نهاية المطلب في دراية المذهب

نهاية المطلب
في دراية المذهب
لإمام الحرمين
عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني
رحمه الله تعالى
(419 - 478 هـ)
حققه وصنع فهارسه
أ. د/ عبد العظيم محمود الدّيب
دار المنهاج

(المقدمة/1)


الطبعة الأولى
1428هـ-2007م
جميع الحقوق محفوظة للناشر
دار المنهاج للنشر والتوزيع
لصاحبها عمر سالم باجْخَيفْ
وفقه الله تعالى
المملكة العربية السعودية - جدة
حي الكندرة- شارع أبها تقاطع شارع ابن زيدون
هاتف رئيسي 6326666 - الإدارة 6300655
المكتبة 6322471 - فاكس 6320392
ص. ب 22943 - جدة 21416
لايسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه، وبأي شكل من الأشكال، أو نسخه، أو حفظه في أي نظام إلكتروني أو ميكانيكي يمكِّن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه، وكذلك لا يسمح بالاقتباس منه أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبقاً من الناشر
__________
ISBN 978-9953-498-07-2
WWW. Alminhaj.com
E-mail: info@alminhaj.com

(المقدمة/2)


نهاية المطلب
في درَايةَ المذَهَب

(المقدمة/3)


تنبيهان
أولاً:
هذا الكتاب بينك وبينه ألف عام تقريباً، فإذا رأيت من ظواهر اللغة والأساليب غير مألوفك ومعهودك، فلا تحاول أن تحمل لغته على لغتك، ولا تسارع بحمل ذلك على الخطأ وسهو المحقق وتقصيره، فهذه هي لغة عصرهم، وهذا أسلوبهم، وهو صحيح سليم، وإن لم يعد مألوفاً لدينا ومستعملاً عندنا ولا جارياً على ألسنتنا.
ثانياً:
إبراء للذمة، وخروجاً عن العهدة ننبه:
أن برنامج الصف استحال عليه كتابة الهمزة المتطرفة المكسور ما قبلها على الياء، مثل قارئ، يجزئ، فتنبه لذلك.

(/)


الفقه صعب مرامه، شديد مراسه، لا يعطي مقاده لكل أحد ولا ينساق لكل طالب، ولا يلين في كل يد، بل لا يلين إلا لمن أيد بنور الله في بصره وبصيرته، ولطف منه في عقيدته وسريرته.

الإمام أبو المظفر السمعاني
المتوفي سنة 489هـ

(/)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
(رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
(البقرة: 127)
(رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)
(الكهف: 10)
(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)
(آل عمران: 8)

(المقدمة/4)


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ الذي وفَّقَ منِ اجتباهُ منْ عبادِهِ للتَّفقُّهِ في الدِّينِ، ونوَّهَ بذلكَ في الذِّكرِ الحكيمِ بقولهِ سبحانَهُ وتعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]
والصَّلاةُ والسَّلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ سيدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، القائلِ: "خيارُكُمْ في الجاهليَّةِ خيارُكُمْ في الإسلامِ إذا فَقُهُوا" (1).
أمَّا بعدُ:
فبينَ أيدي العلماءِ من تراثِ الفقهاء ما لَو جمعوا كنوزَهُ، ونقَّدُوا جوهرَهُ .. لزانُوا جِيدَ اَلمجتمعِ اَلإنسانيَّ بعِقْدٍ ثمينٍ.
وهذِهِ السَّماتُ تنطبقُ تماماً على هذا الكتابِ الموسوعيِّ "نهاية المطلب" للإمامِ اَلعظيمِ إمامِ الحرمينِ الجوينيِّ، الذِّي يعدُّ من أعظمِ كتبِ الشَّافعيَّةِ القديمةِ، ومنْ أثبتِ المراجعِ في نسبةِ المذهبِ للإمامِ الشَّافعي
فهذا الميراثُ الأصيلُ الذِّي يخرجُ إلى فضاءِ الطِّباعةِ الرَّحيبِ لأوَّلِ مرَّةٍ، بعدَ ما يقاربُ الألفَ سنةٍ على تأليفِهِ .. لَيؤكِّدُ معنى الخيريَّةِ المتجدِّدَةِ في هذه الأمَّةِ التي لا تختصُّ بزمنٍ دونَ آخرَ، بلْ لا زالتْ مسيرةُ استخراجِ الكنوزِ قائمةً على قدمٍ وساقٍ في كل عصرٍ ومصرٍ.
__________
(1) "البخاري" (3494)، ومسلم (2526) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(المقدمة/5)


كلمة الناشر
وقدْ قيَّضَ اللهُ لهذا التُّراثِ العظيمِ عَلَماً منْ أعلامِ العصرِ، وهو متمرِّسٌ في إخراجِ الكنوزِ العلميَّةِ في حللِ التَّحقيقِ ترفلُ، وهو الشَّيخُ العلاَّمةُ الدُّكتورُ عبدُ العظيمِ الدِّيبُ.
وممَّا زادَ الكتابَ رفعةً وإشراقاً هو ما حلاَّهُ بِهِ من تحقيقاتٍ سنيَّةٍ، وتعليقاتٍ علميَّةٍ، فكانت نهايةً في الإتقانِ، وغايةً في الإحسانِ.
وكيفَ لا يكونُ الحالُ كذلِكَ وقدِ استغرقَ المحقَّقُ في هذا العملِ المباركِ زُهاءَ خمسةٍ وعشرينَ عاماً؟!
فكان بهذا قد أنفقَ أنفسَ أوقاتِهِ خدمةً لتراثِ إمامِ الحرمينِ؛ ليزفَّهُ إلى الهداةِ المتفقِّهَةِ مجلوّاً لا لبْسَ فيه ولا إبهامَ.
وإنّا لنأمُلُ أنَ يكون هذا العملُ نموذجاً للتحقيقاتِ العلميَّةِ الأصيلةِ لذلك التُّراثِ النائمِ في الأدراجِ والمكتباتِ، وهذا ديدنُ دارِنا منذُ تأسيسِها وللهِ الحمدُ والمنَّةُ.
كما نتوجَّهُ إلى اللهِ سبحانَهُ وتعالى بالدعاءِ الضّارِعِ أن ينفعَ بهذا العملِ الإسلامَ والمسلمينَ في مشارقِ الأرضِ ومغارِبِها، وأن يحيَ بِهِ العلمَ وأهلَهُ؛ إنَّهُ سميع مجيبٌ.
ودارُ المنهاجِ إذْ تخرجُ " نهايةَ المطلبِ " في (21 مجلداً) وهو الكتابُ المحاوي العظيمُ .. لا تقفُ عندَ هذا الحدِّ، بل سيتلوهُ بإذنِ اللهِ تعالى وتوفيقِهِ الكثيرُ الطَّيّبُ، وَفْقَ المنهجِ الَّذي يسيرُ في اتِّجاهينِ:
أوَّلهُما: طباعةُ القديمِ الَّذي لم يُسبَقْ طبعُهُ ونشرُهُ؛ ككتابِ " الخلاصةِ " لحجَّةِ الإسلامِ أبي حامدٍ الغزاليِّ رحمهُ الله" (1).
__________
(1) وقد صدر كتاب "الخلاصة" حديثاً في مجلد ضخم عن دارنا.

(المقدمة/6)


وثانيهِما: المطبوعُ المنشورُ الَّذي اعتراهُ الخللُ وغيَّرتْهُ العِللُ، رغمَ أهمِّيَّتِهِ ونفاستِهِ؛ ككتابِ " كفايةِ الأخيارِ " (1).
ونحنُ نَهيبُ في هذه العُجالةِ بأولى الأقلامِ اللاَّمعةِ والأفكارِ المتخصِّصَةِ أن تُمِدَّنا بِرُؤاها حولَ منشوراتِنا ما دامَ ذلكَ يخدُمُ الأمَّةَ الإسلاميَّةَ، ويرتقي بالكتابِ إلى قمَّةِ الإتقانِ، ونحنُ على استعدادٍ لتقبُّلِ ما فيهِ الصَّلاحُ والنَّجاحُ.
واللهَ تعالى أسألُ أنْ يسلُكَ بنا مسلكَ الصَّالحينَ، ويدفعَ عنَّا كيدَ الحاسدينَ، ويوفِّقَنا لِما فيهِ رضاهُ. آمينَ
وأخيراً نشكرُ كلَّ من ساهمَ وأعانَ في إخراجِ هذا الكتابِ المباركِ، في كلِّ مرحلةٍ من مراحلِ العملِ، ونقولُ لهمْ جميعاً: (جزاكمُ اللهُ عنَّا وعنِ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ خيرَ الجزاءِ، وأجزلَ لكُمُ المثوبةَ والعطاءَ، ومنحنا جميعاً التَّوفيقَ والسَّدادَ).
اللَّهُمَّ؛ ارزقْنا الإخلاصَ في القولِ والعملِ، وحُسْنَ الختامِ عندَ انتهاءِ الأجلِ. والحمدُ للهِ الَّذي بنعمتِهِ تتمُّ الصَّالحاتُ، وصلَّى اللهُ على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ.
الناشِر
أبو سعيد/عمر سالم سعيد باجخيف
حُرِّر في جدَّة (19) ربيع الآخر (1428هـ)
__________
(1) انظر مقدمتنا لـ "كفاية الأخيار" لتعرت مدى التصحيف الذي خامر هذا الكتاب.

(المقدمة/7)


شكر وامتنان
أتوجه شاكراً لكادرنا العلمي والمهني
الذي كان يعمل خلف للأضواء باجتهاد ودأب
حثيثَين نحواً من أربع سنوات متتالية دون فتور أو مَلَلٍ في خدمة هذه الموسوعة الفقهية "نهاية المطلب" وإلى الله تعالى أتوجه أن ينفع بهذا الكتاب المسلمين أينما كانوا وأن يثيب كل من ساعد في إخراجه خير ما يجزى الصالحين.
وكتَبَهُ
محمد غسّان نصوح عزقول
المشرفُ على أعمالِ البُحوثِ والنشرِ
بمركز دار المنهاج للدراسات والتحقيق العلمي

(المقدمة/8)


قالوا عن الإمام
الفِقهُ فِقهُ الشَّافِعيِّ، وَالأَدبُ أَدَبُ الأَصْمَعيِّ، وَحسن بَصرِه
بالوَعْظِ للِحَسَنِ البصرِيِّ، وكيفما كان فهو إمام كل إمام ...
ولولاه لأصبح مذهب الحديث حديثاً.
الباخرزي في دمية القصر
التبييْن لابن عَسَاكر
وظني أن آثار جده واجتهاده في دين الله يدوم إلى يوم الساعة، وإن انقطع نسله من جهة الذكور ظاهراً، فنشر علمه يقوم مقام كل نَسَبٍ، ويغنيه عن كُلِّ نَسَبٍ مُكتَسَبٍ.
التبييْن للحافظ ابن عساكر
عن عبد الغافر الفارسي المتوفي سنة 529هـ
ولا يشك ذو خبرةٍ أن إمام الحرمين كان أعلم أهل الأرض بالكلام والأصول والفقه، وأكثرهم تحقيقاً، بل الكُلُّ مِنْ بحرِهِ يغترفون، وأن الوجود ما أخرج بعدَهُ لَهُ نظيراً.
تاج الدين السبكي
المتوفي سنة 771هـ
__________
* مذهب الحديث: مذهب الشافعية.

(المقدمة/9)


قالوا عن "نهاية المطلب"
استفاض بين الأصحاب وأئمة المذهب قولهم: "منذ صنَّف الإمام (نهاية المطلب) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام"
ابن حجر الهيثمي المتوفي سنة 973هـ
المذهب الكبير
المسمى بنهاية المطلب في دراية المذهب
ما صنف في الإسلام قبله مثله
التبييْن للحافظ ابن عساكر
نقلاً عن عبد الغافر الفارسي المتوفي سنة 529هـ
النهاية في الفقه
لم يصنف في المذهب مثلها فيما أجزم به
تاج الدين السبكي
المتوفي سنة 771هـ

(المقدمة/10)


إهداء
أهدى هذا العمل الذي هو نتيجة عمري، وثمرة دهري.
إلى رجال لم أرهم بعيني، ولكن ألمحهم بخاطري.
رجال يملأ قلوبهم الإيمان، ويعمر صدورهم القرآن، ويرفع رؤوسهم للإسلام.
رجال في قلوبهم نور، وفي وجوههم نور، وفي صدورهم عزم وتصميم، رجال بأيديهم معاول ومناجل، معاول ترك صروح الظلم والطغيان، ومناجل تجتث جذور الشر والفساد.
رجال سيرفعون رأس هذه الأمة، ويطهرون ديارهم من جحافل التتار الجدد وحفدة أوربان الثاني، وفردريك، وريتشارد، ولويس التاسع.
رجال سيردون لهذه الأمة مجدها وعزها، ويعيدونها إلى كتاب ربها وسنة نبيها حتى تأخذ مقعدها في قيادة البشرية وإنقاذ الإنسانية.
إلى هؤلاء الرجال هديتي
عبد العظيم

(المقدمة/11)


يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلاً عن موقف الذُّلِّ أحْجَما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيَّرته لي سلما
إذا قيل: هذا منهل. قلت: قد أرى ... ولكن نفس الحرِّ تحتمل الظما
القاضي الجرجاني، صاحب الوساطة
والمتوفي سنة 392هـ
عاب التفقه قوم لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة ... ألا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
الإمام أبو الحسن التميمي، منصور بن إسماعيل
المتوفي سنة 306هـ

(المقدمة/12)


دعوة واقتداء
وإني -على نهجي الذي انتهجت منذ أول كتاب نشرت- أدعو النقاد إلى إظهاري على أوهامي فيها، وتبيين ما دق عن فهمي من معانيها، أو ندَّ عن نظري من مبانيها؛ وفاءً بحق العلم عليهم، وأداءً لحق النصيحة فيه، لأبلغ بالكتاب فيما يستأنف من الزمان، أمثل ما أستطيع من الصحة والإتقان.
والنشر فنٌ خفيّ المسالك، عظيم المزالق، جمّ المصاعب، كثير المضايق، وشواغل الفكر فيه متواترة، ومتاعب البال وافرة، ومُبهظات العقل غامرة، وجهود الفرد في مضماره قاصرة؛ يؤودها حفظ الصواب في سائر نصوص الكتاب؛ ويُعجزها ضبط شوارد الأخطاء، ورجعها جميعاً إلى أصلها؛ فيأتي الناقد وهو موفور الجمام فيقصد قصدها، ويسهل عليه قنصها.
ومن أجل ذلك قلت -وما أزال أقول-: إنه يجب على كل قارئ للكتب القديمة أن يعاون ناشريها بذكر ما يراه فيها من أخطاء؛ لتخلص من شوائب التحريف والتصحيف الذي منيت به، وتخرج للناس صحيحةً كاملةً.
والله ولي التوفيق
من كلمات العلامة المحقق
السيد أحمد صقر
رحمه الله

(المقدمة/13)


شكر واجب
" من لم يشكر الناس لم يشكر الله ". (رواه الترمذي وحسَّنه)
أجده حقّاً واجباً ودَيْناً في عنقي أن أقدم الشكر لشيوخٍ كبارٍ، وأساتذةٍ أجلاء إخوة كرام، وأبناء بررة وتلامذة مخلصين.
أشكر شيخي العلامة أبا فهر محمد محمود شاكر؛ فقد كان كلما تذاكرنا في مجلسه أمر (نهاية المطلب) يُعلي من شأن الكتاب، ومكانته، وأهمية الاشتغال به، وأن نصوص التراث ليست سواء، ويُعْظم إخرات هذا الكتاب، مما كان يشد من أزري، ويقوِّي من عزمي، وما أكثر ما أفدتُ من علمه وتوجيهه، رحمه الله وأجزل مثوبته.
وأشكر أخي وصديقي العلامة محمود محمد الطناحي، فقد كان حفياً بهذا الكتاب، ونوه به في كتابه الفذ (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) وحمَّلني أمانة نشره كما شاركني في معاناة بعض نصوصه وغوامضه. رحمه الله ونور ضريحه.
وأشكر علامة القراءات والنحو الشيخ عنتر حشاد، رحمه الله، والأستاذ محمد محمد مقلد خبير اللغة العربية، والأخ الدكتور علي أحمد الكبيسي الأستاذ بجامعة قطر، والأخ الدكتور خالد فهمي الأستاذ بجامعة المنوفية، فقد بذلوا جميعاً من وقتهم وجهدهم الكثير في البحث والمناقشة حول بعض ما كنا نلقاه من غرائب اللغة والأساليب.
كما أشكر كلَّ من أعاننا ويسر لنا السبيل للحصول على صور المخطوطات:
أشكر الأخ الصديق الصدوق علامة عصرنا فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي الذي ذلل لنا الكثير من العقبات.
وأشكر الأخ العربي التركي الدكتور أكمل الدين إحسان أوغلو على ما قدم لنا من عونٍ في هذا المجال، فلولا الأخ التركي المتعرب مصطفى شاهدي خبير المكتبات، الذي كلفه بمرافقتنا -أثناء رحلتنا إلى استانبول- ما استطعنا أن نصل إلى شيء مما وصلنا إليه؛ فبخبرته ومهارته فَلَيْنا مكتبات استانبول فلياً، فجزاه الله عنا خير الجزاء، وأعان الله الدكتور أكمل على ما تطوّقه أخيراً من حمل أمانة منظمة المؤتمر الإسلامي.

