما: لا قطع على واحد منهما، ولو ناول الداخل الخارج في فم النقب، قال الروياني: لا يقطع واحد منهما، ذكره بعد حكايته القولين المذكورين، ويشبه أن يكون هذا تفريعا على الاظهر، وإلا فلا فرق، ولو نقب اثنان ودخلا، وأخذ أحدهما المال وشده على وسط الآخر، فخرج به الآخر، فالقطع على هذا الآخر دون الاول، ولو أن الآخر أخذ المال فأخرجه والمتاع في يده، قطع المحمول، وفي الحامل وجهان، أصحهما: لا يقطع، لانه ليس بجامل للمال، ولهذا لو حلف لا يحمل طبقا، فحمل رجلا حاملا طبقا، لا يحنث، ولو نقب زمن وأعمى، وأدخل الاعمى الزمن فأخذ المال، وحمله الاعمى وأخرجه، قطع الزمن، وفي الاعمى الوجهان، قال صاحب البيان: ولو أن الاعمى حمل الزمن وأدخله، فدل الزمن الاعمى على المال، وأخذه، وخرج به قطع الاعمى، ولا يقطع الزمن

(7/347)


على الاصح، ولو نقب واحد ودخل، فوضع المتاع على وسط النقب، فأخذه آخر، أو دخل غير الناقب ووضعه في الوسط، فأخذه الناقب، فلا قطع على واحد منهما. فرع لا فرق في هتك الحرز بين النقب، وكسر الباب، وقلعه، وفتح المغلاق والقفل، وتسور الحائط، فيجب القطع بأخذ المال في جميع هذا الاحوال. الطرف الثاني في وجوه النقل وفيه مسائل: إحداها: رمى المال إلى خارج الحرز من النقب أو الباب، أو من فوق الجدار، لزمه القطع، سواء أخذه بعد الرمي، أو تركه فضاع أو أخذه غيره، وقيل: إن لم يأخذه، فلا قطع، فعلى هذا لو أخذه معينة، ففيه تردد للامام، والصحيح الاول، لو أدخل يده في النقب، أو أدخل فيه محجنا، وأخرج المتاع، قطع، ولو أرسل محجنا أو حبلا في رأسه كلاب من السطح، وأخرج به ثوبا، أو إناء ونحوه، قطع. الثانية: لو أتلف المال في الحرز بأكل أو إحراق، فلا قطع، ولو ابتلع في الحرز جوهرة أو دينارا فثلاثة أوجه، أصحها: أنها إن خرجت منه بعد ذلك، قطع، وإلا فلا، والثاني: لا يقطع مطلقا، والثالث: يقطع، ونقل الغزالي وجها رابعا أنه إن أخذها بعد الانفصال عنه، قطع، وإلا فلا، ولم أره لغيره، ولو أخذ الطيب، فتطيب به في الحرز، ثم خرج، فإن لم يمكن أن يجمع منه ما يبلغ نصابا، فلا قطع، وكذا إن أمكن على الاصح، لان استعماله يعد إهلاكا، كأكل الطعام. الثالثة: لو كان في الحرز ماء جار فوضع عليه حتى خرج، قطع على الصحيح، وإن كان راكدا، وحركه حتى خرج به، فهو كالجاري، وإن حركه غيره، فخرج، فالقطع على المحرك، وإن زاد الماء بانفجار أو مجئ سيل، فخرج به، لم يقطع على الاصح، ولو كان في بستان أترج والماء يدخل من أحد طرفيه ويخرج من الآخر، فجمع نارا ووقودا ووضعه على الماء حتى دخل وعلا الدخان، فأسقط الاترج في المال ء، وخرج من الطرف الآخر، فأخذه، أو رمى الاشجار

(7/348)


بحجارة من خارج البستان حتى تناثرت الثمار في الماء، وخرجت من الجانب الآخر، لم يقطع على الصحيح، ولو كانت الريح تهب، فعرض المتاع حتى خرجت به، أو وضعه على طرف النقب، فطارت به الريح، قطع، ولا أثر لمعاونة الريح، كما أنها لا تمنع وجوب القصاص وحل الصيد والحالة هذه، ولو كانت الريح راكدة، فوضعه على طرف النقب، فهبت وأخرجته، فلا قطع على الاصح. الرابعة: لو وضع متاعا في حرز على ظهر دابة، وسيرها بسوق أو قود حتى خرجت، أو عقد اللؤلؤة على جناح طائر وطيره، قطع على المذهب، وبه قطع الاصحاب، وفي البيان وجه، ولو كانت الدابة في السير، فوضع المتاع عليها فخرجت به، فلا قطع فهو كما لو سيرها، ولو لم تكن سائرة ولا سيرها، بل كانت واقفة، فوضع المتاع عليها، فسارت وخرجت به، فلا قطع على الاصح، لان لها اختيارا في السير، وقيل: لا قطع بلا خلاف، وقيل: إن سارت في الحال، قطع، وإلا فوجهان، وقيل: إن وقفت، ثم سارت، فلا قطع، وإن سارت في الحال فوجهان، ولو أخرج شاة، فتبعها أخرى أو سخلتها، ولم تكن الاولى نصابا، ففيه هذا الخلاف، والمذهب أنه لا قطع في الصورتين، وفي دخول السخلة في ضمانه وجهان، ولو نقب الحرز، ثم أمر صبيا لا يميز بإخراج المال، فأخرجه فقال الجمهور: يجب القطع على الآمر قطعا، وقيل: على الخلاف في خروج البهيمة التي كانت واقفة، وإن كان مميزا وله اختيار صحيح ورؤية، فلا قطع، لانه ليس آلة له، والعبد الاعجمي كالصبي الذي لا يميز. الخامسة: لو سرق عبدا صغيرا لا يميز، قطع إن كان محرزا، وإنما يكون محرزا إذا كان في دار السيد، أو بفناء داره، فإن بعد عنها، ودخل سكة أخرى، فليس بمحرز، وسواء في المحرز بفناء الدار كان وحده، أو كان يلعب مع الصبيان، لانه لا يعد مضيعا، وسواء حملة نائما أو مستقيظا، أو دعاه فتبعه، لانه كالبهيمة يساق أو يقاد، ويجئ فيه الخلاف في تسيير البهيمة والمجنون والاعجمي الذي لا يميز كصغير لا يميز، وإن كان الصغير مميزا، فسرقه نائما أو سكران أو مضبوطا،

(7/349)


فعلى ما ذكرناه في غير المميز، ولو دعاه وخدها فتبعه باختياره، فليس بسرقة، بل هو خيانة، لو أكرهه بالسيف حتى خرج من الحرز، قطع على الاصح، ولو حمل عبدا قويا قادرا على الامتناع، فلم يمتنع، فلا قطع، ولو حمله نائما أو سكران، قال الامام: الوجه عندي الجزم بثبوت يده عليه حتى لو تلف قبل التيقظ، ضمنه، لان المنقول لا يتوقف ثبوت اليد عليه على الاستيلاء والتمكن من المقاومة عند طلب الاسترداد، قال: وفي تحقيق السرقة نظر، لان مثل هذا العبد محرز بيده وقوته، هكذا ذكر المسألة الامام والغزالي في الوسيط على الترديد، وأطلق في الوجيز أنه لا قطع، قال الامام: ولو جلس حيث لا مستغاث يصاح به، وهو يلاحظ متاعه، فتغفله ضعيف، وأخذ المال، ولو شعر به صاحب المال لطرده، فهل نقول: لا قطع، كما لو أخذه قوي لا يبالي بصاحب المال، أم نقول: يختلف الحكم بحسب اختلاف الآخذين ؟ الظاهر عندنا أنه يختلف. السادسة: الحر لا يضمن باليد، فلا قطع بسرقته وإن كان طفلا، لانه ليس بمال، فلو كان مع الصبي مال، أو في عنقه قلادة تبلغ نصابا، فلا قطع أيضا على الاصح، لانه في يد الصبي ومحرز به فلم يخرجه من حرزه، هكذا أطلق الجمهور الوجهين، وصورهما الامام فيما لو كان الصبي نائما أو مربوطا عند الحمل، قال: ويجريان في أن من حمله على غير صورة السرقة هل تدخل الثياب التي عليه في

(7/350)


ضمانه ؟ ولو حمل حرا مستقلا وأخرجه من الحرز وعليه ثيابه، أو معه مال آخر، قال الامام: تقدم عليه مسألة وهي أنه لو نام على بعير عليه أمتعة. فجاء سارق فأخذ بزمامه، وأخرجه عن القافلة، وجعله في مضيعة، وفيه أربعة أوجه، أحدها: يجب القطع، لانه أخرج نصابا من الحرز والمأمن إلى المضيعة، والثاني: لا قطع، لان البعير وما عليه محرز بالراكب ولم يخرجه من يده، والثالث: إن كان الراكب قويا لا يقاومه السارق لو انتبه فلا قطع، وإن كان ضعيفا لا يبالي به السارق، قطع ولا أثر ليد الضعيف، والربع وهو الاصح، ولم يذكر كثيرون سواه: إن كان الراكب حرا، فلا قطع، لان المتاع والبعير في يده، وإن كان عبدا، قطع، لان العبد في نفسه مسروق يتعلق به القطع، ثم بنى الامام على هذا الخلاف خلافا حكاه في أن المستقل إذا حمله حامل، هل يدخل ما عليه من الثياب تحت يد الحامل ؟ قال والقول بدخولها بعيد، وهو في الحر القوي أبعد منه في الضعيف وحيث لا تثبت يد الحامل على الثياب فلا سرقة، وأن ما مع الحر لا يدخل في يد الحامل، لان يد المحمول ثابتة على ما معه، ولهذا نقول: ما يوجد مع اللقيط يحكم بأنه في يده. فرع لو سرق حليا من عنق صبي، أو سرق ثيابه، قطع، وفي الموضع الذي يكون العبد الصغير محرزا، ولو سرق قلادة من عنق كلب، أو سرقها مع الكلب، قطع، وحرز الكلب كحرز الدواب. الطرف الثالث في المحل المنقول إليه: فلا قطع بنقل المتاع من بعض زوايا الحرز إلى بعضها، ولو نقل من بيت إلى صحن الدار، نظر إن كان باب البيت مغلقا وباب الدار مفتوحا، قطع، لانه أخرجه من حرزه، وجعله في محل الضياع، وإن كان باب البيت مفتوحا وباب الدار مغلقا، فلا قطع، وإن كان البابان مغلقين، فلا قطع على الاصح المنصوص، وقيل: يقطع، وقيل: إن كان الصحن حرزا، لم يقطع، وإلا فيقطع، وإن كان باب البيت والدار مفتوحين فالمال ضائع إذا لم يكن محرزا باللحاظ، فلا قطع، وهذه الصور الاربع ظاهرة التصوير إذا لم يوجد من السارق تصرف في باب الدار، بأن تسور

