كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار

عَطاء الذّكر هُوَ مجَالِس الْحَلَال وَالْحرَام. كَيفَ تشتري كَيفَ تبيع وَتصلي، وتصوم وتحج، وَتنْكح وَتطلق وَأَشْبَاه ذَلِك، وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة. لم يُعْط أحد بعد النُّبُوَّة أفضل من الْعلم وَالْفِقْه فِي الدّين وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو ذَر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا بَاب من الْعلم نتعلمه أحب إِلَيْنَا من ألف رَكْعَة تَطَوّعا، وَقَالَ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لمَوْت ألف عَابِد قَائِم اللَّيْل صَائِم النَّهَار أَهْون من موت الْعَالم الْبَصِير بحلال الله تَعَالَى وَحَرَامه، والآيات وَالْأَخْبَار والْآثَار فِي ذَلِك كَثِيرَة.
فَإِذا كَانَ الْفِقْه بِهَذِهِ الْمرتبَة الشَّرِيفَة. والمزايا المنيفه. كَانَ الاهتمام بِهِ فِي الدرجَة الأولى. وَصرف الْأَوْقَات النفيسة بل كل الْعُمر فِيهِ أولى، لِأَن سَبيله سَبِيل الْجنَّة. وَالْعَمَل بِهِ حرز من الْمنَار وجنة، وَهَذَا لمن طلبه للتفقه فِي الدّين على سَبِيل النجَاة لقصد الترفع على الأقران وَالْمَال والجاه، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " من تعلم علما مِمَّا يبتغى بِهِ وَجه الله تَعَالَى لَا يتعلمه إِلَّا ليصيب بِهِ غَرضا من الدُّنْيَا لم يجد عرف الْجنَّة يَوْم الْقِيَامَة "، وَقَالَ عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام: " من طلب الْعلم ليماري بِهِ السُّفَهَاء أَو يكاثر بِهِ الْعلمَاء أَو يصرف وُجُوه النَّاس إِلَيْهِ فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " ورد من رِوَايَة كَعْب بن مَالك وَقَالَ: " أدخلهُ الله النَّار " عَافَانَا الله الْكَرِيم من ذَلِك.
اعْلَم أَن طلاب الْعلم مُخْتَلفُونَ باخْتلَاف مقاصدهم، وهممهم مُخْتَلفَة باخْتلَاف مَرَاتِبهمْ فَهَذَا يطْلب الغوص فِي الْبَحْر وَنَحْوه لنيل الدُّرَر الْكِبَار، وَهَذَا يقنع بِمَا يجد فِي غَايَة الِاخْتِصَار، ثمَّ هَذَا القانع صنفان: أَحدهمَا ذُو عِيَال قد غَلبه الكد، وَالْآخر مُتَوَجّه إِلَى الله تَعَالَى بِصدق وجد. فَلَا الأول يقدر على مُلَازمَة الْخلق، والسالك مَشْغُول بِمَا هُوَ بصدده لَيْلَة ونهاره مَعَ نَفسه فِي قلق، فَأَرَدْت رَاحَة كل مِنْهُمَا بِبَقَاء مَا هُوَ عَلَيْهِ وَترك سعى كل مِنْهُمَا فِيمَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ وَأَرْجُو من الله الْعَزِيز الْقَدِير. تسهيل مَا يحصل بِعْ الْإِيضَاح والتيسير. فَإِنَّهُ رَجَاء الراجين. وَجَابِر الضُّعَفَاء والمنكسرين، ووسمت كتابي هَذَا ب (كِفَايَة الأخيار، فِي حل غَايَة الإختصار) وأسأل الله الْعَظِيم الْغفار. الْعَفو عني وَعَن أحبابي من مكره وغضبه وَعَذَاب النَّار، إِن على مَا يَشَاء قدير، وبالإيجابة جدير. قَالَ الشَّيْخ {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين} [الْحَمد] هُوَ الثَّنَاء على الله تَعَالَى بجميل صِفَاته الذاتية وَغَيرهَا، وَالشَّر هُوَ الثَّنَاء عَلَيْهِ بإنعامه، وَلِهَذَا يحسن أَن تَقول حمدت فلَانا على علمه وسخائه وَلَا تَقول شكرته على علمه، فَكل شكر حمد وَلَيْسَ كل حمد شكرا، وَقيل غير ذَلِك (لله) اللَّام فِي الِاسْم الْكَرِيم للاستحقاق مَا تَقول الدَّار لزيد، وأضيف الْحَمد إِلَى هَذَا الِاسْم الْكَرِيم دون بَقِيَّة الْأَسْمَاء لِأَنَّهُ اسْم ذَات وَلَيْسَ بمشتق، والمحققون على أَنه مُشْتَقّ [رب الْعَالمين] الرب يكون

(1/8)


بِمَعْنى الْمَالِك وَيكون بِمَعْنى التربية والإصلاح، لهَذَا يُقَال ربى فلَان الضَّيْعَة: أَي أصلحها فَالله تَعَالَى مَالك الْعَالمين ومربيهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْعَالمِينَ جمع عَالم لَا وَاحِد لَهُ من لفظ، وَاخْتلف الْعلمَاء فيهم فَقيل هم الْإِنْس وَالْجِنّ قَالَه ابْن عَبَّاس، وَقيل جَمِيع المخلوقين. قَالَه قَتَادَة وَالْحسن وَمُجاهد. قَالَ: (وَصلى الله على مُحَمَّد خَاتم النَّبِيين وعَلى آله وَأَصْحَابه أَجْمَعِينَ)
الصَّلَاة من الله الرَّحْمَة، وَمن الْمَلَائِكَة الاسْتِغْفَار وَمن الْآدَمِيّ تضرع وَدُعَاء، وَسمي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّدًا لِكَثْرَة خصاله المحمودة، وَاخْتلف فِي الْآل فَقيل هم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَقيل هم عترته وَأهل بَيته، وَقيل آله جَمِيع أمته وَاخْتَارَهُ جمع من الْمُحَقِّقين وَمِنْهُم الْأَزْهَرِي [وَالْأَصْحَاب] جمع صَاحب، وَهُوَ كل مُسلم رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَصَحبه وَلَو سَاعَة، وَقيل من طَالَتْ صحبته ومجالسته، وَالْأول هُوَ الرَّاجِح عِنْد الْمُحدثين، وَالثَّانِي هُوَ الرَّاجِح عِنْد الأصولين. قَالَ الشَّيْخ: (سَأَلَني بعض أصدقائي حفظهم الله تَعَالَى أَن أعمل مُخْتَصرا فِي الْفِقْه على مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي فِي غَايَة الإختصار وَنِهَايَة الإيجاز يخف على الطَّالِب فهمه ويسهل على الْمُبْتَدِئ حفظه وَأَن أَكثر فِيهِ من التقسيمات وَحصر الْخِصَال فأجبته إِلَى ذَلِك طَالبا للثَّواب. رَاغِبًا إِلَى الله سُبْحَانَهُ فِي التَّوْفِيق للصَّوَاب. إِنَّه على مَا يَشَاء قدير. وبعبادة خَبِير بَصِير) [الْمُخْتَصر] مَا قل لَفظه وَكَثُرت مَعَانِيه، و [مَذْهَب الشَّافِعِي] طَرِيقَته، وَالشَّافِعِيّ مَنْسُوب إِلَى جده شَافِع، وكنيته أَبُو عبد الله، واسْمه مُحَمَّد بن إِدْرِيس بن الْعَبَّاس بن عُثْمَان بن شَافِع بن السَّائِب بن عبيد بن يزِيد بن هَاشم بن الْمطلب بن عبد منَاف، ويلتقي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عبد منَاف، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف، وَالنِّسْبَة الصَّحِيحَة إِلَيْهِ شَافِعِيّ، وشفعوي لحن، وَغَايَة الشَّيْء مَعْنَاهَا ترَتّب الْأَثر على ذَلِك الشَّيْء كَمَا تَقول غَايَة البيع الصَّحِيح حل الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ، و [غَايَة] الصَّلَاة الصَّحِيحَة إجزاؤها وَعدم الْقَضَاء، وَالْمرَاد هُنَا نِهَايَة وجازة اللَّفْظ، و [التَّوْفِيق] هُوَ خلق قدرَة الطَّاعَة بِخِلَاف الخذلان فَإِنَّهُ خلق قدرَة الْمعْصِيَة، و [الصَّوَاب] ضد الْخَطَأ وَالله أعلم.

(1/9)


كتاب الطَّهَارَة الْكتاب مُشْتَقّ من الْكتب وَهُوَ الضَّم وَالْجمع يُقَال تكْتب بَنو فلَان إِذا اجْتَمعُوا وَمِنْه كَتِيبَة الرمل وَالطَّهَارَة فِي اللُّغَة النَّظَافَة تَقول طهرت الثَّوْب أَي نظفته وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن رفع الْحَدث أَو إِزَالَة النَّجس أَو مَا فِي مَعْنَاهُمَا أَو على صورتهما كالغسلة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة والأغسال المسنونة وتجديد الْوضُوء وَالتَّيَمُّم وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يرفع حَدثا وَلَا يزِيل نجسا وَلكنه فِي مَعْنَاهُ قَالَ
أَنْوَاع الْمِيَاه
(الْمِيَاه الَّتِي يجوز بهَا التَّطْهِير سبع مياه مَاء السَّمَاء وَمَاء الْبَحْر وَمَاء النَّهر وَمَاء الْبِئْر وَمَاء الْعين وَمَاء الثَّلج وَمَاء الْبرد) الأَصْل فِي مَاء السَّمَاء قَوْله تَعَالَى {وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء مَاء ليطهركم بِهِ} وَغَيرهَا وَفِي مَاء الْبَحْر قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سُئِلَ عَن مَاء الْبَحْر فَقَالَ
(هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته) وَفِي مَاء الْبِئْر حَدِيث سهل رَضِي الله عَنهُ (قَالُوا يَا رَسُول الله إِنَّك تتوضأ من بِئْر بضَاعَة وفيهَا مَا يُنجي النَّاس وَالْحَائِض وَالْجنب فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (المَاء طهُور لَا يُنجسهُ شىء) وَمَاء

(1/11)


النَّهر وَمَاء الْعين فِي مَعْنَاهُ وَأما مَاء الثَّلج وَمَاء الْبرد فَالْأَصْل فِيهِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ واسْمه عبد الرَّحْمَن بن صَخْر على الْأَصَح قَالَ
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كبر فِي الصَّلَاة سكت هنيه قبل أَن يقْرَأ فَقلت يَا رَسُول الله مَا تَقول قَالَ أَقُول اللَّهُمَّ باعد بيني وَبَين خطاياي كَمَا باعدت بَين الْمشرق وَالْمغْرب اللَّهُمَّ نقني من خطاياي كَمَا ينقى الثَّوْب الْأَبْيَض من الدنس اللَّهُمَّ اغسلني من خطاياي بِمَاء الثَّلج وَالْبرد) قَالَ
بَاب أَقسَام الْمِيَاه
(ثمَّ الْمِيَاه على أَرْبَعَة أَقسَام طَاهِر مطهر غير مَكْرُوه وَهُوَ المَاء الْمُطلق) المَاء الَّذِي يرفع الْحَدث ويزيل النَّجس هُوَ المَاء الْمُطلق وَاخْتلف فِي حَده فَقيل هُوَ العاري عَن الْقُيُود وَالْإِضَافَة اللَّازِمَة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الرَّوْضَة وَالْمُحَرر وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فَقَوله عَن الْقُيُود خرج بِهِ مثل قَوْله تَعَالَى {من مَاء مهين} {من مَاء دافق} وَقَوله الْإِضَافَة اللَّازِمَة خرج بِهِ مثل مَاء الْورْد وَنَحْوه وَاحْترز بِالْإِضَافَة الْإِضَافَة غير اللَّازِمَة كَمَاء النَّهر وَنَحْوه فَإِنَّهُ لَا تخرجه هَذِه الْإِضَافَة عَن كَونه يرفع الْحَدث ويزيل النَّجس لبَقَاء الْإِطْلَاق عَلَيْهِ وَقيل المَاء الْمُطلق هُوَ الْبَاقِي على وصف خلقته وَقيل مَا يُسمى مَاء وَسمي مُطلقًا لِأَن المَاء إِذا أطلق انْصَرف إِلَيْهِ وَهَذَا مَا ذكره ابْن الصّلاح وَتَبعهُ النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ
(وطاهر مطهر مَكْرُوه وَهُوَ المَاء المشمس) هَذَا هُوَ الْقسم الثَّانِي من أَقسَام المَاء وَهُوَ المشمس وَهُوَ طَاهِر فِي نَفسه لم يلق نَجَاسَة ومطهر أَي يرفع الْحَدث ويزيل النَّجس لبَقَاء إِطْلَاق اسْم المَاء عَلَيْهِ وَهل يكره فِيهِ الْخلاف الْأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه يكره وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ المُصَنّف وَاحْتج لَهُ الرَّافِعِيّ بِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(نهى عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن المشمس وَقَالَ إِنَّه يُورث البرص وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(من اغْتسل بِمَاء مشمس فَأَصَابَهُ وضح فَلَا يَلُومن إِلَّا نَفسه) وَكَرِهَهُ عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَالَ إِنَّه يُورث البرص فعلى هَذَا إِنَّمَا يكره المشمس بِشَرْطَيْنِ

(1/12)


أَحدهمَا أَن يكون التشميس فِي الْأَوَانِي المنطبعة كالنحاس وَالْحَدِيد والرصاص لِأَن الشَّمْس إِذا أثرت فِيهَا خرج مِنْهَا زهومة تعلو على وَجه المَاء وَمِنْهَا يتَوَلَّد البرص وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِك فِي إِنَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة لصفاء جوهرهما لكنه يحرم استعمالهما على مَا يَأْتِي ذكره فَلَو صب المَاء المشمس من إِنَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة فِي إِنَاء مُبَاح لَا يكره لفقد الزهومة وَكَذَا لَا يكره فِي أواني الخزف وَغَيرهَا لفقد الْعلَّة الشَّرْط الثَّانِي أَن يَقع التشميس فِي الْبِلَاد الشَّدِيدَة الْحَرَارَة دون الْبَارِدَة والمعتدلة فَإِن تَأْثِير الشَّمْس فيهمَا ضَعِيف وَلَا فرق بَين أَن يقْصد التشميس أم لَا لوُجُود الْمَحْذُور وَلَا يكره المشمس فِي الْحِيَاض والبرك بِلَا خلاف وَهل الْكَرَاهَة شَرْعِيَّة أَو إرشادية فِيهَا وَجْهَان أصَحهمَا فِي شرح الْمُهَذّب أَنَّهَا شَرْعِيَّة فعلى هَذَا يُثَاب على ترك اسْتِعْمَاله وعَلى الثَّانِي وَهِي أَنَّهَا إرشادية لَا يُثَاب فِيهَا لِأَنَّهَا من وجهة الطِّبّ وَقيل إِن المشمس لَا يكره مُطلقًا وَعَزاهُ الرَّافِعِيّ إِلَى الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَهُوَ الرَّاجِع من حَيْثُ الدَّلِيل وَهُوَ مَذْهَب أَكثر الْعلمَاء وَلَيْسَ للكراهية دَلِيل يعْتَمد وَإِذا قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ فَهِيَ كَرَاهَة تَنْزِيه لَا تمنع صِحَة الطَّهَارَة وَيخْتَص اسْتِعْمَاله بِالْبدنِ وتزول بالتبريد على الْأَصَح وَفِي الثَّالِث يُرَاجع الْأَطِبَّاء وَالله أعلم انْتهى وَمَا صَححهُ من زَوَال الْكَرَاهِيَة بالتبريد قد صحّح الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير بقاءها وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب الصَّوَاب أَنه لَا يكره وَحَدِيث عَائِشَة هَذَا ضَعِيف بِاتِّفَاق الْمُحدثين وَمِنْهُم من جعله مَوْضُوعا وَكَذَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن عَمْرو الْخطاب أَنه يُورث البرص ضَعِيف لِاتِّفَاق الْمُحدثين على تَضْعِيف إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد وَحَدِيث ابْن عَبَّاس غير مَعْرُوف وَالله أعلم وَمَا ذكره من أثر عمر رَضِي الله عَنهُ فَمَمْنُوع ودعواه الِاتِّفَاق على تَضْعِيف إِبْرَاهِيم أحد الروَاة غير مُسلم فَإِن الشَّافِعِي وَثَّقَهُ وَفِي تَوْثِيق الشَّافِعِي كِفَايَة وَقد وَثَّقَهُ غير وَاحِد من الْحفاظ وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد آخر صَحِيح قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَيكرهُ شَدِيد الْحَرَارَة والبرودة وَالله أعلم وَالْعلَّة فِيهِ عدم الإسباغ وَقَالَ فِي آبار ثَمُود إِنَّه مَنْهِيّ عَنْهَا فَأَقل الْمَرَاتِب أَنه يكره اسْتِعْمَالهَا قَالَ
(وطاهر غير مطهر وَهُوَ المَاء الْمُسْتَعْمل)

(1/13)


هَذَا هُوَ الْقسم الثَّالِث من أَقسَام المَاء وَهُوَ المَاء الْمُسْتَعْمل فِي رفع الْحَدث أَو إِزَالَة النَّجس إِذا لم يتَغَيَّر وَلَا زَاد وَزنه فَهُوَ طَاهِر لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(خلق الله المَاء طهُورا لاينجسه شَيْء إِلَّا مَا غير طعمه أَو رِيحه) وَفِي رِوَايَة
(أَو لَونه) وَهُوَ ضَعِيف وَالثَّابِت
(طعمه أَو رِيحه) فَقَط وَهل هُوَ طهُور يرفع الْحَدث ويزيل النَّجس أَيْضا فِيهِ خلاف الْمَذْهَب أَنه غير طهُور لِأَن الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم مَعَ شدَّة اعتنائهم بِالدّينِ مَا كَانُوا يجمعونه ليتوضؤوا بِهِ ثَانِيًا وَلَو كَانَ ذَلِك سائغاً لفعلوه وَاخْتلف الْأَصْحَاب فِي عِلّة منع اسْتِعْمَاله ثَانِيًا وَالصَّحِيح أَنه تأدى بِهِ فرض وَقيل إِنَّه تأدى بِهِ عبَادَة وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي صُورَتَيْنِ الأولى فِيمَا اسْتعْمل فِي نفل الطَّهَارَة كتجديد الْوضُوء والأغسال المسنونة والغسلة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة فعلى الصَّحِيح يكون المَاء طهُورا لِأَنَّهُ لم يتأد بِهِ فرض وعَلى الضَّعِيف لَا يكون طهُورا لِأَنَّهُ تأدى بِهِ عبَادَة وَلَا خلاف أَن مَاء الرَّابِعَة طهُور على العلتين لِأَنَّهُ لم يتأد بِهِ فرض وَلَا هِيَ مَشْرُوعَة والغسلة الأولى غير طهُور على العلتين لتأدى الْفَرْض وَالْعِبَادَة بِمَائِهَا الصُّورَة الثَّانِيَة المَاء الَّذِي اغْتَسَلت بِهِ الْكِتَابِيَّة عَن الْحيض لتحل لزَوجهَا الْمُسلم هَل هُوَ طهُور يَنْبَنِي على أَنَّهَا لَو أسلمت هَل يلْزمهَا إِعَادَة الْغسْل فِيهِ خلاف إِن قُلْنَا لَا يلْزمهَا فَهُوَ غير طهُور وَإِن قُلْنَا يلْزمهَا إِعَادَة الْغسْل وَهُوَ الصَّحِيح فَفِي المَاء الَّذِي استعملته حَال الْكفْر وَجْهَان بينان على العلتين إِن قُلْنَا إِن الْعلَّة تأدى الْفَرْض فالماء غير طهُور وَإِن قُلْنَا إِن الْعلَّة تأدى الْعِبَادَة فَهُوَ طهُور لِأَن الْكَافِرَة لَيست من أهل الْعِبَادَة وَاعْلَم أَن الزَّوْجَة الْمَجْنُونَة إِذا حَاضَت وغسلها زَوجهَا حكمهَا حكم الْكَافِرَة فِيمَا ذَكرْنَاهُ وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة ذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي صفة الْوضُوء وأسقطها النَّوَوِيّ من الرَّوْضَة وَاعْلَم أَن المَاء الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ الصَّبِي غير طهُور وَكَذَا المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ المنتفل وَكَذَا من لَا يعْتَقد وجوب النِّيَّة على الصَّحِيح فِي الْجَمِيع ثمَّ مَا دَامَ المَاء متردداً على الْعُضْو لَا يثبت لَهُ حكم الِاسْتِعْمَال وَلَو جرى المَاء من عُضْو المتوضيء إِلَى عُضْو آخر صَار مُسْتَعْملا حَتَّى لَو انْتقل من إِحْدَى الْيَدَيْنِ إِلَى الْأُخْرَى صَار مُسْتَعْملا وَلَو انْتقل المَاء الَّذِي يغلب فِيهِ الِانْتِقَال من عُضْو إِلَى مَوضِع آخر من ذَلِك الْعُضْو كالحاصل عِنْد نَقله من الْكَفّ إِلَى الساعد ورده إِلَى الْكَفّ وَنَحْوه لَا يضر انْتِقَاله وَإِن خرقه الْهَوَاء وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة ذكرهَا الرَّافِعِيّ فِي آخر الْبَاب الثَّانِي من أَبْوَاب التَّيَمُّم وأهملها النَّوَوِيّ إِلَّا أَنه ذكر هُنَا من زِيَادَة الرَّوْضَة أَنه لَو انْفَصل المَاء من بعض أَعْضَاء الْجنب إِلَى بَعْضهَا وَجْهَيْن الْأَصَح عِنْد

(1/14)


الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ أَنه لَا يضر وَلَا يصير مُسْتَعْملا وَالرَّاجِح عِنْد الخراسانيين أَنه يصير مُسْتَعْملا وَقَالَ الإِمَام إِن نَقله قصدا صَار مُسْتَعْملا وَإِلَّا فَلَا وَصحح النَّوَوِيّ فِي التَّحْقِيق أَنه يصير مُسْتَعْملا وَصحح ابْن الرّفْعَة أَنه لَا يصير مُسْتَعْملا وَلَو انغمس جنب فِي مَاء دون قُلَّتَيْنِ وَعم جَمِيع بجدنه ثمَّ نوى ارْتَفَعت جنابته بِلَا خلاف وَصَارَ المَاء مُسْتَعْملا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره وَلَا يصير مُسْتَعْملا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ صرح بِهِ الْخَوَارِزْمِيّ حَتَّى إِنَّه قَالَ لَو أحدث حَدثا ثَانِيًا حَال انغماسه جَازَ ارتفاعه بِهِ وَإِن نوى الْجنب قبل تَمام الانغماس ارْتَفَعت جنابته عَن الْجُزْء الملاقى للْمَاء بِلَا خلاف وَلَا يصير المَاء مُسْتَعْملا بل لَهُ أَن يتم الانغماس وترتفع عَنهُ الْجَنَابَة عَن الْبَاقِي على الصَّحِيح الْمَنْصُوص وَالله أعلم قَالَ
(والمتغير بِمَا خالطه من الطاهرات) هَذَا من تَتِمَّة الْقسم الثَّالِث وَتَقْدِير الْكَلَام وَالْمَاء الْمُتَغَيّر بِشَيْء من الطاهرات طَاهِر فِي نَفسه غير مطهر كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمل وضابطه أَن كل تغير يمْنَع اسْم المَاء الْمُطلق يسلب الطّهُورِيَّة وَإِلَّا فَلَا فَلَو تغير تغيراً يَسِيرا فَالْأَصَحّ أَنه طهُور لبَقَاء الِاسْم وَقَوله بِمَا خالطه احْتِرَازًا عَمَّا إِذا تغير بِمَا يجاوره وَلَو كَانَ تغيراً كثيرا فَإِنَّهُ بَاقٍ على طهوريته كَمَا إِذا تغير بدهن أَو شمع وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح لبَقَاء اسْم المَاء وَلَا بُد أَن يكون الْوَاقِع فِي المَاء مِمَّا يسْتَغْنى عَنهُ كالزعفران والجص وَنَحْوهمَا أما إِذا كَانَ التَّغَيُّر بِمَا لَا يَسْتَغْنِي المَاء عَنهُ كالطين والطحلب والنورة والزرنيخ وَغَيرهمَا فِي مقرّ المَاء وممره والمتغير بطول الْمكْث فَإِنَّهُ طهُور للعسر وَبَقَاء اسْم المَاء وَيَكْفِي فِي التَّغَيُّر أحد الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة الطّعْم أَو اللَّوْن أَو الرَّائِحَة على الصَّحِيح وَفِي وَجه ضَعِيف يشْتَرط اجتماعها وَلَا فرق بَين التَّغَيُّر الْمشَاهد أَو التَّغَيُّر الْمَعْنَوِيّ كَمَا إِذا اخْتَلَط بِالْمَاءِ مَا يُوَافقهُ فِي صِفَاته مَاء الْورْد الْمُنْقَطع الرَّائِحَة وَمَاء الشّجر وَالْمَاء الْمُسْتَعْمل فَإنَّا نقدر أَن لَو كَانَ الْوَاقِع يُغَيِّرهُ بِمَا يدْرك بالحواس ويسلبه الطّهُورِيَّة فَإنَّا نحكم بسلب طهورية هَذَا المَاء الَّذِي وَقع فِيهِ من الْمَائِع مَا يُوَافقهُ فِي صِفَاته وَإِلَّا فَلَا يسلبه الطّهُورِيَّة وَلَو تغير المَاء بِالتُّرَابِ الْمَطْرُوح فِيهِ قصدا فَهُوَ طهُور على الصَّحِيح والمتغير بالملح فِيهِ أوجه أَصَحهَا يسلب طهوريته الْجبلي دون المائي وَلَو تغير المَاء بأوراق الْأَشْجَار المتناثرة بِنَفسِهَا إِن لم تتفتت فِي المَاء فَهُوَ طهُور على الْأَظْهر وَإِن تفتتت واختلطت فأوجه الْأَصَح أَنه بَاقٍ على طهوريته لعسر الِاحْتِرَاز عَنْهَا فَلَو طرحت الأوراق فِي المَاء قصدا وَتغَير بهَا فَالْمَذْهَب أَنه غير طهُور سَوَاء طرحها فِي المَاء صَحِيحَة أَو مدقوقة وَالله أعلم قَالَ
(وَمَاء نجس وَهُوَ الَّذِي حلت فِيهِ نجاسه وَهُوَ دون الْقلَّتَيْنِ أَو كَانَ قُلَّتَيْنِ فَتغير)
هَذَا هُوَ الْقسم الرَّابِع من الْمِيَاه وَهُوَ كَمَا ذكر يَنْقَسِم إِلَى قَلِيل وَكثير فَأَما الْقَلِيل فينجس بملاقاة لنجاسة المؤثرة سَوَاء تغير أم لَا كَمَا أطلقهُ الشَّيْخ لمَفْهُوم قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِذا بلغ المَاء

(1/15)


قُلَّتَيْنِ لم يجمل خبثاً) وَفِي رِوَايَة
(نجسا) فَدلَّ الحَدِيث بمفهومه على أَنه إِذا كَانَ دون قُلَّتَيْنِ يتأثر بِالنَّجَاسَةِ وَاحْترز بِالنَّجَاسَةِ المؤثرة عَن غير المؤثرة قَالَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة كالميتة الَّتِي لَا نفس لَهَا سَائِلَة مثل الذُّبَاب والخنافس وَنَحْوهَا وكالنجاسة الَّتِي لَا يُدْرِكهَا الطّرف لعُمُوم الْبلوى بِهِ وكما إِذا وَقع الذُّبَاب على نَجَاسَة ثمَّ سقط فِي المَاء ورشاش الْبَوْل الَّذِي لَا يُدْرِكهُ الطّرف فيعفى عَنهُ وكما إِذا ولغت الْهِرَّة الَّتِي تنجس فمها ثمَّ غَابَتْ وَاحْتمل طَهَارَة فمها فَإِن المَاء الْقَلِيل لَا ينجس فِي هَذِه الصُّور وَيسْتَثْنى أَيْضا الْيَسِير من الشّعْر النَّجس فَلَا ينجس المَاء الْقَلِيل صرح بِهِ النَّوَوِيّ فِي بَاب الْأَوَانِي من زِيَادَته وَنَقله عَن الْأَصْحَاب قَالَ
(وَلَا يخْتَص بِشعر الْآدَمِيّ فِي الْأَصَح) أَي تَفْرِيعا على نَجَاسَة شعر الْآدَمِيّ ثمَّ قَالَ
(وَيعرف الْيَسِير بِالْعرْفِ)
قَالَ الإِمَام لَعَلَّه الَّذِي يغلب انتتافه لكنه قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب يُعْفَى عَن الشعرة والشعرتين وَالثَّلَاث وَيسْتَثْنى أَيْضا الْحَيَوَان إِذا كَانَ على منفذه نَجَاسَة ثمَّ وَقع فِي المَاء فَإِنَّهُ لَا يُنجسهُ على الْأَصَح لمَشَقَّة صونه ذكره الرَّافِعِيّ فِي شُرُوط الصَّلَاة بِخِلَاف لَو كَانَ مستجمراً بِحجر فَإِنَّهُ يُنجسهُ بِلَا خلاف كَمَا قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب فَإِن المستجمر بِالْحجرِ وَنَحْوه يُمكنهُ الِاحْتِرَاز وَيسْتَثْنى أَيْضا مَا إِذا أكل الصَّبِي شَيْئا نجسا ثمَّ غَابَ وَاحْتمل طَهَارَة فَمه كالهرة فَإِنَّهُ لَا ينجس المَاء الْقَلِيل ذكر ذَلِك ابْن الصّلاح وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة
وَقَالَ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى المَاء الْقَلِيل لَا ينجس إِلَّا بالتغير كالكثير وَهُوَ وَجه فِي مَذْهَبنَا وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ وَفِي قَول قديم أَن المَاء الْجَارِي لَا ينجس إِلَّا بالتغير وَاخْتَارَهُ جمَاعَة مِنْهُم الْغَزالِيّ والبيضاوي فِي كِتَابه غَايَة القصوى وَهُوَ قوي من حَيْثُ النّظر لِأَن دلَالَة
(خلق الله المَاء طهُورا) دلَالَة نطق وَهِي أرجح من دلَالَة الْمَفْهُوم فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ) الحَدِيث وَأما الْكثير وَهُوَ قلتان فَصَاعِدا فَلَا ينجس إِلَّا بالتغير بِالنَّجَاسَةِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(خلق الله المَاء طهُورا) الحَدِيث وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على نَجَاسَته بالتغير ثمَّ لَا فرق بَين التَّغَيُّر الْيَسِير وَالْكثير سَوَاء تغير الطّعْم أَو اللَّوْن أَو الرَّائِحَة وَهَذَا لَا اخْتِلَاف فِيهِ هُنَا بِخِلَاف مَا مر فِي التَّغَيُّر بالطاهر وَسَوَاء كَانَت

(1/16)


النَّجَاسَة الملاقية للْمَاء مُخَالطَة أَو مجاورة فِي وَجه شَاذ أَن النَّجَاسَة الْمُجَاورَة لَا تنجسه وَقَوله حلت فِيهِ نَجَاسَة احْتَرز بِهِ عَمَّا لَو تروح المَاء بجيفة ملقاة على شط المَاء فَإِنَّهُ لَا ينجس لعدم الملاقاة وَقَوله فَتغير احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا لم يتَغَيَّر المَاء الْكثير بِالنَّجَاسَةِ وَقد تكون قَليلَة وتستهلك فِي المَاء فَإِنَّهُ لَا ينجس وَيسْتَعْمل جَمِيع المَاء على الْمَذْهَب الصَّحِيح وَفِي وَجه يبْقى قدر النَّجَاسَة وَلَو وَقع فِي الماءالكثير نَجَاسَة توافقه فِي صِفَاته كبول مُنْقَطع الرَّائِحَة فَإنَّا نقدره على مَا تقدم فِي الطهارات وَلَو وَقع فِي المَاء الْكثير نَجَاسَة جامدة فَقَوْلَانِ الْأَظْهر أَنه يجوز لَهُ أَن يغترف من أَي مَوضِع شَاءَ وَلَا يجب التباعد لِأَنَّهُ طَاهِر كُله وَالْقَوْل الآخر أَنه يتباعد عَن النَّجَاسَة قدر قُلَّتَيْنِ وَلَو تغير بعض المَاء الْكثير فَالْأَصَحّ فِي الرَّافِعِيّ الْكَبِير نَجَاسَة جَمِيع المَاء وَالأَصَح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة إِن كَانَ الْبَاقِي دون قُلَّتَيْنِ فنجس وَإِلَّا فطاهر وَرجحه الرِّفَاعِي فِي الشَّرْح الصَّغِير وَالله أعلم
(فرع) فِي زِيَادَة الرَّوْضَة إِذا وَقع فِي المَاء نَجَاسَة وَشك هَل هُوَ قلتان أم لَا فَالَّذِي جزم بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره أَنه نجس لتحَقّق النَّجَاسَة وَللْإِمَام فِيهِ احْتِمَال وَالْمُخْتَار بل الصَّوَاب الْجَزْم بِطَهَارَتِهِ لِأَن الأَصْل طَهَارَته وَلَا يلْزم من النجاية التنجس وَالله أعلم قَالَ
(والقلتان خَمْسمِائَة رَطْل بالعراقي تَقْرِيبًا فِي الْأَصَح) لما روى الْمَاوَرْدِيّ عَن عبد الله بن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ بقلال هجر لَا يُنجسهُ شَيْء) قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قَالَ ابْن جريج رَأَيْت قلال هجر والقلة تسع قربتين أَو قربتين وشيئاً فاحتاط الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَجعل الشَّيْء نصفا والقربة لَا تزيد فِي الْغَالِب على مائَة رَطْل وَحِينَئِذٍ فجملة ذَلِك خمس قرب وَهِي خَمْسمِائَة رَطْل بالعراقي وَهل ذَلِك على سَبِيل التَّقْرِيب أَو التَّحْدِيد الْأَصَح أَنه على سَبِيل التَّقْرِيب فعلى هَذَا الْأَصَح أَنه لَا يضر نُقْصَان قدر لَا يظْهر بنقصه تفَاوت فِي التَّغَيُّر بِقدر من الْمُغيرَات مِثَاله لَو وَضعنَا قدر رَطْل من الْمُغيرَات فِي خَمْسمِائَة رَطْل مَا تأثرت وَلَو نقصنا من مَاء آخر قدر رطلين مثلا أَو ثَلَاثَة وَهِي خَمْسمِائَة رَطْل ووضعنا رَطْل مَا تأثرت فَهَذَا النُّقْصَان لَا يُؤثر فَلَو وَضعنَا قدر رَطْل من الْمُغيرَات فِي خَمْسمِائَة رَطْل إِلَّا خَمْسَة أَرْطَال مثلا فأثر قُلْنَا هَذَا النَّقْص يُؤثر وعَلى قَول التَّحْدِيد يضر أَي نقص كَانَ كنصب الزَّكَاة وَقيل يُعْفَى عَن نقص رطلين وَقيل ثَلَاثَة وَنَحْوهَا وَقدر الْقلَّتَيْنِ بالمساحة ذِرَاع وَربع طولا وعرضاً وعمقاً وقدرهما بالدمشقي مائَة رَطْل وَثَمَانِية أَرْطَال وثلثي رَطْل تَقْرِيبًا على قَول الرَّافِعِيّ أَن رَطْل بَغْدَاد مائَة وَثَلَاثُونَ درهما وَالله أعلم قَالَ

(1/17)


