روضة الطالبين وعمدة المفتين ط العلمية

روضة الطالبين - كتاب ضمان إتلاف الإمام وحكم الصيال وإتلاف البهائم
فيه ثلاثة أبواب
الأول : في ضمان يلزم الولاة بتصرفاتهم وفيه طرفان،
الأول : في موجب الضمان، والثاني في محله. أما الاول فما يفضي إلى الهلاك من التصرفات المتعلقة بالولاة أنواع: أحدها: التعزير، فإذا مات منه المعزر، وجب ضمانه، لانه تبين بالهلاك أنه جاوز الحد المشروع، وحكي وجه أنه لا ضمان إذا عزر لحق الآدمي بناء على أنه واجب إذا طلب المستحق فصار كالحد، والصحيح الاول، ويجب الضمان أيضا في تعزير الزوج والمعلم إذا أفضى إلى الهلاك، سواء ضربه المعلم بإذن أبيه، أو دون إذنه، لكن لو كان مملوكا، فضربه بإذن سيده، قال البغوي: لا ضمان، لانه لو أذن في قتله، فقتله، لم يضمنه، ثم الضمان الواجب الدية على عاقلة الزوج والمعلم، وفي حق الامام هل هو على عاقلته أم في بيت المال ؟ فيه خلاف سبق ويعود أيضا إن شاء الله تعالى، لكن لو أسرف المعزر، وظهر منه قصد القتل، تعلق به القصاص والدية المغلظة في ماله.

(7/384)


الثاني: الحد، والحدود في غير الشرب مقدرة بالنص، فمن مات منها، فالحق قتله، فلا ضمان، لكن لو أقيم الحد في حر أو برد مفرطين، ففي الضمان خلاف سبق والمذهب أنه لا ضمان أيضا، وأما حد الشرب، فإن ضرب بالنعال وأطراف الثياب فمات منها، ففي وجوب الضمان وجهان بناء على أنه هل يجوز أن يحد هكذا ؟ إن قلنا: نعم، وهو الصحيح فلا ضمان، كسائر الحدود، وإلا فيجب لانه عدل عن الجنس الواجب، ولو ضرب أربعون جلدة، فمات، ففي الضمان قولان، ويقال: وجهان، أحدهما: يضمن، لان تقديره بأربعين كان بالاجتهاد، والمشهور: لا ضمان، كسائر الحدود، لان الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على أن الشارب يضرب أربعين، وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلد في الخمر أربعين، فإن قلنا بالضمان، فهل يجب كل الضمان أم نصفه، أم يوزع على التفاوت بين ألم السياط، والضرب بالنعال، وأطراف الثياب ؟ فيه أوجه، أصحها الاول، وإن ضربه أحدا وأربعين، فهل يجب كل الضمان أم نصفه أم جزء من أحد وأربعين جزءا ؟ فيه أقوال، أظهرها: الثالث، وإن ضرب اثنين وأربعين وقلنا بالثالث، وجب جزءان من اثنين وأربعين، وعلى هذا القياس، حتى إذا ضرب ثمانين استوى القول الثاني والثالث، ووجب النصف، ولو جلد في القذف أحدا وثمانين، فمات، فهل يجب نصف الدية، أم جزء من أحد وثمانين جزءا منها ؟ فيه القولان، ثم إن كانت الزيادة من الجلاد ولم يأمره الامام إلا بالثمانين، فالضمان على اختلاف القولين على الجلاد، وإن أمر الامام بذلك، فالضمان متعلق بالامام، وكذا لو قال الامام: اضرب وأنا أعد، فغلط في العد، فزاد على الثمانين، ولو أمر الامام بثمانين في الشرب، فزاد الجلاد جلدة واحدة، ومات المجلود فأربعة أوجه، أصحها: توزع الدية أحد وثمانون جزءا، يسقط منها أربعون ويجب أربعون على الامام، وجزء على الجلاد، والثاني: يسقط ثلث الدية، ويجب على الامام ثلث، وعلى الجلاد ثلث، والثالث: يسقط نصفها، ويجب على الامام ربع، وعلى الجلاد ربع، والرابع: يسقط نصفها، ويوزع نصفها على أحد وأربعين جزءا: أربعون على الامام، وجزء على الجلاد. الثالث: الاستصلاح بقطع سلعة وبالختان وفيه مسائل: إحداها: في حكم قطع السلعة من العاقل المستقل بأمر نفسه، والسلعة بكسر

(7/385)


السين وهي غدة تخرج بين اللحم والجلدة نحو الحمصة إلى الجوزة فما فوقها، وقد يخاف منها، وقد لا يخاف، لكن تشين، فإن لم يكن في قطعها خطر، وأراد المستقل قطعها لازالة الشين، فله قطعها بنفسه، ولغيره بإذنه، وإن كان في قطعها خطر، نظر إن لم يكن في قائها خطر، لم يجز القطع لازالة الشين، فإن كان في بقائها خوف أيضا، نظر إن كان الخطر في القطع أكثر، لم يجز القطع، وإن كان في الابقاء أكثر، جاز القطع على الصحيح، وقيل: لا، لانه فتح باب الروح بخلاف الابقاء، وإن تساوى الخطر، جاز القطع على الاصح، إذ لا معنى للمنع مما لا خطر فيه، وأما من عظمت آلامه ولم يطقها، فأراد أن يريح نفسه بمهلك مذفف، فيحرم ذلك، فلو وقع في نار علم أنه لا ينجو منها، وأمكنه أن يلقي نفسه في بحر، ورأى ذلك أهون عليه من الصبر على لفحات النار، فله ذلك على الاصح، وهو قول الشيخ أبي محمد، ولو تآكل بعض الاعضاء، فهو كسلعة يخاف منها، ولو قطع السلعة، أو العضو المتأكل من المستقل قاطع بغير إذنه، فمات، لزمه القصاص، سواء فيه الامام وغيره، لانه متعد. الثانية: المولى عليه لصغر أو جنون، يجوز لوليه الخاص وهو الاب والجد أن يقطع من السلعة واليد المتأكلة، وإن كان فيه خوف وخطر إذا كان الخطر في الترك أكثر، وليس للسلطان ذلك، لان القطع يحتاج إلى نظر دقيق، وفراغ تام، وشفقة كاملة، كما أن للاب والجد تزويج البكر الصغيرة دون السلطان، قال الامام: وقد ذكرنا عند استواء الطرفين في الخوف خلافا في أن المستقل هل له القطع من نفسه، والاصح والحالة هذه أنه لا يقطع من طفله، وأما ما لا خطر فيه ولا خوف غالبا، كالفصد والحجامة وقطع سلعة بلا خطر، فيجوز فعله للولي الخاص، وكذا للسلطان، وفي التهذيب وجه أن القطع المخطر لا يجوز للولي الخاص، وفي جمع الجوامع للروياني وجه أنه لا يجوز للسلطان الفصد والحجامة، والصحيح ما سبق، وليس للاجنبي المعالجة ولا القطع المخطر بحال، ولو فعل، فسرى ومات به، تعلق بفعله القصاص والضمان، وأما السلطان إذا فعل بالصبي ما منعناه،

