كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار

كتاب الْحَج
بَاب شَرَائِط وجوب الْحَج
(وشرائط وجوب الْحَج سَبْعَة الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة) الْحَج فِي اللُّغَة الْقَصْد وَقَالَ الْخَلِيل كَثْرَة الْقَصْد
وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن قصد الْبَيْت للأفعال قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَهُوَ وَاجِب بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح
(بني الْإِسْلَام على خمس) وَمِنْهَا الْحَج ثمَّ لوُجُوب الْحَج شُرُوط مِنْهَا الْإِسْلَام لِأَنَّهُ عبَادَة فَيشْتَرط لوُجُوبهَا الْإِسْلَام كَالصَّلَاةِ وَفِي حَدِيث معَاذ
(أدعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِن أطاعوك فأعلمهم أَن عَلَيْهِم كَذَا) وَذكر الْحَج وَمِنْهَا الْبلُوغ فالصبي لَا يجب عَلَيْهِ لخَبر
(رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة وَمِنْهُم الصَّبِي وَقِيَاسًا على سَائِر الْعِبَادَات وَمِنْهَا الْعقل فَلَا تجب على الْمَجْنُون لحَدِيث
(رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة) وَمِنْهُم الْمَجْنُون وكسائر الْعِبَادَات وَمِنْهَا الْحُرِّيَّة فَلَا يجب على العَبْد لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(أَيّمَا

(1/211)


عبد حج ثمَّ أعتق فَعَلَيهِ حجَّة أُخْرَى) وَلِأَن الْجُمُعَة لَا تجب عَلَيْهِ مَعَ قرب مسافتها مُرَاعَاة لحق السَّيِّد فالحج أولى قَالَ
(وَوُجُود الرَّاحِلَة والزاد وتخلية الطَّرِيق وَإِمْكَان الْمسير) هَذِه الْأُمُور تَفْسِير للاستطاعة فِي قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فَلَا بُد لوُجُوب الْحَج من هَذِه الْأُمُور فَمِنْهَا الرَّاحِلَة فَلَا يلْزمه الْحَج إِلَّا إِذا قدر عَلَيْهَا بِملك أَو اسْتِئْجَار سَوَاء قدر على الْمَشْي أم لَا وَهل يحجّ ماشياأفضل أم رَاكِبًا فِيهِ خلاف الْأَصَح عِنْد الرَّافِعِيّ الْمَشْي أفضل لِأَنَّهُ أشق وَالْمذهب عِنْد النَّوَوِيّ أَن الرّكُوب أفضل لفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلِأَنَّهُ أعون لَكِن يسْتَحبّ أَن يركب على القتب والرحل دون الْمحمل وَنَحْوه اقْتِدَاء بِالنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ثمَّ إِن كَانَ يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة من غير محمل وَلَا تلْحقهُ مشقة شَدِيدَة لم يعْتَبر فِي حَقه إِلَّا وجدان الرَّاحِلَة وَإِلَّا فَيعْتَبر مَعَ وجدان الرَّاحِلَة وجدان الْمحمل وَهَذَا فِيمَن بَينه وَبَين مَكَّة مَسَافَة الْقصر فَأكْثر أما مَا بَينه وَبَينهَا دون ذَلِك فَإِن كَانَ قَوِيا على الْمَشْي لزمَه الْحَج وَلَا تعْتَبر الرَّاحِلَة وَإِن كَانَ ضَعِيفا لَا يقوى على الْمَشْي أَو يَنَالهُ بِهِ ضَرَر ظَاهر اشْترطت الرَّاحِلَة والمحمل أَيْضا إِن لم يُمكنهُ الرّكُوب بِدُونِهِ وَمِنْهَا الزَّاد وَيشْتَرط لوُجُوب الْحَج أَن يجد الزَّاد وأوعيته وَيكون ذَلِك يَكْفِيهِ لذهابه وَعوده
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط كَون الزَّاد وَالرَّاحِلَة فاضلين عَن نَفَقَته وَنَفَقَة من تلْزمهُ نَفَقَته وكسوتهم مُدَّة ذَهَابه ورجوعه وَكَذَا يشْتَرط كَونهمَا فاضلين عَن مسكن وخادم يليقان بِهِ وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ لزمانته أَو منصبه على الصَّحِيح كَمَا يشْتَرط ذَلِك فِي الْكَفَّارَة عَن دينه وَلَو كَانَ لَهُ رَأس مَال يتجر فِيهِ أَو كَانَت لَهُ مستغلات يحصل مِنْهَا نَفَقَته فَهَل يُكَلف بيعهَا فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا يُكَلف كَمَا يُكَلف فِي الدّين بِخِلَاف الْمسكن وَالْخَادِم لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِمَا فِي الْحَال وَمَا نَحن فِيهِ يَتَّخِذهُ ذخيرة وَلَو قدر على مُؤَن الْحَج لكنه مُحْتَاج إِلَى النِّكَاح لخوف الْعَنَت وَهُوَ الزِّنَا فَصَرفهُ إِلَى النِّكَاح أهم من صرفه إِلَى الْحَج لِأَن حَاجَة النِّكَاح ناجزة وَالْحج على التَّرَاخِي وَإِن لم يخف الْعَنَت فتقديم الْحَج أفضل وَإِلَّا فَالنِّكَاح أفضل وَمِنْهَا تخلية الطَّرِيق وَمَعْنَاهُ أَن يكون آمنا فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء فِي النَّفس والبضع وَالْمَال وَسَوَاء قل المَال أَو كثر لحُصُول الضَّرَر عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَسَوَاء كَانَ الْخَوْف عَلَيْهِ من مُسلمين أَو كفار وَلَو كَانَ فِي طَرِيقه بَحر لَا معدل عَنهُ فَإِن غلب الْهَلَاك لخصوصية ذَلِك الْبَحْر أَو لهيجان

(1/212)


الأمواج فَلَا يجب الْحَج وَإِن غلبت السَّلامَة وَجب وَإِن اسْتَويَا فخلاف الْأَصَح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب عدم الْوُجُوب بل يحرم
وَاعْلَم أَنه كَمَا يشْتَرط لوُجُوب الْحَج الزَّاد يشْتَرط وجود المَاء فِي الْمَوَاضِع الَّتِي اطردت الْعَادة بِوُجُودِهِ فِيهَا فَلَو كَانَت سنة جَدب وخلا بعض تِلْكَ الْمنَازل من المَاء لم يجب الْحَج وَمِنْهَا إِمْكَان الْمسير وَهُوَ أَن يبْقى من الزَّمَان عِنْد وجود الزَّاد وَالرَّاحِلَة مَا يُمكن السّير فِيهِ إِلَى الْحَج وَالْمرَاد السّير الْمَعْهُود وَإِن قدر إِلَّا أَنه يحْتَاج إِلَى قطع مرحلَتَيْنِ فِي بعض الْأَيَّام لم يلْزمه الْحَج لوُجُود الضَّرَر وَالله أعلم قَالَ
بَاب أَرْكَان الْحَج
(وأركان الْحَج خَمْسَة الاحرام وَالنِّيَّة وَالْوُقُوف بِعَرَفَة)
لما ذكر الشَّيْخ شُرُوط وجوب الْحَج شرع فِي ذكر أَرْكَانه فَمِنْهَا الْإِحْرَام وَهُوَ عبارَة عَن نِيَّة الدُّخُول فِي حج أَو عمْرَة قَالَه النَّوَوِيّ وَزَاد ابْن الرّفْعَة أَو فِيمَا يصلح لَهما أَو لأَحَدهمَا وَهُوَ الْإِحْرَام الْمُطلق وَسمي إحراماً لِأَنَّهُ يمْنَع من الْمُحرمَات وَسَيَأْتِي ذكرهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَحجَّة وُجُوبه قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِنَّمَا الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ) وَهُوَ مبدأ الدُّخُول فِي النّسك والنسك الْعِبَادَة وكل عبَادَة لَهَا إِحْرَام وتحلل فالإحرام ركن فِيهَا كَالصَّلَاةِ وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ
وَاعْلَم أَن الْإِحْرَام لَهُ ثَلَاثَة وُجُوه الْإِفْرَاد والتمتع وَالْقرَان وَلَا خلاف فِي جَوَاز كل وَاحِد مِنْهُمَا لَكِن مَا الْأَفْضَل فِيهِ خلاف الْمَذْهَب الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي عَامَّة كتبه أَن الْإِفْرَاد أفضل ويليه التَّمَتُّع ثمَّ الْقرَان وَصُورَة الْإِفْرَاد أَن يحرم بِالْحَجِّ وَحده ويفرغ مِنْهُ ثمَّ يحرم بِالْعُمْرَةِ ثمَّ شَرط كَون الْإِفْرَاد أفضل مِنْهُمَا أَن يعْتَمر فِي تِلْكَ السّنة فَلَو أخر الْعمرَة عَن سنته فَكل من التَّمَتُّع وَالْقرَان أفضل من الْإِفْرَاد لِأَن تَأْخِير الْعمرَة عَن سنة الْحَج مَكْرُوه وَصُورَة التَّمَتُّع أَن يحرم بِالْعُمْرَةِ من مِيقَات بَلَده ويفرغ مِنْهَا ثمَّ يحرم بِالْحَجِّ من مَكَّة وَهَذِه الْكَيْفِيَّة مجمع عَلَيْهَا قَالَه ابْن الْمُنْذر وَسمي مُتَمَتِّعا لِأَنَّهُ يتمتع بَين الْحَج وَالْعمْرَة بِمَا كَانَ محرما عَلَيْهِ وَصُورَة الْقرَان الْأَصْلِيَّة أَن يحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة مَعًا فتندرج أَعمال الْعمرَة فِي أَعمال الْحَج ويتحد الْمِيقَات وَالْفِعْل وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على صِحَة الْإِحْرَام بهما وَلَو أحرم بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج ثمَّ أَدخل الْحَج عَلَيْهَا فِي أشهره فَإِن لم يكن شرع فِي طواف الْعمرَة صَحَّ وَصَارَ قَارنا وَإِلَّا لم يَصح إِدْخَاله

