كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار

كتاب الْعتْق
الْعتْق فِي الشَّرْع عبارَة عَن إِزَالَة الْملك عَن الْآدَمِيّ لَا إِلَى مَالك تقرباً إِلَى الله تَعَالَى مَأْخُوذ من قَوْلهم عتق الْفرس إِذا سبق وَنَجَا وَعتق الفرخ إِذا طَار واستقل وَقَوي وَهُوَ قربَة مَنْدُوب إِلَيْهَا بِالْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {فك رَقَبَة} وَورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ من أعتق رَقَبَة أعتق الله سُبْحَانَهُ بِكُل عُضْو مِنْهُ عضوا من أَعْضَائِهِ من النَّار حَتَّى فرجه بفرجه وَغير ذَلِك من الْأَخْبَار وخصت الرَّقَبَة بِالذكر لِأَن ملك السَّيِّد لَهُ كالحبل فِي رقبته فَهُوَ محبس بِهِ كَمَا تحبس الدَّابَّة بِحَبل فِي عُنُقهَا فَإِذا أعتق فَكَأَنَّهُ أطلق من ذَلِك لِأَن فِي الْعتْق فكاكاً من الذل وتكميلاً للْأَحْكَام وَالتَّصَرُّف فَكَانَ من أعظم الْقرب وأجزل النعم وَالله أعلم قَالَ
(وَيصِح الْعتْق من كل مَالك جَائِز الْأَمر)
شَرط صِحَة الْعتْق أَن يكون الْمُعْتق مُطلق التَّصَرُّف فِي مَاله سَوَاء كَانَ مُسلما أَو ذِمِّيا أَو حَرْبِيّا لِأَنَّهُ تصرف فِي المَال فِي حَال الْحَيَاة فَأشبه الْهِبَة أما من لَيْسَ بِمَالك وَلَا مَالك التَّصَرُّف فَلَا يَصح إِعْتَاقه لعدم سلطته على ذَلِك نعم لنا قَول فِي صِحَة عتق الْمُفلس وَيكون مَوْقُوفا على فك الْحجر وَلنَا وَجه فِي صِحَة عتق السَّفِيه وَالصَّبِيّ فِي مرض الْمَوْت إِذا جَوَّزنَا وصيتهما وَالله أعلم قَالَ
(بِصَرِيح الْعتْق وَالْكِنَايَة مَعَ النِّيَّة)
قَوْله بِصَرِيح الْبَاء مُتَعَلقَة بيصح وَالْكِنَايَة مَعْطُوف عَلَيْهِ وَتَقْدِير الْكَلَام وَيصِح الْعتْق بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَة بِالنِّيَّةِ وَوَجهه أَنَّهَا أَلْفَاظ تفِيد قطع الْملك فَأَشْبَهت الطَّلَاق ثمَّ صَرِيح الْعتْق الْعتْق

(1/575)


وَالْحريَّة لِأَنَّهُ ثَبت لَهما عرف الشَّرْع والاستعمال فَإِذا قَالَ أَعتَقتك أَو أَنْت مُعتق أَو حررتك أَو أَنْت مُحَرر أَو أَنْت حر عتق وَإِن لم يقْصد بذلك إِيقَاع الْعتْق لِأَن هزله جد كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر وَالله أعلم
(فرع) لشخص أمة كَانَت تسمى حرَّة قبل الْعتْق فَقَالَ لَهَا سَيِّدهَا يَا حرَّة إِن قصد النداء لم تعْتق وَإِن أطلق فَوَجْهَانِ أشبههما لَا تعْتق كَذَا ذكره ابْن الرّفْعَة وَالَّذِي ذكره النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة إِذا لم يقْصد نداءها باسمها الْقَدِيم عتق وَإِن قصد لم تعْتق فِي الْأَصَح وَلَو كَانَ اسْمهَا فِي الْحَال حرَّة فَإِن قصّ النداء لم تعْتق وَإِن أطلق فَكَذَا لَا تعْتق فِي الْأَصَح وَالله أعلم
قلت لَو قصد توبيخها فَمَا الحكم لم أرها فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة وَهِي مَسْأَلَة كَثِيرَة الْوُقُوع وَفِي بعض الشُّرُوح عَن القَاضِي حُسَيْن أَنَّهَا لَا تعْتق وَالله أعلم
وَأما أَلْفَاظ الْكِنَايَة فكقوله لَا ملك لي عَلَيْك وَلَا سُلْطَان لي عَلَيْك وَلَا سَبِيل لي عَلَيْك وَأَنت لله وَأَنت طَالِق وَأَنت حرَام وحبلك على غاربك وَمَا أشبه ذَلِك كَقَوْلِه لَا حكم لي عَلَيْك وَلَا أمرا وَلَا يدا وَلَا خدمَة وَكَذَا لَو قَالَ أَنْت سَيِّدي فَهُوَ كِنَايَة عِنْد الإِمَام ولغو عِنْد القَاضِي حُسَيْن وكل كنايات الطَّلَاق وصرائحه كنايات فِي الْعتْق وَالْكِنَايَة كل مَا احْتمل مَعْنيين فَصَاعِدا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْأُم وَالله أعلم
(فرع) قَالَ لأمته أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي فكناية فِي الْأَصَح وَقيل لَغْو وَلَو قَالَ مَلكتك نَفسك أَو وَهبتك نَفسك فَالَّذِي جزم بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَالْبَغوِيّ أَنه إِن قبلت فِي الْمجْلس عتقت وَإِلَّا فَلَا وَفِي التَّتِمَّة أَن مَلكتك رقبتك كِنَايَة وَنَقله الرَّوْيَانِيّ فِي الْبَحْر عَن الإِمَام وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا أعتق بعض عبد عتق جَمِيعه)
يجوز للشَّخْص أَن يعْتق بعض العَبْد كَمَا أَن لَهُ يعْتق جَمِيعه فَإِذا عتق بعضه عتق كُله وَاحْتج لَهُ بِأَن شخصا أعتق شِقْصا من غُلَام فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَيْسَ لله شريك وَفِي رِوَايَة هُوَ حر كُله وَلِأَنَّهُ لَو ملك بعضه فَأعْتقهُ وَهُوَ مُوسر عتق عَلَيْهِ كُله كَمَا سَيَأْتِي فَإِذا ملك جَمِيعه كَانَ أولى وَالله أعلم قَالَ
(فَإِن أعتق شركا لَهُ فِي عبد وَهُوَ مُوسر سرى الْعتْق إِلَى بَاقِيه وَعَلِيهِ قيمَة نصيب شَرِيكه)
إِذا أعتق شريك فِي عبد وحصت الشَّرِيك قَابِلَة لِلْعِتْقِ وَكَانَ الْمُعْتق مُوسِرًا حَالَة الْعتْق بِنَصِيب الشَّرِيك قوم عَلَيْهِ نصيب شَرِيكه ويسري الْعتْق إِلَيْهِ وَإِن كَانَ مُعسرا عتق نصِيبه ورق الْبَاقِي