(المقدمة/14)


كما أشكر الأستاذ الدكتور كمال عرفات المدير العام الأسبق لمؤسسة الفرقان للتراث
الإسلامي بلندن.
والشكر أيضاً لأبنائي البررة وتلامذتي النجباء: الدكتور إبراهيم عبد الله الأنصاري المدرس
بكلية الشريعة بجامعة قطر، والدكتور -قريباً- محمد المصلح المدرس المساعد بكلية الشريعة
بجامعة قطر، والمهندس عبد الله النعمة مدير جمعية قطر الخيرية؟ فقد كنت أفكر في إقامة
حفلٍ بمناسبة الانتهاء من العمل في تحقيق الكتاب، اقتداءً بسنة السلف الصالح، وإحياء
لنهجهم، فقد ذكروا أن إمام الحرمين لما انتهى من تأليف (نهاية المطلب) عقد مجلساً
للاستبشار والتهنئة احتفالاً بإتمامه، وبذلك مضت سنة الأئمة وعلماء الأمة، فقد قيل في
وصف احتفال ابن حجر العسقلاني بالانتهاء من كتابه (فتح الباري)، قالوا في وصف الحفل
وكثرة الحضور: "ومنهم من حضر ولم يسمع".
نعم، كنت أفكر في شيء من ذلك، من باب التأسي والاقتداء، وإحياء سنن الأولين،
ومن باب " فتشبّهوا ". وما إن علم أبنائي الكرام هؤلاء، حتى سبقوني وأعدوا العدة،
ونظموا، ورتبوا لحفل ضخم ما كان يدور بخلدي أن أصنع مثله، كما تولى الدكتور إبراهيم
الأنصاري تقديم المتحدثين بالحفل، وألقى الدكتور محمد المصلح كلمة الأبناء والطلاب
خلع علينا فيها من فواضل أدبه ما لا نستحق، مما يجعلني أشعر فعلاً بعجز الكلمات عن الوفاء
بحقهم.
كما يجب علي أن أشكر كلَّ العلماء والزملاء، والإخوة والأبناء الذين أجابوا الدعوة
وشرّفوا الحفل، وإن كان جمعهم الكريم يستعصي على الحصر والذكر، فلا يفوتني أن أسمي
هؤلاء الأعلام الكبار الذين كانوا زينة حفلنا، وهم علامة العصر الأخ الكريم الشيخ يوسف
القرضاوي والعلامة الحبيب بلخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، والأستاذ الدكتور
الشيخ خالد المذكور رئيس لجنة استكمال تطبيق الشريعة بالكويت، هؤلاء الكرام كانوا
المتحدثين في الحفل، فطوّقوا جيدنا بدُررٍ ولآلئ من طيب نفوسهم وعالي أدبهم، فأنى
أطيق شكرهم، وأوفي حقهم؛ أسأل الله سبحانه أن يجزيهم عني خير الجزاء.
وأخص بالشكر أيضاً العلامة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي سلطنة عُمان، والشيخ
عبد الرحمن شيبان وزير الأوقاف الأسبق بالجزائر، ورئيس جمعية العلماء بها الآن، وعلامة
الشام فضيلة الشيخ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور، والأستاذ الدكتور إبراهيم
صالح النعيمي مدير جامعة قطر الأسبق.

(المقدمة/15)


أما فضيلة الشيخ عبد السلام البسيوني الداعية الأديب الناثر الشاعر، اللغوي، الإعلامي، فقد أتحفنا بقصيدة عصماء من روائع شعره، بثنا فيها خالص حبه، وصادق تقديره، وأفاض علينا من حسن أدبه وجمال خلقه، فأدعو الله سبحانه أن يجزيه عني خير الجزاء، وأن يثيبه على ما يبذله من نفسه وجهده في سبيل الدعوة ليل نهار أسال الله أن يتقبل منا ومنه، وأن يجعل جهده الخارق، وعمله الدائب في ميزانه، يوم العرض على الخبير البصير، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
كما أشكر كلَّ من احتفى بهذا الكتاب وعرف قدره، وكان حريصاًَ على نشره، أشكر الأخ الأستاذ الدكتور عبد الغفار الشريف الأستاذ بكلية الشريعة بجامعة الكويت الذي كان يودّ أن يكون هذا الكتاب من منشورات إدارة التراث بوزارة الأوقاف الكويتية.
أشكر الأستاذ الدكتور إبراهيم صالح النعيمي مدير جامعة قطر، ذلك الرجل الذي عرف قدر هذا الكتاب -مع بعده في تخصصه- وكان حريصاً كل الحرص أن يكون هذا الكتاب من مطبوعات جامعة قطر، وفعلاً ذلّل كل الصعاب، وتخطى كلَّ القيود، ودارت المطبعة حتى انتهت من صف الجزء الأول والثاني، ولكن قدر الله وما شاء فعل.
أشكر الأخ الأستاذ الدكتور أحمد نور سيف مدير دار البحوث في دبي، فقد كان أيضا حفياً بالكتاب حريصاً على أن يخرج من دار البحوث للدراسات الإسلامية ونشر التراث كما أشكر معالي الشيخ أحمد زكي يماني صاحب مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، على ما كان من حفاوته واهتمامه.
أما الشيخ الجليل الشيخ بكر أبو زيد رئيس المجمع الفقهي، فقد كان يتمنى أن يكون هذا الكتاب من مطبوعات المجمع، وقد قال لي بالحرف الواحد -وهو يشد على يدي-: " أريد أن أُعلن في الجلسة الختامية أن المجمع سيطبع كتاب (نهاية المطلب) "، قال لي هذا مرتين في يومين متتاليين عندما كان المجمع يعقد دورتَه الرابعة عشرة في الدوحة.
أشكر كل هؤلاء الكرام وأسال الله أن يجزيهم عني خير الجزاء، أما الذين لم تسعفنا الذاكرة أسماءهم الآن -وهم كثر- فأسألهم الصفح والعفو، وهم لذلك أهل، واللهَ الكريمَ أسأل أن يتولانا جميعاً بعفوه ولطفه ورحمته، وهو نعم المولى ونعم النصير.
عبد العظيم

(المقدمة/16)


خطبة الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
باسم الله وحده ولا شيء معه دائماً وأبداً، ونحمده سبحانه وتعالى، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير، اللهم إنا نعوذ بك من الخطأ والخطل، والخلل والزلل، وسيئ القول والعمل، ونصلي ونسلّم على صفوتك من خلقك وخاتم رسلك سيدنا محمد النبي الأمي، اللهم صلِّ عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد
فهذا مقام الشكر، مقام الحمد، مقام الثناء على الله بما أنعم فأوفى، فالحمد لله.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2 - 4].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59].
{الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 70].

(المقدمة/17)


{وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا} [فاطر: 1].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74].
{فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 36].
{وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1].
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
...
من مأثور الدعاء وموجزه: " ربِّ أنعمت، فزِدْ ". ولكني أقول: ربِّ أنعمت، فأعني على شكرك وذكرك، وحسن عبادتك، {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [النمل: 19].
لم يبق لي إلا أن أحمد وأشكر، فقد كان إتمام هذا الكتاب غايةَ مناي ومنتهى أملي، وكم تضرعت إليه سبحانه مناجياً في ظلمة الليل البهيم: " اللهم أني أسالك أن تَنْسَأ في الأجل حتى أُتم هذا العمل " فالحمد لله أجاب سُؤْلي، وحقق أملي، وأمدني بحوله وقوته، فقد كنت دائما أبرأ إليه سبحانه من حولي وقوتي، وألوذ بحوله وقوته، فوهبني، ولم يمنعني، وأعطاني ولم يحرمني، وشد من أزري، وسدد خطاي، حتى وصلت بهذا العمل إلى نهايته، وسرت به إلى غايته، فلم يبق لي من سؤال إلا أن أسأله سبحانه أن يعينني على أداء حق الحمد والشكر، فلو عشت ما بقي من أيامي ساجداً مسبحاً حامداً، ما وفّيت نِعَمَه سبحانه.
وما بقي إلا أن أسأله سبحانه أن ينعم علينا بحسن الخاتمة، وأن يجعل خيرَ أعمالنا خواتيمها، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقائه.

(المقدمة/18)


صحبتي لإمام الحرمين:
هذا الكتاب ثمرة صحبة طويلة لإمام الحرمين، أَرْبت هذه الصحبة على الأربعين عاماً، وهذه الصحبة لم تكن عن اختيار مني أو تدبير، بل العكس هو الصحيح، فقد كنت أُقدِّر لدراساتي وحياتي العلمية طريقاً غير هذا الطريق، ومَيْداناً غيرَ هذا الميدان، وفعلاً قدرتُ ودبرتُ، واخترتُ موضوعَ رسالتي للماجستير.
وبينا أنا في منزل أستاذي الدكتور مصطفى زيد أعرض عليه خُطة الموضوع، وكان به مُرحِّباً، إذ دق جرس الهاتف وأخذ أستاذي الدكتور مصطفى في محادثةٍ طويلة، عرفتُ منها أن الذي على الطرف الآخر هو أستاذُ أستاذي الشيخ محمد أبو زهرة، ولما طالت المحادثة، ووجد أستاذي أنه قد شُغل عن ضيفه كثيراً، أراد أن يجاملني، فقال للشيخ أبو زهرة: عندي فلان، وهو يقرئك السلام، ثم أردف: هنِّئه، غداً سنعرض موضوعَ رسالته على القِسْم، فسأل الشيخُ أبو زهرة عن الموضوع، وما إن أجابه الدكتور مصطفى حتى احتدَّ الشيخ أبو زهرة، وفهمت أنه يرفض الموضوع (1)، والدكتور مصطفى يدافع، ويقول: اطمئن يا أستاذنا، عبد العظيم من أولادنا، لا تخف، أنا أضمنه، إنه من المتحنثين [وكنت أسمع هذه الجملة أول مرة تجري في حديثٍ بين شخصين وعهدي بها أنها من ألفاظ الكتب والمعاجم].
ثم انتهت المكالمة. وراح الدكتور مصطفى في صمت، ولم يُقبل على ما كنا فيه من مراجعة خُطة الموضوع، ولما رأى في عيني التساؤلَ، قال: انتهى الأمر، نبحث عن موضوع آخر، وأُسقط في يدي، وظهر علي الضيق والألم، بل والغضب المتمرد، فقال الدكتور مصطفى مجيباً عن كل التساؤلات التي تمور بداخلي: أنا لا أستطيع أن أخالف أمر الشيخ أبو زهرة. ثم أجاب عن عدة أسئلة لم أتفوَّه بها: هو
__________
(1) كان الموضوع عن الربا وصوره في بعض المعاملات المعاصرة، وكان المدُّ الاشتراكي في عنفوانه، فخشي الشيخ أبو زهرة من الوقوع تحت ضغط الواقع وتبريره، وكان ذلك شائعاً، وكلٌّ يحاول إلباس التأميم والمصادرة عمامة الإسلام، فمن هنا جاء رفض الشيخ رحمه الله وبرّد مضجعه.

(المقدمة/19)


رئيس قسم وأنا رئيس قسم صحيح لكنه أستاذي، هو في كلية وأنا في كلية أخرى، ولكنه أستاذي، هو لا يملك أن يمنعني من التصرف ولكنه أستاذي.
ثم قال مجاملاً: والله يا عبد العظيم أنا أكثر ألماً منك، ثم تمتم: ليتني ما ذكرت له الموضوع، وفعلاً هزتني هذه الكلمات، وبدأ الغضب الثائر في داخلي ينزاح ويترك مكانه هدوءاً وبرداً وأمناً.
وهنا التمع وجه الدكتور مصطفى قائلاً: اسمع يا عبد العظيم لعل الله أراد بهذا لك خيراً. بل هو بالقطع كل الخير. لن نُضيّع وقتاً، سنتخذ طريقاً آخر، بعيداً تماماً عن هذا الطريق. تذكرُ كتابَ " البرهان في أصول الفقه ". تذْكرُه لا شك. أنت نسختَ لي منه صفحات منذ مدة بعيدة. ما رأيك أن تكون رسالتك تحقيق البرهان؟ وقبل أن أجيب أردف قائلاً: تَذْكُر المقابلات بين نُسخ المخطوطات التي قمتَ بها معاونةً لنا حينما كنّا نحقق كتاب " السِّير الكبير بشرح السرخسي " (1). سيكون العمل ممتعاً لك.
ستتعلم شيئاً جديداً. ستدخل ميداناً رحباً فسيحاً. كل ذلك وأنا في صمتٍ متأمل.
فقال: لماذا لا تتكلم؟ ما رأيك؟ وقبل أن أجيب قال: اعتمد على الله. على بركة الله. الموضوع موضوعي. وعليّ إجازته من مجلس القسم، ابدأ اليوم، فكِّر في خُطة الموضوع والمقدمة والدراسة، اذهب إلى دار الكتب، وجدِّد صلتك (بالبرهان).
وأخيراً وجدت نفسي، فقلت مجيباً أستاذي: على بركة الله. الحمد لله، قدّر الله وما شاء فعل، قلت ذلك باطمئنانٍ، ورضا، وثقة، مما جعل أستاذي يقبل عليّ معانقاً، قائلاً: مبروك.
__________
(1) كانت جامعة القاهرة قد قررت نشر هذا الكتاب استجابة لطلب الجمعية الشيبانية الأوربية، التي كان من عملها نشر مؤلفات محمد بن الحسن الشيباني، وقد ألفت الجامعة لجنة لذلك العمل يتولى مدير الجامعة بنفسه إدارة العمل وتوفير احتياجاته، ويقوم أستاذنا الدكتور مصطفى زيد بتحقيق النص وإقامته، ويقوم العلامة أستاذ أستاذنا الشيخ أبو زهرة بالتقديم للكتاب، وكتابة ما يحتاج من شرح وتعليقات.

(المقدمة/20)


هكذا كانت صلتي بإمام الحرمين بغير تقديرٍ أو تدبيرٍ منِّي، بل على عكس ما قدرتُ ودبرت، ولكن الله إذا أراد أمراً قدّره، وهيأ له أسبابه، فمن ذا الذي أمسك ما سيّره، أو قدّم ما أخره، سبحانه سبحانه ما أعظم شأنه.
اندفعتُ في طريقي مع إمام الحرمين في صحبة طويلة، عشت معه في (نيسابور) حيث نشأ، ورأيت بيته حيث درج، وصَحِبْته إلى مجالس شيوخه، ومدارس أساتذته، ثم جلست إليه مع تلاميذه نسمع له، حيث أُجلس للتدريس وهو في نحو العشرين من عمره، وأَصَخْت إليه، وهو يخطب بالجامع المنيعي (أكبر جوامع نيسابور)، ورأيته والناس حوله يبكون ببكائه في مجالس وعظه وتذكيره.
ثم رأيته يصول ويجول في ميدان المناظرة يقمع دعاة الفتنة، ويرد شبهاتِ الزائغين، ويكشف زيفَ المبتدعين.
ثم رأيته يصطلي بنار المحنة ولهيبها، فيضطر للهجرة، ويصابر ويصبر، ويحتسب، من غير أن يتزعزع، أو يتلجلج.
ثم تتبّعتُ آثاره ومصنفاتِه، ورأيت كيف جال في أكثر من علم، وبرع في أكثر من فن، فخلف مصنفاتٍ تربو على الأربعين عدّاً، منها ما يصل إلى نحو عشرين مجلداً، أسعفتنا الأقدار ببعض هذه المصنفات، فسلمت من المحن التي ابتلي بها تراث أمتنا، وبعضها سمعنا به ولمَّا نره بعد.
وأخذتُ مع هذا أعالج كتابه (البرهان) وأمازجُه، وأطيل الإصغاء؛ محاولاً أن أعي ما يريد الإمام أن يقوله في (لغز الأمة) (1)، وما زلت أسمع من الإمام وأُنصت إليه سنوات، حتى حسبتُ أنني فهمت عنه، وعرفت ماذا يريد أن يقول في كتابه.
كانت هذه هي المرحلة الأولى من تلك الصحبة المباركة مع شيخي وإمامي، إمام الحرمين، استمرت هذه المرحلة سبعَ سنواتٍ مباركات، وكان من ثمرتها:
__________
(1) لغز الأمة هو اللقب أو الاسم الذي أطلقه السبكي على البرهان. (الطبقات: 5/ 192).