بَاب جُلُود الْميتَة وعظمها
(فصل وجلود الْميتَة تطهر بالدباغ إِلَّا جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَمَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا) الْحَيَوَان الَّذِي ينجس بِالْمَوْتِ إِذا دبغ جلده يطهر بالدباغ سَوَاء فِي ذَلِك مَأْكُول اللَّحْم وَغَيره وَالْأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا حَيْثُ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَاتِهَا
(لَو أَخَذْتُم إهابها فَقَالُوا إِنَّهَا ميتَة فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطهره المَاء والقرظ) وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(إِذا دبغ الإيهاب فقد طهر) ثمَّ إِذا دبغ الْجلد طهر ظَاهره قطعا وَكَذَا بَاطِنه على الْمَشْهُور الْجَدِيد فَيصَلي عَلَيْهِ وَفِيه وَيسْتَعْمل فِي الْأَشْيَاء الْيَابِسَة والرطبة وَيجوز بَيْعه وهبته وَالْوَصِيَّة بِهِ وَهل يجوز أكله من مَأْكُول اللَّحْم رجح الرَّافِعِيّ بِالْجَوَازِ وَرجح النَّوَوِيّ التَّحْرِيم وَيكون الدّباغ بالأشياء الحريفة كالشب والشث والقرظ وقشور الرُّمَّان والعفص وَيحصل الدّباغ بالأشياء المتنجسة والنجسة كذرق الْحمام على الْأَصَح وَلَا يَكْفِي التجميد بِالتُّرَابِ وَالشَّمْس على الصَّحِيح وَيجب غسله بعد الدّباغ إِن دبغ بِنَجس قطعا وَكَذَا إِن دبغ بطاهر على الْأَصَح قَالَ الْأَصْحَاب وَيعْتَبر فِي كَونه صَار مدبة غا ثَلَاثَة أُمُور أَحدهَا نزع فضلاته الثَّانِي أَن يطيب نفس الْجلد الثَّالِث أَن يَنْتَهِي فِي الدبغ إِلَى حَالَة بِحَيْثُ لَو نقع فِي المَاء لم يعد الْفساد وَالنَّتن وَالله أعلم وَأما جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَفرع أَحدهمَا فَلَا يطهر بالدباغ عندنَا بِلَا خلاف لِأَنَّهُمَا نجسان فِي حَال الْحَيَاة والدباغ إِنَّمَا يطهر جلدا نجس بِالْمَوْتِ لِأَن غَايَة الدّباغ نزع الفضلات وَدفع الاستحالات وَمَعْلُوم أَن الْحَيَاة أبلغ فِي ذَلِك من الدّباغ فَإِذا لم تفد الْحَيَاة الطَّهَارَة فَأولى أَن لَا يُفِيد الدّباغ
(وَعظم الْميتَة وشعرها نجس إِلَّا الْآدَمِيّ) الأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَتَحْرِيم مَا لَيْسَ بِحرَام وَلَا ضَرَر فِي

(1/18)


أكله يدل على نَجَاسَته وَلَا شكّ أَن الْعظم وَالشعر من أَجزَاء الْحَيَوَان نعم فِي الشّعْر خلاف فِي أَنه ينجس بِالْمَوْتِ أم لَا وَهُوَ قَولَانِ أَحدهمَا لَا ينجس لِأَنَّهُ لَا تحله الْحَيَاة فَلَا روح فِيهِ فَلَا ينجس بِالْمَوْتِ بِدَلِيل أَنه إِذا قطع لَا يحس وَلَا يألم وأظهرهما أَنه ينجس وَهُوَ الَّذِي جزم بِهِ الشَّيْخ لِأَنَّهُ إِن حلته الْحَيَاة فينجس إِلَّا فينجس تبعا للجملة لِأَنَّهُ من جُمْلَتهَا كَمَا يجب غسله فِي الطَّهَارَة والجنابة
وَأما الْعظم فَفِيهِ خلاف قيل إِنَّه كالشعر وَالْمذهب الْقطع بِنَجَاسَتِهِ لِأَنَّهُ يحس ويألم بِالْقطعِ وَالصُّوف والوبر والريش كالشعر فَإِذا قُلْنَا بنجاستة الشّعْر فَفِي شعر الْآدَمِيّ قَولَانِ بِنَاء على نَجَاسَته بِالْمَوْتِ إِن قُلْنَا ينجس بِالْمَوْتِ فَكَذَا ينجس شعره وَإِن قُلْنَا لَا ينجس وَهُوَ الرَّاجِح فَلَا ينجس شعره بِالْمَوْتِ على الْأَصَح وَالله أعلم
بَاب الْآنِية
(ولايجوز اسْتِعْمَال أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة وَيجوز اسْتِعْمَال غَيرهمَا من الْأَوَانِي)
لما فِي الحَدِيث الصَّحِيح من رِوَايَة حُذَيْفَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
(لاتلبسوا الْحَرِير وَلَا الديباج وَلَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِنَّهَا لَهُم فِي الدُّنْيَا وَلكم فِي الْآخِرَة وَفِي مُسلم
(الَّذِي يشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة إِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَار جَهَنَّم) وَفِي رِوَايَة
(من شرب فِي إِنَاء من ذهب أَو فضَّة فَإِنَّمَا يجرجر فِي بَطْنه نَارا من جَهَنَّم) وَفِي رِوَايَة
(إِن الَّذِي يَأْكُل وَيشْرب) الحَدِيث وجيم يجرجر الثَّانِيَة مَكْسُورَة بِلَا خلاف قَالَه النَّوَوِيّ وَفِي الإقليد حِكَايَة الْخلاف وَأما النَّار فَيجوز فِيهَا الرّفْع وَالنّصب وَالنّصب هُوَ الصَّحِيح وَمَعْنَاهُ أَن الشَّارِب يلقِي النَّار فِي بَطْنه بتجرع متتابع يسمع لَهُ جرجرة وَهِي الصَّوْت لتردده فِي حلقه وعَلى رِوَايَة الرّفْع تكون النَّار فاعلة وَمَعْنَاهُ أَن النَّار تصوت فِي جَوْفه عَافَانَا الله تَعَالَى مِنْهَا وَمن فعل يقربنا إِلَيْهَا
قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم قَالَ أَصْحَابنَا انْعَقَد الْإِجْمَاع على تَحْرِيم الْأكل وَالشرب وَسَائِر الِاسْتِعْمَال فِي إِنَاء ذهب أَو فضَّة إِلَّا مَا حُكيَ عَن دَاوُد وَقَول الشَّافِعِي قديم للشَّافِعِيّ إِنَّه يكره والمحققون لَا يعتدون بِخِلَاف دَاوُد وَكَلَام الشَّافِعِي مؤول كَمَا قَالَه صَاحب التَّقْرِيب مَعَ أَن الشَّافِعِي رَجَعَ عَن

(1/19)


هَذَا الْقَدِيم فَحصل أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على تَحْرِيم اسْتِعْمَال إِنَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة فِي الْأكل وَالشرب وَالطَّهَارَة وَالْأكل بعلقة من أَحدهمَا والتبخر بمبخرة مِنْهَا وَجَمِيع وُجُوه الِاسْتِعْمَال وَمِنْهَا المكحلة والميل وظرف الغالية وَغير ذَلِك سَوَاء الْإِنَاء الصَّغِير وَالْكَبِير وَيَسْتَوِي فِي التَّحْرِيم الرجل وَالْمَرْأَة بِلَا خلاف وَإِنَّمَا فرق بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي التحلي لقصد زِينَة النِّسَاء للزَّوْج وَالسَّيِّد وَيحرم اسْتِعْمَال مَاء الْورْد والأدهان فِي قماقم الذَّهَب وَالْفِضَّة هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَفِي القناني وَكَذَا يحرم تَزْيِين الحوانيت والبيوت والمجالس بأواني الذَّهَب وَالْفِضَّة هَذَا هُوَ الصَّوَاب وَجوزهُ بعض الْأَصْحَاب وَهُوَ غلط لِأَن كل شَيْء أَصله حرَام فالنظر إِلَيْهِ حرَام وَقد نَص الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب أَنه لَو تَوَضَّأ أَو اغْتسل من إِنَاء ذهب أَو فضَّة عصى وَيحرم اتِّخَاذ هَذِه الْأَوَانِي من غير اسْتِعْمَال على الصَّحِيح لِأَن مَا حرم اسْتِعْمَاله حرم اتِّخَاذه كالآت اللَّهْو عَافَانَا الله الْكَرِيم من تعَاطِي مَا هُوَ سَبَب للنار وَيحرم على الصَّائِغ صَنعته وَلَا يسْتَحق أُجْرَة لِأَن فعله مَعْصِيّة وَلَو كسر شخص هَذِه الْأَوَانِي فَلَا أرش عَلَيْهِ وَلَا يحل لأحد أَن يُطَالِبهُ بِالْأَرْشِ وَلَا رَفعه إِلَى ظَالِم من حكام زَمَاننَا لأنعم جهلة ويتعاطون هَذِه الْأَوَانِي حَتَّى يشربون الْمُسكر مَعَ آلَات اللَّهْو وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(يمسخ نَاس من أمتِي فِي آخر الزَّمَان قردة وَخَنَازِير قَالُوا يَا رَسُول الله أَلَيْسَ يشْهدُونَ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله قَالُوا بلَى وَلَكنهُمْ اتَّخذُوا المعازف والقينات فَبَاتُوا على لهوهم ولعبهم فَأَصْبحُوا وَقد مسخوا قردة وَخَنَازِير) وَفِي حَدِيث أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(من جلس إِلَى قينة يستمع مِنْهَا صب فِي أُذُنَيْهِ الآنك) والآنك بِضَم النُّون وَالْمدّ هُوَ الرصاص الْمُذَاب وَالله أعلم
وَأما أواني غير الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِن كَانَت من الْجَوَاهِر النفيسة كالياقوت والفيروزج وَنَحْوهمَا فَهَل تحرم فِيهِ خلاف قيل تحرم لما فِيهَا من الْخُيَلَاء والسرف وَكسر قُلُوب الْفُقَرَاء وَالصَّحِيح أَنَّهَا لَا تحرم وَلَا خلاف أَنه لَا يحرم الْإِنَاء الَّذِي نفاسته فِي صَنعته وَلَا يكره كلبس الْكَتَّان وَالصُّوف النفيسين
(فرع) لَو اتخذ إِنَاء من نُحَاس وَنَحْوه وموهه بِالذَّهَب أَو الْفضة إِن حصل بِالْعرضِ على النَّار مِنْهُ شَيْء حرم على الصَّحِيح وَإِن لم يحصل بِالْعرضِ على النَّار مِنْهُ شَيْء فالمرجح فِي هَذَا الْبَاب أَنه لَا يحرم والمرجح فِي بَاب زَكَاة النَّقْدَيْنِ أَنه يحرم قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَلَو موه

(1/20)


السَّيْف وَغَيره من آلَات الْحَرْب أَو غَيرهَا بِذَهَب تمويهاً لَا يحصل مِنْهُ بِالْعرضِ على النَّار شَيْء فطريقان أصَحهمَا وَبِه قطع الْعِرَاقِيُّونَ التَّحْرِيم للْحَدِيث وَيدخل فِيهِ الْخَاتم والدواة والمرملة وَغَيرهَا فليجتنب ذَلِك وَالله أعلم قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب وتمويه سقف الْبَيْت وجداره بِالذَّهَب أَو الْفضة حرَام قطعا ثمَّ إِن حصل مِنْهُ شَيْء بِالْعرضِ على النَّار حرمت استدامته وَإِلَّا فَلَا وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة على الْجَزْم بذلك وَالله أعلم قَالَ:
بَاب السِّوَاك
(فصل السِّوَاك مُسْتَحبّ فِي كل حَال إِلَّا بعد الزَّوَال للصَّائِم وَهُوَ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع أَشد اسْتِحْبَابا عِنْد تغير الْفَم من أزم وَعند الْقيام من النّوم وَعند الْقيام إِلَى الصَّلَاة)
السِّوَاك سنة مُطلقًا لقَوْله صلى الله عليع وَسلم
(السِّوَاك مطهرة للفم مرضاة للرب)
و (مطهرة) بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا هِيَ كل إِنَاء يتَطَهَّر بِهِ فَشبه السِّوَاك بذلك لِأَنَّهُ يطهر الْفَم وَهل يكره للصَّائِم بعد الزَّوَال فِيهِ خلاف الرَّاجِح فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه يكره لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لخلوف فَم الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك) وَفِي رِوَايَة
(يَوْم الْقِيَامَة) والخلوف بِضَم الْخَاء وَاللَّام هُوَ التَّغْيِير وَخص بِمَا بعد الزَّوَال لِأَن تغير الْفَم بِسَبَب الصَّوْم حِينَئِذٍ يظْهر فَلَو تغير فَمه بعد الزَّوَال بِسَبَب آخر كنوم أَو غَيره فاستاك لأجل ذَلِك لَا يكره وَقيل لَا يكره الاستياك مُطلقًا وَبِه قَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَرجحه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن يكره فِي الْفَرْض دون النَّفْل خوفًا من الرِّيَاء وَقَول المُصَنّف للصَّائِم يُؤْخَذ مِنْهُ أَن الْكَرَاهَة تَزُول بغروب الشَّمْس وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي شرح الْمُهَذّب وَقيل تبقى الْكَرَاهَة إِلَى الْفطر وَالله أعلم
ثمَّ السِّوَاك يتَأَكَّد اسْتِحْبَابه فِي مَوَاضِع مِنْهَا عِنْد تغير الْفَم من أزم وَغَيره والأزم قيل السُّكُوت الطَّوِيل وَقيل هُوَ ترك الْأكل وَقَوله وَغَيره يدْخل فِيهِ مَا إِذا تغير يَأْكُل مَاله رَائِحَة كريهة كالثوم والبصل وَنَحْوهمَا وَمِنْهَا عِنْد الْقيام من النّوم
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اسْتَيْقَظَ من النّوم استاك) وَرُوِيَ
(يشوص فَاه بِالسِّوَاكِ) وَمعنى يشوص ينظف وَيغسل وَوجه تَأْكِيد الِاسْتِحْبَاب عِنْد الْقيام مِنْهُ أَن النّوم يسْتَلْزم ترك الْأكل وَالسُّكُوت وهما من أَسبَاب التَّغَيُّر وَمِنْهَا عِنْد الْقيام إِلَى

(1/21)


الصَّلَاة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ ويلم
(لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة) وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(رَكْعَتَانِ بِالسِّوَاكِ أفضل من سبعين رَكْعَة بِلَا سواك) والسواك متأكد عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَإِن لم يكن الْفَم متغيراً وَلَا فرق بَين صَلَاة الْفَرْض وَالنَّفْل حَتَّى لَو صلى صَلَاة ذَات تسليمات كالضحى والتراويح والتجهد اسْتحبَّ لَهُ أَن يستاك لكل رَكْعَتَيْنِ وَكَذَا للجنازة وَالطّواف وَلَا فرق بَين الصَّلَاة بِالْوضُوءِ أَو التَّيَمُّم أَو عِنْد فقد الطهُورَيْنِ ويتأكد الِاسْتِحْبَاب أَيْضا عِنْد الْوضُوء وَإِن لم يصل لما ورد
(لَوْلَا أَن أشق أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل وضوء) وَيسْتَحب عِنْد قِرَاءَة الْقُرْآن وَعند اصفرار الْأَسْنَان وَإِن لم يتَغَيَّر الْفَم
وَاعْلَم أَنه يحصل الاستياك بِخرقَة وَبِكُل خشن مزيل وَالْعود أولى والأراك أولى وَالْأَفْضَل أَن يكون بيابس ندى بِالْمَاءِ وَيسْتَحب غسله ليستاك بِهِ ثَانِيًا وَلَو استاك بإصبع غَيره وَهِي خشنة أَجْزَأَ قطعا قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب وَفِي إصبعه خلاف الرَّاجِح فِي الرَّوْضَة لَا يجزىء وَالرَّاجِح فِي شرح الْمُهَذّب الْأَجْزَاء وَبِه قطع القَاضِي حُسَيْن والمحاملي وَالْبَغوِيّ وَالشَّيْخ أَبُو حَامِد وَاخْتَارَهُ الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر وَلَا بَأْس أَن يستاك بسواك غَيره بِإِذْنِهِ وَيسْتَحب أَن يستاك بِيَمِينِهِ وبالجانب الْأَيْمن من فَمه وَأَن يمره على سقف حلق إمراراً لطيفاً وكراسي أَضْرَاسه وَيَنْوِي بِالسِّوَاكِ السّنة وَيسْتَحب عِنْد دُخُول الْمنزل وَعند إِرَادَة النّوم وَالله أعلم
فَرَائض الْوضُوء
(فصل وفرائض الْوضُوء سِتَّة النِّيَّة عِنْد غسل الْوَجْه)
اعْلَم أَن الْوضُوء لَهُ شُرُوط وفروض
فالشروط الْإِسْلَام وَالتَّمَيُّز وطهورية المَاء وَعدم الْمَانِع الْحسي كالوسخ وَعدم الْمَانِع الشَّرْعِيّ كالحيض وَالنّفاس وَدخُول الْوَقْت فِي حق ذَوي الضرورات كالمستحاضة وَمن بِهِ الرّيح الدَّائِم
وَأما الْفُرُوض فستة كَمَا ذكره الشَّيْخ أَحدهَا النِّيَّة لقَوْل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) وَهِي فرض فِي طهارات الْأَحْدَاث وَلَا تجب فِي إِزَالَة النَّجَاسَات على الصَّحِيح

(1/22)


وَالْفَرْض أَن الْمَقْصُود من النَّجَاسَات إِزَالَتهَا وَهِي تحصل بِالْغسْلِ بِخِلَاف الْأَحْدَاث فَإِن طَهَارَتهَا عبَادَة فتفتقر إِلَى نِيَّة كَسَائِر الْعِبَادَات كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَشرط صِحَّتهَا الْإِسْلَام فَلَا يَصح وضوء الْكَافِر وَلَا غسله على الصَّحِيح لِأَن النِّيَّة عبَادَة وَالْكَافِر لَيْسَ من أَهلهَا وَلَا تصح طَهَارَة الْمُرْتَد قطعا تَغْلِيظًا عَلَيْهِ وَوقت النِّيَّة الْوَاجِبَة عِنْد غسل أول جُزْء من الْوَجْه لِأَن أول الْعِبَادَات الْوَاجِبَة وَلَا يُثَاب على السّنَن الْمَاضِيَة وكيفيتها إِن كَانَ المتوضيء سليما لَا عِلّة بِهِ أَن يَنْوِي أحد ثَلَاثَة أُمُور
أَحدهَا رفع الْحَدث أَو الطَّهَارَة عَن الْحَدث
الثَّانِي أَن يَنْوِي اسْتِبَاحَة الصَّلَاة أَو غَيرهَا مِمَّا لَا يُبَاح إِلَّا بِالطَّهَارَةِ
الثَّالِث أَن يَنْوِي فرض الْوضُوء أَو أَدَاء الْوضُوء وَإِن كَانَ الناوي صَبيا قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَلَو نوى الطَّهَارَة للصَّلَاة أَو الطَّهَارَة لغَيْرهَا مِمَّا يتَوَقَّف على الْوضُوء كفى وَذكره فِي التَّنْبِيه وَلَو نوى الطَّهَارَة وَلم يقل عَن الْحَدث لَا يجْزِيه على الصَّحِيح لِأَن الطَّهَارَة تكون عَن الْحَدث وَعَن النَّجس فَلَا بُد من نِيَّة تميز وَلَو نوى الْوضُوء فَقَط صَحَّ على الْأَصَح فِي التَّحْقِيق وَشرح الْمُهَذّب بِخِلَاف مَا إِذا نوى الْغسْل وَهُوَ جنب فَلَا يَكْفِي وَفرق الْمَاوَرْدِيّ بِأَن الْوضُوء لَا يُطلق على غير الْعِبَادَة بِخِلَاف الْغسْل وَلَو نوى رفع الْحَدث والاستباحة فَهُوَ نِهَايَة النِّيَّة وَأما من بِهِ عِلّة كمن بِهِ سَلس الْبَوْل أَو كَانَت مُسْتَحَاضَة فينوي الاستباحة على الصَّحِيح وَلَا يَصح أَن يَنْوِي رفع الْحَدث لِأَن الْحَدث مُسْتَمر وَلَا يتَصَوَّر رَفعه وَقيل يجب أَن يجمع بَينهمَا يَكْفِي أَحدهمَا
(فرع) شَرط النِّيَّة الْجَزْم فَلَو شكّ فِي أَنه مُحدث فَتَوَضَّأ محتاطاً ثمَّ تَيَقّن أَنه مُحدث لم يعْتد بوضوئه على الْأَصَح لِأَنَّهُ تَوَضَّأ مترددا وَلَو تَيَقّن أَنه مُحدث وَشك فِي أَنه تطهر ثمَّ بَان مُحدثا أَجزَأَهُ قطعا لِأَن الأَصْل بَقَاء الْحَدث فَلَا يضر تردده مَعَه فقوي جَانب النِّيَّة بِأَصْل الْحَدث بِخِلَاف الصُّورَة الأولى وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ يتَوَضَّأ فنسي لمْعَة فِي الْمرة الأولى فانغسلت فِي الغسلة الثَّانِيَة أَو الثَّالِثَة أَجزَأَهُ على الصَّحِيح بِخِلَاف مَا إِذا انغسلت اللمْعَة فِي تَجْدِيد الْوضُوء فَإِنَّهُ لَا يُجزئهُ على الصَّحِيح وَالْفرق أَن نِيَّة التَّجْدِيد لم تشْتَمل على نِيَّة فرض بِخِلَاف الغسلة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة فَإِن نِيَّة فرض الْوضُوء شملت الثَّلَاث فَمَا لم يتمم الأولى لَا تحصل الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة وَالْخَطَأ فِي الِاعْتِقَاد لَا يضر أَلا ترى أَن الْمُصَلِّي لَو ترك سَجْدَة من الأولى نَاسِيا وَسجد فِي الرَّكْعَة الثَّانِيَة تمت الأولى وَإِن اعْتقد خلاف ذَلِك وَالله أعلم

(1/23)


قَالَ
(وَغسل الْوَجْه) الْفَرْض الثَّانِي غسل الْوَجْه وَهُوَ أول الْأَركان الظَّاهِرَة قَالَ تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} وَيجب استيعابه بِالْغسْلِ وَحده من مُبْتَدأ تَسْتَطِيع الْجَبْهَة إِلَى مُنْتَهى الذقن طولا وَمن الْأذن إِلَى الْأذن عرضا وَمَوْضِع التحذيف لَيْسَ من الْوَجْه والصدغان ليسَا من الْوَجْه على الْأَصَح فِي شرح الرَّوْضَة وَرجع فِي الْمُحَرر أَنَّهُمَا من الْوَجْه ثمَّ الشّعْر النَّابِت فِي الْوَجْه قِسْمَانِ
أَحدهمَا لم يخرج عَن حد الْوَجْه
الثَّانِي خَارج عَنهُ وَالَّذِي لم يخرج عَن حد الْوَجْه قد يكون نَادِر الكثافة وَقد يكون غير نَادِر الكثافة فالنادر الكثافة كالحاجبين والأهداب والشاربين والعذارين وهما المحاذيان لللأذنين بَين الصدغ والعارض فَيجب غسل ظَاهر هَذِه الشُّعُور وباطنها مَعَ الْبشرَة تحتهَا وَإِن كثف لِأَنَّهَا من الْوَجْه وَأما شعر العارضين فَإِن كَانَ خَفِيفا وَجب غسل ظَاهره وباطنه مَعَ الْبشرَة وَإِن كَانَ كثيفاً وَجب غسل ظَاهره على الْأَظْهر وَلَو خف بعضه وكثف بعضه فالراجح أَن للخفيف حكم الْخَفِيف الْمَحْض وللكثيف حكم الكثيف الْمَحْض وَفِي ضَابِط الْخَفِيف والكثيف خلاف الصَّحِيح أَن الْخَفِيف مَا ترى الْبشرَة تَحْتَهُ فِي مجْلِس التخاطب والكثيف مَا يمْنَع الرُّؤْيَة
الْقسم الثَّانِي الشُّعُور الْخَارِجَة عَن حد الْوَجْه وَهُوَ شعر اللِّحْيَة والعارض والعذار والسبال طولا وعرضاً فالراجح وجوب غسل ظَاهرهَا فَقَط لِأَنَّهُ يحصل بِهِ المواجهة وَقيل لَا يجب لِأَنَّهَا خَارِجَة عَن حد الْوَجْه قَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة يجب غسل جُزْء من رَأسه ورقبته وَمَا تَحت ذقنه مَعَ الْوَجْه ليتَحَقَّق استيعابه وَلَو قطع أَنفه أَو شفته لزمَه غسل مَا ظهر بِالْقطعِ فِي الْوضُوء وَالْغسْل على الصَّحِيح لِأَنَّهُ يبْقى وَجها وَيجب غسل مَا ظهر من حمرَة الشفتين وَيسْتَحب أَن يَأْخُذ المَاء بيدَيْهِ جَمِيعًا قَالَ
(وَغسل الْيَدَيْنِ مَعَ الْمرْفقين)
الْفَرْض الثَّالِث غسل الْيَدَيْنِ مَعَ الْمرْفقين لقَوْله تَعَالَى {وَأَيْدِيكُمْ إِلَى الْمرَافِق} وَلَفْظَة إِلَى ترد بعنى مَعَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {من أَنْصَارِي إِلَى الله} أَي مَعَ الله وَيدل لذَلِك مَا روى

(1/24)


جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُدِير المَاء على الْمرَافِق) وروى أَنه أدَار المَاء على مرفقيه ى وَقَالَ هَذَا وضوء لَا يقبل الله الصَّلَاة إِلَّا بِهِ) وَيجب إِيصَال المَاء إِلَى جَمِيع الشّعْر والبشرة حَتَّى لَو كَانَ تَحت أظافره وسخ يمْنَع وُصُول المَاء إِلَى الْبشرَة لم يَصح وضوؤه وَصلَاته باطله وَالله أعلم قَالَ
(وَمسح بعض الرَّأْس)
الْفَرْض الرَّابِع مسح بعض الرَّأْس لقَوْله تَعَالَى {وامسحوا برؤوسكم} وَلَيْسَ المُرَاد هُنَا مسح جَمِيع الرَّأْس لحَدِيث الْمُغيرَة رَضِي الله عَنهُ
(أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ وَمسح بناصيته وعَلى عمَامَته وعَلى الْخُفَّيْنِ) وَلِأَن من أَمر يَده على هَامة الْيَتِيم صَحَّ أَن يُقَال مسح بِرَأْسِهِ وَحِينَئِذٍ فَالْوَاجِب مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْمسْح وَلَو بعض شعره أَو قدره من الْبشرَة وَشرط الشّعْر الْمَمْسُوح أَن لَا يخرج عَن حد الرَّأْس لَو مده بأنى بِأَن كَانَ متجعداً وَلَا يضر مُجَاوزَة منبت الْمَمْسُوح على الصَّحِيح وَلَو غسل رَأسه بدل الْمسْح أَو ألْقى عَلَيْهِ قَطْرَة وَلم تسل أَو وضع يَده الَّتِي عَلَيْهَا المَاء على رَأس وَلم يمرها أَجزَأَهُ على الصَّحِيح قَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَلَا تتَعَيَّن الْيَد للمسح بل يجوز بخشبة أَو خرقَة وَغَيرهمَا وَيجْزِي مسح غَيره لَهُ وَالْمَرْأَة كَالرّجلِ فِي الْمسْح وَالله أعلم قَالَ
(وَغسل الرجلَيْن مَعَ الْكَعْبَيْنِ)
لقَوْله تَعَالَى {وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فعلى قِرَاءَة النصب يكون الْغسْل مُتَعَيّنا وَالتَّقْدِير واغسلوا أَرْجُلكُم وعَلى قِرَاءَة الْجَرّ فَالسنة بيّنت الْغسْل وَلَو كَانَ الْمسْح جَائِزا لبينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَو مرّة كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَاتفقَ الْعلمَاء على أَن المُرَاد بالكعبين العظمان الناتئان بَين السَّاق والقدم وَفِي كل رجل كعبان وشذت الرافضة قبحهم الله تَعَالَى فَقَالَت فِي كل رجل كَعْب وَهُوَ الْعظم الَّذِي فِي ظهر الْقدَم وَحكى هَذَا عَن مُحَمَّد بت الْحسن وَلَا يَصح وَحجَّة الْعلمَاء فِي ذَلِك نقل أهل اللُّغَة والاشتقاق وَهَذَا الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي نَحن فِيهِ يدل لذَلِك فَفِيهِ
(فَغسل رجله الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَرجله الْيُسْرَى كَذَلِك) فَأثْبت فِي كل رجل كعبين وَالله أعلم

(1/25)


قلت وَحَدِيث النُّعْمَان بن بشير رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صَرِيح فِي ذَلِك قَالَ
(قَالَ لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أقِيمُوا صفوفكم فَرَأَيْت الرجل منا يلصق مَنْكِبه بمنكب صَاحبه وكعبه بكعبه) وَمَعْلُوم أَن هَذَا فِي كَعْب الْمفصل وَلَا يَتَأَتَّى فِي الَّذِي على ظهر الْقدَم وَالله تَعَالَى أعلم
وَاعْلَم أَن الْغسْل وَاجِب إِذا لم يمسح على الْخُف وَقِرَاءَة الْجَرّ مَحْمُولَة على مسح الْخُف وَيجب غسل جَمِيع الرجلَيْن بِالْمَاءِ وينقي الْبشرَة وَالشعر حَتَّى يجب غسل مَا ظهر بالشق وَلَو وضع فِي الشق شمعة أَو حناء وَله جرم لَا يجزيء وضوؤه وَلَا تصح صلَاته وَكَذَا يجب عَلَيْهِ إِزَالَة خرء البراغيث حَيْثُ اسْتَيْقَظَ من نَومه فليحترز عَن مثل ذَلِك فَلَو تَوَضَّأ وَنسي إِزَالَته ثمَّ علم وَجب عَلَيْهِ غسل ذَلِك الْمَكَان وَمَا بعده وإعادة الصَّلَاة وَالله أعلم
(فرع) إِذا اجْتمع على الشَّخْص حدث أَصْغَر وَهُوَ الْوضُوء وَحدث أكبر وَهُوَ الْغسْل فَفِيهِ خلاف منتشر الصَّحِيح الْمُفْتى بِهِ يَكْفِيهِ غسل جَمِيع بدنه بنية الْغسْل وَلَا يجب عَلَيْهِ الْجمع بَين الْوضُوء وَالْغسْل وَلَا تَرْتِيب فِي ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(والتريب على مَا ذَكرْنَاهُ)
الْفَرْض السَّادِس التَّرْتِيب وفرضيته مستفادة من الْآيَة إِذا قُلْنَا الْوَاو للتَّرْتِيب وَإِلَّا فَمن فعله وَقَوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذْ لم ينْقل عَنهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه تَوَضَّأ إِلَّا مُرَتبا وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ بعد أَن تَوَضَّأ مُرَتبا
(هَذَا وضوء لَا يقبل الله الصَّلَاة إِلَّا بِهِ) أَي بِمثلِهِ وَلِأَن الْوضُوء عبَادَة يرجع فِي حَالَة الْغدر إِلَى نصفهَا فَوَجَبَ فِيهَا التَّرْتِيب كَالصَّلَاةِ فَلَو نسي التَّرْتِيب لم يجزه كَمَا لَو نسي الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة أَو النَّجَاسَة على بدنه
(فرع) خرج من فرجه بَلل يجوز أَن يكون منياً وَيجوز أَن يكون مذياً واشتبه عَلَيْهِ الْحَال فَمَا الَّذِي يجب عَلَيْهِ فِيهِ خلاف منتشر علقته فِي بعض الْكتب أَكثر من ثَلَاثَة عشرَة مقَالَة الرَّاجِح فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه يتَخَيَّر فَإِن شَاءَ جعله منياً واغتسل وَإِن شَاءَ جعله مذياً وَغسل مَا أَصَابَهُ من بدنه وثوبه وَتَوَضَّأ لِأَنَّهُ إِذا جعله مذياً وَتَوَضَّأ فقد أَتَى بِمَا يَقْتَضِي الْوضُوء فارتفع حَدثهُ الْأَصْغَر وَبَقِي الْحَدث الْأَكْبَر مشكوكاً فِيهِ وَالْأَصْل عَدمه وَكَذَا يُقَال إِذا اغْتسل وَقيل يجب عَلَيْهِ الْأَخْذ بالإحتياط لأَنا تحققنا

(1/26)


شغل ذمَّته بِأحد الحدثين وَلَا يخرج عَن ذَلِك إِلَّا بِيَقِين بِأَن يحْتَاط كَمَا لَو لزم ذمَّته صَلَاة من صَلَاتَيْنِ وَلم يعرف عينهَا يجب عَلَيْهِ أَن يُصَلِّيهمَا وَهَذَا قوي رَجحه النَّوَوِيّ رَحمَه الله فِي شرح ى التَّنْبِيه وَفِي رُؤُوس الْمسَائِل لَهُ وَالله أعلم قَالَ
سنَن الْوضُوء
(فصل وسننه عشر خِصَال التَّسْمِيَة) للْوُضُوء سنَن مِنْهَا التَّسْمِيَة فِي ابْتِدَائه
(رُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وضع يَده فِي إِنَاء وَقَالَ لأَصْحَابه توضئوا باسم الله)
(كل أَمر ذِي بَال لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله فَهُوَ أَجْذم) أَي أقطع وَهِي سنة متأكدة وَقد قَالَ الإِمَام أَحْمد بِوُجُوبِهَا فَلَو نَسِيَهَا فِي ابْتِدَاء الْوضُوء أَتَى بهَا مَتى ذكرهَا فِي الْوضُوء كَمَا فِي تَسْمِيَة الطَّعَام وَلَو تَركهَا عمدا فَهَل يشرع تداركها فِيهِ خلاف والراجع نعم وَفِي الحَدِيث
(من تَوَضَّأ وَذكر اسْم الله كَانَ طهُورا لجَمِيع بدنه وَإِن لم يذكر اسْم الله تَعَالَى كَانَ طهُورا لأعضاء وضوئِهِ)
(وَغسل الْكَفَّيْنِ قبل إدخلهما الْإِنَاء)
من سنَن الْوضُوء غسل الْكَفَّيْنِ قبل الْوَجْه وَلَهُمَا أَحْوَال
أَحدهمَا أَن يتَيَقَّن نجاستهما فَهَذَا يكره لَهُ غمس كفيه فِي الْإِنَاء قبل غسلهمَا ثَلَاثًا كَرَاهَة تَحْرِيم لِأَنَّهُ يفْسد المَاء
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يشك فِي نجاستهما كمن نَام وَلَا يدْرِي أَيْن باتت يَده فَهَذَا يكره لَهُ أَيْضا غمس كفيه فِي الْإِنَاء قبل غسلهمَا ثَلَاثًا لقَوْل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا قَامَ أحدكُم من نَومه فليغسل يَدَيْهِ قبل أَن يدخلهما فِي الْإِنَاء ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) وَفِي رِوَايَة
(فَلَا يغمس يَدَيْهِ فِي الْإِنَاء قبل أَن يغسلهما ثَلَاثًا) وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَمَالك وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى وجوب غسلهمَا قبل إدخالهما فِي الْإِنَاء عِنْد الاستيقاظ من النّوم لظَاهِر النَّهْي وَلم يفرق بَين نوم اللَّيْل وَالنَّهَار وَذهب

(1/27)