(1/576)


لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أعتق شركا لَهُ فِي عبد فَكَانَ لَهُ مَال يبلغ ثمن العَبْد قوم العَبْد عَلَيْهِ قيمَة عدل فَأعْطى شركاءه حصصهم وَأعْتق عَلَيْهِ العَبْد وَإِلَّا فقد عتق مِنْهُ مَا عتق وَفِي رِوَايَة فَإِن كَانَ مُوسِرًا قوم عَلَيْهِ ثمَّ يعْتق وَفِي رِوَايَة أَيْضا فَهُوَ عَتيق وَالله أعلم قَالَ
(وَمن ملك وَاحِدًا من وَالِديهِ أَو مولوديه عتق عَلَيْهِ)
من ملك أحدا من أُصُوله وَإِن علا أَو من فروعه وَإِن سفل عتق عَلَيْهِ
أما فِي الْآبَاء فَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن يَجْزِي ولد وَالِده إِلَّا أَن يجده مَمْلُوكا فيشتريه فيعتقه وَفِي رِوَايَة فَيعتق عَلَيْهِ وَلِأَن بَين الْوَالِد وَالْولد بعضية وَلَا يجوز أَن يملك بعض الشَّخْص بعضه وَأما فِي الْأَوْلَاد فَلقَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وَقَوله تَعَالَى {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فَدلَّ على امْتنَاع اجْتِمَاع الْبُنُوَّة وَالْملك وَاعْلَم أَنه لَا فرق بَين أَن يتَّفق الْوَالِد وَالْولد فِي الدّين أَو يختلفا وَلَا فرق بَين جِهَة الْأَب وجهة الْأُم وَلَا فرق بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث وَفِي الْمَنْفِيّ بِاللّعانِ وَجْهَان وَمَتى يحكم بنفوذ الْعتْق قَالَ أَبُو إِسْحَاق مَعَ دُخُوله فِي الْملك وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ يَتَرَتَّب على الْملك وَالله أعلم
(فرع) ملك ابْن أَخِيه ثمَّ مَاتَ وَهُوَ مُعسر وَعَلِيهِ دين مُسْتَغْرق ووارثه أَخُوهُ فَقَط وَقُلْنَا الدّين لَا يمْنَع الأرث وَهُوَ الْأَصَح فَإِن الْأَخ يملك ابْنه وَلَا يعْتق عَلَيْهِ وَلَو كَانَ الْوَارِث غير الْأَخ مِمَّن لَا يعْتق عَلَيْهِ العَبْد فَإِن عتقه وَالْحَالة هَذِه وَهُوَ مُعسر لم يعْتق فِي الْأَصَح لِأَنَّهُ مَرْهُون بالديون وَقيل يعْتق وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْوَلَاء فصل فِي الْوَلَاء وَالْوَلَاء من حُقُوق الْعتْق وَحكمه حكم التَّعْصِيب عِنْد عَدمه وينتقل من الْمُعْتق إِلَى الذُّكُور من عصبته

(1/577)


الْوَلَاء بِالْمدِّ وَفتح الْوَاو وَهُوَ مُشْتَقّ من الْمُوَالَاة وَهِي المعاونة فَكَأَن العَبْد أحد أقَارِب الْمُعْتق وَقيل غير ذَلِك وَهُوَ فِي الشَّرْع عصوبة متراخية عَن عصوبة النّسَب تَقْتَضِي للْمُعْتق الْإِرْث وَالْعقل وَولَايَة أَمر النِّكَاح وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وعصبته الذُّكُور من بعد وَاسم الْمولى يَقع على الْمُعْتق وعَلى الْعَتِيق
وَالْأَصْل فِي الْبَاب بعد السّنة وَالْإِجْمَاع وَقَول الشَّيْخ الْوَلَاء من حُقُوق الْعتْق حجَّته قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَلَاء لمن أعتق وَفِي رِوَايَة لَهما الْوَلَاء لمن ولي النِّعْمَة وَقَوله وَحكمه حكم التَّعْصِيب عِنْد عَدمه أَي عِنْد عدم الْمُعْتق فَينْتَقل الْوَلَاء إِلَى عصبات الْمُعْتق دون سَائِر الْوَرَثَة أَي أَصْحَاب الْفُرُوض وَمن يعصبهم العاصب لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَلَاء لحْمَة كلحمة النّسَب لَا يُبَاع وَلَا يُوهب وَلَا يُورث وَالنّسب إِلَى الْعَصَبَات دون غَيرهم فَلَو انْتقل إِلَى غَيرهم لَكَانَ موروثاً وَمعنى الحَدِيث اخْتِلَاط النّسَب ولحمة بِضَم اللَّام وَفتحهَا فَإِذا كَانَ للْعصبَةِ ابْن وَابْن ابْن فَالْولَاء للِابْن وَإِن كَانَ لَهُ أَب وَأَخ فَالْولَاء للْأَب كالارث وَإِن كَانَ لَهُ أَخ من أَب وَأم وَأَخ من أَب فَالْولَاء للْأَخ من الْأَبَوَيْنِ كَالْإِرْثِ وَقيل هما سَوَاء لِأَن الْأُم لَا تَرث بِالْوَلَاءِ وَإِن كَانَ لَهُ أَخ وجد فَقَوْلَانِ أَحدهمَا يقدم الْأَخ لِأَن تعصيبه يشبه تعصيب ابْن وَالْجد تعصيبه يشبه تعصيب الْأَب وَالِابْن مقدم على الْأَب وَكَانَ الْقيَاس تقديمهه فِي الْمِيرَاث أَيْضا إِلَّا أَن الْإِجْمَاع قَامَ على عدم التَّقْدِيم هُنَاكَ فصرفنا عَنهُ هُنَا وَلَا إِجْمَاع هُنَا وَهَذَا هُوَ الْأَصَح وَالثَّانِي أَنه بَينهمَا كَالْإِرْثِ وَإِن كَانَ لَهُ ابْن أَخ وَعم فَالْولَاء لِابْنِ الْأَخ كالميراث وَهَكَذَا فإلم يكن عصبَة انْتقل إِلَى موَالِيه لأَنهم كالعصبة ثمَّ إِلَى عصبتهم كَمَا مر وَلَا يَرث النِّسَاء بِالْوَلَاءِ إِلَّا من أعتقن لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق واعتقن من أعتقن فَإِن مَاتَت الْمَرْأَة الْمُعتقَة انْتقل حَقّهَا من الْوَلَاء إِلَى أقرب النَّاس إِلَيْهَا من الْعَصَبَات على مَا تقدم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز بيع الْوَلَاء وَلَا هِبته)
ورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن بيع الْوَلَاء وَعَن هِبته قَالَ النَّوَوِيّ فِيهِ تَحْرِيم بيع الْوَلَاء وهبته وأنهما لَا يصحان وَأَنه لَا ينْتَقل الْوَلَاء عَن مُسْتَحقّه بل هُوَ لحْمَة كلحمة النّسَب وَبِهَذَا