(7/351)


الجدار ودخل، أما إذا فتح باب الدار المغلق، ثم أخرج المتاع من البيت إلى الصحن، فالحرز الذي يهتكه السارق في حكم الحرز الدائم بالنسبة إليه، فيكون كما لو نقل إلى الصحن وباب الدار مغلق، هذا ما رآه الامام أصح، فإن أغلق الباب بعد فتحه، فهو أظهر، وجميع ما ذكرنا في دار هي وبيوتها لواحد، فلو سكنها جماعة، وانفرد كل واحد بحجرة أو بيت وفي معناها الخانات والمدارس والرباط، فهو في حق من لا يسكن الخان كدار يختص بها واحد حتى إذا سرق من حجرها أو صحنها ما يحرزه الصحن، وأخرج من الخان، قطع، وإن أخرج من البيوت والحجر إلى صحن الخان فوجهان، أحدهما: يقطع بكل حال، لان الصحن ليس حرزا لصاحب البيت بل هو مشترك بين السكان، كالسكة المشتركة بين أهلها، وبهذا قطع صاحب المهذب، وجماعة، والثاني وبه قطع الغزالي والبغوي وغيرهما: أنه كالاخراج من بيوت الدار إلى صحنها، فيفرق بين أن يكون باب الخان مفتوحا أو مغلقا، ويقرب من هذا ما حكي عن الشيخ أبي محمد أنه إن كان نهارا، قطع، وإن كان ليلا، فلا، لان الباب يكون مغلقا، وأما إذا سرق أحد السكان، فإن سرق من العرصة، فلا قطع، لانها مشتركة وما فيها غير محرز عنهم، قال الامام: هذا إذا كان فتح الباب هينا على من يخرج منها، بأن كان موثقا بسلاسل ونحوها، أما إذا كان موثقا بالمغاليق وله مفتاح بيد حارس وكان يحتاج مخرج المتاع إلى معاناة وما يحتاج إليه من يحاول الدخول من خارج، ففيه تردد، وإن أخرجه من بعض البيوت إلى الصحن، وكان باب البيت مغلقا، والصحن في حق السكان كسكة منسدة بالاضافة إلى الدور، ولا فرق بين أن يكون باب الخان مفتوحا أو مغلقا، كما لو كان على السكة باب لا فرق بين أن يكون مغلقا أو مفتوحا. فرع سرق الضيف مال المضيف من موضع محرز عنه، قطع، وإن سرقه من غير محرز عنه، لم يقطع، ولو سرق جار من طرف حانوت جاره حيث يحرز بلحاظ الجيران، فلا قطع، لانه محرز به لا عنه.

(7/352)


فرع دخل رجل الحمام مغتسلا، فسرق لم يقطع، فإن دخل سارقا وهناك حافظ الحمامي أو غيره، قطع، فإن كان نائما أو معرضا، أو لم يكن أحد، فلا قطع، قال البغوي وغيره: إنما يقطع بسرقة ثوب من دخل الحمام إذا استحفظ الحمامي فحفظه، فإن لم يستحفظه، فلا ضمان على الحمامي بترك الحفظ، ولا قطع على السارق، وإن استحفظه، فلم يحفظ، ضمن ولا قطع على السارق. فرع أذن صاحب الدكان للناس في دخوله للشراء، فمن دخل مشتريا وسرق، لم يقطع، ومن دخل سارقا، قطع، وإن لم يأذن في دخوله، قطع كل داخل.
الركن الثالث : السارق، وشرطه التكليف والاختيار والالتزام، فلا قطع على صبي ومجنون ومكره وحربي، وفي السكران الخلاف السابق في الطلاق وغيره، ويقطع المسلم والذمي بسرقة مال المسلم والذمي، وكذا يحد الذمي إذا زنى، ثم في التهذيب وغيره أنا إذا ألزمنا حاكمها الحكم بينهم أقام عليه الحد وقطعه، وإن لم يرض وإن لم يلزمه الحكم، لم يحده ولم يقطعه إلا برضاه، سواء من مسلم أو ذمي، وإن كان يجب الحكم بين المسلم والذمي بلا خلاف، لان القطع حق الله تعالى، لا حق المسروق منه، وأشار الامام إلى الجزم بأنه قطع إذا سرق مال مسلم ولا يتوقف على رضاه، وذكر أنه إذا سرق مال ذمي، لم يقطع حتى يترافعوا إلينا، ويجئ القولان في إجبار الممتنع إذا جاءنا الخصم، قال: ولو زنى بمسلمة، ففي كلام بعض الاصحاب أن الحد على القولين، قال الامام: هذا غلط، والصواب الجزم بإقامة الحد قهرا، وإن كان ذلك لله تعالى، لانا لو فوضنا الامر إلى رضاه، لجر ذلك فضيحة عظيمة، وغايتنا أن نحكم بنقض العهد، وإذا طلب تجديده، وجب التجديد، وكيف قدر الخلاف، فالمذهب أنه لا يشترط رضاه على الاطلاق، كما سبق في بابي الزنى والنكاح، وأما المعاهد ومن دخل بأمان، ففيه أقوال،

(7/353)


أظهرها عند الاصحاب، وهو نصه في أكثر كتبه: لا يقطع، لانه لم يلتزم، فأشبه الحربي، والثاني: يقطع كالذمي، وكحد القذد والقصاص، والثالث وهو حسن: إن شرط عليه في العهد قطعه إن سرق، قطع، وإلا فلا، ومنهم من اكتفى على هذا القول بأن يشرط عليه أن لا يسرق، ومنهم من قطع بالتفصيل، ومنهم من قطع بنفي القطع، ولا خلاف أنه يسترد المسروق أو بدله إن تلف، ولو سرق مسلم مال معاهد، قال الامام: التفصيل فيه كالفتصيل في معاهد سرق مال مسلم، ولو زنى معاهد بمسلمة فطريقان، أحدهما: أن في حد الزنى الخلاف، كالقطع، والثاني: الجزم بأن لا حد، لانه محض حق الله تعالى لا يتعلق بخصومة آدمي وطلبه، وهذا موافق لنقل العراقيين، والبغوي، وفي انتقاض عهد المعاهد بالسرقة أوجه، ثالثها: إن شرط أن لا يسرق، انتقض، وإلا فلا. فرع سواء في وجوب القطع الرجل والمرأة والعبد الآبق وغيره.
الباب الثاني : فيما تثبت به السرقة تثبت بثلاث حجج، إحداها: اليمين المردودة، فإذا ادعى عليه سرقة توجب القطع، فأنكر وحلف، فلا شئ عليه، وإن نكل، ردت اليمين على المدعي، فإذا حلف، وجب المال والقطع، هكذا نقله الامام عن الاصحاب، وكذا ذكره الغزالي وإبراهيم المروذي، لان اليمين المردودة كالاقرار وكالبينة، وكلاهما يوجب القطع، والذي ذكره صاحبا الشامل والبيان وغيرهما أنه لا يثبت بها القطع، لانه حق الله تعالى، فأشبه ما لو قال: أكره أمتي على الزنى، فحلف المدعي بعد نكول المدعي عليه، يثبت المهر دون حد الزنى. قلت: صحح الرافعي في المحرر الاول. والله أعلم.

(7/354)


الحجة الثانية: الاقرار، فإذا أقر بسرقة توجب القطع، أجري عليه حكمها، ولا يشترط تكرير الاقرار، فلو أقر ثم رجع، فالمذهب أنه لا يقبل في المال، وأنه يقبل في سقوط القطع، فلو رجع بعد قطع بعض اليد، سقط الباقي، فإن كان يرجى برؤه، فذاك وإلا فللمقطوع قطع الباقي لئلا يتأذى به، ولا يلزم الامام ذلك. ولو أقر اثنان بسرقة نصابين، ثم رجع أحدهما، سقط القطع دون الآخر، والرجوع عن الاقرار بقطع الطريق، كالرجوع عن الاقرار بالسرقة، ولو أقر بإكراه أمة على الزنى، ثم رجع، فالمذهب سقوط الحد دون المهر. فرع إذا أقر ابتداء من غير تقدم دعوى بأنه سرق من زيد الغائب سرقة توجب القطع، فهل يقطع في الحال، أم ينتظر حضور زيد ومطالبته ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، لانه ربما حضر، وأقر أنه كان أباحه المال، فيسقط الحد وإن كذبه السارق، والحد يسقط بالشبهة، فتأخيره أولى، ولو بإكراه جارية غائب على الزنى فوجهان، أصحهما: يحد للزنى ولا يؤخر، لانه لا يتوقف على طلبه، ولو حضر وقال: كنت أبحتها له، لم يسقط الحد، وقال ابن سريج: يؤخر لاحتمال أنه يقر بأنه وقف عليه تلك الجارية، قال الامام: وعلى الاول لو قال المالك: كنت بعتها، أو وهبتها، وأنكر المقر، ينبغي أن لا يسقط الحد، وعلى قياسه ينبغي أن لا يسقط الحد إذا أقر بوقف الجارية، وكذبه المقر. قلت: ليس الوقف كالبيع، فإنه يصح بلا قبول على المختار. والله أعلم. وإذا قلنا: لا يقطع حتى يحضر الغائب، فهل يحبس ؟ فيه أوجه، أحدها: نعم، كمن أقر بقصاص لغائب أو صبي، والثاني: إن قصرت المسافة وتوقع قدومه

(7/355)