الإِمَام أَحْمد إِلَى وجوب ذَلِك من نوم اللَّيْل دون نوم النَّهَار لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أَيْن باتت يَده) وَالْمَبِيت يكون بِاللَّيْلِ دون النَّهَار وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله حمل النَّهْي على غير الْوُجُوب لقَرِينَة
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يتَيَقَّن طهارتهما فَهَذَا لَا يكره لَهُ غمس كفيه فِي الْإِنَاء قبل غسلهمَا وَلَكِن يسْتَحبّ وَهَذِه الْحَالة هِيَ الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ ومأخذها أَنه الْوَارِد فِي صفة وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ سلم من غير تعرض لسبق نوم وانتفت الْكَرَاهَة لفقد الْعلَّة الْوَارِدَة فِي الْخَبَر إِذْ الحكم يَدُور مَعَ الْعلَّة وجودا وعدماً وَالله أعلم قَالَ
(والمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق)
لفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ اللإمام
أَحْمد بوجوبهما وَحجَّة الشَّافِعِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(عشر من السّنة وعد مِنْهَا الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق) ثمَّ أصل السّنة يحصل بإيصال المَاء إِلَى الْفَم وَالْأنف سَوَاء أداره أم لَا وَهَذَا هُوَ الرَّاجِح لَكِن نَص الشَّافِعِي على إِرَادَته فِي الْفَم وَلَا يشْتَرط فِي تَحْصِيل السّنة أَن يمج المَاء حَتَّى لَو ابتلع تأدت السّنة قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَذهب جمَاعَة إِلَى اشْتِرَاط مج المَاء فِي تَحْصِيل السّنة وَتَقْدِيم الْمَضْمَضَة على الِاسْتِنْشَاق شَرط فِي تَحْصِيل السّنة على الرَّاجِح وَقيل مُسْتَحبّ وَالله أعلم
(فرع) يسْتَحبّ الْمُبَالغَة فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق لغير الصَّائِم وَأما الصَّائِم فَقيل يحرم فِي حقة قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب وَقيل يكره قَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ وَغَيره وَقيل تَركهَا مُسْتَحبّ قَالَه ابْن الصّباغ وَالله أعلم قَالَ
(واستعياب الرَّأْس بِالْمَسْحِ)
من سنَن الْوضُوء اسْتِيعَاب الرَّأْس بِالْمَسْحِ لفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وللخروج من الْخلاف وَالسّنة فِي كَيْفيَّة الْمسْح أَن يبْدَأ بِمقدم رَأسه ثمَّ يذهب بيدَيْهِ إِلَى قَفاهُ ثمَّ يردهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ روى ذَلِك عبد الله بن زيد رَضِي الله عَنهُ فِي وصف وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَضَع إبهاميه على صدغيه ويلصق السبابتين والذهاب وَالْعود مرّة وَهَذَا فِيمَن لَهُ شعر يَنْقَلِب بالذهاب وَالرَّدّ ليصل البلل إِلَى بَاطِن الشّعْر وَظَاهره وَأما من لَا شعر لَهُ أَو لَهُ شعر لَا يَنْقَلِب فَيقْتَصر على الذّهاب فَلَو رده لم تحسب ثَانِيَة لكَون المَاء بَقِي مُسْتَعْملا وَلَو لم يرد نزع مَا على رَأسه من عِمَامَة أَو غَيرهَا مسح على جُزْء من رَأسه وتمم على الْعِمَامَة وَالْأَفْضَل أَن لَا يقْتَصر على أقل من الناصية لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مسح بناصيته وعَلى عمَامَته وَشرط الرَّافِعِيّ أَن يعسر رفع الْعِمَامَة ذكره فِي الشرحين وَالْمُحَرر وَتَبعهُ فِي

(1/28)


الْمِنْهَاج وحذفه من الرَّوْضَة وَلَا يجوز الِاقْتِصَار على مسح الْعِمَامَة قطعا فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة لِأَنَّهُ مَأْمُور بمسح الرَّأْس والماسح على الْعِمَامَة لَيْسَ بماسح لَهُ وَفِي الْبَحْر عَن مُحَمَّد بن نصر من كبار الْأَصْحَاب أَنه يَكْفِي وَالله أعلم قَالَ
(وَمسح الْأُذُنَيْنِ)
يسْتَحبّ مسح الْأُذُنَيْنِ ظَاهرهَا وباطنها بِمَاء جَدِيد وَكَذَا يسْتَحبّ مسح الصماخين بِمَاء جَدِيد قَالَ عبد الله بن زيد رَضِي الله عَنهُ
(رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ فَأخذ لأذنيه مَاء خلاف المَاء الَّذِي أَخذه لرأسه) وَكَيْفِيَّة الْمسْح أَن يدْخل مسيحتيه فِي صماخيه ويديرهما فِي المعاطف ويمر إبهاميه على ظَاهر أُذُنَيْهِ ثمَّ يلصق كفيه وهما مبلولتان بالأذنين استظهاراً وَهَذِه الْكَيْفِيَّة ذكرهَا الرَّافِعِيّ وأسقطها النَّوَوِيّ من الرَّوْضَة قَالَ
(وتخليل اللِّحْيَة الكثة وتخليل أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ)
روى عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
(أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ إِذا تَوَضَّأ شَبكَ لحيته الْكَرِيمَة بأصابعه من تحتهَا) وروى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
(أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يخلل لحيته) قَالَ وَأما تَخْلِيل الْأَصَابِع فَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
(أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا تَوَضَّأت فخلل أَصَابِع يَديك ورجليك) وَقَالَ وَكَيْفِيَّة تَخْلِيل أَصَابِع رجلَيْهِ أَن يبْدَأ بخنصر يَده الْيُسْرَى من أَسْفَل الرجل مبتدئاً بخنصر الرجل الْيُمْنَى خَاتمًا بخنصر الْيُسْرَى وَهَذِه الْكَيْفِيَّة رجحها النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَحكى وَجها أَنه يخلل بَين كل إِصْبَع من أَصَابِع الرجلَيْن بإصبع من أَصَابِع يَده وَحكى فِي شرح الْمُهَذّب وَجها آخر أَنه يبْدَأ بخنصر الْيَد الْيُمْنَى وَأخْبر أَنَّهُمَا سَوَاء وَعَزاهُ إِلَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ ثمَّ قَالَ إِن ماقاله الإِمَام هُوَ الرَّاجِح الْمُخْتَار وَكَذَا اخْتَارَهُ فِي التَّحْقِيق وتخليل الْأَصَابِع الْيَدَيْنِ بالتشبيك ثمَّ إِن كَانَت الْأَصَابِع ملتفة لَا يصل المَاء إِلَيْهَا بالتخليل وَجب وَإِن كَانَت ملتحمة قَالَ لَا يجب فتقها وَلَا يسْتَحبّ قَالَه فِي الزِّيَادَة الرَّوْضَة بل لَا يجوز وَالله أعلم قَالَ
(وَتَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى وَالطَّهَارَة ثَلَاثًا ثَلَاثًا والموالاة)

(1/29)


عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(إِذا توضأتم فابدءوا بميامنكم)
(وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحب التَّيَامُن فِي تنعله وَترَجله وَطهُوره وَفِي شَأْنه كُله) وَمعنى التَّرَجُّل التسريح يبْدَأ بالشق الْأَيْمن فِي الطّهُور وَيبدأ بِالْيَدِ الْيُمْنَى وَالرجل الْيُمْنَى فِي الْوضُوء وبالشق الْأَيْمن فِي الْغسْل وَأما الأذنان والخدان فيطهران مَعًا فَإِن كَانَ أقطع قدم الْيَد الْيُمْنَى وَأما اسْتِحْبَاب كَونه ثَلَاثًا فَفِي حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
(أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الرَّأْس وَغَيره وَاسْتحبَّ بعض الْأَصْحَاب مسح الرَّأْس مرّة وَاحْتج بِأَن أَحَادِيث عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الصِّحَاح تدل على مسح الرَّأْس مرّة قَالَ وَقد جَاءَ فِي مُسلم فِي وصف عبد الله بن زيد وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه مسح رَأسه مرّة وَاحِدَة وَقد قيل إِن التِّرْمِذِيّ حَكَاهُ عَن نَص الشَّافِعِي وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي وَبِه جزم الْجُمْهُور أَنه يسْتَحبّ مَسحه ثَلَاثًا وَحجَّة ذَلِك حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد فِي حَدِيث عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مسح رَأسه ثَلَاثًا نعم فِي سَنَده عَامر بن شَقِيق قَالَ الْحَاكِم لَا أعلم فِي عَامر طَعنا بِوَجْه من الْوُجُوه وَفِي ابْن مَاجَه
(أَن عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَمسح رَأسه ثَلَاثًا وَقَالَ هَذَا وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله أعلم
وأهمل المُصَنّف رَحمَه الله سنناً مِنْهَا مسح الرَّقَبَة وَصحح الرَّافِعِيّ فِي شرح الصَّغِير أَنَّهَا سنة وَاحْتج فِي الشَّرْح الْكَبِير بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(مسح الرَّقَبَة أَمَان من الغل) وَاعْترض النَّوَوِيّ فَقَالَ لَا يمسح لِأَنَّهُ لم يثبت فِيهَا شَيْء وَلِهَذَا لم يذكرهُ الشَّافِعِي ومتقدموا الْأَصْحَاب وَهُوَ الصَّوَاب قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب والْحَدِيث مَوْضُوع قَالَ الْحَمَوِيّ شَارِح التبنيه الْجَدِيد أَن مسح الرَّقَبَة لَيْسَ بِسنة وَمُقْتَضَاهُ أَن فِي ذَلِك قَوْلَيْنِ وَالله أعلم وَمِنْهَا الدَّعْوَات على أَعْضَاء الْوضُوء قَالَه الرَّافِعِيّ قَالَ النَّوَوِيّ هَذِه الْأَدْعِيَة لَا أصل لَهَا وَلم يذكرهَا إِلَّا الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور وَمِنْهَا الِاسْتِعَانَة هَل تكره وَجْهَان قَالَ النَّوَوِيّ الْوَجْهَانِ فِيمَا إِذا اسْتَعَانَ بِمن يصب عَلَيْهِ وأصحهما لَا يكره أما إِذا اسْتَعَانَ بِمن يغسل أعضاءه فمكروه قطعا وَإِن كَانَ بإختصار المَاء فَلَا بَأْس وَلَا يُقَال خلاف الأولى وَحَيْثُ كَانَ لَهُ عذر فَلَا بَأْس بالإستعانة مُطلقًا وَمِنْهَا هَل يسْتَحبّ ترك التنشيف فِيهِ أوجه الصَّحِيح أَن تَركه

(1/30)


مُسْتَحبّ كَذَا صَححهُ فِي أصل الرَّوْضَة وَقيل إِنَّه مُبَاح فعله وَتَركه سَوَاء وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَقيل مُسْتَحبّ مُطلقًا وَقيل يكره التنشيف مُطلقًا وَقيل يكره فِي الصَّيف دون الشتَاء قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب مَحل الْخلاف إِذا لم تكن حَاجَة إِلَى التنشيف لحر أَو برد أَو التصاق نَجَاسَة فَإِن كَانَ فَلَا كَرَاهَة قطعا وَلَا يُقَال إِنَّه خلاف الْمُسْتَحبّ وَمِنْهَا يسْتَحبّ أَن لَا ينفض يَدَيْهِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا توضأتم فَلَا تنفضوا أَيْدِيكُم فَإِنَّهَا مراوح الشَّيْطَان) وَغَيره فَلَو خَالف ونفض فَالَّذِي جزم بِهِ الرَّافِعِيّ أَنه يكره وَخَالف النَّوَوِيّ فرجح أَنه لَا يكره بل هُوَ مُبَاح فعله وَتَركه سَوَاء وَقَالَ فِي التَّحْقِيق لِأَنَّهُ خلاف الأولى والْحَدِيث قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه ضَعِيف لَا يعرف وَمِنْهَا الْمُوَالَاة وَهِي واجبه فِي الْقَدِيم وَأَن يَقُول بعد التَّسْمِيَة الْحَمد لله الَّذِي جعل المَاء طهُورا ويخلل الْخَاتم ويتعهد مَا يحْتَاج إِلَى الِاحْتِيَاط وَيبدأ بِأَعْلَى وَجهه وبمقدم الرَّأْس وَفِي الْيَد وَالرجل بأطراف الْأَصَابِع إِن صب على نَفسه وَإِن صب عَلَيْهِ غَيره بَدَأَ بالمرفقين وَالْكَفَّيْنِ وَأَن لَا ينقص مَاء الْوضُوء عَن مد وَلَا يسرف وَلَا يزِيد على ثَلَاث مَرَّات وَلَا يتَكَلَّم فِي أثْنَاء الْوضُوء وَلَا يلطم وَجهه بِالْمَاءِ وَأَن يَقُول بعد الْوضُوء
(أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله اللَّهُمَّ اجْعَلنِي من التوابين واجعلني من المتطهرين سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا أَنْت أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك) وَبقيت سنَن أخر مَذْكُورَة فِي الْكتب المطولة تركناها خشيَة الإطالة وَالله أعلم
(فرع) لَو شكّ فِي غسل بعض أَعْضَائِهِ فِي أثْنَاء الطَّهَارَة لم يسحب لَهُ وَبعد الْفَرَاغ لايضر الشَّك على الرَّاجِح لِكَثْرَة الشَّك مَعَ أَن الظَّاهِر كَمَال الطَّهَارَة وَيشْتَرط فِي غسل الْأَعْضَاء جَرَيَان المَاء على الْعُضْو المغسول بِلَا خلاف وَالله تَعَالَى أعلم قَالَ
بَاب الِاسْتِنْجَاء وآداب التخلي
(فصل والاستنجاء وَاجِب من الْبَوْل وَالْغَائِط) احْتج لَهُ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وليستنج بِثَلَاثَة أَحْجَار) وَهُوَ أَمر وَظَاهره الْوُجُوب وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(إِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فليذهب مَعَه ثَلَاثَة أَحْجَار يَسْتَطِيب

(1/31)


بِهن فَإِنَّهَا تجزيء عَنهُ) وَقَوله
(من الْبَوْل وَالْغَائِط) يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه لَا يجب من الرّيح بل قَالَ الْأَصْحَاب لَا يسْتَحبّ بل قَالَ الْجِرْجَانِيّ إِنَّه مَكْرُوه قَالَ الشَّيْخ نصر إِنَّه بِدعَة وَيَأْثَم بِهِ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب أما قَوْله بِدعَة فَصَحِيح وَأما الْإِثْم فَلَا إِلَّا أَن يعْتَقد وُجُوبه مَعَ علمه بِعَدَمِهِ وَقَالَ ابْن الرّفْعَة إِذا كَانَ الْمحل رطبا يَنْبَغِي أَن يَجِيء فِي وجوب الِاسْتِنْجَاء مِنْهُ خلاف بِنَاء على نَجَاسَة دُخان النَّجَاسَة كَمَا قيل بِمثلِهِ فِي تنجس الثَّوْب الَّذِي يُصِيبهُ وَهُوَ رطب ثمَّ قَالَ وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ لايزيد على الْبَاقِي على الْمحل بعد الِاسْتِجْمَار
(وَالْأَفْضَل أَن يستجمر بالأحجار ثمَّ يتبعهَا بِالْمَاءِ وَيجوز أَن يقْتَصر على المَاء أَو على ثَلَاثَة أَحْجَار ينقي يهن الْمحل وَإِذا أَرَادَ الِاقْتِصَار على أَحدهمَا فالماء أفضل)
الْأَفْضَل فِي الِاسْتِنْجَاء أَن يجمع بَين المَاء وَالْحجر أَو مَا فِي مَعْنَاهُ لِأَن الله تَعَالَى أثنى على أهل قبَاء بذلك وَأنزل فيهم قَوْله تَعَالَى وَهُوَ أصدق الْقَائِلين {فِيهِ رجال يحبونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَالله يحب المطهرين} وَفِيه من طَرِيق الْمَعْنى أَن الْعين تَزُول بِالْحجرِ والأثر يَزُول بِالْمَاءِ فَلَا يحْتَاج إِلَى ملاطخة النَّجَاسَة لهَذَا يقدم الْحجر أَولا ثمَّ إِن قَضِيَّة التَّعْلِيل أَنه لَا يشْتَرط طَهَارَة الْحجر وَبِه صرح الْعجلِيّ وَنَقله عَن الغزالى وَاعْلَم أَن الحَدِيث ضَعَّفُوهُ وَلَفظه
(فَسَأَلَهُمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالُوا نتبع الْحِجَارَة المَاء) وَأنكر النَّوَوِيّ هَذِه الرِّوَايَة فِي شرح الْمُهَذّب فَقَالَ كَذَا رَوَاهَا الْفُقَهَاء فِي كتبهمْ وَلَيْسَ لَهُ أصل فِي كتب الحَدِيث بل الْمَذْكُور فِيهَا
(كُنَّا نستنجي بِالْمَاءِ) وَلَيْسَ فِيهَا مَعَ الْحجر وَلَو أقتصر على المَاء أَجزَأَهُ لِأَنَّهُ يزِيل الْعين والأثر وَهُوَ الْأَفْضَل عِنْد الِاقْتِصَار على أَحدهمَا وَيجوز أَن يقْتَصر على ثَلَاثَة أَحْجَار أَو على حجر لَهُ ثَلَاثَة أحرف وَالْوَاجِب ثَلَاثَة مسحات فَإِن حصل الإنقاء بهَا وَإِلَّا وَجَبت الزِّيَادَة إِلَى الإنقاء وَيسْتَحب الإيتار
وَاعْلَم أَن كل ماهو فِي معنى الْحجر يجوز الِاسْتِنْجَاء بِهِ وَله شُرُوط أَحدهَا أَن يكون طَاهِرا فَلَو استنجى بِنَجس تعين المَاء بعده على الصَّحِيح الشَّرْط الثَّانِي أَن يكون مَا يستنجي بِهِ قالعاً للنَّجَاسَة منشفاً فَلَا يجزىء الزّجاج وَلَا الْقصب

(1/32)


وَلَا التُّرَاب المتناثر وَيجوز الصلب فَلَو استنجى بِمَا لايقلع لم يجزه وَلَو استنجى برطب من حجر أَو غَيره لم يجزه على الصَّحِيح
الشَّرْط الثَّالِث أَن يكون مُحْتَرما فَلَا يجوز الِاسْتِنْجَاء بمطعوم كالخبز والعظم وَلَا بِجُزْء مِنْهُ كَيده وَيَد غَيره وَلَا بِجُزْء حَيَوَان مُتَّصِل بِهِ كذنب الْبَعِير لِأَنَّهُ مُحْتَرم وَإِذا استنجى بمحترم عصى وَلَا يجْزِيه على الصَّحِيح نعم يجوز الْحجر بعده بِشَرْط أَن لَا تنْتَقل النَّجَاسَة وَأما الْجلد فَالْأَظْهر أَنه إِن كَانَ مدبوغاً جَازَ الِاسْتِنْجَاء بِهِ وَإِلَّا فَلَا ثمَّ يشْتَرط مَعَ ذَلِك أَن يجِف الْخَارِج فَإِن جف تعين المَاء لِأَنَّهُ لَا يُمكن إِزَالَته إِلَّا بذلك قَالَ
(ويجتنب اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها فِي الصَّحرَاء)
إِذا أَرَادَ قَضَاء الْحَاجة فِي الصَّحرَاء حرم عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَال والاستدبار إِذا لم يسْتَتر بِشَيْء ستْرَة مُعْتَبرَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا أتيتم الْغَائِط فَلَا تستقبلوا الْقبْلَة وَلَا تستدبروها ببول وَلَا غَائِط وَلَكِن شرقوا أَو غربوا) نهى عَن ذَلِك وَظَاهره التَّحْرِيم وَاخْتلف فِي عِلّة ذَلِك فَقيل لِأَن الصَّحرَاء لَا تَخْلُو عَن مصل من ملك أَو جني أَو إنسي فَرُبمَا وَقع بَصَره على فرجه فَيَتَأَذَّى بِهِ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح التَّنْبِيه هَذَا التَّعْلِيل ضَعِيف وَالتَّعْلِيل الصَّحِيح مَا ذكره القَاضِي حُسَيْن وَالْبَغوِيّ وَالرُّويَانِيّ وَغَيرهم أَن جِهَة الْقبْلَة معظمة فَوَجَبَ صيانتها فِي الصَّحرَاء وَرخّص فِي الْبُنيان للْمَشَقَّة وَالله أعلم
(قلت) وقوى هَذَا التَّعْلِيل الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث سراقَة بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
(إِذا أَتَى أحدكُم الْبَوْل فَليُكرم قبْلَة الله عز وَجل فَلَا يستفبل الْقبْلَة) قَالَ وَهَذَا ظَاهر قوي فِي التَّعْلِيل بِمَا ذَكرْنَاهُ وَالله أعلم قَالَ النَّوَوِيّ إِن كَانَ بَين يَدَيْهِ سَاتِر مُرْتَفع قدر ثُلثي ذِرَاع وَقرب مِنْهُ على ثَلَاثَة أَذْرع جَازَ الِاسْتِقْبَال سَوَاء كَانَ فِي الْبُنيان أَو الصَّحرَاء هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَمِنْهُم من جزم فِي الصَّحرَاء مُطلقًا قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب وَالله أعلم وَقَوله فِي
(الصَّحرَاء) احْتَرز بهَا عَن غَيرهَا فَلَا يحرم اسْتِقْبَال الْقبْلَة واستدبارها فِي الْبُنيان قَالَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا
(ارتقيت على ظهر بَيت لنا فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على لبنتين مُسْتَقْبلا بَيت الْمُقَدّس) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ
(فرأيته مستدبر الْقبْلَة مُسْتَقْبل الشَّام) وَالله أعلم قَالَ

(1/33)


(وَالْبَوْل فِي المَاء الراكد)
تَقْدِير كَلَام الشَّيْخ ويجتنب الْبَوْل فِي المَاء الراكد وَقد عد الرَّافِعِيّ عدم الْبَوْل فِيهِ من الْآدَاب وَتَبعهُ فِي الرَّوْضَة وَاحْتج لذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم) وَفِي رِوَايَة
(الراكد) قَالَ الرَّافِعِيّ وَهَذَا الْمَنْع يَشْمَل الْقَلِيل وَالْكثير لما فِيهِ من الاستقذار وَالنَّهْي فِي الْقَلِيل أَشد لما فِيهِ من تنجس المَاء وَفِي اللَّيْل أَشد لما قيل إِن المَاء للجن فِي اللَّيْل فَلَا يَنْبَغِي أَن يبال فِيهِ وَلَا يغْتَسل فِيهِ خوفًا من آفَة تصيبه مِنْهُم هَذَا كُله فِي الراكد وَأما المَاء الْجَارِي فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ جمَاعَة إِن كَانَ قَلِيل كره وَإِن كَانَ كثير فَلَا وَفِيه نظر وَيَنْبَغِي أَن يحرم الْبَوْل الْقَلِيل قطعا لِأَن فِيهِ إتلافاً عَلَيْهِ وعَلى غَيره وَأما الْكثير فَالْأولى اجتنابه لَكِن جزم ابْن الرّفْعَة بِالْكَرَاهَةِ فِي المَاء الْكثير الْجَارِي لَيْلًا لأجل الجان وَالله أعلم قَالَ
(وَتَحْت الشَّجَرَة المثمرة) أَي ويجتنب الْبَوْل تَحت الشَّجَرَة المثمرة وَالْغَائِط أولى وَالْحكمَة فِي ذَلِك حَتَّى لَا تنجس الثَّمَرَة فتغسل أَو تعافها الْأَنْفس وَالْمرَاد بالثمرة الَّتِي من شَأْنهَا أَن تثمر قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَلِهَذَا تكون الْكَرَاهَة فِي غير وَقت الثَّمَرَة أخف قَالَ
(وَفِي الطَّرِيق)
أَي ويجتنب الْبَوْل فِي الطَّرِيق وَالْغَائِط أولى لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(اتَّقوا اللعانين قَالُوا وَمَا اللعانان يَا رَسُول الله قَالَ الَّذِي يتخلى فِي طَرِيق النَّاس أَو فِي ظلهم) قَالَ
(والثقب)
أَي ويجتنب أَن يَبُول فِي ثقب وَهُوَ مَا اسْتَدَارَ ويعبر عَنهُ بالبخش لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(نهى أَن يبال فِي الْجُحر لِأَنَّهَا مسَاكِن الْجِنّ) قَالَ
(والظل)
أَي ويجتنب الْبَوْل وَالْغَائِط أولى فِي ظلّ النَّاس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(اتَّقوا الْملَاعن الثَّلَاث البرَاز فِي

(1/34)


الْمَوَارِد وقارعة الطَّرِيق والظل) والموارد قيل الْمَوَاضِع الَّتِي يرد النَّاس إِلَيْهَا وَقيل طرق المَاء وقارعة الطَّرِيق أَعْلَاهُ وَقيل صَدره وَقيل مَا برز مِنْهُ ومواضع الشَّمْس فِي الشتَاء كمواضع الظل فِي الصَّيف وَيحرم الْبَوْل على الْقَبْر كَمَا يحرم الْجُلُوس عَلَيْهِ وَكَذَا يحرم الْبَوْل فِي الْمَسْجِد وَإِن كَانَ فِي إِنَاء على الرَّاجِح الْمُفْتى بِهِ وَيكرهُ الْبَوْل قَائِما إِلَّا لعذر لِأَنَّهُ فعله لعذر قَالَ
(وَلَا يتَكَلَّم على الْبَوْل وَالْغَائِط)
أَي ندبا قَالَ أَبُو سعيد رَضِي الله عَنهُ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
(لَا يخرج الرّجلَانِ يضربان الْغَائِط كاشفي عورتيهما يتحدثان فَإِن الله تَعَالَى يمقت على ذَلِك) والمقت أَشد البغض والْحَدِيث مَكْرُوه وَلم يفض إِلَى التَّحْرِيم كَمَا فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أبْغض الْحَلَال إِلَى الله تَعَالَى الطَّلَاق) وَفِي معنى الْكَلَام رد السَّلَام وتشميت الْعَاطِس والتحميد فَلَو عطس حمد الله تَعَالَى بِقَلْبِه وَلَا يُحَرك لِسَانه قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ وَيَنْبَغِي أَن لَا يَأْكُل وَلَا يشرب وَيَنْبَغِي أَن لَا ينظر مَا يخرج مِنْهُ وَلَا إِلَى فرجه وَلَا إِلَى السَّمَاء وَلَا يعبث بِيَدِهِ وَيكرهُ إطالة الْقعُود فِي الْخَلَاء وَيكرهُ أَن يكون مَعَه شَيْء فِيهِ اسْم الله تَعَالَى كالخاتم وَالدَّرَاهِم وَكَذَا مَا كَانَ فِيهِ قُرْآن وَألْحق باسم الله تَعَالَى اسْم رَسُوله تَعْظِيمًا لَهُ (كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا دخل الْخَلَاء وضع خَاتمه لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَاعْلَم أَن كل اسْم مُعظم مُلْحق بِمَا ذكرنَا فِي النزع صرح بِهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة فَيدْخل فِيهِ أَسمَاء جَمِيع الرُّسُل والأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(وَلَا يسْتَقْبل الشَّمْس وَالْقَمَر وَلَا يستدبرهما)
اسْتِقْبَال الشَّمْس وَالْقَمَر فِي حَال قَضَاء الْحَاجة مَكْرُوه سَوَاء فِي الصَّحرَاء والبنيان للأنهما من آيَات الله تَعَالَى الباهرة وَفِيه حَدِيث وَهل يكره استدبارهما قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الصَّحِيح الْمَشْهُور وَبِه قطع الْجُمْهُور أَن لَا يكره لَكِن جزم الرَّافِعِيّ فِي التذنيب أَنه يكره كالاستقبال وَوَافَقَهُ النَّوَوِيّ عَلَيْهِ فِي مُخْتَصر التذنيب ثمَّ إِن النَّوَوِيّ خَالف الْأَمريْنِ فِي شرح الْوَسِيط فَقَالَ لم يذكر الشَّافِعِي وَالْأَكْثَرُونَ أَن قَاضِي الْحَاجة يتْرك اسْتِقْبَال الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْمُخْتَار أَنه مُبَاح فعله

(1/35)


وَتَركه سَوَاء وَقَالَ فِي التَّحْقِيق إِن الْكَرَاهَة لَا أصل لَهَا وَالله أعلم
(فرع) قَالَ فِي التَّنْبِيه وَلَا يرفع ثَوْبه حَتَّى يدنو من الأَرْض يَعْنِي عَن عَوْرَته لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَفْعَله وَهُوَ ندب قَالَ ابْن الرّفْعَة وَكَونه ندبا فِيهِ نظر لِأَن الصَّحِيح أَن كشف الْعَوْرَة فِي الْخلْوَة بِلَا حَاجَة حرَام لِأَن الله تَعَالَى أَحَق أَن يستحيا مِنْهُ وَلَا حَاجَة قبل الدنو وَمَا بَحثه ابْن الرّفْعَة خرجه النَّوَوِيّ فِي شرح التَّنْبِيه على ذَلِك لكنه قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِن هَذَا مُسْتَحبّ بالِاتِّفَاقِ وَلَيْسَ بِوَاجِب صرح بِهِ أَبُو حَامِد وَابْن الصّباغ وَالْمُتوَلِّيّ وَغَيرهم وَالله أعلم قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَيسْتَحب إِذا فرغ أَن يسبل ثَوْبه قبل انتصابه قَائِما قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَمَا قَالَه حسن إِذا لم يخف تنجيس ثَوْبه فَإِن خَافَ رَفعه قدر حَاجته وَمن آدَاب قَضَاء الْحَاجة أَن لَا يَبُول فِي مهب الرّيح وَأَن يعْتَمد على رجله الْيُسْرَى وقدمها عِنْد مَحل الْبَوْل وَأَن يهيىء أَحْجَار الِاسْتِجْمَار قبل جُلُوسه وَأَن لَا يستنجي بِالْمَاءِ فِي مَوضِع قَضَاء الْحَاجة إِلَّا فِي الميض وَأَن يَقُول عِنْد الدُّخُول بِسم الله اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْخبث والخبائث وَعند الْفَرَاغ الْحَمد لله الَّذِي أذهب عني الْأَذَى وعافاني وَأَن يبعد عَن النَّاس وَأَن يتَّخذ موضعا لينًا للبول وَأَن ينضح فرجه وسراويله بعد الِاسْتِنْجَاء دفعا للوسواس وَلَو غلب على ظَنّه زَوَال النَّجَاسَة ثمَّ شم من يَده ريحًا فَهَل يدل على بَقَاء النَّجَاسَة فِي الْمحل كَالْيَدِ الْأَصَح لَا وَالله أعلم قَالَ
نواقض الْوضُوء
(فصل وَالَّذِي ينْقض الْوضُوء خَمْسَة أَشْيَاء مَا خرج من السَّبِيلَيْنِ)
وينقض الْوضُوء أَيْضا شِفَاء دَائِم الْحَدث كمن بِهِ سَلس من الْبَوْل أَو غَيره وشفاء الْمُسْتَحَاضَة وينقضه أَيْضا انْقِضَاء مُدَّة الْمسْح وَقد ذكره الشَّيْخ فِي فصل مسح الْخُف وينقضه أَيْضا أكل لحم الْجَزُور على مَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيّ وَقواهُ وَقَالَ إِن فِيهِ حديثين صَحِيحَيْنِ لَيْسَ عَنْهُمَا جَوَاب شاف وَقد اخْتَارَهُ جمَاعَة من أَصْحَابنَا الْمُحدثين وَقَالَ وَهُوَ مِمَّا يعْتَقد رجحانه وَالله أعلم وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُور الْأَصْحَاب أَنه لَا ينْقض الْوضُوء وأجتبوا عَن هَذَا بِمَا روى جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار إِذا عرفت هَذَا فالخارج من السَّبِيلَيْنِ وهما

(1/36)


الْقبل والدبر نَاقض للْوُضُوء عينا كَانَ أَو ريحًا مُعْتَادا أَو نَادرا كَالدَّمِ والحصى نجس الْعين كَانَ أَو طَاهِرا كالدود وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط} وَسُئِلَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن الْحَدث فَقَالَ
(فسَاء أَو ضراط) وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
(كنت رجلا مذاء فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَكَان ابْنَته فَأمرت الْمِقْدَاد بن الْأسود الْكِنْدِيّ فَسَأَلَهُ فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ) وَيسْتَثْنى مِمَّا خرج من السَّبِيلَيْنِ الْمَنِيّ على الْمَذْهَب فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة وَوجه بِأَن مَا أوجب أعظم الْأَمريْنِ بِخُصُوص فَلَا يُوجب أدونهما بِعُمُومِهِ كزنا الْمُحصن لما أوجب أعظم الحدين وَهُوَ الرَّجْم لكَونه زنا مُحصن لَا يُوجب أدونهما وَهُوَ الْجلد والتغريب لكَونه زنا وَقيل إِن خُرُوج الْمَنِيّ ينْقض الْوضُوء أَيْضا وَيُوجب الْغسْل كَمَا أطلقهُ الشَّيْخ وَكَذَا لفظ التَّنْبِيه وَبِه قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَأَبُو مُحَمَّد الْجُوَيْنِيّ وَجَمَاعَة مِنْهُم الإِمَام وَالْغَزالِيّ وَصرح بِهِ ابْن شُرَيْح بِأَنَّهُ ينْقض وَإِطْلَاق الشَّافِعِي يَقْتَضِيهِ فَإِنَّهُ قَالَ دلّت السّنة على الْوضُوء من الْمَذْي وَالْبَوْل وَالرِّيح وكل مَا خرج من وَاحِد من الْفرج وسخ فَفِيهِ الْوضُوء قَالَ ابْن عطيه فِي تَفْسِيره الْإِجْمَاع على أَن الْمَنِيّ نَاقض للْوُضُوء وَمَا اسْتدلَّ بِهِ الرَّافِعِيّ من أَن الشَّيْء إِذا أوجب أعظم الْأَمريْنِ إِلَى آخِره نقضه الْمَاوَرْدِيّ بِالْحيضِ وَقَالَ إِنَّه ينْقض الْوضُوء بالإتفاق وَوَافَقَ ابْن الرّفْعَة على أَنه ينْقض الْوضُوء وَالله أعلم قلت وَرَأَيْت بِخَط الجاربردي أَن الْحيض فِي نقضه للْوُضُوء خلاف وَعَزاهُ إِلَى بعض الْعِرَاقِيّين وَقَوله
(مَا خرج من السَّبِيلَيْنِ) احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا خرج من غَيرهمَا كالفصد والحجامة والقيء وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ لَا ينْقض الْوضُوء لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم احْتجم وَصلى وَلم يتَوَضَّأ وَلم يزدْ على غسل محاجمه وَلِأَن النَّقْض بِمثل مَا وَردت بِهِ السّنة غير مَعْقُول الْمَعْنى فَلَا يَصح الْقيَاس عَلَيْهِ وَلِأَن الْخُرُوج من السَّبِيلَيْنِ لَهُ خُصُوصِيَّة لَا تُوجد فِي غَيرهمَا وَالله أعلم قَالَ
(وَالنَّوْم على غير هَيْئَة المتمكن من الأَرْض مقعدة وَزَوَال الْعقل بسكر أَو مرض)
الناقض الثَّانِي زَوَال الْعقل وَله أَسبَاب مِنْهَا النّوم وَحَقِيقَته استرخاء الْبدن وَزَوَال شعوره وخفاء كَلَام من عِنْده وَلَيْسَ فِي مَعْنَاهُ النعاس فَإِنَّهُ لَا ينْقض الْوضُوء بِكُل حَال وَدَلِيل النَّقْض بِالنَّوْمِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(العينان وكاء السه فَإِذا نَامَتْ العينان انْطلق الوكاء فَمن نَام فَليَتَوَضَّأ)

(1/37)


