كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار

كتاب الْبيُوع وَغَيرهَا من الْمُعَامَلَات
بَاب أَنْوَاع الْبيُوع
(الْبيُوع ثَلَاثَة اشياء بيع عين مُشَاهدَة فَجَائِز)
البيع فِي اللُّغَة إِعْطَاء شَيْء فِي مُقَابلَة شَيْء وَفِي الشَّرْع مُقَابلَة مَال بِمَال قابلين للتَّصَرُّف بِإِيجَاب وَقبُول على الْوَجْه الْمَأْذُون فِيهِ
وَالْأَصْل فِي مَشْرُوعِيَّة البيه الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} وَمن السّنة قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(البيعان بِالْخِيَارِ) وَغير ذَلِك وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على ذَلِك
ثمَّ إِن البيع قد يكون على عين حَاضِرَة وَقد يكون على شَيْء فِي الذِّمَّة وَهُوَ السّلم وَقد يكون على عين غَائِبَة وَحكم السّلم وَالْعين الغائبة يَأْتِي وَأما الْعين الْحَاضِرَة فَإِن وَقع العقد عَلَيْهَا بِمَا يعْتَبر فِيهِ وفيهَا صَحَّ العقد وَإِلَّا فَلَا أما الْمُعْتَبر فِي الْعين فقد ذكر الشَّيْخ بعضه وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَأما العقد فأركانه ثَلَاثَة قَالَه النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الْعَاقِد ويشمل البَائِع وَالْمُشْتَرِي والصيغة وَهِي الْإِيجَاب وَالْقَبُول والمعقود عَلَيْهِ وَله شُرُوط ستأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَيشْتَرط مَعَ هَذَا أَهْلِيَّة البَائِع وَالْمُشْتَرِي فَلَا يَصح بيع الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالسَّفِيه وَيشْتَرط أَيْضا فيهمَا الإختيار فَلَا يَصح بيع الْمُكْره إِلَّا إِذا أكره بِحَق بِأَن توجه عَلَيْهِ بيع مَاله لوفاء دين أَو شِرَاء مَال أسلم

(1/232)


فِيهِ فأكرهه الْحَاكِم على بَيْعه وشرائه لِأَنَّهُ إِكْرَاه بِحَق وَيصِح بيع السَّكْرَان وشراؤه على الْمَذْهَب وَأما الصِّيغَة فكقوله بِعْت وملكت وَنَحْوهَا وَيَقُول المُشْتَرِي قبلت أَو ابتعت وَلَا يشْتَرط توَافق اللَّفْظَيْنِ فَلَو قَالَ مَلكتك هَذَا الْعين بِكَذَا فَقَالَ اشْتريت أَو عَكسه صَحَّ وكما يشْتَرط الْإِيجَاب وَالْقَبُول يشْتَرط أَن لَا يطول الْفَصْل بَينهمَا إِمَّا بِأَن لَا تنفصل النِّيَّة أَو يفصل بِزَمَان قصير فَإِن طَال ضرّ لِأَن الطول يخرج الثَّانِي عَن أَن يكون جَوَابا والطويل مَا أشعر بإعراضه عَن الْقبُول كَذَا ذكره النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة فِي كتاب النِّكَاح وَلَو لم يُوجد إِيجَاب وَقبُول بِاللَّفْظِ وَلَكِن وَقعت معاطاة كعادات النَّاس بِأَن يُعْطي المُشْتَرِي البَائِع الثّمن فيعطيه فِي مُقَابلَة البضاعة الَّتِي يذكرهَا المُشْتَرِي فَهَل يَكْفِي ذَلِك الْمَذْهَب فِي أصل الرَّوْضَة أَنه لَا يَكْفِي لعدم وجود الصِّيغَة وَخرج ابْن سُرَيج قولا أَن ذَلِك يَكْفِي فِي المحقرات وَبِه أفتى الرَّوْيَانِيّ وَغَيره والمحقر كرطل خبز وَنَحْوه مِمَّا يعْتَاد فِيهِ المعاطاة وَقَالَ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى ووسع عَلَيْهِ ينْعَقد البيع بِكُل مَا يعده النَّاس بيعا وَاسْتَحْسنهُ الإِمَام البارع ابْن الصّباغ وَقَالَ الشَّيْخ الإِمَام الزَّاهِد أَبُو زَكَرِيَّا محيي الدّين النَّوَوِيّ قلت هَذَا الَّذِي استحسنه ابْن الصّباغ هُوَ الرَّاجِح دَلِيلا وَهُوَ الْمُخْتَار لِأَنَّهُ لم يَصح فِي الشَّرْع اشْتِرَاط اللَّفْظ فَوَجَبَ الرُّجُوع إِلَى الْعرف كَغَيْرِهِ وَمِمَّنْ اخْتَارَهُ الْمُتَوَلِي وَالْبَغوِيّ وَغَيرهمَا وَالله أعلم
قلت وَمِمَّا عَمت بِهِ الْبلوى بعثان الصغار لشراء الْحَوَائِج وأطردت فِيهِ الْعَادة فِي سَائِر الْبِلَاد وَقد تَدْعُو الضَّرُورَة إِلَى ذَلِك فَيَنْبَغِي إِلْحَاق ذَلِك بالمعاطاة إِذا كَانَ الحكم دائراً مَعَ الْعرف مَعَ أَن الْمُعْتَبر فِي ذَلِك التَّرَاضِي ليخرج بالصيغة عَن أكل مَال الْغَيْر بِالْبَاطِلِ فَإِنَّهَا دَالَّة على الرِّضَا فَإِذا وجد الْمَعْنى الَّذِي اشْترطت الصِّيغَة لأَجله فَيَنْبَغِي أَن يكون هُوَ الْمُعْتَمد بِشَرْط أَن يكون الْمَأْخُوذ يعدل الثّمن وَقد كَانَت المغيبات يبْعَثْنَ الْجَوَارِي والغلمان فِي زمن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ لشراء الْحَوَائِج فَلَا يُنكره وَكَذَا فِي زمن غَيره من السّلف وَالْخلف وَالله أعلم قَالَ
(وَبيع شَيْء مَوْصُوف فِي الذِّمَّة فَجَائِز وَبيع عين غَائِبَة لم تشاهد فَلَا يجوز)
البيع إِن كَانَ سلما فَسَيَأْتِي وَإِن كَانَ على عين غَائِبَة لم يرهَا المُشْتَرِي وَلَا البَائِع أَو لم يرهَا أحد الْمُتَعَاقدين وَفِي معنى الغائبة الْحَاضِرَة الَّتِي لم تَرَ وَفِي صِحَة بيع ذَلِك قَولَانِ
أَحدهمَا وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيم والجديد أَنه لَا يَصح وَبِه قَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وَطَائِفَة من أَئِمَّتنَا وأفتوا بِهِ مِنْهُم الْبَغَوِيّ وَالرُّويَانِيّ قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب وَهَذَا القَوْل قَالَه جُمْهُور الْعلمَاء من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالله أعلم قلت وَنَقله الْمَاوَرْدِيّ عَن جُمْهُور أَصْحَابنَا قَالَ وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي سِتَّة مَوَاضِع وَاحْتَجُّوا لَهُ بِحَدِيث إِلَّا أَنه ضَعِيف ضعفه الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَالله أعلم والجديد الْأَظْهر وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي سِتَّة مَوَاضِع أَنه لَا يَصح لِأَنَّهُ غرر وَقد نهى

(1/233)


رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع الْغرَر وَقَوله لم تشاهد يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه إِذا شوهدت وَلكنهَا كَانَت وَقت العقد غَائِبَة أَنه يجوز وَهَذَا فِيهِ تَفْصِيل وَهُوَ أَنه إِن كَانَت الْعين مِمَّا لَا تَتَغَيَّر غَالِبا كالأواني وَنَحْوهمَا أَو كَانَت لَا تَتَغَيَّر فِي الْمدَّة المتخللة بَين الرُّؤْيَة وَالشِّرَاء صَحَّ العقد لحُصُول الْعلم الْمَقْصُود ثمَّ إِن وجدهَا كَمَا رَآهَا فَلَا خِيَار لَهُ إِذْ لَا ضَرَر وَإِن وجدهَا متغيرة فَالْمَذْهَب أَن العقد صَحِيح وَله الْخِيَار وَإِن كَانَت الْعين مِمَّا تَتَغَيَّر فِي تِلْكَ الْمدَّة غَالِبا بِأَن رأى مَا يسْرع فَسَاده من الْأَطْعِمَة فَالْبيع بَاطِل وَإِن مَضَت مُدَّة يحْتَمل أَن تَتَغَيَّر فِيهَا وَألا تَتَغَيَّر أَو كَانَ حَيَوَانا فَالْأَصَحّ الصِّحَّة لِأَن الأَصْل عدم التَّغَيُّر فَإِن وجدهَا متغيرة فَلهُ الْخِيَار فَلَو اخْتلفَا فَقَالَ المُشْتَرِي تَغَيَّرت وَقَالَ البَائِع هِيَ بِحَالِهَا فَالْأَصَحّ الْمَنْصُوص أَن القَوْل قَول المُشْتَرِي مَعَ يَمِينه لِأَن البَائِع يَدعِي عَلَيْهِ الْعلم بِهَذِهِ الصّفة فَلم يقبل كَمَا لَو ادّعى عَلَيْهِ أَنه اطلع على الْعَيْب وَالله أعلم قَالَ
(وَيصِح بيع كل طَاهِر منتفع بِهِ مَمْلُوك وَلَا يَصح بيع عين نَجِسَة وَمَا لَا مَنْفَعَة فِيهِ)
اعْلَم أَن الْمَبِيع لَا بُد أَن يكون صَالحا لِأَن يعْقد عَلَيْهِ ولصلاحيته شُرُوط خَمْسَة
أَحدهَا كَونه طَاهِرا
الثَّانِي أَن يكون مُنْتَفعا بِهِ
الثَّالِث أَن يكون الْمَبِيع مَمْلُوكا لمن يَقع العقد لَهُ وَهَذِه الثَّلَاثَة ذكرهَا الشَّيْخ
الشَّرْط الرَّابِع الْقُدْرَة على تَسْلِيم الْمَبِيع
الْخَامِس كَون الْمَبِيع مَعْلُوما فَإِذا وجدت هَذِه الشُّرُوط صَحَّ البيع وَاحْترز بالطاهر عَن نجس الْعين وَقد ذكره فَلَا يَصح بيع الْخمر وَالْميتَة وَالْخِنْزِير وَالْكَلب والأصنام لقَوْل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِن الله تَعَالَى حرم بيع الْخمر وَالْميتَة وَالْخِنْزِير والاصنام) وَورد أَيْضا أَنه نهى عَن ثمن الْكَلْب وَجه الدَّلِيل أَن فِيهَا مَنَافِع الْخمْرَة تطفى بهَا النَّار وَالْميتَة تطعم للجوارح ويوقد شحمها وودكها يطلى بِهِ السفن وَالْكَلب يصيد ويحرس فَدلَّ على أَن الْعلَّة النَّجَاسَة فَأَما الْمُتَنَجس فَإِن أمكن تَطْهِيره كَالثَّوْبِ وَنَحْوه صَحَّ لِأَن جوهره طَاهِر وَإِن لم يُمكن تَطْهِيره كالدبس وَاللَّبن وَنَحْوهمَا فَلَا يَصح لانمحاقه بِالْغسْلِ وَوُجُود النَّجَاسَة وَنقل النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الْإِجْمَاع على

(1/234)


الِامْتِنَاع وَأما الادهان المتنجسة كالزيت وَنَحْوه فَهَل يُمكن تطهيرها فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا لَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(سُئِلَ عَن الْفَأْرَة تَمُوت فِي السّمن فَقَالَ إِن كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وَإِن كَانَ ذائباً فأريقوه) فَلَو أمكن تَطْهِيره لم يجز إراقته لِأَن إِضَاعَة مَال مَعَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن إِضَاعَة المَال
وَهل يجوز هبة الزَّيْت الْمُتَنَجس وَنَحْوه وَالصَّدَََقَة بِهِ عَن القَاضِي أبي الطّيب منعهما قَالَ الرَّافِعِيّ وَيُشبه أَن يكون فِيهَا مَا فِي هبة الْكَلْب من الْخلاف قَالَ النَّوَوِيّ وَيَنْبَغِي أَن يقطع بِصِحَّة الصَّدَقَة بِهِ للاستصباح وَنَحْوه وَقد جزم الْمُتَوَلِي بِأَن يجوز نقل الْيَد فِيهِ بِالْوَصِيَّةِ وَغَيرهَا وَالله أعلم
وَأما الشَّرْط الثَّانِي وَهُوَ أَن يكون مُنْتَفعا بِهِ فاحترز بِهِ عَمَّا لَا مَنْفَعَة فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَصح بَيْعه وَلَا شِرَاؤُهُ وَأخذ المَال فِي مُقَابلَته من بَاب أكل المَال بِالْبَاطِلِ وَقد نهى الله تَعَالَى عَنهُ فَمن ذَلِك بيع العقارب والحيات والنمل وَنَحْو ذَلِك وَلَا نظر إِلَى مَنَافِعهَا المعدودة من خواصها وَفِي معنى هَذِه السبَاع الَّتِي لَا تصلح للاصطياد والقتال عَلَيْهَا كالأسد وَالذِّئْب والنمر وَلَا نظر الى اعتناء الْمُلُوك السفلة المشغولين باللهو بهَا وَكَذَا لَا يجوز بيع الْغُرَاب وَنَحْوه وَلَا نظر إِلَى الريش لأجل النبل لِأَنَّهُ ينجس بالانفصال وَكَذَا لَا يجوز بيع السمُوم وَلَا نظر إِلَى دسه فِي طَعَام للْكفَّار وَأما مَا يَفْعَله الْمُلُوك فِي دس طَعَام الْمُسلمين فَهُوَ من الْأَفْعَال الخبيثة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} الْآيَة
وَأما آلَات اللَّهْو المشغلة عَن ذكر الله فَإِن كَانَت بعد كسرهَا لَا تعد مَالا كالمتخذة من الْخشب وَنَحْوه فبيعها بَاطِل لِأَن مَنْفَعَتهَا مَعْدُومَة شرعا وَلَا يفعل ذَلِك إِلَّا أهل الْمعاصِي وَذَلِكَ كالطنبور والمزمار والرباب وَغَيرهَا وَإِن كَانَت بعد كسرهَا ورضها تعد مَالا كالمتخذة من الْفضة وَالذَّهَب وَكَذَا الصُّور وَبيع الْأَصْنَام فَالْمَذْهَب الْقطع بِالْمَنْعِ الْمُطلق وَبِه أجَاب عَامَّة الْأَصْحَاب لِأَنَّهَا على هيئتها آلَة الْفسق وَلَا يقْصد مِنْهَا غَيره وَأما الْجَارِيَة الْمُغنيَة الَّتِي تَسَاوِي ألفا بِلَا غناء إِذا إشتراها بِأَلفَيْنِ هَل يَصح قَالَ الأودني يَصح وَقَالَ المحمودي بِالْبُطْلَانِ وَقَالَ أَبُو زيد إِن قصد الْغناء بَطل وَإِلَّا فَلَا
قلت فِي حَدِيث أنس رَضِي الله عَنهُ
(من جلس إِلَى قينة يستمع مِنْهَا صب فِي أُذُنَيْهِ الآنك)

(1/235)


ولآنك بِالْمدِّ وَضم النُّون هُوَ الرصاص الْمُذَاب رَوَاهُ ابْن قُتَيْبَة وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
(يمسح أنَاس من أمتِي فِي آخر الزَّمَان قردة وَخَنَازِير قَالُوا يَا رَسُول الله أَلَيْسَ يشْهدُونَ أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله قَالَ بلَى وَلَكنهُمْ اتَّخذُوا المعازف والقينات والدفوف فَبَاتُوا على لهوهم ولعبهم فَأَصْبحُوا وَقد مسخوا قردة وَخَنَازِير) وَأخرج البُخَارِيّ نَحوه وَالله أعلم وَيجْرِي الْخلاف الْمَذْكُور فِي الْجَارِيَة الْمُغنيَة وَفِي كَبْش النطاح والديك للهراش وَالله أعلم
وَأما الشَّرْط الثَّالِث وَهُوَ أَن يكون الْمَبِيع مَمْلُوكا لمن يَقع عَلَيْهِ العقد لَهُ فَإِن بَاشر العقد لنَفسِهِ فَلْيَكُن لَهُ وَإِن بَاشرهُ لغيره إِمَّا بِولَايَة أَو بوكالة فَلْيَكُن لذَلِك الْغَيْر فَلَو بَاعَ مَال غَيره بِلَا ولَايَة وَلَا وكَالَة فالجديد الْأَظْهر بطلَان البيه لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا طَلَاق إِلَّا فِيمَا يملك وَلَا عتاق إِلَّا فِيمَا يملك وَلَا بيع إِلَّا فِيمَا يملك وَلَا وَفَاء بِنذر إِلَّا فِيمَا يملك) وَالْقَدِيم أَنه مَوْقُوف إِن جَازَ مَالِكه نفذ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا مَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْجَدِيد أَيْضا وَاحْتج لَهُ بِحَدِيث عُرْوَة فَإِنَّهُ قَالَ
(دفع إِلَيّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دِينَارا لأشتري لَهُ شَاة فاشتريت لَهُ شَاتين فَبِعْت إِحْدَاهمَا بِدِينَار وَجئْت بِالشَّاة وَالدِّينَار إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت لَهُ مَا كَانَ من أَمْرِي فَقَالَ بَارك الله لَك فِي صَفْقَة يَمِينك) قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ قوي وَذكره الْمحَامِلِي والشاشي والعمراني وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْبُوَيْطِيّ وَالله أعلم
قلت وَنَصّ عَلَيْهِ فِي الْأُم فِي بَاب الْغَضَب وَالله أعلم
وَشَرطه إجَازَة من يملك التَّصَرُّف وَقت العقد حَتَّى لَو بَاعَ مَال الطِّفْل وَبلغ وَأَجَازَ لم ينفذ وَكَذَا لَو بَاعَ مَال الْغَيْر ثمَّ ملكه وَأَجَازَ لم ينفذ صرح بِهِ الرَّافِعِيّ قَالَ وَالْقَوْلَان جاريان فِيمَا لَو زوج أمة الْغَيْر أَو ابْنَته أَو طلق منكوحته أَو أعتق عَبده أَو أجر دَاره أَو وَقفهَا بِغَيْر إِذْنه وَضبط الإِمَام مَحل الْقَوْلَيْنِ بِأَن يكون العقد يقبل الاستبانة وَالله أعلم
وَأما الشَّرْط الرَّابِع وَهُوَ الْقُدْرَة على التَّسْلِيم فَلَا بُد مِنْهُ سَوَاء الْقُدْرَة الحسية أَو الشَّرْعِيَّة فَلَو لم يقدر على التَّسْلِيم حسيا كَبيع الضال والآبق فَلَا يَصح لِأَن الْمَقْصُود الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ وَهُوَ مَفْقُود

(1/236)


وَلَو بَاعَ الْعين الْمَغْصُوبَة مِمَّا لَا يقدر على انتزاعها من الْغَاصِب فَلَا يَصح وَإِن قدر فَالْأَصَحّ الصِّحَّة لحُصُول الْمَقْصُود بِالْمَبِيعِ ثمَّ إِن علم المُشْتَرِي الْحَال فَلَا خِيَار لَهُ وَلَو عجز المُشْتَرِي عنالانتزاع من الْغَاصِب لضعف عرض لَهُ أَو قُوَّة عرضت للْغَاصِب فَلهُ الْخِيَار على الصَّحِيح وَإِن كَانَ جَاهِلا حَال العقد فَلهُ الْخِيَار على الصَّحِيح وَلَو بَاعَ الْآبِق مِمَّن سهل عَلَيْهِ رده فَفِيهِ الْوَجْهَانِ فِي الْمَغْصُوب وَيجوز تَزْوِيج الآبقة والمغصوبة واعتاقهما وَلَا يجوز بيع الطير فِي الْهَوَاء والسمك فِي المَاء للغرر وَلَو بَاعَ الْحمام طائراً اعْتِمَادًا على عوده لَيْلًا فَوَجْهَانِ كَمَا فِي النَّحْل أصَحهمَا عِنْد إِمَام الْحَرَمَيْنِ الصِّحَّة كَالْعَبْدِ الْمَبْعُوث فِي شغل وأصحهما عِنْد الْجُمْهُور الْمَنْع إِذْ لَا وثوق بعودها لعدم عقلهَا وَصحح النَّوَوِيّ فِي النَّحْل الصِّحَّة وَلَو بَاعَ نصف سيف وَنَحْوه معينا لم يَصح لِأَن تَسْلِيمه لَا يَصح إِلَّا بكسره وَفِيه نقص وتضييع لِلْمَالِ وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ بِخِلَاف مَا لَو بَاعه جُزْءا مشَاعا فَإِنَّهُ يَصح وَيصير شَرِيكا وَكَذَا حكم الثَّوْب النفيس الَّذِي ينقص بِالْقطعِ وَلَو كَانَ الثَّوْب غليظاً لَا ينقص بِالْقطعِ صَحَّ البيع على الصَّحِيح إِذْ لَا مَحْذُور وَالله أعلم هَذَا كُله فِي الْمَانِع الْحسي أما الْمَانِع الشَّرْعِيّ فكبيع الشَّيْء الْمَرْهُون إِذن الْمُرْتَهن إِذا كَانَ الْمَرْهُون مَقْبُوضا لِأَنَّهُ مَمْنُوع من تَسْلِيمه شرعا إِذْ لَو جَازَ ذَلِك لبطلت فَائِدَة الرَّهْن وَالله أعلم
وَأما الشَّرْط الْخَامِس وَهُوَ كَون الْمَبِيع مَعْلُوما فَلَا بُد مِنْهُ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(نهي عَن بيع الْغرَر) نعم لَا يشْتَرط الْعلم بِهِ من كل وَجه بل يشْتَرط الْعلم بِعَيْنِه وَقدره وَصفته أما الْمعِين فَمَعْنَاه أَن يَقُول بِعْتُك هَذَا وَنَحْوه بِخِلَاف مَا لَو قَالَ بِعْتُك عبدا من عَبِيدِي أَو شَاة من هَذِه الْغنم فَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ غير معِين وَهُوَ غرر وَكَذَا لَو قَالَ بِعْتُك هَذَا القطيع إِلَّا وَاحِدَة لَا يَصح وَسَوَاء تَسَاوَت الْقيمَة فِي العبيد وَالْغنم أم لَا وَأما الْقدر فَلَا بُد من مَعْرفَته حَتَّى لَو قَالَ بِعْتُك ملْء هَذِه الغرارة حِنْطَة أَو بزنة هَذِه الصَّخْرَة زبيباً لم يَصح البيع وَكَذَا لَو قَالَ بِعْتُك بِمثل مَا بَاعَ فلَان سلْعَته أَو قَالَ بِعْتُك بالسعر الَّذِي يُسَاوِي فِي السُّوق فَلَا يَصح لوُجُود الْغرَر بِخِلَاف مَا لَو قَالَ بِعْتُك هَذَا الْقَمْح كل كيل بِكَذَا فَإِنَّهُ يَصح وَإِن كَانَت جملَة الْقَمْح مَجْهُولَة فِي الْحَال لِأَن الْجَهَالَة انْتَفَت بِذكر الْكَيْل وَلَو قَالَ بِعْتُك من هَذِه الصُّبْرَة كل صَاع بدرهم لم يَصح على الصَّحِيح لِأَن الْمَبِيع مَجْهُول وَذكر مُقَابِله كل كيل بدرهم لَا يُخرجهُ عَن الْجَهَالَة
وَاعْلَم أَن قَوْلنَا ملْء هَذِه الغرارة حِنْطَة أَو بزنة هَذِه الصَّخْرَة زبيباً مَحَله إِذا كَانَ الْمَعْقُود عَلَيْهِ فِي الذِّمَّة أما إِذا كَانَ حَاضرا بِأَن قَالَ بِعْتُك ملْء هَذِه الغرارة من هَذِه الْحِنْطَة أَو بزنة هَذِه الصَّخْرَة من هَذَا الزَّبِيب فَإِنَّهُ يَصح على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا غرر وَلَا مَكَان الشُّرُوع فِي الْوَفَاء عِنْد العقد وَقد صرح الرَّافِعِيّ فِي بَاب السّلم بِهَذَا الحكم وَالتَّعْلِيل وَالله أعلم

(1/237)


وَأما الصّفة فَفِيهَا مسَائِل مِنْهَا أَن استقصاء الْأَوْصَاف على الْحَد الْمُعْتَبر فِي السّلم يقوم مقَام الرُّؤْيَة وَكَذَا سَماع وَصفه بطرِيق التَّوَاتُر فِيهِ خلاف الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ أَنه لَا يَصح إِذْ الْوَصْف فِي مثل هَذَا لَا يقوم مقَام الرُّؤْيَة وَمِنْهَا رُؤْيَة بعض الْمَبِيع دون بعض فَإِن كَانَ مِمَّا يسْتَدلّ بِرُؤْيَة بعضه على الْبَاقِي صَحَّ البيع مثل رُؤْيَة ظَاهر صبرَة الْقَمْح وَنَحْوهَا وَلَا خِيَار لَهُ إِذا رأى بَاطِنهَا إِلَّا إِذا خَالف ظَاهرهَا وَفِي معنى الْحِنْطَة وَالشعِير صبرَة الْجَوْز واللوز وَنَحْوهمَا والدقيق فَلَو كَانَ مِنْهَا شَيْء فِي وعَاء فَرَأى أَعْلَاهُ وَلم ير أَسْفَله أَو رأى السّمن وَالزَّبِيب وَبَقِيَّة الْمَائِعَات فِي ظروفها كفى وَلَا يَكْفِي رُؤْيَة ظَاهر حَبَّة الرُّمَّان والبطيخ والسفرجل بل لَا بُد من رُؤْيَة كل وَاحِدَة مِنْهَا لاختلافها وَأما التَّمْر فَإِن لم يلزق حباته فحبته كحبة الْجَوْز واللوز وَإِن التزقت القوصرة كفى رُؤْيَة أَعْلَاهَا على الصَّحِيح وَأما الْقطن فِي الْعدْل فَهَل يَكْفِي رُؤْيَة أَعْلَاهُ أم لَا بُد من رُؤْيَة جَمِيعه فِيهِ خلاف حَكَاهُ الصَّيْمَرِيّ وَقَالَ الْأَشْبَه عِنْدِي أَنه كقوصرة التَّمْر وَمِنْهَا مَسْأَلَة الْعين كَمَا إِذا كَانَ عِنْده قَمح فَأخذ شَيْئا مِنْهُ وَأرَاهُ لغيره كَمَا يَفْعَله النَّاس فَإِن اعْتمد فِي الشِّرَاء على رؤيتها نظر إِن قَالَ بِعْتُك من هَذَا النَّوْع كَذَا فَهُوَ بَاطِل لِأَنَّهُ لَا يُمكن انْعِقَاده بيعا لِأَنَّهُ لم يتَعَيَّن بيعا وَلَا سلما لعدم الْوَصْف وَإِن قَالَ بِعْتُك الْحِنْطَة الَّتِي فِي هَذَا الْبَيْت وَهَذِه الْعين مِنْهَا نظر إِن لم تدخل الْعين فِي البيع لم يَصح على اأصح لِأَنَّهُ لم ير الْمَبِيع وَلَا شَيْئا مِنْهُ وَإِن أدخلها فِيهِ صَحَّ ثمَّ شَرطه أَن يرد الْعين إِلَى الصُّبْرَة قبل البيع فَإِن أَدخل الْعين من غير رد فَإِنَّهُ يكون كَمَا بَاعَ عينين رأى أَحدهمَا لِأَن المرئي متميز عَن غير المرئي كَذَا قَالَه الْبَغَوِيّ وَمِنْهَا الرُّؤْيَة فِي كل شَيْء بِحَسب اللَّائِق بِهِ فَفِي شِرَاء الدّور لَا بُد من رُؤْيَة الْبيُوت والسقف والسطوح والجدران دَاخِلا وخارجاً والمستحم والبالوعة وَفِي الْبُسْتَان يشْتَرط رُؤْيَة مسايل المَاء وَفِي اشْتِرَاط رُؤْيَة طَرِيق الدَّار ومجرى المَاء الَّذِي تَدور بِهِ الرَّحَى وَجْهَان الْأَصَح فِي شرح الْمُهَذّب الِاشْتِرَاط لاخْتِلَاف الْغَرَض بِهِ وَيشْتَرط فِي رُؤْيَة العَبْد رُؤْيَة الْوَجْه والأطراف وَلَا يجوز رُؤْيَة الْعَوْرَة وَفِي بَاقِي الْبدن وَجْهَان أصَحهمَا الِاشْتِرَاط وَفِي الْجَارِيَة أوجه أَصَحهَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة أَنَّهَا كَالْعَبْدِ وَكَذَا يشْتَرط رُؤْيَة الشّعْر على الْأَصَح وَيشْتَرط فِي الدَّوَابّ رُؤْيَة مقدم الدَّابَّة ومؤخرها وقوائمها وَيشْتَرط رفع السرج والأكاف والجل وَلَا يشْتَرط جري الْفرس على الصَّحِيح وَيشْتَرط فِي الثَّوْب المطوي نشره ثمَّ إِذا نشر الثَّوْب وَكَانَ صفيقاً كالديباج المنقوش والبسط الزرابي وَنَحْوه فَلَا بُد من رُؤْيَة وجهيه مَعًا وَإِن كَانَ لَا يخْتَلف وجهاه كالكرباس كفى رُؤْيَة أحد وجهيه فِي الْأَصَح وَلَا بُد فِي شِرَاء الْمُصحف والكتب من تقليب الأوراق ورؤية جَمِيعهَا وَفِي الْوَرق الْأَبْيَض لَا بُد من رُؤْيَة جَمِيع الطاقات وَأما الفقاع فَقَالَ الْعَبَّادِيّ يفت رَأسه وَينظر فِيهِ بِقدر الْإِمْكَان ليَصِح بَيْعه وَأطلق الْغَزالِيّ فِي الْأَحْيَاء الْمُسَامحَة بِهِ قَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح قَول الْغَزالِيّ وَالله أعلم قَالَ

(1/238)


بَاب الرِّبَا فصل وَيحرم الرِّبَا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة والمطعومات وَلَا يجوز بيع الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْفضة بِالْفِضَّةِ إِلَّا متماثلاً نَقْدا
الرِّبَا بِالْقصرِ وَهُوَ فِي اللُّغَة الزِّيَادَة وَفِي الشَّرْع هُوَ الزِّيَادَة فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة وَسَائِر المطعومات قَالَه ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة وَفِيه نظر وَقَالَ فِي الْمطلب هُوَ أَخذ مَال مَخْصُوص بِغَيْر مَال وَفِيه نظر أَيْضا
وَهُوَ حرَام بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة لقَوْله تَعَالَى {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لعن الله آكل الرِّبَا وموكله وَشَاهده وكاتبه) ثمَّ الرِّبَا لَا يحرم إِلَّا فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة والمطعومات قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْوَرق بالورق وَلَا الْبر بِالْبرِّ وَلَا الشّعير بِالشَّعِيرِ وَلَا التَّمْر بِالتَّمْرِ وَلَا الْملح بالملح إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء عينا بِعَين يدا بيد وَلَكِن بيعوا الذَّهَب بالورق وَالْوَرق بِالذَّهَب وَالْبر بِالشَّعِيرِ وَالشعِير بِالْبرِّ وَالتَّمْر بالملح وَالْملح بِالتَّمْرِ كَيفَ شِئْتُم فَمن زَاد أَو اسْتَزَادَ فقد أربى) فَدلَّ الحَدِيث على مَا ذكره الشَّيْخ فِي بيع الذَّهَب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ من اشْتِرَاط التَّمَاثُل والحلول وَالْقَبْض فِي الْمجْلس وكما تشرط هَذِه الثَّلَاثَة فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة كَذَلِك تشْتَرط فِي المتماثلات من الْأَطْعِمَة فَيشْتَرط فِي بيع الْقَمْح بالقمح وَنَحْوه التَّمَاثُل كمد بِمد والحلول لَا يجوز التَّأْجِيل والتقابض فِي الْمجْلس وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا بيع مَا ابتاعه حَتَّى يقبضهُ)
تَقْدِير الْكَلَام وَلَا يجوز بيع الَّذِي ابتاعه حَتَّى يقبضهُ سَوَاء كَانَ عقارا أَو غَيره أذن فِيهِ البَائِع أم لَا وَسَوَاء أعطي المُشْتَرِي الثّمن أم لَا وَحجَّة ذَلِك مَا روى حَكِيم بِمَ حزَام بالزاي المنقوطة رَضِي الله عَنهُ قَالَ قلت يَا رَسُول الله إِنِّي أبتاع هَذِه الْبيُوع فَمَا يحل لي وَمَا يحرم عَليّ قَالَ يَا ابْن أخي
(لَا تبيعنن شَيْئا حَتَّى تقبضه وَفِيه أَحَادِيث آخر وَذكر

(1/239)


الْعلمَاء لَهُ علتين إِحْدَاهمَا ضعف الْملك بِدَلِيل أَن البيع يَنْفَسِخ بِتَلف الْمَبِيع الْعلَّة الثَّانِيَة توالي الضمانين على شَيْء وَاحِد فِي زمن وَاحِد فَإِنَّهُ لَو صَحَّ بَيْعه لَكَانَ مَضْمُونا للْمُشْتَرِي ومضموناً عَلَيْهِ وَيلْزمهُ أَيْضا أَن يكون الْمَبِيع مَمْلُوكا للشخصين فِي زمن وَاحِد كَذَا قَالُوهُ وَلَا فرق بَين بَيْعه لغير البَائِع أَو للْبَائِع لعُمُوم الْخَبَر وكما لَا يجوز بيع الْمَبِيع قبل قَبضه لَا يجوز غَيره من الْمُعَاوَضَات كجعله صَدَاقا أَو أُجْرَة أَو رَأس مَال سلم أَو صلح وَكَذَا لَا يجوز هِبته وإجارته وَرَهنه نعم يَصح إِعْتَاقه على الْأَصَح لقُوَّة الْعتْق وَكَذَا الِاسْتِيلَاد وَأما وَقفه قَالَ الْمُتَوَلِي إِن اشترطنا فِيهِ الْقبُول فَهُوَ كَالْبيع وَإِلَّا فَهُوَ كَالْعِتْقِ وَصحح النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب أَنه كالإعتاق وتزويج الْأمة كَالْعِتْقِ وَقَالَ ابْن خيران يجوز قَضَاء الدّين بِهِ وَاعْلَم أَن الثّمن كَالْمَبِيعِ فَلَا يَبِيعهُ البَائِع قبل قَبضه وَبَقِيَّة مَا ذَكرْنَاهُ يعلم مِمَّا تقدم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ)
يحرم بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ من جنسه لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(نهى عَن أَن تبَاع الشَّاة بِاللَّحْمِ) وَقيل يجوز وَإِن كَانَ من غير جنسه فَإِن كَانَ من مَأْكُول فَقَوْلَانِ الْأَظْهر أَنه لَا يجوز أَيْضا لعُمُوم الْخَبَر وَقيل يجوز قِيَاسا على بيع اللَّحْم بِاللَّحْمِ وَإِن كَانَ غير مَأْكُول فَفِيهِ خلاف أَيْضا وَالرَّاجِح التَّحْرِيم لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهي عَن بيع اللَّحْم بِالْحَيَوَانِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد لكنه مُرْسل والمرسل مَقْبُول عِنْد الشَّافِعِي إِذا اعتضد بِأحد سَبْعَة أَشْيَاء إِمَّا بِالْقِيَاسِ أَو قَول صَحَابِيّ أَو فعله أَو قَول الْأَكْثَرين أَو ينتشر من غير دَافع أَو يعْمل بِهِ أهل الْعَصْر أَولا تُوجد دلَالَة سواهُ أَو بمرسل آخر أَو مُسْند وَقد أسْندهُ التِّرْمِذِيّ وَالْبَزَّار وَلَا فرق فِي ذَلِك الْمسند بَين أَن يكون صَحِيحا أم لَا وَقيل يجوز لِأَن التَّحْرِيم فِي الْمَأْكُول لأجل بيع مَال الرِّبَا بِأَصْلِهِ الْمُشْتَمل عَلَيْهِ وَلم يُوجد هُنَا وَمن هَذَا الْمَعْنى استنبط تَحْرِيم بيع الْحِنْطَة بدقيقها والسمسم بِكَسْبِهِ وَنَحْو ذَلِك وَفِي إِلْحَاق الشَّحْم والآلية وَالْقلب والكلية والرئة بالحم وَجْهَان أصَحهمَا نعم وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَنه يجوز بيع الْحَيَوَان بِالْحَيَوَانِ سَوَاء كَانَ من جنسه أم لَا وَسَوَاء تَسَاويا كبعير بِبَعِير أَو تفاضلا كَبيع بَعِيرَيْنِ بِبَعِير وَهُوَ كَذَلِك وَهَذَا إِذا لم يشْتَمل الْحَيَوَان على مَا فِيهِ الرِّبَا كشاة فِي ضرْعهَا لبن إِذا بِيعَتْ بِشَاة لَيْسَ فِي ضرْعهَا لبن فِي جَوَاز ذَلِك وَجْهَان أرجحهما التَّحْرِيم وَلَو بَاعَ بدجاجة فِيهَا بيض فَهُوَ كَبيع الشَّاة بِالشَّاة وَفِي ضرْعهَا لبن وَجزم القَاضِي أَبُو الطّيب بِالْمَنْعِ فِي الدَّجَاجَة وَالله أعلم قَالَ

(1/240)


(وَيجوز بيع الذَّهَب بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضلا نَقْدا وَكَذَا المطعومات لَا يجوز بيع الْجِنْس مِنْهَا بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا وَيجوز بيع الْجِنْس مِنْهَا بِغَيْرِهِ مُتَفَاضلا نَقْدا)
إِذا اشْتَمَل عقد البيع على شَيْئَيْنِ نظر فَإِن اتحدا فِي الْجِنْس وَالْعلَّة كالذهب بِالذَّهَب وَالْفِضَّة بِالْفِضَّةِ وَالْبر بِالْبرِّ وَالتَّمْر بِالتَّمْرِ اشْترط لصِحَّة العقد وَخُرُوجه عَن كَونه رَبًّا ثَلَاثَة أُمُور التَّمَاثُل والحلول والتقايض الْحَقِيقِيّ فِي الْمجْلس فَلَو اخْتَلَّ وَاحِد مِنْهُمَا بَطل العقد فَلَو بَاعَ درهما بدرهم ودانق حرم وَيُسمى هَذَا رَبًّا الْفضل قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْوَرق بالورق إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء) وَالْعلَّة كَونهمَا قيم الْأَشْيَاء غَالِبا وَكَذَا المطعوم فَلَا يجوز بيع مد قَمح وحفنة لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(الطَّعَام بِالطَّعَامِ مثلا بِمثل) وَالْعلَّة فِي ذَلِك الطّعْم وَإِن اخْتلف الْجِنْس وَلَكِن اتّحدت عِلّة الرِّبَا كالذهب وَالْفِضَّة وَالْحِنْطَة وَالشعِير جَازَ التَّفَاضُل وَاشْترط الْحُلُول والتقايض لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِذا اخْتلفت هَذِه الْأَصْنَاف فبيعوا كَيفَ شِئْتُم إِذا كَانَ يدا بيد) وَإِن اخْتلف الْجِنْس وَالْعلَّة كالفضة وَالْبر فَلَا حجر فِي شَيْء وَلَا يشْتَرط شَيْء من هَذِه الْأُمُور ثمَّ الْمُمَاثلَة تعْتَبر فِي الْمكيل كَيْلا وَفِي الْمَوْزُون وزنا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا تَبِيعُوا الذَّهَب بِالذَّهَب وَلَا الْوَرق بالورق إِلَّا وزنا بِوَزْن) وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(مَا وزن مثل بِمثل إِذا كَانَ نوعا وَاحِدًا وَمَا كيل فَمثل ذَلِك فَإِذا اخْتلف النوعان فَلَا بَأْس) فَلَو بَاعَ الْمكيل بِالْوَزْنِ أَو عَكسه لم يَصح وَالْمرَاد بِالْكَيْلِ المتماثل سَوَاء كَانَ مُعْتَادا أَو غير مُعْتَاد كقصعة غير معيرة وَكَذَا الْمِيزَان كالطيار والقبان وَغَيرهمَا فَلَو جهلنا كَونه مَكِيلًا أَو مَوْزُونا فَفِيهِ أوجه الصَّحِيح الرُّجُوع فِيهِ إِلَى عَادَة الْبَلَد لِأَن الشَّيْء إِذا لم يكن محدوداً فِي الشَّرْع كَانَ الرُّجُوع فِيهِ إِلَى الْعَادة كالقبوض والحروز وَغَيرهمَا وَقيل يعْتَبر الْكَيْل لِأَنَّهُ أَعم وَقيل الْوَزْن لِأَنَّهُ أقل تَفَاوتا وَقيل بالتخيير للتساوي

(1/241)


(فرع) الْفُلُوس إِذا راجت رواج الذَّهَب وَالْفِضَّة هَل يجْرِي فِيهَا الرِّبَا الصَّحِيح أَنه لَا رَبًّا فِيهَا لانْتِفَاء الثمنية الْغَالِبَة فِيهَا وَلَا يتَعَدَّى الرِّبَا إِلَى غير الْفُلُوس من الْحَدِيد والنحاس والرصاص وَغَيرهمَا بِلَا خلاف وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز بيع الْغرَر)
الأَصْل فِي ذَلِك أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(نهى عَن بيع الْغرَر) وَالْغرر مَا انطوى عَنَّا عاقبته ثمَّ الْغرَر تَحْتَهُ صور لَا تكَاد تَنْحَصِر فَنَذْكُر نبذة مِنْهَا لتعرف بهَا غَيرهَا فَمن ذَلِك بيع الْبَعِير الناد وَكَذَا الجاموس المتوحش وَالْعَبْد الْمُنْقَطع الْخَبَر والسمك فِي المَاء الْكثير وكبيع الثَّمَرَة الَّتِي لم تخلق وَالزَّرْع فِي سنبله وَكَذَا بيع اللَّحْم قبل سلخ الْجلد وَكَذَا بيع الْقطن فِي جوزه بَاطِل وَإِن كَانَ بعد التشقق فِي جوزه وَإِن كَانَ على الأَرْض عِنْد أبي حَامِد وَكَذَا لَا يَصح بيع اللَّبن فِي الضَّرع لِأَنَّهُ مَجْهُول الْمِقْدَار لاخْتِلَاف الضَّرع رقة وغلظاً وَكَذَا لَا يجوز بيع الْحمل فِي الْبَطن وَكَذَا لَا يَصح بيع الْمسك فِي الْفَأْرَة قبل فتقها فَلَو فتح رَأسهَا وَرَأى الْمسك قَالَ الْمَاوَرْدِيّ يَصح جزَافا وبالوزن وَقَالَ الْمُتَوَلِي إِن لم يتَفَاوَت ثخن الْفَأْرَة وَرَأى جوانبها صَحَّ وَإِلَّا فَلَا وَالَّذِي صدر بِهِ الرَّافِعِيّ أَن بيع الْمسك فِي الْفَأْرَة بَاطِل مُطلقًا سَوَاء بيع مَعهَا أَو بِدُونِهَا وَسَوَاء فتح رَأسهَا أم لَا وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك وَشبهه بِاللَّحْمِ فِي الْجلد قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَته قَالَ أَصْحَابنَا لَو بَاعَ السّمك الْمُخْتَلط بِغَيْرِهِ لم يَصح لِأَن المقصودمجهول كَمَا لَا يَصح بيع اللَّبن الْمَخْلُوط بِالْمَاءِ وَالله أعلم
وكما يضر الْجَهْل بِالْمَبِيعِ كَذَا يضر الْجَهْل بِقدر الثّمن وبالمثمن إِذا كَانَ فِي الْبَلَد نقدان فَأكْثر وَهِي رائجة وَيُقَاس بِمَا ذكرنَا بَاقِي صور الْغرَر وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْخِيَار فصل والمتبايعان بِالْخِيَارِ مالم يَتَفَرَّقَا وَلَهُمَا أَن يشترطا الْخِيَار إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام
الْخِيَار كَمَا ذكره الشَّيْخ نَوْعَانِ خِيَار مجْلِس وَخيَار شَرط ثمَّ خِيَار الْمجْلس يثبت فِي أَنْوَاع البيع حَتَّى فِي الْمصرف وَبيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ وَالسّلم وَالتَّوْلِيَة والاشتراك وَصلح الْمُعَاوَضَات لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(البيعان بِالْخِيَارِ مالم يَتَفَرَّقَا أَو يَقُول أَحدهمَا للْآخر اختر) وَلَا خِيَار فِي الْحِوَالَة وَكَذَا فِي

(1/242)


الْقِسْمَة وَلَو اشْترى العَبْد نَفسه من سَيّده صَحَّ وَهل يثبت لَهُ الْخِيَار فِي الرَّافِعِيّ الْكَبِير وَالرَّوْضَة وَجْهَان بِلَا تَرْجِيح وَالأَصَح فِي الشَّرْح الصَّغِير وَشرح الْمُهَذّب أَنه لَا خِيَار وَأما عقد النِّكَاح فَلَا خِيَار فِيهِ وَالْفرق بَينه وَبَين عقد البيع أَن البيع عقد مُعَاوضَة بَين النَّاس كثيرا فَأثْبت الْخِيَار فِيهِ للتروي بِخِلَاف النِّكَاح فَإِنَّهُ لَا يَقع غَالِبا إِلَّا عَن ترو وَكَذَا لَا خِيَار فِي الْهِبَة بِلَا ثَوَاب لِأَنَّهُ وَطن نَفسه على فقد الْعِوَض فَلَا غبن وَكَذَا ذَات الثَّوَاب على الْأَصَح لِأَنَّهَا لَا تسمى بيعا وَكَلَام الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْهِبَة يثبت فِي ذَات الثَّوَاب الْمَعْلُوم الْخِيَار وَلَا خِيَار فِي الرَّهْن وَالْوَقْف وَالْعِتْق وَالطَّلَاق وَفِي كل عقد جَائِز من الطَّرفَيْنِ كَالْوكَالَةِ وَالشَّرِكَة وَكَذَا الضَّمَان وَفِي ثُبُوت الْخِيَار للشَّفِيع فِي الْأَخْذ بِالشُّفْعَة وَجْهَان أصَحهمَا فِي الشَّرْح الْكَبِير فِي كتاب الشُّفْعَة أَنه يثبت لَهُ الْخِيَار لِأَن الْأَخْذ بِالشُّفْعَة مُلْحق بالمعاوضات بِدَلِيل الرَّد بِالْعَيْبِ وَالرُّجُوع بالعهد وَصحح فِي الْمُحَرر هُنَا أَنه لَا يثبت الْخِيَار واستدركه النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَصحح عدم ثُبُوت الْخِيَار وَنَقله عَن الْأَكْثَرين فِي كتاب الشُّفْعَة
وَاعْلَم أَن الشَّفِيع لَا يملك بِمُجَرَّد قَوْله أَخذ الْمَبِيع بِالشُّفْعَة بل لَا بُد مَعَ اللَّفْظ من بذل الثّمن أَو رضى المُشْتَرِي بِذِمَّة الشَّفِيع لِأَنَّهُ من المُشْتَرِي يَأْخُذ أَو حكم الْحَاكِم بِثُبُوت الشُّفْعَة وَأما الْإِجَارَة فَهَل يثبت فِيهَا الْخِيَار فِيهِ خلاف صحّح النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه ثُبُوت الْخِيَار فِيهَا وَصحح فِي أَكثر كتبه وَكَذَا الرَّافِعِيّ أَنه لَا يثبت وَالْمُسَاقَاة كَالْإِجَارَةِ وَهل يثبت الْخِيَار فِي عقد النِّكَاح الصَدَاق وَجْهَان الْأَصَح لَا يثبت وَقَوله
(مَا لم يَتَفَرَّقَا) يَعْنِي بأبدنهما عَن مجْلِس العقد فَلَو قاما فِي ذَلِك الْمجْلس مُدَّة متطاولة أَو قاما وتماشيا مراحل فهما على خيارهما على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور فَإِن تفَرقا بَطل الْخِيَار للْخَبَر وَالرُّجُوع فِي التَّفَرُّق إِلَى الْعَادة فَمَا عده النَّاس تفَرقا لزم العقد بِهِ وَإِلَّا فَلَا فَلَو كَانَا فِي دَار صَغِيرَة فالتفرق أَن يخرج أَحدهمَا مِنْهَا أَو يصعد السَّطْح فَإِن كَانَت الدَّار كَبِيرَة فبأن يخرج أَحدهمَا من الْبَيْت إِلَى الصحن أَو عَكسه وَإِن كَانَا فِي سوق أَو صحراء فبأن يولي أَحدهمَا ظَهره وَيَمْشي قَلِيلا هَذَا هُوَ الصَّحِيح وكما يَنْقَطِع الْخِيَار بالتفرق كَذَا يَنْقَطِع بالتخاير بِأَن يَقُولَا اخترنا إِمْضَاء البيع أَو أجزناه أَو ألزمناه وَمَا أشبه ذَلِك فَإِن قَالَ أَحدهمَا اخْتَرْت إِمْضَاء العقد أَو أجزته انْقَطع خِيَاره وَبَقِي خِيَار الآخر وَلَو قَالَ أَحدهمَا للْآخر اختر أَو خيرتك انْقَطع خِيَار الْقَائِل لِأَنَّهُ دَلِيل الرضى وَلَا يَنْقَطِع خِيَار الآخر إِن سكت وَلَو أجَاز وَاحِد وَفسخ قدم الْفَسْخ وَلَو تبَايعا الْعِوَضَيْنِ بعد قبضهما فِي الْمجْلس بيعا ثَابتا صَحَّ البيع الثَّانِي على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور لِأَنَّهُ رَضِي بِلُزُوم الأول وَالله أعلم
وَأما خِيَار الشَّرْط فَإِنَّهُ يَصح بِالسنةِ وَالْإِجْمَاع بِشَرْط أَلا يزِيد على ثَلَاثَة أَيَّام فَإِن زَاد بَطل البيع وَيجوز دون الثَّلَاث روى ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ سَمِعت رجلا يشكو إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا يزَال يغبن فِي البيع فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِذا بَايَعت فَقل لَا خلابة ثمَّ أَنْت

