نهاية المطلب في دراية المذهب

بين يدي الكتاب
بقلم الدكتور
محمد عبد الرحمن شميلة الأهدل
" نهاية المطلب " واسطة عقد المذهب، والمنهل الروي لعِلْم الإمام الشافعي المُطَّلبي، وهل شيخا المذهب النووي والرافعي إلا من رواة قصائده؟! فهما اللذان غاصا في لجج " نهايته " مباشرة أو بواسطة، وعبَّا من معين درايته فتضلعا؛ (فكل علمٍ عندهم من رفده).
وهذا ما لا يماري فيه المحققون، بل لهجت به ألسن أهل الاطلاع، وكل من جاء بعده اقتفى أثره، واغترف من بحره.
والإمام الجويني عَلمٌ من أعلام الفكر الإسلامي، أبدع في ميادين شتى في أصول الثقافة الإسلامية وفروعها؟ ولذلك لُقِّب (الإمام).
عقدت الخناصر على فضله، ونطقت الحناجر بتقدمه وسبقه، وتعاضدت آراء الأوائل والأواخر مشيدة بعلو مكانته، ومعترفة بسعة معارفه، ونبل رأيه، ولست في هذه الأحرف معنياً بذكر نتاجه الفكري المتنوع، ولا بإبراز خصائص تراثه؛ فلهذه كتب مستقلة، وبحوث متعددة، ولكن أُرسل أضواء اليراعة على كتابنا هذا:
" نهاية المطلب في دراية المذهب "
" فالنهاية " كاسمها عرضٌ متكاملٌ لمذهب الإمام الشافعي، وشرحٌ مستوفىّ

(مدخل/7)


لآرائه، وعماد قوي لطريقته؛ حتى قال ابن حجر الهيتمي: (منذ صنف الإمام كتابه " النهاية " لم يشتغل الناس إلا بكلام الإمام) (1).
والواقع إن " نهاية المطلب " لم يكن شرحاً لـ " مختصر المزني " فقط، وإنما كان حاوياً وشارحاً لكتب الإمام الشافعي جميعها؛ ولذلك اشتغل الفقهاء به بعد ظهوره وتحبيره؛ لأنه زبدة المذهب، وخلاصة الأسفار الأربعة التي هي أساس المذهب الجديد، وأعني بذلك: " الأم " و" الإملاء " و" البويطي " و" مختصر المزني "، وهذا ما صرح به بعض المتأخرين؛ إذ اعتبر أن " النهاية " اختصارٌ لهذه الكتب، وزبدة لما تحويه، إلا أن العلامة ابن حجر الفقيه في آخرين يرون أن " النهاية " ليس إلا شرحاً لـ " مختصر المزني " خاصة.
وقد جمع محقق " النهاية " (2) بين الرأيين جمعاً حسناً متمحضاً عن اطلاع ودراية، فقال: (قلت: كلاهما على صواب، فمن حيث الشكل هي شرح " لمختصر المزني "، أما من حيث الواقع .. فالإمام جمع فيها كل علم الشافعي من كتبه الأربعة).

دور الاختصار والتهذيب
ولما أكب أهل العلم على " النهاية " باعتبارها عماد المذهب، وزبدة كتب الإمام الشافعي .. أضحت مرجع القوم، ومصدر المذهب، ومعتمد الخاصة، وكتاب الفتوى، وقام حجة الإسلام الغزالي تلميذ الإمام باختصارها في كتابه " البسيط "، حتى كان مبغضو الإمام الغزالي يقولون له: ما صنعت شيئاً، أخذت الفقه من كلام شيخك في " نهاية المطلب " (3).
__________
(1) الفوائد المكية للسيد علوي بن أحمد السقاف (ص: 35).
(2) هو الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب في بحث سماه " شخصية إمام الحرمين العلمية " ضمن بحوث الذكرى الألفية لإمام الحرمين الجويني (ص: 77).
(3) طاش كبرى زاده في أواخر ترجمته للإمام الغزالي.