(7/386)


فسرى إلى نفسه، فعليه الدية مغلظة في ماله، لتعديه، وقيل: في كونه في بيت المال، أو على عاقلته القولان، كما لو أخطأ، لانه قصد الاصلاح، والمذهب الاول، وفي وجوب القصاص قولان، أظهرهما: لا يجب، لانه قصد الاصلاح، واستبعد الائمة وجوب القصاص، وقال صاحب الافصاح: القولان إذا كان للصبي أب أو جد، فإن لم يكونا فلا قود بلا خلاف، لانه لا بد له ممن يقوم بشأنه، وهذا راجع إلى أن للسلطان قطع السلعة، ولو قطع الاب والجد السلعة حيث لا يجوز، فمات، فلا قصاص للبعضية، وتجب الدية في ماله، وقيل: لا ضمان على الاب أصلا، لان ولايته أتم وإنما يقطعها للشفقة، وأما ما يجوز للاب والسلطان من فصد الصغير وحجامته وقطع سلعته للاب إذا أفضى إلى تلف، فلا ضمان فيه على الاصح، وبه قال الجماهير، لئلا يمتنع من ذلك، فيتضرر الصغير بخلاف التعزير. الثالثة: الختان واجب في حق الرجال والنساء، وقيل: سنة، وقيل: واجب في الرجل، سنة في المرأة، والصحيح المعروف هو الاول، وختان الرجل: قطع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف جميع الحشفة، ويقال لتلك الجلدة: القلفة، قال الامام: فلو بقي مقدار ينبسط على سطح الحشفة، وجب قطعه، حتى لا يبقى جلد متجاف، هذا هو الصحيح المعروف للاصحاب، وقال ابن كج: عندي يكفي قطع شئ من الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها، وأما من المرأة، فتقطع من اللحمة التي في أعلق الفرج فوق مخرج البول، وتشبه تلك اللحمة عرف الديك، فإذا قطعت، بقي أصلها كالنواة، ويكفي أن يقطع ما يقع عليه الاسم، قال الاصحاب: وإنما يجب الختان بعد البلوغ، ويستحب أن يختن في السابع من ولادته إلا أن يكون ضعيفا لا يحتمله فيؤخر حتى يحتمله، قال الامام: ولو كان الرجل ضعيف الخلقة بحيث لو ختن خيف عليه، لم يجز أن يختن، بل ينتظر حتى يصير بحيث يغلب على الظن سلامته، وفي وجه في تعليق القاضي حسين، وهو مقتضى كلام البغوي: لا يجوز ختان الصغير حتى يبلغ عشر سنين.

(7/387)


قلت: ولنا وجه في البيان وغيره أنه يجب على الولي ختان الصغير قبل بلوغه، لانه أرفق، فعليه النظر له، والصحيح أنه لا يجب حتى يبلغ، وهل يحسب يوم الولادة من السبعة المستحبة ؟ وجهان في المستظهري أصحهما: لا، وحكاه عن الاكثرين، وأما الخنثى، فلا يختن في صغره، فإذا بلغ فوجهان، أحدهما: يجب ختان فرجه ليتوصل إلى المستحق، وبهذا قطع في البيان وأصحهما: لا يجوز ختانه، لان الجرح لا يجوز بالشك، وبه قطع البغوي، فعلى الاول: إن أحسن الختان، ختن نفسه، وإلا اشترى جارية تختنه، فإن لم يمكن تولاه الرجال والنساء للضرورة، كالتطبيب، ولو كان لرجل ذكران، إن كانا عاملين، ختنا، وإن كان أحدهما، ختن وحده، وهل يعرف العمل بالجماع أو البول ؟ وجهان. والله أعلم. فرع مؤنة الختان في مال المختون، وفي وجه: يجب على الوالد إذا ختن صغيرا. فرع إذا بلغ غير مختون، أمره به الامام، فإن امتنع، أجبره، فإن ختن الممتنع، فمات، فلا ضمان، لانه مات من واجب، لكن لو وقع ختانه في حر أو برد شديدين، ففي الضمان خلاف سبق في الزنى، والمذهب وجوبه، وأجرى الامام هذا الخلاف فيما لو ختنه الاب في حر أو برد شديدين، وجعل الاب أولى بنفي الضمان، لان الاب هو الذي يتولى الختان غالبا، فهو في حقه كالحد في حق الامام، ومن ختن صبيا في سن لا يحتمله، فمات منه، لزمه القصاص، سواء الولي وغيره، لكن لا قصاص على الاب والجد للبعضية، وعليهما الدية، وإن كان في سن يحتمله، فمات، نظر إن ختنه أبوه أو جده، أو الامام إذا لم يكن له ولي غيره، فلا ضمان على الاصح، وإن ختنه أجنبي، فقال البغوي: يحتمل أن يبنى

(7/388)


على ختن الامام في الحر الشديد، إن ضمناه، ضمن هنا، وإلا فلا، وقال السرخسي: يبنى على أن الجرح اليسير هل فيه قصاص ؟ وفيه وجهان، إن قلنا: نعم، فهو عمد، وإلا فشبه عمد، وإذا أوجبنا الضمان في الختان في حر شديد، فالواجب نصف الضمان على الاصح، وقيل: كله.
الطرف الثاني : في محل ضمان إتلاف الإمام فما تعدى به من التصرفات، وقصر فيه، أو أخطأ لا يتعلق بالحكم، بأن رمى صيدا، فقتل إنسانا، حكمه فيه حكم سائر الناس، فيجب في ماله، أو على عاقلته، وأما الضمان الواجب بخطئه في الاحكام وإقامة الحدود، فهل هو على عاقلته، أم في بيت المال ؟ قولان، أظهرهما: على عاقلته وقد سبقا في باب العاقلة، فإن قلنا: على العاقلة، فالكفارة في ماله، وإن قلنا: على بيت المال، فهل الكفارة في بيت المال أم في ماله ؟ وجهان، فلو ضرب الامام في الخمر ثمانين، ومات المجلود، ففي محل الضمان القولان ولو جلد حاملا جدا، فألقت جنينا ميتا، ففي محل الغرة القولان، إن جهل حملها، فإن علمه، فقيل: بالقولين، والمذهب أنها على عاقلته، لانه عدل عن الصواب عمدا، ولو انفصل حيا ومات، وجب كل الدية ومحلها على ما ذكرنا، ولو ماتت الحامل، فقد أطلق في الختصر أنه لا يضمنها، قال الشيخ أبو حامد وغيره: إن ماتت من الجلد وحده، بأن ماتت قبل الاجهاض، فلا ضمان وهو موضع النص، وذكر ابن الصباغ أن فيه والحالة هذه الخلاف فيما لو حده في حر مفرط، فمات، وإن ماتت من الاجهاض وحده، بأن أجهضت، ثم ماتت، وأحيل الموت على الاجهاض، وجب كمال ديتها، وإن قيل: ماتت بالحد والاجهاض جميعا، وجب نصف ديتها. فرع سنذكر في الشهادات إن شاء الله تعالى أن القاضي إذا حكم بشهادة اثنين، ثم بانا عبدين أو ذميين، نقض الحكم، وإن بانا فاسقين، نقضه على الاظهر، فلو أقام الحد بشهادة اثنين، ثم بانا ذميين أو عبدين أو امرأتين أو مراهقين أو فاسقين، ومات المحدود، فقد بان بطلان الحكم، فينظر إن قصر في البحث عن حالهما، فالضمان عليه لا يتعلق ببيت المال ولا بالعاقلة أيضا إن تعمد، قال الامام: وإنما يتردد في وجوب القصاص، والراجح الوجوب، لان الهجوم على القتل ممنوع منه بالاجماع، ويحتمل أن لا يجب بإسناده القتل إلى صورة البينة،

