كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار

كتاب الْأَقْضِيَة
الْأَقْضِيَة جمع قَضَاء بِالْمدِّ كأغطية جمع الغطاء ككساء وأصل الْقَضَاء إحكام الشَّيْء وفراغه قَالَ الْجَوْهَرِي قضى بِمَعْنى أنهى وَفرغ فَالْقَاضِي يُنْهِي الْأَمر ويفرغ مِنْهُ وَقضى بِمَعْنى أوجب وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {وَقَضَى رَبُّكَ} وَالْقَاضِي يُوجب الحكم وَقضى بِمَعْنى أتم وَمِنْه قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ} فَالْقَاضِي يتم الْأَمر بِحكمِهِ وَيكون بِمَعْنى أدّى وَبِمَعْنى قدر وَسمي الْقَضَاء حكما 4 لما فِيهِ من منع الظَّالِم مَأْخُوذ من الْحِكْمَة الَّتِي توجب وضع الشَّيْء فِي مَحَله أَو من إحكام الشَّيْء مَأْخُوذ من حِكْمَة اللجام لمنعها الدَّابَّة وَالله أعلم
ثمَّ الأَصْل فِي ذَلِك الْآيَات وَالْأَخْبَار وَالْإِجْمَاع قَالَ الله تَعَالَى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وَقَالَ الله تَعَالَى {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وَغير ذَلِك وَفِي السّنة الشَّرِيفَة أَحَادِيث مِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَاحِد وَإِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا جلس القَاضِي فِي مَكَانَهُ هَبَط عَلَيْهِ ملكان يسددانه ويوفقانه ويرشدانه مَا لم يجر فَإِذا جَار عرجا وتركاه وَفِي رِوَايَة مَا لم يرد غَيره أَي غير الْحق فَإِن أَرَادَ غَيره وجار مُتَعَمدا تبرآ مِنْهُ ووكلاه إِلَى نَفسه وَهَذَا كُله فِي القَاضِي الَّذِي هُوَ بِصفة الْقَضَاء وَصفَة الْقَضَاء

(1/548)


تَأتي أما من لَيْسَ أَهلا لَهُ كالجهلة والفسقة كقضاة الرشا والبراطيل فهم بِشَهَادَة سيد الْأَوَّلين والآخرين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي النَّار لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْقُضَاة ثَلَاثَة قَاض فِي الْجنَّة وقاضيان فِي النَّار قَاض عرف الْحق فَقضى بِهِ فَهُوَ فِي الْجنَّة وقاض عرف الْحق فَحكم بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّار وقاض قضى على جهل فَهُوَ فِي النَّار وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من كَانَ قَاضِيا فَقضى بِالْجَهْلِ كَانَ من أهل النَّار وَمن كَانَ قَاضِيا فَقضى بالجور كَانَ من أهل النَّار وَمن كَانَ قَاضِيا عَالما فَقضى بِحَق أَو بِعدْل يسْأَل التفلت كفافاً وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة قَالَ الْعلمَاء كل من لَيْسَ بِأَهْل للْحكم فَلَا يحل لَهُ الحكم فَإِن حكم فَهُوَ آثم وَلَا ينفذ حكمه وَسَوَاء وَافق الْحق أم لَا لِأَن إِصَابَة الْحق اتفاقية لَيست صادرة عَن أصل شَرْعِي فَهُوَ عَاص فِي جَمِيع أَحْكَامه سَوَاء وَافق الصَّوَاب أم لَا وَأَحْكَامه مَرْدُودَة كلهَا وَلَا يعْذر فِي شَيْء من ذَلِك كَذَا جزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم وَالله أعلم قَالَ
بَاب شُرُوط القَاضِي
(وَلَا يجوز أَن يَلِي الْقَضَاء إِلَّا من استكملت فِيهِ خمس عشرَة خصْلَة الاسلام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة وَالْعَدَالَة والذكورة)
من لَا يصلح للْقَضَاء تحرم تَوليته وَيحرم عَلَيْهِ أَن يتَوَلَّى وَيحرم عَلَيْهِ أَن يَطْلُبهُ للْخَبَر الْمُتَقَدّم فَمن الصِّفَات الْمُعْتَبرَة لِلْإِسْلَامِ فَلَا تجوز تَوْلِيَة الْقَضَاء للْكَافِرِ لَا على الْمُسلمين وَلَا على غَيرهم لِأَنَّهُ ولَايَة السَّبِيل وَهُوَ لَيْسَ أهل لذَلِك وانتهر عمر رَضِي الله عَنهُ أَبَا مُوسَى رَضِي الله عَنهُ حِين اسْتعْمل كَاتبا نَصْرَانِيّا ثمَّ قَالَ لَا تدنوهم وَقد أَقْصَاهُم الله وَلَا تُكْرِمُوهُمْ وَقد أَهَانَهُمْ الله وَلَا تَأْمَنُوهُمْ وَقد خَوَّنَهُمْ الله وَقد نَهَيْتُكُمْ عَن إستعمال أهل الْكتاب فَإِنَّهُم يسْتَحلُّونَ الرشا وَمِنْهَا الْبلُوغ وَالْعقل لِأَن الصَّبِي وَالْمَجْنُون إِذا لم يتَعَلَّق بقولهمَا حكم على أَنفسهمَا فعلى غَيرهمَا أولى وَقد ادّعى الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فِي الْمَجْنُون قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يَكْتَفِي بِالْعقلِ الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف حَتَّى يكون صَحِيح التَّمْيِيز جيد الفطنة بَعيدا من السَّهْو والغفلة ليتوصل إِلَى وضوح الشكل وَذكر الإِمَام نَحوه وَكَذَا الْغَزالِيّ نعم قَالَ الرَّافِعِيّ يسْتَحبّ كَونه وافر الْعقل متثبتاً ذَا فطنة ويقظة وَمِنْهَا الْحُرِّيَّة لِأَن

(1/549)


العَبْد نَاقص عَن ولَايَة نَفسه فَعَن ولَايَة غَيره أولى وبالقياس على الشَّهَادَة وَمن لم تكمل فِيهِ الْحُرِّيَّة كالقن وَمِنْهَا الْعَدَالَة لِأَن الْفسق إِذا منع من النّظر فِي مَال الإبن مَعَ عَظِيم شفقته فَمنع ولَايَة الْقَضَاء الَّتِي بَعْضهَا حفظ مَال الْيَتِيم أولى وَسَوَاء كَانَ فسقه مِمَّا لَا شُبْهَة لَهُ فِيهِ أَو بِمَا فِيهِ شُبْهَة وَفِي وَجه لَا يضر مَاله فِيهِ شُبْهَة وَتَأْويل وَمِنْهَا الذُّكُورَة لقَوْله تَعَالَى {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لن يفلح قوم وَلَو أَمرهم إمرأة وَلِأَن القَاضِي مُحْتَاج إِلَى مُخَاطبَة الرِّجَال وَالْمَرْأَة مأمورة بالتحرز عَن ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَمَعْرِفَة أَحْكَام الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة وَالِاخْتِلَاف وطرق الِاجْتِهَاد وطرف من لِسَان الْعَرَب)
من صِفَات القَاضِي أَن يكون أَهلا للِاجْتِهَاد فَلَا يجوز تَوْلِيَة الْجَاهِل بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة كالمقلد لقَوْله تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُضَاة ثَلَاثَة فالمقلد فِي حكمه مقتف مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ علم وقاضي الْجَهْل لَا يدْرِي طَرِيقه وَلِأَن لَا يصلح للْفَتْوَى فالقضاء أولى لِأَن الافتاء اخبار غير مُلْزم وَالْقَضَاء إِخْبَار مُلْزم وَإِنَّمَا تحصل أَهْلِيَّة الِاجْتِهَاد بِأُمُور
أَحدهَا أَن يعرف من الْقُرْآن آيَات الْأَحْكَام وَهِي كَمَا قيل خَمْسمِائَة فَيعرف النَّاسِخ والمنسوخ وَالْعَام وَالْخَاص وَالْعَام الَّذِي أُرِيد بِهِ الْخُصُوص وَعَكسه وَالْمُطلق والمقيد والمحكم والمتشابه والمجمل والمفصل وَلَا يشْتَرط حفظه على ظهر الْقلب قَالَه الرَّوْيَانِيّ قَالَ الرَّافِعِيّ وَمِنْهُم من يُنَازع ظَاهر كَلَامه فِيهِ
الثَّانِي أَن يعرف من السّنة الْأَخْبَار الْمُتَعَلّقَة بِالْأَحْكَامِ وَيعرف مِنْهَا مَا ذَكرْنَاهُ فِي الْكتاب الْعَزِيز وَيعرف الْمُتَوَاتر والآحاد والمرسل والمسند والمنقطع والمتصل وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل
الثَّالِث أَن يعرف أقاويل عُلَمَاء الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ رَضِي الله عَنْهُم إجمعا واختلافاً لِئَلَّا يحكم بِمَا أَجمعُوا على خِلَافه أَو بقول ثَالِث
الرَّابِع الْقيَاس فَيعرف جليه وخفيه وتمييز الصَّحِيح من الْفَاسِد

(1/550)


الْخَامِس أَن يعرف كَلَام الْعَرَب لُغَة وإعراباً وكصيغ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستخبار والوعد والوعيد وَغير ذَلِك مِمَّا لَا بُد مِنْهُ فِي فهم الْكتاب وَالسّنة لِأَن الشَّرْع ورد بِالْعَرَبِيَّةِ وَبهَا يعرف مَا ذَكرْنَاهُ وَيعرف إِطْلَاقه وتقييده وإجماله وَبَيَانه قَالَ الْأَصْحَاب وَلَا يشْتَرط التبحر فِي هَذِه الْعُلُوم بل يَكْفِي معرفَة جمل مِنْهَا قَالَ الْغَزالِيّ واجتماع هَذِه الشُّرُوط مُتَعَذر فِي عصرنا لخلو الْعَصْر عَن الْمُجْتَهد المستقل فَالْوَجْه تَنْفِيذ قَضَاء كل من ولاه سُلْطَان ذُو شَوْكَة وَإِن كَانَ جَاهِلا أَو فَاسِقًا لِئَلَّا تتعطل مصَالح الْمُسلمين قَالَ الرَّافِعِيّ وَهَذَا أحسن قَالَ ابْن الصّلاح وَابْن أبي الدَّم لَا نعلم أحدا ذكر مَا ذكره الْغَزالِيّ وَالَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ والمراوزة أَن الْفَاسِق لَا تنفذ أَحْكَامه وَقد ظهر بذلك بطلَان مَا قَالَاه وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن يكون سميعا بَصيرًا كَاتبا متيقظاً)
يشْتَرط فِي القَاضِي السّمع وَالْبَصَر فَإِن الْأَصَم لَا يفرق بَين الْإِقْرَار وَالْإِنْكَار وَالْأَعْمَى لَا يعرف الطَّالِب من الْمَطْلُوب وَقيل تصح ولَايَة الْأَعْمَى لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اسْتخْلف ابْن أم مَكْتُوم على الْمَدِينَة وَكَانَ أعمى وَالْمذهب الْقطع بِالْمَنْعِ وَالْخَبَر قيل بضعفه وَبِتَقْدِير الصِّحَّة مَحْمُول على ولَايَة الصَّلَاة دون الحكم وَفِي معنى الْأَعْمَى من يرى الأشباح وَلَا يعرف الصُّور وَلَا يشْتَرط أَن يعرف الْكِتَابَة على الْأَصَح لِأَن الْمَعْنى الْمَقْصُود من الحكم يعرف بِدُونِهَا وَيشْتَرط أَن يكون متيقظا فَلَا يَصح قَضَاء مُغفل اخْتَلَّ رَأْيه وَنَظره بِمَرَض أَو كبر وَنَحْوهمَا وَيشْتَرط أَيْضا كَونه ناطقاً متكلماً فَإِن الْأَخْرَس لَا يقدر على انفاذ الْأَحْكَام وَالله أعلم قَالَ
بَاب آدَاب الْقَضَاء
(وَيسْتَحب أَن ينزل القَاضِي فِي وسط الْبَلَد وَيجْلس فِي مَوضِع بارز للنَّاس لَا حَاجِب دونه وَلَا يقْعد للْقَضَاء فِي الْمَسْجِد)
اعْلَم أَن للْقَضَاء آداباً مِنْهَا أَن ينزل فِي وسط الْبَلَد لِأَنَّهُ أقرب إِلَى التَّسْوِيَة وَحُصُول الْعدْل وَهَذَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَمِنْهَا أَن يجلس فِي مَوضِع فسيح لِئَلَّا يتَأَذَّى الْحَاضِرُونَ بضيقه وَأَن يكون بارزاً لَيْسَ دونه حجاب ليهتدي إِلَيْهِ المتوطن والغريب ويصل إِلَيْهِ كل أحد وَيسْتَحب أَن يكون خَالِيا من الْحر وَالْبرد وَالْغُبَار وَالدُّخَان فَجَلَسَ فِي الصَّيف حَيْثُ يَلِيق بِهِ وَكَذَا فِي الشتَاء وَكَذَا فِي زمن الرِّيَاح وَمِنْهَا أَن لَا يتَّخذ حاجباً وَلَا بواباً لِأَنَّهُ رُبمَا قدم الْمُتَأَخر وَمنع من لَهُ ظلامة فَلَو اتَّخذهُ كره إِلَّا لحَاجَة قَالَ الْمَاوَرْدِيّ تجب فِيهِ الْعِفَّة وَالْعَدَالَة وَالْأَمَانَة وَينْدب كَونه حسن المنظر جميل الْمخبر عَارِفًا بمقادير النَّاس بَعيدا عَن الْهوى معتدل الْأَخْلَاق بَين الشراسة واللين قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ إِن كثرت الزحمة وَرَأى الْمصلحَة فِي اتِّخَاذه اتِّخَاذه وَإِلَّا فَلَا وَفِي الرَّوْضَة

(1/551)