(1/213)


عَلَيْهَا لِأَنَّهُ بِالشُّرُوعِ فِي الطّواف شرع فِي أَسبَاب التَّحَلُّل وَقيل غير ذَلِك وَلَو عكس فَأحْرم بِالْحَجِّ ثمَّ أَرَادَ ادخال الْعمرَة فَقَوْلَانِ الْجَدِيد أَن لَا يَصح وَقَول الشَّيْخ وَالنِّيَّة يَقْتَضِي أَن النِّيَّة غير الْإِحْرَام وَهُوَ مَمْنُوع لما قد عرفت وَمِنْهَا أَي من أَرْكَان الْحَج الْوُقُوف بِعَرَفَة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر منادياً يُنَادي
(الْحَج عَرَفَة) وَمعنى الْحَج عَرَفَة أَي مُعظم أَرْكَانه كَمَا تَقول مُعظم الرَّكْعَة الرُّكُوع وَيحصل الْوُقُوف بِحُضُور بِجُزْء من عَرَفَات وَلَو كَانَ ماراً فِي طلب آبق أَو ضَالَّة أَو غير ذَلِك وَلَو حضر عَرَفَة وَهُوَ نَائِم حَتَّى لَو دخل عَرَفَات قبل الْوُقُوف ونام حَتَّى خرج الْوَقْت أَجزَأَهُ على الصَّحِيح لبَقَاء التَّكْلِيف عَلَيْهِ بِخِلَاف الْمَجْنُون وَلَو حضر وَهُوَ مغمى عَلَيْهِ قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة أَجزَأَهُ وَهُوَ سَهْو فَإِن الرَّافِعِيّ صحّح عدم الاجزاء فِي الشرحين كالمحرر ثمَّ إِن النَّوَوِيّ قَالَ فِي زِيَادَته قلت الْأَصَح عِنْد الْجُمْهُور أَنه لَا يَصح وقُوف الْمغمى عَلَيْهِ
وَالْحَاصِل أَن شَرط إِجْزَاء الْوُقُوف أَن يكون الْوَاقِف أَهلا لِلْعِبَادَةِ ثمَّ فِي أَي مَوضِع وقف مِنْهَا جَازَ لِأَن الْكل عَرَفَة وَوقت الْوُقُوف من زَوَال الشَّمْس يَوْم عَرَفَة إِلَى طُلُوع الْفجْر وَلَا يشْتَرط الْجمع بَين اللَّيْل وَالنَّهَار حَتَّى لَو أَفَاضَ قبل الْغُرُوب صَحَّ وُقُوفه وَلَا يلْزمه الدَّم على الصَّحِيح وَقيل يجب فعلى هَذَا لَو عَاد لَيْلًا سقط وَلَو اقْتصر على الْوُقُوف لَيْلًا صَحَّ حجه على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَالله أعلم قَالَ
(وَالطّواف بِالْبَيْتِ وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة)
من أَرْكَان الْحَج الطّواف بِالْبَيْتِ أَي طواف الْإِفَاضَة للْإِجْمَاع على أَنه المُرَاد فِي قَوْله تَعَالَى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وَلِحَدِيث حيض صَفِيَّة قَالَ القَاضِي وَلَيْسَ بَين الْمُسلمين خلاف فِي وُجُوبه ثمَّ للطَّواف وَاجِبَات لَا بُد مِنْهَا مِنْهَا الطَّهَارَة عَن الْحَدث وَالنَّجس فِي الْبدن وَالثيَاب

(1/214)


وَالْمَكَان فَلَو أحدث فِي أثْنَاء طَوَافه لزمَه الْوضُوء وَيَبْنِي على الصَّحِيح وَقيل يجب الِاسْتِئْنَاف وَمِنْهَا التَّرْتِيب بِأَن يبتدىء من الْحجر الْأسود وَأَن يَجْعَل الْبَيْت عَن يسَاره وَيَنْبَغِي أَن يمر فِي الِابْتِدَاء بِجَمِيعِ بدنه على جَمِيع الْحجر الْأسود بِحَيْثُ يصير جَمِيع الْحجر الْأسود عَن يَمِينه ثمَّ يَنْوِي حِينَئِذٍ الطّواف وَنِيَّة الطّواف غير وَاجِبَة على الصَّحِيح لشمُول الْحَج لَهَا فَلَو حَاذَى الْحجر بِبَعْض بدنه وَكَانَ بعضه مجاوزاً إِلَى جَانب الْبَاب فالجديد أَنه لَا يعْتد بِتِلْكَ الطوفة وَمِنْهَا أَن يكون خَارِجا بِجَمِيعِ بدنه عَن جَمِيع الْبَيْت حَتَّى لَو مَشى على شاذروان الْكَعْبَة لم يَصح طَوَافه لِأَنَّهُ جُزْء من الْبَيْت وَكَذَا لَو طَاف وَكَانَت يَده تحاذي الشاذروان لم يَصح وَهِي دقيقة قل من ينتبه لَهَا فاعرفها وَعرفهَا وَأما الْحجر بِكَسْر الْحَاء فَهَل يشْتَرط أَن يطوف بِهِ أَو الشَّرْط أَن يتْرك مِنْهُ قدر سَبْعَة أَذْرع فِيهِ خلاف قَالَ الرَّافِعِيّ يَصح وَقَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح أَنه لَا يَصح الطّواف فِي شَيْء من الْحجر وَهُوَ ظَاهر النُّصُوص وَبِه قطع مُعظم الْأَصْحَاب تَصْرِيحًا وتلويحاً وَدَلِيله أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاف خَارج الْحجر وَالله أعلم
وَمِنْهَا أَن يَقع الطّواف فِي الْمَسْجِد وَلَا يضر الْحَائِل بَين الطَّائِف وَالْبَيْت كالسقاية حَتَّى لَو طَاف فِي الأورقة جَازَ وَمِنْهَا الْعدَد وَهُوَ أَن يطوف سبعا وَلَا تجب الْمُوَالَاة بَين الطوفات على الصَّحِيح وَقيل تجب فَيبْطل التَّفْرِيق الْكثير بِلَا عذر وعَلى الصَّحِيح لَا يضر وَيَبْنِي على طَوَافه وَالله أعلم
وَمن أَرْكَان الْحَج السَّعْي لفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ يسْعَى
(اسعو فَإِن الله تَعَالَى كتب عَلَيْكُم السَّعْي) وَلِأَنَّهُ نسك يفعل فِي الْحَج وَالْعمْرَة فَكَانَ ركنا كالطواف وَيشْتَرط وُقُوعه بعد طواف صَحِيح سَوَاء كَانَ طواف الافاضة أَو طواف الْقدوم فَلَو سعى بعد طواف الْقدوم أَجزَأَهُ وَلَا يسْتَحبّ لَهُ أَن يسْعَى بعد طواف الافاضة بل قَالَ الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد يكره وَيشْتَرط التَّرْتِيب بِأَن يبْدَأ بالصفا فَإِذا وصل إِلَى الْمَرْوَة فَهِيَ مرّة وَيشْتَرط فِي الثَّانِيَة أَن يبْدَأ بالمروة فَإِذا وصل إِلَى الصَّفَا فَهِيَ مرّة ثَانِيَة وَيجب أَن يسْعَى بَين الصَّفَا والمروة سبعا لفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا يشْتَرط فِيهِ الطَّهَارَة وَلَا ستر الْعَوْرَة وَلَا سَائِر شُرُوط الصَّلَاة وَيجوز رَاكِبًا وَالْأَفْضَل الْمَشْي لَو شكّ هَل سعى سبعا أَو سِتا أَخذ بِالْأَقَلِّ كالطواف ثمَّ السَّعْي لَا يجْبر بِدَم كَبَقِيَّة الْأَركان وَلَا يتَحَلَّل بِدُونِهِ كَمَا فِي بَقِيَّة الْأَركان وَالله أعلم
وَقد أهمل الشَّيْخ رَحمَه الله تَعَالَى الْحلق أَو التَّقْصِير وَهُوَ ركن على الْمَذْهَب وَادّعى الإِمَام

(1/215)


الِاتِّفَاق على أَنه ركن وَلَيْسَ كَمَا قَالَ وَالله أعلم قَالَ
بَاب وَاجِبَات الْحَج
(وواجبات الْحَج غير الْأَركان ثَلَاثَة الْإِحْرَام من الْمِيقَات وَرمي الْجمار ثَلَاثًا وَالْحلق)
اعْلَم أَن الْمِيقَات ميقاتان زماني ومكاني فالميقات الزماني بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْحَج شَوَّال وَذُو الْقعدَة وَعشر لَيَال من ذِي الْحجَّة آخرهَا لَيْلَة النَّحْر على الصَّحِيح وَأما الْعمرَة فَجَمِيع السّنة وَقت لَهَا وَلَا تكره فِي وَقت مِنْهَا وَلَو أحرم بِالْحَجِّ فِي غير أشهره لم ينْعَقد حجا وانعقد عمره على الْمَذْهَب
وَأما الْمِيقَات المكاني وَهُوَ الَّذِي ذكره الشَّيْخ فالشخص إِمَّا مكي أَو غَيره فالمكي أَي الْمُقِيم بهَا سَوَاء كَانَ من أَهلهَا أَو من غَيرهم فميقاته نفس مَكَّة على الرَّاجِح وَقيل مَكَّة وَسَائِر الْحرم فعلى الْأَظْهر لَو أحرم من خَارج مَكَّة وَلَو فِي الْحرم فقد أَسَاءَ وَعَلِيهِ دم لتعديه إِن لم يعد إِلَيْهِ وإحرام الْمَكِّيّ من بَاب دَاره أفضل وَأما الْمُقِيم بِمَكَّة فَإِن كَانَ منزله بَين مَكَّة والمواقيت الشَّرْعِيَّة فميقاته الْقرْيَة الَّتِي يسكنهَا أَو الْحلَّة الَّتِي ينزلها البدوي وَإِن كَانَ منزله وَرَاء الْمَوَاقِيت فميقاته الْمِيقَات الَّذِي يمر عَلَيْهِ والمواقيت خَمْسَة
أَحدهَا ذُو الحليفة وَهُوَ مِيقَات من توجه من الْمَدِينَة الشَّرِيفَة وَهُوَ على عشر مراحل من مَكَّة
وَالثَّانِي الْجحْفَة وَهُوَ مِيقَات المتوجهين من الشَّام ومصر وَالْمغْرب
وَالثَّالِث يَلَمْلَم وَهُوَ مِيقَات أهل الْيمن
وَالرَّابِع قرن بِإِسْكَان الرَّاء المهمله وَهُوَ مِيقَات المتوجهين من نجد نجد الْحجاز وَهَذِه الْأَرْبَعَة نَص عَلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي أصل الرَّوْضَة بِلَا خلاف والميقات
الْخَامِس ذَات عرق وَهُوَ مِيقَات المتوجهين من الْعرَاق وخراسان وَهَذَا أَيْضا مَنْصُوص عَلَيْهِ كالأربعة عِنْد الْأَكْثَرين وَقيل بِاجْتِهَاد عمر رَضِي الله عَنهُ إِذا عرفت هَذَا فَمن جَاوز