(7/389)


وإن لم يقصر في البحث، بل بذل وسعه، جرى القولان في أن الضمان على عاقلته أم في بيت المال ثم إذا ضمنت العاملة أو بيت المال، فهل يثبت الرجوع على الشاهدين ؟ فيه أوجه، أحدها: نعم، لانهما غرا القاضي، وأصحمما: لا، لانهما يزعمان أنهما صادقان، ولم يوجد منهما تعد، وقد ينسب القاضي إلى تقصير في البحث، والثالث: يثبت الرجوع للعاقلة دون بيت المال، فإن أثبتنا الرجوع، طولب الذميان في الحال، وفي العبدين يتعلق بذمتهما على الاصح، وقيل: بالرقبة، وأما المراهقان، فإن قلنا: يتعلق برقبة العبدين نزلنا ما وجد منهما منزلة الاتلاف، وإلا فقول الصبي لا يصلح للالتزام، فلا رجوع، وإن بانا فأسقين، فإن قلنا: لا ينقض الحكم، فلا أثر له، وإن قلنا: ينقض، ففي الرجوع عليهما أوجه، أحدها: نعم كالعبدين، والثاني: لا، لان العبد مأمور بإظهار حاله بخلاف الفاسق، وأصحها: إن كان مجاهرا بالفسق، ثبت الرجوع، لان عليه أن يمتنع من الشهادة، ولان قبول شهادته مع مجاهرته يشعر بتعزيره، وإن كان مكاتما، فلا. فرع قتل الجلاد وضربه بأمر الامام كمباشرة الامام إذا لم يعلم ظلمه وخطأه، ويتعلق الضمان والقصاص بالامام دون الجلاد، لانه آلته، ولو ضمناه لم يتول الجلد أحد، وإن علم أن الامام ظالم أو مخطئ، ولم يكرهه الامام عليه فالقصاص والضمان على الجلاد دون الامام، لانه إذا علم الحال لزمه الامتناع ويجئ على قولنا: أمر الامام إكراه، أن يكون هذا كما لو أكرهه، وإن أكرهه، فالضمان عليهما، وإن اقتضى الحال القصاص، وجب على الامام، وفي الجلاد قولان، ولو أمره بضربه وقال: أنا ظالم في ضربه، فضربه الجلاد ومات، قال البغوي: إن قلنا: أمر السلطان ليس بإكراه، فالضمان على الجلاد، وإن قلنا: إكراه، فإن قلنا: لا ضمان على المكره، فالضمان على الامام، ولو قال: افعل إن شئت، فليس بإكراه قطعا، ولو قال: اضرب ما شئت، أو ما أحببت، لم تكن له الزيادة على الحد، فإن زاد، ضمن، ولو أمره بقتل في محل الاجتهاد، كقتل مسلم بذمي، وحر بعبد، والامام والجلاد يعتقدان أنه غير جائز، فقتله، قال البغوي القود عليهما إن جعلنا أمر السلطان إكراها، وأوجبنا القود على المكره والمكره جميعا، ولو اعتقد الجلاد منعه، والامام جوازه، أو ظن أن الامام اختار ذلك المذهب، ففي وجوب القصاص والضمان على الجلاد وجهان، أصحهما عند الاصحاب:

(7/390)


الوجوب، وبه قطع ابن الصباغ والبغوي وغيرهما، لان واجبه الامتناع، فإن أكره فحكمه معروف، والثاني: لا اعتبار باعتقاد الامام ولو كان الامام لا يعتقد جواز قتل حر بعبد، فأمره به تاركا للبحث، وكان الجلاد يعتقد جوازه، فقتله عملا باعتقاده، فقد بني على الوجهين قتله، فإن اعتبرنا اعتقاد الامام، وجب القصاص، وإن اعتبرنا اعتقاد الجلاد، فلا، قال الامام: وهذا ضعيف هنا، لان الجلاد مختار عالم بحال والامام لم يفوض إليه، النظر والاجتهاد بل القتل فقط، فالجلاد كالمستقل.
فصل لا ضمان على الحجام إذا حجم أو فصد بإذن من يعتبر إذنه، فأفضى إلى تلف، وكذا لو قطع سلعة بالاذن للمعنى الذي ذكرناه في الجلاد بخلاف من قطع يدا صحيحة بإذن صاحبها، فمات منه، حيث توجب الدية على قول، لان الاذن هناك لا يبيح القتل، وهنا الفعل جائز لغرض صحيح، وأما إذا قطع بالاذن، ووقف القطع فلم يسر، فلا ضمان بلا خلاف. وبالله التوفيق.
الباب الثاني : في الصيال هو متضمن لمعرفة الصائل وهو المدفوع، والمصول عليه وهو المدفوع عنه، وكيفية الدفع وحكمه. أما الصائل، فكل قاصد من مسلم وذمي وعبد وحر وصبي ومجنون وبهيمة، يجوز دفعه فإن أبى الدفع على نفسه، فلا ضمان بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا قيمة، ولو سقطت جرة من علو، واستوت على رأس إنسان وخاف منها ولم يمكنه دفعها إلا بإتلافها ففي الضمان وجهان، أصحهما: بجب لانه قصد لها بخلاف الآدمي والبهيمة، ولو حالت بهيمة بين جائع وطعامه في بيت، ولم يصله إلا بقتلها، ففي الضمان وجهان، ويمكن أن يجعل الاصح هنا نفي الضمان كما ذكرنا فيما لو عم الجراد المسالك فوطئه المحرم.