(المقدمة/21)


1 - دراسة طبعت وحدها بعنوان (إمام الحرمين - حياته وعصره - آثاره وفكره).
2 - تحقيق وتقديم كتاب (البرهان في أصول الفقه).
...
ثم استأنفتُ المسيرةَ مع إمام الحرمين، أستمع إليه وأنصت، وأطيل الاستماع والإنصات، وأُديم التأمل فيما أسمع من مؤلفاته كلها، وبخاصة كتابه الأكبر (نهاية المطلب) وأعرض ما أراه عنده، وما أسمع منه على ما سبقه من كتب المذهب، وأقارنه بما بعده من فقه الأئمة، محاولاً بذلك أن أصل -قدر الوُسع- إلى خصائص فقهه، ومنزلته في مجال الفقه، وكان من ثمرة هذه المرحلة البحثُ الذي قدمته للحصول على درجة الدكتوراة بعنوان: (فقه إمام الحرمين - خصائصه - أثره - منزلته).
وكان من الحقائق التي ظهرت لي، واستقرت عندي أن علم إمام الحرمين الأول هو علم الفقه، وأن الاشتغال بكتبه وآثاره في علم الكلام، واعتباره متكلماً، قد شغل الناس -بغير حق- عن فقهه، ومنزلته، وجهوده، وأثره في إقامة المذهب الشافعي.
وكان من آثار هذه المرحلة وثمراتها أيضاً أنني قرأتُ كتابه (الغياثي) كلمة كلمة، وهيأته للتحقيق، وقد سجلت ذلك في مقدمتي لرسالة الدكتوراة، حيث قلت: " وكان من خيرات هذا البحث تحقيقُ كتاب (الغياثي) الذي يكاد يكون منتهياً، أما كتاب (نهاية المطلب في دراية المذهب) فسيكون تحقيقه ونشره هو الثمرة التالية إن شاء الله ".
ثم قلت: " إن هذا البحث -على تواضعه- قد أتاح لنا الاتصالَ بتلك الثروة الفقهية النادرة، والاطلاعَ على ذخائرها وكنوزها، واكد لي صدق ما كنتُ -وما زلت- أردده دائماً: من أننا لم نعرف من تاريخنا إلا ما أريد لنا أن نعرف، ولم نر من تراثنا إلا ما أريد لنا أن نرى.
ويوم أن تتاح لنا الفرصة لمعرفة تاريخنا كاملاً، ودراسة تراثنا كاملاً، يومها سنرى

(المقدمة/22)


أية أمة هذه!! التي قادت العالم أكثر من ألف عام، وأية شريعة هذه التي أضاءت الدنيا، وبددت دياجيرها.
ولْنقل للحيارى الباحثين عن النجاة، والضاربين في كل اتجاه؛ جرياً وراء السراب، لنقل لهم ما قيل لبحارة السفينة التي ضلَّت طريقَها، حتى نَفِد منها الماء العذب، فأخذت تستغيث، فجاءها الرد: ألقوا دَلْوكم حيث أنتم. وتكررت الاستغاثة، وتكرر الردّ: ألْقوا دَلْوكم حيث أنتم .... فعادت الدلاء بالماء عذباً سائغاً، ذلك أنهم كانوا فوق مياه نهر (الأمازون) التي يدفعها النهر في المحيط، وهم لا يشعرون.
فيا أيها الحيارى الجارون وراء السراب: " ألقوا دلوكم حيث أنتم. لنُلْقِ الدلاء، فما أزخر الأعماق عندنا بالعذب الفرات " (1).
كان هذا ما قلته، وهو يعبر عن إعجاب وتقدير لما اطلعت عليه -على قلّته- من تراثنا الفقهي.
...
أثمرت هذه المرحلة إذاً هذا البحثَ (فقه إمام الحرمين: خصائصه - أثره - ومنزلته) ثم تحقيقَ كتاب (الغياثي).
ورحت أتطلع لما وعدتُ به من تحقيق (نهاية المطلب)، ووقفت أسائل نفسي: هل أستطيع أن أقوم بهذا العمل؟ هل أتمكن من جمع صورٍ لمخطوطاته المبعثرة في خزائن العالم؟ وهل ستكوّن هذه الأجزاء نسخة كاملة؟ وفي كم من الزمن أستطيع أن أصل إلى هذا؟ وهل أُطيق قراءةَ هذا النصِّ وأُقيم تصحيفَه، وأصوب تحريفَه؟ ثم هل بقي في العمر فسحة تسع هذا العمل؟
وضعت هذه الأسئلة أمام عيني، ورحت أقلب الأمر على وجوهه، ووقفت حائراً
__________
(1) من مقدمة فقه إمام الحرمين: 16.

(المقدمة/23)


متردداً: أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، يدفعني حبي لإمامي، وعشقي لتراثه، فأتقدم، وتردُّني هذه الصعوبات فأتأخر.
وما هو إلا أن شرح الله صدري، وربط على قلبي، فحزمت أمري، وعقدتُّ عزمي، فنفضت يدي من كل عملٍ سوى هذا العمل، وأقبلت عليه إقبال عاشق ولهان، وقضيت هذه السنوات التي تربو على الخمس والعشرين، أسيرَ هوى إمام الحرمين وكتابه، أبذل في سبيل ذلك كل ما أُطيق، بل فوق ما أطيق، أرتحل وراء المخطوطات حيث يعزّ جلبُ صورها بالمراسلات، والرجاءات، والوساطات، وأتابع إعدادها للعمل: من نقلٍ من الميكروفيلم إلى الأوراق، ثم أعكف عليها مفهرساً مرتباً، وفي ذلك من العناء ما فيه، " لا يعرف الشوق إلا من يكابده ".
ناهيك عما كان يحدث من مفاجآت حيث كنا نلهث وراء تصوير المخطوط، ونبذل ما نبذل، ثم نفاجأ بعد إظهار الفيلم أنه ليس من (نهاية المطلب) ولكنه من كتاب آخر، أخطأ مفهرسو الخزانة وسجّلوه باسم نهاية المطلب. ولكن المفاجأة الأبشع أن يشتبه رقم المخطوط ورمزه على المصوِّر فيترك (نهاية المطلب) وهو بين يديه ويصوّر لنا كتاباً آخر، ومن أعجب العجب أنّ ذلك تكرر معنا أربع مرات متتاليات، تأتينا مكررةً صورةُ كتابٍ آخرَ غيرِ الذي نريده، مع أننا كنا لا نألو جهداً في توضيح المطلوب: حيث كنا نرسل صورةً لصفحة فهرس الخزانة، ونبين عليها الرقمَ المطلوب، ونذكُر بدءَ الجزء وخاتمته، ونؤكد أن هذا هو المطلوب!!! ومع ذلك كان ما كان. وأخيراً قيض الله لنا من أهل العلم مَنْ أعاننا على الحصول على الصورة المطلوبة، فجزاه الله خير الجزاء.
والحديث عن المعاناة في هذا الجانب ووصف ما لقيناه وكابدناه، يضيق به المقام، وله مجالٌ غير هذا المجال.
وإنما ألمحت إلى طرفٍ من هذا العناء لأقول: لو أن هناك عملاً مؤسسيّاً يرعى تحقيق التراث ويعمل على حمايته ونشره، لو كانت هناك مؤسسات فاعلة جادة في هذا المجال، لتولّت عن المحققين هذه المرحلة المرهقة المتعبة من العمل، ولقامت هي بجمع صور المخطوطات جمعاً مستقصياً بما يكون لديها من أجهزة

(المقدمة/24)


متخصصة في هذا الشأن، ثم نقلتها من الميكروفيلم على الأرواق، وقدمتها جاهزة للمحققين، أتمنى أن يعود لأمتنا وعْيُها؛ فتعرف لهذا التراث حقَّه وقدره.!!
...
أما معاناة النص المخطوط، قراءةً وفهماً وتقويماً وتوضيحاً، وإضاءةً لِغَوامضه، وحلاًّ لمشكلاته، وجلاءً لمُعْوِصاته، فهذا هو عمل المحقق على الحقيقة، وهو لعمري عملٌ ممتع حقاً -على ما يأكل من الوقت والجهد- يعرف ذلك كلُّ من شرح الله صدره من أهل هذا الفن؛ من أجل هذا لم أكن أَضنّ على الكلمة أصوّب تصحيفها، أو الجملة أُقيم خَلَلَها، أو الفقرة أتبيّن مغزاها ومرماها، باليوم واليومين، بل بالأسبوع والأسبوعين، بل أحياناً تظل الكلمة أو الجملة تراوحني وتغاديني إلى ما شاء الله، حتى يفتح الله لنافيها وجهاً.
وكم من ليالٍ قضيتها وصورة الكلمة تلازمني في فراشي، وتشاركني وسادي، وكم من مرَّة أهب من فراشي فرحاً مسروراً، مكبراً مهللاً، فقد انكشفت صورة الكلمة الصحيحة، أو استقام لي بناء الجملة، وأسجل ذلك حامداً شاكراً، عادّاً ذلك آية على رضا الله وقبوله وتوفيقه.
انقطعت لهذا الكتاب عن دنيا الناس، ووهبت له وقتي، وجهدي، وسرّي، وعلانيتي (1)، وبفضلٍ من الله وعونٍ انتصرت على نفسي، ورددتها عما كانت تجاذبني نحوه، وتدفعني إليه:
__________
(1) ما انشغلت عن الإمام إلا به، فقد أخرجتُ في هذه الفترة القسم الأول من كتابه (الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية). ثم كان من فضل الله أن كلل مسعانا بالنجاح، فاحتفلت جامعة قطر بالذكرى الألفية لميلاد إمام الحرمين سنة 1419 هـ بإقامة ندوة عالمية قُدِّمتْ فيها أبحاث علمية رصينة شملت المجالات المتعددة لفكر الإمام ومنزلته وأثره، بلغت هذه الأبحاث نحو الثلاثين بحثاً، وكان لنا شرف الإعداد لهذه الندوة والإشراف عليها منذ قدمنا فكرتها إلى طباعة بحوثها.

(المقدمة/25)


* من المشاركة في المؤتمرات والندوات، وفيها الذِّكْر والصِّيت، ولقاءُ الأعلام، ووراءها ما وراءها، وناهيك عن الأضواء والفلاشات.
* وكذلك المشاركة في التلفزة -بعد أن أخذتُ من ذلك بنصيب- وكنت مندفعاً في تياره، إلا أنني أمسكت وتماسكت سريعاً، ثم أحجمت وامتنعت امتناعاً جازماً.
* أما الصحف والمجلات، فلم يكن لنا فيها إلا أنَّةُ المكلوم، ونَفْثةُ المصدور، نشارك بها أحياناً: صرخة في وجه تزييف، أو كشفاً لتضليل، أو ردّاً لانحراف.
* ولكني مع ذلك -بحكم النشأة في العمل الإسلامي- لم أغب عن هموم أمتي ومتابعة ما يجري من حولي؛ فكم من مرة كنت أتناول بطاقة لأسطر عليها صرختي وآهتي، وأبثها مواجعي وآلامي، ثم أضعها جانباً، ولا أهيئها للنشر؛ لابدّ للمكروب أن يتأوّه.
* بل شغلت بهذا الكتاب عن قضية من أخطر قضايانا الفكرية، وأعني بها هذا الخلل العتيد في فهم تاريخ أمتنا؛ فعندي أنه ما لم يصحح الدعاة وقادة العمل الإسلامي، وعلماء الأمة، أقول: العلماء والدعاة وقادة العمل الإسلامي، ما لم يصحح هؤلاء فهمهم لتاريخ الإسلام والمسلمين، فلن تستقيم الأمة على طريق.
وليس في هذا الكلام أدنى مبالغة، فالذي يحرِّك الأمة ويقودها، ويضيء لها الطريق هو ثقافتها، ولا ثقافة بغير تاريخ.
وعندي في هذا الموضوع الكثير الكثير مما يصحح أخطاء وأكاذيب تعلمناها وصارت عندنا بدهيات ومسلمات، وما زال الدعاة والعلماء يرددونها، ويتخذونها مرتكزاً لأفكارهم، ومنطلقاً لآرائهم، ومستنداً لأحكامهم.
بل الأدهى من ذلك أن هذه الأكاذيب والأغاليط التاريخية شكّلت وِجدانَ هؤلاء العلماء، وصاغت عواطفَهم، لم يَنْجُ من هذا أحد "إلا من رحم ربَّك وقليلٌ ما هم". وويلٌ للعقل من العاطفة، "حبك الشيء يُعمي ويُصم" رواه أبو داود وسكت عنه.

(المقدمة/26)


نعم، هذا ما نراه من الواقع الثقافي لعلماء الأمة -مع اعترافنا بعلمهم وفضلهم- وما نراه من الدعاة وقادة العمل الإسلامي - مع تقديرنا لجهادهم وتضحياتهم، إن هؤلاء وهؤلاء يسلّمون بتلك المقولة التي صارت إحدى دعائم ثقافتنا، وأعني بها: " القول بأن الإسلام لم يُطَبَّق إلا في عصر الراشدين، بل إن الانحراف بدأ منذ عصر الخليفة الثالث " هذه المقولة تجدها صريحةً حيناً، وبين السطور حيناً، حتى إنك لتجد العلمانيين والملاحدة الذين يناوئون الدعوة إلى الإسلام يَجْبَهون الدعاة والعلماء بما في كتبهم، وما سطروه بأيديهم: قائلين لهم: أيَّ إسلام تريدون؟ إسلام عثمان بن عفان!! الذي رتع في مال الأمة وأباحه لبني أمية، ونفى أبا ذرٍّ رضي الله عنه، وأَرْكبَ قبيلته بني أمية رقابَ العباد، فجعلهم الولاة، والقادة، وخَزَنَة بيت المال.
أم تريدون إسلام معاوية وعمرو بن العاص الذي خدع أبا موسى الأشعري يوم التحكيم، أم تريدون إسلام يزيد الذي أباح المدينة لجنوده، وضرب الكعبة وهدمها بالمنجنيق، وقتل الحسين؟؟
أم تريدون إسلام أبي العباس السفاح؟ أم إسلام هارون الرشيد وليالي ألف ليلة وليلة؟ ... إلخ.
ولا يجد الإسلاميون جواباً!! كيف!! وهذه المعاني مبثوثة في كتبهم، ودائرة على ألسنتهم!!
وعندما يُفحمون ويسقط في أيديهم يلجؤون إلى جوابٍ يظنون أنه ينفعهم ويخرجهم من ورطتهم؟ فيقولون: " إن الإسلام يحكم على البشر، والبشر لا يحكمون على الإسلام، فنحن لا ندعو إلى إسلام الأمويين، ولا إلى إسلام العباسيين، وإنما ندعو إلى الإسلام الصحيح الثابت في القرآن والسنة ".
ولكن هذا يرتد إلى نحورهم بداهةً، فيقال لهم: ما أشد غروركم، إذا كان الصحابة، والجيل الأول خير القرون قد عجزوا عن تطبيق الإسلام، فكيف تستطيعون أنتم تطبيقه؟؟ نريد مناهج قابلة للتطبيق؟ شيوعية، اشتراكية، ليبرالية، رأسمالية.
هكذا يتكلم العلمانيون وأعداء الحل الإسلامي. والإسلاميون -علماؤهم ودعاتهم - ينقطعون، ولا يُحيرون جواباً.

(المقدمة/27)


أرأيت إلى خطورة هذه القضية، قضية التاريخ) (1)!!
لقد سادت حضارتنا أكثر من ألف عام، وارتادت أمتنا للبشرية طريق الأخوة والأمن والأمان والحق والعدل، وحملت لواء العلم والفكر، والأدب والفن، في أطهر خُلق وأسمى سلوك.
هذه حقائق ومسلّمات يعترف بها العدوّ قبل الصديق، وسَجَّلها شُرّاح الحضارات، وفلاسفة التاريخ، ولكن عَجَزْنا حتى الآن أن نستخرج منها نموذجاً لصورة الإسلام مطبقاً نباهي بها الدنيا، وندعوها إليه، وبقي علماؤنا ودعاتنا يردّدون أكاذيب عن عثمان رضي الله عنه، ونفيه أبا ذرّ، وعن يزيد بن معاوية وإباحته المدينة، وهدمه الكعبة، وعبثه برأس الحسين، وكل ذلك باطل لا أصل له.!!!
ليس هذا استطراداً ولا خروجاً عما نحن فيه، وإنما أردت بهذا أمرين:
الأول - أن أقول: إنني سعدتُ بكل ما فاتني بسبب إمام الحرمين وكتابه إلا هذه القضية، فكم كنت أتمنى أن أعطيها جهداً أكبر، ووقتاً أكثر، ولكن ضعفت المُنّة، وضاق الوقت حتى عن إتمام بعض ما بدأت (2).
__________
(1) هذا استطرادٌ في غير محله، ومعالجةُ موضوع تاريخي طويل الذيول في مقدمة كتاب فقهي غيرُ مستحسن، والناس على تفاوت نزعاتهم تتحفظ على هذه الجزئية من المقدمة، ولذا فدار المنهاج تعتبر ذلك رأياً خاصاً للمحقق، فلزم التنويه والتنبيه. (الناشر).
(2) كان من عملنا في هذا المجال: ذ
* بحث بعنوان (المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي) نشر في سلسلة كتاب الأمة رقم 27.
* ومجموعة بحوث جمعت في كتاب بعنوان (نحو رؤية جديدة للتاريخ الإسلامي) - دار الوفاء بمصر.
* بحث بعنوان (الزبير بن العوام - الثروة والثورة) نشر بحولية كلية الشريعة - جامعة قطر.
العدد (3) وما زال في حاجة إلى مزيد بسط.
* بحث بعنوان (من أخبار يزيد بن معاوية تحقيق وتمحيص) نشر بحولية مركز بحوث السيرة والسنة - جامعة قطر، العدد (9).
* وبحث لم ينشر يؤكد أن أبا ذر لم يخرج إلى الربذة منفياً. =

(المقدمة/28)


الثاني - والسبب الثاني في بسط هذه القضية هنا هو إظهار خطورتها، والتنبيه لآثارها؟ إبراء للذمة، وإعذاراً إلى الله تعالى، آملاً أن يَنْهَدَ لهذا الأمر من شباب العلماء والباحثين من يحقق الأمل، ويكمل العمل.
نعم، انقطعتُ لإمام الحرمين وكتابه عن كل هذه المجالات، أو بالأحرى صرفني الله عنها، فقد كانت متاحة ميسورة، مدَّ اليد، فتركناها -بعد أن ذقنا حلاوتها- عن قُدرةٍ عليها، ورغبة فيها، وذلك لا يكون إلا بفضلٍ من الله وعونه؟ فله سبحانه
الفضل والمنة.
كنت أقول لمن يدعوني للمشاركة في هذا العمل أو ذاك: إن إمام الحرمين يجالسني، ويراوحني ويغاديني، وهو أمامي على المكتب يأخذ على يدي إن هي امتدت لغير كتابه، كنت أستشعر هذا المعنى حقيقةً، فما كنت أغادر مكتبي إلا مضطراً لأداء واجب عزاءٍ أو نحوه، وكنت أعود مسرعاً، وكأني أقدّم للإمام عذري.
ومضت السنون وتطاولت الأعوام، وطال العمل واستطال، وأنا صابرٌ جَلْد، غيرُ ضجرٍ ولا ملول، بل مستمتع مسرور، ومَنْ حولي يعجبون، وعن الكتاب يتساءلون: كل هاتيك الأعوام في كتاب واحد؟؟ {وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 52] "لا يعرف الشوق إلا من يكابده".
تجاوزت الأعوام الخمسَ والعشرين عدّاً وأنا في صحبة إمام الحرمين، أعطيه ويعطيني: أعطيه وقتي وجهدي، وصبري واتئادي، وتأملي وأناتي، وحبي وعشقي، وشغفي وهيامي.
ويعطيني كل يومٍ جديداً، يمنحني فرائد من الفقه، ودقائق من الأصول، وأوابد من النحو، ونوادر من اللغة، وشوارد من الحديث؛ ويطوف بي مرابع، ومجالس ومدارسَ، أسمع فيها من أعلام أمتي وأئمتها.
__________
= * وتحت الأعداد بحث عن عثمان ومال الأمة، وآخر عن قواد عثمان وعماله، وآخر مطول عن يزيد بن معاوية.