(1/216)


مِيقَاته وَهُوَ مُرِيد للنسك وَأحرم دونه حرم عَلَيْهِ وَلَزِمَه دم وَهُوَ شَاة جَذَعَة ضَأْن أَو ثنية معز لِأَنَّهُ كَانَ يلْزمه الْإِحْرَام من الْمِيقَات فَلَزِمَهُ بِتَرْكِهِ دم وَلما رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(من ترك نسكا فَعَلَيهِ دم) وَسَوَاء ترك الاحرام عمدا أَو نِسْيَانا وَيلْزمهُ الْعود إِلَى الْمِيقَات إِلَّا لعذر من خوف الطَّرِيق أَو فَوت الْحَج فَإِن عَاد إِلَى الْمِيقَات سقط عَنهُ الدَّم بِشَرْط أَن لَا يكون تلبس بنسك فَإِن تلبس بِنَفْسِك لم يسْقط عَنهُ الدَّم التأدى ذَلِك النّسك بِإِحْرَام نَاقص وَلَا فرق فِي ذَلِك النّسك بَين الْفَرْض كالوقوف وَبَين السّنة كطواف الْقدوم
وَقَول الشَّيْخ وَرمي الْجمار ثَلَاثًا أَي ثَلَاث مَرَّات يَعْنِي غير جَمْرَة الْعقبَة وَهِي الَّتِي ترمى يَوْم النَّحْر يَعْنِي يَوْم الْعِيد وَيَرْمِي إِلَيْهَا سبع حَصَيَات فَقَط فَإِن أَرَادَ أَن يتعجل سقط عَنهُ رمي الْيَوْم الثَّالِث من أَيَّام التَّشْرِيق فَيبقى ثَلَاث يَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة ثمَّ الْيَوْم الأول من أَيَّام التَّشْرِيق يُسمى يَوْم القر لأَنهم يقرونَ فِيهِ بمنى وَالْيَوْم الثَّانِي النَّفر الأول وَالثَّالِث النَّفر الثَّانِي وَهِي أَيَّام الرَّمْي ثمَّ عدد حَصى كل يَوْم من هَذِه الْأَيَّام إِحْدَى وَعِشْرُونَ حَصَاة لكل جَمْرَة سبع حَصَيَات وَيشْتَرط فِي رمي الجمرات التَّرْتِيب فِيهِنَّ بِأَن يَرْمِي أَولا الْجَمْرَة الَّتِي تلِي مَسْجِد الْخيف ثمَّ الْوُسْطَى ثمَّ جَمْرَة الْعقبَة وَهِي الْأَخِيرَة وَلَا يعْتد برمي الثَّانِيَة قبل الأولى وَلَا بالثالثة قبل الْأَوليين وَلَو ترك حَصَاة وَلم يدر من أَيهَا من الثَّلَاثَة جعلهَا من الأولى وَأعَاد رمي الْجَمْرَة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة هَذَا مَا يتَعَلَّق بالجمرات وَأما نفس الرَّمْي فَالْوَاجِب مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم الرَّمْي فَلَو وضع الْحجر فِي المرمى لم يعْتد بِهِ على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا يُسمى رمياً وَيشْتَرط قصد الرَّمْي فَلَو رمى فِي الْهَوَاء فَوَقع المرمي بِهِ فِي المرمى لم يعْتد بِهِ وَلَا يشْتَرط بَقَاء الْحجر فِي المرمى فَلَا يضر تدحرجه بعد ذَلِك وَيَنْبَغِي أَن تقع الحصيات فِي المرمى فَلَو شكّ فِي وُقُوع الْحَصَى فِيهِ لم يعْتد بِهِ على الْجَدِيد وَيشْتَرط حُصُول الْحَصَاة المرماة بِفِعْلِهِ حَتَّى لَو رمى فَوَقَعت الْحَصَاة على رَأس آدَمِيّ أَو غَيره فحركتها وَوَقعت فِي المرمى فَلَا يعْتد بِهِ لِأَنَّهَا لم تحصل فِي المرمى بِفِعْلِهِ وَلَو وَقعت على الأَرْض وتدحرجت فَوَقَعت فِي المرمى أَجْزَأَ لحصولها فِيهِ بِفِعْلِهِ وَيشْتَرط أَن يرميها بِيَدِهِ فَلَو دَفعهَا بِرَجُل أَو رمى بقوس لم يجز وَيشْتَرط أَن يَرْمِي السَّبع حَصَيَات فِي سبع مَرَّات فَلَو رمى حصاتين دفْعَة ووقعتا فِي المرمى فَهِيَ حَصَاة حَتَّى لَو رمى السَّبع مرّة فَهِيَ حَصَاة وَلَو رمى وَاحِدَة وأتبعها بِأُخْرَى وسبقت الثَّانِيَة الأولى فرميتان وَلَا يشْتَرط كَون الْحَصَى لم يرم بِهِ حَتَّى لَو رمى بِحجر رمى هُوَ بِهِ أَو غَيره أَجْزَأَ هَذَا مَا يتَعَلَّق بِالرَّمْي وَأما المرمي بِهِ فَيشْتَرط كَونه حجرا فيجزى سَائِر أَنْوَاع الْحجر وَلَا يَجْزِي غَيره ومدار هَذَا الْبَاب على التَّوْقِيف لِأَن فِي مَا لَا يعقل مَعْنَاهُ فَيجب الِاتِّبَاع وَالله أعلم

(1/217)


(فرع) إِذا عجز عَن الرَّمْي بِنَفسِهِ إِمَّا لمَرض أَو حبس أَو عذر لَهُ أَن يَسْتَنِيب من يَرْمِي عَنهُ لَكِن لَا يَصح رمي النَّائِب عَن المستنيب إِلَّا بعد رمي النَّائِب عَن نَفسه وَيشْتَرط فِي جَوَاز النِّيَابَة أَن يكون الْعذر مِمَّا لَا يُرْجَى زَوَاله قبل خُرُوج وَقت الرَّمْي فَإِذا وجد الشَّرْط ثمَّ زَالَ الْعذر عَن المستنيب وَالْوَقْت بَاقٍ أَجْزَأَ على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْأَكْثَرُونَ وَالله أعلم وَأما عد الشَّيْخ الْحلق من الْوَاجِبَات فَهِيَ طَريقَة وَقد تقدم أَنه ركن وعَلى كل حَال فَلَا بُد من الْإِتْيَان بِهِ أَو بالتقصير وَأقله ثَلَاث شَعرَات وَفِي حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ عَن أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَمر أَصْحَابه أم بحلقوا أَو يقصروا نعم الْأَفْضَل للرِّجَال الْحلق لفعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع رَوَاهُ مُسلم وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(اللَّهُمَّ اغْفِر للمحلقين) وَفِي الثَّالِثَة للمقصرين نعم لَو نذر الْحلق قَالَ الْغَزالِيّ لزمَه بِلَا خلاف قَالَ الإِمَام وَنَصّ عَلَيْهِ فَلَا يقوم التَّقْصِير حِينَئِذٍ مقَام الْحلق وللرافعي فِيهِ أشكال وَالله أعلم قَالَ
بَاب سنَن الْحَج
(وَسنَن الْحَج سبع الافراد وَهُوَ تَقْدِيم الْحَج على الْعمرَة والتلبية وَطواف الْقدوم)
قد تقدم أَن الْحَج على ثَلَاثَة أَنْوَاع وَأَن أفضلهَا الافراد وَأما التَّلْبِيَة فتستحب حَال الاحرام لنقل الْخلف عَن السّلف وَالسّنة أَن يكثر مِنْهَا فِي دوَام الاحرام وتستحب قَائِما وَقَاعِدا وراكباً وماشياً وجنباً وحائضاً ويتأكد استحبابها فِي كل صعُود وهبوط وَعند حُدُوث أَمر من ركُوب أَو نزُول وَعند اجْتِمَاع الرفاق وَعند اقبال اللَّيْل وَالنَّهَار وَفِي مَسْجِد الْخيف وَالْمَسْجِد الْحَرَام وَلَا تسْتَحب فِي طواف الْقدوم وَلَا فِي السَّعْي على الْجَدِيد لِأَن لَهما أذكارا تخصهما وَلَا يُلَبِّي فِي طواف الْإِفَاضَة والوداع بِلَا خلاف لخُرُوج وَقت التَّلْبِيَة لِأَنَّهُ يخرج بِالرَّمْي إِلَى جَمْرَة الْعقبَة فيقطعه مَعَ أول حَصَاة وَيسْتَحب للرجل رفع الصَّوْت بهَا دون الْمَرْأَة بل تقتصر على اسماع نَفسهَا فَإِن رفعت كره وَقيل يحرم وَيسْتَحب أَن يكون صَوت الرجل بِالصَّلَاةِ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عقيبها دون صَوته بِالتَّلْبِيَةِ
وَيسْتَحب أَن يقْتَصر على تَلْبِيَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لبيْك لَا شريك لَك لبيْك إِن الْحَمد وَالنعْمَة لَك وَالْملك لَا شريك لَك والهمزة من ان الْحَمد يجوز فتحهَا وَكسرهَا وَهُوَ أفْصح وَيسْتَحب إِذا فرغ مِنْهَا أَن يُصَلِّي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن يسْأَله رضوانه وَالْجنَّة وَأَن يستعيذه