على قرب، حبس، وإلا فلا، والثالث: إن كانت العين تالفة، حبس للغرم، وإن كانت باقية، أخذت منه، ثم يفرق بين طول المسافة وقصرها، ولو أقر بغصب مال غائب، لم يحبس، لان الحكام لا مطالبة له بمال الغائب. فرع لو أقر عبد بسرقة موجبة للقطع، قطع وفي قبوله في المال أقوال، أظهرها: لا يقبل، والثاني: يقبل، والثالث: إن كان المال في يده، قبل، وإن تلف، فلا، والرابع: عكسه، هذا إذا كان المال في يده، أما إذا كان في يد السيد، أو أجنبي، فلا يقبل إقراره فيه بلا خلاف، ولو أقر بسرقة دون النصاب، لم يقبل بلا خلاف إلا أن يصدقه. سيده. فرع متى رفع إلى مجلس القضاء، واتهم بما يوجب عقوبة لله تعالى، فللقاضي أن يعرض له بالانكار، ويحمله عليه، فلو أقر بذلك ابتداء، أو بعد الدعوى، فهل يعرض له بالرجوع ؟ فيه أوجه، الصحيح الذي قطع به عامة الاصحاب: نعم، للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز رضي الله عنه بعد إقراره بالزنى: لعلك قبلت والثاني: لا، ونقله الامام عن الجمهور، وليس كما قال، والثالث: إن لم يكن عالما بجواز الرجوع، عرض له، وإلا فلا، فعلى الاول هل يستحب للقاضي التعريض ؟ وجهان، أحدهما: نعم، للحديث، وأصحهما: لا، لان النبي صلى الله عليه وسلم ترك التعريض في أكثر الاوقات. والتعريض في الزنى: لعلك فاخذت، أو لمست، أو قبلت. وفي شرب الخمر: لعلك لم تعلم أن ما شربته مسكر. وفي السرقة: لعلك غصبت، أو أخذت بإذن المالك، أو من غير حرز ونحوها، ولا يحمله القاضي على الرجوع تصريحا بأن يقول: ارجع عن الاقرار، أو اجحده، وإذا ثبت الحد بالبينة لا يحمله على الانكار، وأما حقوق الآدمي، فلا يعرض له بالرجوع عن الاقرار بها، حتى لا يعرض في السرقة بما يسقط الغرم،

(7/356)


إنما يسعى في دفع القطع، وهل للحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف في حدود الله تعالى ؟ وجهان. قلت: أصحهما: نعم إن رأى المصلحة في الستر، وإلا فلا. والله أعلم. فرع قال الامام: في الحديث من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله: هذا دليل على أنه لا يجب على من قارف موجب حد إظهاره للامام، قال: وكان شيخي يقطع به، وفيه احتمال إذا قلنا: الحد لا يسقط بالتوبة. قلت: الصواب: الجزم بأنه لا يجب الاظهار لقصة ماعز، وإنما لا يسقط الحد بالتوبة على قول في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى، فالتوبة تسقط أثر المعصية. والله أعلم. الحجة الثالثة: الشهادة، فيثبت القطع بشهادة رجلين، ولا يثبت برجل وامرأتين، فلو شهد رجل وامرأتان بالسرقة، أو شاهد وحلف المدعي معه، ثبت المال ولا يثبت القطع كما لو علق الطلاق أو العتق على غصب أو سرقة، فشهد رجل وامرأتان على الغصب أو السرقة، ثبت المال دون الطلاق والعتق، وقيل: في ثبوت المال في السرقة قولان، والمذهب الاول، ولا تقبل في السرقة شهادة مطلقة لاختلاف المذاهب فيها، فيشترط بيان السارق بالاشارة إليه إن كان حاضرا، أو ذكر اسمه ونسبه بحيث يتميز إن كان غائبا، ويكفي عند حضوره أن يقول: سرق هذا، وحكى ابن كج وجها أنه يشترط أن يقول، هذا بعينه، وليس بشئ، ويشترط أن يبين المسروق والمسروق منه، وكون السرقة من حرز بتعيين الحرز أو صفته، وعن القاضي أبي الطيب وغيره، أن الشاهد يقول أيضا، ولا أعلم له فيه شبهة، قال صاحب الشامل: وليكن هذا تأكيدا، لان الاصل عدم الشبهة، ويشترط أن تتفق شهادة الشاهدين، فلو شهد أحدهما أنه سرق بكرة، والآخر أنه سرق عشية، أو أحدهما بسرقة كبش أبيض، والآخر بكبش أسود، فهما شهادتان على سرقتين

(7/357)


مختلفتين، فلا قطع، وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما، فيغرمه، ولو شهد اثنان أنه سرق كذا غدوة، وشهد آخران أنه سرق عشية، فالبينتان متعارضتان، فلا يحكم بواحدة منهما، وفي الصورة الاولى لا يقال: متعارضتان، لان الحجة لم تتم، فلو لم تتوارد الشهادتان على معين، بل قال بعضهم: سرق كبشا غداة، وقال بعضهم: سرق كبشا عشية، فإن كان الذي شهد واحدا وواحدا، فلا قطع، وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما، ويأخذ الغرم، أو معهما ويأخذ غرم ما شهدا به جميعا، وإن شهد اثنان واثنان، وجب القطع، وغرم ما شهد به هذان وهذان، لكمال الحجتين، ولو شهد واحد بسرقة كبش، وآخر بسرقة كبشين، ثبت الواحد وتعلق به القطع إن بلغ نصابا، ولو شهد واحد بسرقة ثوب قيمته ربع دينار، وشهد آخر بسرقة ذلك الثوب، وقومه بثمن دينار، لم يقطع ويغرم ثمن دينار، وللمشهود له أن يحلف مع شاهد الربع ويستحقه، ولو شهد اثنان بسرقته وقالا: قيمته ربع، وشهد آخران بسرقته وقالا: قيمته ثمن، لم يقطع، وللمشهود له الثمن، ولو شهد أحدهما بسرقة ثوب أبيض قيمته ربع، والآخر بسرقة ثوب أسود قيمته ثمن، فلا قطع، ولا يثبت بهما شئ لاختلافهما، وله أن يحلف مع أحدهما، وإن شهد اثنان واثنان تمت الشهادتان، فيقطع ويغرم الربع والثمن معا. فرع كما يشترط التفصيل في الشهادة بالسرقة يشترط في الاقرار بها، فلا قطع على من أقر بالسرقة مطلقا، لانه قد يظن غير السرقة سرقة، واسم السرقة يقع على ما يقطع به وعلى غيره، وفي الشهادة على الزنى يشترط التفصيل، وكذا في الاقرار به على الاصح. فرع الشهادة بالسرقة إن ترتبت على دعوى المسروق منه أو وكيله، فذاك، وإنشهد الشهود على سبيل الحسبة، فهل تقبل شهادتهم ؟ وجهان، أصحهما: نعم، فعلى هذا إن كان المسروق منه غائبا، فالنص أنه لا يقطع حتى يحضر الغائب، ونص فيما لو شهد أربعة بالزنى بجارية غائب أنه يحد، ولا ينتظر حضور الغائب، فقيل: قولان فيهما، وقيل: ينتظر المالك في الصورتين، وغلطوا ناقل نص الزنى أو تأولوه، والمذهب تقرير النصين، والفرق أن حد الزنى لا يسقط بإباحة الوطئ، وحد السرقة يسقط بإباحة المال، فربما كان الغائب أباحه فانتظر اعترافه، ولان القطع متعلق حق الآدمي، فإنه شرع حفظا لماله، فاشترط حضوره،

(7/358)


فإن قلنا: لا يقطع ولا يحد في الحال، فهل يحبس ؟ فيه الخلاف السابق فيمن أقر بسرقة مال غائب، أو بالزنى بجارية غائب، وأشار الامام إلى أن الظاهر عند الاصحاب أنه يحبس لما يتعلق به من حق الله تعالى، وإذا لم يقطع حتى حضر المالك، فإن لم يطلب المال، أو اعترف بما يسقط القطع، فلا قطع، وإن طلب ولم تظهر شبهة، فإن قلنا: شهادة الحسبة مقبولة، قطع، وهل تجب إعادة الشهادة لثبوت المال ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لان شهادة الحسبة لا تقبل في الاموال، والثاني: لا، ويثبت الغرم تبعا، وإن قلنا: غير مقبولة، فلا بد من إعادة البينة للمال، والاصح أنها لا تعاد للقطع. فرع سرق مال صبي أو مجنون، قال ابن كج: إن انتظرنا حضور الغائب واعتبرنا طلبه، انتظر بلوغه وإفاقته، وإلا قطعناه في الحال. فرع إذا قلنا: يسقط الحد بدعوى الملك، فهل يستفصله القاضي سعيا في سقوط الحد ؟ فيه تردد للامام. قلت: الاصح لا يستفصله، لانه إغراء له بادعاء الباطل. والله أعلم.
الباب الثالث : في الواجب على السارق وهو شيئان: أحدهما: رد المال إن كان باقيا، وضمانه إن تلف، سواء في ذلك الغني والفقير. الثاني: القطع، فتقطع من السارق والسارقة يده اليمنى، فإن سرق ثانيا، قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا، قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعا، قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك، عزر، ونقل الامام عن القديم قولا، أنه

(7/359)


يقتل للحديث، والمشهور التعزير، والحديث منسوخ أو مؤول على أنه قتله لاستحلاله، أو لسبب آخر، وتقطع اليد من الكوع، والرجل من المفصل بين الساق والقدم، ويمد العضو مدا عنيفا حتى ينخلع، ثم يقطع بحديدة ماضية، ويمكن المقطوع جالسا ويضبط لئلا يتحرك، ويحسم موضع القطع بأن يغمس في زيت أو دهن مغلي، لتنسد أفواه العروق وينقطع الدم، وهل هذا حق لله تعالى وتتمة للحد، أم هو حق للمقطوع ونظر له ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، فعلى الاول يتركه الامام، ويكون ثمن الدهن ومؤنة الحسم على الخلاف في مؤنة الجلاد، وإن قلنا بالاصح، فالمؤنة على المقطوع، ولو تركه السلطان، فلا شئ عليه، وحينئذ يستحب للسارق أن يحسم ولا يجب، لان في الحسم ألما شديدا وقد يهلك الضعيف، والمداواة بمثل هذا لا تجب بحال، وقيل: للامام إجباره والصحيح الاول، ويستحب للامام أن يأمر بالحسم عقب القطع، ولا يفعله إلا بإذن السارق إلا على قول من أجبره، والسنة أن تعلق اليد المقطوعة في عنقه، ثم الذي يوجد في كتب الجمهور أنها تعلق ساعة، وأطلقوا ولم يفوضوه إلى رأي الامام، وحكى الامام وجها أنها لا تعلق، ووجها تعلق ثلاثا ووجها الامر فيه إلى رأي الامام، وهذه الاوجه غريبة ضعيفة.

