فتاوى ابن الصلاح

@
الْقسم الثَّانِي
الْمُفْتِي الَّذِي لَيْسَ بمستقل
مُنْذُ دهر طَوِيل طوي بِسَاط الْمُفْتِي المستقل الْمُطلق والمجتهد المستقل وأفضى أَمر الْفَتْوَى إِلَى الْفُقَهَاء المنتسبين إِلَى أَئِمَّة الْمذَاهب المتبوعة وللمفتي المنتسب أَحْوَال أَربع
الأولى أَن لَا يكون مُقَلدًا لإمامه لَا فِي الْمَذْهَب وَلَا فِي دَلِيله لكَونه قد جمع الْأَوْصَاف والعلوم المشترطة فِي المستقل وَإِنَّمَا ينْسب إِلَيْهِ لكَونه سلك طَرِيقه فِي الِاجْتِهَاد ودعا إِلَى سَبيله
وَقد بلغنَا عَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الإسفرائيني رَحمَه الله أَنه ادّعى هَذِه الصّفة لأئمة أَصْحَابنَا فَحكى عَن أَصْحَاب مَالك وَأحمد وَدَاوُد وَأكْثر أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحِمهم الله أَنهم صَارُوا إِلَى مَذَاهِب أئمتهم تقليدا لَهُم

(1/29)


@ ثمَّ قَالَ الصَّحِيح الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا وَهُوَ أَنهم صَارُوا إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي رَحمَه الله لَا على جِهَة التَّقْلِيد لَهُ وَلَكِن لما وجدوا طَرِيقه فِي الِاجْتِهَاد والفتاوى أَسد الطّرق وأولاها وَلم يكن لَهُم يَد من الِاجْتِهَاد سلكوا طَرِيقه فِي الِاجْتِهَاد وطلبوا معرفَة الْأَحْكَام بِالطَّرِيقِ الَّذِي طلبَهَا الشَّافِعِي بِهِ
قلت وَهَذَا الرَّأْي حَكَاهُ عَن أَصْحَابنَا وَاقع على وفْق مَا رسمه لَهُم الشَّافِعِي ثمَّ الْمُزنِيّ فِي أول مُخْتَصره وَفِي غَيره وَذكر الشَّيْخ أَبُو عَليّ السنجي شَبِيها بذلك فَقَالَ
اتَّبعنَا قَول الشَّافِعِي دون قَول غَيره من الْأَئِمَّة لما وجدنَا قَوْله أصح الْأَقْوَال وأعدلها لَا أَنا قلدناه فِي قَوْله

(1/30)


@
قلت دَعْوَى انْتِفَاء التَّقْلِيد عَنْهُم مُطلقًا من كل وَجه لَا يَسْتَقِيم إِلَّا أَن يَكُونُوا قد أحاطوا بعلوم الإجتهاد الْمُطلق وفازوا برتبة الْمُجْتَهدين المستقلين وَذَلِكَ لَا يلائم الْمَعْلُوم من أَحْوَالهم أَو أَحْوَال أَكْثَرهم
وَقد ذكر بعض الْأُصُولِيِّينَ منا أَنه لم يُوجد بعد عصر الشَّافِعِي مُجْتَهد مُسْتَقل وَحكى اخْتِلَافا بَين أَصْحَابنَا وَأَصْحَاب أبي حنيفَة فِي أبي يُوسُف وَأبي مُحَمَّد الْمُزنِيّ وَابْن سُرَيج خَاصَّة هَل كَانُوا من الْمُجْتَهدين المستقلين أَو من الْمُجْتَهدين فِي الْمذَاهب وَلَا يُنكر دَعْوَى ذَلِك فيهم فِي فن من الْفِقْه دون فن
بِنَاء على مَا قدمْنَاهُ فِي جَوَاز تَجْرِيد منصب الْمُجْتَهد المستقل وَيبعد جَرَيَان

(1/31)


@ ذَلِك الْخلاف فِي حق هَؤُلَاءِ المتبحرين الَّذين عَم نظرهم الْأَبْوَاب كلهَا فَإِنَّهُ لَا يخفى على أحدهم إِذا أكمل فِي بَاب مَالا يتَعَلَّق مِنْهُ بِغَيْرِهِ من الْأَبْوَاب الَّتِي لم يكمل فِيهَا لعُمُوم نظره وجولانه فِي الْأَبْوَاب كلهَا إِذا عرفت هَذَا ففتوى المستفتين فِي هَذِه الْحَالة فِي حكم فَتْوَى الْمُجْتَهد المستقل الْمُطلق يعْمل بهَا ويعتد بهَا فِي الْإِجْمَاع وَالْخلاف وَالله أعلم
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يكون فِي مَذْهَب إِمَامه مُجْتَهدا مُفِيدا فيستقل بتقرير مذاهبه بِالدَّلِيلِ غير أَنه لَا يتَجَاوَز فِي أدلته أصُول إِمَامه وقواعده وَمن شَأْنه أَن يكون عَالما بالفقه خَبِيرا بأصول الْفِقْه عَارِفًا بأدلة الْأَحْكَام تَفْصِيلًا بَصيرًا بمسالك الأقيسة والمعاني تَامّ الارتياض فِي التَّخْرِيج والإستنباط قيمًا بإلحاق مَا لَيْسَ بمنصوص عَلَيْهِ فِي مَذْهَب إِمَامه بأصول مذْهبه وقواعده وَلَا يعرى عَن شوب من التَّقْلِيد لَهُ لإخلاله بِبَعْض الْعُلُوم والأدوات الْمُعْتَبرَة فِي المستقل مثل أَن يخل بِعلم الحَدِيث أَو بِعلم اللُّغَة الْعَرَبيَّة وَكَثِيرًا مَا وَقع الْإِخْلَال بِهَذَيْنِ العلمين فِي أهل الِاجْتِهَاد الْمُقَيد ويتخذ أصُول نُصُوص إِمَامه أصولا يستنبط مِنْهَا نَحْو مَا يَفْعَله المستقل بنصوص الشَّارِع وَرُبمَا مريه الحكم وَقد ذكره إِمَامه بدليله فيكتفي بذلك وَلَا يبْحَث هَل لذَلِك الدَّلِيل من معَارض وَلَا يَسْتَوْفِي النّظر فِي شُرُوطه كَمَا يَفْعَله المستقل وَهَذِه صفة أَصْحَاب الْوُجُوه والطرق فِي الْمَذْهَب وعَلى هَذِه الصّفة كَانَ أَئِمَّة أَصْحَابنَا أَو أَكْثَرهم وَمن كَانَ هَذَا شَأْنه فالعامل بفتياه مقلد لإمامة لاله معوله على صِحَة إِضَافَة مَا يَقُوله إِلَى إِمَامه لعدم استقلاله بتصحيح نسبته إِلَى الشَّارِع وَالله أعلم
تَنْبِيهَات
الأول الَّذِي رَأَيْته من كَلَام الْأَئِمَّة يشْعر بِأَن من كَانَت هَذِه حَالَته فَفرض الْكِفَايَة لَا يتأد بِهِ وَوَجهه أَن مَا فِيهِ من التَّقْلِيد نقص وخلل فِي الْمَقْصُود
وَأَقُول يظْهر أَنه يتَأَدَّى بِهِ فرض الْكِفَايَة فِي الْفَتْوَى وَإِن لم يتأد بِهِ فرض الْكِفَايَة فِي إحْيَاء الْعُلُوم الَّتِي مِنْهَا استمداد الْفَتْوَى لِأَنَّهُ قد قَامَ فِي فتواه مقَام إِمَام

(1/32)


@ مُطلق فَهُوَ يُؤَدِّي عَنهُ مَا كَانَ يتَأَدَّى بِهِ الْفَرْض حِين كَانَ حَيا قَائِما بِالْفَرْضِ فِيهَا والتفريع على الصَّحِيح فِي أَن تَقْلِيد الْمَيِّت جَائِز
الثَّانِي قد يُؤْخَذ من الْمُجْتَهد الْمُقَيد الِاسْتِقْلَال بِالِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى فِي مَسْأَلَة خَاصَّة أَو فِي بَاب خَاص كَمَا تقدم فِي النَّوْع الَّذِي قبله وَالله أعلم
الثَّالِث يجوز لَهُ أَن يُفْتِي فِيمَا لَا يجده من أَحْكَام الوقائع مَنْصُوصا عَلَيْهِ لإمامه بِمَا يُخرجهَا على مذْهبه
هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل وَإِلَيْهِ مفزع الْمُفْتِينَ من مدد مديدة
فالمجتهد فِي مَذْهَب الشَّافِعِي مثلا الْمُحِيط بقواعد مذْهبه المتدرب فِي مقاييسه وسبل متفرقاته وتنزل كَمَا قدمنَا ذكره فِي الْإِلْحَاق بمنصوصاته وقواعد مذْهبه منزلَة الْمُجْتَهد المستقل فِي إِلْحَاقه مَا لم ينص عَلَيْهِ الشَّارِع بِمَا نَص عَلَيْهِ وَهَذَا أقدر على هَذَا من ذَاك على ذَاك فَإِن هَذَا يجد فِي مَذْهَب إِمَامه من الْقَوَاعِد الممهدة والضوابط المهذبة مَا لَا يجده المستقل فِي أصُول الشَّرْع ونصوصه ثمَّ إِن المستفتي فِيمَا يفتيه بِهِ من تَخْرِيجه هَذَا مقلد لإمامه لَا لَهُ
قطع بِهَذَا الشَّيْخ أَبُو الْمَعَالِي ابْن الْجُوَيْنِيّ فِي كِتَابه الغياثي
وَأَنا أَقُول يَنْبَغِي أَن يخرج هَذَا على خلاف حَكَاهُ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي أَن مَا يُخرجهُ أَصْحَابنَا رَحِمهم الله على مَذْهَب الشَّافِعِي

(1/33)


@ رَحمَه الله هَل يجوز أَن ينْسب إِلَيْهِ وَاخْتَارَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق أَنه لَا يجوز أَن ينْسب إِلَيْهِ وَالله أعلم
الرَّابِع تَخْرِيجه تَارَة يكون من نَص معِين لإمامه فِي مَسْأَلَة مُعينَة وَتارَة لَا

(1/34)


@ يجد لإمامه نصا معينا يخرج مِنْهُ فَيخرج على وفْق أُصُوله بِأَن يجد دَلِيلا من جنس مَا يحجّ بِهِ إِمَامه وعَلى شَرطه فيفتي بِمُوجبِه
ثمَّ إِن وَقع النَّوْع الأول من التَّخْرِيج فِي صُورَة فِيهَا نَص لإمامه مخرجا خلاف نَصه فِيهَا من نَص آخر فِي صُورَة أُخْرَى سمي قولا مخرجا
وَإِذا وَقع النَّوْع الثَّانِي فِي صُورَة قد قَالَ فِيهَا بعض الْأَصْحَاب غير ذَلِك سمي ذَلِك وَجها
وَيُقَال فِيهَا وَجْهَان
وَشرط التَّخْرِيج الْمَذْكُور عِنْد اخْتِلَاف النصين أَن لَا يجد بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ فارقا ولإمامه فِي مثل ذَلِك أَي عِلّة جَامِعَة وَهُوَ من قبيل إِلْحَاق الْأمة بِالْعَبدِ فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أعتق شركا لَهُ فِي عبد قوم عَلَيْهِ وَمهما أمكنه الْفرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ لم يجز لَهُ على الْأَصَح التَّخْرِيج فَلَزِمَهُ تَقْرِير النظير على ظاهرهما مُعْتَمدًا على الْفَارِق وَكثير مَا يَخْتَلِفُونَ فِي القَوْل بالتخريج فِي مثل ذَلِك لاختلافهم فِي إِمْكَان الْفرق وَالله أعلم
الْحَالة الثَّالِثَة أَن لَا يبلغ رُتْبَة أَئِمَّة الْمذَاهب أَصْحَاب الْوُجُوه والطرق غير أَنه فَقِيه النَّفس حَافظ لمَذْهَب إِمَامه عَارِف بأدلته قَائِم بتقريرها وبنصرته يصور ويجرد ويمهد ويقرر ويوازن ويرجح لكنه قصر عَن دَرَجَة أُولَئِكَ
إِمَّا لكَونه لم يبلغ فِي حفظ الْمَذْهَب مبلغهم

(1/35)


@ وَإِمَّا لكَونه لم يرتض فِي التَّخْرِيج والاستنباط كارتياضهم وَإِمَّا لكَونه غير متبحر فِي علم أصُول الْفِقْه
على أَنه لَا يَخْلُو مثله فِي ضمن مَا يحفظ من الْفِقْه ويعرفه من أدلته عَن أَطْرَاف من قَوَاعِد أصُول الْفِقْه
وَإِمَّا لكَونه مقصرا فِي غير ذَلِك من الْعُلُوم الَّتِي هِيَ أدوات الِاجْتِهَاد الْحَاصِل لأَصْحَاب الْوُجُوه والطرق وَهَذِه صفة كثير من الْمُتَأَخِّرين إِلَى أَوَاخِر الْمِائَة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة المصنفين الَّذين رتبوا الْمَذْهَب وحرروه وصنفوا فِيهِ تصانيف بهَا مُعظم آشتغال النَّاس الْيَوْم وَلم يلْحقُوا بأرباب الْحَالة الثَّانِيَة فِي تَخْرِيج الْوُجُوه وتمهيد الطّرق فِي الْمَذْهَب وَأما فِي فتاواهم فقد كَانُوا يتبسطون فِيهَا كتبسط أُولَئِكَ أَو قَرِيبا مِنْهُ ويقيسون غير الْمَنْقُول والمسطور على الْمَنْقُول والمسطور فِي الْمَذْهَب غير مختصرين فِي ذَلِك على الْقيَاس الْجَلِيّ وَقِيَاس لَا فَارق الَّذِي هُوَ نَحْو قِيَاس الْأمة على العَبْد فِي إِعْتَاق الشَّرِيك وَقِيَاس الْمَرْأَة على الرجل فِي رُجُوع البَائِع إِلَى غير مَاله عِنْد تعذر الثّمن وَفِيهِمْ من جمعت فَتَاوَاهُ وأفردت بالتدوين وَلَا يبلغ فِي التحاقها بِالْمذهبِ مبلغ فَتَاوَى أَصْحَاب الْوُجُوه وَلَا يقوى كقوتها وَالله أعلم
الْحَالة الرَّابِعَة أَن يقوم بِحِفْظ الْمَذْهَب وَنَقله وفهمه فِي واضحات الْمسَائِل ومشكلاتها غير أَن عِنْده ضعفا فِي تَقْرِير أدلته وتحرير أقيسته فَهَذَا يعْتَمد نَقله وفتواه بِهِ فِيمَا يحكيه من مسطورات مذْهبه من منصوصات إِمَامه وتفريعات أَصْحَابه الْمُجْتَهدين فِي مذْهبه وتخريجاتهم وَأما مَا لَا يجده مَنْقُولًا فِي مذْهبه فَإِن وجد فِي الْمَنْقُول مَا هَذَا فِي مَعْنَاهُ بِحَيْثُ يدْرك من غير فضل فكر وَتَأمل أَنه لَا فَارق بَينهمَا كَمَا فِي الْأمة بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَبْد الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي إِعْتَاق الشَّرِيك جَازَ لَهُ إِلْحَاقه بِهِ وَالْفَتْوَى بِهِ
وَكَذَلِكَ مَا يعلم إندراجه تَحت ضَابِط مَنْقُول ممهد فِي الْمَذْهَب

(1/36)


@
وَمَا لم يكن كَذَلِك فَعَلَيهِ الْإِمْسَاك عَن الْفتيا مِنْهُ وَمثل هَذَا يَقع نَادرا فِي مثل الْفَقِيه الْمَذْكُور إِذا يبعد كَمَا ذكر الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ أَن يَقع وَاقعَة لم ينص على حكمهَا فِي الْمَذْهَب وَلَا هِيَ فِي معنى شَيْء فِي الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِيهِ من غير فرق وَلَا هِيَ مندرجة تَحت شَيْء من ضوابط الْمَذْهَب المحررة فِيهِ ثمَّ إِن هَذَا الْفَقِيه لَا يكون إِلَّا فَقِيه النَّفس لِأَن تَصْوِير الْمسَائِل على وَجههَا ثمَّ نقل أَحْكَامهَا بعد أستتمام تصويرها جلياتها وخفياتها لَا يقوم بِهِ إِلَّا فَقِيه النَّفس ذُو حَظّ من الْفِقْه قلت وَيَنْبَغِي أَن يَكْتَفِي فِي حفظ الْمَذْهَب فِي هَذِه الْحَالة وَفِي الْحَالة الَّتِي قبلهَا بِأَن يكون الْمُعظم على ذهنه لدربنه مُتَمَكنًا من الْوُقُوف على الْبَاقِي بالمطالعة أَو مَا يلْتَحق بهَا على الْقرب كَمَا اكتفينا فِي اقسام الِاجْتِهَاد الثَّلَاثَة الأول بِأَن يكون الْمُعظم على ذهنه ويتمكن من إِدْرَاك الْبَاقِي بِالِاجْتِهَادِ على الْقرب وَهَذِه أَصْنَاف الْمُفْتِينَ وشروطهم وَهِي خَمْسَة وَمَا من صنف مِنْهَا إِلَّا وَيشْتَرط فِيهِ حفظ الْمَذْهَب وَفقه النَّفس وَذَلِكَ فِيمَا عدا الصِّنْف الْأَخير الَّذِي هُوَ أخسها بَعْدَمَا يشْتَرط فِي هَذَا الْقَبِيل
فَمن انتصب فِي منصب الْفتيا وتصدى لَهَا وَلَيْسَ على صفة وَاحِد من هَذِه الْأَصْنَاف الْخَمْسَة فقد بَاء بِأَمْر عَظِيم أَلا يظنّ أُولَئِكَ أَنهم مبعوثون ليَوْم عَظِيم
وَمن أَرَادَ التصدي للفتيا ظَانّا كَونه من أَهلهَا فليتهم نَفسه وليتق الله ربه تبَارك الله وَتَعَالَى وَلَا يجد عَن الْأَخْذ بالوثيقة لنَفسِهِ وَالنَّظَر لَهَا
وَلَقَد قطع الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي وَغَيره بِأَن الاصولي الماهر الْمُتَصَرف فِي الْفِقْه لَا يحل لَهُ الْفَتْوَى بِمُجَرَّد ذَلِك وَلَو وَقعت لَهُ فِي نَفسه وَاقعَة لزمَه أَن يستفتي غَيره فِيهَا ويلتحق بِهِ الْمُتَصَرف النظار البحاث فِي الْفِقْه من أَئِمَّة الْخلاف وفحول المناظرين وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا لإدراك حكم الْوَاقِعَة اسْتِقْلَالا لمقصور آلَته وَلَا

(1/37)


@ من مَذْهَب إِمَام مُتَقَدم لعدم حفظه لَهُ وَعدم إطلاعه عَلَيْهِ على الْوَجْه الْمُعْتَبر وَالله أعلم
تَنْبِيهَات الأول قطع بِهِ الإِمَام الْعَلامَة أَبُو عبد الله الْحَلِيمِيّ إِمَام الشافعيين بِمَا وَرَاء النَّهر وَالْقَاضِي أَبُو المحاسن الرَّوْيَانِيّ صَاحب بَحر الْمَذْهَب وَغَيرهمَا بِأَنَّهُ لَا يجوز للمقلد أَن يُفْتِي بِمَا هُوَ مقلد فِيهِ وَذكر الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ فِي شَرحه لرسالة الشَّافِعِي عَن شَيْخه أبي بكر الْقفال الْمروزِي أَنه يجوز لمن حفظ مَذْهَب صَاحب مَذْهَب ونصوصه أَن يُفْتِي بِهِ وَإِن لم يكن عَارِفًا بغوامضه وحقائقه وَخَالفهُ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد وَقَالَ لَا

(1/38)


@ يجوز أَن يُفْتِي بِمذهب غَيره إِذا لم يكن متبحرا فِيهِ عَالما بغوامضه وحقائقه كَمَا لَا يجوز للعامي الَّذِي جمع فتاوي الْمُفْتِينَ أَن يُفْتِي بهَا وَإِذا كَانَ متبحرا بهَا جَازَ أَن يُفْتِي بهَا
قلت قَول من قَالَ لَا يجوز أَن يُفْتِي بذلك مَعْنَاهُ أَنه لَا يذكرهُ فِي صُورَة مَا يَقُوله من عِنْد نَفسه بل يضيفه إِلَى غَيره ويحكيه عَن إِمَامه الَّذِي قَلّدهُ فعلى هَذَا من عددناه فِي أَصْنَاف المفتيين من المقلدين لَيْسُوا على الْحَقِيقَة من المفتيين وَلَكنهُمْ قَامُوا مقَام الْمُفْتِينَ وأدوا عَنْهُم فعدوا مَعَهم وسبيلهم فِي ذَلِك أَن يَقُول مثلا مَذْهَب الشَّافِعِي كَذَا وَكَذَا أَو مُقْتَضى مذْهبه كَذَا وَكَذَا وَمَا أشبه ذَلِك
وَمن ترك إِضَافَة ذَلِك إِلَى إِمَامه إِن كَانَ ذَلِك مِنْهُ اكْتِفَاء بالمعلوم عَن الْحَال عَن التَّصْرِيح بالمقال فَلَا بَأْس
وَذكر الْمَاوَرْدِيّ فِي كِتَابه الْحَاوِي فِي القَاضِي إِذا عرف حكم حَادِثَة بني على دليلها ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه يجوز أَن يُفْتِي بِهِ وَيجوز تَقْلِيده فِيهِ لِأَنَّهُ قد وصل إِلَى الْعلم بِهِ مثل وُصُول الْعَالم إِلَيْهِ
وَالثَّانِي يجوز ذَلِك إِن كَانَ دليلها من الْكتاب وَالسّنة
وَالثَّالِث هُوَ أَصَحهَا أَنه لَا يجوز ذَلِك مُطلقًا
قلت وَلَيْسَ فِيمَا ذكره حِكَايَة خلاف فِي جَوَاز فتيا الْمُقَلّد وتقليده لِأَن فِيمَا ذكره من تَوْجِيه وَجه الْجَوَاز تَشْبِيها بِأَن الْعَاميّ لَا يبْقى مُقَلدًا فِي حكم تِلْكَ الْحَادِثَة وَالله أعلم
الثَّانِي إِن قلت من تفقه وَقَرَأَ كتابا من كتب الْمَذْهَب أَو أَكثر هُوَ مَعَ ذَلِك قَاصِر لم يَتَّصِف بِصفة أحد من أَصْنَاف الْمُفْتِينَ الَّذين سبق ذكرهم فَإِذا لم يجد الْعَاميّ فِي بَلَده غَيره فرجوعه إِلَيْهِ أولى من أَن يبْقى فِي واقعته مرتكبا فِي

(1/39)


@ حيرته قلت وَإِن كَانَ فِي غير بَلَده مفت يجد السَّبِيل إِلَى استفتائه فَعَلَيهِ التَّوَصُّل إِلَى إستفتائه بِحَسب إِمْكَانه على أَن بعض أَصْحَابنَا ذكر أَنه إِذا شغرت الْبَلَد عَن الْمُفْتِينَ فَلَا يحل الْمقَام فِيهَا وَإِن تعذر ذَلِك عَلَيْهِ ذكر مَسْأَلته للْقَاضِي الْمَذْكُور فَإِن وجد مَسْأَلته بِعَينهَا مسطورة فِي كتاب موثوق بِصِحَّتِهِ وَهُوَ مِمَّن يقبل خَبره نقل لَهُ حكمهَا بنصه وَكَانَ الْعَاميّ فِي ذَلِك مُقَلدًا لصَاحب الْمَذْهَب وَهَذَا وجدته فِي ضمن كَلَام بَعضهم وَالدَّلِيل يعضده ثمَّ لَا يعد هَذَا الْقَاصِر بأمثال ذَلِك من الْمُفْتِينَ وَلَا من الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة الْمُسْتَعَار لَهُم سمة الْمُفْتِينَ وَأَن لم يجد مَسْأَلته بِعَينهَا وَنَصهَا مسطورة فَلَا سَبِيل لَهُ إِلَى القَوْل فِيهَا قِيَاسا على مَا عِنْده من السطور وَإِن آعتقده من قبيل قِيَاس لَا فَارق الَّذِي هُوَ نَحْو قِيَاس الْأمة على العَبْد فِي سر آيَة الْعتْق لِأَن القَاضِي معرض لِأَن يعْتَقد مَا لَيْسَ من هَذَا الْقَبِيل دَاخِلا فِي هَذَا الْقَبِيل وَإِنَّمَا استتب إِلْحَاق الْأمة بِالْعَبدِ فِي سر آيَة الْعتْق فِي حق من عرف مصَادر الشَّرْع وموارده فِي أَحْكَام الْعتْق بِحَيْثُ استبان لَهُ أَنه لَا فرق فِي ذَلِك بَين الذّكر وَالْأُنْثَى وَالله أعلم
الثَّالِث إِذا لم يجد صَاحب الْوَاقِعَة مفتيا وَلَا أحدا ينْقل لَهُ حكم واقعته لَا فِي بَلَده وَلَا فِي غَيره فَمَاذَا يصنع قلت هَذِه مَسْأَلَة فَتْرَة الشَّرِيعَة الْأُصُولِيَّة والسبيل فِي ذَلِك كالسبيل فِي مَا قبل وُرُود الشَّرَائِع وَالصَّحِيح فِي كل ذَلِك القَوْل بإنتفاء التَّكْلِيف عَن العَبْد وَإنَّهُ لَا يثبت فِي حَقه حكم لَا إِيجَاب وَلَا تَحْرِيم وَلَا غير ذَلِك فَلَا يُؤْخَذ إِذن صَاحب الْوَاقِعَة بِأَيّ شَيْء صنعه فِيهَا وَهَذَا مَعَ تقرره بِالدَّلِيلِ الْمَعْنَوِيّ الأصولي يشْهد لَهُ حَدِيث حُذَيْفَة بن الْيَمَان رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يدرس الْإِسْلَام كَمَا يدرس وشي الثَّوْب حتي لَا يدْرِي مَا

(1/40)


@ صِيَام وَلَا صَلَاة وَلَا نسك وَلَا صَدَقَة وليسرى على كتاب الله تَعَالَى فِي لَيْلَة لَا يبْقى فِي الأَرْض مِنْهُ اية وَتبقى طوائف من النَّاس الشَّيْخ الْكَبِير والعجوز الْكَبِيرَة يَقُولُونَ آدركنا آبَاءَنَا على هَذِه الْكَلِمَة لَا إِلَه إِلَّا الله فَنحْن نقولها فَقَالَ صلَة ابْن ذفر لِحُذَيْفَة فَمَا تغني عَنْهُم لَا رله إِلَّا الله وهم لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاة وَلَا صِيَام وَلَا نسك وَلَا صَدَقَة فَأَعْرض عَنهُ حُذَيْفَة فَردهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا كل ذَلِك يعرض عَنهُ حُذَيْفَة ثمَّ أقبل عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَة فَقَالَ يَا صلَة تنجيهم من النَّار تنجيهم من النَّار تنجيهم من النَّار
رَوَاهُ أَبُو عبد الله بن مَاجَه فِي سنَنه وَالْحَاكِم أَبُو عبد الله الحافط فِي صَحِيحه وَقَالَ هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط مُسلم وَلم يخرجَاهُ وَالله أعلم

(1/41)


@
القَوْل فِي أَحْكَام الْمُفْتِينَ
وَفِيه مسَائِل
الأولى لَا يشْتَرط فِي الْمُفْتِي الْحُرِّيَّة والذكورة كَمَا فِي الرَّاوِي وَيَنْبَغِي أَن يكون كالراوي أَيْضا فِي أَنه لَا يُؤثر فِيهِ الْقَرَابَة والعداوة وجلب النَّفْع وَدفع الضَّرَر لِأَن الْمُفْتِي فِي حكم من يخبر عَن الشَّرْع بِمَا لاخْتِصَاص لَهُ بشخص وَكَانَ فِي ذَلِك كالراوي لَا كالشاهد وفتواه لَا يرتبط بهَا إِلْزَام بِخِلَاف القَاضِي
وَوجدت عَن القَاضِي الْمَاوَرْدِيّ فِيمَا جاوب بِهِ القَاضِي أَبَا الطّيب

(1/42)


@ الطَّبَرِيّ عَن رده عَلَيْهِ فِي فتواه بِالْمَنْعِ من التلقيب بِملك الْمُلُوك مَا مَعْنَاهُ

(1/43)


@ أَن الْمُفْتِي إِذا نابذ فِي فتواه شخصا معينا صَار خصما معاندا ترد فتواه على من عَادَاهُ كَمَا ترد شَهَادَته وَلَا بَأْس بِأَن يكون الْمُفْتِي أعمى أَو أخرس مَفْهُوم الْإِشَارَة أَو كَاتبا وَالله أعلم
الثَّانِيَة لَا تصح فتيا الْفَاسِق وَإِن كَانَ مُجْتَهدا مُسْتقِلّا غير أَنه لَو وَقعت لَهُ فِي نَفسه وَاقعَة عمل فِيهِ بإجتهاد نَفسه وَلم يستفت غَيره وَأما المستور وَهُوَ من كَانَ ظَاهره الْعَدَالَة وَلم تعرف عَدَالَته الْبَاطِنَة فَفِي وَجه لَا يجوز فتياه كَالشَّهَادَةِ وَالْأَظْهَر أَنَّهَا تجوز لِأَن الْعَدَالَة الْبَاطِنَة يعسر مَعْرفَتهَا على غير الْحُكَّام فَفِي أشراطها فِي الْمُفْتِينَ جرح على المستفتين وَالله أعلم

(1/44)


@
الثَّالِثَة من كَانَ من أهل الْفتيا قَاضِيا فَهُوَ فِيهَا كَغَيْرِهِ وبلغنا عَن أبي بكر بن الْمُنْذر أَنه يكره للقضاة أَن تُفْتِي فِي مسَائِل الْأَحْكَام دون مَا لَا مجْرى لأحكام الْقَضَاء فِيهِ كمسائل الطَّهَارَة والعبادات وَقَالَ قَالَ شُرَيْح أَنا أَقْْضِي وَلَا أُفْتِي
وَوجدت فِي بعض تعاليق الشَّيْخ أبي حَامِد الإسفرائيني أَن لَهُ أَن يُفْتِي فِي الْعِبَادَات وَمَا لَا يتَعَلَّق بِهِ الحكم وَأما فتياه من الْأَحْكَام فلأصحابنا فِيهِ جوابان أَحدهمَا أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يُفْتِي فِيهَا لِأَن لكَلَام النَّاس عَلَيْهِ مجالا ولأحد الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ مقَالا وَالثَّانِي لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ أهل لذَلِك وَالله أعلم
الرَّابِعَة إِذا استفتي الْمُفْتِي وَلَيْسَ فِي النَّاحِيَة غَيره تعين عَلَيْهِ الْجَواب وَإِن كَانَ فِي النَّاحِيَة غَيره فَإِن حضر هُوَ وَغَيره واستفتيا مَعًا فَالْجَوَاب عَلَيْهِمَا على الْكِفَايَة وَإِن لم يحضر غَيره فَعِنْدَ الْحَلِيمِيّ يتَعَيَّن عَلَيْهِ بسؤاله جَوَابه وَلَيْسَ لَهُ أَن يحيله على غَيره وَالْأَظْهَر أَنه لَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ بذلك
وَقد سبقت روايتنا عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى أَنه قَالَ أدْركْت عشْرين وَمِائَة من الْأَنْصَار من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسْأَل أَحدهمَا عَن الْمَسْأَلَة فيردها هَذَا إِلَى هَذَا وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى ترجع إِلَى الأول وَإِذا سُئِلَ الْعَاميّ عَن مَسْأَلَة لم تقع لم تجب مجاوبته وَالله أعلم
الْخَامِسَة إِذا أفتى بِشَيْء ثمَّ رَجَعَ عَنهُ نظرت فَإِن أعلم المستفتي بِرُجُوعِهِ وَلم يكن عمل بِالْأولِ بعد لم يجز لَهُ الْعَمَل بِهِ وَكَذَلِكَ لَو نكح بفتواه أَو اسْتمرّ على نِكَاح ثمَّ رَجَعَ لزمَه مفارقتها كَمَا لَو تغير إجتهاد من قَلّدهُ فِي الْقبْلَة فِي أثْنَاء صلَاته فَإِنَّهُ يتَحَوَّل وَإِن كَانَ المستفتي قد عمل بِهِ قبل رُجُوعه فَإِن كَانَ مُخَالفا الدَّلِيل قَاطع لزم المستفتي نقض عمله ذَلِك وَإِن كَانَ فِي مَحل الإجتهاد لم يلْزمه نَقصه
قلت وَإِذا كَانَ الْمُفْتِي إِنَّمَا يُفْتِي على مَذْهَب إِمَام معِين فَإِذا رَجَعَ لكَونه بإن لَهُ قطعا أَنه خَالف فِي فتواه بعض نَص مَذْهَب إِمَامه فَإِنَّهُ يجب نقضه وَإِن كَانَ