(المقدمة/29)


وقد كان في هذا الانقطاع مكافأة أخرى؛ إذ كان مُغترباً لي وملجأ ألوذ به من واقع فاسد مفسد، واقع بئيس، ابتلينا به وقُدِّر علينا أن نعيشه مقهورين، قدّر علينا أن نعيش هذا الزمان الذي نرى أمتنا تتحرك على المحندر بعد أن تمزقت دولاً متناحرة، ووصل الأمر أن حاضر الأمة -بعد أن ضل عن معرفة أعدائها- راح يشتبك مع ماضيها بحثاً عن ذرائع تبرر ما نحن فيه من هوان، فصرنا نستدعي رموزَ أمتنا وعظماءَ تاريخنا لنحاسبهم، فنجلدهم، ونركلهم، ونصفعهم، ثم نقتلهم سحلاً، واستشرى هذا الداء حتى عمّ وطمّ، فوجدنا من يلمز أول الخلفاء الراشدين واصفاً إياه بالديكتاتورية.!! واغوثاه!! ثم واغوثاه!!
...
ومما يجب أن أذكره أن كثيراً من أبنائي وتلاميذي -وقد أحسنوا الظن بي- كانوا يغْشَون مجلسنا راغبين في تلقي العلم على طريقة الأسلاف. ولكن هموم العيش، وواجبات الوقت، ووعورة الطريق، وبُعد الشقة، أعجزهم عن الاستمرار -ولا ألومهم- فانصرفوا إلى الدراسة الرسمية، ومنهم من حصل فعلاً على الدكتوراة، وبعضهم في الطريق.
ولكن واحداً منهم استطاع أن يقهر كلّ الشواغل، ويدفع كل الصوارف، فشرح الله صدره، وأنار قلبه، فدامت صحبتُه لنا سنوات مباركات تزيد على العشر، وفي كل يوم يزداد حباً للعلم، وعشقاً للدرس، حتى صار الدأب في البحث طبعَه، والرغبة في استقصاء المسائل عادتَه.
ولما رأيته قد استوى عوده، واستقام أُملُوده، جعلت أقول له: يا بني يكفيك هذا معي، ابحث عن دراسة رسمية تنال بها (شهادة)، فالعصر عصر الشهادات، فكان لا يزيد عن أن يقول -في تواضع- " أريد أن أتعلم، أين أنا من العلم!! ".
ذلكم هو ابني الحبيب وتلميذي النجيب:
الأستاذ علي حسن الحمادي
ومن عجب أن دراسته في أصلها (البكالوريوس) ليست في العلم الشرعي،

(المقدمة/30)


ولكنه -بفضل الله- طوّف بالمكتبة الإسلامية والعربية تطواف محب عاشق، لا متعجّل أو مُكرَه، فعرف أمهات المصادر والمراجع في كل الفنون تقريباً، وبالصبر والمصابرة سَلِسَ له قيادها، ولان له عصيّها، وانفتحت له مغاليقها، وانكشفت له مُعْوِصاتها، فصار يحسن التلقِّي منها، ويجيد الأداء عنها، فاستكمل بذلك عُدة الباحث، وملكة المحقق.
وإني أضرع إلى الله سبحانه أن يديم عليه نعمة خب العلم، وعشق البحث، وأن يوفقه لخدمة تراث أمتنا العظيم، الذي صار من أكثر الناس له عشقاً.
كما أسأله سبحانه أن يجزيه خير الجزاء على ما قدّم لنا من عون في إخراج هذا الكتاب؛ فقد وفر لنا أوقاتاً ثمينة، وساعات غالية بتنقيره وتنقيبه عن مسائل الخلاف في كتب المذاهب الأخرى، وعن متون الحديث، حينما يعزّ الوصول إليها في المراجع القريبة والمواضع المعهودة.
كما أسأله سبحانه أن يوفقه لإخراج ما بين يديه من كنوز مذهب إمامنا الشافعي والله خير معين وناصر.
...
ثم بعد،،،
أستعير من إمام الحرمين قوله في خطبة هذا الكتاب، فأقول: "إن هذا العمل هو على التحقيق نتيجة عمري، وثمرة فكري في دهري".
كما أستعير منه ما قاله حين عجب من نقد (الصيدلاني) لشيخه (القفال) فيما لا يستحق النقد، فتضرع إلى الله قائلاً: " نسأل الله تعالى حسن الإعانة، وتقييض منصفين ينظرون في مجموعنا هذا، وهو ولي التوفيق ".
ومن كل من ينظر في عملنا هذا نرجو دعوةً لنا بظهر الغيب، وأن يهدي إلينا عيوبنا، وأن يلحق بالكتاب ما يتاكد لديه من تصويبات.
أما الذي يسرف على نفسه وعلينا بالعيب والطعن، وتتبع المعايب والمثالب،

(المقدمة/31)


فنقول له: حنانيك!! لو رأيت (النهاية) وهي أجزاء مفرقة، وأشلاء مبعثرة، وحاولت قراءتها في هاتيك الأوراق، وعانيت مطالعتها في تلك الصفحات، لأقصرت وأقلَلْت.!!
" والذي لا يردّه ذو مُسكة، ولا يرى خلافه ذو حُنكة، أن المتعنت تعبانُ متعب، والمنصف مستريحٌ مريح.
ومن ذا الذي أُعطي العصمة، وأحاط علماً بكل كلمة؟ ومن طلب عيباً وجده، فإنني أهل لأن أزلّ، وعن درك الصواب -بعد الاجتهاد- أضلّ!! فمن أراد منا العصمة، فليطلبها لنفسه أولاً، فإن أخطأته، فَقَدَ عذره وخاب، وإن زعم أنه أدركها، فليس من أهل الخطاب " (1).
كما أستعير من ياقوت الحموي أيضاً ماختم به خطبة كتابه، فما أشبه حاله بحالي، حتى كأنه ينطق بلساني فأقول بقوله: " ولما تطاولت في جمع هذا الكتاب الأعوام، وترادفت في تحصيل فوائده الشهور والأيام، ولم أنته منه إلى غاية أرضاها، وأقف على غَلوة (2) -مع تواتر الرشق- فأقول: هي إياها، ورأيت تعثر قمر ليل الشباب بأذيال كسوف شمس المشيب وانهزامه، وولوجَ ربيع العمر على قيظ انقضائه بأمارات الهرم وانهدامه، وقفتُ هاهنا راجياً فيه نيل الأمنيّة، بإهداء عروسه إلى الخطاب قبل المنية، وخشيتُ بغتة الموت، فبادرت بإبرازه الفَوْتَ.
على أنني من اقتحام ليل المنية عليّ قبل تبلّج فجره على الآفاق، لجدّ حذر ... وسألت الله عز وجل ألا يحرمنا ثواب التعب فيه، وألا يكلنا إلى أنفسنا فيما نحاوله وننويه، وجائزتي على ما أوضعت إليه ركاب خاطري، وأسهرت في تحصيله بدني وناظري، دعاءُ المستفيدين الناظرين، وذكر زكيٌّ من المؤمنين بأن أحشر في زمرة الصالحين ".
__________
(1) من كلام ياقوت الحموي في مقدمة كتابه (معجم البلدان).
(2) الغَلوة: مقدار رمية سهم، وتقدر بثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة.

(المقدمة/32)


وأسأله سبحانه أن يهب لي خاتمة الخير، ويقيني مصارع السوء، ويتجاوز عن سيئاتي، ولا يفضحني بها يوم العرض، وأن يحلّني دار المقامة من فضله، بواسع عطائه وبالغ نواله، إنه الجواد الكريم، الغفور الرحيم، وإليه ضراعتي أن يغفر لوالدي، وأن يرحمهما كما ربياني صغيراً، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (1).
الدوحة فجر يوم الإثنين الثالث والعشرين من ذي الحجة 1423 هـ
الموافق الرابع والعشرين من فبراير 2003 م
...
__________
(1) لقارئ هذه الخطبة أقول: قد لا يكون الكلام قد أخذ حقه من الاتساق، والأسلوبُ قد أخذ حظه من الانتظام، فإن رأيت شيئاً من هذا، فلا تعجل باللوم، ومهّد لي عذري، فقد كتبت هذه المقدمة، وأنا على حال من البأس مضاعفة:
بأس في الجسد، تمثل في آلام في القلب، حذر معها الأطباء من القيام بأي مجهود، والاستعداد لعمل جراحة ليست بالهينة، مع تقدم السن وضعف الجسم، مما جعل الفكر مشتتاً، والذهن موزعاً.
وبأس آخر جاء ضِعفاً على الأول، فها هي طبول الحرب الإنجلوأمريكية تدق منذرة بحرب ماحقة تهدّد باجتياح دار السلام: بغداد، مدينة المنصور، حاضرة الرشيد، والمأمون، والمعتصم، مقرّ دار الحكمة، ومقام أبي حنيفة النعمان، وأحمد بن حنبل، بغداد التي ظلت حاضرة الإسلام، بل حاضرة الدنيا قروناً، سيطبق عليها تتار العصر غداً أو بعد غد، وحكام المسلمين اليوم مثل أسلافهم سنة 656 هـ عندما اجتاح هولاكو بغداد، وإذا كانت المقادير في الجولة الأولى أسعفتنا بعد عامين فقط 658 هـ بسيف الدين قطز (وعين جالوت) التي ثأرت لبغداد وردت التتار القدامى على أعقابهم، فهل نأمل في سيف الدين قطز بعد عامين؟ قولوا: اللهم آمين.

(المقدمة/33)


تصدير بقلم العلامة فقيه العصر فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي أكمل لنا دينه، وأتم علينا نعمته، ورضي لنا الإسلام ديناً، والقرآن إماماً ومحمداً نبياً ورسولاً، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلمنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على دربه إلى يوم الدين (أما بعد).
فيسرني أن أصدر هذا الكتاب الكبير (نهاية المطلب في دراية المذهب) لإمام الحرمين الجويني رحمه الله، بتحقيق أخينا البحاثة الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب، حفظه الله، وسدد خطاه.
ولا سيما أن كلية الشريعة بجامعة قطر تقيم ندوة علمية عالمية، بمناسبة مرور ألف سنة هجرية على ميلاد الجويني، فقد ولد رضي الله عنه سنة 419 من الهجرة باتفاق المؤرخين.
ولي في هذا التصدير كلمات ثلاث:
كلمة عن الكتاب، وموضوعه، وقيمته.
وكلمة عن مصنفه الكبير، ومنزلته في علوم الإسلام.
وكلمة عن محققه، ومستوى تحقيقه.

(المقدمة/34)


1 - الكتاب
أما الكتاب، فهو ذخيرة ثمينة من ذخائر تراثنا الفقهي الزاخر، يعرفه المشتغلون بفقه المذهب الشافعي، ويدركون قيمته، فهو أحد الأعمدة التي يستند إليها، ويعول عليها، وهو ينشر لأول مرة؛ فقد كان كنزاً مطموراً، برغم شهرته، ولكنه لم تكن منه نسخة كاملة مجموعة في مكتبة واحدة، يسهل تناولها والعكوف عليها.
ومن المعروف: أن في كل مذهب من المذاهب المتبوعة كتباً متميزة تعد (أمهات) فيه. وليس السبب في ذلك هو (كمها) أو سعتها وكثرة أوراقها وصفحاتها فحسب، بل العمدة فيها هو (الكيف) قبل (الكم)؛ لما تعتمده من تأصيل، وما تحتويه من تدليل، وما تتخذه من نهج علمي، يميزها عن غيرها.
ألف إمام الحرمين كتاب (النهاية) في سنواته الأخيرة، أي بعد أن اكتمل نضجه، وأخرج زرعُه شطأه، واستغلظ واستوى على سوقه، أراد أن ينهض بمهمة في المذهب لا يقوم بها غيره، من تهذيب المذهب بكتاب (يحوي تقرير القواعد، وتحرير الضوابط والمعاقد، في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصَّل منها والمجموع، ويشتمل على حل المشكلات، وإبانة المعضلات، والتنبيه على المعاصات ... ) كما قال رحمه الله في مقدمة الكتاب. بل قال في مقدمته هذه الكلمة المعبرة عن نظرته إلى الكتاب وقيمته عنده: (وهو -على التحقيق- نتيجةُ عمري، وثمرة فكري في دهري) (1)!
ومن قرأ لفقهاء الشافعية بعد إمام الحرمين، وجدهم مزهوِّين كلَّ الزهو، فخورين كل الفخر، بكتاب إمامهم هذا، فطالما نوهوا به، وعظموا قدره، وأشاروا إلى تفرده وتميزه.
انظر إلى ما قاله ابنُ عساكر عنه في كتاب (تبيين كذب المفتري): أنه ما صُنّف في الإسلام مثله!
__________
(1) اقتبسنا هذه الكلمة من مقدمة الكتاب عند الدكتور الديب.

(المقدمة/35)


وقد اعتبره الإمام النووي في (المجموع) أحد كتب أربعة تعد أساسية في المذهب.
وقال عبد الغافر الفارسي فيما نقله تاج الدين السبكي:
" وصار أكثر عنايته مصروفاً إلى تصنيف (المذهب الكبير) المسمى بـ (نهاية المطلب في دراية المذهب) حتى حرره وأملاه، وأتى فيه من البحث والتقرير، والسبك والتنقير، والتدقيق والتحقيق، بما شفى الغليل، وأوضح السبيل، ونبه على قدره ومحله في علم الشريعة، ودَرَّس ذلك للخواص من تلاميذه، وفرغ منه ومن إتمامه، فعقد مجلساً لتتمة الكتاب، حضره الأئمة الكبار، ودعَوْا له وأثنَوْا عليه، وكان من المعتدِّين بإتمام ذلك، الشاكرين لله عليه؛ فما صنف في الإسلام قبله مثلُه؛ ولا اتفق لأحد ما اتفق له، ومن قاس طريقته بطريقة المتقدمين في الأصول والفروع وأنصف: أقرَّ بعلو منصبه، ووفور تعبه ونَصَبه في الدين، وكثرةِ سهره في استنباط الغوامض، وتحقيق المسائل، وترتيب الدلائل " (1).
فانظر إلى هذه الجملة، تعرف قيمة الكتاب عند العلماء، ولا سيما الشافعية (ما صُنف في الإسلام قبله مثله)!
وقال تاج الدين السبكي: ومن تصانيفه (النهاية) في الفقه: لم يصنف في المذهب مثلها فيما أجزم به (2).
وعلق علامة المتأخرين من الشافعية ابن حجر الهيتمي (ت 973 هـ) صاحب (تحفة المحتاج في شرح المنهاج) وغيره من الكتب في أثناء كلام من (ذيل تحرير المقال) على قولهم: إنه منذ صنف الإمام كتابه (النهاية) لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام، فقال: " لأن تلميذه الغزالي، اختصر النهاية المذكورة في مختصر مطول حافل، وسماه (البسيط) واختصره في أقلَّ منه وسماه (الوسيط) واختصره في أقل منه وسماه (الوجيز)، فجاء الرافعي، فشرح الوجيز شرحا مختصراً، ثم شرحاً
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي: 5/ 177، 178.
(2) المصدر السابق ص 171.

(المقدمة/36)


مبسوطاً، ما صنف في مذهب الشافعي مثله ...
ثم جاء النووي واختصر هذا الشرح، ونقحه وحرره، واستدرك على كثير من كلامه ... وسماه (روضةَ الطالبين) .. ، ثم جاء المتأخرون بعده فاختلفت أغراضهم ".
والعجيب أني قرأت لابن حجر نفسه في كتابه (كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع) أن أعظم مؤلفات الشافعية، هو المجموع للنووي (1). فلعل كلَّ واحد من هذه الكتب الثلاثة كان أعظمَ بالنسبة لزمنه: النهاية للجويني، وشرح الوجيز للرافعي، والمجموع للنووي، وكل منهم له قدره ووزنه وأثره، ولا حرج على فضل الله.