(7/360)


فرع لو كان على يمينه أصبع زائدة، فوجهان، أحدهما: لا تقطع، بل تقطع رجله اليسرى، وأصحهما: تقطع ولا يبالى بالزيادة، لان المراد التنكيل بخلاف القصاص، فإن مقصوده المساواة، ولو كانت اليمين شلاء، فإن قال أهل الخبرة: إن قطعت لا ينقطع الدم، لم تقطع، ويكون كمن لا يمين له، وإن قالوا: ينقطع، قطعت واكتفي بها، ولو كانت ناقصة أربع أصابع، اكتفينا بها لحصول الايلام والتنكيل، وإن لم يبق إلا الكف، أو بعض الكف بلا أصابع، ففي الاكتفاء بذلك وجهان، أو قولان، أصحهما: الاكتفاء لما ذكرنا، وطرد القاضي أبو حامد الوجهين فيما لو كانت يمينه بلا إبهام. فرع من لا يمين له، تقطع رجله اليسرى كما ذكرنا، ولو سرق ويمينه سليمة، فسقطت بآفة أو جناية، سقط عنه القطع، وقيل: يعدل إلى الرجل، كما لو فات محل القصاص يعدل إلى بدله، وهو الدية، والصحيح الاول، لان القطع تعلق بها، ولو سرق مرارا ولم يقطع، اكتفي بقطع يمينه عن الجميع، كمن زنى، أو شرب مرات يلزمه حد واحد. فرع بدر أجنبي، فقطع يمين السارق بغير إذن الامام، لا قصاص عليه، لانها مستحقة القطع، فلو سرى إلى النفس، فلا ضمان، لانها متولدة من مستحق، لكن يعزر المبادر لافتئاته على الامام، هكذا أطلقوه، ويشبه أن يجعل وجوب القصاص على الخلاف في قتل الزاني المحصن ولو قطع يساره جان، أو قطعها الجلاد عمدا، وجب القصاص على القاطع، ولا يسقط عن السارق قطع اليمين، فلو قال القاطع: لم أعلم أنها يساره، حلف ولزمته الدية، ولو قال الجلاد للسارق: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها، فطريقان، قال القاضي أبو الطيب وآخرون: إن قال المخرج: ظننتها اليمين، أو أن اليسار تجزئ، سقط بها القطع على الاظهر، فإن قلنا: لا يسقط، فقال القاطع: علمت أنها اليسار، وأنها لا تجزئ، لزمه القصاص، وإن قال: ظننتها اليمين، أو أنها تجزئ، لزمه الدية، وقال الشيخ أبو حامد: يراجع القاطع أولا، فإن قال: علمتها اليسار وأنها لا تجزئ، لزمه القصاص وبقي القطع واجبا في اليمين، وإن قال: ظننتها اليمين، أو أن اليسار تجزئ، لزمه الدية، وفي سقوط قطع اليمين القولان، وكلام الامام

(7/361)


وغيره يوافق هذا الطريق، إلا أن القصاص إنما يلزم القاطع، وإن علم الحال إذا لم يوجد من المخرج قصد بذل وإباحة، ولو سقطت يسار السارق بآفة بعد وجوب قطع اليمين، فقال أبو إسحاق: يسقط قطع اليمين في قول كما في مسألة غلط الجلاد، وغلطه الاصحاب وقالوا: لا يسقط. فرع لو كان لمعصمه كفان نقل الامام عن الاصحاب أنهما تقطعان، ولا يبالى بالزيادة، كالاصبع الزائدة، واختار هو أن يفصل، فإن تميزت الاصلية، وأمكن الاقتصار على قطعها، لم تقطع الزائدة، وإلا فتقطع، فلو أشكل الحال، قال الامام: فالذي رأيته للاصحاب أنهما يقطعان، ويوافقه ما في فتاوى القفال أن الكفين الباطشتين تقطعان جميعا، لانهما في حكم يد، ولهذا لا تجب فيهما ديتان، لكن في التهذيب أنه تقطع في السرقة إحداهما، فإن سرق ثانيا، قطعت الاخرى، ولا تقطعان بسرقة واحدة بخلاف الاصبع الزائدة، لانه لا يقع عليها اسم يد وهذا أحسن، قال: ولو كان يبطش بأحدهما، قطعت الباطشة دون الاخرى، وإن سرق ثانيا، قطعت رجله، فلو صارت الاخرى باطشة، فسرق ثانيا، قطعت هي لا الرجل، فإن سرق ثالثا، قطعت الرجل. قلت: الصحيح المنصوص أنه لا يقطع إلا إحداهما كما ذكره في التهذيب، وقد جزم به جماعة، منهم القاضي أبو الطيب وصاحب البحر والشيخ نصر المقدسي وغيرهم، ونقله القاضي والمقدسق عن نص الشافعي رحمه الله، وقد أوضحته في صفة الوضوء من شرح المهذب. والله أعلم.
فصل في مسائل منثورة
في فتاوى القفال، إذا كان ثوبه بين يديه في المسجد، فقال لرجل: احفظ ثوبي، فقال: نعم أحفظه، فرقد صاحب الثوب، وذهب الرجل، وترك الثوب، فسرق، لزمه الضمان، ولو سرقه المستحفظ فلا قطع عليه، ولو أغلق باب داره أو حانوته، وقال للحارس: انظر إليه أو احفظه، فأهمله الحارس، فسرق ما فيه، لم يضمن، لانه محرز في نفسه، ولم يدخل تحت يده، ولو سرقه الحارس، قطع، وفي فتاوى الغزالي: إذا تغفل السارق الحمامي وسرق الثياب، اعتبر في وجوب القطع أن يخرجها من الحمام، وأن الموضوع في الصحراء لا يكفي لوجوب القطع أخذه، ولا النقل بخطوة ونحوها، بل ضبط مثل ذلك أن

(7/362)


يقال: إحراز مثله بالمعاينة، فإذا غيبه عن عينه بحيث لو تنبه له لم يره، بأن دفنه في تراب، أو واراه تحت ثوبه، أو حال بينهما جدار، فقد أخرجه من حرزه، وأنه لو علم قردا النزول إلى الدار، وإخراج المتاع، فنقب، وأرسل القرد وأخرج المتاع، ينبغي أن لا يقطع، لان للحيوان اختيارا بخلاف الاخذ بالمحجن، وفي فتاوى البغوي: لو وضع ميت على وجه الارض ونضدت الحجارة عليه، كان ذلك كالدفن، حتى يجب القطع بسرقة الكفن لا سيما إذا كان لا يمكنهم الحفر. قلت: ينبغي أن لا يقطع إلا إن تعذر الحفر، لانه ليس بدفن. والله أعلم وأنهم لو كانوا في بحر، فطرح الميت في الماء، فأخذ رجل كفنه، لم يقطع، لانه ظاهر، فهو كما لو وضع الميت على شفير القبر، فأخذ، ولو غيبه الماء، فغاص سارق، وأخذ الكفن، لم يقطع أيضا، لان طرحه لا يعد إحرازا، وقد يتوقف في هذا وبالله التوفيق.
باب قطاع الطرق
فيه أطراف :
الأول : في صفتهم، وتعتبر فيهم الشوكة، والبعد عن الغوث، وأن يكونوا مسلمين مكلفين، فالكفار ليس لهم حكم القطاع وإن أخافوا السبيل، وقيل:

(7/363)


والمراهقون لا عقوبة عليهم، ويضمنون المال والنفس، كما لو أتلفوا في غير هذا الحال، وأما الشوكة، فقطاع الطريق طائفة يترصدون في المكامن للرفقة، فإذا رأوهم، برزوا قاصدين الاموال معتمدين في ذلك على قوة وقدرة يتغلبون بها، وفيهم شرعت العقوبات الغليظة التي سنصفها إن شاء الله تعالى، وأما الذين لا يعتمدون قوة، ولكن ينتهزون ويختلسون، ويولون معتمدين على ركض الخيل، أو العدو على الاقدام، كما يتعرض الواحد والنفر اليسير لاخذ القافلة فيسلبون شيئا، فليسوا بقطاع، وحكمهم في الضمان والقصاص حكم غيرهم، ولو خرج واحد أو شرذمة يسيرة، فقصدهم جماعة يغلبونهم بقوتهم، فهم قطاع وإن لم يكثر عددهم، لاعتمادهم على الشوكة والنجدة بالاضافة إلى الواحد والشرذمة، كذا نقله الامام عن طرق الاصحاب، ويقرب منه ما ذكره ابن كج أنه لو أقام خمسة أو عشرة في كهف، أو شاهق جبل، فإن مر بهم قوم لهم شوكة وعدة، لم يتعرضوا لهم، وإن مر قوم قليلو العدد، قصدوهم بالقتل وأخذ المال، فحكمهم حكم قطاع الطريق في حق الطائفة اليسيرة، وإن تعرضوا للاقوياء وأخذوا شيئا، فهم مختلسون، ورأى الامام أن يفصل القول في الرفقة اليسيرة والواحد، فيقال: إن كان خروجهم في مثل ذلك الطريق يعد تضييعا وتغريرا بالنفس والمال، فالمتعرضون لهم ليسوا بقطاع، وينزل خروجهم في هذه الحالة كترك المال في موضع لا يعد حرزا، وأقام الامام ما رآه وجها، ولو كانت الرفقة يتأتى منهم دفع القاصدين ومقاومتهم، فاستسلموا حتى قتلوا وأخذت أموالهم، فالقاصدون لهم ليسوا بقطاع، لان ما فعلوه لم يصدر عن شوكتهم، بل الرفقة ضيعوا، هكذا أطلقه الاصحاب، ويجوز أن يقال: ليست الشوكة مجرد العدد والعدة، بل تحتاج مع ذلك إلى اتفاق كلمة ومتبوع مطاع وعزيمة على القتال، والقاصدون للرفقة هكذا يكونون في الغالب، والرفقة لا تجتمع كلمتهم، ولا يضبطهم مطاع، ولا عزم لهم على القتال، وخلوهم عن هذه الامور يوقعهم في التخاذل لا عن قصد منهم، فينبغي أن لا يجعلوا مضيعين، ولا يخرج قاصدوهم عن كونهم قطاعا، ولو أن الرفقة قاتلوهم، ونالت كل طائفة من الاخرى، فهل هم قطاع ؟ فيه احتمالان للامام، أصحهما: نعم، وبه جزم الغزالي، وأما البعد عن الغوث، فإنما اشترط ليمكنهم الاستيلاء والقهر مجاهرة

(7/364)