(1/45)


@ ذَلِك فِي كل الإجتهاد لِأَن نَص مَذْهَب إِمَامه فِي حَقه كنص الشَّارِع فِي حق الْمُفْتِي الْمُجْتَهد المستقل على مَا سبق تأصيله وَأما إِذا لم يعلم المستفتي بِرُجُوعِهِ فحال المستفتي فِي عمله بِهِ على مَا كَانَ وَيلْزم الْمُفْتِي إِعْلَامه بِرُجُوعِهِ قبل الْعَمَل وَكَذَا بعد الْعَمَل حَيْثُ يجب النَّقْض
وَلَقَد أحسن الْحسن بن أبي زِيَاد اللؤْلُؤِي صَاحب أبي حنيفَة فِيمَا بلغنَا عَنهُ أَنه استفتي فِي مَسْأَلَة فَأَخْطَأَ فِيهَا وَلم يعرف الَّذِي أفتاه فاكترى مناديا فَنَادَى أَن الْحسن بن أبي زِيَاد استفتي يَوْم كَذَا وَكَذَا فِي مَسْأَلَة فَأَخْطَأَ فَمن كَانَ أفتاه الْحسن بن أبي زِيَاد بِشَيْء فَليرْجع إِلَيْهِ فَلبث أَيَّامًا لَا يُفْتِي حَتَّى وجد صَاحب الْفَتْوَى فَأعلمهُ أَنه أَخطَأ وَإِن الصَّوَاب كَذَا وَكَذَا وَالله أعلم
السَّادِسَة إِذا عمل المستفتي بفتوى الْمُفْتِي فِي إِتْلَاف ثمَّ بَان خطأه وَإنَّهُ خَالف فِيهَا الْقَاطِع فَعَن الْأُسْتَاذ أبي إِسْحَاق الإسفرائيني أَنه يضمن إِن كَانَ أَهلا للْفَتْوَى وَلَا يضمن إِن لم يكن أَهلا لِأَن المستفتي قصر وَالله أعلم
السَّابِعَة لَا يجوز للمفتي أَن يتساهل فِي الْفَتْوَى وَمن عرف بذلك لم يجز أَن يستفتي وَذَلِكَ قد يكون بِأَن لَا يثبت ويسرع بالفتوى قبل إستيفاء حَقّهَا من النّظر والفكر وَرُبمَا يحملهُ على ذَلِك توهمه أَن الْإِسْرَاع براعة والإبطاء عجز ومنقصة وَذَلِكَ جهل وَلَإِنْ يبطىء وَلَا يخطىء أجمل بِهِ من أَن يعجل فيضل ويضل فَإِن تقدّمت مَعْرفَته بِمَا سُئِلَ عَنهُ على السُّؤَال فبادر عِنْد السُّؤَال بِالْجَوَابِ فَلَا بَأْس عَلَيْهِ وعَلى مثله يحمل مَا ورد عَن الْأَئِمَّة الماضيين من هَذَا الْقَبِيل

(1/46)


@
وَقد يكون تساهله وانحلاله بِأَن تحمله الْأَغْرَاض الْفَاسِدَة على تتبع الْحِيَل المحظورة أَو الْمَكْرُوهَة والتمسك بالشبه للترخيص على من يروم نَفعه أَو التَّغْلِيظ على من يُرِيد ضره وَمن فعل ذَلِك هان عَلَيْهِ دينه ونسأل الله الْعَافِيَة وَالْعَفو وَأما إِذا صَحَّ قَصده فأحتسب فِي تطلب حِيلَة لَا شُبْهَة فِيهَا وَلَا يجر إِلَى مفْسدَة ليخلص بهَا المستفتي من ورطة يَمِين أَو نَحْوهَا فَذَلِك حسن جميل يشْهد لَهُ قَول الله تبَارك وَتَعَالَى لأيوب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى نَبينَا لما حلف ليضربن امْرَأَته مائَة {وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث}
وَورد عَن سُفْيَان الثَّوْريّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ إِنَّمَا الْعلم عندنَا الرُّخْصَة من ثِقَة فَأَما التسديد فيحسنه كل أحد وَهَذَا خَارج على الشَّرْط الَّذِي

(1/47)


@ ذَكرْنَاهُ فَلَا يفرحن بِهِ من يُفْتِي بالحيل الجادة إِلَى الْمَفَاسِد أَو بِمَا فِيهِ شُبْهَة بِأَن يكون فِي النَّفس من القَوْل بِهِ شَيْء أَو نَحْو ذَلِك وَذَلِكَ لمن يُفْتِي بالحيلة الشَّرْعِيَّة فِي سد بَاب الطَّلَاق وَيعلمهَا وأمثال ذَلِك وَالله أعلم
الثَّامِنَة لَيْسَ لَهُ أَن يُفْتِي فِي كل حَالَة تغير خلقه وتفسد قلبه وتمنعه من التثبت والتأمل كحالة الْغَضَب أَو الْجُوع أَو الْعَطش أَو الْحزن أَو الْفَرح الْغَالِب أَو النعاس أَو الملالة أَو الْمَرَض أَو الْحر المزعج أَو الْبرد المؤلم أَو مدافعة الأخبثين وَهُوَ أعلم بِنَفسِهِ فمهما أحسن آشتغال قلبه وَخُرُوجه عَن حد الِاعْتِدَال أمسك عَن الْفتيا فَإِن أفتى من شَيْء من هَذِه الْأَحْوَال وَهُوَ يرى أَن ذَلِك لم يمنعهُ من إِدْرَاك الصَّوَاب صحت فتياه وَإِن خاطر بهَا
وَمن أعجب ذَلِك مَا وجدته بِخَط بعض أَصْحَاب القَاضِي الإِمَام حُسَيْن بن مُحَمَّد الْمروزِي عَنهُ أَنه سمع الإِمَام أَبَا عَاصِم

(1/48)


@ الْعَبَّادِيّ يذكر أَنه كَانَ عِنْد الْأُسْتَاذ أبي ظَاهر وَهُوَ الإِمَام الزيَادي شيخ خُرَاسَان حِين آختصر فَسَأَلَ عَن الضَّمَان وَكَانَ فِي النزع فَقَالَ إِن قبض

(1/49)


@ الثّمن فَيصح وَإِن لم يقبض فَلَا يَصح قَالَ لِأَنَّهُ بعد قبض الثّمن يكون ضَمَان مَا وَجب وَالله أعلم
التَّاسِعَة الأولى بالمتصدي للْفَتْوَى أَن يتَبَرَّع بذلك وَيجوز لَهُ أَن يرتزق على ذَلِك من بَيت المَال إِلَّا إِذا تعين عَلَيْهِ وَله كِفَايَة فَظَاهر الْمَذْهَب أَنه لَا يجوز وَإِذا كَانَ لَهُ رزق فَلَا يجوز لَهُ أَخذ أجره أصلا وَإِن لم يكن لَهُ رزق من بَيت المَال فَلَيْسَ لَهُ أَخذ أجره من أَعْيَان من يفتيه كالحاكم على الْأَصَح
واحتال لَهُ الشَّيْخ أَبُو حَاتِم الْقزْوِينِي فِي حِيلَة فَقَالَ لَو قَالَ للمستفتي إِنَّمَا يلْزَمنِي أَن أفتيك قولا وَأما بذل الْخط فَلَا فَإِذا اسْتَأْجرهُ أَن يكْتب لَهُ ذَلِك كَانَ جَائِزا
وَذكر أَبُو الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ أَنه لَو آجتمع أهل الْبَلَد على أَن جعلُوا لَهُ رزقا من أَمْوَالهم ليتفرغ لفتياهم جَازَ ذَلِك وَأما الْهَدِيَّة فقد أطلق السَّمْعَانِيّ

(1/50)


@ الْكَبِير أَبُو المظفر أَنه يجوز لَهُ قبُول الْهَدِيَّة بِخِلَاف الْحَاكِم فَإِنَّهُ يلْزم حكمه
قلت يَنْبَغِي أَن يُقَال يحرم عَلَيْهِ قبُولهَا إِذا كَانَت رشوة على أَن يفتيه بِمَا يُريدهُ كَمَا فِي الْحَاكِم وَسَائِر مَا لَا يُقَابل بعوض وَالله أعلم
الْعَاشِرَة لَا يجوز لَهُ أَن يُفْتِي فِي الْأَيْمَان والأقادير وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يتَعَلَّق

(1/51)


@ بالألفاظ إِلَّا صَحَّ إِذا كَانَ من أهل بلد اللافظ بهَا أَو متنزلا مَنْزِلَتهمْ فِي الْخِبْرَة بمراداتهم من ألفاظهم وتعارفهم فِيهَا لِأَنَّهُ إِذا لم يكن كَذَلِك كثر خطأه عَلَيْهِم فِي ذَلِك كَمَا شهِدت بِهِ التجربة وَالله أعلم
الْحَادِيَة عشرَة لَا يجوز لمن كَانَت فتياه نقلا لمَذْهَب إِمَامه إِذا اعْتمد فِي نَقله على الْكتب أَن يعْتَمد إِلَّا على كتاب موثوق بِصِحَّتِهِ وَجَاز ذَلِك كَمَا جَازَ اعْتِمَاد الرَّاوِي على كِتَابه وإعتماد المستفتي على مَا يَكْتُبهُ الْمُفْتِي وَيحصل لَهُ الثِّقَة بِمَا يجده من نسخه غير موثوق بِصِحَّتِهَا بِأَن يجده فِي نسخ عدَّة من أَمْثَالهَا وَقد يحصل لَهُ الثِّقَة بِمَا يجده فِي الثِّقَة بِمَا يجده فِي النُّسْخَة غير الموثوق بهَا بِأَن يرَاهُ كلَاما منتظما وَهُوَ خَبِير فطن لَا يخفى عَلَيْهِ فِي الْغَالِب مواقع الْإِسْقَاط والتغيير وَإِذا لم يجده إِلَّا فِي مَوضِع لم يَثِق بِصِحَّتِهِ نظر فَإِن وجده مُوَافقا لأصول الْمَذْهَب وَهُوَ أهل التَّخْرِيج مثله على الْمَذْهَب لَو لم يجده مَنْقُولًا فَلهُ أَن يُفْتِي بِهِ فَإِن أَرَادَ أَن يحكيه عَن إِمَامه فَلَا يقل قَالَ الشَّافِعِي مثلا كَذَا وَكَذَا وَليقل وجدت عَن الشَّافِعِي كَذَا وَكَذَا أَو بَلغنِي عَنهُ كَذَا وَكَذَا أَو مَا أشبه هَذَا من الْعبارَات أَو إِذا لم يكن أَهلا لتخريج مثله فَلَا يجوز لَهُ ذَلِك فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ أَن يذكرهُ بِلَفْظ جازم مُطلق فَإِن سَبِيل مثله النَّقْل الْمَحْض وَلم يحصل لَهُ فِيهِ مَا يجوز لَهُ مثل ذَلِك وَيجوز لَهُ أَن يذكرهُ فِي غير مقَام الْفَتْوَى مفصحا بِحَالهِ فِيهِ فَيَقُول وجدته فِي نُسْخَة من الْكتاب الْفُلَانِيّ أَو من كتاب فلَان مَا لَا أعرف صِحَّتهَا أَو وجدت عَن فلَان كَذَا وَكَذَا أَو بَلغنِي عَنهُ كَذَا وَكَذَا وَمَا ضاهى ذَلِك من الْعبارَات وَالله أعلم
الثَّانِيَة عشرَة إِذا أفتى فِي حَادِثَة ثمَّ وَقعت مرّة أُخْرَى فَإِذا كَانَ ذَاكِرًا الْفتيا الأولى ومستندها أما بِالنِّسْبَةِ إِلَى أصل الشَّرْع إِن كَانَ مُسْتقِلّا أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى مذهبَة إِن كَانَ منتسبا إِلَى مَذْهَب ذِي مَذْهَب أفتى بذلك وَإِن تذكرها وَلم يتَذَكَّر مستندها وَلم يطْرَأ مَا يُوجب رُجُوعه عَنْهَا فقد قيل لَهُ أَن يُفْتِي بذلك وَالأَصَح أَنه لَا يُفْتِي حَتَّى يجدد النّظر

(1/52)


@
وبلغنا عَن أبي الْحُسَيْن بن الْقطَّان أحد أَئِمَّة الْمَذْهَب أَنه كَانَ لَا يُفْتِي فِي شَيْء من الْمسَائِل حَتَّى يلحظ الدَّلِيل وَهَكَذَا يَنْبَغِي لمن هُوَ دونه وَمن لم يكن فتواه حِكَايَة عَن غَيره لم يكن لَهُ بُد من آستحضار الدَّلِيل فِيهَا وَالله أعلم
الثَّالِثَة عشرَة روينَا عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ إِذا وجدْتُم فِي كتابي خلاف سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقولُوا بِسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودعوا مَا قلته وَهَذَا وَمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ مَشْهُور عَنهُ
فَعمل بذلك كثير من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فَكَانَ من ظفر مِنْهُم بِمَسْأَلَة فِيهَا حَدِيث وَمذهب الشَّافِعِي خِلَافه عمل بِالْحَدِيثِ وَأفْتى بِهِ قَائِلا مَذْهَب الشَّافِعِي مَا وَافق الحَدِيث وَلم يتَّفق ذَلِك إِلَّا نَادرا
وَمِنْه مَا نقل عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِيهِ قَول على وفْق الحَدِيث وَمِمَّنْ حكى عَنهُ مِنْهُم أَنه أفتى بِالْحَدِيثِ فِي مثل ذَلِك أَبُو يَعْقُوب الْبُوَيْطِيّ وَأَبُو الْقَاسِم الداركي وَهُوَ الَّذِي قطع بِهِ أَبُو الْحسن الكيا

(1/53)


@ الطَّبَرِيّ فِي كِتَابه فِي أصُول الْفِقْه وَلَيْسَ هَذَا بالهين فَلَيْسَ كل فَقِيه يسوغ لَهُ أَن يسْتَقلّ بِالْعَمَلِ بِمَا يرَاهُ حجَّة من الحَدِيث وفيمن سلك هَذَا المسلك من الشافعيين من عمل بِحَدِيث تَركه الشَّافِعِي عمدا على علم مِنْهُ بِصِحَّتِهِ لمَانع آطلع عَلَيْهِ وخفي على غَيره كَأبي الْوَلِيد مُوسَى بن أبي الْجَارُود مِمَّن

(1/54)


@ صحب الشَّافِعِي رُوِيَ عَنهُ أَنه روى عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ إِذا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَدِيث وَقلت قولا فَأَنا رَاجع عَن قولي بذلك قَالَ أَبُو الْوَلِيد وَقد صَحَّ حَدِيث ((أفطر الحاجم والمحجوم)) فَأَنا أَقُول قَالَ الشَّافِعِي أفطر الحاجم والمحجوم فَرد على أبي الْوَلِيد ذَلِك من حَيْثُ أَن الشَّافِعِي تَركه مَعَ صِحَّته لكَونه مَنْسُوخا عِنْده وَقد دلّ رَضِي الله عَنهُ على ذَلِك وَبَينه

(1/55)


@
وروينا عَن ابْن خُزَيْمَة الإِمَام البارع فِي الحَدِيث وَالْفِقْه إِنَّه قيل لَهُ هَل تعرف سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَلَال وَالْحرَام لم يودعها الشَّافِعِي كِتَابه قَالَ لَا
وَعند هَذَا أَقُول من وجد من الشافعيين حَدِيثا يُخَالف مذْهبه نظر فَإِن كملت آلَات الإجتهاد فِيهِ إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا من ذَلِك الْبَاب أوفى تِلْكَ الْمَسْأَلَة على مَا سبق بَيَانه كَانَ لَهُ الإستقلال بِالْعَمَلِ بذلك الحَدِيث وَإِن لم تكمل إِلَيْهِ وَوجد فِي قلبه حزازة من مُخَالفَة الحَدِيث بعد أَن بحث فَلم يجد لمُخَالفَته عَنهُ

(1/58)


@ جَوَابا شافيا فَلْينْظر هَل عمل بذلك الحَدِيث إِمَام مُسْتَقل فَإِن وجد فَلهُ أَن يتمذهب بمذهبه فِي الْعَمَل بذلك الحَدِيث عذرا فِي ترك مَذْهَب إِمَامه فِي ذَلِك وَالْعلم عِنْد الله تبَارك وَتَعَالَى
الرَّابِعَة عشرَة هَل للمفتي المنتسب الى مَذْهَب الشَّافِعِي مثلا أَن يُفْتِي تَارَة بِمذهب آخر فِيهِ تَفْصِيل وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ ذَا اجْتِهَاد فأداة اجْتِهَاده إِلَى مَذْهَب إِمَام آخر فَاتبع اجْتِهَاده وَإِن كَانَ اجْتِهَاده مُقَيّدا مشوبا بِشَيْء من التَّقْلِيد نقل ذَلِك الشوب من التَّقْلِيد إِلَى ذَلِك الإِمَام الَّذِي أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى مذْهبه ثمَّ إِذا أفتى بَين ذَلِك فِي فتياه وَكَانَ الإِمَام أَبُو بكر الْقفال الْمروزِي يَقُول لَو اجتهدت فَأدى اجتهادي إِلَى مَذْهَب أبي حنيفَة فَأَقُول مَذْهَب الشَّافِعِي كَذَا وَكَذَا وَلَكِنِّي أَقُول بِمذهب أبي حنيفَة لِأَنَّهُ جَاءَ لِيَسْتَفْتِيَ على مَذْهَب الشَّافِعِي فَلَا بُد من أَن أعرفهُ بِأَنِّي أُفْتِي بِغَيْرِهِ
وحَدثني أحد الْمُفْتِينَ بخراسان أَيَّام مقَامي بهَا عَن بعض مشايخه أَن الإِمَام أَحْمد الخوافي قَالَ للغزالي فِي مَسْأَلَة أفتى فِيهَا أَخْطَأت فِي الْفَتْوَى

(1/59)


@ فَقَالَ لَهُ الْغَزالِيّ من أَيْن وَالْمَسْأَلَة لَيست مسطورة فَقَالَ لَهُ بلَى فِي الْمَذْهَب الْكَبِير فَقَالَ لَهُ الْغَزالِيّ لَيست فِيهِ وَلم تكن فِي الْموضع الَّذِي يَلِيق بهَا فأخرجها لَهُ الخوافي من مَوضِع قد أجراها فِيهِ المُصَنّف اسْتِشْهَادًا فَقَالَ لَهُ الْغَزالِيّ عِنْد ذَلِك لَا أقبل هَذَا واجتهادي مَا قلت فَقَالَ لَهُ الخوافي فِي هَذَا شَيْء آخر إِنَّمَا تسْأَل عَن مَذْهَب الشَّافِعِي أَو عَن اجتهادك فَلَا يجوز أَن تُفْتِي على اجتهادك أَو كَمَا قَالَ وَالْمذهب الْكَبِير هُوَ نِهَايَة الْمطلب تأليف الشَّيْخ أبي الْمَعَالِي ابْن الْجُوَيْنِيّ وَكَانَ الخوافي مَعَ الْغَزالِيّ من أكَابِر اصحابه وَإِمَّا إِذا لم يكن ذَلِك بِنَا على اجْتِهَاد فَإِن ترك مذْهبه إِلَى مَذْهَب هُوَ أسهل عَلَيْهِ وأوسع فَالصَّحِيح آمتناعه وَإِن تَركه لكَون الآخر أحوط المذهبين وَالظَّاهِر جَوَازه ثمَّ عَلَيْهِ بَيَان ذَلِك فِي فتواه على مَا تقدم وَالله أعلم
الْخَامِسَة عشرَة لَيْسَ للمنتسب إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي فِي الْمَسْأَلَة ذَات الْقَوْلَيْنِ أَو الْوَجْهَيْنِ أَن يتَخَيَّر فَيعْمل أَو يُفْتِي بِأَيِّهِمَا شَاءَ بل عَلَيْهِ فِي الْقَوْلَيْنِ إِن علم الْمُتَأَخر مِنْهَا كَمَا فِي الْجَدِيد مَعَ الْقَدِيم أَن يتبع الْمُتَأَخر فَإِنَّهُ نَاسخ للمتقدم وَإِن ذكرهَا الشَّافِعِي جَمِيعًا وَلم يتَقَدَّم أَحدهمَا لَكِن مَنْهَج أَحدهمَا كَانَ الِاعْتِمَاد على الَّذِي رَجحه وَإِن جمع بَينهمَا فِي حَالَة وَاحِدَة من غير تَرْجِيح مِنْهُ لأَحَدهمَا وَقد قيل أَنه لم يُوجد مِنْهُ ذَلِك إِلَّا فِي سِتَّة عشر أَو

(1/60)


@ سَبْعَة عشر موضعا أَو نقل عَنهُ قَولَانِ وَلم يعلم حَالهمَا فِيمَا ذَكرْنَاهُ فَعَلَيهِ الْبَحْث عَن الْأَرْجَح الْأَصَح مِنْهُمَا متعرفا ذَلِك من أصُول مذْهبه غير متجاوز فِي التَّرْجِيح قَوَاعِد مذْهبه إِلَى غَيرهَا هَذَا إِن كَانَ ذَا إجتهاد فِي مذْهبه أَهلا للتخريج عَلَيْهِ فَإِن لم يكن أَهلا لذَلِك فلينقله عَن بعض أهل التَّخْرِيج من أَئِمَّة الْمَذْهَب وَإِن لم يجد شَيْئا من ذَلِك فليتوقف
قَالَ القَاضِي الإِمَام أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ رَحمَه الله فِي مَسْأَلَة فعل المحلوق عَلَيْهِ على نِسْيَان ذَات الْقَوْلَيْنِ قَالَ شَيخنَا أَبُو الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ مَا أَفْتيت فِي يَمِين النَّاس بِشَيْء قطّ وَحكى عَن شَيْخه أبي الْفَيَّاض أَنه لم

(1/61)


@ يفت فِيهَا بِشَيْء قطّ وَحكى ابو الْفَيَّاض عَن شَيْخه أبي حَامِد الْمروزِي أَنه لم يفت فِيهَا بِشَيْء قطّ قَالَ الْمروزِي فاقتديت بِهَذَا السّلف وَلم أفت فِيهَا بِشَيْء لِأَن اسْتِعْمَال التوقي أحوط من فرطات الْإِقْدَام وَأما الْوَجْهَانِ فَلَا بُد من تَرْجِيح أَحدهمَا وتعرف الصَّحِيح مِنْهُمَا عِنْد الْعَمَل وَالْفَتْوَى بِمثل الطَّرِيق الْمَذْكُور وَلَا غَيره فِيهَا بالتقدم والتأخر وَسَوَاء وَقعا مَعًا فِي حَالَة وَاحِدَة من إِمَام من أَئِمَّة الْمَذْهَب أَو من إمامين وَاحِد بعد وَاحِد لِأَنَّهُمَا إنتسبا إِلَى الْمَذْهَب إنتسابا وَاحِدًا وَتقدم أَحدهمَا لَا تَجْعَلهُ بِمَنْزِلَة تقدم أحد الْقَوْلَيْنِ من صَاحب الْمَذْهَب وَلَيْسَ ذَلِك أَيْضا من قبيل إختلاف الْمَعْنيين على المستفتي بل كل ذَلِك إختلاف رَاجع إِلَى شخص وَاحِد وَهُوَ صَاحب الْمَذْهَب ليلتحق باخْتلَاف

(1/62)


@ الرِّوَايَتَيْنِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَنه يتَعَيَّن الْعَمَل بأصحهما عَنهُ
وَإِذا كَانَ أحد الرأيين مَنْصُوصا عَنهُ وَالْآخر مخرجا فَالظَّاهِر الَّذِي نَص عَلَيْهِ مِنْهُمَا يقدم كَمَا يقدم مَا رَجحه من الْقَوْلَيْنِ المنصوصين على الآخر لِأَنَّهُ أقوى نِسْبَة إِلَيْهِ مِنْهُ إِلَّا إِذا كَانَ القَوْل الْمخْرج مخرجا من نَص آخر لتعذر الْفَارِق فَاعْلَم ذَلِك
وَأعلم أَن من يَكْتَفِي بِأَن يكون فِي فتاه أَو علمه مُوَافقا لقَوْل أَو وَجه فِي الْمَسْأَلَة وَيعْمل بِمَا يَشَاء من الْأَقْوَال أَو الْوُجُوه معد غير نظر فِي التَّرْجِيح وَلَا يُقيد بِهِ فقد جهل وخرق الْإِجْمَاع وسبيله سَبِيل الَّذِي حكى عَنهُ أَبُو الْوَلِيد الْبَاجِيّ الْمَالِكِي من فُقَهَاء الْمَالِكِيَّة أَنه كَانَ يَقُول إِن الَّذِي لصديقي عَليّ إِذا وَقعت لَهُ حُكُومَة أَن أفتيه بالرواية الَّتِي توافقه وَحكي عَن من يَثِق بِهِ أَنه وَقعت لَهُ وَاقعَة وَأفْتى فِيهَا وَهُوَ غَائِب جمَاعَة من فقهائهم من أهل الصّلاح بِمَا يضرّهُ فَلَمَّا عَاد سَأَلَهُمْ فَقَالُوا مَا علمنَا أَنَّهَا لَك وأفتوه بالرواية الْأُخْرَى الَّتِي توافقه قَالَ وَهَذَا مِمَّا لَا خلاف بَين الْمُسلمين مِمَّن يعْتد بِهِ فِي الاجماع أَنه لَا يجوز
قلت وَقد قَالَ إمَامهمْ مَالك رَضِي الله عَنهُ فِي اخْتِلَاف أَصْحَاب

(1/63)


@ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم مخطىء ومصيب فَعَلَيْك بِالِاجْتِهَادِ وَقَالَ لَيْسَ كَمَا قَالَ نَاس فِيهِ توسعة
قلت لَا توسعة فِيهِ بِمَعْنى أَنه يتَخَيَّر بَين أَقْوَالهم من غير توقف على ظُهُور الرَّاجِح وَفِيه توسعة بِمَعْنى ان إختلافهم يدل على أَن الإجتهاد مجالا فِيمَا بَين أَقْوَالهم وَإِن ذَلِك لَيْسَ مِمَّا يقطع فِيهِ بقول وَاحِد مُتَعَيّن لَا مجَال للِاجْتِهَاد فِي خلَافَة وَالله أعلم
فرعان
أَحدهمَا إِذا وجد من لَيْسَ أَهلا للترجيح وَالتَّرْجِيح بِالدَّلِيلِ اخْتِلَافا بَين أَئِمَّة الْمَذْهَب فِي الْأَصَح من الْقَوْلَيْنِ أَو الْوَجْهَيْنِ فَيَنْبَغِي أَن يفرع فِي التَّرْجِيح إِلَى صفاتهم الْمُوجبَة لزِيَادَة الثِّقَة بأدائهم فَيعْمل بقول الْأَكْثَر والأعلم والأورع وَإِذا اخْتصَّ وَاحِد مِنْهُم بِصفة مِنْهَا والاخر بِصفة أُخْرَى قدم الَّذِي هُوَ أَحْرَى مِنْهَا بالإصابة فالأعلم الْوَرع مقدم على الأورع الْعَالم واعتبرنا ذَلِك فِي هَذَا كَمَا اعْتبرنَا فِي التَّرْجِيح عِنْد تعَارض الْأَخْبَار صِفَات رواتها وَكَذَلِكَ إِذا وجد قَوْلَيْنِ أَو وَجْهَيْن لم يبلغهُ عَن أحد من أئمته بَيَان الْأَصَح مِنْهُمَا اعْتبر أَوْصَاف ناقليهما وقائليهما فَمَا رَوَاهُ الْمُزنِيّ أَو الرّبيع

(1/64)


@ الْمرَادِي مقدم عِنْد أَصْحَابنَا على مَا حَكَاهُ الإِمَام أَبُو سُلَيْمَان

(1/65)


@ الْخطابِيّ عَنْهُم على مَا رَوَاهُ حَرْمَلَة أَبُو الرّبيع الجيزي وأشباههما

(1/66)


@ مِمَّن لم يكن قوي الْأَخْذ عَن الشَّافِعِي ويرجح مَا وَافق بهما أَكثر أَئِمَّة الْمذَاهب المتبوعة أَو أَكثر الْعلمَاء وَمِمَّا استفدته من الغرائب بخراسان عَن الشَّيْخ حُسَيْن بن مَسْعُود صَاحب التَّهْذِيب عَن شَيْخه القَاضِي حُسَيْن بن مُحَمَّد قَالَ إِذا اخْتلف قَول الشَّافِعِي فِي مَسْأَلَة وَأحد الْقَوْلَيْنِ يُوَافق مَذْهَب أبي حنيفَة فَأَيّهمَا أولى بالفتوى قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد مَا يُخَالف قَول أبي حنيفَة أولى لِأَنَّهُ لَوْلَا أَن الشَّافِعِي عرف فِيهِ معنى خفِيا بالكان لَا يُخَالف أَبَا حنيفَة وَقَالَ الشَّيْخ الْقفال مَا يُوَافق قَول أبي حنيفَة أولى قَالَ وَكَانَ القَاضِي يذهب إِلَى التَّرْجِيح بِالْمَعْنَى وَيَقُول كل قَول كَانَ مَعْنَاهُ رَاجِح فَذَاك أولى وَأفْتى بِهِ
قلت وَقَول القَاضِي الْمروزِي الْمَذْكُور أظهر من قَول أبي حَامِد الاسفرائيني وَكِلَاهُمَا مَحْمُول على مَا إِذا لم يُعَارض ذَلِك من جِهَة القَوْل الآخر تَرْجِيح آخر مثله أَو أقوى مِنْهُ وَهَذِه الْأَنْوَاع من التَّرْجِيح مُعْتَبرَة أَيْضا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَئِمَّة الْمَذْهَب غير أَن مَا يرجحه الدَّلِيل عِنْدهم مقدم على ذَلِك وَالله أعلم
الثَّانِي كل مَسْأَلَة فِيهَا قَولَانِ قديم وجديد فالجديد أصح وَعَلِيهِ الْفَتْوَى إِلَّا فِي نَحْو عشْرين مسئلة أَو أَكثر يُفْتِي فِيهَا على الْقَدِيم على خلاف فِي ذَلِك من أَئِمَّة الْأَصْحَاب فِي أَكْثَرهَا ذَلِك مفرق فِي مصنفاتهم وَقد قَالَ

(1/67)


@ الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي ابْن الْجُوَيْنِيّ فِي نهايته قَالَ الائمة كل قَوْلَيْنِ أَحدهمَا جَدِيد فَهُوَ الْأَصَح من الْقَدِيم إِلَّا من ثَلَاث مسَائِل وَذكر مِنْهَا مسئلة التثويب فِي أَذَان الصُّبْح وَمَسْأَلَة التباعد عَن النَّجَاسَة فِي المَاء الْكثير وَلم ينص على الثَّالِثَة غير أَنه لما ذكر القَوْل بعد اسْتِحْبَاب قِرَاءَة السُّورَة بعد الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين وَهُوَ القَوْل الْقَدِيم ثمَّ ذكر ان عَلَيْهِ الْعَمَل وَفِي هَذِه الْمَسْأَلَة إِشْعَار بِأَن عَلَيْهِ الْفَتْوَى فاصاروا إِلَى ذَلِك فِي ذَلِك مَعَ أَن الْقَدِيم لم يبْق قولا للشَّافِعِيّ لرجوعه عَنهُ وَيكون إختيارهم إِذن الْقَدِيم فِيهَا من قبيل مَا ذَكرْنَاهُ من اخْتِيَار أحدهم مَذْهَب غير الشَّافِعِي إِذا أَدَّاهُ اجْتِهَاده اليه كَمَا سبق وبل أولى لكَون الْقَدِيم قد كَانَ قولا لَهُ مَنْصُوصا ويلتحق بذلك مَا إِذا اخْتَار أحدهم القَوْل الْمخْرج على القَوْل الْمَنْصُوص أَو اخْتَار من الْقَوْلَيْنِ اللَّذين رجح الشَّافِعِي أَحدهمَا غير مَا رَجحه وبل أولى من القَوْل الْقَدِيم ثمَّ حكم من لم يكن أَهلا للترجيح من المتبعين لمَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أَن لَا يتبعوا شَيْئا من اختياراتهم هَذِه الْمَذْكُورَة لأَنهم مقلدون للشَّافِعِيّ دون من خَالفه وَالله أعلم
الْمَسْأَلَة السَّادِسَة عشرَة إِذا اقْتصر فِي جَوَابه على حِكَايَة الْخلاف بِأَن قَالَ فِيهَا قَولَانِ أَو وَجْهَان أَو نَحْو ذَلِك من غير أَن يبين الْأَرْجَح فحاصل أمره أَنه لم يفت بِشَيْء وأذكر أَنِّي حضرت بالموصل الشَّيْخ الصَّدْر المُصَنّف أَبَا السعادات ابْن الْأَثِير الْجَزرِي رَحمَه الله فَذكر بعض الْحَاضِرين عِنْده

(1/68)


@ عَن بعض المدرسين أَنه أفتى فِي مَسْأَلَة فَقَالَ فِيهَا قَولَانِ وَأخذ يزري عَلَيْهِ فَقَالَ الشَّيْخ ابْن الْأَثِير كَانَ الشَّيْخ أَبُو الْقَاسِم ابْن البرزي وَهُوَ عَلامَة زَمَانه فِي الْمَذْهَب إِذا كَانَ فِي الْمَسْأَلَة خلاف واستفتي عَنْهَا يذكر الْخلاف فِي الْفتيا وَيُقَال لَهُ فِي ذَلِك فَيَقُول لَا أتقلده الْعهْدَة مُخْتَارًا لأحد الرائيين مُقْتَصرا عَلَيْهِ وَهَذَا جيد عَن عرض الْفَتْوَى وَإِذا لم يذكر شَيْئا أصلا فَلم يتقلده الْعهْدَة أَيْضا وَلكنه لم يَأْتِ بالمطلوب حَيْثُ لم يخلص السَّائِل من عمايته وَهَذَا فِي ذَلِك كَذَلِك وَلَا اقْتِدَاء بِأبي بكر مُحَمَّد بن دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ الظَّاهِرِيّ فِي فتياه الَّتِي أَخْبرنِي بهَا أَو أَحْمد عبد الْوَهَّاب ابْن عَليّ شيخ

(1/69)


@ الشُّيُوخ بِبَغْدَاد قَالَ أَنبأَنَا الْحَافِظ أَبُو بكر بن أَحْمد على الْخَطِيب قَالَ حَدثنِي القَاضِي أَبُو الطّيب ظَاهر بن عبد الله الطَّبَرِيّ حَدثنِي أَبُو الْعَبَّاس الخضري وَأَخْبرنِي أَيْضا الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس حمد بن الْحسن المقرىء بِبَغْدَاد قَالَ أَنبأَنَا ابو الْحسن عَليّ بن هبة الله بن عبد السَّلَام قَالَ أَنبأَنَا الشَّيْخ الإِمَام ابو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن عَليّ الفيروز آبادي قَالَ سَمِعت شَيخنَا القَاضِي أَبَا الطّيب الطَّبَرِيّ قَالَ سَمِعت أَبَا الْعَبَّاس الخضري قَالَ كنت جَالِسا عِنْد أبي بكر بن دَاوُد فَجَاءَتْهُ امْرَأَة فَقَالَت لَهُ مَا تَقول فِي رجل لَهُ زَوْجَة لَا هُوَ ممسكها وَلَا هُوَ مُطلقهَا فَقَالَ ابو بكر اخْتلف فِي ذَلِك أهل الْعلم فَقَالَ قَائِلُونَ تُؤمر بِالصبرِ والاحتساب وَيبْعَث على التطلب والاكتساب وَقَالَ قَائِلُونَ يُؤمر بِالْإِنْفَاقِ وَإِلَّا تحمل على الْإِطْلَاق فَلم تفهم الْمَرْأَة قَوْله فأعادت وَقَالَت رجل لَهُ زَوْجَة لَا هُوَ ممسكها وَلَا هُوَ مُطلقهَا فَقَالَ لَهَا يَا هَذِه أَجَبْتُك عَن مسألتك وأرشدتك إِلَى طلبتك وَلست بسُلْطَان فأمضي وَلَا قَاض فأقضي وَلَا زوج فأرضي آنصرفي قَالَ فأنصرفت الْمَرْأَة وَلم تفهم جَوَابه
قلت التَّصْحِيف شين فآعلم أَن أَبَا الْعَبَّاس الخضري هَذَا هُوَ بخاء مُعْجمَة مَضْمُومَة وبضاد مُعْجمَة مَفْتُوحَة وَقَوله تُؤمر بِالصبرِ فِي أَوله التَّاء الَّتِي للمؤنث وَقَوله يبْعَث على التطلب فِي أَوله الْيَاء الَّتِي تبنى للمذكر وَقَوْلها لَا هُوَ ممسكها إِلَى لَيْسَ ينْفق عَلَيْهَا
وَلَقَد وَقع آبن دَاوُد بَعيدا عَن مناهج الْمُفْتِينَ فِي تعقيده هَذَا وتسجيعه وتحييره من استرشده
وَهَكَذَا إِذا قَالَ الْمُفْتِي فِي مَوضِع الْخلاف يرجع إِلَى رَأْي الْحَاكِم فقد عدل عَن نهج الْفَتْوَى وَلم يفت أَيْضا بِشَيْء وَهُوَ كَمَا إِذا استفتى فَلم يجب وَقَالَ آستفتوا غَيْرِي
وَحَضَرت بالموصل شيخها الْمُفْتِي أَبَا حَامِد مُحَمَّد بن يُونُس وَقد

(1/70)


@ آستفتي من مسئلة فَكتب فِي جوابها إِن فِيهَا خلافًا فَقَالَ بعض من حضر كَيفَ يعْمل المستفتي فَقَالَ يخْتَار لَهُ القَاضِي أحد المذهبين
ثمَّ قَالَ هَذَا يبْنى على أَن الْعَاميّ إِذا آختلف عَلَيْهِ آجتهاد اثْنَيْنِ فَمَاذَا يعْمل وَفِيه خلاف مَشْهُور وَهَذَا غير مُسْتَقِيم أما قَوْله أَولا يخْتَار لَهُ الْحَاكِم فَهُوَ فَاسد لما ذَكرْنَاهُ وَلِأَن الْحَاكِم إِذا لم يكن أَهلا للْفَتْوَى وَذَلِكَ هُوَ الْغَالِب فِي زمَان من ذكرنَا عَنهُ مَا ذَكرْنَاهُ فقد رده إِلَى رَأْي من لَا رَأْي لَهُ وأحاله على عَاجز حَاجته فِي ذَلِك إِلَى فتياه كحاجة من استفتاه
وَأما قَوْله ثَانِيًا يبْنى ذَلِك على الْخلاف فِيمَا إِذا اخْتلف عَلَيْهِ إجتهاد مفتيين فتواهما فَهَل يتَخَيَّر بَين فتواهما أَو يَأْخُذ بالأخف أَو بالأغلظ فَهَذَا فِيهِ إحواج للمستفتي إِلَى أَن يستفتى مرّة أُخْرَى وَيسْأل عَن هَذَا أَيْضا لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أَن حكمه التخير أَو الْأَخْذ بالأخف أَو الأغلظ فَلم يَأْتِ إِذن بِمَا يكْشف عمايته بل زَاده عماية وحيرة على أَن الصَّحِيح فِي ذَلِك على مَا سَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى إِنَّه يجب عَلَيْهِ الْأَخْذ بقول الأوثق مِنْهُمَا وَإِذا قَالَ فِيهِ خلاف وَلم يعين الْقَائِلين لم يتهيأ لَهُ فِيهِ وَهَذِه حَالَته الْبَحْث عَن الأوثق من الْقَائِلين وَالله أعلم

(1/71)


@

القَوْل فِي كَيْفيَّة الْفَتْوَى وآدابها
وَفِيه مسَائِل
الأولى يجب على الْمُفْتِي حَيْثُ يجب عَلَيْهِ الْجَواب أَن يُبينهُ بَيَانا مزيحا للإشكال ثمَّ لَهُ أَن يُجيب شفاها بِاللِّسَانِ وَإِذا لم يعلم لِسَان المستفتي أَجْزَأت تَرْجَمَة الْوَاحِد لِأَن طَرِيقه الْخَيْر وَله أَن يُجيب بِالْكِتَابَةِ مَعًا فِي الْفَتْوَى فِي الرّقاع وفيهَا من الْخطر وَكَانَ القَاضِي أَبُو حَامِد المروزوري الإِمَام فِيمَا بلغنَا عَنهُ كثير الْهَرَب من الْفَتْوَى فِي الرّقاع
قَالَ أَبُو الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ وَلَيْسَ من الْأَدَب للمفتي أَن يكون السُّؤَال بِخَطِّهِ فإمَّا بإملائه وتهذيبه فواسع
وبلغنا عَن الشَّيْخ أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ رَحمَه الله أَنه كَانَ قد يكْتب إِلَى المستفتي السُّؤَال على ورق من عِنْده ثمَّ يكْتب الْجَواب وَالله أعلم
الثَّانِيَة إِذا كَانَت الْمَسْأَلَة فِيهَا تَفْصِيل لم يُطلق الْجَواب فَإِنَّهُ خطأ ثمَّ لَهُ أَن يستفصل السَّائِل إِن حضر ويقيد السُّؤَال فِي رقْعَة الاستفتاء ثمَّ يُجيب عَنهُ وَهَذَا أولى وَكَثِيرًا مَا نتحراه نَحن ونفعله وَله أَن يقْتَصر على جَوَاب أحد الْأَقْسَام إِذا علم أَنه الْوَاقِع للسَّائِل وَلَكِن تَقول هَذَا إِذا كَانَ كَذَا وَكَذَا وَله أَن يفصل الْأَقْسَام فِي جَوَابه وَيذكر حكم كل قسم وَهَذَا قد كرهه أَبُو الْحُسَيْن الْقَابِسِيّ من أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة وَقَالَ هَذَا ذَرِيعَة إِلَى تَعْلِيم النَّاس الْفُجُور وَنحن نكرهه أَيْضا لما ذكره من أَنه يفتح للخصوم بَاب التمحل والاحتيال الْبَاطِل وَلِأَن ازدحام الْأَقْسَام بأحكامها على فهم الْعَاميّ يكَاد يضيعه وَإِذا لم يجد الْمُفْتِي من

(1/72)


@ يستفسره فِي ذَلِك كَانَ مدفوعا إِلَى التَّفْصِيل فليتثبت وليجتهد فِي إستيفاء الْأَقْسَام وأحكامها وتحريرها وَالله أعلم
الثَّالِثَة إِذا كَانَ المستفتي بعيد الْفَهم فَيَنْبَغِي للمفتي أَن يكون رَفِيقًا بِهِ صبورا عَلَيْهِ حسن التأني فِي التفهم مِنْهُ والتفهيم لَهُ حسن الإقبال عَلَيْهِ لَا سِيمَا إِذا كَانَ ضَعِيف الْحَال محتسبا أجر ذَلِك فَإِنَّهُ جزيل
أخْبرت عَن أبي الْفتُوح عبد الْوَهَّاب بن شاه النَّيْسَابُورِي قَالَ أخبرنَا الْأُسْتَاذ أَبُو الْقَاسِم الْقشيرِي قَالَ سَمِعت أَبَا سعيد الشحام يَقُول رَأَيْت الشَّيْخ الإِمَام أَبَا الطّيب سهلا الصعلوكي فِي الْمَنَام فَقلت أَيهَا الشَّيْخ فَقَالَ دع التشييخ فَقلت وَتلك الْأَحْوَال الَّتِي شاهدتها فَقَالَ لم تغن عَنَّا فَقلت مَا فعل الله بك فَقَالَ غفر لي بمسائل كَانَ يسْأَل عَنْهَا الْعَجز الْعَجز بِضَم الْعين وَالْجِيم الْعَجَائِز وَالله أعلم
الرَّابِعَة ليتأمل رقْعَة الأستفتاء تأملا شافيا كلمة بعد كلمة ولتكن عنايته بتأمل آخرهَا أَكثر فَإِنَّهُ فِي آخرهَا يكون السُّؤَال وَقد يتَقَيَّد الْجَمِيع بِكَلِمَة فِي آخر الرقعة ويغفل عَنْهَا القارىء لَهَا وَهَذَا من أهم أَن يراعيه فَإِذا مر فِيهَا بمشتبه سَأَلَ عَنْهَا المستفتي ونقطه وشكله مصلحَة لنَفسِهِ ونيابة عَمَّن يُفْتِي بعده وَكَذَا إِن رأى لحنا فَاحِشا أَو خطأ يحِيل معنى أصلحه قطع بذلك أَبُو الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ من أَئِمَّة أَصْحَابنَا فِي كِتَابه فِي أدب الْمُفْتِي والمستفتي
وَقَالَ الْخَطِيب أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ الْحَافِظ رَأَيْت القَاضِي أَبَا الطّيب الطَّبَرِيّ يفعل هَذَا فِي الرّقاع الَّتِي ترفع إِلَيْهِ للإستفتاء
قلت وَوَجهه إِلْحَاقه بقبيل الْمَأْذُون فِيهِ بِلِسَان الْحَال فَإِن الرقعة إِنَّمَا قدمهَا صَاحبهَا إِلَيْهِ ليكتب فِيهَا مَا يرى وَهَذَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ إِذا رأى بَيَاضًا فِي أثْنَاء بعض السطور أَو فِي آخرهَا خطّ عَلَيْهِ وشغله على نَحْو مَا يَفْعَله الشَّاهِد فِي كتب الوثائق وَنَحْوهَا لِأَنَّهُ رُبمَا قصد الْمُفْتِي فَيكْتب من ذَلِك الْبيَاض بعد

(1/73)


@ فتواه مَا يُفْسِدهَا كَمَا بلي القَاضِي أَبُو حَامِد الْمروزِي بِمثل ذَلِك إِذْ قصد مساءته بعض النَّاس فَكتب مَا تَقول فِي رجل مَاتَ وَخلف ابْنه وأختا لأم ثمَّ ترك بَيَاضًا فِي آخر السطر مَوضِع كلمة ثمَّ كتب فِي أول السطر الَّذِي يَلِيهِ وَترك ابْن عَم فَأفْتى للْبِنْت النّصْف وَالْبَاقِي لآبن الْعم فَلَمَّا أَخذ خطه بذلك ألحق فِي مَوضِع الْبيَاض وَأب وشنع عَلَيْهِ بذلك وَكَانَ ذَلِك سَبَب فتْنَة ثارت بَين طائفتين من رُؤَسَاء الْبَصْرَة وَالله أعلم
الْخَامِسَة يسْتَحبّ لَهُ أَن يقْرَأ مَا فِي الرقعة على من بِحَضْرَتِهِ من هُوَ أهل لذَلِك ويشاورهم فِي الْجَواب ويباحثهم فِيهِ وَإِن كَانُوا دونه وتلامذته لما فِي ذَلِك من الْبركَة والإقتداء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبالسلف الصَّالح رَضِي الله عَنْهُم اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون فِي الرقعة مَا لَعَلَّ السَّائِل يُؤثر ستره أَو فِي إشاعته مفْسدَة لبَعض النَّاس فينفرد هُوَ بِقِرَاءَتِهَا وجوابها وَالله أعلم
السَّادِسَة يَنْبَغِي أَن يكْتب الْجَواب بِخَط وَاضح وسط لَيْسَ بالدقيق الخافي وَلَا بالغليظ الجافي وَكَذَا يتوسط فِي سطوره بَين توسيعها وتضييقها وَتَكون عِبَارَته وَاضِحَة صَحِيحَة بِحَيْثُ يفهمها الْعَامَّة وَلَا تزدريها الْخَاصَّة
وَاسْتحبَّ بَعضهم أَن لَا يتَفَاوَت أقلامه وَلَا يخْتَلف خطه خوفًا من التزوير عَلَيْهِ وَكيلا يشْتَبه خطه
قَالَ الصَّيْمَرِيّ وَقل مَا وجد التزوير على الْمُفْتِي وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى حفظ الدّين
وَإِذا كتب الْجَواب أعَاد نظره فِيهِ خوفًا من أَن يكون أخل بِشَيْء مِنْهُ
السَّابِعَة إِذا كَانَ هُوَ المبتدىء بالإفتاء فِيهَا العاده جَارِيَة قَدِيما وحديثا بِأَن يكْتب فتواه فِي النَّاحِيَة الْيُسْرَى من الورقة لِأَن ذَلِك أمكن لَهُ وَلَو كتب فِي غَيرهَا فَلَا عتب عَلَيْهِ إِلَّا أَن يرْتَفع إِلَى أَعْلَاهَا ترفعا وَلَا سِيمَا فَوق الْبَسْمَلَة
وَفِيمَا وَجَدْنَاهُ عَن أبي الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ أَن كثيرا من الْفُقَهَاء يبْدَأ فِي فتواه

(1/74)


@ بِأَن يَقُول الْجَواب وَحذف ذَلِك آخَرُونَ قَالَ وَلَو عمل ذَلِك فِيمَا طَال من الْمسَائِل وَحذف فِيمَا سوى ذَلِك لَكَانَ وَجها وَلَكِن لَا يدع أَن يخْتم جَوَابه بِأَن يَقُول وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق أَو وَالله الْمُوفق أَو وَالله أعلم
قَالَ وَكَانَ بعض السّلف إِذا أفتى يَقُول إِن كَانَ صَوَابا فَمن الله وَإِن كَانَ خطأ فمني
قَالَ وَهَذَا معنى كره فِي هَذَا الزَّمَان لِأَن فِيهِ إضعاف نفس السَّائِل وَإِدْخَال قلبه الشَّك فِي الْجَواب
قَالَ وَلَيْسَ يقبح مِنْهُ أَن يَقُول الْجَواب عندنَا أَو الَّذِي عندنَا أَو يَقُول أَو الَّذِي نرَاهُ كَذَا وَكَذَا لِأَنَّهُ من حَملَة أَصْحَابه وأرباب مقَالَته وَالله أعلم
الثَّامِنَة رُوِيَ عَن مَكْحُول وَمَالك رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا

(1/75)


@ يفتيان حَتَّى يَقُولَا لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه
وَنحن نستحب للمفتي مَعَ غَيره فَلْيقل إِذا أَرَادَ الْإِفْتَاء أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم {سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا إِنَّك أَنْت الْعَلِيم الْحَكِيم} {ففهمناها سُلَيْمَان} الْآيَة {رب اشرح لي صَدْرِي وَيسر لي أَمْرِي واحلل عقدَة من لساني يفقهوا قولي} لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وحنانيك اللَّهُمَّ لَا تنسني وَلَا تنسني الْحَمد لله أفضل الْحَمد اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آله وَسَائِر النَّبِيين وَسلم اللَّهُمَّ وفقني واهدني وسددني واجمع لي بَين الصَّوَاب وَالثَّوَاب وأعذني من الْخَطَأ والحرمان آمين
وَإِن لم يَأْتِ بذلك عِنْد كل فَتْوَى فليأت بِهِ عِنْد أول فتيا يفتيها فِي يَوْمه لما يفتيه فِي سَائِر يَوْمه مضيفا إِلَيْهِ قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَآيَة الْكُرْسِيّ وَمَا تيَسّر فَإِن من ثابر على ذَلِك كَانَ حَقِيقا بِأَن يكون موفقا فِي فَتَاوِيهِ وَالله أعلم
التَّاسِعَة بلغنَا عَن القَاضِي أبي الْحسن الْمَاوَرْدِيّ صَاحب كتاب الْحَاوِي قَالَ إِن الْمُفْتِي عَلَيْهِ أَن يختصر جَوَابه فيكتفي فِيهِ بِأَنَّهُ يجوز أَو لَا يجوز أَو حق أَو بَاطِل وَلَا يعدل إِلَى الإطالة والاحتجاج ليفرق

(1/76)


@ بَين الْفَتْوَى والتصنيف قَالَ وَلَو سَاغَ التجاوز إِلَى قَلِيل لساغ إِلَى كثير ولصار الْمُفْتِي مدرسا وَلكُل مقَام مقَال
وَذكر شَيخنَا أَبُو الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ عَن شَيْخه القَاضِي أبي حَامِد الْمروزِي أَنه كَانَ يختصر فِي فتواه عَامَّة مَا يُمكنهُ واستفتي فِي مَسْأَلَة قيل فِي آخرهَا أَيجوزُ ذَلِك أم لَا فَكَانَت لَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
قلت الِاقْتِصَار على لَا أَو نعم لَا يَلِيق بِغَيْر الْعَامَّة وَإِنَّمَا يحسن بالمفتي الإختصار الَّذِي لَا يخل بِالْبَيَانِ الْمُشْتَرط عَلَيْهِ دون مَا يخل بِهِ فَلَا يدع إطاله لَا يحصل الْبَيَان بِدُونِهَا فَإِذا كَانَت فتياه فِيمَا يُوجب الْقود أَو الرَّجْم مثلا فليذكر الشُّرُوط الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا الْقود وَالرَّجم وَإِذا استفتي فِيمَن قَالَ قولا يكفر بِهِ بِأَن قَالَ الصَّلَاة لعب أَو الْحَج عَبث أَو نَحْو ذَلِك فَلَا يُبَادر بِأَن يَقُول هَذَا حَلَال الدَّم أَو يقتل بل يَقُول إِذا ثَبت عَلَيْهِ ذَلِك بِالْبَيِّنَةِ أَو الْإِقْرَار إستتابه السُّلْطَان فَإِن تَابَ قبلت تَوْبَته وَإِن أصر وَلم يتب قتل وَفعل بِهِ كَذَا وَكَذَا وَبَالغ فِي تَغْلِيظ أمره
وَإِن كَانَ الْكَلَام الَّذِي قَالَه يحْتَمل أمورا لَا يكفر بِبَعْضِهَا فَلَا يُطلق جَوَابه وَله أَن يَقُول ليسأل عَمَّا إراد بقوله فَإِن أَرَادَ كَذَا فَالْجَوَاب كَذَا وَإِن أَرَادَ كَذَا فَالْحكم فِيهِ كَذَا وَقد سبق الْكَلَام فِيمَا شَأْنه التَّفْصِيل
وَإِذا استفتي فِيمَا يُوجب التَّعْزِير فليذكر قدر مَا يعزره بِهِ السُّلْطَان فَيَقُول يضْرب مَا بَين كَذَا إِلَى كَذَا وَلَا يُزَاد على كَذَا خوفًا من أَن يضْرب بفتواه إِذا أطلق القَوْل مَا لَا يجوز ضربه ذكر ذَلِك الصَّيْمَرِيّ
قلت وَإِذا قَالَ عَلَيْهِ التَّعْزِير بِشَرْطِهِ أَو الْقصاص بِشَرْطِهِ فَلَيْسَ باطلاق وتقييده بِشَرْطِهِ يبْعَث من لَا يعرف الشَّرْط من ولاه الْأَمر على السُّؤَال عَن شَرطه وَالْبَيَان أولى وَالله أعلم
الْعَاشِرَة إِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة مِيرَاث فالعادة غير جَارِيَة بِأَن يشْتَرط فِي

(1/77)


@ جَوَابه فِي الْوَرَثَة عدم الرّقّ وَالْكفْر وَالْقَتْل وَغَيرهَا من الْمَوَانِع بل الْمُطلق مَحْمُول على ذَلِك بِخِلَاف مَا إِذا أطلق السَّائِل ذكر الْأُخوة والاخوان والأعمام وبنيهم فَلَا بُد أَن يشْتَرط فِي الْجَواب فَيَقُول من أَب وَأم أَو من أَب أَو من أم وَإِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة فِيهَا عول كالمنبرية وَهِي زَوْجَة وأبوان وبنتان فَلَا يقل للزَّوْجَة الثّمن وَلَا للزَّوْجَة التسع لِأَن أحدا من السّلف لم يقلهُ بل إِمَّا أَن يَقُول ثمن عائل وَهُوَ ثَلَاثَة أسْهم من سَبْعَة وَعشْرين سَهْما من كَذَا وَكَذَا وَإِذا كَانَ فِي الْمَذْكُورين فِي السُّؤَال من لَا يَرث أفْصح بسقوطه فَقَالَ وَسقط فلَان وَإِن كَانَ سُقُوطه فِي صُورَة دون صُورَة قَالَ سقط فلَان فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَو نَحْو ذَلِك وَإِذا سُئِلَ عَن إخْوَة وأخوات أَو بَنِينَ وَبَنَات فَلَا يَنْبَغِي إِلَّا أَن يَقُول يقتسمون التَّرِكَة على كَذَا وَكَذَا سَهْما لكل ذكر كَذَا سَهْما وَلكُل أُنْثَى كَذَا سَهْما وَلَا يقل للذّكر مثل حَظّ الأثنيين فَإِن ذَلِك يشكل على الْعَاميّ
وَهَذَا رَأْي الإِمَام أبي الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ وَنحن نجد فِي تعمد الْعُدُول عَنهُ حزازة فِي النَّفس لكَونه لفظ الْقُرْآن الْعَظِيم وَأَنه قل مَا يخفى مَعْنَاهُ على أحد وسبيله أَن يكون فِي جَوَاب مسَائِل المناسخات شَدِيد التَّحَرُّز والتحفظ وَليقل فِيهَا لفُلَان كَذَا وَكَذَا من ذَلِك كَذَا بميراثه من فلَان وَكَذَا بميراثه من فلَان وَحسن أَن يَقُول فِي قسْمَة الْمَوَارِيث تقسم التَّرِكَة بعد إِخْرَاج مَا يجب تَقْدِيمه من دين أَو وَصِيَّة إِن كَانَا وَالله أعلم
الْحَادِيَة عشرَة لَيْسَ للمفتي أَن يَبْنِي مَا يَكْتُبهُ فِي جَوَابه على مَا يعلم من صُورَة الْوَاقِعَة المستفتى عَنْهَا إِذا لم يكن فِي الرقعة تعرض لَهُ وَكَذَا إِذا أَرَادَ السَّائِل شفاها مَا لَيْسَ فِي الرقعة تعرض لَهُ وَلَا لَهُ بِهِ تعلق فَلَيْسَ للمفتي أَن يكْتب جَوَابه من الرقعة وَلَا بَأْس بِأَن يضيفه إِلَى السُّؤَال بِخَطِّهِ وَإِن لم يكن من الْأَدَب كَون السُّؤَال جَمِيعه بِخَط الْمُفْتِي على مَا سبق وَلَا بَأْس أَيْضا لَو كتب بعد جَوَابه عَمَّا فِي الرقعة زَاد السَّائِل لَفظه من كَذَا وَكَذَا أَو الْجَواب عَنهُ كَذَا وَكَذَا وَإِذا كَانَ الْمَكْتُوب فِي الرقعة على خلاف الصُّورَة الْوَاقِعَة وَعلم الْمُفْتِي

(1/78)


@ بذلك فليفت على مَا وجده فِي الرقعة وَليقل هَذَا إِن كَانَ الْأَمر على مَا ذكر وَإِن كَانَ كَيْت وَكَيْت وَيذكر مَا علمه من الصُّورَة فَالْحكم كَذَا وَكَذَا
قلت وَإِذا زَاد الْمُفْتِي على جَوَاب الْمَذْكُور فِي السُّؤَال مَا لَهُ بِهِ تعلق وَيحْتَاج إِلَى التَّنْبِيه عَلَيْهِ فَذَلِك حسن وَالله أعلم
الثَّانِيَة عشرَة لَا يَنْبَغِي إِذا ضَاقَ مَوضِع الْفَتْوَى عَنْهَا أَن يكْتب الْجَواب فِي رقْعَة أُخْرَى خوفًا من الْحِيلَة عَلَيْهِ وَلِهَذَا يَنْبَغِي أَن يكون جَوَابه مَوْصُولا بآخر سطر من الرقعة وَلَا يدع بَينهمَا فُرْجَة خوفًا من أَن يثبت السَّائِل فِيهَا غَرضا لَهُ ضارا وَكَذَا إِذا كَانَ فِي مَوضِع الْجَواب ورقة ملزقة كتب على مَوضِع الإلزاق وشغله بِشَيْء وَإِذا أجَاب على ظهر الرقعة فَيَنْبَغِي أَن يكون الْجَواب فِي أَعْلَاهَا لَا فِي ذيلها اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يبتدىء الْجَواب فِي أَسْفَلهَا مُتَّصِلا بالإستفتاء فيضيق عَلَيْهِ الْموضع فيمتد وَرَاءَهَا مِمَّا يَلِي أَسْفَلهَا ليتصل جَوَابه وَاخْتَارَ بَعضهم أَن لَا يكْتب على ظهرهَا وَلَا يكْتب على حاشيتها بِطُولِهَا وَالْمُخْتَار أَن حاشيتها أولى بذلك من ظهرهَا وَالْأَمر من ذَلِك قريب وَالله أعلم
الثَّالِثَة عشرَة إِذا رأى الْمُفْتِي رقْعَة الإستفتاء قد سبق بِالْجَوَابِ فِيهَا من لَيْسَ أَهلا للْفَتْوَى فَعَن الإِمَام أبي الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ رَضِي الله عَنهُ أَنه لَا يُفْتِي مَعَه لِأَن فِيهِ تَقْرِير مِنْهُ لمنكر بل يضْرب على ذَلِك بِإِذن صَاحب الرقعة وَلَو لم يستاذنه فِي هَذَا الْقدر جَازَ لَكِن لَيْسَ لَهُ إحتباس الرقعة إِلَّا بِإِذن صَاحبهَا وَله انتهار السَّائِل وزجره وتعريف قبح مَا أَتَاهُ وَإنَّهُ قد كَانَ وَاجِبا عَلَيْهِ الْبَحْث عَن أهل الْفَتْوَى وَطلب من يسْتَحق ذَلِك وَإِن رأى فِيهَا اسْم من لَا يعرفهُ سَأَلَ عَنهُ فَإِن لم يعرفهُ فبوسعه أَن يمْتَنع من الْفَتْوَى مَعَه خوفًا مِمَّا قُلْنَاهُ قَالَ وَكَانَ بَعضهم فِي مثل هَذَا يكْتب على ظهرهَا وَالْأولَى فِي هَذِه الْمَوَاضِع أَن يشار على صَاحبهَا بإبدالها فَإِن أَبى ذَلِك أَجَابَهُ شفاها
قلت وَإِذا خَافَ فتْنَة من الضَّرْب على فتيا العادم للأهلية وَلم يكن خطأ عدل إِلَى الِامْتِنَاع من الْفتيا مَعَه وَإِن غلبت فَتَاوِيهِ لتغلبه على منصبها بجاه أَو

(1/79)