2 - المصنّف
أما مصنف الكتاب فهو إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت 478 هـ) أحد عمالقة الفكر الإسلامي، والعلم الإسلامي، الذي شرَّق صِيتُه وغرَّب. واعترف بفضله القاصي والداني، وأثنى عليه السابقون واللاحقون والمحْدَثون إلى يومنا هذا.
إمامٌ وابنُ إمام، وفقيه وابن فقيه، أخذ العلم كابراً عن كابر.
قال معاصره الإمام أبو إسحاق الشيرازي: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهةُ هذا الزمان! وقال له مرة: يا مفيد أهل المشرق والمغرب، لقد استفاد من علمك الأولون والآخرون.
وقال الحافظ أبو محمد الجرجاني: هو إمام عصره، ونسيج وحده، ونادرة دهره.
وقال قاضي القضاة أبو سعيد الطبري، وقد قيل له: إنه لقّب إمام الحرمين: بل هو إمام خراسان والعراق، لفضله وتقدمه في أنواع العلوم.
وقال العلامة تاج الدين ابن السبكي في ترجمته في (طبقات الشافعية): هو الإمام
__________
(1) انظر: ص 276 من (كف الرعاع) المطبوع مع الزواجر، طبعة دار المعرفة - بيروت.

(المقدمة/37)


شيخ الإسلام، البحر الحبر، المدقق المحقق، النظار الأصولي المتكلم، البليغ الفصيح الأديب، العَلَم الفرد، زينةُ المحققين، إمام الأئمة على الإطلاق.
ونقل ابن السبكي عن الحافظ عبد الغافر الفارسي قولَه فيه: فخر الإسلام، إمام الأئمة على الإطلاق، حبر الشريعة، المجمع على إمامته .. من لم تر العيون مثله قبله، ولا ترى بعده .. رباه حِجرُ الإمامة، .. وأرضعه ثدي العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه ويفع (1). اهـ.
في فقه الشافعية: إذا قيل: قال الإمام، أو اختاره الإمام، أو نحو ذلك، فلا إمام غيره، ولا تقال بهذا الإطلاق على أحد سواه.
وقد وصفه بعضهم وقد كان لا يزال في شبابه، فأضفى عليه من الفضائل والمناقب: ما لا يجتمع في العادة مثلها لفرد، ولكن الله يختص بفضله من يشاء.
قال: فالفقه فقه الشافعي، والأدب أدبُ الأصمعي، وحسن بصره بالوعظ للحسن البصري .. وكيفما كان فهو إمام كلِّ إمام، والمستعلي بهمته على كل هُمام ... إذا تصدر للفقه فالمزني من مُزْنته قطرة، وإذا تكلم (من علم الكلام) فالأشعري من وَفْرته شعرة، وإذا خطب ألجم الفصحاء .. (2)!
وقال ابن خلكان في ترجمته: أعلم المتأخرين من أصحاب الإمام الشافعي على الإطلاق، المجمع على إمامته، المتفق على غزارة مادته، وتفننه في العلوم، من الأصول والفروع والأدب، وغير ذلك. وتفقه في صباه على والده أبي محمد، وكان يُعجب بطبعه وتحصيله وجودة قريحته، وما يظهر عليه من مخايل الإقبال، فأتى على جميع مصنفات والده، وتصرف فيها، حتى زاد عليه في التحقيق والتدقيق (3).
تكوّن إمام الحرمين تكوّناً علمياً قوياً منذ صباه، وتفقه على والده الإمام أبي محمد الجويني وأخذ علوم عصره عن أفذاذ رجالها المعروفين في وقتهم: من العربية،
__________
(1) انظر: الطبقات الكبرى للسبكي: 5/ 165 - 174.
(2) الطبقات الكبرى: 5/ 178.
(3) وفيات الأعيان لابن خلكان: 3/ 167 , 168 الترجمة رقم (378).

(المقدمة/38)


والقراءات والحديث، والتفسير، وأصول الدين، والفقه، وأصول الفقه.
وجمع الكثير من مصادر العلم في معارف عصره -بالإضافة إلى ما وجده عند والده- وأقبل على هذه المراجع ينهل منها ويعلّ، في لهفة وشوق، وفي دأب وصبر، مواصلاً الليل بالنهار، يقرأ ويحصل، ويفهم ويهضم.
يقول معاصره عبد الغافر الفارسي: سمعته في أثناء كلامٍ له يقول: "أنا لا أنام ولا آكل عادةً، وإنما أنام إذا غلبني النوم، ليلاً كان أو نهاراً، وآكل إذا اشتهيت الطعام في أي وقت كان! ".
وكان لذته ولهوه ونزهته في مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أي نوع كان.
قال عنه أحد شيوخه في النحو والأدب، وقد قرأ عليه بعض كتبه -وهو إمام الأئمة- مستزيداً من العلم، وطالباً له عند أهله، قال: ما رأيت عاشقاً للعلم -أيَّ نوع كان- مثلَ هذا الإمام؛ فإنه يطلب العلم للعلم (1)!
ونقل عنه السبكي قوله: ما تكلمت في علم الكلام كلمة، حتى حفظت من كلام القاضي أبي بكر (يعني الباقلاني) وحده: اثنى عشر ألف ورقة.
هذا من كلام شخص واحد في علم واحد! فكيف بكلام غيره، وبالعلوم الأخرى التي له فيها اليد الباسطة، والتصانيف المستكثرة: فقهاً وأصولاً وغيرها؟
ومراده بحفظ تلك الكتب: فهمها والقدرة على استحضارها عند الحاجة.
ويحكى أنه قال للغزالي يوماً: يا فقيه: فرأى في وجهه التغير، كأنه استقل هذه اللفظة على نفسه. فقال له: افتح هذا البيت، ففتح مكاناً وجده مملوءاً بالكتب، فقال له: ما قيل لي: يا فقيه (2)، حتى أتيت على هذه الكتب كلها! (3)
__________
(1) الطبقات الكبرى: 5/ 179، 180.
(2) في نفسي شيء من هذه الحكاية، إذ لا معنى لتغير الغزالي من قوله له: يا فقيه! والسبكي قد ذكرها بصيغة التمريض (يحكى).
(3) المصدر السابق 185.

(المقدمة/39)


وقد قال عن نفسه: (قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً) (1) 50000، فهل يقصد الضرب؟! 50000 × 50000= 2500000000 هذا مستحيل، أو يقصد العطف؟ أي 50000 + 50000= 100000 أظن هذا هو المقصود والمعقول، ولا أحسبه يقصد العدد حقيقة، إنما المقصود كثرة ما قرأ وحصّل من العلوم العقلية والنقلية.
عبقرية متميزة:
كان إمام الحرمين عبقريَّ زمانه -وما بعد زمانه- في العلوم التي تجمع بين العقل والنقل، وهي: علم الكلام، وأصول الفقه، والفقه، والخلاف.
وربما يظن كثير من الناس أن علم الفقه علم نقلي بحت، وهو كذلك عند الكثيرين، ولكنه -عند إمام الحرمين ومن جرى مجراه- له ارتباط وثيق بالعقل، في التأصيل والتدليل، والتقرير والتعليل، وربط المسائل بجذورها، ورد الفروع إلى أصولها، وقياس الأشباه بأشباهها، ومراعاة الجوامع والفوارق، ورعاية العلل والمقاصد.
الاستقلال في التفكير والاستقلال. في التعبير:
تميز إمام الحرمين بالاستقلال في التفكير، والاستقلال في التعبير.
فهو في أصول الدين أشعري، ولكنه قد يخالف الأشعريَّ، برغم تعظيمه لقدره، وتقديره لفضله.
وهو في فروع الفقه شافعي، ولكنه قد يستقل عن الشافعي بمسائلَ، وينفرد بنظراتٍ، وأفكار واجتهادات فقهية، لم يسبق بها أحد.
وهو واضع اللمسات الأولى في مقاصد الشريعة، حيث أشار إليها في (البرهان) وتحدث عن المصالح الضرورية والحاجية والتكميلية.
__________
(1) أعلام النبلاء: 18/ 471. والطبقات الكبرى: 5/ 185.

(المقدمة/40)


ثم جاء تلميذه الغزالي وصاغها صياغة جديدة متكاملة، ووضع أسس البناء لهذه النظرية، التي توسع فيها الشاطبي فيما بعد.
وعبارات إمام الحرمين في أكثر من كتاب له، بل في كل ما عرف من كتبه: تدل على أنه شخصية مستقلة الفكر، وإن انتسب إلى الأشعري اعتقاداً، وإلى الشافعي فقهاً، بل مع تعصبه للشافعي إلى الحد الذي جار على بعض المذاهب الأخرى، وبعض الأئمة مثل أبي حنيفة، كما تجلى ذلك في كتابه (مغيث الخلق في اختيار الأحق)، وفي حديثه -في بعض الأحيان- عن الإمام مالك، واسترساله في المصلحة المرسلة.
استمع إليه، وهو يقول في (الغياثي): " ومعظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف، يكتفون بتبويب أبواب، وترتيب كتاب، متضمَّنه كلامُ من مضى، وعلوم من تصرَّم وانقضى " (1).
وفي موضع آخر يقول:
" ولو ذهبت أذكر المقالات وأستقصيها، وأنسبها إلى قائليها .. لخفت خصلتين: إحداهما: خصلة أحاذرها في مصنفاتي وأتقيها، وتعافها نفسي الأبية وتجتويها، وهي سرد فصل منقول، عن كلام للمتقدمين مقول. وهذا عندي بمنزلة الاختزال والانتحال، والتشبّع بعلوم الأوائل، والإغارة على مصنفات الأفاضل! " (2).
فهو إذن يبحث عن الجديد، ويعاف تكرار القديم.
ثم يقول: " وحق على كل من تتقاضاه قريحته تأليفاً، وجمعاً وترصيفاً: أن يجعل مضمون كتابه: أمراً لا يلفى في مجموع، وغرضاً لايصادَف في تصنيف " (3).
وفي مكان آخر من الكتاب نفسه يقول:
" لست أحاذر إثبات حكم لم يدوِّنه الفقهاء، ولم يتعرض له العلماء؛ فإن معظم
__________
(1) الغياثي بتحقيق د. الديب: فقرة (45).
(2) المصدر السابق: فقرة (242).
(3) الغياثي: نفس الفقرة.

(المقدمة/41)


مضمون هذا الكتاب لا يُلفى مُدوَّناً في كتاب، ولا مُضمَّناً لباب. ومتى انتهى مساق الكلام إلى أحكام نظمَها أقوامٌ، أحلْتها إلى أربابها، وعزَيْتها إلى كتابها. ولكني لا أبتدع، ولا أخترع شيئاً، بل ألاحظ وضع الشرع وينبوعَه، وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه. وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدَّة، التي لا توجد فيها أجوبة العلماء مُعدّة" (1).
وهذا شائع في كتبه كلها، وهو يعتد بذلك ويباهي به، إلى حدٍّ قد تصفه بالعُجب أو الغرور، ولكنها -كما قال أخي عبد العظيم- الثقة الكاملة بالنفس، يقول في (البرهان) معقباً على ماعرض فيه لأنواع الجموع: (ونحن من هذا المنتهى نفرع ذِروةً في التحقيق لم يُبلغ حضيضُها، ونفترع معنى بكراً، هو -على التحقيق- منشأ اختباط الناس في عماياتهم) (2).
ولقد أقر الفقهاء، والأصوليون، والمتكلمون، من بعده، بأصالته وتقدمه، واستقلاله في العلم والفكر، فهو نسيج وحده فيما يصنف ويكتب، غير مقلد لأحد قبله.
يقول التاج السبكي في (طبقاته) عن كتابه (البرهان): " اعلم أن هذا الكتاب وضعه الإمام في أصول الفقه على أسلوب غريب، لم يقتد فيه بأحد، وأنا أسميه (لغز الأمة) لما فيه من مصاعب الأمور، وأنه لا يخلي مسالة عن إشكال، ولا يخرج إلا عن اختيار، يخترعه لنفسه، وتحقيقات يستبدّ بها، وهذا الكتاب من مفتخرات الشافعية " (3).
فانظر إلى هذه العبارات " لم يقتد فيه بأحد " وقوله: " عن اختيار يخترعه لنفسه، وتحقيقات يستبد بها " مما يدل على أن الرجل من المبدعين، وأصحاب العقول المبتكِرة.
__________
(1) الغياثي: فقر ة (378).
(2) انظر: البرهان: فقرة (234) ج 1/ 328.
(3) الطبقات الكبرى: 5/ 192.

(المقدمة/42)


وفي موضع آخر يعلق السبكي على ما وصفه بتحامل الإمام المازَري وغيرِه من علماء المالكية الذين شرحوا (البرهان) مبيناً سببَ هذا التحامل في رأيه، فقال: " إنهم يستصعبون مخالفةَ الإمام أبي الحسن الأشعري، ويرونها هُجنةً عظيمة، والإمام -إمام الحرمين- لا يتقيد لا بالأشعرىِ ولا بالشافعي، لا سيما في (البرهان)، وإنما يتكلم حسب تأدية نظره واجتهاده، وربما خالف الأشعريَّ، وأتى بعبارة عالية، على عادة فصاحته، فلا تتحمل المغاربة أن يقال مثلُها في حق الأشعري ".
قال السبكي: وقد حكينا كثيراً من ذلك في شرحنا على (مختصر ابن الحاجب) (1).
وقد استدل الحافظ السيوطي (ت 911 هـ) في رسالته (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) بعبارة السبكي هذه: أن إمام الحرمين لا يتقيد بالأشعري ولا بالشافعي، وإنما يتكلم حسب ما يؤديه إليه نظره واجتهادُه: أن هذا الإمام قد استقل بالاجتهاد، وتحرر من التقليد (2).
ونقل عن ابن المنيّر أنه قال في حق إمام الحرمين: له علو همة إلى مساواة المجتهدين.
ووصفه الحافظ القزويني بأنه: المجتهد ابن المجتهد (3).
ومما يؤكد ذلك: ما ذكره الدكتور الديب قي تحقيقه للبرهان من جملة فهارس لها دلالتها وأهميتها في آخر الكتاب، ومنها ثلاثة فهارس ننبه عليها هنا:
1 - فهرس المسائل التي خالف فيها إمامُ الحرمين الشافعيَّ، وقد أحصاها، فكانت أربعاً وعشرين مسألة.
2 - فهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين الأشعري، وقد حصرها في ثلاث مسائل.
__________
(1) الطبقات: 5/ 192.
(2) الرد على من أخلد إلى الأرض ص 194 تحقيق د. فؤاد عبد المنعم.
(3) نفسه.

(المقدمة/43)


3 - فهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين القاضي أبا بكر الباقلاني، وهو الرجل الثاني بعد الأشعري، وقد أحصاها، فكانت إحدى وأربعين (41) مسألة (1).
وهو يتحدث عن الإمام الأشعري بكل احترام وتقدير، ولكن لا يمنعه هذا أن يقول في بعض المسائل: ورأي الأشعري مختبط في هذه المسائل! وكيف لا وقد علق على قولة لوالده، الإمام المعروف فقال: وهذه زلة من الشيخ رحمه الله! (2).
وأما استقلاله في (التعبير) فهو ظاهرة ملحوظة في كل ما يكتب، فمعجمه اللغوي رحب، ومفرداته كثيرة، وهو ينتقي منها ويتأنق فيها، إلى حد الإغراب في بعض الأحيان، ولا يكاد يستخدم عبارات من قبله، وكثيراً ما يلتزم السجع، كما هو نمط عصره، وأغلبه مستساغ، وقليل منه متكلف، وقد رأيناه يلتزم السجع في بعض كتبه مثل (غياث الأمم) فهو مسجوع من أوله إلى آخره، إلا ماندر. وأحياناً أخرى يتحرر من السجع، ويمضي مسترسلاً، ككبار البلغاء. قال ابن خلكان: ورزق من التوسع في العبارة ما لم يُعهد من غيره (3).
عقل كبير وقلب كبير:
وكما تميز الإمامُ الجويني بعقله الكبير، تميز بقلبه الكبير، فقد اتفق مؤرخوه أن الرجل كان من (أصحاب القلوب) الذين لهم مع الله تعالى حال ومقام، وكان إذا ذكّر الناس في مجلسه بكى وأبكى الحاضرين.
وهذا مع أن الذين يشتغلون بالقضايا العقلية، والمجادلات الكلامية، يصابون بجفاف الروح، وقسوة القلوب، إلا من رحم ربك، من القلائل الذين احتفظوا بقلوبهم حية لم تمت، سليمة لم تسقم، صافية لم تشب، ومنهم إمام الحرمين. وقد قال هو رحمه الله بحق: " من ضرِي بالكلام صَدِي جنانه! "
قال مؤرخه عبد الغافر الفارسي: " كان من رقة القلب بحيث يبكي إذا سمع بيتاً،
__________
(1) انظر: هذه الفهارس في أواخر الجزء الثاني من (البرهان) ص 1443 - 1449.
(2) انظر: شذرات الذهب لابن العماد: 3/ 360.
(3) وفيات الأعيان: 3/ 168.