(7/391)


أما المصول عليه، فيجوز الدفع عن النفس والطرف ومنفعته، والبضع ومقدماته، وعن المال وإن قل إذا كانت المذكورات معصومة، ويجوز لغير المصول عليه الدفع، وله دفع مسلم صال على ذمي، وأب صال على ابنه، وسيد صال على عبده، لانهم معصومون مظلومون، وحكى الامام قولا قديما أنه لا يجوز الدفع عن المال إذا لم يحصل الدفع إلا بقتل، أو قطع طرف، والمشهور الاول، وبه قطع الجماهير، وفي الحديث الصحيح: من قتل دون ماله فهو شهيد فله الدفع في كل هذه الصور، وإن أتى الدفع على الصائل، فلا ضمان فيه، ولو وجده ينال من جاريته ما دون الفرج، فله دفعه، وإن أتى على نفسه وللاجنبي دفعه كذلك حسبة، ويجوز أن يكون المدفوع عنه ملك القاصد، فمن رأى إنسانا يتلف مال نفسه، بأن يحرق كدسه، ويغرق متاعه، جاز له دفعه، وإن كان حيوانا بأن رآه يشدخ رأس حماره، وجب على الاجنبي دفعه على الاصح وبه قطع البغوي، لحرمة الحيوان، أما كيفية الدفع، فيجب على المصول عليه رعاية التدريج والدفع بالاهون فالاهون، فإن أمكنه الدفع بالكلام، أو الصياح، أو الاستغاثة بالناس، لم يكن له الضرب، وكذا لو اندفع شره، بأن وقع في ماء أو نار، أو انكسرت رجله، لم يضربه، وكذا لو حال بينهما جدار أو خندق أو نهر عظيم، فإن حال نهر صغير وغلب على ظنه أنه إن عبر النهر عليه، قال ابن الصباغ: فله رميه ومنعه العبور، أما إذا لم يندفع الصائل إلا بالضرب، فله الضرب، ويراعى فيه الترتيب، فإن أمكن باليد، لم يضربه بسوط، وإن أمكن بسوط، لم يجز بالعصا، ولو أمكن بقطع عضو، لم يجز إهلاكه، وإذا أمكن بدرجة، فدفعه بما فوقها، ضمن، وكذا لو هرب فتبعه وضربه، ضمن، ولو ضربه ضربة، فولى هاربا أو سقط، وبطل صياله فضربه أخرى، فالثانية مضمونة بالقصاص وغيره، فإن مات منهما، لم يجب قصاص النفس، ويجب نصف الدية، لانه هلك من مضمون وغيره، ولو عاد بعد الجرحين، فصال، فضربه ثالثة فمات منها، لزمه ثلث الدية، ومتى غلب على ظنه أن الذي أقبل عليه بالسيف يقصده، فله دفعه بما يمكنه، وإن لم يضربه المقبل، ولو كان الصائل

(7/392)


يندفع بالسوط والعصا، ولم يجد المصول عليه إلا سيفا أو سكينا، فالصحيح أن له الضرب به، لانه لا يمكنه الدفع إلا به ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب سوط، والمعتبر في حق كل شخص حاجته، ولذلك نقول: الحاذق الذي يحسن الدفع بأطراف السيف من غير جرح يضمن إن جرح، ومن لا يحسن، لا يضمن بالجرح، ولو قدر المصول عليه على الهرب، أو التحصن بموضع حصين، أو على الالتجاء إلى فئة هل يلزمه ذلك، أم له أن يثبت ويقاتل ؟ فيه اختلاف نص، وللاصحاب طريقان، أصحهما: على قولين، أظهرهما: يجب الهرب، لانه مأمور بتخليص نفسه بالاهون، والطريق الثاني: حمل نص الهرب على من تيقن النجاة بالهرب، والآخر على من لم يتيقن. فرع عض شخص يده، أو عضوا آخر، فليخلصه بأيسر الممكن، فإن أمكن رفع لحييه، وتخليص ما عضه، فعل، وإلا ضرب شدقه ليدعه، فإن لم يمكنه وسل يده، فسقطت أسنانه، فلا ضمان، وسواء كان العاض ظالما أو مظلوما، لان العض لا يجوز بحال، ومتى أمكنه التخلص بضرب فمه، لا يجوز العدول إلى غيره، فإن لم يمكنه إلا بعضو آخر، بأن يبعج بطنه، أو يفقأ عينه، أو يعصر خصييه، فله ذلك على الصحيح، وقيل: ليس له قصد عضو آخر.
فصل : أما حكم الدفع، فقد ذكرنا أنه جائز، وهل يجب أم يجوز الاستسلام وترك الدفع، ينظر إن قصد أخذ المال، أو إتلافه ولم يكن ذا روح، لم يجب الدفع، لان إباحة المال جائزة، وإن قصد أهله، وجب عليه الدفع بما أمكنه، لانه لا مجال فيه، وشرط البغوي للوجوب أن لا يخاف على نفسه، وإن قصد نفسه، نظر إن كان كافرا، وجب الدفع، وأشار الروياني إلى أنه لا يجب، بل يستحب وهو غلط، والصواب الاول، وبه قطع الاصحاب، وإن كان بهيمة،

(7/393)


وجب، وإن كان مسلما فقولان، وقيل: وجهان، أظهرهما: لا يجب الدفع، بل له الاستسلام، والثاني: يجب، وعن القاضي حسين أنه إن أمكنه دفعه بغير قتله، وجب، وإلا فلا، والقائلون بجواز الاستسلام، منهم من يزيد ويصفه بالاستحباب، وهو ظاهر الاحاديث، وإن كان الصائل مجنونا، أو مراهقا، فقيل: لا يجوز الاستسلام قطعا، لانهما لا إثم عليهما، كالبهيمة، والمذهب طرد القولين لحرمة الآدمي، ورضى بالشهادة. وهل يجب الدفع عن الغير ؟ فيه ثلاث طرق، أصحها: أنه كالدفع عن نفسه، فيجب حيث يجب، ولا يجب حيث لا يجب، والثاني: القطع بالوجوب، لان له الايثار بحق نفسه دون غيره، والثالث ونسبه الامام إلى معظم الاصوليين: القطع بالمنع، لان شهر السلاح يحرك الفتن، وليس ذلك من شأن آحاد الناس، وإنما هو وظيفة الامام، وعلى هذا هل يحرم أم يجوز ؟ فيه خلاف عنهم، فإن أوجبنا، فذلك إذا لم يخف على نفسه، ثم قال الامام: الخلاف في أن آحاد الناس هل لهم شهر السلاح حسبة لا يختص بالصيال، بل من أقدم على محرم، من شرب خمر أو غيره، هل لآحاد الناس منعه بما يجرح ويأتي على النفس ؟ فيه وجهان، أحدهما: نعم نهيا عن المنكر، ومنعا من المعصية، والثاني: لا، خوفا من الفتن، ونسب الثاني إلى الاصوليين، والاول إلى الفقهاء، وهو الموجود للاصحاب في كتب المذهب، حتى قال الفوراني والبغوي والروياني وغيرهم: من علم خمرا في بيت رجل، أو طنبورا، وعلم شربه، أو ضربه، فله أن يهجم على صاحب البيت، ويريق الخمر، ويفصل الطنبور، ويمنع أهل الدار الشرب والضرب، فإن لم ينتهوا، فله قتالهم وإن أتى القتال عليهم، وهو مثاب على ذلك، وفي تعليق الشيخ إبرهيم المروذي أن من رآه مكبا على معصية من زنى أو شرب خمر، أو رآه يشدخ شاة أو عبدا، فله دفعه، وإن أتى الدفع عليه، فلا ضمان.