(1/578)


قَالَ جَمَاهِير الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف وَأَجَازَ بعض السّلف نَقله وَلَعَلَّه لم يبلغهم الحَدِيث وَالله أعلم قَالَ
بَاب التَّدْبِير فصل فِي الْمُدبر وَمن قَالَ لعَبْدِهِ إِذا مت فَأَنت حر فَهُوَ مُدبر يعْتق بعد وَفَاته من ثلث المَال
هَذَا فصل التَّدْبِير وَهُوَ فِي اللُّغَة النّظر فِي عواقب الْأُمُور وَفِي الشَّرْع تَعْلِيق عتق بِالْمَوْتِ وَالتَّدْبِير مَأْخُوذ من الدبر لِأَن الْمَوْت دبر الْحَيَاة وَقيل لِأَنَّهُ لم يَجْعَل تَدْبيره إِلَى غَيره وَقيل لِأَنَّهُ دبر أَمر حَيَاته باستخدامه 2 وَأمر آخرته بِعِتْقِهِ وَكَانَ مَعْرُوفا فِي الْجَاهِلِيَّة فأقره الشَّرْع قد دبر الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار ودبرت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أمة وَأجْمع الْمُسلمُونَ عَلَيْهِ وَأما الْمُغَلب فِيهِ هَل هُوَ تَعْلِيق الْعتْق بِصفة لِأَن صيغته تَعْلِيق كَمَا ذكره أَو حكم الْوَصِيَّة لِأَنَّهُ من الثُّلُث فِيهِ قَولَانِ أصَحهمَا التَّعْلِيق
وَأما حجَّة اعْتَبرهُ من الثُّلُث فلقول ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا الْمُدبر من الثُّلُث وَلِأَنَّهُ تبرع بتتجز بِالْمَوْتِ كَالْوَصِيَّةِ فَإِن خرج من الثُّلُث عتق كل بِالْمَوْتِ وَإِن خرج مِنْهُ بعضه عتق بِقدر مَا خرج إِن لم تجز الْوَرَثَة وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز أَن يَبِيعهُ فِي حَال حَيَاته وَيبْطل تَدْبيره)
التَّدْبِير لَا يزِيل الْملك عَن الْمُدبر وَإِنَّمَا هُوَ تَعْلِيق عتق بِصفة أَو فِي حكم الْوَصِيَّة وَذَلِكَ لَا يمْنَع التَّصَرُّف فِيهِ بِإِزَالَة الْملك كَمَا لَو قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت حر إِن دخلت الدَّار أَو أوصى بِهِ لزيد مثلا فَلهُ الرُّجُوع وَاحْتج لَهُ أَيْضا بِأَن جَابِرا رَضِي الله عَنهُ أخبر بِأَن رجلا دبر غُلَاما لَهُ لَيْسَ لَهُ مَال غير فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يَشْتَرِيهِ مني فَاشْتَرَاهُ نعيم بن النحام وَهُوَ حَدِيث مُتَّفق على صِحَّته وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فَاشْتَرَاهُ نعيم بن عبد الله وَفِي لفظ البُخَارِيّ فَاشْتَرَاهُ نعيم النحام وَهُوَ الصَّوَاب لِأَن النحام وصف لنعيم والنحام بِالْحَاء الْمُهْملَة فللسيد إِزَالَة الْملك عَنهُ بِالْبيعِ وَالْهِبَة وَغَيرهمَا وَبِكُل مَا ينْقل الْملك مثله جعله صَدَاقا أَو أُجْرَة أَو رَأس مَال سلم وَالْهِبَة مَعَ الْإِقْبَاض وَنَحْو ذَلِك وَهل يجوز الرُّجُوع عَن التَّدْبِير بالْقَوْل كَقَوْلِه فسخت التَّدْبِير أَو نقضته أَو رجعت عَنهُ وَنَحْو ذَلِك فِيهِ قَولَانِ مبنيان على أَن التَّدْبِير تَعْلِيق عتق بِصفة أَو وَصِيَّة وَالصَّحِيح أَنه

(1/579)