@ تلبيس أَو غير ذَلِك بِحَيْثُ صَار امْتنَاع الْأَهْل من الْفتيا مَعَه ضارا بالمستفتيين فليفت مَعَه فَإِن ذَلِك أَهْون الضررين وليتلطف مَعَ ذَلِك فِي إِظْهَار قصوره لمن يجهله وَالله أعلم
الرَّابِعَة عشرَة إِذا ظهر لَهُ أَن الْجَواب على خلاف غَرَض المستفتي وَأَنه لَا يرضى بكتبه فِي ورقته فليقتصر على مشافهته بِالْجَوَابِ
حَدثنِي الشَّيْخ أَبُو المظفر عبد الرَّحِيم بن الْحَافِظ أبي سعيد عبد الْكَرِيم السَّمْعَانِيّ بِمَدِينَة مرو عَن وَالِده قَالَ سَمِعت أَبَا السعادات الْمُبَارك بن الْحُسَيْن الشَّاهِد بواسط يَقُول دخلت على قَاضِي الْقُضَاة أبي عبد الله الدَّامغَانِي وَكَانَ معي رقْعَة فِيهَا مَسْأَلَة فَسَأَلته الْجَواب عَنْهَا فَأخذ الرقعة وَشرع يكْتب الْجَواب وَكنت أَدْعُو لَهُ فَقَالَ الْمُفْتِي إِذا وَافق جَوَابه غَرَض المستفتى يَدْعُو لَهُ وَإِذا لم يُوَافق سكت ثمَّ قَالَ غرم شَيخنَا أَبُو الْحسن بن الْقَدُورِيّ لرجل ورقة أفتى يَوْمًا فِي مَسْأَلَة استفتي عَنْهَا فأتفق الْجَواب على خلاف غَرَض المستفتي فَقَالَ لَهُ يَا شيخ اتلفت ورقتي قَالَ فَأخْرج شَيخنَا ورقة من عِنْده وَقَالَ هاك عوضهَا وَالله أعلم
الْخَامِسَة عشرَة إِذا وجد فِي رقْعَة الاستفتاء فتيا غَيره وَهِي خطأ قطعا وَإِمَّا خطأ مُطلقًا لمخالفتها الدَّلِيل الْقَاطِع وَإِمَّا خطأ على مَذْهَب من يُفْتِي ذَلِك الْغَيْر على مذْهبه قطعا فَلَا يجوز لَهُ الإمتناع من الْإِفْتَاء فَهُوَ كالتنبيه على خطاياها إِذا لم يكفه ذَلِك غَيره بل عَلَيْهِ الضَّرْب عَلَيْهَا عِنْد تيسره أَو الْإِبْدَال وتقطيع الرقعة بِإِذن صَاحبهَا أَو نَحْو ذَلِك وَإِذا تعذر ذَلِك وَمَا يقوم مقَامه كتب صَوَاب جَوَابه عِنْد ذَلِك الْخَطَأ ثمَّ إِذا كَانَ المخطىء أَهلا للْفَتْوَى فَحسن أَن يُعَاد إِلَيْهِ بِإِذن صَاحبهَا وَأما إِذا وجد فِيهَا فتيا مِمَّن هُوَ أهل للْفَتْوَى وَهُوَ على خلاف مَا يرَاهُ هُوَ غير أَنه لَا يقطع بخطاياها فليقتصر على أَن يكْتب جَوَاب نَفسه وَلَا يتَعَرَّض لفتيا غَيره بتخطئة وَلَا إعتراض عَلَيْهِ
وبلغنا أَن الْملك الملقب بِجلَال الدولة من مُلُوك الديلم المتسلطين على

(1/80)


@ الْخُلَفَاء لما زيد فِي ألقابه شاهان شاه الْأَعْظَم ملك الْمُلُوك وخطب لَهُ بذلك بِبَغْدَاد على الْمِنْبَر جرى فِي ذَلِك إستفتاء فُقَهَاء بَغْدَاد فِي جَوَاز ذَلِك وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبع مائَة فَأفْتى غير وَاحِد من أَئِمَّة الْعَصْر بِجَوَاز ذَلِك مِنْهُم القَاضِي الإِمَام أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ وَأَبُو الْقَاسِم الْكَرْخِي وَابْن الْبَيْضَاوِيّ وَالْقَاضِي أَبُو عبد الله الصَّيْمَرِيّ الْحَنَفِيّ وَأَبُو مُحَمَّد التَّمِيمِي الْحَنْبَلِيّ وَلم يفت مَعَهم القَاضِي أَبُو الْحسن الْمَاوَرْدِيّ فَكتب إِلَيْهِ كَاتب الْخَلِيفَة يَخُصُّهُ بالإستفتاء فِي ذَلِك فَأفْتى بِأَن ذَلِك لَا يجوز وَلَقَد أصَاب فِي تَحْرِيمه ذَلِك وأخطاوا فِي تجويزه فَلَمَّا وقفُوا على جَوَابه تصدوا لنقضه وَأطَال القاضيان أَبُو الطّيب الطَّبَرِيّ وَأَبُو عبد الله الصَّيْمَرِيّ فِي التشنيع عَلَيْهِ فَأجَاب الْمَاوَرْدِيّ عَن كِلَاهُمَا بِجَوَاب طَوِيل يذكر فِيهِ أَنَّهُمَا أخطا من وُجُوه مِنْهَا أَنه لَا يسوغ لمفت إِذا أفتى أَن يتَعَرَّض لجواب غَيره برد وَلَا بِخطْبَة ويجيب بِمَا عِنْده من مُوَافقَة أَو مُخَالفَة فقد يُفْتِي بعض أَصْحَاب الشَّافِعِي بِمَا يخالفهم فِيهِ أَصْحَاب أبي حنيفَة فَلَا يتَعَرَّض أحد مِنْهُم لرد على صَاحبه وَالله أعلم
السَّادِسَة عشرَة إِذا لم يفهم الْمُفْتِي السُّؤَال أصلا وَلم يحضر صَاحب الْوَاقِعَة فَعَن القَاضِي أبي الْقَاسِم الصَّيْمَرِيّ الشَّافِعِي رَحمَه الله أَن لَهُ أَن يكْتب يُزَاد فِي الشَّرْح لنجيب عَنهُ أَو لم أفهم مَا فِيهَا فَأُجِيب عَنهُ وَقَالَ بَعضهم لَا يكْتب شَيْئا أصلا قَالَ وَرَأَيْت بَعضهم كتب فِي مثل هَذَا يحضر السَّائِل لنخاطبه شفاها وَإِذا اشْتَمَلت الرقعة على مسَائِل فهم بَعْضهَا دون بعض أَو فهمها كلهَا وَلم يزدْ الْجَواب عَن بَعْضهَا أَو احْتَاجَ فِي بَعْضهَا إِلَى مطالعة رَأْيه أَو كتبه سكت عَن ذَلِك الْبَعْض وَأجَاب عَن الْبَعْض الآخر
وَعَن الصَّيْمَرِيّ أَنه يَقُول فِي جَوَابه فَأَما بَاقِي الْمسَائِل قُلْنَا فِيهِ نظر أَو يَقُول مطالعة أَو يَقُول زِيَادَة تَأمل
قلت وَإِذا فهم من السُّؤَال صُورَة وَهُوَ يحْتَمل غَيرهَا فلينهر عَلَيْهَا فِي

(1/81)


@ أول جَوَابه فَيَقُول إِن كَانَ قد قَالَ كَذَا وَكَذَا أَو فعل كَذَا وَكَذَا أَو مَا أشبه هَذَا ثمَّ يذكر حكم ذَلِك وَالله أعلم
السَّابِعَة عشرَة لَيْسَ بمنكر أَن يذكر الْمُفْتِي فِي فتواه الْحجَّة إِذا كَانَت نصا وَاضحا مُخْتَصرا مثل أَن يسئل عَن عدَّة الْآيَة وَحسن أَن يكْتب فِي فتواه قَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى {واللائي يئسن من الْمَحِيض من نِسَائِكُم إِن ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَة أشهر} أَو يسْأَل هَل يطهر جلد الْميتَة بالدباغ فَيكْتب نعم يطهر قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر)
وَأما الأقيسة وَشبههَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ ذكر شَيْء مِنْهَا وَفِيمَا وَجَدْنَاهُ عَن الصَّيْمَرِيّ قَالَ لم تجر الْعَادة على أَن يذكر فِي فتواه طَرِيق الإجتهاد وَلَا وَجه الْقيَاس والإستدلال اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تكون الْفَتْوَى تتَعَلَّق بِنَظَر قَاض فيومىء فِيهَا طَرِيق الإجتهاد ويلوح بالنكثة الَّتِي عَلَيْهَا بني الْجَواب أَو يكون غَيره قد أفتى فِيهَا بفتوى غلظ فِيهَا عِنْده فيلوح بالنكثة الَّتِي أوجب خِلَافه ليقمْ عذره فِي مُخَالفَته قلت وَكَذَلِكَ لَو كَانَ فِيمَا يُفْتِي بِهِ غموض فَحسن أَن يلوح بحجته وَهَذَا التَّفْصِيل أولى مِمَّا سبق قَرِيبا ذكره عَن القَاضِي الْمَاوَرْدِيّ من إِطْلَاقه القَوْل بِالْمَنْعِ من تعرضه للإحتجاج وَقد يحْتَاج الْمُفْتِي فِي بعض الوقائع إِلَى أَن يشدد ويبالغ فَيَقُول هَذَا اجماع الْمُسلمين أَو لَا أعلم فِي هَذَا خلافًا أَو فَمن خَالف هَذَا فقد خَالف الْوَاجِب وَعدل عَن الصَّوَاب أَو فقد أَثم وَفسق أَو على ولي الْأَمر أَن يَأْخُذ بِهَذَا وَلَا يهمل الْأَمر وَمَا اشبه هَذِه الْأَلْفَاظ على حسب مَا تَقْتَضِيه الْمصلحَة وتوجبه الْحَال وَالله أعلم

(1/82)


@
الثَّامِنَة عشرَة يجب على الْمُفْتِي عِنْد اجْتِمَاع الرّقاع بِحَضْرَتِهِ أَن يقدم الأسبق فالاسبق كَمَا يَفْعَله القَاضِي عِنْد اجْتِمَاع الْخُصُوم وَذَلِكَ فِيمَا يجب عَلَيْهِ الْإِفْتَاء وَعند التَّسَاوِي أَو الْجَهْل بالسابق يقدم بِالْقُرْعَةِ وَالصَّحِيح أَنه يجوز لَهُ تَقْدِيم الْمَرْأَة وَالْمُسَافر الَّذِي شدّ رَحْله وَفِي تَأْخِيره تخلفه عَن رفقته على من سبقهما إِلَّا إِذا أَكثر المسافرون وَالنِّسَاء بِحَيْثُ يلْحق غَيرهم من تقديمهم ضَرَر كثير فَيَعُود إِلَى التَّقْدِيم بِالسَّبقِ أَو القرعه ثمَّ لَا يقدم من يقدمهُ إِلَّا فتيا وَاحِدَة وَالله أعلم
التَّاسِعَة عشرَة ليحذر أَن يمِيل فِي فتواه مَعَ المستفتي أَو مَعَ خَصمه ووجوه الْميل كَثِيرَة لَا تخفى وَمِنْهَا أَن يكْتب فِي جَوَابه مَا هُوَ لَهُ ويسكت عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ أَن يبتدىء فِي مسَائِل الدَّعَاوَى والبينات يذكر وُجُوه المخالص مِنْهَا وَإِذا سَأَلَهُ أحدهم وَقَالَ بِأَيّ شَيْء تنْدَفع دَعْوَى كَذَا أَو كَذَا وَبَيِّنَة كَذَا أَو كَذَا لم يجبهُ كي لَا يتَوَصَّل بذلك إِلَى إبِْطَال حق وَله أَن يسْأَل عَن حَاله فِيمَا ادعِي عَلَيْهِ فَإِذا شَرحه لَهُ عرفه بِمَا فِيهِ من دَافع وَغير دَافع وَالله أعلم
الْعشْرُونَ لَيْسَ لَهُ إِذا استفتي فِي شَيْء من الْمسَائِل الكلامية أَن يُفْتِي بالتفصيل بل يمْنَع مستفتيه وَسَائِر الْعَامَّة من الْخَوْض فِي ذَلِك أصلا وَيَأْمُرهُمْ بِأَن يقتصروا فِيهَا على الْإِيمَان جملَة من غير تَفْصِيل ويقولوا فِيهَا وَفِيمَا ورد من الْآيَات والاخبار المتشابهات أَن الثَّابِت فِيهَا فِي نفس الْأَمر كل مَا هُوَ لَائِق فِيهَا بِجلَال الله وكماله وتقديسه المطلقين وَذَلِكَ هُوَ معتقدنا فِيهَا وَلَيْسَ علينا تَفْصِيله وتعيينه وَلَيْسَ الْبَحْث عَنهُ من شَأْننَا بل نكل علم تَفْصِيله إِلَى الله تبَارك وَتَعَالَى ونصرف عَن الْخَوْض فِيهِ قُلُوبنَا وألسنتنا فَهَذَا وَنَحْوه عَن أَئِمَّة الْفَتْوَى هُوَ الصَّوَاب فِي ذَلِك وَهُوَ سَبِيل سلف الْأمة وأئمة الْمذَاهب الْمُعْتَبرَة وأكابر الْفُقَهَاء وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ أصوب وَأسلم للعامة وأشباههم مِمَّن يدغل قلبه بالخوض فِي ذَلِك وَمن كَانَ مِنْهُم إعتقد إعتقادا بَاطِلا تَفْصِيلًا

(1/83)


@ فَفِي إِلْزَامه بِهَذَا صرف لَهُ عَن ذَلِك الِاعْتِقَاد الْبَاطِل بِمَا هُوَ أَهْون وأيسر وَأسلم وَإِذا عزّر ولي الْأَمر من حاد مِنْهُم عَن هَذِه الطَّرِيقَة فقد تأسى بعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِي تعزيره ضبيع بن عسل الَّذِي كَانَ يسْأَل عَن المتشابهات على ذَلِك والمتكلمون من أَصْحَابنَا معترفون بِصِحَّة هَذِه الطَّرِيقَة وبأنها أسلم لمن سلمت لَهُ وَكَانَ الْغَزالِيّ مِنْهُم فِي آخر أمره شَدِيد الْمُبَالغَة فِي الدُّعَاء إِلَيْهَا والبرهنة عَلَيْهَا وَذكر شَيْخه الشَّيْخ أَبُو الْمَعَالِي فِي كِتَابه الغياثي أَن الإِمَام يحرص مَا أمكنه على جمع الْعَامَّة من الْخلق على سلوك سَبِيل السّلف فِي ذَلِك واستفتى الْغَزالِيّ فِي كَلَام الله تبَارك وَتَعَالَى وَكَانَ من جَوَابه وَأما الْخَوْض فِي أَن كَلَامه تَعَالَى حرف وَصَوت أَو لَيْسَ كَذَلِك فَهُوَ بِدعَة وكل من يَدْعُو الْعَوام إِلَى الْخَوْض فِي هَذَا فَلَيْسَ من أَئِمَّة الدّين وَإِنَّمَا هُوَ من المضلين ومثاله من يَدْعُو الصّبيان الَّذين لَا يعْرفُونَ السباحة إِلَى خوض الْبَحْر وَمن يَدْعُو الزَّمن المقعد إِلَى السّفر فِي البراري من غير مركوب وَقَالَ فِي رِسَالَة لَهُ الصَّوَاب لِلْخلقِ كلهم إِلَّا الشاذ النَّادِر الَّذِي لَا تسمح الإعصار إِلَّا بِوَاحِد مِنْهُم أَو اثْنَيْنِ سلوك مَسْلَك السّلف فِي الْإِيمَان الْمُرْسل والتصديق الْمُجْمل بِكُل مَا أنزلهُ الله تَعَالَى وَأخْبر بِهِ رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير بحث وتفتيش والإشتغال بالفتوى فَفِيهِ شغل شاغل وَفِي كتاب أدب الْمُفْتِي والمستفتي للصيمري أبي الْقَاسِم أَن مِمَّا أجمع عَلَيْهِ أهل الْفَتْوَى أَن من كَانَ مَنْسُوبا بالفتوى فِي الْفِقْه لم يَنْبغ أَن يضع حَظه بفتوى فِي مسئلة من الْكَلَام كالقضاء وَالْقدر والرؤية وَخلق الْقُرْآن وَكَانَ بَعضهم لَا يستتم قِرَاءَة مثل هَذِه الرقعة
وَحكى أَبُو عمر بن عبد الْبر الْفَقِيه الْحَافِظ الأندلسي الِامْتِنَاع من

(1/84)


@ الْكَلَام فِي كل ذَلِك عَن الْفُقَهَاء وَالْعُلَمَاء قَدِيما وحديثا من أهل الحَدِيث وَالْفَتْوَى وَقَالَ إِنَّمَا خَالف ذَلِك أهل الْبدع قلت فَإِن كَانَت الْمَسْأَلَة مِمَّا يُؤمن فِي تَفْصِيل جوابها من ضَرَر الْخَوْض الْمَذْكُور جَازَ الْجَواب تَفْصِيلًا وَذَلِكَ بِأَن يكون جوابها مُخْتَصرا مفهوما فِيمَا لَيْسَ لَهُ أَطْرَاف يتجاذبها المتنازعون وَالسُّؤَال عَنهُ صادر من مسترشد خَاص منقاد أَو من عَامَّة قَليلَة التَّنَازُع والمماراة والمفتي مِمَّن ينقادون لفتواه وَنَحْو هَذَا وعَلى هَذَا أَو نَحوه يخرج مَا جَاءَ عَن بعض السّلف من بعض الْفَتْوَى فِي بعض الْمسَائِل الكلامية وَذَلِكَ مِنْهُم قَلِيل نَادِر وَالله أعلم
القَوْل فِي صفة المستفتي وَأَحْكَامه وآدابه
أما صفته فَكل من لم يبلغ دَرَجَة الْمُفْتِي فَهُوَ فِيمَا يسْأَل عَنهُ من الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مستفت ومقلد لمن يفتيه وحد التَّقْلِيد فِي اختيارنا وتحريرنا قبُول قَول من يجوز عَلَيْهِ الْإِصْرَار على الْخَطَأ بِغَيْر حجَّة على عين مَا قبل قَوْله فِيهِ وَيجب عَلَيْهِ الاستفتاء إِذا نزلت بِهِ حَادِثَة يجب عَلَيْهِ تعلم حكمهَا وَفِي أَحْكَامه وآدابه مسَائِل
الأولى إختلفوا فِي أَنه هَل يجب عَلَيْهِ الْبَحْث وَالِاجْتِهَاد عَن أَعْيَان الْمُفْتِينَ وَلَيْسَ هَذَا الْخلاف على الْإِطْلَاق فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ قطعا الْبَحْث الَّذِي يعرف بِهِ صَلَاحِية من يستفتيه للإفتاء إِذا لم يكن قد تقدّمت مَعْرفَته بذلك وَلَا

(1/85)


@ يجوز لَهُ استفتاء كل من اعتزى إِلَى الْعلم أَو انتصب فِي منصب التدريس أَو غَيره من مناصب أهل الْعلم بِمُجَرَّد ذَلِك وَيجوز لَهُ استفتاء من تَوَاتر بَين النَّاس واستفاض فيهم كَونه أَهلا للْفَتْوَى
وَعند بعض أَصْحَابنَا الْمُتَأَخِّرين إِنَّمَا يعْتَمد قَوْله أَنا أهل للْفَتْوَى لَا يشْهد لَهُ بذلك والتواتر لِأَن التَّوَاتُر لَا يُفِيد الْعلم إِذا لم يسْتَند إِلَى مَعْلُوم محسوس والشهرة بَين الْعَامَّة لَا يوثق بهَا وَقد يكون أَصْلهَا التلبيس
وَيجوز لَهُ أَيْضا استفتاء من أخبر الْمَشْهُور الْمَذْكُور عَن أَهْلِيَّته وَلَا يَنْبَغِي أَن يَكْتَفِي فِي هَذِه الازمان بِمُجَرَّد تصديه للْفَتْوَى واشتهاره بمباشرتها لَا بأهليته لَهَا
وَقد أطلق الشَّيْخ أَبُو إِسْحَق الشِّيرَازِيّ وَغَيره أَن يقبل فِيهِ خبر الْعدْل الْوَاحِد وَيَنْبَغِي أَن يشْتَرط فِيهِ أَن يكون عِنْده من الْعلم وَالْبَصَر مَا يُمَيّز بِهِ الملبس من غَيره وَلَا يعْتَمد فِي ذَلِك على خبر احاد الْعَامَّة لِكَثْرَة مَا يتَطَرَّق إِلَيْهِم من التلبيس فِي ذَلِك إِذا عرفت هَذَا فَإِذا اجْتمع إثنان أَو أَكثر مِمَّن يجوز استفتاؤهم فَهَل يجب عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِي أعيانهم والبحث عَن الأعلم الأودع الأوثق ليقلده دون غَيره فَهَذَا فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا وَهُوَ فِي طَريقَة الْعرَاق مَنْسُوب إِلَى أَكثر أَصْحَابنَا وَهُوَ الصَّحِيح فِيهَا أَنه لَا يجب ذَلِك وَله استفتاء من شَاءَ مِنْهُم لِأَن الْجَمِيع أهل وَقد أسقطنا الِاجْتِهَاد عَن الْعَاميّ
وَالثَّانِي يجب عَلَيْهِ ذَلِك وَهُوَ قَول ابْن سُرَيج وإختيار الْقفال الْمروزِي وَالصَّحِيح عِنْد صَاحبه القَاضِي حُسَيْن لِأَنَّهُ يُمكنهُ هَذَا الْقدر من الِاجْتِهَاد بالبحث وَالسُّؤَال وشواهد الْأَحْوَال فَلم يسْقط عَنهُ

(1/86)


@
وَالْأول أصح وَهُوَ الظَّاهِر من حَال الْأَوَّلين وَلَكِن مَتى اطلع على الأوثق مِنْهُمَا فَالْأَظْهر أَنه يلْزمه تَقْلِيده دون الآخر كَمَا وَجب تَقْدِيم أرجح الدَّلِيلَيْنِ وأوثق الروايين فعلى هَذَا يلْزمه تَقْلِيد الاورع من الْعَالمين والأعلم من الورعين فَإِن كَانَ أَحدهمَا أعلم وَالْآخر أورع قلد الأعلم على الْأَصَح وَالله أعلم
الثَّانِيَة فِي جَوَاز تَقْلِيد الْمَيِّت وَجْهَان
أَحدهمَا لَا يجوز لِأَن أَهْلِيَّته زَالَت لمَوْته فَهُوَ كَمَا لَو فسق
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَل الْجَوَاز لِأَن الْمذَاهب لَا تَمُوت بِمَوْت أَصْحَابهَا وَلِهَذَا يعْتد بهَا بعدهمْ فِي الْإِجْمَاع وَالْخلاف وَمَوْت الشَّاهِد قبل الحكم لَا يمْنَع من الحكم بِشَهَادَتِهِ بِخِلَاف الْفسق وَالْقَوْل بِالْأولِ يجر ضبطا فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة
الثَّالِثَة هَل يجوز للعامي أَن يتَخَيَّر ويقلد أَي مَذْهَب شَاءَ لينْظر إِن كَانَ منتسبا إِلَى مَذْهَب معِين بنينَا ذَلِك على وَجْهَيْن حَكَاهُمَا القَاضِي حُسَيْن فِي أَن للعامي هَل لَهُ مَذْهَب أَولا
أَحدهمَا أَنه لَا مَذْهَب لَهُ لِأَن الْمَذْهَب إِنَّمَا يكون لمن يعرف الْأَدِلَّة فعلى هَذَا لَهُ أَن يستفتي من شَاءَ شَافِعِيّ أَو حَنَفِيّ أَو غَيرهمَا
وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَصَح عِنْد الْقفال الْمروزِي أَن لَهُ مذهبا لِأَنَّهُ اعْتقد أَن الْمَذْهَب الَّذِي انتسب إِلَيْهِ هُوَ الْحق وَرجحه على غَيره فَعَلَيهِ الْوَفَاء بِمُوجب إعتقاده ذَلِك فَإِن كَانَ شافعيا لم يكن لَهُ أَن يستفتي حنفيا وَلَا يُخَالف إِمَامه فقد ذكرنَا فِي الْمُفْتِي المنتسب مَا يجوز لَهُ أَن يُخَالف إِمَامه فِيهِ وَإِن لم يكن قد انتسب إِلَى مَذْهَب معِين فنبني ذَلِك فِيهِ على وَجْهَيْن حَكَاهُمَا ابْن برهَان فِي أَن الْعَاميّ هَل يلْزمه أَن يتمذهب بِمذهب معِين يَأْخُذ بِرُخصِهِ وعزائمه

(1/87)


@
أَحدهمَا أَلا يلْزمه ذَلِك كَمَا لم يلْزم فِي عصر أَوَائِل الْأمة أَن يخص الْعَاميّ عَالما معينا بتقليده
قلت فعلى هَذَا هَل لَهُ أَن يستفتي على أَي مَذْهَب شَاءَ أَو يلْزمه أَن يبْحَث حَتَّى يعلم علم مثله أَسد الْمذَاهب وأصحها أصلا فيستفتي أَهله فِيهِ وَجْهَان مذكوران كالوجهين اللَّذين سبقا فِي إِلْزَامه بالبحث عَن الأعلم والأوثق من الْمُفْتِينَ
وَالثَّانِي يلْزمه ذَلِك وَبِه قطع الكيا أَبُو الْحسن وَهُوَ جَار فِي كل من لم يبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد من الْفُقَهَاء وأرباب سَائِر الْعُلُوم وَوَجهه أَنه لَو جَازَ لَهُ اتِّبَاع اي مَذْهَب شَاءَ لأفضى إِلَى أَن يتَلَفَّظ رخص الْمذَاهب مُتبعا هَوَاهُ ومتخيرا بَين التَّحْرِيم والتجويز فِي ذَلِك الْخلاف رُتْبَة التَّكْلِيف بِخِلَاف الْعَصْر الأول فَإِنَّهُ لم تكن الْمذَاهب الوافية بِأَحْكَام الْحَوَادِث حِينَئِذٍ قد مهدت وَعرفت فعلى هَذَا يلْزمه أَن يجْتَهد فِي اخْتِيَار مَذْهَب يقلده على التَّعْيِين وَهَذَا أولى بِإِيجَاب الِاجْتِهَاد فِيهِ على الْعَاميّ مِمَّا سبق ذكره فِي الاستفتاء وَنحن نمهد لَهُ طَرِيقا يسلكه فِي اجْتِهَاده سهلا فَنَقُول
أَولا لَيْسَ لَهُ أَن يتبع فِي ذَلِك مُجَرّد التشهي والميل إِلَى مَا وجد عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَيْسَ لَهُ التمذهب بِمذهب أحد من أَئِمَّة الصَّحَابَة وَغَيرهم من الْأَوَّلين وَإِن كَانُوا أعلم وَأَعْلَى دَرَجَة من بعدهمْ لأَنهم لم يتفرغوا لتدوين الْعلم وَضبط أُصُوله وفروعه وَلَيْسَ لأحد مِنْهُم مَذْهَب مهذب مُحَرر مُقَرر وَإِنَّمَا قَامَ بذلك من جَاءَ بعدهمْ من الْأَئِمَّة الناخلين لمذاهب الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ القائمين بتمهيد أَحْكَام الوقائع قبل وُقُوعهَا الناهضين بإيضاح أُصُولهَا وفروعها كمالك وَأبي حنيفَة وَغَيرهمَا وَلما كَانَ الشَّافِعِي قد تَأَخّر عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة وَنظر فِي مذاهبهم نَحْو نظرهم فِي مَذَاهِب من قبلهم فسبرها وحبرها وانتقدها وَاخْتَارَ أرجحها وَوجد من قبله قد كَفاهُ مُؤنَة التأصيل فتفرغ للاختيار وَالتَّرْجِيح والتنقيح والتكميل مَعَ كَمَال آليته وبراعته فِي الْعُلُوم وترجحه

(1/88)


@ فِي ذَلِك على من سبقه ثمَّ لم يُوجد بعده من بلغ مَحَله فِي ذَلِك كَانَ مذْهبه أولى الْمذَاهب بالاتباع والتقليد وَهَذَا مَعَ مَا فِيهِ الْإِنْصَاف والسلامة من الْقدح فِي أحد الْأَئِمَّة جلي وَاضح إِذا تَأمله الْعَاميّ قَادَهُ إِلَى اخْتِيَار مَذْهَب الشَّافِعِي والتمذهب وَالله أعلم
الرَّابِعَة إِذا اخْتلف عَلَيْهِ فَتْوَى مفتيين فللأصحاب فِيهِ أوجه
أَحدهَا أَنه يَأْخُذ بأغلظها فَيَأْخُذ بالحظر دون الْإِبَاحَة لِأَن أحوط وَلِأَن الْحق ثقيل
الثَّانِي يَأْخُذ بأخفها لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث بالحنيفية السمحة السهلة
وَالثَّالِث يجْتَهد فِي الأوثق فَيَأْخُذ بفتوى الأعلم الأورع كَمَا سبق شَرحه وَاخْتَارَهُ السَّمْعَانِيّ الْكَبِير وَنَصّ الشَّافِعِي على مثله فِي الْقبْلَة
وَالرَّابِع يسْأَل مفتيا آخر فَيعْمل بفتوى من يُوَافقهُ
وَالْخَامِس يتَخَيَّر فَيَأْخُذ بقول أَيهمَا شَاءَ وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد الشَّيْخ أبي إِسْحَق الشِّيرَازِيّ وَاخْتَارَهُ صَاحب الشَّامِل فِيمَا إِذا تساوى المفتيان فِي نَفسه وَالْمُخْتَار أَن عَلَيْهِ أَن يجْتَهد ويبحث عَن الْأَرْجَح فَيعْمل بِهِ فَإِنَّهُ حكم التَّعَارُض وَقد وَقع وَلَيْسَ كَمَا سبق ذكره من التَّرْجِيح الْمُخْتَلف فِيهِ عِنْد الاستفتاء وَعند هَذَا الْبَحْث عَن الأوثق من المفتيين فَيعْمل بفتياه
فَإِن لم يتَرَجَّح أَحدهمَا عِنْده استفتى آخر وَعمل بفتوى من وَافقه الآخر
فَإِن تعذر ذَلِك وَكَانَ اخْتِلَافهمَا فِي الْحَظْر وَالْإِبَاحَة وَقبل الْعَمَل اخْتَار جَانب الْحَظْر وَترك غَيره فَإِنَّهُ أحوط
وَإِن تَسَاويا من كل وَجه خيرناه بَينهمَا وَإِن ابْنا التَّخْيِير فِي غَيره لِأَنَّهُ ضَرُورَة فِي صُورَة نادرة ثمَّ إِنَّا نخاطب بِمَا ذَكرْنَاهُ المفتيين
وَأما الْعَاميّ الَّذِي وَقع لَهُ ذَلِك فَحكمه أَن يسْأَل عَن ذَلِك المفتيين أَو مفتيا

(1/89)