(المقدمة/44)


أو تفكَّر في نفسه ساعة، وإذا شرع في حكاية الأحوال، وخاض في علوم الصوفية في فصول مجالسه بالغدوات: أبكى الحاضرين ببكائه، وقطّر الدماء من الجفون بزعقاته ونعراته وإشاراته، لاحتراقه في نفسه، وتحققه بما يجري من دقائق الأسرار " (1). اهـ.
وقد تجلّى ذلك في خلقه وسلوكه مع من حوله، ومن ذلك خلق التواضع، فقد ذكروا: " أنه كان من التواضع لكل أحد بمحلٍّ يتخيل منه الاستهزاء، لمبالغته فيه.
ومن حميد سيرته: أنه ما كان يستصغر أحداً حتى يسمع كلامه، شادياً كان أو متناهياً .. صغيراً كان أو كبيراً، ولا يستنكف أن يَعزي الفائدة المستفادة إلى قائلها، ويقول: إن هذه الفائدة مما استفدته من فلان، وإن كان من تلاميذه ".
" وإذا لم يرض كلام أحد زيّفه، ولو كان أباه أو أحد الأئمة المشهورين " (2).
فهذا كله ينطق بأن هذا الإمام قد رُزق من نقاء القلب ما رُزق من ذكاء العقل، والله يختص بفضله من يشاء.
الإخلاص والشجاعة:
ومن الفضائل التي تميز بها إمام الحرمين، وتبدو واضحة لكل من درس حياته وتراثه بلا تعصب له ولا عليه: الإخلاص في طلب الحقيقة، عن طريق العقل الناقد، والشرع الضابط، فإذا كَشفت له الحقيقة قناعَها، ومدت له شعاعَها، بادر إلى الإيمان بها واعتناقِها، والإعلانِ عنها، بشجاعة لا نظير لها، وإن كانت مخالفة لما عليه الجمهور، أو ما عليه المذهب، وما مضى عليه دهراً من حياته، وقضى سنين عدداً وهو يدرسه ويصنّف فيه، ويذود عنه، ويحث على اتباعه.
وهذا واضح في مذهبه (العقدي) أكثر منه في مذهبه الفقهي. فمن المعروف والمشهور: أن إمام الحرمين كان من كبار متكلمي الأشاعرة، المؤوِّلين لآيات الصفات وأحاديثها، المدافعين عن التأويل. وقد برز في (علم الكلام) واشتهر به، وصنف فيه التصانيف التي سارت بذكرها الركبان، مثل (الشامل) و (الإرشاد)
__________
(1) الطبقات الكبرى: 5/ 180.
(2) المرجع السابق، وانظر: شذرات الذهب: 3/ 360.

(المقدمة/45)


و (اللمع) و (النظامية) وغيرها، وأخذ عنه هذا العلم كثيرون من تلاميذه النوابغ، وكان يتكلف في تأويله والدفاع عن مذهبه الأشعري إلى حد الاعتساف أحياناً، الذي لايرضاه المنصفون. وهذا شأن البشر.
وقد ذكر مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي في (سير الأعلام) ما جرى بينه وبين أبي القاسم بن بَرهان من مناظرة في (أفعال العباد). ومن المعروف لدى المتمرسين بمسائل الكلام: أن مذهب الأشعري في أفعال العباد من أضعف المذاهب، حتى ضرب به المثل في الخفاء، فقيل: أخفى من كسب الأشعري. ومع هذا كان الجويني في أول أمره يجادل عنه ويرد على خصومه، ويتأول صريح القرآن، وهو ما نقله الذهبي عن العلامة الحنبلي ابن عقيل في (فنونه) قال: قال عميد المُلك: قدم أبو المعالي، فكلم أبا القاسم بن بَرهان في العباد: هل لهم أفعال؟ فقال أبو المعالي: إن وجدت آية تقتضي ذا، فالحجة لك. فتلا:
(وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) [المؤمنون: 63] ومد بها صوته، وكرر: (هم لها عاملون) [المؤمنون: 63] وقوله تعالى: (لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة: 42] أي كانوا مستطيعين. فأخذ أبو المعالي يستروح إلى التأويل. فقال (أي ابن بَرهان): " والله إنك بارد. تتأول صريحَ كلام الله، لتصحح بتأويلك كلامَ الأشعري!! وأكَلَه ابن برهان (أي أعياه) بالحجة، فبهت " (1).
هكذا كان أبو المعالي إمام الحرمين، دهراً من حياته، ولا غرو أن اعتبره بعض الباحثين المؤسس الثاني للمذهب الأشعري، وكتب أستاذنا الشيخ علي جبر في كلية أصول الدين رسالة الأستاذية له عن (إمام الحرمين باني الأشعرية الحديثة) وإن لم نرها مطبوعة. ولكن الله شرح صدره للحق، فوجدناه في أواخر حياته قد غير نهجه، ورجع عن طريق التأويل -طريق الخلف- إلى طريق السلف في ترك الخوض، والانكفاف عن التأويل، كما أثبت أن للإنسان قدرة مؤثرة في أفعاله بإقدار الله تعالى وتمكينه، وليست مستقلة عن القدرة الإلهية. ولم يستنكف عن إعلان ذلك بكل
__________
(1) سير أعلام النبلاء جـ 18/ 469.

(المقدمة/46)


صراحة وجلاء. وهو ما ذكره في (الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية) (1).
قال إمام الحرمين:
" اختلفت مسالك العلماء في الظواهر التي وردت في الكتاب والسنة، وامتنع على أهل الحق فحواها وإجراؤها على موجب ما يبرزه أفهام أرباب اللسان فيها.
فرأى بعضهم تأويلَها، والتزامَ ذلك في القرآنِ وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل، وإجراءِ الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب تعالى.
والذي نرتضيه رأياً، وندين الله به عقداً: اتباعُ سلف الأمة، فالأولى الاتباع، وتركُ الابتداع. والدليل السمعي القاطع في ذلك: أن إجماع الأمة حجةٌ متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول صلى الله عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوةُ الإسلام المستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة، والتواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محتوماً؛ لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة.
فإذا تصرَّم عصرهم وعصرُ التابعين على الإِضراب عن التأويل؛ كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحْدَثين، ولا يخوضَ في تأويل المشكلات، ويكلَ معناها إلى الرب. وعند إمام القراء وسيدهم الوقف على قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) [آل عمران: 7]، من العزائم، ثم الابتداء بقوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران: 7]، ومما استحسن من إمام دار الهجرة مالك بن أنس أنه سئل عن قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة.
__________
(1) طبعت في القاهرة بتحقيق المحدث الفقيه الحنفي المعروف الشيخ محمد زاهد الكوثري. وقد طبعت تحت عنوان (العقيدة النظامية) ويبدو أن الذي طبع منها فقط هو جانب العقيدة، وهو ما وجد منها، إذ لم يعثر على باقيها إلى الآن.

(المقدمة/47)


فلتُجْرِ آيةَ الاستواء والمجيء (1) وقوله: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) [ص: 75]. وَيَبْقَى (وَجْهُ رَبِّكَ [الرحمن: 27]. و (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) [القمر: 14]. وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه، فهذا بيان ما يجب لله" (2).
ونقل الحافظ الذهبي عن الفقيه غانم الموشيلي قال: " سمعت الإمام أبا المعالي يقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما اشتغلت بالكلام " (3).
وقال الذهبي: " قال الحافظ محمد بنُ طاهر: سمعت أبا الحسن القيرواني الأديب -وكان يختلف إلى درس الأستاذ أبي المعالي في الكلام- فقال: سمعت أبا المعالي اليوم يقول: يا أصحابنا: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما اشتغلت به " (4).
وقد علق السبكي على هذا القول فقال: يشبه أن تكون هذه الحكاية مكذوبة على إمام الحرمين، وابن طاهر عنده تحامل على إمام الحرمين، والقيرواني المشار إليه: رجل مجهول.
ولكن يعكر على هذا ما نقله الموشيلي عنه، ولم يتعقبه السبكي، ثم الأقوال الأخرى لإمام الحرمين في رجوعه إلى طريق السلف تؤكد صحةَ هذه الرواية. كما أن روايات الحفاظ لا تسقط بمثل التهم التي ذكرها السبكي، وأي تحامل على إمام
الحرمين في هذه الرواية؟ بل فيها ما يرفع من قدره.
وحكى الفقيه أبو عبد الله الحسن بن العباس الرستمي قال: "حكى لنا أبو الفتح الطبري الفقيه قال: دخلت على أبي المعالي في مرضه، فقال: اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السنة، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور" (5).
__________
(1) آية المجيء قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 22].
(2) العقيدة النظامية: ص 23، 24. وقد نقل هذا النص الذهبي في (الأعلام) ج 18/ 473، 474.
(3) سير أعلام النبلاء: 18/ 473.
(4) المنتظم: 9/ 19، وطبقات السبكي: 5/ 186.
(5) طبقات السبكي: 5/ 191.

(المقدمة/48)


وهذه الرواية قد أقرها السبكي، ولم يعترض عليها.
قال الذهبي:
"وقرأت بخط أبي جعفر (محمد بن أبي علي): سمعت أبا المعالي يقول: قرأت خمسين ألفاً في خمسين ألفاً، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة، وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهي أهل الإسلام عنه، كل ذلك في طلب الحق، وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد، والآن فقد رجعت إلى كلمة الحق، عليكم بدين العجائز، فإن لم يُدركني الحق بلُطف بره، فأموتَ على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل على كلمة الإخلاص: لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني (1)! يعني: نفسه.
يقصد بالذي نُهي عنه أهل الإسلام: علم الكلام، فقد نهى عنه إمامه الشافعي، ونهى عنه مالك وأحمد، وغيرهما من الأئمة".
ويبدو أنه تأول نَهْي أهل الإسلام أنهم نهوا من يخاف عليه السباحة في هذا البحر الخضم، ويخشى عليه من الغرق، وهو يرى نفسه أقوى من ذلك.
كما قصد بتخلية أهل الإسلام وعلومهم الظاهرة: أنه دخل في العلوم العقلية والفلسفية وتغلغل فيها، ولم يشتغل بالعلوم النقلية من الحديث والآثار ونحوها، كما اشتغل بها غيره.
وهذا القول من هذا الإمام الكبير الذي أنفق عمره في هذا اللون من الثقافة العقلية التي امتزجت بفلسفة اليونان وجدلياتهم، التي لا تنفع غليلاً، ولا تهدي سبيلاً .. هذا القول يؤكد أن لا طريق أهدى ولا أجدى من طريقة القرآن في تأسيس العقيدة، وهي الأقرب إلى الفطرة، والألصق بالعقل والوجدان، وهو ما كان عليه الصحابة وتابعوهم بإحسان.
وإنما يستفاد من (علم الكلام) في الدفاع عن العقيدة في مواجهة المخالفين من أصحاب الأديان والفلسفات الأخرى، والفرق المبتدعة.
__________
(1) الخبر في (المنتظم) لابن الجوزي: 9/ 19، وأعلام النبلاء: 18/ 471، و (طبقات الشافعية) للسبكي: 5/ 585.

(المقدمة/49)


وهو ما وضحه من بعد، تلميذه حجة الإسلام الغزالي، حين بين أن علم الكلام: علم مُحْدَث أريد به حراسة عقائد العوام من تشويش المبتدعة.
وقال في (الإحياء): (اعلم أن حاصل ما يشتمل عليه علم الكلام من الأدلة التي ينتفع بها، فالقرآن والأخبار (أي الأحاديث) مشتملة عليه. وما خرج عنهما، فهو إما مجادلة مذمومة، وهي من البدع ... وإما مشاغبة بالتعلق بمناقضات الفِرق لها، وتطويلٌ بنقل المقالات التي أكثرها ترهات وهذيانات، تزدريها الطباع، وتمجها الأسماع، وبعضها خوض فيما لايتعلق بالدين، ولم يكن شيء منه مألوفاً في العصر الأول، وكان الخوض فيه بالكلية من البدع، ولكن تغير الآن حكمُه، إذ حدثت البدعة الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة، ونبتت جماعة لفقوا لها شُبَهاً، ورتبوا فيها كلاماً مؤلفاً، فصار ذلك المحذور بحكم الضرورة مأذوناً فيه، بل صار من فروض الكفايات. وهو القدر الذي يقابل به المبتدع، إذا قصد الدعوة إلى البدعة، وذلك إلى حد محدود) (1).
فلا غرو أن يروى عن إمام الحرمين ما رُوي من البراءة من (علم الكلام) والعودة إلى طريقة القرآن (2).
وقد اجتهد العلامة تاج الدين السبكي في طبقاته الكبرى: أن ينحو بهذا الكلام الجلي الواضح من إمام الحرمين، منحى آخر غيرَ ما يتبادر منه، دفاعاً منه عن (علم الكلام) الموروث، ووجه كلمات هذا الإمام العظيم الشجاع المخلص، إلى معانٍ متكلفة لا ينشرح لها الصدر.
وتحامل السبكي على شيخه الإمام الذهبي، تحاملاً لا يقبل من مثله في مثله؛ فالواقع أني ما رأيت مؤرخاً منصفاً مثلَ الذهبي، حتى مع أعلام المعتزلة وأمثالهم.
على أن إمام الحرمين ليس هو وحده الذي انتهى إلى رفض التأويل، وترجيح مذهب السلف، وتفويض حقائق هذه الألفاظ ومعانيها إلى الله تعالى.
__________
(1) إحياء علوم الدين ج 1/ 22، 23 طبعة دار المعرفة - بيروت.
(2) اقرأ تفسيراً مخالفاً ينكر هذا الرجوع فيما يأتي ص 206 تحت عنوان (موقف إمام الحرمين من علم الكلام). عبد العظيم.

(المقدمة/50)


فقد رجع من قبله شيخه أبو الحسن الأشعري في كتابه (الإبانة) وفي (رسالة إلى أهل الثغر) وغيرهما. ورجع من بعده تلميذه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، وذلك في كتابه: (إلجام العوام عن علم الكلام).
ولكن موقف شيخه إمام الحرمين كان أصرح وأوضح، فإن الغزالي اعتبر علم الكلام شأنَ الخواص، وجمهرةُ العلماء من الفقهاء والمفسرين والمحدثين والمتكلمين، وغيرهم يعتبرون من العوام في هذا الأمر عند الغزالي.
أما الخواص، فقد يوجد في كل عصر منهم واحد، أو اثنان.
ورجع بعد ذلك: الفخر الرازي (ت 606 هـ) الذي كان من أكبر المحامين المدافعين عن التأويل، وصنف فيه أكثر من كتاب، مثل (تأسيس التقديس) وغيره.
ثم قال في الطور الأخير من حياته العلمية:
" لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: أقرأ في الإثبات: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه: 5]، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر: 10] وأقرأ في النفي: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11]، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي "! (1)
وجاء في (طبقات الشافعية) لابن قاضي شهبة: 2/ 82 ما نصه: قال ابن الصلاح: أخبرني القطب الطوغاني مرتين: أنه سمع فخر الدين الرازي يقول: ياليتني لم أشتغل بعلم الكلام! وبكى (2).
قال الإمام الشوكاني في (إرشاد الفحول):
" وهؤلاء الثلاثة، أعني: الجويني والغزالي والرازي، هم الذين وسعوا دائرة التأويل، وطولوا ذيوله، وقد رجعوا آخراً إلى مذهب السلف، كما عرفت، فلله الحمد، كما هو أهله " (3).
__________
(1) سير النبلاء: 21/ 500.
(2) ذكر ذلك الشيخ شعيب الأرناؤوط في مقدمته لكتاب (أقاويل الثقات) للشيخ مرعي الحنبلي ص 22 نشر مؤسسة الرسالة، بيروت.
(3) إرشاد الفحول 2/ 49 بتحقيق د. شعبان محمد إسماعيل.

(المقدمة/51)


على أن إمام الحرمين لم يكتف بالرجوع إلى مذهب السلف نظرياً، بل حث الأئمة والمسؤولين عن قيادة الأمة -والمحافظة على الدين أول واجباتهم- أن يجعلوا مذهب السلف ونهجهم في تعلم التوحيد هو ما ينبغي أن يعلم للكافة.
أكد في (الغياثي): " أن الذي يحرص الإمام عليه: جمعُ عامة الخلق على مذهب السلف السابقين، قبل أن نبغت الأهواء، وزاغت الآراء: وكانوا رضي الله عنهم ينهَوْن عن التعرض للغوامض، والتعمق في المشكلات، والإمعان في ملابسة المعضلات، والاعتناء بجمع الشبهات، وتكلف الأجوبة عما لم يقع من السؤالات، ويرَوْن صرفَ العناية إلى الاستحثاث على البر والتقوى، وكف الأذى، والقيام بالطاعة حسب الاستطاعة، وما كانوا ينكّفون -رضي الله عنهم- عما تعرض له المتأخرون عن عيّ وحَصَر، وتبلُّدٍ في القرائح. هيهات!
فقد كانوا أذكى الخلائق أذهاناً، وأرجحهم بياناً، ولكنهم استيقنوا أن اقتحام الشبهات، داعية الغوايات، وسبب الضلالات، فكانوا يحاذرون في حق عامة المسلمين ما هم الآن به مبتلوْن، وإليه مدفوعون، فإن أمكن حملُ العوام على ذلك، فهو الأسلم " (1).
ونعم ما أوصى به هذا الإمام.
فكل خير في اتباع من سلف ... وكل شر في ابتداع من خلف
إمام الحرمين وعلم الحديث:
عُرف إمام الحرمين بالتقدم والإمامة في عدد من العلوم الإسلامية: مثل أصول الدين، وأصول الفقه، والفقه، والخلاف، ولكن لم يكن له قدم راسخة في الحديث وعلومه. وسبحان من وزع المواهب.
وقد عبر عن هذا الجانب مؤرخو الإمام والمعقبون عليه، بعبارات مختلفة، مغزاها كلها: أنه لم يكن من أهل هذا الشأن.
__________
(1) انظر: الغياثي: فقرة (280) بتحقيق د. عبد العظيم الديب.

