مختصر المزني في فروع الشافعية ط العلمية

ص -180-     كتاب العطايا والصدقات والحبس وما دخل في ذلك من كتاب السائبة.
قال الشافعي رحمه الله: يجمع مما يعطي الناس من أموالهم ثلاثة وجوه ثم يتشعب كل وجه منها ففي الحياة منها وجهان وبعد الممات منها وجه فمما في الحياة الصدقات واحتج فيها بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ملك مائة سهم من خيبر فقال: يا رسول الله لم أصب مالا مثله قط وقد أردت أن أتقرب به إلى الله تعالى فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"حبس الأصل وسبل الثمرة"1 قال الشافعي رحمه الله: فلما أجاز صلى الله عليه وسلم أن يحبس أصل المال وتسبل الثمرة دل ذلك على إخراجه الأصل من ملكه إلى أن يكون محبوسا لا يملك من سبل عليه ثمره بيع أصله فصار هذا المال مباينا لما سواه ومجامعا لأن يخرج العبد من ملكه بالعتق لله عز وجل إلى غير مالك فملكه بذلك منفعة نفسه لا رقبته كما يملك المحبس عليه نفعة المال لا رقبته ومحرم على المحبس أن يملك المال كما محرم على المعتق أن يملك العبد قال الشافعي ويتم الحبس وإن لم يقبض لأن عمر رضي الله عنه هو المصدق بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يزل يلي صدقته فيما بلغنا حتى قبضه الله ولم يزل علي رضي الله عنه يلي صدقته حتى لقى الله تعالى2 ولم تزل فاطمة رضي الله عنها تلي صدقتها حتى لقيت3 الله وروى الشافعي رحمه الله حديثا ذكر فيه أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بمالها على بني هاشم وبني المطلب وأن عليا كرم الله وجهه تصدق عليهم وأدخل معهم غيرهم4 قال الشافعي رحمه الله: وبنو هاشم وبنو المطلب محرم عليهم الصدقات المفروضات ولقد حفظنا الصدقات عن عدد كثير من المهاجرين والأنصار ولقد حكى لي عدد من أولادهم وأهلهم أنهم كانوا يتولونها حتى ماتوا ينقل ذلك العامة منهم عن العامة لا يختلفون فيه قال الشافعي رحمه الله: وإن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لعلى ما وصفت لم يزل من تصدق بها من المسلمين من السلف يلونها إلى أن ماتوا وإن نقل الحديث فيها كالتكلف قال: واحتج محتج بحديث شريح أن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بإطلاق الحبس فقال الشافعي:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الأم 4/61, 62.
2 انظر الأم 4/62.
3 انظر الأم 4/67.
4 انظر الأم 4/67.

 

ص -181-     الحبس الذي جاء بإطلاقه1 صلى الله عليه وسلم لو كان حديثا ثابتا كان على ما كانت العرب تحبس من البحيرة والوصيلة والحام لأنها كانت أحباسهم ولا نعلم جاهليا حبس دارا على ولد ولا في سبيل الله ولا على مساكين وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم لعمر الحبس على ما روينا والذي جاء بإطلاقه غير الحبس الذي أجازه صلى الله عليه وسلم قال: واحتج محتج بقول شريح لا حبس عن فرائض الله قال الشافعي رحمه الله: لو جعل عرصة له مسجدا لا تكون حبس عن فرائض الله تعالى فكذلك ما أخرج من ماله فليس بحبس عن فرائض الله قال الشافعي ويجوز الحبس في الرقيق والماشية إذا عرفت بعينها قياسا على النخل والدور والأرضين فإذا قال: تصدقت بداري على قوم أو رجل معروف حي يوم تصدق عليه وقال صدقة محرمة أو قال موقوفة أو قال صدقة مسبلة فقد خرجت من ملكه فلا تعود ميراثا أبدا ولا يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعة يوم يخرجها إليه فإن لم يسبلها على من بعدهم كانت محرمة أبدا فإذا انقرض المتصدق بها عليه كانت محرمة أبدا ورددناها على أقرب الناس بالذي تصدق بها يوم ترجع وهي على ما شرط من الأثرة والتقدمة والتسوية بين أهل الغنى والحاجة ومن إخراج من أخرج منها بصفة ورده إليها بصفة ومنها في الحياة الهبات والصدقات غير المحرمات وله إبطال ذلك ما لم يقبضها المتصدق عليه والموهوب له فإن قبضها أو من يقوم مقامه بأمره فهي له ويقبض للطفل أبوه نحل أبو بكر عائشة رضي الله عنها جداد عشرين وسقا فلما مرض قال: وددت أنك كنت قبضتيه وهو اليوم مال الوارث ومنها بعد الوفاة الوصايا وله إبطالها ما لم يمت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الأم 3/61, 62.

باب العمرى من كتاب اختلافه ومالك.
قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن حجر المدري عن زيد بن ثابت "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل العمرى للوارث"2 ومن حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو سبيل الميراث"3 قال الشافعي رحمه الله: وهو قول زيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وابن عمر وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير رضي الله عنهم4 وبه أقول قال المزني رحمه الله: معنى قول الشافعي عندي في العمرى أن يقول الرجل: قد جعلت داري هذه لك عمرك أو حياتك أو جعلتها لك عمرى أو رقبى وبدفعها إليه فهي ملك للعمر تورث عنه إن مات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 انظر الأم 4/75.
3 انظر الأم 4/65, 75, 77.
4 انظر الأم 4/77.

باب عطية الرجل ولده.
قال الشافعي رحمه الله: أخبرنا مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن وعن محمد بن النعمان بن بشير يحدثانه "عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى به إلى.

 

ص -182-     رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكل ولدك نحلت مثل هذا؟" قال: لا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فارجعه"1 قال الشافعي رحمه الله: وسمعت في هذا الحديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أليس يسرك أن يكونوا في البر إليك سواء فقال: بلى قال: فارجعه" قال الشافعي رحمه الله: وبه نأخذ وفيه دلالة على أمور منها حسن الأدب في أن لا يفضل فيعرض في قلب المفضول شيء يمنعه من بره فإن القرابة ينفس بعضهم بعضا ما لا ينفس العدى ومنها أن إعطاءه بعضهم جائز ولولا ذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: "فارجعه" ومنها أن للوالد أن يرجع فيما أعطى ولده وقد فضل أبو بكر عائشة رضي الله عنها بنخل وفضل عمر عاصما رضي الله عنهما بشيء أعطاه إياه وفضل عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم2 ولو اتصل حديث طاوس: "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا والد فيما يهب لولده"3 لقلت به ولم أرد واهبا غيره وهب لمن يستثيب من مثله أو لا يستثيب قال: وتجوز صدقة التطوع على كل أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأخذها لما رفع الله من قدره وأبانه من خلقه إما تحريما وإما لئلا يكون لأحد عليه يد لأن معنى الصدقة لا يراد ثوابها ومعنى الهدية يراد ثوابها وكان يقبل الهدية ورأى لحما تصدق به على بريرة فقال: "هو لها صدقة ولنا هدية"4.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك 2/751 و752 والبخاري 2586 ومسلم 1623 واليهقي 6/187.
2 الآثار في البيهقي السنن الكبرى 6/187.
3 أخرجه البيهقي عن الشافعي في السنن 6/179, 180.
4 أخرجه البخاري 2578 و5097 ومسلم 1075 ومالك 2/562.