(1/243)


بِالْخِيَارِ فِي كل سلْعَة بتعتها ثَلَاث لَيَال) وَلَو شَرط الْخِيَار لأَحَدهمَا صَحَّ وَكَذَا الْأَجْنَبِيّ فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ لِأَن الْحَاجة قد تَدْعُو إِلَى ذَلِك لكَونه أعرف بالمعقود عَلَيْهِ نعم لَو كَانَ مُتَوَلِّي العقد وَكيلا جَازَ أَن يشْتَرط الْخِيَار لَهُ ولملوكه وَلَا يجوز لأَجْنَبِيّ وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا خرج بِالْمَبِيعِ عيب فَلِلْمُشْتَرِي رده)
إِذا ظهر بِالْمَبِيعِ عيب قديم جَازَ لَهُ الرَّد سَوَاء كَانَ الْعَيْب مَوْجُودا وَقت العقد أَو حدث بعد العقد وَقبل الْقَبْض أما جَوَاز الرَّد لَهُ بِالْعَيْبِ الْمَوْجُود وَقت العقد فبالإجماع وروت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا
(أَن رجلا ابْتَاعَ فَأَقَامَ عِنْده مَا شَاءَ الله ثمَّ وجد بِهِ عَيْبا فخاصمه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرده عَلَيْهِ) وقسنا مَا حدث بعد العقد وَقبل الْقَبْض على الْمُقَارن لِأَنَّهُ من ضَمَان البَائِع وَلِأَن المُشْتَرِي إِنَّمَا بذل الثّمن فِي مُقَابلَة مَبِيع سليم فَإِذا وجد على خلاف ذَلِك جَوَّزنَا لَهُ التَّدَارُك للضَّرَر
وَاعْلَم أَن الْعُيُوب كَثِيرَة جدا فَمِنْهَا كَون العَبْد سَارِقا أَو زَانيا أَو آبقا أَو بِهِ بخر ينشأ من الْمعدة دون مَا يكون من قلح الْأَسْنَان وَكَذَا الصنان المستحكم دون الْعَارِض بحركة أَو اجْتِمَاع وسخ وَكَذَا كَون الدَّابَّة جموحا أَو عضاضة أَو رفاسة وَكَذَا كَون العَبْد ساحراً أَو قَاذِفا للمحصنات أَو مقامراً أَو تَارِكًا للصَّلَاة وَكَون الْجَارِيَة لَا تحيض فِي سنّ الْحيض غَالِبا وَكَون الْمَكَان ثقيل الْخراج أَو منزل الظلمَة أَو يخزنون بِهِ غلتهم أَو ظهر متكوب يَقْتَضِي وقف الْمَبِيع وَعَلِيهِ خطوط الْمُتَقَدِّمين وَلَيْسَ فِي الْحَال من يشْهد بِهِ قَالَه الورياني وَنَقله ابْن الرّفْعَة عَن الْعدة وَضَابِط ذَلِك أَن كل مَا نقص الْعين أَو الْقيمَة نُقْصَانا يفوت بِهِ غَرَض صَحِيح إِذا غلب فِي جنس الْمَبِيع عَدمه فقولنا نقص الْعين ككون الرَّقِيق خَصيا أَو مَقْطُوع أُنْمُلَة وَنَحْوهَا بِخِلَاف مَا لَو قطع من فَخذه قِطْعَة يسيرَة فَإِنَّهُ لَا يفوت بِسَبَب ذَلِك غَرَض صَحِيح وَقَوْلنَا إِذا غلب فِي جنس الْمَبِيع عَدمه رَاجع إِلَى الْقيمَة أَو الْعين أما الْقيمَة وَهُوَ الَّذِي ذكرهَا الرَّافِعِيّ فاحتراز عَن الثيوبة فِي الْأمة الْكَبِيرَة فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي الرَّد فَإِنَّهُ لَيْسَ الْغَالِب فِيهَا عدم الثيوبة وَأما الْعين فاحترز بِهِ عَن قلع الْأَسْنَان فِي الْكَبِير فَإِنَّهُ لَا رد بِهِ بِلَا شكّ وَقد جزم ابْن الرّفْعَة بِمَنْع الرَّد ببياض الشّعْر فِي الْكَبِير وَالله أعلم
(فرع) لَو بَاعَ شخص عينا وَشرط الْبَرَاءَة من الْعُيُوب فَفِيهِ خلاف الصَّحِيح أَنه يبرأ من كل

(1/244)


عيب بَاطِن فِي الْحَيَوَان لم يعلم بِهِ البَائِع دون غَيره لِأَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا بَاعَ غُلَاما بثمانمائة وَبَاعه بِالْبَرَاءَةِ فَقَالَ المُشْتَرِي لِابْنِ عمر بِالْعَبدِ دَاء لم تسمه لي فاختصما إِلَى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَقضى عُثْمَان على ابْن عمر أَنه يحلف لقد بَاعه العَبْد وَمَا بِهِ دَاء يُعلمهُ فَأبى عبد الله أَن يحلف وارتجع العَبْد فَبَاعَهُ بِأَلف وَخَمْسمِائة فَدلَّ قَضَاء عُثْمَان أَنه يبرأ من عيب الْحَيَوَان الَّذِي لم يعلم بِهِ وَالْفرق بَين الْحَيَوَان وَغَيره مَا قَالَه الشَّافِعِي أَن الْحَيَوَان يَأْكُل فِي حالتي صِحَّته وسقمه وتتبدل أَحْوَاله سَرِيعا فَقل أَن يَنْفَكّ عَن عيب خَفِي أَو ظَاهر فَيحْتَاج البَائِع إِلَى هَذَا الشَّرْط ليثق بِلُزُوم العقد وَالْفرق بَين الْعَيْب الْمَعْلُوم وَغَيره أَن كتمان الْمَعْلُوم تلبيس وغش فَلَا يبرأ مِنْهُ وَالْفرق بَين الظَّاهِر وَالْبَاطِن أَن الظَّاهِر يسهل الِاطِّلَاع عَلَيْهِ وَيعلم فِي الْغَالِب فأعطيناه حكم الْمَعْلُوم وَإِن كَانَ قد يخفى على ندور فَيرجع الْأَمر إِلَى أَنه لَا يبرأ عَن غير الْبَاطِن فِي الْحَيَوَان وَلَا عَن غَيره من غير الْحَيَوَان مُطلقًا سَوَاء كَانَ ظَاهرا أَو بَاطِنا سَوَاء فِي ذَلِك الثِّيَاب وَالْعَقار وَنَحْوهمَا وَالله أعلم
(فرع) شَرط رد الْمَبِيع بِالْعَيْبِ الْقَدِيم أَن يتَمَكَّن المُشْتَرِي من الرَّد أما إِذا لم يتَمَكَّن بِأَن تلف الْمَبِيع أَو مَاتَت الدَّابَّة أَو أعتق العَبْد أَو وقف الْمَكَان ثمَّ علم بِالْعَيْبِ فَلَا رد وَله أرش الْعَيْب وَالْأَرْش جُزْء من ثمن الْمَبِيع نسبته إِلَيْهِ نِسْبَة مَا نقص الْعَيْب من الْقيمَة عِنْد السَّلامَة مِثَاله قيمَة مائَة بِلَا عيب وَتسْعُونَ مَعَ الْعَيْب فالأرش عشر الثّمن وَلَو كَانَت ثَمَانِينَ فالأرش خمس الثّمن وعَلى هَذَا لَو زَالَ ملك المُشْتَرِي عَن الْمَبِيع بِبيع فَلَا رد لَهُ فِي الْحَال وَلَا أرش على الْأَصَح لِأَنَّهُ لم ييأس المُشْتَرِي من الرَّد لِأَنَّهُ رُبمَا يعود إِلَيْهِ ويتمكن من رده بِخِلَاف الْمَوْت وَالْوَقْف وَكَذَا استيلاد الْجَارِيَة لِأَنَّهُ تعذر الرَّد فَيرجع بأرشها وَاعْلَم أَن الرَّد على الْفَوْر لِأَن الأَصْل فِي الْمَبِيع اللُّزُوم فَإِذا أمكنه الرَّد وَقصر لزمَه حكم وَمحل الْفَوْر فِي العقد على الْأَعْيَان أما الْوَاجِب فِي الذِّمَّة بِبيع أَو سلم فَلَا يشْتَرط الْفَوْر لِأَن رد مَا فِي الذِّمَّة لَا يَقْتَضِي رفع العقد بِخِلَاف الْمَبِيع الْمعِين كَذَا قَالَه الإِمَام وَأقرهُ عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْكِتَابَة وَابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب فاعرفه ثمَّ حَيْثُ كَانَ لَهُ الرَّد واعتبرنا الْفَوْر فليبادر بِالرَّدِّ على الْعَادة فَلَو علم الْعَيْب وَهُوَ يُصَلِّي أَو يَأْكُل فَلهُ التَّأْخِير حَتَّى يفرغ لِأَنَّهُ لَا يعد مقصراً وَكَذَا لَو كَانَ يقْضِي حَاجته وَكَذَا لَو كَانَ فِي الْحمام أَو كَانَ لَيْلًا فحين يصبح لعدم التَّقْصِير فِي ذَلِك بِاعْتِبَار الْعَادة وَلَا يُكَلف الْعَدو وَلَا ركض الْفرس وَنَحْو ذَلِك ثمَّ إِن كَانَ البَائِع حَاضرا رده عَلَيْهِ فَلَو رفع الْأَمر إِلَى الْحَاكِم فَهُوَ آكِد فَلَو رد

(1/245)


وَكيله كفى وَكَذَا الرَّد على الْوَكِيل وَإِن كَانَ البَائِع غَائِبا رفع الْأَمر إِلَى الْحَاكِم وَلَا يُؤَخر لقدومه وَلَا للمسافرة إِلَيْهِ وَالأَصَح أَنه يلْزمه الْإِشْهَاد على الْفَسْخ إِن أمكنه حَتَّى ينهيه إِلَى البَائِع أَو الْحَاكِم لِأَنَّهُ الْمُمكن
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط ترك اسْتِعْمَال الْمَبِيع فَلَو استخدم العَبْد أَو ترك على الدَّابَّة سرجها أَو برذعتها بَطل حَقه من الرَّد لِأَنَّهُ يشْعر بالرضى قلت فِي هَذَا نظر لَا يخفى لِأَن مثل هَذَا لَا يعرفهُ إِلَّا الْخَواص من الْفُقَهَاء فضلا عَن أجلاف الْقرى لَا سِيمَا إِذا كَانَ رَحل الدَّابَّة مَبِيعًا مَعهَا فَيَنْبَغِي فِي مثل ذَلِك أَنه لَا يبطل بِهِ الرَّد وَيُؤَيّد ذَلِك أَنه لَو أخر الرَّد مَعَ الْعلم بِالْعَيْبِ ثمَّ قَالَ أخرت لِأَنِّي لَا أعلم أَن لي الرَّد فَإِن كَانَ قريب الْعَهْد بِالْإِسْلَامِ أَو نَشأ فِي بَريَّة لَا يعْرفُونَ الْأَحْكَام فَإِنَّهُ يقبل قَوْله وَله الرَّد وَإِلَّا فَلَا بل لَو قَالَ لم أعلم أَنه يبطل بِالتَّأْخِيرِ قبل قَوْله وَعلله الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ بِأَنَّهُ يخفى على الْعَوام وَالله أعلم ثمَّ حَيْثُ بَطل الرَّد بالتقصير بَطل الْأَرْش أَيْضا وَلَو تَرَاضيا على ترك الرَّد بِجُزْء من الثّمن أَو مَال آخر فَالصَّحِيح أَن هَذِه مصالحة لَا تصح وَيجب على المُشْتَرِي رد مَا أَخذه وَلَا يبطل حَقه من الرَّد على الصَّحِيح وَهَذَا إِذا ظن صِحَة الْمُصَالحَة فَإِن علم بُطْلَانهَا بَطل حَقه من الرَّد بِلَا خلاف وَلَو اشْترى بَعِيرًا أَو عبدا فَضَاعَ الْبَعِير أَو أبق العَبْد قبل الْقَبْض فَأجَاز المُشْتَرِي البيع ثمَّ أَرَادَ الْفَسْخ فَلهُ ذَلِك مَا لم يعد الْبَعِير أَو العَبْد إِلَيْهِ وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا بيع الثَّمَرَة مُطلقًا إِلَّا بعد بَدو صَلَاحهَا)
هَذَا مَعْطُوف على قَوْله وَلَا يجوز بيع الْغرَر وَتَقْدِيره وَلَا يجوز بيع الثَّمَرَة مُطلقًا إِلَّا بعد بَدو صَلَاحهَا وبدو الصّلاح ظُهُور الصّلاح فَإِذا بدا صَلَاح الثَّمَرَة بِأَن ظَهرت مبادئ النضج أَو بَدَت الْحَلَاوَة وزالت العفوصة أَو الحموضة المفرطتان وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَتلون أَو فِي المتلون بِأَن يحمر أَو يصفر أَو يسود جَازَ بيعهَا مُطلقًا وَيشْتَرط الْقطع بِالْإِجْمَاع وَيشْتَرط التبقية لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(لَا تبَاع الثَّمَرَة حَتَّى يَبْدُو صَلَاحهَا) وَإِذا بَاعَ مُطلقًا يَعْنِي بِلَا شَرط اسْتحق المُشْتَرِي الْإِبْقَاء إِلَى أَوَان الْجذاذ للْعَادَة وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَنه إِذا لم يبد الصّلاح أَنه لَا يجوز مُطلقًا وَهُوَ كَذَلِك وَيشْتَرط لصِحَّة البيع أَن يشْتَرط قطع الثَّمَرَة الصَّالِحَة للِانْتِفَاع وَهَذَا جَائِز بِالْإِجْمَاع وَلَو جرت الْعَادة بِقطعِهِ لَا يَكْفِي بل لَا بُد من شَرط الْقطع وَإِن بِيعَتْ الثَّمَرَة قبل بَدو الصّلاح مَعَ الْأَشْجَار جَازَ بِلَا شَرط لِأَنَّهَا تبع الْأَشْجَار وَالْأَصْل غير معترض للعاهة بِخِلَاف مَا إِذا أفردت الثَّمَرَة وَلَو شَرط الْقطع ورضى البَائِع بالإبقاء على الشّجر جَازَ وَالله أعلم وكما يحرم بيع الثَّمَرَة

(1/246)


قبل بَدو الصّلاح إِلَّا بِشَرْط الْقطع كَذَلِك يحرم بيع الزَّرْع الْأَخْضَر إِلَّا بِشَرْط قطعه لما ورد
(أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع ثَمَرَة النّخل حَتَّى تزهي وَعَن السبل وَالزَّرْع حَتَّى يبيض وتؤمن العاهة) وَلَو بيع الزَّرْع مَعَ الأَرْض فَهُوَ كَبيع الثَّمَرَة مَعَ الشّجر وَالله أعلم
(فرع) إِذا بَاعَ شخص ثمراً أَو زرعا بدا صَلَاحه لزمَه سقيه قدر مَا يَنْمُو بِهِ وَيسلم من التّلف وَالْفساد سَوَاء كَانَ ذَلِك قبل أَن يخلي بَين المُشْتَرِي وَبَين الْمَبِيع أَو بعد التَّخْلِيَة حَتَّى لَو شَرطه على المُشْتَرِي بَطل العقد لِأَنَّهُ مُخَالف لمقْتَضى العقد وَلَا يلْزمه ذَلِك عِنْد شَرط الْقطع وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا بيع مَا فِيهِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ رطبا إِلَّا اللَّبن)
تَقْدِير الْكَلَام وَلَا يجوز بيع شَيْء فِيهِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ حَال كَون الْمَبِيع رطبا كالرطب بالرطب وَالْعِنَب بالعنب وَوجه الْبطلَان أَن الْمُمَاثلَة مرعية فِي الربويات وَفِي حَال الرُّطُوبَة الْمُمَاثلَة غير مُحَققَة وَالْقَاعِدَة أَن الْجَهْل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة وَقَوله إِلَّا اللَّبن أَي فَإِنَّهُ يجوز بيع بعضه بِبَعْض وَإِن لم يجبن لِأَنَّهُ حَالَة كَمَال وَلَا فرق فِي اللَّبن بَين الحليب والرايب والمخيض وَلَا بَين الحامض وَغَيره والمعيار فِيهِ الْكَيْل حَتَّى يُبَاع الرايب بالحليب وَإِن تَفَاوتا فِي الْوَزْن لِأَن الِاعْتِبَار بِالْكَيْلِ كالحنطة الصلبة بالرخوة وَشَرطه أَن لَا يغلي فَإِن غلى امْتنع لتأثير النَّار كَمَا لَا يجوز بيع الْخبز بعضه بِبَعْض لاخْتِلَاف النَّار وَكَذَا كل مَا أثرت فِيهِ النَّار تَأْثِيرا بَينا كالشوي وَالله أعلم قَالَ
بَاب السّلم فصل وَيصِح السّلم حَالا ومؤجلاً فِيمَا تكاملت فِي خَمْسَة شُرُوط أَن يكون مضبوطاً بِالصّفةِ
السّلم وَالسَّلَف بِمَعْنى وَاحِد وَسمي بذلك لتسليم رَأس المَال فِي الْمجْلس وسلفاً لتقديم رَأس المَال وَحده عقد على مَوْصُوف فِي الذِّمَّة بِبَدَل عَاجل بِأحد اللَّفْظَيْنِ
وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا تداينتم بدين إِلَى أجل مُسَمّى فاكتبوه}

(1/247)


الْآيَة قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَرَادَ بِهِ السَّلَام وَورد
(أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم الْمَدِينَة وَهُوَ يسلفون فِي التَّمْر السّنة والسنتين وَرُبمَا قَالَ السنتين وَالثَّلَاث فَقَالَ من أسلف فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم) وَفِيه من جِهَة الْمَعْنى الرِّفْق بالمتعاقدين لِأَن أَصْحَاب الْحَرْف قد يَحْتَاجُونَ إِلَى مَا يُنْفقُونَ على حرفهم من الغلال وَلَا مَال مَعَهم وأرباب النُّقُود يَنْتَفِعُونَ بالرخص فجوز ذَلِك رفقا بهما وَإِن كَانَ فِيهِ غرر كَالْإِجَارَةِ على الْمَنَافِع المعدومة لمسيس الْحَاجة إِلَى ذَلِك ثمَّ عقد السّلم إِن كَانَ مُؤَجّلا فَلَا نزاع فِي صِحَّته وَفِي بعض الشُّرُوح حِكَايَة الِاتِّفَاق على صِحَّته وَلِأَن مورد النَّص وَإِن كَانَ حَالا فَهَل يَصح قَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة لَا يَصح ومذهبنا أَنه يَصح وَحجَّتنَا أَنه إِذا جَازَ فِي الْمُؤَجل مَعَ الْغرَر فَهُوَ فِي الْحَال أجوز لِأَنَّهُ أبعد عَن الْغرَر ثمَّ إِذا عقد لَا بُد من وجوب شُرُوط لصِحَّة العقد مِنْهَا ضَبطه بِالصّفةِ الَّتِي تَنْفِي الْجَهَالَة على مَا يَأْتِي فِي كَلَام الشَّيْخ لِأَن السّلم عقد غرر وَعدم الضَّبْط بِمَا يَنْفِي الْجَهَالَة غرر ثَان وغرران على شَيْء وَاحِد غير مُحْتَمل فَلهَذَا لَا يَصح وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن يكون جِنْسا لم يخْتَلط بِغَيْرِهِ وَلم تدخله نَار لاحالته)
شَرط صِحَة عقد السّلم أَن يكون الْمُسلم فِيهِ منضبطاً سَوَاء اتَّحد جنسه أَو تعدد كَمَا لَو أسلم فِي ثوب قطن سداه إبريسم وكل مِنْهُمَا مَعْلُوم لانْتِفَاء الْغرَر فِي ذَلِك وَنَحْوه وَإِن تعدد الْمُخْتَلط وَجَهل مقادير المختلطات فَلَا يَصح كَمَا إِذا أسلم فِي الغالية والأدهان المطيبة الثِّيَاب المصبوغة على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ وَقَالَ فِي الْمُحَرر الأقيس الْجَوَاز وَكَذَا لَا يَصح السّلم فِي الأقواس العجمية لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَة على أَجنَاس مَقْصُودَة وكل مِنْهَا غير مَعْلُوم وَكَذَا لَا يَصح السّلم فِي الترياق الْمَخْلُوط كالغالية
وَاعْلَم أَن الِاخْتِلَاط لَيْسَ من شَرطه التَّرْكِيب من الْآدَمِيّ كَمَا مثلناه بل لَو كَانَ خلقياً فَإِنَّهُ أَيْضا لَا يَصح فَلَو أسلم فِي الرؤوس فَإِن كَانَ قبل التنقية من الشّعْر فَلَا يَصح جزما وَإِن كَانَ بعد

(1/248)


التنقية من الشّعْر فَفِيهِ خلاف وَالصَّحِيح أَنه لَا يَصح أَيْضا لاشتمالها على المناخر والمشافر وَغَيرهمَا وَهِي لَا تنضبط وَلِأَن معظمها عظم وَهُوَ غير مَقْصُود فيكثر الْغرَر وَحكم الأكارع حكم الرؤوس ثمَّ من قَالَ بِالْجَوَازِ قَالَ يكون بِالْوَزْنِ واتقصر عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ هُوَ بِالْوَزْنِ وَالْعد وَلَا يَكْفِي أَحدهمَا وَيُقَاس غير مَا ذَكرْنَاهُ بِمَا ذَكرْنَاهُ وَالله أعلم
وَأما مَا دخله النَّار لغير التَّمْيِيز كالنار القوية فَلَا يَصح السّلم فِيهِ كالخبز والشواء وَمَا أشبه ذَلِك لِأَن تَأْثِير النَّار فِيهَا لَا يَنْضَبِط وَفِي وَجه يجوز السّلم فِي الْخبز وَصَححهُ الإِمَام وَالْغَزالِيّ وَحَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ عَن مَشَايِخ خُرَاسَان وَفِي الْعَسَل الْمُصَفّى وَالسكر والفانيذ والدبس وَجْهَان فِي أصل الرَّوْضَة بِلَا تَرْجِيح واستبعد الإِمَام عدم الصِّحَّة فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَاخْتَارَ الْغَزالِيّ وَالْمُتوَلِّيّ الصِّحَّة وَحكى الرَّافِعِيّ طَريقَة قَاطِعَة بِالصِّحَّةِ فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَقَضِيَّة كَلَام الرَّافِعِيّ عدم الصِّحَّة لَكِن النَّوَوِيّ صحّح فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه الصِّحَّة فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَعلله بِأَن نَار هَذِه الْأَشْيَاء لينَة وَجعل هَذِه الْعلَّة ضابطاً قلت وَفِي كَون نَار هَذِه الْأَشْيَاء لينَة نظر ظَاهر والحس يَدْفَعهُ إِذْ نَار السكر فِي غَايَة الْقُوَّة وَلَعَلَّ الْعلَّة الصَّحِيحَة كَون نَار هَذِه الْأَشْيَاء منضبطة وَلِهَذَا تردد صَاحب التَّقْرِيب فِي صِحَة السّلم فِي المارودي وَلم يصحح الرَّافِعِيّ وَلَا النَّوَوِيّ فِي شَيْئا قَالَ الأسنائي وَالرَّاجِح الْجَوَاز فقد قَالَ الرَّوْيَانِيّ إِنَّه لَا يَصح عِنْدِي وَعند عَامَّة الْأَصْحَاب وَتَصْحِيح الصِّحَّة فِي هَذِه الْأَشْيَاء يُقَوي تَصْحِيح جَوَاز السّلم فِي الْخبز بل هُوَ أولى لِأَن ناره أَلين من نَار هَذِه الْأَشْيَاء بِلَا شكّ
فَإِن علل صِحَة هَذِه الْأَشْيَاء يكون النَّار لَهَا حد مضبوط عِنْد أَرْبَابهَا قُلْنَا كَذَا الْخبز وَالله أعلم قَالَ
(وَألا يكون معينا وَلَا من معِين)
من شُرُوط صِحَة عقد السّلم أَن يكون الْمُسلم فِيهِ دينا أَي فِي الذِّمَّة لِأَن وضع السّلم إِنَّمَا هُوَ على مَا فِي الذمم فَلَو قَالَ أسلمت إِلَيْك هَذَا فِي هَذَا الثَّوْب أَو فِي هَذَا الْحَيَوَان وَنَحْو ذَلِك لم ينْعَقد سلما لانْتِفَاء الدِّينِيَّة وَهل ينْعَقد بيعا قَولَانِ الْأَظْهر لَا ينْعَقد لاختلال اللَّفْظ وَمعنى الاختلال أَن السّلم يَقْتَضِي الدِّينِيَّة مَعَ التَّعْيِين يتناقضان وَلَو قَالَ اشْتريت مِنْك ثوبا صفته كَذَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِم فَقَالَ بِعْتُك انْعَقَد بيعا على الرَّاجِح نظرا إِلَى اللَّفْظ وَهَذَا إِذا لم يذكر بعده لفظ السّلم فَإِن ذكره فَقَالَ اشْتَرَيْته سلما كَانَ سلما ذكره الرَّافِعِيّ فِي تَفْرِيق الصَّفْقَة عِنْد ذكر الْجمع بَين عقدين مختلفي الحكم فاعرفه وَلَو قَالَ أسلمت اليك هَذَا الدِّرْهَم فِي مَكِيل من هَذَا الْقَمْح لَا يَصح أَيْضا لما ذَكرْنَاهُ وَهَذَا معنى قَول الشَّيْخ وَلَا من معِين وَالله أعلم قَالَ

(1/249)


(ثمَّ لصِحَّة السّلم ثَمَانِيَة شُرُوط أَن يصفه بعد ذكر جنسه ونوعه بِالصِّفَاتِ الَّتِي يخْتَلف بهَا الثّمن وَيذكر بِمَا يَنْفِي الْجَهَالَة عَنهُ)
قد علمت أَن السّلم عقد غرر جوز للْحَاجة وأنواع الْمُسلم فِيهِ وَصِفَاته بعد ذكر الْجِنْس مُخْتَلفَة بِحَسب ذَلِك الْجِنْس والأغراض تخْتَلف فِي ذَلِك بِاعْتِبَار الْمَقَاصِد وَلِهَذَا اخْتلفت الْقيمَة باخْتلَاف الصِّفَات الْمَقْصُودَة فَلَا بُد من ذكر تِلْكَ الصِّفَات لينتفي الْغرَر وَيَنْقَطِع النزاع وصور الْمُسلم فِيهِ كَثِيرَة فَنَذْكُر مِنْهَا مَا يسْتَدلّ بِهِ على غَيره
مِنْهَا إِذا أسلم فِي الثِّيَاب فيذكر بعد ذكر الْجِنْس وَالْجِنْس الْقطن أَو الْكَتَّان النَّوْع والبلد الَّذِي ينسج فِيهِ إِن اخْتلف بِهِ الْغَرَض وَيذكر الطول وَالْعرض وهما من صِفَات الثَّوْب والرقة والغلظ وهما من صِفَات الْغَزل وَيذكر الصفاقة وَهِي صفة الصَّنْعَة وَيذكر النعومة والخشونة لِأَن الْأَغْرَاض تخْتَلف بذلك وَيجوز السّلم فِي الْمَقْصُور كالخام فَإِن أطلق العقد حمل على الخام لِأَن القصارة صفة زَائِدَة فَلَا بُد من ذكرهَا وَلَا يجوز السّلم فِي الملبوس لِأَنَّهُ لَا يَنْضَبِط وَيجوز فِي الثِّيَاب الَّتِي صبغ غزلها قبل النسج كالبرود بِخِلَاف المصبوغة بعد النسج فَإِن الْمَعْرُوف أَنه لَا يَصح السّلم فِيهَا لعدم الضَّبْط وَمِنْهَا إِذا أسلم فِي الرَّقِيق فَلَا بُد من ذكر نَوعه كتركي وَكَذَا يذكر صفة النَّوْع إِن اخْتلف كَونه أَبيض ويصف بياضه بسمرة أَو شقرة ويصف السوَاد إِن ذكره بالصفاء والكدورة وَهَذَا إِذا اخْتلف لون الصِّنْف فَإِن لم يخْتَلف كالزنج لم يجب التَّعَرُّض لألوانهم وَلَا بُد مَعَ هَذَا من ذكر الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة وَالسّن فِي الْكبر والصغر والطول وَالْقصر وَلَو ضَبطه بالأشبار صَحَّ وكل ذَلِك على التَّقْرِيب حَتَّى لَو شَرط كَونه ابْن عشْرين لَا يزِيد وَلَا ينقص لَا يَصح السّلم لندوره وَهل يشْتَرط مَعَ ذَلِك التَّعَرُّض للكحل وَالسمن وَنَحْو ذَلِك وَجْهَان الْأَصَح لَا لتسامح النَّاس بإهمال ذَلِك
وَالثَّانِي يجب لِأَن الْأَغْرَاض تخْتَلف بذلك
قلت وَهُوَ قوي لِأَن هَذِه الْأَوْصَاف مَطْلُوبَة مَقْصُودَة وتختلف الْقيمَة باختلافها لِأَن كثيرا من النَّاس يهوون السمان وتمج أنفسهم الرقَاق وَهُوَ لَا يتقاعد عَن ذكر بعض الصِّفَات الْمُتَقَدّمَة وَقد اشْترط ذَلِك الْمَاوَرْدِيّ فِي الْحَاوِي وَالله أعلم وَيجب ذكر الثيوبة والبكارة فِي الْأَصَح وَلَو أسلم فِي جَارِيَة مغنية فَإِن كَانَ غنَاؤُهَا بِغَيْر آلَة مُحرمَة صَحَّ وَإِن كَانَ بِعُود أَو زمر فَلَا يَصح وَلَو أسلم فِي جَارِيَة زَانِيَة فَوَجْهَانِ وَلَو شَرط كَونهَا فوادة لم يَصح وَمِنْهَا التَّمْر فيذكر لَونه ونوعه وبلده وَصغر الجرم وَكبره وَكَونه عتيقاً أَو جَدِيدا وَالْحِنْطَة وَسَائِر الْحُبُوب كالتمر وَمِنْهَا الْعَسَل فيذكر كَونه جبلياً أَي لِأَن الْجبلي أطيب أَو بلدياً أَو أَنه صَيْفِي لِأَن الخريفي أَجود أَو خريفي أَبيض أَو أصفر وَلَا يشْتَرط ذكر الْعتَاقَة والحداثة لِأَنَّهُ لَا غَرَض مَقْصُود فِيهِ قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَا بُد من بَيَان مُرَاعَاة

(1/250)


قوته ورقته وَإِذا أطلق الْعَسَل حمل على عسل النَّحْل
قلت هَذَا صَحِيح إِذا لم يغلب اسْتِعْمَال عسل الْقصب فِي نَاحيَة فَإِن غلب فَالْمُعْتَبر عرف تِلْكَ النَّاحِيَة وَقد شاهدت ذَلِك فِي نَاحيَة فَكَانُوا إِذا أطْلقُوا الْعَسَل لَا يعْرفُونَ غير عسل الْقصب فإمَّا إِن يحمل العقد عَلَيْهِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَة وَإِلَّا فَلَا بُد من الْبَيَان لصِحَّة العقد وَإِلَّا فَلَا يَصح لِأَن الْإِطْلَاق يُؤَدِّي إِلَى النزاع لِكَثْرَة التَّفَاوُت فِي الْقيمَة بَينهمَا وَالله أعلم
وَمِنْهَا اللَّحْم فيذكر أَنه لحم ضَأْن أَو معز ذكر خصي أَو غَيره معلوف أَو ضد وَلَا بُد فِي الْعلف أَن يبلغ إِلَى حد يتأثر بِهِ اللَّحْم فَلَا يَكْفِي الْمرة والمرات الَّتِي لَا تُؤثر وَيذكر أَنه من فَخذ أَو ضلع وَغير ذَلِك لاخْتِلَاف الْغَرَض فِي ذَلِك وَيقبل عظم على الْعَادة عِنْد الاطلاق فَإِن شَرط نزع الْعظم جَازَ وَيجب قبُول الْجلد فِيمَا يُؤْكَل مَعَه على الْعَادة كالجدي الصَّغِير وَيُقَاس بَقِيَّة الْمسَائِل بِمَا ذكرنَا وَالضَّابِط كَمَا ذكره الشَّيْخ أَن يذكر مَا يَنْفِي الْجَهَالَة وَالله أعلم قَالَ
(وَإِن كَانَ مُؤَجّلا ذكر وَقت مَحَله وَأَن يكون مَوْجُودا عِنْد الِاسْتِحْقَاق فِي الْغَالِب وَأَن يذكر مَوضِع قَبضه)
بيع السّلم إِذا عقد مُؤَجّلا فَيشْتَرط لصِحَّته معرفَة الْأَجَل الَّذِي لَا غرر فِيهِ بِأَن يعين فِيهِ مستهل رَمَضَان أَو سلخه وَنَحْو ذَلِك فَلَو أقت بقدوم زيد فَلَا يَصح وَكَذَا لَو وَقت بِوَقْت البيدر أَو الْفَرَاغ من الدراس وَنَحْو ذَلِك فَلَا يَصح للغرر وَلَو أقتا العقد بالميسرة وَنَحْوهَا قَالَ ابْن خُزَيْمَة من أَصْحَابنَا يَصح وَاحْتج بِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(بعث إِلَى يَهُودِيّ أَن ابْعَثْ لي بثوبين إِلَى الميسرة فَامْتنعَ) وَهَذَا مَرْدُود من وَجْهَيْن
أَحدهمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ بِأَن هَذَا لَيْسَ بِعقد وَإِنَّمَا هُوَ استدعاء فَإِذا جَاءَ بِهِ عقد بِشَرْط وَلِهَذَا لم يصف الثَّوْبَيْنِ
وَالثَّانِي أَن الْآيَة وَهِي قَوْله تَعَالَى {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} والْحَدِيث هُوَ قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِلَى أجل مَعْلُوم يردانه وَأَيْضًا فَفِي التَّأْقِيت بِمثل هَذَا غرر وَقد
(نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن

(1/251)


الْغرَر) وَأَيْضًا فَلَا يَصح ذَلِك بِالْقِيَاسِ على مَجِيء الْمَطَر وقدوم زيد وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لَا يَصح اتِّفَاقًا وَالله أعلم
وكما يشْتَرط تعْيين الْأَجَل كَذَلِك يشْتَرط أَن يكون الْمُسلم فِيهِ مَوْجُودا عِنْد الِاسْتِحْقَاق غَالِبا وَهَذَا الشَّرْط يعبر عَنهُ بِالْقُدْرَةِ على تَسْلِيم الْمُسلم فِيهِ فَلَو أسلم فِيمَا لَا يُوجد عِنْد الْمحل كالرطب فِي الشتَاء أَو فِيمَا يعز وجوده لم يَصح لِأَنَّهُ غرر أَو فِيمَا يحصل بِمَشَقَّة عَظِيمَة كالسلم فِي قدر كثير من الباكورة فَوَجْهَانِ أقربهما إِلَى كَلَام الْأَكْثَرين الْبطلَان وَلَو أسلم فِيمَا يعم وجوده فَانْقَطع عِنْد الْمحل لحَاجَة فَقَوْلَانِ أظهرهمَا لَا يَنْفَسِخ العقد بل يتَخَيَّر الْمُسلم إِن شَاءَ فسخ العقد وَإِن شَاءَ صَبر إِلَى وجود الْمُسلم فِيهِ فَلَو قَالَ الْمُسلم إِلَيْهِ لَا تصبر وَخذ رَأس مَالك لم يلْزمه على الصَّحِيح
وَاعْلَم أَن الِاعْتِيَاض عَن الْمُسلم فِيهِ لَا يجوز كَمَا لَا يجوز بَيْعه لِأَن الِاعْتِيَاض بيع قبل الْقَبْض وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ وَالله أعلم
وكما يشْتَرط الْقُدْرَة على التَّسْلِيم كَذَلِك يشْتَرط بَيَان مَوضِع التَّسْلِيم إِن كَانَ الْموضع لَا يصلح للتسليم أَو كَانَ صلح للتسليم وَلَكِن لنقل الْمُسلم فِيهِ مُؤنَة لِأَن الْأَغْرَاض تخْتَلف بذلك وعَلى ذَلِك يحمل قَول الشَّيْخ وَأَن يذكر مَوضِع قَبضه فَإِن كَانَ الْموضع يصلح للقبض وَلَا مُؤنَة فَلَا يشْتَرط ذكره وَيحمل العقد عَلَيْهِ للْعُرْف وَهَذَا الَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ الصَّحِيح من خلاف منتشر وَلَيْسَ المُرَاد الْمَكَان الَّذِي صدر فِيهِ العقد بل المُرَاد الْمحلة فاعرفه وَالله أعلم
(فرع) أحضر الْمُسلمُونَ إِلَيْهِ الْمُسلم فِيهِ قبل الْمحل فَهَل يجْبر الْمُسلم على قبُوله ينظر إِن كَانَ لَهُ غَرَض صَحِيح فِي الِامْتِنَاع لم يجْبر وَإِلَّا أجبر فَمن الْأَغْرَاض أَن يكون الْمُسلم فِيهِ حَيَوَانا وَيحْتَاج إِلَى مُؤنَة إِلَى وَقت الْمحل فَلَا يجْبر على الْقَبْض للضَّرَر وَمن الْأَغْرَاض أَن يكون وَقت غَارة وَنهب فَلَا يجْبر على الْقَبْض وَمن الْأَغْرَاض أَن يكون الْمُسلم فِيهِ ثَمَرَة أَو لَحْمًا وَهُوَ يُرِيد أكله طرياً فِي وَقت الْمحل فَلَا يجْبر وَمن الْأَغْرَاض أَن يكون الْمُسلم فِيهِ كثيرا وَيحْتَاج إِلَى مُؤنَة فِي الخزن وَغَيره فَإِن لم يكن غَرَض وَكَانَ للْمُسلمِ إِلَيْهِ غَرَض صَحِيح كفك الرَّهْن أجبر الْمُسلم على الْقبُول لِأَن امْتِنَاعه وَلَا غَرَض تعنت وَفِي معنى غَرَض فك الرَّهْن غَرَض بَرَاءَة ذمَّة الْمُسلم إِلَيْهِ فِي الْأَظْهر وَكَذَا قصد بَرَاءَة ذمَّة الضَّامِن وَفِي غَرَض خوف انْقِطَاع الْجِنْس عِنْد الْحُلُول وَجْهَان أصَحهمَا فِي الرَّوْضَة أَنه غَرَض صَحِيح فَلَو اجْتمع غَرَض الْمُسلم وَالْمُسلم إِلَيْهِ

(1/252)


فَوَجْهَانِ صَحَّ تَقْدِيم غَرَض الْمُسْتَحق وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن يكون الثّمن مَعْلُوما وَأَن يتقابضاه قبل التَّفَرُّق وَأَن يكون العقد ناجزا لَا يدْخلهُ خِيَار شَرط)
يشْتَرط أَن يكون الثّمن مَعْلُوما إِمَّا بِالْقدرِ أَو بِالْمُشَاهَدَةِ على الْأَظْهر فَلَا يَصح بِالْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ غرر وَيشْتَرط أَيْضا لصِحَّة عقد السّلم تَسْلِيم رَأس المَال فِي الْمجْلس العقد لِأَنَّهُ لَو لم يقبض فِي الْمجْلس لَكَانَ فِي معنى بيع الدّين بِالدّينِ وَهُوَ بَاطِل للنَّهْي عَنهُ وَلِأَن السّلم عقد غرر احْتمل للْحَاجة فجبر بتأكذ قبض الْعِوَض الآخر وَهُوَ الثّمن فَلَو تفَرقا قبل الْقَبْض بَطل العقد وَلَو قبض الْمُسلم إِلَيْهِ بعض الثّمن وتفرقا بَطل العقد فِيمَا لم يقبض وَسقط بِقسْطِهِ من الْمُسلم فِيهِ وَلَا يشْتَرط تعْيين الثّمن فِي العقد حَتَّى لَو قَالَ أسلمت إِلَيْك دِينَارا فِي كَذَا وَوَصفه بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبرَة ثمَّ أحضر الدِّينَار فِي الْمجْلس وَسلمهُ إِلَى الْمُسلم إِلَيْهِ صَحَّ لِأَن الْمجْلس هُوَ تَحْرِيم العقد وَلِهَذَا يَصح فِي الطّرف وَبيع الطَّعَام بِالطَّعَامِ مَعَ أَنه رِبَوِيّ وَاعْلَم أَنه لَا بُد من الْقَبْض الْحَقِيقِيّ فَلَو أحَال الْمُسلم الْمُسلم إِلَيْهِ فَلَا يَصح العقد وَإِن قبض الْمُسلم إِلَيْهِ من الْمحَال عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَبض حَقِيقِيّ لِأَن الْمحَال عَلَيْهِ يُؤَدِّي عَن نَفسه لَا عَن الْمُحِيل بل الطَّرِيق فِي صِحَة العقد أَن يقبضهُ الْمُسلم ثمَّ يُسلمهُ إِلَى الْمُسلم إِلَيْهِ كَذَا قَالَ بعض الشُّرَّاح وَلَو أحَال الْمُسلم إِلَيْهِ أَجْنَبِيّا بِرَأْس المَال على الْمُسلم فَهُوَ بَاطِل أَيْضا فَلَو أحضر الْمُسلم رَأس المَال فَقَالَ الْمُسلم إِلَيْهِ سلمه فَفعل صَحَّ وَيكون الْمُحْتَال وَكيلا عَن الْمُسلم إِلَيْهِ فِي الْقَبْض وَلَو صَالح عَن رَأس المَال على مَال لم يَصح وَإِن قبض مَا صَالح عَلَيْهِ وَلَو قبض الْمُسلم إِلَيْهِ رَأس المَال وأودعه الْمُسلم جَازَ وَلَو قبض الْمُسلم إِلَيْهِ ورده إِلَى الْمُسلم عَن دين عَلَيْهِ فَنقل الرَّافِعِيّ عَن الرَّوْيَانِيّ أَنه لَا يَصح وَأقرهُ قَالَ الاسنائي وَلَيْسَ الحكم كَذَلِك بل يَصح العقد لِأَن التَّصَرُّف فِي الثّمن مَعَ البَائِع فِي مُدَّة الْخِيَار صَحِيح على الْأَصَح وَيكون إجَازَة وَكَذَا تصرف المُشْتَرِي فِي الْمَبِيع صَحِيح فَيكون إقباضه عَن الدّين صَحِيحا وإلزاماً للْعقد وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ وَأَن يكون ناجزاً لَا يدْخلهُ خِيَار شَرط وَذَلِكَ لِأَن الشَّرْع اعْتبر فِيهِ قبض رَأس المَال ليتَمَكَّن الْمُسلم إِلَيْهِ من الصّرْف وَيلْزم العقد مَا فِي بَاب الرِّبَا وَشرط الْخِيَار يُنَافِي ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
بَاب الرَّهْن فصل وكل مَا جَازَ بَيْعه جَازَ رَهنه فِي الدُّيُون إِذا اسْتَقر ثُبُوتهَا فِي الذِّمَّة
الرَّهْن فِي اللُّغَة الثُّبُوت وَقيل الاحتباس وَمِنْه {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} وَفِي

(1/253)


الشَّرْع جعل المَال وَثِيقَة بدين
وَالْأَصْل فِيهِ الْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَفِي السّنة مَا ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(رهن درعاً عِنْد يَهُودِيّ على شعير لأَهله) ثمَّ الْمَقْصُود من الرَّهْن بيع الْعين الْمَرْهُونَة عِنْد الِاسْتِحْقَاق وَاسْتِيفَاء الْحق مِنْهَا وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخ كل مَا جَازَ بَيْعه جَازَ رَهنه وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَا يجوز رهن مَالا يجوز بَيْعه وَذَلِكَ كرهن الْمَوْقُوف وَرهن أم الْوَلَد وَمَا أشبه ذَلِك فَلَا يَصح رَهنه وَهُوَ كَذَلِك لفَوَات الْمَقْصُود مِنْهُ
ثمَّ شَرط الْمَرْهُون كَونه عينا على الرَّاجِح فَلَا يَصح رهن الدّين لِأَن شَرط الْمَرْهُون أَن يكون مِمَّا يقبض وَالدّين لَا يُمكن قَبضه وَإِذا قَبضه خرج عَن كَونه دينا وَيشْتَرط فِي الْمَرْهُون بِهِ أَن يكون دينا مُسْتَقرًّا وَاحْترز الشَّيْخ بِالدّينِ عَن الْعين فَلَا يَصح الرَّهْن على الْعين كَالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَة والمتسعارة وَجَمِيع الْأَعْيَان الْمَضْمُونَة لِأَن الْمَقْصُود اسْتِيفَاء الدّين من الْعين الْمَرْهُونَة وَلَا يتَصَوَّر اسْتِيفَاء الْعين من الْعين وَقيل يجوز كَمَا يجوز ضَمَانهَا وَقَوله إِذا اسْتَقر ثُبُوتهَا يَقْتَضِي أَن الدّين قبل استقراره وَذَلِكَ كَدين السّلم وَكَذَلِكَ يَصح بِمَا يؤول إِلَى اللُّزُوم كَالثّمنِ فِي زمن الْخِيَار وَيشْتَرط فِي الدّين أَن يكون مَعْلُوما لَهما قَالَه ابْن عَبْدَانِ وَصَاحب الِاسْتِقْصَاء وَأَبُو خلف الطَّبَرِيّ وَجزم بِهِ ابْن الرّفْعَة وَهِي مَسْأَلَة حَسَنَة مهمة وَلم أرها فِي الشَّرْح وَلَا فِي الرَّوْضَة وَالله أعلم قَالَ
(وللراهن الرُّجُوع فِيهِ مالم يقبضهُ)
قبض الْمَرْهُون أحد أَرْكَان الرَّهْن فِي لُزُومه فَلَا يلْزم إِلَّا بِقَبْضِهِ قَالَ الله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وَصفه بِالْقَبْضِ فَكَانَ شرطا فِيهِ كوصفه الرَّقَبَة بِالْإِيمَان وَالشَّهَادَة بِالْعَدَالَةِ فَلَو رهن وَلم يقبض فَلهُ فسخ ذَلِك لِأَنَّهُ قبل الْإِقْبَاض عقد جَائِز من جِهَة الرَّاهِن فَلهُ الرُّجُوع فِيهِ كزمن الْخِيَار فِي البيع فَإِذا قَبضه لزم وَلَيْسَ لَهُ حينئد الرُّجُوع للُزُوم العقد ثمَّ الرُّجُوع قد يكون بالْقَوْل وَقد

(1/254)


يكون بِالْفِعْلِ فَإِذا تصرف الرَّاهِن فِي الْمَرْهُون بِمَا يزِيل الْملك بَطل الرَّهْن كَالْبيع وَالْإِعْتَاق وَجعله صَدَاقا أَو أُجْرَة أَو رَهنه عِنْد آخر وأقبضه أَو وهبه وأقبضه فَكل ذَلِك رُجُوع وَلَو أجر الْمَرْهُون فَهَل هُوَ رُجُوع ينظر إِن كَانَت الْإِجَارَة تَنْقَضِي قبل مَحل الدّين فَلَيْسَ بِرُجُوع قطعا عِنْد الْعِرَاقِيّين وَالْمُتوَلِّيّ وَقطع بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَالْبَغوِيّ وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي كَذَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة وَإِن كَانَ الدّين يحل قبل انْقِضَاء الْإِجَازَة فَإِن جَوَّزنَا رهن الْمَأْجُور وَبيعه وَهُوَ الْأَصَح فَلَيْسَ بِرُجُوع وَلَو وطئ الْجَارِيَة الْمَرْهُونَة فَإِن أحبلها فَهُوَ رُجُوع وَإِن لم تحبل أَو زَوجهَا فَلَيْسَ بِرُجُوع وَقَول الشَّيْخ وللراهن الرُّجُوع فِيهِ يَعْنِي فِي الْمَرْهُون وَيجوز رُجُوعه إِلَى عقد الرَّهْن وَقَوله مَا لم يقبضهُ رَاجع إِلَى الْمَرْهُون لَيْسَ إِلَّا للاستقرار وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يضمنهُ الْمُرْتَهن إِلَّا بِالتَّعَدِّي)
الْمَرْهُون أَمَانَة فِي يَد الْمُرْتَهن لِأَن قَبضه بِإِذن الرَّاهِن فَكَانَ كَالْعَيْنِ الْمُسْتَأْجرَة فَلَا يضمنهُ إِلَّا بِالتَّعَدِّي كَسَائِر الْأَمَانَات فَلَو تلف الْمَرْهُون بِغَيْر تعد لم يضمنهُ وَلم يسْقط من الدّين شَيْء لِأَنَّهُ وَثِيقَة فِي دين فَلَا يسْقط الدّين بتلفه كموت الضَّامِن وَالشَّاهِد
وَاعْلَم أَن الْمَرْهُون بعد زَوَال الرَّاهِن أَمَانَة فِي يَد الْمُرْتَهن لَا يضمنهُ إِذا تلف إِلَّا بِالتَّعَدِّي وَلَو ادّعى الْمُرْتَهن تلف الْمَرْهُون صدق بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ أَمِين وَهَذَا إِذا لم يذكر سَببا أَو ذكر سَببا خفِيا فَإِذا ذكر سَببا ظَاهرا لم يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة لِإِمْكَان إِقَامَة الْبَيِّنَة على السَّبَب الظَّاهِر بِخِلَاف الْخَفي فَإِنَّهُ يتَعَذَّر أَو يتعسر وَلَو ادّعى الرَّد لم يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة لِأَنَّهُ لَا تعسر للبينة وَلِأَنَّهُ قَبضه لغَرَض نَفسه فَلَا يقبل كالمستعير وَقَول الشَّيْخ إِلَّا بِالتَّعَدِّي بِأَن يتَصَرَّف فِيهِ تَصرفا هُوَ مَمْنُوع مِنْهُ وأنواع التَّعَدِّي كَثِيرَة وَهِي مَذْكُورَة فِي الْوَدِيعَة وَمن جُمْلَتهَا الِانْتِفَاع بالمرهون بِأَن كَانَت دَابَّة فركبها أَو حمل عَلَيْهَا أَو آنِية فاستعملها وَنَحْو ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا قضى بعض الْحق لم يخرج شَيْء من الرَّهْن حَتَّى يقْضِي جَمِيعه)
جَمِيع الْعين الْمَرْهُونَة وَثِيقَة بِكُل الدّين وَبِكُل جُزْء مِنْهُ فَلَا يَنْفَكّ حَتَّى يقْضِي جَمِيع الدّين وَفَاء بِمُقْتَضى الرَّهْن كَالْمكَاتبِ لَا يعْتق إِلَّا بأَدَاء جَمِيع نُجُوم الْكِتَابَة وَادّعى ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على ذَلِك وَالله أعلم
(فرع) يَصح رهن الْمشَاع من الشَّرِيك وَغَيره وَقَبضه بِقَبض جَمِيعه كَالْبيع وَيجوز أَن يستعير شَيْئا ليرهنه بِدِينِهِ لِأَن الرَّهْن وَثِيقَة فَيجوز بِمَا لَا يملكهُ كالضمان فَإِذا لزم الرَّهْن فَلَا رُجُوع للْمَالِك وَلَو أذن الرَّاهِن للْمُرْتَهن فِي بيع الْمَرْهُون وَاسْتِيفَاء الْحق فَإِن بَاعه بِحَضْرَة الرَّاهِن صَحَّ وَإِلَّا فَلَا لِأَن بَيْعه لغَرَض نَفسه فاتهم فِي بيعَته لغيبته فَلَو قدر الثّمن انْتَفَت التُّهْمَة وَلَو شَرط كَون