@ آخر وَقد أرشدنا الْمُفْتِي إِلَى مَا يجِيبه بِهِ فِي ذَلِك
فَهَذَا جَامع لمحاسن الْوُجُوه الْمَذْكُورَة ومنصب فِي قالب التَّحْقِيق وَالله أعلم
الْخَامِسَة قَالَ أَبُو المظفر السَّمْعَانِيّ إِذا سمع المستفتي جَوَاب الْمُفْتِي لم يلْزمه الْعَمَل بِهِ إِلَّا بالتزامه وَيجوز أَن يُقَال أَنه يلْزمه إِذا أَخذ فِي الْعَمَل بِهِ وَقيل يلْزمه إِذا وَقع فِي نَفسه صِحَّته وَحَقِيقَته قَالَ وَهَذَا أولى الْأَوْجه
قلت لم أجد هَذَا لغيره وَقد حكى هُوَ بعد ذَلِك عَن بعض الْأُصُولِيِّينَ أَنه إِذا أفتاه هُوَ مُخْتَلف فِيهِ خَيره بَين أَن يقبل مِنْهُ أَو من غَيره ثمَّ اخْتَار هُوَ أَنه يلْزمه الِاجْتِهَاد فِي أَعْيَان المفتيين وَيلْزمهُ الْأَخْذ بِفُتْيَا من اخْتَارَهُ بِاجْتِهَادِهِ وَلَا يجب تخييره وَالَّذِي تَقْتَضِيه الْقَوَاعِد أَن يفصل فَيَقُول إِذا أفتاه الْمُفْتِي نظر فَإِن لم يُوجد مفت آخر لزمَه الْأَخْذ بفتياه وَلَا يتَوَقَّف ذَلِك على الْتِزَامه لَا بِالْأَخْذِ فِي الْعَمَل وَلَا بِغَيْرِهِ وَلَا يتَوَقَّف أَيْضا على سُكُون نَفسه إِلَى صِحَّته فِي نفس الامر فَإِن فرْصَة التَّقْلِيد كَمَا عرف وَإِن وجد مفتيا آخر فَإِن استبان أَن الَّذِي أفتاه هُوَ الأعلم الأوثق لزمَه مَا أفتاه بِهِ بِنَاء على الْأَصَح تَعْيِينه كَمَا سبق وَإِن لم يستبن ذَلِك لم يلْزمه مَا أفتاه لمُجَرّد إفتائه إِذْ يجوز لَهُ استفتاء غَيره وتقليده وَلَا يعلم أتفاقهما فِي الْفَتْوَى فَإِن وجد الِاتِّفَاق وَحكم بِهِ عَلَيْهِ حَاكم لزمَه حنئذ وَالله أعلم
السَّادِسَة إِذا استفتي فَأفْتى ثمَّ حدثت لَهُ تِلْكَ الْحَادِثَة مرّة أُخْرَى فَهَل يلْزمه تَجْدِيد السُّؤَال
فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا يلْزمه لجَوَاز تَغْيِير رَأْي الْمُفْتِي
وَالثَّانِي لَا يلْزمه وَهُوَ الْأَصَح لِأَنَّهُ قد عرف الحكم وَالْأَصْل اسْتِمْرَار الْمُفْتِي عَلَيْهِ وخصص صَاحب الشَّامِل الْخلاف فِيمَا إِذا قلد حَيا وَقع فِيمَا

(1/90)


@ إِذا كَانَ ذَلِك خَبرا عَن ميت بِأَنَّهُ لَا يلْزمه وَلَا يخْتَص ذَلِك كَمَا قَالَه فَإِن الْمُفْتِي على مَذْهَب الْمَيِّت قد تغير جَوَابه على مذْهبه وَالله أعلم
السَّابِعَة لَهُ أَن يستفتي بِنَفسِهِ وَله أَن يُقَلّد ثِقَة يقبل خَبره لِيَسْتَفْتِيَ لَهُ وَيجوز لَهُ الِاعْتِمَاد على خطّ الْمُفْتِي إِذا أخبرهُ من يَثِق بقوله أَنه خطه أَو كَانَ يعرف خطه وَلم يتشكك فِي كَون ذَلِك الْجَواب بِخَطِّهِ وَالله أعلم
الثَّامِنَة يَنْبَغِي للمستفتي أَن يحفظ الْأَدَب مَعَ الْمُفْتِي ويبجله فِي خطابه وسؤاله وَنَحْو ذَلِك وَلَا يوميء بِيَدِهِ فِي وَجهه وَلَا يَقُول لَهُ مَا تحفظ فِي كَذَا وَكَذَا أَو مَا مَذْهَب إمامك الشَّافِعِي فِي كَذَا وَكَذَا وَلَا يَقُول إِذا أَجَابَهُ هَكَذَا قلت أَنا وَكَذَا وَقع لي وَلَا يقل لَهُ أفتاني فلَان أَو أفتاني غَيْرك كَذَا وَكَذَا وَلَا يَقُول إِذا استفتي فِي رقْعَة إِن كَانَ جوابك مُوَافقا لما أجَاب فِيهِ فاكتبه وَإِلَّا فَلَا تكْتب وَلَا يسْأَله وَهُوَ قَائِم أَو مستوفزا أَو على حَالَة ضجر أَو هم أَو غير ذَلِك مِمَّا يشغل الْقلب وَيبدأ بالأسن الأعلم من المفتيين وبالأولى فَالْأولى على مَا سبق بَيَانه
وَقَالَ الصَّيْمَرِيّ إِذا أَرَادَ جمع الجوابات فِي رقْعَة قدم الأسن والأعلم وَإِن أَرَادَ إِفْرَاد الجوابات فِي رقاع فَلَا يُبَالِي بِأَيِّهِمْ بَدَأَ وَالله أعلم
التَّاسِعَة يَنْبَغِي أَن تكون رقْعَة الإستفتاء وَاسِعَة ليتَمَكَّن المستفتي من اسْتِيفَاء الْجَواب فَإِنَّهُ إِذا ضَاقَ الْبيَاض آختصر فأضر بذلك بالسائل وَلَا يدع الدُّعَاء لمن يُفْتِي إِمَّا خَاصّا إِن خص وَاحِدًا باستفتائه وَإِمَّا عَاما إِن استفتى الْفُقَهَاء مُطلقًا وَكَانَ بَعضهم يخْتَار أَن يدْفع الرقعة إِلَى الْمُفْتِي منشورة وَلَا يحوجه إِلَى نشرها ويأخذها من يَده إِذا أفتى وَلَا يحوجه إِلَى طيها وَيَنْبَغِي أَن يكون كَاتب الاستفتاء مِمَّن يحسن السُّؤَال ويضعه على الْغَرَض مَعَ إبانة الْخط وَاللَّفْظ وصيانتهما عَمَّا يتَعَرَّض للتصحيف كنحو مَا حُكيَ أَن مستفتيا استفتى بِبَغْدَاد فِي رقْعَة عَمَّن قَالَ أَنْت طَالِق إِن ثمَّ أمسك عَن ذكر الشَّرْط لأمر لحقه فَقَالَ مَا تَقول السَّادة الْفُقَهَاء فِي رجل قَالَ لإمرأته أَنْت طَالِق إِن ثمَّ وقف عِنْد إِن يَعْنِي ثمَّ

(1/91)


@ أمسك ووقف عِنْد إِن فتصحف ذَلِك على الْفُقَهَاء لكَون السُّؤَال عريا عَن الضَّبْط واعتقدوه تَعْلِيقا للطَّلَاق على تَمام وقف رجل اسْمه عَبْدَانِ فَقَالُوا إِن ثمَّ وقف عَبْدَانِ طلقت وَإِن لم يتم الْوَقْف فَلَا طَلَاق حَتَّى حملت إِلَى أبي الْحسن الْكَرْخِي الْحَنَفِيّ وَقيل إِلَى أبي مجَالد الضَّرِير فَتنبه لحقيقة الْأَمر فِيهَا فَأجَاب على ذَلِك فَاسْتحْسن مِنْهُ
قَالَ الصَّيْمَرِيّ ويحرص أَن يكون كاتبها من أهل الْعلم وَقد كَانَ بعض الْفُقَهَاء مِمَّن لَهُ رياسة لَا يُفْتِي إِلَّا فِي رقْعَة كتبهَا رجل بِعَيْنِه من أهل الْعلم بِبَلَدِهِ وَالله أعلم
الْعَاشِرَة لَا يَنْبَغِي للعامي أَن يُطَالب الْمُفْتِي بِالْحجَّةِ فِيمَا أفتاه بِهِ وَلَا يَقُول لَهُ لم وَكَيف فَإِن أحب أَن تسكن نَفسه لسَمَاع الْحجَّة فِي ذَلِك سَأَلَ عَنْهَا فِي مجْلِس آخر أَو فِي ذَلِك الْمجْلس بعد قبُول الْفَتْوَى مُجَرّدَة عَن الْحجَّة وَذكر السَّمْعَانِيّ أَنه لَا يمْنَع من أَن يُطَالب الْمُفْتِي بِالدَّلِيلِ لإجل احتياطه لنَفسِهِ وَأَنه يلْزمه أَن يذكر لَهُ الدَّلِيل إِن كَانَ مَقْطُوعًا بِهِ وَلَا يلْزمه ذَلِك إِن لم يكن مَقْطُوعًا بِهِ لافتقاره إِلَى اجْتِهَاد يقصر عَنهُ الْعَاميّ وَالله أعلم
انْتهى

(1/92)


@
نجز كتاب الْفَتْوَى تصنيف الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة تَقِيّ الدّين الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح تغمده الله برحمته وَأَسْكَنَهُ فردوس جنته وَافق الْفَرَاغ من نسخه بعون الله تَعَالَى فِي يَوْم الثُّلَاثَاء وَقت آذان الْعَصْر فِي عشْرين شهر رَجَب أحد الْأَشْهر الْحرم عَام إِحْدَى وَسبعين وَسَبْعمائة على يَد العَبْد الْفَقِير الراجي عَفْو ربه الْقَدِير الْمُعْتَرف بالذنب وَالتَّقْصِير مُحَمَّد بن الْقفال متخير لي الْقسم الشَّافِعِي مذهبا عاملهما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِلُطْفِهِ الْخَفي وَغفر لَهما ولطف بهما وَأحسن عافيتهما فِي الدُّنْيَا والأخرة

(1/93)


@ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَقل رب زِدْنِي علما
بَيَان صِحَة الفتاوي الَّتِي صدرت من الشَّيْخ ابْن الصّلاح
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على سيد الْمُرْسلين وَسَائِر النَّبِيين وَالْكل وَسَائِر الصَّالِحين اللَّهُمَّ الهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أَنْفُسنَا وَمن شَرّ الأشرار وَكيد الْفجار وارزقنا طَهَارَة الْأَسْرَار وموافقة الْأَبْرَار وأعذنا من أَن نقُول بِغَيْر علم أَو نسعى فِي جهل أَو مأثم
هَذَا بَيَان صِحَة الفتاوي الَّتِي صدرت من الشَّيْخ الإِمَام الْحَافِظ نَاصِر الشَّرِيعَة بَقِيَّة السّلف تَقِيّ الدّين أبي عَمْرو عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح رَضِي الله عَنهُ وانتصب للشناعة عَلَيْهِ فِيهَا الشَّخْص الْمَعْرُوف بأذية الْمُؤمنِينَ المتصدي لِلطَّعْنِ فِي الْأَعْيَان والقضاة والمفتين اعتنى بهما من تلامذته وَأَصْحَابه من طلب الْفَائِدَة وَرَجا الْأجر والمثوبة لما رأى المشنع عَلَيْهِ قد أفرط فِي ظلمه وطغى وأسرف فِي الشناعة عَلَيْهِ وبغى ووسم صَوَابه بسمة الْخَطَأ وَجعل يَقُول هَذَا يضل النَّاس وَأَنا مُتَعَيّن لبَيَان ضلاله وكشف حَاله فَكَانَ لكل وصمة بِالْعلمِ وَالدّين وَأَهْلهَا شذت فِي هَذَا الْبَلَد الْجَلِيل حَيْثُ تمكن فِيهِ مثل هَذَا الرجل من أَن يتسلط وينتصب فِي منصب الْأَخْذ والاعتراض على الْمُفْتِينَ ويسكت عَنهُ حَتَّى تَمَادى فِي عدوانه الْفَاحِش ويصول بِالْبَاطِلِ على حق دلائله ظَاهِرَة وَكتب الْأَئِمَّة والمساطير مُوضحَة لَهُ وحاصرة

(1/95)


@ الشَّخْص الَّذِي افتظ من الْبَغي عَلَيْهِ حَاضر ناهض بِالْحجَّةِ كاشف للشُّبْهَة تتيسر مُرَاجعَته واستيضاح الْأَمر من جِهَته واستتابته ثمَّ شَوَاهِد حَاله قبل ذَلِك كَافِيَة فِي أَن لَا يحْتَمل من التشنيع عَلَيْهِ مَا فعله من حَقه بِمُجَرَّد الدَّعْوَى من غير مُرَاجعَة الْمُدعى عَلَيْهِ ومساءلته عَمَّا عِنْده
فَهَذَا قَول وجيز كَاف إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي إِيضَاح بطلَان مَا زعم المشنع قَاطع الْعذر من آغتر بِهِ موجه عَلَيْهِ تعزيزات كَثِيرَة على قدر شناعته وإفحاشه فِي الزَّمَان المتطاول وَلَا سَبِيل لَهُ وَمَا شَاءَ الله تَعَالَى كَانَ إِلَى الْجَواب وَإِسْقَاط التَّعْزِير عَنهُ فِي شَيْء من ذَلِك فَإِنَّهُ بعد أَن نبين إِن شَاءَ الله تَعَالَى بِالْبَيَانِ الْوَاضِح أَن مَا زعم أَنه خطأ لَيْسَ بخطأ لَا فِي نفس الْأَمر وَلَا فِي الْمَذْهَب الَّذِي يُفْتِي عَلَيْهِ من نسبه إِلَى الْخَطَأ فغايته أَن يذكر فِي بعض ذَلِك مَا يكون نصْرَة وتوجيها للْحكم الآخر بِحَيْثُ لَا يخرج عَن أَن يكون الطرفان من قبيل الْوَجْهَيْنِ والمذهبين اللَّذين يسوغ فيهمَا الِاخْتِلَاف ويتجاذب فيهمَا المختلفون من غير أَن يجوز فِيهِ التشنيع من بعض على بعض والتخطئة والإيذاء وَذَلِكَ وَاضح للنَّاظِر فِي ذَلِك وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل مِمَّا عظم فِيهِ تشنيعه وجاهر بالقبيح والإزراء استفتاء مضمونه أَن شَخْصَيْنِ تنَازعا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك

(1/96)


@
فَقَالَ أَحدهمَا إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فِي الدُّنْيَا
وَقَالَ الآخر إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فِي الْآخِرَة فَمن الْمُصِيب مِنْهُمَا وَمن المخطىء فَكتب هُوَ أَخطَأ من زعم أَن ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَكتب شَيخنَا لم يصب وَاحِد مِنْهُمَا بل ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مَعًا فَإِنَّهُ عبارَة عَن الرِّضَا بِهِ وَالْقَبُول وَذَلِكَ ثَابت فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَالله أعلم
فَعَاد هُوَ وَكتب فِي الورقة وَلم يكن قد بَقِي فِي وَجههَا بَيَاض فَكتب على ظهرهَا من أطلق مَا قَيده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مخطىء جَاهِل بِالسنةِ إِذا صَحَّ عَن رَسُول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله

(1/103)


@ من ريح الْمسك يَوْم الْقِيَامَة بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ وَإِذا اتخذ النَّاس رؤوسا جُهَّالًا فأفتوا بِغَيْر علم ضلوا وأضلوا وَالله أعلم
وصال بِلِسَانِهِ عَلَيْهِ فأفحش ونادى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قد ارْتكب فَاحِشَة من فواحش الْجَهْل وَالْخَطَأ وَلم يدر الْمِسْكِين أَنه قد تنَاول بِمَا قَالَه من الْفُحْش أَئِمَّة الْعلمَاء الشَّارِحين للْحَدِيث وَأَن ذَلِك مِنْهُ زيغ عَن حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه عدم فهم الَّذِي احْتج من قَوْله يَوْم الْقِيَامَة الْوَارِد فِي بعض رِوَايَات الحَدِيث إِمَّا أَن ذَلِك مِنْهُ زيغ عَن حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا الْمسند الصَّحِيح الْمُؤلف على التقاسيم والأنواع للْإِمَام أبي حَاتِم بن حبَان البستي أحد أَئِمَّة الحَدِيث فِيهِ بَاب فِي كَون ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة وَبَاب فِي كَونه أَيْضا فِي الدُّنْيَا وَرُوِيَ من هَذَا الْبَاب بِإِسْنَادِهِ الثَّابِت من بعض طرق هَذَا الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لخلوف فَم الصَّائِم حِين يخلف أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك
وروى أَيْضا الإِمَام الْحسن بن سُفْيَان النسوي صَاحب الْمسند وَغَيره فِي إِسْنَاده وَتكلم فِي تَوْثِيق رِجَاله عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَعْطَيْت أمتِي فِي شهر رَمَضَان خمْسا وَقَالَ وَأما الثَّانِيَة فَإِنَّهُم يمسون وخلوف أَفْوَاههم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك

(1/104)


@
وروى هَذَا الحَدِيث الْفَقِيه الْحَافِظ أَبُو بكر السَّمْعَانِيّ رَحمَه الله فِي أَمَالِيهِ وأملى فِيهِ مَجْلِسا كَبِيرا وَقَالَ هَذَا حَدِيث حسن
فَكل وَاحِد من الْحَدِيثين مُصَرح بِأَنَّهُ وَقت وجود الخلوف فِي دَار الدُّنْيَا بتحقيق الْوَصْف بِكَوْنِهِ أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك وَأما بَيَان أَنه تنَاول بِمَا كتبه وَقَالَهُ من الرَّد والتشنيع على من تقدم من الْعلمَاء الشَّارِحين للْحَدِيث لِأَن الَّذِي رده من قَول شَيخنَا هُوَ الَّذِي قَالَ الْعلمَاء شرقا وغربا على اخْتِلَاف مذاهبهم
هَذَا كتاب الْإِعْلَام من شرح صَحِيح البُخَارِيّ تأليف الإِمَام أبي سُلَيْمَان الْخطابِيّ الشَّافِعِي قد قَالَ فِيهِ طيبه عِنْد الله وَرضَاهُ بِهِ وثناؤه عَلَيْهِ
وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر إِمَام الْمغرب فِي التَّمْهِيد فِي شرح الْمُوَطَّأ وَهُوَ من أكبر الْكتب الْمُؤَلّفَة فِي شرح الحَدِيث أَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك أَنه أزكى عِنْد الله تَعَالَى وَأقرب إِلَيْهِ وَأَرْفَع عِنْده من ريح الْمسك
وَفِي شرح السّنة للْإِمَام الْحُسَيْن الْبَغَوِيّ صَاحب التَّهْذِيب أَن مَعْنَاهُ الثَّنَاء على الصَّائِم والرضى بِفِعْلِهِ
وَهَكَذَا قَالَ الإِمَام الْقَدُورِيّ إِمَام أَصْحَاب أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابه فِي الْخلاف مَعْنَاهُ أَنه عِنْد الله أفضل من الرَّائِحَة الطّيبَة

(1/105)


@ وَمثل ذَلِك ذكر الْبونِي من مُتَقَدِّمي أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة فِي شَرحه للموطأ
وَكَذَا ذكر الإِمَام أَبُو عُثْمَان الصَّابُونِي وَالْإِمَام أَبُو بكر السَّمْعَانِيّ وَالْإِمَام أَبُو حَفْص بن الصفار الشافعيون فِي أماليهم
وَهَكَذَا شَرحه القَاضِي أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ الْمَالِكِي فِي كِتَابه عارضة الأحوذي فِي شرح التِّرْمِذِيّ وَغير هَؤُلَاءِ مِمَّن يمل تعدادهم
فَهَؤُلَاءِ أَئِمَّة الْمُسلمين شرقا وغربا لم يذكر أحد مِنْهُم سوى مَا ذكره شَيخنَا وَلَا أورد أحد مِنْهُم وَجها مثل مَا قَالَه هَذَا المشنع فضلا عَن أَن يَقُولُوا مَا سواهُ خطأ كَمَا زَعمه مَعَ أَن كتبهمْ مبسوطة جَامِعَة للوجوه الْمَشْهُورَة والغريبة وَمَعَ أَن الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا زِيَادَة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْقِيَامَة مَعْرُوفَة مَوْجُودَة فِي الصَّحِيح الَّذِي بعض تصانيفهم الْمَذْكُورَة شرح لَهُ فَلم يحملوه على أَن ذَلِك مَخْصُوص بِالآخِرَة يُوجد فِيهَا محسوسا نَحْو مَا ورد فِي دم الشُّهَدَاء كَمَا زعم هَذَا المتعسف بل قطعُوا القَوْل بِأَن ذَلِك عبارَة عَن الرضى وَالْقَبُول وَنَحْوهمَا مِمَّا هُوَ ثَابت فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة غير مَخْصُوص الْوُجُود بِوَاحِدَة مِنْهُمَا
وَقد أخبر من يوثق بِخَبَرِهِ أَنه لما أخبر بقول الْعلمَاء فِي ذَلِك قَالَ أخطأوا كلهم
وَأما بَيَان أَنه لم يفهم معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْقِيَامَة فَنَقُول لَو لم نحط بِمَا ذكره من الحَدِيث وأقاويل الْعلمَاء لم يكن لنا أَن نصير إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ من القَوْل بِانْتِفَاء ذَلِك فِي الدُّنْيَا أخذا مِمَّا ذكره فَإِنَّهُ من بَاب التَّمَسُّك بِالْمَفْهُومِ وَالِاسْتِدْلَال بالتخصيص والقيد على النَّفْي عَمَّا عداهُ وَشرط ذَلِك عِنْد كل من يَقُول بِهِ أَن لَا يظْهر لتخصيص الْوَصْف الْمَذْكُور فَائِدَة وَسبب غير انْتِفَاء ذَلِك عَمَّا عداهُ وَلِهَذَا لم يجْعَلُوا قَوْله تبَارك وَتَعَالَى {ربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم من نِسَائِكُم} دَلِيلا على انْتِفَاء التَّحْرِيم فِي الربيبة الَّتِي لَا تكون فِي الْحجر لما ظهر للتخصيص سَبَب

(1/106)


@ آخر وَهُوَ كَونه الْغَالِب الْأَكْثَر وأمثال ذَلِك فِي الْكتاب وَالسّنة لَا يُحْصى وَهَذَا الَّذِي نَحن فِيهِ من هَذَا الْجِنْس فَإِن لتخصيص ذَلِك بِيَوْم الْقِيَامَة سَببا ظَاهرا غير انتفائه عَن غير يَوْم الْقِيَامَة وَهُوَ كَون الْقِيَامَة يَوْم الْجَزَاء وَالْيَوْم الَّذِي يُوفى فِيهِ جَزَاء الخلوف الْجَزَاء الأوفى وَتظهر فِيهِ فضيلته فِي الْمِيزَان على فَضِيلَة الْمسك الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ العَبْد دفعا للرائحة الكريهة طلبا بذلك رضى الرب تبَارك وَتَعَالَى حَيْثُ يكون دَافع الرَّائِحَة الكريهة وجلب الرَّائِحَة الطّيبَة مَأْمُورا بِهِ كَمَا فِي الْمَسَاجِد والصلوات والعبادات فَأعْلم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ثقل الخلوف فِي الْمِيزَان يَوْم الْقِيَامَة أَكثر من ثقل الْمسك إِذا اسْتَعْملهُ العَبْد طلبا لمرضاة الرب تَعَالَى فَخص يَوْم الْقِيَامَة بِالذكر فِي بعض الرِّوَايَات من أجل ذَلِك وَأطلق وَلم يخص فِي أَكثر الرِّوَايَات نظرا إِلَى أصل فضيلته على الْمسك عِنْد الله وقبوله وَرضَاهُ بِهِ الَّذِي هُوَ مُطلق ثَابت فِي الدَّاريْنِ
وَنَظِير قَوْله تبَارك وَتَعَالَى {أَفلا يعلم إِذا بعثر مَا فِي الْقُبُور وَحصل مَا فِي الصُّدُور إِن رَبهم بهم يَوْمئِذٍ لخبير} فقيد بِيَوْم الْقِيَامَة كَونه خَبِيرا بهم مَعَ أَنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَبِير بهم مُطلقًا لَكِن خص يَوْم الْقِيَامَة بِالذكر لِأَنَّهُ يَوْم المجازاة على أَعْمَالهم الَّتِي هُوَ بهَا سُبْحَانَهُ خَبِير عليم وَهَذَا وَاضح لَا غُبَار عَلَيْهِ ثمَّ إِنِّي أَقُول لَو كَانَ مِمَّن يعرف مَرَاتِب الْأَدِلَّة لم يعْمل هَذَا كُله بِسَبَب دَلِيل الْمَفْهُوم الَّذِي هُوَ سلم شرطة لَهُ لَكَانَ مِمَّا لَا يقوى على مَا يعْتَرف بِهِ وآثار ذَلِك تظهر فِي علم أصُول الْفِقْه وَقد أبطل دلَالَته الإِمَام أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَأَصْحَابه وَبَعض أَصْحَابنَا وَغَيرهم
وَعند هَذَا نقُول كَمَا أَنه لم يسلم من شتيمته الْفَاحِشَة الْعلمَاء الشارحون للْحَدِيث على مَا تقدم بَيَانه فَكَذَلِك لم يسلم مِنْهَا من وَجه آخر الإِمَام أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَأَصْحَابه فَإِنَّهُ قد قَالَ من أطلق مَا قَيده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مخطىء جَاهِل بِالسنةِ إِلَى آخر قَوْله وَأَبُو حنيفَة لما كَانَ نافيا دلَالَة الْمَفْهُوم أطلق مَا قَيده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَوَاضِع كَثِيرَة مِنْهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بَاعَ نخلا بعد أَن تؤبر فثمرتها

(1/107)


@ للْبَائِع وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ هِيَ للْبَائِع بعد أَن تؤبر وَقبل أَن تؤبر فقد أطلق مَا قَيده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَنه لَا يرى أَن ذَلِك مُتَوَقف على وجود مَنْطُوق نَص آخر يُوجب الْإِطْلَاق على ظُهُور سَبَب آخر للتَّقْيِيد غير اخْتِصَاص الحكم وَمَا نَحن فِيهِ قد بَينا فِيهِ وجود نَص آخر يُوجب الْإِطْلَاق وَظُهُور سَبَب آخر للتَّقْيِيد وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد وَالْحَالة هَذِه على وجوب إِطْلَاق مَا قيد فَإِذا مَا أُتِي بِهِ فَهُوَ إِلَى أُولَئِكَ الْأَئِمَّة أسبق وأسرع فنسأل الله الْعَافِيَة وَالْعَفو
مَسْأَلَة أُخْرَى كتب فِيهَا أَيْضا تَحت جَوَاب شَيخنَا قَوْله تَعَالَى {بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ} وَصُورَة سؤالها إِذا كَانَ لجَماعَة ملك مشَاع وَفِي يَد كل وَاحِد مِنْهُم قدر حِصَّته من غير قسْمَة جرت بَينهم فغصب من وَاحِد مِنْهُم بعض مَا فِي يَده فَهَل يكون الْغَصْب عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ أَو يكون على الْجَمِيع بِقدر حصصهم
فَكتب هُوَ إِذا خص وَاحِدًا بِالْغَصْبِ فَلَا يكون ذَلِك غصبا من غَيره وَالله أعلم
وَكتب شَيخنَا إِذا غصب من أحدهم قِطْعَة مُعينَة مِمَّا فِي يَده فالغصب وَاقع على الْجَمِيع ضَرُورَة الاشاعة فِي تِلْكَ الْقطعَة الْمَغْصُوبَة فَتكون وَالْحَالة هَذِه ذَاهِبَة من الْجَمِيع وَالله أعلم
فَوَقَعت الرقعة مرّة ثَانِيَة فِي يَده فَكتب تَحت جَوَاب شَيخنَا بل كذبُوا بِمَا لم يحيطوا بِعِلْمِهِ ثمَّ شنع وَبَعض أَصْحَابنَا يسمع وَكَانَ من حَقه لما وقف على جَوَاب شَيخنَا أَن يتَنَبَّه وَيصْلح جَوَاب نَفسه وَلَكِن أَبى إِلَّا التَّمَادِي فِي الْبَاطِل فَنَقُول لم يتْرك شَيخنَا مُوَافَقَته فِي جَوَابه لعدم الْإِحَاطَة بِأَنَّهُ إِذا خص وَاحِدًا

(1/108)


@ بِالْغَصْبِ اخْتصَّ بِهِ فَإِن هَذَا ظَاهر لَا يخفى وَإِنَّمَا عدل عَنهُ لِأَنَّهُ جَوَاب فَاسد من حَيْثُ أَنه لَيْسَ جَوَابا للواقعة المسؤول عَنْهَا وَقد صرح بِهَذَا المستفتي السَّائِل وَلم يُصَرح بِهِ فَلفظ الاستفتاء كَاف فِي إِدْرَاك ذَلِك
فَإِن الْمَفْهُوم مِنْهُ أَن قِطْعَة مُعينَة أخذت من يَد أحدهم غصبا فَتكون لَا محَالة مَغْصُوبَة من الْجَمِيع وَلِهَذَا لما عرض ذَلِك فِي رقْعَة أُخْرَى على الْمَشَايِخ كتبُوا الْغَصْب وَاقع على الْجَمِيع وَلم يحتاجوا إِلَى أَن يعلقوا كَلَامهم بِصِيغَة الشَّرْط وَإِنَّمَا احْتَاجَ شَيخنَا إِلَى التَّعْلِيق بِصِيغَة الشَّرْط فَقَالَ إِذا غصب من أحدهم قِطْعَة مُعينَة فالغصب وَاقع على الْجَمِيع لِأَن جَوَاب ذَلِك كَانَ فِي الرقعة الَّتِي كتب فِيهَا شَيخنَا فأوضح بذلك صُورَة الْوَاقِعَة المسؤول عَنْهَا وَلَو أَن هَذَا الرجل فصل وَأورد فِي ضمن التَّفْصِيل مَا ذكره من صُورَة التَّخْصِيص لَكَانَ جَوَابه صَحِيحا أما الِاقْتِصَار على صُورَة نادرة لَيست بالسابقة إِلَى الْفَهم من لفظ الاستفتاء كَمَا فعل فخطأ وَالْجَوَاب بِخِلَاف الِاقْتِصَار على صُورَة هِيَ السَّابِقَة إِلَى الْفَهم فَإِن ذَلِك سَائِغ مُعْتَاد بَين أهل الْفَتْوَى وَالله أعلم
مَسْأَلَة أُخْرَى استفتي شَيخنَا فِي الَّذين يصلونَ صَلَاة الْجُمُعَة خَارج بَاب الْجَامِع الشَّرْقِي تَحت السَّاعَات قُدَّام الْبَاب الَّذِي يَلِي مشْهد أبي بكر رَضِي الله عَنهُ فأفتاهم بِمذهب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ مَعْرُوف عِنْد أَهله بِأَن صلَاتهم بَاطِلَة فَوقف ذَلِك الرجل هُنَاكَ وَخطأ شَيخنَا وشنع وأعلن وتقلدهم من ذمَّته صِحَة صلَاتهم وَقَالَ يبسط لي فِي هَذَا الْمَكَان حَتَّى أُصَلِّي الْجُمُعَة فِيهِ وأظن أَنه فعل ذَلِك واعتقد أَنه قد وَقع دون غَيره على مَا هُوَ الْمَذْهَب من ذَلِك بإدراكه الْفَائِق وَأخذ يحْتَج بِمَسْأَلَة خُرُوج الْمُعْتَكف إِلَى المنارة الْمُتَّصِلَة بِالْمَسْجِدِ الَّتِي بَابهَا فِيهِ للأذان فِيهَا وَقَالَ قُولُوا لَهُ يطالع هَذَا من كتاب الِاعْتِكَاف من مَجْمُوع الْمحَامِلِي رَحمَه الله فَنَقُول هَذِه الْمَسْأَلَة لَهَا ولنظائرها وأصولها وفروعها بَاب مَعْرُوف خلاه وَذهب يتعرف حكمهَا من بَاب آخر بعيد مباين وَالْمَسْأَلَة فِي بَابهَا منصوصة مسطورة مَشْهُورَة فِي كتب الْأَئِمَّة الْعِرَاقِيّين والخراسانيين مِنْهَا الشَّامِل وَالْحَاوِي وَكتاب

(1/109)