وَمعنى الحَدِيث الْيَقَظَة وكاء الدبر فَإِذا نَام زَالَ الضَّبْط وَيسْتَثْنى مَا إِذا نَام مُمكنا مَقْعَده من الأَرْض على الصَّحِيح وَلَو كَانَ مُسْتَندا إِلَى شَيْء بِحَيْثُ لَو زَالَ لسقط لما روى أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ
(كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينامون ثمَّ يصلونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ) زَاد أَبُو دَاوُد
(حَتَّى تخفق رُءُوسهم وَكَانَ ذَلِك على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَمِنْهَا أَي أَسبَاب زَوَال الْعقل الْإِغْمَاء وَالْجُنُون وَالسكر وَهَذِه نواقض للْوُضُوء بِكُل حَال لِأَن النّوم إِذا كَانَ ناقضا فَهَذِهِ أولى الذهول عِنْد هَذِه الْأَسْبَاب أبلغ من النّوم
(فرع) إِذا نَام مُمكنا مَقْعَده من الأَرْض فَزَالَتْ إِحْدَى أليتيه عَن الأَرْض فَإِن كَانَ قبل انتباهه انْتقض وضوؤه وَإِن كَانَ بعده فَلَا ينْتَقض وَكَذَا إِذا كَانَ الزَّوَال مَعَه أَو شكّ فَلَا ينْتَقض وضوؤه لِأَن الأَصْل بَقَاء الطَّهَارَة وَلَو نَام على قَفاهُ مُلْصقًا مقْعد بِالْأَرْضِ انْتقض وَلَو كَانَ مستثفراً بِشَيْء أَي مستجمراً بِخرقَة كَمَا تستجمر الْمُسْتَحَاضَة بِشَيْء انْتقض أَيْضا على الْمَذْهَب وَاعْلَم أَن الشَّافِعِي وَالْأَصْحَاب قَالُوا يسْتَحبّ الْوضُوء من النّوم وَإِن كَانَ مُمكنا مَقْعَده من الأَرْض لِلْخُرُوجِ من الْخلاف وَالله أعلم قَالَ
(ولمس الرجل الْمَرْأَة من غير حَائِل بَينهمَا غير محرم فِي الْأَصَح)
من نواقض الْوضُوء لمس رجل بشرة امراءة مشتهاة غير محرم لقَوْله تَعَالَى {أَو لامستم النِّسَاء} عطف اللَّمْس على الْمَجِيء من الْغَائِط ورتب عَلَيْهِمَا الْأَمر بِالتَّيَمُّمِ عِنْد فقد المَاء فَدلَّ على أَنه حدث كالمجيء من الْغَائِط والبشرة ظَاهر الْجلد وَلَا فرق فِي الرجل بَين أَن يكون شَيخا فاقداً للشهوة أم لَا وَلَا بَين الْخصي والعنين فَإِنَّهُ ينْتَقض وضوؤه وَكَذَا الْمُرَاهق فَإِنَّهُ بنتقض وضوؤه وَلَا فرق فِي الْمَرْأَة بَين الشَّابَّة والعجوز الَّتِي تشْتَهى وَفِي الْميتَة خلاف صحّح النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الْقطع بالانتقاض وَصحح فِي كِتَابه رُؤُوس الْمسَائِل عدم النَّقْض وَالْخلاف مَبْنِيّ على اللَّفْظ وَالْمعْنَى كالمحارم فعلى مَا فِي شرج الْمُهَذّب وَهُوَ النَّقْض مَا الْفرق بَين الْمَحَارِم وَالْميتَة وَفِي الْفرق عسر وَقد يفرق بِإِمْكَان عود الْحَيَاة فِي الْميتَة بِخِلَاف الْمَحَارِم وَالله أعلم
وَلَو كَانَ الْعُضْو الملموس أشل أَو زَائِدا أَو وَقع اللَّمْس بِغَيْر قصد وَبِغير شَهْوَة فينقض الْوضُوء فِي كل ذَلِك لِأَن اللَّمْس حدث لظَاهِر الْآيَة الْكَرِيمَة
وَلَا ينْقض لمس الشّعْر وَالظفر وَالسّن على الرَّاجِح لِأَن مُعظم الالتذاذ بِهَذِهِ الْأَشْيَاء بِالنّظرِ فَلَيْسَتْ فِي مَظَنَّة الشَّهْوَة باللمس وَلَو لمس عضوا مباناً من امْرَأَة أَو لمس صَغِيرَة لم تبلغ حد الشَّهْوَة لم

(1/38)


ينْتَقض الْوضُوء على الرَّاجِح لِأَن ذَلِك فِي مَظَنَّة الشَّهْوَة كالمحرم وَإِن لمس محرما بِنسَب أَو رضَاع أَو مصاهرة فَهَل ينْتَقض الْوضُوء قَولَانِ
أَحدهمَا ينْتَقض لعُمُوم الْآيَة وَالرَّاجِح أَنه لَا ينْتَقض لِأَن الْمحرم لَيست فِي مَظَنَّة الشَّهْوَة وَيجوز أَن يستنبط من النَّص معنى يخصص عُمُومه وَالْمعْنَى فِي نقض الْوضُوء كَون غير الْمحرم فِي مَظَنَّة الشَّهْوَة وَهَذَا مَفْقُود فِي الْمحرم
قَوْله ولمس الرجل الْمَرْأَة احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا لمس صَغِيرَة لَا تشْتَهى وَقد مر وَعَما إِذا لمس أَمْرَد لَا ينْتَقض وَهُوَ الرَّاجِح وَلنَا وَجه أَن لمسه ينْقض كَالْمَرْأَةِ قَوْله من غير حَائِل احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا كَانَ بَينهمَا حَائِل فَإِنَّهُ لَا ينْقض وَالله أعلم قَالَ
(وَمَسّ الْفرج بِبَطن الْكَفّ)
من نواقض الْوضُوء مس فرج الْآدَمِيّ سَوَاء كَانَ من نَفسه أَو من غَيره من ذكر أَو أُنْثَى من صَغِير أَو كَبِير من حَيّ أَو ميت قبلا كَانَ الملموس أَو دبراً لصدق الْفرج على الْكل وَمَسّ الذّكر الْمَقْطُوع والأشل واللمس بِالْيَدِ الشلاء نَاقض أَيْضا على الرَّاجِح وَلَو مس بإصبع زَائِدَة إِن كَانَت على اسْتِوَاء الْأَصَابِع نقضت وَإِلَّا فَلَا على الرَّاجِح وَهَذَا كُله فِي الْمس بباطن الْكَفّ فَإِن مس بِظهْر الْكَفّ فَلَا وَكَذَا الْمس بِحرف الْكَفّ أَو برؤوس الْأَصَابِع أَو بِمَا بَينهمَا فَلَا ينْتَقض وضؤوه على الرَّاجِح وَقَالَ الإِمَام أَحْمد تنْتَقض الطَّهَارَة بالمس بباطن الْكَفّ وَظَاهره لإِطْلَاق الْمس فِي الْأَخْبَار ورد الشَّافِعِي ذَلِك بِأَن فِي بعض الْأَخْبَار لفظ الْإِفْضَاء وَمَعْلُوم أَن المُرَاد من الْأَخْبَار وَاحِد والإفضاء فِي الْكَفّ هُوَ الْمس بِبَطن الْكَفّ وَقَول الشَّافِعِي فِي اللُّغَة حجَّة مَعَ أَن ذَلِك مَشْهُور فِي اللُّغَة قَالَ فِي الْمُجْمل الْإِفْضَاء لُغَة إِذا أضيف إِلَى الْيَد كَانَ عبارَة عَن الْمس بباطن الْكَفّ تَقول الْعَرَب أفضيت بيَدي إِلَى الْأَمِير مبايعاً وَإِلَى الأَرْض سَاجِدا إِذا مَسهَا بباطنها وَكَذَا ذكره الْجَوْهَرِي وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْمس لَا ينْقض محتجاً بِحَدِيث طلق وَحجَّة الشَّافِعِيَّة حَدِيث بسرة بنت صَفْوَان رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَت سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول
(من مس ذكره فَليَتَوَضَّأ) وَلَا ينْقض مس دبر الْبَهِيمَة قَالَ الرَّافِعِيّ بِلَا خلاف وَفِيه خلاف وَفِي مس قبلهَا قَولَانِ الْقَدِيم أَنه ينْقض لِأَنَّهُ يجب الْغسْل بالإيلاج فِيهِ فينقض كفرج الْمَرْأَة والجديد الْأَظْهر أَنه لَا ينْقض مس لِأَنَّهُ لَا يجب ستره وَلَا يحرم النّظر إِلَيْهِ فعلى الْأَظْهر لَو أَدخل يَده فِيهِ لم ينْتَقض وضوؤه على الرَّاجِح وَالله أعلم

(1/39)


(فرع) من الْقَوَاعِد المقررة الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا كثير من أَحْكَام الشَّرِيعَة اسْتِصْحَاب الأَصْل وَطرح الشَّك وَبَقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ وَقد أجمع النَّاس على أَن الشَّخْص لَو شكّ هَل طلق زوجنه أم لَا أَنه يجوز لَهُ وَطْؤُهَا كَمَا لَو شكّ فِي امْرَأَة هَل تزَوجهَا أم لَا لَا يجوز لَهُ وَطْؤُهَا وَمن ذَلِك مَا إِذا تَيَقّن الطَّهَارَة وَشك فِي الْحَدث فَالْأَصْل بَقَاء الطَّهَارَة وَعدم الْحَدث وَلَو تَيَقّن الْحَدث وَشك فِي الطَّهَارَة فَالْأَصْل بَقَاء الْحَدث وَعدم الطَّهَارَة وَلَو تَيَقّن الطَّهَارَة وَالْحَدَث جَمِيعًا بِأَن تَيَقّن أَنه بعد طُلُوع الشَّمْس مثلا أَنه تطهر وأحدث وَلم يعلم السَّابِق مِنْهُمَا فبماذا يَأْخُذ بِهِ فِيهِ خلاف الرَّاجِح فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه ينظر إِن كَانَ قبل طُلُوع الشَّمْس يَقِينا وَالْحَدَث بعد طُلُوع الشَّمْس يحْتَمل أَن يكون قبل الطَّهَارَة وَبعدهَا فَصَارَت الطَّهَارَة أصلا بِهَذَا الِاعْتِبَار وَإِن كَانَ قبل طُلُوع الشَّمْس متطهراً فَهُوَ الْآن مُحدث لِأَن يَقِين الطَّهَارَة قبل طُلُوع الشَّمْس رَفعه يَقِين الْحَدث بعد الطُّلُوع وَيجوز أَن تتقدم الطَّهَارَة على الْحَدث وتتأخر فَبَقيَ الْحَدث أصلا وعَلى ذَلِك جرى فِي الْمِنْهَاج وَقَالَ فِي الرَّوْضَة هَذَا يَعْنِي أَنه يَأْخُذ بضد مَا قبلهمَا إِذا كَانَ مِمَّن يعْتَاد تَجْدِيد الْوضُوء وَإِلَّا فَهُوَ الْآن متطهر لِأَن الظَّاهِر تَأَخّر طهارنه وَقيل لانظر إِلَى مَا قبل طُلُوع الشَّمْس وَيجب الْوضُوء بِكُل حَال قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَشرح الْوَسِيط وَهَذَا هُوَ الْأَظْهر الْمُخْتَار قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَهُوَ قَول عَامَّة أَصْحَابنَا وَالله أعلم وَلَو لم يعلم مَا قبل طُلُوع الشَّمْس تَوَضَّأ بِكُل حَال وَمن هَذِه الْقَاعِدَة مَا إِذا شكّ من نَام قَاعِدا مُمكنا ثمَّ مَال وانتبه أَيهمَا أسبق أَو شكّ هَل مَا رَآهُ رُؤْيا أَو حَدِيث نفس أَو هَل لمس الشّعْر أَو الْبشرَة وَنَحْو ذَلِك فَلَا ينْتَقض الْوضُوء فِي جَمِيع ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
مُوجبَات الْغسْل
(فصل وَالَّذِي يُوجب الْغسْل سِتَّة أَشْيَاء تشترك فِيهَا الرِّجَال وَالنِّسَاء وَهِي التقاء الختانين وإنزال الْمَنِيّ وَالْمَوْت)
الْغسْل بِفَتْح الْغَيْن وَضمّهَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي التَّحْرِير وَقَالَ الْجَوْهَرِي هُوَ بِالْفَتْح اسْم للْفِعْل وبالضم اسْم للدلك وَالله أعلم وَأما الْوضُوء بِفَتْح الْوَاو فاسم للْمَاء وَبِضَمِّهَا اسْم للْفِعْل على الْأَكْثَر إِذا عرفت هَذَا فللغسل أَسبَاب مِنْهَا التقاء الختانين ويعبر عَنهُ أَيْضا بِالْجِمَاعِ وَهُوَ عبارَة عَن تغييب الْحَشَفَة أَو قدرهَا فِي أَي فرج كَانَ سَوَاء غيب فِي قبل امْرَأَة أَو بَهِيمَة أَو دبرهما أَو دبر رجل صَغِير أَو كَبِير حَيّ أَو ميت وَيجب أَيْضا على الْمَرْأَة بِأَيّ ذكر دخل فِي فرجهَا حَتَّى ذكر الْبَهِيمَة وَالْمَيِّت وَالصَّبِيّ وعَلى الذّكر المولج فِي دبره وَلَا يجب إِعَادَة غسل الْمَيِّت المولج فِيهِ على الْأَصَح وَيصير الصَّبِي وَالْمَجْنُون المولج فيهمَا جنبين بِلَا خلاف فَإِن اغْتسل الصَّبِي وَهُوَ مُمَيّز صَحَّ غسله

(1/40)


وَلَا يجب عَلَيْهِ إِعَادَته إِذا بلغ وعَلى الْوَلِيّ أَن يَأْمر الصَّبِي الْمُمَيز بِالْغسْلِ فِي الْحَال كَمَا يَأْمُرهُ بِالْوضُوءِ ثمَّ لَا فرق فِي ذَلِك بَين أَن ينزل مِنْهُ مني أم لَا وَالْأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(إِذا التقى الختانان أَو مس الْخِتَان الْخِتَان وَجب الْغسْل فعلته أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاغتسلنا) وَالْمرَاد بالإلتقاء التحاذي لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر تصادمهما لِأَن ختان الْمَرْأَة أَعلَى من مدْخل الذّكر وَيُقَال التقى الفارسان إِذا تحاذيا
وَمِنْهَا إِنْزَال الْمَنِيّ فَمَتَى خرج الْمَنِيّ وَجب الْغسْل سَوَاء خرج من الْمخْرج الْمُعْتَاد أَو من ثقبه فِي الصلب أَو الخصية على الْمَذْهَب وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِنَّمَا المَاء من المَاء) وَسَوَاء خرج فِي الْيَقَظَة أَو النّوم وَسَوَاء كَانَ بِشَهْوَة أَو غَيرهَا لإِطْلَاق الْخَبَر ثمَّ للمني ثَلَاث خَواص يتَمَيَّز بهَا عَن الْمَذْي والودي أَحدهَا لَهُ رَائِحَة كرائحة الْعَجِين والطلع مَا دَامَ رطبا فإذاجف أشبهت رائحتة رَائِحَة الْبيض الثَّانِيَة التدفق دفعات قَالَ الله تَعَالَى {من مَاء دافق} الثَّالِثَة التَّلَذُّذ بِخُرُوجِهِ واستعقابه فتور الذّكر وانكسار الشَّهْوَة وَلَا يشْتَرط اجْتِمَاع الْخَواص بل تَكْفِي وَاحِدَة فِي كَونه منياً بِلَا خلاف وَالْمَرْأَة كَالرّجلِ فِي ذَلِك على الرَّاجِح وَالرَّوْضَة وَقَالَ فِي شرح مُسلم لَا يشْتَرط التدفق فِي حَقّهَا وَتبع فِيهِ ابْن الصّلاح
(فرع) لَو تنبه من نَومه فَلم يجد إِلَّا الثخانة وَالْبَيَاض فَلَا غسل لِأَن الودي شَارك الْمَنِيّ فِي الثخانة وَالْبَيَاض بل يتَخَيَّر بَين جعله ودياً أَو منياً على الْمَذْهَب وَلَو اغْتسل ثمَّ خرجت مِنْهُ بَقِيَّة وَجب الْغسْل ثَانِيًا بِلَا خلاف سَوَاء خرجت قبل الْبَوْل أَو بعده وَلَو رأى الْمَنِيّ فِي ثَوْبه أَو فِي فرَاش لَا ينَام فِيهِ غَيره وَلم يذكر احتلاماً لزمَه الْغسْل على الصَّحِيح الْمَنْصُوص الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ لهَذَا إِذا كَانَ الْمَنِيّ فِي بَاطِن الثَّوْب فَإِن كَانَ فِي ظَاهره فَلَا غسل عَلَيْهِ لاحْتِمَال إِصَابَته من غَيره وَلَو أحس بانتقال الْمَنِيّ ونزوله فَأمْسك ذكره فَلم يخرج مِنْهُ شَيْء فِي الْحَال وَلَا علم خُرُوجه بعده فَلَا غسل عَلَيْهِ وَالله أعلم وَمِنْهَا الْمَوْت وَهُوَ يجب الْغسْل لما رُوِيَ
(عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الْمحرم الَّذِي وقصته نَاقَته اغسلوه بِمَاء وَسدر) وَظَاهره الْوُجُوب والوقص كسر الْعُنُق قَالَ
(وَثَلَاثَة تخْتَص بهَا النِّسَاء وَهِي الْحيض وَالنّفاس والولادة)

(1/41)


من الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للْغسْل الْحيض قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تقربوهن حَتَّى يطهرن فَإِذا تطهرن فاتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله} نهى عَن قربانهن إِلَى الْغَايَة وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(إِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة فَإِذا ذهب قدرهَا فاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي وَفِي رِوَايَة
(ثمَّ اغْتَسِلِي وَصلي) وَالنّفاس كالحيض فِي ذَلِك وَفِي مُعظم الْأَحْكَام وَمن الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للْغسْل الْولادَة وَله عِلَّتَانِ إحدهما أَن الْولادَة وظنة خُرُوج الدَّم وَالْحكم يتَعَلَّق بالمظان أَلا ترى أَن النّوم ينْقض الْوضُوء لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْحَدث وَالْعلَّة الثَّانِيَة وَهِي الَّتِي قَالَهَا الْجُمْهُور أَن الْوَلَد مني مُنْعَقد وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِيمَا إِذا ولدت ولدا وَلم تَرَ بللاً فعلى الأول لَا يجب الْغسْل وعَلى الْعلَّة الثَّانِيَة وَهُوَ أَنه مني مُنْعَقد يجب الْغسْل وَهُوَ الرَّاجِح وَكَذَا يجب الْغسْل بِوَضْع الْعلقَة والمضغة على الرَّاجِح وَمِنْهُم من قطع بِالْوُجُوب بِوَضْع المضغة وَالله أعلم قَالَ
فَرَائض الْغسْل
(فصل
وفرائض الْغسْل ثَلَاثَة أَشْيَاء النِّيَّة وَإِزَالَة النَّجَاسَة إِن كَانَت على بدنه) نِيَّة الْغسْل وَاجِبَة كَمَا فِي الْوضُوء لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) وَمحل النِّيَّة أول جُزْء مغسول من الْبدن وكيفيتها أَن يَنْوِي الْجنب رفع الْجَنَابَة أَو رفع الْحَدث الْأَكْبَر عَن جَمِيع الْبدن وَلَو نوى رفع الْحَدث وَلم يتَعَرَّض للجنابة وَلَا غَيرهَا صَحَّ غسله على الْأَصَح لِأَن الْحَدث عبارَة عَن الْمَانِع من الصَّلَاة وَغَيرهَا على أَي وَجه فرض وَقد نَوَاه وَلَو نوى رفع الْحَدث الأضغر مُتَعَمدا لم يَصح فِي الْأَصَح لتلاعبه وَإِن غلط فَظن أَن حَدثهُ أَصْغَر لم ترْتَفع الْجَنَابَة عَن غير أَعْضَاء الْوضُوء وَفِي أَعْضَاء الْوضُوء وَجْهَان الرَّاجِح ترْتَفع عَن الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ لِأَن غسل هَذِه الْأَعْضَاء وَاجِب فِي الحدثين فَإِذا غسلهمَا بنية غسل وَاجِب كفي دون الرَّأْس على الرَّاجِح لِأَن الَّذِي نَوَاه فِي الرَّأْس الْمسْح وَالْمسح لَا يُغني عَن الْغسْل وَلَو نوى الْجنب اسْتِبَاحَة مَا يتَوَقَّف الْغسْل عَلَيْهِ كَالصَّلَاةِ وَالطّواف وَقِرَاءَة الْقُرْآن أَجزَأَهُ وَإِن نوى مَا يسْتَحبّ لَهُ كَغسْل الْجُمُعَة وَنَحْوه لم يجزه لِأَنَّهُ لم ينْو أمرا وَاجِبا وَلَو نوى الْغسْل الْمَفْرُوض أَو فَرِيضَة الْغسْل أَجزَأَهُ قطعا قَالَه فِي الرَّوْضَة وتنوي الْحَائِض رفع حدث الْحيض فَلَو نَوَت رفع الْجَنَابَة متعمدة لم يَصح مَا لَو نوى الْجنب رفع الْحيض وَإِن غَلطت صَحَّ

(1/42)


غسلهَا ذكره فِي شرح الْمُهَذّب وتنوي النُّفَسَاء رفع حدث النّفاس فَلَو نَوَت رفع حدث الْحيض قَالَ ايْنَ الرّفْعَة لَا يَصح وَقَالَ الإسنائي يَنْبَغِي أَن يَصح
وَاعْلَم أَن تَقْدِيم إِزَالَة النَّجَاسَة شَرط لصِحَّة الْغسْل فَلَو كَانَ على بدنه نَجَاسَة فَغسل بدنه بنية رفع الْحَدث زإزالة النَّجس طهر عَن النَّجس وَهل يرْتَفع حَدثهُ أَيْضا فِيهِ خلاف الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه لَا يرْتَفع حَدثهُ وَالرَّاجِح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة أَنه يرْتَفع حَدثهُ ومنشأ الْخلاف أَن المَاء هَل لَهُ قُوَّة رفع الْحَدث وَإِزَالَة النَّجس مَعًا أم لَا ثمَّ إِن النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَافق الرَّافِعِيّ على أَن الغسلة لَا تَكْفِي وَالله أعلم قَالَ
(وإيصال المَاء إِلَى أصُول الشّعْر والبشرة)
يجب اسْتِيعَاب الْبدن بِالْغسْلِ شعرًا وبشراً سَوَاء قل أَو كثر وَسَوَاء خف أَو كثف وَسَوَاء شعر الرَّأْس وَالْبدن وَسَوَاء أُصُوله أَو مَا استرسل مِنْهُ قَالَ الرَّافِعِيّ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(تَحت كل شَعْرَة جَنَابَة فبلوا الشُّعُور وأنقوا الْبشرَة) وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف بِاتِّفَاق الْحفاظ مِنْهُم الشَّافِعِي وَالْبُخَارِيّ حَتَّى النَّوَوِيّ نعم يحْتَج لذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من ترك مَوضِع شَعْرَة من جَنَابَة لم يغسلهُ يفعل بِهِ كَذَا من النَّار قَالَ عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه فَمن ثمَّ عاديت شعر رَأْسِي وَكَانَ يجز شعره)
وَاعْلَم أَنه يجب نقض الضفائر إِن لم يصل المَاء إِلَى بَاطِنهَا إِلَّا بِالنَّقْضِ وَلَا يجب إِن وصل وَحَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا وَهُوَ فِي صَحِيح مُسلم
(قلت يَا رَسُول الله إِنِّي إمرأة أَشد ضفر رَأْسِي فأنقضه لغسل الْجَنَابَة قَالَ إِنَّمَا يَكْفِيك أَن تحثي على رَأسك ثَلَاث حثيات ثمَّ تفيضي عَلَيْهِ المَاء فتطهرين) مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ الشّعْر خَفِيفا والشد لَا يمْنَع من وُصُول المَاء إِلَيْهِ وَإِلَى الْبشرَة جمعا بَين الْأَدِلَّة وَهل يسامح بباطن العقد على الشعرات فِيهِ خلاف الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه يسامح بِهِ للسر وَالرَّاجِح عِنْد النَّوَوِيّ أَنه لَا يُعْفَى عَنهُ لِأَنَّهُ يُمكن قطعهَا بِلَا ضَرَر وَلَا ألم قَالَ وَهُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور وَالله أعلم وَأما الْبشرَة وَهِي الْجلد فَيجب غسل مَا ظهر مِنْهَا حَتَّى مَا ظهر من صماخي الْأُذُنَيْنِ قطعا والشقوق فِي الْبدن وَكَذَا يجب غسل مَا تَحت القلفة من الأقلف وَكَذَا مَا أظهر من أنف المجدوع وَكَذَا مَا يَبْدُو من الثّيّب إِذا قعدت لقَضَاء الْحَاجة على الرَّاجِح وَلَا تجب الْمَضْمَضَة وَلَا الِاسْتِنْشَاق فِي الْأَصَح وَالله أعلم قَالَ

(1/43)


سنَن الْغسْل
(وسننه خَمْسَة أَشْيَاء التَّسْمِيَة وَغسل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء وَالْوُضُوء قبله)
للْغسْل سنَن كَمَا فِي الْوضُوء فَمِنْهَا التَّسْمِيَة وَغسل كفيه قبل إدخالهما الْإِنَاء وَقد ذكرنَا ذَلِك وَاضحا فِي الْوضُوء وَالْغسْل مثله قَالَ فِي الرَّوْضَة وَاعْلَم أَن مُعظم السّنَن يَعْنِي فِي الْوضُوء يَجِيء مثلهَا فِي الْغسْل وَفِي وَجه أَن التَّسْمِيَة لَا تسْتَحب فِي الْغسْل وَأما الْوضُوء فَهَل هُوَ سنة أَو وَاجِب فِيهِ خلاف مَبْنِيّ على أَن خُرُوج الْمَنِيّ نَاقض أم لَا إِن قُلْنَا ينْقض الْوضُوء فَلَيْسَ من سنَن الْغسْل وعَلى هَذَا فيندرج فِي الْغسْل على الْمَذْهَب وَلَا بُد من أَفْرَاد بِالنِّيَّةِ قَالَ الرَّافِعِيّ إِذْ لَا قَائِل إِلَى أَنه يَأْتِي بِوضُوء مُفْرد وبوضوء آخر لرعاية كَمَال الْغسْل وَإِن قُلْنَا أَن الْمَنِيّ لَا ينْقض الْوضُوء وَهُوَ مَا رجح الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فالوضوء من سنَن الْغسْل وَلَا يحْتَاج إِلَى إِفْرَاده بنية وَتحصل سنَنه سَوَاء قدمه على الْغسْل أَو أَخّرهُ أَو قدم بعضه وَأخر الْبَعْض وأيها أفضل فِيهِ قَولَانِ الرَّاجِح أَن تَقْدِيم الْوضُوء بِكَمَالِهِ أفضل لقَوْل عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة) وَالْقَوْل الآخر يسْتَحبّ أَن يُؤَخر غسل قَدَمَيْهِ إِلَى بعد الْفَرَاغ من الْغسْل لحَدِيث مَيْمُونَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَانَ يُؤَخر غسل قَدَمَيْهِ) وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن بتخير لصِحَّة الرِّوَايَتَيْنِ
(فَائِدَة) إِذا فرعنا على الصَّحِيح عِنْد الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي أَن الْمَنِيّ لَا ينْقض الْوضُوء فيتصور تجرد الْجَنَابَة عَن الحَدِيث الْأَصْغَر فِي صور مِنْهَا إِذا لف على ذكره خرقَة وأولج وَمِنْهَا إِذْ نزل الْمَنِيّ وَهُوَ نَائِم مُمكن مَقْعَده من الأَرْض وَكَذَا إِذا نزل بِنَظَر أَو فكر لشدَّة غلمته وَمِنْهَا إِذا أولج فِي دبر بَهِيمَة أَو دبر ذكر عَافَانَا الله من ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وإمرار الْيَد على الْجَسَد والموالاة وَتَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى)
من سنَن الْغسْل ذَلِك الْجَسَد ليحصل إنقاء الْبشرَة وبل الشُّعُور ويتعهد مَوَاضِع الانعطاف والالتواء كالأذنين وغضون الْبَطن وكل ذَلِك قبل إفَاضَة المَاء على رَأسه وَإِنَّمَا يفعل ذَلِك ليَكُون أبعد عَن الْإِسْرَاف فِي المَاء وَأقرب إِلَى الثِّقَة بوصول المَاء وَمن سنَن الْغسْل الْمُوَالَاة وَتَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى لِأَنَّهُ عبَادَة فَيُسْتَحَب ذَلِك فِيهَا كَمَا فِي الْوضُوء وَمن سنَن الْغسْل اسْتِصْحَاب النِّيَّة إِلَى آخر الْغسْل والبداءة بأعضاء الْوضُوء ثمَّ الرَّأْس ثمَّ بشقه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر وَيكون غسل جَمِيع الْبدن ثَلَاثًا كَالْوضُوءِ فَإِن اغْتسل فِي نهر وَنَحْوه انغمس ثَلَاثًا ويدلك فِي كل مرّة وَيسْتَحب أَن

(1/44)


لَا ينقص مَاء الْغسْل عَن صَاع وَالْوُضُوء عَن مد وَالْمدّ رَطْل وَثلث بالبغدادي هَذَا على الْمَذْهَب وَقيل رطلان والصاع أَرْبَعَة أَمْدَاد وَيسْتَحب أَلا يغْتَسل فِي المَاء الراكد وَأَن يَقُول بعد الْفَرَاغ أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَالله أعلم
(فرع) يحرم على الشَّخْص أَن يغْتَسل بِحَضْرَة النَّاس مَكْشُوف الْعَوْرَة وَيُعَزر على ذَلِك تعزيراً يَلِيق بِحَالهِ وَيحرم على الْحَاضِرين إِقْرَاره على ذَلِك وَيجب عَلَيْهِم الْإِنْكَار عَلَيْهِ فَإِن سكتوا أثموا وعزروا وَيجوز ذَلِك فِي الْخلْوَة والستر أفضل لِأَن الله سُبْحَانَهُ أَحَق أَن يستحيا مِنْهُ وَلَا يجب غسل دَاخل الْعين وَلَا يسْتَحبّ تَجْدِيد الْغسْل على الرَّاجِح بِخِلَاف تَجْدِيد الْوضُوء وَالله أعلم
(فرع) لَو أحدث فِي أثْنَاء غسله جَازَ أَن يتم غسله وَلَا يمْنَع الْحَدث صِحَّته لَكِن لَا يُصَلِّي حَتَّى يتَوَضَّأ وَالله أعلم قَالَ

(الأغسال المسنونة)
(فصل والأغسال المسنونة سَبْعَة عشر غسلا الْجُمُعَة والعيدان وَالِاسْتِسْقَاء والكسوف والخسوف)
يسن الْغسْل لأمور مِنْهَا الْجُمُعَة وَاحْتج لَهُ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من أَتَى مِنْكُم الْجُمُعَة فليغتسل) وَاحْتج بَعضهم على وجوب الْغسْل بِهَذَا الحَدِيث وَقَالَ الْأَمر للْوُجُوب وَقد جَاءَ مُصَرحًا بِهِ فِي حَدِيث آخر وَلَفظه
(غسل الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم) وبوجوبه قَالَ طَائِفَة من السّلف وحكوه عَن بعض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَهُوَ قَول الظَّاهِرِيَّة وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن مَالك والخطابي عَنهُ وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ وَمذهب الشَّافِعِي أَنه سنة وَبِه قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف وَهُوَ الْمَعْرُوف من مَذْهَب مَالك وَحجَّة الْجُمْهُور أَحَادِيث صَحِيحَة مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من تَوَضَّأ يَوْم الْجُمُعَة فبها ونعمت وَمن اغْتسل فالغسل أفضل) قَالَ النَّوَوِيّ حَدِيث

(1/45)


صَحِيح وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَو اغتسلتم يَوْم الْجُمُعَة) وَمِنْهَا حَدِيث عُثْمَان لما دخل وَعمر يخْطب وَقد ترك الْغسْل ذكره مُسلم فأقره عمر رَضِي الله عَنهُ وَمن حضر الْجُمُعَة وهم أهل الْحل وَالْعقد وَلَو كَانَ وَاجِبا لما تَركه لألزمه بِهِ الْحَاضِرُونَ فَإِذن يحمل الْأَمر على الِاسْتِحْبَاب جمعا بَين الْأَدِلَّة وَيحمل لَفْظَة وَاجِب على التَّأْكِيد كَمَا يُقَال حَقك وَاجِب عَليّ أَي متأكد وكيفيته كَمَا مر وَيدخل وقته بِطُلُوع الْفجْر على الْمَذْهَب وَفِي وَجه شَاذ مُنكر قبل الْفجْر كَغسْل الْعِيد وَيسْتَحب تقريبه من الرواح إِلَى الْجُمُعَة لِأَن الْمَقْصُود من الْغسْل قطع الرَّائِحَة الكريهة الَّتِي تحدث عِنْد الزحمة من وسخ غَيره وَهل يسْتَحبّ لكل أحد كَيَوْم الْعِيد أم لَا الصَّحِيح أَنه إِنَّمَا يسْتَحبّ لمن يحضر الْجُمُعَة وَسَوَاء فِي ذَلِك من تجب عَلَيْهِ الْجُمُعَة أم لَا وَلَو أجنب بجماع أَو غَيره لَا يبطل غسله فيغتسل للجنابة وَلَو عجز عَن الْغسْل لعدم المَاء أَو لقرح فِي بدنه تيَمّم وَحَازَ الفضيله قَالَ جُمْهُور الْأَصْحَاب وَهُوَ الصَّحِيح قِيَاسا على سَائِر الأغسال إِذا عجز عَنْهَا وَالله أعلم وَمِنْهَا العيدان فَيُسْتَحَب أَن يغْتَسل لَهما لقَوْل ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل يَوْم الْفطر وَيَوْم الْأَضْحَى) وَكَانَ عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا يفعلانه وَكَذَا ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لِأَنَّهُ أَمر يجْتَمع لَهُ النَّاس فَيُسْتَحَب أَن يغْتَسل لَهُ قِيَاسا على الْجُمُعَة وَيجوز بعد الْفجْر بِلَا خلاف وَقَبله على الرَّاجِح وَيخْتَص بِالنِّصْفِ الْأَخير على الرَّاجِح وَقيل يجوز فِي جَمِيع اللَّيْل وَالله أعلم وَمِنْهَا الاسْتِسْقَاء فَيُسْتَحَب أَن يغْتَسل لَهُ لأجل قطع الروائح لِأَنَّهُ مَحل يشرع فِيهِ الِاجْتِمَاع فَأشبه الْجُمُعَة وَمِنْهَا الْكُسُوف للشمس والخسوف وَيُقَال فيهمَا كسوف وخسوف إِذا ذهب ضوء الشَّمْس وَالْقَمَر وَقيل الْكُسُوف للشمس والخسوف للقمر قَالَه الْجَوْهَرِي مَعَ أَنه قَالَ إِن الْكُسُوف والخسوف يُطلق عَلَيْهِمَا مَعًا وَالسّنة أَن يغْتَسل لَهما لِأَنَّهُمَا صَلَاة يشرع الِاجْتِمَاع لَهَا فَيُسْتَحَب الِاغْتِسَال لَهَا كَالْجُمُعَةِ وَالله أعلم قَالَ
(وَالْغسْل من غسل الْمَيِّت وَالْكَافِر إِذا أسلم وَالْمَجْنُون إِذا أَفَاق والمغمى عَلَيْهِ إِذا أَفَاق)
الْغسْل من غسل الْمَيِّت هَل هُوَ وَاجِب أَو مُسْتَحبّ قَولَانِ الْقَدِيم أَنه وَاجِب والجديد وَهُوَ الرَّاجِح أَنه مُسْتَحبّ وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(من غسل مَيتا فليغتسل وَمن حمله فَليَتَوَضَّأ) قَالَ الإِمَام أَحْمد إِنَّه مَوْقُوف على أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ وَلذَلِك لم يقل بِوُجُوبِهِ وَقَالَ الشَّافِعِي لَو

(1/46)