وذلك إنما يتحقق غالبا في المواضع البعيدة عن العمارة، ولو خرج جماعة في المصر، فحاربوا، أو أغار عسكر على بلدة أو قرية، أو خرج أهل أحد طرفي الجلد على الطرف الآخر وكان لا يلحق المقصودين غوث لو استغاثوا، فهم قطاع طريق، وإن كان يلحقهم غوث، فهم منتهبون ليسوا قطاعا، وامتناع لحاق الغوث لضعف السلطان أو لبعده وبعد أعوانه، وقد يغلب أهل الفساد في مثل هذه الحالة، فلا يقاومهم أهل العفة، وتتعذر عليهم الاستغاثة، ولو دخل جماعة بالليل دارا وكابروا، ومنعوا أصحاب الدار من الاستغاثة مع قوة السلطان وحضوره، فالاصح أنهم قطاع، وبه قطع القفال والبغوي، والثاني: أنهم سراق، والثالث: مختلسون. فرع لا يشترط في قطاع الطريق الذكورة، بل لو اجتمع نسوة لهن شوكة وقوة، فهن قاطعات طريق، ولا يشترط أيضا شهر السلاح، بل الخارجون بالعصي والحجارة قطاع، وذكر الامام أنه يكفي القهر وأخذ المال باللكز، والضرب بجمع الكف، وفي التهذيب نحوه، وكلام جماعة يقتضي أنه لا بد من آلة، ولا يشترط العدد، بل الواحد إذا كان له فضل قوة يغلب بها الجماعة، وتعرض للنفوس والاموال مجاهرا، فهو قاطع طريق.
الطرف الثاني : في عقوبتهم
فإذا علم الامام من رجل، أو من جماعة أنهم يترصدون للرفقة، ويخيفون السبيل، ولم يأخذوا بعد مالا، ولا قتلوا نفسا، طلبهم، وعزرهم بالحبس وغيره، قال ابن سريج: والحبس في هذه الحال في غير موضعهم أولى، لانه أحوط وأبلغ في الزجر والايحاش، وإن أخذ قاطع من المال قدر نصاب السرقة، قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، فإن عاد مرة أخرى، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، وإنما يقطع من خلاف لئلا يفوت جنس المنفعة، وسواء كان النصاب لواحد أو لجماعة الرفقة كما سبق في السرقة، وإن كان المأخوذ دون نصاب، فلا قطع، وقال ابن خيران: فيه قولان، كالقولين في قتل قاطع الطريق، هل تعتبر فيه الكفاءة، لانه فارق السرقة في اشتراط الحرز فكذا في النصاب، والمذهب الاول، لقوله صلى الله عليه وسلم: القطع في ربع دينار فصاعدا وما ادعاه في الحرز ممنوع، بل الذي قاله الاصحاب: أنه لو كان المال ضائعا تسير به الدواب بلا حافظ، فلا قطع، ولو كانت الجمال مقطورة ولم تتعهد كما شرطنا فيها، لم يجب القطع، وإن قتل قاطع

(7/365)


الطريق، قتل، وهو قتل متحتم ليس سبيله، سبيل القصاص، وإن جمع بين القتل وأخذ المال، قتل وصلب، ويعتبر في المال كونه نصابا، ويجئ فيه خلاف ابن خيران، هذا هو المذهب، وخرج ابن سلمة قولا: أنه تقطع يده ورجله ويقتل ويصلب، وحكى صاحب التقريب قولا: أنه إن قتل وأخذ نصابا، قطع وقتل، ولم يصلب، وإن قتل وأخذ دون نصاب، لم يقطع بل يقتل ويصلب، وفي كيفية القتل والصلب ذا اجتمعا قولان، أظهرهما: يقتل ثم يصلب، وعلى هذا كم يترك مصلوبا ؟ وجهان، أصحهما وهو نصه: ثلاثا، فإذا مضى الثلاث، وسال صليبه، وهو الودك، أنزل، وإلا فوجهان، أحدهما: لا ينزل بل يترك حتى يسيل صليبه، وأصحهما: ينشل، ويكفي ما حصل من النكال، ولو خيف التغير قبل الثلاث هل ينزل ؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قال الماسرجسي وغيره، والوجه الثاني من الاصل يترك مصلوبا حتى يسيل صديده ويتهرأ ولا ينزل بحال، والوجهان متفقان على أن يصلب على خشبة ونحوها، وهو الصحيح، وعن ابن أبي هريرة أنه يطرح على الارض حتى يسيل صديده، قال الامام وذكر الصيدلاني: أنه يترك حتى يتساقط، وفي القلب منه شئ، فإني لم أره لغيره، وإذا قلنا: ينتظر سيلان الصليب، لم نبال نتنه، ولفظ البغوي في حكاية وجه ابن أبي هريرة أنه يترك حتى يسيل صديده إلا أن يتأذى به الاحياء، وما ذكره الامام أقرب إلى سياق ذلك الوجه. والقول الثاني في كيفية القتل: أنه يصلب حيا، ثم يقتل، وعلى هذا كيف يقتل، أيترك بلا طعام وشراب حتى يموت، أم يجرح حتى يموت، أم يترك مصلوبا ثلاثا، ثم ينزل ويقتل، فيه أوجه، ويعرف بهذا أن الصلب على هذا القول يراد به صلب لا يموت منه، وتقدم في كتاب الجنائز حكم الصلاة عليه، وأن الخلاف السابق في إنزاله عن الخشبة بعد ثلاث وتركه جار تفريعا على القول الثاني، أما إذا لم يأخذ مالا ولا قتل، ولكن كثر جمع القاطعين، وكان ردءا لهم، وأرغب الرفقة عليه، كما لا حد في مقدمات الزنى، ولو أخذ بعضهم أقل من نصاب، فكذلك الحكم إذا شرطنا النصاب، ولا يكمل نصابه بما أخذه غيره، وفيما يعاقب به الردء وجهان، أصحهما: يعزره الامام باجتهاده بالحبس أو التغريب أو سائر وجوه التأديب، كسائر المعاصي، والثاني: يغربه بنفيه إلى حيث يرى، وليختر جهة يحف بها أهل النجدة من أصحاب الامام، وإذا عين صوبا، منعه العدول إلى غيره،

(7/366)


وعلى هذا هل يعزر في البلد المنفي إليه بضرب وحبس وغيرهما، أم يكفي النفي ؟ وجهان. قلت: الاصح: أنه إلى رأي الامام وما اقتضته المصلحة. والله أعلم. فرع من اجتمع عليه قتل وصلب، فمات، فهل يجب صلبه ؟ وجهان، أحدهما: نعم، لان القتل والصلب مشروعان، تعذر أحدهما فوجب الآخر، والثاني: لا، وبه قال الشيخ أبو حامد، وينسب إلى النص، لانه تابع للقتل، فسقط بسقوط المتبوع.
الطرف الثالث : في حكم هذه العقوبة وهو أمران: الاول: السقوط بالتوبة، وقد سبق أن قاطع الطريق إذا هرب، يطلب ويقام ما يستوجبه من حد أو تعزير، فلو تاب قبل القدرة عليه، سقط ما يختص بقطع الطريق من العقوبات على المذهب، وقيل: قولان، وإن تاب بعد القدرة، لم يسقط على المذهب، وقيل: قولان، وهل تؤثر التوبة في إسقاط حد الزنى والسرقة والشرب في حق غير قاطع الطريق، وفي حقه قبل القدرة وبعدها ؟ فيه قولان سبقا، الاظهر: لا يسقط، صححه الامام والبغوي وغيرهما، وهو منسوب إلى الجديد لاطلاق آية الزنى، وقياسا على الكفارة، ورجح جماعة من العراقيين السقوط. قلت: رجح الرافعي في المحرر منع السقوط، وهو أقوى. والله أعلم. ثم ما يسقط بالتوبة في حق قاطع الطريق قبل القدرة يسقط بنفس التوبة، وأما توبته بعد القدرة، وتوبة الزاني والسارق فوجهان، أحدهما: كذلك، ويكون إظهار التوبة كإظهار الاسلام تحت السيف، والثاني: يشترط مع التوبة إصلاح العمل ليظهر صدقه فيها، ونسب الامام هذا الوجه إلى القاضي حسين، والاول إلى سائر الاصحاب، والذي ذكره جماعة من العراقيين والبغوي والروياني هو ما نسبه إلى القاضي، واحتجوا بظاهر القرآن، قال الله تعالى في قطاع الطريق: * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * لم يذكر غير التوبة، وقال في الزنى: * (فإن تابا

(7/367)


وأصلحا فأعرضوا عنهما) * وفي السرقة: * (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح) * قال الامام: معرفة إصلاح العمل بأن يمتحن سرا وعلنا، فإن بدا الصلاح، أسقطنا الحد عنه، وإلا حكمنا بأنه لم يسقط، قال الامام: وهذا مشكل، لانه لا سبيل إلى حقيقته، وإن خلي، فكيف يعرف صلاحه، ويشبه أن يقال تفريعا على هذا: إذا أظهر التوبة، امتنعنا من إقامة الحد، فإن لم يظهر ما يخالف الصلاح، فذاك، وإن ظهر، أقمنا عليه الحد، وقد ذكرنا في باب حد الزنى في موضع القولين في سقوط الحد بالتوبة طريقين، أحدهما: تخصيصهما بمن تاب قبل الرفع إلى القاضي، فإن تاب بعد الرفع، لم يسقط قطعا، والثاني: طردهما في الحالين، وقد يرجع هذا الخلاف إلى أن التوبة بمجردها تسقط الحد، أم يعتبر الاصلاح، إن اعتبرناه اشترط مضي زمن يظهر به الصدق، فلا تكفي التوبة بعد الرفع. فرع إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة، فإن كان قد قتل، سقط عنه انحتام القتل، فللولي أن يقتص، وله العفو هذا هو المذهب، وفيه وجه شاذ يسقط القصاص، فلا يبقى عليه شئ أصلا، وحكي وجه أنه يسقط بالتوبة القصاص وحد القذف، لانهما يسقطان بالشبهة، كحدود الله تعالى، ونقله ابن القطان في القذف قولا قديما، وليس بشئ، وإن كان قد قتل وأخذ المال، سقط الصلب، وانحتام القتل، وبقي القصاص، وضمان المال، وفي القصاص ما ذكرنا، وإن كان قد أخذ المال، سقط قطع الرجل، وكذا قطع اليد على المذهب. الامر الثاني في حكم قتله، فإذا قتل قاطع الطريق خطأ، بأن رمى شخصا فأصاب غيره، أو شبه عمد، لم يلزمه القتل، وتكون الدية على عاقلته، وإن قتل عمدا، فقد سبق أنه يتحتم قتله، واختلفوا في حكم قتله، فقالت طائفة وهو الاصح: هذا قتل فيه معنى القصاص ومعنى الحدود، لانه في مقابلة قتل ولكن لا يصح العفو عنه ويتعلق استيفاؤه بالسلطان، وما المغلب من المعنيين ؟ فيه قولان، وقال آخرون: هل يتمحض حقا لله تعالى أم فيه أيضا حق آدمي ؟ قولان، أظهرهما: الثاني، ويقال على هذا القول: أصل القتل في مقابلة القتل، والتحتم

(7/368)