@ الْعدة للطبري فِي شرح الْإِبَانَة وَمن غَيرهَا وَهِي من الْوَسِيط مسطورة فِي بعض صورها بل هِيَ منصوصة للشَّافِعِيّ صَاحب الْمَذْهَب رَضِي الله عَنهُ مَفْرُوضَة فِي بعض صورها والفقيه يُدْرِكهَا من ذَلِك فِي جَمِيع صورها لما يُعلمهُ من شُمُول عَلَيْهَا فنكتفي بِنَقْل نَص الْمَسْأَلَة من كتاب الشَّامِل كَيْلا تطول قَالَ فِيهِ إِذا كَانَ بَاب الْمَسْجِد مَفْتُوحًا فَوقف مَأْمُوم بحذاء الْبَاب فَصلَاته صَحِيحَة وَكَذَلِكَ إِن صلى قوم عَن يَمِينه أَو شِمَاله أَو وَرَائه فَإِن وقف بَين يَدي هَذَا الصَّفّ صف آخر لَا يشاهدون من فِي الْمَسْجِد لَهُم تصح صلَاتهم على الْمَذْهَب الْمَشْهُور هَذَا كَلَامه وَلم يذكر دَلِيله لوضوحه وَالدَّلِيل مَعْرُوف وَهُوَ أَن من وقف خَارِجا قُدَّام الْبَاب فَلَا اتِّصَال بَينه وَبَين من فِي الْمَسْجِد لِأَنَّهُ بَينه وَبينهمْ حَائِلا مَوْضُوعا للفصل وَهُوَ جِدَار الْمَسْجِد الْمَانِع من الاستطراق والمشاهدة على مَا تقرر من أصل مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ من أَن جِدَار الْمَسْجِد حَائِل قَاطع للاتصال وَأَصله مَا سلمه من خَالفه وَهُوَ مَا إِذا وليه شَارِع بعد هَذَا فَلَو صحت صَلَاة هَؤُلَاءِ لَكَانَ ذَلِك بطرِيق التّبعِيَّة لمن حصل لَهُ الِاتِّصَال وَهُوَ من وقف بحذاء الْبَاب وتبعيتهم لَهُم قد انْتَفَت لتقدمهم عَلَيْهِم كَمَا انْقَطَعت تَبَعِيَّة الْمَأْمُوم بتقدمه على الإِمَام بِخِلَاف الصَّفّ الْوَاقِف خَارج الْبَاب والصف الممتد على الْبَاب الْمُتَّصِل بِمن هُوَ فِي الْمَسْجِد وَقَول صَاحب الشَّامِل على الْمَذْهَب الْمَشْهُور لَيْسَ إِشَارَة إِلَى وَجه غَرِيب مُوَافق لما قَالَه هَذَا الْمُعْتَرض وَإِنَّمَا هُوَ إِشَارَة إِلَى الْوَجْه المحكي عَن أبي إِسْحَاق الْمروزِي من أَن جِدَار الْمَسْجِد لَيْسَ بِحَائِل مَانع من الصُّحْبَة من غير فرق بَين الْجِهَة الَّتِي فِيهَا الْبَاب والجهة الَّتِي لَا بَاب فِيهَا وَهُوَ بعيد فِي الْمَذْهَب قَالَ صَاحب الشَّامِل وَلَا يَصح عَن أبي إِسْحَاق أما الَّذِي ذهب إِلَيْهِ الْمُعْتَرض من إِلْحَاق هَذَا بالمعتكف فِي خُرُوجه من الْمَسْجِد للأذان إِلَى المنارة الْمُتَّصِلَة بِهِ الَّتِي بَابهَا إِلَى الْمَسْجِد فَلَيْسَ وَجها فِي الْمَذْهَب أصلا وَمن كَانَ فَقِيها قد أَخذ عَن الْمَشَايِخ لَا يخفى عَلَيْهِ تبَاعد الْبَابَيْنِ لِأَن ذَلِك من الْأَشْيَاء الَّتِي جَازَ للمعتكتف فِيهَا الْخُرُوج من الْمَسْجِد إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ حكم لحاجات وَأَسْبَاب مُتعَدِّدَة أحصاها بعض المصنفين سَبْعَة عشر وَجعل هَذَا أَحدهمَا وَالسَّبَب فِيهِ نَشأ من كَونه خرج من الْمَسْجِد للأذان الَّذِي هُوَ شعار الْمَسْجِد إِلَى المنارة المبنية لإِقَامَة شعار

(1/110)


@ الْمَسْجِد فَجعل هَذَا من جملَة مَا استفتي من أَنْوَاع الْخُرُوج وَلَيْسَ ذَلِك إِثْبَاتًا لحكم الْمَسْجِد للمنارة فَإِنَّهُ لَا يجوز الِاعْتِكَاف فِيهَا وَفِي حَرِيم الْمَسْجِد قطعا بِهِ وَلَا يثبت لذَلِك أَيْضا حكم الْمَسْجِد من تَحْرِيم الْمكْث على الْجنب وَالْحَائِض وَهَذَا مُبين فِي نِهَايَة الْمطلب وَغَيرهَا كَلَام الْمحَامِلِي عِنْد من أَخذ هَذِه الْمَسْأَلَة من مظانها وفهمها تنزل على وفَاق مَا ذكره غَيره فَكَلَام الْأَئِمَّة يُفَسر بعضه بَعْضًا
وَإِذا تَأمل الْفَقِيه كَلَام الْمحَامِلِي أدْرك مِنْهُ ذَلِك فقد أَتَى فِيمَا إِذا كَانَت المنارة مُنْقَطِعَة عَن الْمَسْجِد بِمَا يفهم الْفَقِيه من أَنه لم يزدْ على أَن جعل الْخَارِج إِلَى المنارة فِي حكم من لم يخرج من الْمَسْجِد فِي بَقَاء اعْتِكَافه كَمَا قَالَ غَيره وَالله أعلم ثمَّ إِن هَذَا الْمُعْتَرض لم يعرف أَيْضا مَسْأَلَة الِاعْتِكَاف على وَجههَا فَإِنَّهُ لَو عرفهَا على وَجههَا لمنعته أَحْكَامهَا من تَخْرِيجه الْبَاطِل فِي الصَّلَاة إِذْ من أَحْكَامهَا المقررة المسطورة أَن الْمُعْتَكف لَو خرج إِلَى المنارة لغير الْأَذَان بَطل اعْتِكَافه مُطلقًا وَأَن الْمُؤَذّن الْمُعْتَكف لَو خرج إِلَى حجرَة مهيأة للسُّكْنَى مُتَّصِلَة بِالْمَسْجِدِ بَابهَا فِيهِ بَطل اعْتِكَافه بِخِلَاف المئذنة وَأَنه لَا يبطل اعْتِكَافه أَيْضا بِالْخرُوجِ للأذان إِلَى المنارة الْخَارِجَة من الْمَسْجِد المنقطعة عَنهُ على ظَاهر النَّص وَمَا عَلَيْهِ عَامَّة الْأَصْحَاب وَلَا حَاجَة بِنَا فِي التَّعْرِيف لخطأه وتعديه وقصوره إِلَى هَذَا الْبَيَان وَالتَّحْقِيق فقد علم طلبة الْعلم وَغَيرهم أَن حكم الْمَسْأَلَة إِذا كَانَ مسطورا فِي كتب الْمَذْهَب فخالفه إِنْسَان لَا اجْتِهَاد لَهُ من أجل ذَلِك الْمَذْهَب كَانَ معدودا من المخطئين وَإِن أَخذ بِوَجْه مَا قَالَه ويخرجه لم يلْتَفت إِلَيْهِ وَقيل لَهُ لست من الْمُجْتَهدين وَلَا من الْأَئِمَّة الَّذين لَهُم أَن يخرجُوا من نُصُوص الْمَذْهَب وأصوله أقوالا مخرجة تُضَاف إِلَى الْمَنْقُول وَهَذَا صَوَاب مِنْهُم لَهُ دَلِيل مُقَرر فَإِن أضَاف صَاحب هَذَا الْخَطَأ إِلَى خطئه تخطيئه من أصَاب وَوَافَقَ الْمَنْصُوص الْمُقَرّر كَمَا فعل هَذَا الْمُعْتَرض فَكَذَلِك عِنْدهم يسْتَحق أَن يعرف قدره بِالْفِعْلِ وَلَا يرضى لَهُ بِمُجَرَّد القَوْل وأسأل الله التَّوْفِيق والعصمة
أعجوبة أُخْرَى كُنَّا فِي درس شَيخنَا يَوْمًا فَدخل الْفَارِسِي الَّذِي يَسْتَعِين بِهِ فِي الشناعة وتصدر بصولة وَأخرج فتيا قد بعث بهَا مَعَه مُعْتَقدًا أَنه يظْهر بهَا خطأ

(1/111)


@ أستاذنا على درس الأشهاد وَهُوَ سُؤال عَن قَاض من قُضَاة أَعمال الرستاق يقْضِي بِعِلْمِهِ فِيمَا جرى الْخلاف فِي جَوَاز قَضَاء القَاضِي فِيهِ بِعِلْمِهِ وَقد أفتى شَيخنَا بِأَنَّهُ لَا يقْضِي بِعِلْمِهِ اخْتِيَارا مِنْهُ فِي أَمْثَال ذَلِك القَاضِي لِلْقَوْلِ الَّذِي هُوَ مَذْهَب مَالك وَأحمد وَغَيرهمَا وَقَالَ فِي فتواه فَإِن قضى فِي ذَلِك بِعِلْمِهِ لم ينفذ حكمه فَأخذ الْمَذْكُور عَلَيْهِ هَذَا وَزعم أَنه غلط فَإِنَّهُ إِذا قضى بِعِلْمِهِ فقد قضى بمختلف فِيهِ فَلَا ينْقض حكمه فَقضى شَيخنَا الْعجب مِنْهُ وَبَين لرَسُوله وَلمن حضر أَنه سوء فهم مِنْهُ فَإِنَّهُ اعْتقد أَنه لما قَالَ ينقذ حكمه قد قَالَ بِنَقْض حكمه وَبَين الْأَمريْنِ فرق بَين فَفِي هَذَا مسَائِل ثَلَاث إِحْدَاهَا إِذا حكم الْحَاكِم بِمَا يرَاهُ فِي مَوضِع الْخلاف السائغ فَلَيْسَ لحَاكم يُخَالف فِي رَأْيه أَن ينْقض حكمه أَي لَا يتَعَرَّض عَلَيْهِ فِيمَا حكم بِهِ فَيردهُ ويبطله الثَّانِيَة هَل ينفذ حكمه الْمَذْكُور أَي مَا صَار ذَلِك الْمُخْتَلف باتصال الحكم بِهِ نَافِذا ثَابتا فِي نفس الْأَمر فَهَذَا فِيهِ الْخلاف الْمَعْرُوف من طَريقَة خُرَاسَان فِي أَن حكم الْحَاكِم فِي مجَال الِاجْتِهَاد هَل يحِيل الْبَاطِن والأليق بِأَصْل الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أم لَا
الثَّالِثَة هَل ينفذ حكمه أَي على الْحَاكِم الْمُخَالف تَنْفِيذ حكمه وإمضاؤه وَالْعَمَل بِهِ فِيهِ خلاف قيل قَولَانِ وَهَذَا الْخلاف يَتَرَتَّب على الْخلاف فِي الَّتِي قبلهَا فَإِذا لَا ينْقض حكمه قطعا من غير خلاف وَفِي نفاذه وتنفيذه خلاف ووراء هَذَا كَلَام يتَعَلَّق بذلك فِي الْفرق بَين أَن يكون أصل الْخلاف فِي الْمَحْكُوم بِهِ كَالنِّكَاحِ بِلَا ولي وَغَيره إِذا حكم فِيهِ حَاكم وَلَا حَاجَة إِلَى التَّطْوِيل بذلك وَإِذا وقف على هَذَا من عِنْده فهم وَدين دنى لشَيْخِنَا حَيْثُ صَار عرضة لاستدراك مثل هَذَا الرجل عَلَيْهِ ونسأل الله السَّلامَة آمين
مَسْأَلَة أُخْرَى صُورَة سؤالها رجل وصّى اعْتِرَاف أَنه أَخذ من مَال الْمُوصي شَيْئا ذكر قدره وَقَالَ خبأته لأجل الْوَرَثَة ثمَّ ذكر أَنه ضمه إِلَى المَال وقسمه بَينهم فَقَالَ لَهُ الْوَرَثَة إِلَّا أَنَّك لما قسمت المَال علينا لم تقسم الْقدر الَّذِي اعْترفت انك خبأته فَقَالَ بلَى قسمته فِي جملَة مَا قسمت وَوَقع النزاع بَينهم فَهَل يصدق الْوَصِيّ فِي ذَلِك بِغَيْر بَيِّنَة أم لَا فَأفْتى شَيخنَا بِأَنَّهُ لَا يصدق فِي ذَلِك بِغَيْر بَيِّنَة فاستدركه عَلَيْهِ الْمَذْكُور وَعمل فِي ذَلِك حَدِيثا وتشنيعا فجدد بعض الصُّوفِيَّة الإستفتاء

(1/112)


@ وأتى بِهِ شَيخنَا وَسَأَلَهُ أَن يذكر فِيهِ جَوَابه بدليله على وَجه يبطل خيال من اعْترض فَكتب لَهُ جَوَابه كَذَلِك وَضَمنَهُ مَا يبطل عُمْدَة المشنع وَأَنا أحكيه على جِهَته فَفِيهِ كِفَايَة قَالَ الْجَواب وَالله الْمُوفق للصَّوَاب أَنه لَا يصدق فِي ذَلِك بِغَيْر بَيِّنَة فَإِن قَوْله قسمته بَيْنكُم ادِّعَاء مِنْهُ لدفعه إِلَيْهِم وَلَا يقبل قَوْله فِي ذَلِك إِلَّا بَيِّنَة وَهَذَا مُسْتَمر على ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ومنصوصه فِي أَن الْوَصِيّ لَا يقبل قَوْله فِي دفع المَال إِلَيّ الْوَارِث إِلَّا بِبَيِّنَة ومندرج تَحت الْقَاعِدَة المحفوظة المقررة فِي أَن من ادّعى الرَّد على غير من ائتمنه فَلَا يصدق من غير بَيِّنَة ثمَّ إِنَّه يَكْفِي الْوَصِيّ فِيمَا يقيمه من الْبَيِّنَة أَن يُقيم بَيِّنَة على قسمته مَالا هُوَ بِقدر ذَلِك المَال المخبوء على صفته وَلَا يقبل عَلَيْهِ عِنْد ذَلِك قَول الْوَرَثَة إِن ذَلِك مَال لنا آخر مَا لم يقيموا حجَّة توجب مَا ادعوهُ فَإِن قَالَ الْمُعْتَرض دَعوَاهُم على خلاف ظَاهر الْحَال فَإِن الْقِسْمَة الَّتِي جرت كَانَت لإيصالهم إِلَى كَمَال حَقهم فَعدم نزاعهم حَالَة الْقِسْمَة ورضاهم بهَا دَلِيل على اندراج الْقدر المخبوء فِي جملَة الْمَقْسُوم بَينهم فَلَا يقبل دَعوَاهُم على خلاف ذَلِك وَأَصله مَا إِذا كَانَ لإِنْسَان على إِنْسَان عشرَة أَقْفِزَة من صبرَة فَحَضَرَ ليقْبض مِنْهُ حَقه ثمَّ ادّعى بعد الْقَبْض والتفرق أَنه لم يقبض كَمَال حَقه فَإِنَّهُ لَا يقبل قَوْله
قلت هَذَا إِنَّمَا يتَّجه لَو كَانَت الْقِسْمَة الْمَذْكُورَة هِيَ الْقِسْمَة المنشأة لتوزيع مَالهم عَلَيْهِم وَلَيْسَ فِي السُّؤَال مَا يظْهر مِنْهُ ذَلِك عِنْد من يُمَيّز مواقع الْأَلْفَاظ وَلَو قَدرنَا أَن الْأَمر كَذَلِك لَكَانَ أَيْضا القَوْل قَول الْوَرَثَة مَعَ إِيمَانهم وَأما الْمَسْأَلَة الْمُسْتَدلّ بهَا فممنوعة فَالْقَوْل فِيهَا أَيْضا قَول الْقَابِض على قَول لِأَن الأَصْل عدم الْقَبْض وَهَذَا القَوْل هُوَ الصَّحِيح عِنْد بعض أَئِمَّتنَا وَإِن قُلْنَا بالْقَوْل الآخر هُنَاكَ فَلَا يَجِيء ذَلِك القَوْل فِيمَا نَحن فِيهِ فَإِن دَعْوَى الْقَابِض هُنَاكَ وَقعت على خلاف الظَّاهِر من حَيْثُ أَنه يعرف مِقْدَار حَقه وَحضر ليقْبض كَمَال حَقه فَالظَّاهِر أَنه لَا يُغَادر مِنْهُ شَيْئا وَهَذَا غير مَوْجُود فِي الْوَرَثَة الْمَذْكُورين الَّذين لَا يَدْرُونَ كم بَقِي من أَمْوَالهم بَعْدَمَا سبق من الْمُتَوَلِي عَلَيْهِم من الانفاقات والتصرفات وَإِن أمكن ذَلِك فَلَيْسَ بِالظَّاهِرِ من حَالهم فَإِن قَالَ أَلَيْسَ إِذا ادّعى أحد الشَّرِيكَيْنِ بعد الْقِسْمَة بقاشى من حَقه بِسَبَب الْغَلَط فَإِنَّهُ لَا يقبل مِنْهُ فَلَا يُجَاب قَائِل هَذَا بِأَكْثَرَ من أَن تشرح لَهُ تِلْكَ

(1/113)


@ الْمَسْأَلَة بتفاصيلها وعللها حَتَّى يعرف ان ذَلِك فِي وَاد وَهَذَا فِي وَاد وَالله أعلم وَمن ذَلِك
مَسْأَلَة الْجُمُعَة وَهِي أول مَسْأَلَة جسر فِيهَا على التشنيع وَذَلِكَ من أَيَّام الْمَشَايِخ الَّذين مضوا رَحِمهم الله وَصورتهَا شخص تكَرر مِنْهُ ترك الْجُمُعَة من غير عذر يجوز تَركهَا فَهَل يجب قَتله
فَأجَاب شَيخنَا رَضِي الله عَنهُ على أَصله بِأَنَّهُ يجب قَتله ويستتاب فشنع ذَلِك عَلَيْهِ وأشاع عَنهُ أَنه أَخطَأ فِيهَا وَزعم أَن الصَّوَاب فِيهَا التَّفْصِيل وَالْفرق بَين أَن يُصَلِّي بدلهَا الظّهْر أَو لَا يُصليهَا فَإِن صلى الظّهْر لم يقبل وأقدم على من غير أَن يكون عِنْده فِيهَا نقل ومستند سوى مُجَرّد خيالاته الَّتِي قد عدهَا من كَلِمَاته وَاسْتغْنى بهَا عَن نَفسه عَن الِاطِّلَاع على مساطير الْمَذْهَب الَّذِي يُفْتِي عَلَيْهِ واذا سُئِلَ فَعَنْهُ يسْأَل لَا عَن اجْتِهَاد نَفسه وَأما شَيخنَا فَإِنَّهُ لم يخرج فِي ذَلِك عَن عاداته فِي فَتَاوِيهِ من الْجمع بَين النَّقْل وَالدَّلِيل أما النَّقْل فَعَن الإِمَام أبي بكر الشَّاشِي وَذَلِكَ هَا هُنَا مَوْجُود فِي فَتَاوِيهِ وَلَيْسَ الِاقْتِصَار على الشَّاشِي لكَونه لم يقل ذَلِك غَيره بل لِأَن الْمَسْأَلَة غَرِيبَة مَا تعرضوا لَهَا فِي كتبهمْ وَحكى لنا الشَّيْخ أَن هَذِه الْمَسْأَلَة لم تجدها فِي تصانيف الْمَذْهَب وَأَنه كَانَ وجدهَا فِي مُدَّة مديدة بِمَدِينَة الْموصل فِي فتاوي الشَّاشِي فعلقها لغرابتها فِي جملَة مَا انتخبه من فَتَاوِيهِ
وَأما الدَّلِيل فَإِن الشَّاشِي لم يذكر دليلها فَلَمَّا ابتلى شَيخنَا بتشنيع هَذَا الشَّخْص صنف الْمَسْأَلَة وأوضح دليلها وَقَررهُ بالاعتراض وَالْجَوَاب وَنقل فِيهَا أَولا قطع الشَّاشِي بذلك من غير تشبيب بِخِلَاف وفتواه بِأَنَّهُ يقتل وَإِن صلاهَا ظهرا ثمَّ دلّ على صِحَة ذَلِك من حَيْثُ الْمَعْنى وَالْخَبَر لَا الْخَبَر الَّذِي جَاءَ من مُطلق الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة بل خبر ورد رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي ترك الْجُمُعَة على الْخُصُوص وَضمن كَلَامه مَعَ اخْتِصَار بليغ غرائب وفوائد يفرح بهَا من خدم الْعلم وَأَهله وَذَلِكَ حَاضر عندنَا ميسر لمن أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَلَا أطول هَذِه الرسَالَة بإيراده غير أَنِّي أُشير إِلَى مسرع الدَّلِيل الفقهي على وَجه يَكْتَفِي بِهِ من لَهُ فهم وَهُوَ أَن بِفِعْلِهِ الظّهْر لَيْسَ تَائِبًا من ترك

(1/114)


@ الْجُمُعَة وَلَا مواديا لَهَا وَلَا قَاضِيا فَلَا يسْقط بذلك مَا يُوجِبهُ التّرْك من قَتله كَمَا فِي بَاقِي الصَّلَوَات الْمَكْتُوبَة إِذا فعل مثل ذَلِك فِيهَا وَهَذَا وَاضح على قَوْلنَا كل وَاحِد من الْجُمُعَة وَالظّهْر أصل بِنَفسِهِ لَيْسَ أَحدهمَا بَدَلا عَن الآخر فَيكون كمن ترك الظّهْر وَصلى بدلهَا الْعَصْر وَهَذَا القَوْل هُوَ الصَّحِيح وَالظّهْر وَإِن كَانَت تصلى عِنْد فَوَات الْجُمُعَة بِأَمْر آخر على مَا قرر فِي مَوْضِعه وَقد قرر شَيخنَا رَحمَه الله ذَلِك فِيمَا صنفه على كل قَول وعَلى كل تَقْدِير وَبَعض هَذَا يَكْفِي فِي إبِْطَال دَعْوَى ذَلِك عَلَيْهِ الْخَطَأ والشذوذ وَإنَّهُ قَالَ مَالا يَصح نقلا ودليلا وَالله الْمُسْتَعَان وَعَلِيهِ التكلان
مَسْأَلَة أُخْرَى استفتا من السوَاد فِيهِ السُّؤَال عَن الْحَرْف وَالصَّوْت والاستواء وَعَن سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا كَانَ الْخُلَفَاء الراشدون وَالْأَئِمَّة المهديون والتابعون وينسلى فِيهِ مِمَّا وَقع بَينهم من الشَّرّ بخوضهم وتنازعهم فِي ذَلِك حَتَّى تناظرت الْأَعْرَاب والحمقى وَذُو الْأَلْبَاب وَكفر بَعضهم بَعْضًا وَترك من أجل ذَلِك الْقَارئ وَصلي خلف الْأُمِّي وَيسْأل فِيهِ أَئِمَّة الْمُسلمين أَن يجتهدوا فِي كشف هَذِه الظلمَة وتعطيل هَذِه الْفِتَن وَإِظْهَار السّنَن
فَأجَاب أستاذنا بأليق جَوَاب بِحَال من صدر مِنْهُ السُّؤَال وأفظع شيئ للفتن جرى فِيهِ على طَريقَة أهل الْوَرع وَالصَّالِحِينَ وسلك مسلكا يشْتَرك فِي قبُوله أهل الْمذَاهب الْأَرْبَعَة ويقبله أهل الْقُلُوب الَّذين زين الله فِي قُلُوبهم الْإِيمَان وَكره إِلَيْهِم الْكفْر والفسوق والعصيان فَقَالَ لقد حرمُوا هَؤُلَاءِ التَّوْفِيق وأخطأوا الطَّرِيق إِنَّمَا يجب عَلَيْهِم أَولا أَن يعتقدوا أَن الله تبَارك وَتَعَالَى كل صفة كَمَال وَأَنه مقدس عَن كل صفة نقص منزه عَن كل تَشْبِيه وتمثيل وليقولوا عَن اعْتِقَاد جازم آمنا بِاللَّه وَبِمَا قَالَ الله على الْمَعْنى الَّذِي أَرَادَهُ وآمنا بِمَا جَاءَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْوَجْه الَّذِي أَرَادَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهَذَا جَامع جمل الْإِيمَان إِذا أَتَوا بِهِ فقد وفوا بِمَا كلفوا بِهِ من ذَلِك وَلَيْسَ من الدّين الْكَلَام فِي الْحَرْف وَالصَّوْت والاستواء وَمَا شابه ذَلِك من كل تعرض لشَيْء من كيفيته صِفَات الله تبَارك وَتَعَالَى بل ذَلِك من مصائب الدّين وآفات الْيَقِين وَهُوَ زيغ عَظِيم عَن سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَسَائِر

(1/115)


@ أَئِمَّة الْمُتَّقِينَ من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُم باحسان من السالفين والخالفين رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وسبيل من أَرَادَ سلوك سبيلهم فِي هَذِه الْأُمُور وَفِي سَائِر الْآيَات المشتبهات وَالْأَخْبَار المشتبهة أَن يَقُول هَذِه لَهَا معنى يَلِيق بِجلَال الله وكماله وتقديسه الْمُطلق الله الْعَالم بِهِ وَلَيْسَ الْبَحْث عَنهُ من شأني ثمَّ يلازم السُّكُوت فِي ذَلِك وَلَا يسْأَل عَن معنى ذَلِك وَلَا يَخُوض فِيهِ وَيعلم أَن سُؤَاله عَنهُ بِدعَة وَإنَّهُ إِذا شرع فِيهِ فقد خاطر بِدِينِهِ وَلَعَلَّه يكفر فِيهِ أَو يشارف الْكفْر فِيهِ وَهُوَ لَا يدْرِي ويحفظ أَيْضا قلبه عَن الْكفْر فِيهِ والبحث عَنهُ وَيدْفَع خواطر ذَلِك بِمَا يدْفع بِهِ الوسواس من الِاسْتِعَاذَة وَغَيرهَا ثمَّ لَا يتَصَرَّف فِي أَلْفَاظ تِلْكَ الْآيَات وَالْأَخْبَار وَلَا يزِيد فِيهَا وَلَا ينْقض وَلَا يفرق مِنْهَا مجتمعا وَلَا يجمع مِنْهَا مُتَفَرقًا بل ينْطق بهَا كَمَا جَاءَت واكلا علمهَا إِلَى من أحَاط بهَا وَبِكُل شَيْء علما هَذَا سَبِيل السَّلامَة ومنهج الإستقامة وعَلى ولي الْأَمر وَفقه الله تَعَالَى أَن يمْنَع هَؤُلَاءِ الْقَوْم وأشباههم عَن الحيد عَن هَذَا السَّبِيل وَيُعَزر كل مُتَكَلم مِنْهُم فِي شَيْء من هَذَا الْقَبِيل من أَي فريق كَانَ وعَلى أَي مَذْهَب كَانَ تعزيزا رادعا وتأديبا بَالغا متأسيا بعمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فِيمَا عَامل بِهِ صبيغ بن عسل الَّذِي كَانَ يسْأَل عَن المتشابهات ضربه على ذَلِك ونفاه ونفعه الله بذلك ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعِصْمَة والتوفيق وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل فَهَذَا جَوَاب فِي نَفسه برهانه وَلما وقف عَلَيْهِ ذَلِك الرجل ثار فبدع وشنع وافترى وأفحش وَزعم أَنه لَا بُد من الْخَوْض وَالتَّفْصِيل وَنسب شَيخنَا إِلَى الحشو وَسُبْحَان الله كَيفَ يكون حَشْوًا وَهُوَ سَبِيل سلف الْأمة وسادتها وَمذهب الْأَئِمَّة أَرْبَاب الْمذَاهب فُقَهَاء الْملَّة لَا سِيمَا الشَّافِعِي وشيخي أَصْحَابه الْمُزنِيّ وَابْن شُرَيْح فأخبارهم وكتبهم ناطقة بمبالغتهم فِي ذَلِك وتسديد الإِمَام الشَّافِعِي على من حاد عَن هَذَا مَعْرُوف مَشْهُور وَمَا للبيهقي فِيهِ من تَأْوِيل وَتَخْصِيص فَهُوَ غلفة مِنْهُ وَذُهُول وَفِي كَلَام الشَّافِعِي فِي مَوَاضِع عدَّة مَا يُوضح بطلَان تَأْوِيله وَلم يزل على ذَلِك اخْتِيَار كبار فُقَهَاء الْمُسلمين وَجَمِيع صالحيهم والمتكلمون من أَصْحَابنَا لَا يقدحون فِي هَذِه الطَّرِيقَة وَإِن كَانَ الْخَوْض شغلهمْ وَفِيهِمْ فهم يرَوْنَ جَوَاز الْخَوْض من غير قدح فِي هَذَا بل يرونه أولى لمن سلم لَهُ وَأسلم للعامة ولأكثر النَّاس وَهَذَا الإِمَام الْغَزالِيّ

(1/116)


@ رَحمَه الله قد صنف فِي تَقْرِير مثل هَذَا الْجَواب الَّذِي أجَاب شَيخنَا كتابا هُوَ آخر تصانيفه سَمَّاهُ إلجام الْعَوام عَن علم الْكَلَام بَين فِيهِ بالأدلة الساطعة كل مَا فِي جَوَاب شَيخنَا وَذكر أَنه لَا خلاف بَين السّلف فِي أَن ذَلِك هُوَ الْجَواب على كل الْعَوام وَلَوْلَا أَن هَذَا الْكتاب مَوْجُود مَشْهُور لنقلت مِنْهُ بسط مَا أَشَارَ إِلَيْهِ شَيخنَا فِي جَوَابه من الدَّلِيل على صِحَّته لَكنا عرضنَا من بَيَان بطلَان مَا قَالَه هَذَا الْمُعْتَرض لَا يتَوَقَّف على التَّطْوِيل بل ينْقل ذَلِك إِلَى هَا هُنَا إرشاد من أَرَادَهُ إِلَى مَوْضِعه وَأَشَارَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ على نظام الْملك فِيمَا صنفه لَهُ بإلزام الْعَامَّة بسلوك السَّبِيل واستفتى الإِمَام الْغَزالِيّ مثل هَذَا الاستفتاء فَأجَاب بِجَوَاب مَوْجُود مَنْقُول قرر فِيهِ مثل مَا أجَاب شَيخنَا بِكَلَام من جملَته وَأما الْكَلَام فِي أَن كَلَامه حرف وَصَوت أَو لَيْسَ كَذَلِك فَهُوَ بِدعَة لِأَن السّلف لم يخوضوا فِي هَذَا وَلم يزِيدُوا عَليّ قَوْلهم الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق فالسكوت عَمَّا يسكت عَنهُ السّلف تَقْصِير والخوض فِيمَا لم يخوضوا فِيهِ فضول قَالَ وكل من يدعوا الْعَوام إِلَى الْخَوْض فِي هَذَا فَلَيْسَ من أَئِمَّة الدّين وَإِنَّمَا هُوَ من المضلين ومثاله من يدعوا الصّبيان الَّذين لَا يعرفوا السباحة إِلَى خوض الْبَحْر وَمن يدعوا الزَّمن المقعد إِلَى السّفر فِي البراري من غير مركوب وَقَالَ فِي رسَالَته إِلَى الزَّاهِد الْفَقِيه أَحْمد بن سَلَامه الدممي رحمهمَا الله فِي كَلَام أجراه فِي هَذَا الْمَعْنى الصَّوَاب لِلْخلقِ كلهم الْآن الشاذ النَّادِر الَّذِي لَا تسمح الْأَعْصَار إِلَّا بِوَاحِد مِنْهُم أَو اثْنَيْنِ سلوك مَسْلَك السّلف فِي الْإِيمَان الْمُرْسل والتصديق الْمُجْمل بِكُل مَا أنزلهُ الله تَعَالَى وَأخْبر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير بحث وتفتيش والاشتغال بالتقوى فَفِيهِ شغل شاغل هَذَا كَلَامه بِعَيْنِه ثمَّ إِن فِي سُؤال أَصْحَاب الاستفتاء الْمَذْكُور مزِيد اقْتِضَاء لذَلِك إِذا فِيهِ سُؤَالهمْ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الْخُلَفَاء الراشدون والتابعون وَمَا أَجَابَهُ بِهِ شَيخنَا هُوَ الَّذِي يُطَابق هَذَا لِأَن الْخَوْض وَالتَّفْصِيل الكلامي وَفِي الاستفتاء أَيْضا الشَّك بِهِ مِمَّا وَقع بَينهم من الشَّرّ والتكفير بِسَبَب تنازعهم فِي ذَلِك وسألوا أَن يجْتَهد لَهُم فِي تَعْطِيل هَذِه الْفِتَن فَهَل يَلِيق بِهَذَا المُرَاد وَيقرب من حُصُول هَذَا المرتاد مَا أجابهم بِهِ شَيخنَا أَو التَّفْصِيل الَّذِي إِذا ورد على هَؤُلَاءِ من قبل فقهائهم ورد ضِدّه على أُولَئِكَ الآخرين من قبل فقهائهم فتمسك