(المقدمة/52)


قال ذلك السمعاني في (أنسابه): " كان قليل الرواية للحديث معرضاً عنه " (1).
وقال ياقوت في (معجم البلدان) نفس ما قاله السمعاني (2).
وقال الحافظ ابن حجر في (التلخيص) في تعليقه على ما قاله إمام الحرمين حول ثبوت الطمأنينة في الاعتدال: وهو من المواضع العجيبة التي تقضي على هذا الإمام بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها، فإن ذكر الطمأنينة في الجلوس ثابت في الصحيحين (3).
وقال نحوه من قبله ابن الصلاح في (الفتاوى الحديثية) وهو -كابن حجر- من الشافعية المرموقين.
ولعل أشد العبارات في ذلك هي عبارة الإمام الذهبي في (أعلام النبلاء)، حيث قال: " كان هذا الإمام، مع فرط ذكائه، وإمامته في الفروع وأصول المذهب، وقوة مناظرته: لا يدري الحديث، كما يليق به، لا متناً ولا إسناداً. ذكر في كتاب (البرهان) حديث معاذ في القياس، فقال: هو مدون في الصحاح، متفق على صحته. قلت -والقائل الذهبي-: بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة، عن رجال من أهل حمص عن معاذ، فإسناده صالح (4). ا. هـ.
وقد أغضبت هذه العبارة أخانا الدكتور عبد العظيم الديب، محقق كتب الإمام، كما أغضبت من قبله العلامة تاج الدين السبكي في طبقاته الكبرى.
والعبارة فيها شدة ولا ريب، ولكن لا إلى الحد الذي أغضب الشيخ السبكي والدكتور الديب، فقد قيد الذهبي قوله بأنه " لا يدري الحديث كما يليق به " سواء كان هذا الضمير للحديث أم للإمام نفسه، أي لا يدريه على الوجه اللائق بهذا العلم أو بهذا الإمام (5). وهذا حق لا أحسب أن إمام الحرمين نفسَه ينكره. وقوله عن حديث
__________
(1) الأنساب: 3/ 386.
(2) معجم البلدان: 2/ 193.
(3) تلخيص الحبير 1/ 256، 257 بتعليق عبد الله هاشم اليماني.
(4) أعلام النبلاء: 18/ 471، 472.
(5) اقرأ الفصل السادس من هذه المقدمات. (عبد العظيم).

(المقدمة/53)


معاذ ما قال لا يتفق مع ما قرره أهل الحديث إلا بتاويل وتكلف. وقد رأيناه في كثير من الأحيان يستدل بأحاديث ضعيفة، بل شديدة الضعف، حتى في الأصول (1)، وأحاديث لا يعرفها المحدثون أنفسهم، وقد يعزو الحديث إلى غير من أخرجه، أو إلى غير صحابيه ... إلى آخره.
وفي رأي: أن الرجل غني عن هذا كله، فهو -بلا نزاع- ليس من المدرسة الحديثية النقلية، بل هو من المدرسة التي تجمع بين العقل والنقل، وكلامه نفسه رضي الله عنه يدل على هذا بوضوح وصراحة. وقد رد هو والباقلاني من قبله والغزالي من بعده: حديث " لأزيدن على السبعين " في الاستغفار لابن أُبيّ، وهو متفق عليه، لاعتقادهم أنه ينافي الفهم الصحيح لآية (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة: 80].
لنقرأ له هذه العبارة في (البرهان) يقول:
وهو يناقش تحمل الرواية وجهة تلقيها: " ولو عُرض ما ذكرناه على جملة المحدثين لأَبَوْه ... وهم عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول، وإذا نظر الناظر في تفاصيل هذه المسائل صادفها خارجة في الرد والقبول على ظهور الثقة وانخرامها، وهذا هو المعتمد الأصولي، قإذا صادفناه لزمناه، وتركنا وراءه المحدثين يتقطعون في وضع ألقاب، وترتيب أبواب " (2).
فهذه نظرته إلى (المحدثين) عصبة لا مبالاة بهم في حقائق الأصول، وهو لا يعبأ أن يتركهم وراءه يتقطعون قي وضع ألقاب، وترتيب أبواب!
على أن هذا -عدم دراية الحديث كما يليق به- ليس خاصاً بإمام الحرمين، بل هو عام في فحول المدرسة الأشعرية كلها.
__________
(1) كاستدلاله بحديث (أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم) البرهان: فقرة (1548) وقد ضعفه ابن حزم وابن عبد البر وغيرهما، وقال الألباني في سلسلة (الضعيفة) رقم (58): موضوع. واستدلاله بحديث "اختلاف أمتي رحمة" الغياثي (277) والحديث لم يعرف له سند. وقد افترض إمام الحرمين في (الغياثي) اندراس الشريعة، وانقراض حملتها تماماً وبنى على ذلك أحكاماً، وهو مخالف لأحاديث (بقاء الطائفة المنصورة) التي صحت واشتهرت واستفاضت عن عدد من الصحابة، وربما تواترت.
(2) البرهان: ج 1 فقرة (592) وفقرة (593).

(المقدمة/54)


فهكذا كان الأشعري والباقلاني من قبل، وكذلك كان الغزالي والرازي والآمدي وغيرهم من بعد.
وربما أغناه عن العناية بالحديث رجال نذروا أنفسهم لخدمته، وهيأهم الله لذلك، وخصوصاً من الشافعية، وكل ميسر لما خلق له.
وقد كان في عصر إمام الحرمين من هؤلاء أمثال الحافظ المتقن الكبير، أبي بكر البيهقي (ت 458 هـ) صاحب (السنن الكبرى) و (معرفهّ السنن والآثار) و (جامع شعب الإيمان) وغيرها من الموسوعات، والذي قال فيه إمام الحرمين نفسه: "ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منة، إلا البيهقي؛ فإنه له على الشافعي منة، لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله" (1).
إمام الحرمين ومعاصروه:
عاصر إمام الحرمين علماء كبار كثيرون من مختلف المذاهب، فقد كان القرن الخامس الهجري، حافلاً بالنوابغ في مختلف أنواع العلوم والدراسات الإسلامية، في المشرق والمغرب (الأندلس).
ففي المغرب كان ابن حزم الظاهري (456 هـ) وابن عبد البر المالكي (463 هـ) وفي المشرق ظهر القاضي أبو الطيب الطبري في الفقه (448 هـ) وكما ظهر البيهقي في الحديث (458 هـ) والخطيب البغدادي (463 هـ) وكلهم شافعية.
ونبغ في الفقه والنظر: أبو إسحاق الشيرازي (456 هـ).
وأبرز من يقارن بإمام الحرمين في الفقه هو: أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي (ت 450 هـ) وهو شافعي كإمام الحرمين، وكلاهما له كتاب كبير في الفقه: ألف
__________
(1) الطبقات الكبرى للسبكي: 4/ 10 في ترجمة البيهقي. وقد وقع للبيهقي مع والد إمام الحرمين الشيخ أبي محمد حادثة معروفة، حين شرع فىِ تاليف كتاب المحيط) الذي عزم فيه ألا يتقيد بالمذهب، وإنما يعتمد على الأحاديث. وأصدر منه ثلاثة أجزاء اطلع عليها البيهقي. وكتب له رسالة يبين له فيها أوهامه وأغلاطه فيما استند إليه من حديث، فشكر له الشيخ وأعرض عن تكميل الكتاب وقد ذكر ذلك الأستاذ السيد أحمد صقر في مقدمته لكتاب البيهقي في (مناقب الشافعي).
وكذلك د. أحمد بن عطيه الغامدي في مقدمته لكتاب (البيهقي وموقفه من الإلهيات).

(المقدمة/55)


الماوردي كتاب (الحاوي) في فقه الشافعية، كما ألف إمام الحرمين (النهاية)، وكلاهما له كتاب في السياسة الشرعية: الماوردي له كتاب (الأحكام السلطانية) الشهير، وإمام الحرمين له كتاب (غياث الأمم) أو الغياثي.
ولكن لكل من الرجلين شخصيته المتميزة فيما يكتب ويصنف، فإمام الحرمين أبعد وأعمق، والماوردي أقرب وأسهل. إمام الحرمين يُعمل العقلَ أكثر من النقل، والماوردي يعمل النقل أكثر من العقل، وقد يعبر عن هذا فيقال: الأول عقله أكبر من علمه، والثاني علمه أكبر من عقله. وكأن إمام الحرمين يصنف للمنتهين، والماوردي يصنف للمبتدئين والمتوسطين، الأول مولع بالأصيل والجديد، والثاني مهتم بتقرير التليد. الأول همه ماذا يقول؟ والثاني همه -مع هذا- ماذا قال السابقون؟ الأول محسوب على أهل الإبداع، والثاني محسوب على أهل الاتباع. ولكل منهما فضله وأثره، وسوقه، ومحبوه، وأجره إن شاء الله، وإن جار الإمام الجويني على عصريِّه الماوردي، وأساء إليه، كما سنرى، غفر الله له.
كلمة عتاب لإمام الحرمين (1):
هذا هو إمام الحرمين: إمام علا القمة بجدارة، وأوفى على الغاية في فكره وفقهه، وفي إنتاجه وعطائه، وفي مكارمه وفضله، وفي غيرته على دينه ودفاعه عنه، ومع هذا، فالكمال لله تعالى وحده، والعصمة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وكم كنت أتمنى لهذا الإمام الكبير ألا يبالغ في مدح نظام الملك، كما هو ظاهر في أكثر من موضع في كتابه (الغياثي) وفي مقدمته خاصة، حين قال في قصيدة له يمدحه بها:
وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وأَسْقَيتها، حتى تمادى بها المدى
فلما اقشَعَر العودُ منها وصَوَّحت ... أتتك بأغصان لها تطلبُ الندى
وقد قال التاج السبكي: " إنه وجد بخطه رضي الله عنه في خطبته للغياثي -وهو عنده بخطه- أنه قد ضرب على البيتين الأخيرين، قال السبكي: وسررت بذلك، فإني سمعت شيخ الإسلام -يعني والده التقي السبكي- رحمه الله يحكي عن شيخنا
__________
(1) هذا تعبير فضيلة الدكتور القرضاوي ورأيه، ونحن مأمورون بذكر محاسن موتانا؛ كما في الحديث الصحيح. اهـ (الناشر).

(المقدمة/56)


أبي حيان: أنه كان يتعاظمهما، ويقول: كيف يرضى الإمام أن يخاطب (النظام) بهذا الخطاب؟! ثم يذم الدنيا التي تُحْوج مثل الإمام إلى مثل ذلك! " (1).
وما يدرينا لعل نيته في ذلك خير ينشده للدين أو للمسلمين، وإنما لكل امرىء ما نوى (2)، أو لعلها لحظة ضعف مما يعتري البشر، استدركها الإمام على نفسه، وإنما استعظمت منه لأنه عظيم حقاً.
كما كنت أود ألا يغلو في نقده للمذهب الحنفي، إلى حد العنف الجارح، الذي لا يليق من أهل العلم بعضهم لبعض، كما بدا ذلك في كتابه (مغيث الخلق في اختيار الأحق). وقد أنكر بعضهم نسبة الكتاب إليه، ولعل أخي عبد العظيم منهم، وكم أتمنى أن يصح ذلك. ولكن وجدت في أواخر (البرهان) (3) ما يؤيد بعض ما في الكتاب. كما أن المؤرخين من بعده نسبوا الكتاب إليه.
وقد وعد الدكتور الديب أن ينشر بحثاً موثقاً بالقرائن والأدلة: أن هذا الكتاب -أو بعضه على الأقل- مدسوس على إمام الحرمين. وإني لأرجو مخلصاً أن يوفق إلى ذلك.
وكذلك لم أكن أحب له أن يشتد في نقد إمام دار الهجرة مالك بن أنس، لأمور لم تثبت عنه، كالقول بقتل الثلث لإبقاء الثلثين، ونحو ذلك - وإن كان في بعض الأحيان قيدها بقوله: إذا صح ذلك عنه، وهذا هو الواجب، واللائق بمثله.
وأيضاً لم أكن أود من رجل كبير مثله أن يتحدث عن معاصره قاضي القضاة أبي الحسن الماوردي (ت 450) بمثل تلك اللهجة الساخرة المهينة (4)، التي قرأناها
__________
(1) الطبقات: 5/ 209.
(2) حقا لم يكن نظام الملك مجرد صاحب سلطان وصولجان، ولكنه كان من أهل الفقه والحديث، وهو الذي قضى على التمزق والطائفية، وأحيا السنة، وأنشا المدارس النظامية، وهو صانع النصر التاريخي في معركة (ملاذ كرد) التي أسر فيها امبراطور الروم.
وقد بلغ من مكانته ومنزلته أنهم قالوا: "يوم مات نظام الملك رئي مكتوباً في السماء: اليوم رفع العدل من الأرض".
وكم أتمنى أن يتحقق أملي في أن أكتب ترجمة وافية لنظام الملك. (عبد العظيم).
(3) البرهان: فقرة (1553) ص 1364، 1365 من الجزء الثاني.
(4) انظر ما قاله عنه في (الغياثي) فقرات: (209، 232، 233).

(المقدمة/57)


في أكثر من موقع، ولا سيما في كتابه (الغياثي)، واستقبلناها بالغرابة والإنكار، وهو ما جعل سلفنا -رضي الله عنهم- يحذرون من أخذ أقوال المتعاصرين بعضهم في بعض!
ويبدو أن هذا الإمام الفذ -مع عقله الكبير- كان حار العاطفة، حاد المزاج، فلا يبعد أن تغلبه -مثل كثير من العظماء- حدة الطبع، فتدفعه إلى المبالغة في المدح إذا مدح، وإلى الإسراف في النقد إذا نقد، وهذا يؤكد أن الإنسان هو الإنسان، وإن بلغ في العلم والفضل ما بلغ، وقد قال الشاعر قديماً:
من ذا الذي ما ساء قط ... ومن له الحسنى فقط؟!
ومهما يكن الأمر، فحسنات الرجل أكثر، وفضائله أغزر، ومكارمه أكبر، والله أعلم بالسرائر، وفي الحديث الذي استدل به الشافعية: "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث" (1) وفي رواية: "لم ينجسه شيء" (2) فكيف إذا كان بحراً زاخراً؟ غفر الله لإمام الحرمين وجزاه خيراً عما قدم لدينه وأمته.

3 - المحقق
وأما المحقق، فهو الأخ الصديق الصدوق: الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب، الذي أعرفه منذ كان طالباً في القسم الابتدائي بمعهد طنطا الديني (3)، وتربطني به منذ ذلك الزمن صلة وثيقة، لم تزدها الأيام إلا قوة، وإن كان يصغرني ببضع سنوات.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم وغيرهم عن ابن عمر. وذكره في صحيح الجامع الصحيح (416).
(2) رواه ابن ماجه عن ابن عمر. المصدر السابق (417).
(3) عرفني به صديقي وصديقه وبلديّه أخي الحبيب محمد الدمرداش سليمان مراد، رفيقي في المسكن والدراسة والدعوة والمعتقل، والذي وافته المنية في ريعان شبابه في صيف 1962 عليه رحمة الله ورضوانه، وقد كنا مجموعة من الشباب الأزهري المسلم، تلاقت على الدعوة الإسلامية أفكارهم، وتحابت قلوبهم، واتحدت غاياتهم، واتضحت مناهجهم، منهم: أحمد العسال، ومحمد السيد الوزير، ومحمد الصفطاوي، وآخرون من المتميزين، منهم من قضى نحبه ومنهم من يتتظر، وما بدلوا تبديلاً.