(1/218)


من النَّار ثمَّ يَدْعُو بِمَا أحب وَلَا يتَكَلَّم فِي أثْنَاء التَّلْبِيَة وَيكرهُ السَّلَام عَلَيْهِ لَكِن لَو سلم عَلَيْهِ رد نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَالله أعلم
وَأما الطّواف فَهُوَ ثَلَاثَة أَنْوَاع طواف الافاضة وَهُوَ ركن لَا بُد مِنْهُ وَلَا يَصح الْحَج بِدُونِهِ وَطواف الْوَدَاع وَهُوَ وَاجِب وَقيل سنة وَهُوَ الَّذِي اقْتصر عَلَيْهِ الشَّيْخ وَطواف الْقدوم وَهُوَ سنة وَيُسمى أَيْضا طواف الْوُرُود وَطواف التَّحِيَّة لِأَنَّهُ تَحِيَّة الْبقْعَة وَفِي صَحِيح مُسلم أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام طَاف حِين قدم مَكَّة فَلَو دخل وَوجد النَّاس يصلونَ فِي صَلَاة مَكْتُوبَة صلاهَا مَعَهم أَولا وَكَذَا لَو أُقِيمَت الْجَمَاعَة وَهُوَ فِي أثْنَاء الطّواف قطعه وَكَذَا لَو خَافَ فَوت فَرِيضَة أَو سنة مُؤَكدَة وَالطّواف تَحِيَّة الْبَيْت لَا تَحِيَّة الْمَسْجِد
وَاعْلَم أَن الْمَرْأَة الجميلة أَو الشَّرِيفَة الَّتِي تبرز للرِّجَال تُؤخر الطّواف إِلَى اللَّيْل وَلَو كَانَ الشَّخْص مُعْتَمِرًا فَطَافَ للْعُمْرَة أَجزَأَهُ عَن طواف الْقدوم كَمَا تجزىء الْفَرِيضَة عَن تَحِيَّة الْمَسْجِد وَالله أعلم قَالَ
(وَالْمَبِيت بِمُزْدَلِفَة وركعتا الطّواف)
الْمبيت بِمُزْدَلِفَة مُخْتَلف فِيهِ فَقيل إِنَّه ركن وَبِه قَالَ ابْن بنت الشَّافِعِي وَابْن خُزَيْمَة وَمَال إِلَيْهِ ابْن الْمُنْذر وَقواهُ السُّبْكِيّ والاسنائي وَقيل إِنَّه سنة وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام الرَّافِعِيّ والمنهاج وَهُوَ الَّذِي قَالَه الشَّيْخ وَقيل إِنَّه وَاجِب وَصَححهُ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب فعلى هَذَا لَو لم يبت بهَا لزمَه دم وَبِمَ يحصل الْمبيت فِي طرق الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ بمعظم اللَّيْل كَمَا لَو حلف ليبيتن فَإِنَّهُ لَا يبرأ إِلَّا بذلك وَالرَّاجِح عِنْد النَّوَوِيّ أَنه يحصل بلحظة من النّصْف الثَّانِي وَالله أعلم
وَاخْتلف فِي رَكْعَتي الطّواف يَعْنِي طواف الْفَرْض فَقيل بوجوبهما وَالصَّحِيح عدم وجوبهما لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(خمس صلوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فَقَالَ هَل عَليّ غَيرهَا قَالَ لَا إِلَّا أَن تطوع) وَالله أعلم قَالَ
(وَالْمَبِيت بمنى وَطواف الْوَدَاع)
اخْتلف فِي مبيت ليَالِي منى فَقيل بِوُجُوبِهِ وَصَححهُ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بَات بهَا وَقَالَ
(خُذُوا عني مَنَاسِككُم) وَقيل أَنه يسْتَحبّ وَهُوَ الَّذِي ذكره الشَّيْخ

(1/219)


وَصَححهُ الرَّافِعِيّ وَبِه قطع بَعضهم كالمبيت بمنى لَيْلَة عَرَفَة ثمَّ فِي الْقدر الَّذِي يحصل بِهِ الْمبيت خلاف الرَّاجِح مُعظم اللَّيْل فعلى مَا صَححهُ النَّوَوِيّ لَو ترك الْمبيت ليَالِي منى لزمَه دم على الصَّحِيح وَقيل يجب لكل لَيْلَة دم وَإِن تَركه لَيْلَة فأقوال أظهرها يجْبر بِمد وَقيل بدرهم وَقيل بِثلث دم
ثمَّ هَذَا فِي حق غير المعذورين أما من ترك الْمبيت بِمُزْدَلِفَة وَمنى لعذر كمن وصل إِلَى عَرَفَة لَيْلَة النَّحْر واشتغل بِالْوُقُوفِ عَن مبيت مُزْدَلِفَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَكَذَا لَو أَفَاضَ من عَرَفَة إِلَى مَكَّة وَطَاف للافاضة بعد نصف اللَّيْل ففاته الْمبيت فَقَالَ الْقفال لَا شَيْء عَلَيْهِ لاشتغاله بِالطّوافِ وَمن المعذورين من لَهُ مَال يخَاف ضيَاعه لَو اشْتغل بالمبيت أَو من لَهُ مَرِيض يحْتَاج إِلَى تعهده أَو طلب ضَالَّة أَو آبق فَالصَّحِيح فِي هَؤُلَاءِ وَنَحْوهم أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِم بترك الْمبيت وَلَهُم أَن ينفروا بعد الْغُرُوب وَالله أعلم قَالَ
(ويتجرد عِنْد الاحرام ويلبس إزاراً ورداءً أبيضين)
إِذا أَرَادَ الرجل الْإِحْرَام نزع الْمخيط وَهل نزع ذَلِك أدب كَمَا ذكره الشَّيْخ أَو وَاجِب الَّذِي جزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي آخر كَلَامه أَنه يجب التجرد عَن الْمخيط قَالَ لِئَلَّا يصير لابساً للمخيط فِي حَال إِحْرَامه وَبِه جزم النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب نعم كَلَام الْمُحَرر والمنهاج يقْضِي اسْتِحْبَابه وَبِه صرح النَّوَوِيّ فِي مَنَاسِكه وَجعله من الْآدَاب قَالَ الاسنائي وَهُوَ الْمُتَّجه لِأَنَّهُ قبل الْإِحْرَام لم يحصل سَبَب وجوب النزع وَلِهَذَا لَا يجب إرْسَال الصَّيْد قبل الْإِحْرَام بِلَا خلاف وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا أَنه لَو علق الطَّلَاق على الْوَطْء فَإِن الْمَشْهُور أَن لَا يمْتَنع عَلَيْهِ فَإِذا تجرد فَيُسْتَحَب أَن يلبس إزاراً ورداء أبيضين ونعلين لقَوْل ابْن الْمُنْذر ثَبت أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(ليحرم أحدكُم فِي إِزَار ورداء أبيضين ونعلين) وَقد ورد عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(أحرم فِي إِزَار ورداء) وَكَذَا أَصْحَابه رَوَاهُ مُسلم أَيْضا عَن جَابر وَأما الْبيض فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إلبسوا من ثيابكم الْبيَاض فَإِنَّهَا خير ثيابكم وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم) وَيسْتَحب أَن يَكُونَا جديدين فَإِن لم يكن فنظيفين وَيكرهُ الْمَصْبُوغ وَالله أعلم وَيسْتَحب أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ يقْرَأ فِي الأولى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وَفِي الثَّانِيَة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَتكره هَذِه الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة على الصَّحِيح وَلَو صلى

(1/220)


الْفَرِيضَة أغنت عَن رَكْعَتي الْإِحْرَام وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن إِن السّنة الرَّاتِبَة تغني عَنْهُمَا أَيْضا وَالله أعلم قَالَ
بَاب مُحرمَات الاحرام
(فصل وَيحرم على الْمحرم عشرَة أَشْيَاء لبس الْمخيط وتغطية الرَّأْس من الرجل وَالْوَجْه من الْمَرْأَة)
إِذا أحرم الرجل حرم عَلَيْهِ أَنْوَاع
الأول اللّبْس فِي جَمِيع بدنه وَرَأسه بِمَا يعد لبساً سَوَاء كَانَ مخيطاً كالقميص والسراويل أَو غَيره كالعمامة والإزار لما ورد
(أَن رجلا سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يلبس الْمحرم من الثِّيَاب فَقَالَ لَا تلبسوا من الثِّيَاب الْقَمِيص وَلَا الْعِمَامَة وَلَا السراويلات وَلَا البرانس وَلَا الْخفاف إِلَّا أَن لَا يجد النَّعْلَيْنِ فليلبس الْخُفَّيْنِ وليقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ وَلَا تلبسوا من الثِّيَاب مَا مَسّه ورس أَو زعفران) وَأما فِي الرَّأْس الْخُفَّيْنِ فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمحرم الَّذِي خر عَن بعيره مَيتا
0 - لَا تخمروا رَأسه فَإِنَّهُ يبْعَث يَوْم الْقِيَامَة ملبياً) وَلَا فرق بَين الْمُتَّخذ من الْقطن والكتان والجلود واللبود وَالضَّابِط أَنه تجب الْفِدْيَة بستر مَا يعد ساتراً حَتَّى أَنه لَو طلى رَأسه بطين ثخين أَو حناء أَو مرهم ثخين وَجَبت الْفِدْيَة وَلَا يضر وضع الْيَد على الرَّأْس وَلَا حمل الزنبيل وَنَحْوه وَلَا يشْتَرط لوُجُوب الْفِدْيَة ستر جَمِيع الرَّأْس كَمَا لَا يشْتَرط فِي فديَة الْحلق اسْتِيعَاب الرَّأْس بل يجب بستر قدر يقْصد بستره لغَرَض كستر عصابته ولزقه لجرح وَنَحْوه وَالضَّابِط أَنه تجب الْفِدْيَة بِمَا يُسمى ساتراً سَوَاء ستر كل الرَّأْس أَو بعضه وَلَا تجب الْفِدْيَة بتغطيته بيد الْغَيْر على الْمَذْهَب وَلَو ألْقى القباء أَو الفرجية على كَتفيهِ لَزِمته