إِذا جلس للْقَضَاء وَلَا زحمة كره أَن يتَّخذ حاجباً على الْأَصَح وَلَا كَرَاهَة فِيهِ فِي أَوْقَات الْخلْوَة على الصَّحِيح وليحذر من الاحتجاب لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من ولاه الله شَيْئا من أُمُور الْمُسلمين فاحتجب دون حَاجتهم وخلتهم وفقرهم احتجب الله عَنهُ دون حَاجته وَخلته وَفَقره وَمِنْهَا أَن لَا يتَّخذ الْمَسْجِد مَجْلِسا للْقَضَاء فَإِن اتَّخذهُ كره لِأَنَّهُ ينزه عَن رفع الاصوات وَحُضُور الْحيض وَالْكَفَّارَة والمجانين وَغَيرهم وَقد يحْضرُون بِمَجْلِس الْقَضَاء وَقيل لَا يكره الْجُلُوس فِيهِ كَمَا لَا يكره لقِرَاءَة الْقُرْآن وَسَائِر الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والإفتاء وَلَو اتّفقت قَضِيَّة أَو قضايا وَقت حُضُوره فِي الْمَسْجِد لصَلَاة أَو غَيرهَا فَلَا بَأْس بفصلها فِيهِ وَالله أعلم قَالَ
(وَيُسَوِّي بَين الْخَصْمَيْنِ فِي ثَلَاثَة أَشْيَاء فِي الْمجْلس وَاللَّفْظ واللحظ)
لَا شكّ أَن منصب الحكم مَوْضُوع للعدل وميل القَاضِي عَن ذَلِك جور وظلم فَلهَذَا يُسَوِّي بَين الْخَصْمَيْنِ مَعَ مَا ذكره الشَّيْخ فِي الدُّخُول عَلَيْهِ وَفِي الْقيام لَهما وَكَذَا فِي الْمجْلس فَلَا يقرب أَحدهمَا أَكثر من الآخر بعد أَن يُسَوِّي بَينهمَا فِي جَوَاب السَّلَام فَإِن سلما أجابهما مَعًا وَإِن سلم أَحدهمَا قَالَ الْأَصْحَاب يصبر حَتَّى يسلم الآخر فيجيبهما قَالَ الرَّافِعِيّ وَقد يتَوَقَّف فِي هَذَا عِنْد طول الْفَصْل فَإِنَّهُ يمْنَع انتظامه جَوَابا فَإِذا انتهيا إِلَى الْمجْلس أَجْلِس أَحدهمَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن شِمَاله وَالْأولَى على الْإِطْلَاق أَن يَكُونَا بَين يَدَيْهِ وَفِي حَدِيث ثمَّ ليقبل عَلَيْهِمَا بِمَجَامِع قلبه وَلَا يمازح أَحدهمَا وَلَا يُشِير إِلَيْهِ وَلَا يسارره وَلَا يلق الْمُدَّعِي بِأَن يَقُول ادْع عَلَيْهِ كَذَا وَلَا الْمُدعى عَلَيْهِ الْإِقْرَار أَو الْإِنْكَار
وَكَذَا يُسَوِّي بَينهمَا فِي النّظر إِلَيْهِمَا وَالِاسْتِمَاع لَهما وطلاقة الْوَجْه وَسَائِر وُجُوه الْإِكْرَام فَلَا يخص أَحدهمَا بِشَيْء من ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} الْآيَة ثمَّ هَذِه الْأُمُور التَّسْوِيَة فِيهَا وَاجِبَة على الصَّحِيح وَاقْتصر ابْن الصّباغ على الِاسْتِحْبَاب نعم يرفع الْمُسلم على الْكَافِر فِي الْمجْلس على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْعِرَاقِيُّونَ وَقيل يُسَوِّي بَينهمَا فِيهِ قَالَ الرَّافِعِيّ وَيُشبه أَن يجْرِي الْوَجْهَانِ فِي سَائِر وُجُوه الْإِكْرَام وَمَا بَحثه الرَّافِعِيّ صرح بِهِ الفوراني وَالله أعلم
(فرع) لَا يجوز أَن يجلس الوكل إِلَى جَانب القَاضِي وَيَقُول وَكيلِي جَالس مَعَ الْخصم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يجوز أَن يقبل هَدِيَّة من أهل عمله)

(1/552)


لَا شكّ أَن الرِّشْوَة حرَام لِأَنَّهَا من قبيل الْأكل بِالْبَاطِلِ وَقد نهي الله عَنهُ وَهِي صفة الْيَهُود وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لعن الله الراشي والمرتشي فِي الحكم وَفِي لفظ لعنة الله على الراشي والمرتشي وَأما الْهَدِيَّة فَالْأولى سد بَابهَا ثمَّ إِن كَانَ للمهدي خُصُومَة فِي الْحَال حرم قبُول هديته فِي مَحل ولَايَته وَإِن كَانَ لَهُ عَادَة بالهدية لصداقة أَو قرَابَة وَكَذَا لَا يقبل هَدِيَّة من لم تكن لَهُ عَادَة قبل الْولَايَة وَإِن لم تكن لَهُ حُكُومَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَدَايَا الْعمَّال غلُول ويروى سحت وَفِي الصَّحِيحَيْنِ بِمَعْنَاهُ وَاللَّفْظ مَا بَال الْعَامِل نبعثه فَيَقُول هَذَا لكم وَهَذَا أهدي لي هلا جلس فِي بَيت أَبِيه وَأمه وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ وَفِي رِوَايَة وَالَّذِي نفس مُحَمَّد بِيَدِهِ لَا يَأْتِي بِشَيْء إِلَّا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة يحملهُ على رقبته إِن كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاء أَو بقرة لَهَا خوار أَو شَاة تَيْعر ثمَّ رفع يَدَيْهِ حَتَّى رَأينَا عفرتي أَلا هَل بلغت ثَلَاثًا وَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْعمَّال فَالْقَاضِي أولى وَإِن كَانَ الْمهْدي لَا خُصُومَة لَهُ وَله عَادَة بالهدية وَأهْدى قدر عَادَته وَمثله جَازَ أَن يقبلهَا لخُرُوج ذَلِك عَن سَبَب الْولَايَة وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَنْصُوص وَقيل لَا يجوز لإِطْلَاق الْأَخْبَار ولاحتمال حُدُوث محاكمة فَلَو أهْدى أَكثر من الْمُعْتَاد أَو أرفع مِنْهُ مثل إِن كَانَ يهدي المآكل فأهدى الثِّيَاب لم يجز الْقبُول صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَتَبعهُ الْبَغَوِيّ وَغَيره قَالَ الْمَاوَرْدِيّ ونزوله على أهل عمله ضيفاً كقبول هديتهم وَالله أعلم وَلَو كَانَت الْهَدِيَّة فِي غير عمله من غير أهل فَقيل يحرم وَالأَصَح الْمَنْصُوص أَنه لَا يحرم وَلَو أهْدى إِلَيْهِ فِي عمله من هُوَ من غير عمله بإرسال الْهَدِيَّة وللمهدي حُكُومَة حرم وَكَذَا إِن دخل بهَا بِنَفسِهِ وَلَا حُكُومَة لَهُ لِأَنَّهُ صَار من عمله بِالدُّخُولِ وَإِن أرسلها وَلَا حُكُومَة فَفِي جَوَاز الْقبُول وَجْهَان
قلت يَنْبَغِي أَن يكون جَوَاز الْقبُول حَيْثُ جَازَ إِذا كَانَ يَثِق من نَفسه بِعَدَمِ الْميل والجور فَإِن لم يَثِق بذلك من نَفسه فَالْوَجْه التَّحْرِيم لِأَن الْقبُول حِينَئِذٍ سَبَب حَامِل على ترك الْعدْل لَا سِيمَا فِي زَمَاننَا هَذَا الَّذِي قد ظَهرت فِيهِ الرِّشْوَة فضلا عَن الْهَدِيَّة وَاعْلَم أَن الْهَدِيَّة لغير الْحُكَّام كهدايا الرعايا بَعضهم لبَعض إِن كَانَت لطلب محرم أَو إِسْقَاط حق أَو إِعَانَة على ظلم حرم الْقبُول والشفاعة والمتوسط بَين الْمهْدي والآخذ من قَاض وَغَيره وَكَذَا بَين المرتشي والراشي حكمه حكم مُوكله

(1/553)


فَإِن وكلاه مَعًا وَكَانَ الْمهْدي أَو الراشي مَعْذُورًا لأجل خلاص حَقه حرم على الْمُتَوَسّط لِأَنَّهُ وَكيل الْآخِذ وَهُوَ محرم عَلَيْهِ وَالله أعلم قَالَ
(ويجتنب الْقَضَاء فِي عشرَة مَوَاضِع عِنْد الْغَضَب وَعند الْجُوع والعطش وَشدَّة السهر والحزن والفرح المفرط وَعند الْمَرَض ومدافعة الأخبثين وَغَلَبَة النعاس وَشدَّة الْحر وَالْبرد)
الأَصْل فِي ذَلِك كُله قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا يقْضِي الْحَاكِم بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان مَعْلُوم أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يرد الْغَضَب نَفسه بل الِاضْطِرَاب الْحَاصِل لَهُ بِهِ المغير لِلْعَقْلِ والخلق وَهُوَ فِي هَذِه الْأَحْوَال الَّتِي ذكرهَا الشَّيْخ مغير لِلْعَقْلِ وَإِن تفاوتت فَلَا يتوفر الِاجْتِهَاد وَهل الْمَنْع للكراهة الَّذِي صرح بِهِ الرَّافِعِيّ وَجَمَاعَة أَنه يكره وَكَلَام الْمَاوَرْدِيّ يقْضِي أَنه الأولى فَإِن حكم فِي هَذِه الْأَحْوَال نفذ حكمه قَالَ الإِمَام الْبَغَوِيّ وَجَمَاعَة وَالْغَضَب عَن الحكم فِيهِ إِذا كَانَ لغير الله تَعَالَى أما إِذا كَانَ لله تَعَالَى فَلَيْسَ مَنْهِيّا عَنهُ وَاسْتَغْرَبَهُ الرَّوْيَانِيّ وَقَالَ الْمَحْذُور هُوَ عدم توفيره على الِاجْتِهَاد وَلَا يخْتَلف الْحَال فِيهِ بَين الغضبين وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يسْأَل الْمُدعى عَلَيْهِ إِلَّا بعد كَمَال الدَّعْوَى)
إِذا جلس الخصمان بَين يَدي القَاضِي فَلهُ أَن يسكت حَتَّى يتكلما وَله أَن يَقُول ليَتَكَلَّم الْمُدَّعِي مِنْكُمَا وَأَن يَقُول للْمُدَّعِي إِذا عرفه تكلم وخطاب الْأمين الْوَاقِف على رَأسه أولى فَإِذا ادّعى الْمُدَّعِي وَفرغ من دَعْوَاهُ سَأَلَ حِينَئِذٍ القَاضِي الْخصم أَن يُجيب وَيَقُول لَهُ مَا تَقول وَفِي وَجه لَا يُطَالِبهُ بِالْجَوَابِ حَتَّى يسْأَله الْمُدَّعِي كَمَا لَا يُطَالب بِالْمَالِ حَتَّى يسْأَل الْمُدَّعِي وَالصَّحِيح الأول لِأَن بسؤال القَاضِي تنفصل الْخُصُومَة وَيظْهر أثر الدَّعْوَى فَإِذا سَأَلَهُ نظر فِي الْجَواب إِن أقرّ بالمدعي فللمدعي أَن يطْلب من القَاضِي الحكم وَحِينَئِذٍ يحكم بِأَن يَقُول أخرج من حَقه أَو ألزمتك الْخُرُوج من حَقه وَمَا أشبه ذَلِك وَهل يثبت الْحق بِمُجَرَّد الْإِقْرَار أم لَا بُد فِي ثُبُوته من قَضَاء كالبينة وَجْهَان أصَحهمَا يثبت بِمُجَرَّد الْإِقْرَار بِخِلَاف الْبَيِّنَة وَالْفرق أَن دلَالَة الْإِقْرَار على وجوب الْحق جلية وَالْبَيِّنَة تحْتَاج إِلَى نظر واجتهاد وَإِن أنكر الْمُدعى عَلَيْهِ فللقاضي أَن يسكت وَله أَن يَقُول للْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَة هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل لَا يذكر شَيْئا لِأَنَّهُ كالتلقين فعلى الصَّحِيح إِن قَالَ الْمُدَّعِي لي بَيِّنَة حَاضِرَة وأقامها فَلَا كَلَام وَإِن قَالَ لَا أقيمها وَأُرِيد يَمِينه مكن مِنْهُ وَإِن قَالَ لَيْسَ لي بَيِّنَة حَاضِرَة فَحلف الْمُدعى عَلَيْهِ ثمَّ جَاءَ بِبَيِّنَة سَمِعت وَإِن قَالَ لَا بَيِّنَة لي لَا حَاضِرَة وَلَا غَائِبَة

(1/554)