(1/255)


الْمَرْهُون مَبِيعًا للْمُرْتَهن عِنْد حُلُول الدّين فسد عقد الرَّهْن لتأقيته وَلَا يَصح البيع لتعليقه وَلَو أتلف الْمَرْهُون وَقبض بدله صَار رهنا مَكَانا لِأَنَّهُ بدله وَيجْعَل فِي يَد من كَانَ الأَصْل فِيهِ يَده والخصم فِي دَعْوَى التّلف الرَّاهِن لِأَنَّهُ الْمَالِك وَلَو قَالَ الرَّاهِن زِدْنِي دينا وأرهن الْعين الْمَرْهُونَة على الدينَيْنِ لم يَصح على الرَّاجِح وطريقته أَن يفك الرَّهْن ويرهن بالدينين وَلَو اخْتلفَا فِي أصل الرَّهْن أَو فِي قدره بِأَن قَالَ رهنتني هذَيْن الشَّيْئَيْنِ فَقَالَ لَا بل أَحدهمَا صدق الرَّاهِن وَلَو اخْتلفَا فِي قبض الْمَرْهُون فَإِن كَانَ فِي يَد الرَّاهِن فَهُوَ الْمُصدق وَإِن كَانَ فِي يَد الْمُرْتَهن صدق وَإِن ادّعى الرَّاهِن أَنه غصبه وَلم يَأْذَن لَهُ فِي الْقَبْض فَالْقَوْل قَول الرَّاهِن لِأَن الأَصْل عدم الْإِذْن وَعدم اللُّزُوم وَكَذَا لَو قَالَ الرَّاهِن اقبضه عَن جِهَة الْإِجَارَة أَو الْإِعَارَة أَو الْإِيدَاع فَإِنَّهُ الْمُصدق على الْأَصَح الْمَنْصُوص فَلَو قَالَ الرَّاهِن نعم أَذِنت لَك فِي الْقَبْض وَلَكِن رجعت قبل قبضك فَالْقَوْل قَول الْمُرْتَهن وَلَو أقرّ الرَّاهِن بِأَنَّهُ أقرّ بِقَبْضِهِ ثمَّ قَالَ لم يكن إقراري عَن حَقِيقَته فَلهُ تَحْلِيف الْمُرْتَهن على مَا يَدعِيهِ لِكَثْرَة دوران ذَلِك بَين النَّاس وَلَو أذن الْمُرْتَهن فِي بيع الْمَرْهُون فَبيع وَرجع عَن الْإِذْن وَقَالَ رجعت قبل البيع وَقَالَ الرَّاهِن بعده فَالْأَصَحّ تَصْدِيق الْمُرْتَهن فَلَو أنكر الرَّاهِن أصل الرُّجُوع فَالْقَوْل قَوْله وَمن عَلَيْهِ دينان بِأَحَدِهِمَا رهن فَأدى أحد الدينَيْنِ وَقَالَ أديته عَن دين الرَّهْن فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه لِأَنَّهُ أعرف بنيته وَالصَّحِيح أَن تعلق الدّين بِالتَّرِكَةِ لَا يمْنَع الْإِرْث فَتكون الزَّوَائِد من التَّرِكَة للْوَارِث وَلَا يتَعَلَّق بهَا الدّين وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْحجر فصل وَالْحجر على سِتَّة الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالسَّفِيه المبذر لمَاله
الْحجر فِي اللُّغَة الْمَنْع وَلِهَذَا يُقَال للدَّار المحوطة محجرة لِأَن بناءها يمْنَع
وَفِي الِاصْطِلَاح الْمَنْع من التَّصَرُّف فِي المَال
وَهُوَ نَوْعَانِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ حجر لمصْلحَة الْمَحْجُور عَلَيْهِ وَحجر لمصْلحَة الْغَيْر
النَّوْع الأول الْحجر لمصْلحَة الشَّخْص نَفسه فَمن ذَلِك الصَّبِي وَألْحق بِهِ من لَهُ أدنى تَمْيِيز وَلم يكمل عِنْده وَمِنْه الْمَجْنُون وَألْحق بِهِ النَّائِم فَإِن تصرفه بَاطِل وَمِنْه حجر السَّفِيه وَألْحق بِهِ السَّكْرَان
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحق سَفِيها} أَي مبذرا ولوكان كَبِيرا {أَوْ ضَعِيفاً} أَي صَغِيرا أَو كَبِيرا مختلاً {أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ} أَي مَجْنُونا {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ}

(1/256)


أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَن هَؤُلَاءِ تنوب عَنْهُم الْأَوْلِيَاء وَقل الله تَعَالَى {وابتلوا الْيَتَامَى} قَالَ
(والمفلس الَّذِي ارتكبته الدُّيُون وَالْمَرِيض الْمخوف عَلَيْهِ فِيمَا زَاد على الثُّلُث وَالْعَبْد الَّذِي لم يُؤذن لَهُ فِي التِّجَارَة)
هَذَا هُوَ النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الْحجر لمصْلحَة الْغَيْر فحجر الْمُفلس لحق أَصْحَاب الدُّيُون فَلَا يَصح بَيْعه وإعتاقه وكتابته وهبته على الْأَظْهر وَكَذَا جَمِيع التَّصَرُّفَات المفوتة المَال الْمَوْجُود حَال التَّصَرُّف لِأَنَّهُ تصرف يفوت حق الْغَيْر فَلَا ينفذ فِيهِ تصرف وَإِلَّا لأبطل فَائِدَة الْحجر
وَأما حجر الْمَرِيض فَإِنَّهُ لحق الْوَرَثَة فِيمَا زَاد على الثُّلُث بعد الدُّيُون وَلَا حجر عَلَيْهِ فِي ثلث مَاله وَالِاعْتِبَار بِحَالَة الْمَوْت على الصَّحِيح لَا بِوَقْت الْوَصِيَّة فَلَو أوصى بِأَكْثَرَ من ثلث مَاله وَلَا واث لَهُ فَهِيَ بَاطِلَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّائِد على الثُّلُث وَتَصِح فِي الثُّلُث لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(إِن الله أَعْطَاكُم عِنْد وفاتكم ثلث أَمْوَالكُم زِيَادَة فِي أَعمالكُم) وَإِن كَانَ لَهُ وَارِث فَسَيَأْتِي فِي مَحَله إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما كَون الْمَرَض مخوفا فَلَا بُد مِنْهُ وَبَيَانه يَأْتِي فِي الْوَصِيَّة إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَأما الْحجر فِي العَبْد فلسيده فَلَا يَصح مِنْهُ بِغَيْر إِذن مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ لَا مَال لَهُ وَلَا ولَايَة فَلهَذَا لَا يَصح تصرفه وأهمل الشَّيْخ أَشْيَاء مِنْهَا حجر الْمُرْتَد لأجل الْمُسلمين وَمِنْهَا حجر الرَّهْن لأجل الْمُرْتَهن وَمِنْهَا الْحجر على السَّيِّد فِي العَبْد الْجَانِي لحق الْمَجْنِي عَلَيْهِ وَمِنْهَا الْحجر على الْوَرَثَة فِي التَّرِكَة لحق الْمَيِّت وَحقّ أَصْحَاب الْحُقُوق وَمِنْهَا الْحجر على الْمُمْتَنع من إِعْطَاء الدُّيُون إِذا كَانَ مَاله زَائِدا على قدر الدُّيُون وَطَلَبه المستحقون ذكره الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْفلس
وَمِنْهَا إِذا فسخ المُشْتَرِي بِعَيْب كَانَ لَهُ حبس الْمَبِيع إِلَى قبض الثّمن ويحجر على البَائِع فِي بَيْعه وَالْحَالة هَذِه ذكره الرَّافِعِيّ فِي حكم الْمَبِيع قبل الْقَبْض عَن الْمُتَوَلِي وَأقرهُ وَمِنْهَا الدَّار الَّتِي اسْتحقَّت الْمُعْتَدَّة أَن تَعْتَد فِيهَا لَا يجوز بيعهَا لتَعلق حق الْمَرْأَة بهَا إِذا كَانَت عدتهَا بِالْحملِ أَو الْأَقْرَاء لِأَن الْمدَّة غير مَعْلُومَة قَالَه الْأَصْحَاب
وَمِنْهَا الْحجر على من اشْترى عبدا بِشَرْط الْإِعْتَاق فَإِنَّهُ لَا يَصح بَيْعه لِأَن الْعتْق مُسْتَحقّ عَلَيْهِ وَمِنْهَا الْحجر على الْمُسْتَأْجر فِي الْعين الَّتِي اسْتَأْجر شخصا على الْعَمَل فِيهَا ذكره الرَّافِعِيّ فِي

(1/257)


حكم الْمَبِيع قبل الْقَبْض وَبَقِي غير ذَلِك ذكره غير لَائِق بِالْكتاب وَالله أعلم قَالَ
(وَتصرف الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالسَّفِيه غير صَحِيح)
قلت لَا يجوز تصرف الصَّبِي وَمن فِي مَعْنَاهُ وَالْمَجْنُون وَمن فِي مَعْنَاهُ فِي مَالهم لِأَن عدم صِحَة التَّصَرُّف هُوَ فَائِدَة الْحجر نعم يَصح تَدْبِير الصَّبِي ووصيته فِي وَجه لِأَنَّهُ يعود فَائِدَة ذَلِك عَلَيْهِ بعد الْمَوْت وَأما السَّفِيه فَكَذَلِك لَا يَصح تصرفه وَإِلَّا لبطلت فَائِدَة الْحجر فَلَا يَصح بَيْعه وَلَا هِبته وَكَذَا إنكاحه بِغَيْر إِذن الْوَلِيّ وَكَذَا لَا يَصح عتقه وكتابته وَفِي وَجه ينفذ عتقه فِي مرض مَوته تَغْلِيبًا لحجر الْمَرَض وَفِي وَجه أَنه ينفذ تصرفه فِي مَوضِع لَا ولي فِيهِ وَلَا وَصِيّ وَلَا حَاكم إِلَّا أَن يلْحقهُ نظر وَال فَيضْرب عَلَيْهِ الْحجر وَلَو اشْترى بِثمن فِي ذمَّته لم يَصح على الصَّحِيح وَلَو طلق أَو خَالع صَحَّ أما الطَّلَاق فَلِأَن الْحجر لم يتَنَاوَلهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَال وَفِيه نظر من جِهَة مَا يلْحقهُ من تَفْوِيت الِاسْتِمْتَاع وتجديد الْمهْر وَأجَاب القَاضِي أَبُو الطّيب عَن هَذَا بِأَنَّهُ يتسرى وَلَا ينفذ عتقه وَفِيه نظر أَيْضا وَأما الْخلْع فَلِأَنَّهُ إِذا صَحَّ الطَّلَاق مِنْهُ مجَّانا فصحته بتحصيل عوض أولى وَإِذا امْتنع تصرف هَؤُلَاءِ تصرف الْأَوْلِيَاء لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة وأولاهم الْأَب بِالْإِجْمَاع ثمَّ الْجد وَإِن علا لِأَنَّهُ كَالْأَبِ فِي التَّزْوِيج فَكَذَا فِي المَال ثمَّ الْوَصِيّ ثمَّ وَصِيّ الْوَصِيّ ثمَّ الْحَاكِم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(السُّلْطَان ولي من لَا ولي لَهُ)
وَهل يشْتَرط فِي الْأَب وَالْجد الْعَدَالَة قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ لَا بُد من الْعَدَالَة الظَّاهِرَة وَفِي اشْتِرَاط الْعَدَالَة الْبَاطِنَة وَجْهَان قَالَ النَّوَوِيّ يَنْبَغِي أَن يكون أرجحهما عدم الْوُجُوب وَالله أعلم
قلت نقل الإِمَام عَن المنتمين إِلَى التَّحْقِيق أَنه كولاية النِّكَاح وَالْمذهب فِي النِّكَاح أَنه لَا يَلِي وَفِي التَّتِمَّة أَن الْعَدَالَة مُعْتَبرَة فِي حفظ المَال بِلَا خلاف فَلَا يُمكن الفاسف من حفظه وَقد قَالَ الرَّافِعِيّ لَو فسقا نزع المَال مِنْهُمَا ذكره فِي بَاب الْوَصِيَّة وَهَذَا كُله فِي الْأَب وَالْجد وَأما الْحُكَّام فشرطهم الْعَدَالَة بِلَا نزاع فَلَا يَلِي قُضَاة الرشا أَمْوَال الْمَذْكُورين وَمن قدر على مَال يَتِيم وَجب عَلَيْهِ حفظه بطريقه فَلَو دَفعه إِلَى قَاض من هَؤُلَاءِ قُضَاة الرشا الَّذين قد تحقق مِنْهُم دفع أَمْوَال الضُّعَفَاء إِلَى أُمَرَاء الْجور فَهُوَ عَاص آثم ضَامِن لِأَنَّهُ سلط هَؤُلَاءِ الفسقة على إِتْلَافه وَالله أعلم قَالَ
(وَتصرف الْمُفلس يَصح فِي ذمَّته دون أَعْيَان مَاله)
الْمُفلس من عَلَيْهِ دُيُون حَالَة زَائِدَة على قدر مَاله وَحجر عَلَيْهِ الْحَاكِم بطريقه وَمِنْهُم من يَقُول بسؤال الْغُرَمَاء فَإِذا حجر عَلَيْهِ لتَعلق حق الْغُرَمَاء بِمَالِه سَوَاء كَانَ المَال دينا أَو عينا أَو مَنْفَعَة

(1/258)


فَلَا يَصح تصرفه فِي المَال وَإِلَّا بطلت فَائِدَة الْحجر فَإِذا بَاعَ سلما أَو اشْترى فِي ذمَّته فَهَل يَصح قيل لَا كالسفيه وَالصَّحِيح الصِّحَّة إِذْ لَا ضَرَر على الْغُرَمَاء فِي ذَلِك وَكَذَا يَصح طَلَاقه وخلعه أولى لِأَنَّهُ تَحْصِيل وَيصِح نِكَاحه واقتصاصه وإسقاطه الْقصاص لِأَنَّهُ لَا تعلق لذَلِك بِمَال فَلَا تَفْوِيت على الْغُرَمَاء وَلَو أقرّ الْمُفلس بِعَين أَو دين قبل الْحجر فَالْأَظْهر قبُوله فِي حق الْغُرَمَاء قِيَاسا على الْمَرِيض وَلِأَن ضَرَره فِي حَقه أَكثر مِنْهُ فِي حق الْغُرَمَاء فَلَا يتهم فعلى هَذَا لَو طلب الْغُرَمَاء تَحْلِيفه على ذَلِك يحلف لِأَنَّهُ لَو امْتنع لم يفد امْتِنَاعه شَيْئا إِذْ لَا يقبل رُجُوعه وَقيل لَا يقبل إِقْرَاره فِي حق الْغُرَمَاء لِأَن فِيهِ ضَرَرا بهم وَلِأَنَّهُ رُبمَا واطأ الْمقر لَهُ
قلت هَذَا القَوْل قوي وَيُؤَيِّدهُ أَنه لَو رهن عينا ثمَّ أقرّ بهَا فَإِنَّهُ لَا يقبل فِي حق الْمُرْتَهن وَإِلَّا فَمَا الْفرق وَالْفرق بتعاطيه ضَعِيف وَالْأَحْسَن أَن يُقَال إِن كَانَ الْمَحْجُور عَلَيْهِ موثقًا بِدِينِهِ قبل وَإِن كَانَ غير موثق بِهِ وَقد عرف مِنْهُ الخديعة وَأكل الْأَمْوَال بهَا فَالْمُتَّجه عدم قبُوله وَتبقى الْقَرِينَة مرجحة وَالله أعلم قَالَ
(وَتصرف الْمَرِيض فِيمَا زَاد على الثُّلُث مَوْقُوف على إجَازَة الْوَرَثَة من بعده)
تصرف الْمَرِيض فِي ثلثه جَائِز نَافِذ لِأَن الْبَراء بن معْرور رَضِي الله عَنهُ أوصى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاله فَقبله ورده على ورثته قيل إِنَّه أول من أوصى بِالثُّلثِ فَلَو زَاد على الثُّلُث وَله وَرَثَة فَهَل تبطل الْوَصِيَّة فِي الْقدر الزَّائِد على الثُّلُث أَو لَا تبطل فِيهِ خلاف الرَّاجِح لَا تبطل وَتوقف على إجَازَة الْوَرَثَة فَإِن أَجَازُوا صحت وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهَا وَصِيَّة صادفت ملكه وَإِنَّمَا تعلق بهَا حق الْغُرَمَاء فَأشبه بيع الشّقص الْمَشْفُوع وَقَول الشي من بعده يَعْنِي مَوته وَلَا تصح الْإِجَازَة وَالرَّدّ إِلَّا بعد الْمَوْت إِذْ لَا حق للْوَرَثَة قبل الْمَوْت فَأشبه عَفْو الشَّفِيع قبل البيع وَأَيْضًا فَيجوز أَن يصير الْوَارِث الْآن غير وَارِث عِنْد الْمَوْت وَالله أعلم
(فرع حسن كثير الْوُقُوع) إِذا أجَاز الْوَارِث ثمَّ قَالَ أجزت لِأَنِّي ظَنَنْت أَن المَال قَلِيل وَقد بَان خِلَافه فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه أَنه لم يعلم إِذْ الأَصْل عدم الْعلم بالمقدار مِثَاله أَن يُوصي بِالنِّصْفِ فيجيز الْوَارِث ثمَّ يَقُول ظَنَنْت أَن التَّرِكَة سِتَّة آلَاف فمسحت بِالْألف فَبَان أَنَّهَا سِتُّونَ ألفا فَلم أسمح بِعشْرَة آلَاف فَإِذا حلف نفذت الْإِجَازَة فِيمَا علمه وَهُوَ ألف فَيَأْخذهُ الْمُوصي لَهُ مَعَ الثُّلُث وَالْبَاقِي للْوَارِث وَوَجهه أَنه إِسْقَاط حق عَن عين فَلم يَصح مَعَ الْجَهَالَة كَالْهِبَةِ فَلَو أَقَامَ الْمُوصي لَهُ بَيِّنَة بِعلم الْوَارِث بِقدر التَّرِكَة لَزِمت الْإِجَازَة وَلَو قَالَ ظَنَنْت أَن المَال كثير وَقد بَان

(1/259)


خِلَافه فَقَوْلَانِ وَصُورَة الْمَسْأَلَة أَن يُوصي بِعَبْد لزيد من الثُّلُث فيجيز الْوَارِث ثمَّ يَقُول ظَنَنْت أَن المَال كثير فَيكون الزَّائِد من قِيمَته على الثُّلُث يَسِيرا فَبَان المَال قَلِيلا وَأَن العَبْد أَكثر من التَّرِكَة وَلم أَرض بذلك أَو قَالَ ظهر دين لم أعلمهُ فَفِي قَول يقبل قَوْله كالمسألة الأولى فَينفذ فِي الثُّلُث وَفِي الْقدر الْيَسِير الَّذِي اعتقده وَالصَّحِيح أَنه لَا يقبل هُنَا وَتلْزم الْوَصِيَّة فِي جَمِيع العَبْد لِأَن الْإِجَازَة هُنَا وَقعت بِمِقْدَار مَعْلُوم وَإِنَّمَا جعل الْجَهْل فِي غَيره فَلم يقْدَح فِي الْإِجَازَة وَفِي الْمَسْأَلَة الأولى الْجَهْل حصل فِيمَا حصلت فِي الْإِجَازَة فأثر فِيهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَتصرف العَبْد يكون فِي ذمَّته يتبع بِهِ إِذا عتق)
العَبْد إِذا لم يَأْذَن لَهُ سَيّده فِي الْمُعَامَلَة لَا يَصح شِرَاؤُهُ على الرَّاجِح وَلِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ ثُبُوت الْملك لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَهلا للْملك وَلَا لسَيِّده بعوض فِي ذمَّته لِأَنَّهُ لم يرض بِهِ وَلَا فِي ذمَّة العَبْد لما فِيهِ من حُصُول أحد الْعِوَضَيْنِ لغير من يلْزمه الْأَخْذ وَقيل يَصح لِأَنَّهُ مُتَعَلق بِذِمَّة العَبْد وَلَا حجر للسَّيِّد على ذمَّته قَالَ الإِمَام لَا احتكام للسادات على ذمم عبيدهم حَتَّى لَو أجبر عَبده على ضَمَان أَو شِرَاء مَتَاع فِي ذمَّته لم يَصح وَهَذَا القَوْل نسبه الْمَاوَرْدِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب إِلَى الْجُمْهُور فعلى الرَّاجِح يسْتَردّ البَائِع الْمَبِيع سَوَاء كَانَ فِي يَده أَو فِي يَد السَّيِّد أَو بَاعه العَبْد لزمَه الضَّمَان وَتعلق الضَّمَان بِذِمَّتِهِ حَتَّى لَا يُطَالب إِلَّا بعد الْعتْق لِأَنَّهُ وَجب برضى صَاحب الْحق وَلم يَأْذَن فِيهِ السَّيِّد وَالْقَاعِدَة المقررة فِيمَا يتلفه العَبْد أَو يتْلف تَحت يَده أَن مَا يلْزمه بِغَيْر رضى مُسْتَحقّه كالمغصوب يتَعَلَّق بِرَقَبَتِهِ وَلَا يتَعَلَّق بِذِمَّتِهِ فِي الاظهر وَمَا لزمَه برضى الْمُسْتَحق فَإِن أذن فِيهِ السَّيِّد كالصداق تعلق بِالذِّمةِ وَالْكَسْب وَإِن لم يَأْذَن فِيهِ السَّيِّد كَمَسْأَلَة الشِّرَاء تعلق بِذِمَّتِهِ فَقَط لَا بِالْكَسْبِ وَلَا بِالرَّقَبَةِ وعَلى هَذَا يحمل كَلَام الشَّيْخ واقتراض العَبْد كشرائه فِي جَمِيع مَا مر لِأَنَّهُ عقد مُعَاوضَة مَالِيَّة فَكَانَ كالشراء وَلَو أذن لَهُ السَّيِّد فِي التِّجَارَة صَحَّ بِالْإِجْمَاع قَالَه الرَّافِعِيّ وَيكون التَّصَرُّف على حسب الْإِذْن وَالله أعلم قَالَ
بَاب الصُّلْح فصل وَيصِح الصُّلْح مَعَ الْإِقْرَار فِي الْأَمْوَال وَمَا أفْضى إِلَيْهَا وَهُوَ نَوْعَانِ إِبْرَاء ومعاوضة فالإبراء اقْتِصَاره من حَقه على بعضه وَلَا يجوز على شَرط والمعاوضة عدوله عَن حَقه إِلَى غَيره وَيجْرِي عَلَيْهِ حكم البيع
الصُّلْح فِي اللُّغَة قطع الْمُنَازعَة وَفِي الِاصْطِلَاح هُوَ العقد الَّذِي يَنْقَطِع بِهِ خُصُومَة المتخاصمين

(1/260)


وَالْأَصْل فِيهِ الْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وَفِي السّنة المطهرة قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين) وَفِي رِوَايَة
(إِلَّا صلحا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا)
إِذا عرفت هَذَا فَالصُّلْح تَارَة يَقع مَعَ الْإِنْكَار وَتارَة مَعَ الْإِقْرَار فَالصُّلْح مَعَ الْإِنْكَار بَاطِل وَمَعَ الْإِقْرَار صَحِيح وَهُوَ كَمَا ذكره الشَّيْخ نَوْعَانِ إِبْرَاء ومعاوضة وَصُورَة الْإِبْرَاء بِلَفْظ الصُّلْح وَيُسمى صلح الحطيطة بِأَن يَقُول صالحتك على الْألف الَّذِي لي عَلَيْك على خَمْسمِائَة فَهُوَ إِبْرَاء عَن بعض الدّين بِلَفْظ الصُّلْح وَفِيه وَجْهَان الْأَصَح الصِّحَّة وَفِي اشْتِرَاط الْقبُول وَجْهَان كالوجهين فِيمَا لَو قَالَ من عَلَيْهِ دين وهبته لَك وَالأَصَح الِاشْتِرَاط لِأَن اللَّفْظ بِوَضْعِهِ يَقْتَضِيهِ وَلَو صَالح من ألف على خَمْسمِائَة مُعينَة جرى الْوَجْهَانِ وَرَأى إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْفساد هُنَا أظهر وَيشْتَرط قبض الْخَمْسمِائَةِ فِي الْمجْلس هَذَا وهم فَإِن الْأَصَح أَنه لَا يشْتَرط الْقَبْض فِي الْمجْلس كَمَا فِي الْمِنْهَاج وَغَيره وَلَا يشْتَرط تَعْيِينهَا فِي نفس الصُّلْح على الْأَصَح وَلَو صَالح من ألف حَال على ألف مُؤَجل أَو عسكه فَبَاطِل لِأَن لأجل لَا يلْحق وَلَا يسْقط وَلَا يَصح تَعْلِيق هَذَا الصُّلْح على شَرط لِأَنَّهُ إِبْرَاء وتعليف الْإِبْرَاء لَا يَصح وَالله أعلم
النَّوْع الثَّانِي صلح الْمُعَاوضَة وَهُوَ الَّذِي يجْرِي على غير الْعين المدعاة بِأَن ادّعى عَلَيْهِ دَارا مثلا فاقر بهَا وَصَالَحَهُ مِنْهَا على عبد أَو على دَابَّة أَو ثوب فَهَذَا حكمه كَمَا قَالَه الشَّيْخ حكم الْمَبِيع وَإِن عقد بِلَفْظ الصُّلْح نظر إِلَى الْمَعْنى وَيتَعَلَّق بِهِ جَمِيع أَحْكَام البيع كالرد بِالْعَيْبِ وَالْأَخْذ بِالشُّفْعَة وَالْمَنْع من التَّصَرُّف قبل الْقَبْض وَالْقَبْض فِي الْمجْلس إِن كَانَ الْمصَالح عَلَيْهِ والمصالح عَنهُ ربوياً متفقين فِي عِلّة الرِّبَا وَاشْتِرَاط التَّسَاوِي فِي معيار الشَّرْع إِن كَانَا جِنْسا وَاحِدًا وَيفْسد بالغرر وَالْجهل وبالشروط الْفَاسِدَة كفساد البيع وَلَو صَالحه منا على مَنْفَعَة دَار أَو دَابَّة مُدَّة مَعْلُومَة جَازَ وَيكون هَذَا الصُّلْح إجَازَة فَيثبت فِيهِ أَحْكَام الْإِجَارَة وَلَو صَالحه على بعض الْعين المدعاة كمن صَالح من الدَّار المدعاة على نصفهَا أوثلثها أَو من الْعَبْدَيْنِ على أَحدهمَا أَو من الغنيمتين كَذَلِك فَهَذَا هبة بعض الْمُدَّعِي لمن هُوَ فِي يَده فَيشْتَرط لصِحَّة الْهِبَة الْقبُول ومضي زمَان يُمكن فِيهِ

(1/261)


الْقَبْض وَيصِح هذابلفظ العبة وماهو فِي مَعْنَاهُ وَفِي صِحَّته بِلَفْظ الصُّلْح وَجْهَان الصَّحِيح الصِّحَّة وَلَا يَصح هَذَا الصُّلْح بِلَفْظ البيع وَقَول الشَّيْخ فِي الْأَمْوَال هُوَ كَمَا ذكرنَا وَقَوله وَفِيمَا أفْضى إِلَيْهِمَا كَمَا إِذا ثَبت لَهُ قصاص فَصَالح عَلَيْهِ بِلَفْظ الصُّلْح صَحَّ وَإِن صَالح بِلَفْظ البيع فَلَا وَأما مَا لَيْسَ بِمَال يؤول إِلَى المَال كَحَد الْقَذْف فَلَا يَصح الصُّلْح عَلَيْهِ بعوض وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز للْإنْسَان أَن يشرع روشناً فِي طَرِيق نَافِذ لَا يتَضَرَّر الْمَارَّة بِهِ وَلَا يجوز فِي الدَّرْب الْمُشْتَرك إِلَّا بِإِذن أهل الدَّرْب وَيجوز تَقْدِيم الْبَاب فِي الدَّرْب الْمُشْتَرك وَلَا يجوز تَأْخِيره إِلَّا بِإِذن الشُّرَكَاء)
اعْلَم أَن الطَّرِيق قِسْمَانِ نَافِذ وَغَيره فالنافذ لَا يخْتَص بأحذ بل كل النَّاس يسْتَحقُّونَ الْمُرُور فِيهِ فَلَيْسَ لأحد أَن يتَصَرَّف فِيهِ بِمَا يضر الْمَارَّة كإشراع جنَاح وَبِنَاء ساباط لِأَن الْحق لَيْسَ لَهُ فَإِن فعل فَهَل لكل أحد أَن يهدمه وَجْهَان حَكَاهُمَا ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وبشرط أَن يعليه بِحَيْثُ يمر الْمَاشِي منتصباً قَالَ المارودي وعَلى رَأسه مَا يحملهُ قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وَهُوَ الْأَشْبَه هَذَا إِذا اخْتصَّ بالمشاة فَإِن كَانَ يمر فِيهِ الفرسان والقوافل فيرفعه بِحَيْثُ يمر فِيهِ الْبَعِير وَعَلِيهِ المحارة وَنَحْوهَا
والاصل فِي جَوَاز الإشراع أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(نصب بِيَدِهِ الْكَرِيمَة ميزاباً فِي دَار عَمه الْعَبَّاس رَضِي الله عَنهُ) وَكَانَ شَارِعا إِلَى مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا ورد النَّص فِي الْمِيزَاب قسنا عَلَيْهِ الْبَاقِي
وَاعْلَم أَنه يشْتَرط فِي المشرع أَن يكون مُسلما فَإِن كَانَ ذِمِّيا لم يجز لَهُ الْإِخْرَاج إِلَى شوارع الْمُسلمين على الْأَصَح فِي زِيَادَة الرَّوْضَة لِأَنَّهُ كإعلاء الْبناء على الْمُسلمين أَو أبلغ قَالَ ابْن الرّفْعَة وسلوكهم طَرِيق الْمُسلمين لَيْسَ عَن اسْتِحْقَاق بل بطرِيق التبع للْمُسلمين وَلَو كَانَ الشَّارِع مَوْقُوفا فَمَا حكمه هَل هُوَ كالمملوك أم لَا توقف فِيهِ ابْن الرّفْعَة وَقَضِيَّة إِطْلَاق الشَّيْخ أَنه لَا فرق وَقَول الشَّيْخ وَيجوز أَن يشرع أَي يخرج جنَاحا وَحذف ذَلِك للْعلم بِهِ وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنه لَا يجوز غَيره كبناء دكة وغرس شجر وَهُوَ كَذَلِك إِن ضرّ بِلَا خلاف وَكَذَا إِن لم يضر على الرَّاجِح نعم يجوز أَن يفتح الْأَبْوَاب فِي الشوارع كَيْفَمَا شَاءَ الفاتح وَالله أعلم
(فرع) يحرم على الإِمَام أَو غَيره أَن يُصَالح على إشراع الْجنَاح لِأَن الْهَوَاء لَا يفرد بِالْعقدِ

(1/262)


وَإِنَّمَا يتبع الْقَرار وَلِأَنَّهُ إِن ضرّ لم يجز فعله وَإِن لم يضر فالمخرج يسْتَحقّهُ وَمَا يسْتَحقّهُ الْإِنْسَان فِي الطَّرِيق لَا يجوز أَخذ الْعِوَض عَنهُ كالمرور وَأما الدَّرْب المسدود إِذا كَانَ مُشْتَركا فَيحرم على غير أَهله أَن يشرع إِلَيْهِ جنَاحا بِغَيْر إذْنهمْ لِأَنَّهُ ملكهم كَذَا علله الْأَصْحَاب
قلت وَمُقْتَضَاهُ أَنه لَا يجوز لغير أهل الدَّرْب الدُّخُول فِيهِ بِغَيْر إذْنهمْ وَأجَاب الإِمَام أَن الدُّخُول للْغَيْر مُسْتَفَاد من قَرَائِن الْأَحْوَال قَالَ الأسنائي وَمُقْتَضى هَذَا الْجَواب أَنه لَا يجوز الدُّخُول إِذا كَانَ فِي الْمُسْتَحقّين مَحْجُور عَلَيْهِ لِأَن الْإِجَابَة ممتنعة مِنْهُ وَمن وليه وَقد توقف ابْن عبد السَّلَام أَيْضا فِي الشّرْب من أنهارهم وَغَيرهَا وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن لَيْسَ لأحد أَن يجلس فِي دربهم بِغَيْر إذْنهمْ وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ إِلَّا بِإِذن أهل الدَّرْب هُوَ أَعم من الْأَجَانِب وَمن أَصْحَابه وَهُوَ كَذَلِك لِأَن الْأَمْلَاك الْمُشْتَركَة هَذَا شَأْنهَا لَا يجوز التَّصَرُّف فِيهَا إِلَّا بِإِذن بَقِيَّة الشُّرَكَاء وَلِهَذَا يحرم على الشَّرِيك أَن يترب الْكتاب من الْحَائِط الْمُشْتَرك إِلَّا بِإِذن الشَّرِيك وَاعْلَم أَن أهل الدَّرْب المسدود من لَهُ فِيهِ بَاب نَافِذ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يسْتَحق الِانْتِفَاع وَيسْتَحق كل وَاحِد من بَاب دَاره إِلَى رَأس الدَّرْب دون مَا يَلِي آخر الدَّرْب على الصَّحِيح لِأَن ذَلِك الْقدر هُوَ مَحل تردده وَمَا عدا ذَلِك هُوَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِيهِ فَإِذا أَرَادَ أَن يفتح بَابا إِلَى دَاخله منع إِلَّا برضاهم وَإِن أَرَادَ أَن يُؤَخر بَابه إِلَى رَأس الدَّرْب فَلهُ دلك لِأَنَّهُ ترك بعض حَقه بِشَرْط أَن يسد الأول وَاعْلَم أَن وضع الْمِيزَاب كفتح الْبَاب ثمَّ حَيْثُ منع الشَّخْص من فتح بَاب فَصَالح أهل الدَّرْب بِمَال صَحَّ لِأَنَّهُ انْتِفَاع بِالْأَرْضِ بِخِلَاف إشراع الْجنَاح كَمَا مر الْفُرُوع وَالله أعلم
(فرع) للشَّخْص فتح طاقات فِي ملكه كَيفَ شَاءَ إِذْ لَا حجر عَلَيْهِ وَلَو أَرَادَ أَن يفتح بَابا فِي الدَّرْب المسدود ويسمره فَهَل لَهُ ذَلِك بِغَيْر رضى أَهله وَجْهَان
أَحدهمَا لَا كَمَا لَو قَالَ أَنا أَتَّخِذ آنِية من ذهب أَو فضَّة وَلَا أستعملها فَإِنَّهُ يمْنَع من ذَلِك وَالرَّاجِح فِي الْبَاب الْجَوَاز دون الْأَوَانِي لِأَنَّهُ لَو أَرَادَ رفع حَائِطه بِكَمَالِهِ كَانَ لَهُ ذَلِك فَهَذَا أولى وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْحِوَالَة فصل وشرائط الْحِوَالَة أَرْبَعَة رضى الْمُحِيل وَقبُول الْمُحْتَال وَكَون الْحق مُسْتَقرًّا فِي الذِّمَّة واتفاق مَا فِي ذمَّة الْمُحِيل والمحال عَلَيْهِ فِي الْجِنْس وَالنَّوْع والحلول والتأجيل وتبرأ بهَا ذمَّة الْمُحِيل
الْحِوَالَة بِفَتْح الْحَاء وَحكي كسرهَا وَهِي فِي اللُّغَة الإنتقال من قَوْلهم حَال عَن الْعَهْد أَي انْتقل

(1/263)


وَهِي فِي الِاصْطِلَاح انْتِقَال الدّين من ذمَّة إِلَى ذمَّة وحقيقتها بيع دين بدين على الْأَصَح واستثنيت من بيع الدّين بِالدّينِ لمسيس الْحَاجة والاصل فِيهَا الْإِجْمَاع مَا ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(مطل الْغَنِيّ ظلم وَإِذا أتبع أحدكُم على ملئ فَليتبعْ) وَفِي رِوَايَة
(وَإِذا أُحِيل أحدكُم على ملئ فَليَحْتَلْ) وَقَوله أتبع بِضَم الْهمزَة وَسُكُون التَّاء وَقَوله فَليتبعْ قَالَ بعض الْمُحدثين إِن تاءه مُشَدّدَة وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم الصَّوَاب الْمَعْرُوف تخفيفها وَقَوله على ملئ هُوَ بِالْهَمْزَةِ والمطل إطالة المدافعة وَاشْترط الشَّيْخ لصحتها هَذِه الْأَرْبَعَة وَهِي ثَلَاثَة لِأَن رضى الْمُحِيل والمحتال شَرط وَاحِد وَوجه اشْتِرَاط رضى الْمُحِيل أَن الْحق الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ قَضَاؤُهُ من حَيْثُ شَاءَ وَوجه رَضِي الْمُحْتَال أَن حَقه فِي ذمَّة الْمُحِيل فَلَا ينْتَقل إِلَّا بِرِضَاهُ كَمَا أَن الْأَعْيَان لَا تبدل إِلَّا بِالتَّرَاضِي وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَن رضى الْمحَال عَلَيْهِ لَا يشْتَرط وَهُوَ كَذَلِك على الْأَصَح لِأَنَّهُ مَحل التَّصَرُّف فَأشبه العَبْد الْمَبِيع وَلِأَن الْحق للْمُحِيل فَلهُ أَن يَسْتَوْفِيه بِنَفسِهِ وَبِغَيْرِهِ وَالله أعلم
الشَّرْط الثَّانِي أَن يكون الدّين مُسْتَقرًّا على مَا ذكره الشَّيْخ وَاشْتِرَاط الِاسْتِقْرَار ذكره الرَّافِعِيّ عِنْد مَا إِذا أحَال المُشْتَرِي البَائِع بِالثّمن وَقَالَ لَا يَكْفِي لصِحَّة الْحِوَالَة لُزُوم الدّين بل لَا بُد من الِاسْتِقْرَار وَلِأَن دين السّلم لَازم مَعَ أَن الْأَصَح لَا تصح الْحِوَالَة بِهِ وَلَا عَلَيْهِ لكنه قَالَه هُنَا الْقسم الثَّانِي الدّين اللَّازِم فَتَصِح الْحِوَالَة بِهِ وَعَلِيهِ قَالَ النَّوَوِيّ بعده أطلق الرَّافِعِيّ صِحَة الْحِوَالَة بِالدّينِ اللَّازِم وَعَلِيهِ اقْتِدَاء بالغزالي وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن دين السّلم لَازم وَلَا تصح الْحِوَالَة بِهِ وَلَا عَلَيْهِ على الصَّحِيح وَبِه قطع الْأَكْثَرُونَ قلت قد اتفقَا على تَصْحِيح الْحِوَالَة بِثمن فِي زمن الْخِيَار وَعَلِيهِ مَعَ أَنه غير لَازم فضلا عَن الِاسْتِقْرَار إِلَّا أَنه يؤول إِلَى اللُّزُوم وَأما بعد مُضِيّ الْخِيَار وَقبل قبض الْمَبِيع فَالْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور أَنه تصح الْحِوَالَة بِهِ وَعَلِيهِ مَعَ أَنه غير مُسْتَقر لجَوَاز تلف الْمَبِيع فَلَا يسْتَقرّ إِلَّا بِقَبض الْمَبِيع وَكَذَا تجوز الْحِوَالَة بِالْأُجْرَةِ وَكَذَا الصَدَاق قبل الدُّخُول وَالْمَوْت وَنَحْو ذَلِك بل صدر فِي أصل الرَّوْضَة فِي أول الشَّرْط فَقَالَ الثَّانِي كَون الدّين لَازِما أَو يصير إِلَى اللُّزُوم وَالله أعلم
(فرع) إِذا اشْترى شخص شَيْئا ثمَّ أحَال البَائِع بِالثّمن على رجل ثمَّ وجد المُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبا قَدِيما فَرده بِهِ أَو تَقَايلا وَنَحْوهمَا فَفِي بطلَان الْحِوَالَة خلاف منتشر وَالْمذهب الْبطلَان وَسَوَاء فِي ذَلِك بعد قبض الْمُحْتَال الْحِوَالَة أم لَا على الْأَصَح وَلَو أحَال البَائِع على المُشْتَرِي بِالثّمن لشخص فَالْمَذْهَب أَنَّهَا لَا تبطل سَوَاء قبض الْمُحْتَال مَال الْحِوَالَة من المُشْتَرِي أم لَا وَالْفرق بَين الصُّورَتَيْنِ أَن فِي هَذِه الصُّورَة الثَّانِيَة تعلق الْحق بثالث وَالله أعلم

(1/264)


الشَّرْط الثَّالِث اتِّفَاق الدينَيْنِ يَعْنِي الْمحَال بِهِ والمحال عَلَيْهِ فِي الْجِنْس وَالْقدر والحلول والتأجيل وَالصِّحَّة والتكسير والجودة والرداءة على الصَّحِيح وَضبط ابْن الرّفْعَة ذَلِك بِالصِّفَاتِ الْمُعْتَبرَة فِي السّلم وَوجه اشْتِرَاط ذَلِك حَتَّى يعلم لِأَن الْمَجْهُول لَا يَصح بَيْعه وَلَا اسْتِيفَاؤهُ وَالْحوالَة إِمَّا بيع على الصَّحِيح أَو اسْتِيفَاء فَإِذا وَقعت الْحِوَالَة صَحِيحَة بَرِيء الْمُحِيل عَن دين الْمُحْتَال وَبرئ الْمحَال عَلَيْهِ من دين الْمُحِيل ويتحول حق الْمُحْتَال إِلَى ذمَّة الْمحَال عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك فَائِدَة الْحِوَالَة وَالله أعلم
(فرع) إِذا كَانَ بِالدّينِ الْمحَال عَلَيْهِ ضَامِن لم ينْتَقل بِصفة الضَّمَان بل يبرأ الضَّمَان صرح بِهِ الرَّافِعِيّ فِي أول الْبَاب الثَّانِي من أَبْوَاب الضَّمَان وَكَذَا لَو كَانَ بِهِ رهن فَإِنَّهُ لَا ينْتَقل الرَّهْن صرح بِهِ الْمُتَوَلِي وَغَيره بِخِلَاف الْوَارِث فَإِنَّهُ ينْتَقل الدّين إِلَيْهِ بِصفتِهِ من الضَّمَان وَالرَّهْن وَالْفرق أَن الْوَارِث خَليفَة الْمَوْرُوث فِيمَا يثبت لَهُ من الْحُقُوق وَالله أعلم
(فرع) احتال شخص ثمَّ إِن الْمُحْتَال عَلَيْهِ أنكر الدّين وَحلف وَلَا بَيِّنَة أَو أفلس الْمحَال عَلَيْهِ وَنَحْو ذَلِك حَيْثُ يتَعَذَّر الِاسْتِيفَاء فَلَيْسَ للمحتال أَن يرجع على الْمُحِيل لِأَن الْحِوَالَة إِمَّا بيع أَو اسْتِيفَاء وَكِلَاهُمَا يمْنَع الرُّجُوع وَالله أعلم قَالَ
بَاب الضَّمَان فصل وَيصِح ضَمَان الدُّيُون المستقرة إِذا علم قدرهَا وَلِصَاحِب الْحق مُطَالبَة من شَاءَ من الضَّامِن والمضمون عَنهُ إِذا كَانَ الضَّمَان على مَا بَيناهُ
الضَّمَان ضم ذمَّة إِلَى ذمَّة وَالْأَحْسَن أَن يُقَال الِالْتِزَام حَتَّى يَشْمَل إِحْضَار من عَلَيْهِ الْحق إِذا ضمنه وَيُقَال أَنا ضَامِن وضمين وكفيل وزعيم وحميل
وَالْأَصْل فِي مشروعيته الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(الْعَارِية مُؤَدَّاة والزعيم غَارِم) وَورد
(أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أُتِي بِجنَازَة فَقَالُوا يَا رَسُول الله صل عَلَيْهَا قَالَ هَل ترك شَيْئا قَالُوا لَا قَالَ هَل عَلَيْهِ دين قَالُوا ثَلَاثَة دنيانير قَالَ صلوا على صَاحبكُم فَقَالَ أَبُو قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ صل عَلَيْهِ يَا

(1/265)


رَسُول الله وَعلي دينه فصلى عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَة قَالَ أَبُو قَتَادَة أَنا الْكَفِيل بِهِ ثمَّ شَرط صِحَة الضَّمَان أَن يعرف الضَّامِن الْمَضْمُون لَهُ على الْأَصَح لِأَن النَّاس يتفاوتون فِي الْمُطَالبَة تسهيلاً وتشديداً والأغراض تخْتَلف بذلك فَيكون الضَّمَان بِدُونِهِ غرراً وَلَا يشْتَرط معرفَة الْمَضْمُون عَنهُ فِي الْأَصَح وَلَا حَيَاته بِلَا خلاف كَمَا لَا يشْتَرط رِضَاهُ قطعا وَأما الدّين فشرطه كَونه ثَابتا وَقت ضَمَانه فَلَا يَصح ضَمَان مالم يجب وَإِن جرى سَبَب وُجُوبه كضمان نَفَقَة الْمَرْأَة غَدا وَيشْتَرط كَونه لَازِما أَو يؤول إِلَى اللُّزُوم لَا يشْتَرط الِاسْتِقْرَار مِثَال مَا يؤول إِلَى اللُّزُوم كَالثّمنِ فِي زمن الْخِيَار وَأما مَال الْجعَالَة قبل الْفَرَاغ من الْعَمَل قيل يَصح لِأَنَّهُ يؤول إِلَى اللُّزُوم وَالصَّحِيح أَنه لَا يَصح لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِم فِي الْحَال وَلَا يؤول لِأَنَّهُ لَيْسَ للجاعل إِلْزَام الْعَامِل الْعَمَل وإتمامه فَأشبه الْكِتَابَة كَذَا علله القَاضِي أَبُو الطّيب وَهُوَ تَعْلِيل ضَعِيف وَأما الثّمن بعد مُضِيّ الْخِيَار فَهُوَ لَازم وَغير مُسْتَقر فَيصح ضَمَانه وَكَذَا الصَدَاق قبل الدُّخُول وَلَا نظر إِلَى احْتِمَال سُقُوطه كَمَا لَا نظر إِلَى احْتِمَال سُقُوط المستقر بِالْإِبْرَاءِ وَالرَّدّ بِالْعَيْبِ وَنَحْوهمَا وَيشْتَرط فِي الدّين أَيْضا أَن يكون مَعْلُوما فَلَا يَصح ضَمَان الْمَجْهُول كَمَا إِذا قَالَت ضمنت ثمن مَا بِعته فلَانا وَهُوَ جَاهِل بِهِ فَإِن مَعْرفَته متيسرة وَقيل يَصح أما لَو قَالَ ضمنت لَك شَيْئا مِمَّا لَك على فلَان فَلَا يَصح بِلَا خلاف
وَاعْلَم أَن الْخلاف فِي صِحَة ضَمَان الْمَجْهُول جَار فِي صِحَة الْبَرَاءَة من الْمَجْهُول وَالْخلاف مَبْنِيّ على أَن الْبَرَاءَة تمْلِيك أَو إِسْقَاط فَإِن قُلْنَا تمْلِيك وَهُوَ الصَّحِيح فَلَا تصح الْبَرَاءَة من الْمَجْهُول وَإِن قُلْنَا إِسْقَاط صَحَّ الْإِبْرَاء من الْمَجْهُول وَتظهر ثَمَرَة الْخلاف فِيمَا لَو اغتاب شخص لآخر ثمَّ قَالَ لَهُ اغتبتك فَاجْعَلْنِي فِي حل فَفعل وَهُوَ لَا يدْرِي بِمَا اغتابه بِهِ فَهَل يبرأ فِيهِ وَجْهَان
أَحدهمَا نعم لِأَنَّهُ إِسْقَاط
الثَّانِي لَا لِأَن الْمَقْصُود رِضَاهُ وَلَا يُمكن الرضى بِالْمَجْهُولِ
وَاعْلَم أَنا إِذا لم نصحح ضَمَان الْمَجْهُول فَقَالَ ضمنت مِمَّا لَك على فلَان من دِرْهَم إِلَى عشرَة فَفِيهِ خلاف وَالصَّحِيح الصِّحَّة لانْتِفَاء الْغرَر بِذكر الْقدر فعلى هَذَا مَاذَا يلْزمه فِيهِ أوجه الرَّاجِح عِنْد الرَّافِعِيّ عشرَة وَالأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ تِسْعَة وَقيل يلْزمه ثَمَانِيَة وَإِذا عرفت هَذَا فَيشْتَرط فِي ضَمَان الدّين كَونه ثَابتا لَازِما مَعْلُوما كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وأهملا رَابِعا ذكره الْغَزالِيّ وَهُوَ أَن يكون قَابلا لِأَن يتَبَرَّع الْإِنْسَان بِهِ على غَيره فَيخرج حد الْقصاص وحد الْقَذْف وَنَحْوهمَا وَالله