(مدخل/8)


ثم اختصر الإمام الغزالي " الوسيط " من " البسيط " ثم اختصره ووسمه "بالوجيز" فقال قائلهم:
حرَّرالمذهبَ حبرٌ ... أحسن الله خلاصه
بـ " بسيط " و" وسيط " ... و" وجيز " و" خلا صه " (1)
ثم تصدَّى الإمام الرافعي لـ " الوجيز " فشرحه شرحاً وافياً، وتوسَّع فيه تدليلاً وتعليلاً وسماه: "العزيز"، واشتهر عند المتأخرين بـ "فتح العزيز شرح الوجيز " وربما أطلقوا عليه: " الشرح الكبير ".
وقد خرج أدلته جمعٌ من المحققين، حتى جاء خاتمة الحفاظ ابن حجر العسقلاني فلخصها، وضم إليها نفائس حديثية في كتابه الموسوم بـ "التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير".
ولم يقف الإمام الرافعي عند هذا الحد، بل اختصر " الوجيز " أيضاً في مجلد لطيف سماه " المحرر ".
وانبرى الإمام النووي بعده لهذين الكتابين فخدمهما خدمة أهل التحقيق، وهذبهما تهذيب أهل التدقيق، فقد اختصر "الشرح الكبير" في كتابه الجليل " روضة الطالبين "، كما اختصر " المحرر" اختصاراً لا يحبره إلا أمثاله وسماه " المنهاج "، وفضله سارت بها الركبان، وصدرت حديثاً طبعته الجديدة بعناية دار المنهاج.
فأما "روضة الطالبي" .. فقد قام شيخ الإسلام زكريا الأنصاري باختصارها
__________
(1) فائدة: " الخلاصة " هنا هي مختصر " مختصر المزني" واسمها: " خلاصة المختصر ونقاوة المعتصر "، وليس هو مختصر لكتاب " الوجيز " كما قد يتوهم البعض فليتنبه لذلك، وهذا الكتاب سيخرج محققاً ومطبوعاً للمرة الأولى ضمن منشورات دار المنهاج بمشيئة الله تعالى.

(مدخل/9)


وسماه " روض الطالب " فاختصر الاسم والمسمى، وشرحه أيضاً، كما قام غيره باختصار " الروضة " إلا أنه لم يشتهر شهرة " الروض ".
وأما " المنهاج " .. فإن شروحه وحواشيه ومختصراته تتقاعس العزائم عن تَعدادها، واستقر الأمر أنها من الكتب المعتمدة في المذهب، والمختارة في الدراسة؛ لما اشتملت عليه من التحقيقات.
وبنظرة عجلى إلى هذا التسلسل المعرفي ندرك أثر إمام الحرمين في المذهب، بل ومنَّته على كل شافعيٍّ جاء بعده.
ودار المنهاج الفتية كعادتها سبَّاقة إلى استخراج كنوز الأوائل، رائدة في خدمة التراث، ولها اليد الطولى في نشر العلوم الشرعية عموماً، وفقه الشافعية خصوصاً، ولا سيما ما كان منها مطموراً في دهاليز النسيان.
أوَ لم تخرج لنا " بيان العمراني " يرفل في حلل التحقيق، ويتهادى في ثوبه القشيب؟! ولولا عزيمة صاحب الدار التي لا تعرف التقاعس، وهمته العصامية .. لما اكتحلت أعين الفقهاء بإثمد هذه الموسوعة الفقهية.
أوَ لم تهد إلينا هذه الدار " النجم الوهاج " للعلامة الدميري بعد أن استرخى طويلاً وتراكم عليه غبار الإهمال؟!
ألم يتحفنا بـ " مختصر حلية أبي نعيم " للعلم المهذب الأستاذ الزاهد الواسطي؟! والقائمة طويلة طويلة في طول همة أبي سعيد: الأستاذ عمر بن سالم باجخيف، أعلى الله تعالى مقامه، وبلغه مرامه، وزاده توفيقاً وإحساناً.
وها هو اليوم يتحف الفقهاء في كل صقع بعمدة مذهب الشافعي " نهاية المطلب ودراية المذهب " لإمام الحرمين عبد الملك الجويني، هذا الكتاب الذي عكف عليه أرباب المذهب، وذهبوا في مدحه كل مذهب؛ ولعل دور الطبع أحجمت عن نشره لضخامته وعظم مؤنته؛ بيد أن الحظَّ الأسعد منح هذه الدار شرف نشره، فأعطى القوس باريها، فنقشت حروفه بيراعة الإبداع، وحلّت مظهره بكل ما تختزنه