لَا يجوز الرُّجُوع بالْقَوْل لِأَن الصَّحِيح أَنه تَعْلِيق عتق بِصفة وَقيل يجوز لِأَنَّهُ وَصِيَّة وَالله أعلم قَالَ
(وَحكم الْمُدبر فِي حَيَاة السَّيِّد كَحكم عَبده الْقِنّ)
قد علمت أَن التَّدْبِير لَا يزِيل الْملك عَن العَبْد وَإِن كَانَ كَذَلِك فللسيد اكتسابه وَالْجِنَايَة عَلَيْهِ كالجناية على الْقِنّ فَإِن قتل فللسيد الْقصاص أَو الْقيمَة بِحَسب الْجِنَايَة وَلَا يلْزمه أَن يَشْتَرِي بهَا عبدا يدبره وَإِن جنى على طرفه فللسيد الْقصاص وَالْأَرْش وَيبقى التَّدْبِير بِحَالهِ وَلَو جنى الْمُدبر فَهُوَ فِي الْجِنَايَة كَالْعَبْدِ الْقِنّ أَيْضا فَإِن جنى جِنَايَة توجب الْقصاص فاقتص مِنْهُ فَاتَ التَّدْبِير لفَوَات مَحَله وَإِن جنى جِنَايَة توجب المَال أَو عفى عَن الْقصاص فللسيد أَن يفْدِيه وَأَن يُسلمهُ ليباع فِي الْجِنَايَة فَإِن فدَاه بَقِي التَّدْبِير وَإِن سلمه للْبيع فَبيع
(وَحكم الْمُدبر فِي حَيَاة السَّيِّد كَحكم عَبده الْقِنّ) قد علمت أَن التَّدْبِير لَا يزِيل الْملك عَن العَبْد وَإِن كَانَ كَذَلِك فللسيد اكتسابه وَالْجِنَايَة عَلَيْهِ كالجناية على الْقِنّ فَإِن قتل فللسيد الْقصاص أَو الْقيمَة بِحَسب الْجِنَايَة وَلَا يلْزمه أَن يَشْتَرِي بهَا عبدا يدبره وَإِن جنى على طرفه فللسيد الْقصاص وَالْأَرْش وَيبقى التَّدْبِير بِحَالهِ وَلَو جنى الْمُدبر فَهُوَ فِي الْجِنَايَة كَالْعَبْدِ الْقِنّ أَيْضا فَإِن جنى جِنَايَة توجب الْقصاص فاقتص مِنْهُ فَاتَ التَّدْبِير لفَوَات مَحَله وَإِن جنى جِنَايَة توجب المَال أَو عفى عَن الْقصاص فللسيد أَن يفْدِيه وَأَن يُسلمهُ ليباع فِي الْجِنَايَة فَإِن فدَاه بَقِي التَّدْبِير وَإِن سلمه للْبيع فَبيع فِي الْجِنَايَة بَطل التَّدْبِير وَالْحَاصِل أَن الْمُدبر قن للسَّيِّد غنمه وَعَلِيهِ غرمه وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْكِتَابَة فصل وَالْكِتَابَة مُسْتَحبَّة إِذا سَأَلَهَا العَبْد وَكَانَ مَأْمُونا مكتسباً
الْكِتَابَة تَعْلِيق عتق بِصفة ضمنت مُعَاوضَة وَهِي معدولة عَن الْقيَاس لِأَنَّهَا بيع مَاله بِمَالِه أَدَاء وَهِي مُشْتَقَّة من الْكتب وَهُوَ الضَّم لِأَن فِيهَا ضم نجم إِلَى نجم والنجم الْوَقْت الَّذِي يحل فِيهِ مَال الْكِتَابَة وَسميت بِهِ لِأَن الْعَرَب مَا كَانَت تعرف الْحساب وَالْكِتَابَة وَإِنَّمَا تعرف الْأَوْقَات بالنجوم وَهِي ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ نجماً منَازِل الْقَمَر فَيَقُول أَعطيتك إِذا طلع نجم كَذَا أَو سقط نجم كَذَا فسميت باسمها مجَازًا وَقد يُطلق النَّجْم على المَال الَّذِي يحل فِي الْوَقْت وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ الْكِتَابَة إسلامية ثمَّ الْكِتَابَة مُسْتَحبَّة إِذا طلبَهَا العَبْد بِشَرْطَيْنِ أَن يكون أَمينا قَادِرًا على الْكسْب وَاحْتج

(1/580)