(1/266)


أعلم وَقَول الشَّيْخ وَيصِح ضَمَان الدُّيُون أَعم من أَن يكون الدّين نَقْدا أَو مَنْفَعَة وَهُوَ كَذَلِك فَيصح ضَمَان الْمَنَافِع الثَّابِتَة فِي الذِّمَّة كَمَا يَصح ضَمَان الْأَمْوَال كَذَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَإِذا صَحَّ الضَّمَان بِشُرُوطِهِ فللمستحق أَن يُطَالب الْأَصِيل والضامن أما الْأَصِيل فَلِأَن الدّين بَاقٍ عَلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأبي قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ حِين وفى دين الْمَيِّت
(الْآن قد بردت جلدته وَإِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون مِمَّا اكتسبناه فِي ذممنا) وَأما الضَّامِن فلقول شَفِيع المذنبين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الزعيم غَارِم) وَلنَا وَجه كمذهب مَالك أَنه لَا يُطَالب الضَّامِن إِلَّا بعد عجز الْمَضْمُون عَنهُ وَله مُطَالبَة هَذَا بِبَعْض الدّين وَذَلِكَ بِبَعْضِه الآخر وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا غرم الضَّامِن رَجَعَ على الْمَضْمُون عَنهُ إِذا كَانَ الضَّمَان وَالْقَضَاء بِإِذْنِهِ)
إِذا ضمن شخص دين آخر وَأَدَّاهُ الضَّامِن هَل يرجع على الْمَضْمُون عَنهُ ينظر إِن ضمن بِالْإِذْنِ وَأدّى بِالْإِذْنِ رَجَعَ لِأَنَّهُ صرف مَاله إِلَى منفعَته بِإِذْنِهِ فَأشبه مَا لَو قَالَ اعلف دَابَّتي فعلفها وَفِي الْحَاوِي أَنه لَا يرجع إِلَّا إِذا شَرط الرُّجُوع وَذكر الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْإِجَارَة أَنه لَو قَالَ أَطْعمنِي رغيفا فأطعمه أَنه لَا شَيْء عَلَيْهِ وَإِذا انْتَفَى الْإِذْن فِي الضَّمَان وَفِي الْأَدَاء فَلَا رُجُوع لِأَنَّهُ تبرع مَحْض وَإِن أذن فِي الضَّمَان فَقَط رَجَعَ على الرَّاجِح لِأَن الضَّمَان يُوجب الْأَدَاء فَكَانَ الْإِذْن فِيهِ إِذْنا لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ وَإِن ضمن بِغَيْر إِذْنه وَأدّى بِإِذْنِهِ فالراجح أَنه لَا يرجع لِأَن وجوب الْأَدَاء سَببه الضَّمَان وَلم يَأْذَن فِيهِ فعلى هَذَا لَو قَالَ أد دينيي بِشَرْط الرُّجُوع فَالْأَصَحّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة أَنه لَا يرجع وَجزم بِهِ الْمَاوَرْدِيّ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم) وَلَو أذن شخص لشخص بأَدَاء دينه من غير ضَمَان بِشَرْط أَن يرجع عَلَيْهِ رَجَعَ للْحَدِيث وَكَذَا إِن أطلق على الرَّاجِح لِأَنَّهُ الْمُعْتَاد
فَإِن قيل مَا الْفرق بَين هَذِه وَبَين مَا إِذا قَالَ لشخص اغسل ثوبي وَنَحْو ذَلِك بِلَا شَرط فَإِن الرَّاجِح هُنَاكَ أَنه لَا يسْتَحق أُجْرَة فَالْفرق أَن الْمُسَامحَة فِي الْمَنَافِع أَكثر من الْأَعْيَان وَالله أعلم
وَاعْلَم أَنه إِنَّمَا يرجع الضَّامِن والمؤدي إِذا أشهدا بِالْأَدَاءِ رجلَيْنِ أَو رجلا وَامْرَأَتَيْنِ وَكَذَا يَكْفِي وَاحِد ليحلف مَعَه فِي الْأَصَح لِأَنَّهُ يَكْفِي لإِثْبَات الْأَدَاء فَإِن لم يشْهد فَلَا رُجُوع إِن أدّى فِي غيبَة الْأَصِيل وَكذبه أَعنِي الْأَصِيل وَكَذَا إِن صدقه الْأَصِيل على الْأَصَح لِأَنَّهُ لم يؤد مَا ينْتَفع بِهِ

(1/267)


الْأَصِيل أَلا ترى أَن الْمُطَالبَة بَاقِيَة وَمحل الْخلاف إِذا سكت الْأَصِيل عَن قَوْله أشهد فَإِن أمره بِهِ وَتَركه لم يرجع بِلَا خلاف وَإِن أذن لَهُ فِي ترك الْإِشْهَاد رَجَعَ قَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر فَلَو صدق الضَّامِن فِي أَدَاء الْمَضْمُون لَهُ أَو أدّى بِحَضْرَة الْأَصِيل رَجَعَ على الْمَذْهَب أما فِي الأولى فلسقوط الطّلب بِإِقْرَار صَاحب الدّين وَأما فِي الثَّانِيَة فَلِأَن التَّقْصِير من الْأَصِيل لِأَنَّهُ لم يحتط لنَفسِهِ بِخِلَاف غيبته وَالله أعلم
(فرع) إِذا طَالب الْمَضْمُون لَهُ الضَّامِن فَهَل للضامن مُطَالبَة الْمَضْمُون عَنهُ ليخلصه نظر إِن ضمن بِإِذْنِهِ فَلهُ ذَلِك قِيَاسا على رُجُوعه وَمعنى تخليصه أَن يُؤْذِي دين الْمَضْمُون لَهُ ليبرأ الضَّامِن فَلَو لم يؤد فَهَل للضامن حَبسه وَجْهَان أصَحهمَا فِي الرَّافِعِيّ لَا يحْبسهُ وَتَبعهُ ابْن الرّفْعَة على ذَلِك وَزَاد أَنه لَا يرسم عَلَيْهِ أَيْضا قَالَ الإسنائي فِيهِ نظر وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يَصح ضَمَان الْمَجْهُول وَلَا ضَمَان مالم يجب إِلَّا دَرك الْمَبِيع)
أما ضَمَان الْمَجْهُول فَلِأَنَّهُ غرر وَالْغرر مَنْهِيّ عَنهُ وَأما ضَمَان مالم يجب فَلِأَن الضَّمَان توثقه بِالْحَقِّ فَلَا يسْبق وجوب الْحق كَالشَّهَادَةِ وَصُورَة ذَلِك وَنَحْوه كَمَا إِذا قَالَ بِعْ لفُلَان وَعلي ضَمَان الثّمن أَو أقْرضهُ وَعلي ضَمَان بدله وَيسْتَثْنى من ذَلِك ضَمَان دَرك الْمَبِيع على الْمَذْهَب لِأَن الْحَاجة دَاعِيَة إِلَى ذَلِك لِأَن الْمُعَامَلَة مَعَ من لَا يعرف كَثِيرَة وَيخَاف المُشْتَرِي أَن يخرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا وَلَا يظفر بالبائع فَيفوت عَلَيْهِ مَا بدله فَاحْتَاجَ إِلَى التوثيق بذلك وَقيل لَا يَصح لِأَنَّهُ ضَمَان مَا لم يجب وَجَوَابه أَنا نشترط فِي صِحَّته قبض الثّمن فَيضمن الثّمن إِن خرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا فَيَقُول ضمنت لَك عُهْدَة الثّمن أَو دركه أَو خلاصك مِنْهُ فَلَو قَالَ ضمنت خلاص الْمَبِيع لم يَصح لِأَنَّهُ لَا يسْتَقلّ بخلاصه بعد ظُهُور الِاسْتِحْقَاق نعم لَو ضمن عُهْدَة الْمَبِيع إِن أَخذ بِالشُّفْعَة لأجل بيع سَابق صَحَّ قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب والمضمون فِي هَذَا الْفَصْل لَيْسَ هُوَ رد الْعين وَإِلَّا فَكَانَ يلْزم أَن لَا تجب قِيمَته عِنْد التّلف بل الْمَضْمُون إِنَّمَا هُوَ مَالِيَّته عِنْد تعذر رده حَتَّى لَو بَان الِاسْتِحْقَاق وَالثمن فِي يَد البَائِع لَا يُطَالب الضَّامِن بِقِيمَتِه قَالَ وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْكفَالَة بِالْبدنِ فصل وَالْكَفَالَة بِالْبدنِ جَائِزَة إِذا كَانَ على الْمَكْفُول بِهِ حق لآدَمِيّ
الْمَذْهَب صِحَة كَفَالَة الْبدن لإطباف النَّاس على ذَلِك لأجل مَسِيس الْحَاجة إِلَيْهَا وَلَا يشْتَرط الْعلم بِقدر مَا على الْمَكْفُول لِأَنَّهُ تكفل بِالْبدنِ لَا بِالْمَالِ وَيشْتَرط كَون الدّين مِمَّا يَصح ضَمَانه وَالْمذهب صِحَة كَفَالَة بدن من عَلَيْهِ عُقُوبَة لآدَمِيّ كقصاص وحد قذف لِأَنَّهُ حق لَازم فَأشبه المَال

(1/268)


وَأما إِن كَانَ عَلَيْهِ حد الله تَعَالَى فَلَا تصح الْكفَالَة بِبدنِهِ وَعَن هَذَا احْتَرز الشَّيْخ بقوله حق آدَمِيّ وَوجه عدم الصِّحَّة أَنا مأمورون بسترها وَالسَّعْي فِي إِسْقَاطهَا مَا أمكن وَالْقَوْل بِالصِّحَّةِ يُنَافِي ذَلِك وكما يَصح الْكفَالَة ببدن شخص كَذَا تصح كَفَالَة الْكَفِيل بل كل من وَجب عَلَيْهِ حُضُور مجْلِس الحكم عِنْد الطّلب لحق آدَمِيّ أَو وَجب على غَيره إِحْضَاره صحت كفَالَته حَتَّى تصح كَفَالَة بدن غَائِب ومحبوس وميت ليحضر وَيشْهد على صورته إِذا لم يعرف نسبه وَمحل هَذَا إِذا لم يدْفن فَلَا تصح كفَالَته سَوَاء تغير أم لَا ثمَّ إِن عين مَكَان التَّسْلِيم تعين وَإِلَّا وَجب التَّسْلِيم فِي مَكَان الْكفَالَة لِأَن الْعرف يَقْتَضِي ذَلِك وَإِذا سلم الْمَكْفُول فِي مَكَان التَّسْلِيم برِئ من الْكفَالَة بِشَرْط أَن لَا يمْنَع مَانع بِأَن لَا يكون هُنَاكَ ظَالِم بغلبه عَلَيْهِ وَيَأْخُذهُ بالقهر وَلَو حضر الْمَكْفُول فَلَا يبرأ الكافل حَتَّى يَقُول الْمَكْفُول سلمت نَفسِي عَن جِهَة الْكفَالَة وَلَو غَابَ الْمَكْفُول وَجَهل الكافل مَكَانَهُ لم يلْزمه إِحْضَاره لِأَنَّهُ لَا يُمكنهُ ذَلِك {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وسعهَا} وَإِلَّا يلْزمه ويمهل قدر الْحَاجة فَلَو مَاتَ الْمَكْفُول لَهُ لم يُطَالب الْكَفِيل بِالْمَالِ لِأَنَّهُ لم يضمنهُ حَتَّى لَو شَرط فِي الْكفَالَة أَنه يغرم المَال إِن فَاتَ تَسْلِيمه بطلت الْكفَالَة وَصُورَة الْمَسْأَلَة أَن يَقُول كفلت بدنه بِشَرْط الْغرم أَو على أَنِّي أغرم وَالله أعلم قَالَ
بَاب الشّركَة فصل وللشركة خمس شَرَائِط أَن تكون على ناض من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَأَن يتَّفقَا فِي الْجِنْس وَالنَّوْع وَأَن يخلطا الْمَالَيْنِ وَأَن يَأْذَن كل وَاحِد مِنْهُمَا لصَاحبه فِي التَّصَرُّف وَأَن يكون الرِّبْح والخسران على قدر الْمَالَيْنِ
الشّركَة فِي اللُّغَة الِاخْتِلَاط وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن ثُبُوت الْحق فِي الشَّيْء الْوَاحِد لشخصين فَصَاعِدا على جِهَة الشُّيُوع
وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(يَقُول الله تَعَالَى أَنا ثَالِث الشَّرِيكَيْنِ مَا لم يخن أَحدهمَا صَاحبه فَإِذا خانه خرجت من بَينهم) وَمَعْنَاهُ تنْزع الْبركَة من مَالهمَا ثمَّ الشّركَة أَنْوَاع نذْكر نَوْعَيْنِ
أَحدهمَا شركَة الابدان وَهِي بَاطِلَة كشركة الحمالين وَسَائِر المحترفين ليَكُون كسبهما بَينهمَا سَوَاء كَانَ مُتَسَاوِيا أَو متفاوتاً وَسَوَاء اتّفق السَّبَب كالدلالين والحطابين أَو اخْتلفَا كالخياط

(1/269)


والرفا وَوجه بُطْلَانهَا أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا متميز بِبدنِهِ ومنافعه فَيخْتَص بفوائده كَمَا لَو اشْتَركَا فِي ماشيتهما وَهِي متميزة ليَكُون الدّرّ والنسل بَينهمَا وَجوز شركَة الْأَبدَان عِنْد اتِّحَاد الصَّنْعَة مَالك رَحمَه الله وجوزها أَبُو حنيفَة مُطلقًا وَدَلِيلنَا عَلَيْهَا مَا سلماه من الِامْتِنَاع فِي الِاصْطِيَاد والاحتطاب
النَّوْع الثَّانِي شركَة الْعَنَان وَهِي صَحِيحَة للْحَدِيث السَّابِق وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على صِحَّتهَا وَهِي مَأْخُوذَة من عنان الدَّابَّة لِاسْتِوَاء الشَّرِيكَيْنِ فِي ولَايَة الْفَسْخ وَالتَّصَرُّف وَاسْتِحْقَاق الرِّبْح على قدر المَال كاستواء طرفِي الْعَنَان ثمَّ لصحتها شُرُوط
أَحدهَا أَن تكون على ناض من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على صِحَّتهَا فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير نعم فِي جَوَازهَا على المغشوشة وَجْهَان أصَحهمَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة الْجَوَاز أَيْضا
الثَّانِي لَا كالقراض ثمَّ هَذَا لَا يخْتَص بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِير بل يجوز عقد الشّركَة على مثلي فَتَصِح فِي الْقَمْح وَالشعِير وَنَحْوهمَا لِأَن الْمثْلِيّ إِذا اخْتَلَط بِجِنْسِهِ ارْتَفع التَّمْيِيز فَأشبه النَّقْدَيْنِ وَلِهَذَا لَا تجوز الشّركَة فِي المتقومات لعدم تصور الْخَلْط النَّافِي للتمييز وَلِهَذَا لَو تلف أحد المتقومين أَو بعضه عرف فامتنعت الشّركَة لذَلِك وَإِلَّا لأخذ أحد الشَّرِيكَيْنِ من مَال الآخر بِلَا حق لَو صححنا الشّركَة فِي الْمُتَقَوم
الشَّرْط الثَّانِي أَن يتَّفقَا فِي الْجِنْس فَلَا تصح الشّركَة فِي الدَّرَاهِم وَالذَّهَب وَكَذَا فِي الصّفة فَلَا تصح فِي الصِّحَاح والمكسرة للتمييز فيهمَا
الشَّرْط الثَّالِث الْخَلْط لِأَن المَال قبل التَّمْيِيز فِيهِ حَاص وَيشْتَرط فِي الْخَلْط أَن لَا يبْقى مَعَه تَمْيِيز وَيَنْبَغِي أَن يتَقَدَّم الْخَلْط على العقد وَالْإِذْن فَلَو اشْتَركَا فِي ثَوْبَيْنِ من غزل وَاحِد والصانع وَاحِد لم تصح الشّركَة لتمييز أَحدهمَا عَن الآخر وَعدم معرفَة كل مِنْهُمَا ثوب يُقَال لَهُ اشْتِبَاه وَيُقَاس بِهَذَا أَمْثَاله ثمَّ هَذَا الْخَلْط إِنَّمَا يعْتَبر عِنْد انْفِرَاد الْمَالَيْنِ أما لَو كَانَ مشَاعا بِأَن اشترياه مَعًا على الشُّيُوع أَو ورثاه فَإِنَّهُ كَاف لحُصُول الْمَقْصُود وَهُوَ عدم التَّمْيِيز
الشَّرْط الرَّابِع الْإِذْن مِنْهُمَا فِي التَّصَرُّف فَإِذا وجد من الطَّرفَيْنِ تسلط كل وَاحِد مِنْهُمَا على التَّصَرُّف وَاعْلَم أَن تصرف الشَّرِيك كتصرف الْوَكِيل فَلَا يَبِيع بِغَيْر نقد الْبَلَد وَلَا يَبِيع بالأجل وَلَا يَبِيع وَلَا يَشْتَرِي بِغَبن فَاحش وَكَذَا لَا يُسَافر إِلَّا بِإِذن الشَّرِيك
الشَّرْط الْخَامِس أَن يكون الرِّبْح على قدر الْمَالَيْنِ سَوَاء تَسَاويا فِي الْعَمَل أَو تَفَاوتا لِأَنَّهُ لَو جعلنَا شَيْئا من الرِّبْح فِي مُقَابلَة الْعَمَل لاختلط عقد الْقَرَاض بِعقد الشّركَة وَهُوَ مَمْنُوع فَلَو شرطا التَّسَاوِي فِي الرِّبْح مَعَ تفاضل الْمَالَيْنِ فسد العقد لِأَنَّهُ مُخَالف لوضع الشّركَة وَيرجع كل وَاحِد

(1/270)


مِنْهُمَا على صَاحبه بِأُجْرَة عمله كالقراض إِذا فسد فَإِنَّهُ يرجع الْعَامِل بِأُجْرَة عمله وَالتَّصَرُّف نَافِذ لوُجُود الْأذن وَالرِّبْح يكون على قدر الْمَالَيْنِ وَكَذَا الخسران كالربح وَيُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَنه لَا يشْتَرط تَسَاوِي الْمَالَيْنِ وَهُوَ كَذَلِك على الصَّحِيح وَقَالَ الْأنمَاطِي يشْتَرط تساويهما لصِحَّة الشّركَة وَهُوَ ضَعِيف وَالله أعلم
(فرع) الْحِيلَة فِي الشّركَة فِي غير الْمِثْلِيَّات من المتقومات أَن يَبِيع كل وَاحِد مِنْهُمَا بعض عرضه بِبَعْض عرض الآخر ويتقابضا ثمَّ يَأْذَن كل مِنْهُمَا للْآخر فِي التَّصَرُّف وَالله أعلم قَالَ
وَلكُل مِنْهُمَا فَسخهَا مَتى شَاءَ وَمَتى مَاتَ أَحدهمَا بطلت)
عقد الشّركَة جَائِز من الطَّرفَيْنِ وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا فَسخه مَتى شَاءَ لِأَنَّهُ عقد إرفاق فَكَانَ جَائِزا كَالْوكَالَةِ وكما أَنه لكل مِنْهُمَا فَسخه فَلِكُل مِنْهُمَا عزل نَفسه وعزل صَاحبه فَلَو قَالَ أَحدهمَا للْآخر عزلتك انْعَزل وَبَقِي العازل على حَاله وَلَو مَاتَ أَحدهمَا انْفَسَخت كَالْوكَالَةِ وَالْجُنُون وَالْإِغْمَاء كالموت لِخُرُوجِهِ عَن أَهْلِيَّة التَّصَرُّف وَالله أعلم
(فرع) لشخص دَابَّة وَللْآخر بَيت وَللْآخر طاحون وَآخر لَا شَيْء لَهُ فَقَالُوا نشْرك هَذَا بدابته وَهَذَا ببيته وَهَذَا بحجره وَهَذَا بِعَمَلِهِ على أَن مَا فتح الله من الطحين شركَة فَهِيَ فَاسِدَة وَالله أعلم
(فرع) يَد كل من الشَّرِيكَيْنِ يَد أَمَانَة كالمستودع فَإِذا ادّعى رد المَال إِلَى شَرِيكه قبل وَكَذَا لَو ادّعى تلفاً أَو خسارة صدق فَإِن أسْند التّلف إِلَى سَبَب ظَاهر طُولِبَ بِالْبَيِّنَةِ فَإِذا أَقَامَهَا على السَّبَب صدق فِي دَعْوَى التّلف بِهِ وَلَو ادّعى أَحدهمَا خِيَانَة صَاحبه لم يسمع حَتَّى يبين قدر مَا خَان بِهِ وَالْقَوْل قَول الْمُنكر مَعَ يَمِينه وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْوكَالَة فصل وكل مَا جَازَ للْإنْسَان أَن يتَصَرَّف فِيهِ بِنَفسِهِ جَازَ أَن يُوكل فِيهِ أَو يتوكل
الْوكَالَة بِفَتْح الْوَاو وَكسرهَا وَهِي فِي اللُّغَة تطلق على التَّفْوِيض وعَلى الْحِفْظ وَمِنْه حَسْبُنَا الله وَنعم الْوَكِيل وَفِي الِاصْطِلَاح تَفْوِيض مَاله فعله مِمَّا يقبل النِّيَابَة إِلَى غَيره ليحفظه فِي حَال حَيَاته
وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {فَابْعَثُوا أحدكُم بورقكم} الْآيَة وَغَيرهَا وَمن السّنة

(1/271)


حَدِيث عُرْوَة الْبَارِقي الْمُتَقَدّم وَحَدِيث عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي لما وَكله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قبُول نِكَاح أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان وَغير ذَلِك وَأجْمع الْمُسلمُونَ على جَوَازهَا بل قَالَ القَاضِي حُسَيْن وَغَيره إِنَّهَا مَنْدُوب إِلَيْهَا لقَوْله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَفِي الحَدِيث
(وَالله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه) واشتداد الْحَاجة إِلَى التَّوْكِيل مِمَّا لَا يخفى إِذا عرفت هَذَا فَشرط الْوكَالَة أَن يكون الْمُوكل بِكَسْر الْكَاف تصح مِنْهُ مُبَاشرَة مَا وكل فِيهِ إِمَّا بِملك أَو ولَايَة كَالْأَبِ وَالْجد فَإِن لَهما أَن يوكلا فَإِن كَانَ لَا يَصح مِنْهُ ذَلِك فَلَا تصح الْوكَالَة فَلَا تصح وكَالَة الصَّبِي وَلَا الْمَجْنُون وَلَا الْمَرْأَة وَلَا الْمحرم فِي النِّكَاح وَكَذَا لَا يَصح تَوْكِيل الْفَاسِق فِي تَزْوِيج ابْنَته فَإِنَّهُ لَا يَلِي نِكَاحهَا بِنَفسِهِ فَلَا يُوكل كَمَا أَن الْمحرم لَا يجوز أَن يعْقد نِكَاحه فَلَا يُوكل من يعْقد نِكَاحه فِي حَالَة الْإِحْرَام فَلَو وكل من يعْقد لَهُ بعد التَّحَلُّل أَو أطلق الْوكَالَة صحت كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي كتاب النِّكَاح فَلَو قَالَ إِذا تحللت فقد وَكلتك فَهُوَ تَعْلِيق وكَالَة وَالصَّحِيح عدم صِحَّتهَا وَالضَّابِط فِي صِحَّتهَا كَمَا قَالَه الشَّيْخ لِأَنَّهُ إِذا لم يَصح تصرفه لنَفسِهِ وَهُوَ أقوى من التَّصَرُّف للْغَيْر فَلِأَن لَا يَصح التَّوْكِيل أولى لِأَنَّهُ أَضْعَف وكما يشْتَرط فِي صِحَة التَّوْكِيل صِحَة مُبَاشرَة الْمُوكل كَذَلِك الْوَكِيل يشْتَرط أَن يكون مِمَّن يَصح تصرفه فِيهِ لنَفسِهِ فَلَا يَصح تَوْكِيل الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَمن فِي مَعْنَاهُمَا أَن يتوكلا فِي البيع وَالشِّرَاء لِامْتِنَاع مباشرتهما العقد لأنفسهما فلغيرهما أولى وَفِي مَعْنَاهُمَا وَالْمَعْتُوه والمبرسم والنائم والمغمى عَلَيْهِ وَمن شرب مَا يزِيل عقله لحَاجَة نعم يسْتَثْنى مَا إِذا وكل شخص عبدا فِي قبُول نِكَاح امْرَأَة فَإِنَّهُ يَصح على الرَّاجِح سَوَاء أذن السَّيِّد أم لَا إِذْ لَا ضَرَر على السَّيِّد فِي ذَلِك وَقيل لَا بُد من إِذن السَّيِّد كَمَا لَا يقبل العقد لنَفسِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَالسَّفِيه كَالْعَبْدِ وَالله أعلم
(فرع) يشْتَرط فِي الْوَكِيل أَن يكون معينا فَلَو قَالَ أَذِنت لكل من أَرَادَ بيع دَابَّتي أَن يَبِيعهَا لم يَصح وَالله أعلم
(فرع) لَا يَصح التَّوْكِيل فِي الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة لِأَن الْمَقْصُود مِنْهَا الِابْتِلَاء والاختبار وَهُوَ لَا يحصل بِفعل الْغَيْر وَيسْتَثْنى من ذَلِك مسَائِل الْحَج وَذبح الْأَضَاحِي وتفرقة الزَّكَاة وَصَوْم الْكَفَّارَات وركعات الطّواف الْأَخير إِذا صلاهَا تبعا لطواف الْحَج إِمَّا إِذا وكل فيهمَا فَقَط

(1/272)


فَلَا تصح الْوكَالَة قطعا صرح بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْوَصِيَّة وَألْحق بالعبادات الشَّهَادَات والأيمان وَمن الْأَيْمَان الْإِيلَاء وَاللّعان فَلَا يَصح التَّوْكِيل فِي شَيْء مِنْهُمَا بِلَا خلاف وَفِي الظِّهَار وَجْهَان الْأَصَح فِي الرَّوْضَة فِي بَاب الْوكَالَة أَن لَا يَصح تَغْلِيبًا لشبه الْيَمين لَكِن صحّح الرَّافِعِيّ فِي كتاب الظِّهَار أَن الْمُغَلب فِي الظِّهَار شبه الطَّلَاق وَمُقْتَضَاهُ صِحَة التَّوْكِيل وَفِي معنى الْأَيْمَان النّذر وَتَعْلِيق الطَّلَاق وَالْعِتْق وَكَذَا التَّدْبِير على الْمَذْهَب فَلَا يَصح التَّوْكِيل فِي هَذِه الْأُمُور كلهَا وَالله أعلم
(فرع) يشْتَرط فِي الْمُوكل فِيهِ أَن يكون مَعْلُوما من بعض الْوُجُوه وَلَا يشْتَرط علمه من كل وَجه لِأَن الْوكَالَة جوزت للْحَاجة فسومح فِيهَا فَلَو قَالَ وَكلتك فِي كل قَلِيل وَكثير لم يَصح أَو فِي كل أموري فَكَذَلِك لَا يَصح أَو فوضت إِلَيْك كل شَيْء لِأَنَّهُ غرر عَظِيم وَإِن قَالَ وَكلتك فِي بيع أَمْوَالِي وَعتق أرقائي صَحَّ لقلَّة الْغرَر بِالتَّعْيِينِ وَفِي معنى ذَلِك فِي قَضَاء ديوني واسترداد الودائع وَنَحْو ذَلِك وَلَا يشْتَرط أَن تكون أَمْوَاله مَعْلُومَة وَلَو قَالَ فِي بعض أَمْوَالِي وَنَحْوه لم يَصح بِخِلَاف مَا لَو قَالَ أبرئ فلَانا بِشَيْء من مَالِي فَإِنَّهُ يَصح ويبرئه عَن قَلِيل مِنْهُ وَالله أعلم قَالَ (وَالْوكَالَة عقد جَائِز لكل وَاحِد مِنْهُمَا فَسخهَا مَتى شَاءَ وتنفسخ بِمَوْت أَحدهمَا)
الْوكَالَة عقد جَائِز من الطَّرفَيْنِ لِأَنَّهُ عقد إرفاق وَمن تتمته جَوَازه من الطَّرفَيْنِ وَلِأَن الْمُوكل قد يرى الْمصلحَة فِي عَزله لِأَن غَيره أحذق مِنْهُ أَو بِأَن يَبْدُو لَهُ أَن لَا يَبِيع أَو لَا يَشْتَرِي مَا وكل فِيهِ الْوَكِيل وَكَذَا الْوَكِيل قد لَا يتفرغ لما وكل فِيهِ فإلزام كل مِنْهُمَا بذلك فِيهِ ضَرَر ظَاهر
(وَلَا ضَرَر وَلَا ضرار) كَمَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيفْسخ عقد الْوكَالَة بِمَوْت أَحدهمَا لِأَن هَذَا شَأْن الْعُقُود الْجَائِزَة وَلِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ خرج عَن أَهْلِيَّة التَّصَرُّف فبطلت وَلِهَذَا لَو جن أَحدهمَا بطلت وَالْإِغْمَاء كالجنون على الْأَصَح لعدم الْأَهْلِيَّة وكما تبطل الْوكَالَة بِالْمَوْتِ وَنَحْوه كَذَلِك تبطل بِخُرُوج الْمُوكل فِيهِ عَن ملك الْمُوكل كَبَيْعِهِ أَو إِعْتَاقه أَو وَقفه أَو استولد الْجَارِيَة وَلَو جزوها كَانَ عزلاً وَكَذَا لَو أجرهَا وَإِن جَوَّزنَا بيع الْمُسْتَأْجر وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن من يُرِيد البيع لَا يُؤجر غَالِبا لقلَّة الرغبات فِي الْعين الْمُسْتَأْجرَة كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن الْمُتَوَلِي وَأقرهُ وَالله أعلم قلت فِي هَذَا نظر ظَاهر لِأَن كثيرا من النَّاس يوكلون فِي بيع دُورهمْ ودوابهم ويؤجرونها لِئَلَّا تتعطل عَلَيْهِم مَنَافِع أَمْوَالهم وَالتَّعْلِيل بِمَنْع الرَّغْبَة وَإِن سلم إِلَّا أَنه لَيْسَ بمطرد فَالصَّوَاب الرُّجُوع إِلَى عَادَة البيع وَالله أعلم قَالَ
(وَالْوَكِيل أَمِين فِيهَا لَا يضمن إِلَّا بالتفريط)

(1/273)


الْوَكِيل أَمِين فِيمَا وكل فِيهِ فَلَا يضمن الْمُوكل فِيهِ إِذا تلف إِلَّا أَن يفرط لِأَن الْمُوكل استأمنه فتضمينه يُنَافِي تأمينه كَالْمُودعِ وكما لَا يضمن بالتلف بِلَا تَفْرِيط كَذَلِك يقبل قَوْله فِي التّلف كَسَائِر الْأُمَنَاء وَكَذَا يقبل قَوْله فِي دَعْوَى الرَّد لِأَنَّهُ إِن كَانَ وَكيلا بِلَا جعل فقد أَخذ المَال بمحض غَرَض الْمَالِك فَأشبه الْمُودع وَإِن كَانَ وَكيلا بِجعْل فَلِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخذ المَال لمَنْفَعَة الْمَالِك فانتفاع الْوَكِيل إِنَّمَا هُوَ بِالْعَمَلِ فِي الْعين لَا بِالْعينِ نَفسهَا ثمَّ هَل من شَرط قبُول الْوَكِيل فِي الرَّد بَقَاء الْوكَالَة قَضِيَّة إِطْلَاق الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه لَا فرق فِي قبُوله بَينهمَا قبل الْعَزْل وَبعده لَكِن قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب إِن قبُول قَوْله مَحَله فِي قيام الْوكَالَة فَإِن كَانَ بعد الْعَزْل فَلَا يقبل قَوْله فِي الرَّد لَكِن صَرَّحُوا فِي الْمُودع أَنه يقبل قَوْله فِي الرَّد بعد الْعَزْل وَهُوَ نَظِير مَسْأَلَتنَا كَذَا قَالَه الاسنائي وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن من صور التَّفْرِيط أَن يَبِيع الْعين ويسلمها قبل قبض الثّمن وَأَن يسْتَعْمل الْعين وَأَن يَضَعهَا فِي غير حرز وَهل يضمن بِتَأْخِير بيع وَمَا وكل فِيهِ بِالْبيعِ فِيهِ وَجْهَان وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز أَن يَبِيع وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا بِثَلَاثَة شُرُوط بمثن الْمثل وَأَن يكون نَقْدا وبنقد الْبَلَد أَيْضا)
تجوز الْوكَالَة بِالْبيعِ مُطلقًا وَكَذَا الشِّرَاء فَلَيْسَ للْوَكِيل بِالْبيعِ مُطلقًا أَن يَبِيع بِدُونِ ثمن الْمثل وَلَا بِغَيْر نقد حَال وَلَا بِغَبن فَاحش وَهُوَ مَا لَا يحْتَمل فِي الْغَالِب لِأَن الْعرف يدل على ذَلِك فَهُوَ بِمَنْزِلَة التَّنْصِيص عَلَيْهِ أَلا ترى أَن الْمُتَبَايعين إِذا أطلقا العقد حمل على الثّمن وعَلى نقد الْبَلَد وَالله أعلم قَالَ (وَلَا يجوز أَن يَبِيع لنَفسِهِ وَلَا يقر على مُوكله)
لَيْسَ للْوَكِيل فِي البيع أَن يَبِيع لنَفسِهِ وَكَذَا لَيْسَ لَهُ أَن يَبِيع لوَلَده الصَّغِير لِأَن الْعرف يَقْتَضِي ذَلِك وَسَببه أَن الشَّخْص حَرِيص بطبعه على أَن يَشْتَرِي لنَفسِهِ رخيصاً وغرض الْمُوكل الِاجْتِهَاد فِي الزِّيَادَة وَبَين الغرضين مضادة وَلَو بَاعَ لِأَبِيهِ أَو ابْنه الْبَالِغ فَهَل يجوز وَجْهَان
أَحدهمَا لَا خشيَة الْميل وَالأَصَح الصِّحَّة لِأَنَّهُ لَا يَبِيع مِنْهُمَا إِلَّا بِالثّمن الَّذِي لَو بَاعه لأَجْنَبِيّ لصَحَّ فَلَا مَحْذُور قَالَ ابْن الرّفْعَة وَمحل الْمَنْع فِي بَيْعه لنَفسِهِ فِيمَا إِذا لم ينص على ذَلِك أما إِذا نَص دلّ على البيع من نَفسه وَقدر الثّمن وَنَهَاهُ عَن الزِّيَادَة فَإِنَّهُ يَصح البيع واتحاد الْمُوجب والقابل إِنَّمَا يمْنَع لأجل التُّهْمَة بِدَلِيل الْجَوَاز فِي حق الْأَب وَالْجد وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن الشِّرَاء فِيمَا ذَكرْنَاهُ حكمه حكم البيع وَأما مَنعه الْإِقْرَار فَلِأَنَّهُ إِقْرَار فِيمَا لَا يملكهُ وَالله أعلم قَالَ

(1/274)


بَاب الْإِقْرَار فصل فِي الْإِقْرَار وَالْمقر بِهِ ضَرْبَان حق الله تَعَالَى وَحقّ الْآدَمِيّ فَحق الله تَعَالَى يجوز الرُّجُوع فِيهِ عَن الْإِقْرَار بِهِ وَحقّ الْآدَمِيّ لَا يَصح الرُّجُوع عَنهُ
الْإِقْرَار فِي اللُّغَة الْإِثْبَات من قَوْلهم قر الشَّيْء يقر وَفِي الِاصْطِلَاح الِاعْتِرَاف بِالْحَقِّ وَالْأَصْل فِي الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} وَالشَّهَادَة على النَّفس هِيَ الْإِقْرَار وَفِي السنه الشريفه ((واغد ياأنيس على إمرأة هَذَا فَإِن اعْترفت فارجمها)) وَلِأَن الشَّهَادَة على الْإِقْرَار صَحِيحَة فالإقرار أولى إِذا عرفت هَذَا فَإِذا أقرّ من يقبل إِقْرَاره بِمَا يُوجب حد الله تَعَالَى كَالزِّنَا وَشرب الْخمر والمحاربة بِشَهْر السِّلَاح فِي الطَّرِيق وَالسَّرِقَة الْمُوجبَة للْقطع ثمَّ رَجَعَ قبل رُجُوعه حَتَّى لَو كَانَ قد استوفى بعض الْحَد ترك الْبَاقِي لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(ادرءوا الْحُدُود بِالشُّبُهَاتِ) وَهَذِه شُبْهَة لجَوَاز صدقه وَمن أحسن مَا يسْتَدلّ بِهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لماعز لما اعْترف بِالزِّنَا لَعَلَّك قبلت) فلولا أَن الرُّجُوع مَقْبُول لم يكن للتعريض بِعْ فَائِدَة وَاعْلَم أَن فَائِدَة الرُّجُوع فِي الْمُحَاربَة سُقُوط تحتم الْقَتْل لَا أصل الْقَتْل وَفِي السّرقَة سُقُوط الْقطع لَا سُقُوط المَال لِأَنَّهُ حق آدَمِيّ وَلِهَذَا لَو أقرّ أَنه أكره امْرَأَة على الزِّنَا ثمَّ رَجَعَ لم يسْقط الْمهْر وَيسْقط الْحَد على الْمَذْهَب وَلَو قَالَ زَنَيْت بفلانة ثمَّ رَجَعَ سقط حد الزِّنَا وَالأَصَح أَن حد الْقَذْف لَا يسْقط لِأَنَّهُ حق آدَمِيّ وَالْفرق بَين حق الله وَحقّ الْآدَمِيّ أَن حق الله الْكَرِيم مَبْنِيّ على الْمُسَامحَة بِخِلَاف الْآدَمِيّ فَإِن حَقه مَبْنِيّ على المشاححة ثمَّ كَيْفيَّة الرُّجُوع فِي الْإِقْرَار أَن يَقُول كذبت فِي إقراري أَو رجعت عَنهُ أَو لم أزن أَو لَا حد عَليّ وَلَو قَالَ لَا تحدوني فَلَيْسَ بروجوع على الرَّاجِح لاحْتِمَال أَن يُرِيد أَن يُعْفَى عَنهُ أَو يقْضِي دينه أَو غير ذَلِك وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ يسْأَل فَإِذا بَين عمل بمراده وَلَو قَالَ بعد شَهَادَة الشُّهُود على إِقْرَاره مَا أَقرَرت فَقيل هُوَ كَقَوْلِه رجعت وَالأَصَح أَنه لَيْسَ بِرُجُوع وطرد الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْله هما كاذبان وَالله أعلم
(فرع) هَل يسْتَحبّ للْمقر الرُّجُوع وَجْهَان رجح النَّوَوِيّ الِاسْتِحْبَاب كَمَا يسْتَحبّ لَهُ أَن لَا يقر وَمِنْهُم من قَالَ إِن تَابَ ندب لَهُ الكتمان وَإِلَّا ندب لَهُ الْإِقْرَار وَالله أعلم

(1/275)


(فرع) أقرّ بِالزِّنَا ثمَّ قَالَ حددت فَفِي قبُول قَوْله فِي الْحَد احْتِمَالَانِ فِي الْبَحْر للروياني وَلَو أقرّ بِالزِّنَا ثمَّ قَامَت الْبَيِّنَة بزناه ثمَّ رَجَعَ فَفِي سُقُوط الْحَد وَجْهَان وَلَو قَامَت الْبَيِّنَة ثمَّ أقرّ ثمَّ رَجَعَ عَن الْإِقْرَار لم يسْقط وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق يسْقط وَالله أعلم
(فرع) أقرّ بِالزِّنَا وَهُوَ مِمَّن يرْجم ثمَّ رَجَعَ فَقتله شخص بعد الرُّجُوع عَن الْإِقْرَار فَهَل يجب عَلَيْهِ الْقصاص فِيهِ وَجْهَان نقلهما ابْن كج وَصحح عدم الْوُجُوب لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِي سُقُوط الْحَد بِالرُّجُوعِ وَالله أعلم قَالَ
(وتفتقر صِحَة الْإِقْرَار إِلَى ثَلَاث شَرَائِط الْبلُوغ وَالْعقل وَالِاخْتِيَار وَإِن كَانَ بِمَال اعْتبر فِيهِ الرشد وَهُوَ شَرط رَابِع)
إِقْرَار الصَّبِي وَالْمَجْنُون لَا يَصح لِامْتِنَاع تصرفهما وَسُقُوط أقوالهما وَفِي معنى الْمَجْنُون الْمغمى عَلَيْهِ وَمن زَالَ عقله بِسَبَب يعْذر فِيهِ وَفِي السَّكْرَان خلاف كطلاقه وَالْمذهب وُقُوع الطَّلَاق عَلَيْهِ إِذا طلق وَأما الْإِقْرَار الْمُكْره فَلَا يَصح كَمَا يصنعه الْوُلَاة والظلمة من الضَّرْب وَغَيره مِمَّا يكون الشَّخْص بِهِ مكْرها لِأَن الْإِكْرَاه على الْكفْر مَعَ طمأنينة الْقلب بِالْإِيمَان لَا يضر كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} فَغَيره أولى وَلَو ضربه فَأقر قَالَ الْمَاوَرْدِيّ إِن ضربه لِيُقِر لم يَصح وَإِن ضربه ليصدق صَحَّ لِأَن الصدْق لم ينْحَصر فِي الْإِقْرَار كَذَا نَقله النَّوَوِيّ عَنهُ وَتوقف فِيهِ وَأما السَّفِيه فَإِن أقرّ بدين أَو بِإِتْلَاف مَال فَلَا يقبل كَالصَّبِيِّ وَإِلَّا لأبطل فَائِدَة الْحجر وَقيل يقبل فِي الْإِقْرَار بِإِتْلَاف كَمَا لَو أتلف وَالصَّحِيح الأول وَإِذا لم يَصح لَا يُطَالب وَلَو بعد فك الْحجر وَالْمرَاد الْمُطَالبَة فِي ظَاهر الحكم وَأما فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَيجب عَلَيْهِ الْوَفَاء بعد فك الْحجر إِن كَانَ صَادِقا وَقد نَص على ذَلِك الشَّافِعِي فِي الْأُم قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلم يخْتَلف فِيهِ الْأَصْحَاب قَول الشَّيْخ وَإِن كَانَ بِمَال يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه إِذا أقرّ بِغَيْر مَال يقبل إِقْرَاره من السَّفِيه وَهُوَ كَذَلِك فَيصح إِقْرَاره بِمَا يُوجب الْحَد وَالْقصاص وَكَذَا يقبل إِقْرَاره بِالطَّلَاق وَالْخلْع وَالظِّهَار لِأَن هَذِه الْأُمُور لَا تعلق لَهَا بِالْمَالِ وَحكمه فِي الْعِبَادَات كلهَا كالرشيد لِاجْتِمَاع الشُّرُوط فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ تَفْرِقَة الزَّكَاة لِأَنَّهُ ولَايَة وَتصرف مَال وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا أقرّ بِمَجْهُول رَجَعَ إِلَيْهِ فِي بَيَانه)
يَصح الْإِقْرَار بِالْمَجْهُولِ لِأَن الْإِقْرَار إِخْبَار عَن حق سَابق وَالشَّيْء يخبر عَنهُ مفصلا تَارَة ومجملاً أُخْرَى إِمَّا للْجَهْل بِهِ أَو لثُبُوته مَجْهُولا كوصية الْوَارِث وَغَيرهَا فَإِذا قَالَ لَهُ عَليّ شَيْء رَجَعَ

(1/276)


إِلَيْهِ فِي تَفْسِيره وَيقبل تَفْسِيره بِكُل مَا يتمول وَإِن قل لِأَن اسْم الشَّيْء صَادِق عَلَيْهِ وَلَو فسره بِمَا لَا يتمول لكنه من جنسه كحبة حِنْطَة أَو بِمَا يحل اقتناؤه ككلب معلم وزبل قبل لِأَنَّهُ يحرم أَخذه وَيجب رده على من غصبه وَلَا يقبل تَفْسِيره بِمَا لَا يقتني كخنزير وكلب لَا ينفع فِي صيد وَلَا فِي زرع وَنَحْوهمَا لِأَن قَوْله عَليّ يَقْتَضِي ثُبُوت حق على الْمقر للْمقر لَهُ وَمَا لَا يقتني لَيْسَ فِيهِ حق وَلَا اخْتِصَاص وَلَا يلْزمه رده وَقيل يَصح التَّفْسِير بِهِ لِأَنَّهُ شَيْء لَو فسره بِحَق الشُّفْعَة قبل جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة وَفِي حد الْقَذْف وَجْهَان أصَحهمَا فِي التَّنْبِيه وزوائد الرَّوْضَة يقبل وَلَا يقبل تَفْسِيره بِالْعبَادَة ورد السَّلَام بِخِلَاف مَا لَو قَالَ لَهُ حق فَإِنَّهُ يقبل تَفْسِيره بِالْعبَادَة ورد السَّلَام قَالَه الْبَغَوِيّ وَتوقف فِيهِ الرَّافِعِيّ وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن لَا يَصح تَفْسِيره بهما وَالله أعلم
(فرع) قَالَ الْمَدْيُون لصَاحب الْحق أَلَيْسَ قد أوفيتك فَقَالَ بلَى ثمَّ ادّعى صَاحب الْحق أَنه أوفى الْبَعْض صدق ذكره الرَّافِعِيّ فِي الْكِتَابَة فِي الحكم الثَّانِي وَالله أعلم قَالَ
(وَيصِح الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِقْرَار إِذا وَصله بِهِ)
يَصح الِاسْتِثْنَاء فِي الْإِقْرَار وَغَيره لِكَثْرَة وُرُوده فِي الْقُرْآن الْعَظِيم واللغة ثمَّ الِاسْتِثْنَاء تَارَة يرفع الْإِقْرَار من أَصله وَتارَة يرفع بعضه فَإِن كَانَ الأول وَهُوَ بِلَفْظ إِن شَاءَ الله فَلَا يكون مقرا كَقَوْلِه لَهُ عَليّ مائَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَوَجهه أَنه لم يجْزم بِالْإِقْرَارِ وَأَيْضًا فَإِن هَذِه الصِّيغَة تدل على الْإِلْزَام فِي الْمُسْتَقْبل وَالْإِقْرَار إِخْبَار عَن أَمر سَابق فبينهما مُنَافَاة وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة وَشرط هَذَا الِاسْتِثْنَاء أَن يتَّصل على الْعَادة فَلَا تضر سكتة التنفس والعي بطول الْكَلَام والسعال والاشتغال بالعطاس وَنَحْو ذَلِك لِأَن كل ذَلِك يعد مُتَّصِلا عَادَة وَلَو كَانَ بِالرجلِ سكتة بَين الْكَلَامَيْنِ فَهُوَ كسكتة التنفس فَلَا تمنع الِاتِّصَال فَلَو لم تتصل على الْعَادة بِأَن اشْتغل بِكَلَام آخر أَو أعرض عَن الِاسْتِثْنَاء ثمَّ اسْتَلْحقهُ فَلَا يَصح اسْتِثْنَاؤُهُ وَيُؤْخَذ بِإِقْرَارِهِ وَلَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء فِي بعض الْمقر بِهِ كَمَا لَو قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة صَحَّ أَيْضا بِشَرْط الِاتِّصَال على الْعَادة وَأَن لَا يسْتَغْرق كَمَا مثلناه وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ عشرَة إِلَّا عشرَة بَطل الِاسْتِثْنَاء لاستغراقه وَلَزِمَه الْعشْرَة وَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَة لَهُ عَلَيْهِ عَليّ عشرَة لَا تلزمني وَالله أعلم
(فرع) إِذا قَالَ شخص إِذا جَاءَ رَأس الشَّهْر أَو قدم زيد فلفلان عَليّ مائَة فَالْمَذْهَب أَنه لَا يلْزمه شَيْء لِأَن الشَّرْط لَا أثر لَهُ فِي إِيجَاب المَال وَالْوَاقِع لَا يعلق بِشَرْط وَهَذَا إِذا أطلق أَو قَالَ قصدت التَّعْلِيق فَإِن قصد التَّأْجِيل قبل وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ كَذَا من ثمن كلب أَو ثمن خمر أَو ثمن آلَة لَهُم أَو ثمن زبل وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا يَصح بَيْعه فَهَل يلْزمه شَيْء أم لَا قَولَانِ
أَحدهمَا لَا يلْزمه شَيْء لِأَن الْكَلَام كَلَام وَاحِد وَمثله يُطلق فِي الْعرف وَالْأَظْهَر أَنه يلْزمه مَا أقرّ بِهِ لِأَن أول الْكَلَام إِقْرَار صَحِيح وَآخره يرفع فَلَا يقبل مِنْهُ كَمَا لَو قَالَ لَهُ على ألف لَا يلْزَمنِي

(1/277)