سَمِعت أَيْضا على الْأَصَح لِأَن رُبمَا لم يعرف أَو نسى ثمَّ عرف أَو تذكر وَقيل لَا تسمع للمناقضة وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يحلف إِلَّا بعد سُؤال الْمُدَّعِي)
لَا يحلف القَاضِي الْمُدَّعِي عَلَيْهِ إِلَّا بعد أَن يطْلب ذَلِك الْمُدَّعِي لِأَن اسْتِيفَاء الْيَمين حَقه فَيتَوَقَّف على إِذْنه كَالدّين فَإِن خَلفه قبل الطّلب فَلَا يعْتد بهَا على الصَّحِيح فعلى هَذَا يَقُول القَاضِي للْمُدَّعِي حلفه إِن شِئْت وَإِلَّا فاقطع طَلَبك عَنهُ وَلَو حلف الْمُدعى عَلَيْهِ بعد طلب الْمُدَّعِي يَمِينه وَقبل إحلاف القَاضِي لم يعْتد بهَا أَيْضا صرح بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَلَو فوض القَاضِي إِلَى الْحَالِف الْيَمين فاستوفاها على نَفسه فَفِي الِاعْتِدَاد بهَا وَجْهَان وَالله أعلم
(فرع) قَالَ الْمُدَّعِي أَبْرَأتك عَن الْيَمين سقط حَقه فِي هَذِه الدَّعْوَى وَله اسْتِئْنَاف الدَّعْوَى وتحليفه قَالَه فِي التَّهْذِيب والمهذب وَجزم بِهِ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة قَالَ ابْن الرّفْعَة وَيظْهر أَنه مَبْنِيّ على قَول الْعِرَاقِيّين أما على قَول المراوزة فَيظْهر أَن لَا تسوغ الدَّعْوَى عَلَيْهِ ثَانِيًا وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يلقن خصما حجَّة وَلَا يتعنت بِالشُّهَدَاءِ)
لَيْسَ للْقَاضِي أَن يلقن خصما دَعْوَى وَلَا كَيفَ يَدعِي على الْأَصَح لما فِي ذَلِك من إِظْهَار الْميل وضابطه أَن لَا يلقن أَحدهمَا مَا يضر بِالْآخرِ وَلَا يهديه إِلَيْهِ مثل أَن يقْصد الْإِقْرَار فيلقبه الْإِنْكَار أَو يقْصد النّكُول فيجرؤه على الْيَمين أَو بِالْعَكْسِ وَفِي معنى ذَلِك أَن يتَوَقَّف الشَّاهِد فيجزؤه على الشَّهَادَة أَو بِالْعَكْسِ إِلَّا فِي الْحُدُود الَّتِي تدرأ بِالشُّبُهَاتِ وَقَول الشَّيْخ وَلَا يتعنت بِالشُّهَدَاءِ هَذَا نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَحمَه الله فَقَالَ وَلَا يجوز أَن يتعنت بِالشُّهَدَاءِ قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَذَلِكَ من أوجه
الأول أَن يظْهر التكبر عَلَيْهِ والاستهزاء بِهِ وَهُوَ ظَاهر السّتْر وافر الْعقل وَكَذَا ذكره أَبُو الطّيب وَابْن الصّباغ
الثَّانِي أَن يسْأَله من أَيْن علمت هَذَا أَو كَيفَ تحملت أَو لَعَلَّك سَهَوْت
الثَّالِث أَن يتبعهُ فِي أَلْفَاظه ويعارضه لِأَن فِي ذَلِك ميلًا على الْمَشْهُود لَهُ وإفضاء إِلَى ترك الشَّهَادَة وَلَا يجوز أَن يصْرخ على الشَّاهِد وَلَا نهره وَالله أعلم قَالَ
وَلَا تقبل الشَّهَادَة إِلَّا مِمَّن ثبتَتْ عَدَالَته)
الْعَدَالَة فِي الشَّهَادَة مُعْتَبرَة بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم وصفتها تَأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِذا شهد عِنْد القَاضِي شُهُود فَإِن عرف فسقهم رد شَهَادَتهم وَلم يحْتَج إِلَى بحث وَإِن عرف عدالتهم قبل

(1/555)


شَهَادَتهم وَلَا حَاجَة إِلَى التَّعْدِيل وَإِن طلبه الْخصم وَلم يعرف حَالهم لم يجز قبُول شَهَادَتهم وَالْحكم بهَا إِلَّا بعد الاستزكاء وَالتَّعْدِيل سَوَاء طعن الْخصم فيهم أَو سكت لِأَنَّهُ إِذا قبلهم وَسَأَلَ الحكم بِشَهَادَتِهِم لزمَه وَلَا يجوز الحكم إِلَّا بعد الْبَحْث عَن شُرُوط الشَّهَادَة وَلَا يجوز الِاكْتِفَاء بِأَن الظَّاهِر من حَال الْمُسلم الْعَدَالَة كَمَا لَا يجوز بِأَن الظَّاهِر من حَال من فِي دَار الْإِسْلَام الْإِسْلَام اكْتِفَاء بِالدَّار فَلَو أقرّ الْخصم بِعَدَالَتِهِمْ فَهَل يحكم بِلَا بحث وَجْهَان قيل نعم لِأَن الْبَحْث حَقه وَقد اعْترف بِعَدَالَتِهِمْ وَالصَّحِيح لَا بُد من الْبَحْث وَالتَّعْدِيل من أجل حق الله تَعَالَى وَلِهَذَا لَا يجوز الحكم بِشَهَادَة فسق وَإِن رَضِي الْخصم وَلِأَن الحكم بِشَهَادَتِهِ يتَضَمَّن تعديله وَالتَّعْدِيل لَا يثبت بقول وَاحِد وَيَكْفِي فِي التَّعْدِيل أَن يَقُول هُوَ عدل لِأَنَّهُ أثبت الْعَدَالَة الَّتِي اقتضاها ظَاهر إِطْلَاق الْآيَة الْكَرِيمَة فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي كتاب حَرْمَلَة وَنَصّ فِي مَوضِع آخر مِنْهُ أَنه سَيَقُولُ عدل رَضِي واشترطه بعض الْأَصْحَاب وَقيل لَا بُد أَن يَقُول هُوَ عدل عَليّ ولي قَالَ الإِمَام وَهُوَ أبلغ عِبَارَات التَّزْكِيَة وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْأُم والمختصرلأن قَوْله عدل لَا يثبت الْعَدَالَة على الْإِطْلَاق لجَوَاز أَن يكون عدلا فِي شَيْء دون شَيْء فبهذه الزِّيَادَة يَزُول الِاحْتِمَال كَذَا علله أَبُو إِسْحَاق وَعلله غَيره بِأَن الْعدْل قد يكون مِمَّن لَا تقبل شَهَادَته لَهُ بِأَن يكون أَبَاهُ أَو ابْنه أَو لَا تقبل عَلَيْهِ لعداوة فَإِذا قَالَ عَليّ ولي زَالَ الِاحْتِمَال فَإِن علم أَنه لَا نسب بَينهمَا وَلَا عَدَاوَة لزم ذَلِك على التَّعْلِيل الأول دون الثَّانِي قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تقبل شَهَادَة عَدو على عدوه وَلَا شَهَادَة وَالِد لوَلَده وَلَا ولد لوالده)
يشْتَرط فِي الشَّاهِد عدم التُّهْمَة وَلها أَسبَاب مِنْهَا البعضية الَّتِي تشْتَمل على الْأُصُول وَالْفُرُوع وَمِنْهَا الْعَدَاوَة فَلَا تقبل شَهَادَة الْعَدو على عدوه إِذا كَانَت لأمر دُنْيَوِيّ لقَوْله تَعَالَى {وَأدنى أَلا ترتابوا} والعداوة أقوى من الريب وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تجوز شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا مجلود حدا وَلَا ذِي غمر وَلَا جنَّة وَلَا ظنين فِي قرَابَة والغمر بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة الشحناء وَقيل الْعَدَاوَة فَإِن قيل بِمَ تعرف الْعَدَاوَة فَالْجَوَاب قَالَ القَاضِي حُسَيْن الْعَدو هُنَا من يظْهر من أَقْوَاله وأفعاله

(1/556)


مَا يظنّ بِهِ الْعَدَاوَة بِحَيْثُ يشمت بمصائبه ويحزن بمساره ويتمنى لَهُ كل شَرّ وَكَلَام الرَّافِعِيّ قريب مِنْهُ وعد الْمَاوَرْدِيّ من أَسبَاب الْعَدَاوَة الْقَذْف وَالْغَصْب وَالسَّرِقَة وَالْقَتْل وَقطع الطَّرِيق فَلَا تقبل شَهَادَة الْمَغْصُوب مِنْهُ على الْغَاصِب وَلَا الْمَسْرُوق مِنْهُ على السَّارِق وَلَا ولي الْمَقْتُول على الْقَاتِل وَكَذَا الْمَقْذُوف على الْقَاذِف وَمَا ذكره الْمَاوَرْدِيّ نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَالله أعلم
وَلَا تقبل شَهَادَة الْوَالِد لوَلَده وَإِن سفل وَلَا شَهَادَة الْوَلَد لوالده وَإِن علا لقَوْله تَعَالَى {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} والريبة هُنَا حَاصِلَة لشدَّة الْميل والمحبة وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاطِمَة بضعَة مني أَي قِطْعَة وَإِذا كَانَ الْوَلَد جُزْءا أشبهت الشَّهَادَة لَهُ شَهَادَة الشَّخْص لنَفسِهِ وَقد جَاءَ زِيَادَة من تَتِمَّة الحَدِيث وَلَا شَهَادَة الْوَلَد لوالده وَلَا الْوَالِد لوَلَده وَتكلم الْعلمَاء فِي هَذِه الزِّيَادَة فَإِن صحت وَإِلَّا فَفِي قَوْله وَلَا ظنين فِي قرَابَة دَلِيل عَلَيْهِ وَفِي الْقَدِيم أَنَّهَا تقبل وَبِه قَالَ الْمُزنِيّ وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر وَاحْتَجُّوا بِأَن الشَّخْص لَا يكون صَادِقا فِي شَيْء دون شَيْء وَالْمذهب الْمَعْرُوف الأول وَمَا ذَكرُوهُ بَاطِل يمْنَع شَهَادَته لنَفسِهِ وَيُؤْخَذ من قَول الشَّيْخ أَنه يقبل شَهَادَة بَعضهم على بعض وَهُوَ كَذَلِك وَفِي مقَالَة لَا تقبل شَهَادَة الْوَلَد على وَالِده مِمَّا يَقْتَضِي قصاصا أَو حد قذف لِأَنَّهُ لما لم يقتل بقتْله وَلَا يحد بقذفه لم يحد وَلم يقتل بقوله وَالْأول هُوَ الصَّحِيح وَالله أعلم
(فرع) شهد الابْن على أَبِيه أَنه طلق ضرَّة أمه فَهَل يقبل قَولَانِ قيل لَا لِأَنَّهُ مُتَّهم يجر إِلَى أمه نفعا لانفرادها بِهِ فَهِيَ شَهَادَة لأمه وَالأَصَح الْقبُول لِأَنَّهَا شَهَادَة على أَبِيه لغير أمه وَلَو شَهدا على أَبِيهِمَا أَنه قذف أمهما لم تسمع لِأَنَّهَا شَهَادَة للْأُم وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يقبل كتاب قَاض فِي الْأَحْكَام إِلَّا بعد شَهَادَة شَاهِدين يَشْهَدَانِ بِمَا فِيهِ)
اعْلَم أَنه يجوز الدَّعْوَى على الْمَيِّت الَّذِي لَا وَارِث لَهُ معِين وعَلى الصَّبِي الَّذِي لَا نَائِب لَهُ بالِاتِّفَاقِ منا وَمن أبي حنيفَة رَحمَه الله وَكَذَا يجوز الدَّعْوَى على الْغَائِب الَّذِي لَا وَكيل لَهُ على الْمَشْهُور الْمَقْطُوع بِهِ وَاحْتج بقوله تَعَالَى {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وَمَا شهِدت بِهِ الْبَيِّنَة حق فَوَجَبَ الحكم وَلقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لزوجة أبي سُفْيَان خذي مَا يَكْفِيك فَإِنَّهُ قَضَاء

(1/557)


على غَائِب وَقَامَ علمه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِأَنَّهَا زَوجته مقَام الْبَيِّنَة وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خذي دَلِيل على أَنه لَيْسَ بفتوى إِلَّا لقَالَ لَا بَأْس بِهِ وَنَحْوه وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ فِي قَضِيَّة الأسيفع من كَانَ لَهُ دين فليأتنا غَدا فَإنَّا بَايعُوا مَاله وقاسموه بَين غُرَمَائه وَكَانَ غَائِبا وَفِي آخر الْأَثر وَإِيَّاكُم وَالدّين فَإِن أَوله هم وَآخره حَرْب وَلِأَن فِي الِامْتِنَاع على الْغَائِب إِضَاعَة الْحُقُوق إِذْ لَا يعجز الْمُمْتَنع من الْوَفَاء عَن الْغَيْبَة وَألْحق القَاضِي حُسَيْن بالغيبة مَا إِذا حضر الْمجْلس فهرب قبل أَن يسمع الْحَاكِم الْبَيِّنَة أَو بعده وَقبل الحكم فَإِنَّهُ يحكم عَلَيْهِ قطعا فَإِذا حكم حَاكم على غَائِب بِشَهَادَة شَاهِدين أَو بِإِقْرَارِهِ أَو بِنُكُولِهِ وَيَمِين الْمُدَّعِي والمحكوم بِهِ حق فِي ذمَّته أَو قصاص إِن جَوَّزنَا الْقَضَاء على الْغَائِب بِهِ كَمَا هُوَ الصَّحِيح أَو عقار فِي يَده فَسَأَلَ الْمُدَّعِي أَن يكْتب إِلَى قَاض الْبَلَد الَّذِي فِيهِ الْخصم لتعذر اجْتِمَاعهمَا أَو خشيَة التَّأْخِير أَو غير ذَلِك كتب إِلَيْهِ بِمَا حكم بِهِ وَهَذَا لَا نزاع فِيهِ لِأَن حكمه لزم فَلَزِمَ كل وَاحِد تنفيذه بِخِلَاف مَا لَو ثَبت عِنْده وَلم يحكم حَيْثُ يفصل بَين قرب الْمسَافَة وَبعدهَا لِأَن مَعَ الْقرب يسهل إِحْضَار الشُّهُود ثمَّ للإنهاء طَرِيقَانِ
أَحدهمَا أَن يشْهد على حكمه عَدْلَيْنِ يخرجَانِ إِلَى ذَلِك الْبَلَد وَالْأولَى أَن يكْتب بذلك كتابا أَولا ثمَّ يشْهد
وَصُورَة الْكتاب حضر فلَان وَادّعى على فلَان الْغَائِب الْمُقِيم بِبَلَد كَذَا وَأقَام عَلَيْهِ شَاهِدين وهما فلَان وَفُلَان وعدلا عِنْدِي وَحلف الْمُدَّعِي وحكمت لَهُ بِالْمَالِ فَسَأَلَنِي أَن أكتب إِلَيْك كتابا فِي ذَلِك فأجبته وأشهدت بذلك فلَانا وَفُلَانًا وَيجوز أَن يقْتَصر على حكمت بِكَذَا لحجة أوجبت الحكم لِأَنَّهُ قد يحكم بِشَاهِد وَيَمِين أَو بِعِلْمِهِ إِن جوزناه وَهَذِه حِيلَة يدْفع بهَا القَاضِي قدح الْحَنَفِيَّة إِذا حكم بِشَاهِد وَيَمِين فَإِذا كتب فَيَنْبَغِي أَن يقْرَأ الْكتاب أَو يقْرَأ بَين يَدَيْهِ عَلَيْهِمَا ثمَّ يَقُول لَهما اشهدا عَليّ بِمَا فِيهِ أَو على حكمي الْمُبين فِيهِ وَفِي الشَّامِل لِابْنِ الصّباغ أَنه لَو اقْتصر بعد الْقِرَاءَة على قَوْله هَذَا كتابي إِلَى فلَان أَجْزَأَ وَفِي وَجه يَكْفِي مُجَرّد الْقِرَاءَة عَلَيْهِمَا وَلَو لم يقْرَأ الْكتاب عَلَيْهِم وَلم يعلمَا بِمَا فِيهِ وَقَالَ القَاضِي أشهدكما على أَن هَذَا كتابي وَمَا فِيهِ خطي لم يكف وَلم يكن لَهما أَن يشهدَا على حكمه لِأَن الشَّيْء قد يكْتب بِلَا قصد تَحْقِيق وَلَو قَالَ أشهدكما على أَن مَا فِيهِ حكمي أَو على أَنِّي قضيت بمضمونه لم يكف على الصَّحِيح حَتَّى يفصل مَا حكم بِهِ
وَاعْلَم أَن التعويل على الشُّهُود وَالْمَقْصُود من الْكتاب التَّذْكِرَة وَلِهَذَا لَو ضَاعَ الْكتاب أَو انمحى وشهدا بمضمونه المضبوط عِنْدهمَا قبلت شَهَادَتهمَا وَقضى بهَا وَيشْتَرط إِشْهَاد رجلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَلَا يقبل رجل وَامْرَأَتَانِ وَقيل يقبل إِن تعلّقت بِمَال وَالصَّحِيح الأول وَالله أعلم قَالَ