(7/394)


فصل إذا وجد رجلا يزني بامرأته أو غيرها، لزمه منعه ودفعه، فإن هلك في الدفع، فلا شئ عليه، وإن اندفع بضرب غيره ثم قتله، لزمه القصاص إن لم يكن الزاني محصنا، فإن كان، فلا قصاص على الصحيح، وقد سبق في الجنايات، وإذا قال: قتلته لذلك، وأنكر وليه، فعلى القاتل البينة، وينظر إن ادعى أنه قصد امرأته، فدفعه فأتى الدفع على نفسه، ثبت ذلك بشاهدين، وإن ادعى أنه زنى بها وهو محصن، لم يثبت الزنى إلا بأربعة، فإن لم يكن بينة، حلف ولي القتيل على نفي العلم بما يقوله، ومكن من القصاص، ولو كان للقتيل وارثان، فحلف أحدهما، ونكل الآخر، حلف القاتل للآخر، وعليه نصف الدية للحالف، وإن كان أحدهما بالغا، والآخر صغيرا، وحلف البائع لم يقبض حتى يبلغ الصغير، فيحلف، أو يموت، فيحلف وارثه، وإن أخذ البالغ نصف الدية حكى الروياني أنه يؤخذ للصغير أيضا، فإذا بلغ، حلف، فإن نكل وحلف القاتل، رد عليه ما أخذ، ولو أقر الورثة أن مورثهم كان معها تحت ثوب يتحرك تحرك المجامع وأنزل، ولم يقروا بما يوجب الحد، لم يسقط القصاص، وإن أقروا بما يوجبه وقالوا: كان بكرا، فالقول قولهم، وعلى القاتل البينة بالحصان، ولو أخرج سارق المتاع من حرزه، ثم ألقاه وهرب، لم يكن له أن يتبعه فيضربه، فإن تبعه، فقطع يده التي وجب قطعها بالسرقة، فلا قصاص، لانها مستحقة الازالة، وكذا في قطع الطريق إذا قطع ما وجب قطعه منه لا قصاص، لكن يعزر لافتئاته، ويجئ في وجوب القصاص الخلاف السابق في الزاني المحصن، ولو وجب الجلد على زان، فجلده واحد من الناس، لم يقع حدا إلا بإذن الامام بخلاف القطع، وفي تعليق ابراهيم المروذي وجهان فيمن جلد رجلا ثمانين، وقال: كان قذفني، وأقام بينة به، هل يحسب ذلك عن الحد ؟ وبني على الوجهين أنه إن عاش هل يعاد الحد، وإن مات هل يجب القصاص على الضارب ؟. فصل إذا نظر إلى حرمة إنسان في داره من كوة، أو ثقب، أو شق باب، فنهاه صاحب الدار، فلم ينته، فرماه بحصاة ونحوها، فأصاب عينه فأعماه، أو أصاب قريبا من عينه فجرحه، فلا ضمان، وإن سرى إلى النفس لم يضمن، قال الشافعي رحمه الله: ولو ثبت المطلع، ولم يندفع بعد رميه بالشئ الخفيف، استغاث عليه صاحب الدار، فإن لم يكن في موضع غوث، قال: أحببت أن ينشده

(7/395)


بالله تعالى، فإن لم يندفع، فله ضربه بالسلاح ويناله بما يردعه، فإن أتى على نفسه، فلا ضمان، ولو لم ينل منه صاحب الدار، عاقبه السلطان، وسواء كان وقوف الناظر في الشارع أو في سكة منسدة الاسفل، أو في ملك نفسه، إذ ليس للواقف في ملكه مد النظر إلى حرم الناس، وعن القاضي حسين وجه ضعيف أنه ليس له قصد عينه إذا وقف في الشارع، أو ملك نفسه، وإنما يقصده إذا وقف في ملك المنظور إليه وليس بشئ، ثم إنما يرمي عينه إذا قصد النظر والتطلع، أما إذا كان مخطئا، أو وقع بصره اتفاقا، وعلم صاحب الدار الحال، فلا يرميه، فلو رماه، وقال الناظر: لم أكن قاصدا، أو لم أطلع على شئ، فلا شئ على الرامي، لان الاطلاع حاصل، وقصده أمر باطن لا يطلع عليه، وهذا ذهاب إلى جواز الرمي من غير تحقق قصده، وفي كلام الامام ما يدل على أنه لا يرمي حتى يتبين الحال، وهو حسن. فرع هل يجوز رميه قبل إنذاره ؟ وجهان، أحدهما يحكى عن الشيخ أبي حامد والقاضي حسين: لا، بل ينذره ويزجره ويأمره بالانصراف، فإن أصر، رماه، جريا على قياس الدفع بالاهون، ولانه قد يكون له عذر، وأصحهما وبه قال الماسرجسي، والقاضي أبو الطيب، وجزم به الغزالي: يجوز رميه قبل الانذار، واستدل صاحب التقريب بجواز الرمي هنا قبل الانذار على أنه لا يجب تقديم الكلام في دفع كل صائل، وأنه يجوز للمصول عليه الابتداء بالفعل، قال الامام: مجال التردد في كلامه هو موعظة قد تفيد وقد لا تفيد، فأما ما يوثق بكونه دافعا من تخويف وزعقة مزعجة، فيجب قطعا، وهذا أحسن، وينبغي أن يقال: ما لا يوثق بكونه دافعا، ويخاف من الابتداء به مبادرة الصائل لا يجب الابتداء به قطعا. فرع ليكن الرمي بشئ خفيف تقصد العين بمثله، كبندقة وحصى خفيفة، أما إذا رشقه بنشاب، أو رماه بحجر ثقيل، فيتعلق به القصاص والدية، لكن لو لم يمكن قصد عينه، أو لم ينزجر، فيستغيث عليه ويدفعه بما أمكنه كما سبق، ولا يقصد رمي غير العين إذا أمكنه إصابتها، فإن لم يمكن، فرمى عضوا آخر، ففي التهذيب حكاية وجهين فيه، ونقل أنه لو أصاب موضعا بعيدا عن عينه بلا قصد، فلا يضمن على الاصح، والاشبه ما ذكره الروياني أنه إن رماه، فأصاب

(7/396)