وَيجْرِي الْقَوْلَانِ فِي كل مَا يَنْتَظِم عَادَة وَيبْطل حكمه شرعا كَمَا لَو أضَاف ذَلِك إِلَى بيع أَو إِجَارَة أَو كَفَالَة وَوَصفه بِالْفَسَادِ فَلَو ذكر هَذِه الْأُمُور مفصولة عَن الْإِقْرَار ألزمناه بِلَا خلاف وَالله أعلم
قلت تَرْجِيح اللُّزُوم عِنْد عدم الْقَرِينَة مُتَّجه أما إِذا اعتضد الْإِقْرَار بِقَرِينَة دَالَّة على صدق الْمقر فَالْمُتَّجه عدم إِلْزَامه بِمَا أقرّ بِهِ لانعضاد أصل بَرَاءَة الذِّمَّة بِالْعرْفِ العادي فِي الْإِقْرَار مَعَ الْقَرِينَة كَمَا لَو كَانَ النزاع بَين الكلابرية والخمارين والمتخذين الْآلَات اللهوية سَببا لِأَن بيع ذَلِك عِنْدهم مَعْلُوم فَقَوله ألف من ثمن الْكَلْب فِيهِ عرف مَعْهُود بِخِلَاف قَوْله عَليّ ألف لَا يلْزَمنِي فَإِنَّهُ لَا عرف فِي ذَلِك فَكيف يَصح إِلْحَاق مَا فِيهِ عرف على مَا لَا عرف فِيهِ أَلْبَتَّة وللقاضي اللبيب فِي مثل ذَلِك نظر ظَاهر وَالله أعلم
(فرع) أقرّ شخص أَنه طلق امْرَأَة وَاسْتثنى فَهَل يَقع عَلَيْهِ الطَّلَاق لِأَنَّهُ أقرّ بِالطَّلَاق وَادّعى رَفعه بِالِاسْتِثْنَاءِ أم لَا يَقع نظرا إِلَى جملَة كَلَامه أفتى بعض فقهائنا بِقبُول قَوْله وَلم يُوقع عَلَيْهِ طَلَاقا وَفِي فَتَاوَى القَاضِي حُسَيْن مَا يشْهد لَهُ وَلَو قيل بتخريجها على تعقيب الْإِقْرَار بِمَا يرفعهُ لم يبعد وَالله أعلم قَالَ
(وَهُوَ فِي حَال الصِّحَّة وَالْمَرَض سَوَاء)
قَوْله وَهُوَ أَي الْإِقْرَار اعْلَم أَن إِقْرَار الصَّحِيح صَحِيح حَيْثُ لَا مَانع لوُجُود شُرُوط الصِّحَّة وَأما إِقْرَار الْمَرِيض فِي مرض الْمَوْت فَهَل يَصح ينظر إِن أقرّ لأَجْنَبِيّ فَفِيهِ قَولَانِ سَوَاء كَانَ الْمقر بِهِ عينا أَو دينا الرَّاجِح الصِّحَّة قِيَاسا على الصَّحِيح وَقيل بل هُوَ مَحْسُوب من الثُّلُث وَأما الْإِقْرَار للموارث فَفِيهِ طَرِيقَانِ
أَحدهمَا على الْقَوْلَيْنِ وَالْمذهب الصِّحَّة لِأَن الْمقر انْتهى إِلَى حَالَة يصدق فِيهَا الْكَاذِب وَيَتُوب فِيهَا الْفَاجِر فَالظَّاهِر أَنه لَا يقر إِلَّا عَن تَحْقِيق وَلَا يقْصد حرماناً وَقيل لَا يَصح لِأَنَّهُ قد يقْصد حرمَان بعض الْوَرَثَة وَلَو أقرّ فِي صِحَّته بدين ثمَّ أقرّ لآخر فِي مَرضه تقاسما وَلَا يقدم الأول وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْعَارِية فصل فِي الْعَارِية وكل مَا أمكن الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه جَازَت إعارته إِذا كَانَت مَنَافِعه آثاراً
الْعَارِية بتَشْديد الْيَاء وتخفيفها قَالَ ابْن الرّفْعَة وحقيقتها شرعا إِبَاحَة الِانْتِفَاع بِمَا يحل الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه ليَرُدهُ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ هبة الْمَنَافِع

(1/278)


وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} وَالْمرَاد مَا يستعيره الْجِيرَان بَعضهم من بعض وَكَانَ ذَلِك وَاجِبا فِي أول الْإِسْلَام قَالَه الرَّوْيَانِيّ وَقَالَ البُخَارِيّ هُوَ كل مَعْرُوف وَفِي السّنة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(اسْتعَار يَوْم خَيْبَر من صَفْوَان بن أُميَّة درعاً فَقَالَ لَهُ غصبا يَا مُحَمَّد فَقَالَ لَا بل عَارِية مَضْمُونَة) وَنقل ابْن الصّباغ الْإِجْمَاع على استحبابها إِذا عرفت هَذَا فَشرط الْمُعير أَن يكون أَهلا للتبرع فَلَا تصح من الْمَحْجُور عَلَيْهِ وَيشْتَرط أَن تكون مَنْفَعَة الْعين المعارة ملكا للْمُعِير فَتَصِح إِعَارَة الْمُسْتَأْجر لِأَنَّهُ ملك للمنفعة وَلَا يعير الْمُسْتَعِير لِأَنَّهُ غير مَالك للمنفعة وَإِنَّمَا أُبِيح لَهُ الِانْتِفَاع والمستبيح لَا يملك نقل الْإِبَاحَة بِدَلِيل أَن الضَّيْف لَا يُبِيح لغيره مَا قدم إِلَيْهِ وَلَا يطعم الْهِرَّة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة والمنهاج وَالْمُحَرر وَقيل للْمُسْتَعِير أَن يعير قَالَ الإسنائي فِي شرح الْمِنْهَاج كَمَا أَن لَهُ أَن يُؤجر وَاعْتمد فِي الْإِجَارَة على نقل ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب أَن أَبَا عَليّ الدبيلي نقل عَن الشَّافِعِي أَنه جوز الْإِجَارَة للْمُسْتَعِير قَالَ وَيكون رُجُوع الْمُعير بِمَنْزِلَة الإنهدام فِي الدَّار حَتَّى تَنْفَسِخ الْإِجَارَة وَيسْتَحق الْمُسْتَعِير بِالْقِسْطِ وَفِي وَجه حَكَاهُ الرَّافِعِيّ فِي بَاب الْإِجَارَة أَنه يجوز أَن يستعير ليؤجر ثمَّ شَرط الْمُسْتَعَار كَونه مُنْتَفعا بِهِ فَلَا تصح إِعَارَة الْحمار الزَّمن وَنَحْوه لفَوَات الْمَقْصُود من الْعَارِية وَيشْتَرط أَيْضا بَقَاء الْعين بعد الِانْتِفَاع كإعارة الدَّوَابّ وَالثيَاب بِخِلَاف إِعَارَة الْأَطْعِمَة والشموع والصابون وَمَا فِي مَعْنَاهَا لِأَن مَنْفَعَتهَا فِي استهلاكها ثمَّ شَرط الْمَنْفَعَة أَن يكون لَهَا وَقع فِي الانتفاعات الحاجية وَلِهَذَا لَا يَصح اعارة الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير ليتزين بهَا على الصَّحِيح لِأَنَّهَا مَنْفَعَة ضَعِيفَة ومعظم مَنَافِعهَا فِي الانفاق وَقيل تصح إعارتها لِأَنَّهَا ينْتَفع بهَا مَعَ بَقَاء عينهَا قَالَ الرَّافِعِيّ وَمحل الْخلاف عِنْد إِطْلَاق الْعَارِية أما إِذا اسْتعَار الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير للتزين فَالْمُتَّجه الْقطع بِالصِّحَّةِ وبصحته أجَاب فِي التَّتِمَّة وَقَول الشَّيْخ إِذا كَانَت مَنَافِعه آثاراً احْتَرز بِهِ عَمَّا إِذا كَانَت الْمَنْفَعَة عينا كاستعارة الشَّاة للبنها والشجرة لثمرها وَنَحْو ذَلِك وَفِي جَوَاز إِعَارَة ذَلِك خلاف إِذا كَانَ بِصِيغَة الْإِبَاحَة كَقَوْلِه خُذ هَذِه الشَّاة فقد أبحتك درها ونسلها فأحد الْوَجْهَيْنِ أَنَّهَا كَقَوْلِه خُذ هَذِه الشَّاة فقد وَهبتك درها ونسلها وَهَذِه الْهِبَة فَاسِدَة فَيكون الدّرّ والنسل مَقْبُوضا بِهِبَة فَاسِدَة وَالشَّاة مَضْمُونَة بالعارية الْفَاسِدَة وَالثَّانِي أَنَّهَا إِبَاحَة صَحِيحَة وَالشَّاة عَارِية صَحِيحَة وَبِه قطع الْمُتَوَلِي وَمَا قطع بِهِ الْمُتَوَلِي صَححهُ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة ثمَّ نقل عَنهُ أَنه حكم بِالصِّحَّةِ أَيْضا فِيمَا إِذا دفع إِلَيْهِ شَاة وَقَالَ أعرتكها لدرها ونسلها فعلى مَا ذكره الْمُتَوَلِي وَصَححهُ النَّوَوِيّ تجوز الْعَارِية لاستعارة عين وَلَيْسَ من شَرطهَا أَن يكون الْمَقْصد مُجَرّد الْمَنْفَعَة بِخِلَاف الْإِجَارَة وَالله أعلم

(1/279)


(فرع) أَخذ كوزاً من سقاء بِلَا ثمن كَانَ الْكوز عَارِية فَلَو سقط من يَده ضمنه وَلَو دفع إِلَيْهِ أَولا فلسًا فَأخذ الْكوز فَسقط من يَده فانكسر فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ فِي الْكوز لِأَنَّهَا إِجَارَة فَاسِدَة وَحكم فَاسد العقد حكم صَحِيحَة فِي الضَّمَان وَعَدَمه وَلَو كَانَ لَهُ عَادَة أَن يشرب من السقاء وَيدْفَع إِلَيْهِ بعد كل حِين شَيْئا فَأخذ الْكوز فَسقط مِنْهُ وانكسر فَلَا ضَمَان أَيْضا قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَالله أعلم
(فرع) قَالَ أعرتك هَذِه الدَّابَّة لتعلفها أَو لتعيرني فرسك فَهِيَ إِجَارَة فَاسِدَة تجب فِيهَا أُجْرَة الْمثل وَلَو تلفت الدَّابَّة فَلَا يضمنهَا كَمَا فِي الْإِجَارَة الصَّحِيحَة وَوَجهه أَن الْأُجْرَة وَهِي الْعلف مَجْهُولَة وَكَذَا مُدَّة الْعَمَل فِي الصُّورَة الثَّانِيَة وَقيل عَارِية فَاسِدَة نظرا إِلَى اللَّفْظ وَالله أعلم قَالَ
(وَتجوز الْعَارِية مُطلقًا ومقيدة بِمدَّة)
قد علمت أَن الْعَارِية إِبَاحَة الِانْتِفَاع فللمبيح أَن يُطلق الْإِبَاحَة وَله أَن يؤقتها ثمَّ لَهُ الرُّجُوع مَتى شَاءَ لِأَن الْعَارِية عقد جَائِز فَلهُ رَفعه مَتى شَاءَ فَلَو منعنَا الْمَالِك من الرُّجُوع لامتنع النَّاس من هَذِه المكرمة
وَاعْلَم أَن الْعَارِية كَمَا ترْتَفع بِالرُّجُوعِ كَذَلِك ترْتَفع بِمَوْت الْمُعير وبجنونه وإغمائه وبالحجر عَلَيْهِ وَكَذَا بِمَوْت الْمُسْتَعِير فَإِذا مَاتَ الْمُسْتَعِير وَجب على ورثته رد الْعين المستعارة لَهُ وَإِن لم يطالبهم الْمُعير وهم عصاة بِالتَّأْخِيرِ وَلَيْسَ للْوَرَثَة اسْتِعْمَال الْعين المستعارة فَلَو استعملوها لزمتهم الْأُجْرَة مَعَ عصيانهم وَمؤنَة الرَّد فِي تَرِكَة الْمَيِّت وَيسْتَثْنى من جَوَاز الرُّجُوع مَا إِذا أعَار أَرضًا لدفن ميت فَدفن فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوع حَتَّى يبْلى الْمَيِّت ويندرس أَثَره لِأَنَّهُ دفن بِحَق والنبش لغير ضَرُورَة حرَام لما فِيهِ من هتك حُرْمَة الْمَيِّت وَإِذا امْتنع عَلَيْهِ الرُّجُوع فَلَا أُجْرَة لَهُ صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَالْبَغوِيّ وَغَيرهمَا لِأَن الْعرف يَقْتَضِي بِخِلَاف مَا إِذا أذن لَهُ أَن يضع جذعاً على جِدَاره ثمَّ رَجَعَ فَإِن لَهُ الْأُجْرَة إِذا اخْتَارَهَا على الصَّحِيح وَيسْتَثْنى أَيْضا مَا إِذا قَالَ أعيروا دَابَّتي لفُلَان أَو دَاري بعد موتِي سنة فَإِن الْإِعَارَة تكون لَازِمَة لَا يجوز للْوَارِث الرُّجُوع فِيهَا قبل الْمدَّة صرح الرَّافِعِيّ بذلك أَيْضا فِي كتاب التَّدْبِير وَيسْتَثْنى مَا لَو أعَار شخصا ثوبا ليكفن فِيهِ مَيتا فَكفن وَقُلْنَا إِن الْكَفَن بَاقٍ على ملك الْمُعير وَهُوَ الْأَصَح كَمَا ذكره النَّوَوِيّ فِي كتاب السّرقَة من زيادات فَإِنَّهُ يكون من العواري اللَّازِمَة وَالله أعلم وَيسْتَثْنى من جِهَة الْمُسْتَعِير مَا إِذا اسْتعَار دَارا لسكنى الْمُعْتَدَّة فَإِنَّهُ لَا يجوز للْمُسْتَعِير الرُّجُوع فِيهَا وَتلْزم من جِهَته صرح الْأَصْحَاب بذلك فِي كتاب الْعدَد وَالله أعلم قَالَ
(وَهِي مَضْمُونَة على الْمُسْتَعِير بِقِيمَتِهَا يَوْم تلفهَا)
الْعين المستعارة إِذا تلفت لَا بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُون فِيهِ ضمنهَا الْمُسْتَعِير وَإِن لم يفرط لحَدِيث

(1/280)


صَفْوَان بل عَارِية مَضْمُونَة وَلِأَنَّهُ مَال يجب رده فَتجب قِيمَته عِنْد تلفه كَالْعَيْنِ الْمَأْخُوذَة على وَجه السّوم وبقيمه أَي يَوْم تلفه يعْتَبر فِيهِ خلاف الْأَصَح بِقِيمَتِه يَوْم التّلف لِأَن الأَصْل رد الْعين وَإِنَّمَا تجب الْقيمَة بالفوات وَهَذَا إِنَّمَا يتَحَقَّق بالتلف فعلى هَذَا لَو حصل فِي الدَّابَّة زِيَادَة كالسمن وَغَيره ثمَّ زَالَ فِي يَد الْمُسْتَعِير لَا يضمن تِلْكَ الزِّيَادَة كَمَا دلّ عَلَيْهِ كَلَام القَاضِي أبي الطّيب فَإِنَّهُ ذكر هَذَا الحكم فِي البيع الْفَاسِد وقاسه على الْعَارِية كَذَا نَقله ابْن الرّفْعَة وَيسْتَثْنى من ذَلِك مَا إِذا اسعتار من الْمُسْتَأْجر الْعين الْمُسْتَأْجرَة وَتَلفت بِلَا تعد فَإِنَّهُ لَا يضمنهَا لِأَن يَده يَد الْمُسْتَأْجر وَلَو تلفت فِي يَد الْمُسْتَأْجر بِلَا تعد فَلَا يضمن فَكَذَا نَائِبه نعم لَو كَانَت الْإِجَارَة فَاسِدَة ضمنا مَعًا والقرار على الْمُسْتَعِير من الْمُسْتَأْجر وَمؤنَة الرَّد على الْمُسْتَعِير إِن رد على الْمُسْتَأْجر فَإِن رد على الْمَالِك كَانَت على الْمَالِك كَمَا لَو رد على الْمُسْتَأْجر
وَاعْلَم أَن الْمُسْتَعِير من الْمُوصى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ وَمن الْمَوْقُوف عَلَيْهِ حكمهمَا حكم الْمُسْتَعِير من الْمُسْتَأْجر وَالله أعلم وَهَذَا كُله إِذا تلفت لَا بِالِاسْتِعْمَالِ فَإِن تلفت بِالِاسْتِعْمَالِ الْمَأْذُون فِيهِ بِأَن انمحق الثَّوْب باللبس فَلَا ضَمَان على الصَّحِيح كالأجزاء فَإِن الْأَجْزَاء إِذا تلفت بِسَبَب الِاسْتِعْمَال الْمَأْذُون فِيهِ فَلَا ضَمَان على الصَّحِيح وَلَو تلفت الدَّابَّة بِسَبَب الرّكُوب وَالْحمل الْمُعْتَاد فَهِيَ كانمحاق الثَّوْب وتعيبها بِالِاسْتِعْمَالِ كانسحاق الثَّوْب وَلَا ضَمَان فِيهَا على الْأَصَح وَالْفرق بَين الانمحاق والانسحاق أَن الانمحاق هُوَ تلف الثَّوْب بِالْكُلِّيَّةِ بِأَن يلْبسهُ حَتَّى يبْلى والانسحاق هُوَ النُّقْصَان وعقر الدَّابَّة وعرجها كالانسحاق وَالله أعلم
(فرع) قطع شخص غصناً وَوَصله بشجرة غَيره فثمرة الْغُصْن لمَالِكه لَا لمَالِك الشَّجَرَة كَمَا لَو غرسه فِي أَرض غَيره وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْغَصْب فصل وَمن غصب مَالا أَخذ برده وَأرش نَقصه وَأُجْرَة مثله
الْغَصْب من الْكَبَائِر أجارنا الله تَعَالَى مِنْهُ وَمن سَبَب غَضَبه
وَالْأَصْل فِي تَحْرِيمه آيَات كَثِيرَة مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} الْآيَة وَمِنْهَا {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} وَالدّلَالَة مِنْهَا فِي غَايَة الْمُبَالغَة وَأما السّنة الشَّرِيفَة فالأخبار فِي ذَلِك كَثِيرَة جدا وَيَكْفِي مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خطبَته بمنى
(إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ

(1/281)


حرَام عَلَيْكُم كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا فِي شهركم هَذَا فِي بلدكم هَذَا)
وحد الْغَصْب فِي اللُّغَة اخذ الشَّيْء ظلما مجاهرة فَإِن أَخذه سرا من حرز مثله سمي سَرقَة وَإِن أَخذه مُكَابَرَة سمى محاربة وَإِن أَخذه اسْتِيلَاء سمي اختلاساً وَإِن أَخذه مِمَّا كَانَ مؤتمناً عَلَيْهِ سمي خِيَانَة
وَحده فِي الشَّرْع هُوَ الِاسْتِيلَاء على مَال الْغَيْر على وَجه التَّعَدِّي كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَفِيه شَيْء وَلِهَذَا قَالَ النَّوَوِيّ هُوَ الِاسْتِيلَاء على حق الْغَيْر عُدْوانًا عدل عَن قَول الرَّافِعِيّ مَال الْغَيْر إِلَى قَوْله حق الْغَيْر لِأَن الْحق يَشْمَل مَا لَيْسَ بِمَال كَالْكَلْبِ والزبل وَجلد الْميتَة وَالْمَنَافِع والحقوق كإقامة شخص من مَكَان مُبَاح كالطريق وَالْمَسْجِد وَاحْترز بالعدوان عَمَّا إِذا انتزع مَال الْمُسلم من الْحَرْبِيّ ليَرُدهُ على الْمُسلم أَو من غَاصِب مُسلم على وَجه ثمَّ الِاسْتِيلَاء بِحَسب الْمَأْخُوذ وَالرُّجُوع فِيهِ إِلَى تَسْمِيَته غصبا فَلَو جلس على بِسَاط الْغَيْر أَو اغترف بآنية الْغَيْر بِلَا إِذن فغاصب وَإِن لم يقْصد الِاسْتِيلَاء لِأَن غَايَة الْغَصْب أَن ينْتَفع بالمغصوب وَقد وجد وَلَو دخل دَارا وَأخرج صَاحبهَا أَو أخرجه وَإِن لم يدخلهَا فغاصب وَكَذَا لَو ركب دَابَّة الْغَيْر أَو حَال بَينه وَبَينهَا وَلَو دخل دَار الْغَيْر وَلم يكن صَاحبهَا فِيهَا وَقصد الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا فغاصب بِخِلَاف من دَخلهَا لينْظر هَل تصلح لَهُ أم لَا وَنَحْو ذَلِك وَلَو دفع إِلَى عبد غَيره شَيْئا ليوصله إِلَى منزله بِلَا إِذن مَالِكه قَالَ القَاضِي حُسَيْن يكون غَاصبا وطرده فِيمَا إِذا بَعثه فِي شغل وَقَالَ الْبَغَوِيّ لَا يضمن إِلَّا إِذا اعْتقد طَاعَة الْأَمر كالصغير والأعجمي وَعبد الْمَرْأَة ثمَّ مَتى ثَبت الْغَصْب وَجب عَلَيْهِ رد مَا غصبه إِلَى مَالِكه وَهُوَ معنى قَول الشَّيْخ أَخذ برده للأحاديث الْوَارِدَة فِي ذَلِك وَلَو غرم فِي الرَّد أَضْعَاف قيمَة الْمَغْصُوب كَمَا لَو غصبه شَيْئا بِمَكَّة ثمَّ لقِيه بمَكَان آخر بعيد يجب على الْغَاصِب أَن يحضر الْمَغْصُوب وَأَن يتَكَلَّف مُؤنَة نَقله وَهَذَا لَا يُنَازع فِيهِ وكما يخرج عَن الْعهْدَة بِالرَّدِّ إِلَى الْمَالِك كَذَلِك يخرج بِالرَّدِّ إِلَى وَكيله وَلَو غصب الْعين المودوعة من الْمُودع أَو من الْمُسْتَأْجر أَو من الْمَرْهُون عِنْده ثمَّ رد إِلَيْهِم برِئ على الرَّاجِح لِأَن يدهم كيد الْمَالِك وَقيل لَا يبرأ إِلَّا بِالرَّدِّ إِلَى الْمَالِك وَلَو غصب من الْمُسْتَعِير أَو من الْآخِذ على وَجه السّوم ثمَّ رده إِلَيْهِ هَل يبرأ وَجْهَان ذكرهمَا الرَّافِعِيّ فِي الْبَاب الثَّالِث من أَبْوَاب الرَّهْن وَلَو رد الدَّابَّة إِلَى الإسطبل أَو الدَّار فِي حق أهل الْقرى وَنَحْوهم إِن علم الْمَالِك بذلك إِمَّا بِأَن رَآهَا أَو أخبرهُ ثِقَة برِئ وَإِن لم يعلم حَتَّى شَردت لم يبرأ كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَن الْمُتَوَلِي فِي آخر الْبَاب وَأقرهُ وَاعْلَم أَنه كَمَا يجب رد الْمَغْصُوب كَذَلِك يجب أرش نَقصه وَلَا فرق بَين نقص الصّفة وَنقص الْعين مِثَال نقص الصّفة بِأَن غصب دَابَّة سَمِينَة فهزلت ثمَّ سمنت فَإِنَّهُ يردهَا وَأرش السّمن الأول لِأَن الثَّانِي غير الأول حَتَّى لَو هزلت مرّة

(1/282)


أُخْرَى ردهَا ورد أرش السمنتين جَمِيعًا وَيُقَاس بِهَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ وَأما نقص الْعين بِأَن غصب زَوجي خف قيمتهمَا عشرَة دَرَاهِم فَضَاعَ أَحدهمَا وَصَارَ قيمَة الْبَاقِي دِرْهَمَيْنِ لزمَه قيمَة التَّالِف وَهُوَ خَمْسَة وَأرش النَّقْص وَهُوَ ثَلَاثَة فَيلْزمهُ ثَمَانِيَة لِأَن الْأَرْش حصل بِالتَّفْرِيقِ الْحَاصِل عِنْده وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَقَول الشَّيْخ لزمَه أرش نَقصه يُؤْخَذ مِنْهُ أَن نقص قيمَة الأسعار لَا يضمنهَا وَهُوَ الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا نقص فِي ذَات الْمَغْصُوب وَلَا فِي صِفَاته وَالَّذِي فَاتَ إِنَّمَا هُوَ رغبات النَّاس وَفِي وَجه يلْزمه ذَلِك وَبِه قَالَ الْأَكْثَرُونَ قَالَ الإِمَام أَبُو ثَوْر وَهُوَ منقاس
قلت وَهُوَ قوي لِأَن الْغَاصِب مطَالب بِالرَّدِّ فِي كل لَحْظَة والسعر الْمُرْتَفع بِمَنْزِلَة المَال العتيد أَلا ترى أَنه لَو بَاعَ الْوَلِيّ وَالْوَكِيل أَو عَامل الْقَرَاض وَنَحْو ذَلِك بِثمن الْمثل وَهُنَاكَ رَاغِب بِالزِّيَادَةِ لَا يَصح لِأَنَّهُ تَفْوِيت مَال وَالله أعلم فَكَمَا يلْزم الرَّد وَأرش النَّقْص يلْزم الْغَاصِب أُجْرَة الْمثل لاخْتِلَاف السَّبَب لِأَن سَبَب الْأَرْش النَّقْص وَالْأُجْرَة بِسَبَب تَفْوِيت الْمَنَافِع الله أعلم
(فرع) فتح بَاب قفص فِيهِ طير ونفره ضمن بِالْإِجْمَاع قَالَه الْمَاوَرْدِيّ لِأَنَّهُ نفر بِفِعْلِهِ وَإِذا اقْتصر على الْفَتْح فالراجح أَنه إِن طَار فِي الْحَال ضمن لِأَن الطَّائِر ينفر مِمَّن يقرب مِنْهُ فطيرانه فِي الْحَال مَنْسُوب إِلَيْهِ كتهييجه وَإِن وقف الطَّائِر ثمَّ طَار فَلَا ضَمَان لِأَن للحيوان اخْتِيَارا فينسب الطيران إِلَيْهِ أَلا ترى أَن الْحَيَوَان يقْصد مَا يَنْفَعهُ ويتوقى المهالك فالفاتح متسبب والطائر مبَاشر والمباشر مقدم على المتسبب وَالله أعلم قَالَ
وَإِن تلف ضمنه بِمثلِهِ إِن كَانَ لَهُ مثل أَو بِقِيمَتِه إِن لم يكن لَهُ مثل أَكثر مَا كَانَت من يَوْم الْغَصْب إِلَى يَوْم التّلف)
إِذا تلف الْمَغْصُوب سَوَاء كَانَ بِفِعْلِهِ أَو بِآفَة سَمَاوِيَّة بِأَن وَقع عَلَيْهِ شَيْء أَو احْتَرَقَ أَو غرق أَو أَخذه أحد وَتحقّق تلفه فَإِن كَانَ مثلِيا ضمنه بِمثلِهِ لقَوْله تَعَالَى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَلِأَنَّهُ أقرب إِلَى حَقه لِأَن الْمثْلِيّ كالنص لِأَنَّهُ محسوس وَالْقيمَة كالاجتهاد وَلَا يُصَار إِلَى الِاجْتِهَاد إِلَّا عِنْد فقد النَّص وَلَو غضب مثلِيا فِي وَقت الرُّخص فَلهُ طلبه فِي وَقت الغلاء
ثمَّ ضَابِط الْمثْلِيّ مَا حصره كيل أَو وزن وَجَاز السّلم فِيهِ وَيسْتَثْنى من هَذَا مَا إِذا أتلف عَلَيْهِ مَاء فِي مفازة ثمَّ لقِيه على شط نهر أَو أتلف عَلَيْهِ الثَّلج فِي الصَّيف ثمَّ لقِيه فِي الشتَاء فَالْوَاجِب قيمَة الْمثل فِي تِلْكَ الْمَفَازَة وَقِيمَة الثَّلج فِي وَقت الْغَضَب وَالله أعلم

(1/283)


وَلَو كَانَ الْمَغْصُوب من ذَوَات الْقيم كالحيوان وَغَيره من غير الْمثْلِيّ لزمَه أقْصَى قيم الْمَغْصُوب من وَقت الْغَصْب إِلَى وَقت التّلف لِأَنَّهُ فِي حَال زِيَادَة الْقيمَة غَاصِب مطَالب بِالرَّدِّ فَلَمَّا لم يرد فِي تِلْكَ الْحَالة ضمن الزِّيَادَة لتعديه وَتجب قِيمَته من نقد الْبَلَد الَّذِي حصل فِيهِ التّلف قَالَه الرَّافِعِيّ وَكَلَام الرَّافِعِيّ مَحْمُول على مَا إِذا لم ينْقل الْمَغْصُوب فَإِن نَقله قَالَ ابْن الرّفْعَة فَيتَّجه أَن يعْتَبر نقد الْبَلَد الَّذِي تعْتَبر الْقيمَة فِيهِ وَهُوَ أَكثر البلدين قيمَة قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْبَحْر عَن وَالِده مَا يُقَارِبه وَالْعبْرَة بِالنَّقْدِ الْغَالِب فَإِن غلب نقدان وتساويا عين القَاضِي وَاحِدًا مَا قَالَه الرَّافِعِيّ فِي كتاب البيع وَالله أعلم
(فرع) لَو ظفر بالغاصب فِي بلد التّلف والمغصب مثلي وَهُوَ مَوْجُود فَالصَّحِيح أَنه إِن كَانَ لَا مُؤنَة لنقله كالنقد فَلهُ مُطَالبَته بِالْمثلِ وَإِلَّا فَلَا يُطَالِبهُ ويغرمه قيمَة بلد التّلف لِأَنَّهُ تعذر على الْمَالِك الرُّجُوع إِلَى الْمثل وَالله أعلم قَالَ
بَاب الشُّفْعَة فصل وَالشُّفْعَة وَاجِبَة بالخلطة دون الْجوَار فِيمَا يَنْقَسِم دون مَالا يَنْقَسِم وَفِي كل مَا لَا ينْقل من الأَرْض كالعقار وَنَحْوه
الشُّفْعَة من شفعت الشَّيْء وثنيته وَقيل من التَّسْوِيَة والاعانة لِأَنَّهُ يتقوى بِمَا يَأْخُذهُ
وَهِي فِي الشَّرْع حق تملك قهري يثبت للشَّرِيك الْقَدِيم على الْحَادِث بِسَبَب الشّركَة بِمَا يملك بِهِ لدفع الضَّرَر وَاخْتلف فِي الْمَعْنى الَّذِي شرعت لأَجله فَالَّذِي اخْتَارَهُ الشَّافِعِي أَنه ضَرَر مُؤنَة الْقِسْمَة واستحداث الْمرَافِق وَغَيرهَا وَالْقَوْل الثَّانِي ضَرَر سوء الْمُشَاركَة
وَالْأَصْل فِي ثُبُوتهَا ورد
(قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالشُّفْعَة فِي كل مَا لَا يقسم فَإِذا وَقعت الْحُدُود وصرفت الطّرق فَلَا شُفْعَة) وَفِي رِوَايَة فِي
(أَرض أَو ربع أَو حَائِط) وَالرّبع الْمنزل والحائط الْبُسْتَان وَنقل ابْن الْمُنْذر الاجماع على إِثْبَات الشُّفْعَة وَهُوَ مَمْنُوع فقد خَالف فِي ذَلِك جَابر بن زيد من كبار التَّابِعين وَغَيره إِذا عرفت هَذَا فَقَوْل الشَّيْخ وَاجِبَة أَي ثَابِتَة يَعْنِي

(1/284)


تثبت للشَّرِيك المخالط خلْطَة الشُّيُوع دون الشَّرِيك الْجَار للْحَدِيث السَّابِق وَقَوله فِيمَا يَنْقَسِم دون مَا لَا يَنْقَسِم فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن الْعلَّة فِي ثُبُوت الشُّفْعَة ضَرَر مُؤنَة الْقِسْمَة فَلهَذَا تثبت فِيمَا يقبل الْقِسْمَة وَيجْبر الشَّرِيك فِيهِ على الْقِسْمَة بِشَرْط أَن ينْتَفع بالمقسوم على الْوَجْه الَّذِي كَانَ ينْتَفع بِهِ قبل الْقِسْمَة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَلِهَذَا لَا تثبت الشُّفْعَة فِي الشَّيْء الَّذِي لَو قسم لبطلت منفعَته الْمَقْصُودَة مِنْهُ قبل الْقِسْمَة كالحمام الصَّغِير فَإِنَّهُ لَا يُمكن جعله حمامين وَإِن أمكن كحمام كَبِير ثبتَتْ الشُّفْعَة لِأَن الشَّرِيك يجْبر على قسمته وَكَذَا لَا شُفْعَة فِي الطَّرِيق الضّيق وَنَحْو ذَلِك وَقَوله وَفِي كل مَا لَا ينْقل احْتَرز بِهِ عَن المنقولات أَي لَا تثبت الشُّفْعَة فِي الْمَنْقُول لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لَا شُفْعَة إِلَّا فِي ربع أَو حَائِط) وَتثبت فِي كل مَالا ينْقل كالأرض والربوع وَإِذا ثبتَتْ فِي الأَرْض تبِعت الْأَشْجَار والأبنية فِيهَا لِأَن الحَدِيث فِيهِ لفظ الرّبع وَهُوَ يتَنَاوَل الْأَبْنِيَة وَلَفظ الْحَائِط يتَنَاوَل الْأَشْجَار
وَاعْلَم أَنه كَمَا تتبع الْأَشْجَار الأَرْض كَذَلِك تتبع الْأَبْوَاب والرفوف المسمرة للْبِنَاء وكل مَا يتبع فِي البيع عِنْد الاطلاق كَذَلِك هُنَا
وَاعْلَم أَن الْأَبْنِيَة وَالْأَشْجَار إِذا بِيعَتْ وَحدهَا فَلَا شُفْعَة فِيهَا على الصَّحِيح لِأَنَّهَا منقولة وَإِن أريدت للدوام فَإِذا عرفت هَذَا فَلَا شُفْعَة فِي الْأَبْنِيَة وَفِي الأَرْض الْمَوْقُوفَة كالأشجار لِأَن الأَرْض لَا تستتبع وَالْحَالة هَذِه وَكَذَلِكَ الْأَرَاضِي المحتكرة فاعرفه وَالله أعلم قَالَ
(بِالثّمن الَّذِي وَقع عَلَيْهِ البيع وَهِي على الْفَوْر فَإِن أَخّرهَا مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهَا بطلت)
قَوْله بِالثّمن مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِير الْكَلَام أَخذ الشَّفِيع الْمَبِيع بِالثّمن وَالْمعْنَى أَخذ بِمثل الثّمن إِن كَانَ الثّمن مثلِيا أَو بِقِيمَتِه إِن كَانَ مُتَقَوّما وَيُمكن حمل اللَّفْظ على ظَاهره حَيْثُ صَار الثّمن إِلَى الشَّفِيع وَالِاعْتِبَار بِوَقْت البيع لِأَنَّهُ وَقت اسْتِحْقَاق الشُّفْعَة كَذَا علله الرَّافِعِيّ وَنَقله الْبَنْدَنِيجِيّ عَن نَص الشَّافِعِي وَلَو كَانَ الثّمن مُؤَجّلا فَالْأَظْهر أَن الشَّفِيع مُخَيّر بَين أَن يعجل وَيَأْخُذ فِي الْحَال أَو يصبر إِلَى مَحل الثّمن وَيَأْخُذ لأَنا إِذا جَوَّزنَا الْأَخْذ بالمؤجل أضررنا بالمشتري لِأَن الذمم تخْتَلف وَإِن ألزمناه الاخذ بِالْحَال أضررنا بالشفيع لأجل يُقَابله قسط من الثّمن فَكَانَ مَا قُلْنَا دفعا للضررين ثمَّ الشُّفْعَة على الْفَوْر على الْأَظْهر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الشُّفْعَة كحل العقال) مَعْنَاهُ أَنَّهَا تفوت عِنْد عدم الْمُبَادرَة كَمَا يفوت الْبَعِير الشرود إِذا حل عقاله وَلم يبتدر إِلَيْهِ وروى
(الشُّفْعَة

(1/285)


لمن واثبها) وَلِأَنَّهُ حق ثَبت لدفع الضَّرَر فَكَانَ على الْفَوْر كالرد بِالْعَيْبِ وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن المُرَاد بِكَوْنِهَا على الْفَوْر طلبَهَا لَا تَملكهَا نبه عَلَيْهِ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب فاعرفه وَقيل تمتد ثَلَاثَة أَيَّام وَقيل غير ذَلِك فَإِذا علم الشَّفِيع بِالْمَبِيعِ فليبادر على الْعَادة وَقد مر ذَلِك فِي رد الْمَبِيع بِالْعَيْبِ فَلَو كَانَ مَرِيضا أَو غَائِبا عَن بلد المُشْتَرِي أَو خَائفًا من عَدو فليوكل إِن قدر وَإِلَّا فليشهد على الطّلب فَإِن ترك الْمَقْدُور عَلَيْهِ بَطل حَقه على الرَّاجِح لِأَنَّهُ مشْعر بِالتّرْكِ وَهَذَا فِي الْمَرَض الثقيل فَإِن كَانَ مَرضا خَفِيفا لَا يمنعهُ من الْمُطَالبَة كالصداع الْيَسِير كَانَ كَالصَّحِيحِ قَالَه ابْن الرّفْعَة وَلَو كَانَ مَحْبُوسًا ظلما فَهُوَ كالمرض الثقيل وَلَو خرج للطلب حَاضرا كَانَ أَو غَائِبا فَهَل يجب الْإِشْهَاد أَنه على الطّلب الصَّحِيح فِي الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَنه إِذا لم يشْهد لَا يبطل حَقه وَصحح النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه أَنه فِي الْغَالِب يبطل إِذا لم يشْهد وَالْمُعْتَمد الأول كَمَا لَو بعث وَكيلا فَإِنَّهُ يَكْفِي وَلَو قَالَ الشَّفِيع لم أعلم أَن الشُّفْعَة على الْفَوْر وَهُوَ مِمَّن يخفي عَلَيْهِ صدق وَلَو اخْتَلَفْنَا فِي السّفر لأجل الشُّفْعَة صدق الشَّفِيع قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَو رفع الشَّفِيع الْأَمر إِلَى القَاضِي وَترك مُطَالبَة المُشْتَرِي مَعَ حُضُوره جَازَ وَلَو أشهد على الطّلب وَلم يُرَاجع المُشْتَرِي وَلَا القَاضِي لم يكف وَإِن كَانَ المُشْتَرِي غَائِبا رفع الْأَمر إِلَى القَاضِي وَأخذ وَلَو أخر الطّلب وَقَالَ لم أصدق الْمخبر لم يعْذر إِن أخبرهُ ثِقَة سَوَاء كَانَ عدلا أَو عبدا أَو امْرَأَة لِأَن خبر الثِّقَة مَقْبُول وَمن لَا يوثق بِهِ كالكافر وَالْفَاسِق وَالصَّبِيّ والمغفل وَنَحْوهم قَالَ ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وَهَذَا فِي الظَّاهِر أما فِي الْبَاطِن فالاعتبار بِمَا يَقع فِي نَفسه من صدق الْمخبر كَافِرًا كَانَ أَو فَاسِقًا أَو غَيرهمَا وَقد صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَعلله بِأَن مَا يتَعَلَّق بالمعاملات يَسْتَوِي فِيهَا خبر الْمُسلم وَغَيره إِذا وَقع فِي النَّفس صدقه وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا تزوج امْرَأَة على شقص أَخذه الشَّفِيع بِمهْر الْمثل)
مَكَان بَين اثْنَيْنِ نكح وَاحِد مِنْهُمَا امْرَأَة وَأصْدقهَا نصِيبه من ذَلِك الْمَكَان وَهُوَ مِمَّا يثبت فِيهِ الشُّفْعَة فلشريكه أَن يَأْخُذ ذَلِك المهمور بِالشُّفْعَة وَكَذَا لَو كَانَ ذَلِك الْمَكَان ملك امْرَأَة وَملك شخص آخر فَقَالَت للزَّوْج خالعني على نَصِيبي من ذَلِك الْمَكَان أَو طَلقنِي عَلَيْهِ فَفعل بَانَتْ مِنْهُ وَاسْتحق الزَّوْج ذَلِك الشّقص وللشفيع أَخذه من الزَّوْج كَمَا أَن لَهُ أَخذه من المرا فِي صُورَة الاصداق وَيَأْخُذهُ بِمهْر الْمثل لَا بِقِيمَة الشّقص على الرَّاجِح وَوَجهه أَن الْبضْع مُتَقَوّم وَقِيمَته بِمهْر الْمثل لِأَنَّهُ بدل الشّقص فالبضع هُوَ ثمن الشّقص وَالله أعلم قَالَ

(1/286)


(وَإِن كَانَ الشفعاء جمَاعَة استحقوها على قدر الْأَمْلَاك)
إِذا كَانَ مَا يجب فِيهِ الشُّفْعَة ملكا لجَماعَة وهم متفاوتون فِي قدر الْملك وَبَاعَ أحدهم حِصَّته فَهَل يَأْخُذُونَ على عدد رؤوسهم أم على قدر أملاكهم فِيهِ خلاف الْأَصَح أَخذ كل وَاحِد مِنْهُم على قدر حِصَّته وَوَجهه أَن الْأَخْذ حق يسْتَحق بِالْملكِ فقسط على قدره كالأجرة وَالثَّمَرَة فَإِن كَانَ وَاحِد من الْملاك يَأْخُذ على قدر ملكه من الْأُجْرَة وَالثَّمَرَة وَقيل يَأْخُذُونَ على عدد ؤوسهم نظرا إِلَى أصل الْملك أَلا ترى أَن الْوَاحِد إِذا انْفَرد أَخذ الْكل وَالله أعلم
(فرع) ثَبت لشخص الشُّفْعَة فِي شَيْء فَقَالَ أسقطت حَقي من الصّفة وَأخذت الْبَاقِي سقط حَقه كُله من الشُّفْعَة لِأَن الشُّفْعَة خصْلَة وَاحِدَة لَا يُمكن تبعضها فَأشبه مَا إِذا أسقط بعض الْقصاص فَإِنَّهُ يسْقط كُله وَالله أعلم
(فرع) إِذا تصرف المُشْتَرِي فِي الشّقص بِالْبيعِ وَالْإِجَارَة وَالْوَقْف فَهُوَ صَحِيح لِأَنَّهُ تصرف صَادف ملكه كتصرف الْوَلَد فِيمَا وهبه لَهُ أَبوهُ وَقَالَ ابْن شُرَيْح هُوَ بَاطِل فعلى الصَّحِيح للشَّفِيع نقص الْوَقْف وَالْإِجَارَة لِأَن حَقه بَاقٍ وَهُوَ فِي الْمَبِيع وَهُوَ مُخَيّر بَين أَن يَأْخُذ بِالْبيعِ الثَّانِي أَو ينْقضه وَيَأْخُذ بِالْأولِ لِأَن كلا مِنْهُمَا صَحِيح وَقد يكون الثّمن فِي أَحدهمَا أقل أَو من جنس هُوَ عَلَيْهِ أيسر
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ المُرَاد بِالنَّقْضِ احتياله إِلَى انشاء نقض قبل الْأَخْذ بل المُرَاد أَن لَهُ نقضه بِالْأَخْذِ نبه على ذَلِك ابْن الرّفْعَة فِي الْمطلب وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْقَرَاض فصل وللقراض أَرْبَعَة شَرَائِط أَن يكون على ناض من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير وَأَن يَأْذَن رب المَال لِلْعَامِلِ فِي التَّصَرُّف مُطلقًا فِيمَا لَا يَنْقَطِع غَالِبا
الْقَرَاض وَالْمُضَاربَة بِمَعْنى وَاحِد والقراض مُشْتَقّ من الْقَرْض وَهُوَ الْقطع لِأَن المَال قطع قِطْعَة من مَاله ليتجر فِيهَا وَقطعَة من ربحه
وَحده فِي الشَّرْع عقد على نقد ليتصرف فِيهِ الْعَامِل بِالتِّجَارَة فَيكون الرِّبْح بَينهمَا على حسب الشَّرْط من مُسَاوَاة أَو مفاضلة
وَالْأَصْل فِيهِ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ضَارب لِخَدِيجَة بمالها إِلَى الشَّام وَغير ذَلِك وأجمعت

(1/287)


الصَّحَابَة عَلَيْهِ وَمِنْهُم من قاسه على الْمُسَاقَاة بِجَامِع الْحَاجة إِذْ قد يكون للشَّخْص نخل وَمَال وَلَا يحسن الْعَمَل وَآخر عَكسه مَا رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(ثَلَاثَة فِيهِنَّ الْبركَة البيع إِلَى أجل والمقارضة واختلاط الْبر بِالشَّعِيرِ لَا للْبيع) إِذا عرفت هَذَا فلعقد الْقَرَاض شُرُوط
أَحدهَا اشترطوا لصِحَّته كَون المَال دَرَاهِم أَو دَنَانِير فَلَا يجوز على حلي وَلَا على تبر وَلَا على عرُوض وَهل يجوز على الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير المغشوشة فِيهِ خلاف الصَّحِيح أَن لَا يَصح لِأَن عقد الْقَرَاض مُشْتَمل على غرر لِأَن الْعَمَل غير مضبوط وَالرِّبْح غير موثوق بِهِ وَهُوَ عقد يعْقد لينفسخ ومبنى الْقَرَاض على رد رَأس المَال وَهُوَ مَعَ الْجَهْل مُتَعَذر بِخِلَاف رَأس السّلم فَإِنَّهُ عقد وضع للُزُوم وَقيل يجوز إِذا راج رواج الْخَالِص قَالَ الإِمَام مَحَله إِذا كَانَت قِيمَته قريبَة من المَال الْخَالِص
قلت الْعَمَل على هَذَا إِذْ الْمَعْنى الْمَقْصُود من الْقَرَاض يحصل بِهِ لَا سِيمَا وَقد تعذر الْخَالِص فِي أغلب الْبِلَاد فَلَو اشترطنا ذَلِك لَأَدَّى إِلَى إبِْطَال هَذَا الْبَاب فِي غَالب النواحي وَهُوَ حرج فَالْمُتَّجه الصِّحَّة لعمل النَّاس عَلَيْهِ بِلَا نَكِير وَيُؤَيِّدهُ أَن الشّركَة تجوز على الْمَغْشُوش على مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَته مَعَ أَنه عقد فِيهِ غرر من الْوُجُوه الْمَذْكُورَة فِي الْقَرَاض من جِهَة أَن عمل كل من الشَّرِيكَيْنِ غير مضبوط وَالرِّبْح غير موثوق بِهِ وَهُوَ عقد عقد لينفسخ وَعلة الْحَاجة مَوْجُودَة وَالله أعلم
الشَّرْط الثَّانِي أَن لَا يكون الْعَامِل مضيقاً عَلَيْهِ ثمَّ التَّضْيِيق تَارَة يكون بِمَنْع التَّصَرُّف مُطلقًا بِأَن يَقُول لَا تشتر شَيْئا حَتَّى تشاورني وَكَذَلِكَ لَا تبع إِلَّا بمشورتي لِأَن ذَلِك يُؤَدِّي إِلَى فَوَات مَقْصُود العقد فقد يجد شَيْئا يربح وَلَو رَاجعه لفات وَكَذَا البيع فَيُؤَدِّي إِلَى فَوَات مَقْصُود الْقَرَاض وَهُوَ الرِّبْح وَتارَة يكون التَّضْيِيق بِأَن يشْتَرط عَلَيْهِ شِرَاء مَتَاع معِين كهذه الْحِنْطَة أَو هَذِه الثِّيَاب أَو يشْتَرط عَلَيْهِ شِرَاء نوع ينْدر وجوده كالخيل الْعتاق أَو البلق وَنَحْو ذَلِك أَو فِيمَا لَا يُوجد صيفاً وشتاء كالفواكه الرّطبَة وَنَحْو ذَلِك أَو يشْتَرط عَلَيْهِ مُعَاملَة شخص معِين أَن لَا تشتر إِلَّا من فلَان أَو لَا تبع إِلَّا مِنْهُ فَهَذِهِ الشُّرُوط كلهَا مفْسدَة لعقد الْقَرَاض لِأَن الْمَتَاع الْمعِين قد لَا يَبِيعهُ مَالِكه وعَلى تَقْدِير بَيْعه قد لَا يربح وَأما الشَّخْص الْمعِين فقد لَا يعامله وَقد لَا يجد عِنْده مَا يظنّ فِيهِ ربحا وَقد

(1/288)