(1/117)


@ كل فريق مِنْهُم بقول فقهائهم وَلَا يتعدونه على مَا تقدّمت تجربته فِي حق أَصْحَاب هَذِه الْفتيا خُصُوصا وَفِي حق غَيرهم من الْعَامَّة عُمُوما فيتنازعون ويتجادلون مَعَ عامتهم وجهالهم فَيَزْدَاد الضال مِنْهُم ضلالا ويشارف الْمُهْتَدي مِنْهُم بخوضه بِلَا ألة زيغا وغواية ويتفاقم مَا سيل إطغاؤه من ثائرة الْفِتَن الَّتِي أثار مَا بَينهم التَّنَازُع وَلَا يبرح من ساحتهم مَا شكوه من التباغض والتقاطع وَأما شنع بِهِ هَذَا الرجل على شَيخنَا من أَنه فِي جَوَابه فِي طعن على من خَاضَ من الْعلمَاء فِي ذَلِك وَمن صنف فِيهِ فَهَذَا التشنيع يلْحق للْإِمَام الْغَزالِيّ لَا لَهُ فَإِنَّهُ سوى فِي كِتَابه إلجام الْعَوام وَفِي غَيره بَين طوائف الْعَوام وَطَوَائِف الْعلمَاء فِي الْمَنْع من الْخَوْض وَلم يكون ذَلِك إِلَّا لكبار الصَّالِحين والأولياء العارفين بِاللَّه تَعَالَى وَأما جَوَاب شَيخنَا فَهُوَ مَخْصُوص بالعوام وَأَصْحَاب الْوَاقِعَة وهم أَقوام فلاحون وَقد بَين هَذَا الْخُصُوص بقوله أَولا لقد حرم هَؤُلَاءِ ثمَّ بقوله ثَانِيًا يمْنَع هَؤُلَاءِ الْقَوْم وأشباههم عَن الحيد عَن هَذَا السَّبِيل وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَهُوَ أعلم
فصل وَمن عجائب هَذَا الرجل أَنه بعث إِلَى شَيخنَا فتوتين لَهُ زعم أَنه أَخطَأ فيهمَا وَقد حكى فِي الورقة صُورَة الإستفتاء وَالْفَتْوَى ثمَّ أمْلى تَحت ذَلِك الْأَخْذ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ شَيخنَا من الفضائح وَمِمَّا لَا يَنْبَغِي أَن يُجَاب عَنهُ بِغَيْر السُّكُوت والإعراض لَكِن تجَاوز وأملى جَوَابا بليغا موجزا آرسله إِلَيْهِ وَإِن أوردهُ هَا هُنَا بِمَعْنَاهُ ومقاصده بِعِبَارَة وَاضِحَة لَا يتمشى لَهُ مَعهَا مَا تعاطاه فِي ذَلِك مِمَّا سأحكيه بعد الْجَواب إِن شَاءَ الله تَعَالَى الْكَرِيم وَهَذِه حِكَايَة صُورَة ذَلِك فِي رقْعَة استفتاء مَا يَقُول السَّادة الْفُقَهَاء فِي رجل تزوج بإمرأة بكر عَاقِلَة بَالِغَة وَله مَعَه دون السّنة وَلم يَطَأهَا وَإِن أَهلهَا طلبُوا أَن يطلقوها مِنْهُ لذَلِك وَالرجل لم يشته أَن يطلقهَا فَهَل يَصح لأَهْلهَا أَن يطلقوها مِنْهُ بِغَيْر اخْتِيَاره بِنَاء على كرنه عنينا أم لَا
الْجَواب إِنَّه لَيْسَ ذَلِك لأَهْلهَا اسْتِقْلَالا وَإِنَّمَا ذَلِك إِلَيْهَا إِذا ثَبت كَونه عنينا بِإِقْرَارِهِ أَو يَمِينهَا بعد نُكُوله وألفين أَن يكون فِي عضوه مرض دَائِم قد أسقط قوته وانتشاره ثمَّ لَا يثبت لَهَا الْفَسْخ بعد ثُبُوت التعنين حَتَّى يضْرب لَهُ الْحَاكِم أجل سنة فَإِذا مَضَت السّنة وَلم يَطَأهَا فلهَا الْفَسْخ بِحكم الْحَاكِم وَالله أعلم

(1/118)


@
الْأَخْذ من شَرط دوَام الْمَرَض من الْعلمَاء وَمن شَرط سُقُوط الْقُوَّة والإنتشار مَعَ أَنه قد يعن عَن امْرَأَة دون أُخْرَى وَهل لَا فصل إِذا مَضَت السّنة وَلم يطَأ بَين أَن يكون امْتِنَاعه من الوطئ العائق غير الْعَجز من سفر أَو مرض لَا يَتَأَتَّى مَعَه الوقاع أَو حبس أَو غير ذَلِك من الْأَعْذَار وَبَين أَن يكون لعَجزه عَن الوطئ هَذَا مَا أملاه فِي رقعته على جِهَته فَنَقُول أما قَوْله من شَرط دوَام الْمَرَض من الْعلمَاء فانظروا إِلَى مَا ابْتُلِيَ بِهِ شَيخنَا مِنْهُ أنكر أَن يكون أحد من الْعلمَاء شَرط ذَلِك وكل عُلَمَائِنَا مَعَ غَيرهم شرطُوا ذَلِك فِي ذَلِك وَجَمِيع المختصرات فِي الْمَذْهَب فضلا عَن المبسوطات ناطقة بذلك فَإِن كلهم قد اشْترط فِي مرض التعنين حُصُول الْيَأْس من زَوَاله وَلم يضْربُوا أجل سنة بعد إِقْرَاره بِالْعَجزِ والتعنين إِلَّا لتبين الْيَأْس والاستثبات فِيهِ وَهَذِه تصانيف النَّاس الْوَسِيط فَمَا فَوْقه وَمَا دونه يُنَادي كلهَا بذلك وَإِذا كَانَ ميئوسا من زَوَاله فَهَذَا هُوَ الْمَعْنى بِكَوْنِهِ مَرضا دَائِما فِي كَلَام النَّاس وعرفهم لهَذَا وصف فِي الْوَسِيط وَغَيره مرض الإستحاضة وَغَيره من الْأَمْرَاض الَّتِي يوئس من زَوَالهَا بِكَوْنِهَا أمراضا دائمة وَهَكَذَا إِلَّا فِيمَا أنكرهُ من اشتراطهم سُقُوط قُوَّة الْعُضْو وانتشاره بل إِنْكَاره لهَذَا أَنْكَرُوا طم أزلا عنين عِنْد النَّاس أَجْمَعِينَ إِلَّا من سَقَطت قُوَّة عضوه وانتشاره بِالنِّسْبَةِ إِلَى من أعن عَنْهَا وَهَذَا أَمر محسوس فِي الْعنين وَمن لم يُوجد ذَلِك فِيهِ فَلَيْسَ عنينا بِلَا خلاف بَينهم وَلَا إِشْكَال وَفِي الْوَسِيط معِين الْعنَّة سُقُوط الْقُوَّة الناشرة للألة وَالْأَمر أوضح من أَن يحْتَاج إِلَى الِاحْتِجَاج بالوسيط فَإِنَّهُ من الشَّائِع الذائع بَين المتعلمين فضلا عَن الْعلمَاء فَمن قَالَ التعنين مثبتا كعلمائنا وَمن وافقهم لم يثبت ذَلِك إِلَّا إِذا كَانَ بِهَذِهِ المثابة وَمن خَالف وَقَالَ الْعنَّة لَا تثبت الْخِيَار فَلَا يَعْنِي بالعنة أَيْضا إِلَّا ذَلِك وَإِلَّا لم يتوارد النزاع على مَحل وَاحِد فَصَارَ ذَلِك إِذا قَول الْجَمِيع وَأما شبهته واحتجاجه بِأَنَّهُ قد يعن عَن امْرَأَة دون أُخْرَى فَنَقُول إِنَّمَا شرحنا وَشرح الْعلمَاء الْعنَّة حَيْثُ وجدت وَفِي حق من تعلّقت بِهِ لَا حَيْثُ لم يُوجد تعلقهَا فَإِن كَانَ مَا شرحناها بِهِ متحققا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَة الَّتِي أعن عَنْهَا كَمَا شهد بِهِ الْحسن واقتضاه الْبَيَان الْوَاضِح الَّذِي قدمْنَاهُ فَتَقول أَصْحَابنَا قد لَا يعن عَن امْرَأَة أُخْرَى لَا يدعوا من لَهُ أقل فهم إِلَى إِنْكَار هَذَا المحسوس الْمَقْطُوع

(1/119)


@ بِوُجُودِهِ بِالْإِضَافَة إِلَى من أعن عَنْهَا بل ينْتَظر فَإِن استقام لَهُ كَون الْعنَّة أمرا إضافيا يُوجد بِالنِّسْبَةِ إِلَى امْرَأَة وينتفي بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُخْرَى كَمَا علم مثله فِي الْأُمُور الإضافية اعْترف بذلك وَقَالَهُ وَإِن لم يستقم لَهُ ذَلِك فينكر احْتِمَال انْتِفَاء ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى امْرَأَة أُخْرَى ونقول إِذا عَن عَن امْرَأَة أعن فقد أعن عَن غَيرهَا لَا أَن تكابر المحسوس وينكر وجود الْمَرَض الميؤس مِنْهُ الْمسْقط لقُوَّة الانتشار فِي حق الْمَرْأَة الَّتِي علم تعنينه عَنْهَا وَلِهَذَا كَانَ الْمَعْهُود فِي مبَاحث الْفُقَهَاء والمتفقهة إِذا انْتَهوا إِلَى هَذَا الْبَاب أَن يُورد أحدهم مَا شرحنا بِهِ الْعنَّة من سُقُوط الْقُوَّة والانتشار وَحُصُول الْيَأْس من زَوَاله على قَول المُصَنّف أَو الْمدرس قد لَا يعن عَن امْرَأَة أُخْرَى ويجعله إشْكَالًا عَلَيْهِ وَلَا يَجْسُر أحد مِنْهُم يغْفل مِنْهُم على أَن يعكس هَذَا كَمَا فعله هَذَا الرجل فَيجْعَل كَونه لَا يعن عَن امْرَأَة أُخْرَى أصلا وتورده على مَا لَا ريب فِيهِ فِي معنى الْعنَّة من سُقُوط الْقُوَّة وَحُصُول الْيَأْس من عودهَا وَبعدهَا فبيان أَنه لَا تنَافِي بَين الْأَمريْنِ سهل على الْفَقِيه وَذَلِكَ أَن الْعنَّة عجز نسبي إضافي إِذْ يُقَوي ميله إِلَى امْرَأَة بِعَينهَا بِحَيْثُ يثور من فرط اشتهائه لَهَا مَا يكون ناشرا لعضوه جالبا لحرارة تقطع مُعَارضَة غالبه لما حل فِيهِ من الْمعَارض الْمسْقط لقُوَّة انتشاره الَّذِي لَيْسَ ينْقل عَنهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غير تِلْكَ الْمَرْأَة فَمن لَا تميل إِلَيْهَا ذَلِك الْميل وَلَا يعظمه تَأْثِير شَهْوَته لَهَا وَهَذَا بَين غير خَافَ وَأما مَا أَخذه على قَول شَيخنَا إِذا مَضَت السّنة وَلم يطَأ فلهَا الْفَسْخ حَيْثُ أطلق وَلم يفصل بَين أَن يكون امْتنَاع وَطئه لعجز التعنين أَو لعائق آخر من سفر أَو غَيره فالشيخ الإِمَام من أَخذه هَذَا أَخذ على أَئِمَّة النَّاس قَدِيما وحديثا فِي الْفَتْوَى وَغير الْفَتْوَى إِذا هَكَذَا أفتى إِمَام الْهدى الَّذِي جعل الْعلمَاء فتياه أصلا فِي هَذَا الْبَاب وَهُوَ عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِيمَا روى الشَّافِعِي بِإِسْنَادِهِ عَنهُ يُؤَجل الْعنين سنة فَإِن جَامع وَلَا فرق بَينهمَا وَهَكَذَا قَالَ صَاحب الْمَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وتكرر ذَلِك فِي مَوَاضِع من كَلَامه من جملها قَوْله فَإِن أَصَابَهَا مرّة فَهِيَ امْرَأَته وَإِن لم يصبهَا خَيرهَا السُّلْطَان وَهَكَذَا قَالَ من لَا نحصيه من عُلَمَاء النَّاس مِنْهُم إِمَام الْحَرَمَيْنِ قَالَه فِي غير مَوضِع وَكَذَا قَالَ وَالِده الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَهَكَذَا الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ لم يزدْ فِي مهذبه مَعَ بَيَانه على أَن

(1/120)


@ قَالَ وَإِن لم يُجَامِعهَا حَتَّى انْقِضَاء الْأَجَل وطالبت بالفرقة فَفرق الْحَاكِم بَينهمَا فَهَذَا الَّذِي أوردته كَاف من حَيْثُ الْإِجْمَال ثمَّ أتبرع بتفصيل السَّبَب الَّذِي لأَجله ترك شَيخنَا وَمن قبله من الْعلمَاء التَّفْصِيل الَّذِي ألزم بِهِ هَذَا الرجل وكما ذكر ذَلِك مِنْهُ على ذَهَابه عَن كَلَام الْعلمَاء فَكَذَلِك دلّ على ذَهَابه عَن إِدْرَاك مَوَاضِع الْأَلْفَاظ وَذَلِكَ أَنه لَيْسَ فِي الْكَلَام الْمَذْكُور إِطْلَاق حتي يُقَال هلا فصلت وقيدت بل فِيهِ مَا يُقَيِّدهُ بِمَا وَقع فِيهِ الْكَلَام من مَانع التعنين فَإِنَّهُ جرى فِيهِ ذكر امْتنَاع الوطئ عقيب ذكر مَانع التعنين فَيَسْبق إِلَى فهم الخاصي والعامي أَن امْتِنَاعه كَانَ من أَجله لَا لمَانع آخر لم يجز ذكره فَيكون تَرْتِيب الْفَسْخ على ذَلِك صَحِيحا إِلَّا أَنه إِذا قَالَ الْقَائِل عثر فلَان عَن زَوجته ولت يَطَأهَا حتي فَارقهَا وَهِي بكر بعد فَإِن الْخَاص وَالْعَام يفهمون مِنْهُ حواله عدم وَطئه مَا ذكر من التعنين دون غَيره من الْمَوَانِع وَالْحَمْد الله وَحده
الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة نقلا لما كَانَ فِي رقعته على وَجهه استفتاء مَا تَقول الْفُقَهَاء فِي رجل عِنْده قماش يكريه لجنائز الْأَمْوَات وَغَيره مثل ثِيَاب بيض وخضر وأقبية وشرابيش أطلس حمر وخضر وَثيَاب مذهبَة فَهَل يجوز لَهُ إكراؤها بطرِيق الْحَلَال أم لَا
الْجَواب لَا يجوز لَهُ ذَلِك فِي الأطلس وَالْحَرِير وكل مَا الْمَقْصُود مِنْهُ الزِّينَة وَلَا بَأْس بِهِ فِيمَا الْمَقْصُود بِهِ ستْرَة الْمَيِّت وصيانته وَالله أعلم
الْأَخْذ هَذَا الْإِطْلَاق لَا يَصح لِأَن النِّسَاء يجوز أَن يُكفن فِي الْحَرِير وَإِن كَانَ الأولى أَن لَا يفعل وَإِذا كَانَ تكفينهن فِيهِ غير محرم فَلم لَا يجوز إِجَارَته وَإِذا كَانَ تكفينهن فِي الْحَرِير لَا يحرم مَعَ أَن الْكَفَن يصير إِلَيّ الثوي والعفن فَلم لَا يجوز سترهن بِمَا لَا يكون عاقبته إِلَى ذَلِك وَأما قَوْله وكل مَا الْمَقْصُود مِنْهُ الزِّينَة فَمن ذهب من الْعلمَاء إِلَى تَحْرِيم التَّكْفِين فِيهِ كالرفيع من الْكَتَّان والقطن وَالصُّوف والمرتفعات الموشية بِغَيْر الْحَرِير هَذَا أَخذه الَّذِي أملاه على جِهَته وشنع مَعَ ذَلِك وأشاع عَن شَيخنَا أَنه ارْتكب بذلك إِحْدَى عظيمات الْخَطَأ وَهَذَا من الْمُنْكَرَات

(1/121)


@ الشائعة الَّتِي سعى أستاذنا فِي إِبْطَالهَا وتقليلها فَأبى الشَّيْخ الْمَذْكُور إِلَّا السَّعْي فِي إبقائها أَو تكثيرها فَإِن هَذَا الَّذِي اعتاده أهل هَذِه الْبَلدة من تَزْيِين الْجَنَائِز وَإِجَارَة ثِيَاب الزِّينَة لذَلِك من الْبدع السخيفة والمنكرات الْفَاحِشَة الَّتِي يُبَادر إِلَى إنكارها قُلُوب الْمُؤمنِينَ وَذَلِكَ أَن لمورد الْمَوْت الهادم للذات الفاضح للدنيا حَتَّى لم يدع لَهَا قدرا من القَوْل مَا يكبر عَن الْوَصْف والمجهز مُتَرَدّد بَين أَمريْن عظيمين يسَار بِهِ لَا يدْرِي إِلَى رَوْضَة من رياض الْجنَّة أَو حُفْرَة من حفر النَّار فَهَل يَلِيق بِهَذِهِ الْحَالة سوى الخضوع والانكسار وَهل تكون الزِّينَة فِيهَا والتزي فِيهَا بِذِي أهل السرُور والفرح إِلَّا من أعظم الْحمق وأبلغ السَّرف والسخف فَنَقُول مَا أفتى بِهِ شَيخنَا فِي ذَلِك هُوَ الصَّوَاب وَالْحق الَّذِي تشهد بِهِ أصُول الشَّرِيعَة ثمَّ أصل مذْهبه الَّذِي يُفْتِي عَلَيْهِ أما قَول هَذَا الرجل إِن هَذَا الْإِطْلَاق لَا يَصح لِأَن ذَلِك جَائِز فِي النِّسَاء بِدَلِيل جَوَاز تكفينهن فِي الْحَرِير فَيجوز إِجَارَته لذَلِك فقد أَخطَأ فِيهِ وَاحْتج بِغَيْر مُسلم لَهُ لِأَن تكفينهن فِي الْحَرِير حرَام أَيْضا على وَجه لنا صَحِيح مَذْكُور فِي زَوَائِد الْمُهَذّب تأليف صَاحب الْبَيَان قَالَ لِأَنَّهُ لَا زِينَة بعد الْمَوْت وَمن قَالَ تكفينهن فِي الْحَرِير غير حرَام فتخريج هَذَا الرجل مَا نَحن فِيهِ من تَزْيِين جنائزهن من ذَلِك تَخْرِيج بَاطِل لِأَن تكفينهن فِيهِ من قبيل لبسهن لَهُ وتزيين جنائزهن بِهِ من قبيل تنجيد بُيُوتهنَّ وتزيينها بتعليق الديباج وَقد حكى الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ فِي التَّبْصِرَة من غير خلاف أَن ذَلِك غير مُبَاح وَأَنه يَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَال وَالنِّسَاء قَالَ لِأَن ذَلِك يقْصد بِهِ المراياة والمكاثرة أَو نقُول هُوَ من قبيل افتراشهن للحرير هُوَ حرَام على مَا قطع بِهِ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَصَاحب التَّهْذِيب وَغَيرهمَا وَهُوَ الْوَجْه الصَّحِيح فِيهِ لِأَنَّهُنَّ استثنين فِي لبس الْحَرِير على الرِّجَال لما فِيهِ من تحسينهن لِأَزْوَاجِهِنَّ وتزينهن فِي أَعينهم مِمَّا لَا يحصل لَهُنَّ فِيهِ ذَلِك من ذَلِك فهن وَالرِّجَال فِيهِ سَوَاء وَمُوجب تَحْرِيمه يجمع الْفَرِيقَيْنِ وَهَذَا كَمَا أَنَّهُنَّ استثنين فِي جَوَاز التحلي بِالذَّهَب وَالْفِضَّة سوى بَينهُنَّ وَبَين الرِّجَال فِي تَحْرِيمه وَهَذَا وَاضح ثمَّ نقُول من جَوَاز افتراشهن للحرير فِي حَال الْحَيَاة فَلَا يلْزم من تجويزه ذَلِك تَجْوِيز تَزْيِين جنائزهن بِهِ ليَكُون هَذَا وَاقعا فِي حَالَة الْمَوْت الهادم للذات المنافية للتصنع والتزيين وَذَلِكَ وَاقع فِي حَال

(1/122)


@ الْحَيَاة وَفِي مَظَنَّة الزِّينَة وَالنَّظَر إِلَى المظنة مَعْهُود فَإِن قلت فَكيف جوز تكفينهن فِي الْحَرِير بعض أَصْحَابنَا وَهُوَ فِي حَالَة الْمَوْت قُلْنَا لَا جرم كَانَ ضَعِيفا بِمَا قدمنَا ذكره وَمَعَ ذَلِك فَلَا يتَخَرَّج مِنْهُ وَجه فِي جَوَاز تَزْيِين جنائزهن بالحرير فضلا عَن أَن يقطع من أَجله بخطأ من أفتى بِالْمَنْعِ من تَزْيِين جنائزهن بِهِ وشنع عَلَيْهِ كَمَا فعله هَذَا المؤذي وَهَذَا لِأَن قَول الْقَائِل يجوز تكفينهن فِيهِ لَا يعْطى أَكثر من أَنه يجوز اسْتِعْمَاله لما يقْصد بالتكفين من سره الْمَيِّت وإكرامه بذلك لَيْسَ فِيهِ أَنه يجوز ذَلِك مَقْصُودا بِهِ الزِّينَة والتجمل وكلامنا فِيمَا نَحن فِيهِ إِنَّمَا هُوَ فِي التزيين بذلك وَهَكَذَا مَا نَقله من فَتْوَى شَيخنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْمَنْع من التزيين وَمَا الْمَقْصُود مِنْهُ الزِّينَة وَالْإِجَارَة لذَلِك فَإِنَّمَا يَصح استدلاله بِفضل الكفران لَو قَالَ أحد بِجَوَاز تكفينهن فِي الْحَرِير مَقْصُودا بِهِ الزِّينَة وَهَذَا لم يُوجد عَن أحد من أَصْحَابنَا وَلَا عَن أحد من الْعلمَاء قاطبة فقد بَطل إِذا تَخْرِيجه من الْكَفَن على كل وَجه وَأما تَعْمِيم شَيخنَا الْمَنْع فِي تَزْيِين الْجَنَائِز بِغَيْر الْحَرِير حَيْثُ قَالَ وَكلما الْمَقْصُود مِنْهُ الزِّينَة فَمن أصُول ذَلِك وشواهده تَزْيِين الْقَبْر فَمَا أشبه تَزْيِين النعش بتزيين الْقَبْر وَقد صَحَّ نهي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن تجصيص الْقُبُور وَعلله الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بِأَن ذَلِك يشبه الزِّينَة وَالْخُيَلَاء وَلَيْسَ الْمَوْت مَوضِع وَاحِد مِنْهُمَا وَقَالَ فِي مَوضِع آخر نهى فِيهِ عَن بعض مَا يُرَاد بِهِ تَزْيِين الْمَيِّت الْمَيِّت لَا يزين وَنَظِير فَتْوَى شَيخنَا يبْقى الْجَوَاز فِي ذَلِك على الْعُمُوم فِي غير الْحَرِير من فتاوي أَئِمَّة مَذْهَبنَا فَتْوَى قَاضِي الْقُضَاة بِبَغْدَاد أبي بكر الشَّامي وَهُوَ أحد الْأَئِمَّة فِي طبقَة الشَّيْخ أبي أسْحَاق فَإِنَّهُ سُئِلَ عَن تستير جدر الْمَسْجِد بالحرير
فَأجَاب لَا يجوز أَن تعلق على حيطان ستور من حَرِير وَلَا من غَيره وَلَا يَصح وَقفهَا عَلَيْهِ وَهِي بَاقِيَة على ملك الْوَقْف ثمَّ اعتذر عَن تستير الْكَعْبَة زَادهَا الله شرفا فَإِنَّمَا لَا يخفى أُفْتِي بذلك فِي دَار الْعلم وَالْعُلَمَاء وَمَا فاتهم إِلَّا جهبذنا هَذَا حَتَّى ينْتَقد عَلَيْهِ وَيكون ذَلِك الإِمَام بذلك مِنْهُ أولى من شَيخنَا فَإِن نفي الْجَوَاز فِيمَا ذكره شَيخنَا أوضح بدرجات وَفِيمَا أوردته إِيضَاح لبعضها قَالَ فِي أَخذه على هَذَا أما

(1/123)


@ قَوْله وَكلما الْمَقْصُود مِنْهُ الزِّينَة فَمن ذهب من الْعلمَاء الى تَحْرِيم التَّكْفِين فِي الرفيع من الْكَتَّان والقطن فانظروا هَذَا المنتقد مَا كَانَ أغناه عَن الانتقاد إِنَّمَا قَالَ شَيخنَا لَا يجوز التزيين وَالْإِجَارَة لَهُ فَجعله قَائِلا أَنه يحرم وَأخذ يتَكَلَّم على التَّحْرِيم وَمَعْلُوم من أصُول الْفِقْه وَبَين فُقَهَاء هَذِه الأقطار أَنه لَا يلْزم فِي نفي الْجَوَاز حُصُول التَّحْرِيم وَإِن انْتِفَاء الْجَوَاز قد يكون بِالْكَرَاهَةِ فالمكروه عِنْدهم غير جَائِز وَلَا يُقَال إِنَّه حرَام وَإِنَّمَا الْجَوَاز تَسْوِيَة الشَّرْع بَين الْفِعْل وَالتّرْك وَمن أَرَادَ ذَلِك من المستصفي فَهُوَ فِيهِ
مَسْأَلَة إِذا فسخ الْوُجُوب هَل يبْقى الْجَوَاز وَخلاف أهل بخار أَلا يذكر فِي هَذَا الْمقَام الَّذِي هَذَا الرجل فِيهِ مخطىء أحد فَإِن قَالَ فالمفتي لَا يَقُول فِي الْمَكْرُوه لَا يجوز فَإِنَّهُ قُلْنَا لَو سلمنَا لَك أَن النَّهْي عَن تَزْيِين الْجَنَائِز على فحشه وسخفه نهي كَرَاهَة يحن بالمفتي أَن يَقُول فِيهِ لَا يجوز فَإِنَّهُ من حَيْثُ الْحَقِيقَة حق على مَا قدمْنَاهُ وَهُوَ أبلغ فِي أَن لَا يَفْعَله السَّائِل وَلِهَذَا كَانَ الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ الْفُقَهَاء الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق وَمن لَا يُحْصى مِنْهُم يطلقون لفظ النَّهْي فِي المنهى عَنهُ على سَبِيل الْكَرَاهَة والتنزية مَعَ أَن ظَاهر النَّهْي التَّحْرِيم وَقد سبقت حكايتنا قَول قَاضِي الْقُضَاة الشَّامي من تستير جدر الْمَسْجِد بِغَيْر الْحَرِير وَقَول إِنَّه لَا يجوز فَلهَذَا اسوة بذلك سَوَاء كَانَ ذَلِك على وَجه التَّحْرِيم أَو على وَجه الْكَرَاهَة هَذَا مضى ثمَّ إِنَّه يعجز فِيهِ فُقَرَاء إِلَى التَّكْفِين الَّذِي لَا ذكر لَهُ فِي الْفَتْوَى وَأخذ مُسلما أَنه إِذا قَالَ لَا يجوز التزيين فقد قَالَ لَا يجوز التَّكْفِين وَهَذَا سوء فهم لما تقدم بَيَانه من أَن قَول الْقَائِل يجوز التَّكْفِين فِيهِ لَيْسَ فِيهِ أَكثر من تَجْوِيز اسْتِعْمَاله لما يُرَاد بالكفن من ستْرَة الْمَيِّت وصيانته وكرامته وَلَيْسَ فِيهِ أَنه يجوز اسْتِعْمَاله فِي ذَلِك مَقْصُودا بِهِ التزيين وَهَذَا قد سبق وَبعد هَذَا فالتكفين فِي الرفيع الغالي من الْقطن والكتان وأشباههما قد نهى عُلَمَاؤُنَا عَنهُ محتجين بِهِ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُور لَا تغَالوا فِي الْكَفَن فَإِنَّهُ يسلب سلبا سَرِيعا إِلَى لَا تكفنوا فِي الغالي ونسأل الله رِضَاهُ وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
فَهَذَا وَالْحَمْد لله جَوَاب عَن أَخذه فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاضح وضوحا يلجمه عَمَّا تعاطاه فِيمَا كَانَ اخْتَصَرَهُ شَيخنَا عَن هَذَا أَو أملاه فِي جَوَاب رقعته وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد جامله فِي الْخطاب وَلم يبح بِمَا فِي أَخذه من الفضائح وَلَا وَصفه بِمَا يسْتَحقّهُ من

(1/124)