(1/558)


بَاب الْقِسْمَة فصل ويفتقر الْقَاسِم إِلَى سَبْعَة شَرَائِط الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة وَالْعَدَالَة والحساب فَإِن تراضى الشريكان بِمن يقسم بَينهمَا لم يفْتَقر إِلَى ذَلِك
الأَصْل فِي الْقِسْمَة الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الشُّفْعَة فِيمَا لم يقسم الحَدِيث وَقسم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْغَنَائِم وَكَذَا الْخُلَفَاء الراشدون رَضِي الله عَنْهُم من بعده ثمَّ الْقِسْمَة تَارَة يتولاها الشُّرَكَاء بِأَنْفسِهِم وَتارَة يتولاها مَنْصُوب القَاضِي فَإِن تولاها مَنْصُوب القَاضِي فَيشْتَرط فِيهِ الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة وَالْعَدَالَة لِأَنَّهَا ولَايَة وَمن لم يَتَّصِف بذلك فَلَيْسَ أَهلا للولاية وَيشْتَرط أَيْضا أَن يكون عَالما بِالْقِسْمَةِ يَعْنِي بِالْحِسَابِ والمساحة لِأَنَّهُمَا آلَة الْقِسْمَة وَاعْتبر الْمَاوَرْدِيّ وَالْبَغوِيّ مَعَ ذَلِك أَن يكون نزهاً قَلِيل الطمع وَهل يشْتَرط أَن يكون عَالما بالقيم لاحتياجه إِلَى ذَلِك أم يسْتَحبّ وَجْهَان وَلَو نصب الشُّرَكَاء من يقسم بَينهم فَإِن جَعَلُوهُ وَكيلا فَلَا يشْتَرط ذَلِك بل يجوز أَن يكون عيدا أَو فَاسِقًا صرح بِهِ جمَاعَة قَالَ الرَّافِعِيّ كَذَا أَطْلقُوهُ وَيَنْبَغِي أَن يكون فِي العَبْد الْخلاف فِي تَوْكِيله فِي البيع وَإِن نَصبه الشُّرَكَاء حكما فقد أطلق الْبَنْدَنِيجِيّ وَأَبُو الطّيب وَغَيرهمَا أَنه يعْتَبر فِيهِ صِفَات قَاسم الْحَاكِم قَالَ ابْن الصّباغ بعد ذكره ذَلِك يَنْبَغِي إِذا قُلْنَا بِاعْتِبَار الرِّضَا بعد الْقرعَة أَنه لَا يشْتَرط عَدَالَته وحريته وَقَالَ ابْن الرّفْعَة بل يَنْبَغِي اشتراطهما وَإِن اعْتبرنَا الرِّضَا بعد الْقرعَة لِأَن الْقَائِل بِهِ يَجْعَل تَمام التَّحْكِيم مَوْقُوفا على هَذَا الرِّضَا فَهِيَ حِينَئِذٍ بعد الرِّضَا قسْمَة من حَاكم فاشترطت فِيهِ صِفَات الْحَاكِم كَمَا اشترطناها فِي التَّحْكِيم فِي الْأَمْوَال وَإِن لم يلْزم حكمه فِيهَا إِلَّا بِالرِّضَا بعده عِنْد هَذَا الْقَائِل وَهَذَا كُله إِذا لم يكن فِي الْقِسْمَة تَقْوِيم فَإِن كَانَ فَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا كَانَ فِيهَا تَقْوِيم لم يقْتَصر فِيهَا على أقل من اثْنَيْنِ)
اعْلَم أَن الْأَمْلَاك الْمُشْتَركَة قسمتهَا على نَوْعَيْنِ عِنْد الْعِرَاقِيّين قسْمَة فِيهَا رد وَقِسْمَة لَا رد فِيهَا وَعند المراوزة على ثَلَاثَة أَنْوَاع قسْمَة فِيهَا رد وَقِسْمَة تَعْدِيل وَقِسْمَة إِفْرَاز فقسمة الْإِفْرَاز

(1/559)


تسمى قسْمَة المتشابهات وَإِنَّمَا تجْرِي فِي الْحُبُوب وَالدَّرَاهِم والأدهان وَسَائِر الْمِثْلِيَّات وَكَذَا تجْرِي فِي الدَّار المتفقة الْأَبْنِيَة وَالْأَرْض المتشابهة الْأَجْزَاء وَمَا فِي مَعْنَاهَا فتعديل الانصباء فِي الْمكيل بِالْكَيْلِ وَفِي الْمَوْزُون بِالْوَزْنِ وَالْأَرْض المتساوية تجزأ أَجزَاء مُتَسَاوِيَة بِعَدَد الْأَنْصِبَاء إِن تَسَاوَت بِأَن كَانَت لثَلَاثَة أَثلَاثًا فَيجْعَل ثَلَاثَة أَجزَاء مُتَسَاوِيَة ثمَّ يُؤْخَذ ثَلَاث رقاع مُتَسَاوِيَة وَيكْتب على كل رقْعَة اسْم شريك أَو جُزْء من الْأَجْزَاء ويميز بَعْضهَا عَن بعض بِحَدّ أَو جِهَة أَو غَيرهمَا وتدرج فِي بَنَادِق مُتَسَاوِيَة وزنا وشكلاً من طين أَو شمع وَنَحْوهمَا وَتجْعَل فِي حجر رجل لم يحضر الْكِتَابَة والإدراج فَإِن كَانَ صَبيا أَو أعجمياً كَانَ أولى ثمَّ يُؤمر بِإِخْرَاج رقْعَة أُخْرَى على الْجُزْء الأول من كتب اسماء الشُّرَكَاء فَمن خرج اسْمه أَخذه ثمَّ يُؤمر بإخراخ رقعه أُخْرَى على الجزىء الَّذِي يَلِي الأول فَمن خرج اسْمه أَخذه وَتعين الْبَاقِي للثَّالِث وكما تجوز الْقِسْمَة بالرقاع المدرجة تجوز بالعصى والحصا وَنَحْوهمَا وَإِذا طلب أحد الشُّرَكَاء فِي هَذِه الْقِسْمَة فَامْتنعَ أجبر الْمُمْتَنع على الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَا ضَرَر ويتخلص من سوء الْمُشَاركَة وَتسَمى هَذِه قسْمَة إِجْبَار كَمَا تسمى قسْمَة إِفْرَاز
النَّوْع الثَّانِي قسْمَة التَّعْدِيل والمشترك الَّذِي تعدل سهامه تَارَة يكون شَيْئا وَاحِدًا وَتارَة يكون شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا فَإِن كَانَ شَيْئا وَاحِدًا كالأرض تخْتَلف أجزاؤها لاختلافها فِي قُوَّة النَّبَات والقرب من المَاء وَنَحْو ذَلِك فَيكون ثلثهَا لجودته كثلثيها بِالْقيمَةِ مثلا فَيجْعَل هَذَا سَهْما وَهَذَانِ سَهْما إِن كَانَت بَينهمَا نِصْفَيْنِ وَإِن كَانَت شَيْئَيْنِ فَصَاعِدا فَإِن كَانَت عقارا كدارين أَو حانوتين متساويي الْقيمَة فَطلب أَحدهمَا الْقِسْمَة بِأَن يَجْعَل لهَذَا دَارا وَلِهَذَا دَارا لم يجْبر الْمُمْتَنع سَوَاء تجاور الحانوتان أَو الداران أم لَا لاخْتِلَاف الْأَغْرَاض باخْتلَاف الْمحَال والأبنية فَلَو كَانَت دكاكين صغَارًا متلاصقة لَا يحْتَمل آحادها الْقِسْمَة وَيُقَال لَهَا العضائد فَطلب أَحدهمَا الْقِسْمَة أعياناً فَهَل يجْبر الْمُمْتَنع وَجْهَان
أَحدهمَا لَا كالمتفرقة وكالدور وأصحهما نعم يجْبر للْحَاجة وَكَذَا حكم الخان الْمُشْتَمل على بيُوت ومساكن وَلَو كَانَت دَار بَين اثْنَيْنِ لَهَا علو وسفل فَطلب أَحدهمَا قسمتهَا علوا أَو سفلاً أجبر الآخر عِنْد الْإِمْكَان وَإِن طلب أَحدهمَا أَن يَجْعَل الْعُلُوّ لوَاحِد والسفل لآخر لَا يجْبر كَذَا أطلقهُ الْأَصْحَاب وَإِن كَانَ غير عقار كَأَن اشْتَركَا فِي دَوَاب أَو أَشجَار أَو ثِيَاب وَنَحْوهَا فَإِن كَانَت من نوع وَاحِد وَأمكن التَّسْوِيَة بَين الشَّرِيكَيْنِ عددا فَالْمَذْهَب أَنه يجْبر على قسمتهَا أعياناً لقلَّة اخْتِلَاف الْأَغْرَاض فِيهَا بِخِلَاف الدّور وَإِن لم تمكن التَّسْوِيَة كثلاثة أعبد بَين اثْنَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ إِلَّا أَن أحدهم يُسَاوِي الآخرين فِي الْقيمَة فَإِن قُلْنَا بالإجبار عِنْد اسْتِوَاء الْقيمَة وَهُوَ الْمَذْهَب فَهُنَا قَولَانِ كالأرض الْمُخْتَلفَة الْأَجْزَاء وَإِن كَانَت الشّركَة لَا ترْتَفع إِلَّا عَن بعض الْأَعْيَان كعبدين بَين اثْنَيْنِ قيمَة أَحدهمَا مائَة وَقِيمَة الآخر مِائَتَان فَطلب أَحدهمَا الْقِسْمَة ليختص من خرجت لَهُ الْقِسْمَة بالخسيس وَيكون لَهُ فِي النفيس ربعه فَفِيهِ خلاف والأرجح لَا إِجْبَار هُنَا لِأَن الشّركَة لَا ترْتَفع بِالْكُلِّيَّةِ وَإِن كَانَت

(1/560)