لَا يَبِيع إِلَّا بِثمن غال وكل هَذِه الْأُمُور تفوت مَقْصُود عقد الْقَرَاض فَلَا بُد من عدم اشْتِرَاطهَا حَتَّى لَو شَرط رب المَال أَن يكون رَأس المَال مَعَه ويوفي الثّمن إِذا اشْترى الْعَامِل فسد الْقَرَاض لوُجُود التَّضْيِيق الْمنَافِي لعقد الْقَرَاض نعم لَو شَرط عَلَيْهِ أَن لَا يَبِيع وَلَا يَشْتَرِي إِلَّا فِي سوق صَحَّ بِخِلَاف الدّكان الْمعِين لِأَن السُّوق الْمعِين كالنوع الْعَام الْمَوْجُود بِخِلَاف الْحَانُوت فَإِنَّهُ كالشخص الْمعِين كَذَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يشْتَرط بَيَان مُدَّة الْقَرَاض بِخِلَاف الْمُسَاقَاة لِأَن الرِّبْح لَيْسَ لَهُ وَقت مَعْلُوم بِخِلَاف الثَّمَرَة وَأَيْضًا فهما قادران على فسخ الْقَرَاض مَتى شَاءَ لِأَنَّهُ عقد جَائِز فَلَو ذكر مُدَّة وَمنعه التَّصَرُّف بعْدهَا فسد العقد لِأَنَّهُ يخل بِالْمَقْصُودِ وَإِن مَنعه الشِّرَاء بعْدهَا فَلَا يضر على الْأَصَح لِأَن الْمَالِك مُتَمَكن من مَنعه من الشِّرَاء فِي كل وَقت فَجَاز أَن يتَعَرَّض لَهُ فِي العقد وَالله أعلم
(فرع) قارض شخصا على أَن يَشْتَرِي حِنْطَة فيطحن ويخبز أَو يغزل غزلاً فينسجه ويبيعه فسد الْقَرَاض لِأَن الْقَرَاض رخصَة شرع للْحَاجة وَهَذِه الْأَعْمَال مضبوطة يُمكن الِاسْتِئْجَار عَلَيْهَا فَلم تكن الرُّخْصَة شَامِلَة لَهَا فَلَو فعل الْعَامِل ذَلِك بِلَا شَرط لم يفْسد الْقَرَاض على الرَّاجِح وَيُقَاس بَاقِي الْأُمُور بِمَا ذكرنَا وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن يشْتَرط لَهُ جُزْءا مَعْلُوما من الرِّبْح وَأَن لَا يقدره بِمدَّة)
من شُرُوط عقد الْقَرَاض اشْتِرَاك رب المَال وَالْعَامِل فِي الرِّبْح ليَأْخُذ هَذَا بِمَالِه وَذَاكَ بِعَمَلِهِ فَلَو قَالَ قارضتك على أَن الرِّبْح كُله لي أَو كُله لَك فسد العقد لِأَنَّهُ على خلاف مُقْتَضى العقد وكما يشْتَرط أَن يكون الرِّبْح بَينهمَا يشْتَرط أَن يكون مَعْلُوما بالجزئية ككون الرِّبْح بَيْننَا نِصْفَيْنِ أَو أَثلَاثًا وَنَحْو ذَلِك فَلَو قَالَ على أَن لَك نَصِيبا أَو جُزْءا فَهُوَ فَاسد للْجَهْل بِالْعِوَضِ فَلَو قَالَ على أَن الرِّبْح بَيْننَا صَحَّ وَيكون نِصْفَيْنِ وَلَو اشْترط لِلْعَامِلِ قدرا مَعْلُوما كمائة مثلا أَو ربح نوع كربح هَذِه البضاعة فسد لِأَن الرِّبْح قد ينْحَصر فِي الْمِائَة أَو فِي ذَلِك النَّوْع فَيُؤَدِّي إِلَى اخْتِصَاص الْعَامِل بِالرِّبْحِ وَقد لَا يربح ذَلِك النَّوْع ويربح غَيره فَيُؤَدِّي إِلَى أَن عمله يضيع وَهُوَ خلاف مَقْصُود العقد وَلَو شَرط أَن يلبس الثَّوْب الَّذِي يَشْتَرِيهِ فسد لِأَنَّهُ دَاخل فِي الْعِوَض مَا لَيْسَ من الرِّبْح وَقِيَاسه أَنه لَو اشْترط عَلَيْهِ أَن ينْفق من رَأس المَال أَنه لَا يَصح وَهَذَا النَّوْع كثير الْوُقُوع وَالله أعلم وَقَوله وَأَن لَا يقدره بِمدَّة يجوز أَن يُرَاد بِهِ العقد وَقد تقدم حكمه وَيجوز أَن يُرِيد أَن يقدر الرِّبْح بِمدَّة بِأَن يَقُول كَمَا يَفْعَله كثير من النَّاس اتّجر وَربح هَذِه السّنة بَيْننَا وَربح السّنة الْآتِيَة أختص بهَا دُونك أَو عَكسه وَالْأول أقرب وَالله أعلم
(فرع) لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَن ينْفق على نَفسه من رَأس المَال حضرا للْعُرْف وَلَا سفرا على الرَّاجِح لِأَن النَّفَقَة قد تكون قدر الرِّبْح فيفوز بِالرِّبْحِ دون رب المَال وَلِأَن لَهُ جعلا مَعْلُوما فَلَا يسْتَحق مَعَه

(1/289)


شَيْئا آخر وَلَيْسَ لَهُ أَن يُسَافر بِغَيْر إِذن رب المَال فَإِن أذن لَهُ فسافر وَمَعَهُ مَال لنَفسِهِ وَقُلْنَا لَهُ أَن ينْفق فِي السّفر كَمَا رَوَاهُ الْمُزنِيّ لِأَنَّهُ بِالسَّفرِ قد سلم نَفسه فَأشبه الزَّوْجَة فتتوزع النَّفَقَة على قدر الْمَالَيْنِ وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا ضَمَان على الْعَامِل إِلَّا بالعدوان)
الْعَامِل أَمِين لِأَنَّهُ قبض المَال بِإِذن مَالِكه فَأشبه سَائِر الْأُمَنَاء فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ إِلَّا بِالتَّعَدِّي لتَقْصِيره كالأمناء فَلَو ادّعى عَلَيْهِ رب المَال الْخِيَانَة فَالْقَوْل قَول الْعَامِل لِأَن الأَصْل عدمهَا وَكَذَا يصدق فِي قدر رَأس المَال لِأَن الأَصْل عدم الزِّيَادَة وَكَذَا يصدق فِي قَوْله لم أربح أَو لم أربح إِلَّا كَذَا أَو اشْتريت للقراض أَو اشْتريت لي لِأَنَّهُ أعرف بنيته وَكَذَا لَو ادّعى عَلَيْهِ أَنه نَهَاهُ عَن كَذَا فَالْقَوْل قَول الْعَامِل لِأَن الأَصْل عدم النَّهْي وَيقبل قَوْله فِي دَعْوَى التّلف كَالْوَكِيلِ وَالْمُودع إِلَّا أَن يذكر شَيْئا ظَاهرا فَلَا يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة لِأَن إِقَامَة الْبَيِّنَة على السَّبَب الظَّاهِر غير متعذرة وَلَو ادّعى رد رَأس المَال فَهَل يقبل وَجْهَان الْأَصَح نعم لِأَنَّهُ أَمِين فَأشبه الْمُودع وَلَو اخْتلفَا فِي جنس رَأس المَال صدق الْعَامِل وَالله أعلم
(فرع) اخْتلف رب المَال وَالْعَامِل فِي الْقدر الْمَشْرُوط تحَالفا وللعامل أُجْرَة الْمثل ويفوز الْمَالِك بِالرِّبْحِ كُله وبمجرد التَّحَالُف يَنْفَسِخ العقد صرح بِهِ النَّوَوِيّ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة عَن الْبَيَان بِلَا مُخَالفَة وَكَلَام الْمِنْهَاج يَقْتَضِيهِ وَصرح بِهِ الرَّوْيَانِيّ أَيْضا وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن حصل خسران وَربح جبر الخسران بِالرِّبْحِ)
الْقَاعِدَة المقررة فِي الْقَرَاض أَن الرِّبْح وقاية لرأس المَال ثمَّ الخسران تَارَة يكون برخص السّعر فِي البضاعة وَتارَة يكون بِنَقص جُزْء من مَال التِّجَارَة بِأَن يتْلف بعضه وَقد يكون بِتَلف بعض رَأس المَال فَإِذا دفع إِلَيْهِ مِائَتَيْنِ مثلا وَقَالَ اتّجر بهما فَتلفت إِحْدَاهمَا فَتَارَة تتْلف قبل التَّصَرُّف وَتارَة بعْدهَا فَإِذا تلفت قبل التَّصَرُّف فَوَجْهَانِ
أَحدهمَا أَنَّهَا خسران وَرَأس المَال مِائَتَان لِأَن الْمِائَتَيْنِ بِقَبض الْعَامِل صارتا مَال قِرَاض فتجبر الْمِائَة التالفة بِالرِّبْحِ وأصحهما تتْلف من رَأس المَال وَيكون رَأس المَال مائَة لِأَن العقد لم يتَأَكَّد بِالْعَمَلِ فَلَو اشْترى بالمائتين شَيْئَيْنِ فَتلف أَحدهمَا فَقيل يتْلف من رَأس المَال لِأَنَّهُ لم يتَصَرَّف بِالْبيعِ لِأَن بِهِ يظْهر الرِّبْح فَهُوَ الْمَقْصُود الْأَعْظَم وَالْمذهب أَنه يجْبر من الرِّبْح لِأَنَّهُ تصرف فِي مَال الْقَرَاض بِالشِّرَاءِ فَلَا يَأْخُذ شَيْئا حَتَّى يرد مَا تصرف فِيهِ إِلَى مَالِكه فَلَو أتلف أَجْنَبِي جَمِيعه أَو بعضه أَخذ مِنْهُ بدله وَاسْتمرّ الْقَرَاض وَالله أعلم

(1/290)


(فرع) عقد الْقَرَاض جَائِز من الطَّرفَيْنِ لِأَن أَوله وكَالَة وَبعد ظُهُور الرح شركَة وَكِلَاهُمَا عقد جَائِز فَلِكُل من الْمَالِك وَالْعَامِل الْفَسْخ فَإِذا فسخ أَحدهمَا ارْتَفع الْقَرَاض وَإِن لم يحضر صَاحبه وَلَو مَاتَ أَحدهمَا أَو جن أَو أغمى عَلَيْهِ انْفَسَخ أَيْضا فَإِذا انْفَسَخ لم يكن لِلْعَامِلِ أَن يَشْتَرِي ثمَّ ينظر إِن كَانَ المَال دينا لزم الْعَامِل اسْتِيفَاؤهُ سَوَاء ظهر الرِّبْح أم لَا لِأَن الدّين ملك نَاقص وَقد أَخذ من رب المَال ملكا تَاما فليرد مثل مَا أَخذ وَإِن لم يكن دينا نظر إِن كَانَ نَقْدا من جنس رَأس المَال وَلَا ربح أَخذه رب المَال وَإِن كَانَ هُنَاكَ ربح اقتسماه بِحَسب الشَّرْط فَإِن كَانَ نَقْدا من غير جنس رَأس المَال أَو عرضا نظر إِن كَانَ هُنَاكَ ربح لزم الْعَامِل بَيْعه إِن طلبه الْمَالِك وللعامل بَيْعه وَإِن أَبى الْمَالِك لأجل الرِّبْح وَلَيْسَ لِلْعَامِلِ تَأْخِير البيع إِلَى موسم رواج الْمَتَاع لِأَن حق الْمَالِك معجل فَلَو قَالَ الْعَامِل تركت حَقي لَك فَلَا تكلفني البيع لم تلْزمهُ الْإِجَابَة على الْأَصَح لِأَن التنضيض كلفة فَلَا تسْقط عَن الْعَامِل وَلَو قَالَ رب المَال لَا تبع ونقتسم الْعرُوض أَو قَالَ أُعْطِيك قدر نصيبك ناضاً فَفِي تمكن الْعَامِل من البيع وَجْهَان وَالَّذِي قطع بِهِ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَالْقَاضِي أَبُو الطّيب أَنه لَا يُمكن لِأَنَّهُ إِذا جَازَ للْمُعِير أَن يتَمَلَّك غراس الْمُسْتَعِير بِقِيمَتِه لدفع الضَّرَر فالمالك هُنَاكَ أولى لِأَنَّهُ شريك هَذَا إِذا كَانَ فِي المَال ربح فَإِن لم يكن ربح فَهَل للْمَالِك تَكْلِيف الْعَامِل البيع وَجْهَان الرَّاجِح نعم ليرد كَمَا أَخذ وَلِأَنَّهُ لَا يلْزم الْمَالِك مشقة البيع هَل لِلْعَامِلِ البيع إِن رَضِي الْمَالِك بامساكها وَجْهَان الصَّحِيح أَن لَهُ ذَلِك إِذا توقع ربحا بِأَن ظفر براغب أَو بسوق يتَوَقَّع فِيهِ الرِّبْح وَاعْلَم أَنه حَيْثُ لزم البيع لِلْعَامِلِ قَالَ الامام فَالَّذِي قطع بِهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن الَّذِي يلْزمه بَيْعه وتنضيضه قدر رَأس المَال وَأما الزَّائِد فَحكمه حكم عرض مُشْتَرك بَين اثْنَيْنِ فَلَا يُكَلف وَاحِد مِنْهُمَا بَيْعه وَمَا ذكره الامام سكت عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح وَالنَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وجزما بذلك فِي الْمُحَرر والمنهاج نعم كَلَام التَّنْبِيه يَقْتَضِي بيع الْجَمِيع وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْمُسَاقَاة فصل وَالْمُسَاقَاة جَائِزَة على النّخل وَالْكَرم وَلها شَرَائِط أَن يقدرها بِمدَّة مَعْلُومَة وَأَن ينْفَرد الْعَامِل بِعَمَلِهِ وَألا يشْتَرط مُشَاركَة الْمَالِك فِي الْعَمَل وَيشْتَرط لِلْعَامِلِ جُزْء مَعْلُوم من الثَّمَرَة
الْمُسَاقَاة هِيَ أَن يُعَامل إِنْسَان على شجر ليتعهدها بالسقي والتربية على أَن مَا رزق الله تَعَالَى من ثَمَر يكون بَينهمَا وَلما كَانَ السَّقْي أَنْفَع الْأَعْمَال اشتق مِنْهُ اسْم العقد
وَاتفقَ على جَوَازهَا الصَّحَابَة والتابعون وَقبل الِاتِّفَاق حجَّة الْجَوَاز مَا ورد عَن ابْن عمر

(1/291)


رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(اعطى خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا من ثَمَر أَو زرع) وَفِي رِوَايَة
(دفع إِلَى يهود خَيْبَر نخل خَيْبَر وأرضها على أَن يعملوها من أَمْوَالهم وَأَن لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شطرها) وَغير ذَلِك من الْأَخْبَار وَلَا شكّ فِي جَوَازهَا على النّخل لِأَنَّهُ مورد النَّص وَهل الْعِنَب مَنْصُوص عَلَيْهِ أم مقاس قيل إِن الشَّافِعِي قاسه على النّخل بِجَامِع وجوب الزَّكَاة وامكان الْخرص وَقيل إِن الشَّافِعِي أَخذه من النَّص وَهُوَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَامل أهل خَيْبَر على الشّطْر مِمَّا يخرج من النّخل وَالْكَرم وَهل يجوز على غير النّخل وَالْعِنَب من الْأَشْجَار المثمرة كالتين والمشمش وَغَيرهمَا من الْأَشْجَار قَولَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ بِلَا تَرْجِيح والجديد الْمَنْع لِأَنَّهَا أَشجَار لَا زَكَاة فِيهَا فَلم تجز الْمُسَاقَاة عَلَيْهَا كالموز والصوبر وَهَذَا مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة وَالْقَدِيم أَنه يجوز لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَامل أهل خَيْبَر بالشطر مِمَّا يخرج من النّخل وَالشَّجر وَبِهَذَا قَالَ الإمامان مَالك وَأحمد رَضِي الله عَنْهُمَا وَاخْتَارَهُ النَّوَوِيّ فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه وَأجَاب الْقَائِلُونَ بالجديد بِأَن الشّجر المُرَاد بهَا النّخل لِأَنَّهَا الْمَوْجُودَة فِي خَيْبَر وَفرقُوا بَين النّخل وَالْعِنَب وَغَيرهمَا من الْأَشْجَار بِأَن النّخل وَالْكَرم لَا يَنْمُو إِلَّا بِالْعَمَلِ فِيهَا لِأَن النّخل يحْتَاج إِلَى اللقَاح وَالْكَرم إِلَى الكساح وَبَقِيَّة الْأَشْجَار تنمو من غير تعهد نعم التعهد يزيدها فِي كبر الثَّمر وطيبه
وَاعْلَم أَن مَحل الْخلاف فِيمَا إِذا أفردت بالمساقاة أما إِذا ساقاه عَلَيْهَا تبعا لنخل أَو عِنَب فَفِيهِ وَجْهَان حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ فِي آخر الْمُزَارعَة بِلَا تَرْجِيح قَالَ النَّوَوِيّ أصَحهمَا أَنه يجوز قِيَاسا على الْمُزَارعَة
إِذا عرفت هَذِه فللمساقاة شُرُوط
أَحدهمَا التَّوْقِيت لِأَنَّهَا عقد لَازم فَأشبه الْإِجَارَة وَنَحْوهَا بِخِلَاف الْقَرَاض وَالْفرق أَن لخُرُوج الثِّمَار غَايَة مَعْلُومَة سهل ضَبطهَا بِخِلَاف الْقَرَاض فَإِن الرِّبْح لَيْسَ لَهُ وَقت مضبوط فقد لَا يحصل الرِّبْح فِي الْمدَّة الْمقدرَة وَلَو وَقت بالإدراك لم يَصح على الرَّاجِح لجهل الْمدَّة
الشَّرْط الثَّانِي أَن ينْفَرد الْعَامِل بِالْعَمَلِ لِأَنَّهُ وضع الْبَاب فَلَو شَرط أَن يعْمل مَعَه مَالك الْأَشْجَار فسخ العقد لِأَنَّهُ مُخَالف لوضع الْمُسَاقَاة وَالْقَاعِدَة أَن كل مَا يجب على الْعَامِل إِذا شَرط على الْمَالِك يفْسد العقد على الْأَصَح وَقيل يفْسد الشَّرْط فَقَط نعم يسْتَثْنى مَسْأَلَة ذكرهَا ابْن الرّفْعَة عَن نَص الشَّافِعِي فِي الْبُوَيْطِيّ وَهُوَ أَنه إِذا شَرط على الْمَالِك السَّقْي جَازَ حَكَاهُ

(1/292)


الْبَنْدَنِيجِيّ عَن النَّص وَالنَّص مَفْرُوض فِيمَا إِذا كَانَ يشرب بعروقه لَكِن حكى الْمَاوَرْدِيّ فِيمَا يشرب بعروقه فِيمَا يشرب بعروقه كنخل الْبَصْرَة أوجهاً
أَحدهَا أَن سقيها على الْعَامِل
وَالثَّانِي على الْمَالِك حَتَّى لَو شَرطهَا على الْعَامِل بَطل العقد
وَالثَّالِث يجوز اشْتِرَاطهَا على الْمَالِك وعَلى الْعَامِل فَإِن أطلق لم تلْزم وَاحِدًا مِنْهُمَا
الشَّرْط الثَّالِث أَن يكون لِلْعَامِلِ جُزْء مَعْلُوم من الثَّمَرَة وَيكون الْجُزْء مَعْلُوما بالجزئية كالنصف وَالثلث للنَّص فَلَو شَرط لَهُ ثَمَر نخلات مُعينَة لم تصح لِأَنَّهُ خَالف النَّص وَلِأَنَّهُ قد لَا تثمر هَذِه النخلات فيضيع عمله أَو لَا يُثمر غَيرهَا فيضيع الْمَالِك وَهَذَا غرر وَعقد الْمُسَاقَاة غرر لِأَنَّهُ عقد على مَعْدُوم جوز للْحَاجة وغرران على شَيْء يمنعان صِحَّته وَلَو قَالَ على أَن مَا فتح الله بَيْننَا صَحَّ وَحمل على النّصْف وَلَو قَالَ أَنا أرضيك وَنَحْو ذَلِك لم يَصح العقد وَلَو ساقاه ثَلَاث سِنِين مثلا جَازَ أَن يَجْعَل لَهُ فِي الأولى النّصْف وَفِي الثَّانِيَة الثُّلُث وَفِي الثَّالِثَة السُّدس وَبِالْعَكْسِ لانْتِفَاء الْغرَر وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَالله أعلم
(فرع) لَو شَرط فِي العقد أَن يكون سواقط النّخل من السعف والليف وَنَحْوهمَا لِلْعَامِلِ بَطل العقد لِأَنَّهَا لرب النّخل وَهِي غير مَقْصُودَة فَلَو شَرط لَهما فَوَجْهَانِ وَيشْتَرط رُؤْيَة الْأَشْجَار لصِحَّة الْمُسَاقَاة على الْمَذْهَب وَالله أعلم قَالَ
(ثمَّ الْعَمَل فِيهَا على ضَرْبَيْنِ عمل يعود نَفعه على الثَّمَرَة فَهُوَ على الْعَامِل وَعمل يعود نَفعه على الأَصْل فَهُوَ على رب المَال)
على الْعَامِل كل مَا تحْتَاج إِلَيْهِ الثِّمَار لزِيَادَة أَو اصلاح من عمل بِشَرْط أَن يتَكَرَّر كل سنة وَإِنَّمَا اعْتبرنَا التكرر لِأَن مَا لَا يتَكَرَّر كل سنة يبْقى أَثَره بعد الْفَرَاغ من الْمُسَاقَاة وتكليف الْعَامِل مثل ذَلِك إجحاف بِهِ فَيجب على الْعَامِل السَّقْي وتوابعه من اصلاح طرق المَاء والمواضع الَّتِي يقف فِيهَا المَاء وسمل الْآبَار والأنهار وإدارة الدواليب وَفتح رَأس الساقية وسدها بِحَسب قدر الْحَاجة وكل مَا اطردت بِهِ الْعَادة قَالَ الْمُتَوَلِي عَلَيْهِ وضع حشيش فَوق العناقيد إِن احْتَاجَت إِلَيْهِ صونا لَهَا وَهل يجب عَلَيْهِ حفظ الثِّمَار وَجْهَان أصَحهمَا على الْعَامِل كحفظ مَال الْقَرَاض وَقيل على الْمَالِك قَالَ الرَّافِعِيّ وَهُوَ أَقيس بعد تَصْحِيح الأول وَيلْزم الْعَامِل قطف الثَّمَرَة على الصَّحِيح لِأَنَّهُ من الاصلاح وَكَذَا يلْزمه تحفيف الثَّمَرَة على الصَّحِيح إِن اضطردت بِهِ عَادَة أَو شَرط وَإِذا وَجب التجفيف عَلَيْهِ وَجب توابعه وَهِي تهيئة مَوضِع الْجَفَاف ونقلها إِلَيْهِ وتقليب الثَّمَرَة فِي الشَّمْس وَالله أعلم وَأما مَا لَا يتَكَرَّر كل سنة ويقصد بِهِ حفظ الْأُصُول فَمن وَظِيفَة الْمَالِك كحفر الْأَنْهَار والآبار الجديدة وَبِنَاء الْحِيطَان وَنصب الْأَبْوَاب والدولاب وَنَحْو ذَلِك وَفِي سد

(1/293)


ثلم يسيرَة تقع فِي الجدران وَوضع شوك على الْحِيطَان وَجْهَان الْأَصَح اتِّبَاع الْعرف وكما تجب هَذِه الْأُمُور على الْمَالِك كَذَلِك تجب عَلَيْهِ الْآلَات الَّتِي يتوفر بهَا الْعَمَل كالفأس والمعول والمنجل والمسحاة وَكَذَا الثور الَّذِي يُدِير الدولاب وَالصَّحِيح أَنه على الْمَالِك وخراج الأَرْض على الْمَالِك بِلَا خلاف وَكَذَا يجب على الْمَالِك كل عين تلفت فِي الْعَمَل قَالَ فِي الرَّوْضَة قطعا والدولاب يجوز فتح داله وَضمّهَا وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْإِجَارَة فصل فِي الْإِجَارَة وكل مَا أمكن الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه صحت إِجَارَته إِذا قدرت منفعَته بِأحد أَمريْن مُدَّة أَو عمل
الْقيَاس عدم صِحَة الْإِجَارَة لِأَن الْإِجَارَة مَوْضُوعَة للمنافع وَهِي مَعْدُومَة وَالْعقد على الْمَعْدُوم غرر لَكِن الْحَاجة الماسة دَاعِيَة إِلَى ذَلِك بل الضَّرُورَة المحققة دَاعِيَة إِلَى الْإِجَارَة فَإِنَّهُ لَيْسَ لكل أحد مسكن وَلَا مركوب وَلَا خَادِم وَلَا آلَة يحْتَاج إِلَيْهَا فجوزت لذَلِك كَمَا جوز السّلم وَغَيره من عُقُود الْغرَر وَقد أَجمعت الصَّحَابَة والتابعون على جَوَازهَا وَقبل الْإِجْمَاع جَاءَ بهَا الْقُرْآن وَالسّنة المطهرة قَالَ الله تَعَالَى {فَإِن أرضعن لكم فَآتُوهُنَّ أُجُورهنَّ} ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(ثَلَاثَة أَنا خصمهم يَوْم الْقِيَامَة رجل أعْطى بِي ثمَّ غدر وَرجل بَاعَ حرا فَأكل ثمنه وَرجل اسْتَأْجر أَجِيرا فاستوفى مِنْهُ وَلم يُعْطه أجره) وروى أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ
(أعْطوا الْأَجِير أجره قبل أَن يجِف عرقه)
وحد عقد الْإِجَارَة عقد على مَنْفَعَة مَقْصُودَة مَعْلُومَة قَابِلَة للبدل وَالْإِبَاحَة بعوض مَعْلُوم وَفِيه قيود فاحترزنا بِالْمَنْفَعَةِ عَن الْإِجَارَة المعقودة على مَا يتَضَمَّن إِتْلَاف عين فَمن ذَلِك اسْتِئْجَار الْبُسْتَان للثمار وَالشَّاة للبنها وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا وَكَذَا لصوفها ولولدها فَهَذِهِ الاجارة بَاطِلَة نعم قد تقع الْعين تبعا كَمَا إِذا اسْتَأْجر امْرَأَة للرضاع فَإِنَّهُ جَائِز وَالْقِيَاس فِيهِ الْبطلَان إِلَّا أَن النَّص ورد فِيهِ فَلَا معدل عَنهُ ثمَّ هَل للمعقود عَلَيْهِ الْقيام بأَمْره من وضع الصَّبِي فِي حجرها وتلقيمه الثدي وعصره بِقدر الْحَاجة أم تنَاول هَذِه الاشياء مَعَ اللَّبن وَجْهَان أصَحهمَا أَن الْمَعْقُود عَلَيْهِ الْفِعْل وَاللَّبن

(1/294)


يسْتَحق تبعا قَالَ الله تَعَالَى {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} علق الْأُجْرَة بِفعل الْإِرْضَاع لَا بِاللَّبنِ وَهَذَا كَمَا إِذا اسْتَأْجر دَارا وفيهَا بِئْر مَاء يجوز الشّرْب مِنْهَا تبعا لَو اسْتَأْجر للارضاع وَنفى الْحَضَانَة فَهَل يجوز وَجْهَان أَحدهمَا لَا كَمَا إِذا اسْتَأْجر شَاة لارضاع سخلة لِأَنَّهُ عقد على اسْتِيفَاء عين وأصحهما الصِّحَّة كَمَا يجوز الاستجئار لمُجَرّد الْحَضَانَة وَكَذَا لَا يجوز اسْتِئْجَار الْفَحْل للنزوان على الاناث للنَّهْي عَن ذَلِك وَقد نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن عسب الْفَحْل وَفِي مُسلم عَن بيع ضراب الْفَحْل وروى عَن الشَّافِعِي عَن ثمن عسب الْفَحْل وَالله أعلم وَقَوْلنَا مَقْصُودَة احْتِرَاز عَن مَنْفَعَة تافهة كاستئجار تفاحة وَنَحْوهَا للشم نعم إِذا كثر التفاح قَالَ الرَّافِعِيّ فَالْوَجْه الصِّحَّة كاستئجار الرياحين للشم وَمن الْمَنَافِع التافهة اسْتِئْجَار الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِن أطلق العقد فَبَاطِل وَإِن صرح باستئجارها للتزيين فَالْأَصَحّ الْبطلَان أَيْضا وَكَذَا لَا يجوز اسْتِئْجَار الطَّعَام لتزيين الحوانيت على الْمَذْهَب وَالله أعلم وَقَوْلنَا مَعْلُومَة احْتِرَاز عَن الْمَنْفَعَة المجهولة فَإِنَّهَا لَا تصح للغرر فَلَا بُد من الْعلم بِالْمَنْفَعَةِ قدرا ووصفاً وَقَوْلنَا قَابِلَة للبذل وَالْإِبَاحَة فِيهِ احْتِرَاز عَن اسْتِئْجَار آلَات اللَّهْو كالطنبور والمزمار والرباب وَنَحْوهَا فَإِن استئجارها حرَام وَيحرم بذل الْأُجْرَة فِي مقابلتها وَيحرم أَخذ الْأُجْرَة لِأَنَّهُ من قبيل أكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ وَكَذَا لَا يجوز اسْتِئْجَار المغاني وَلَا اسْتِئْجَار شخص لحمل خمر وَنَحْوه وَلَا لجبي المكوس والرشا وَجَمِيع الْمُحرمَات عَافَانَا الله تَعَالَى مِنْهَا
وَقَوْلنَا بعوض مَعْلُوم احترزنا بِهِ عَن الْأُجْرَة المجهولة فَإِنَّهُ لَا يَصح جعلهَا أُجْرَة فَإِنَّهَا ثمن الْمَنْفَعَة وَشرط الثّمن أَن يكون مَعْلُوما وَلِأَن الْجَهْل بِهِ غرر إِذا عرفت هَذَا فَكل عين وجد فِي مَنْفَعَتهَا شُرُوط الصِّحَّة صَحَّ استئجارها كاستئجار الدَّار للسُّكْنَى وَالدَّوَاب للرُّكُوب والرحل لِلْحَجِّ وللبيع وَالشِّرَاء وَالْأَرْض للزَّرْع وَشبهه وَيشْتَرط فِي الْعين الْمُسْتَأْجرَة الْقُدْرَة على تَسْلِيمهَا فَلَا يجوز إِيجَار عبد آبق وَلَا دَابَّة شاردة ومغصوب لَا يقدر على انْتِزَاعه وَكَذَا لَا يجوز اسْتِئْجَار أعمى للْحِفْظ لِأَنَّهُ يعجز عَن تَسْلِيم منفعَته كَمَا لَا يجوز اسْتِئْجَار دَابَّة زمنة للرُّكُوب وَالْحمل وَأَرْض لَا مَاء لَهَا وَلَا يكفيها الْمَطَر ونداوة الأَرْض وَمَا أشبه ذَلِك لِأَن الْأُجْرَة فِي مُقَابلَة الْمَنْفَعَة وَهِي مَعْدُومَة فَلَا يَصح إيجارها كَمَا لَا يَصح بيع الْعين المعدومة أَو الَّتِي لَا مَنْفَعَة فِيهَا وَقَول الشَّيْخ إِذا قدرت منفعَته أَي الْمُسْتَأْجرَة بِفَتْح الْجِيم بِمدَّة أَو عمل إِشَارَة إِلَى قَاعِدَة وَهِي أَن الْمَنْفَعَة المقعود عَلَيْهَا إِن كَانَت لَا تنقدر إِلَّا بِالزَّمَانِ فَالشَّرْط فِي صِحَة الْإِجَارَة فِيهَا أَن تقدر بِمدَّة وَذَلِكَ كَالْإِجَارَةِ للسُّكْنَى وَالرّضَاع وَنَحْو ذَلِك لتعينه طَرِيقا لِأَن تعْيين ذَلِك قد يعسر كالرضاع وَقد يتَعَذَّر وَإِن كَانَت لَا تتقدر إِلَّا بِالْعَمَلِ قدرت بِهِ وَإِن ورد العقد فِيهِ على الذِّمَّة كالركوب وَالْحج وَنَحْو ذَلِك وَإِن كَانَ يتَقَدَّر بالمدة وَالْعَمَل كالخياطة وَالْبناء قدر

(1/295)


بِأَحَدِهِمَا قَوْله استأجرتك لتخيط هَذَا الثَّوْب أَو قَالَ استأجرتك لتخيط لي يَوْمًا وَنَحْوه من الْأَعْمَال فَإِن قدر بهما لم تصح على الرَّاجِح بِأَن قَالَ لتخيط هَذَا الثَّوْب فِي هَذَا الْيَوْم لِأَنَّهُ إِن فرغ فِي بعض الْيَوْم فَإِن طَالبه بِالْعَمَلِ فِي بَقِيَّة الْيَوْم فقد أخل بِشَرْط الْعَمَل وَإِلَّا أخل بِشَرْط الْمدَّة وَالله أعلم قَالَ
(وإطلاقها يَقْتَضِي تَعْجِيل الْأُجْرَة إِلَّا أَن يشْتَرط التَّأْجِيل)
تجب الْأُجْرَة بِنَفس العقد كَمَا يملك الْمُسْتَأْجر بِالْعقدِ الْمَنْفَعَة وَلِأَن الْإِجَارَة عقد لَو شَرط فِي عوضه التَّعْجِيل أَو التَّأْجِيل اتبع فَكَانَ مطلقه حَالا كَالثّمنِ فِي البيع نعم إِن شَرط فِيهِ التَّأْجِيل اتبع لِأَن الْمُؤمنِينَ عِنْد شروطهم فَإِذا حل الْأَجَل وَجَبت الْأُجْرَة كَالثّمنِ فِي البيع وَهَذَا فِي إِجَارَة الْعين كَقَوْلِه اسْتَأْجَرت مِنْك هَذِه الدَّابَّة وَنَحْو ذَلِك أما فِي إِجَارَة الذِّمَّة فَإِن عقد بِلَفْظ السّلم فَيشْتَرط قبض رَأس المَال فِي الْمجْلس وَكَذَا إِن عقد بِلَفْظ الْإِجَارَة على الْأَصَح نظرا إِلَى الْمَعْنى فَيشْتَرط أَن تكون الْأُجْرَة حَالَة فِي إِجَارَة الذِّمَّة وَلَا يجوز تأجيلها لِئَلَّا يلْزم بيع الكالئ بالكالئ وَهُوَ بيع الدّين بِالدّينِ وَقد نهى عَنهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تبطل الْإِجَارَة بِمَوْت أحد الْمُتَعَاقدين وَتبطل بِتَلف الْعين الْمُسْتَأْجرَة)
إِذا مَاتَ أحد المستأجرين وَالْعين الْمُسْتَأْجرَة بَاقِيَة لم يبطل العقد لِأَن الْإِجَارَة عقد مُعَاوضَة على شَيْء يقبل النَّقْل وَلَيْسَ لأحد الْمُتَعَاقدين فَسخه بِلَا عذر فَلَا تبطل بِمَوْت أحد الْمُتَعَاقدين كَالْبيع فَإِذا مَاتَ الْمُسْتَأْجر قَامَ وَارثه مقَامه فِي اسْتِيفَاء الْمَعْقُود عَلَيْهِ وَإِن مَاتَ الْمُؤَجّر ترك الْمَأْجُور فِي يَد الْمُسْتَأْجر إِلَى إنقضاء الْمدَّة وَالله أعلم وَلَو تلفت الْعين الْمُسْتَأْجرَة بِأَن كَانَت دَابَّة فَمَاتَتْ أَو كَانَت أَرضًا فغرقت أَو ثوبا فَاحْتَرَقَ نظر إِن كَانَ ذَلِك قبل الْقَبْض أَو بعده وَلم تمض مُدَّة لمثلهَا أُجْرَة انْفَسَخت الْإِجَارَة وَإِن تلفت بعد الْقَبْض وَبعد مُضِيّ مُدَّة لمثلهَا أُجْرَة انْفَسَخت الْإِجَارَة فِي الْمُسْتَقْبل لفَوَات المعقد عَلَيْهِ وَفِي الْمَاضِي خلاف وَالأَصَح أَنه لَا يَنْفَسِخ لاستقراره بِالْقَبْضِ وَهَذَا كُله فِي إِجَارَة الْعين كَقَوْلِه اسْتَأْجَرت مِنْك هَذِه الدَّابَّة أما إِذا وَقعت الْإِجَارَة على الذِّمَّة كَمَا إِذا قَالَ ألزمت ذِمَّتك حمل كَذَا إِلَى مَوضِع كَذَا فسلمه دَابَّة ليستوفي مِنْهَا حَقّهَا فَهَلَكت لم تَنْفَسِخ الْإِجَارَة بل يُطَالب الْمُؤَجّر بإبدالها لِأَن الْمَعْقُود عَلَيْهِ بَاقٍ فِي الذِّمَّة بِخِلَاف إِجَارَة الْعين فَإِن الْمَعْقُود عَلَيْهِ نَفسه قد فَاتَ بِفَوَات الْعين الْمُسْتَوْفى مِنْهَا
وَاعْلَم أَن الْعين الْمسلمَة عَن هَذِه الْإِجَارَة وَإِن لم يَنْفَسِخ العقد بتلفها فَإِن للْمُسْتَأْجر اختصاصاً بهَا حَتَّى يجوز لَهُ إِجَارَة الْعين وَلَو أَرَادَ الْمُؤَجّر ابدالها دون رضى الْمُسْتَأْجر لَا يُمكن على الْأَصَح وَالله أعلم

(1/296)


(فرع) لَو أَرَادَ الْمُسْتَأْجر أَن يعتاض عَن حَقه فِي إِجَارَة الذِّمَّة قَالَ الرَّافِعِيّ إِن كَانَ بعد تَسْلِيم الدَّابَّة جَازَ وَإِن كَانَ قبله فَلَا وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا ضَمَان على الْأَجِير إِلَّا بعدوان)
الْأَجِير أَمِين فِيمَا فِي يَده لِأَنَّهُ يعْمل فِيهِ كَمَا إِذا اسْتَأْجرهُ لقصارة ثوب وَنَحْوه وَتلف فَإِنَّهُ لَا يضمنهُ لِأَنَّهُ أَمِين وَلَا تعدى مِنْهُ فَأشبه عَامل الْقَرَاض فَإِن تعدى لزمَه الضَّمَان كَمَا إِذا اسْتَأْجرهُ للْخَبَر فأسرف فِي الإيقاد أَو تَركه حَتَّى احْتَرَقَ أَو ألصقه قبل وقته وَأَشْبَاه ذَلِك فَإِنَّهُ تَقْصِير فَلَزِمَهُ الضَّمَان وكما لَا يضمن الْأَجِير كَذَلِك لَا يضمن الْمُسْتَأْجر الْعين الْمُسْتَأْجرَة إِلَّا بِالتَّعَدِّي لِأَنَّهَا عين قبضهَا ليستوفي مِنْهَا مَا ملكه بِعقد الْإِجَارَة فَلم يضمنهَا بِالْقَبْضِ كالنخلة إِذا اشْترى ثَمَرهَا وَلَيْسَ هَذَا كَمَا إِذا اشْترى سمناً فِي ظرف فَقَبضهُ فِيهِ فَإِنَّهُ يضمن الظّرْف فِي أصح الْوَجْهَيْنِ فِي الْكِفَايَة لِأَن قَبضه بِدُونِ الظّرْف مُمكن
وَاعْلَم أَن الْمرجع فِي الْعدوان إِلَى الْعرف فَلَو ربط الدَّابَّة فِي الإسطبل فَمَاتَتْ لم يضمن وَإِن انْهَدم عَلَيْهَا فَمَاتَتْ أطلق الْغَزالِيّ النَّقْل عَن الْأَصْحَاب أَنه يضمن وَقَالَ غَيره إِن انْهَدم فِي وَقت لَا يعْهَد أَن يكون فِيهِ الِانْتِفَاع كالليل فِي الشتَاء والمطر الشَّديد فِي النَّهَار فَلَا ضَمَان وَإِلَّا ضمن وَجزم بِهَذَا التَّفْصِيل فِي الرَّوْضَة وَفِي الْمِنْهَاج وَلَو ربط دَابَّة أكتراها لحمل أَو ركُوب وَلم ينْتَفع بهَا لم يضمن إِلَّا إِذا انْهَدم عَلَيْهَا الإسطبل فِي وَقت لَو انْتفع بهَا لم يصبهَا الْهدم فاعرف ذَلِك وَمن تعدِي الْمُسْتَأْجر أَن يكبح الدَّابَّة باللجام أَو يضْربهَا بِرجلِهِ أَو يعدو بهَا فِي غير مَحل الْعَدو على خلاف الْعَادة فِي هَذِه الْأُمُور فَإِنَّهُ يضمنهَا بِخِلَاف مَا إِذا فعل ذَلِك على الْعَادة وَالله أعلم
(فرع حسن) غصبت الدَّابَّة الْمُسْتَأْجرَة مَعَ دَوَاب الرّفْقَة فَذهب بَعضهم فِي طلب دَابَّته وَلم يذهب الْمُسْتَأْجر فَإِن لم يلْزمه الرَّد عِنْد انْقِضَاء الْمدَّة لم يضمن وَإِلَّا فَإِن اسْتردَّ الذاهبون بِلَا مشقة وَلَا غَرَامَة ضمن المتخلف وَإِن كَانَ بِمَشَقَّة وغرامة فَلَا ضَمَان قَالَه الْعَبَّادِيّ وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْجعَالَة فصل والجعالة جَائِزَة وَهِي أَن يشْتَرط على رد ضالته عوضا مَعْلُوما فَإِذا ردهَا اسْتحق ذَلِك الْعِوَض الْمَشْرُوط
الْجعَالَة بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا وَالْأَصْل فِيهَا قَوْله تَعَالَى {وَلمن جَاءَ بِهِ حمل بعير}

(1/297)


وَكَانَ مَعْلُوما وَفِي الصَّحِيحَيْنِ حَدِيث اللديغ الَّذِي رقاه الصَّحَابِيّ على قطيع غنم وَغير ذَلِك وَلِأَن الْحَاجة تَدْعُو إِلَى الْجعَالَة بل الْحَاجة دَاعِيَة إِلَيْهَا وَلَا بُد فِي اسْتِحْقَاق الْأُجْرَة من إِذن وَيجوز أَن يكون المعجول لَهُ معينا كَقَوْلِه لزيد مثلا إِن رددت عَبدِي أَو دَابَّتي فلك كَذَا وَيجوز أَن لَا يكون معينا كَقَوْلِه من رد ضالتي فَلهُ كَذَا فَإِذا رد المجعول لَهُ ذَلِك اسْتحق الْجعل وَلَو لم يسمع الرَّاد ذَلِك من الْجَاعِل بل سَمعه مِمَّن يوثق بِخَبَرِهِ فَرده اسْتحق وَلَا يشْتَرط أَيْضا أَن يكون الْجعل من مَالك الْمَتَاع بل لَو قَالَ بعض آحَاد النَّاس من رد ضَالَّة فلَان فَلهُ عَليّ كَذَا فَرد من سَمعه أَو من بلغه ذَلِك بطريقة اسْتحق الْجعل
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْمُؤْمِنُونَ عِنْد شروطهم) وَيشْتَرط فِي الْجعل أَن يكون مَعْلُوما لِأَنَّهُ عوض فَلَا بُد من الْعلم بِهِ كالأجرة فِي الْإِجَارَة فَلَو كَانَ مَجْهُولا كَقَوْلِه من رد آبقي أَو ضالتي فَلهُ ثوب أَو عَليّ رِضَاهُ وَنَحْو ذَلِك كَقَوْلِه أعْطِيه شَيْئا فَهُوَ فَاسد فَإِذا رد اسْتحق أُجْرَة الْمثل وَكَذَا لَو جعل لَهُ ثِيَاب العَبْد وَهِي مَجْهُولَة فَكَذَلِك وَلَو جعل مَالك الدَّابَّة الضَّالة ربعهَا أَو ثلثهَا لمن ردهَا قَالَ السَّرخسِيّ لَا يَصح وَقَالَ الْمُتَوَلِي يَصح قَالَ الرَّافِعِيّ هَذَا قريب من اسْتِئْجَار الْمُرضعَة بِجُزْء من الرَّضِيع بعد الْفِطَام وَالْحكم فِي مَسْأَلَة الرَّضِيع أَنه فَاسد كَمَا لَو اسْتَأْجرهُ على سلخ الدَّابَّة بجلدها بعد الْفَرَاغ أَو أَن لَهُ ربع الثَّوْب بعد النسج وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ فَاسد وَقَالَ ابْن الرّفْعَة لَيْسَ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ فَإِن فِي الرَّضِيع جعل جُزْءا مِنْهُ ملكا لَهَا بعد الْفِطَام والجزء عين والأعيان لَا تؤجل وَهنا إِن كَانَ مَوضِع الدَّابَّة مَعْلُوما وَالْعَبْد مرئياً فَالْوَجْه الصِّحَّة وَإِلَّا فَيظْهر أَنه مَوضِع الْخلاف
وَاعْلَم أَنه لَو اشْترك جمَاعَة فِي الرَّد اشْتَركُوا فِي الْجعل لأَنهم اشْتَركُوا فِي السَّبَب وَيقسم بَينهم بِالسَّوِيَّةِ وَإِن تفاوتت أَعْمَالهم لِأَن الْعَمَل فِي أَصله مَجْهُول فَلَا يُمكن رِعَايَة مِقْدَاره فِي التقسيط وَللْإِمَام احْتِمَال فِي توزيع الْجعل على قدر أَعْمَالهم لِأَن الْعَمَل بعد تَمَامه قد انضبط وَالله أعلم
(فرع) قَالَ مَالك الْمَتَاع لزيد مثلا إِن رددت ضالتي فلك دِينَار فساعده غَيره فِي الرَّد نظر إِن قصد مساعدة زيد اسْتحق زيد الدِّينَار وَإِلَّا اسْتحق نصفه فَقَط وَإِن رده غير زيد لم يسْتَحق شَيْئا قَالَه القَاضِي حُسَيْن وَقَالَ الرَّافِعِيّ إِن رده غير زيد اتجه تَخْرِيجه على أَن الْوَكِيل هَل يُوكل وَالله أعلم قَالَ

(1/298)


بَاب الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة فصل فِي الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة وَإِذا دفع إِلَى رجل أَرضًا ليزرعها شَرط لَهُ جُزْءا مَعْلُوما من زَرعهَا لم يجز وَإِن اكتراه بِذَهَب أَو فضَّة أَو شَرط لَهُ طَعَاما مَعْلُوما فِي ذمَّته جَازَ
الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة هَل هما بِمَعْنى أم لَا قَالَ الرَّافِعِيّ الصَّحِيح وَظَاهر نَص الشَّافِعِي أَنَّهُمَا عقدان مُخْتَلِفَانِ فالمخابرة هِيَ الْمُعَامَلَة على الأَرْض بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا والمزارعة هِيَ اكتراء الْعَامِل ليزرع الأَرْض بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا وَالْمعْنَى لَا يخْتَلف قَالَ النَّوَوِيّ وَمَا صَححهُ الرَّافِعِيّ هُوَ الصَّوَاب وَقَول العمراني إِن أَكثر أَصْحَابنَا قَالُوا هما بِمَعْنى لم يُوَافق عَلَيْهِ نبهت عَلَيْهِ لِئَلَّا يغتر بِهِ وَالله أعلم قلت لم ينْفَرد بذلك العمراني بل نقل صَاحب التموية أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد عَن أَكثر الْأَصْحَاب وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ هما بِمَعْنى وَلَا يعرف فِي اللُّغَة بَينهمَا فرق وَقَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب هما بِمَعْنى وَهُوَ ظَاهر نَص الشَّافِعِي وَقَالَ الْجَوْهَرِي الْمُزَارعَة المخابرة وَالله أعلم
وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ قَالَا إِن الْمُزَارعَة يكون النّذر فِيهَا من الْمَالِك وَالْمُخَابَرَة يكون النّذر فِيهَا من الْعَامِل وَبِالْجُمْلَةِ فالمزارعة وَالْمُخَابَرَة باطلان فَفِي الصَّحِيحَيْنِ النَّهْي عَن المخابرة فَإِن كَانَتَا بِمَعْنى فَلَا كَلَام وَإِلَّا قسنا الْمُزَارعَة على المخابرة مَعَ أَنه رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن الْمُزَارعَة وَأمر بالمؤاجرة وَقَالَ لَا بَأْس بهَا وسر النَّهْي أَن تَحْصِيل مَنْفَعَة الأَرْض مُمكنَة بِالْإِجَارَة فَلم يجز الْعَمَل عَلَيْهَا بِبَعْض مَا يخرج مِنْهَا كالمواشي بِخِلَاف الشّجر وَقَالَ ابْن سُرَيج يجوز الْمُزَارعَة وَقَالَ النَّوَوِيّ قَالَ بِجَوَاز الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة من كبار أَصْحَابنَا أَيْضا ابْن خُزَيْمَة وَابْن الْمُنْذر والخطابي وصنف فِيهَا ابْن خُزَيْمَة جُزْءا وَبَين فِيهِ علل الْأَحَادِيث الْوَارِدَة بِالنَّهْي عَنْهَا وَجمع بَين أَحَادِيث الْبَاب ثمَّ تَابعه الْخطابِيّ وَقد ضعف أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى حَدِيث النَّهْي وَقَالَ هُوَ مُضْطَرب كثير الألوان قَالَ الْخطابِيّ وأبطلها مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رَحِمهم الله تَعَالَى لأَنهم لم يقفوا على علته قَالَ والمزارعة جَائِزَة وَهِي من عمل الْمُسلمين فِي جَمِيع الْأَمْصَار لَا يبطل الْعَمَل بهَا أحد هَذَا كَلَام الْخطابِيّ وَالْمُخْتَار جَوَاز الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة وَتَأْويل الْأَحَادِيث على مَا إِذا اشْترط لوَاحِد زرع قِطْعَة مُعينَة وَلآخر آخرى وَالْمَعْرُوف فِي الْمَذْهَب إبِْطَال هَذِه الْمُعَامَلَة وَالله أعلم هَذَا كَلَام الرَّوْضَة وَقَالَ فِي شرح مُسلم إِن الْجَوَاز هُوَ الظَّاهِر الْمُخْتَار لحَدِيث خَيْبَر وَلَا يقبل دَعْوَى كَون الْمُزَارعَة فِي خَيْبَر إِنَّمَا جَازَت تبعا للمساقاة بل جَازَت مُسْتَقلَّة لِأَن الْمَعْنى المجوز للمساقاة مَوْجُود فِي الْمُزَارعَة وَقِيَاسًا على الْقَرَاض فَإِنَّهُ جَائِز بِالْإِجْمَاع وَهُوَ

(1/299)