@ الصِّفَات المذمومة وَأَشَارَ فِي بعضه إِلَى مَوْضُوع الْحجَّة بِعِبَارَة مختصرة بليغة ظنا من أَن ذَلِك يَكْفِيهِ ويكفه فيستحي ويرعوي من غير حَاجَة إِلَى مَا بَان أَنه أولى بِهِ من الْكَشْف فجازاه على هَذَا بِأَن جمع لَهُ فِي الْجَامِع لفيفا وتصدر بَينهم وَأخذ يُجيب عَن الْجَواب ويطعن ويعترض وَمَا بَينه وَبَين من يعْتَرض عَلَيْهِ إِلَّا خطوَات فَهَلا شافهه بذلك أَو كتبه إِلَيْهِ كَمَا كتب أصل الْأَخْذ فَكَانَت اعتراضاته على ذَلِك من جنس كَانَ الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق رَحمَه الله ينشد فِيهِ سَارَتْ مشرقة وسرت مغربا شتان بَين مشرق ومغرب وَمن جنس مَا حَكَاهُ لنا شَيخنَا عَن بعض مَشَايِخ الكرامية وهم مشبهة خُرَاسَان أَنه اعْترض وَاحِد على النَّحْوِيين فِي قَوْلهم الْمُبْتَدَأ مَرْفُوع وَقَالَ هَذَا بَاطِل بقوله تبَارك وَتَعَالَى {وَالشَّمْس وَضُحَاهَا} فَإِنَّهُ ابْتَدَأَ بالشمس وَهِي مَكْسُورَة وَأَنا أقتصر على حِكَايَة غير مَا اعْترض بِهِ مَعَ أَنَّهَا عين عمياء كَانَ شَيخنَا فِي معرض حكايته عَن الْعلمَاء ووصفهم لمَرض التعنين بالدوام قد حكى عَن الشَّيْخ أبي إِسْحَاق ذَلِك وانه وَصفه بِكَوْنِهِ خلقه فَاعْترضَ على هَذَا وَأخذ فِي الْأَوْصَاف الخلقية تَنْقَسِم إِلَى مَا تدوم وَإِلَى مَالا يَدُوم
يَا هَذَا قد حُكيَ لَك ذَلِك عَن الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَحكي طرق كَلَامه فَكيف صبرت على الِاعْتِرَاض قبل أَن تنظر فِي كَلَامه الميسر لمن أَرَادَهُ وَتَنصر هَل لِلْأَمْرِ على مَا حَكَاهُ وَهَذَا كَلَام الشَّيْخ فِي مهذبه قَالَ فَإِذا اخْتلفت الْمَرْأَة أَي على التعنين واعترف الزَّوْج أَجله الْحَاكِم سنة لِأَن الْعَجز عَن الوطىء قد يكون بالتعنين وَقد يكون الْعَارِض من حرارة أَو برودة أَو رُطُوبَة أَو يبوسة فَإِذا مَضَت عَلَيْهِ الْفُصُول الْأَرْبَعَة وَاخْتلفت عَلَيْهِ الأهوية وَلم يزل علم أَنه خلقَة فانظروا كَيفَ يتهيأ أَن يكون كلمة الْخلقَة هَا هُنَا من قبيل مَا يقبل التَّقْسِيم الَّذِي أوردهُ هَذَا الرجل وَهل يُمكن أَن يكون المُرَاد بهَا إِلَّا مَعْنَاهَا الْعرفِيّ الَّذِي شَأْنه الدَّوَام أَو اللُّزُوم فَإِنَّهُم يَقُولُونَ فِيمَا كَانَ من الاوصاف لَازِما لبنية الْإِنْسَان لَا يَنْفَكّ عَنْهَا هَذَا خلقَة وَخلقِي وجبلة وطبع وطبعي أما معنى الْخلقَة فِي أصل الْوَضع الَّذِي يقبل مَا أوردهُ الانقسام فَأَي معنى لَهُ هَا هُنَا وَاعْترض على استشهاد شَيخنَا بقول الْقَائِل عَن فلَان عَن زَوجته فَلم يَطَأهَا وَقَالَ إِنَّمَا فهم ذَلِك من حرف الْفَاء لَا من كَونه مَذْكُورا عَقِيبه وَهَذَا خبط مِنْهُ فَإِنَّهُ لَو لم

(1/125)


@ يكن بِحرف الْفَاء لَكَانَ الْفَهم حَاصِلا فَإِنَّهُ لَو قَالَ عَن فلَان عَن زَوجته وَلم يَطَأهَا حَتَّى فَارقهَا بكرا لفهم الْعَام وَالْخَاص حواله ذَلِك على مَا تقدم من ذكر التعنين وَإِن لم يكن بِحرف الْفَاء وَكَذَا لَيْسَ حرف الْفَاء مَوْجُودا فِي شَوَاهِد ذَلِك مِمَّا حكيناه مِنْهَا عَن من سميناه من الْأَئِمَّة وَمَا لم نحك وَلَعَلَّه اشْتبهَ عَلَيْهِ هَذَا بِبَاب زنا مَاعِز فرجم والبابان مفترقان فَإِن ذَلِك وَقع النّظر فِيهِ فِي أصل سَببه مَا تقدم للمذكور عَقِيبه وَمَا نَحن فِيهِ إِنَّمَا هُوَ نظر فِي تعْيين السَّبَب بعد معرفَة سَبَبِيَّة مَا ذكر وسببية غَيره ثمَّ إِنِّي أَقُول لَا يخفى من حَيْثُ الْإِجْمَال على أحد من الفهماء الْفُقَهَاء أَن مَا تعاطاه من الْأَخْذ الثَّانِي على الْجَواب عَن الأول من جملَة الْعَجَائِب لِأَن ذَلِك الْجَواب كَلَام فَقِيه قد سَاقه مقررا مدلولا عَلَيْهِ فِي قَضِيَّة فقهية مِمَّا سَبيله الظنون وَلَيْسَ من سَبِيل القطعيات وَمَا هَذَا شَأْنه فَلَنْ يُورد عَلَيْهِ أبدا مَا يكون قَاطعا لَا جَوَاب لَهُ بل لَا يزَال الْفَقِيه يُجيب عَن مَا يُورد فِي مثل ذَلِك مقَاما مقَاما مثل مَا هُوَ مَعْهُود فِي مبَاحث الْفُقَهَاء ترى الْمُسْتَدلّ يسْتَدلّ فيورد الْمُعْتَرض عَلَيْهِ مَا إِذا سَمعه الْقَاصِر يَقُول هَذَا قَاطع مفحم لَا جَوَاب عَنهُ حَتَّى إِذا شرع الْمُسْتَدلّ فِي جَوَابه يضمحل شَيْئا فَشَيْئًا فَمَتَى عهد فِي مثل ذَلِك مثل مَا فعله هَذَا الرجل ونسأل الله الْكَرِيم إعزاز الْعلم وَأَهله وإذلال الْجَهْل وَأَهله آمين
فصل وأملى هَذَا الْمَوْصُوف على الشَّيْخ صدر الدّين بن الْبكْرِيّ رفع الله قدره أَخذه على فتيا شَيخنَا فِي مسَائِل سبق بَعْضهَا وَبَقِي مِنْهَا رجل كَانَ لَهُ طاحونة فأحرقها رجل فجابر أجل الْوَالِي إِلَى بَيت أُخْت الَّذِي أحرق فاستنزلها من الْبَيْت حَتَّى يُرِيهم بَيت أَخِيهَا ثمَّ إِنَّهَا طرحت بعد أَيَّام وَمَاتَتْ فَالضَّمَان يلْزم صَاحب الطاحونة أم الراجل فَذكر أَن جَوَاب شَيخنَا فِيهَا لَا يلْزمهُمَا شَيْء إِذا إِذا لم يكن قد وجد من وَاحِد مِنْهُمَا مَا أوجب الطرح وَالْمَوْت من إفزاع أَو غَيره وان وجد ذَلِك وَجب الضَّمَان على من وجد ذَلِك مِنْهُ ثمَّ قَالَ الْأَخْذ أَن الدِّيَة إِنَّمَا تجب فِي هَذَا على الْعَاقِلَة وَله زمَان يُبَالغ فِي الشناعة بِهَذَا وَيَزْعُم أَنه خطأ فَاحش فِي حكم الْمَسْأَلَة وَقد تكَرر من شَيخنَا الْفَتْوَى فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَإِن كَانَ لفظ فتياه فِي بَعْضهَا الَّذِي أنكرهُ غير مُنكر بل هُوَ مَعْرُوف عِنْد أهل الْعلم مَوْجُود فِي كَلَام الْأَئِمَّة

(1/126)


@ وَالدَّلِيل على صِحَّته ظَاهر وكل وَاحِد من هذَيْن الْأَمريْنِ كَاف فِي حَال المشنع
أما دَلِيل صِحَّته فَإِن الدِّيَة فِي ذَلِك وَفِي سَائِر هَذَا الْبَاب يُجيب على الرَّأْي الصحي على الْجَانِي ثمَّ يتحملها عَنهُ عَاقِلَته وَهَذَا مَعْرُوف مُقَرر فِي كتب الْمَذْهَب فحصر الْمُعْتَرض وَقَوله إِنَّمَا يُجيب على الْعَاقِلَة نافيا لوُجُوبهَا على الْجَانِب خطأ فِي فِي مقَام الْأَخْذ ظَاهر وَمن قَالَ تجب على من وجدت مِنْهُ الْجِنَايَة وَلم ينف وُجُوبهَا على عَاقِلَته فقد أصَاب وَالْمَذْكُور من فَتْوَى شَيخنَا هُوَ هَكَذَا لَيْسَ فِيهِ تعرض لتحمل الْعَاقِلَة بِنَفْي وَلَا إِثْبَات
وَمثل هَذَا يحسن إِذا اجْتمع فِي الْحَادِثَة فعل شَخْصَيْنِ أَو أَكثر وَقع النّظر وَالسُّؤَال عَن تعْيين من يكون فعله مِنْهُم هُوَ الْمُوجب للضَّمَان فَلَا بَأْس أَن يُقَال فِي جَوَابه يجب الضَّمَان على الشَّخْص الْفُلَانِيّ مِنْهُم ويقتصر على هَذَا من غير تعرض لتحمل الْعَاقِلَة فَإِن ذَلِك واف بِمَا سُئِلَ عَنهُ من بَيَان مَا تعلق الضَّمَان بِفِعْلِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يبين أَن الضَّمَان يسْتَوْفى من صَاحب الْفِعْل الَّذِي تعلق الضَّمَان بِهِ أَو يسْتَوْفى من عَاقِلَته بتحمله عَنهُ أَو ولي يَنُوب عَنهُ فَإِن ذَلِك من تفاصيله الَّتِي لم يتَوَجَّه نَحْوهَا السُّؤَال وَمَا يجْرِي ذكره لَا فِي مَوْضِعه لسَبَب من الْأَسْبَاب فَإِن الْمُتَكَلّم يمر بِهِ مرا وَلَا يعرج عَن تَفْصِيله واستقصائه فَإِن الْغَرَض حِينَئِذٍ غير ذَلِك فَهُوَ وَاضح لَا غُبَار عَلَيْهِ
وَلنَا أَن الَّذِي أنكرهُ مُسْتَعْمل مَوْجُود فِي كَلَام الْأَئِمَّة فَيقْتَصر فِيهِ على حِكَايَة كَلَام الشَّيْخ أبي إِسْحَاق رَضِي الله عَنهُ فِي الْمُهَذّب فَإِنَّهُ كَاف فِي إِظْهَار قلَّة خبْرَة الرجل وَفِيه غنية عَن التَّطْوِيل بحكاية كَلَام غَيره
قَالَ رَضِي الله عَنهُ فِي مهذبه وَإِن حفر بِئْرا فِي الطَّرِيق وَوضع آخر حجرا فتعثر رجل بِالْحجرِ وَوَقع فِي الْبِئْر فَمَاتَ وَجب الضَّمَان على وَاضع الْحجر وَقَالَ أَيْضا إِن وضع رجل حجرا فِي الطَّرِيق وَوضع آخر حَدِيدَة بِقُرْبِهِ فتعثر رجل بِالْحجرِ وَوَقع على الحديدة فَمَاتَ وَجب الضَّمَان على وَاضع الْحجر فَهَذَا كَلَام هَذَا الإِمَام أضَاف وجوب الضَّمَان إِلَى من وجدت مِنْهُ الْجِنَايَة وَسكت عَن الْعَاقِلَة مَعَ إِنَّه وَاجِب

(1/127)


@ عَلَيْهَا بطرِيق التَّحَمُّل مثل مَا قَالَه أستاذنا سَوَاء وَزَاد الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق على ذَلِك فَأطلق مثل ذَلِك فِي صور لم يجْتَمع فِيهَا فعل شَخْصَيْنِ حَتَّى يَجِيء فِيهَا مَا ذَكرْنَاهُ من الْمَعْنى المحسن للسكون عَن ذكر الْعَاقِلَة فَقَالَ وَإِن حفر بِئْرا فِي طَرِيق النَّاس أَو وضع حجرا أَو طرح فِيهِ مَاء أَو قشر بطيخ فَيهْلك بِهِ إِنْسَان وَجب الضَّمَان عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تعدى بِهِ فضمن من هلك بِهِ فعلى هَذَا مَا شنع بِهِ هَذَا الشَّخْص لَا حق بِهَذَا الإِمَام وَزِيَادَة وَالْكل جَائِز مطْعن فِيهِ لما تقدم بَيَانه وَشَرحه وَللَّه الْحَمد
وَقد كلم بعض أَصْحَابنَا هَذَا الرجل فِي شناعته فِي ذَلِك وأفهمه مَا تقدم ذكره من وجوب الضَّمَان أَولا على الْجَانِي فَلم يرتدع وَلم يخجل وَقَالَ فَهَذَا يُوهم الْعَاميّ أَن الضَّمَان لَا يُؤْخَذ من الْعَاقِلَة وَأَيْنَ يَقع هَذَا من تَقْرِير مَا ادَّعَاهُ على شَيخنَا من الْخَطَأ فِي حكم الْمَسْأَلَة ثمَّ أَنه قد علم أَن الْفَتْوَى فِي هَذِه الْوَاقِعَة وأمثالها الَّتِي يَقع فِيهَا التداعي والتنازع بَين خصمين لَا يرجع إمضاؤها وَالْعَمَل بهَا إِلَى الْعَوام وَإِنَّمَا ذَلِك إِلَى الْقَضَاء يحمل إِلَيْهِم ويسألون الْعَمَل بهَا وهم لَا يخفى عَلَيْهِم تحمل الْعَاقِلَة عَن الْجَانِي الْمَذْكُور وَلَا يخْشَى عَلَيْهِم التَّوَهُّم الَّذِي ذكره وَحسب الْمُتَكَلّم من مفت أَو غَيره أَن يكون كَلَامه فِي نَفسه صَحِيحا وَمَا عَلَيْهِ من توهمات أهل النَّقْص والقصور وَمَا خلا كَلَام أحد من الْمُفْتِينَ والمصنفين وَسَائِر الْمُتَكَلِّمين الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين عَن مثل مَا زَعمه هَذَا الزاعم من غير أَن يلحقهم بِهِ عتب وَطعن ثمَّ إِنِّي أَقُول هَذَا من الْعَجَائِب بَيْنَمَا هُوَ ينْسب شَيخنَا إِلَى أَنه أَخطَأ فِي حكم الْمَسْأَلَة خطأ فَاحِشا إِذْ أرجع أمره إِلَى اسْتِدْرَاك لَفْظِي من جنس المؤاخذات اللفظية الَّتِي كَانَ المبتدئون يردونها قبل سنة الستمائة على فتاوي المستدلين فِي مجَالِس المناظرات ويستخف بهَا أهل التَّحْقِيق فَقدر هَذَا الرجل قدرهَا حَتَّى بلغ بهَا إِلَى أَن جعلهَا عُمْدَة فِي تخطئة الْمُفْتِينَ وتضليلهم وَالله حسيبه وَمِنْهَا قَالَ سُئِلَ عَن كفلا كفلوا بدين على الروس وكفل كل وَاحِد مِمَّا على الآخرين فَأدى أحدهم مَا عَلَيْهِ وَمَا على الآخرين فَهَل يرجع عَلَيْهِم فَزعم هَذَا الرجل أَن شَيخنَا أجَاب بِأَنَّهُ يرجع عَلَيْهِم وَخَطأَهُ من حَيْثُ لم يُقيد إِذا كَانَ الضَّمَان بِإِذن الْمَضْمُون عَنهُ وَقد علم الله تَعَالَى أَن شَيخنَا بَدَأَ من الْفَتْوَى على الصُّورَة الَّتِي زعم وَأما تمسكه بخطئه وَأَنه لَيْسَ فِيهِ ذكر الْقَيْد

(1/128)


@ الْمَذْكُور فَلذَلِك سَبَب نَحن وغيرنا نعرفه جعله الله تَعَالَى فتْنَة لذَلِك الْمِسْكِين وَذَلِكَ أَن أَصْحَاب الْوَاقِعَة استفتوا شَيخنَا وَلم يكن فِي رقْعَة الإستفتاء قيد الْإِذْن وَطلب شَيخنَا مِنْهُم الْوُقُوف على وَثِيقَة الْكفَالَة لينظروا ذَلِك مِنْهَا فأحضروا الْوَثِيقَة فَوجدَ فِيهَا الْإِذْن فَقَالَ أصلحوا الاستفتاء وَقَالَ زيدوا فِيهِ ذكر الْإِذْن وَقَالَ لصَاحبه الْفَقِيه الإِمَام السَّيِّد الْجَلِيل كَمَال الدّين إِسْحَاق افْعَل ذَلِك وَكتب شَيخنَا لَهُ الرُّجُوع وَالْحَالة هَذِه إِشَارَة مِنْهُ إِلَى حَالَة الْإِذْن الَّتِي قَالَ لَهُ اذْكُرْهَا فبينها الْفَقِيه كَمَال الدّين إِسْحَاق عَن ذكر ذَلِك وزيادته فِي صدر الاستفتاء وَنحن كُنَّا حاضرين مَا جرى على الصُّورَة الَّتِي حكيتها ونعلم أَيْضا أَن أَصْحَاب الْوَاقِعَة وَفِيهِمْ شَاب من بني القواس وَيعلم ذَلِك من كَانَ حَاضرا من الْفُقَهَاء وهم حاضرون يشْهدُونَ بجريان الْأَمر على ذَلِك ثمَّ ظَاهر الْحَال شَاهد بذلك أَيْضا فَإِن هَذَا الْأَمر من الواضحات وَهُوَ مسطور فِي التَّنْبِيه فضلا عَن غَيره ويعرفه المبتدئون فضلا عَن مثل شَيخنَا وَمَا هُوَ مَعْرُوف بِهِ من التأني والتثبت فِي غَفلَة صدرت مِنْهُ عَن عجلة ونسأل الله التَّوْفِيق والعصمة
وَمِنْهَا امْرَأَة مَاتَت وخلفت وَرَثَة بَعضهم فُقَرَاء وأوصت أَن تخرج عَنْهَا حجَّة وخلفت خمس مائَة دِرْهَم فَهَل تحج عَنْهَا أَو يصرف إِلَى الْفُقَرَاء من ورثتها فَزعم أَنه فِي جَوَاب شَيخنَا إِن كَانَت حجَّة فرض فَهِيَ مُقَدّمَة من رَأس المَال وَقَالَ الْأَخْذ أَنَّهَا غير مُقَدّمَة من رَأس المَال بل يجب التَّفْصِيل أَنه إِن كَانَت الْحجَّة من الْمِيقَات أَو من دويرة أَهله هَذَا كَلَامه الَّذِي أملاه على الشَّيْخ صدر الدّين وَفقه الله تَعَالَى وَكتب بِخَطِّهِ وَهُوَ كَلَام رجل يتَصَرَّف فِي الْأَحْكَام من عِنْده هَذِه الْمَسْأَلَة مسطورة فِيمَا لَا نحصيه من كتب الْفِقْه على الْوَجْه الَّذِي ذكر أستاذنا قَالُوا إِذا وصّى بِحجَّة الْإِسْلَام وَأطلق حسب من رَأس المَال على الْمَذْهَب أَو على الْأَصَح وَنَحْو هَذَا من الْعِبَادَات وَلم يلتزموا التَّفْصِيل الَّذِي يزْعم هَذَا الرجل أَنه لَازم وَمَا زَالَ الْفُقَهَاء يتناطقون بذلك كَذَلِك فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَفِيمَا حكمه فِي ذَلِك حكمهَا من الْمسَائِل
وَسبب ذَلِك أَن الْكَلَام فِي ذَلِك يَقع فِي نفس حكم الْحَج فيذكر الحكم

(1/129)


@ مُضَافا إِلَى مُسَمّى الْحَج وَأما التَّعَرُّض لكَونه من الْمِيقَات أَو من بَلَده فَأمر زَائِد يفردونه بِمَسْأَلَة أُخْرَى على أَنا نقُول قَول الْقَائِل إِذا كَانَ حجَّة الْإِسْلَام أَو حجَّة الْفَرْض فَهِيَ من رَأس المَال حَتَّى يتَوَجَّه مَا ذكره الْمُعْتَرض لِأَن الْحَج وَغَيره إِذا ذكر مُطلقًا فَهُوَ مَحْمُول فِي كيفيته على الْقدر الْوَاجِب مِنْهُ دون مَا هُوَ نَافِلَة فِيهِ فَإِذا قيل يجب عَلَيْك الْحَج وَالصَّلَاة أَو غَيرهمَا فَلَا يفهم مِنْهُ سوى مَا ذَكرْنَاهُ وَإِذا كَانَ ذَلِك كَذَلِك فقولنا حجَّة الْإِسْلَام مُقَدّمَة من رَأس المَال مَحْمُول على مَا هُوَ من الْمِيقَات فَهُوَ إِذا الْمَفْهُوم وَهُوَ المُرَاد ونسأل الله تَعَالَى بُلُوغ المُرَاد وليختم عِنْد هَذَا الْمُنْتَهى خوفًا من مَحْذُور التَّطْوِيل والإملال وَقد كَانَ فِي مَسْأَلَتَيْنِ أَو مسَائِل مِنْهُ غنية
ونسأل الله سُبْحَانَهُ أَن لَا يحرمنا ثَوَاب الذب عَن الْعلم وَأَهله وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن الصّلاح لم سمى الْغَزالِيّ بذلك فَقَالَ حَدثنِي من أَثِق بِهِ عَن الشَّيْخ أَي الجرم الماكشي الأديب قَالَ حَدثنِي أَبُو الثَّنَاء مَحْمُود القرصي قَالَ حَدثنَا تَاج الاسلام ابْن خَمِيس قَالَ قَالَ لي الْغَزالِيّ رَحمَه الله النَّاس يَقُولُونَ الْغَزالِيّ وَلست الْغَزالِيّ وَإِنَّمَا أَنا مَنْسُوب إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا غزالة وَهِي قَرْيَة من قرى طوس وَالْحَمْد لله الْكَرِيم وَحده
عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله عز وَجل يبْعَث لهَذِهِ الْأمة على رَأس كل مائَة سنة من يجدد لَهَا دينهَا
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه ثمَّ ذكر بِإِسْنَادِهِ عَن الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله وَغَيره أَنه كَانَ فِي الْمِائَة الأولى عمر بن عبد الْعَزِيز وَفِي الثَّانِيَة الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ وَعَن غير أَحْمد وَكَانَ على رَأس الْمِائَة الثَّالِثَة أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ وَقَالَ بَعضهم بل هُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن عمر بن شُرَيْح الْفَقِيه وَكَانَ على رَأس الْمِائَة الرَّابِعَة ابْن الباقلاني القَاضِي أَبُو بكر وَقيل أَبُو الطّيب سهل بن مُحَمَّد الصعلوكي وَكَانَ على رَأس الْمِائَة الْخَامِسَة أَمِير الْمُؤمنِينَ المسترشد بِاللَّه قَالَ الْحَافِظ بن عَسَاكِر رَحمَه الله وَعِنْدِي أَن الَّذِي كَانَ على رَأس الْخمس مائَة

(1/130)


@ الإِمَام أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْغَزالِيّ الطوسي الْفَقِيه لِأَنَّهُ كَانَ عَالما فَقِيها فَاضلا أصوليا كَامِلا مصنفا عَاقِلا انْتَشَر ذكره بِالْعلمِ فِي الْآفَاق وبرز على من عاصره بخراسان وَالشَّام وَالْعراق
قَالَ رَحمَه الله وَقَول من قَالَ على رَأس الثَّلَاث مائَة أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ أصوب لِأَن قِيَامه بنصرة السّنة إِلَى تَجْدِيد الدّين أقرب فَهُوَ الَّذِي انتدب للرَّدّ على الْمُعْتَزلَة وَسَائِر أَصْنَاف المبتدعة المضللة وحالته فِي ذَلِك مشتهرة وَكتبه فِي الرَّد عَلَيْهِم مَشْهُورَة مشتهرة وَقَول من قَالَ العَاصِي بن الباقلاني على رَأس الْأَرْبَع مائَة أولى من الثَّانِي لِأَنَّهُ أشهر من أبي الطّيب الصعلوكي مَكَانا وَأَعْلَى فِي رتب الْعلم شَأْنًا وَذكره أكبر من أَن يُنكر وَقدره أظهر من أَن يستر وتصانيفه أشهر من أَن تشهر وتآليفه أَكثر من أَن تذكر فَأَما عمر بن عبد الْعَزِيز بن مَرْوَان بن الحكم بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة بن عبد شمس فَكَانَت وَفَاته رَضِي الله عَنهُ لأَرْبَع بَقينَ من رَجَب سنة إِحْدَى وَمِائَة وَهُوَ ابْن تسع وَثَلَاثِينَ سنة وَنصف وَقيل توفّي يَوْم الْجُمُعَة لخمس بَقينَ من رَجَب وقبره بدير سمْعَان وَكَانَت ولَايَته سنتَيْن وَخَمْسَة أشهر وَخَمْسَة أَيَّام وَأما الشَّافِعِي فَكَانَت وَفَاته فِي آخر رَجَب سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَأما الْحسن الْأَشْعَرِيّ فَكَانَت وَفَاته بِبَغْدَاد سنة أَربع وَعشْرين وَثَلَاث مائَة وَقيل سنة عشْرين وَثَلَاثَة مائَة وَقيل سنة ثَلَاثِينَ وَقيل سنة نَيف وَثَلَاثِينَ وثلثمائة قَالَ وَهَذَا القَوْل الْأَخير لَا أرَاهُ صَحِيحا وَالأَصَح سنة أَربع وَعشْرين وَأما وَفَاة ابْن الباقلاني فَكَانَت يَوْم السبت لسبع بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَأَرْبع مائَة وَأما وَفَاة أبي حَامِد الْغَزالِيّ فَكَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ الرَّابِع عشر من جمادي الْآخِرَة سنة خمس وَخمْس مائَة وَذكر الْحَافِظ بن عَسَاكِر رَحمَه الله ذَلِك بأسانيده رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ نقل من نُسْخَة صورته كَذَا نقل من نُسْخَة ذكر كاتبها أَنه نقلهَا من نُسْخَة كتاب تَبْيِين كذب المفتري فِيمَا نسب إِلَى الْأَشْعَرِيّ
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام مُطلقًا ذُو الْفُنُون وَالتَّحْقِيق فِيهَا تَقِيّ الدّين أَبُو عمر وَعُثْمَان عبد الرَّحْمَن النصري الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح رَحمَه الله فِي إِسْنَاد طَرِيقَته فِي

(1/131)


@ النَّفَقَة أما طَريقَة الخراسانين فَإِنِّي تفقهت على أبي رَحمَه الله وتفقه هوشيا على شيخ الْمَذْهَب فِي زَمَانه أبي الْقِسْمَة بن البرزي الْجَزرِي بِجَزِيرَة ابْن عمر وتفقه ابْن البرزي على الإِمَام أبي الْحسن الكيا الطَّبَرِيّ وتفقه الكيا على إِمَام الْحَرَمَيْنِ أبي الْمَعَالِي وتفقه أَبُو الْمَعَالِي على وَالِده الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وتفقه أَبُو مُحَمَّد على الإِمَام أبي بكر الْقفال الْمروزِي وتفقه الْقفال على أبي زيد الْمروزِي وتفقه أَبُو زيد على أبي إِسْحَاق الْمروزِي وتفقه أَبُو اسحاق على أبي الْعَبَّاس بن سُرَيج وتفقه ابْن سُرَيج على أبي الْقسم الْأنمَاطِي وتفقه الْأنمَاطِي عَليّ أبي إِبْرَاهِيم الْمُزنِيّ وتفقه الْمُزنِيّ على الإِمَام الشَّافِعِي رَضِي الله عَنْهُم
وَأما طَريقَة الْعِرَاقِيّين فَإِنِّي تفقهت على وَالِدي كَمَا سبق وتفقه هُوَ على الشَّيْخ المعمراني سعد بن أبي عصرون الْموصِلِي وتفقه أَبُو سعد على القَاضِي أبي عَليّ الغارقي وتفقه القَاضِي أَبُو عَليّ على الشَّيْخ أبي اسحاق الشِّيرَازِيّ وعَلى أبي نصر بن الصّباغ صَاحب الشَّامِل وتفقها على القَاضِي الإِمَام أبي الطّيب الطَّبَرِيّ وتفقه أَبُو الطّيب على أبي الْحسن الماسرخسي وتفقه الماسرخسي على أبي اسحاق الْمروزِي وَقد تقدم ذكر إِسْنَاده بالتفقه وَالله أعلم
صُورَة استفتاء جَاءَ إِلَى الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة الْحَافِظ تَقِيّ الدّين أبي عَمْرو عُثْمَان الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح مُصَنف هَذَا الْكتاب رَحمَه الله مَا تَقول السَّادة الْفُقَهَاء فِي رجل قيل لَهُ هَل مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْآن رَسُول أم لَا فَقَالَ كَانَ مُرْسلا وَنحن الْآن فِي حكم الرسَالَة الْمُتَقَدّمَة وَلَيْسَ هُوَ فِي زَمَاننَا هَذَا مُرْسلا فَهَذَا صَوَاب أم خطأ أفتونا مَأْجُورِينَ مشكورين
أجَاب رَضِي الله عَنهُ هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَسُول الله الْآن وَمن حَيْثُ أرسل وَهُوَ جَزَاء وَلَا يتَوَقَّف وَصفه بذلك على قيام مَا بِهِ اتّصف من الِابْتِدَاء بِهَذِهِ الصّفة كَمَا فِي أَحْوَال كَثِيرَة كَانَت لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن لَهُ ذَلِك فِيهَا ثمَّ كَانَ مَوْصُوفا بِهَذِهِ الصّفة
والأنبياء أَحيَاء بعد انقلابهم إِلَى الْآخِرَة من الدُّنْيَا فليحذر الْمَرْء من أَن يُطلق لِسَانه فِي نفي ذَلِك عَنهُ الْآن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ من عَظِيم الْخَطَأ وَقد كَانَت الكرامية شنعت

(1/132)


@ بخراسان على الْأَشْعَرِيّ بِمثل هَذَا فَبين أَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ والقشيري وَغَيرهمَا بَرَاءَته من ذَلِك ثمَّ أشغل الْمَرْء قلبه وَلسَانه بِمثل هَذَا من الفضول المجانب للفضل والورع وَالله أعلم
وَكتب ابْن الصّلاح ثمَّ
وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد نَبِي الرَّحْمَة وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا مُبَارَكًا طيبا دَائِما إِلَى يَوْم الدّين وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
بلغ مُقَابلَة بِحَسب الطَّاقَة والإمكان وَالله أعلم

(1/133)


@
فتاوي ومسائل
ابْن الصّلاح
فِي التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْأُصُول وَالْفِقْه
وَمَعَهُ
أدب الْمُفْتِي والمستفتي
حَقَّقَهُ وَخرج حَدِيثه وعلق عَلَيْهِ
الدكتور عبد الْمُعْطِي امين قلعجي

(1/135)


@ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَهُوَ حسبي وَكفى
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالْعَاقبَة لِلْمُتقين وَلَا عدوان إِلَّا على الظَّالِمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام الأكملان أبدا على سيد الْمُرْسلين وَسَائِر النَّبِيين وآلهم وصحبهم أَجْمَعِينَ اللَّهُمَّ ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أَنْفُسنَا وَمن شَرّ الأشرار وَكيد الْفجار وارزقنا طَهَارَة الْأَسْرَار وموافقة الْأَبْرَار وأعذنا من عَذَاب النَّار بِرَحْمَتك يَا عَزِيز يَا غفار
هَذِه الفتاوي الَّتِي صدرت من شَيخنَا سيدنَا الإِمَام الْعَالم الْعَامِل مفتي الشَّام شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين أبي عَمْرو عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان ابْن مُوسَى بن أبي نصر الْبَصْرِيّ الشهرزوري الْمَعْرُوف بِابْن الصّلاح أثابه الله الْجنَّة وَغفر لَهُ وَلَهُم وللمسلمين أَجْمَعِينَ آمين اعتنى بجمعها وترتيبها على حسب الْإِمْكَان من تلامذته وَأَصْحَابه من طلب

(1/137)


@ الْفَائِدَة ورجاء الْأجر والمثوبة الشَّيْخ كَمَال الدّين إِسْحَق بن أَحْمد بن عُثْمَان عَفا الله عَنهُ وَعَن وَالِده وَعَن جَمِيع الْمُسلمين آمين وأسأل الله عز وَجل أَن ينفع بهَا إِنَّه قريب مُجيب وعَلى ذَلِك قدير وَمَا توفيقي إِلَّا بِاللَّه عَلَيْهِ توكلت واليه أنيب
رتبتها على أَرْبَعَة أَقسَام
قسم فِي شرح آيَات من كتاب الله تَعَالَى
وَقسم فِي شرح أَحَادِيث عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا يتَعَلَّق بهَا من الرَّقَائِق
وَقسم ثَالِث يُطلق بالعقائد وَالْأُصُول
وَقسم رَابِع فِي الْفِقْه على ترتيبه

(1/138)