حق لله تعالى، ويتفرع على هذا الخلاف صور. منها: لو قتل قاطع الطريق من لا يكافئه، كابنه وعبد وذمي، فإن لم يراع معنى القصاص وحق الآدمي، قتلناه حدا ولم نبال بعدم الكفاءة، وإن راعيناه، لم نقتله به وأوجبنا الدية أو القيمة، ولو قتل عبد نفسه، فقال ابن أبي هريرة والقاضي حسين: هو على الخلاف، وقال أبو إسحق: لا يقتل قطعا، كما لا يقطع إذا أخذ مال نفسه، واختاره الصيدلاني. ومنها: لو مات، فإن راعينا القصاص أخذنا الدية من تركته، وإلا فلا شئ فيها. ومنها: لو قتل في قطع الطريق جماعة، فإن راعينا القصاص، قتل بواحد وللباقين الديات، فإن قتلهم مرتبا، قتل بالاول، ولو عفا ولي الاول، لم يسقط ذكره البغوي، وإن لم نراع القصاص، قتل بهم، ولا دية. ومنها: لو عفا الولي على مال إن راعينا القصاص، سقط القصاص ووجب المال، وقتل حدا كمرتد وجب عليه قصاص، وعفي عنه، وإن لم نراعه، فالعفو لغو. ومنها: لو تاب قبل القدرة، لم يسقط القصاص إن راعينا معناه ويسقط الحد، وإلا فلا شئ عليه. ومنها: لو قتل بمثقل، أو بقطع عضو، فإن راعينا القصاص، قتلناه بمثل ما قتل، وإلا فيقتل بالسيف، كالمرتد. ومنها: لو قتله شخص بغير إذن الامام إن راعينا القصاص، لزمه الدية لورثته ولا قصاص، لان قتله متحتم، ويجئ فيه وجه، وإن لم نراعه، فليس عليه إلا التعزير لافتئاته على الامام. فرع إذا جرح قاطع الطريق جرحا ساريا، فهو قاتل، وقد سبق حكمه، وإن جرح جرحا واقفا، نظر إن كان مما لا قصاص فيه كالجائفة، فواجبه المال ولا قتل، وإن كان مما فيه قصاص، كقطع يد ورجل، قوبلت بمثله، وهل يتحتم القصاص في الجراحة ؟ فيه أقوال، أظهرها: لا، كما لا كفارة، والثاني: نعم،

(7/369)


والثالث: يتحتم في اليدين والرجلين دون الانف والاذن والعين وغيرها، قال ابن الصباغ: لو قطع يد رجل ثم قتله، فإن قلنا: الجراحة لا تتحتم، فهو كما لو قطعه في غير المحاربة ثم قتله فيها، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن قلنا: يتحتم، قطع ثم قتل. ولو قطع في المحاربة وأخذ المال، نظر إن قطع يمينه، فإن قلنا: لا يتحتم وعفا، أخذ دية اليد، وقطعنا يمين المحارب ورجله اليسرى حدا، وإن لم يعف، أو قلنا: يتحتم، قطعت يمينه بالقصاص وقطعت رجله حدا، كما لو قطع الطريق ولا يمين له، وإن قطع يساره، فإن قلنا: لا يتحتم وعفا، أخذ الدية، وقطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن لم يعف، أو قلنا: بالتحتم، قطعت يساره، وتؤخر قطع اليمين والرجل اليسرى حتى تندمل اليسار، ولا يوالى بين عقوبتين.
فصل يوالى على قاطع الطريق بين قطع يده ورجله، لان قطعهما عقوبة واحدة، كالجلدات في الحد الواحد، وإن كان مقطوع اليمين، قطعت رجله اليسرى ولا تجعل اليد اليسرى بدلا عن اليمنى، فإن كان مفقود اليد اليمنى والرجل اليسرى، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، ولو قطع يسار انسان وسرق، قطعت يساره قصاصا وأمهل إلى الاندمال ثم تقطع يمينه عن السرقة ولا يوالى، لانهما عقوبتان مختلفتان، وقدم القصاص، لان العقوبة التي هي حق آدمي آكد من التي هي حق الله تعالى، لانها تسقط بما لا تسقط به عقوبة الآدمي بخلاف الحقوق المالية، فإن فيها ثلاثة أقوال في أنه يقدم حق الله تعالى أم الآدمي، أم يستويان لاستوائهما في التأكد وعدم السقوط بالشبهة، ولو وجب قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى بقطع الطريق، وقطع اليد اليسرى بقصاص، قدم قطع اليسرى قصاصا، ثم يمهل إلى الاندمال، ثم يقطع العضوان لقطع الطريق، ولو استحقت يمينه بقصاص وقطع للطريق، فإن عفا مستحق القصاص، قطعت يمينه مع رجله اليسرى حدا، وإلا فيقدم القصاص، وتقطع الرجل اليسرى عن الحد، وتقطع عقيب القصاص، وقيل: يمهل بها إلى الاندمال، والاول أصح، ولو استحقت يده اليمنى ورجله اليسرى بقصاص وقطع طريق، نظر إن عفا مستحق القصاص، قطع العضوان عن الحد، وإن اقتص فيهما، سقط الحد لفوات محله الذي تعلق به، ولو قطع العضوين في قطع الطريق وأخذ المال، فإن قلنا: الجراحة في قطع الطريق لا

(7/370)


تتحتم، فهو كما لو قطع العضوين في غير المحاربة وقطع أيضا الطريق، وإن قلنا: تتحتم، قطعناهما قصاصا، وسقط الحد، كذا ذكره الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وغيرهما، وسووا بين قطع العضوين قبل أخذ المال وبعده، قال صاحب المهذب: إن قلنا بالتحتم، فإن تقدم أخذ المال، واقتص في العضوين، سقط الحد، وإن تقدم قطع العضوين، ثم أخذ المال، لم يسقط بالقصاص حد قطع الطريق، بل تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى. فصل اجتمع عليه عقوبات آدميين، كحد قذف وقصاص عضو وقصاص نفس، فإن حضر المستحقون وطلبوا حقوقهم جميعا، جلد، ثم قطع، ثم قتل، ويبادر بالقتل بعد القطع، ولا يبادر بالقطع بعد الجلد إن كان مستحق القتل غائبا، لانه قد يهلك بالموالاة فيفوت قصاصه، وإن كان حاضرا وقال: عجلوا القطع وأنا أبادر بالقتل بعد القطع، فوجهان، أحدهما: يبادر، لان التأخير كان حقه وقد رضي بالتقديم. وأصحهما: المنع خوفا من هلاكه بالموالاة، ورأى الامام تخصيص الوجهين بمن خيف موته بالموالاة بحيث يتعذر قصاص النفس لانتهائه إلى حركة المذبوح، ورأى الجزم بالمبادرة إذا أمكن استيفاء القصاص بعد القطع، أما إذا لم يجتمعوا على الطلب، فإن أخر مستحق النفس حقه، جلد، فإذا برأ، قطع، وإن أخر مستحق الطرف حقه، جلد، ويتعذر القتل لحق مستحق الطرف، وعلى مستحق النفس الصبر حتى يستوفي مستحق الطرف حقه، قال الغزالي: ولو مكن مستحق النفس من القتل، وقيل لمستحق الطرف: بادر وإلا ضاع حقك لفوات محله، لم يكن بعيدا، ولو بادر مستحق النفس فقتله، كان مستوفيا حقه، ورجع مستحق الطرف إلى الدية، ولو أخر مستحق الجلد حقه، فقياس ما سبق أن يصبر الآخران، وإذا اجتمع عليه حدود قذف لجماعة، حد لكل واحد حدا، ولا يوالى بل يمهل بعد كل حد حتى يبرأ، هكذا ذكره البغوي وغيره، لكنه سبق في القصاص أنه يوالى بين قطع الاطراف قصاصا، وقياسه أن يوالى بين الحدود، وذكروا تفريعا على الاول الوجهين فيما لو وجب على عبد حدان لقذف شخصين، هل يوالى ؟ أصحهما عند البغوي: لا، لانهما حدان، والثاني: نعم، لانهما كحد حر، قال الروياني: هذا أقرب إلى المذهب، وأما ترتيب حدود القذف فينبغي أن يقال: إن قذفهم مرتبا، حد للاول فالاول، وإن قذفهم بكلمة وقلنا بالاظهر: إنه يتعدد الحد، أقرع.

(7/371)


فرع اجتمع عليه حدود لله تعالى، بأن شرب وزنى وهو بكر، وسرق، ولزمه قتل بردة، قدم الاخف فالاخف، وتجب رعاية هذا الترتيب والامهال سعيا في إقامة الجميع، وأخفها حد الشرب، ثم يمهل حتى يبرأ، ثم يجلد للزنى، ويمهل، ثم يقطع، فإذا لم يبق إلا القتل، قتل ولم يمهل، وحكى أبو بكر الطوسي وجها: أنه إذا كان فيها قتل يوالى بلا إمهال، والصحيح الاول، وبه قطع الجمهور، ولو اجتمع معها أخذ مال في محاربة، قطعت يده ورجله بعد جلد الزنى، وهل يوالى بين قطع اليد والرجل أم يؤخر قطع الرجل حتى تندمل اليد ؟ وجهان، أحدهما: يؤخر لان اليد مقطوعة عن السرقة، والرجل عن المحاربة ولا يوالى بين حدين، وأصحهما وهو المنصوص: يوالى، لان اليد تقع عن المحاربة والسرقة، فصار كما لو انفردت المحاربة، ولو اجتمعت عقوبات لله تعالى ولآدمي، بأن انضم إلى هذه العقوبات حد قذف، قدم حد القذف على حد الزنى، نص عليه، واختلفوا لم قدم ؟ فقال أبو إسحق وجماعة: لانه حق آدمي، وقال ابن أبي هريرة: لانه أخف، والاول أصح عند الاصحاب، وفيما يقدم من حد الشرب والقذف وجهان بناء على المعنيين، ويجريان في حد الزنى وقصاص الطرف والامهال بعد كل عقوبة إلى الاندمال على ما ذكرنا، ولو كان الواجب بدل قتل الردة قتل قصاص، فالقول في الترتيب والامهال كذلك، ولو اجتمع الرجم للزنى وقتل قصاص، فهل يقتل رجما بإذن الولي ليتأدى الحقان، أم يسلم إلى الولي ليقتله قصاصا ؟ وجهان، أصحهما: الثاني. ولو كان الواجب قتل محاربة، فهل يجب التفريق بين الحدود المقامة قبل القتل ؟ وجهان، أحدهما: لا، لجنه متحتم القتل، فلا معنى للامهال بخلاف قتل الردة والقصاص، فإنه يتوقع الاسلام والعفو، وأصحهما: نعم، لانه قد يموت بالموالاة، فتفوت سائر الحدود، ولو اجتمع قتل محاربة مع قصاص في غير محاربة، نظر إن سبق قتل المحاربة، قتل حدا، ويعدل صاحب القصاص إلى الدية، وإن سبق قتل القصاص، خير الولي فيه، فإن عفا، قتل وصلب للمحاربة، وإن اقتص، عدل لقتل المحاربة إلى الدية، وهل يصلب ؟ فيه الخلاف المذكور فيما إذا مات المحارب قبل قتله، ولو سرق ثم قتل في المحاربة، فهل يقطع للسرقة ويقتل للمحاربة، أم يقتصر على القتل والصلب، ويندرج حد السرقة في حد المحاربة ؟ وجهان.