الْأَعْيَان أجناساً كدواب وَثيَاب وحنطة وشعير وَنَحْو ذَلِك أَو أنواعاً كجمل بخْتِي وعربي وضأن ومعز وثوبين كتَّان وقطن وَنَحْو ذَلِك فَطلب أَحدهمَا أَن يقسم أجناساً أَو أنواعاً لم يجْبر الآخر وَإِنَّمَا يقسم بِالتَّرَاضِي وَكَذَا لَو اخْتلطت الْأَنْوَاع وَتعذر التَّمْيِيز كتمر جيد ورديء فَلَا قسْمَة إِلَّا بِالتَّرَاضِي على مَا قطع بِهِ الْجُمْهُور وَهُوَ الْمَذْهَب
النَّوْع الثَّالِث قسْمَة الرَّد وَصورتهَا أَن يكون فِي أحد جَانِبي الأَرْض بِئْر أَو شجر أَو فِي الدَّار بَيت لَا يُمكن قسمته فتضبط قيمَة مَا اخْتصَّ ذَلِك الْجَانِب بِهِ وتقسم الأَرْض وَالدَّار على أَن يرد من يَأْخُذ ذَلِك الْجَانِب تِلْكَ الْقيمَة وَهَذِه لَا إِجْبَار عَلَيْهَا بِلَا خلاف لِأَنَّهُ دخل فِي ذَلِك مَا لَا شركَة فِيهِ وَكَذَا لَو كَانَ بَينهمَا عَبْدَانِ وَنَحْوهمَا بِالسَّوِيَّةِ وَقِيمَة أَحدهمَا ألف وَقِيمَة الآخر سِتّمائَة واقتسما على أَن يرد أحد النفيس مِائَتَيْنِ ليستويا هَذَا هُوَ الْمَذْهَب الْمَشْهُور نعم لَو تَرَاضيا بقسمة الرَّد جَازَ وَبِالْجُمْلَةِ فالراجح أَن قسْمَة الرَّد وَالتَّعْدِيل بيع وَقِسْمَة الْأَجْزَاء إِفْرَاز على الرَّاجِح وَيشْتَرط الرَّد فِي الرِّضَا بعد خُرُوج الْقرعَة وَكَذَا لَو تَرَاضيا بقسمة مَا لَا إِجْبَار فِيهِ اشْترط الرِّضَا بعد الْقرعَة على الرَّاجِح كقولهما رَضِينَا بِهَذِهِ الْقِسْمَة أَو بِمَا أخرجته الْقرعَة إِذا عرفت هَذَا فَإِن لم يكن فِي الْقِسْمَة تَقْوِيم وَقد أَمر الْحَاكِم بهَا جبرا جَازَ قَاسم وَاحِد لِأَن قسمته تلْزم بِنَفس قَوْله فَأشبه الْحَاكِم وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَب وَبِه قطع جمَاعَة وَإِن كَانَ فِي الْقِسْمَة تَقْوِيم لم يكف إِلَّا قاسمان لِأَن التَّقْوِيم لَا يثبت إِلَّا بِاثْنَيْنِ كَذَا حَكَاهُ الرَّافِعِيّ والبندنيجي وَالْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَالْبَغوِيّ وَصَاحب الْكَافِي وتبعهم النَّوَوِيّ قَالَ ابْن الرّفْعَة وَقَضيته أَن الْحَاكِم لَو فوض لوَاحِد سَماع الْبَيِّنَة بالتقويم وَأَن يحكم بِهِ لَا يَكْفِي وَقد قَالَ الإِمَام إِن ذَلِك سَائِغ وَعبارَة الرَّوْضَة إِن كَانَ تَقْوِيم اشْترط اثْنَان وَللْإِمَام أَن ينصب قاسماً يَجعله حَاكما فِي التَّقْوِيم ويعتمد فِي التَّقْوِيم على عَدْلَيْنِ وَقَالَ ابْن الرّفْعَة إِن تعلّقت بصبي أَو مَجْنُون اشْترط اثْنَان وَإِلَّا فَلَا وَقَضِيَّة كَلَام ابْن الرّفْعَة أَن ذَلِك يجْرِي فِيمَا لَا تَقْوِيم فِيهِ وَاعْلَم أَنه لَو فوض الشُّرَكَاء الْقِسْمَة إِلَى وَاحِد بِالتَّرَاضِي جَازَ بِلَا خلاف قَالَه الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ النَّوَوِيّ وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا دعِي أحد الشَّرِيكَيْنِ إِلَى قسْمَة مَالا ضَرَر فِيهِ لزم الآخر إجَابَته)
الْأَعْيَان الْمُشْتَركَة إِذا طلب أحد الشَّرِيكَيْنِ أَو الشُّرَكَاء قسمتهَا وَامْتنع الآخر ينظر إِن كَانَ لَا ضَرَر فِي الْقِسْمَة أجبر الْمُمْتَنع وَذَلِكَ كالثياب الغليظة الَّتِي لَا تنقص بقطعها والأراضي والدور والحبوب وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ لَا ضَرَر وَإِن كَانَ عَلَيْهَا ضَرَر كالجواهر وَالثيَاب النفيسة الَّتِي تنقص بقطعها أَو الرَّحَى أَو الْبِئْر أَو الْحمام الصَّغِير لم يجْبر الْمُمْتَنع لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا ضَرَر وَلَا ضرار

(1/561)


ولنهيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن إِضَاعَة المَال فَلَو طلبوها من الْحَاكِم وَكَانَت الْمَنْفَعَة تبطل بِالْكُلِّيَّةِ لم يجبهم ويمنعهم أَن يقتسموا بِأَنْفسِهِم لِأَنَّهُ سفه وَإِن نقصت كَيفَ يكسر لم يجبهم على الْأَصَح لَكِن لَا يمنعهُم أَن يقتسموا بِأَنْفسِهِم وَإِن كَانَ على أَحدهمَا ضَرَر دون الآخر مثل أَن يكون لأَحَدهمَا عشر الأَرْض وَالْآخر تِسْعَة أعشار وَإِذا قسمت أمكن صَاحب الاعشار الِانْتِفَاع 2 بهَا دون الآخر فَإِن طلب صَاحب الْعشْر لم يجْبر الآخر على الْأَصَح وَإِن طلبَهَا الآخر أجبر صَاحب الْعشْر على الْأَصَح لِأَن صَاحب الْعشْر متعنت فِي طلبه إِذْ لَا نفع لَهُ فِيمَا يملك بعد الْقِسْمَة بِخِلَاف الآخر فَإِنَّهُ ينْتَفع فيعذر قلت يَنْبَغِي أَن يُقَال إِن كَانَ صَاحب الْعشْر لَهُ ملك ملاصق إِلَى مَا يحصل لَهُ بِالْقِسْمَةِ أَو موَات وبالإضافة إِلَى ذَلِك ينْتَفع بِهِ فَيَنْبَغِي الاجبار لدفع سوء الْمُشَاركَة وَحُصُول الِانْتِفَاع وَالله أعلم قَالَ
بَاب الدعاوي والبينات فصل فِي الْبَيِّنَة وَإِذا كَانَ مَعَ الْمُدعى بَيِّنَة سَمعهَا الْحَاكِم وَحكم لَهُ بهَا فَإِن لم تكن بَيِّنَة فَالْقَوْل قَول الْمُدعى عَلَيْهِ
الأَصْل فِي الدعاوي قَوْله لَو يعْطى النَّاس بدعواهم لادعى نَاس دِمَاء رجال وَأَمْوَالهمْ وَلَكِن الْيَمين على الْمُدعى عَلَيْهِ وَفِي رِوَايَة الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي وَالْيَمِين على الْمُدعى عَلَيْهِ وَالْمعْنَى فِي جعل الْبَيِّنَة فِي جَانب الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا حجَّة قَوِيَّة بِانْتِفَاء التُّهْمَة لِأَنَّهَا لَا تجلب لنَفسهَا نفعا وَلَا تدفع عَنْهَا ضَرَرا وجانب الْمُدَّعِي ضَعِيف لِأَن مَا يَقُوله خلاف الظَّاهِر فكلف الْحجَّة القوية ليقوي بهَا ضعفه وَالْيَمِين حجَّة ضَعِيفَة لِأَن الْحَالِف مُتَّهم يجلب لنَفسِهِ النَّفْع وجانبه قوي إِذْ الأَصْل بَرَاءَة ذمَّته فاكتفوا مِنْهُ بِالْحجَّةِ الضعيفة وَالصَّحِيح أَن الْمُدَّعِي من يُخَالف قَوْله الظَّاهِر وَالْمُدَّعِي عَلَيْهِ من يُوَافق قَوْله الظَّاهِر فَإِذا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة قضى لَهُ بهَا وَلَو كَانَ بعد حلف الْمُدعى عَلَيْهِ لاطلاق الْخَبَر وقدمت الْبَيِّنَة على الْيَمين لِأَن الْيَمين من جِهَة الْخصم وَهُوَ قَول وَاحِد بِخِلَاف الْبَيِّنَة فِيهَا فَإِن لم تكن بَيِّنَة فَالْقَوْل قَول الْمُدعى عَلَيْهِ للْحَدِيث وَقد ورد قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْيَمِينِ على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ وَالله أعلم قَالَ

(1/562)


(وَإِن نكل عَن الْيَمين ردَّتْ على الْمُدَّعِي فَيحلف وَيسْتَحق)
إِذا كَانَ الْحق الْمُدعى بِهِ لشخص معِين يُمكن تَحْلِيفه وَنكل الْمُدعى عَلَيْهِ ردَّتْ الْيَمين على الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رد الْيَمين على طَالب الْحق وَقد ردَّتْ الْيَمين على زيد بن ثَابت فَحلف وعَلى عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فَلم يحلف وَهُوَ مستفيض عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَلم يظْهر مِنْهُم مُخَالف فَإِن لم يُمكن تَحْلِيفه الْآن كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُون فَالْمَشْهُور انْتِظَار الْبلُوغ والافاقة وَإِن كَانَ الْحق لغير معِين كالمسلمين كمن مَاتَ وَلَا وَارِث لَهُ إِذا وجد فِي دفتره مَا يدل عَلَيْهِ أَو ادّعى الْمُوصى إِلَيْهِ أَنه أوصى للْفُقَرَاء بِكَذَا فَإِنَّهُ وَالْحَالة هَذِه يحبس الْمُدعى عَلَيْهِ حَتَّى يحلف أَو يدْفع الْحق لِأَنَّهُ لَا يُمكن الْقَضَاء بِالنّكُولِ بِلَا يَمِين لِأَن الْحق يثبت بالاقرار أَو بِالْبَيِّنَةِ وَلَيْسَ النّكُول وَاحِدًا مِنْهُمَا وَلَا يُمكن رد الْيَمين لِأَن الْمُسْتَحق غير معِين وَلَا يُمكن تَركه لما فِيهِ من ترك الْحق فَتعين الْحَبْس لفصل الْخُصُومَة وَقيل يقْضى بِالنّكُولِ وَيُؤْخَذ مِنْهُ الْحق للضَّرُورَة وَفِي وَجه يخلى ومتولي الْمَسْجِد وَالْوَقْف هَل يحلف إِذا نكل الْمُدعى عَلَيْهِ فَفِيهِ أوجه الْمُرَجح لَا وَقيل نعم وَقيل إِن بَاشر السَّبَب بِنَفسِهِ حلف وَإِلَّا فَلَا فعلى الصَّحِيح هَل يقْضِي بِالنّكُولِ أَو يقف حَتَّى تقوم بَيِّنَة وَجْهَان وَالله أعلم قَالَ
(وَإِذا تداعيا فِي يَد أَحدهمَا فَالْقَوْل قَول صَاحب الْيَد وَإِن كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا تحَالفا وَيجْعَل بَينهمَا)
إِذا تداعيا اثْنَان عينا وَلَا بَيِّنَة فَإِن كَانَت فِي يَد أَحدهمَا فَالْقَوْل قَوْله مَعَ يَمِينه لِأَن الْأَشْعَث بن قيس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ بيني وَبَين رجل من الْيَهُود أَرض فجحدني فقدمته إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَلَك بَيِّنَة قلت لَا فَقَالَ لِلْيَهُودِيِّ احْلِف فَقلت يَا رَسُول الله إِذن يحلف وَيذْهب بِمَالي فَأنْزل الله تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانهمْ ثمنا قَلِيلا} الْآيَة وَإِن كَانَ الْمُدَّعِي فِي أَيْدِيهِمَا أَو لم يكن فِي يَد وَاحِد مِنْهُمَا حلفا وَجعل بَينهمَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قضى بِمثل ذَلِك وَالله أعلم
(فرع) تداعيا دَابَّة ولأحدهما عَلَيْهَا حمل فَالْقَوْل قَول صَاحب الْحمل مَعَ يَمِينه لانفراده فِي

(1/563)