غير العين، فإن كان بعيدا لا يخطئ من العين إليه، ضمن، وإن كان قريبا يخطئ إليه، لم يضمن. فرع لو كان للناظر محرم في الدار، أو زوجة، أو متاع، لم يجز قصد عينه، لان له في النظر شبهة، وقيل: لا يكفي أن يكون له في الدار محرم، بل لا يمنع قصد عينه إلا إذا لم يكن في الدار إلا محارمه، والصحيح الاول، ولو كان الناظر محرما لحرم صاحب الدار، فلا يرمى إلا أن تكون متجردة، إذا ليس للمحرم النظر إلى ما بين السرة والركبة. فرع لو لم يكن في الدار حرم، بل كان فيها المالك وحده، فإن كان مكشوف العورة، فله الرمي ولا ضمان، وإلا فوجهان، أصحهما: لا يجوز رميه، والثاني: يجوز، لان من الاحوال ما يكره الاطلاع عليه، ولو كان الحرم في الدار مستترات بالثياب، أو في بيت، أو منعطف لا يمتد النظر إليهن، فهل يجوز قصد عينه ؟ وجهان، أصحهما: نعم، لعموم الاحاديث، ولانه يريد سترهن عن الاعين وإن كن مستورات بثياب، ولان الحرم في الدار لا يدرى متى يسترن وينكشفن، فيحسم باب النظر. فرع لو كان باب الدار مفتوحا، فنظر منه، أو من كوة واسعة، أو ثلمة في الجدار، فإن كان مجتازا، لم يجز رميه، وإن وقف ونظر متعمدا، لم يجز رميه أيضا في الاصح، لتفريط صاحب الدار، ولو نظر من سطح نفسه، أو نظر المؤذن من المنارة، جاز رميه في الاصح، إذ لا تفريط من صاحب الدار، ولو وضع الاعمى عينه على ضق الباب، فرماه، ضمن، سواء علم عماه، أم لا، ولو نظرت المرأة أو المراهق، جاز رميهما على الاصح، ولو قعد في طريق مكشوف العورة، فنظر إليه ناظر، لم يجز له رميه، لانه الهاتك حرمته، قال ابن المرزبان: لو دخل مسجدا، وكشف عورته، وأغلق الباب أو لم يغلقه، فنظر إليه إنسان، لم يكن له رميه، لان الموضع لا يختص به، ولو كانت الدار ملكا للناظر، قال السرخسي: إن كان من فيها غاصبا، لم يكن له الرمي، وإن كان مستأجرا، فله ذلك، وفي المستعير وجهان. فرع لو انصرف الناظر قبل الرمي إليه، لم يجز أن يتبعه ويرميه، كالصائل إذا أدبر.

(7/397)


فرع لو دخل دار رجل بغير إذنه، فله أمره بالخروج ودفعه، كما يدفعه عن سائر أمواله، والاصح أنه لا يدفعه قبل الانذار، كسائر أنواع الدفع، وبه قال الماسرجسي، ثم هل يتعين قصد رجله لكون الدخول بها كما يتعين قصد العين في النظر، أم لا يتعين، لانه دخل بجميع البدن ؟ وجهان، أصحهما: الثاني، وهل يجوز قصد العين ؟ وجهان، قال أبو إسحق وأبو علي بن أبي هريرة والطبري: يجوز، لانه بأول الهجوم متطلع، ومنهم من منعه، والاصح: أن له دفعه بما يتيسر، ولا يتعين قصد عضو بعينه، ولا يمتنع قصد عضو. ودخول الخيمة في الصحراء، كالدار في البنيان، ولو أخذ المتاع وخرج، فله أن يتبعه ويقاتله إلى أن يطرح متاعه، ولو قتله وقال: قتلته، لانه كابر ولم يخرج، وأنكر الولي فهو المصدق، وعلى القاتل البينة، وإن قال: قتلته، لانه قصدني، فكذلك، وقد ذكر أنه يحتاج إلى بينة بأنه دخل داره مقبلا شاهرا سلاحه، ولا تكفي بينة بأنه دخل داره بسلاح من غير شهر. فرع لو وضع أذنه على شق الباب، أو وقف على الباب يتسمع، لم يجز رمي أذنه، إذ ليس السمع كالبصر في الاطلاع على العورات، وقال الامام: وفي بعض التعاليق عن شيخي وجه، ولا أثق بالمعلق.
فصل في مسائل من الصيال قال ابن كج: لو صال عليه فحل، وأمكنه الهرب، فلم يهرب وقتله دفعا، هل يلزمه الضمان ؟ يبنى على أنه هل يجب الهرب إذا صال عليه إنسان، إن قلنا: نعم، ضمن، وإلا فلا، وأبدى ترددا في حل أكل لحم البهيمة التي تلفت بالدفع، قال إبرهيم المروذي: إن لم يصب المذبح، لم تحل، وإن أصابه، فوجهان، لانه لم يقصد الذبح والاكل، ولو صال العبد المبيع على البائع، أو أجنبي قبل القبض، فقتله دفعا، انفسخ العقد، ولو صال على المشتري فقتله، ففي مصيره قابضا وجهان. ولو صال العبد المغصوب أو المستعار على مالكه، فقتله دفعا، لم يبرأ الغاصب والمستعير على الاصح، وفي

(7/398)


البيان أنه لو قطع يد الصائل دفعا، فلما ولى تبعه فقتله، لزمه القصاص في النفس، ثم حكى عن بعض الاصحاب أن لورثة المصول عليه أن يرجعوا في تركة الصائل بنصف الدية، قال: والذي يقتضيه المذهب، أنهم لا يرجون بشئ، لان النفس لا تنقص بنقص اليد.
الباب الثالث : في ضمان ما تتلفه البهائم إذا اتلفت البهيمة، فإما أن لا يكون معها أحد من مالك وغيره، وإما أن يكون. الحال الاول: أن لا يكون أحد، وأتلفت زرعا أو غيره، نظر إن أتلفته بالنهار، فلا ضمان على صاحبها، وإن أتلفته بالليل، لزم صاحبها الضمان، للحديث الصحيح في ذلك، ولان العادة أن أصحاب الزروع والبساتين يحفظونها نهارا، ولا بد من إرسال المواشي للرعي، ثم العادة أنها لا تترك منتشرة ليلا، فإذا تركها ليلا، فقد قصر، فضمن، ولو جرت العادة في ناحية بالعكس، فكانوا يرسلون المواشي ليلا للرعي، ويحفظونها نهارا، وكانوا يحفظون الزرع ليلا، فوجهان، أصحهما: ينعكس الحكم، فيضمن ما أتلفته بالنهار دون الليل اتباعا لمعنى الخبر والعادة، والثاني: لا تأثير للعادة ويتعلق به فروع. الاول: المزارع في الصحراء والبساتين التي لا جدار لها، حكمها ما ذكرنا، أما إذا كان الزرع في محوط، وكان للبساتين باب يغلق، فتركه مفتوحا فوجهان، أحدهما: الحكم كذلك لاطلاق الحديث ولان العادة حفظ البهائم وربطها ليلا، فإرسالها تقصير، وأصحهما: لا ضمان وإن أتلفت بالليل، لان التقصير من صاحب الزرع بفتح الباب. الثاني: إنما يعتاد إرسال المواشي إذا كان هناك مراع بعيدة عن المزارع، وحينئذ إن فرض انتشارها إلى أطراف المزارع، لم يعد تقصيرا، فأما إذا كانت المراعي متوسطة للمزارع، أو كانت البهائم ترعى في حريم السواقي، فلا يعتاد إرسالها بلا راع، فإن أرسلها، فمقصر ضامن لما أفسدته وإن كان نهارا، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور.