كالمزارعة فِي كل شَيْء والمسلمون فِي جَمِيع الْأَمْصَار والأعصار مستمرون على الْعَمَل بالمزارعة وَقد قَالَ بِجَوَاز الْمُزَارعَة أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن أبي ليلى وَسَائِر الْكُوفِيّين والمحدثين وَالله أعلم
فَإِذا فرعنا على الْبطلَان فالطريق كَمَا قَالَه الشَّيْخ أَن يستأجره بِأُجْرَة مَعْلُومَة نَقْدا كَانَ أَو غَيره وَمَا قَالَه الشَّيْخ فَحَمله كَمَا ذكره فِي الأَرْض خَاصَّة أما لَو دفع إِلَيْهِ أَرضًا فِيهَا أَشجَار فساقاه على النّخل وزارعه على الأَرْض فَإِنَّهُ يجوز وَتَكون الْمُزَارعَة تبعا للمساقاة بِشَرْط أَن يكون الْبذر من صَاحب الأَرْض على الْأَصَح وَلَا فرق بَين كَثْرَة الْأَشْجَار وقلتها وَعكس على الرَّاجِح لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعْطى أهل خَيْبَر بِشَطْر مَا يخرج مِنْهَا من ثَمَر أَو زرع وَإِنَّمَا اشْترط كَون الْبذر من الْمَالِك ليَكُون العقدان أَعنِي الْمُسَاقَاة والمزارعة واردين على الْمَنْفَعَة فتتحقق التّبعِيَّة وَلِهَذَا لَو أمكن سقِِي النخيل بِدُونِ سقِِي الأَرْض لم تجز الْمُزَارعَة وَالله أعلم
فَإِن قلت مَا الْحِيلَة فِي تَصْحِيح عقد يحصل بِهِ مَقْصُود الْمُزَارعَة إِذا لم يكن ثمَّ نخل
فَالْجَوَاب ذكر الْأَصْحَاب لذَلِك طرقاً فنقتصر مِنْهَا على مَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَصُورَة ذَلِك أَن يكتري صَاحب الأَرْض نصفهَا بِنصْف عمل الْعَامِل وَنصف عمل الْآلَة وَيكون الْبذر مُشْتَركا بَينهمَا فيشتركان فِي الزَّرْع على حسب الِاشْتِرَاك فِي الْبذر وَالله أعلم قَالَ
بَاب احياء الْموَات فصل وإحياء الْموَات جَائِز بِشَرْطَيْنِ أَن يكون المحيي مُسلما وَأَن تكون الأَرْض حرَّة لم يجر عَلَيْهَا ملك لمُسلم
الْموَات هِيَ الأَرْض الَّتِي لم تعمر قطّ
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(من أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لعرق ظَالِم حق) وَرَوَاهُ الْعرق مُضَافا ومنوناً
(فَائِدَة) الْعرق أَرْبَعَة الْغِرَاس وَالْبناء وَالنّهر والبئر

(1/300)


اعْلَم أَن الْإِحْيَاء مُسْتَحبّ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
(أَحْيَا أَرضًا ميتَة فَلهُ أجر وَمَا أكله العوافي فَهُوَ لَهُ صَدَقَة) والعوافي الطير والوحش وَالسِّبَاع ثمَّ كل من جَازَ لَهُ أَن يتَمَلَّك الْأَمْوَال جَازَ لَهُ الْإِحْيَاء وَيملك بِهِ الْمحيا لِأَنَّهُ ملك بِفعل فَأشبه الِاصْطِيَاد والاحتطاب وَنَحْوهمَا وَلَا فرق فِي حُصُول الْملك لَهُ بَين أَن يَأْذَن الإِمَام أم لَا اكْتِفَاء بِإِذن سيد السَّابِقين واللاحقين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيشْتَرط كَمَا ذكره الشَّيْخ أَنه لم يجر على الأَرْض ملك مُسلم فَإِن جرى ذَلِك حرم التَّعَرُّض لَهَا بالأحياء وَغَيره إِلَّا بِإِذن شَرْعِي فَفِي الْخَبَر عَن سيد الْبشر
(من أَخذ شبْرًا من الأَرْض ظلما فَإِنَّهُ يطوق بِهِ يَوْم الْقِيَامَة من سبع أَرضين) ثمَّ حَرِيم الْمَعْمُور لَا يملك بِالْإِحْيَاءِ لِأَن مَالك الْمَعْمُور يسْتَحق مرافقه وَهل تملك تِلْكَ الْمَوَاضِع وَجْهَان
أَحدهمَا لَا لِأَن لم يُحْيِيهَا وَالصَّحِيح نعم كَمَا يملك عَرصَة الدَّار بِبِنَاء الدَّار والحريم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ لتَمام الِانْتِفَاع كطريق ومسيل المَاء وَنَحْوهمَا كموضع إِلْقَاء الرماد والزبالة وكما يشْتَرط أَن يكون الَّذِي يقْصد إحياءه مواتاً كَذَلِك يشْتَرط أَن يكون المحيي مُسلما فَلَا يجوز إحْيَاء الْكَافِر الذِّمِّيّ الَّذِي فِي دَار الْإِسْلَام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(عادي الأَرْض وروى موتان الأَرْض لله وَلِرَسُولِهِ ثمَّ هِيَ لكم مني) وَيُؤَيِّدهُ أَنه فِي رِوَايَة
(هِيَ لكم مني أَيهَا الْمُسلمُونَ) وَلِأَنَّهُ نوع تمْلِيك يُنَافِيهِ كفر الْحَرْبِيّ فنافاه كفر الذِّمِّيّ كَالْإِرْثِ من الْمُسلم وَيُخَالف الْإِحْيَاء الاحتطاب والاحتشاش حَيْثُ يجوز للذِّمِّيّ ذَلِك بِأَن يسْتَخْلف فَلَا يتَضَرَّر بِهِ الْمُسلمُونَ بِخِلَاف الْموَات فَلَو أَحْيَا الذِّمِّيّ فجَاء مُسلم فَوجدَ أثر عمَارَة فأحياه بِإِذن الإِمَام ملكه وَإِن كَانَ بِغَيْر إِذْنه فَوَجْهَانِ صحّح النَّوَوِيّ أَنه يملكهُ أَيْضا وَإِن ترك الْعِمَارَة الذِّمِّيّ مُتَبَرعا صرفهَا الإِمَام فِي الْمصَالح وَلَيْسَ لأحد تَملكهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَصفَة الْإِحْيَاء مَا كَانَ فِي الْعَادة عمَارَة للمحيي)
الْإِحْيَاء عبارَة عَن تهيئة الشَّيْء لما يُرِيد بِهِ المحيي لِأَن الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أطلقهُ وَلَا حد لَهُ فِي

(1/301)


اللُّغَة فَرجع فِيهِ إِلَى الْعرف كالاحراز فِي السّرقَة وَالْقَبْض فِي الْبيُوع وَبَيَانه بصور مِنْهَا إِذا أَرَادَ الْمسكن فَيشْتَرط التحويط إِمَّا بحجارة أَو آجر أَو طين أَو خشب أَو قصب بسب الْعَادة وَيشْتَرط أَيْضا تسقيف الْبَعْض وَنصب الْبَاب على الصَّحِيح فيهمَا وَلَا يشْتَرط السُّكْنَى بِحَال وَقَالَ الْمحَامِلِي الإيواء إِلَيْهَا شَرط
قلت نصب الْأَبْوَاب مَفْقُود فِي كثير من قرى الْبَوَادِي وَقد اطردت عَادَتهم بتعريض خَشَبَة فَقَط فَالْمُتَّجه فِي مثل ذَلِك اتِّبَاع عَادَتهم وَلَعَلَّ من اشْترط نصب الْأَبْوَاب كَلَامه مَحْمُول على من اطردت ناحيتهم بذلك وَالله أعلم وَمِنْهَا إِذا أَرَادَ بستاناً أَو كرماً فَلَا بُد من تحويطه وَيرجع فِي تحويطه إِلَى الْعَادة قَالَ ابْن كج فَإِن كَانَت عَادَة تِلْكَ الْبَلَد بِنَاء الجدران اشْترط وَإِن كَانَ التحويط بقصب أَو شوك وَرُبمَا تَرَكُوهُ اعْتبرت عَادَتهم وَيعْتَبر غرس الْأَشْجَار على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ مُلْحق بالأبنية وَكَذَا بَقِيَّة الصُّور يعْتَبر فِيهَا الْعرف وَالله أعلم قَالَ
(وَيجب بذل المَاء بِثَلَاثَة شَرَائِط أَن يفضل عَن حَاجته وَأَن يحْتَاج إِلَيْهِ غَيره لنَفسِهِ أَو لبهيمته وَأَن يكون مِمَّا يسْتَخْلف فِي بِئْر أَو عين وَنَحْوه)
اعْلَم أَن المَاء على قسمَيْنِ
أَحدهمَا مَا نبع فِي مَوضِع لَا يخْتَص بأحذ وَلَا صنع لآدَمِيّ فِي انباطه واجرائه كالفرات وجيحون وعيون الْجبَال وسيول الأمطار فَالنَّاس فِيهَا سَوَاء نعم إِن قل المَاء أَو ضَاقَ المشرع قدم السَّابِق وَإِن كَانَ ضَعِيفا لقَضَاء الشَّرْع بذلك فَإِن جاؤوا مَعًا أَقرع فَإِن جَاءَ وَاحِد يُرِيد السَّقْي وَهُنَاكَ مُحْتَاج للشُّرْب فَالَّذِي يشرب أولى قَالَه الْمُتَوَلِي وَمن أَخذ مِنْهُ شَيْئا فِي إِنَاء أَو حَوْض ملكه وَلم يكن لغيره مزاحمته فِيهِ كَمَا لَو احتطب هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَالله أعلم
الْقسم الثَّانِي الْمِيَاه المختصة كالآبار والقنوات فَإِذا حفر الشَّخْص بِئْرا فِي ملكه فَهَل يكون مَاؤُهَا ملكا وَجْهَان أصَحهمَا نعم لِأَنَّهُ نَمَاء ملكه فَأشبه ثَمَرَة شجرته وكمعدن ذهب أَو فضَّة خرج فِي ملكه وَقد نَص الشَّافِعِي على هَذَا فِي غير مَوضِع فعلى هَذَا لَيْسَ لأحد أَن يَأْخُذهُ لَو خرج عَن ملكه وَقد نَص لِأَنَّهُ ملكه فَأشبه لبن شاته وَقيل إِن المَاء لَا يملك لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْمُسلمُونَ شُرَكَاء فِي ثَلَاث المَاء والكلأ وَالنَّار) وَالْمذهب الأول والْحَدِيث وعَلى الْوَجْهَيْنِ لَا يجب على صَاحب الْبِئْر بذل مَا فضل عَن حَاجته لزرع غَيره على الصَّحِيح وَيجب بذله للماشية على الصَّحِيح لما روى

(1/302)


الشَّافِعِي عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ
(من منع فضل المَاء ليمنع بِهِ فضل الْكلأ مَنعه الله فضل رَحمته يَوْم الْقِيَامَة) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ
(لَا تمنعوا فضل المَاء لتمنعوا بِهِ الْكلأ) وَالْفرق بَين الْمَاشِيَة وَالزَّرْع وَنَحْوه حُرْمَة الرّوح بِدَلِيل وجوب سقيها بخلاق الزَّرْع ثمَّ لوُجُوب الْبَذْل شُرُوط
أَحدهَا أَن يفضل عَن حَاجته فَإِن لم يفضل لم يجب وَيبدأ بِنَفسِهِ
الثَّانِي أَن يحْتَاج إِلَه صَاحب الْمَاشِيَة بِأَن لَا يجد مَاء مُبَاحا
الثَّالِث أَن يكون هُنَاكَ كلأ يرْعَى وَلَا يُمكن رعيه إِلَّا بسقي المَاء
الرَّابِع أَن يكون المَاء فِي مستقره وَهُوَ مِمَّا يسْتَخْلف فَأَما إِذا أَخذه فِي الْإِنَاء فَلَا يجب بذله على الصَّحِيح وَإِذا وَجب الْبَدَل مكن الْمَاشِيَة من حُضُور الْبِئْر بِشَرْط أَن لَا يتَضَرَّر صَاحب الْمَار فِي زرع وَلَا مَاشِيَة فَإِن تضرر بورودها منعت ويستقي الرُّعَاة لَهَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَإِذا وَجب الْبَذْل فَهَل يجوز لَهُ أَن يَأْخُذ عَلَيْهِ عوضا كطعام الْمُضْطَر وَجْهَان الصَّحِيح لَا للْحَدِيث الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(نهى عَن بيع فضل المَاء) فَلَو لم يجب بذل فضل المَاء جَازَ بَيْعه بكيل أَو وزن وَلَا يجوز بري الْمَاشِيَة أَو الزَّرْع لِأَنَّهُ مَجْهُول وَهُوَ غرر وَالله أعلم
(فرع) من حفر بِئْرا فِي موَات فَالصَّحِيح أَنه لَيْسَ لغيره أَن يحْفر بِئْرا يحصل بِسَبَبِهَا نقص مَاء الْبِئْر الأولى وَيكون ذَلِك الْموضع من حَرِيم الْبِئْر الأولى وَهَذَا بِخِلَاف مَا إِذا حفر بِئْرا فِي ملكه فنقص مَاء بِئْر جَاره فَإِنَّهُ لَا يمْنَع لِأَنَّهُ تصرف فِي عين ملكه وَفِي الْموَات ابْتِدَاء تملك فَيمْنَع مِنْهُ إِذا أضرّ بِالْغَيْر وَحكم غرس الْأَشْجَار كالبئر قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب وَالله أعلم
بَاب الْوَقْف فصل وَالْوَقْف جَائِز بِثَلَاث شَرَائِط أَن يكون مِمَّا ينْتَفع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه
يُقَال وقفت وأوقفت لُغَة رَدِيئَة
وَحده فِي الشَّرْع حبس مَال يُمكن الِانْتِفَاع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه مَمْنُوع من التَّصَرُّف فِي عينه

(1/303)


تصرف مَنَافِعه فِي الْبر تقرباً إِلَى الله تَعَالَى وَلَو قيل حبس مَا يُمكن الإنتفاع بِهِ إِلَى آخِره فَهُوَ أحسن ليشْمل الْكَلْب الْمعلم على وَجه وَالرَّاجِح أَنه لَا يَصح وَقفه وَقيل لَا يَصح قطعا لِأَنَّهُ لَا يملك وَهُوَ قربَة مَنْدُوب إِلَيْهَا
قَالَ الله تَعَالَى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(إِذا مَاتَ العَبْد انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاثَة أَشْيَاء من صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ) وَحمل عُلَمَاء الصَّدَقَة الْجَارِيَة على الْوَقْف قَالَ جَابر رَضِي الله عَنهُ مَا بَقِي أحد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ مقدرَة إِلَّا وقف وَقَول الشَّيْخ أَن ينْتَفع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه دخل فِيهِ العقاء وَغَيره مُفردا كَانَ أَو مشَاعا حَيَوَانا كَانَ أَو غَيره وَاحْترز بِهِ عَمَّا لَا ينْتَفع بِهِ مَعَ بَقَاء عينه كالأثمار وَالطَّعَام وَكَذَا المشموم لِأَن الأثمار ينْتَفع بإخراجها وَالطَّعَام بِأَكْلِهِ والمشموم لَا يَدُوم وَاعْلَم أَنه يجوز وقف الْأَشْجَار لثمارها والماشية للبنها وصوفها وَكَذَا الْفَحْل ليقفز على شِيَاه الْبَلَد لِأَن الْمَوْقُوف ذواتها وَهَذِه الْأُمُور هِيَ مَنَافِعهَا وَلَيْسَ من شَرط الْمَوْقُوف أَن ينْتَفع بِهِ فِي الْحَال فَيصح وقف الأَرْض الجدبة لتصلح وَيُمكن زَرعهَا وَكَذَا يَصح وقف العَبْد والجحش الصغيرين وَكَذَا يَصح وقف الأَرْض الْمُؤجرَة كَمَا يَصح وقف الْعين الْمَغْصُوبَة وَالله أعلم قَالَ (وَأَن يكون على أصل مَوْجُود وَفرع لَا يَنْقَطِع)
لَا شكّ أَن الْوَقْف صَدَقَة يُرَاد بهَا الدَّوَام
وَحَقِيقَة الْوَقْف نقل ملك الْمَنَافِع إِلَى الْمَوْقُوف عَلَيْهِ وتمليك الْمَعْدُوم بَاطِل وَكَذَا تمْلِيك من لَا يملك مِثَال الأول مَا إِذا وقف على من سيولد ثمَّ على الْفُقَرَاء أَو وقف على وَلَده ثمَّ على الْفُقَرَاء وَلَا ولد لَهُ وَفِي معنى ذَلِك مَا إِذا وقف على مَسْجِد سيبنى ثمَّ على الْفُقَرَاء وَمِثَال الثَّانِي الْوَقْف على الْحمل وَكَذَا على عبد إِذا قصد نَفسه دون سَيّده وفرعنا على الصَّحِيح أَن العَبْد لَا يملك بالتمليك فَهَذَا وأشباهه بَاطِل على الْمَذْهَب لِأَن الْوَقْف تمْلِيك منجر فَلَا يَصح على من لَا يملك كَالْبيع وَسَائِر التمليكات وَإِلَى مَا ذكرنَا أَشَارَ الشَّيْخ بقوله على أصل مَوْجُود وَالله أعلم
(فرع) الْوَقْف على الْمَيِّت لَا يَصح وَقيل يَصح وَيصرف على الْفُقَرَاء وَهَذَا النَّوْع يعبر عَنهُ الْفُقَهَاء بقَوْلهمْ مُنْقَطع الأول وَقَوله وَفرع لَا يَنْقَطِع احْتَرز بِهِ الشَّيْخ عَن غير مُنْقَطع الأول وَهُوَ الَّذِي يعبرون عَن بقَوْلهمْ مُنْقَطع الآخر وَهل هُوَ بَاطِل كالنوع الأول وَهُوَ مُنْقَطع الأول أم هُوَ

(1/304)


صَحِيح يخْتَلف التَّرْجِيح فِيهِ باخْتلَاف صيفة الْوَقْف فَإِن قَالَ وقفت على أَوْلَادِي ثمَّ سكت أَو على الْفَقِير فلَان ثمَّ سكت وَلم يذكر مصرفاً لَهُ دوَام فَفِي هَذِه الصِّيغَة خلاف منتشر وَالرَّاجِح الصِّحَّة وَبِه قَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُم القَاضِي أَبُو حَامِد وَالْقَاضِي الطَّبَرِيّ وَالرُّويَانِيّ وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر وَبِه قَالَ مَالك رَحمَه الله تَعَالَى لِأَن مَقْصُود الْوَقْف الْقرْبَة وَالثَّوَاب فَإِذا بَين مصرفه فِي الْحَال سهل إدامته على سَبِيل الْخَيْر فعلى هَذَا إِذا انقرض الْمَوْقُوف عَلَيْهِ لَا يبطل الْوَقْف على الرَّاجِح فعلى هَذَا إِلَى من يصرفهُ الصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر إِلَى أقرب النَّاس إِلَى الْوَاقِف إِلَى يَوْم انْقِرَاض الْمَوْقُوف عَلَيْهِم فعلى هَذَا هَل الْمُعْتَبر الْإِرْث أم لَا الصَّحِيح إعتبار قرب الرَّحِم فعلى هَذَا يقدم ابْن الْبِنْت وَإِن لم يَرث على ابْن الْعم وَهل يشْتَرط الْكل أم يخْتَص بِهِ الْفُقَرَاء الرَّاجِح اخْتِصَاص الْفُقَرَاء لِأَن مصرفه مصرف الصَّدَقَة وَهل ذَلِك على سَبِيل الْوُجُوب أم الِاسْتِحْبَاب فِيهِ خلاف لم يرجح الشَّيْخَانِ فِي ذَلِك شَيْئا فَلَو انقرض الْفُقَرَاء فالمنصوص أَن الإِمَام يَجْعَل الْوَقْف حسبا على الْمُسلمين يصرف غَلَّته فِي مصالحهم وَرجحه الطَّبَرِيّ وَفِي الشَّامِل لِابْنِ الصّباغ يصرف للْفُقَرَاء أَو الْمَسَاكِين وَالله أعلم أما إِذا قَالَ وقفت هَذَا سنة فَالصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور بطلَان الْوَقْف لفساد الشَّرْط لِأَن الْمَقْصُود دوَام الثَّوَاب هُوَ مَفْقُود وَالله أعلم
(فرع) هَل يشْتَرط الْقبُول فِي الْوَقْف ينظر إِن كَانَ الْوَقْف على جِهَة عَامَّة كالفقراء أَو الرَّبْط والمساجد فَلَا يشْتَرط لتعذره وَإِن كَانَ على معِين وَاحِدًا كَانَ أَو جمَاعَة فَفِيهِ خلاف الرَّاجِح فِي الْمُحَرر والمنهاج اشْتِرَاط الْقبُول فعلى هَذَا يكون الْقبُول مُتَّصِلا بِالْإِيجَابِ كَمَا فِي البيع وَالْهِبَة وَخص الْمُتَوَلِي الْخلاف بِمَا إِذا قُلْنَا الْملك فِي الْمَوْقُوف ينْتَقل إِلَى الْمَوْقُوف عَلَيْهِ أما إِذا قُلْنَا ينْتَقل إِلَى الله تَعَالَى فَلَا يشْتَرط الْقبُول قطعا
وَاعْلَم أَن مَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي الْمِنْهَاج من اشْتِرَاط الْقبُول فِي بَاب الْوَقْف خَالفه فِي الرَّوْضَة فِي كتاب السّرقَة فَقَالَ فِي زياده الْمُخْتَار أَنه لَا يشْتَرط وَالْمُخْتَار فِي الرَّوْضَة بِمَعْنى الصَّحِيح وَكَلَام التَّنْبِيه يقتضضيه فَإِنَّهُ ذكر الْإِيجَاب وَلم يشْتَرط الْقبُول وَكَذَا فِي الْمُهَذّب وَمِمَّنْ قَالَ بِعَدَمِ اشْتِرَاط الْقبُول خلائق تَشْبِيها لَهُ بِالْعِتْقِ مِنْهُم الْمَاوَرْدِيّ بل قطع بِهِ الْبَغَوِيّ وَالرُّويَانِيّ بل نَص الشَّافِعِي على أَنه لَا يشْتَرط وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن لَا يكون فِي مَحْظُور)
الْمَحْظُور الْحَرَام فَيشْتَرط فِي صِحَة الْوَقْف انْتِفَاء الْمعْصِيَة لِأَن الْوَقْف مَعْرُوف وبر وَالْمَعْصِيَة عكس ذَلِك فَيحرم الْوَقْف على شِرَاء آلَة لقطع الطَّرِيق وَكَذَا الْآلَات الْمُحرمَة كَسَائِر آلَات الْمعاصِي كَمَا يصنعه أهل الْبدع من صوفية الزوايا بِأَن يوقفوا آلَة لَهو لأجل السماع وَيَقُولُونَ

(1/305)


لَا سَماع إِلَّا من تَحت قناع وَلَا يَأْبَى ذَلِك إِلَّا فَاسد الطباع وَهَؤُلَاء قد نَص الْقُرْآن على إلحادهم وَلَيْسَ فِي كفرهم نزاع وَكَذَا لَا يجوز الْوَقْف على البيع وَالْكَنَائِس وَكتب التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل لِأَنَّهَا مُحرمَة وَلَو كَانَ الْوَقْف ذِمِّيا حَتَّى لَو ترافعوا إِلَيْنَا فِي ذَلِك أبطلناه هَذَا إِذا كَانَ الْوَقْف على جِهَة أما إِذا وقف على ذمِّي بِعَيْنِه فَإِنَّهُ يَصح لِأَن الْوَقْف كصدقة التَّطَوُّع وَهِي عَلَيْهِ جَائِزَة بِخِلَاف الْوَقْف على الْحَرْبِيّ وَالْمُرْتَدّ فَإِنَّهُ لَا يَصح على الرَّاجِح لِأَنَّهُمَا مقتولان فَهُوَ وقف على من لَا دوَام لَهُ فَأشبه وقف شَيْء لَا دوَام لَهُ وَلَو وقف على الْأَغْنِيَاء فَفِيهِ خلاف مَبْنِيّ على أَن المرعي فِي الْوَقْف جِهَة التَّمْلِيك أم جِهَة الْقرْبَة وَكَذَا لَو وقف على الْفُسَّاق فِيهِ هَذَا الْخلاف قَالَ الرَّافِعِيّ وَالْأَشْبَه بِكَلَام الْأَكْثَرين تَرْجِيح كَونه تَمْلِيكًا وَتَصْحِيح الْوَقْف على هَؤُلَاءِ وَصرح بِتَصْحِيحِهِ فِي الْمُحَرر وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على التَّصْحِيح فِي الْمِنْهَاج إِلَّا أَن الرَّافِعِيّ قَالَ فِي الشَّرْح بعد ذَلِك وَتَبعهُ فِي الرَّوْضَة الْأَحْسَن تَصْحِيح الْوَقْف على الْأَغْنِيَاء دون الْفُسَّاق لتَضَمّنه الْإِعَانَة على الْمعْصِيَة وَالله أعلم قَالَ
(وَهُوَ على مَا شَرط الْوَاقِف من تَقْدِيم وَتَأْخِير وتسوية وتفضيل)
إِذا صَحَّ الْوَقْف لزم كَالْعِتْقِ وَاسْتحق الْمَوْقُوف عَلَيْهِ غَلَّته مَنْفَعَة كَانَت كالسكنى أَو عينا كالثمرة وَالصُّوف وَاللَّبن وَكَذَا الْوَلَد على الْأَصَح لِأَنَّهَا نَمَاء الْمَوْقُوف وَيجب صرف ذَلِك بِحَسب الشَّرْط من التقييم كوقفت على أَوْلَادِي بِشَرْط تَقْدِيم الأعلم أَو الأورع أَو المزوج وَنَحْو ذَلِك أَو التَّأْخِير بِأَن يَقُول وقفت على أَوْلَادِي فَإِن انقرضوا فلأولادهم وَنَحْو ذَلِك أَو على أَن ريع السّنة الأولى للإناث وَالثَّانيَِة للذكور أَو التَّسْوِيَة كَمَا إِذا وقف على أَوْلَاده بِشَرْط أَن لَا يفضل أحدا على أحد فِي قدر النَّصِيب وَنَحْو ذَلِك والتفضيل كَمَا إِذا قَالَ وقفت على أَوْلَادِي على أَن للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ وَنَحْو ذَلِك وَوجه ذَلِك كُله على أَن الْوَقْف تمْلِيك مَنَافِع الْمَوْقُوف فَاعْتبر قَول المملك كَالْهِبَةِ وَالله أعلم
(فرع) إِذا جهل شَرط الْوَاقِف فِي الْمَقَادِير أَو فِي كَيْفيَّة التَّرْتِيب لِانْعِدَامِ كتاب الْوَقْف وَعدم الشُّهُود قَالَ الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ فِي الرَّوْضَة تقسم الْغلَّة بَينهم بِالسَّوِيَّةِ وَحكى بَعضهم أَن الْأَوْجه الْوَقْف حَتَّى يصطلحوا وَهُوَ الْقيَاس وَالْقَائِل بِهَذَا هُوَ الإِمَام وَمحل الْقِسْمَة بَينهم بِالسَّوِيَّةِ إِذا كَانَ الْمَوْقُوف فِي أَيْديهم فَإِن كَانَ فِي بُد بَعضهم فَالْقَوْل قَوْله وَلَو كَانَ الْوَاقِف حَيا رَجَعَ إِلَى قَوْله ذكره الْبَغَوِيّ وَصَاحب الْمُهَذّب قَالَ الرَّافِعِيّ وَلَو قيل لَا رُجُوع إِلَيْهِ كالبائع إِذا اخْتلف المشتريان مِنْهُ لم يبعد قَالَ النَّوَوِيّ الصَّوَاب الرُّجُوع إِلَيْهِ وَالْفرق ظَاهر قلت وَمَا قَالَه النَّوَوِيّ ذكره الرَّوْيَانِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وصرحا بِأَنَّهُ يقبل قَوْله بِلَا يَمِين وَزَاد بِأَنَّهُ إِذا مَاتَ الْوَاقِف يرجع إِلَى ورثته فَإِن لم يكن لَهُ وَرَثَة وَكَانَ لَهُ نَاظر من جِهَة الْوَاقِف رَجَعَ إِلَيْهِ وَلَا يرجع إِلَى الْمَنْصُوب من جِهَة الْوَارِث فَلَو اخْتلف النَّاظر والواقف فَهَل يرجع إِلَى النَّاظر أَو الْوَاقِف فِيهِ قَولَانِ وَلَو اخْتلف النَّاظر وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ فَفِيهِ

(1/306)


الْوَجْهَانِ قَالَ النَّوَوِيّ وَيرجع إِلَى عَادَة من تقدم النَّاظر من النظار إِن اتّفقت عَادَتهم وَلَو عرفنَا الْوَقْف وَلم نَعْرِف أَرْبَاب الْوَقْف قَالَ الْغَزالِيّ وَغَيره جعل كوقف لم يذكر مصرفه فَيكون كوقف مُطلق كَذَا نَقله النَّوَوِيّ عَن الْغَزالِيّ وَهُوَ سَهْو وَإِنَّمَا قَالَ الْغَزالِيّ إِنَّه كمنقطع آخر فَيكون الْوَقْف صَحِيحا والحاقه بِالْوَقْفِ الْمُطلق يَقْتَضِي عدم الصِّحَّة لِأَن الْأَصَح فِي الْوَقْف الْمُطلق أَنه لَا يَصح وَالله أعلم
(فرع) هَل يَصح أَن يُوقف الشَّخْص على نَفسه وَإِن ذكر بعده مصرفاً قَالَ جمَاعَة من الْأَصْحَاب بِالصِّحَّةِ مِنْهُم الزبيرِي وَابْن سُرَيج وَاسْتَحْسنهُ الرَّوْيَانِيّ وَاحْتَجُّوا لذَلِك بِأَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لما وقف بِئْر رومة قَالَ دلوي فِيهَا كدلاء الْمُسلمين وَالصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي أَنه لَا يجوز لِأَن معنى الْوَقْف تمْلِيك الْمَنْفَعَة قطعا والشخص لَا يملك نَفسه بِاتِّفَاق الْعُقَلَاء وَلِهَذَا لَا يَصح أَن يَبِيع من نَفسه وَالْجَوَاب أَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لم يقل ذَلِك شرطا وَلَكِن أخبر أَن للْوَاقِف أَن ينْتَفع بالأوقاف الْعَامَّة كَالصَّلَاةِ فِي الْبقْعَة الَّتِي جعلهَا مَسْجِدا وَالْفرق بَين الْأَوْقَاف الْعَامَّة والخاصة الْعَامَّة عَادَة إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ من الْإِبَاحَة بِخِلَاف الْخَاصَّة وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْهِبَة فصل فِي الْهِبَة وكل مَا جَازَ بَيْعه جَازَت هِبته
اعْلَم أَن التَّمْلِيك بِغَيْر عوض أَن تمحض فِيهِ طلب الثَّوَاب فَهُوَ صَدَقَة وَإِن حمل إِلَى المملك إِكْرَاما وتودداً فَهُوَ هَدِيَّة وَإِلَّا فَهُوَ هبة وَهل من شرك الْهَدِيَّة أَن يكون بَين الْمهْدي وَالْمهْدِي إِلَيْهِ رَسُول وَجْهَان الرَّاجِح لَا وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِيمَا لَو حلف لَا يهدي إِلَيْهِ فوهبه شَيْئا يدا بيد فَفِي الْحِنْث وَجْهَان
وَالْهِبَة مَنْدُوبَة بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وَالْهِبَة بر ومعروف وَأما السّنة الْكَرِيمَة فكثيرة مِنْهَا حَدِيث بَرِيرَة رَضِي الله عَنْهَا فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(هُوَ لَهَا صَدَقَة وَلنَا هَدِيَّة) وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(كَانَ إِذا أُتِي بِطَعَام سَأَلَ عَنهُ فَإِن قيل هَدِيَّة أكل مِنْهَا وَإِن قيل صَدَقَة لم يَأْكُل مِنْهُ)

(1/307)


وَاعْلَم أَن كل صَدَقَة وهدية هبة وَلَا تنعكس إِذا عرفت هَذَا فالشيء الْمَوْهُوب هُوَ أحد أَرْكَان الْهِبَة وَهُوَ مُعْتَبر بِالْبيعِ فَإِن الْهِبَة تمْلِيك ناجز كَالْبيع فَمَا جَازَ بَيْعه جَازَت هِبته وَمَا لَا يجوز بَيْعه كالمجهول كَقَوْلِه وَهبتك أحد عَبِيدِي لَا يَصح وَكَذَا لَا تصح هبة الْآبِق والضال كَمَا لَا يَصح بيعهمَا وَيجوز هبة الْمَغْصُوب لغير الْغَاصِب إِن قدر على الانتزاع وَإِلَّا فَلَا وَتجوز هبة الْمشَاع للشَّرِيك وَغَيره وَكَذَا تجوز هبة أَرض يَزْرَعهَا وكل مَا يَصح بَيْعه فَلَا تجوز هبة الْمَرْهُون وَالْكَلب وَجلد الْميتَة قبل دبغه كَذَا الدّهن النَّجس وَالصَّدَََقَة بِهِ وَقَالَ النَّوَوِيّ يَنْبَغِي الْقطع بِصِحَّة الصَّدَقَة بِهِ
وَاعْلَم أَن هبة الدّين للْمَدِين إِبْرَاء وَلَا يحْتَاج إِلَى قبُول على الْمَذْهَب وَلغيره بَاطِل على الْمَذْهَب وَلَو وهب لفقير دينا عَلَيْهِ بنية الزَّكَاة لم يَقع عَنْهَا وَلَو قَالَ تَصَدَّقت بِمَالي عَلَيْك برِئ قَالَه ابْن سُرَيج وَالشَّيْخ أَبُو حَامِد وَالله أعلم
(فرع) إِذا ختن شخص وَلَده وَعمل وَلِيمَة فَحملت إِلَيْهِ الْهَدَايَا وَلم يسم أَصْحَابهَا الْأَب وَلَا الابْن فَهَل هِيَ للْأَب أَو للِابْن وَجْهَان صحّح النَّوَوِيّ أَنَّهَا للْأَب وَأجَاب القَاضِي حُسَيْن أَنَّهَا للإبن وَتقبل للْأَب قلت يَنْبَغِي أَمر ثَالِث وَهُوَ أَنه إِن كَانَ الْمهْدي مِمَّا يصلح للصَّبِيّ دون أَبِيه كشيء من ملبوس الصغار فَهُوَ للصَّبِيّ وَإِن كَانَ لَا يصلح للصَّغِير فَهُوَ للْأَب وَإِن احتملهما فَهُوَ مَوضِع التَّرَدُّد لعدم الْقَرِينَة المرجحة وَالله أعلم
(الْمَسْأَلَة) كتب شخص إِلَى آخر كتابا فَهَل يملك الْمَكْتُوب إِلَيْهِ القرطاس قَالَ الْمُتَوَلِي إِن استدعى مِنْهُ الْجَواب على ظَهره لم يملكهُ وَعَلِيهِ رده وَإِلَّا فَهُوَ هَدِيَّة يملكهَا الْمَكْتُوب إِلَيْهِ وَصحح النَّوَوِيّ هَذَا وَقَالَ غير الْمُتَوَلِي إِنَّه يبْقى على ملك الْكَاتِب وللمكتوب إِلَيْهِ الِانْتِفَاع بِهِ إِبَاحَة وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تلْزم إِلَّا بِالْقَبْضِ وَإِذا قبضهَا الْمَوْهُوب لَهُ لم يكن للْوَاهِب أَن يرجع فِيهَا إِلَّا أَن يكون والداً)
لَا تلْزم الْهِبَة وَلَا تملك إِلَّا بِالْقَبْضِ لِأَن الصّديق رَضِي الله عَنهُ نحل عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا جذاذ عشْرين وسْقا فَلَمَّا مرض قَالَ ودتت أَنَّك حُزْتِيهِ أَو قبضتيه وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال الْوَارِث فلولا توقف الْملك على الْقَبْض لما قَالَ إِنَّه ملك الْوَارِث وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَا تتمّ النحلة حَتَّى

(1/308)


يجوزها المنحول وروى مثل ذَلِك عَن عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأنس وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَلَا يعرف لَهُم مُخَالف وَلِأَنَّهُ عقد إرفاق يَقْتَضِي الْقبُول فافتقر إِلَى الْقَبْض كالقرض وَسَائِر الهبات حَتَّى لَو أرسل هَدِيَّة ثمَّ استرجعها قبل أَن تصل أَو مَاتَ لم يملكهَا الْمهْدي إِلَيْهِ وَلَا يشْتَرط فِي الْقَبْض الْفَوْر نعم لَا يَصح الْقَبْض إِلَّا بِإِذن الْوَاهِب لِأَنَّهُ سَبَب نقل الْملك فَلَا يجوز من غير رضى الْمَالِك وبالقياس على الرَّهْن فَمَتَى أذن لَهُ فِي الْقَبْض فَقبض كفى صرح بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَغَيره وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ لَا بُد من إقباض من الْوَاهِب أَو وَكيله وَلَا يَكْفِي الْإِذْن وَفِي قَول قديم إِن الْملك فِي الْمَوْهُوب يحصل بِنَفس العقد وَإِن لم يَقع قبض وَفِي قَول ثَالِث أَنه مَوْقُوف فَإِذا قبض بَان أَنه ملكه من وَقت العقد وَقد جزم الرَّافِعِيّ فِي بَاب الِاسْتِبْرَاء بِمَا حَاصله القَوْل الثَّالِث وَتظهر فَائِدَة الْخلاف فِي فَوَائِد الْمَوْهُوب من الثَّمَرَة وَاللَّبن وَغَيرهمَا وَكَذَا فِي الْمُؤَن من نَفَقَة وَغَيرهَا وَكَيْفِيَّة الْقَبْض مُعْتَبرَة بِالْعرْفِ كقبض الْمَبِيع والمرهون وَلَو مَاتَ الْوَاهِب قبل الْقَبْض لم يبطل العقد لِأَنَّهُ عقد يؤول إِلَى اللُّزُوم فَلم يَنْفَسِخ بِالْمَوْتِ كَالْبيع الْمَشْرُوط فِيهِ الْخِيَار وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص وَالْوَارِث بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ قبض وَإِن شَاءَ لم يقبض لِأَنَّهُ قَائِم مقَام مُوَرِثه وَالله أعلم ثمَّ إِذا حصل الْقَبْض الْمُعْتَبر لَزِمت الْهِبَة وَلَيْسَ للْوَاهِب الرُّجُوع فِيهَا كَسَائِر الْعُقُود اللَّازِمَة إِلَّا أَن يكون الْوَاهِب أَبَا أَو أما أَو جدا وَإِن علا وَكَذَا الْجدّة بِشَرْط أَن يكون الْمَوْهُوب خَالِيا عَن حق الْغَيْر كَمَا إِذا رهن وأقبض وَغير ذَلِك وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحل لرجل أَن يُعْطي عَطِيَّة أَو يهب هبة فَيرجع فِيهَا إِلَّا الْوَالِد فِيمَا يُعْطي لوَلَده فَإِذا دخل الْجد فِي اسْم الْأَب فَلَا كَلَام وَإِلَّا فَهُوَ فِي مَعْنَاهُ وَكَذَا الْجدَّات لِأَنَّهُنَّ كَالْأَبِ فِي الْعتْق وَوُجُوب النَّفَقَة وَسُقُوط الْقصاص فِي قَتله وَقيل لَا رُجُوع إِلَّا للْأَب فَقَط لِأَنَّهُ مورد النَّص وَقيل للْأَب وَالأُم فَقَط
وَاعْلَم أَن الْهَدِيَّة كَالْهِبَةِ وَلَو تصدق على ابْنه فَهَل لَهُ الرُّجُوع وَجْهَان صَحَّ الرَّافِعِيّ فِي هَذَا الْبَاب أَن لَهُ الرُّجُوع فِي الشَّرْح الْكَبِير وَصحح فِي الشَّرْح الصَّغِير أَنه لَا يرجع وبعدم الرُّجُوع جزم فِي الشَّرْح الْكَبِير فِي بَاب الْعَارِية وَكَأن الْفرق أَن الْمَقْصُود من الصَّدَقَة ثَوَاب الْآخِرَة وَقد حصل فَلَا رُجُوع لَهُ مَعَ الثَّوَاب بِخِلَاف الْهِبَة وَلَو كَانَ لَهُ على وَلَده دين فَأَبْرَأهُ فَهَل لَهُ أَن يرجع قَالَ الرَّافِعِيّ إِن قُلْنَا إِن الْإِبْرَاء تمْلِيك رَجَعَ وَإِن قُلْنَا إِسْقَاط فَلَا يرجع قَالَ النَّوَوِيّ يَنْبَغِي أَن لَا يرجع على التَّقْدِيرَيْنِ وَالله أعلم
(فرع) وهب لأبنه شَيْئا فوهبه الابْن لِابْنِهِ فَهَل للْجدّ الرُّجُوع فِيهِ وَجْهَان فَلَو مَاتَ الابْن الموهب بعد مَا وهبه من ابْنه أَو بَاعه لَهُ فَهَل للْجدّ أَيْضا الرُّجُوع فِيهِ خلاف وَالأَصَح فِي الْكل

(1/309)


الْمَنْع وَلَو وهب الابْن لِأَخِيهِ الْعين الْمَوْهُوبَة فَهَل للْأَب الرُّجُوع قَالَ العمراني يَنْبَغِي أَنه لَا يجوز للْأَب الرُّجُوع قطعا لِأَن الْوَاهِب وَهُوَ الْأَخ لَا يملك الرُّجُوع فالأب أولى وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا أعمر شَيْئا أَو أرقبه كَانَ للمعمر أَو المرقب ولورثته من بعده)
إِذا قَالَ شخص لآخر أعمرتك هَذِه الدَّار مثلا حياتك أَو مَا حييت أَو مَا عِشْت ولعقبك من بعْدك صَحَّ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
(أَيّمَا رجل أعمر عمرى لَهُ ولعقبه فَقَالَ أعطيتكها وَعَقِبك مَا بقى مِنْكُم أحد فَهِيَ لمن أَعْطَاهَا وعقبه لَا ترجع إِلَى صَاحبهَا من أجل أَنه أعْطى عَطاء وَقعت فِيهِ الْمَوَارِيث) وَلِأَن هَذَا معنى الْهِبَة وَإِن لم يذكر الْعقب بل قَالَ أعمرتكها حياتك صَحَّ أَيْضا فِي حَيَاته ولعقبه من بعده على الْجَدِيد لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْعمريّ جَائِزَة) وَلَو قَالَ أعمرتكها حياتك فَإِذا مت عَادَتْ إِلَيّ فَهُوَ كَمَا لَو قَالَ أرقبتك هَذِه الدَّار أَو هِيَ لَك رقبى فَهِيَ كالعمري لقَوْل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(الْعمريّ جَائِزَة والرقبى جَائِزَة لأَهْلهَا) نعم لَو قَالَ جَعلتهَا لَك عمري أَو حَياتِي لم تصح فِي الْأَصَح وَالله أعلم
(فرع) وهب شخص لآخر دَارا فَقبل نصفهَا أَو عيدين فَقبل أَحدهمَا فَفِي صِحَة الْهِبَة وَجْهَان حَكَاهُمَا الرَّافِعِيّ بِلَا تَرْجِيح وَكَذَا حَكَاهُمَا النَّوَوِيّ بِلَا تَرْجِيح وَفِي نَظِيره فِي البيع لَا يَصح قطعا قَالَ الاسنائي الْمُرَجح أَنه لَا يَصح لِأَنَّهُ لَو وهب لاثْنَيْنِ شَيْئا فَقبل أَحدهمَا نصفه كَانَ كَالْبيع لَا يَصح على الْأَصَح ذكره الرَّافِعِيّ فِي الرُّكْن الرَّابِع ومسألتنا أولى بِعَدَمِ الصِّحَّة لِأَن الْهِبَة لاثْنَيْنِ صفقتان ومسألتنا صَفْقَة وَاحِدَة وَالله أعلم تمّ الْجُزْء الأول ويليه الْجُزْء الثَّانِي وأوله فصل فِي اللّقطَة كِفَايَة الأخيار فِي حل غَايَة الِاخْتِصَار الْجُزْء الثَّانِي

(1/310)


من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين (حَدِيث شرِيف) بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
فصل فِي اللّقطَة

قَالَ (وَإِذا وجد لقطَة فِي موَات أَو طَرِيق فَلهُ أَخذهَا أَو تَركهَا وَأَخذهَا أولى إِذا كَانَ على ثِقَة من الْقيام بهَا)
اللّقطَة بِفَتْح الْقَاف على الْمَشْهُور وَهِي الشَّيْء الملقوط قَالَ الْأَزْهَرِي وَأجْمع عَلَيْهِ أهل اللُّغَة وَكَذَا قَالَ الْأَصْمَعِي وَالْفراء وَابْن الْأَعرَابِي وَقَالَ الْخَلِيل هِيَ بِفَتْح الْقَاف الْوَاجِد لِأَن فعلة للْفَاعِل مثل ضحكة وفعلة بالاسكان للْمَفْعُول فَتكون للملقوط قَالَ الْأَزْهَرِي وَهُوَ الْقيَاس
والالتقاط فِي الشَّرْع هُوَ أَخذ مَال مُحْتَرم من مضيعة ليحفظه أَو ليتملكه بعد التَّعْرِيف وَفِيه نظر لِأَنَّهُ يخرج مِنْهُ الْكَلْب الْمعلم وَلَا شكّ فِي جَوَاز الْتِقَاطه للْحِفْظ فَيَنْبَغِي أَن يُقَال أَخذ شَيْء ليختص بِهِ لِأَن الشَّيْء يعم كل جنس وَقَوْلنَا ليختص لِأَن الْكَلْب لَا يملكهُ
(فَائِدَة) هَل الْمُغَلب فِي اللّقطَة حكم الْأَمَانَة أَو حكم الِاكْتِسَاب قَولَانِ وَالله أعلم وَالْأَصْل فِيهَا أَحَادِيث مِنْهَا
حَدِيث زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ رَضِي الله ((عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن لقطَة الذَّهَب وَالْوَرق فَقَالَ اعرف وكاءها وعفاصها ثمَّ عرفهَا سنة فَإِن لم تعرفها فاستبقها ولتكن عنْدك وَدِيعَة فَإِن جَاءَ طالبها يَوْمًا من الدَّهْر فأدها إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن ضَالَّة الْإِبِل فَقَالَ مَالك وَلها دعها فَإِن مَعهَا حذاءها وسقاءها ترد المَاء وتأكل الشّجر حَتَّى يلقاها رَبهَا وَسَأَلَهُ عَن الشَّاة فَقَالَ

(1/313)


خُذْهَا فَإِنَّمَا هِيَ لَك أَو لأخيك أَو للذئب وَأجْمع الْمُسلمُونَ على الْجَوَاز فِي الْجُمْلَة وَهل تسْتَحب أَو تجب أَو كَيفَ الْحَال ينظر إِن كَانَ الْوَاجِد فَاسِقًا كره الِالْتِقَاط وَمن الْأَصْحَاب من مَنعه الِالْتِقَاط وَهُوَ قوي وَإِذا الْتقط نزعت من يَده كَمَا ينتزع مَال وَلَده وَإِن كَانَ الْوَاجِد حرا رشيدا وَهُوَ مِمَّن يَأْمَن على نَفسه عدم الْخِيَانَة فِيهَا نظر إِن وجدهَا فِي مَوضِع يَأْمَن عَلَيْهَا لأمانة أَهله وَلَيْسَ الْموضع مَمْلُوكا وَلَا دَار شرك فَالْأولى فِي حَقه أَن يَأْخُذهَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((وَالله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه)) وَإِن كَانَت فِي مَوضِع لَا يَأْمَن عَلَيْهَا فَهَل يلْزمه أَخذهَا فِيهِ خلاف قيل يجب لقَوْله تَعَالَى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فَيلْزم بَعضهم حفظ مَال بعض كَمَا أَو ولي مَال الْيَتِيم يلْزمه حفظ مَاله وَقيل لَا يلْزمه الِالْتِقَاط بل يسْتَحبّ وَهُوَ الصَّحِيح لِأَن الِالْتِقَاط إِمَّا أَمَانَة أَو كسب وَلَا يجب شَيْء مِنْهُمَا فَإِذا قُلْنَا بِالْوُجُوب فَلم يَأْخُذهَا حَتَّى تلفت لم يضمنهَا لِأَن المَال لم يحصل فِي يَده كَمَا لَو رأى مَال شخص يغرق أَو يَحْتَرِق وَأمكنهُ خلاصه فَلم يفعل وَكَذَا لَو لم يطعم الْمُضْطَر حَتَّى مَاتَ لَا يلْزمه ضَمَانه وَإِن كَانَ عَاصِيا وَقَول الشَّيْخ فِي موَات أَو طَرِيق احْتَرز بذلك عَمَّا إِذا وجدهَا فِي ملك شخص فَإِنَّهُ لَا يجوز لَهُ أَخذهَا صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ لِأَن الظَّاهِر أَنَّهَا لصَاحب الْملك وَقَوله وَكَانَ على ثِقَة يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه إِذا كَانَ لَا يَثِق بِنَفسِهِ أَن الأولى أَن لَا يَأْخُذ وَهُوَ كَذَلِك بل فِي جَوَاز أَخذه لَهَا وَجْهَان حَكَاهُمَا الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد وَالله أعلم
(فرع) لَيْسَ للْعَبد الِالْتِقَاط على الرَّاجِح لِأَن الِالْتِقَاط أَمَانَة أَو ولَايَة فِي الِابْتِدَاء وتملك بالانتهاء وَالْعَبْد لَيْسَ أَهلا لذَلِك فَلَا يعْتد بتعريفه فَإِن تلفت ضمنهَا فِي رقبته إِن لم يعلم السَّيِّد سَوَاء كَانَ بتفريط أَو غَيره لِأَنَّهُ مَال لزمَه بِغَيْر رضى مُسْتَحقّه فَأشبه أرش جِنَايَته فَإِن علم بهَا السَّيِّد فَأَخذهَا مِنْهُ فَهِيَ لقطَة فِي يَد السَّيِّد وَيسْقط الضَّمَان عَن العَبْد وَإِن لم يَأْخُذهَا مِنْهُ وأقرها فِي يَد العَبْد صَحَّ واستحفظه ليعرفها فَإِن كَانَ العَبْد خائناً فالسيد مُتَعَدٍّ وَإِن كَانَ العَبْد أَمينا فَلَا وَهل يسْقط الضَّمَان الْأَصَح فِي النِّهَايَة أَنه لَا يسْقط وَقِيَاس كَلَام الْجُمْهُور السُّقُوط وَإِن أهمله السَّيِّد

(1/314)