(1/221)


الْفِدْيَة وَإِن لم يخرج أكمامه لصدق اسْم اللّبْس بذلك سَوَاء طَال الزَّمَان أم قصر وَلَو ارتدى بالفرجية أَو التحف بذلك وَنَحْوه فَلَا وَكَذَا لَو ائتزر بسراويل فَلَا فديَة كَمَا لَو ائتزر بإزار لفقه من رقاع وَيجوز أَن يعْقد الْإِزَار وَهُوَ الَّذِي يشده ليستر عَوْرَته وَيجوز أَن يشد عَلَيْهِ خيطاً وَيجوز أَن يَجْعَل لَهُ مثل مَوضِع التكة وَيدخل فِيهِ خيطاً وَأما الرِّدَاء وَهُوَ الَّذِي يوضع على الأكتاف فَلَا يجوز عقده وَلَا تخليله بخلال وَلَا بمسلة وَلَا ربط طرفه بطرفه الآخر بخيط كَمَا يَفْعَله الْعَوام يضع أحدهم حَصَاة صَغِيرَة ويعقدها بخيط والطرف الآخر كَذَلِك فَهَذَا حرَام وَتجب فِيهِ الْفِدْيَة وَله أَن يتقلد السَّيْف ويشد الهيمان على وَسطه هَذَا كُله فِي الرجل
وَأما الْمَرْأَة فَالْوَجْه فِي حَقّهَا كرأس الرجل وتستر جَمِيع رَأسهَا وبدنها بالمخيط وَلها أَن تستر وَجههَا بِثَوْب أَو خرقَة بِشَرْط أَلا يمس وَجههَا سَوَاء كَانَ لحَاجَة أَو لغير حَاجَة من حر أَو برد أَو خوف فتْنَة وَنَحْو ذَلِك فَلَو أصَاب السَّاتِر وَجههَا باختيارها لَزِمَهَا الْفِدْيَة وَإِن كَانَ بِغَيْر اخْتِيَارهَا فَإِن إِزَالَته فِي الْحَال فَلَا فديَة وَإِلَّا وَجَبت الْفِدْيَة ثمَّ هَذَا كُله حَيْثُ لَا عذر أما الْمَعْذُور كمن احْتَاجَ إِلَى ستر رَأس أَو لبس ثِيَابه لحر أَو برد أَو مداواة ستر وَجَبت الْفِدْيَة وَالله أعلم
(فرع) إِذا لبس الْمحرم وَطيب وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يحرم عَلَيْهِ تعدّدت الْفِدْيَة سَوَاء كَانَ ذَلِك متوالياً أَو مُتَفَرقًا لاخْتِلَاف جنس ذَلِك كَمَا لَو زنى وسرق فَإِنَّهُ يقطع وَيحد وَإِن اتَّحد بِأَن لبس ثمَّ لبس وتكرر ذَلِك مِنْهُ أَو تطيب مرَارًا لزمَه لكل مرّة كَفَّارَة على الصَّحِيح سَوَاء كَانَ بِغَيْر عذر أَو بِعُذْر هَذَا إِذا فعله فِي أَوْقَات مُتَفَرِّقَة أما لَو والى بَين اللّبْس مرَارًا أَو التَّطَيُّب بِحَيْثُ يعد فِي الْعرف متوالياً لزمَه فديَة وَاحِدَة وَالله أعلم قَالَ
(وترجيل الشّعْر وَحلق الشّعْر وتقليم الْأَظْفَار)
ترجيل الشّعْر تسريحه وَهُوَ مَكْرُوه وَكَذَا حكه بالظفر قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب فَلَو فعل فانتتفت شَعرَات لزمَه الْفِدْيَة فَلَو شكّ هَل كَانَ منتتفاً أَو انتتف بالمشط فالراجح أَنه لَا فديَة عَلَيْهِ لِأَن الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة وَيُمكن حمل كَلَام الشَّيْخ على مَا إِذا علم أَن التسريح ينتف الشّعْر لتلبد وَنَحْوه وَأما إِزَالَة الشّعْر بِالْحلقِ فَحَرَام لقَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحَله} وَلَا فرق بَين شعر الرَّأْس وَشعر سَائِر الْبدن وَلَا فرق بَين الْحلق والنتف والقص والاحراق وَكَذَا الْإِزَالَة بالنورة وَنَحْو ذَلِك وَلَو عبر الشَّيْخ بالإزالة لشمل ذَلِك وَإِزَالَة الظفر كالشعر وَلَا فرق بَين القص وَالْقطع بِالسِّنِّ وَالْكَسْر وَغير ذَلِك وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الظفر الْوَاحِد وَغَيره كَمَا فِي الشّعْر وَالله أعلم قَالَ

(1/222)


(وَالطّيب)
من الْأَنْوَاع الْمُحرمَة على الْمحرم اسْتِعْمَال الطّيب فِي الثَّوْب وَالْبدن لِأَن ترفه والحاج أَشْعَث أغبر كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر وَلَا فرق بَين اسْتِعْمَاله فِي الظَّاهِر أَو الْبَاطِن كَمَا لَو استنشقه أَو احتقن بِهِ وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الأخشم وَغَيره كَمَا قَالَه فِي شرح الْمُهَذّب ثمَّ الطّيب هُوَ مَا ظهر فِيهِ غَرَض التَّطَيُّب كالورد والياسمين والبنفسج وَالريحَان الْفَارِسِي وَأما اسْتِعْمَاله فَهُوَ أَن يلصق الطّيب بِيَدِهِ أَو ثِيَابه على الْوَجْه الْمُعْتَاد فِي ذَلِك فَلَو احتوى على مبخرة أَو حمل فَأْرَة مسك مشقوقة أَو مَفْتُوحَة أَو جلس على فرَاش مُطيب أَو أَرض مطيبة أَو شده فِي طرف ثَوْبه أَو جعله فِي جيبه أَو لبست الْمَرْأَة الْحلِيّ المحشو بِهِ حرم وَلَو حمل مسكاً أَو غَيره فِي كيس أَو خرقه مشدودة لم يحرم شمه أم لَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَلَو وطئ بنعله طيبا حرم عَلَيْهِ كَذَا أطلقهُ الرَّافِعِيّ وَشرط الْمَاوَرْدِيّ أَن يعلق بِهِ شَيْء مِنْهُ وَنَقله عَن نَص الشَّافِعِي وَالله أعلم وكما يحرم عَلَيْهِ التَّطَيُّب يحرم عَلَيْهِ أكل مَا فِيهِ طيب ظَاهر الطّعْم واللون والرائحة لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل للطيب والترفه فَلَو ظهر طعمه وريحه حرم أَيْضا وَكَذَا الطّعْم مَعَ اللَّوْن وَكَذَا الرّيح وَحده وَالله أعلم قَالَ
(وَقتل الصَّيْد)
أجمع النَّاس على تَحْرِيم قتل الصَّيْد على الْمحرم وَالصَّيْد كل متوحش طبعا لَا يُمكن أَخذه إِلَّا بحيلة وَالْمرَاد بالمتوحش الْجِنْس فَلَا فرق فِيهِ بَين أَن يسْتَأْنس أم لَا وَلَا فرق فِي الصَّيْد بَين الْوَحْش وَالطير لصدق الإسم عَلَيْهِ وكما يحرم الْقَتْل يحرم الِاصْطِيَاد وَهَذَا بالاجماع وَقد نَص الْقُرْآن على مَنعه قَالَ الله تَعَالَى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وكما يحرم قَتله يحرم التَّعَرُّض لَهُ بالإيذاء لأجزائه بِالْجرْحِ وَغَيره وكما يشْتَرط أَن يكون وحشياً وَإِن استأنس فَيشْتَرط أَيْضا أَن يكون مَأْكُولا أَو فِي أَصله مَأْكُولا فَلَا يحرم الأنسي وَإِن توحش لِأَنَّهُ لَيْسَ بصيد
وَأما غير الْمَأْكُول إِذا لم يكن فِي أَصله مَأْكُولا فَلَا يحرم التَّعَرُّض لَهُ وَلَا فدَاء على الْمحرم فِي قَتله بل فِي هَذَا النَّوْع يسْتَحبّ قَتله للْمحرمِ وَغَيره وَهِي المؤذيات بل فِي كَلَام الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْأَطْعِمَة مَا يَقْتَضِي الْوُجُوب كالحية وَالْعَقْرَب والفأر وَالْكَلب الْعَقُور والغراب والشوحة وَالذِّئْب والأسد وَالنُّمُور والدب والنسر وَالْعِقَاب والبرغوث والبق والزنبور وَلَو ظهر الْقمل على الْمحرم لم يكره تنحيته وَلَو قَتله لم يلْزمه شَيْء نعم يكره أَن يفلي رَأسه ولحيته فَإِن فعل وَأخرج قملة وقتلها تصدق وَلَو بلقمة نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَهَذَا التَّصَدُّق مُسْتَحبّ وَقيل

(1/223)