(7/399)


الثالث: لو ربط بهيمته، وأغلق بابه، واحتاط على العادة، ففتح الباب لص، أو انهدم الجدار، فخرجت ليلا، فلا ضمان، إذ لا تقصير، ولو قصر صاحب البهيمة، وحضر صاحب الزرع، فإن قدر على تنفيرها، فليفعل، فإن تهاون فهو المقصر المضيع لزرعه، فلا ضمان على الصحيح، وينبغي أن لا يبالغ التنفير والابعاد، بل يقتصر على قدر الحاجة، فإن زاد، فضاعت، قال إبرهيم المروذي: لزمه الضمان وتصير داخله في ضمانه بالتبعيد فيق قدر الحاجة، ولو أخرجها من زرعه وأدخلها في زرع غيره، فأفسدته، لزمه الضمان. فإن كانت محفوفة بمزارع الناس، ولم يمكن إخراجها إلا بإدخالها مزرعة غيره، لم يجز أن يقي مال نفسه بمال غيره، بل يصبر ويغرم صاحبها. الرابع: إذا أرسل دابة في البلد، فأتلفت شيئا، ضمن على الاصح، وجميع ما ذكرنا فيما إذا تعلق إرسال الدابة وضبطها باختياره، فإن انفلتت، لم يضمن ما أتلفته بحال، ولو ربط دابته في موات، أو ملك نفسه، وغاب عنها، لم يضمن ما تتلفه، وإن ربطها في الطريق على باب داره، أو في موضع آخر، لزمه الضمان، سواء كان الطريق ضيقا أو واسعا، لان الارتفاق في الطريق إنما يجوز بشرط سلامة العاقبة، كإشراع الجناح، وقيل: إن كان واسعا، فلا ضمان، والصحيح المنصوص هو الاول، ولم يتعرضوا للفرق بين ربطه بإذن الامام ودون إذنه. فرع إذا أرسل الحمام، أو غيرها من الطير، فكسرت شيئا، أو التقطت حبا، فلا ضمان، لان العادة إرسالها، ذكره ابن الصباغ. الحال الثاني: إذا كان مع البهيمة شخص، ضمن ما أتلفته من نفس ومال، سواء أتلفت ليلا أو نهارا، وسواء كان سائقها أو راكبها أو قائدها، وسواء أتلفت بيدها أو رجلها أو عضها أو ذنبها، لانها تحت يده وعليه تعهدها وحفظها، وسواء كان الذي مع البهيمة مالكها أو أجيره، أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا، لشمول اليد، وسواء البهيمة الواحدة والعدد، كالابل المقطورة، وحكى ابن كج وجها أنه إن كانت

(7/400)


الماشية مما تساق، كالغنم، فساقها، لم يضمن، وإن كانت مما يقاد، فساقها، ضمن، والصحيح أنه يضمن في الحالين وبه قطع الجماهير، ولو كان معها قجئد وسائق، فالضمان عليهما نصفين، وفي الراكب مع السائق أو القائد وجهان، أحدهما: عليهما نصفين، والثاني: يخص الراكب بالضمان لقوة يده وتصرفه، ولو اجتمع راكب وسائق وقائد، فهل يختص الراكب بالضمان أم يجب عليهم أثلاثا ؟ وجهان، ولو كان يسير دابة، فنخسها إنسان، فرمحت وأتلفت شيئا، فالضمان على الناخس على الصحيح، وقيل: عليهما، ولو انفلتت الدابة من يد صاحبها وأتلفت شيئا، فلا ضمان عليه من يده، فلو أمسك على اللجام، وركبت رأسها فهل يضمن ما تتلفه ؟ قولان، وعن صاحب التلخيص طرد الخلاف، وإن لم يكن معها الراكب، كما إذا غلبت السفينتان الملاحين، قال الامام: والدابة النزقة التي لا تنضبط بالكبح، والترديد في معاطف اللجام، لا تركب في الاسواق، ومن ركبها، فهو مقصر ضامن لما تتلفه، وإذا راثت الدابة، أو بالت في سيرها في الطريق، فزلق به إنسان، وتلفت نفس أو مال، أو فسد شئ من رشاش الوحل بممشاها وقت الوحول والانداء، أو مما يثور من الغبار، وقد يضر ذلك بثياب البزازين والفواكه، فلا ضمان في كل ذلك، لان الطريق لا يخلو عنه، والمنع من الطرق لا سبيل إليه، لكن ينبغي أن يحترز مما لا يعتاد، كالركض المفرط في الوحل، والاجراء في مجتمع الوحول، فإن خالف، ضمن ما يحدث منه، وكذا لو ساق الابل في الاسواق غير مقطورة، لانه لا يمكن ضبطها حينئذ، وإذا بالت الدابة، أو راثت في الطريق وقد وقفها فيه، فأفضى المرور في موضع البول إلى تلف، فعلى الخلاف

(7/401)


السابق فيما لو أتلفت الدابة الموقوفة هناك شيئا، والمذهب: أنه لا ضمان وقيل: يفرق بين طريق واسع وضيق، وعن ابن الوكيل وجه أنه يجوز أن تقف الدابة في الطريق مطلقا، كما يجوز أن يجريها، فإذا بالت أو راثت في وقوفها، وتلف به إنسان، فلا ضمان، ولو كان يركض دابته، فأصاب شئ من موضع السنابك عين إنسان، وأبطل ضوءها، فإن كان الموضع موضع ركض، فلا ضمان، وإلا فيضمن، ولو كان يسوق دابة عليها حطب، أو حمله عى ظهره، أو على عجلة، فاحتك ببناء وأسقطه، لزمه ضمانه، وإن دخل السوق به، وتلف منه مال أو نفس، ففي التهذيب وغيره أنه إن كان ذلك وقت الزحام، ضمن، وإن لم يكن زحام، وتمزق ثوبه بخشبة تعلقت به مثلا، فإن كان صاحب الثوب مستقبلا للدابة، فلا ضمان، لان التقصير منه إلا أن يكون أعمى، فعلى صاحب الدابة اعلامه، وإن كان يمشي قدام الدابة، لزم صاحبها الضمان إذا لم يعلمه، لانه مقصر في العادة، وإن كان من صاحب الثوب جذبه أيضا بأن تعلقت الخشبة بثوبه فجذبه وجذبتها الدابة، فعلى صاحبها نصف الضمان، ولو كان يمشي، فوقع مقدم مداسه على مؤخر مداس غيره وتمزق، لزمه نصف الضمان، لانه تمزق بفعله وفعل صاحبه، هكذا ذكره إبرهيم المروذي، وينبغي أن يقال: إن تمزق مؤخر مداس السابق، فالضمان على اللاحق، وإن تمزق مقدم مداس اللاحق، فلا ضمان على السابق، وجميع ما ذكرنا في وجوب الضمان على صاحب الدابة هو فيما إذا لم يوجد من صاحب المال تقصير، فإن وجد بأن عرضه للدابة، أو وضعه في الطريق، فلا ضمان على صاحب الدابة. فرع إذا كانت له هرة تأخذ الطيور، وتقلب القدور، فأتلفت شيئا فهل على صاحبها ضمان ؟ وجهان، أصحهما: نعم، سواء أتلفت ليلا أو نهارا، لان مثل هذه الهرة ينبغي أن تربط ويكف شرها، وكذا الحكم في كل حيوان تولع

(7/402)