فَفِيهِ خلاف الرَّاجِح تعلق الضَّمَان بِالْعَبدِ وَسَائِر أَمْوَال السَّيِّد حَتَّى لَو أفلس السَّيِّد قدم صَاحب اللّقطَة على سَائِر الْغُرَمَاء وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا أَخذهَا وَجب عَلَيْهِ أَن يعرف سِتَّة أَشْيَاء وعاءها وعفاصها ووكاءها وجنسها وعددها ووزنها ويحفظها فِي حرز مثلهَا)
من جَازَ لَهُ الِالْتِقَاط فالتقط فَعَلَيهِ أَن يعرف مَا ذكره الشَّيْخ قَالَ الْمُتَوَلِي وَهُوَ على الْفَوْر أما معرفَة العفاص والوكاء فللحديث السَّابِق وَأما الْعدَد فَلَمَّا ورد عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ ((وجدت صرة فِيهَا مائَة دِينَار فَأتيت بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عرفهَا حولا فعرفتها حولا ثمَّ أَتَيْته فَقَالَ عرفهَا حولا فعرفتها حولا ثمَّ أَتَيْته فَقَالَ عرفهَا حولا فعرفتها حولا ثمَّ أَتَيْته الرَّابِعَة فَقَالَ اعرف عدتهَا ووكاءها ووعاءها فَإِن جَاءَ صَاحبهَا وَإِلَّا فاستمتع بهَا)) وَبَاقِي الصِّفَات بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهَا صِفَات تتَمَيَّز بهَا فَأَشْبَهت الْمَنْصُوص عَلَيْهِ والوعاء الْإِنَاء والعفاص السدادة وَيُطلق على الْوِعَاء مجَازًا وَالْجُمْهُور على أَن العفاص الْوِعَاء وَلَكِن جمع الشَّيْخ بَينهمَا والوكاء هُوَ الْخَيط الَّذِي يشد بِهِ وَبَاقِي الصِّفَات مَعْرُوفَة وَيجب عَلَيْهِ أَن يحفظها فِي حرز مثلهَا فَإِنَّهَا أَمَانَة فَأَشْبَهت سَائِر الْأَمَانَات وَلَا يجب الْإِشْهَاد عَلَيْهَا على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يتَعَرَّض لَهُ وَقيل يجب وَفِيه حَدِيث وَهُوَ مَحْمُول على النّدب عِنْد الْقَائِلين بِالْمذهبِ وَالله أعلم قَالَ
(ثمَّ إِذا أَرَادَ تَملكهَا عرفهَا سنة على أَبْوَاب الْمَسَاجِد وَفِي الْموضع الَّذِي وجدهَا فِيهِ فَإِن لم يجد صَاحبهَا كَانَ لَهُ أَن يتملكها بِشَرْط الضَّمَان)
أَخذ اللّقطَة إِن قصد حفظهَا على مَالِكهَا لم يلْزمه التَّعْرِيف لِأَنَّهُ إِنَّمَا يجب لأجل التَّمَلُّك وَلَا يملك عِنْد إِرَادَة الْحِفْظ والْحَدِيث إِنَّمَا ألزمهُ التَّعْرِيف لِأَنَّهُ جعلهَا لَهُ بعده وَهَذَا مَا ذكره الْأَكْثَرُونَ كَمَا قَالَ الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا وَقيل يلْزمه التَّعْرِيف وَصَححهُ الإِمَام وَغَيره قَالَ النَّوَوِيّ وَهُوَ الْأَقْوَى وَالْمُخْتَار قَالَه فِي الرَّوْضَة وَمُقْتَضَاهُ أَنه الصَّحِيح لِأَن الْمُخْتَار فِي الرَّوْضَة بِمَنْزِلَة الرَّاجِح كَمَا تقدم وَإِن أَرَادَ أَن يتملكها عرفهَا سنة للْحَدِيث الْمُتَقَدّم وَالْمعْنَى فِيهِ أَن السّنة لَا تتأخر عَن القوافل إِذْ الظفر بصاحبها قريب التوقع ثمَّ إِذا وَجب التَّعْرِيف فَهَل يجب على الْفَوْر أم يَكْفِي تَعْرِيف سنة مَتى أَرَادَ وَجْهَان أصَحهمَا لَا يجب على الْفَوْر وَيكون التَّعْرِيف على

(1/315)


أَبْوَاب الْمَسَاجِد عِنْد خُرُوج النَّاس مِنْهَا وَفِي الاسواق لِأَنَّهَا مظان الِاجْتِمَاع وَكَذَا فِي الْموضع الَّذِي وجدهَا فِيهِ لِأَن صَاحبهَا يتعهد وَلِأَن هَذِه الْمَوَاضِع أقرب إِلَى وجود مَالِكهَا فِيهَا وَقَوله على أَبْوَاب الْمَسَاجِد يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه لَا يعرف فِي الْمَسَاجِد لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((أَنْت الفاقد وَغَيْرك الْوَاجِد)) فِيهِ النَّهْي عَنهُ صَحَّ وَهُوَ كَذَلِك قَالَ الرَّافِعِيّ وَلَا تعرف فِي الْمَسَاجِد كَمَا لَا تستطلب الضَّالة فِيهِ إِلَّا أَن الشَّاشِي قَالَ إِن أصح الْوَجْهَيْنِ جَوَاز التَّعْرِيف فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بِخِلَاف سَائِر الْمَسَاجِد وَذكر مثله النَّوَوِيّ وَابْن الرّفْعَة وَمُقْتَضَاهُ التَّحْرِيم فِي بَقِيَّة الْمَسَاجِد إِلَّا أَن النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب نقل الْكَرَاهَة فاعرفه وَكَيْفِيَّة التَّعْرِيف أَن يَقُول من ضَاعَ مِنْهُ شَيْء وَلَا يجب عَلَيْهِ ذكر الْأَوْصَاف وَيسْتَحب ذكر بَعْضهَا وَقيل يجب ذكر بعض الْأَوْصَاف قَالَ الإِمَام وَلَا يستوعب الْأَوْصَاف لِئَلَّا يتعمدها الْكَاذِب فَإِن استوعبها فَهَل يضمن وَجْهَان صحّح النَّوَوِيّ الضَّمَان وَلِهَذَا قَالَ فِي الْمِنْهَاج وَيذكر بعض أوصافها وَقَول الشَّيْخ عرفهَا سنة يَقْتَضِي إِطْلَاقه أَنه لَا يجب التَّرْتِيب فِي السّنة حَتَّى لَو عرف شَهْرَيْن أَو أقل أَو أَكثر فِي كل سنة كفى وَهُوَ كَذَلِك على الْأَصَح عِنْد النَّوَوِيّ وَقيل يجب التَّرْتِيب لِأَن الْمَقْصُود أَن يبلغ الْخَبَر الْمَالِك والتفريق لَا يحصل هَذَا الْمَقْصُود وَهَذَا هُوَ الْأَحْسَن فِي الْمُحَرر وَصَححهُ الإِمَام وَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ صَححهُ الْعِرَاقِيُّونَ وَاعْلَم أَنه لَا يجب اسْتِيعَاب السّنة بالتعريف بل يعرف أَولا فِي كل يَوْم ثَلَاث مَرَّات ثمَّ فِي كل يَوْم مرّة ثمَّ فِي كل أُسْبُوع مرّة ثمَّ فِي كل شهر مرّة بِحَيْثُ لَا ينسى أَنه تكْرَار لما مضى وَلَو قطع الْمُوَالَاة الْوَاجِبَة وَجب اسْتِئْنَاف السّنة وَفِي صَيْرُورَته ضَامِنا خلاف وَالله أعلم
(فرع) إِذا وجد مَالا يتمول كزبيبة وَنَحْوهَا فَلَا يعرف ولواجده الاستبداد بِهِ وَإِن تمول وَهُوَ قَلِيل فَالْأَصَحّ أَنه لَا يعرف سنة بل يعرف زَمنا يظنّ أَن فاقده يعرض عَنهُ غَالِبا وَضَابِط الْقَلِيل مَا يغلب على الظَّن أَن فاقده لَا يكثر أسفه عَلَيْهِ وَلَا يطول طلبه غَالِبا وَالله أعلم فَإِذا عرف التَّعْرِيف الْمُعْتَبر وَكَانَ قد قصد التَّمْلِيك وَلم يجد الْمَالِك وَاخْتَارَ التَّمْلِيك ملك لِأَنَّهُ تمْلِيك مَال يُبدل فتوقف على الِاخْتِيَار كَالْبيع وَسَوَاء فِي ذَلِك الْغَنِيّ وَالْفَقِير وَقيل يملك بالتعريف وَإِن لم يرض لِأَنَّهُ جَاءَ فِي رِوَايَة فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فادفعها إِلَيْهِ وَإِن لم يَأْتِ فَهِيَ لَك وَالصَّحِيح الأول فَعَلَيهِ أَن يَقُول تملكتها أَو نَحْو ذَلِك كَالْبيع وَإِذا ملكهَا صَارَت قرضا عَلَيْهِ فَإِن هَلَكت قبل التَّمْلِيك لم يضمنهَا لِأَنَّهَا مَحْفُوظَة لصَاحِبهَا وَلم يفرط فِيهَا كَالْمُودعِ وَإِذا ملكهَا وَجَاء صَاحبهَا إِن كَانَت مثلية ضمنهَا بِالْمثلِ وَإِلَّا فبالقية وَقت التَّمْلِيك جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَغَيره وَفِي وَجه وَقت طلب صَاحبهَا فَإِن

(1/316)


اخْتلفَا فِي قدرهَا صدق الْمُلْتَقط لِأَنَّهُ غَارِم وَلَو لم تتْلف وَلَكِن تعيبت استردها مَعَ الْأَرْش على الْأَصَح وَقيل يقنع بهَا بِلَا أرش وَقيل غير ذَلِك وَالله أعلم
(فرع) أَخذ الْمُلْتَقط اللّقطَة بِقصد الْخِيَانَة فِيهَا صَار ضَامِنا فَلَو عرف بعد ذَلِك وَأَرَادَ التَّمَلُّك بعده لم يكن لَهُ ذَلِك على الْمَذْهَب وَلَو قصد الْأَمَانَة أَولا ثمَّ قصد الْخِيَانَة بِلَا تعرف فَالْأَصَحّ أَنه لَا يصير ضَامِنا بِمُجَرَّد قصد الْخِيَانَة كَالْمُودعِ وَالله أعلم
(فرع) إِذا جَاءَ صَاحبهَا بعد التَّمَلُّك أَخذهَا مَعَ زيادتها الْمُتَّصِلَة دون الْمُنْفَصِلَة وَالله أعلم قَالَ
(وَجُمْلَة اللّقطَة أَرْبَعَة أضْرب
أَحدهَا مَا يبْقى على الدَّوَام كالذهب وَالْفِضَّة وَهَذَا حكمه
وَالثَّانِي مَالا يبْقى كالطعام الرطب فَهُوَ مُخَيّر بَين أكله وغرمه أَو بَيْعه أَو حفظ ثمنه
وَالثَّالِث مالايبقى إِلَّا بعلاج كالرطب فيفعل مَا فِيهِ الْمصلحَة من بَيْعه وَحفظ ثمنه أَو تجفيفه وَحفظه)
اللّقطَة تَارَة تكون حَيَوَانا وَتارَة تكون غَيره فَإِن كَانَت حَيَوَانا فَسَيَأْتِي وَإِن كَانَت غير حَيَوَان فَتَارَة تكون مِمَّا يُؤْكَل وَتارَة تكون مِمَّا لَا يُؤْكَل فَإِن كَانَت لَا تُؤْكَل وَلها بَقَاء فِي نَفسهَا كالنقود وَنَحْوهمَا فَهُوَ الَّذِي تقدم من اشْتِرَاط التَّعْرِيف وَغَيره مُتَعَلق بِهَذِهِ اللّقطَة وَإِن كَانَت مِمَّا يُؤْكَل فَتَارَة تكون مِمَّا يفْسد فِي الْحَال كالأطعمة والشواء والبطيخ وَالرّطب الَّذِي لَا يتتمر والبقول فالواجد فِيهَا بِالْخِيَارِ بَين أَن يأكلها وَيغرم قيمتهَا وَبَين أَن يَبِيع وَيَأْخُذ الثّمن وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح فَإِن أكل عزل قيمتهَا من التَّعْرِيف وَعرف اللّقطَة سنة ثمَّ يتَصَرَّف فِيهَا لِأَن الْقيمَة قَائِمَة مقَام اللّقطَة وَلَو لم يقدر على البيع فَلَا خلاف فِي جَوَاز الْأكل وَهل يجب إِفْرَاز الْقيمَة فِيهِ خلاف الْأَظْهر فِي الرَّافِعِيّ لَا يجب لِأَن مَا فِي الذِّمَّة لَا يخْشَى هَلَاكه فَإِذا أفرز صَار أَمَانَة فِي يَده وَالله أعلم
وَإِن كَانَت اللّقطَة مِمَّا لَا يفْسد وَيقبل العلاج كالرطب الَّذِي يتتمر وَالْعِنَب الَّذِي يتزبب وَاللَّبن الَّذِي يصنع مِنْهُ الْجُبْن وَنَحْوهَا روعي فِي ذَلِك الْحَظ والمصلحة للْمَالِك فَإِن كَانَ الْحَظ فِي البيع بَاعه وَإِن كَانَ فِي التجفيف جففه ثمَّ إِن تبرع الْوَاجِد بتجفيفه فَذَاك وَإِلَّا بَاعَ بعضه وأنفقه عَلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمصلحَة فِي حق الْمَالِك وَهَذَا بِخِلَاف الْحَيَوَان حَيْثُ يُبَاع جَمِيعه لِأَن النَّفَقَة فِي الْحَيَوَان تَتَكَرَّر فتؤدي إِلَى أَن تَأْكُل اللّقطَة نَفسهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَالرَّابِع مَا يحْتَاج إِلَى النَّفَقَة كالحيوان وَهُوَ ضَرْبَان حَيَوَان لَا يمْتَنع بِنَفسِهِ فَهُوَ مُخَيّر فِيهِ

(1/317)


بَين أكله وَغرم ثمنه أَو تَركه والتطوع بالانفاق عَلَيْهِ أَو بَيْعه وَحفظ ثمنه وحيوان يمْتَنع بِنَفسِهِ فَإِن وجده فِي الصَّحرَاء تَركه وَإِن وجده فِي الْحَضَر فَهُوَ مُخَيّر بَين الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة فِيهِ)
غير الْآدَمِيّ من الْحَيَوَان ضَرْبَان
الأول مَا لَا قُوَّة لَهُ تَمنعهُ من صغَار السبَاع كالغنم والعجول والفصلان من الْإِبِل وَفِي مَعْنَاهَا الكسير من كبار الْإِبِل وَالْبَقر إِذا وجده من يجوز الْتِقَاطه جَازَ لَهُ أَخذه إِن شَاءَ للْحِفْظ وَإِن شَاءَ للتَّمَلُّك لِأَنَّهَا لَو لم تلْتَقط لضاعت بَيْننَا وَبَين السبَاع وَرُبمَا أَخذهَا خائن وَلِهَذَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ضَالَّة الْغنم ((هِيَ لَك أَو لأخيك أَو للذئب)) فَإِذا الْتقط
فَإِن كَانَ الِالْتِقَاط من مضيعة فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَين الْخِصَال الثَّلَاث الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ وَالْأولَى أَن يمْسِكهَا ويعرفها ثمَّ يَليهَا البيع أَو الْحِفْظ وخصلة الْأكل مُتَأَخِّرَة فِي الْفَضِيلَة
وَلقَائِل أَن يَقُول تقدم فِيمَا يُمكن تجفيفه أَنه يجب مُرَاعَاة مصلحَة الْمَالِك فَهَلا كَانَ هُنَا كَذَلِك وَإِن كَانَ الِالْتِقَاط فِي الْعمرَان تخير بَين خَصْلَتَيْنِ فَقَط على الصَّحِيح الْإِمْسَاك وَالْبيع وَلَا يَأْكُل لِإِمْكَان البيع وَكَلَام الشَّيْخ مَحْمُول على الِالْتِقَاط من المضيعة وَإِن أطلق كَلَامه وَالله أعلم
الضَّرْب الثَّانِي مَاله قُوَّة تَمنعهُ من صغَار السبَاع إِمَّا بقوته كَالْإِبِلِ أَو بعدوه كالخيل وَكَذَا البغال وَالْحمير قَالَه الرَّافِعِيّ أَو بطيرانه كالحمام وَنَحْو ذَلِك ينظر إِن كَانَ وجدهَا فِي مضيعة كالبرية لم يجز للواجد أَن يلتقطها للتَّمَلُّك وَتجوز للْحِفْظ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي ضَالَّة الْإِبِل ((مَالك وَلها مَعهَا سقاؤها)) الحَدِيث وَقس على الْإِبِل مَا فِي مَعْنَاهَا فَإِن التقطها للتَّمَلُّك ضمنهَا لَو تلفت للتعدي نعم يبرأ بِالدفع إِلَى القَاضِي قلت يشْتَرط عَدَالَة القَاضِي وَإِلَّا فَلَا يسْقط عَنهُ الضَّمَان ولصاحبها مُطَالبَة كل مِنْهُمَا أما الْمُلْتَقط فلتعديه بِالْأَخْذِ وَأما القَاضِي فلتعديه على الشَّرِيعَة المطهرة وَالله أعلم وَإِن وجدهَا فِي الْعمرَان أَو قَرِيبا مِنْهَا جَازَ أَخذهَا للْحِفْظ وَهل يجوز أَخذهَا للتَّمَلُّك فِيهِ خلاف قيل لَا يجوز لإِطْلَاق الْخَبَر وَالرَّاجِح الْجَوَاز
وَالْفرق بَين الْبَريَّة والعمران أَنَّهَا فِي الْعمرَان تتطرق إِلَيْهَا أَيدي النَّاس فَلَا تتْرك فَرُبمَا

(1/318)


ضَاعَت على مَالِكهَا بِأخذ خائن بِخِلَاف الْبَريَّة فَإِن طروق النَّاس بهَا لَا يعم وَلها اسْتغْنَاء بِأَن تسرح وَترد المَاء وَهَذَا الْمَعْنى مَفْقُود فِي الْعمرَان وَمحل الْخلاف إِذا كَانَ الزَّمَان زمَان أَمن إِمَّا إِذا كَانَ زمن نهب وَفَسَاد فَيجوز قطعا فِي الصَّحرَاء وَغَيرهَا قَالَه الْمُتَوَلِي وَغَيره وَألْحق الْمَاوَرْدِيّ بذلك مَا إِذا عرف مَالِكهَا وَأَخذهَا ليردها عَلَيْهِ قَالَ وَتَكون أَمَانَة فِي يَده وَالله أعلم
(فرع) الْتقط رجلَانِ لقطَة يعرفانها ويتملكانها وَلَيْسَ لأَحَدهمَا نقل حَقه إِلَى صَاحبه كَمَا لَا يجوز للملتقط نقل حَقه إِلَى غَيره وَالله أعلم (فرع) قَالَ فِي التتمه يجوز الْتِقَاط السنابل وَقت الْحَصاد إِن أذن فِيهِ الْمَالِك أَو كَانَ قدرا لَا يشق على الْمَالِك الْتِقَاطه وَكَانَ لَا يلتقطه بِنَفسِهِ فَإِن
كَانَ قدرا يشق على الْمَالِك أَو كَانَ يلتقطه بِنَفسِهِ حرم وَوَقع فِي عبارَة الرَّوْضَة فِي هَذَا الْفَرْع بعض خلل وَالله أعلم قَالَ
بَاب اللَّقِيط فصل فِي اللَّقِيط وَإِن وجد لَقِيط بقارعة الطَّرِيق فَأَخذه وتربيته وكفالته وَاجِبَة على الْكِفَايَة وَلَا يقر إِلَّا فِي يَد أَمِين
اللَّقِيط كل صبي ضائع لَا كافل لَهُ وَلَا فرق بَين الْمُمَيز وَغَيره وَفِي الْمُمَيز احْتِمَال للأمام وَالْمُعْتَمد الأول لاحتياجه إِلَى التعهد وَيُقَال لَهُ دعِي ومنبوذ فقولنا كل صبي خرج بِهِ الْبَالِغ لِأَنَّهُ مستغن عَن الْحَضَانَة والتعهد فَلَا معنى لأَخذه وَقَوْلنَا ضائع المُرَاد بِهِ المنبوذ وَأما غَيره فَإِن لم يكن لَهُ أَب وَلَا جد وَلَا وَصِيّ فحفظه من وَظِيفَة القَاضِي لِأَن لَهُ فِي كتاب الله الْحَكِيم وَسنة رَسُوله الْكَرِيم مَا يقوم بِهِ وَبِغَيْرِهِ من الضُّعَفَاء قَاتل الله قُضَاة السوء كم فِي ذمتهم من نفس قد هَلَكت يَأْخُذُونَ أَمْوَالهم ويدفعونها إِلَى الظلمَة وَمَعَ ذَلِك يدعونَ محبَّة الله وَرَسُوله وَقَوْلنَا لَا كافل لَهُ المُرَاد بالكافل الْأَب وَالْجد وَمن يقوم مقامهما إِذا عرفت هَذَا فَأخذ اللَّقِيط فرض كِفَايَة لقَوْله تَعَالَى {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى} وَغير ذَلِك وَلِأَنَّهُ آدَمِيّ لَهُ حُرْمَة فَوَجَبَ حفظه بالتربية وَإِصْلَاح حَاله كالمضطر وَهَذَا أولى لِأَن الْبَالِغ رُبمَا احتال لنَفسِهِ فَإِذا الْتقط من هُوَ أهل للحضانة سقط الْإِثْم وَإِلَّا أَثم وَعصى كل من علم بِهِ من أهل تِلْكَ النَّاحِيَة بإضاعة نفس مُحْتَرمَة وَقَول الشَّيْخ وَلَا يقر إِلَّا فِي يَد أَمِين إِشَارَة إِلَى شُرُوط الْمُلْتَقط
أَحدهَا التَّكْلِيف فَلَا يَصح الْتِقَاط الصَّبِي وَالْمَجْنُون

(1/319)


الثَّانِي الْحُرِّيَّة فَلَا يلتقط العَبْد لِأَن الِالْتِقَاط ولَايَة فَإِن الْتقط انتزع مِنْهُ إِلَّا أَن يَأْذَن السَّيِّد لَهُ أَو يقره الْحَاكِم فِي يَده
الثَّالِث الْإِسْلَام فَلَا يلتقط الْكَافِر الصَّبِي الْمُسلم لِأَن الِالْتِقَاط ولَايَة نعم يلتقط الطِّفْل الْكَافِر وللمسلم الْتِقَاط الطِّفْل الْمَحْكُوم بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ من أهل الْولَايَة عَلَيْهِ
الرَّابِع الْعَدَالَة فَلَيْسَ لِلْفَاسِقِ الِالْتِقَاط فَلَو الْتقط انتزع من يَده لِأَنَّهُ لَا يُؤمن أَن يسترقه
الْخَامِس الرشد فالمبذر الْمَحْجُور عَلَيْهِ لَا يقر فِي يَده وَلَا يشْتَرط فِي الِالْتِقَاط الذُّكُورَة بِلَا خلاف وَلَا الْغَنِيّ على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا يلْزمه نَفَقَته نعم يجب عَلَيْهِ رعايته بِمَا يحفظه وَالله أعلم قَالَ
(فَإِن وجد مَعَه مَال أنْفق عَلَيْهِ الْحَاكِم مِنْهُ وَإِن لم يُوجد مَعَه مَال فنفقته من بَيت المَال)
اعْلَم أَن اللَّقِيط قد يكون لَهُ مَال يسْتَحق بِكَوْنِهِ لقيطاً أَو بِغَيْرِهِ فَالْأول كالوقف على اللقطاء وَالْوَصِيَّة لَهُم أَو لهَذَا بِخُصُوصِهِ وَالثَّانِي مَا يُوجد تَحت يَده واختصاصه فَإِن للصَّغِير يدا واختصاصا كَالْبَالِغِ إِذْ الأَصْل الْحُرِّيَّة مالم يعرف غَيرهَا وَذَلِكَ كالثياب الَّتِي هِيَ لَابسهَا ومفروشة تَحْتَهُ وملفوفة عَلَيْهِ وَكَذَا مَا غطي بِهِ كاللحاف وَغَيره وَكَذَا مَا شدّ عَلَيْهِ أَو جعل فِي جيبه من دَرَاهِم وحلي وَغَيرهمَا وَكَذَا دَابَّة عناتها بِيَدِهِ وَلَو كَانَ فِي خيمته فَهِيَ لَهُ أَو فِي دَار لَيْسَ فِيهَا غَيره أَو فِي بُسْتَان وَجْهَان حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيّ قَالَ النَّوَوِيّ وطردهما صَاحب المستظهر فِي الضَّيْعَة وَهُوَ بعيد وَيَنْبَغِي الْقطع بِأَنَّهُ لَا يحكم لَهُ بهَا وَالله أعلم
فَإِذا عرف لَهُ مَال أنْفق عَلَيْهِ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي حضَانَة أَبِيه الْمُوسر وَله مَال كَانَت نَفَقَته فِي مَاله فَهَذَا أولى وَلَا ينْفق عَلَيْهِ إِلَّا الْحَاكِم لِأَن الَّذِي يَلِي التَّصَرُّف فِي مَاله بِغَيْر أبوة وجدوده وَلَا وصاية هُوَ الْحَاكِم فَإِنَّهُ ولي من لَا ولي لَهُ نعم للملتقط الِاسْتِقْلَال بِحِفْظ مَال الطِّفْل على الصَّحِيح وَقيل لَا يَلِي كالإنفاق وَالْقَوْل الأول تعضده اللّقطَة وَلَو لم يكن حَاكم فليشهد فَإِذا أنْفق بِلَا إِشْهَاد ضمن لتَركه الِاحْتِيَاط وَقيل لَا يضمن فَإِن أشهد لم يضمن على الْأَصَح قَالَ مجلي وَيشْهد فِي كل مرّة فَإِن لم يكن لَهُ مَال وَجَبت نَفَقَته فِي بَيت المَال من سهم الْمصَالح لِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ اسْتَشَارَ الصَّحَابَة فِي نَفَقَة اللَّقِيط فَأَجْمعُوا على أَنَّهَا فِي بَيت المَال وَلِأَن الْبَالِغ الْمُعسر

(1/320)


ينْفق عَلَيْهِ مِنْهُ وَهَذَا أولى وَقيل يستقرض لَهُ القَاضِي من بَيت المَال فَإِن لم يكن فِي بَيت المَال شَيْء أَو كَانَ وَلَكِن كَانَ هُنَاكَ مَا هُوَ أهم من نَفَقَة اللَّقِيط كسد ثغر اسْتقْرض لَهُ القَاضِي فَإِن لم يجد من يقْرضهُ جمع القَاضِي النَّاس وعد نَفسه مِنْهُم وقسط نَفَقَته على أهل الثروة ثمَّ إِن بَان رَقِيقا رَجَعَ على سَيّده أَو حرا وَله مَال أَو قريب رَجَعَ عَلَيْهِ وَإِن بِأَن حرا لَا مَال لَهُ وَلَا قريب وَلَا كسب قضى الإِمَام حَقهم من سهم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين والغارمين كَمَا يرى وَالله أعلم
(فرع) التقطه اثْنَان غَنِي وفقير قدم الْغَنِيّ على الرَّاجِح فَلَو اشْتَركَا فِي الْغنى وَفضل أَحدهمَا الآخر فَوَجْهَانِ صحّح النَّوَوِيّ فِي زِيَادَته عدم التَّقَدُّم وَالله أعلم
(فرع) ادّعى شخص رقّه سَوَاء الْمُلْتَقط وَغَيره قَالَ الْمَاوَرْدِيّ لَا يقبل قَوْله لِأَن الظَّاهِر حُرِّيَّته وَفِيه اضرار بِهِ وَفِي الرَّوْضَة تبعا للرافعي أَنه إِذا ادّعى رقّه من هُوَ فِي يَده فَإِن عرفنَا اسناد يَده إِلَى الِالْتِقَاط لم يقبل إِلَّا بِبَيِّنَة فِي أظهر الْقَوْلَيْنِ وَإِلَّا حكم لَهُ بِالرّقِّ فِي الْأَصَح ثمَّ إِذا بلغ وَأنكر الرّقّ لم يقبل مِنْهُ فِي أصح الْوَجْهَيْنِ وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْوَدِيعَة فصل فِي الْوَدِيعَة والوديعة أَمَانَة يسْتَحبّ قبُولهَا لمن قَامَ بالأمانة فِيهَا
الْوَدِيعَة اسْم لعين يَضَعهَا مَالِكهَا أَو نَائِبه عِنْد آخر ليحفظها وَالْأَصْل فِيهَا الْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} وَغَيرهَا وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ((أد الْأَمَانَة إِلَى من ائتمنك وَلَا تخن من خانك)) وَورد من رِوَايَة
أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ ((آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث إِذا حدث كذب وَإِذا وعد أخلف وَإِذا اؤتمن خَان)) وَفِي رِوَايَة ((وَإِن صَامَ وَصلى وَزعم أَنه مُسلم)) وَلَا خَفَاء أَن الْحَاجة بل الضَّرُورَة دَاعِيَة إِلَى الإبداع ثمَّ من عرض عَلَيْهِ شَيْء ليستودعه نظر أَن كَانَ أَمينا قَادِرًا على حفظهَا ووثق من نَفسه بذلك اسْتحبَّ لَهُ أَن يستودع لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ((وَالله فِي عون العَبْد مَا دَامَ العَبْد فِي عون أَخِيه)) وَلَو لم يكن هُنَاكَ

(1/321)


غَيره فقد أطلق مطلقون أَنه يتَعَيَّن عَلَيْهِ الْقبُول وَهُوَ مَحْمُول كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ نقلا عَن السَّرخسِيّ أَنه يجب أصل الْقبُول بِشَرْط أَن لَا يتْلف مَنْفَعَة نَفسه وحرزه بِلَا عوض فِي الْحِفْظ وَإِن كَانَ يعجز عَن حفظهَا حرم عَلَيْهِ قبُولهَا كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَقيد ذَلِك ابْن الرّفْعَة بِمَا إِذا لم يعلم بذلك الْمَالِك فَإِن علم الْمَالِك بِحَالهِ فَلَا يحرم وَهُوَ ظَاهر وَإِن كَانَ قَادِرًا على حفظهَا لكنه لَا يَثِق بأمانة نَفسه فَهَل يحرم قبُولهَا وَجْهَان لَيْسَ فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة تَرْجِيح وَلَا شكّ فِي الْكَرَاهَة وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يضمن إِلَّا بِالتَّعَدِّي)
لَا شكّ أَن الْوَدِيعَة أَمَانَة فِي يَد الْمُودع بِفَتْح الدَّال كَمَا جَاءَ بِهِ التَّنْزِيل وَإِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ كَسَائِر الْأَمَانَات نعم إِن تعدِي فِيهَا أَو قصر ضمن وَأَسْبَاب التَّقْصِير تِسْعَة واستيعابها لَا يَلِيق بِالْكتاب فلنذكر مَا يَتَيَسَّر ذكره
السَّبَب الأول أَن يودعها الْمُودع بِفَتْح الدَّال عِنْد غَيره بِلَا عذر من غير إِذن الْمَالِك فَيضمن سَوَاء أودع عِنْده عَبده أَو زَوجته أَو ابْنه أَو أَجْنَبِي وَلَو أودعها عِنْد القَاضِي فَهَل يضمن وَجْهَان أصَحهمَا يضمن لِأَنَّهُ لم يُؤذن لَهُ قلت هَذَا فِي القَاضِي الْعَادِل أما قُضَاة الرشا والظلمة فيضمنها بِلَا نزاع وَالله أعلم وَهَذَا إِذا لم يكن عذر فَإِن كَانَ عذر بِأَن أَرَادَ سفرا فَيَنْبَغِي أَن يردهَا إِلَى مَالِكهَا أَو وَكيله فَإِن تعذر دَفعهَا إِلَى قَاض عدل وَوَجَب عَلَيْهِ قبُولهَا فَإِن لم يجد قَاضِيا دَفعهَا إِلَى أَمِين وَلَا يُكَلف تَأْخِير السّفر فَإِن ترك الدّفع إِلَى الْمَالِك أَو وَكيله مَعَ الْقُدْرَة وَدفعهَا إِلَى الْحَاكِم الْعدْل أَو إِلَى أَمِين مَعَ إِمْكَان الدّفع إِلَى الْمَالِك أَو وَكيله ضمن وَلَو دفع إِلَى أَمِين مَعَ الْقُدْرَة على الْحَاكِم الْعدْل ضمن على الْمَذْهَب وَلَو دفن الْوَدِيعَة فِي غير حرز عِنْد إِرَادَة السّفر ضمن أَو فِي حرز وَلم يعلم بهَا أَمينا أَو أعلمهُ حَيْثُ لَا يجوز الايداع عِنْد الْأمين ضمن وَإِن كَانَ يجوز وَلَكِن الْأمين لَا يسكن الْموضع ضمن فَإِن كَانَ يسكنهُ لم يضمن على الْأَصَح كَذَا قَالَ الْجُمْهُور وَاعْلَم أَنه كَمَا يجوز الايداع بِعُذْر السّفر وَكَذَا
سَائِر الاعذار كَمَا إِذا وَقع فِي الْبقْعَة حريق أَو غرق أَو نهب أَو غَارة وَفِي معنى ذَلِك إشراف الْحِرْز على الخراب وَلم يجد حرْزا ينقلها إِلَيْهِ وَالله أعلم
السَّبَب الثَّانِي السّفر بهَا فَإِن سَافر بهَا ضمن وَإِن كَانَ الطَّرِيق آمنا على الصَّحِيح وَهَذَا حَيْثُ لَا عذر فَإِن حصل عذر بِأَن رَحل أهل الْبَلَد أَو وَقع حريق أَو غَارة فَلَا ضَمَان بِشَرْط أَن يعجز عَن ردهَا إِلَى الْمَالِك أَو وَكيله أَو أَمِين وَحِينَئِذٍ يلْزمه السّفر فِي هَذِه الْحَالة وَإِلَّا فَهُوَ مضيع وَيلْزمهُ الضَّمَان وَلَو كَانَ فِي وَقت سَلامَة وَعجز عَن الرَّد إِلَى الْمَالِك أَو وَكيله أَو الْحَاكِم الْأمين فسافر بهَا وَالْحَالة هَذِه فَلَا ضَمَان على الْأَصَح لِئَلَّا يَنْقَطِع عَن مَصَالِحه وينفر النَّاس عَن قبُول الودائع وَشرط

(1/322)


الْجَوَاز أَمن الطَّرِيق وَإِلَّا فَيضمن
وَاعْلَم أَن هَذَا فِي حق الْمُقِيم أما إِذا أودع مُسَافِرًا فسافر بالوديعة أَو منتجعاً فانتجع بالوديعة فَلَا ضَمَان لِأَن الْمَالِك رَضِي بِالسَّفرِ حِين أودعهُ وَالله أعلم
السَّبَب الثَّالِث ترك الْإِيصَاء فَإِذا مرض الْمُودع مَرضا مخوفا أَو حبس ليقْتل لزمَه أَن يُوصي فَإِن سكت عَن ذَلِك لزمَه الضَّمَان لِأَنَّهُ عرضهَا للفوات لِأَن الْوَارِث يعْتَمد ظَاهر الْيَد وَلَا بُد فِي الْوَصِيَّة من بَيَان الْوَدِيعَة حَتَّى لَو قَالَ عِنْدِي لفُلَان ثوب وَلم يُوجد فِي تركته ضمن لعدم بَيَانه وَهَذَا كُله فِيمَا إِذا تمكن من الايداع أَو الْوَصِيَّة فَإِن لم يتَمَكَّن بِأَن قتل غيلَة أَو مَاتَ فَجْأَة فَلَا ضَمَان
(فرع) مَاتَ الْمُودع وَلم يذكر وَدِيعَة أصلا فَوجدَ فِي تركته كيس مختوم وَعَلِيهِ هَذِه وَدِيعَة فلَان أَو وجد فِي جريدته لفُلَان عِنْدِي وَدِيعَة كَذَا لم يلْزم الْوَرَثَة التَّسْلِيم بِهَذَا لاحْتِمَال أَنه كتبه غَيره أَو كتبه هُوَ نَاسِيا أَو اشْترى الْكيس بِتِلْكَ الْكِتَابَة أورد الْوَدِيعَة بعد الْكِتَابَة فِي الجريدة وَلم يمحها وَإِنَّمَا يلْزم الْوَارِث التَّسْلِيم بِالْإِقْرَارِ وَلَو مَاتَ وَلم يذكر وَصِيَّة أصلا فَادّعى صَاحب الْوَدِيعَة أَنه قصر وَقَالَت الْوَرَثَة لَعَلَّهَا تلفت قبل نسبته إِلَى التَّقْصِير قَالَ امام الْحَرَمَيْنِ فَالظَّاهِر بَرَاءَة ذمَّته وَالله أعلم
السَّبَب الرَّابِع نقلهَا فَإِذا أودعها فِي قَرْيَة فنقلها إِلَى قَرْيَة أُخْرَى إِن كَانَ بَينهمَا مَا يُسمى سفرا ضمن وَإِن لم يسم سفرا ضمن إِن كَانَ فِي النقلَة خوف أَو كَانَ الْمَنْقُول عَنْهَا أحرز وَإِلَّا فَلَا ضَمَان على الْأَصَح وَهَذَا إِن لم يكن ضَرُورَة فَإِن وجدت فَكَمَا ذَكرْنَاهُ فِي الْمُسَافِر والنقلة من دَار إِلَى دَار وَمن محلّة إِلَى محلّة وَمن قَرْيَة إِلَى قَرْيَة مُتَّصِلَة الْعِمَارَة وَالله أعلم
السَّبَب الْخَامِس التَّقْصِير فِي دفع المهلكات فَيجب على الْمُودع دَفعهَا على الْعَادة فَيجب عَلَيْهِ نشر ثِيَاب الصُّوف خوف العثة وتعريضها للريح بل لَو كَانَ ذَلِك لَا ينْدَفع إِلَّا بلبسها وَجب عَلَيْهِ فَإِن لم يفعل ضمن وَهَذَا عِنْد علم الْمُودع بذلك فَإِن كَانَ فِي صندوق مقفل أَو كيس مشدود وَلم يُعلمهُ الْمَالِك بذلك فَلَا ضَمَان إِذْ لَا تَقْصِير وَيُقَاس بِمَا ذكرنَا بَاقِي الصُّور كعلف الدَّوَابّ وَمَا أشبه ذَلِك وَالله أعلم
السَّبَب السَّادِس التَّعَدِّي بِالِانْتِفَاعِ كالانتفاع بالوديعة كلبس الثَّوْب والطحن فِي الأعدال وَنَحْوهَا وركوب الدَّوَابّ على وَجه الِانْتِفَاع إِلَّا إِذا كَانَ لعذر بِأَن ركبهَا لأجل السَّقْي وَكَانَت لَا تقاد إِلَّا بِهِ حَيْثُ يجوز إخْرَاجهَا للسقي فَإِن أمكن قودها وركبها ضمن كَذَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ
قلت فِي ذَلِك نظر ظَاهر وَيَنْبَغِي تَخْصِيصه بِنَاحِيَة يسهل السَّقْي بهَا أما بعض النواحي الَّتِي يرد أَهلهَا المَاء من بعد واطردت عَادَتهم بركوب الدَّوَابّ والعواري والودائع وَغَيرهَا فَلَا يتَّجه الضَّمَان وَالْحَالة هَذِه للْعَادَة المطردة إِذْ الْعَادة محكمَة وَقد جَاءَ بهَا الْقُرْآن وَالسّنة وَالله أعلم

(1/323)


السَّبَب السَّابِع الْمُخَالفَة فِي الْحِفْظ فَإِذا أمره بِالْحِفْظِ على وَجه مَخْصُوص فَعدل عَنهُ وَتَلفت بِسَبَب الْعُدُول ضمنهَا للمخالفة وَإِن تلفت بِسَبَب آخر فَلَا ضَمَان وَفِي هَذَا صور مِنْهَا أودعهُ دَرَاهِم وَقَالَ اربطها فِي كمك فَأَمْسكهَا فِي يَده وَتَلفت هَل يضمن فِيهِ خلاف منتشر الرَّاجِح مِنْهَا أَنَّهَا إِن تلفت بنوم أَو نِسْيَان ضمن وَإِن أَخذهَا غَاصِب قهرا فَلَا ضَمَان لِأَن الْيَد أحرز وَلَو لم يربطها فِي كمه وَجعلهَا فِي جيبه لم يضمن لِأَنَّهُ أحرز إِلَّا إِذا كَانَ وَاسِعًا غير مزرر وَبِالْعَكْسِ يضمن قطعا بِأَن قَالَ اجْعَلْهَا فِي جيبك فربطها فِي كمه وَلَو ربطها فِي كمه كَمَا أمره لم يلْزمه الامساك بِالْيَدِ ثمَّ ينظر إِن جعل الْخَيط الرابط خَارج الْكمّ فَأَخذهَا طراز ضمن لِأَن فِيهِ اظهاراً للوديعة وتنبيهاً للطراز وسهولة فِي قطعه وحله وَإِن ضَاعَت بانحلال العقد لم يضمن إِذا كَانَ قد احتاط فِي الرَّبْط وَإِن جعل الْخَيط الرابط من دَاخل الْكمّ انعكس الحكم إِن أَخذهَا لص لم يضمن وَإِن ضَاعَت بالانحلال ضمن لِأَن الْعقْدَة إِذا انْحَلَّت تناثرت الدَّرَاهِم إِلَى خَارجه فَلَا يشْعر بِخِلَاف الْعَكْس فَإِنَّهَا إِن تناثرت فِي الْكمّ فيشعر بهَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَكَذَا قَالَه الْأَصْحَاب وَهُوَ مُشكل لِأَن الْمَأْمُور بِهِ مُطلق الرَّبْط فَإِذا أَتَى بِهِ وَجب أَن لَا ينظر إِلَى جِهَات التّلف بِخِلَاف مَا إِذا عدل عَن الْمَأْمُور بِهِ
قلت وَمَا استشكله الرَّافِعِيّ قوي وَيَنْبَغِي الْفَتْوَى بِهِ وَيُؤَيِّدهُ أَن ابْن الرّفْعَة قَالَ وَقِيَاس مَا قَالَه الْأَصْحَاب أَنه لَو قَالَ الْمُودع للْمُودع احفظها فِي هَذَا الْبَيْت فوضعها فِي زَاوِيَة مِنْهُ فانهدمت عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يضمن لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِي غَيرهَا لسلم وَمَعْلُوم أَنه بعيد وَالله أعلم وَلَو أودعهُ دَرَاهِم فِي طَرِيق أَو سوق وَلم يقل اربطها فِي كمك وَلَا أمْسكهَا فِي يدك فربطها فِي الْكمّ وأمسكها بِالْيَدِ فقد بَالغ فِي الْحِفْظ وَكَذَا لَو جعلهَا فِي جيبه وَهُوَ ضيق أَو وَاسع وزرره وَلَو أمْسكهَا بِالْيَدِ وَلم يربطها لم يضمن أَن أَخذهَا غَاصِب وَيضمن إِن تلفت بغفلة أَو نوم وَلَو ربطها فِي كمه وَلم يمْسِكهَا بِيَدِهِ فَقِيَاس مَا تقدم أَن ينظر إِلَى كَيْفيَّة الرَّبْط وجهة التّلف وَلَو وَضعهَا فِي الْكمّ وَلم يربطها فَسَقَطت نظر إِن كَانَت خَفِيفَة لَا يشْعر بهَا ضمن لتَقْصِيره وَإِن كَانَت ثَقيلَة يشْعر بهَا لم يضمن ذكره فِي الْمُهَذّب وَلَو وَضعهَا فِي كور الْعِمَارَة وَلم يشد ضمن
(فرع) أودعهُ شَيْئا فِي سوق وَنَحْوه ثمَّ قَالَ احفظها فِي بَيْتك فَيَنْبَغِي أَن يمْضِي إِلَى الْبَيْت ويحفظها فِيهِ فَإِن تَأَخّر بِلَا عذر وَتَلفت ضمن لتَقْصِيره وَيُقَاس بِمَا ذكرنَا بَقِيَّة الصُّور
(فرع) أودعهُ خَاتمًا وَلم يقل شَيْئا فَإِن جعله فِي غير الْخِنْصر لم يضمن إِن كَانَ رجلا بِخِلَاف الْمَرْأَة لِأَن غير الْخِنْصر فِي حَقّهَا كالخنصر فِي حق الرجل وَإِن جعله فِي الْخِنْصر فَقيل يضمن لِأَنَّهُ اسْتِعْمَال وَقيل إِن قصد الْحِفْظ لم يضمن وَإِن قصد الِاسْتِعْمَال ضمن وَقيل إِن جعل فصه إِلَى ظَاهر ضمن وَإِلَّا فَلَا قَالَ النَّوَوِيّ الْمُخْتَار أَنه يضمن مُطلقًا إِلَّا إِذا قصد الْحِفْظ وَالله أعلم

(1/324)


السَّبَب الثَّامِن التضييع لِأَنَّهُ مَأْمُور بالتحرز عَن أَسبَاب التّلف فَلَو أخر الِاحْتِرَاز مَعَ الْقُدْرَة أَو جعلهَا فِي غير حرز مثلهَا ضمن وَلَو جعلهَا فِي أحرز من حرزها ثمَّ نقلهَا إِلَى حرز مثلهَا فَلَا ضَمَان وَلَو أعلم بالوديعة من يصادر أَمْوَال الْمَالِك ويأخذها ضمن وَلَو ضيعها نَاسِيا ضمن على الْأَصَح لتَقْصِيره وَلَو أَخذ الْوَدِيعَة ظَالِم لم يضمن كَمَا لَو سرقت وَلَو طَالب ظَالِم الْمُودع بِفَتْح الدَّال بالوديعة لزمَه دَفعه بالانكار والاخفاء بِكُل قدرته فَإِن ترك الدّفع مَعَ الْقُدْرَة ضمن لتَقْصِيره وَإِن أنكر فحلفه الظَّالِم جَازَ لَهُ أَن يحلف لمصْلحَة حفظ الْوَدِيعَة وَتلْزَمهُ الْكَفَّارَة على الْمَذْهَب وَإِن أكرهه على الْحلف بِالطَّلَاق تخير بَين الْحلف وَبَين الِاعْتِرَاف فَإِن اعْترف وَسلم ضمن على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ فدى زَوجته بالوديعة وَإِن حلف بِالطَّلَاق طلقت زَوجته على الْمَذْهَب لِأَنَّهُ فدى الْوَدِيعَة بِزَوْجَتِهِ وَالله أعلم
السَّبَب التَّاسِع جحود الْوَدِيعَة فَإِن طلبَهَا مَالِكهَا فجحدها فَهُوَ خائن ضَامِن لتعديه بالجحود
(فرع) قَالَ الْمُودع لَا وَدِيعَة لأحد عِنْدِي إِمَّا ابْتِدَاء وَأما جَوَابا السُّؤَال غير الْمَالِك فَلَا ضَمَان سَوَاء جرى ذَلِك بِحَضْرَة الْمَالِك أَو فِي غيبته لِأَن اخفاءها أبلغ فِي حفظهَا قَالَ
(وَقَول الْمُودع مَقْبُول فِي ردهَا على الْمُودع)
إِذا قَالَ الْمُسْتَوْدع للْمُودع رددت عَلَيْك الْوَدِيعَة فَالْقَوْل قَوْله بِيَمِينِهِ لقَوْله تعال {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} أمره بِالرَّدِّ بِلَا اشهاد فَدلَّ على أَن قَوْله مَقْبُول لِأَنَّهُ لَو لم يكن كَذَلِك لأَرْشَد إِلَيْهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَلِأَنَّهُ يصدق فِي التّلف قطعا فَكَذَا فِي الرَّد وَفِيه اشكال من جِهَة أَن الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر القَوْل قَوْلهمَا فِي التّلف دون الرَّد عِنْد الْعِرَاقِيّين وَالله أعلم قَالَ
(وَعَلِيهِ أَن يحفظها فِي حرز مثلهَا)
كَمَا إِذا قبل الْمُودع الْوَدِيعَة لزمَه حفظهَا لِأَنَّهُ الْمَقْصُود وَقد الْتَزمهُ وَيجب عَلَيْهِ أَن يحفظها فِي حرز مثلهَا لِأَن الاطلاق يَقْتَضِيهِ فتوضع الدَّرَاهِم فِي الصندوق والأثاث فِي الْبَيْت وَالْغنم فِي صحن الدَّار وَنَحْو ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا طُولِبَ بهَا أَو أخر الْوَدِيعَة مَعَ الْقُدْرَة حَتَّى تلفت ضمن)
إِذا طَالب الْمُودع الْمُودع بالوديعة وَجب عَلَيْهِ الرَّد لقَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}

(1/325)


فَإِن أخر بِلَا عذر فَتلفت ضمنهَا لتعديه وَإِن كَانَ لعذر فَلَا والعذر مثل كَونه بِاللَّيْلِ وَلم يتأت فتح الْحِرْز حِينَئِذٍ أَو كَانَ فِي صَلَاة أَو قَضَاء حَاجَة أَو طَهَارَة أَو أكل أَو حمام أَو مُلَازمَة غَرِيم يخَاف هربه أَو يخْشَى الْمَطَر والوديعة فِي مَوضِع آخر وَنَحْو ذَلِك فالتأخير جَائِز قَالَ الْأَصْحَاب وَلَا يضمن وطردوه فِي كل يَد أَمَانَة وَالله أعلم
(فرع) فِي فَتَاوَى الْقفال لَو ترك حِمَاره فِي صحن خَان وَقَالَ للخاني احفظه كَيْلا يخرج وَكَانَ الخاني ينظره فَخرج فِي بعض غفلاته فَلَا ضَمَان لِأَنَّهُ لم يقصر فِي الْحِفْظ الْمُعْتَاد وَفِي فَتَاوَى القَاضِي حُسَيْن أَن الثِّيَاب فِي مشلح الْحمام إِذا سرقت والحمامي جَالس مَكَانَهُ مستيقظ فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ وَإِن نَام أَو قَامَ من مَكَانَهُ وَلم يتْرك نَائِبا ضمن وعَلى الحمامي الْحِفْظ إِذا استحفظ وَإِن لم يستحفظ حكى القَاضِي حُسَيْن عَن الْأَصْحَاب أَنه لَا حفظ عَلَيْهِ قَالَ وَعِنْدِي يجب للْعَادَة وَالله أعلم
(فرع) إِذا وَقع فِي بَيت الْمُودع أَو خزانته حريق فبادر إِلَى نقل أمتعته وَأخر الْوَدِيعَة فاحترقت لم يضمن كَمَا لَو لم يكن فِيهَا إِلَّا ودائع وَأخذ فِي نقلهَا فاحترقت وَتَأَخر وَالله أعلم

(1/326)