وَاجِب لما فِيهِ من إِزَالَة الْأَذَى عَن الرَّأْس والصبئان وَهُوَ بيض الْقمل كالقمل نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَالله أعلم قَالَ
(وَعقد النِّكَاح وَالْوَطْء والمباشرة بِشَهْوَة)
يحرم على الْمحرم أَن يتَزَوَّج أَو يُزَوّج سَوَاء كَانَ ذَلِك بِالْوكَالَةِ أَو بِالْولَايَةِ سَوَاء فِي ذَلِك الْولَايَة الْخَاصَّة أَو الْعَامَّة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا ينْكح الْمحرم وَلَا ينْكح) وَفِي رِوَايَة
(لَا يخْطب)
(لَا يتَزَوَّج الْمحرم وَلَا يُزَوّج) فَإِن فعل ذَلِك فَالْعقد بَاطِل لِأَن النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم وَالْفساد وَهُوَ إِجْمَاع الصَّحَابَة وكما يحرم عقد النِّكَاح يحرم الْجِمَاع وَهُوَ تغييب الْحَشَفَة فِي فرج قبلا كَانَ أَو دبراً ذكرا كَانَ المولج فِيهِ أَو أُنْثَى آدَمِيًّا كَانَ أَو بَهِيمَة لقَوْله تَعَالَى {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} والرفث الْجِمَاع وَمعنى لَا رفث لَا ترفثوا لَفظه خبر وَمَعْنَاهُ النَّهْي وكما يحرم الْجِمَاع تحرم الْمُبَاشرَة فِيمَا دون الْفرج بِشَهْوَة وَكَذَا الاستمناء لِأَنَّهُ إِذا حرم دواعي الْوَطْء كالطيب وَالْعقد فَلِأَن تحرم هَذِه الْأَشْيَاء أولى وَلِأَنَّهَا تحرم على الْمُعْتَكف وَلَا شكّ أَن الأحرام أكد مِنْهُ وَالله أعلم قَالَ
(وَفِي جَمِيع ذَلِك الْفِدْيَة إِلَّا عقد النِّكَاح فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد وَلَا يُفْسِدهُ إِلَّا الْوَطْء فِي الْفرج وَلَا يخرج مِنْهُ بِالْفَسَادِ)
هَذِه الْمُحرمَات الَّتِي ذكرت من الطّيب وَغَيره من فعلهَا أَو فعل نوعا مِنْهَا بِشَرْطِهِ وَجَبت عَلَيْهِ الْفِدْيَة إِلَّا عقد النِّكَاح لعدم حُصُول الْمَقْصُود مِنْهُ وَهُوَ الإنعقاد بِخِلَاف بَاقِي الْمُحرمَات لِأَنَّهُ استمتع بِمَا هُوَ محرم عَلَيْهِ وَيشْتَرط لوُجُوب الْفِدْيَة فِي الْمُبَاشرَة فِيمَا دون الْفرج الْإِنْزَال صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَإِذا جَامع فسد حجه إِن كَانَ قبل التَّحَلُّل الأول فَإِن كَانَ قبل الْوُقُوف فبالإجماع قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَالْمَاوَرْدِيّ وَإِن كَانَ بعده فقد خَالف فِيهِ أَبُو حنيفَة حجتنا عَلَيْهِ أَنه وَطْء صَادف إحراماً صَحِيحا لم يحصل فِيهِ التَّحَلُّل الأول فَأشبه مَا قبل الْوُقُوف وَإِن وَقع بعد التَّحَلُّل لم يفْسد على الْمَذْهَب وكما يفْسد الْحَج يفْسد الْعمرَة إِلَّا تحلل وَاحِد وَقَوله وَلَا يخرج مِنْهُ بِالْفَسَادِ يَعْنِي يجب عَلَيْهِ أَن يمْضِي فِي حجه ويتمه وَإِن كَانَ فَاسِدا لقَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعمْرَة لله}

(1/224)


وكل مَا كَانَ يجب عَلَيْهِ أَن يفعل ويجتنبه فِي الصَّحِيح يجب فِي الْفَاسِد وَيجب مَعَ ذَلِك الْقَضَاء سَوَاء كَانَ الْحَج فرضا أَو تَطَوّعا وَيَقَع الْقَضَاء من الْمُفْسد إِن كَانَ فرضا وَقع عَنهُ فرضا وَإِن كَانَ تَطَوّعا فَعَنْهُ وَيجب الْقَضَاء على الْفَوْر على الْأَصَح وَيجب عَلَيْهِ أَن يحرم فِي الْقَضَاء من الْموضع الَّذِي أحرم مِنْهُ حَتَّى لَو كَانَ أحرم من دويرة أَهله لزمَه وَإِن كَانَ أحرم من الْمِيقَات أحرم مِنْهُ وَإِن كَانَ أحرم بعد مُجَاوزَة الْمِيقَات فَإِن كَانَ جَاوز مسيئاً أحرم من الْمِيقَات الشَّرْعِيّ قطعا وَكَذَا إِن كَانَ غير مسييء على الصَّحِيح بِأَن جاوزه غير مُرِيد للنسك ثمَّ بدا لَهُ فَأحْرم وَأما الْمَرْأَة فَإِن جَامعهَا مُكْرَهَة أَو نَائِمَة لم يفْسد حَجهَا وَإِن كَانَت طَائِعَة عَالِمَة فسد حَجهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَمن فَاتَهُ الْوُقُوف بِعَرَفَة تحلل بِعَمَل عمْرَة وَعَلِيهِ الْقَضَاء وَالْهَدْي وَمن ترك ركنا لم يحل من إِحْرَامه حَتَّى يَأْتِي بِهِ)
إِذا فَاتَ الشَّخْص وَهُوَ حَاج الْوُقُوف بِعَرَفَة بِأَن طلع الْفجْر يَوْم النَّحْر وَلم يحصل بِعَرَفَات فقد فَاتَهُ الْحَج لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(من أدْرك عَرَفَة لَيْلًا فقد أدْرك الْحَج وَمن فَاتَهُ عَرَفَة لَيْلًا فقد فَاتَهُ الْحَج فليهل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل) وَلِأَنَّهُ ركن فقيد بِوَقْت ففات بفواته كَالْجُمُعَةِ ويتحلل على الْفَوْر بِعَمَل عمْرَة وَهُوَ الطّواف وَالسَّعْي وَالْحلق وَلَا بُد من الطّواف بِلَا خلاف وَكَذَا السَّعْي على الْمَذْهَب إِن لم يكن سعى عقيب طواف الْقدوم وَأما الْحلق فَيجب إِن جَعَلْنَاهُ نسكا وَهُوَ الرَّاجِح وَإِلَّا فَلَا وَلَا يجب الرَّمْي بمنى وَكَذَا الْمبيت بهَا وَإِن بفي وقتهما وكما يجب الْقَضَاء يجب الْهَدْي جَاءَ هَبَّار بن الْأسود يَوْم النَّحْر إِلَى عمر رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَخْطَأنَا الْعدَد فَقَالَ لَهُ عمر اذْهَبْ إِلَى مَكَّة فَطُفْ بِالْبَيْتِ أَنْت وَمن مَعَك واسعوا بَين الصَّفَا والمروة وانحروا هَديا إِن كَانَ مَعكُمْ ثمَّ احْلقُوا أَو قصروا ثمَّ ارْجعُوا فَإِذا كَانَ عَام قَابل فحجوا وأهدوا فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب واشتهر ذَلِك فَلم يُنكره أحد فَكَانَ إِجْمَاعًا
وَاعْلَم أَنه لَا فرق فِي الْفَوات بَين أَن يكون بتقصير كالفوات بأشغال الدُّنْيَا أَو بِلَا تَقْصِير كالنوم وَالله أعلم وَقَوله
(وَمن ترك ركنا لم يحل من إِحْرَامه حَتَّى يَأْتِي بِهِ) يَعْنِي أَنه لَا يجْبر بِدَم بل

(1/225)


يتَوَقَّف الْحَج عَلَيْهِ لِأَن مَاهِيَّة الْحَج لَا تحصل إِلَّا بِجَمِيعِ أَرْكَانه والماهية تفوت بِفَوَات جزئها وكما لَو تَمَادى فِي الصَّلَاة قبل الاتيان بِتمَام أَرْكَانهَا فَإِنَّهُ لَا يخرج مِنْهَا إِلَّا بِجَمِيعِ ماهيتها وَالله أعلم
بَاب الدِّمَاء الْوَاجِبَة فِي الْإِحْرَام
فصل والدماء الْوَاجِبَة فِي الْإِحْرَام خَمْسَة أَشْيَاء أَحدهَا الدَّم الْوَاجِب بترك نسك وَهُوَ على التَّرْتِيب شَاة فَإِن لم يجد فَصِيَام عشرَة أَيَّام ثَلَاثَة فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله
اعْلَم أَن الدِّمَاء الْوَاجِبَة فِي الْمَنَاسِك سَوَاء تعلّقت بترك وَاجِب أَو ارْتِكَاب مَنْهِيّ أَي فعل حرَام فواجبها شَاة إِلَّا فِي الْجِمَاع فَالْوَاجِب بَدَنَة وَلَا يُجزئ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِلَّا مَا يُجزئ فِي الْأُضْحِية إِلَّا فِي جَزَاء الصَّيْد فَإِنَّهُ يجب فِيهِ الْمثل فِي الصَّغِير صَغِير وَفِي الْكَبِير كَبِير ثمَّ هَذِه الْكَفَّارَات قد يكون فِيهَا مَا يجب فِيهِ التَّرْتِيب وَقد يكون فِيهَا مَا يجب فِيهِ التَّخْيِير وَمعنى التَّرْتِيب أَنه يجب عَلَيْهِ الذّبْح وَلَا يجوز الْعُدُول عَنهُ إِلَى غَيره إِلَّا إِذا عجز عَنهُ وَمعنى التخييز أَنه يجوز لَهُ الْعُدُول عَنهُ إِلَى غَيره مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ ثمَّ إِن الدَّم قد يجب على سَبِيل التَّقْدِير مَعَ ذَلِك يَعْنِي أَن الشَّرْع قدر الْبَدَل المعدول إِلَيْهِ ترتيباً كَانَ أَو تخييراً لَا يزِيد وَلَا ينقص وَقد يجب الدَّم على سَبِيل التَّعْدِيل وَمعنى التَّعْدِيل أَنه أَمر فِيهِ بالتقويم والعدول إِلَى غَيره بِحَسب الْقيمَة إِذا عرفت هَذَا فالدم الْمُتَعَلّق بترك المأمورات وَهُوَ معنى قَول الشَّيْخ بترك نسك كَتَرْكِ الْإِحْرَام من الْمِيقَات وَترك الرَّمْي وَالْمَبِيت بِمُزْدَلِفَة لَيْلَة الْعِيد وكذل ترك الْمبيت بمنى ليَالِي التَّشْرِيق وَطواف الْوَدَاع وَفِي هَذَا الدَّم أَرْبَعَة أوجه الصَّحِيح وَبِه قطع الْعِرَاقِيُّونَ وَكثير من غَيرهم أَنه دم تَرْتِيب وَتَقْدِير كَدم التَّمَتُّع وَالْقرَان وَالتَّرْتِيب كَمَا ذكره الشَّيْخ أَنه يجب عَلَيْهِ شَاة فَإِن لم يجدهَا أَلْبَتَّة أَو وجدهَا بِثمن غال عدل إِلَى الصَّوْم وَهُوَ عشرَة أَيَّام ثَلَاثَة فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ إِلَى أَهله وَالْمرَاد الرُّجُوع إِلَى الوطن والأهل فَإِن توطن بِمَكَّة بعد فَرَاغه من الْحَج صَامَ بهَا وَإِن لم يتوطنها لم يجز صَوْمه بهَا وَلَا يجوز صَومهَا فِي الطَّرِيق على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَلَا يَصح صَوْم شَيْء من السَّبْعَة فِي أَيَّام التَّشْرِيق بِلَا خلاف وَإِن قُلْنَا إِنَّهَا قَابِلَة للصَّوْم لِأَنَّهُ يعد فِي الْحَج وَلَو لم يتَّفق أَنه صَامَ الثَّلَاثَة فَرجع لزمَه صَوْم الْعشْرَة وَيجب التَّفْرِيق أَيْضا على الصَّحِيح وَفِي قدره أَقْوَال الرَّاجِح أَنه يفرق بأَرْبعَة أَيَّام وَمُدَّة إِمْكَان السّير إِلَى أَرض الوطن فَلَو لم يصم وَكَانَ قد تمكن مِنْهُ حَتَّى مَاتَ فَقَوْلَانِ الْقَدِيم يَصُوم عَنهُ وليه كَصَوْم رَمَضَان والجديد يطعم عَنهُ من تركته لكل يَوْم مدا فَإِن كَانَ تمكن من الْعشْرَة أَيَّام فعشرة أَمْدَاد وَإِلَّا فبالقسط وَهَذَا معنى التَّقْدِير وَلَا يتَعَيَّن صرف الأمداد إِلَى فُقَرَاء الْحرم على الْأَظْهر وَقد صحّح فِي الْمُحَرر وَتَبعهُ فِي الْمِنْهَاج أَن هَذَا الدَّم دم تَرْتِيب وتعديل فَتجب الشَّاة فَإِن عجز اشْترى بِقِيمَة الشَّاة طَعَاما وَتصدق بِهِ فَإِن عجز صَامَ عَن كل مد يَوْمًا