صَحَّ الحَدِيث لَقلت بِوُجُوبِهِ وَمن الأغسال المسنونة غسل الْكَافِر إِذا أسلم وَرُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر قيس بن عَاصِم وثمامة بن أَثَال أَن يغتسلا لما أسلما وَلم يُوجِبهُ لِأَن جمَاعَة أَسْلمُوا فَلم يَأْمُرهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهِ وَلِأَن الْإِسْلَام تَوْبَة من مَعْصِيّة فَلم يجب الْغسْل مِنْهُ كَسَائِر الْمعاصِي وَهَذَا فِي كَافِر لم يجنب فِي كفره فَإِن أجنب فَالْمَذْهَب أَنه يلْزمه الْغسْل بعد الْإِسْلَام لعدم صِحَة النِّيَّة مِنْهُ حَال كفره وَمن الأغسال المسنونة غسل الْمَجْنُون إِذا أَفَاق كَذَا الْمغمى عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك مَظَنَّة إِنْزَال الْمَنِيّ قَالَ الشَّافِعِي مَا جن إِنْسَان إِلَّا أنزل قَالَ بَعضهم إِذا كَانَ الْمَجْنُون ينزل غَالِبا فَيَنْبَغِي أَن يجب الْغسْل كالنوم ينْقض الْوضُوء لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْحَدث وَأجَاب الْجُمْهُور الَّذين قَالُوا بالاستحباب بِأَن النّوم مَظَنَّة لَا عَلامَة فِيهَا على الْحَدث بعد الْإِفَاقَة والمني عين يُمكن رؤيتها وَالله أعلم قَالَ
(وَالْغسْل عِنْد الْإِحْرَام وَدخُول مَكَّة وللوقوف بِعَرَفَة ولرمي الْجمار الثَّلَاث وللطواف)
يَتَعَدَّد الْغسْل الْمُتَعَلّق بِالْحَجِّ لأمور مِنْهَا الْإِحْرَام
(عَن زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تجرد لإهلاله واغتسل) وَيَسْتَوِي فِي اسْتِحْبَابه الرجل وَالصَّبِيّ وَالْمَرْأَة وَإِن كَانَت حَائِضًا أَو نفسَاء لِأَن أَسمَاء بنت عُمَيْس زَوْجَة الصّديق رَضِي الله عَنْهُمَا نفست بِذِي الحليفة فَأمرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أَن تَغْتَسِل للْإِحْرَام) وَلَا فرق فِي الرجل بَين الْعَاقِل وَالْمَجْنُون ة لَا بَين الصَّبِي الْمُمَيز وَغَيره فَإِن لم يجد الْمحرم المَاء تيَمّم فَإِن وجد مَاء يَكْفِيهِ تَوَضَّأ بِهِ قَالَه الْبَغَوِيّ والمحاملي قَالَ النَّوَوِيّ إِن تيَمّم مَعَ الْوضُوء فَحسن وَإِن اقْتصر على الْوضُوء فَلَيْسَ بجيد لِأَن الْمَطْلُوب الْغسْل وَالتَّيَمُّم يقوم مقامة دون الْوضُوء قَالَ الإسنائي نَص الشَّافِعِي على الِاسْتِحْبَاب فِي الْوضُوء والاقتصار عَلَيْهِ دون التَّيَمُّم وَعَزاهُ إِلَى نقل الْمحَامِلِي وَالْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم
وَمِنْهَا دُخُول مَكَّة
(كَانَ ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا لَا يقدم مَكَّة إِلَّا بَات بِذِي طوى حَتَّى يصبح ويغتسل ثمَّ يدْخل مَكَّة نَهَارا وَيذكر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يَفْعَله) ثمَّ لَا فرق فِي اسْتِحْبَاب

(1/47)


الْغسْل لمن دخل مَكَّة بَين من أحرم بِالْحَجِّ أَو الْعمرَة أَو يحرم الْبَتَّةَ وَقد نَص الشَّافِعِي فِي الْأُم أَن من لم يحرم يغْتَسل وَاحْتج بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَام الْفَتْح اغْتسل لدُخُول مَكَّة وَهُوَ حَلَال يُصِيب الطّيب نعم قَالَ الْمَاوَرْدِيّ الْمُعْتَمِر إِذا خرج من مَكَّة فَأحْرم واغتسل لإحرامه ثمَّ أَرَادَ دُخُول مَكَّة نظر إِن كَانَ أحرم من مَكَان بعيد كالجعرانة وَالْحُدَيْبِيَة اسْتحبَّ الْغسْل لدُخُول مَكَّة وَإِن أحرم من التَّنْعِيم فَلَا لقُرْبه قَالَ ابْن الرّفْعَة وَيظْهر أَن يُقَال بِمثلِهِ فِي الْحَج وَالله أعلم
وَمِنْهَا الْوُقُوف بِعَرَفَة وَيسْتَحب أَن يغْتَسل لِأَن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ يَفْعَله وَحكى ابْن الْخلّ ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَنَّهُ مَوضِع اجْتِمَاع فَيسنّ فِيهِ الإغتسال كَالْجُمُعَةِ وَمِنْهَا الرَّمْي أَيَّام التَّشْرِيق يغْتَسل لكل يَوْم غسلا فَتكون الأغسال ثَلَاثَة لِأَنَّهُ مَوضِع يجْتَمع فِيهِ النَّاس فَيسنّ فِيهِ الْغسْل كَالْجُمُعَةِ وَلَا يسْتَحبّ الْغسْل لرمي جَمْرَة الْعقبَة لقربة من غسل الْوُقُوف بِخِلَاف بَقِيَّة الجمرات لبعدها وَأَيْضًا فوقت الجمرات الثَّلَاث بعد الزَّوَال وَهُوَ وَقت تهجر وَلِهَذَا يكون الْغسْل لَهُنَّ بعد الزَّوَال وَالله أعلم
وَمِنْهَا يسن الْغسْل للطَّواف وَلَفظ الشَّيْخ يَشْمَل طواف الْقدوم وَطواف الْإِفَاضَة وَطواف الْوَدَاع وَقد نَص الشَّافِعِي على اسْتِحْبَاب الْغسْل لهَذِهِ الثَّلَاثَة فِي الْقَدِيم لِأَن النَّاس يَجْتَمعُونَ لَهُ فَيُسْتَحَب لَهُ الِاغْتِسَال والجديد أَنه لَا يسْتَحبّ لِأَن وقته موسع فَلَا تغلب فِيهِ الزحمة بِخِلَاف سَائِر المواطن كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام الْمِنْهَاج لِأَنَّهُ لم يعد إِلَّا أَنه فِي الْمَنَاسِك قَالَ يسْتَحبّ الْغسْل للثَّلَاثَة وَيشْهد للجديد وَهُوَ عدم الِاسْتِحْبَاب مَا رَوَت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قدم مَكَّة أَنه تَوَضَّأ ثمَّ طَاف بِالْبَيْتِ وَكَذَا التَّعْلِيل وَالله أعلم
وأهمل الشَّيْخ أغسالاً مِنْهَا الْغسْل من الْحجامَة وَالْحمام قَالَ الرَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ لم يذكروهما قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة الْمُخْتَار الْجَزْم باستحبابهما وَقد نقل صَاحب جمع الْجَوَامِع فِي منصوصات الشَّافِعِي أَنه قَالَ أحب الْغسْل من الْحجامَة وَالْحمام وكل أَمر يُغير الْجَسَد وَأَشَارَ الشَّافِعِي بذلك إِلَى أَن حكمته أَن ذَلِك يُغير الْجَسَد ويضعفه وَالْغسْل يشد وينعشه وَالله أعلم وَيسن الِاغْتِسَال للاعتكاف نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَيسن الْغسْل لكل لَيْلَة من رَمَضَان نَقله الْعَبَّادِيّ عَن الْحَلِيمِيّ وَيسن الْغسْل لحلق العانه قَالَ الْخفاف فِي الصال وَيسن الْغسْل لدُخُول مَدِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه النَّوَوِيّ فِي الْمَنَاسِك وَأما الْغسْل لدُخُول الْكَعْبَة فقد نَقله ابْن الرّفْعَة عَن صَاحب التَّلْخِيص وَهَذَا النَّقْل غلط وَالله أعلم قَالَ

(1/48)


بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ
(فصل وَالْمسح على الْخُفَّيْنِ جَائِز بِثَلَاث شَرَائِط أَن يبتدىء لبسهما بعد كَمَال الطَّهَارَة وَأَن يَكُونَا ساترين لمحل الْغسْل من الْقَدَمَيْنِ وَأَن يَكُونَا مِمَّا يُمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهِمَا)
الأَصْل فِي جَوَاز الْمسْح مَا ورد عَن جرير قَالَ
(رَأَيْت رَسُول الله بَال ثمَّ تَوَضَّأ وَمسح على خفيه) وَكَانَ يعجبهم هَذَا الحَدِيث لِأَن إِسْلَام جرير كَانَ بعد نزُول الْمَائِدَة فَلَا تكون آيَة الْمَائِدَة الدَّالَّة على غسل الرجلَيْن ناسخة للمسح قَالَ النَّوَوِيّ وَغَيره وَأجْمع من يعْتد بِهِ فِي لإِجْمَاع على جَوَاز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَر وَالسّفر سَوَاء كَانَ لحَاجَة أَو لغَيْرهَا حَتَّى يجوز للْمَرْأَة الْمُلَازمَة بَيتهَا الزَّمن الَّذِي لَا يمشي وَالله أعلم وَأنكر الرافضة وَمن تَبِعَهُمْ الْجَوَاز وَكَذَلِكَ الشِّيعَة والخوارج قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ حَدثنِي سَبْعُونَ من الصَّحَابَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلائق لَا يُحصونَ نعم هَل الْغسْل أفضل لِأَنَّهُ الأَصْل وَبِه قَالَت الشَّافِعِيَّة وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله عَنْهُم أم الْمسْح أفضل وَبِه قَالَ جمع من التَّابِعين مِنْهُم الشّعبِيّ وَحَمَّاد وَالْحكم فِيهِ من خلاف وَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ وَالرَّاجِح مِنْهُمَا الْمسْح أفضل وَالثَّانيَِة هما سَوَاء وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر من أَصْحَاب الشَّافِعِي وَالله أعلم وَفِيه أَحَادِيث سنوردها فِي محلهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
إِذا عرفت هَذَا فلجواز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ شَرْطَانِ
أَحدهمَا أَن يلبس الْخُفَّيْنِ جَمِيعًا على طَهَارَة كَامِلَة فَلَو غسل رجلا ثمَّ لبس خفها ثمَّ غسل الْأُخْرَى وَلبس خفها لم يجز الْمسْح لِأَنَّهُ لَو يدخلهما بعد طَهَارَة كَامِلَة وَلَو ابْتَدَأَ اللّبْس وَهُوَ متطهر ثمَّ أحدث قبل أَن وصلت الرجل إِلَى قدم الْخُف لم يجز الْمسْح نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم لِأَن الِاعْتِبَار بقرار الْخُف لَا بالساق وَاحْتج لذَلِك بِأَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث الْمُغيرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ
(سكبت الْوضُوء لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا انتهين إِلَى رجلَيْهِ أهويت إِلَى الْخُفَّيْنِ لأنزعهما قَالَ دعهما فَإِنِّي أدخلتهما طاهرتين) وَالْوُضُوء بِفَتْح الْوَاو فعلل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام جَوَاز الْمسْح بطهارتهما عِنْد اللّبْس وَالْحكم يَدُور مَعَ الْعلَّة وأصرح من هَذَا مَا ورد عَن الْمُغيرَة قَالَ
(قلت يَا رَسُول الله أَمسَح على الْخُفَّيْنِ قَالَ نعم إِذا أدخلتهما طاهرتين) وَلَفْظَة إِذا شَرط وَإِن كَانَت ظرفا وَالله أعلم

(1/49)


الشَّرْط الثَّانِي أَن يكون الْخُف صَالحا للمسح ولصلاحيته أُمُور
الأول أَن يستر الْخُف جَمِيع مَحل الْغسْل من الرجلَيْن فَلَو قصر عَن مَحل الْفَرْض لم يجز الْمسْح عَلَيْهِ بِلَا خلاف لِأَن مَا ظهر واجبه الْغسْل وَفرض الْمُسْتَتر الْمسْح وَلَا قَائِل بِالْجمعِ بَينهمَا فيغلب الْغسْل لِأَن الأَصْل وَفِي جَوَاز الْمسْح على المخرق قَولَانِ للشَّافِعِيّ الْقَدِيم الْجَوَاز مَا لم يتفاحش لِأَن الْمسْح رخصَة والتخرق يغلب فِي الْأَسْفَار وَهِي مَحل يتَعَذَّر الْإِصْلَاح فِيهِ غَالِبا فَلَو منعنَا الْمسْح لضاق بَاب الرُّخْصَة وَالْأَظْهَر أَنه لَا يجوز لما قُلْنَا لِأَن مَا ظهر يجب غسله وَلَو تخرقت الظهارة أَو البطانة جَازَ الْمسْح إِن كَانَ الْبَاقِي صفبقا وَإِلَّا فَلَا على الصَّحِيح وَيُقَاس على هَذَا مَا إِذا تخرق من الظهارة مَوضِع وَمن البطانة مَوضِع لَا يحاذيه وَلَو كَانَ الْخُف مشقوق الْقدَم وَشد بالعرى مَحل الشق فَإِن ظهر مَعَ الشد شَيْء لم يجز الْمسْح وَإِن لم يظْهر جَازَ على الصَّحِيح الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فَلَو انْفَتح مِنْهُ شَيْء فِي مَحل الْفَرْض بَطل الْمسْح فِي الْحَال وَإِن لم يظْهر شَيْء لِأَنَّهُ إِذا مَشى ظَهرت وَالله أعلم
الْأَمر الثَّانِي أَن يكون الْخُف قَوِيا بِحَيْثُ يُمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهِ بِقدر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُسَافِر فِي حَوَائِجه عِنْد الْحَط والترحال لِأَن الْمسْح رخص لما يَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة فِي لبسه مِمَّا يُمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِك وَمَا لَا فَلَا قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد وَأَقل حد الْمُتَابَعَة على التَّقْرِيب لَا التَّحْدِيد مَسَافَة الْقصر وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد يقدر بِثَلَاث أَمْيَال وَالْأول الْمُعْتَمد وَلَا فرق فِيمَا يُمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهِ بَين أَن يكون من جلد وَمن شعر أَو من قطن أَو لبد أما مَا لَا يُمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهِ إِمَّا لضَعْفه كالمتخذ من الْخرق الْخَفِيفَة وَنَحْوهَا وَكَذَا جوارب الصُّوفِيَّة الَّتِي لَا تمنع نُفُوذ المَاء فَلَا يجوز الْمسْح عَلَيْهَا وَإِمَّا لقُوته كالمتخذ من الْحَدِيد وَنَحْوه فَلَا يجوز الْمسْح عَلَيْهِ وَقَول الشَّيْخ على الْخُفَّيْنِ يُؤْخَذ مِنْهُ أَن مَا لَا يُسمى خفاً لَا يجوز الْمسْح عَلَيْهِ حَتَّى لَو شدّ على رجله قِطْعَة جلد بِحَيْثُ لَا ترى الْبشرَة وَأمكن مُتَابعَة الْمَشْي عَلَيْهَا لم يجز الْمسْح على الْمَذْهَب وَقطع بِهِ فِي الرَّوْضَة وَالله أعلم
الْأَمر الثَّالِث أَن يمْنَع نُفُوذ المَاء فَإِن لم يمْنَع فَلَا يجوز الْمسْح عَلَيْهِ على الرَّاجِح لِأَن الْغَالِب فِي الْخفاف كَونهَا تمنع نُفُوذ المَاء فتنصرف النُّصُوص إِلَيْهِ
الْأَمر الرَّابِع أَن يكون الْخُف طَاهِرا قَالَ ابْن الرّفْعَة اتّفق الْأَصْحَاب كَافَّة على اشْتِرَاط كَونه طَاهِرا فَلَا يجوز على خف متخذ من جلد ميتَة لم يدبغ قَالَ فِي الذَّخَائِر أَو دبغ وتنجس مَا لم يطهر لِامْتِنَاع الصَّلَاة بِهِ وَكَذَا صرح بِهِ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَالله أعلم
(فرع) لَو لبس خفاً فَوق خف لشدَّة الْبرد نظر إِن كَانَ الْأَعْلَى صَالحا للمسح عَلَيْهِ دون

(1/50)


الْأَسْفَل لضعف أَو لتخرقة جَازَ الْمسْح على الْأَعْلَى دون الْأَسْفَل وَإِن كَانَ الْأَسْفَل صَالحا دون الْأَعْلَى فالمسح على الْأَسْفَل جَائِز فَلَو مسح الْأَعْلَى فوصل المَاء إِلَى الْأَسْفَل فَإِن قصد مسح الْأَسْفَل جَازَ وَكَذَا إِن قصدهما على الرَّاجِح وَإِن قصد الْأَعْلَى فَقَط لم يجز وَإِن لم يقْصد وَاحِدًا مِنْهُمَا بل قصد الْمسْح فِي الْجُمْلَة أَجْزَأَ على الرَّاجِح لقصد إِسْقَاط فرض الرجل بِالْمَسْحِ وَإِن 2 كَانَ كل من الْخُفَّيْنِ لَا يصلح للمسح تعذر الْمسْح وَإِن كَانَ كل من الْخُفَّيْنِ صَالحا للمسح فَفِي جَوَاز الْمسْح على الْأَعْلَى وَحده قَولَانِ الْقَدِيم الْجَوَاز لِأَن الْحَاجة قد تَدْعُو إِلَيْهِ كَمَا تَدْعُو إِلَى الْخُف الْوَاحِد والجديد وَهُوَ الْأَظْهر عِنْد الْجُمْهُور أَنه لَا يَصح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم لِأَن غسل الرجل أصل وَالْمسح رخصَة عَامَّة وَردت فِي الْخُف لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ وَالْحَاجة إِلَى خف فَوق خف خَاصَّة فَلَا تتعدى الرُّخْصَة إِلَيْهِ وَلِأَن الْأَعْلَى سَاتِر للمسوح فَلم يقم فِي إِسْقَاط الْفَرْض الْمَمْسُوح كالعمامة وَالله أعلم
(فرع) لَو لبس الْخُف فَوق الْجَبِيرَة فَالْأَصَحّ أَنه يجوز الْمسْح عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ملبوس فَوق مَمْسُوح فَلم يجزىء الْمسْح عَلَيْهِ كمسح الْعِمَامَة بدل الرَّأْس وَالله أعلم قَالَ
(وَيمْسَح الْمُقِيم يَوْمًا وَلَيْلَة وَالْمُسَافر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن)
الأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث أبي بكرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أرخص للْمُسَافِر ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة إِذا تطهر وَلبس خفيه أَن يمسح عَلَيْهِمَا) وَعَن صَفْوَان بن عَسَّال رَضِي الله عَنهُ قَالَ
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا إِذا كُنَّا سفرا أَن لَا ننزع خفافنا ثَلَاثَة أَيَّام ولياليهن إِلَّا من جَنَابَة وَلَكِن من بَوْل أَو غَائِط أَو نوم فَلَا) وَللشَّافِعِيّ قَول قديم أَنه لَا يتأقت لِأَنَّهُ مسح على حَائِل فَلَا يتَقَدَّر كالمسح على الْجَبِيرَة وَبِه قَالَ مَالك وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث أبي بن عمَارَة وَاتفقَ الْحفاظ على أَنه ضَعِيف لَا يحْتَج بِهِ وَالْقِيَاس ملغي مَعَ وجود النَّص قَالَ
(وَابْتِدَاء الْمدَّة من حِين يحدث بعد لبس الْخُفَّيْنِ)
إِذا فرعنا على الصَّحِيح وَهُوَ تَقْدِير الْمدَّة بِيَوْم وَلَيْلَة للمقيم وَثَلَاثَة أَيَّام للْمُسَافِر فابتداء الْمدَّة من الْحَدث بعد لبس الْخُف لِأَن الْمسْح عبَادَة مُؤَقَّتَة فَكَانَ أول وَقتهَا من وَقت جَوَاز فعلهَا كَالصَّلَاةِ وَمُقْتَضى هَذَا التَّعْلِيل أَن ماسح الْخُف لَا يجوز لَهُ تَجْدِيد الْوضُوء لَكِن قَالَ ابْن الرّفْعَة إِنَّه مَكْرُوه بِلَا شكّ وَقد جزم النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب بِأَن تجديده مُسْتَحبّ وَحكى الرَّافِعِيّ عَن دَاوُد أَن

(1/51)


ابْتِدَاء الْمدَّة من اللّبْس وَحَكَاهُ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب عَن ابْن الْمُنْذر وَأبي ثَوْر ثمَّ قَالَ إِنَّه الْمُخْتَار لِأَنَّهُ مُقْتَضى أَحَادِيث الْبَاب الصَّحِيحَة وَالله أعلم وَاعْلَم أَن الْمُسَافِر إِنَّمَا يمسح ثَلَاثَة أَيَّام إِذا كَانَ سَفَره طَويلا فَإِن قصر مسح يَوْمًا وَلَيْلَة وَيشْتَرط أَيْضا أَن لَا يكون سَفَره مَعْصِيّة فَإِن كَانَ مَعْصِيّة كمن سَافر لأخذ المكس أَو بَعثه ظَالِم لأخذ الرشا والبراطيل والمصادرة وَنَحْو ذَلِك أَو كَانَ عَلَيْهِ حق لآدَمِيّ يجب عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ إِلَيْهِ فَلَا يترخص الْبَتَّةَ لِأَن الْمسْح رخصَة فَلَا يتَعَلَّق بِالْمَعَاصِي وَالرَّاجِح أَنه يترخص يَوْمًا وَلَيْلَة وَالْخلاف جَار فِي الْمعاصِي بِالْإِقَامَةِ كالمقيم بِبَلَد يطْرَح على النَّاس السّلع واتباعه وكالعبد الْآبِق وَنَحْوهمَا وَالله أعلم قَالَ
(فَإِن 4 مسح فِي السّفر ثمَّ أَقَامَ أَو مسح فِي الْحَضَر ثمَّ سَافر أتم مسح مُقيم)
لِأَن الْمسْح عبَادَة اجْتمع فِيهَا الْحَضَر وَالسّفر فغلب حكم الْحَضَر كَمَا كَانَ مُقيما فِي أحد طرفِي الصَّلَاة لَا يجوز لَهُ الْقصر وَقَوله
(فَإِن مسح فِي السّفر ثمَّ أَقَامَ) أَي إِذا لم يمض يَوْم وَلَيْلَة فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يتم مسح مُقيم أما إِذا مضى يَوْم وَلَيْلَة فَأكْثر فِي السّفر فَإِنَّهُ يسْتَأْنف الْمسْح وَقَوله فَإِن مسح هَل المُرَاد أَنه مسح كلا الْخُفَّيْنِ ثمَّ سَافر أم مسح فِي الْجُمْلَة وَتظهر فَائِدَة ذَلِك فِيمَا إِذا مسح إِحْدَى رجلَيْهِ فِي الْحَضَر ثمَّ مسح الْأُخْرَى فِي السّفر هَل يمسح مسح مُقيم أم مسح مُسَافر وَالَّذِي جزم بِهِ الرَّافِعِيّ أَنه يمسح مسح مُسَافر قَالَ لِأَن الِاعْتِبَار بِتمَام الْمسْح وَقد وَقع فِي السّفر وَقَالَ النَّوَوِيّ الصَّحِيح الْمُخْتَار أَنه يمسح مسح مُقيم لتلبسه بِالْعبَادَة فِي الْحَضَر وَالله أعلم
(فرع) لَو شكّ الْمُسَافِر هَل ابْتَدَأَ الْمسْح فِي الْحَضَر أَو فِي السّفر أَخذ بالحضر ويقتصر على يَوْم وَلَيْلَة كَمَا لَو شكّ الماسح فِي السّفر أَو فِي الْحَضَر فِي انْقِضَاء الْمدَّة فَإِنَّهُ يجب الْأَخْذ بانقضائها وَالله أعلم
(فرع) أقل الْمسْح مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْمسْح من مَحل فرض الْغسْل فِي الرجل من أَعلَى الْخُف فَلَا يجوز الِاقْتِصَار على الْمسْح على أَسْفَله وَلَا على عقب الْخُف وَلَا على حرفه ويجزىء الْمسْح بِخرقَة وخشبة وَنَحْوهمَا وَلَو قطر المَاء على الْخُف أَجزَأَهُ مَا فِي مسح الرَّأْس وَالسّنة أَن يمسح أَعْلَاهُ وأسفله وَلَو كَانَ عِنْد الْمسْح على أَسْفَل خفه نَجَاسَة لم يجز الْمسْح عَلَيْهِ قَالَ
(وَيبْطل الْمسْح بِثَلَاثَة أَشْيَاء بخلعهما وانقضاء الْمدَّة وَمَا يُوجب الْغسْل)
لجَوَاز الْمسْح غايات فَإِذا وجد أَحدهَا بَطل الْمسْح مِنْهَا إِذا خلع خفيه أَو أحداهما أَو انخلع الْخُف بِنَفسِهِ أَو خرج الْخُف عَن صَلَاحِية الْمسْح عَلَيْهِ لتخرقه أَو ضعفه أَو غير ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يمسح

(1/52)


والحلة هَذِه إِذا كَانَ على طَهَارَة الْمسْح لِأَنَّهُ بِوُجُود ذَلِك وَجب الأَصْل وَهُوَ الْغسْل وَهل يلْزمه اسْتِئْنَاف الْوضُوء أَو غسل الرجلَيْن فَقَط قَولَانِ الرَّاجِح غسل الْقَدَمَيْنِ فَقَط وَمِنْهَا انْقِضَاء مُدَّة الْمسْح فَإِذا مضى يَوْم وَلَيْلَة للمقيم أَو ثَلَاثَة أَيَّام للْمُسَافِر بَطل مَسحه واستأنف لبساً جَدِيدا كَمَا فِي الإبتداء لحَدِيث أبي بكرَة وَصَفوَان رَضِي الله عَنْهُمَا وَمِنْهَا أَن يلْزم الماسح الْغسْل لحَدِيث صَفْوَان
(أمرنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن لَا تنْزع خفافنا إِلَّا من جَنَابَة) وَلَو تنجست رجل فِي الْخُف وَلم يُمكن غسلهَا فِيهِ وَجب النزع لغسلها فَإِن أمكن غسلهَا فِي الْخُف فغسلها فِيهِ لم يبطل الْمسْح
(فرع) إِذا كَانَ الشَّخْص سليم الرجلَيْن وَلبس خفاً فِي أَحدهمَا لَا يَصح مَسحه فَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا رجل جَازَ الْمسْح على خفها وَلَو كَانَت إِحْدَى رجلَيْهِ عليلة بِحَيْثُ لَا يجب غسلهَا فَلبس الْخُف فِي الصَّحِيحَة قطع الدَّارمِيّ بِأَنَّهُ يَصح الْمسْح عَلَيْهَا وَقطع الْغَزالِيّ بِالْمَنْعِ وَالله أعلم
بَاب التَّيَمُّم
(فصل وشرائط التَّيَمُّم خنسة أَشْيَاء وجود الْعذر بسفر أَو مرض)
التَّيَمُّم لُغَة هُوَ الْقَصْد يُقَال يممك فلَان بِالْخَيرِ إِذا قصدك وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن إِيصَال التُّرَاب إِلَى الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ بشرائط مَخْصُوصَة وَالْأَصْل فِي جَوَازه الْكتاب وَالسّنة وسنورد الْأَدِلَّة فِي موَاضعهَا ثمَّ ضَابِط جَوَاز التَّيَمُّم الْعَجز عَن اسْتِعْمَال المَاء إِمَّا لتعذره أَو لعسره لخوف ضَرَر ظَاهر وللعجز أَسبَاب مِنْهَا السّفر وَالْمَرَض وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الْمَعْنى وَإِن كُنْتُم مرضى فَتَيَمَّمُوا وَإِن كُنْتُم على سفر وَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا
ثمَّ المَاء فِي حق الْمُسَافِر لَهُ أَرْبَعَة أَحْوَال
أَحدهَا أَن يتَيَقَّن عدم المَاء حواليه بِأَن يكون فِي بعض رمال الْبَوَادِي فَهَذَا يتَيَمَّم وَلَا يحْتَاج إِلَى الطّلب على الرَّاجِح لِأَن الطّلب وَالْحَالة هَذِه عَبث
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يجوز وجود المَاء حوله تجويزاً قَرِيبا أَو بَعيدا فَهَذَا يجب عَلَيْهِ الطّلب بِلَا خلاف لِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة ضَرُورَة مَعَ إِمْكَان الطَّهَارَة بِالْمَاءِ
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يتَيَقَّن وجود المَاء حواليه وَهَذَا لَهُ ثَلَاث مَرَاتِب

(1/53)


الأولى أَن يكون المَاء على مَسَافَة ينتشر إِلَيْهَا النازلون للحطب والحشيش والرعي فَيجب السَّعْي إِلَى المَاء وَلَا يجوز التَّيَمُّم قَالَ مُحَمَّد بن يحيى لَعَلَّه يقرب من نصف فَرسَخ وَهَذِه الْمسَافَة فسرت فَوق الْمسَافَة عِنْد التَّوَهُّم
الْمرتبَة الثَّانِيَة أَن يكون بَعيدا بِحَيْثُ لَو سعى إِلَيْهِ خرج الْوَقْت فَهَذَا يتَيَمَّم على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ فَاقِد للْمَاء فِي الْحَال وَلَو وَجب انْتِظَار المَاء مَعَ خُرُوج الْوَقْت لما سَاغَ التَّيَمُّم أصلا بِخِلَاف مَا لَو كَانَ المَاء مَعَه وَخَافَ فَوت الْوَقْت لَو تَوَضَّأ فَإِنَّهُ لَا يجوز لَهُ التَّيَمُّم على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ لَيْسَ بفاقد للْمَاء فِي الْحَال ثمَّ هَذِه الْمسَافَة تعْتَبر بِوَقْت الصَّلَاة الْحَاضِرَة بكمالها حَتَّى لَو وصل إِلَى منزله فِي آخر الْوَقْت وَجب قصد المَاء وَالْوُضُوء وَإِن فَاتَ الْوَقْت أَو الِاعْتِبَار بِوَقْت الطّلب وَلَا نظر إِلَى أول الْوَقْت الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ الأول وَهُوَ الِاعْتِبَار بِكُل وَقت تِلْكَ الْفَرِيضَة وَرجح النَّوَوِيّ الثَّانِي وَهُوَ أَن الِاعْتِبَار بِوَقْت الطّلب
المرنبة الثَّالِثَة أم يكون المَاء بَين المرتبتين بِأَن زيد مسافته على مَا ينتشر إِلَيْهِ النازلون وتقصر عَن خُرُوج الْوَقْت وَفِي ذَلِك خلاف منتشر وَالْمذهب جَوَاز التَّيَمُّم لِأَنَّهُ فَاقِد للْمَاء فِي الْحَال وَفِي السَّعْي زِيَادَة مشقة
الْحَالة الرَّابِعَة أَن يكون المَاء حَاضرا لَكِن تقع عَلَيْهِ زحمة الْمُسَافِرين بِأَن يكون فِي بِئْر وَلَا يُمكن الْوُصُول إِلَيْهِ إِلَّا بِآلَة وَلَيْسَ هُنَاكَ إِلَّا آله وَاحِدَة أَو لِأَن موقف الاستقاء لَا يسع إِلَّا وَاحِدًا وَفِي ذَلِك خلاف وَالرَّاجِح أَنه يتَيَمَّم للعجز الْحسي وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ على هَذَا الْمَذْهَب وَالله أعلم
وَأما الْمَرَض فَهُوَ على ثَلَاثَة أَقسَام
الأول أَن يخَاف مَعَه بِالْوضُوءِ فَوت الرّوح أَو فَوت عُضْو أَو فَوت مَنْفَعَة الْعُضْو وَيلْحق بذلك مَا إِذا كَانَ بِهِ مرض غير مخوف إِلَّا أَنه يخَاف من اسنعمال المَاء أَن يصير مَرضا مخوفا فَيُبَاح لَهُ التَّيَمُّم وَالْحَالة هَذِه على الْمَذْهَب
الْقسم الثَّانِي أَن يخَاف زِيَادَة الْعلَّة وَهُوَ كَثْرَة الْأَلَم وَإِن لم تزد الْمدَّة أَو يخَاف بطء الْبُرْء وَهُوَ طول مُدَّة الْمَرَض وَإِن لم يزدْ الْأَلَم أَو يخَاف شدَّة الضنى وَهُوَ الْمَرَض المدنف الَّذِي يَجعله ضنى أَو يخَاف حُصُول شين قَبِيح كالسواد على عُضْو ظَاهر كالوجه وَغَيره مِمَّا يَبْدُو عِنْد المهنة وَهِي الْخدمَة

(1/54)


وَفِي جَمِيع هَذِه الصُّور خلاف منتشر وَالرَّاجِح جَوَاز التَّيَمُّم وَعلة الشين الْفَاحِش أَنه يشوه الْخلقَة ويدوم ضَرَره فَأشبه تلف الْعُضْو
الْقسم الثَّالِث أَن يخَاف شينا يَسِيرا كأثر الجدري أَو سواداً قَلِيلا أَو يخَاف شينا قبيحاً على غير الْأَعْضَاء الظَّاهِرَة أَو يكون بِهِ مرض لَا يخَاف من اسْتِعْمَال المَاء مَعَه محذوراً فِي الْعَاقِبَة وَإِن تألم فِي الْحَال كجراحة أَو برد أَو حر فَلَا يجوز التَّيَمُّم لشَيْء من هَذَا بِلَا خلاف وَالله أعلم
(فرع) للْمَرِيض أَن يعْتَمد على معرفَة نَفسه فِي كَون الْمَرَض مخوفا إِذا كَانَ عَارِفًا وَيجوز لَهُ أَن يعْتَمد على قَول طَبِيب حاذق فَلَا يقبل قَول غير الحاذق وَيشْتَرط مَعَ حذقه الْإِسْلَام فَلَا يقبل قَول الْكَافِر لِأَن الله تَعَالَى فسقه فيلغي مَا ألغاه الله وَلَا يغتر بصنيع فُقَهَاء الرجس وَيشْتَرط فِيهِ أَيْضا الْبلُوغ فَلَا يقبل قَول الصَّبِي وَيشْتَرط فِيهِ الْعَدَالَة أَيْضا فَلَا يقبل قَول الْفَاسِق لِأَن الله تَعَالَى أوجب الْوضُوء فَلَا يعدل عَنهُ إِلَّا بقول من يقبل قَوْله وَقد ألغى الله تَعَالَى قَول الْفَاسِق فَيلْزم من قبُول قَول الْفَاسِق مُخَالفَة الرب فِيمَا أَمر بِهِ وَيقبل قَول العَبْد وَالْمَرْأَة وَيَكْفِي وَاحِد على الْمَشْهُور وَقيل لَا بُد من اثْنَيْنِ كَمَا فِي الْمَرَض الْمخوف فِي الْوَصِيَّة فَإِن الْمَذْهَب الْجَزْم بِاشْتِرَاط الْعدَد هُنَاكَ وَكَانَ الْفرق أَن فِي الْوَصِيَّة يتَعَلَّق ذَلِك بِحُقُوق الْآدَمِيّين من الْوَرَثَة وَالْمُوصى لَهُم فَاشْترط الْعدَد وَفِي التَّيَمُّم الْحق لله تَعَالَى وَحقه مَبْنِيّ على الْمُسَامحَة وَلِأَن الْوضُوء لَهُ بدل وَهُوَ التَّيَمُّم وَلَا كَذَلِك فِي الْوَصِيَّة وَلَو لم يُوجد طَبِيب بِشُرُوطِهِ قَالَ الرَّوْيَانِيّ قَالَ السنجي لَا يتَيَمَّم قَالَ النَّوَوِيّ وَلم أر لغيره مَا يُخَالِفهُ وَلَا مَا يُوَافقهُ قَالَ الإسنائي وَفِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ الْجَزْم بِأَنَّهُ يتَيَمَّم فتعارض الجوابان وَإِيجَاب الْوضُوء وَالْغسْل مَعَ الْجَهْل بِحَال الْعلَّة الَّتِي هِيَ مَظَنَّة الْهَلَاك بعيد عَن محَاسِن الشَّرِيعَة فنستخير الله تَعَالَى ونفتي بِمَا قَالَه الْبَغَوِيّ وَالله أعلم قَالَ
(وَدخُول وَقت الصَّلَاة وَطلب المَاء وَتعذر اسْتِعْمَاله)
يشْتَرط لصِحَّة التَّيَمُّم دُخُول وَقت الصَّلَاة لقَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا} الْآيَة وَالْقِيَام إِلَيْهَا لَا يكون إِلَّا بعد دُخُول الْوَقْت خرج الْوضُوء بِدَلِيل وَبَقِي التَّيَمُّم على ظَاهر الْآيَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وترابها طهُورا أَيْنَمَا أدركتني الصَّلَاة تيممت وَصليت) وَلِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة ضَرُورَة وَلَا ضَرُورَة إِلَيْهِ قبل دُخُول وَقت الصَّلَاة وَالله أعلم وَيشْتَرط لصِحَّة التَّيَمُّم