الِانْتِفَاع بالدابة فَلَو تداعيا عبدا لأَحَدهمَا عَلَيْهِ ثوب لم يحكم لَهُ بِالْعَبدِ وَالْفرق أَن كَون الْحمل على الدَّابَّة انْتِفَاع بِهِ فيده عَلَيْهَا وَالْمَنْفَعَة فِي لبس الثَّوْب للْعَبد لَا لصَاحب الثَّوْب فَلَا يدله قَالَه الْبَغَوِيّ وَلَو تداعيا دَابَّة حَامِلا واتفقا على أَن الْحمل لأَحَدهمَا فَهِيَ لصَاحب الْحمل وَلَو تداعيا دَابَّة ثَلَاثَة وَاحِد سائقها وَالْآخر آخذ بزمامها وَالْآخر راكبها فَالْقَوْل قَول الرَّاكِب لوُجُود الِانْتِفَاع فِي حَقه هَذَا هُوَ الصَّحِيح بِخِلَاف مَا إِذا تنَازع اثْنَان جداراً وَعَلِيهِ جُذُوع لأَحَدهمَا فَإِنَّهُ بَينهمَا ينتفعان بِهِ وَإِن امتاز صَاحب الْجُذُوع بِزِيَادَة كَمَا لَو كَانَ فِي دَار ولأحدهما فِيهَا مَتَاع فَإِنَّهَا بَينهمَا وَلَو تنَازع اثْنَان دَابَّة فِي اصطبل أَحدهمَا ويدهما عَلَيْهَا فَهِيَ لَهما إِن كَانَ فِيهِ دَوَاب لغير مَالِكه وَإِلَّا فَهِيَ لصَاحب الاصطبل فَلَو تنَازعا عِمَامَة فِي يَد أَحدهمَا عشرهَا وَفِي يَد الآخر بَاقِيهَا حلفا وَجعلت بَينهمَا كَمَا لَو كَانَ أَحدهمَا فِي صحن الدَّار وَالْآخر فِي دهليزها أَو على سطحها وَلَو كَانَ غير محوط فَإِنَّهَا لَهما قَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَلَو تنَازعا شَيْئا فِي ظرف وَيَد أَحدهمَا على الشَّيْء وَيَد الآخر على الظّرْف اخْتصَّ كل مِنْهُمَا بِمَا فِي يَده لانفصال أَحدهمَا عَن الآخر بِخِلَاف مَا لَو تنَازعا عبدا وَيَد أَحدهمَا عَلَيْهِ وَيَد الآخر على ثَوْبه فَإِنَّهُ لمن يَده على العَبْد لَا لمن يَده على ثَوْبه بِخِلَاف الْعَكْس وَالله أعلم قَالَ
(وَمن حلف على فعل نَفسه حلف على قطع والبت وَمن حلف على فعل غَيره فَإِن كَانَ إِثْبَاتًا حلف على نفي الْعلم)
من حلف على فعل نَفسه حلف على الْقطع نفيا كَانَ الْمَحْلُوف عَلَيْهِ أَو إِثْبَاتًا لاحاطته بِعلم حَاله وَإِن حلف على فعل غَيره فَإِن كَانَ على نفي حلف على نفي الْعلم إِذا لم يكن عَبده أَو بهيمته فَيَقُول وَالله مَا علمت أَنه فعل كَذَا لِأَنَّهُ لَا طَرِيق لَهُ إِلَى الْقطع بنفيه فَلم يُكَلف بِهِ كَمَا لَا يُكَلف الشَّاهِد بِالْقطعِ فِيمَا لَا يُمكن فِيهِ الْقطع فَلَو حلف على الْقطع اعْتد بِهِ قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب وَغَيره وَإِن كَانَ إِثْبَاتًا حلف على الْبَتّ لامكان الاحاطة قَالَ الرَّافِعِيّ هُنَا وكل مَا يحلف فِيهِ على الْبَتّ لَا يشْتَرط فِيهِ الْيَقِين بل يَكْفِي ظن مُؤَكد ينشأ من خطه أَو خطّ أَبِيه أَو نُكُول خَصمه وَقَالَ ابْن الصّباغ إِذا وجد بِخَط أَبِيه أَو أخبرهُ بِهِ عدل جَازَ أَن يحلف عَلَيْهِ إِن غلب على ظَنّه صدق ذَلِك وَإِن وجده بِخَط أَبِيه أَو أخبرهُ بِهِ عدل جَازَ أَن يحلف عَلَيْهِ إِن غلب على ظَنّه صدق ذَلِك وَإِن وجده بِخَط نَفسه لم يُطَالب بِهِ وَلم يحلف عَلَيْهِ حَتَّى يتيقنه لِأَنَّهُ فِي خطه يُمكنهُ التَّذَكُّر بِخِلَاف خطّ أَبِيه وَاقْتصر الرَّافِعِيّ على حكايته عَنهُ عَن الْأَصْحَاب فِي كتاب الْقَضَاء قلت وَكَلَام الْمَاوَرْدِيّ يُوَافق الْمَذْكُور هُنَا وَلَفظه إِذا رَآهُ فِي جَانب يغلب على ظَنّه صِحَّته أَو أخبرهُ بِهِ عدل فَيجوز أَن يدعى بِهِ وَهل لَهُ أَن يحلف إِذا ردَّتْ الْيَمين عَلَيْهِ أَو شهد لَهُ بِهِ شَاهد فِيهِ وَجْهَان أصَحهمَا نعم وَالله أعلم وَقَول الشَّيْخ إِن كَانَ نفيا حلف على نفي الْعلم كَذَا ذكره الرَّافِعِيّ وَالنَّوَوِيّ وَغَيرهمَا وَيَنْبَغِي أَن يكون ذَلِك فِي النَّفْي الْمُطلق أما نفي الْفِعْل الْمُقَيد بِزَمن فَيكون على الْبَتّ

(1/564)


الْبَتّ لامكان الاحاطة وَيشْهد لَهُ قَوْلهم إِن الشَّهَادَة على النَّفْي لَا تجوز إِلَّا أَن يكون محصوراً فَتجوز وَالله أعلم
(فرع) من لَهُ عِنْد شخص حق وَلَيْسَ لَهُ بَيِّنَة وَهُوَ مُنكر فَلهُ أَن يَأْخُذ جنس حَقه من مَاله إِن قدر وَلَا يَأْخُذ غير الْجِنْس مَعَ قدرته على الْجِنْس وَفِيه وَجه فَإِن لم يجد إِلَّا غير الْجِنْس جَازَ لَهُ الْأَخْذ على الْمَذْهَب الَّذِي قطع بِهِ جُمْهُور الْأَصْحَاب وَلَو أمكن تَحْصِيل الْحق بِالْقَاضِي بِأَن كَانَ من عَلَيْهِ الْحق مقرا مماطلاً أَو مُنْكرا وَعَلِيهِ الْبَيِّنَة أَو كَانَ يَرْجُو إقرارهه لَو حضر عِنْد القَاضِي وَعرض عَلَيْهِ الْيَمين فَهَل يسْتَقلّ بِالْأَخْذِ أم يجب الرّفْع إِلَى القَاضِي فِيهِ خلاف الرَّاجِح جَوَاز الْأَخْذ وَيشْهد لَهُ قَضِيَّة هِنْد وَلِأَن فِي المرافعة مشقة وَمؤنَة وتضييع زمَان ثمَّ مَتى جَازَ لَهُ الْأَخْذ فَلم يصل إِلَى حَقه إِلَّا بِكَسْر الْبَاب ونقب الْجِدَار جَازَ لَهُ ذَلِك وَلَا يضمن مَا أتلف كمن لم يقدر على دفع الصَّائِل إِلَّا باتلاف مَاله فأتلفه لَا يضمن هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَفِي مقَالَة شَاذَّة يضمن وَالله أعلم قَالَ
بَاب الشَّهَادَة فصل فِي الشَّهَادَة وَلَا تقبل الشَّهَادَة إِلَّا مِمَّن اجْتمعت فِيهِ خَمْسَة أَوْصَاف الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة وَالْعَدَالَة
الشَّهَادَة الاخبار بِمَا شوهد
وَالْأَصْل فِيهَا الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة قَالَ الله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وَهُوَ أَمر إرشاد وَسُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الشَّهَادَة قَالَ ترى الشَّمْس قَالَ نعم فَقَالَ على مثلهَا فاشهد أَو دع والآيات وَالْأَخْبَار فِيهَا كَثِيرَة ثمَّ للشَّاهِد صِفَات مُعْتَبرَة فِي قبُول شَهَادَته مِنْهَا الاسلام فَلَا تقبل شَهَادَة كَافِر ذِمِّيا كَانَ أَو حَرْبِيّا سَواد شهد على مُسلم أَو كَافِر وَاحْتج لَهُ الرَّافِعِيّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقبل شَهَادَة أهل دين على غير دين أهلهم إِلَّا الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم عدُول على أنفسهم وعَلى غَيرهم ويحتج بذلك بِأَن الشَّهَادَة نُفُوذ قَول على الْغَيْر وَذَلِكَ ولَايَة وَالْكَافِر لَيْسَ من أهل الولايات وَمِنْهَا الْبلُوغ فَلَا تقبل شَهَادَة الصَّبِي وَإِن كَانَ مراهقاً
وَمِنْهَا الْعقل فَلَا تقبل شَهَادَة الْمَجْنُون لِأَن الصَّبِي وَالْمَجْنُون إِذا لم ينفذ قَوْلهمَا فِي حق

(1/565)


أَنفسهمَا إِذا أقرا فَفِي حق غَيرهمَا أولى ويحتج أَيْضا بقوله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} فالصبي لَيْسَ من الرِّجَال وَهُوَ الْمَجْنُون مِمَّن لَا يرضون للشَّهَادَة
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّة فَلَا تقبل شَهَادَة الرَّقِيق قِنَا كَانَ أَو مُدبرا أَو مكَاتبا أَو أم ولد لقَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَالْخطاب للأحرار لأَنهم الْمَشْهُود فِي حَقهم وَأَيْضًا فَقَوله مِنْكُمْ لَيْسَ لاخراج الْكَافِر لِأَنَّهُ خرج بقوله ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فَتعين أَنه لإِخْرَاج العَبْد وَلِأَن الشَّهَادَة صفة كَمَال وتفضيل بِدَلِيل نقص شَهَادَة النِّسَاء فَوَجَبَ أَن لَا يدْخل فِيهِ العَبْد وَلِأَنَّهَا نُفُوذ قَول على الْغَيْر فَهِيَ ولَايَة وَالْعَبْد لَيْسَ أَهلا للولايات
وَمِنْهَا الْعَدَالَة لقَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَلقَوْله تَعَالَى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لَا تقبل شَهَادَة خائن وَلَا خَائِنَة وَلَا زَان وَلَا زَانِيَة ثمَّ معرفَة الْعدْل تحْتَاج إِلَى معرفَة أُمُور بهَا يتَمَيَّز الْعدْل من غَيره فَلهَذَا ذكر الشَّيْخ لَهَا شُرُوطًا قَالَ
(وللعدالة خمس شَرَائِط أَن يكون مجتنباً للكبائر غير مصر على الصَّغَائِر)
لَا تقبل الشَّهَادَة من صَاحب كَبِيرَة وَلَا من مدمن على صَغِيرَة لِأَن المتصف بذلك فَاسق وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه فَاسق لِأَن الْفسق لُغَة الْخُرُوج وَلِهَذَا يُقَال فسقت الرّطبَة إِذا خرجت من قشرها وَالْفِسْق فِي الشَّرْع الْميل عَن الطَّرِيق وَهُوَ كَذَلِك وَالْمرَاد بإدمان الصَّغِيرَة أَن تكون الْغَالِب من أَفعاله لَا أَن يَفْعَلهَا أَحْيَانًا ثمَّ يقْلع عَنْهَا وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ إِذا كَانَ الْأَغْلَب الطَّاعَة والمروءة قبلت الشَّهَادَة وَإِن كَانَ الْأَغْلَب الْمعْصِيَة وَخلاف الْمُرُوءَة ردَّتْ شَهَادَته وَهل المُرَاد بالادمان السالب للعدالة المداومة على نوع وَاحِد من الصَّغَائِر أم الاكثار مِنْهَا سَوَاء كَانَت من نوع أَو أَنْوَاع قَالَ الرَّافِعِيّ مِنْهُم من يفهم كَلَامه الأول وَمِنْهُم من يفهم كَلَامه الثَّانِي وَيُوَافِقهُ قَول الْجُمْهُور من غلبت مَعَاصيه طَاعَته ردَّتْ شَهَادَته وَلَفظ الْمُخْتَصر قريب مِنْهُ قلت وَمُقْتَضى تَرْجِيحه الثَّانِي أَن المداومة على الصَّغِيرَة لَا تسلب الْعَدَالَة وَلَيْسَ كَذَلِك فقد صرح هُوَ نَفسه فِي غير مَوضِع أَن المداومة على الصَّغِيرَة تصير كَبِيرَة فاعرفه وَالله أعلم

(1/566)


وللأصحاب اخْتِلَاف فِي حد الْكَبِيرَة وَلَيْسَ هَذَا الْكتاب من متعلقات الْبسط فلنذكر حَدَّيْنِ مِمَّا ذكره الرَّافِعِيّ أَحدهمَا ذكره الْبَغَوِيّ فَقَالَ الْكَبِيرَة مَا توجب الْحَد وَقَالَ غَيره مَا يلْحق صَاحبهَا وَعِيد شَدِيد بِنَصّ كتاب أَو سنة قَالَ الرَّافِعِيّ وهم إِلَى تَرْجِيح الأول أميل يَعْنِي إِلَى مَا قَالَه الْبَغَوِيّ لَكِن الثَّانِي أوفق لما ذَكرُوهُ عِنْد تَفْصِيل الْكَبَائِر قلت وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ الْكَبِيرَة مَا أوجبت الْحَد أَو توجه إِلَى الْفَاعِل الْوَعيد وَالصَّغِيرَة مَا قل فِيهَا الاثم وَالله أعلم قَالَ
(وَأَن يكون سليم السريرة مَأْمُونا عِنْد الْغَضَب محافظاً على مُرُوءَة مثله)
قَوْله سليم السريرة احْتَرز بِهِ عَن سيئها من أهل الْبدع والأهواء
وَلِلنَّاسِ خلاف منتشر فِي تكفيرهم وَإِن كَانُوا من أهل الْقبْلَة وَلَا شكّ أَن مِنْهُم من هُوَ كَافِر قطعا وَمِنْهُم من لَيْسَ بِكَافِر قطعا وَمِنْهُم من فِيهِ خلاف وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع بَسطه وَالْكَلَام فِيمَن تقبل شَهَادَته مِنْهُم وَمن لَا تقبل قَالَ النَّوَوِيّ فِي أصل الرَّوْضَة من كفر من أهل الْبدع لَا تقبل شَهَادَته وَأما من لم يكفر من أهل الْبدع والأهواء فقد نَص الشَّافِعِي فِي الْأُم والمختصر على قبُول شَهَادَتهم إِلَّا الخطابية وهم قوم يرَوْنَ جَوَاز شَهَادَة أحدهم لصَاحبه إِذا سَمعه يَقُول لي عِنْد فلَان كَذَا فيصدقه بِيَمِين أَو غَيرهَا ثمَّ يشْهد لَهُ اعْتِمَادًا على أَنه لَا يكذب هَذَا نَصه
وَالْأَصْحَاب فِيهِ على ثَلَاث فرق فرقة جرت على ظَاهر نَصه وَقبلت شَهَادَة جَمِيعهم وَهَذِه طَريقَة الْجُمْهُور وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّهُم مصيبون فِي زعمهم وَلم يظْهر مِنْهُم مَا يسْقط الثِّقَة بقوله حَتَّى قبل هَؤُلَاءِ شَهَادَة من سبّ الصَّحَابَة وَالسَّلَف رَضِي الله عَنْهُم لِأَنَّهُ يقدم عَلَيْهِ عَن اعْتِقَاد لَا عَن عَدَاوَة وعناد قَالُوا لَو شهد خطابي وَذكر فِي شَهَادَته مَا يقطع احْتِمَال الِاعْتِمَاد على قَول الْمُدَّعِي بِأَن قَالَ سَمِعت فلَانا يقر بِكَذَا لفُلَان أَو رَأْيه أقربه قبلت شَهَادَته وَفرْقَة مِنْهُم الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَمن تبعه حملُوا النَّص على الْمُخَالفين فِي الْفُرُوع وردوا شَهَادَة أهل الْأَهْوَاء كلهم وَقَالُوا هم بِالرَّدِّ أولى من الفسقة وَفرْقَة ثَالِثَة توسطوا فَردُّوا شَهَادَة بَعضهم دون بعض فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق من أنكر إِمَامَة أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ ردَّتْ شَهَادَته لمُخَالفَة الاجماع ورد الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد شَهَادَة الَّذين يسبون الصَّحَابَة ويقذفون أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَعَن الصَّحَابَة أَجْمَعِينَ فَإِنَّهَا مُحصنَة كَمَا نطق بِهِ الْقُرْآن الْعَظِيم وعَلى هَذَا جرى الامام وَالْغَزالِيّ وَالْبَغوِيّ وَاسْتَحْسنهُ الرَّافِعِيّ وَفِي الرقم أَن شَهَادَة الْخَوَارِج مَرْدُودَة لتكفيرهم أهل الْقبْلَة ثمَّ قَالَ النَّوَوِيّ قلت الصَّوَاب مقَالَة الْفرْقَة الأولى وَهُوَ قبُول شَهَادَة الْجَمِيع فقد قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الْأُم ذهب النَّاس فِي تَأْوِيل الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث إِلَى أُمُور تباينوا فِيهَا تبايناً شَدِيدا واستحل بَعضهم من بعض مَا تطول حكايته وَكَانَ ذَلِك متقادماً مِنْهُ مَا كَانَ فِي عهد السّلف وَإِلَى يَوْمنَا هَذَا وَلم نعلم أحدا من سلف الْأَئِمَّة يقْتَدى بِهِ وَلَا من بعدهمْ من التَّابِعين رد شَهَادَة أحد بتأول وَإِن خطأه وضلله وَرَآهُ اسْتحلَّ مَا حرم الله تَعَالَى