(1/226)


وَهَذَا خلاف مَا فِي الشرحين وَالرَّوْضَة وَشرح الْمُهَذّب فاعرفه وَالله أعلم قَالَ
(وَالثَّانِي الدَّم الْوَاجِب بِالْحلقِ والترفه وَهُوَ على التَّخْيِير شَاة أَو صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام أَو التَّصَدُّق بِثَلَاثَة آصَع على سِتَّة مَسَاكِين)
من حلق جَمِيع رَأسه أَو ثَلَاث شَعرَات أَو فعل فِي الْأَظْفَار مثل ذَلِك لزمَه الْفِدْيَة بِدَم وَهُوَ دم تَخْيِير وَتَقْدِير فَيتَخَيَّر بَين أَن يذبح شَاة وَبَين أَن يتَصَدَّق بِثَلَاثَة آصَع على سِتَّة مَسَاكِين لكل مِسْكين نصف صَاع من طَعَام وَبَين أَن يَصُوم ثَلَاثَة أَيَّام
هَذَا هُوَ الْمَذْهَب فِي وَجه لَا يتَقَدَّر مَا يعْطى كل مِسْكين وَالْأَصْل فِي التَّخْيِير قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} التَّقْدِير فحلق شعر رَأسه ففدية ثمَّ إِن كل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة قد ورد بَيَانه فِي حَدِيث كَعْب بن عجْرَة بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ لَهُ
(أَيُؤْذِيك هوَام رَأسك قَالَ نعم قَالَ انسك شَاة أَو صم ثَلَاثَة أَيَّام أَو أطْعم فرقا من الطَّعَام على سِتَّة مَسَاكِين) وَالْفرق بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء الْمُهْملَة ثَلَاثَة آصَع فقد ورد النَّص فِي الشّعْر والقلم فِي مَعْنَاهُ وَكَذَا بَقِيَّة الاستمتاعات كالطيب والادهان واللبس ومقدمات الْجِمَاع على الْأَصَح لإشتراك الْكل فِي الترفه وَالله أعلم قَالَ
وَالثَّالِث الدَّم الْوَاجِب بالإحصار فيتحلل وَيهْدِي شَاة)
الْحَاج أَو الْمُعْتَمِر إِذا حصر أَي منع من إتْمَام نُسكه كَانَ فِي الْحل أَو الْحرم وَلم يجد طَرِيقا غَيره وَسَوَاء كَانَ الْمَانِع مُسلما أَو كَافِرًا تحلل وَيشْتَرط نِيَّة التَّحَلُّل ويذبح هَديا حَيْثُ أحْصر وَأقله شَاة تُجزئ فِي الْأُضْحِية لقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} تَقْدِير الْآيَة فَإِن أحصرتم فلكم التَّحَلُّل وَعَلَيْكُم مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تحلل بِالْحُدَيْبِية لما صده الْمُشْركُونَ وَكَانَ محرما بِالْعُمْرَةِ وكما يشْتَرط نِيَّة التَّحَلُّل فِي ذبح الْهدى فَكَذَا الْحلق إِذا جَعَلْنَاهُ نسكا وَهُوَ الْأَصَح وَلَا بُد من تَقْدِيم الذّبْح على الْحلق لقَوْله تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَقد صرح بذلك الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره وَالله أعلم قَالَ
(وَالرَّابِع الدَّم الْوَاجِب بقتل الصَّيْد وَهُوَ على التَّخْيِير إِن كَانَ الصَّيْد مِمَّا لَهُ مثل أخرج مثله

(1/227)


من النعم وَالْغنم وَإِن لم يكن لَهُ مثل قومه وَأخرج بِقِيمَتِه طَعَاما وَيتَصَدَّق بِهِ فَإِن لم يجد صَامَ عَن كل مد يَوْمًا)
الصَّيْد إِذا قَتله الْمحرم وَكَانَ مثلِيا تخير بَين ذبح مثله وَالتَّصَدُّق بِهِ على مَسَاكِين الْحرم وَبَين أَن يقوم الْمثل دَرَاهِم وَيَشْتَرِي بهَا طَعَاما لَهُم أَو يَصُوم عَن كل مد يَوْمًا لقَوْله تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} وَهَذَا فِي الَّذِي يُسمى دم تَخْيِير وتعديل أما التَّخْيِير فَوَاضِح وَأما التَّعْدِيل فَقَوله تَعَالَى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} هَذَا فِي الْمثْلِيّ
أما غير الْمثْلِيّ فَهُوَ مُخَيّر بَين أَن يتَصَدَّق بِقِيمَتِه طَعَاما أَو يَصُوم عَن كل مد يَوْمًا كالمثلي فتخييره بَين هَاتين الخصلتين وَالْعبْرَة فِي هَذِه الْقيمَة بِموضع الْإِتْلَاف لَا بِمَكَّة على الْأَصَح قِيَاسا على كل متْلف بِخِلَاف الصَّيْد الْمثْلِيّ فَإِن الْأَصَح فِيهِ إعتبار الْقيمَة بِمَكَّة يَوْم الْإِخْرَاج لِأَنَّهَا مَحل الذّبْح فَإِذا عدل عَنهُ إِلَى الْقيمَة إعتبرنا مَكَانَهُ فِي ذَلِك الْوَقْت وَقَول الشَّيْخ من النعم وَالْغنم المُرَاد بِالنعَم الْبدن وَإِن كَانَ اسْم النعم يصدق عَلَيْهَا وعَلى الْبَقر وَالْغنم كَمَا مر فِي الزَّكَاة وَفِي الغزال غزال وَيدل لذَلِك الْآيَة الْكَرِيمَة وَفعل الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ أَلا ترى قَوْله تَعَالَى {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فَلَمَّا قيد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالنعَم انْصَرف عَن الْجِنْس إِلَى الصُّورَة من النعم وَقد حكم جمع من الصَّحَابَة فِي غير مرّة فِي النعامة ببدنة وَفِي حمَار الْوَحْش وبقرة ببقرة وَقد قضى بذلك الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ وَقيل إِنَّمَا قضوا بِهِ فِي الْحمار وقيست الْبَقَرَة عَلَيْهِ وَفِي الضبع كَبْش أخبر بِهِ جَابر رَضِي الله عَنهُ عَن قَضَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَذَا قضى بِهِ جمع من الصَّحَابَة والضبع الْأُنْثَى وَلَا يُقَال ضبعة وَالذكر ضبعان بِكَسْر الضَّاد وَإِسْكَان الْبَاء وقضت الصَّحَابَة فِي الغزال بعنز وَفِي الأرنب عنَاق حكم بذلك عمر رَضِي الله عَنهُ وَعَطَاء والعناق الانثى من الْمعز إِذا لم يكمل سنة وَالذكر جدي وَفِي

(1/228)