(1/55)


طلب المَاء لقَوْله تَعَالَى {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} أمرنَا بِالتَّيَمُّمِ عِنْد عدم الوجدان وَلَا يعلم عَدمه إِلَّا بِالطَّلَبِ وَيشْتَرط فِي الطّلب أَن يكون بعد دُخُول ى الْوَقْت لِأَنَّهُ وَقت الضَّرُورَة وَله أَن يطْلب بِنَفسِهِ وَكَذَا يَكْفِيهِ طلب من أذن لَهُ على الصَّحِيح قلت أَن يشْتَرط أَن يكون موثوقاً بِهِ فِي الطّلب وَالله أعلم وَلَا يَكْفِي طلب من لم يَأْذَن لَهُ بِلَا خلاف وَكَيْفِيَّة الطّلب أَن يفتش رَحْله لاحْتِمَال أَن يكون فِي الرحل مَاء وَهُوَ لَا يشْعر بِهِ فَإِن لم يجد نظر يَمِينا وَشمَالًا وأماماً وخلفاً إِن اسْتَوَى مَوْضِعه ويخص مَوَاضِع الخضرة واجتماع الطير بمزيد احْتِيَاط فَإِن لم يستو الْموضع نظر إِن خَافَ على نَفسه أَو مَاله لَو تردد لم يجب التَّرَدُّد لِأَن هَذَا الْخَوْف يُبِيح لَهُ التَّيَمُّم عِنْد تَيَقّن المَاء فَعِنْدَ التَّوَهُّم أولى فَإِن لم يخف وَجب عَلَيْهِ التَّرَدُّد إِلَى حد يلْحق غوث الرفاق مَعَ مَا هم عَلَيْهِ من التشاغل بشغلهم والتفاوض فِي أَقْوَالهم وَيخْتَلف ذَلِك باستواء الأَرْض واختلافها صعُودًا وهبوطاً فَإِن كَانَ مَعَه رفْقَة وَجب سُؤَالهمْ إِلَى أَن يستوعبهم أَو يضيق الْوَقْت فَلَا يبْقى إِلَّا مَا يسع الصَّلَاة على الرَّاجِح وَقيل يسوعبهم وَلَو خرج الْوَقْت وَلَا يجب أَن يطْلب من كل وَاحِد من الرّفْقَة بِعَيْنِه بل يَكْفِي أَن يُنَادي فيهم من مَعَه مَاء من يجود بِالْمَاءِ وَنَحْوه وَلَو بعث النازلون ثِقَة يطْلب لَهُم كفاهم كلهم ثمَّ مَتى عرف مَعَهم مَاء وَجب عَلَيْهِ طلبه وَلَو كَانَ على وَجه الْهِبَة على الرَّاجِح وَلَو أعير الدَّلْو وَجب قبُوله وَلَو أقْرض المَاء وَجب قبُوله على الصَّحِيح وَيجب عَلَيْهِ أَن يَشْتَرِي مَاء الْوضُوء وَالْغسْل وَيصرف إِلَيْهِ أَي نوع كَانَ مَعَه من المَاء إِلَّا أَن يحْتَاج إِلَى الثّمن لمؤنة من مُؤَن سَفَره فِي ذهَاب وإيابه فَلَا يجب الشِّرَاء حِينَئِذٍ وَلَا يجب عَلَيْهِ أَن يَشْتَرِيهِ بِزِيَادَة على ثمن مثله وَإِن قلت الزِّيَادَة على الرَّاجِح وَلَو لم يعره أحد آلَة الاستقاء إِلَّا بِالْأُجْرَةِ وَجب عَلَيْهِ إِجَارَتهَا بِأُجْرَة الْمثل وَلَو قدر على أَن يُدْلِي عمَامَته فِي الْبِئْر ويعصرها وَجب عَلَيْهِ ذَلِك فَلَو لم تصل إِلَى المَاء وَأمكن شقها شقها وَشد بَعْضهَا بِبَعْض لتصل لزمَه ذَلِك إِذا لم يحصل فِي الثَّوْب نقص يزِيد على ثمن المَاء أَو أُجْرَة الْحَبل وَفِي ضبط ثمن الْمثل أوجه الرَّاجِح ثمنه فِي ذَلِك الْموضع وَتلك الْحَالة وَقَوله وَتعذر اسْتِعْمَاله يَشْمَل أَنْوَاع أَسبَاب إِبَاحَة التَّيَمُّم وَقد مر ذكر السّفر وَالْمَرَض وَمن أَسبَاب الْإِبَاحَة أَيْضا مَا إِذا كَانَ بِقُرْبِهِ مَاء وَيخَاف لَو سعى إِلَيْهِ على نَفسه من سبع أَو عَدو عِنْد المَاء أَو يخَاف على مَاله الَّذِي مَعَه أَو المخلف فِي رَحْله من غَاصِب أَو سَارِق وَإِن كَانَ فِي سفينة لَو استقى اسْتلْقى فِي الْبَحْر فَلهُ التَّيَمُّم فِي ذَلِك كُله وَلَو خَافَ الِانْقِطَاع عَن الرّفْقَة إِن كَانَ عَلَيْهِ ضَرَر لَو قصد المَاء فَلهُ التَّيَمُّم قطعا وَإِن لم يكن عَلَيْهِ ضَرَر فخلاف الرَّاجِح أَن لَهُ أَن يتَيَمَّم للوحشة وَمن أَسبَاب إِبَاحَة التَّيَمُّم الْحَاجة إِلَى الْعَطش إِمَّا لعطشه أَو عَطش رَفِيقه أَو عَطش حَيَوَان مُحْتَرم فِي الْحَال أَو فِي الْمُسْتَقْبل وَلَو مَاتَ رجل وَله مَاء ورفقته عطاش شربوه ويمموه وَوَجَب عَلَيْهِم ثمنه وَجعله فِي مِيرَاثه وثمنه قِيمَته فِي مَوضِع الْإِتْلَاف فِي وقته وَمن الْأَسْبَاب عدم اسْتِعْمَاله لأجل

(1/56)


الْجراحَة وَفِي مَعْنَاهَا كالدمامل وَنَحْوهَا سَوَاء كَانَ ثمَّ جبيرَة أم لَا وَقد ذكرهَا الشَّيْخ بعد ذَلِك لأجل حكم الْقَضَاء وللعطشان أَن يَأْخُذ المَاء من صَاحبه قهرا إِذا لم يبذله بِشَرْط عدم احْتِيَاجه اليه وَعَلِيهِ قِيمَته وَالله أعلم قَالَ
(وَالتُّرَاب الطَّاهِر)
لَا يَصح التَّيَمُّم الا بِتُرَاب طَاهِر خَالص غير مُسْتَعْمل فالتراب مُتَعَيّن سَوَاء كَانَ أَحْمَر أَو اسود أَو أصفر وَسَوَاء فِي الأرمني أَو غَيره لصدق اسْم التُّرَاب على ذَلِك كُله وَلَا يَصح بالنورة والجص وَسَائِر الْمَعَادِن وَلَا بالأحجار المدقوقة والقوارير المسحوقة وَشبه ذَلِك وَفِي وَجه يجوز بِجَمِيعِ ذَلِك وَهُوَ غلط وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِهِ بقوله تَعَالَى {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} وَهُوَ يَقع على التُّرَاب وعَلى كل مَا على وَجه الأَرْض وَنسب ذَلِك إِلَى مَالك وَأبي حنيفَة أَيْضا وَقَالا إِنَّه يجوز بِجَمِيعِ أَنْوَاع الأَرْض حَتَّى بالصخرة المغسولة وَنقل الرَّافِعِيّ عَن مَالك أَنه قَالَ يجوز أَيْضا أَيْضا بِمَا هُوَ مُتَّصِل بِالْأَرْضِ كالشجر وَالزَّرْع وَنقل النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ أَنه يجوز بِكُل مَا على وَجه الارض حَتَّى بالثلج وَمذهب الشَّافِعِي وَجُمْهُور الْفُقَهَاء وَبِه قَالَ الإِمَام أَحْمد وَابْن الْمُنْذر وَدَاوُد أَنه لَا يجوز التَّيَمُّم الا بِتُرَاب طَاهِر لَهُ غُبَار يعلق بِالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لِأَن الصَّعِيد يصدق على التُّرَاب وعَلى وَجه الأَرْض وعَلى الطَّرِيق فَهُوَ مُجمل بَينه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(التُّرَاب كافيك) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وتربتها طهُورا إِذا لم تَجِد المَاء) عدل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى ذكر التُّرَاب بعد ذكر الأَرْض وَلَوْلَا اخْتِصَاص الطّهُورِيَّة بِهِ لقَالَ جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا وتربتهاا أَي ترابها لِأَنَّهُ جَاءَ مُبينًا وترابها طهُورا وَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا الصَّعِيد هُوَ تُرَاب الْحَرْث وَعَن عَليّ وَابْن مَسْعُود أَنه التُّرَاب الَّذِي يغبر وَقَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه كل تُرَاب ذِي غُبَار وَقَوله حجَّة فِي اللُّغَة
ثمَّ شَرط التُّرَاب أَن لَا يخرج عَن حَاله إِلَى أُخْرَى تمنع الِاسْم حَتَّى لَو أحرق التُّرَاب حَتَّى صَار رَمَادا أَو سحق الخزف لم يجز التَّيَمُّم بِهِ وَلَو شوى الطين وسحقه فَفِي جَوَاز التَّيَمُّم بِهِ وَجْهَان وَلم يرجح الرَّافِعِيّ فِي هَذِه الصُّورَة شَيْئا وَلَا النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَلَو أصَاب التُّرَاب نَار فاسود وَلم يَحْتَرِق فَفِيهِ الْوَجْهَانِ صحّح النَّوَوِيّ فِي هَذِه الصُّورَة الْقطع بِالْجَوَازِ

(1/57)


وَهل يجوز التَّيَمُّم بالرمل وَإِن كَانَ خشناً لم يرْتَفع مِنْهُ غُبَار بِالضَّرْبِ لم يجز وَإِن ارْتَفع كفى وان كَانَ نَاعِمًا جَازَ لانه من جنس التُّرَاب قَالَه الرَّافِعِيّ وَجزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ لكنه قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب وَشرح الْوَسِيط وَتَصْحِيح التَّنْبِيه إِنَّه لَو تيَمّم بِتُرَاب مخلوط برمل ناعم لَا يجوز فالرمل الصّرْف أولى بِالْمَنْعِ ثمَّ شَرط التُّرَاب أَن يكون طَاهِرا لقَوْله تَعَالَى {صَعِيدا طيبا} وَالطّيب هُنَا الطَّاهِر لِأَن الطّيب يُطلق على مَا تستلذ بِهِ النَّفس وعَلى الْحَلَال وعَلى الطَّاهِر والأولان لَا يَلِيق وصف التُّرَاب بهما فَتعين الثَّالِث وَفِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وتربتها طهُورا) مَا يدل عَلَيْهِ وَلِأَن المَاء النَّجس لَا يجوز الْوضُوء بِهِ وَكَذَا التُّرَاب النَّجس وَقَوله طَاهِر يُؤْخَذ مِنْهُ أَن لَو تيَمّم بِتُرَاب طَاهِر على شَيْء نجس فانه يجزىء وَهُوَ كَذَلِك ثمَّ لَا بُد فِي التُّرَاب من كَونه خَالِصا فَلَا يَصح التَّيَمُّم بِتُرَاب مخلوط بدقيق وزعفران وَنَحْوه بِلَا خلاف وَكَذَا لَو كَانَ الخليط قَلِيلا على الصَّحِيح وَالْكثير مَا يرى والقليل مَا لَا يظْهر قَالَه الامام
ثمَّ لَا بُد فِي التُّرَاب أَيْضا أَن لَا يكون مُسْتَعْملا كَالْمَاءِ على الصَّحِيح لانه أُبِيح بِهِ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ والمستعمل مَا لصق بالعضو وَكَذَا مَا تناثر مِنْهُ على الرَّاجِح وَشرط المتناثر أَن يكون مس الْعُضْو والا فَهُوَ غير مُسْتَعْمل قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ
(وفرائضه أَرْبَعَة أَشْيَاء النِّيَّة)
النِّيَّة وَاجِبَة فِي التَّيَمُّم للْخَبَر الْمَشْهُور
(إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) وَلِأَنَّهُ عبَادَة فافتقر إِلَى النِّيَّة كَالصَّلَاةِ وَالْوُضُوء
وكيفيتها أَن يَنْوِي اسْتِبَاحَة الصَّلَاة وَلَا يَكْفِي أَن يَنْوِي رفع الْحَدث لِأَن الْمُتَيَمم لَا يرفع حَدثهُ بِدَلِيل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَمْرو بن الْعَاصِ إِن أَصَابَته جَنَابَة فَتَيَمم وَصلى بأصحاب فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(أصليت بِأَصْحَابِك وَأَنت جنب) وَلِأَنَّهُ لَو رَفعه لما بَطل بِرُؤْيَة المَاء كَالْوضُوءِ بِالْمَاءِ

(1/58)


وَلَا تَكْفِي نِيَّة الطَّهَارَة عَن الْحَدث على الصَّحِيح وَلَو نوى أَدَاء فرض التَّيَمُّم أَو فَرِيضَة التَّيَمُّم فَوَجْهَانِ أَحدهمَا يَكْفِي كَالْوضُوءِ وأصحهما لَا يَكْفِي وَالْفرق أَن الْوضُوء قربَة مَقْصُودَة فِي نَفسهَا وَلِهَذَا ينْدب تجديده بِخِلَاف التَّيَمُّم فَإِنَّهُ لَا ينْدب تجديده وَلَو اقْتصر على نِيَّة التَّيَمُّم لم يجزه قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَاعْلَم أَنه لَا يجوز أَن تتأخر النِّيَّة عَن أول مَفْرُوض وَأول أَفعاله الْمَفْرُوضَة نقل التُّرَاب وَالْمرَاد بِالنَّقْلِ الضَّرْب فَلَا بُد من النِّيَّة قبل رفع يَدَيْهِ من التُّرَاب فَإِذا قارنت وعزبت قبل مسح وَجهه أَجزَأَهُ على الرَّاجِح فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة قَالَ ابْن الرّفْعَة أصَحهمَا لَا يجزىء لِأَن النَّقْل وان وَجب الا أَنه غير مَقْصُود فِي نَفسه
ثمَّ إِذا نوى الاستباحة فَلهُ أَرْبَعَة أَحْوَال
أَحدهمَا أَن يَنْوِي اسْتِبَاحَة الْفَرْض وَالنَّفْل مَعًا فيتسبيحهما وَله التَّنَفُّل قبل الْفَرِيضَة وَبعدهَا وَفِي الْوَقْت وخارجه وَلَا يشْتَرط تعْيين الْفَرِيضَة على الرَّاجِح وَيَكْفِي نِيَّة الْفَرْض مُطلقًا وَيُصلي أَي فَرِيضَة شَاءَ وان نوى معينه فَلهُ أَن يُصَلِّي غَيرهَا
الْحَالة الثَّانِيَة أَن يَنْوِي الْفَرِيضَة سَوَاء كَانَت إِحْدَى الْخمس أَو منذورة وَلَا تخطر لَهُ النَّافِلَة فَيُبَاح لَهُ الْفَرِيضَة لِأَنَّهُ وَكَذَا النَّافِلَة قبلهَا وَبعدهَا وَبعد الْوَقْت على الرَّاجِح لِأَن النَّفْل تبع للفريضة لِأَنَّهُ نَوَاهَا وَكَذَا النَّافِلَة قبلهَا وَبعدهَا وَبعد الْوَقْت على الرَّاجِح لِأَن النَّفْل تبع للفريضة
الْحَالة الثَّالِثَة أَن يَنْوِي النَّفْل وَحده فَلَا يستبيح الْفَرْض على الرَّاجِح لَان النَّفْل تبع للْفَرض وَالْفَرْض متبوع فَلَا يَصح أَن يكون تَابعا وَلم يُنَوّه وَلَو نوى مس الْمُصحف أَو الْجنب الِاعْتِكَاف فَهُوَ كنية النَّفْل فَلَا يستبيح الْفَرْض على الْمَذْهَب ويستبيح مَا نوى على الصَّحِيح وَلَو نوى التَّيَمُّم لصَلَاة الْجِنَازَة فَهُوَ كالتيمم للنفل على الصَّحِيح لِأَنَّهَا وان تعيّنت عَلَيْهِ فَهِيَ كالنوافل من حَيْثُ انها غير متوجهة عَلَيْهِ بِعَيْنِه أَلا ترى أَنَّهَا تسْقط بِفعل غَيره
الْحَالة الرَّابِعَة أَن يَنْوِي الصَّلَاة فَقَط فَهُوَ كمن نوى النَّفْل على الرَّاجِح وَالله أعلم
(فرع) لَو تيَمّم بنية اسْتِبَاحَة الصَّلَاة ظَانّا أَن حَدثهُ أَصْغَر فَكَانَ أكبر أَو ظن أَن حَدثهُ أكبر فَكَانَ أَصْغَر صَحَّ بِلَا خلاف لِأَن مُوجب الحدثين وَاحِد وَالله أعلم قَالَ
(وَمسح الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين وَالتَّرْتِيب)

(1/59)


من فَرَائض التَّيَمُّم مسح الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ لقَوْله تَعَالَى {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ} ولفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أما الْوَجْه فَيجب استيعابه كَالْوضُوءِ نعم لَا يجب ايصال التُّرَاب إِلَى منابت الشّعْر الَّذِي يجب إِيصَال المَاء إِلَيْهَا على الْمَذْهَب للْمَشَقَّة قَالَ القَاضِي حُسَيْن لَا يسن أَيْضا وَيجب إِيصَال التُّرَاب إِلَى ظَاهر مَا استرسل من اللِّحْيَة على الْأَظْهر كَالْوضُوءِ وَأما الْيَدَيْنِ فَيجب استيعابهما بِالتُّرَابِ مَعَ الْمرْفقين وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة وَاحْتج لَهُ بقول ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(التَّيَمُّم ضربتان ضَرْبَة للْوَجْه وضربة لِلْيَدَيْنِ إِلَى الْمرْفقين) بِالْقِيَاسِ على الْوضُوء وَفِي قَول قديم يمسح الْكَفَّيْنِ فَقَط وَاحْتج لَهُ بقول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمَّار
(إِنَّمَا يَكْفِيك أَن تَقول بيديك هَكَذَا ثمَّ ضرب بيدَيْهِ الأَرْض ضَرْبَة وَاحِدَة ثمَّ مسح الشمَال على الْيَمين وَظَاهر كفيه وَوَجهه) وَقد علق الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم الِاقْتِصَار على الْكَفَّيْنِ على صِحَة حَدِيث عمار وَقد صَحَّ فَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي لهَذَا وَلقَوْله إِذا صَحَّ الحَدِيث فَاتَّبعُوهُ وَاعْلَمُوا أَنه مذهبي وَهَذَا مَذْهَب الامام أَحْمد وَمَالك وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيّ وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب انه أقوى فِي الدَّلِيل وَأقرب إِلَى ظَاهر السّنة الصَّحِيحَة وَالله أعلم وَقَالَ ابْن الرّفْعَة بعد كَلَام ذكره الامام يتَعَيَّن تَرْجِيح الْقَدِيم وَالله أعلم قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة وَاعْلَم أَنه تكَرر لفظ الضربتين فِي الْأَخْبَار فجرت طَائِفَة من الْأَصْحَاب على الظَّاهِر وَقَالُوا لَا يجوز النَّقْص عَن ضربتين وَتجوز الزِّيَادَة وَالأَصَح مَا قَالَه الْآخرُونَ ان الْوَاجِب إِيصَال التُّرَاب سَوَاء حصل ضَرْبَة أَو أَكثر لَكِن يسْتَحبّ أَن لايزيد على ضربتين وَلَا ينقص وَسَوَاء حصل بيد أَو خرقَة أَو خَشَبَة وَلَا يشْتَرط امرار الْيَد على الْعُضْو على الرَّاجِح وَلَا يشْتَرط الضَّرْب أَيْضا حَتَّى لَو وضع يَده على تُرَاب ناعم فعلق غُبَار بهَا كفى وَلَو كَانَ يمسح بِيَدِهِ فَرَفعهَا فِي أثْنَاء الْعُضْو ثمَّ ردهَا جَازَ وَلَا يفْتَقر إِلَى أَخذ تُرَاب جَدِيد على الْأَصَح وَالله أعلم
وَمن فَرَائض التَّيَمُّم التَّرْتِيب فَيجب تَقْدِيم الْوَجْه على الْيَدَيْنِ سَوَاء فِي ذَلِك تيَمّم للْوُضُوء أَو للجنابة لِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة فِي عضوين فَأشبه الْوضُوء لحَدِيث عمار رَضِي الله عَنهُ فَلَو تَركه نَاسِيا لم يَصح على الْمَذْهَب كَالْوضُوءِ وَلَا يشْتَرط التَّرْتِيب فِي أَخذ التُّرَاب للعضوين على الْأَصَح حَتَّى لَو ضرب بيدَيْهِ على الأَرْض وَأمكنهُ مسح الْوَجْه بِيَمِينِهِ وَمسح يَمِينه بيساره جَازَ وَكَذَا لَو ضرب بِخرقَة

(1/60)


وَمسح بِبَعْضِهَا وَجهه وبالأخرى الْيَدَيْنِ كفي وَيجب عَلَيْهِ نزع الْخَاتم فِي الضَّرْبَة الثَّانِيَة وَلَا يَكْفِي تحريكه بِخِلَاف الْوضُوء لِأَن التُّرَاب لَا يدْخل تَحْتَهُ وَالله أعلم
(فرع) لَو تيَمّم وعَلى يَده نَجَاسَة وَضرب بهَا تُرَاب طَاهِر وَمسح وَجهه جَازَ على الْأَصَح وَلَا يجوز مسح النَّجِسَة بِلَا خلاف كَمَا لَا يَصح غسلهَا عَن الْوضُوء مَعَ بَقَاء النَّجَاسَة وَلَو تيَمّم وَوَقع عَلَيْهِ نَجَاسَة لم يبطل تيَمّمه على الْمَذْهَب وَلَو تيَمّم قبل الِاجْتِهَاد فِي الْقبْلَة فَفِي صِحَة تيَمّمه وَجْهَان كَمَا لَو كَانَ عَلَيْهِ نَجَاسَة وَالله أعلم قَالَ
(وسننه ثَلَاثَة أَشْيَاء التَّسْمِيَة وَتَقْدِيم الْيُمْنَى على الْيُسْرَى والموالاة قِيَاسا على الْوضُوء)
وَمن سنَنه أَيْضا تَخْفيف التُّرَاب الْمَأْخُوذ إِذا كَانَ كثيرا وَأَن ينْزع خَاتمه فِي الضَّرْبَة الأولى وَأَن يسْتَقْبل الْقبْلَة كَالْوضُوءِ وَأَن يشبك أَصَابِعه بعد الضربتين قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة وَيَنْبَغِي اسْتِحْبَاب الشَّهَادَتَيْنِ بعد التَّيَمُّم كَالْوضُوءِ وَالْغسْل وَالله أعلم قَالَ
(فصل وَالَّذِي يبطل التَّيَمُّم ثَلَاثَة أَشْيَاء مَا يبطل الْوضُوء ورؤية المَاء فِي غير الصَّلَاة وَالرِّدَّة)
إِذا صَحَّ التَّيَمُّم بِشُرُوطِهِ ثمَّ أحدث بَطل تيَمّمه لِأَنَّهُ طَهَارَة تبيح الصَّلَاة فَيبْطل بِالْحَدَثِ كَالْوضُوءِ وَلَا فرق فِي هَذَا بَين التَّيَمُّم عِنْد عدم المَاء أَو مَعَ وجوده كتيمم الْمَرِيض فَلَو تيَمّم لفقد المَاء ثمَّ رأى المَاء قبل الدُّخُول فِي الصَّلَاة بَطل تيَمّمه لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الصَّعِيد الطّيب طهُور الْمُسلم وَلَو لم يجد المَاء عشر سِنِين فَإِذا وجد المَاء فليمسه بَشرته) لِأَن المَاء أصل وَالتَّيَمُّم بدل فَأشبه رُؤْيَة المَاء فِي أثْنَاء التَّيَمُّم فَإِنَّهُ يُبطلهُ قَالَ ابْن الرّفْعَة بِالْإِجْمَاع
وَاعْلَم أَن توهم وجود المَاء كرؤيته كَمَا إِذا رأى سراباً فَظَنهُ مَاء أَو أطبقت بِقُرْبِهِ غمامة أَو طلع عَلَيْهِ جمَاعَة يجوز أَن يكون مَعَهم مَاء وَهَذَا كُله إِذا لم يقارن المَاء مَا يمْنَع الْقُدْرَة على اسْتِعْمَاله فَإِن كَانَ هُنَاكَ مَا يمْنَع اسْتِعْمَاله كَمَا إِذا رأى مَاء وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ لعطش كَمَا مر أَو كَانَ دون المَاء حَائِل من سبع أَو عَدو أَو رَآهُ فِي قَعْر بِئْر وَهُوَ يعلم حَال رُؤْيَته تعذر اسْتِعْمَاله فَلَا يبطل تيَمّمه لِأَن هَذِه الْأَسْبَاب لَا تمنع صِحَة التَّيَمُّم ابْتِدَاء فَلَا تبطله أولى أم إِذا رأى المَاء فِي أثْنَاء الصَّلَاة نظر إِن كَانَت الصَّلَاة

(1/61)


تغنيه عَن الْقَضَاء كَصَلَاة الْمُسَافِر فَظَاهر الْمَذْهَب وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي أَنه لَا تبطل صلَاته وَلَا تيَمّمه لِأَنَّهُ متيمم دخل فِي الصَّلَاة لَا يُعِيدهَا فَأشبه مَا لَو رَآهُ بعد الْفَرَاغ مِنْهَا وَلِأَن فِيهِ إبِْطَال عبَادَة مجزئة وَلِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلَاة قد تلبس بِالْمَقْصُودِ وَوجد أَن الأَصْل بعد التَّلَبُّس بمقصود الْبَدَل لَا يبطل حكم الْبَدَل كَمَا لَو شرع الْمُكَفّر فِي الصّيام ثمَّ وجد الرَّقَبَة لَا يلْزمه إِخْرَاج الرَّقَبَة وَإِن كَانَت الصَّلَاة لَا تغنيه عَن الْقَضَاء كَصَلَاة الْحَاضِر بِالتَّيَمُّمِ بطلت على الصَّحِيح لِأَنَّهَا لَا يعْتد بهَا إِذا تمت وَيجب قَضَاؤُهَا فَلَا حَاجَة إِلَى اتمامها وإعادتها وَقيل يُتمهَا وَيُعِيدهَا وَالله أعلم
(فرع) اعْلَم أَن الْمُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ فِي مَوضِع يغلب فِيهِ عدم المَاء لَا قَضَاء عَلَيْهِ مُطلقًا سَوَاء كَانَ مُسَافِرًا أَو مُقيما وَإِن كَانَ فِي مَوضِع يغلب فِيهِ وجود المَاء يجب عَلَيْهِ الْقَضَاء مُطلقًا سَوَاء كَانَ مُسَافِرًا أَو مُقيما كَذَا ذكره النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَقد ذكره ذَلِك الرَّافِعِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي آخر بَاب التَّيَمُّم فِي فصل الْقَضَاء بالأعذار وَحِينَئِذٍ تمثيلهم عدم الْقَضَاء بِالسَّفرِ جَريا على الْغَالِب فِي أَن السّفر يغلب فِيهِ عدم المَاء بِخِلَاف الْحَضَر فَإِنَّهُ يغلب فِيهِ وجود المَاء فاعرف ذَلِك فَإِنَّهُ مُهِمّ حسن منتج وَالله أعلم وَاعْلَم أَن قَول الشَّيْخ وَالرِّدَّة يَعْنِي أَن الرِّدَّة تبطل التَّيَمُّم وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح على الْمَشْهُور وَفِيه مَعَ الْوضُوء ثَلَاثَة أوجه الصَّحِيح يبطل تيَمّمه دون وضوئِهِ وَالْفرق أَن التَّيَمُّم مُبِيح وَلَا إِبَاحَة مَعَ الرِّدَّة بِخِلَاف الْوضُوء فَإِنَّهُ رَافع فَلهُ قُوَّة اسْتِدَامَة حكمه وَلِهَذَا لَا يبطل غسله بِالرّدَّةِ على الْمَشْهُور وَقيل هُوَ كَالْوضُوءِ وَالله أعلم
(وَصَاحب الجبائر يمسح عَلَيْهَا وَيتَيَمَّم وَيُصلي وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ إِن وَضعهَا على طهر)
اعْلَم أَن وضع الجبائر يكون لكسر أَو انخلاع وَصَاحب ذَلِك قد يحْتَاج إِلَى وضع الْجَبِيرَة وَقد لَا يحْتَاج فَإِن احْتَاجَ إِلَى وَضعهَا بِأَن خَافَ على نَفسه أَو عضوه على مَا مر فِي الْمَرَض وَضعهَا ثمَّ ينظر إِن قدر على نَزعهَا عِنْد الطَّهَارَة من غير ضَرَر من الْأُمُور الْمُتَقَدّمَة فِي الْمَرَض وَجب النزع وَغسل الصَّحِيح وَغسل مَوضِع الْعلَّة إِن أمكن وَألا مَسحه بِالتُّرَابِ إِن كَانَ مَوضِع التَّيَمُّم وَإِن لم يقدر على نزع الْجَبِيرَة إِلَّا بِضَرَر من الْأُمُور الْمُتَقَدّمَة فِي الْمَرَض كخوف فَوَات النَّفس أَو الْعُضْو أَو منفعَته أَو حُصُول شين فَاحش فِي عُضْو ظَاهر فَلَا يُكَلف نزع الْجَبِيرَة لَكِن يجب عَلَيْهِ أُمُور مِنْهَا غسل الصَّحِيح على الْمَذْهَب وَيجب غسل مَا يُمكن غسله حَتَّى تَحت أَطْرَاف الْجَبِيرَة من الصَّحِيح بِأَن يضع خرقه مبلوله ويعصرها لتغسل تِلْكَ الْمَوَاضِع بالمتقاطر وَمِنْهَا مسح الْجَبِيرَة بِالْمَاءِ على الْمَشْهُور كَمَا ذكره الشَّيْخ لأجل مَا أخذت الْجَبِيرَة من الصَّحِيح وَيجب مسح كل الْجَبِيرَة على الصَّحِيح وَمِنْهَا أَنه يجب التَّيَمُّم مَعَ ذَلِك على الْمَشْهُور ثمَّ إِن كَانَ جنبا فَالْأَصَحّ أَنه مُخَيّر إِن شَاءَ قدم غسل الصَّحِيح على التَّيَمُّم وَإِن شَاءَ أَخّرهُ وَإِن كَانَ مُحدثا الْحَدث الْأَصْغَر فَالصَّحِيح أَنه لَا ينْتَقل من

(1/62)


عُضْو إِلَى عُضْو حَتَّى يتم طَهَارَته فَإِن كَانَت الْجَبِيرَة على الْيَد مثلا وَجب تَقْدِيم التَّيَمُّم على مسح الرَّأْس وَلَو كَانَت الجبائر على عضوين أَو ثَلَاثَة تعدد التَّيَمُّم قَالَ النَّوَوِيّ وَلَو عَمت الْجِرَاحَات أعضاءه الْأَرْبَعَة قَالَ الْأَصْحَاب يَكْفِي تيَمّم وَاحِد عَن الْجَمِيع لِأَنَّهُ سقط التَّرْتِيب لسُقُوط الْغسْل وَالله أعلم
ثمَّ مَا ذكرنَا من وجوب غسل الصَّحِيح وَمسح الْجَبِيرَة وَالتَّيَمُّم إِنَّمَا يَكْفِي بِشَرْطَيْنِ
أَحدهمَا أَن لايحصل تَحت الْجَبِيرَة من الصَّحِيح إِلَّا مَا لَا بُد مِنْهُ للإمساك
وَالثَّانِي أَن يَضَعهَا على طهر فَإِن لم يكن كَذَلِك وَجب النَّوْع واستئناف الْوَضع على طهر إِن أمكن وَإِلَّا فَتتْرك الْجَبِيرَة وَيجب الْقَضَاء عِنْد الْبُرْء قَالَ فِي الرَّوْضَة تبعا للرافعي بِلَا خلاف فَأَما إِذا لم يحْتَج إِلَى وضع الْجَبِيرَة لَكِن يخَاف من إِيصَال المَاء فَيغسل الصَّحِيح بِقدر الْإِمْكَان بِأَن يتلطف بِوَضْع خرقَة مبلولة ويتحامل عَلَيْهَا لينغسل بالمتقاطر بَاقِي الصَّحِيح وَيجب التَّيَمُّم وَالْحَالة هَذِه بِلَا خلاف كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ لِئَلَّا يبْقى مَوضِع الْكسر بِلَا طَهَارَة وَلَا يجب مسح مَوضِع الْعلَّة بِالْمَاءِ وَإِن كَانَ لَا يخَاف مِنْهُ كَذَا قَالَه الْأَصْحَاب ثمَّ إِذا تيَمّم وَالْعلَّة فِي مَحل التَّيَمُّم أَمر التُّرَاب عَلَيْهَا وَكَذَا لَو كَانَ للجراحة أَفْوَاه مفتحة وَأمكن إمرار التُّرَاب عَلَيْهَا وَجب وَاعْلَم أَن الْجراحَة قد تحْتَاج إِلَى أَن تلزق عَلَيْهَا خرقَة أَو قطناً أَو نَحْوهمَا فلهَا حكم الْجَبِيرَة فِي كل مَا سبق وَقد لَا تحْتَاج إِلَى وضع لزقة فَيجب غسل الصَّحِيح وَالتَّيَمُّم عَن الجريح وَلَا يجب مسح الجريح بِالْمَاءِ وَلَا يجب عَلَيْهِ وضع اللزقة والجبيرة لأجل أَن يمسح على مَا قَالَه الْجُمْهُور وَهُوَ الصَّحِيح ثمَّ إِذا غسل الصَّحِيح وَتيَمّم لكسر أَو جرح مَعَ الْمسْح على حَائِل أَو دونه وَصلى فَرِيضَة ثمَّ حضرت فَرِيضَة أُخْرَى لم يجب إِعَادَة الْغسْل إِن كَانَ جنبا وَلَا إِعَادَة الْوضُوء إِن كَانَ مُحدثا على الصَّحِيح وَلَيْسَ على الْجنب إِلَّا التَّيَمُّم وَفِي الْمُحدث وَجْهَان أصَحهمَا عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يغسل مَا بعد العليل لأجل التَّرْتِيب لِأَنَّهُ إِذْ بطلت الطَّهَارَة فِي العليل بَطل مَا بعده وأصحهما عِنْد النَّوَوِيّ أَنه يجب إِلَّا التَّيَمُّم فَقَط كالجنب لِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة مُسْتَقلَّة فِي الْجُمْلَة فَلَا يلْزم من ارْتِفَاع حكمهَا بطلَان طَهَارَة أُخْرَى وَقَوله وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ إِن وَضعهَا على طهر مَفْهُومه أَنه إِذا وَضعهَا على غير طهر أَنه يُعِيد وَهُوَ كَذَلِك على الصَّحِيح الْمَنْصُوص لِأَنَّهُ عذر نَادِر وَلَا يفعل غَالِبا وَالله أعلم قَالَ
(وَيتَيَمَّم لكل فَرِيضَة وَيُصلي بِتَيَمُّم وَاحِد مَا شَاءَ من النَّوَافِل)
لَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِد إِلَّا فَرِيضَة وَاحِدَة وَاحْتج لَهُ الرَّافِعِيّ بقول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
(من السّنة أَن لَا يُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ إِلَّا مَكْتُوبَة وَاحِدَة) وَالسّنة فِي كَلَام الصَّحَابِيّ تَنْصَرِف إِلَى سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي إِسْنَاده شَيْء وَاضح نعم روى الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه قَالَ