(1/567)


عَلَيْهِ فَلَا ترد شَهَادَة أحد بِشَيْء من التَّأْوِيل إِذا كَانَ لَهُ وَجه يحْتَملهُ وَإِن بلغ فِيهِ استحلال المَال وَالدَّم هَذَا نَصه بِحُرُوفِهِ وَفِيه التَّصْرِيح بِمَا ذَكرْنَاهُ من تَأْوِيل تَكْفِير الْقَائِل بِخلق الْقُرْآن نعم قَاذف عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَافِر فَلَا تقبل شَهَادَته انْتهى كَلَام النَّوَوِيّ قلت كَلَام النَّوَوِيّ صَرِيح فِي قبُول شَهَادَة من يسْتَحل فِي تَأْوِيله الدَّم وَالْمَال وَقد بَالغ فِي ذَلِك فَقَالَ الصَّوَاب كَذَا وَلَا شكّ أَن الْبُغَاة نوع من الْمُخَالفين بِتَأْوِيل وَقد ذكر الرَّافِعِيّ هُنَا أَن الْبَاغِي إِن كَانَ يسْتَحل دِمَاء أهل الْعدْل وَأَمْوَالهمْ لَا ينفذ حكم حاكمهم وَلَا تقبل شَهَادَة شاهدهم وَنَقله عَن المعتبرين وَتَبعهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك وَعلل بِالْفِسْقِ بل جزما بذلك فِي الْمُحَرر ولمنهاج وَلَفظه وَتقبل شَهَادَة الْبُغَاة وَقَضَاء قاضيهم فِيمَا يقبل قَضَاء قاضينا إِلَّا أَن يسْتَحل دماءنا وَقد ذكر النَّوَوِيّ قبل هَذَا مَا يَقْتَضِي قبُول شَهَادَة المجسمة لكنه جزم فِي شرح الْمُهَذّب بتكفيرهم ذكره فِي صفة الْأَئِمَّة فلينتبه لَهُ والخطابية هم أَصْحَاب ابْن خطاب الْكُوفِي وهم يَعْتَقِدُونَ أَن الْكَذِب كفر وَإِن من كَانَ على مَذْهَبهم لَا يكذب فيصدقونه على مَا يَقُوله وَيشْهدُونَ لَهُ بِمُجَرَّد إخْبَاره وَهَذِه شَهَادَة زور لِأَنَّهَا شَهَادَة على غير مشهود عَلَيْهِ وَالله أعلم
وَقَول الشَّيْخ مَأْمُونا عِنْد الْغَضَب احْتَرز بِهِ عَمَّن لَا يُؤمن عِنْد غضب ككثير فِي زَمَاننَا هَذَا فَلَا تقبل شَهَادَته لِأَنَّهُ غَيره مَأْمُون فَسَقَطت الثِّقَة بِهِ وَقَول الشَّيْخ محافظاً على مُرُوءَة مثله احْتَرز بِهِ عَمَّن لَيْسَ كَذَلِك فَلَا تقبل شَهَادَة القمام وَهُوَ الَّذِي يجمع القمامة أَي الكناسة ويحملها وَكَذَا الْقيم فِي الْحمام وَمن يلْعَب بالحمام يَعْنِي يطيرها لينْظر تقلبها فِي الجو وَكَذَا الْمُغنِي سَوَاء أَتَى النَّاس أَو أَتَوْهُ وَكَذَا الرقاص كهذه الصُّوفِيَّة الَّذين يسعون إِلَى ولائم الظلمَة والمكسة ويظهرون التواجد عِنْد رقصهم وتحريك رؤوسهم وتلويح لحاهم الخسيسة صنع المجانين وَإِذا قرئَ الْقُرْآن لَا يَسْتَمِعُون لَهُ وَلَا ينصتون وَإِذا نعق مزمار الشَّيْطَان صَاح بَعضهم على بعض بالوسواس قَاتلهم الله مَا أفسقهم وأزهدهم فِي كتاب الله وأرغبهم فِي مزمار الشَّيْطَان وَقرن الشَّيْطَان عَافَانَا الله من ذَلِك
وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة من يَأْكُل فِي الْأَسْوَاق وَمثله لَا يعْتَاد بِخِلَاف من يَأْكُل قَلِيلا على بَاب دكانه لجوع كَمَا قَالَه الْبَنْدَنِيجِيّ أَو كَانَ مِمَّن عَادَتهم الْغذَاء فِي الْأَسْوَاق كالصباغين والسماسرة وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة من يمد رجله عِنْد النَّاس بِلَا مرض كَمَا قَالَه الْبَنْدَنِيجِيّ وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة من يلْعَب بالشطرنج على الطَّرِيق وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة من يكْشف عَن بدنه مَالا يعْتَاد وَإِن لم يكن عَورَة وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة من يكثر من الحكايات المضحكة أَو يذكر أَهله أَو زَوجته بالسخف كَمَا ذكره ابْن الصّباغ وَنَحْو ذَلِك ومدار ذَلِك كُله على حفظ الْمُرُوءَة لِأَن الأَصْل فِي ذَلِك أَن حفظ الْمُرُوءَة من الْحيَاء ووفور الْعقل وَطرح ذَلِك إِمَّا لخبل بِالْعقلِ أَو قلَّة حَيَاء أَو قلَّة مبالاته بِنَفسِهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يوثق بقوله فِي حق غَيره وَهُوَ أولى لِأَن من لَا يحافظ على مَا يشينه فِي نَفسه فَغَيره

(1/568)


أولى فَإِن من لَا حَيَاة فِيهِ يصنع مَا يَشَاء وَقد اخْتلفت عِبَارَات الْأَصْحَاب فِي حد الْمُرُوءَة مَعَ تقاربها فِي الْمَعْنى فَقيل أَن يصون نَفسه عَن الأدناس وَمَا يشينها بَين النَّاس وَقيل أَن يسير كسير أشكاله فِي زَمَانه ومكانه وَقيل غير ذَلِك وَالضَّابِط الْعرف وللماوردي وَغَيره من الْأَصْحَاب فِي ذَلِك أُمُور مهمة مستكثرة لَا يحتملها هَذَا الْمُخْتَصر وَالله أعلم قَالَ
بَاب أَقسَام الْمَشْهُود بِهِ فصل والحقوق ضَرْبَان حق الله وَحقّ الْآدَمِيّ فَأَما حُقُوق الْآدَمِيّين فعلى ثَلَاثَة أضْرب ضرب لَا يقبل فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ ذكران أَو رجل وَامْرَأَتَانِ أَو شَاهد وَيَمِين الْمُدَّعِي وَهُوَ مَا كَانَ الْقَصْد مِنْهُ المَال
الْمَقْصُود من هَذِه الْجُمْلَة بَيَان عدد الشُّهُود وصفتهم من الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة وَلَا شكّ أَن الْحُقُوق على ضَرْبَيْنِ حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَحقّ الْآدَمِيّين أما حق الله فَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله وَأما حُقُوق الْآدَمِيّين فَهِيَ على ثَلَاثَة أضْرب كَمَا ذكره الشَّيْخ الأول مَا هُوَ مَال أَو كَانَ الْمَقْصُود مِنْهُ المَال أما المَال كالأعيان والديون وَأما مَا كَانَ الْمَقْصُود من المَال وَذَلِكَ كَالْبيع وَالْإِجَارَة وَالرَّهْن والاقرار وَالْغَصْب وَقتل الْخَطَأ وَنَحْو ذَلِك فَيقبل فِيهِ رجلَانِ أَو رجل وَامْرَأَتَانِ لقَوْله تَعَالَى {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فَكَانَ على عُمُوم إِلَّا مَا خصّه دَلِيل قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَهَذَا بِالْإِجْمَاع
ثمَّ لَا فرق بَين أَن تتقدم شَهَادَة الرجل على الْمَرْأَتَيْنِ أَو تتأخر وَسَوَاء قدر على رجلَيْنِ أَو لم يقدر وكما يقبل فِي هَذَا الضَّرْب رجل وَامْرَأَتَانِ كَذَلِك يقبل فِيهِ شَاهد وَيَمِين الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِشَاهِد وَيَمِين ورد من رِوَايَة ابْن عَبَّاس وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ وَرَوَاهُ من الصَّحَابَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأَبُو هُرَيْرَة وَجَابِر وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَأبي بن كَعْب وَزيد بن ثَابت وَسعد بن عبَادَة رَضِي الله عَنْهُم
وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين أَن يتَمَكَّن من الْبَيِّنَة الْكَامِلَة أم لَا لِأَنَّهَا حجَّة تَامَّة وَفِيه وَجه نعم يشْتَرط أَن يتَعَرَّض فِي يَمِينه لصدق شَاهده فَيَقُول وَالله إِن شَاهِدي لصَادِق فِيمَا شهد بِهِ وَإِنِّي لمستحق لكذا هَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل لَا يشْتَرط ذَلِك وَيَكْفِي الِاقْتِصَار على الِاسْتِحْقَاق لِأَن

(1/569)


الْيَمين بِمَنْزِلَة الشَّاهِد الآخر وَوجه مُقَابلَة أَن الْيَمين مَعَ الشَّاهِد حجتان مختلفتا الْجِنْس فَوَجَبَ ربط إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى وَيجب تَأْخِير الْيَمين على الشَّاهِد وتعديله على الصَّحِيح الَّذِي قطع بِهِ الْجُمْهُور وَالله أعلم
(فرع) هَل يقبل فِي الْوَقْف مَا يقبل فِي المَال من رجل وَامْرَأَتَيْنِ أَو رجل وَيَمِين فِيهِ خلاف الصَّحِيح أَنه يقبل وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ وَإِن قُلْنَا ينْتَقل إِلَى الله تَعَالَى لِأَن الْمَقْصُود من الْوَقْف تمْلِيك غلَّة الْمَوْقُوف للْمَوْقُوف عَلَيْهِ وَهِي مَنْفَعَة مَالِيَّة فَأشبه الْإِجَارَة وَلَو شهد بِالسَّرقَةِ رجل وَامْرَأَتَانِ ثَبت المَال دون الْقطع على الصَّحِيح وَكَذَا لَو شهد رجل وَامْرَأَتَانِ على صدَاق فِي نِكَاح فَإِنَّهُ يثبت الصَدَاق لِأَنَّهُ الْمَقْصُود وَالله أعلم قَالَ
(وَضرب يقبل فِيهِ شَاهِدَانِ ذكران وَهُوَ النّسَب)
هَذَا هُوَ الضَّرْب الثَّانِي وَهُوَ مَا لَيْسَ بِمَال وَلَا يقْصد مِنْهُ المَال وَهُوَ مِمَّا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال كالنسب وَالنِّكَاح وَالطَّلَاق وَالْعتاق وَالْوَلَاء وَالْوكَالَة وَالْوَصِيَّة وَقتل الْعمد الَّذِي يقْصد بِهِ الْقصاص وَسَائِر الْحُدُود غير حد الزِّنَا وَكَذَا الْإِسْلَام وَالرِّدَّة أعاذنا الله مِنْهَا
وَالْبُلُوغ وانقضاء الْعدة وَالْعَفو عَن الْقصاص وَالْإِيلَاء وَالظِّهَار وَالْمَوْت وَالْخلْع من جَانب الْمَرْأَة وَالتَّدْبِير وَكَذَا الْكِتَابَة فِي الْأَصَح فَلَا يقبل فِي ذَلِك إِلَّا رجلَانِ
والأاصل فِي بعض ذَلِك قَوْله تَعَالَى {حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا نِكَاح إِلَّا بولِي مرشد وشاهدي عدل وَقَالَ ابْن شهَاب مَضَت السّنة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لَا تجوز شَهَادَة النِّسَاء فِي الْحُدُود وَلَا فِي النِّكَاح وَلَا فِي الطَّلَاق وَفِيه إرْسَال وَالله أعلم
(فرع) ادّعى شخص على آخر أنغصبه مَالا فَقَالَ إِن كنت غصبته فامرأتي طَالِق فَأَقَامَ الْمُدَّعِي على الْغَاصِب شَاهدا وَحلف مَعَه أَو رجلا وَامْرَأَتَيْنِ ثَبت الْغَصْب وترتب عَلَيْهِ الضَّمَان وَلَا يَقع الطَّلَاق كَمَا لَو قَالَ إِن ولدت فَأَنت طَالِق فأقامت أَربع نسْوَة على الْولادَة ثَبت النّسَب والولادة

(1/570)