لذَلِك بقوله تَعَالَى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ المُرَاد بِالْخَيرِ الِاكْتِسَاب وَالْأَمَانَة فَإِن الْخَيْر ورد بِمَعْنى المَال فِي قَوْله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} وَبِمَعْنى الْعَمَل الصَّالح فِي قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} فَحمل هُنَا عَلَيْهِمَا لجَوَاز إرادتهما لتوقف الْمَقْصُود عَلَيْهِمَا لِأَن غير المكتسب عَاجز عَن الْأَدَاء وَغير الْأمين لَا يوثق بوفائه وَفِي قَول تجب الْكِتَابَة لظَاهِر الْآيَة وَالْمَشْهُور الَّذِي قطع بِهِ الجماهير لَا تجب لِأَنَّهَا بيع مَال السَّيِّد بِمَالِه وَهُوَ حرَام لِأَنَّهُ سفه وَلِأَنَّهُ عتق بعوض فَلَا يلْزم السَّيِّد كالاستسعاء فَإِذن الْآيَة مَحْمُولَة على النّدب وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تصح إِلَّا بِمَال مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم وَأقله نجمان)
أما شَرط كَون المَال مَعْلُوما فَلِأَن الْجَهَالَة بِهِ غرر وَيُؤَدِّي إِلَى النزاع وَكِلَاهُمَا مَنْهِيّ عَنهُ وَكَذَلِكَ يشْتَرط الْعلم بِالْمحل كَمَا ذكرنَا وَأما اشْتِرَاط النجمين فَإِنَّهُ لَا يجوز على أقل مِنْهُمَا فَلفظ الْكِتَابَة يَبْنِي على ذَلِك إِذْ لَا ضم إِلَّا بَين اثْنَيْنِ فَصَاعِدا وَاحْتج لَهُ أَيْضا بِفعل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَمَا قَالَه الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْبُوَيْطِيّ وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ عَنى الْكِتَابَة على نجمين والإيفاء من الثَّانِي وَهَذَا يَقْتَضِي أَن أقل مَا يجوز نجمان لِأَن مَا فَوْقهمَا يجوز للْإِجْمَاع وأصرح من ذَلِك فِي الدّلَالَة قَول عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لعَبْدِهِ لما غضب عَلَيْهِ لأكاتبنك على نجمين فَلَو جَازَ على ذَلِك فِي الدّلَالَة قَول عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ لعَبْدِهِ لما غضب عَلَيْهِ لأكاتبنك على نجمين فَلَو جَازَ على أقل لفعله لِأَنَّهُ أَزِيد فِي الْعقُوبَة وَلم ينْقل عَن أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنه كَاتب على أقل مِنْهُمَا فَلَو جَازَ لابتدروا إِلَيْهِ تعجيلاً للقربة وَقد رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ الْكِتَابَة على نجمين وَهَذَا نَص عَلَيْهِ إِن صَحَّ وَإِلَّا فَفِي مَا مر كِفَايَة وَالله ولي الْهِدَايَة قَالَ
(وَهِي لَازِمَة من جِهَة السَّيِّد وَمن جِهَة العَبْد جَائِزَة وَله تعجيز نَفسه وفسخها مَتى شَاءَ)
الْعُقُود مِنْهَا مَا هُوَ لَازم من الطَّرفَيْنِ كَالْبيع وَنَحْوه وَمِنْهَا مَا هُوَ جَائِز مِنْهُمَا كالقراض وَنَحْوه وَمِنْهَا مَا هُوَ لَازم من أحد الطَّرفَيْنِ دون الآخر وَمن ذَلِك الْكِتَابَة وَهِي جَائِزَة من جِهَة العَبْد فَلهُ فَسخهَا مَتى شَاءَ لِأَن عقد الْكِتَابَة لَحْظَة فَأشبه الْمُرْتَهن وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَقيل لَيْسَ لَهُ الْفَسْخ إِذْ لَا ضَرَر عَلَيْهِ فِي بَقَائِهَا قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ قَوْلهم لَا ضَرَر عَلَيْهِ مَمْنُوع فَإِنَّهُ قد يتَضَرَّر بِكَوْن النَّفَقَة على نَفسه فيستفيد بِالْفَسْخِ رَفعهَا عَنهُ وَأما من جِهَة السَّيِّد فَهِيَ لَازِمَة فَلَيْسَ لَهُ فَسخهَا لِأَن الْكِتَابَة عقدت

(1/581)


لحظ الْمكَاتب لَا لحظ السَّيِّد فَكَانَ السَّيِّد فِيهَا كالراهن وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ لَهُ الْفَسْخ لم يَثِق الْمكَاتب بِبَقَائِهِ على الْكِتَابَة فيتكاسل فِي التَّحْصِيل نعم إِن عجز الْمكَاتب عَن الْأَدَاء عِنْد الْمحل فللسيد فَسخهَا كَمَا يفْسخ البَائِع البيع بعجز المُشْتَرِي عَن الثّمن وَلَو لم يعجز وَلَكِن امْتنع الْمكَاتب عَن الْأَدَاء فللسيد الْفَسْخ أَيْضا وَخَالف عقد الْكِتَابَة البيع فَإِنَّهُ لَازم من جِهَة المُشْتَرِي فَيجْبر المُشْتَرِي على الْأَدَاء فيندفع الضَّرَر بِخِلَاف الْكِتَابَة فَإِنَّهَا جَائِزَة من جِهَة الْمكَاتب فَلَا إِجْبَار وَالْخيَار فِي هَذَا على التَّرَاخِي فَلَو صرح بالإمهال ثمَّ عَن لَهُ الْفَسْخ جَازَ وَالله أعلم قَالَ
(وعَلى الْمكَاتب التَّصَرُّف بِمَا فِيهِ تنمية المَال)
الْمكَاتب يملك بِعقد الْكِتَابَة مَنَافِعه وأكسابه إِلَّا أَنه مَحْجُور عَلَيْهِ فِي استهلاكها بِغَيْر حق لحق السَّيِّد فَلهُ البيع وَالشِّرَاء والاستئجار وَنَحْوهَا لَكِن على وَجه الْغِبْطَة فَلَا يحابى وَلَا يهب وَلَا يرْهن بِلَا ضَرُورَة وَلَا ينْفق على أَقَاربه لِأَنَّهُ كالمعسر بِدَلِيل عدم نُفُوذ تبرعاته وَلَا يَبِيع بنسيئة أَي بِأَجل وَإِن ربح أَضْعَاف الثّمن وَأخذ رهنا أَو كَفِيلا وَقيل يجوز كولي الْمَحْجُور عَلَيْهِ فِي الارتهان وَالأَصَح الْمَنْصُوص الأول فَلَو أذن لَهُ السَّيِّد فِي شَيْء من ذَلِك فَهَل يجوز قَولَانِ
أَحدهمَا لَا يجوز لِأَن الْمكَاتب نَاقص الْملك وَالسَّيِّد لَا يملك مَا فِي يَده فَلَا يَصح باتفاقهما وَلِأَن لله تَعَالَى حَقًا فِي ذَلِك فَلَا يفوت بِرِضا السَّيِّد
وَالثَّانِي يَصح وَهُوَ الْأَصَح لِأَن الْمَنْع إِنَّمَا كَانَ لحقه فَزَالَ بِإِذْنِهِ كالمرتهن وَهَذَا فِيمَا عدا الْعتْق أما الْعتْق فَإِن أعتق الْمكَاتب عَن نَفسه فَالْمَذْهَب فِي الرَّوْضَة تبعا للرافعي أَنه لَا ينفذ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْوَلَاء وَالْمكَاتب لَيْسَ أَهلا لَهُ وَقيل ينفذ وَهُوَ مُقْتَضى مَا فِي تَصْحِيح التَّنْبِيه فَإِن أعتق عَن السَّيِّد أَو عَن أَجْنَبِي فَقَوْلَانِ أَيْضا وَالصَّحِيح النّفُوذ وَالله أعلم قَالَ
(وعَلى السَّيِّد أَن يضع عَنهُ من مَال الْكِتَابَة مَا يَسْتَعِين بِهِ وَلَا يعْتق إِلَّا بأَدَاء جَمِيع المَال بعد الْقدر الْمَوْضُوع عَنهُ)
يجب على السَّيِّد فِي الْكِتَابَة الصَّحِيحَة أَن يحط عَن الْمكَاتب بعض مَا عَلَيْهِ أَو يؤتيه شَيْئا من عِنْده يَسْتَعِين بِهِ على الْأَدَاء لقَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} فَظَاهره الْوُجُوب وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قَالَ ربع الْكِتَابَة وَرُوِيَ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا فِي الْآيَة ضَعُوا عَنْهُم من مكاتبتهم فَلَو لم