(1/63)


يتَيَمَّم لكل صَلَاة وَإِن لم يحدث) وَأحسن مَا يحْتَج بِهِ قَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا وُجُوهكُم} إِلَى قَوْله {فَتَيَمَّمُوا} أوجب الْوضُوء وَالتَّيَمُّم لكل صَلَاة وَكَانَ ذَلِك ثَابتا فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام ثمَّ خرج الْوضُوء بِفِعْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(فَإِنَّهُ صلى يَوْم الْفَتْح خمس صلوَات بِوضُوء وَاحِد) فَبَقيَ التَّيَمُّم بِمُقْتَضى الْآيَة وَلَا يُمكن أَن يُقَاس التَّيَمُّم على الْوضُوء لِأَن التَّيَمُّم طَهَارَة ضَرُورَة لَا يرفع الْحَدث لما مر من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَمْرو بن الْعَاصِ
(أصليت بِأَصْحَابِك وَأَنت جنب) وَذهب الْمُزنِيّ إِلَى أَنه يجمع بِتَيَمُّم وَاحِد فَرَائض ونوافل وَهُوَ بِنَاء مِنْهُ على أَصله وَهُوَ أَن التَّيَمُّم يرفع الْحَدث وَهُوَ مَرْدُود بِمَا مر فعلى الصَّحِيح لَا يجمع بَين فريضتين سَوَاء كَانَت الفريضتان متفقين كصلاتين أَو مختلفتين كَصَلَاة وَطواف وَسَوَاء كَانَتَا مقضيتين أَو حَاضِرَة ومقضية وَسَوَاء كَانَتَا مَكْتُوبَة ومنذورة أَو منذورتين وَفِي وَجه يجمع بَين منذورة ومقضية وَفِي آخر بَين منذورتين وَفِي وَجه شَاذ يجوز فِي فوائت وفائتة ومؤداة وَالصَّبِيّ كَالْبَالِغِ على الْمَذْهَب لِأَن مَا يُؤَدِّيه حكمه حكم الْفَرْض أَلا ترى أَنه يَنْوِي بِصَلَاتِهِ الْمَفْرُوضَة وَكَذَا لَا يجمع بَين خطْبَة الْجُمُعَة وصلاتها نعم صَلَاة الْجِنَازَة لَهَا حكم النَّافِلَة على الرَّاجِح من طرق فَيجوز الْجمع بَين صلوَات الْجَنَائِز وَبَين صَلَاة جَنَازَة ومكتوبة وَبَين جنائز ومكتوبة لِأَن صَلَاة الْجِنَازَة فرض كِفَايَة وفروض الْكِفَايَة مُلْحقَة بالنوافل فِي جَوَاز التّرْك وَعدم الانحصار بِخِلَاف فرض الْعين وَيجوز أَن يُصَلِّي بِتَيَمُّم وَاحِد مَا شَاءَ من النَّوَافِل لِأَن النَّوَافِل فِي حكم صَلَاة وَاحِدَة أَلا ترى أَنه إِذا تحرم بِرَكْعَة لَهُ أَن يَجْعَلهَا مائَة رَكْعَة وَبِالْعَكْسِ وَلِأَن فِي تَكْلِيف التَّيَمُّم لكل نَافِلَة مشقة فَرُبمَا أدّى إِلَى تَركهَا وَالشَّرْع خفف فِيهَا فجوزها قَاعِدا مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام وعَلى الرَّاحِلَة ولغير الْقبْلَة فِي السّفر لتكثر وَلَا يَنْقَطِع الشَّخْص عَنْهَا وَالله أعلم
(فرع) لَو لم يجد الْجنب أَو الْمُحدث إِلَّا مَاء لَا يَكْفِيهِ وَجب عَلَيْهِ اسْتِعْمَاله على الصَّحِيح وَيجب التَّيَمُّم للْبَاقِي وَلَو لم يجد إِلَّا تُرَابا لَا يَكْفِيهِ وَجب اسْتِعْمَاله على الْمَذْهَب وَكَذَا لَو كَانَ عَلَيْهِ نجاسات فَوجدَ من المَاء مَا يغسل بَعْضهَا وَجب غسله على الْمَذْهَب فَلَو كَانَ مُحدثا أَو جنبا أَو عَلَيْهِ نَجَاسَة وَوجد مَا يَكْفِي أَحدهمَا غسل النَّجَاسَة ثمَّ تيَمّم لِأَن النَّجَاسَة لَا بدل لَهَا وَلَو جَازَ الْمُسَافِر بِمَاء فِي الْوَقْت فَلم يتَوَضَّأ مِنْهُ فَلَمَّا بعد عَنهُ تيَمّم وَصلى جَازَ وَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ على الْمَذْهَب وَلَو لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا فَالصَّحِيح أَنه يُصَلِّي لحُرْمَة الْوَقْت وَيُعِيد وَصلَاته تُوصَف بِالصِّحَّةِ فَإِذا قدر على المَاء أعَاد وَإِن قدر على التُّرَاب فَهَل يُعِيد نظر إِن قدر عَلَيْهِ فِي مَوضِع يسْقط بِهِ الْقَضَاء أعَاد وَإِلَّا فَلَا يُعِيد إِذْ

(1/64)


لَا فَائِدَة فِي صَلَاة بِالتَّيَمُّمِ تُعَاد بل فِي كَلَام بَعضهم مَا يقْضِي عدم الْجَوَاز
ثمَّ فَاقِد المَاء وَالتُّرَاب إِذا صلى فَهَل يقْرَأ الْفَاتِحَة إِذا كَانَ جنبا مُقْتَضى كَلَام الرَّافِعِيّ فِي هَذَا فِي بَاب التَّيَمُّم أَنه يقْرؤهَا وَيَأْتِي بِالذكر وَتَبعهُ النَّوَوِيّ لَكِن صحّح النَّوَوِيّ فِي بَاب الْغسْل أَنه يجب عَلَيْهِ أَن يَقْرَأها وَلَو تيَمّم عَن جَنَابَة ثمَّ أحدث حرم عَلَيْهِ مَا يحرم على الْمُحدث وَلَا تحرم الْقِرَاءَة وَلَا اللّّبْث فِي الْمَسْجِد ثمَّ بِرُؤْيَة المَاء تحرم الْقِرَاءَة وكل مَا كَانَ حَرَامًا حَتَّى يغْتَسل مَا لم يقْتَرن بمانع إِمَّا شَرْعِي كالعطش أَو حسي كسبع أَو عَدو كَمَا تقدم وَنَحْو ذَلِك وَالله أعلم
(مَسْأَلَة) وجد الْمُسَافِر على الطَّرِيق خابية مسبلة للشُّرْب لَا يجوز لَهُ أَن يتَوَضَّأ مِنْهَا وَيتَيَمَّم لِأَنَّهَا إِنَّمَا تُوضَع للشُّرْب كَذَا ذكره المتولى وَالرُّويَانِيّ وَنَقله عَن الْأَصْحَاب وَالله أعلم قَالَ
بَاب إِزَالَة النَّجَاسَة
(فصل وكل مَائِع خرج من السبيلسن نجس إِلَّا الْمَنِيّ)
لَا يَد من معرفَة النَّجَاسَة أَولا لِأَن مَا خرج من السَّبِيلَيْنِ هُوَ أحد أَنْوَاع النَّجَاسَة
ثمَّ النَّجَاسَة لُغَة هِيَ كل مستقذر وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن كل عين حرم تنَاولهَا على الْإِطْلَاق مَعَ إِمْكَانه لَا لحرمتها أَو استقذارها أَو ضررها فِي الْبدن أَو عقل فَقَوله على الْإِطْلَاق احْتَرز بِهِ عَن النباتات السمية فَإِنَّهُ يُبَاح مِنْهَا الْقَلِيل دون الْكثير وَقَوله مَعَ إِمْكَانه احْتَرز بِهِ عَن الْأَحْجَار والأشياء الصلبة فَإِنَّهُ لَا يُمكن تنَاولهَا أَي أكلهَا على الْإِطْلَاق وَقَوله لَا لحرمتها احْتَرز بِهِ عَن الْمُحْتَرَم كالآدمي وَقَوله أَو استقذارها احْتَرز بِهِ عَن المخاط وَنَحْوه وَبَقِيَّة مَا ذكرنَا فِي الْحَد احْتَرز بِهِ عَن التُّرَاب فَإِنَّهُ يضر بِالْبدنِ وَالْعقل وَيَنْبَغِي أَن يزِيد فِي الْحَد فِي حَال الاختبار ليدْخل فِي الْحَد الْميتَة فَإِنَّهُ يُبَاح أكلهَا عِنْد الضَّرُورَة مَعَ النَّجَاسَة فِي ذَلِك الْوَقْت حَتَّى إِنَّه يجب عَلَيْهِ غسل فَمه إِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَن الْمُنْفَصِل عَن بَاطِن الْحَيَوَان نَوْعَانِ
أَحدهمَا مَا لَيْسَ لَهُ اجْتِمَاع واستحالة فِي الْبَاطِن وَإِنَّمَا يرشح رشحاً كاللعاب والعرق وَنَحْوهمَا فَلهُ حكم الْحَيَوَان المترشخ مِنْهُ إِن كَانَ نجسا فنجس وَإِلَّا فطاهر
النَّوْع الثَّانِي مَا لَهُ اسْتِحَالَة كالبول والعذرة وَالدَّم والقيء فَهَذِهِ الْأَشْيَاء كلهَا نَجِسَة من جَمِيع الْحَيَوَانَات المأكولة وَغَيرهَا وَلنَا وَجه أَن بَوْل مَا يَأْكُل لَحْمه وروثه طاهران وَبِه قَالَ الأصطخري وَالرُّويَانِيّ وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأحمد رَضِي الله عَنْهُمَا وتمسكوا بِأَحَادِيث هِيَ مُعَارضَة وَقد وَقع الْإِجْمَاع على نَجَاسَة هَذِه الْأَشْيَاء من غير الْمَأْكُول وَيُقَاس الْمَأْكُول على غَيره لِأَنَّهَا متغيرة مستحيلة مستقذرة وَاحْتج لنجاسة الْبَوْل بِحَدِيث الْأَعرَابِي الَّذِي بَال فِي الْمَسْجِد حَيْثُ أَمر رَسُول الله بصب

(1/65)


ذنُوب من مَاء عَلَيْهِ فصب والذنُوب بِفَتْح الذَّال الدَّلْو المملوء قَالَ النَّوَوِيّ وَفِيه إِثْبَات نَجَاسَة بَوْل الْآدَمِيّ وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ وَلَا فرق بَين بَوْل الصَّغِير وَالْكَبِير بِإِجْمَاع من يعْتد بإجماعه نعم يَكْفِي فِي بَوْل الصَّغِير النَّضْح وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(مر بقبرين فَقَالَ إنَّهُمَا يعذبان فَكَانَ أَحدهمَا يمشي بالنميمة وَأما الآخر فَكَانَ لَا يسْتَتر من الْبَوْل) وَفِي رِوَايَة
(لَا يستنزه) وَفِي رِوَايَة
(لَا يستبرىء) ومعناهن لَا يجتنبه ويحترز مِنْهُ وَأما نَجَاسَة الْغَائِط فحجته مَعَ الْإِجْمَاع قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعمَّار
(إِنَّمَا تغسل ثَوْبك من الْبَوْل وَالْغَائِط والمذي والقيء) وبدخل فِي قَول الشَّيْخ الْمَذْي لِأَنَّهُ خَارج من أحد السَّبِيلَيْنِ وَحجَّة نَجَاسَته حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله
0 - كنت رجلا مذاء فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَهُ فَقَالَ يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ والمذي أَبيض رَقِيق لزج يخرج بِلَا شَهْوَة عِنْد الملاعبة وَالنَّظَر وَيدخل فِي كَلَام الشَّيْخ أَيْضا الودي وَهُوَ أَبيض كدر ثخين يخرج عقب الْبَوْل من مخرج الْبَوْل وَلَا فرق فِي نَجَاسَة مَا خرج من السَّبِيلَيْنِ بَين أَن يكون مُعْتَادا كالبول وَالْغَائِط أَولا كَالدَّمِ والقيح نعم يسْتَثْنى من ذَلِك الدُّود والحصى وكل متصلب لم تحله الْمعدة فَهُوَ مُتَنَجّس لَا نجس وَعنهُ احْتَرز الشَّيْخ بقول مَائِع وَأما الْمَنِيّ فَهَل هُوَ نجس أم طَاهِر ينظر إِن كَانَ من الْآدَمِيّ فَفِيهِ خلاف بَين الْأَئِمَّة فِي مَذْهَبنَا طَاهِر وَالَّذِي ذهب إِلَيْهِ مَالك وَأَبُو حنيفَة أَنه نجس وحجتهما رِوَايَة الْغسْل ولفظها
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ مُسلم يغسل الْمَنِيّ ثمَّ يخرج إِلَى الصَّلَاة فِي ذَلِك الثَّوْب) وَمذهب الشَّافِعِي وَأَصْحَاب الحَدِيث وَذهب إِلَيْهِ خلق مِنْهُم عَليّ بن أبي طَالب وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن عمر وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ أَنه طَاهِر وَهُوَ أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَن الإِمَام أَحْمد وَبِه قَالَ دَاوُد وَدَلِيل هَؤُلَاءِ رِوَايَة الفرك ولفظها قَول عَائِشَة رَضِي الله عَنَّا
(لقد رَأَيْتنِي أفرك من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَنِيّ فركاً فَيصَلي فِيهِ) وَلَو كَانَ نجسا لم يكف فركه كَالدَّمِ وَغَيره وَرِوَايَة الْغسْل مَحْمُولَة على النّدب وَاخْتِيَار

(1/66)


النَّظَافَة جمعا بَين الْأَدِلَّة وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين مني الرجل وَالْمَرْأَة على الْمَذْهَب
وَأما مني غير الْآدَمِيّ فَإِن كَانَ مني كلب أَو خِنْزِير أَو فرع أَحدهمَا فَهُوَ نجس بِلَا خلاف كأصلهما وَأما مَا عداهما من بَقِيَّة الْحَيَوَانَات فَفِي خلاف الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ أَنه نجس لِأَنَّهُ مُسْتَحِيل فِي الْبَاطِن كَالدَّمِ وَاسْتثنى مِنْهُ مني الْآدَمِيّ تكريماً لَهُ وَالرَّاجِح عِنْد النَّوَوِيّ أَنه طَاهِر وَقَالَ إِنَّه الْأَصَح عِنْد الْمُحَقِّقين والأكثرين لِأَنَّهُ أصل حَيَوَان طَاهِر فَكَانَ طَاهِر كالآدمي وَفِي وَجه أَنه نجس من غير الْمَأْكُول طَاهِر مِنْهُ كاللبن وَالله أعلم قَالَ
(وَغسل جَمِيع الأبوال والأرواث وَاجِب إِلَّا بَوْل الصَّبِي الَّذِي لم يَأْكُل الطَّعَام فَإِنَّهُ يطهر برش المَاء عَلَيْهِ) حجَّة الْوُجُوب حَدِيث الْأَعرَابِي وَغَيره وَأما كَيْفيَّة الْغسْل فالنجاسة تَارَة وَتَكون عَيْنِيَّة أَي تشاهد بِالْعينِ وَتارَة تكون حكمِيَّة أَي حكمنَا على الْمحل بِنَجَاسَتِهِ من غير أَن ترى عين النَّجَاسَة فَإِن كَانَت النَّجَاسَة عَيْنِيَّة فَلَا بُد مَعَ إِزَالَة الْعين من محاولة إِزَالَة مَا وجد مِنْهَا من طعم ولون وريح فَإِن بَقِي طعم النَّجَاسَة لم يطهر الْمحل الْمُتَنَجس لِأَن بَقَاء الطّعْم يدل على بَقَاء النَّجَاسَة وَصورته فِيمَا إِذا تنجس فَمه وَإِن بَقِي الْأَثر مَعَ الرَّائِحَة لم يطهر أَيْضا وَإِن بَقِي لون النَّجَاسَة وَحده وَهُوَ غير عسر الْإِزَالَة لم يطهر وَإِن عسر كَدم الْحيض يُصِيب الثَّوْب وَرُبمَا لَا تَزُول بعد الْمُبَالغَة فَالصَّحِيح أَنه يطهر للعسر وَإِن بقيت الرَّائِحَة وَحدهَا وَهِي عسرة الْإِزَالَة كرائحة الْخمر مثلا فيطهر الْمحل أَيْضا على الْأَظْهر ثمَّ الْبَاقِي من اللَّوْن والرائحة مَعَ الْعسر طَاهِر على الصَّحِيح وَقيل نجس مَعْفُو عَنهُ وَلَا يشْتَرط فِي حُصُول الطَّهَارَة عصر الثَّوْب على الرَّاجِح
ثمَّ شَرط الطَّهَارَة أَن يسْكب المَاء على الْمحل النَّجس فَلَو غمس الثَّوْب وَنَحْوه فِي طست فِيهِ مَاء دون قُلَّتَيْنِ فَالصَّحِيح الَّذِي قَالَه جُمْهُور الْأَصْحَاب أَنه لَا يطهر لِأَنَّهُ بوصوله إِلَى المَاء تنجس لقلته وَيَكْفِي أَن يكون المَاء غامراً للنَّجَاسَة على الصَّحِيح وَقيل يشْتَرط أَن يكون سَبْعَة أَضْعَاف الْبَوْل
وَأما النَّجَاسَة الْحكمِيَّة فَيشْتَرط فِيهَا الْغسْل أَيْضا
وَالْحَاصِل أَن الْوَاجِب فِي إِزَالَة النَّجَاسَة غسلهَا الْمُعْتَاد بِحَيْثُ ينزل المَاء بعد الحت والتحامل صافياً إِلَّا فِي بَوْل الصَّبِي الَّذِي لم يطعم وَلم يشرب سوى اللَّبن فَيَكْفِي فِيهِ الرش وَلَا بُد فِي الرش من إِصَابَة المَاء جَمِيع مَوضِع الْبَوْل وَأَن يغلب المَاء على الْبَوْل وَلَا يشْتَرط فِي ذَلِك السيلان قطعا والسيلان والتقاطر هُوَ الْفَارِق بَين الْغسْل والرش وَاعْلَم أَنه لَا يشْتَرط فِي الْغسْل الْقَصْد كَمَا لَو صب المَاء على ثوب لَا يقْصد فَإِنَّهُ يطهر وَكَذَا إِذا أصَاب مطر أَو سيل وَادّعى بَعضهم الْإِجْمَاع على ذَلِك لَكِن ابْن شُرَيْح والقفال من أَصْحَابنَا اشْترطَا النِّيَّة فِي غسل النَّجَاسَة كالحدث وَقد مر الْفرق وَقَول

(1/67)


الشَّيْخ إِلَّا بَوْل الصَّبِي احْتَرز بِهِ عَن الصبية فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي فِي غسل بولها النَّضْح بل يتَعَيَّن الْغسْل على الْمَذْهَب وَدَلِيل الْفرق حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أَتَى بصبي يرضع فَبَال فِي حجره فَدَعَا بِمَاء فَصَبَّهُ عَلَيْهِ وَلم يغسلهُ وَفِي رِوَايَة
(فَلم يزِيد على أَن نضح بِالْمَاءِ وَفِي رِوَايَة فرشه وَفِي رِوَايَة فنضح عَلَيْهِ وَلم يغسلهُ وَفِي رِوَايَة
(ينضح من بَوْل الْغُلَام ويرش من بَوْل الْجَارِيَة) وَفرق بَينهمَا من جِهَة الْمَعْنى بِوُجُوه مِنْهَا أَن بَوْل الْجَارِيَة يترشش فاحتيج فِيهِ إِلَى الْغسْل بِخِلَاف بَوْل الصَّبِي فَإِنَّهُ يَقع فِي مَحل وَاحِد وَمِنْهَا أَن بَوْل الْجَارِيَة ثخين أصفر منتن يلصق بِالْمحل بِخِلَاف بَوْل الصَّبِي قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد وَفرق بَينهمَا بِوُجُودِهِ مِنْهَا مَا هُوَ ركيل جدا لَا يسْتَحق أَن يذكر وَأقوى مَا قيل إِن النُّفُوس أعلق بالذكور من الْإِنَاث فيكثر حمل الصَّبِي فَنَاسَبَ التَّخْفِيف بالنضح دفعا للعسر وَهَذَا الْمَعْنى مَفْقُود فِي الْإِنَاث فَجرى الْغسْل فِيهِنَّ على الْقيَاس وَالله أعلم قلت وَفِيه نظر من جِهَة أَنه لَو كَانَ كَذَلِك لوقع الْفرق بَين الرجل وَالْمَرْأَة فِي الْغسْل فيرش من بولهما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَرْأَة وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ لم يَأْكُل الطَّعَام أَي مَا لم يطعم مَا يسْتَقلّ بِهِ كالخبز وَنَحْوه قَالَه ابْن الرّفْعَة وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم النَّضْح إِنَّمَا يَجْزِي مَا دَامَ الصَّبِي يقْتَصر على الرَّضَاع وَأما إِذا أكل الطَّعَام على جِهَة التغذية فَإِنَّهُ يجب الْغسْل بِلَا خلاف وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يُعْفَى عَن شَيْء من النَّجَاسَات إِلَّا الْيَسِير من الدَّم والقيح وَمَا لَا نفس لَهُ سَائِلَة إِذا وَقع فِي الْإِنَاء وَمَات فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يُنجسهُ)
الْقَلِيل من الدَّم والقيح مَعْفُو عَنهُ فِي الثَّوْب وَالْبدن وَتَصِح الصَّلَاة مَعَه وَظَاهر إِطْلَاق الشَّيْخ يَقْتَضِي أَنه لَا فرق بَين أَن يكون مِنْهُ أَو من غَيره وَمَسْأَلَة الْعَفو عَن النَّجَاسَات المعفو عَنْهَا نذكرها فيي محلهَا وَهُوَ عِنْد ذكر شُرُوط الصَّلَاة وَتَأْتِي فِي كَلَام الشَّيْخ هُنَاكَ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما الْميتَة الَّتِي لَا نفس لَهَا سَائِلَة أَي لَا دم لَهَا يسيل كالذباب والبعوض والعقارب والخنافس والوزغ على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ دون الْحَيَّات والضفادع لَيْسَ من ذَلِك إِذا وَقعت فِي إِنَاء فِيهِ مَائِع سَوَاء كَانَ مَاء أَو غَيره من الأدهان كالزيت وَالسمن أَو غَيره كالطعام وَمَاتَتْ فِيهِ فَهَل تنجسه فِيهِ خلاف وَالْمذهب عدم التَّنْجِيس لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم فليغمسه كُله ثمَّ لينزعه فَإِن فِي أحد جناحيه

(1/68)


دَاء وَفِي الآخر شِفَاء) وَأَنه يَتَّقِي بجناحيه الَّذِي فِيهِ الدَّاء وَوجه الِاسْتِدْلَال أَن الغمس قد يُفْضِي إِلَى الْمَوْت لَا سِيمَا إِذْ كَانَ الطَّعَام حاراً فَلَو كَانَ ينجس لم يَأْمر بِهِ وَأَيْضًا فصون الْأَوَانِي عَن هَذِه الْحَيَوَانَات فِيهِ عسر ومشقة فيعفى عَن تنجيسها لذَلِك وَقيل نجس لِأَنَّهَا ميتَة كَسَائِر النَّجَاسَات قَالَ ابْن الْمُنْذر وَلَا أعلم أحدا قَالَ هَذَا القَوْل غير الشَّافِعِي وَفِي قَول آخر إِن كَانَ مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى كالذباب وَنَحْوه فَلَا ينجس وَإِن لم تعم كالخنافس والعقارب نجست وَبِهَذَا جزم الْقفال وَهُوَ وَجه قوي لِأَن مَحل النَّص وَهُوَ الذُّبَاب فِيهِ مَعْنيانِ مشقة الِاحْتِرَاز وَعدم الدَّم السَّائِل وَهِي عِلّة مركبة فَإِذا فقد أَحدهمَا انعدمت الْعلَّة إِذْ الْعلَّة المركبة تنعدم بِعَدَمِ أحد جزأيها وَهنا فقدت مشقة الِاحْتِرَاز
وَأعلم أَن مَحل الْخلاف فِيمَا إِذا لم يتَغَيَّر الْمَائِع فَإِن تغير بِكَثْرَة الْميتَة نجسته على الْأَصَح وَمحل الْخلاف أَيْضا فِيمَا إِذا لم ينشأ فِي الْمَائِع فَإِن نَشأ فِيهِ كدود الْخلّ وَنَحْوه فَإِنَّهُ لَا يُنجسهُ بِلَا خلاف قَالَ الشَّيْخَانِ فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة وَيحل أكل مَعَه لَا مُنْفَردا ذكره النَّوَوِيّ فِي بَاب الْأَطْعِمَة ثمَّ مَحل الْخلاف أَيْضا فِيمَا إِذا وَقعت الْميتَة الَّتِي لَا نفس لَهَا سَائِلَة بِنَفسِهَا فِي الْمَائِع أما إِذا طرحت فَإِنَّهُ يضر جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير وَبِه أجَاب فِي الْحَاوِي الصَّغِير
وَاعْلَم أَن كل رطب فِي معنى الْإِنَاء حَتَّى لَو كَانَ ثوبا رطبا أَو فَاكِهَة فَهِيَ كالمائع فِي ذَلِك
وَاعْلَم أَيْضا أَن النَّجَاسَة الَّتِي لَا يُدْرِكهَا الطّرف أَي لَا نشاهد بالبصر لقلتهَا كنقطة الْبَوْل وَمَا يعلق بِرَجُل الذبابة من النَّجَاسَة حكمه فِي عدم التنجس حكم الْميتَة الَّتِي لَا نفس لَهَا سَائِلَة على الرَّاجِح عِنْد النَّوَوِيّ لِأَنَّهُ يتَعَذَّر الِاحْتِرَاز عَن ذَلِك فَأشبه دم البراغيث وَقَالَ الرَّافِعِيّ إِنَّهَا تنجس وَيسْتَثْنى مَعَ ذَلِك مسَائِل ذَكرنَاهَا فِي كتاب الطَّهَارَة وَالله أعلم قَالَ
(وَالْحَيَوَان كُله طَاهِر إِلَّا الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَمَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا)
الأَصْل فِي الْحَيَوَانَات الطَّهَارَة لِأَنَّهَا مخلوقة لمنافع الْعباد وَلَا يحصل الِانْتِفَاع الْكَامِل إِلَّا بِالطَّهَارَةِ وَاسْتمرّ مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على ذَلِك وَاسْتثنى الشَّافِعِي وَمن نحا نَحوه الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَفرع أَحدهمَا وَاحْتج لَهُ بِمَفْهُوم حَدِيث الْهِرَّة وَأَنَّهَا لَيست بنجسة وَهُوَ حَدِيث حسن صَحِيح وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب أَن يغسل سبع مَرَّات أولَاهُنَّ

(1/69)


بِالتُّرَابِ) وَجه الدّلَالَة أَن الطّهُور مَعْنَاهُ المطهر والتطهير لَا يكون إِلَّا عَن حدث أَو نجس وَلَا حدث على الْإِنَاء فَتعين النَّجس وَأما نَجَاسَة الْخِنْزِير فاحتج لنجاسته بِأَنَّهُ أَسْوَأ حَالا من الْكَلْب لِأَنَّهُ لَا يجوز الِانْتِفَاع بِهِ وَهَذَا غير مُسلم لِأَن الحشرات كَذَلِك وَهِي طَاهِرَة وَنقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على نَجَاسَته وَفِيه نظر لِأَنَّهُ حكى عَن مَالك وَأحمد طَهَارَته لهَذَا قَالَ النَّوَوِيّ إِن دلَالَة نَجَاسَته ضَعِيفَة وَاحْتج الْمَاوَرْدِيّ بقوله تَعَالَى
(أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس) وَالْمرَاد جملَة الْخِنْزِير لِأَن لَحْمه دخل فِي عُمُوم الْميتَة وَأما مَا ولد مِنْهُمَا لِأَنَّهُمَا أَصله أَو من أَحدهمَا بَين حَيَوَان طَاهِر فنجس تَغْلِيبًا للنَّجَاسَة وَكَلَام الشَّيْخ يَشْمَل طَهَارَة بَقِيَّة الْحَيَوَانَات حَتَّى الدُّود الْمُتَوَلد من النَّجَاسَة وَهُوَ كَذَلِك وَفِي وَجه أَنه نجس كَأَصْلِهِ قَالَه الرَّافِعِيّ وَهُوَ سَاقِط وَالله أعلم قَالَ
(وَالْميتَة كلهَا نَجِسَة إِلَّا السّمك وَالْجَرَاد وَابْن آدم)
الميتات كلهَا نَجِسَة لقَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} وَتَحْرِيم مَا لَا حُرْمَة لَهُ وَلَا ضَرُورَة فِي أكل يدل على نَجَاسَته لِأَن الشَّيْء إِنَّمَا يحرم إِمَّا لِحُرْمَتِهِ أَو لضرره أَو نَجَاسَته وَالْميتَة كل من مَاتَ حتف أَنفه واختل فِيهِ شَرط من شُرُوط التذكيه كذبيحة الْمَجُوسِيّ وَالْمحرم وَمَا ذبح بِعظم أَو نَحوه وَكَذَا ذبح مَا لَا يُؤْكَل وَضَابِط أَن تَقول الْميتَة مَا زَالَت حَيَاته بِغَيْر ذَكَاة شَرْعِيَّة
وَيسْتَثْنى من الميتات السّمك وَالْجَرَاد أما السّمك فَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْبَحْر
(هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته) وَأما الْجَرَاد فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أحلّت لنا ميتَتَانِ السّمك وَالْجَرَاد وَيسْتَثْنى الْآدَمِيّ أَيْضا فَإِنَّهُ لَا ينجس بِالْمَوْتِ على الرَّاجِح مُسلما كَانَ أَو كَافِرًا لقَوْله تَعَالَى {وَلَقَد كرمنا بني آدم} وَقَضِيَّة التكريم أَن لَا يحكم بِنَجَاسَتِهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا تنجسوا مَوْتَاكُم فَإِن الْمُؤمن لَا ينجس حَيا وَلَا مَيتا) وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ وَهُوَ جنب

(1/70)


(سُبْحَانَ الله إِن الْمُؤمن لَا ينجس) وَهُوَ يعم الْمُسلم وَالذِّمِّيّ وَقيل ينجس بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ حَيَوَان طَاهِر فِي الْحَيَاة غير مَأْكُول بعد الْمَوْت فينجس كَغَيْرِهِ وَاسْتثنى أَيْضا الْجَنِين الَّذِي يُوجد مَيتا عِنْد ذبح أمه فَإِنَّهُ طَاهِر حَلَال وَكَذَا الصَّيْد أَيْضا إِذا مَاتَ بالضغطة أَي باللطمة فَإِنَّهُ يحل فِي أصح الْقَوْلَيْنِ وَكَذَا الْبَعِير الناد إِذا مَاتَ بِالسَّهْمِ فِي غير المنحر فَإِنَّهُ يحل وَالْجَوَاب أَن هَذِه ذَكَاة شَرْعِيَّة قَالَ
(وَيغسل الْإِنَاء من ولوغ الْكَلْب وَالْخِنْزِير سبع مَرَّات إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ وَيغسل من سَائِر النَّجَاسَات مرّة وَاحِدَة تَأتي عَلَيْهِ وَالثَّلَاث أفضل)
أما الْكَلْب فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء أحدكُم فليرقه ثمَّ ليغسله سبع مَرَّات) وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لَهُ
(طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب أَن يغسلهُ سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) وَفِي رِوَايَة
(فاغسلوه سبع مَرَّات وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ) والولوغ فِي اللُّغَة الشّرْب بأطراف اللِّسَان وَجه الدّلَالَة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر بِالْغسْلِ وَظَاهره الْوُجُوب وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(طهُور) يدل على التَّطْهِير وَالطَّهَارَة تكن عَن حدث وَعَن نجس وَلَا حدث هُنَا فَتعين النَّجس فَإِن قيل المُرَاد هُنَا الطَّهَارَة اللُّغَوِيَّة فَالْجَوَاب أَن حمل اللَّفْظ على الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة مَعَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث لبَيَان الشرعيات وَفِي الحَدِيث دلَالَة على نَجَاسَة مَا ولغَ فِيهِ الْكَلْب وَإِن كَانَ طَعَاما مَائِعا حرم أكله لِأَن إراقته إِضَاعَة مَال فَلَو كَانَ طَاهِرا لم يُؤمر بإراقته مَعَ أَنا قد نهينَا عَن إِضَاعَة المَال
ثمَّ لَا فرق بَين أَن يَتَنَجَّس بولوغه أَو بَوْله أَو دَمه أَو عرقه أَو شعره أَو غير ذَلِك من جَمِيع أَجْزَائِهِ وفضلاته فَإِنَّهُ يغسل سبعا إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ قَالَ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَفِي وَجه شَاذ أَنه يَكْفِي فِي غسل مَا سوى الولوغ مرّة كَغسْل سَائِر النَّجَاسَات وَهَذَا الْوَجْه قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه مُتَّجه وَقَوي من حَيْثُ الدَّلِيل لِأَن الْأَمر بِالْغسْلِ سبعا إِنَّمَا كَانَ لينفرهم عَن مؤاكلة الْكلاب وَهل يغسل من الْخِنْزِير كَالْكَلْبِ أم لَا قَولَانِ الْجَدِيد وَبِه قطع بَعضهم نعم لِأَنَّهُ نجس الْعين فَكَانَ كَالْكَلْبِ بل أولى لِأَنَّهُ لَا يجوز اقتناؤه بِحَال وَقَالَ فِي الْقَدِيم إِنَّه يغسل مرّة كَسَائِر النَّجَاسَات لِأَن التَّغْلِيظ فِي الْكلاب إِنَّمَا ورد قطعا لَهُم عَمَّا يعتادونه من مخالطتها وزجراً كالحد فِي الْخمر وَهَذَا القَوْل رَجحه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَلَفظه الرَّاجِح من حَيْثُ الدَّلِيل أَنه يَكْفِي غسله وَاحِدَة بِلَا تُرَاب وَبِه قطع أَكثر الْعلمَاء الَّذين قَالُوا بِنَجَاسَة الْخِنْزِير وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار لِأَن الأَصْل عدم الْوُجُوب حَتَّى يرد الشَّرْع لَا سِيمَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة المبنية على التَّعَبُّد وَذكر مثل هَذَا فِي شرح الْوَسِيط أَيْضا

(1/71)