بالتعدي، والثاني: لا ضمان سواء أتلفت ليلا أو نهارا، لان العادة لا تربط، أما إذا لم يعهد منها ذلك فوجهان، أصحهما: لا ضمان، لان العادة حفظ الطعام عنها لا ربطها، والثاني: يفرق بين الليل والنهار كما سبق في البهيمة، وأطلق الامام في ضمان ما تتلفه الهرة أربعة أوجه، أحدها: يضمن، والثاني: لا، والثالث: يضمن ليلا لا نهارا، كالبهيمة، والرابع: عكسه، لان الاشياء تحفظ عنها ليلا، وإذا أخذت الهرة حمامة وهي حية، جاز فتل أذنها وضرب فمها لترسلها، وإذا قصدت الحمام، فأهلكت في الدفع، فلا ضمان، فلو صارت ضارية مفسدة فهل يجوز قتلها في حال سكونها ؟ وجهان، أصحهما وبه قال القفال: لا يجوز، لان ضراوتها عارضة والتحرز عنها سهل، وقال القاضي حسين: تلتحق بالفواسق الخمس، فيجوز قتلها، ولا يختص بحال ظهور الشر، قال الامام: وقد انتظم لي كلام الاصحاب أن الفواسق مقتولات لا يعصمها الاقتناء، ولا يجري الملك عليها، ولا أثر لليد والاختصاص فيها. فرع لو كان في داره كلب عقور، أو دابة رموح، فدخلها إنسان، فرمحته، أو عضه الكلب، فلا ضمان إن دخل بغير إذن صاحب الدار، أو بإذنه وأعلمه بحال الكلب والدابة، وإن لم يعلمه فقولان، كما لو وضع بين يديه طعاما مسموما، ومنهم من خص الخلاف بمن كان أعمى، أو في ظلمة، وقطع بنفي الضمان إذا كان بصيرا يرى. فرع لو ابتلعت البهيمة في مرورها جوهرة، ضمنها صاحبها إن كان معها، أو وجد منه تقصير، بأن طرح لؤلؤة غيره بين يدي دجاجة، وإلا فوجهان، أحدهما: يفرق بين الليل والنهار، كالزرع، والثاني: يضمن ليلا ونهارا، وإذا أوجبنا الضمان، فطلب صاحب الجوهرة ذبحها ورد الجوهرة، فقد سبق بيانه في الغصب.
فصل في مسائل منثورة من الباب وربما سبق بعضها فأعدناه، أو صح : في فتاوى البغوي أن الراعي كالمالك يضمن ما أتلفته الدابة في يده، ولو

(7/403)


كان عنده دابة وديعة، فأرسلها فأتلفت، لزمه الضمان ليلا كان أو نهارا، لان عليه حفظها ليلا ونهارا، وفي هذا توقف، ويشبه أن يقال: عليه حفظها بحسب ما يحفظ الملاك، وأنه لو استأجر رجلا لحفظ دوابه، فأتلفت زرعا ليلا أو نهارا، فعلى الاجير الضمان، لان عليه حفظها في الوقتين، وذكر أنه رأى المسألة كذلك في طريقة العراق. قلت: ينبغي أن لا يضمن الاجير والمودع إذا أتلفت ليلا كان أو نهارا، لان على صاحب الزرع حفظه نهارا، وتفريط الاجير إنما يؤثر في أن مالك الدابة يضمنه. والله أعلم. وأنه لو دخلت دابة ملك رجل فأخرجها، ضمن، كما لو هبت الريح بثوب في حجره، فألقاه، ضمن، بل عليه ردها إلى المالك، فإن لم يجده سلمها إلى الحاكم إلا أن تكون مسيبة من جهة المالك، كالابل والبقر، وعلى هذا فالذي سبق أنه يخرجها من زرعه إلا إذا كان زرعه محفوفا بزرع الغير يحمل على ما إذا كانت مسيبة من جهة المالك، وأنها لو دخلت بهيمة أرضه، فتلف زرعه، دفعها كما يدفعها لو صالت، فإن نحاها عن الزرع، واندفع ضررها، لم يجز إخراجها عن الملك، لان شغلها المكان وإن كان فيه ضرر بحيث لا يبيح إضاعة مال غيره، ولو أن مالكها أدخلها في ملك صاحب الارض بغير إذنه، فأخرجها بعد غيبة مالكها، أو وضع إنسان متاعه في المفازة على دابة شخص بغير إذنه، وغاب، ألقاه صاحب الدابة، فيحتمل وجهين في الضمان وعدمه، وأنه لو كان يقطع شجرة في ملكه، فسقطت على رجل أحد النظارة، فانكسرت، فإن عرف القاطع أنها إذا سقطت تصيب الناظر، ولم يعرف الناظر ذلك، ولا أعلمه القاطع، ضمن القاطع، سواء دخل ملكه بإذنه أو بغير إذنه، وإن عرف الناظر ذلك، أو عرفاه جميعا، أو جهلاه، فلا ضمان، وأنه لو دخلت بقرة ملكه، فأخرجها من ثلمة، فهلكت، ضمن إن لم تكن الثلمة بحيث تخرج البقرة منها بسهولة، وأنه لو دخلت دابة ملكه، فرمحت صاحب الملك، فمات، فحكم الضمان كما لو أتلفت زرعه، يفرق بين الليل والنهار، وإذا أوجبنا الضمان، فالدية على العاقلة، كحفر البئر، وأنه لو ركب صبي

(7/404)


أو بالغ دابة رجل دون إذنه، فغلبته الدابة وأتلفت شيئا، فعلى الراكب الضمان بخلاف ما لو ركب المالك، فغلبته، حيث لا يضمن في قول، لانه غير متعد، وأنه إذا أهاجت الرياح وأظلم النهار، فتفرقت غنم الراعي ووقعت في زرع، فأفسدته، فالراعي مغلوب، وفي وجوب الضمان عليه قولان، أظهرهما: لا ضمان، وكذا الحكم لو ند بعير من صاحبه، فأتلف شيئا، ولو نام وتفرقت الاغنام وأتلفت، ضمن لتقصيره، وأن الرجل لو كان على دابة، فسقطت ميتة وأهلكت شيئا، أو مات الراكب وسقط على شئ، لم يضمن، وكذا لو انتفخ ميت، وتكسر بسبب انتفاخه قارورة، بخلاف الطفل يسقط على قارورة، يضمن، لان للطفل فعلا بخلاف الميت، وأنه لو استقبل دابة فردها، فأتلفت في انصرافها شيئا، ضمنه الراد، ولو نخسها، فأسقطت الراكب، أو رمحت منه إنسانا، فأتلفته، فعلى الناخس الضمان، فإن نخس بإذن الراكب، تعلق الضمان بالراكب، ولو حل قيدا عن دابة، فخرجت وأتلفت شيئا، لا يضمن، كما لو أبطل الحرز فأخذ المال، وأنه لو سقطت دابة في وهدة، فنفر من سقطها بعير وهلك، لا يجب ضمانه على صاحب الدابة، وأنه إذا ابتاع بهيمة بثمن في ذمته، فأتلفت على المشتري مالا، ضمنه البائع، لانها في يده، كما لو أتلفت المستعارة شيئا على المعير، يضمنه المستعير، وأنه لو ألقى نخاعته في الحمام، فزلق بها حر أو عبد وانكسر، لزمه الضمان إن ألقاها على الممر وبالله التوفيق.

(7/405)