(1/582)


يحط السَّيِّد عَنهُ شَيْئا وَجب عَلَيْهِ أَن يؤتيه مَالا من عِنْده والحط هُوَ الأَصْل والإيتاء بدل عَنهُ هَذَا هُوَ الْأَصَح الْمَنْصُوص وَقيل الإيتاء هُوَ الأَصْل فيعطيه إِذا أعْتقهُ شَيْئا ليهيئ بِهِ أَمر نَفسه والحط لَا يقوم مقَامه وَقيل يتَخَيَّر بَينهمَا قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فَلَو أَرَادَ السَّيِّد أَن يُعْطِيهِ وَأَرَادَ العَبْد الْحَط أُجِيب العَبْد لِأَنَّهُ يروم تَعْجِيل الْعتْق ثمَّ قيل وَقت الْوُجُوب بعد الْعتْق كالمتعة وَالأَصَح قبل الْعتْق ليستعين بِهِ على الْعتْق وخالفت الْمُتْعَة لِأَنَّهَا لجبر الْكسر وَهُوَ بعد الطَّلَاق وعَلى هَذَا مَحَله النَّجْم الْأَخير وَعبارَة الرَّوْضَة وعَلى هَذَا إِنَّمَا يتَعَيَّن النَّجْم الْأَخير وَعبارَة الْمِنْهَاج والنجم الْأَخير أليق وَعبارَة بَعضهم يجب إِذا بَقِي عَلَيْهِ قدر يجب دَفعه إِلَيْهِ
وَاعْلَم أَنه لَو حط أَو أدّى من حِين العقد أَجْزَأَ على الْأَصَح وَقيل إِنَّمَا يجوز بعد أَن يَأْخُذ شَيْئا لقَوْله تَعَالَى {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} وعَلى الصَّحِيح المُرَاد من قَوْله تَعَالَى {آتَاكُمْ} أَي أوجبه لكم على نَفسه بِالْعقدِ أَو يعود الضَّمِير على الله تَعَالَى وَفِي قدر الْوَاجِب وَجْهَان
أَحدهمَا يعْتَبر بِقدر مَال الْكِتَابَة فيؤتيه من الْكثير بِقَدرِهِ وَمن الْقَلِيل بِقَدرِهِ كالمتعة تكون بِقدر يسَاره وإعساره وأصحهما وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ يَكْفِي أقل مَا يتمول وَلَو حَبَّة لِأَن الله تَعَالَى لم يقدر شَيْئا بِخِلَاف الْمُتْعَة فَإِن الله تَعَالَى قدرهَا بِحَسب الْمُوسر والمعسر وَيسْتَحب حط الرّبع على الْأَصَح وَقيل الثُّلُث وَالْكِتَابَة الْفَاسِدَة لَا حط فِيهَا على الْأَصَح وَلَو قبض المَال كُله رد عَلَيْهِ بعضه لظَاهِر الْآيَة قَالَ بَعضهم والإيتاء يَقع على الْحَط وَالرَّفْع إِلَّا أَن الْحَط أولى لِأَنَّهُ أَنْفَع لَهُ وَبِه فسر الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
وَاعْلَم أَنه لَا يعْتق الْمكَاتب وَلَا شَيْء مِنْهُ مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمكَاتب عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ من مُكَاتبَته دِرْهَم وَلِأَنَّهُ إِن غلب فِيهِ الْعتْق بِالصّفةِ فَلَا يعْتق قبل استكمالها وَإِن غلب معنى الْمُعَاوضَة فالمبيع لَا يجب تَسْلِيمه إِلَّا بِقَبض جَمِيع الثّمن وَكَذَلِكَ هَذَا وَالله أعلم قَالَ
بَاب أَحْكَام أم الْوَلَد فصل وَإِذا أصَاب السَّيِّد أمته فَوضعت مِنْهُ مَا تبين فِيهِ شَيْء من خلق آدَمِيّ حرم عَلَيْهِ بيعهَا وهبتها وَجَاز لَهُ التَّصَرُّف فِيهَا بالاستخدام وَالْوَطْء
إِذا وطئ الْحر أمته فحبلت مِنْهُ انْعَقَد وَلَده حرا وَتصير الْأمة بِالْولادَةِ مُسْتَوْلدَة تعْتق بِمَوْت

(1/583)