(المقدمة/58)


ولا تمنعني أخوتي وصداقتي له أن أوفيه حقه من التقدير، فقد قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [الأنعام: 152].
وكما أن العدل يوجب أن تقول فيمن تحب: ما هو عليه، فهو يوجب أن تقول فيه: ما هو له.
(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) [هود: 85].
عرفت الدكتور الديب -منذ يفاعته- رجل صِدْق: صِدْقٍ مع نفسه، وصدق مع ربه، وصدق مع إخوانه، وصدق مع الناس أجمعين، مستمسكاً بالعروة الوثقى لا انفصام لها.
وعرفته قوي الإيمان، عميق اليقين، نير البصيرة، نقيَّ السريرة، يقظَ الضمير، حي القلب، جياش العاطفة، طاهر المسلك، بعيداً عن الريبة.
وعرفت فيه الحماسة والغيرة لما يؤمن به، لا يضن بجهد ولا وقت ولا نفس ولا نفيس في سبيل ما يؤمن به، مدافعاً عنه، وإن خالفه الناس. وقد يغلو في الدفاع عن بعض الفصائل الإسلامية، حتى يكاد يحسبه سامعه من المتشددين، وما هو منهم.
تجسدت فيه الأخلاق العريقة للقرية المصرية -قبل أن تُغزى بآفات الحضارة الحديثة- من الحياء والإباء، والشهامة والوفاء، والبر والصلة، كما يتجلى ذلك في إهداءاته لكتبه، وشكره لشيوخه وزملائه، وكل من عاونه بجهد.
أحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا أزكيه على الله تعالى.
وقد تجلت هذه الفضائل التي عُرف بها الديب يافعاً وشاباً، في حياته العلمية المباركة، كهلاً وشيخاً، ومن شب على شاب عليه.
وإذا رأيتَ من الهلال نمؤَّه ... أيقنت أن سيصير بدراً كاملا!
فالدكتور الديب رجل عالم بحاثه دؤوب، طويلُ النفس، دقيق الحس، نافذ البصيرة، متمكن من مادته، قادر على الموازنة والتحليل، له ملكة علمية أصيلة يقتدر بها على الفهم والفحص، والنقد. صبور على متاعب العلم، وللعلم متاعب ومشقات

(المقدمة/59)


لا يدركها إلا من مارسها وعايشها، كما قال الشاعر:
لا يعرف الشوقَ إلا من يكابده ... ولا الصبابةَ إلا من يعانيها!
وقديماً قالوا: إن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كُلَّك، وقد أعطى الرجلُ العلمَ كلَّ نفسه، وكلَّ جهده، وكلَّ وقته، وأعطاه العلم ما يستحق.
وأنا أعرف أن الدكتور الديب رجلٌ له قلم رشيق بليغ، كما تجلى ذلك في بعض ما كتب من مقالات ورسائلَ وكتبٍ.
ومع هذا لم يشغل (التأليفُ) وقته، كما شغله (التحقيق) فقد اختار الطريقَ الوعر، والمهمةَ الأصعب، وهو لها بتوفيق الله: بما لديه من مؤهلات عقلية وعلمية ونفسية؛ فقد حفظ القرآن من صغره في الكتّاب، وتكون في معاهد الأزهر، الابتدائية والثانوية، ثم في كلية (دار العلوم) بالجامعة، وكان فيها فحولٌ في علوم العربية والشريعة.
وملك مفاتيح العلم، وعاش يقرأ ويدرس ويناقش، ويتعلم من كبار الشيوخ، وأساتذة التحقيق، وقد اكتملت له الخصال أو المزايا الست، التي أوصى بها شيخُه الإمام الجويني طُلأبَ العلم، فيما أنشدوا له من شعر، حيث قال:
أصخ، لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء، وحرصٌ، وافتقار، وغربة ... وتلقينُ أستاذ، وطولُ زمان
وقد عكف الأخ عبد العظيم منذ دخل ميدان التحقيق على تراث إمام الحرمين، فهو مولع بالرجل منذ عرفه في دراسته عنه بالماجستير والدكتوراه بدار العلوم.
بل هو في الحقيقة (عاشق) لإمام الحرمين، كما تحس بذلك إذا تحدث عنه أو كتب عنه. والعاشق تهون عليه الصعاب، ويجد البعيد قريباً، والحَزْنَ سهلاً، في سبيل معشوقه.
ولقد بلغ من إعجاب الدكتور الديب بشيخه -بل من عشقه له- أنه لا يطيق أحداً ينكر عليه بعض هفواته، ولو كان من الشافعية أنفسهم، مثل ابن الصلاح، وابن حجر العسقلاني، وأمثالهما.

(المقدمة/60)


وجلُّ ما ينكرانه إنما يتعلق بالحديث، والإمام لا يزعم أنه من رجاله، فلا غرو أن يقع منه ما لا يرضاه المحدثون من أقوال وتأويلات.
ويذكِّرني الدكتور الديب هنا بالعلامة تاج الدين السبكي، الذي تحامل بعنف على العلامة الكبير شمس الدين الذهبي لما ذكره عن إمام الحرمين في (سير أعلامه).
والرجال الكبار -وخصوصاً المستقلين بالفكر منهم- لا يعيبهم أن تقع منهم هفوات، فكما قال الشاعر: كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه.
وقديماً قالوا: لكل جواد كبوة، ولكل سيف نبوة.
أخرج الدكتور الديب قبل ذلك من كتب إمام الحرمين (البرهان) في أصول الفقه، وهو كما قال التاج السبكي (لغزُ الأمة).
وقد أمضى في تحقيقه سبع سنوات كاملة، صحب فيها الإمام وبرهانه، لم يدخر فيها وسعاً، ولم يضن بوقت ولا جهد، متنقلاً بين القاهرة ودمياط، حيث توجد النسخة الأصلية التي اعتمد عليها أساساً، يعالج فيها المخطوط ويمازجه، والمخطوط عبارة عن أكثر من أربعمائة ورقة، لا رباط بينها إلا أنها في مظروف واحد، عليه أن يعيد ترتيبها وترقيمها، بعد أن غَيَّر فيها مَنْ غير، وما أشقها من مهمة، وما أعسره من واجب!
وقد وفقه الله عز وجل لتحقيقه، وتولت نشره (إدارة إحياء التراث الإسلامي) في دولة قطر بعناية مديرها أخينا وصديقنا الكبير الشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري رحمه الله، وجزاه خيراً، وكتب لها المحقق مقدمة، وتوطئة تتضمن: تعريفاً موجزاً بإمام الحرمين، وتعريفاً بالبرهان، وإضاءة بين يدي التحقيق.
واستُقْبل الكتاب من العلماء والمهتمين بأصول الفقه خاصة في العالم العربي والإسلامي استقبالاً حسناً، وقدروا للمحقق هذا الصنيع، الذي قرب إليهم هذا الكتاب، الذي طال انتظاره.
وأخرج بعد ذلك له أثرين مهمين:
1 - (الغياثي) أو (غياث الأمم) في السياسة الشرعية، وهو نسيج وحده، وقد

(المقدمة/61)


قدمه بدراسة رائعة كشفت عن مكنونه، وعرفت بحقيقة مقصوده، وبينت ما سُبق به الإمام، وما أُخذ عنه، وإن لم ينسب إليه.
2 - و (الدرة المضية في الخلاف بين الشافعية والحنفية).
وقدم لها بدراسة مهمة ونافعة كذلك.
أما تحقيق (النهاية) أو نهاية المطلب، فقد كان حلماً وأمنية له، منذ عرف إمام الحرمين، ثم غدا أملاً ورجاء، ثم تحول إلى حقيقة منذ بدأ يبحث عن نسخه منذ سنة 1975 م.
ومنذ وصل إلى قطر سنة 1976 م، وهو مشغول بالكتاب.
ومنذ أكثر من عشرين عاماً، وهو عاكف على (النهاية) أو (نهاية المطلب) أعظم آثار الإمام الفقهية، وأبرز ما يعرف بقدره في الفقه، ومنزلته في التأصيل والاستنباط.
عايشه هذه السنين ورافقه: يقرؤه على مهل، ويجتهد أن يفهمه على الصواب ما أمكن، وأن يفسر غامضه، ويفك طلاسمه.
وأنا أدرى الناس بما عاناه الدكتور الديب فى تحقيقه لهذا المخطوط، من حيث جمع أصوله المبعثرة في شتى مكتبات العالم، فقد ظل يقرأ فهارس المخطوطات، ويتتبعها، ويزور المكتبات هنا وهناك بنفسه، ويسأل العارفين، ويستعين بالأصدقاء، وأنا منهم، ليبحثوا له عن نسخ من الكتاب، حتى جمع أقصى ما يمكن الحصول عليه من أجزاء الكتاب من مظانه في العالم، عن طريق التصوير طبعاً.
جَهِد د. الديب جهده، حتى جمع من الكتاب أكثر من عشرين نسخة صورها من مكتبات العالم: في القاهرة والإسكندرية وسوهاج من مصر، ودمشق وحلب من سورية، والسلطان أحمد وآياصوفيا من تركية. ولكن لم توجد منه نسخة كاملة.
وبلغ عدد مجلداتها (44). وعدد أوراقها (10336) ونسخت بخط اليد في (14590) صفحة.
هذا، بالإضافة إلى المختصرات والنصوص المساعدة، وهي تسعُ نسخ، بلغ عدد مجلداتها (15) وعدد أوراقها (3755) تقريباً.

(المقدمة/62)


ليس هيناً ما قام به الدكتور الديب من تحضير وتهيئة للعمل الكبير الذي نهض له، وهو له أهل، ليُخرج (النهاية) إلى النور، ويحيلها من مقبور إلى منشور.
وقد قال بعض العلماء: من نشر مخطوطة، فكأنما أحيا موءودة!. فكيف إذا كانت هي (النهاية)؟!
ثم بدأ يقرأ النص قراءة العارف الخبير، ولكنه يقرأ نصاً غير عادي، لرجل غيرِ عادي. فبعض المصنفات تكون ترديداً لكلام السابقين، أو تكراراً وتأكيداً له، فيستطيع قارئها أن يبحث عنها فيما نقلت عنه.
أما إمام الحرمين، فهو -كما ذكرنا- مستقلٌّ في تفكيره، مستقلُّ في تعبيره، فيحتاج من محققه إلى فهم دقيق، وتأمل عميق، وصبر جميل، ومراجعة طويلة، حتى يفهم ما يريد المصنف.
على أن إمام الحرمين كثيراً ما يُغرِب في تعبيره، فيظل المحقق يبحث طويلاً في المعنى المراد، حتى يجده باليقين أو بالظن. وقد يظل أسابيع أو شهوراً، يفتش عن المعنى، ويبحث عن المظان، ويشاور من يثق به، إلى أن يشرح الله صدره لما يختار.
أضف إلى ذلك ما تعانيه المخطوطات أبداً من كلمات مطموسة، أو مخرومة، كلها أو بعضها، أو لعلها سقطت من المصنف نفسه أثناء الكتابة، كما يحدث لكل مؤلف، زيادة عما يصنعه النساخون بالكتب من تصحيف وتحريف، ومسخ وتغيير، وخصوصاً الجهلة منهم!
زد على ذلك ما يستشهد به المصنف رحمه الله من أحاديث، بعضها لا يكون معروفاً عند الفقهاء، وفي كتب الفقه المألوفة، بحيث نجده، في تلخيص الحبير، أو سنن البيهقي، أو غيرهما من الكتب التي هي مظان هذا اللون من الأحاديث.
ينتمي الأخ الدكتور الديب إلى مدرسة في التحقيق، متميزة، شيوخها الكبار: آل شاكر، أحمد ومحمود، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر، رحمهم الله، وأمثالهم.

(المقدمة/63)


ومن أبنائها: الدكتور عبد الفتاح الحلو والدكتور محمود الطناحي رحمهما الله، والدكتور الديب، حفظه الله، وأمثالهم، وهي مدرسة تعنى بخدمة النص ذاته، وتقديمه للقارىء بيِّناً واضحاً مفهوماً، كما أراده مصنفه، بقدر الاستطاعة، ولا تُثقل كاهلَ المتن المحقق بكثرة التعليقات التي لا لزوم لها، وتوسيعها بغير حاجة، كما يفعل الكثيرون؛ حتى رأيت بعضهم يترجم في تعليقاته لأبي بكر وعمر والخلفاء الأربعة، ولأبي حنيفة ومالك والأئمة الأربعة، وللبخاري ومسلم والأئمة الستة.
وتتسع التعليقات حتى يصبحَ الكتاب أضعافَ حجمه، وفي ذلك إرهاق للقارىء مادياً ونفسياً وعقلياً، لا طائل تحته. وقد أصبحت أقرأ هذه الترجمات للأعلام في كل كتاب محقق، ولو كان رسالة صغيرة، فهي أعلام تتكرر دائماً.
كما يهتم بعضهم بذكر كل الفروق بين النسخ بعضها وبعض، وإن لم يكن لها ضرورة ولا فائدة للقارىء بحال. كما هو شأن بعض المستشرقين ومن يتبعهم، وربما كان المستشرقون معذورين، لأنهم كانوا يخافون أن يكون أي فرق بين النسختين أو النسخ مؤثراً في المعنى، وهو لا يشعر، لعجمته، فما عذر العربي المتمرس بالعربية؟!
ومن أصدق وأبلغ ما قرأتُ هنا ما قاله أخي عبد العظيم:
"والتعليق على المخطوطات: فن قائم بذاته، يحتاج إلى دُربة، ومهارة، وحذق، وإحساس صادق بما يحتاج التعليق، وبما لا يحتاج، وبما يحتاج إلى الشرح، وبما لا يحتاج، وكيف يكون الشرح، وكيف يكون التعليق، كما يحتاج إلى مهارة بارعة، وقدرة فائقة على الإيجاز، فالإطناب يحسنه كل أحد، أما الإيجاز، فهو المحك والفيصل، فمن الصفحات الكثيرة التي يقرؤها المحقق عن عَلَم من الأعلام، أو عن رجل من رجال السند، أو عن حديث من الأحاديث، أو حادثة من الحوادث - يحتاج إلن بضعة أسطر، بل بضعة جمل من هذه الصفحات، وهنا تكون المهارة، ويكون الحس الصادق، ومن قبل ومن بعد يكون توفيق الله سبحانه، فيما يختار وفيما يدع" (1).
__________
(1) من مقدمة (الدرة المضية) ص 115.

(المقدمة/64)


ولقد زرت الدكتور الديب في (مخبئه العلمي) أو في (ورشة العمل) التي يزاول فيها مهنته، ويمارس تحقيقه، وهي حجرة كبيرة فيها عدة مكاتب، ومجهزة بما سماه الدكتور (حافظ عصرنا) الكومبيوتر، وبالجهاز القارىء للمخطوطات، وبالمراجع المختلفة: من فقهية وحديثية ولغوية، وغيرها.
ورأيته يستعين بكتب الشافعية، وخصوصاً البسيط للغزالي تلميذ إمام الحرمين، وهو مخطوط مصور عنده، وهو أوسع كتب الغزالي الفقهية، ويعتبره الكثيرون مختصراً أو كالمختصر للنهاية، ويستعين بالمجموع والروضة للنووي، وبمختصر النهاية لابن عبد السلام، ولابن أبي عصرون وغيرهما، حتى يطمئن إلى حسن فهمه للنص.
قدم الدكتور الديب من قبل دراسة عن إمام الحرمين: حياته وآثاره، حصل بها على درجة (الماجستير) من كلية دار العلوم، وأخرى عن (فقه إمام الحرمين) حصل بها على درجة (الدكتوراه) مع مرتبة الشرف، والتوصية بطباعة الرسالة وتبادلها مع الجامعات.
وهذا كله ساعده على فهم إمام الحرمين، وكتابه المتميز (نهاية المطلب).
كما قدم أكثر من دراسة، عن كل كتاب حققه من كتبه: من (البرهان) و (الغياثي) و (الدرة المضية) إذ كتب لها مقدمات علمية مستفيضة، تلقي أضواء كاشفة عليها لمن يقرؤها.
فكتب للبرهان مقدمة من 68 صفحة.
وكتب للغياثي مقدمة من 155 صفحة.
وكتب للدرة المضية مقدمة من 132 صفحة.
هذا عدا الفهارس المفصلة في نهاية كل كتاب.
وبين الأخ الديب وإمام الحرمين نسب جامع، وصفات مشتركة، جعلته ينجذب إليه، كما قال الشاعر: شبيه الشيء منجذب إليه. وصح في الحديث " الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف ".

(المقدمة/65)


وما أجمل أن يرتبط المرء بمثل هؤلاء الأئمة أصحاب العقول الكبيرة، والقلوب المشرقة، ليعايشهم ويتأسى بهم. ونرجو أن يكون لأخينا الدكتور الديب نصيب أوفى من كل خير في شيخه وأستاذه وحبيبه إمام الحرمين.
لقد قدم الدكتور عبد العظيم الديب للمكتبة الإسلامية خدمةً جليلة، بتحقيق هذا الكتاب الفذ، ولا يسعنا، بل لا يسع أي مسلم يهتم بدينه وثقافته وحضارته إلا أن يشكر للدكتور الديب ما قام به من جهد وعناء طوال تلك السنين.
ومهما نشكره ونقدِّر فضله، فلا نملك أن نوفيه حقه، إنما الذي يوفيه جزاءه، ويشكر سعيه حقاً، هو الله تبارك وتعالى، الذي لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
جزى الله أخانا الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب عن عمله ودأبه، ومعاناته في سبيل العلم، خير ما يجزي العلماء العاملين، والدعاة الصادقين، من ورثة النبيين، ونفع الأمة بما يقدمه من إحياء لتراثها، وخدمة لدينها، وجعل ذلك في ميزانه يوم القيامة حسنات ودرجات عنده -تبارك وتعالى-
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
***

(المقدمة/66)


مقدّمات نهاية المطلب
سنلتزم في هذه المقدمات أمرين:
أولاً - الإيجاز.
ثانياً - البقاء في دائرة الكتاب الذي نقدّمه، بمعنى أن نقتصر على ما يبين موقع صاحبه ومكانته في سلسلة أئمة المذهب وتطوّره، وعلى ما يوضح مكانة الكتاب وأثره، ثم ما يعرّف به، ويبين خصائصه، ويضيء طريق مُطالعه والناظر فيه.
ولذا ستقع المقدمة في الفصول الآتية:
الفصل الأول - من تاريخ الحياة الفقهية حتى عصر الإمام الشافعي.
الفصل الثاني - المذهب الشافعي: من التأسيس إلى الاستقرار، مع شيء من مصطلحاته.
وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول - الإمام الشافعي.
المبحث الثاني - حملة الفقه عن الإمام الشافعي.
المبحث الثالث - مرحلة تحرير المذهب.
المبحث الرابع - من مصطلحات المذهب.
الفصل الثالث - تعريف بإمام الحرمين ومنزلته بين أئمة المذهب.
الفصل الرابع - تعريف بنهاية المطلب، وبيان منزلته بين كتب المذهب.

(المقدمة/67)


الفصل الخامس - وفيه مبحثان:
المبحث الأول - من ملامح منهج إمام الحرمين.
المبحث الثاني - أسلوب إمام الحرمين.
الفصل السادس - إمام الحرمين وعلم الحديث.
الفصل السابع - من سمات وضوابط منهجنا في التحقيق.
الفصل الثامن - تعريف بالنسخ المخطوطة ووصف لها، ونماذج منها
***

(المقدمة/68)