الصَّغِير صَغِير وَفِي الْكَبِير كَبِير وَفِي الذّكر ذكر وَفِي الأثنى أُنْثَى وَفِي الصَّحِيح صَحِيح وَفِي المكسور مكسور رِعَايَة فِي كل ذَلِك للمماثلة الَّتِي اقتضتها الْآيَة وَالله أعلم قَالَ
(وَالْخَامِس الدَّم الْوَاجِب بِالْوَطْءِ وَهُوَ على التَّرْتِيب بَدَنَة فَإِن لم يجد فبقرة فَإِن لم يجد فسبع من الْغنم فَإِن لم يجد قوم الْبَدنَة وَيَشْتَرِي بِقِيمَتِهَا طَعَاما وَيتَصَدَّق بِهِ فَإِن لم يجد صَامَ عَن كل مد يَوْمًا)
هَذَا هُوَ الدَّم الْخَامِس وَهُوَ دم الْجِمَاع وَفِيه اخْتِلَاف كثير جدا للأصحاب وَالْمذهب أَنه دم تَرْتِيب وتعديل فَتجب الْبَدنَة أَولا فَإِن عجز عَنْهَا فبقرة فَإِن عجز عَنْهَا فسبع من الْغنم فَإِن عجز قوم الْبَدنَة بِدَرَاهِم وَالدَّرَاهِم بِطَعَام وَتصدق بِهِ فَإِن عجز صَامَ عَن كل مد يَوْمًا وَاحْتج لوُجُوب الْبَدنَة بِأَن عمر وَابْنه عبد الله رَضِي الله عَنْهُمَا أفتيا بذلك وَكَذَا ابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُمَا وَأما الرُّجُوع إِلَى الْبَقَرَة والسبع من الْغنم لِأَنَّهُمَا فِي الْأُضْحِية كالبدنة وَأما الرُّجُوع إِلَى الْإِطْعَام فَلِأَن الشَّرْع عدل فِي جَزَاء الصَّيْد من الْحَيَوَان إِلَى الْإِطْعَام فَرجع إِلَيْهِ هُنَا عِنْد الْعذر فَلَو تصدق بِالدَّرَاهِمِ لم يجزه وَبِأَيِّ مَوضِع تعْتَبر الْقيمَة فِيهِ أوجه قيل بمنى وَقيل بِمَكَّة فِي أغلب الْأَوْقَات وَالثَّالِث بِموضع مُبَاشرَة السَّبَب وَالَّذِي جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب أَنه بِسعْر مَكَّة فِي حَال الْوُجُوب وَأما الَّذِي يدْفع إِلَى كل مِسْكين فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا فِي الرَّوْضَة أَنه غير مُقَدّر كَاللَّحْمِ
وَاعْلَم أَن وجوب الْبَدنَة مَحَله فِي الْجِمَاع الْمُفْسد لِلْحَجِّ أَو الْعمرَة أما إِذا جَامع بَين التحللين وَقُلْنَا لَا يفْسد الْحَج بذلك فَإِنَّهُ لَا يلْزمه بَدَنَة بل شَاة لِأَنَّهُ محرم لم يحصل بِهِ إِفْسَاد فَأشبه الاستمتاعات وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يُجزئهُ الْهَدْي وَلَا الْإِطْعَام إِلَّا فِي الْحرم وَيجزئهُ أَن يَصُوم حَيْثُ شَاءَ)
اعْلَم أَن الْهَدْي قد يكون عَن إحصار وَقد يكون عَن غَيره فَإِن كَانَ عَن إحصار فَلَا يشْتَرط بعث الدَّم الْوَاجِب بِسَبَبِهِ إِلَى الْحرم بل يذبحه حَيْثُ أحْصر لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ذبح بِالْحُدَيْبِية وَهُوَ من الْحل وَمَا سَاقه من الْهَدْي حكمه حكم دم الاحصار وَأما الدَّم الْوَاجِب بِفعل حرَام أَو ترك وَاجِب فَيخْتَص ذبحه بِالْحرم فِي الْأَظْهر لقَوْله تَعَالَى {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}

(1/229)


وَيجب صرف لَحْمه إِلَى مَسَاكِين الْحرم لِأَن الْمَقْصُود اللَّحْم إِذا لاحظ لَهُم فِي إِرَاقَة الدَّم وَلَا فرق فِي الْمَسَاكِين بَين المقيمين والطارئين نعم الصّرْف إِلَى المتوطنين أفضل فَلَو ذبح فِي الْحرم وسرق اللَّحْم سقط حكم الذّبْح وَبَقِي اللَّحْم فإمَّا أَن يذبح شَاة ثَانِيًا وَإِمَّا أَن يَشْتَرِي اللَّحْم وَلَو كَانَ يتَصَدَّق بالاطعام بَدَلا عَن الذّبْح وَجب تَخْصِيصه أَيْضا بمساكين الْحرم لِأَنَّهُ بدل اللَّحْم بِخِلَاف الصَّوْم فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهِ حَيْثُ شَاءَ وَالْفرق أَنه لَا غَرَض للْمَسَاكِين فِي الصّيام فِي الْحرم بِخِلَاف الاطعام
وَأَقل مَا يَجْزِي أَن يدْفع الْوَاجِب إِلَى ثَلَاثَة من مَسَاكِين الْحرم إِن قدر فَإِن دفع إِلَى اثْنَيْنِ مَعَ الْقُدْرَة على ثَالِث ضمن وَفِي قدر الضَّمَان وَجْهَان قيل الثُّلُث وَقيل مَا يَقع عَلَيْهِ الإسم وَتلْزَمهُ النِّيَّة عِنْد التَّفْرِقَة فَإِن فرق الطَّعَام فَهَل يتَعَيَّن لكل مِسْكين مد الرَّاجِح أَنه لَا يتَعَيَّن بل يجوز الزِّيَادَة على مد وَالنَّقْص مِنْهُ وَالله أعلم
(تَنْبِيه) كثير من المتفقهة وغالب المتصوفة وَجل الْعَوام يَعْتَقِدُونَ أَن عَرَفَات يجوز الذّبْح بهَا فَيذبحُونَ دم الْحَيَوَانَات بهَا وَكَذَا دم الْمُتَمَتّع وَالْقُرْآن ثمَّ ينقلون اللَّحْم إِلَى الْحرم وَهَذَا الذّبْح غير جَائِز فَلَا يَجْزِي فَليعلم ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز قتل صيد الْحرم وَلَا قطع شَجَره للمحل وَالْمحرم مَعًا)
صيد حرم مَكَّة على الْمحرم والحلال وَكَذَا يحرم قطع نَبَاته كاصطياد صَيْده فَيحرم التَّعَرُّض لشجره بِالْقطعِ أَو الْقلع إِذا كَانَ رطبا غير مؤذ واحترزنا بالرطب عَن الْيَابِس فَإِنَّهُ لَا يحرم وَلَا جَزَاء فِيهِ كَمَا لَو قد صيدا مَيتا نِصْفَيْنِ واحترزنا بِقَيْد غير مؤذ عَن كل شَجَرَة ذَات شوك فَإِنَّهُ يجوز كالحيوان المؤذي فَلَا يتَعَلَّق بِقطع ضَمَان على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَالْحجّة على ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة
(إِن هَذَا الْبَلَد حرَام بِحرْمَة الله لَا يعضد شَجَره وَلَا ينفر صَيْده وَلَا تلْتَقط لقطته إِلَّا من عرفهَا وَلَا يخْتَلى خلاه قَالَ الْعَبَّاس يَا رَسُول اله إِلَّا الأذخر فَإِنَّهُ لِقَيْنِهِم وَبُيُوتهمْ قَالَ إِلَّا الْإِذْخر) قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا يعضد) مَعْنَاهُ لَا يقطع وَقَوله
(وَلَا يخْتَلى خلاه) مَعْنَاهُ لَا ينتزع بِالْأَيْدِي وَغَيرهَا كالمناجل والقين الْحداد وَمعنى كَونه لبيوتهم أَنهم يسقفونها بذلك فَوق الْخشب وَذَلِكَ يحث على فضل سكناهَا وَقَول الشَّيْخ وَلَا قطع شَجَره يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه يجوز أَخذ الْوَرق وَهُوَ كَذَلِك لَكِن لَا يخبطها مَخَافَة أَن يُصِيب قشورها وَلَو

(1/230)


أَخذ غصنا وَلم يخلق فَعَلَيهِ الضَّمَان وَإِن أخلف فِي تِلْكَ السّنة لكَون الْغُصْن لطيفاً كالسواك وَغَيره فَلَا ضَمَان كالأوراق وكما يحرم قطع الشّجر كَذَا يحرم قطع نَبَات الْحرم الَّذِي لَا يستنبت لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(وَلَا يخْتَلى خلاه) والخلا هُوَ الرطب من الْحَشِيش وَإِذا حرم الْقطع حرم الْقلع من بَاب أولى نعم يجوز تَسْرِيح الْبَهَائِم فِيهِ لترعى فَلَو أَخذه لعلف الْبَهَائِم جَازَ على الْأَصَح كَمَا يجوز تسريحها فِيهِ وَقيل لَا يجوز لظَاهِر الحَدِيث فعلى الْأَصَح لَو قطعه شخص ليَبِيعهُ مِمَّن يعلفه لم يجز قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَيسْتَثْنى مَا إِذا أَخذه للدواء أَيْضا على الْأَصَح لِأَن هَذِه الْحَاجة أهم من الْحَاجة إِلَى الأذخر وَيجوز قطع الغذخر لحَاجَة السقوف وَغَيرهَا للْحَدِيث الصَّحِيح وَهل يلْحق بَقِيَّة الْحَشِيش بالأذخر لأجل السّقف وَنَحْوه قَالَ الْغَزالِيّ فِيهِ الْخلاف فِي قطعه للدواء وَمُقْتَضَاهُ رُجْحَان الْجَوَاز وَهُوَ قَضِيَّة كَلَام الْحَاوِي الصَّغِير فَإِنَّهُ جوز الْقطع للْحَاجة مُطلقًا وَلم يَخُصُّهُ بالدواء وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة قل من تعرض لَهَا وَالله أعلم
(فرع) الْأَصَح أَنه يحرم نقل تُرَاب الْحرم وأحجاره إِلَى الْحل وَكَذَا حرم الْمَدِينَة قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب فِي أَوَاخِر صفة الْحَج وَجزم بِهِ إِلَّا أَنه نقل عَن الْأَكْثَرين فِي مَحْظُورَات الْإِحْرَام أَنه يكره يَعْنِي تُرَاب الْمَدِينَة وأحجارها قَالَ الأسنائي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم على الْمَسْأَلَة وَقَالَ إِنَّه يحرم فالفتوى بِهِ وَالله أعلم قَالَ

(1/231)