السَّيِّد وَيقدم عتقهَا على الدُّيُون كَمَا سَيَأْتِي وكما يثبت الِاسْتِيلَاد بِوَضْع الْوَلَد التَّام كَذَلِك يثبت بإلقائه مُضْغَة ظهر فِيهَا خلقَة الْآدَمِيّ إِمَّا لكل أحد أَو للقوابل وَأهل الْخِبْرَة من النِّسَاء فَإِن لم تظهر وقلن هُوَ أصل آدَمِيّ وَلَو بَقِي لتصور فَهَل يثبت الِاسْتِيلَاد فِيهِ خلاف قيل يثبت كَمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعدة وَالْمذهب أَنه لَا يثبت أُميَّة الْوَلَد وَإِن انْقَضتْ بِهِ الْعدة وَقد مر الْفرق فِي الْعدَد وَاحْتج لأمة الْوَلَد وحريته بِحَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ لما ولدت مَارِيَة أم إِبْرَاهِيم قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أعْتقهَا وَلَدهَا وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَشْرَاط السَّاعَة أَن تَلد الْأمة ربتها أَي سيدتها فَأَقَامَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْوَلَد مقَام أَبِيه وَالْأَب حر فَكَذَا الْوَلَد وَلَا وَلَاء عَلَيْهِ لأحد لِأَن مَانع الرّقّ قَارن سَبَب الْملك فرفعه بِخِلَاف مَا لَو اشْترى زَوجته الْحَامِل مِنْهُ فَإِن الْوَلَد يعْتق عَلَيْهِ وَوَلَاؤُهُ لَهُ وَإِذا ثَبت حريَّة الْوَلَد وَأُميَّة أمه ثَبت لَهَا حق الْحُرِّيَّة وَحرم بيعهَا وهبتها ورهنها وَالْوَصِيَّة بهَا لحَدِيث ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَقَالَ لَا يبعن وَلَا يوهبن وَلَا يورثن ليستمتع بهَا سَيِّدهَا مَا دَامَ حَيا فَإِذا مَاتَ فَهِيَ حرَّة
فَإِن قلت فَفِي حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ كُنَّا نبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد فِي عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نرى بذلك بَأْسا وَورد من حَدِيث جَابر بعنا أُمَّهَات الْأَوْلَاد على عهد رَسُول الله وَأبي بكر رَضِي الله عَنهُ فَلَمَّا كَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ نَهَانَا فَانْتَهَيْنَا وَأجِيب على تَسْلِيم صِحَة ذَلِك أَن هَذَا الْفِعْل مِنْهُم فِي زَمَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ لَا يشْعر لِأَن هَذَا الْأَمر نَادِر وَيحْتَمل أَنه كَانَ مُبَاحا ثمَّ نهى عَنهُ وَلم يعلم بذلك الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَمثل هَذَا يَعْنِي عدم الْعلم كثير وَقد وَقع لعمر رَضِي الله عَنهُ وَغَيره وَلِهَذَا كَانَ الصّديق وَغَيره إِذا وَقعت لَهُ الْوَاقِعَة وَلم يعلم فِيهَا شَيْئا سَأَلَ وَيجوز للسَّيِّد استخدامها إِجَارَتهَا ووطؤها للْحَدِيث وَفِي تَزْوِيجهَا أَقْوَال أَصَحهَا أَنه يجوز أَيْضا لِأَنَّهُ يملك رقبَتهَا ومنافعها حَتَّى الْوَطْء فَملك تَزْوِيجهَا بِرِضَاهَا وبدونه كالمدبرة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْجَدِيد وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا مَاتَ السَّيِّد عتقت من رَأس مَاله قبل الدُّيُون والوصايا)

(1/584)


أما إعْتَاقهَا فَلَمَّا مر من الْأَخْبَار وَلِأَن الْوَلَد انْعَقَد حرا وَبَعضه مِنْهَا فقد صَار بَعْضهَا حرا فاستتبع بَاقِيهَا كَالْعِتْقِ إِلَّا أَن فِي الْعتْق قُوَّة فاستتبع فِي الْحَال وَهَذَا ضَعِيف فأثر فِي الْمُسْتَقْبل وَأما كَونهَا من رَأس المَال فَلِأَنَّهُ إِتْلَاف حصل بالاستمتاع فَأشبه الْإِتْلَاف بِالْأَكْلِ واللبس وبالقياس على من تزَوجهَا فِي مرض الْمَوْت وَقيل لَا تعْتق بِمَوْت السَّيِّد وخطب عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي الْكُوفَة فَقَالَ أجمع رَأْيِي ورأي عمر رَضِي الله عَنهُ على أَن لَا تبَاع أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَأَنا الْآن أرى بيعهنَّ فَقَالَ لَهُ عُبَيْدَة السَّلمَانِي رَأْيك مَعَ الْجَمَاعَة أحب ألينا من رَأْيك فِي الْفرْقَة فَأَطْرَقَ عَليّ ثمَّ قَالَ اقضوا مَا أَنْتُم قاضون فَإِنِّي أكره أَن أُخَالِف أَصْحَابِي
وَلِهَذَا اخْتلف الْأَصْحَاب هَل رَجَعَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ أم لَا قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة فَإِن قُلْنَا بِالْمذهبِ أَنه لَا يجوز بيعهَا فَقضى بِجَوَازِهِ 2 قَاض حكى الرَّوْيَانِيّ عَن الْأَصْحَاب أَنه ينْقض قَضَاؤُهُ وَمَا كَانَ فِيهِ خلاف بَين الْفرق الأول فقد انْقَطع وَصَارَ مجمعا على مَنعه وَنقل الإِمَام فِيهِ وَجْهَيْن انْتهى وَمُقْتَضَاهُ رُجْحَان النَّقْص قَالَ الرَّافِعِيّ وللأصوليين خلاف فِي أَنه هَل يشْتَرط لحُصُول الْإِجْمَاع انْقِرَاض الْعَصْر ولأصحابنا وَجْهَان فِيمَا إِذا اخْتلفت الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فِي مَسْأَلَة ثمَّ أجمع التابعون على أحد الْقَوْلَيْنِ هَل يرْتَفع بِهِ الْخلاف الأول قَالَ النَّوَوِيّ الْأَصَح أَنه إِجْمَاع وَقَالَ الْغَزالِيّ وَابْن برهَان إِنَّه مَذْهَب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ ميل الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِلَيْهِ وَمن عِبَارَته الرشيقة فِي ذَلِك أَن الْمذَاهب لَا تَمُوت بِمَوْت أَصْحَابهَا وَالله أعلم قَالَ
(وَوَلدهَا من غَيره بمنزلتها)
أَوْلَاد الْمُسْتَوْلدَة إِن كَانُوا من السَّيِّد فَلَا خلاف فِي حريتهم وَإِن حدثوا من نِكَاح أَو زنا فَلم حكم الْأُم لِأَن الْوَلَد يتبع الْأُم فِي الْحُرِّيَّة فَكَذَا فِي حق الْحُرِّيَّة فَلَيْسَ للسَّيِّد بيعهم ويعتقون بِمَوْتِهِ وَإِن كَانَت الْأُم قد 2 مَاتَت فِي حَيَاة السَّيِّد وَلَو أعتق السَّيِّد الْأُم لَا يعْتق الْوَلَد وَكَذَا حكم الْعَكْس كَمَا فِي التَّدْبِير بِخِلَاف مَا لَو أعتق الْمُكَاتبَة بِعِتْق وَلَدهَا وَالْفرق أَن التّبعِيَّة فِي أم الْوَلَد والمدبرة إِنَّمَا هِيَ بسراية التَّدْبِير وَأُميَّة الْوَلَد وَالصّفة موت السَّيِّد وَلَا كَذَلِك الْكِتَابَة وَلَو ولدت الْمُسْتَوْلدَة من وَطْء شُبْهَة فَإِن كَانَ الْوَاطِئ يعْتَقد أَنَّهَا زَوجته الْأمة فَالْوَلَد رَقِيق للسَّيِّد كالأم وَهُوَ كَمَا لَو أَتَت بِهِ من نِكَاح أَو زنا وَإِن كَانَ يعتقدها زوجه الحره أَو أمته الحره انْعَقَد الْوَلَد حرا وَعَلِيهِ قِيمَته للسَّيِّد وَأما الْأَوْلَاد الحاصلون قبل الاستياد بِنِكَاح أَو زنا فَلَيْسَ لَهُم حكم الْأُم بعد الِاسْتِيلَاد بل للسَّيِّد بيعهم إِذا ولدُوا فِي ملكه وَلَا يَعْتَقِدُونَ بِمَوْتِهِ لأَنهم حدثوا قبل ثُبُوت الْحُرِّيَّة للْأُم وَالله أعلم قَالَ
(وَمن أصَاب أمة غَيره فِي نِكَاح فولده مِنْهَا مَمْلُوك لسَيِّدهَا)
إِذا أولد شخص جَارِيَة أَجْنَبِي بِنِكَاح أَو زنا فَالْوَلَد مَمْلُوك لصَاحب الْجَارِيَة لِأَنَّهُ يتبع الْأُم فِي