وَهل يقوم الصابون والأشنان مقَام التُّرَاب فِيهِ أَقْوَال أَحدهَا نعم كَمَا يقوم غير الْحجر مقَامه فِي الإستنجاء وكما يقوم غير الشب والقرظ فِي الدّباغ مقَام وَهَذَا مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي كِتَابه روؤس الْمسَائِل وَالْأَظْهَر فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب أَنه لَا يقوم لِأَنَّهَا طَهَارَة مُتَعَلقَة بِالتُّرَابِ فَلَا يقوم غَيره مقَامه كاليتيم وَالْقَوْل الثَّالِث إِن وجد التُّرَاب لم يقم وَإِلَّا قَامَ وَقيل يقوم فِيمَا يُفْسِدهُ التُّرَاب كالثياب دون الْأَوَانِي وَشرط التُّرَاب أَن يكون طَاهِرا فَلَا يَكْفِي النَّجس على الرَّاجِح كالتيمم نعم الأَرْض الترابية يَكْفِي فِيهَا المَاء على الرَّاجِح إِذْ لَا معنى لتعفير التُّرَاب وَلَا يَكْفِي فِي اسْتِعْمَال التُّرَاب ذره على الْمحل بل لَا بُد من مزجه بِالْمَاءِ ليصل التُّرَاب بِوَاسِطَة المزج إِلَى جَمِيع أَجزَاء الْمحل النَّجس
(فرع) هَل يَكْفِي الرمل الناعم قَالَ الإسنائي أَدخل الْأَصْحَاب الرمل الناعم فِي اسْم التُّرَاب وجوزوا التَّيَمُّم بِهِ قَالَ النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ لَو سحق الرمل وَتيَمّم بِهِ جَازَ وَمُقْتَضَاهُ اجزاؤه فِي التعفير لِأَن التُّرَاب إِمَّا للاستظهار أَو للْجمع بَين نَوْعي الطّهُور أَو للتعبد بِإِطْلَاق الِاسْم وكل ذَلِك مَوْجُود هُنَا وَالله أعلم
(فرع) لَو ولغَ فِي الْإِنَاء كلاب أَو كلب مَرَّات فَفِيهِ خلاف الرَّاجِح يَكْفِي سبع وَلَو وَقعت نَجَاسَة أُخْرَى فِي الْإِنَاء الَّذِي ولغَ فِيهِ الْكَلْب كفى سبع وَلَو كَانَت نَجَاسَة الْكَلْب عَيْنِيَّة فَلم تزل إِلَّا بِثَلَاث غسلات مثلا حسبت وَاحِدَة على الصَّحِيح وَلَو ولغَ فِي شَيْء نجسه فَأصَاب ذَلِك شَيْئا آخر نجسه وَوَجَب غسل ذَلِك الآخر سبعا
وَلَو ولغَ فِي طَعَام جامد ألقِي مَا أصَاب وَمَا حوله وَبَقِي الْبَاقِي على طَهَارَته
وَلَو أَدخل كلب رَأسه فِي إِنَاء فِيهِ مَاء وَلم يعلم هَل ولغَ فِيهِ أم لَا فَإِن أخرج فَمه يَابسا لم يحكم بِالنَّجَاسَةِ وَكَذَا إِن أخرجه رطبا على الرَّاجِح لِأَن الأَصْل عدم الولوغ وَبَقَاء المَاء على الطَّهَارَة ورطوبة فَمه يحْتَمل أَنَّهَا من لعابه فَلَا يطْرَح الأَصْل بِالشَّكِّ وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ يقْضِي الإكتفاء فِي التعفير بِغَيْر الأولى والأخيرة قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة وَيسْتَحب أَن يكون التُّرَاب فِي غير السَّابِعَة وَالْأولَى أولى قَالَ الإسنائي وَجَوَاز التعفير فِي غير الأولى والأخيرة مَرْدُود دَلِيلا ونقلاً أما الدَّلِيل فَلِأَن الرِّوَايَات أَربع أولَاهُنَّ وَهِي فِي مُسلم وَالثَّانيَِة وَالسَّابِعَة بِالتُّرَابِ رَوَاهُمَا أَبُو دَاوُد وَهِي معنى رِوَايَة مُسلم وعفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ وَسميت ثامنة بِاعْتِبَار اسْتِعْمَال التُّرَاب وَالرِّوَايَة الثَّالِثَة أولَاهُنَّ أَو أخراهن بِالتُّرَابِ رَوَاهَا الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح كَمَا قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب وَالرَّابِعَة إِحْدَاهُنَّ قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب وَلم تثبت وَقَالَ فِي فَتَاوِيهِ إِنَّهَا ثَابِتَة فعلى تَقْدِير ثُبُوتهَا هِيَ مُطلقَة وقيدت بِالْأولَى أَو الْأُخْرَى فَلَا يجوز الْعُدُول إِلَى غَيرهمَا لِاتِّفَاق القيدين على نَفيهَا وَالله أعلم
وَأما النَّقْل فقد نَص الشَّافِعِي على تعْيين الأولى أَو الْأَخِيرَة فِي الْبُوَيْطِيّ وَكَذَا فِي الْأُم وَأخذ بِهَذَا

(1/72)


النَّص جمَاعَة من الْأَصْحَاب مِنْهُم الزبيدِيّ والمرعشي وَابْن جَابر فَثَبت أَن هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي وَأَنه الصَّوَاب من جِهَة الدَّلِيل وَالنَّقْل فَتعين الْأَخْذ بِهِ وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ وَيغسل من سَائِر النَّجَاسَات مرّة قد مر دَلِيله وَكَيْفِيَّة الْغسْل وَقَوله وَالثَّلَاث أفضل لِأَن ذَلِك إِزَالَة نجس فَيُسْتَحَب التَّثْلِيث فِيهَا كالأحداث وَلِأَن ذَلِك مُسْتَحبّ عِنْد الشَّك فِي النَّجَاسَة فَعِنْدَ تحققها أولى هَذَا فِيمَا إِذا زَالَت النَّجَاسَة بالغسلة الْوَاحِدَة على مَا مر أما إِذا لم تزل إِلَّا بِالثَّلَاثَةِ وَجَبت الثَّلَاثَة وَيسْتَحب بعد ذَلِك ثَانِيَة وثالثة وَالله أعلم
(مَسْأَلَة) المَاء الَّذِي يغسل بِهِ النَّجَاسَة ويعبر عَنهُ بالغسالة هَل هُوَ طَاهِر أم نجس أم كَيفَ الْحَال ينظر إِن تغير بعض أوصافها بِالنَّجَاسَةِ فنجسه قطعا وَإِن لم تَتَغَيَّر فَإِن كَانَت قُلَّتَيْنِ قَالَ الرَّافِعِيّ فطاهرة بِلَا خلاف قَالَ النَّوَوِيّ طَاهِرَة ومطهرة على الْمَذْهَب وَإِن كَانَت دون قُلَّتَيْنِ فَفِيهِ خلاف والجديد الْأَظْهر أَن حكمهَا حكم الْمحل بعد الْغسْل إِن كَانَ نجسا فنجسه وَإِن كَانَ طَاهِرا فطاهرة غير مطهرة فَلَو وَقع من غسالة الْكَلْب شَيْء على شَيْء فَإِن كَانَ من الغسلة الأولى غسل مَا وَقع عَلَيْهِ سِتا ويعفر إِن لم يكن التُّرَاب فِي الأولى وَإِن وَقع من السَّابِعَة شَيْء لم يغسل وَلَو لم تَتَغَيَّر الغسالة وَلَكِن زَاد وَزنهَا فطريقان أَحدهمَا الْقطع بِالنَّجَاسَةِ وَالثَّانيَِة على الْخلاف وَهَذَا كُله فِي غسالة اسْتعْملت فِي وَاجِب الطَّهَارَة أما المَاء الْمُسْتَعْمل فِي مندوبها كالثانية وَالثَّالِثَة فطاهر قطعا ومطهر على الْمَذْهَب وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا تخللت الْخمْرَة بِنَفسِهَا طهرت وَإِن خللت بطرح شَيْء فِيهَا لم تطهر)
اعْلَم أَن تَطْهِير الْأَشْيَاء تَارَة يكون بِالْغسْلِ وَقد مر وَقد يكون بالإستحالة وَمعنى الاستحالة انقلاب الشَّيْء من صفة إِلَى أُخْرَى
فَإِذا تخللت الْخمْرَة أَي انقلبت بِنَفسِهَا سَوَاء كَانَت مُحْتَرمَة أم غير مُحْتَرمَة طهرت لِأَن النَّجَاسَة وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا كَانَا لأجل الْإِسْكَار وَقد زَالَ وَلِأَن الْعصير لَا يَتَخَلَّل إِلَّا بعد التخمر فَلَو لم نقل بِالطَّهَارَةِ لتعذر اتِّخَاذ الْخلّ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَأَجْمعُوا على أَنَّهَا إِذا انقلبت بِنَفسِهَا خلا طهرت وَحكي عَن سَحْنُون أَنَّهَا لَا تطهر فَإِن صَحَّ عَنهُ فَهُوَ محجوج بِإِجْمَاع من قبله وَإِن خللت بطرح شَيْء فِيهَا من بصل أَو خميرة أَو غير ذَلِك لم تطهر وَلَا يطهر هَذَا الْخلّ بعده أبدا لَا بِغسْل وَلَا بِغَيْرِهِ وَاحْتج لذَلِك بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(سُئِلَ عَن الْخمر يتَّخذ خلا فَقَالَ لَا) وَاحْتج لتَحْرِيم التَّخْلِيل أَيْضا بِأَن طَلْحَة رَضِي الله عَنهُ أسلم وَعِنْده خمر لأيتام
(فَقَالَ يَا رَسُول الله أخللها

(1/73)


قَالَ لَا أهرقها) وَلِأَنَّهُ استعجل الْخلّ بِفعل محرم فَحرم كَمَا لَو قتل مُوَرِثه لاستعجال الْإِرْث فَإِنَّهُ لَا يَرِثهُ مُعَاملَة لَهُ بنقيض مَقْصُوده وَإِن خللت لَا بطرح شَيْء فِيهَا بِأَن نقلت من شمس إِلَى ظلّ أَو عَكسه فَإِنَّهَا تطهر على الرَّاجِح وَكَذَا لَو فتح الْوِعَاء حَتَّى دخل الْهَوَاء وَالْفرق بَين هَذَا وَبَين مَا إِذا طرح فِيهَا شَيْء أَو وَقع بِنَفسِهِ أَن الْوَاقِع ينجس بالخمرة فَإِذا استحالت خلا تنجست بِالْعينِ الْحَاصِلَة فِيهَا وَلَا يطهر النَّجس إِلَّا بِالْمَاءِ وَالله أعلم
(فَائِدَة) الْخمر اسْم للمسكر من مَاء الْعِنَب عِنْد الْأَكْثَرين وَلَا يُطلق على غَيره إِلَّا مجَازًا كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي بَاب حد الْخمر وَمُقْتَضَاهُ أَن التنبيذ لَا يطهر بالتخلل وَبِه صرح القَاضِي أَبُو الطّيب وَنَقله عِنْد ابْن الرّفْعَة أقره على ذَلِك لَكِن الْبَغَوِيّ أَنه لَو ألْقى المَاء فِي عصير الْعِنَب حَالَة عصره لم يضرّهُ بِلَا خلاف البصل وَنَحْوه وَمَا ذكره يدل على طَهَارَة النَّبِيذ بطرِيق الأولى وَالله أعلم
وَقد ألحق بَعضهم بِالْخمرِ الْعلقَة إِذا استحالت فَصَارَت آدَمِيًّا والبيضة المذرة إِذا صَارَت فرخاً وَدم الظبية إِذا صَارَت مسكاً وَالْميتَة إِذا صَارَت دوداً وَفِي الْإِلْحَاق نظر وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْحيض وَالنّفاس
0 - فصل وَيخرج من الْفرج ثَلَاثَة دِمَاء دم الْحيض وَدم النّفاس وَدم الِاسْتِحَاضَة فالحيض هُوَ الدَّم الْخَارِج من فرج الْمَرْأَة على سَبِيل الصِّحَّة من غير الْولادَة وَالنّفاس هُوَ الدَّم الْخَارِج عقب الْولادَة والإستحاضة هُوَ الدَّم سَبَب الْخَارِج فِي غير أَيَّام الْحيض وَالنّفاس)
الدَّم الْخَارِج من الرَّحِم إِن كَانَ خُرُوجه بِلَا عِلّة بل جبله أَي تَقْتَضِيه الطباع السليمة فَهُوَ دم حيض وَهُوَ شَيْء كتبه الله تَعَالَى على بَنَات آدم كَمَا جَاءَت بِهِ السّنة الشَّرِيفَة
وَهُوَ فِي اللُّغَة السيلان يُقَال حاض الْوَادي إِذا سَالَ وَفِي الشَّرْع دم يخرج بعد بُلُوغ الْمَرْأَة من أقْصَى رَحمهَا بِشُرُوط مَعْرُوفَة وَله أَسمَاء الْحيض والعراك والضحك والإكبار والإعصار والطمث والدراس قَالَ الإِمَام وَسمي نفاساً لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
(أنفست) وَالَّذِي يحيض

(1/74)


من الْحَيَوَان أَرْبَعَة الْمَرْأَة والضبع والأرنب والخفاش
وَأما دم النّفاس فَهُوَ الْخَارِج عقيب ولادَة مَا تَنْقَضِي بِهِ الْعدة سَوَاء وَضعته حَيا أَو مَيتا كَامِلا كَانَ أَو نَاقِصا وَكَذَا لَو وضعت علقَة أَو مُضْغَة جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة وَسَوَاء كَانَ أَحْمَر أَو أصفر مُبتَدأَة كَانَت فِي الْولادَة أَولا وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَن الدَّم الْخَارِج مَعَ الْوَلَد أَو قبله لَا يكون نفاساً وَهُوَ كَذَلِك على الرَّاجِح
وَالنّفاس فِي اللُّغَة هُوَ الْولادَة
وَفِي اصْطِلَاح الْفُقَهَاء كَمَا ذكره الشَّيْخ وَيُسمى هَذَا الدَّم نفاساً لِأَنَّهُ يخرج عقب نفس وَأما الدَّم الْخَارِج وَلَيْسَ بحيض وَلَا بعد الْولادَة فَإِن كَانَ فِي زمن يُمكن فِيهِ الْحيض إِلَّا أَنه خرج فِي غير أَوْقَات الْحيض لمَرض أَو فَسَاد من عرق فَمه فِي أدنى الرَّحِم يمسى العاذل بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة وَيُقَال بِالْمُهْمَلَةِ فَهُوَ اسْتِحَاضَة وَمَا عدا هَذِه الدِّمَاء إِذا خرج من الْفرج فَهُوَ دم فَسَاد كالخارج قبل سنّ الْبلُوغ وَالله أعلم قَالَ
(وَأَقل الْحيض يَوْم وَلَيْلَة وغالبه سته أَو سبعه وَأَكْثَره جمسة عشر يَوْمًا) أقل الْحيض يَوْم وَلَيْلَة للاستقراء وَهُوَ التتبع رُوِيَ ذَلِك عَن على بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ وَنَصّ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ على ذَلِك فِي عَامَّة كتبه وَنَصّ فِي مَوضِع آخر أَن أَقَله يَوْم وَمُرَاد الشَّافِعِي بليلته وغالبه سِتّ أَو سبع لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحمنة بنت جحش
(تحيضين سِتَّة أَيَّام أَو سَبْعَة فِي علم الله تَعَالَى ثمَّ اغْتَسِلِي وَإِذا رَأَيْت أَنَّك قد طهرت واستنقأت فَصلي أَرْبعا وَعشْرين أَو ثَلَاثًا وَعشْرين لَيْلَة وأيامهن وصومي فَإِن ذَلِك يجْزِيك وَكَذَلِكَ فافعلي فِي كل شهر كَمَا يطهرن لميقات حيضهن وطهرهن) وَأَكْثَره خَمْسَة عشر يَوْمًا بلياليهن للاستقراء وَرُوِيَ عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَيْضا قَالَ الشَّافِعِي رَأَيْت نسَاء أثبت لي عَنْهُن أَنَّهُنَّ لم يزلن يحضن خمس عشر يَوْمًا وَعَن شريك وَعَطَاء نَحوه وَالْمُعْتَمد فِي ذَلِك الاستقراء وَلَا يَصح الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث
(تمكث إِحْدَاهُنَّ شطر دهرها لَا تصلي) لِأَنَّهُ حَدِيث بَاطِل لَا يعرف قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب قَالَ

(1/75)


وَأَقل النّفاس لَحْظَة زأكثره سِتُّونَ يَوْمًا وغالبه أَرْبَعُونَ يَوْمًا) أقل النّفاس لَحْظَة وَهِي عبارَة الْمِنْهَاج وَفِي التَّنْبِيه أَقَله مجة وَقَالَ فِي الرَّوْضَة تبعا للرافعي لَا حد لأقله بل يُوجد حكم النّفاس بِمَا وجد بِهِ وَحجَّة ذَلِك الاستقراء وَأَكْثَره سِتُّونَ يَوْمًا للاستقراء قَالَ الْأَوْزَاعِيّ عندنَا امْرَأَة ترى النّفاس شَهْرَيْن وَقَالَ ربيعَة شيخ مَالك أدْركْت النَّاس يَقُولُونَ أَكثر مَا تنفس الْمَرْأَة سِتُّونَ يَوْمًا وغالبه أَرْبَعُونَ لما رَوَت أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت
(كَانَت النُّفَسَاء على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تقعد بعد نفَاسهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا) وَاحْتج بَعضهم بِهَذَا الحَدِيث على أَكْثَره أَرْبَعُونَ وَالْمذهب الأول للوجود والْحَدِيث مَحْمُول على الْغَالِب جمعا بَينه وَبَين الاستقراء قَالَ
(وَأَقل الطُّهْر بَين الحيضتين خَمْسَة عشر يَوْمًا وَلَا حد لأكثره)
احْتج لَهُ بالاستقراء وَلِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْحيض خَمْسَة عشر يَوْمًا لزم فِي الطُّهْر مَا ذكرنَا وَلَا حد لأكْثر الطُّهْر لِأَن من النِّسَاء من تحيض فِي السّنة مرّة بل فِي عمرها مرّة وَقَوله بَين الحيضتين احْتَرز بِهِ عَن الطُّهْر الْفَاصِل بَين الْحيض وَالنّفاس فَإِنَّهُ يجوز أَن يكون أقل من خَمْسَة عشر يَوْمًا كَمَا إِذا رَأَتْ الْحَامِل دَمًا وَقُلْنَا بِالصَّحِيحِ أَن الْحَامِل تحيض فَولدت بعده مثلا بِعشْرَة أَيَّام فَإِن هَذَا طهر فاصل لَكِن بَين حيض ونفاس قَالَ ابْن الرّفْعَة احْتَرز بِهِ عَن طهر المبتدأة والآيسة قَالَ
(وَأَقل زمَان تحيض فِيهِ الْجَارِيَة تسع سِنِين وَلَا حد لأكثره) دَلِيل الْوُجُود قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ أعجب مَا سَمِعت من النِّسَاء تحيضن نسَاء تهَامَة تحضن لتسْع سِنِين وَفِيه حَدِيث ورد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا لِأَن كل مَا لَا ضَابِط لَهُ فِي الشَّرْع وَلَا فِي اللُّغَة يرجع فِيهِ إِلَى الْوُجُود وَقد وجده الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ثمَّ المُرَاد بِالتسْعِ استكمالها

(1/76)


على الصَّحِيح وَقيل نصف التَّاسِعَة وَقيل الطعْن فِيهَا فعلى الصَّحِيح المُرَاد التَّقْرِيب لَا التَّحْدِيد على الصَّحِيح فعلى هَذَا لَو رَأَتْ الدَّم قبل استكمال التَّاسِعَة فِي زمن لَا يسع طهرا وحيضا كَانَ وحيضا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَإِن كَانَ يسعهما لَا يكون حيضا وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ إِن تقدم بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ كَانَ حيضا وَإِلَّا فَلَا وَقَالَ الدَّارمِيّ لَا يضر نُقْصَان شهر وشهرين وَالله أعلم قَالَ
(وَأَقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر ولحظتان وَأَكْثَره أَربع سِنِين وغالبه تِسْعَة أشهر)
أما كَون أقل مُدَّة الْحمل سِتَّة أشهر فَلِأَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ أَتَى بِامْرَأَة قد ولدت لسِتَّة أشهر فَشَاور الْقَوْم فِي رَجمهَا فَقَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا وَأنزل الله تَعَالَى {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} وَأنزل {وفصاله فِي عَاميْنِ} فالفصل فِي عَاميْنِ وَالْحمل فِي سِتَّة أشهر فَرَجَعُوا إِلَى قَوْله فَصَارَ إِجْمَاعًا وَأما كَون أَكثر مُدَّة الْحمل أَربع سِنِين فدليله الاستقراء قَالَ مَالك هَذِه جارتنا امْرَأَة مُحَمَّد بن عجلَان امْرَأَة صدق وَزوجهَا رجل صدق وحملت ثَلَاثَة أبطن فِي اثْنَتَيْ عشرَة سنة كل بطن أَربع سِنِين وَرَوَاهُ مُجَاهِد أَيْضا وَجَاء رجل إِلَى مَالك بن دِينَار فَقَالَ يَا أَبَا يحيى ادْع لامْرَأَة حُبْلَى مُنْذُ أَربع سِنِين فِي كرب شَدِيد فَدَعَا لَهَا فجَاء رجل إِلَى الرجل فَقَالَ اِدَّرَكَ امْرَأَتك فَذهب الرجل ثمَّ جَاءَ وعَلى رقبته غُلَام ابْن أَربع سِنِين قد اسْتَوَت أَسْنَانه وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا يحرم بِالْحيضِ وَالنّفاس
(وَيحرم بِالْحيضِ وَالنّفاس ثَمَانِيَة أَشْيَاء الصَّلَاة وَالصَّوْم)
يحرم على الْحَائِض الصَّلَاة وَكَذَا سُجُود التِّلَاوَة وَالشُّكْر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة) الحَدِيث وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على التَّحْرِيم وَلَا تقضيها أَيْضا لما رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت
(كُنَّا نحيض عِنْد رَسُول الله ثمَّ نطهر فنؤمر بِقَضَاء الصَّوْم وَلَا تُؤمر بِقَضَاء

(1/77)


الصَّلَاة وكما يحرم على الْحَائِض الصَّلَاة يحرم عَلَيْهَا الصَّوْم لمَفْهُوم هَذَا الحَدِيث وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على تَحْرِيم الصَّوْم وَلَكِن تقضي الْحَائِض الصَّوْم لحَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَ
(وقراة الْقُرْآن وَمَسّ الْمُصحف وَحمله)
وَاحْتج للْقِرَاءَة بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يقْرَأ الْجنب وَلَا الْحَائِض شَيْئا من الْقُرْآن) قَالَ فِي شرح الْمُهَذّب وَاحْتج لمس الْمُصحف بقوله تَعَالَى {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر) ورد عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا وَإِذا حرم مس فَحَمله أولى إِلَّا أَن يكون فِي أَمْتعَة وَلم يقْصد حمله بِخُصُوصِهِ فَإِن فرض أَنه الْمَقْصُود حرم جزم بِهِ الرَّافِعِيّ قَالَ
(وَدخُول الْمَسْجِد)
دُخُولهَا الْمَسْجِد إِن حصل مَعَه جُلُوس أَو لبث وَلَو قَائِمَة أَو ترددت حرم عَلَيْهَا ذَلِك لِأَن الْجنب يحرم عَلَيْهِ ذَلِك وَلَا شكّ أَن حدثها أَشد من الْجَنَابَة وَإِن دخلت مارة فَالصَّحِيح الْجَوَاز كالجنب وَمحل الْخلاف إِذا أمنت تلويث الْمَسْجِد بِأَن تلجمت واستثفرت فَإِن خَافت التلويث حرم بِلَا خلاف قَالَ الرَّافِعِيّ وَغَيره وَلَيْسَ هَذَا من خاصية الْحيض بل من بِهِ سَلس الْبَوْل أَو بِهِ جِرَاحَة نضاحة ويخشى من مروره التلويث لَيْسَ لَهُ العبور وَلَو كَانَ نعل الدَّاخِل متنجساً ويتنجس مِنْهُ الْمَسْجِد لرطوبة النَّجَاسَة فليدلكه ثمَّ ليدْخل وَهَذَا الدَّلْك وَاجِب يحرم تَركه قَالَ
(وَالطّواف) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَقد حَاضَت فِي الْحَج
(افعلي مَا يفعل الْحَاج غير أَن لَا تطوفي بِالْبَيْتِ حَتَّى تطهري) وَقد اتّفق الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة على منعهَا مِنْهُ لهَذَا الحَدِيث ونتبرع بِزِيَادَة محلهَا الْحَج وَهِي أَن الْحَائِض إِذا خَالف وَطَاف طواف الرُّكْن لم يَصح طوافها وَيجْبر بِدَم عِنْد غير الْحَنَفِيَّة وَتبقى على إحرامها وَقَالَت الْحَنَفِيَّة يَصح طوافها ويلزمها بَدَنَة وَلَا يص سعيها بعده لكنه

(1/78)


يجْبر بِشَاة وَقَالَ الْمُغيرَة من أَصْحَاب مَالك لَا تشْتَرط الطَّهَارَة بل هِيَ سنة فَإِن طَاف مُحدثا فَعَلَيهِ شَاة وَإِن طَاف جنبا فَعَلَيهِ بَدَنَة قَالَ
(وَالْوَطْء والاستمتاع فِيمَا بَين السُّرَّة وَالركبَة)
حجَّة ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} وَقَالَ عبد الله ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّا يحل لي من امْرَأَتي وَهِي حَائِض فَقَالَ
(لَك مَا فَوق الْإِزَار) وَعَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
(أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَأْمر إحدانا إِذا كَانَت حَائِضًا أَن تأتزر ويباشرها فَوق الْإِزَار) وَورد عَن مَيْمُونَة نَحوه وَالْمعْنَى فِي تَحْرِيم مَا تَحت الازار أَنه حَرِيم الْفرج وَقد قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(من حام حول الْحمى يُوشك أَن يرتع فِيهِ) وَقيل إِنَّمَا يحرم الْوَطْء فِي الْفرج وَحده وَهَذَا قَول قديم للشَّافِعِيّ وحجت مَا رَوَاهُ أنس أَن الْيَهُود كَانُوا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة فيهم لم يواكلوها وَلم يجامعوها فِي الْبيُوت فَسَأَلت الصَّحَابَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله تَعَالَى {فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(اصنعوا كل شَيْء إِلَّا النِّكَاح) قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَهُوَ أقوى دَلِيلا فَهُوَ الْمُخْتَار وَكَذَا اخْتَارَهُ فِي التَّحْقِيق وَشرح التَّنْبِيه والوسيط فعلى الأول هَل يجوز الِاسْتِمْتَاع بالسرة وَالركبَة وَمَا حاذاهما قَالَ النَّوَوِيّ لم أر لِأَصْحَابِنَا فِيهِ نقلا وَالْمُخْتَار الْجَزْم بِالْجَوَازِ وَالله أعلم قل الإسنائي وَقد سكت الْأَصْحَاب عَن مُبَاشرَة الْمَرْأَة للرجل وَالْقِيَاس أَنَّهَا كَهُوَ حَتَّى لَا تمس ذكره
وَأعلم أَنه لَو خَالف فاستمتع بهَا بِغَيْر الْجِمَاع لم يلْزمه شَيْء بِلَا خلاف قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَإِن جَامع مُتَعَمدا عَالما بِالتَّحْرِيمِ فقد ارْتكب كَبِيرَة وَنَقله فِي الرَّوْضَة عَن النَّص وَلَا غرم عَلَيْهِ فِي الْجَدِيد بل يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَيَتُوب إِلَيْهِ لَكِن إِن وطىء فِي إقبال الدَّم وَهُوَ أَوله وشدته فَيُسْتَحَب أَن يتَصَدَّق بِدِينَار وَإِن جَامع فِي إدباره وَضَعفه يتَصَدَّق بِنصْف دِينَار وَنقل الداوودي عَن نَص الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي الْجَدِيد أَنه يلْزمه ذَلِك وَهِي فَائِدَة مهمة وعَلى الْقَوْلَيْنِ لَا يجب على الْمَرْأَة شَيْء وَيجوز صرف ذَلِك إِلَى وَاحِد وَالله تَعَالَى أعلم

(1/79)


(فرع) إِذا ادَّعَت الْمَرْأَة أَنَّهَا حَاضَت فَإِن لم يتهمها بِالْكَذِبِ حرم الْوَطْء وَإِن كذبهَا لم يحرم فَلَو اتفقَا على الْحيض وَاخْتلفَا فِي انْقِطَاعه فَالْقَوْل قَوْلهَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَالله تَعَالَى أعلم وَاعْلَم أَن تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع مُسْتَمر حَتَّى يقطع الدَّم وتغتسل لقَوْله تَعَالَى {حَتَّى يطهرن فَإِذا تطهرن فاتوهن من حَيْثُ أَمركُم الله} وَلَا فرق فِي الْغسْل بَين الْمسلمَة والذمية فَإِذا اغْتَسَلت ثمَّ أسلمت أعادت الْغسْل على الصَّحِيح وَالله أعلم قَالَ
بَاب مَا يحرم على الْجنب والمحدث
(وَيحرم على الْجنب خَمْسَة أشباء الصَّلَاة وقرءة الْقُرْآن وَمَسّ الْمُصحف وَالطّواف واللبث فِي الْمَسْجِد) سمى الْجنب بذلك لِأَنَّهُ يبعد بالجنابة عَن هَذِه الْأَشْيَاء أما تَحْرِيم الصَّلَاة فبالاجماع وَفِي مَعْنَاهَا سُجُود التِّلَاوَة وَالشُّكْر وَأما تَحْرِيم الْقِرَاءَة وَلَو آيَة أَو حرفا سَوَاء أسر أَو جهر إِذا نطق بِلِسَانِهِ فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا تقْرَأ الْحَائِض وَلَا الْجنب شَيْئا من الْقُرْآن) وَاحْتج للتَّحْرِيم بقول عَليّ رَضِي الله عَنهُ
(لم يكن يحجب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْقُرْآن شَيْء سوى الْجَنَابَة) وَرُوِيَ يحجز وَقد كَانَ منع الْجنب القراة مَشْهُورا بَين الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
وَلَو لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا وَصلى فَهَل تحرم الْفَاتِحَة أم لَا وَجْهَان أصَحهمَا عِنْد الرَّافِعِيّ بَقَاء التَّحْرِيم ويعدل إِلَى الذّكر وَصحح النَّوَوِيّ وجوب الْقِرَاءَة
وَأما تَحْرِيم مس الْمُصحف فَإِذا حرم على الْمُحدث فالجنب أولى وَإِذا حرم الْمس فالحمل أولى بِالتَّحْرِيمِ وَأما تَحْرِيم الطّواف فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة) وروى أَيْضا
(الطّواف بِمَنْزِلَة الصَّلَاة إِلَّا أَن تَعَالَى أحل فِيهِ النُّطْق فَمن نطق فَلَا ينْطق إِلَّا بِخَير) وَأما تَحْرِيم اللّّبْث فِي الْمَسْجِد فَلقَوْله تَعَالَى {وَلَا جنبا إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا} أَي لَا تقربُوا مَوَاضِع الصَّلَاة

(1/80)


وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِنِّي لَا أحل الْمَسْجِد لحائض وَلَا جنب)
وَاعْلَم أَن التَّرَدُّد فِي الْمَسْجِد بِمَنْزِلَة اللّّبْث وَلَا فرق فِي اللّّبْث بَين الْقعُود وَالْقِيَام وَاحْترز الشَّيْخ بِالْمَسْجِدِ عَن غَيره كالمدارس والربط وَنَحْوهمَا ثمَّ هَذَا إِذا لم يكن عذر فَإِن كَانَ كَمَا لَو احْتَلَمَ فِي الْمَسْجِد وَلم يتَمَكَّن من الْخُرُوج لإغلاق الْبَاب أَو لخوف على نَفسه أَو مَاله قَالَ الرَّافِعِيّ وليتيمم بِغَيْر تُرَاب الْمَسْجِد قَالَ النَّوَوِيّ يجب التَّيَمُّم وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير إِنَّه مُسْتَحبّ وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب إِن التَّيَمُّم بِتُرَاب الْمَسْجِد حرَام وَيجوز التَّيَمُّم بِمَا حَملته الرّيح إِلَيْهِ وَقَوله واللبث يَقْتَضِي أَنه لَا يحرم الْمُرُور فِيهِ وَهُوَ كَذَلِك لِلْآيَةِ وكما يحرم لَا يكره إِن كَانَ لَهُ غَرَض مثل كَون الْمَسْجِد أقرب فِي الطَّرِيق وَإِن لم يكن لَهُ غَرَض كره قَالَه فِي الرَّوْضَة تبعا للرافعي وَقَالَ فِي شرح الْمُهَذّب إِنَّه لَا يكره وَالْأولَى أَن لَا يفعل وَقيل يحرم العبور إِن وجد طَرِيقا غَيره وَحَيْثُ عبر لَا يُكَلف الاسراع وَيَمْشي على الْعَادة قَالَه الإِمَام
(فرع) إِذا تلفظ الْجنب بِشَيْء من أذكار الْقُرْآن كَقَوْلِه فِي ابْتِدَاء أكله باسم الله وَفِي آخِره الْحَمد لله وَعند الكرب
(سُبْحَانَ الَّذِي سخر لنا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرنين) أَي مطيقين وَنَحْوه إِن قصد الذّكر فَقَط يحرم وَإِن قصد الْقُرْآن حرم وَإِن قصدهما حرم وَإِن لم يقْصد شَيْئا فَجزم الرَّافِعِيّ بِأَنَّهُ لَا يحرم قَالَ الإِمَام وَهُوَ مَقْطُوع بِهِ لِأَن الْمحرم الْقُرْآن وَعند عدم الْقَصْد لَا يُسمى قُرْآنًا وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب أَشَارَ الْعِرَاقِيُّونَ إِلَى التَّحْرِيم قَالَ ابْن الرّفْعَة وَهُوَ الظَّاهِر قَالَ الطَّبَرِيّ فِي شرح التَّنْبِيه الْوَجْه الْقطع بِالتَّحْرِيمِ لوضع اللَّفْظ للتلاوة وَالله أعلم قَالَ
(وَيحرم على الْمُحدث ثَلَاثَة أَشْيَاء الصَّلَاة وَالطّواف وَمَسّ الْمُصحف وَحمله)
تحرم الصَّلَاة ذَات الرُّكُوع وَالسُّجُود على الْمُحدث بِالْإِجْمَاع وَسُجُود الشُّكْر والتلاوة كَالصَّلَاةِ وَكَذَا صَلَاة الْجِنَازَة وَفِي الحَدِيث
(لَا يقبل الله صَلَاة بِغَيْر طهُور وَلَا صَدَقَة من غلُول) والغلول بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة الْحَرَام وَأما تَحْرِيم الطّواف فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة) كَمَا مر وَأما مس الْمُصحف فَلقَوْله تَعَالَى {لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} وَالْقُرْآن لَا يَصح مَسّه فَعلم بِالضَّرُورَةِ أَن المُرَاد الْكتاب وَهُوَ أقرب مَذْكُور وَعوده إِلَى اللَّوْح الْمَحْفُوظ مَمْنُوع لِأَنَّهُ غير منزل وَلَا يُمكن أَن يُرَاد بالمطهرين الْمَلَائِكَة لِأَنَّهُ نفى وَإِثْبَات وَالسَّمَاء لَيْسَ فِيهَا مطهر فَعلم أَنه أَرَادَ

(1/81)


الْآدَمِيّين وَكتب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كتابا إِلَى أهل الْيمن وَفِيه
(لَا يمس الْقُرْآن إِلَّا طَاهِر) وَيحرم مس الصندوق والخريطة الَّتِي فيهمَا الْمُصحف لِأَنَّهُمَا منسوبان إِلَيْهِ والعلاقة كالخريطة إِن قصد بذلك حمل الْمُصحف وَإِن لم يَقْصِدهُ بل قصد حمل الصندوق أَو الخريطة أَو قصد مسهما فَلَا صَححهُ النَّوَوِيّ وَلَو لف كمه على يَده وقلب الأوراق بهَا حرم قطع بِهِ الْجُمْهُور لِأَن الْكمّ مُتَّصِل بِهِ وَله حكم أَجْزَائِهِ كَمَا فِي السُّجُود على ذَلِك وَأما تَحْرِيم الْحمل فَلِأَنَّهُ أفحش من الْمس نعم لَو خَافَ عَلَيْهِ من غرق أَو حرق أَو نَجَاسَة أَو كَافِر وَلم يتَمَكَّن من الطَّهَارَة وَالتَّيَمُّم أَخذه مَعَ الْحَدث للضَّرُورَة فالأخذ وَالْحَالة هَذِه وَاجِب قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَالتَّحْقِيق وَالله أعلم

(1/82)