(7/372)


فرع من زنى مرارا وهو بكر، حد لها حدا واحدا، وكذا لو سرق، أو شرب مرارا، وهل يقال: تجب حدود ثم تعود إلى حد واحدة أم لا يجب إلا حد، وتجعل الزنيات كالحركات في زنية واحدة ؟ ذكروا فيه احتمالين، ولو زنى أو شرب فأقيم عليه الحد، ثم زنى أو شرب، أقيم عليه حد آخر، فإن لم يبرأ من الاول، أمهل حتى يبرأ، ولو أقيم عليه بعض الحد فارتكب الجريمة ثانيا، دخل الباقي في الحد الثاني، وإذا زنى فجلد، ثم زنى قبل التغريب جلد ثانيا وكفاه تغريب واحد، ولو جلد خمسين، فزنى ثانيا، جلد مائة وغرب ودخل في المائة الخمسون الباقية، ولو زنى وهو بكر، ثم زنى قبل أن يحد وقد أحصن، فهل يكتفى بالرجم ويدخل فيه الجلد أم يجمع بينهما ؟ وجهان، أصحهما عند الامام والغزالي: الاول، وأصحهما عند البغوي وغيره: الثاني، لاختلاف العقوبتين، وعلى هذا فهل يجلد مائة ويغرب عاما ثم يرجم، أم يجلد ويرجم، ويدخل التغريب في الرجم ؟ وجهان، أصحهما: الثاني. ولو زنى عبد، فعتق قبل الحد، وزنى ثانيا، فإن كان بكرا، جلد مائة وغرب عاما، وإن كان محصنا، جلد خمسين، ثم رجم،

(7/373)


هكذا أطلقه البغوي، ويشبه أن يكون على الخلاف فيمن زنى وهو بكر، ثم زنى وهو محصن. ولو زنى ذمي محصن، ثم نقض العهد واسترق، فزنى ثانيا، ففي دخول الجلد في الرجم الوجهان، قال البغوي: الاصح: المنع، فيجلد خمسين ثم يرجم، وإن قلنا: بتغريب العبد، ففي اندراج التغريب في الرجم الوجهان. فصل لا يثبت قطع الطريق إلا بشهادة رجلين ويشترط في الشهادة التفصيل وتعيين قاطع الطريق ومن قتله أو أخذ ماله، وتقاس صوره بما سبق في الشهادة على السرقة، ولو شهد اثنان من الرفقة، نظر إن لم يتعرضا لقصد المشهود عليه نفسا ومالا، قبلت شهادتهما، وليس على القاضي أن يبحث عنهما هل هما من الرفقة أم لا، فإن بحث، فلهما أن لا يجيبا، وإن لم يثبتا على الشهادة وإن قالا: قطع هذا وهؤلاء علينا الطريق، فأخذوا مالنا ومال رفقتنا، لم تقبل شهادتهما في حق أنفسهما ولا في حق غيرهما، وقيل: في حق غيرهما قولان، والمذهب الاول، لانهما صارا عدوين، قال الماسرجسي وغيره: لو شهد رجلان بوصية لهما فيها نصيب أو إشراف، لم تقبل في شئ، وإن قالا: نشهد بها سوى ما يتعلق بنا من المال والاشراف، قبلت شهادتهما. فصل يحسم موضع القطع من قاطع الطريق كما سبق في السارق، ويجوز أن تحسم اليد، ثم تقطع الرجل، وأن تقطعا جميعا، ثم تحسما، قال العبادي في الرقم: إن قلنا: إن قتل قاطع الطريق يراعى فيه معنى القصاص، لزمه الكفارة، وإن قلنا: حد محض، فلا كفارة.
باب حد شارب الخمر
شرب الخمر من كبائر المحرمات، قال الاصحاب: عصير العنب إذا اشتد

(7/374)


وقذف بالزبد حرام بالاجماع، وسواء قليله وكثيره، ويفسق شاربه ويلزمه الحد، ومن استحله كفر، وعصير الرطب النئ، كعصير العنب النئ، كذا ذكره البغوي وطائفة، وحكاه الروياني عن بعضهم واستغربه، واختار كونه كسائر الاشربة، أما سائر الاشربة المسكرة، فهي في التحريم ووجوب الحد عندنا كعصير العنب، لكن لا يكفر مستحلها، لاختلاف العلماء فيها، وذكر الاصحاب خلافا في أن اسم الخمر هل يتناولها ؟ والاكثرون على المنع، وكل شراب حكمنا بتحريمه، فهو نجس، وبيعه باطل، وما لا يسكر من الأنبذة لا يحرم، لكن يكره شرب المنصف والخليطين للحديث الناهي عنهما، والمنصف: ما عمل من تمر ورطب، وشراب الخليطين ما عمل من بسر ورطب، وقيل: ما عمل من تمر وزبيب، وسبب النهي أن الاسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه، فيظن الشارب أنه ليس بمسكر ويكون مسكرا، وهذا كالنهي عن الانتباذ في الاوعية التي كانوا ينبذون فيها، كالدباء وهو القرع، والحنتم وهو جرار خضر، والنقير وهو جذع ينقر ويتخذ منه إناء، والمزفت وهو المطلي بالزفت وهو القار، ويقال له: المقير، لان هذه الاوعية يشتد فيها ولا يعلم به بخلاف الاسقية من الادم. قلت: والنهي عن هذه الاوعية منسوخ، ثبت نسخه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم. والله أعلم.

(7/375)


وفي الباب طرفان :
الأول : في الشراب الموجب للحد، فكل ملتزم لتحريم المشروب شرب ما يسكر جنسه مختارا بلا ضرورة ولا عذر، لزمه الحد، فهذه خمسة قيود. الاول: الملتزم، فلا حد على صبي ومجنون وحربي، والمذهب أن الذمي لا يحد بالخمر، وأن الحنفي يحد بشرب النبيذ وإن كان لا يعتقد تحريمه، ويأتي في الشهادة إن شرب الحنفي النبيذ هل يفسق به وترد شهادته ؟ إن شاء الله تعالى. الثاني: قولنا: شرب ما يسكر جنسه يخرج بلفظ الشرب ما لو احتقن، أو استعط بالخمر، فلا حد، لان الحد للزجر، ولا حاجة فيه إلى الزجر، وقيل: يحد، وقيل: يحد في السعوط دون الحقنة، والاول أصح، ويتعلق بكون المشروب مسكرا في جنسه صور: منها: أنه يدخل فيه النبيذ ودردي الخمر والثخين منها إذا أكله بخبز، أو ثرد فيها وأكل الثريد، أو طبخ بها، وأكل المرق، فيحد بكل ذلك، ولا يحد بأكل اللحم المطبوخ بها، ولا بأكل خبز أو معجون عجن بها على الصحيح فيهما، وعلى هذا قال الامام: من شرب كوز ماء فيه قطرات خمر والماء غالب، لم يحد لاستهلاك الخمر. الثالث: كون الشارب مختارا، فلا حد على من أوجر قهرا، والمذهب أنه لا يحد من أكره حتى شرب، وذكر ابن كج فيه وجهين. الرابع: أن لا يكون مضطرا، فلو غص بلقمة، ولم يجد ما يسيغها غير الخمر، وجب عليه إساغتها بالخمر ولا حد، وحكى إبرهيم المروذي في تحريم الاساغة وجهين لعموم النهي، والمذهب الاول، وأما شربها للتداوي والعطش والجوع إذا لم يجد غيرها ففيه أوجه، أصحها والمنصوص وقول الاكثرين: لا يجوز لعموم النهي، ولان بعضها يدعو إلى بعض. والثاني: يجوز كما يجوز شرب

(7/376)


البول والدم لذلك وكما يتداوى بالنجاسات، كلحم الحية والسرطان والمعجون فيه خمر. والثالث: يجوز للتداوي دون العطش والجوع، ورجحه الروياني. والرابع: عكسه، لان دفع العطش موثوق به في الحال، وهذا هو الصحيح عند الامام، ونقل اتفاق الاصحاب على تحريم التداوي، قال: وبلغنا عن آحاد من المتأخرين لبس بجوازه من غير تدوين في كتاب. والخامس: يجوز للعطش دون الجوع لانها تحرق كبد الجائع ثم الخلاف في التداوي مخصوص بالقليل الذي لا يسكر، ويشترط خبر طبيب مسلم، أو معرفة المتداوي إن عرف، ويشترط أن لا يجد ما يقوم مقامها، ويعتبر هذان الشرطان في تناول سائر الاعيان النجسة، ولو قال الطبيب: يتعجل بها الشفاء، فالاصح أنه كرجاء الشفاء، ثم قال القاضي حسين والغزالي: لا حد على المتداوي وإن حكمنا بالتحريم لشبهة الخلاف، وقال الامام: أطلق الائمة المعتبرون أقوالهم في طرقهم أن التداوي حرام موجب للحد، وإذا جوزنا الشرب للعطش، لزمه الشرب، كتناول الميتة للمضطر ولا حد، وإذا لم نجوزه، ففي الحد الخلاف كالتداوي. الخامس: أن لا يكون له عذر في الشرب، فلو شرب قريب عهد بالاسلام وادعى جهل التحريم، لم يحد، فلو قال: علمت التحريم وجهلت الحد، وجب الحد، ولو شرب خمرا وهو يظن أنه يشرب غير مسكر في جنسه، فلا حد وإن سكر منه لم يلزمه قضاء الصلوات، كالمغمى عليه، وإن علم أنه من جنس المسكر، وظن أن ذلك القدر لا يسكر، حد، ولزمه قضاء الصلوات الفائتة في السكر. فرع إنما يجب الحد إذا ثبت الشرب بإقراره أو شهادة رجلين، وفي تعليق

(7/377)