(1/585)


الرّقّ كَمَا يتبعهَا فِي الْحُرِّيَّة قَالَ
(وَإِن أَصَابَهَا بِشُبْهَة فولده مِنْهَا حر وَعَلِيهِ قِيمَته لسَيِّده فَإِن ملك الْأمة بعد ذَلِك لم تصر أم ولد لَهُ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاح وَصَارَت أم ولد لَهُ بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ)
إِذا وطئ الشَّخْص أمة الْغَيْر ظَانّا أَنَّهَا زَوجته الْحرَّة أَو أمته أَو أم وَلَده فَالْوَلَد حر نظرا إِلَى ظَنّه وَعَلِيهِ قِيمَته للسَّيِّد لِأَنَّهُ فَوت رقّه بظنه وَلَا تصير الْأمة أم ولد فِي الْحَال لعدم ملكه لَهَا فَإِن ملكهَا بعد ذَلِك فَهَل تصير أم ولد لَهُ قَولَانِ
أَحدهمَا نعم تصير أم ولد لَهُ لِأَن الْعلُوق بِالْحرِّ فِي الْملك بِسَبَب الْحُرِّيَّة بعد الْمَوْت كَمَا أَن الْقَرَابَة عِنْد الْملك بِسَبَب الْعتْق فِي الْحَال فَلَمَّا كَانَ الْملك إِذا طَرَأَ على الْقَرَابَة حصل الْعتْق فِي الْحَال فَكَذَا إِذا طَرَأَ بعد انْعِقَاد الْوَلَد حرا يحصل بعد الْمَوْت
وَالثَّانِي لَا تصير وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَهُوَ مَا جزم بِهِ الشَّيْخ لِأَنَّهَا علقت مِنْهُ فِي غير ملكه فَأشبه مَا لَو علقت بِهِ فِي نِكَاح وَكَذَا لَو غر بحريّة أمة فنكحها فَإِن وَلَده مِنْهَا حر وَفِي صيرورتها أم ولد لَهُ إِذا ملكهَا هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَقَول الشَّيْخ وَصَارَت أم ولد لَهُ بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ هَذَا قَول مَرْجُوح وعلته مَا قدمنَا أَن حريَّة الْوَلَد سَبَب لأمية الْأُم عِنْد الْملك وَالْمذهب أَنَّهَا لَا تصير لِأَنَّهَا علقت فِي غير ملك الْيَمين وأعدنا التَّعْلِيل للإيضاح
فنسأل الله الْعَزِيز الْقَدِير أَن يرشدنا إِلَى طرق النجاح والفلاح إِنَّه سُبْحَانَهُ فالق الْحبّ والإصباح وَقد كَانَ فِي النَّفس من الزِّيَادَة على مَا مر ولاح إِلَّا أنني عارضني فِي ذَلِك عدُول النَّفس عَن طلب الْعلم وتسريحها فِي رياض الارتياح فضربنا صفحاً عَن التَّطْوِيل والمغالاة ونادينا بِلِسَان الْحَال هلموا إِلَى هَذَا اللقحة فَإِن السماح رَبَاح وَالْحَمْد لله على مَا يسر من تَعْلِيق هَذِه الأحرف حمداً لَا يَنْقَطِع عِنْد الْمسَاء والصباح وصل الله عَليّ سيد الْأَوَّلين والآخرين وقائد الغر المحجلين رَسُول رب الْعَالمين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشرف وكرم وعَلى جِبْرِيل وَمِيكَائِيل وعَلى كل الْمَلَائِكَة والمقربين وعَلى جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ وعَلى آل كل وَسَائِر الصَّالِحين وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
قَالَ مُؤَلفه نفع الله بِهِ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين فرغت مِنْهُ يَوْم الْجُمُعَة فِي الْعشْر الأول من شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة وَكَانَ ذَلِك بِالْمَدْرَسَةِ الصالحية بالقدس الشريف زَاده الله شرفا وكرامة إِنَّه على مَا يَشَاء قدير وبالإجابة جدير غفر الله لنا وَلمن أحبنا وَلمن قَرَأَ فِي كتَابنَا هَذَا ودعا لنا بالمغفرة وللمسلمين آمين وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين

(1/586)