وَلَا تطلق وَالله أعلم قَالَ
(وَضرب لَا يقبل فِيهِ إِلَّا أَربع نسْوَة وَهُوَ مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال)
هَذَا هُوَ الضَّرْب الثَّالِث وَهُوَ مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال وتختص النِّسَاء بمعرفته غَالِبا فَيقبل فِيهِ شَهَادَتهنَّ منفردات وَذَلِكَ كالولادة والبكارة والثيوبة والرتق والقرن وَالْحيض وَالرّضَاع وَكَذَا عُيُوب الْمَرْأَة من برص وَغَيره تَحت الْإِزَار حرَّة كَانَت أَو أمة وَكَذَا استهلال الْوَلَد على الْمَشْهُور فَكل هَذَا الضَّرْب لَا يقبل فِيهِ إِلَّا أَربع نسْوَة وَاحْتج لشهادتين منفردات بقول الزُّهْرِيّ مَضَت السّنة بِأَن تجوز شَهَادَة النِّسَاء فِي كل شَيْء لَا يَلِيهِ غَيْرهنَّ رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَنهُ بِمَعْنَاهُ ولأ الرِّجَال لَا يرَوْنَ ذَلِك غَالِبا فَلَو لم تقبل مِنْهُنَّ لتعذر إثْبَاته وَاعْتِبَار الْأَرْبَع لِأَن الله تَعَالَى أَقَامَ كل امْرَأتَيْنِ حَيْثُ قبلت شَهَادَة النِّسَاء مقَام رجل وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أما نُقْصَان عقلهن فَإِن شَهَادَة الْمَرْأَتَيْنِ بِشَهَادَة رجل وَاحِد وَإِذا جَازَ شَهَادَة النِّسَاء الخلص جَازَ شَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ أَو رجلَيْنِ وَهُوَ أولى بِالْقبُولِ وَالله أعلم
(فرع) مَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء الخلص الْأَصَح أَنه لَا يثبت بِشَاهِد وَيَمِين وَلَا بامرأتين وَيَمِين وَقيل يثبت فِي كل ذَلِك بامرأتين وَيَمِين وكل مَا يثبت بِشَهَادَة النِّسَاء المنفردات بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّهَادَة على الْفِعْل لَا تقبل فِيهِ شَهَادَتهنَّ على الْإِقْرَار صرح بِهِ الْمُتَوَلِي وَغَيره فِي الْإِقْرَار بِالرّضَاعِ وَالله أعلم قَالَ
(وَأما حُقُوق الله تَعَالَى فَلَا تقبل فِيهَا النِّسَاء وَهِي على ثَلَاثَة أضْرب ضرب لَا يقبل فِيهِ أقل من أَرْبَعَة وَهُوَ الزِّنَا)
لَا يقبل فِي حد الزِّنَا واللواط وإتيان الْبَهَائِم إِلَّا أَرْبَعَة من الرِّجَال وَحجَّة ذَلِك فِي الزِّنَا واللواط قَوْله تَعَالَى {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وَقَوله تَعَالَى {لَوْلَا جاؤوا عَلَيْهِ بأَرْبعَة شُهَدَاء} وَورد أَن سعد بن عبَادَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ لرَسُول الله أَو أَن السُّلْطَان يحلل أَو شُهَدَاء قَالَ نعم وَلِأَن الزِّنَا واللواط من أعظم الْفَوَاحِش فغلظ فِي الشَّهَادَة عَلَيْهِمَا ليَكُون أستر للمحارم

(1/571)


وَأما إتْيَان الْبَهَائِم فَإِنَّهُ إتْيَان فرج فِي فرج يُوجب الْغسْل فَأشبه الْآدَمِيّ وَقيل إِن قُلْنَا الْوَاجِب فِي إتْيَان الْبَهَائِم التَّعْزِير وَهُوَ الرَّاجِح قيل فِيهِ شَاهِدَانِ لِخُرُوجِهِ عَن حكم الزِّنَا وَهَذَا ضَعِيف جدا لِأَن نُقْصَان الْعقُوبَة لَا يدل على نُقْصَان الشَّهَادَة بِدَلِيل زنا الْأمة فَلَو شهد ثَلَاثَة بِالزِّنَا فَهَل يجب الْحَد على الشُّهُود فِيهِ خلاف الرَّاجِح أَنهم يحدون لعدم تَمام الْحجَّة ولأنا لَو لم نوجب الْحَد لاتخذ النَّاس الشَّهَادَة ذَرِيعَة إِلَى الْقَذْف فتستباح الْأَعْرَاض بِصُورَة الشَّهَادَة وَالله أعلم قَالَ
(وَضرب يقبل فِيهِ شَاهِدَانِ وَهُوَ غير الزِّنَا من الْحُدُود)
وَهَذَا هُوَ الضَّرْب الثَّانِي من حُقُوق الله تَعَالَى وَلَا مدْخل للنِّسَاء فِيهِ وَلَا يقبل فِيهِ إِلَّا رجلَانِ كَحَد الشّرْب وَقطع الطَّرِيق وَالْقَتْل بِالرّدَّةِ وَنَحْو ذَلِك لقَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وَقِيَاسًا على النِّكَاح وَالْوَصِيَّة وَالله أعلم قَالَ
(وَضرب يقبل فِيهِ شَاهد وَاحِد وَهُوَ هِلَال رَمَضَان)
لَا يقبل الْوَاحِد إِلَّا فِي هِلَال رَمَضَان على الرَّاجِح وَاحْتج لَهُ بقول ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا ترَاءى النَّاس الْهلَال فَأخْبرت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنِّي رَأَيْته فصَام وَأمر النَّاس بصيامه وَيسْتَثْنى مَعَ مَسْأَلَة الْهلَال مَسْأَلَة أُخْرَى ذكرهَا الْمُتَوَلِي ونقلها عَنهُ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب فَقَالَ فرع ذكر الْمُتَوَلِي أَنه لَو مَاتَ كَافِر فَشهد وَاحِد أَن أسلم فَلَا يحكم بِأَنَّهُ مُسلم فِي الْإِرْث فيرثه الْكَافِر لَا الْمُسلم وَهل يحكم بِهِ فِي جَوَاز الصَّلَاة عَلَيْهِ قَولَانِ كَمَا فِي ثُبُوت هِلَال رَمَضَان وَاسْتثنى الشَّيْخ تَاج الدّين بن الفركاح مَسْأَلَة نقلهَا عَن الْمَاوَرْدِيّ وهم فِيهَا فَليعلم ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تقبل شَهَادَة الْأَعْمَى إِلَّا فِي خَمْسَة مَوَاضِع النّسَب وَالْمَوْت وَالْملك الْمُطلق والترجمة وعَلى المضبوط وَمَا تحمله قبل الْعَمى)
اعْلَم أَن الْمَشْهُود بِهِ قد يكون الْعلم بِهِ من جِهَة حاسة الْبَصَر وَقد يكون من جِهَة حاسة السّمع فَبِأَي الْجِهَتَيْنِ حصل الْعلم جَازَ الِاعْتِمَاد فِيهِ على قبُول الشَّهَادَة فمما يُسْتَفَاد الْعلم بِهِ بحاسة السّمع مَا طَرِيقه الاستفاضة وَذَلِكَ كالنسب وَالْمَوْت وَالْملك الْمُطلق لِأَن الشَّهَادَة وَالْحَالة هَذِه مُعْتَمدَة على السَّمَاء فالأعمى والبصير فِي ذَلِك على السوَاء هَذَا هُوَ الصَّحِيح الَّذِي قَالَه الْجُمْهُور وَقيل لَا تقبل شَهَادَة الْأَعْمَى فِي ذَلِك لِأَن المخبرين لَا بُد من الْعلم بِعَدَالَتِهِمْ

(1/572)


وَالْأَعْمَى لَا يشاهدهم فَلَا يعرف عدالتهم قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَهَذَا يَعْنِي الْقبُول مَحْمُول على مَا إِذا سمع ذَلِك فِي دفعات وتكرر من قوم مُخْتَلفين فِي أزمان حَتَّى يتيقنه وَيصير كالتواتر عِنْده وَلَا يجوز التَّحَمُّل إِلَّا على هَذَا الْوَجْه وكما تجوز الشَّهَادَة فِي هَذِه الْمَوَاضِع كَذَلِك تجوز شَهَادَته فِي التَّرْجَمَة على الْأَصَح وَكَذَا تجوز شَهَادَة الْأَعْمَى على المضبوط وَصُورَة الْمَسْأَلَة أَن يقر شخص فِي أُذُنه بِشَيْء فيمسكه إِمَّا بِأَن يضع يَده على رَأسه أَو بِأَن يمسك بِيَدِهِ ويحمله إِلَى القَاضِي وَيشْهد عَلَيْهِ بِمَا قَالَه فِي أُذُنه لحُصُول الْعلم بذلك هَذَا هُوَ الْأَصَح وَفِي وَجه لَا يقبل لجَوَاز أَن يكون الْمقر غَيره وَهُوَ بعيد قَالَ القَاضِي حُسَيْن وَمحل الْخلاف إِذا جَمعهمَا مَكَان خَال وألصق فَاه بِإِذْنِهِ وَضَبطه فَلَو كَانَ هُنَاكَ جمَاعَة وَأقر فِي أُذُنه لم يقبل وَكَذَلِكَ تقبل شَهَادَة الْأَعْمَى فِيمَا تحمله قبل الْعَمى بِشَرْط أَن يعرف اسْم الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَنسبه لِأَن الْأَعْمَى كالبصير فِي الْعلم بذلك والبصير لَهُ أَن يشْهد وَالْحَالة هَذِه وَإِن لم ير الْمَشْهُود عَلَيْهِ لغيبة أَو موت فَكَذَلِك الْأَعْمَى وَالله أعلم
قلت وأيد ابْن الصّلاح احْتِمَالا فِي إِلْحَاق مَوضِع سادس وَهُوَ أَن يألف شخصا وَيعرف صورته ضَرُورَة فَيَنْبَغِي أَن يجوز أَن يشْهد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقِين وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا لَهُ أَن يشْهد بالاستفاضة وَهَذَا الَّذِي قَالَه ابْن الصّباغ أوردهُ بَعضهم سؤالاً وَقَالَ يَنْبَغِي إِذا عرف صَوت شخص وألفه أَن تسمع شَهَادَته عَلَيْهِ كَمَا أَن لَهُ أَن يطَأ زَوجته بِمثل ذَلِك
وَأجِيب بِأَن وَطْء الزَّوْجَة أَحَق بِدَلِيل أَنه أُبِيح لَهُ الْوَطْء اعْتِمَادًا على اللَّمْس إِذا عرف بِهِ عَلامَة فِيهَا وَيقبل خبر الْوَاحِدَة إِذا زفتها إِلَيْهِ وَقَالَت إِنَّهَا زَوجته وَلَا تجوز الشَّهَادَة بِمثل ذَلِك وَالله أعلم
(فرع) تقبل رِوَايَة الْأَعْمَى فِيمَا تحمله قبل الْعَمى بِلَا خلاف وَكَذَا فِيمَا تحمله بعد الْعَمى على الْأَصَح إِذا حصلت الثِّقَة الظَّاهِرَة بقوله وَصحح الإِمَام مُقَابِله
فَإِن قلت مَا الْفرق بَين الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة فَالْجَوَاب قَالَ الْقَرَافِيّ بقيت زَمَانا أتطلب الْفرق بِالْحَقِيقَةِ فَلم أجد الْأَكْثَرين يفرقون بالحكم كاشتراط الْعَدَالَة وَالْحريَّة والذكورة وَحَاصِل الْفرق أَن الْمخبر عَنهُ إِن كَانَ أمرا عَاما لَا يخْتَص بِمعين فَهَذِهِ الرِّوَايَة فَإِن اخْتصَّ بِمعين فَهُوَ شَهَادَة كَقَوْل الْعدْل للْحَاكِم لهَذَا على هَذَا كَذَا وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا تجوز شَهَادَة الْجَار لنَفسِهِ نفعا وَلَا الدَّافِع عَنْهَا ضَرَرا)
من شَرط الشَّهَادَة عدم التُّهْمَة وللتهمة أَسبَاب مِنْهَا أَن يجر إِلَى نَفسه نفعا وَذَلِكَ كَشَهَادَة الْوَارِث لمورثه بجراحة قبل الِانْدِمَال حَيْثُ كَانَت مِمَّا تسري لِأَن الشَّاهِد هُوَ مُسْتَحقّ مُوجب الْجراحَة فَيصير شَاهدا لنَفسِهِ وَكَذَلِكَ أَيْضا لَا تصح شَهَادَة الْغُرَمَاء للْمُفلس بعد الْحجر لِأَن حُقُوقهم تتَعَلَّق بِمَا يثبتونه فَتَصِير شَهَادَة لأَنْفُسِهِمْ وَكَذَا لَا تصح شَهَادَة الْوَصِيّ للْيَتِيم وَالْوَكِيل

(1/573)


للْمُوكل فِيمَا فوض إِلَيْهِمَا النّظر فِيهِ وَنَحْو ذَلِك من الصُّور الْكَثِيرَة وَاحْتج لذَلِك بقوله تَعَالَى {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} والريبة حَاصِلَة هُنَا وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقبل شَهَادَة خصم وَلَا ظنين والظنين الْمُتَّهم وَلِهَذَا لَا تقبل شَهَادَة الدَّافِع عَن نَفسه ضَرَرا كَشَهَادَة الْعَاقِلَة الْأَغْنِيَاء الْأَقْرَبين على شُهُود الْقَتْل بِالْفِسْقِ للتُّهمَةِ لأَنهم يدْفَعُونَ عَن أنفسهم التَّحَمُّل وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَة الضَّامِن بِبَرَاءَة الْمَضْمُون عَنهُ قَالَ الرَّافِعِيّ وَكَذَا شَهَادَة المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا بعد الْقَبْض بِأَن الْعين الْمَبِيعَة لغير بائعة لما فِي ذَلِك من نقل الضَّمَان وَمَا أشبه ذَلِك وَالله أعلم قَالَ

(1/574)