الشيخ أبي حامد أنه يجب أيضا إذا علمنا شربه المسكر، بأن رأيناه شرب من شراب إناء شرب منه غيره فسكر، وليكن هذا مبنيا على أن القاضي يقضي بعلمه، ولا تعويل على النكهة وظهور الرائحة منها، ولا على مشاهدة سكره وتقيئه الخمر، لاحتمال غلط أو إكراه، ثم صيغة المقر والشاهد إن كانت مفصلة بأن قال: شربت الخمر، أو شربت ما شرب منه غيري، فسكر منه، وأنا به عالم مختار، وفصل الشاهد كذلك، فذاك، وإن قال: شربت الخمر، أو ما شربه غيري فشرب منه فسكر منه، واقتصر عليه، أو شهد اثنان أنه شرب الخمر من غير تعرض للعلم والاختيار، فوجهان، أحدهما: لا حد، لاحتمال الجهل والاكراه، كما لا بد من التفصيل في الزنى، وبهذا قال القاضي أبو حامد واختاره الامام، وأصحهما وأشهرهما وظاهر النص وبه قطع بعضهم: يجب الحد، لان إضافة الشرب إليه حاصلة، والاصل عدم الاكراه، والظاهر من حال الآكل والشارب العلم بما يشربه، وصار كالاقرار بالبيع والطلاق وغيرهما، والشهادة عليها لا يشترط فيها تعرض للاختيار والعلم بخلاف الزنى فإنه يطلق على مقدماته، وفي الحديث العينان تزنيان. فروع ما يزيل العقل من غير الاشربة، كالبنج، حرام لكن لا حد في تناوله، ولو احتيج في قطع اليد المتأكلة إلى زوال عقله هل يجوز ذلك ؟ يخرج على الخلاف في التداوي بالخمر. قلت: الاصح: الجواز، وقد سبق في مسائل طلاق السكران ومن زال عقله ما يقتضي الجزم به، ولو احتاج إلى دواء يزيل العقل لغرض صحيح جاز تناوله قطعا كما سبق هناك. والله أعلم. الند المعجون بالخمر نجس، قال ابن الصباغ: ولا يجوز بيعه، وكان ينبغي أن يجوز، كالثوب النجس، لامكان تطهيره بنقعه في الماء، ومن يتبخر به هل يتنجس ؟ فيه وجهان، كدخان النجاسة.

(7/378)


الطرف الثاني : في الحد الواجب في الشرب وهو أربعون جلدة على الحر، وعشرون على الرقيق، واختار ابن المنذر أنه ثمانون، وهل يجوز أن يضرب بالأيدي والنعال وأطراف الثياب والسوط، أم يتعين ما عدا السوط، أم يتعين السوط ؟ فيه ثلاثة أوجه، الصحيح الاول، وهو جواز الجميع، ولو رأى الامام أن يبلغ به ثمانين أو ما بينها وبين الاربعين، جاز على الاصح، فعلى هذا هل الزيادة تعزير أم حد ؟ وجهان، أصحهما عند الجمهور: تعزير، لانها لو كانت حدا لم يجز تركها، وتركها جائز، فعلى هذا هو تعزيرات على أنواع من هذيان يصدر منه ونحوه، والثاني: أن الزيادة حد، لان التعزير لا يكون إلا على جناية مخففة، ثم كان ينبغي أن لا ينحصر في ثمانين وتجوز الزيادة عليها وهي غير جائزة بالاتفاق، وعلى هذا حد الشرب مخصوص بأن يتحتم بعضه، ويتعلق بعضه باجتهاد الامام.
فصل في كيفية الجلد في الزنى والقذف والشرب وهو بسوط معتدل الحجم بين القضيب والعصا، وبه تعتبر الخشبات، ولا يكون رطبا ولا شديد اليبوسة، خفيفا لا يؤلم، ويضرب ضربا بين ضربين، فلا يرفع الضارب يده فوق رأسه بحيث يبدو بياض إبطه، لانه يشتد ألمه، ولا يضع السوط عليه وضعا، فإنه لا يؤلم، ولكن يرفع ذراعه ليكسب السوط ثقلا، فإن كان المجلود رقيق الجلد يدمى بالضرب الخفيف، لم يبال به ويفرق السياط على الاعضاء، ويتقي الوجه والمقاتل، كثغرة النحر والفرج ونحوهما، وهل يجتنب الرأس ؟ وجهان، أصحهما عند الجمهور: لا، لانه مستور بالشعر بخلاف الوجه، ولا تشد يده بل تترك يداه ليتقي بهما، ولا يلقى على وجهه، ولا يمد، ولا يجرد عن الثياب بل يترك عليه قميص أو قميصان، ولا يترك عليه ما يمنع الالم من جبة محشوة وفروة، ويجلد الرجل قائما، والمرأة جالسة وتلف، أو تربط عليها ثيابها، ويتولى لف ثيابها امرأة، وأما الضرب، فليس من شأن النساء، فيتولاه رجل، ويوالي بين الضربات، ولا يجوز أن يفرق، فيضرب في كل يوم سوطا أو سوطين، لانه لا يحصل به إيلام وتنكيل وزجر، ولو جلد في الزنى في يوم خمسين متوالية، وفي يوم يليه خمسين كذلك، أجزأ، قال الامام في ضبط التفريق: إن كان بحيث لا يحصل من كل دفعة ألم له وقع، كسوط أو سوطين في كل يوم، لم يجز، وإن كان يؤلم ويؤثر بماله وقع، فإن

(7/379)


لم يتخلل زمن يزول فيه الالم الاول، كفى وإن تخلل، لم يكف على الاصح. فرع لا يقام حد الشرب في السكر، بل يؤخر حتى يضيق. فرع لا تقام الحدود في المسجد ولا التعزير، فإن فعل، وقع الموقع، كالصلاة في أرض معصوبة.
باب التعزير
هو مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، سواء كانت من مقدمات ما فيه حد، كمباشرة أجنبية بغير الوطئ، وسرقة ما لا قطع فيه، والسب والايذاء بغير

(7/380)


قذف، أو لم يكن، كشهادة الزور والضرب بغير حق، والتزوير، وسائر المعاصي، وسواء تعلقت المعصية بحق الله تعالى أم بحق آدمي، ثم جنس التعزير من الحبس أو الضرب جلدا أو صفعا إلى رأي الامام، فيجتهد ويعمل ما يراه من الجمع بينهما والاقتصار على أحدهما، وله الاقتصار على التوبيخ باللسان على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى. قال الامام: قال الاصحاب: عليه أن يراعي الترتيب والتدريج، كما يراعيه دافع الصائل، فلا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها مؤثرا كافيا، وأما قدر

(7/381)


التعزير، فإن كان من غير جنس الحد، كالحبس، تعلق باجتهاد الامام، وإن رأى الجلد فيجب أن ينقص عن الحد، وفي ضبطه أوجه، أحدها: أنه يفرق بين المعاصي وتقاس كل معصية بما يناسبها من الجناية الموجبة للحد، فيعزر في الوطئ المحرم الذي لا يوجب حدا، وفي مقدمات الزنى دون حد الزنى، وفي الايذاء والسب بغير قذف دون حد القذف، وفي إدارة كأس الماء على الشرب تشبيها بشاربي الخمر دون حد الخمر، وفي مقدمات السرقة دون حد السرقة، وعلى هذا فتعزير الحر يعتبر بحده، والعبد بحده، والوجه الثاني: أن جميع المعاصي سواء ولا يزاد تعزير على عشر جلدات للحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد والثالث وهو الاصح عند الجمهور وظاهر النص: أنه تجوز الزيادة على عشرة بحيث ينقص عن أدنى حدود المعزر، فلا يزاد تعزير حر على تسع وثلاثين جلدة، ولا العبد على تسع عشرة، والحديث قال بعضهم: إنه منسوخ، واستدل بعمل الصحابة رضي الله عنهم بخلافه من غير إنكار، والرابع: يعتبر أدنى الحدود على الاطلاق، فلا يزاد حر ولا عبد على تسع عشرة، والخامس حكاه البغوي: الاعتبار بحد الحر، فيبلغ بالحر والعبد تسعا وثلاثين. فصل من الاصحاب من يخص لفظ التعزير بضرب الامام أو نائبه للتأديب في غير حد، ويسمي ضرب الزوج زوجته، والمعلم الصبي، والاب ولده تأديبا لا تعزيرا، ومنهم من يطلق التعزير على النوعين وهو الاشهر، فعلى هذا مستوفي التعزير الامام والزوج والاب والمعلم والسيد، أما الامام فيتولى بالولاية العامة إقامة العقوبات حدا وتعزيرا، والاب يؤدب الصغير تعليما وزجرا عن سئ الاخلاق، وكذا يؤدب المعتوه بما يضبطه، ويشبه أن تكون الام في زمن الصبي في كفالته كذلك كما

(7/382)


ذكرنا في تعليم أحكام الطهارة والصلاة والامر بها والضرب عليها أن الامهات كالآباء، والمعلم يؤدب الصبي بإذن الولي ونيابة عنه، والزوج يعزر زوجته في النشوز وما يتعلق به، ولا يعزرها فيما يتعلق بحق الله تعالى، والسيد يعزر في حق نفسه وكذا في حق الله تعالى على الاصح، وإذا أفضى تعزير إلى هلاك، وجب الضمان على عاقلة المعزر، ويكون قتله شبه عمد، فإن كان الاسراف في الضرب ظاهرا وضربه بما يقصد به القتل غالبا، فهو عمد محض، وحكى الامام عن المحققين تفريعا على هذه القاعدة أن المعزر إذا علم أن التأديب لا يحصل إلا بالضرب المبرح، لم يكن له الضرب المبرح ولا غيره، أما المبرح، فلانه مهلك، وليس له الاهلاك، وأما غيره، فلا فائدة فيه. فصل الجناية المتعلقة بحق الله تعالى خاصة، يجتهد الامام في تعزيرها بما يراه من ضرب أو حبس، أو اقتصار على التوبيخ بالكلام، وإن رأى المصلحة في العفو، فله ذلك، وإن تعلقت الجناية بحق آدمي فهل يجب التعزير إذا طلب ؟ وجهان، أحدهما: يجب، وهو مقتضى كلام صاحب المهذب كالقصاص، والثاني: لا يجب، كالتعزير لحق الله تعالى، وهذا هو الذي أطلقه الشيخ أبو حامد وغيره، ومقتضى كلام البغوي ترجيحه، وقال الامام: قدر التعزير وما به التعزير إلى رأي الامام، ولا تكاد تظهر جنايته عند الامام إلا ويوبخه، ويغلظ له القول، فيؤول الخلاف إلى أنه هل يجوز الاقتصار على التوبيخ ؟ ولو عفد مستحق العقوبة عن القصاص أو الحد أو التعزير، فهل للامام التعزير ؟ فيه أوجه، أحدها: لا، لانه أسقطها، والثاني: نعم، لان فيه حقا لله تعالى ويحتاج إلى زجره وزجر غيره عن مثل ذلك، وأصحها: إن عفا عن الحد، فلا تعزير، وإن عفا عن بعزير، عزر، لان الحد مقدر لا نظر للامام فيه، فإذا سقط، لم يعدل إلى غيره، والتعزير يتعلق أصله بنظره، فلم يؤثر فيه إسقاط غيره وبالله التوفيق.

(7/383)