(مدخل/10)


من رصيد فني، وسكبت على طروسه محاسن خبرتها العالية؛ ليتربع على منصة الجودة، ويعلو سنام التميز، ويتناغم الجَمَالان: جمال المضمون الفقهي، وجمال الإبداع الفني في إيقاع أخاذ.
وبعد فلِلّهِ در محقق " نهاية المطلب " الدكتور عبد العظيم محمود الديب ذي العزمات الوثابة؛ فقد اضطلع بتحقيق هذا المصدر المعرق في الأصالة، وأنفق أنفس أوقاته في خدمة تراثنا الشرعي، متمثلاً في إبراز هذا السفر الجليل يتهادى في حلل التحقيق، ويتراءى في جودة التدقيق، فقد قضى -أثابه الله تعالى- نحواً من ربع قرن في العناية بـ " النهاية " إِلى النهاية، فقابل مخطوطاته ببعضها، وبين فوائدها وتنوعها، وخرج أحاديثها وآثارها، وميز صحيحها من سقيمها، وعلَّق على ما يتطلب التعليق من غريبها وغامضها، فما انفكت يده عنها إلا وهي تتلألأ تلألؤ النجوم في سمائها، فتهدي الحائر في ظلمة الليل البهيم، وأهدى هذا السفر إلى متفقهة العصر؛ ليضاف إلى ذلك الرصيد الضخم من التراث الشرعي:
هذي الفضائل لا قعبان من لبنٍ ... شِيبا بماء فعادا بعد أبوالا
فجزى الله تعالى الدكتور الديب خير ما يجزي الصالحين، وختم لنا وإياه بالحسنى، وأثاب الناشر بما هو له أهل.
***

(مدخل/11)


مقدمة المؤلف

(1/1)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الشيخُ [الإمام الأجل فخر الإسلام، إمام الحرمين، والأئمة، مقدَّمُ أهل السنة] (1). أبو المعالي عبدُ الملك بنُ عبد الله بن يوسف الجويني، رضي الله عنه:
1 - أحمد الله عزت قدرتُه حقَّ حمده، وأصلي على محمّد نبيّهِ، وخاتم رسله، وعبدِه، وأبتهل إليه في تيسير ما هممتُ بافتتاحه من مذهبٍ (2) مُهذَّبٍ، للإمام المُطَّلِبي الشافعي رضي الله عنه، يحوي تقريرَ القواعد وتحرير الضوابط [والمعاقد] (3)، في تعليل الأصول، وتبيين مآخذ الفروع، وترتيب المفصَّل منها والمجموع، ومشتملٍ على حل المشكلات، وإبانة المعضلات، والتنبيه على المَعاصات والمُعْوِصات (4)، ويُغني عن الارتباك في المتاهات، والاشتباك في العمايات.
ولستُ أُطنب في وصفه، وسيتبين شرفَه من يوفّق لمطالعته ومراجعته، وهو على التحقيق نتيجةُ عمري، وثمرةُ فكري في دهري. لا أغادر فيه بعون الله أصلاً ولا فرعاً إلاّ أتيت عليه، مُنتحياً سبيلَ الكشف، مؤثراً أقرب العبارات في البيان، والله المستعان وعليه التُّكلان.
__________
(1) زيادة من (م) و (ل).
(2) عبارة (م): تهذيب مذهب الإمام.
(3) في الأصل: المقاعد، وهذا تقدير منا، صدقته (م)، (ل) بعد حصولنا عليهما مؤخراً.
(4) عاص الكلامُ وعَوِصَ خفي معناه، وأعْوص في الكلام أتى بالعويص منه، (المعجم) والمعنى أنه ينبه على المواضع الخفية، والتي يصعب فهمها من الكلام، وفي (ل): على المغاصات في المعوصات.

(1/3)


2 - وسأجري على أبواب " المختصر " ومسائلها جهدي، ولا أعتني بالكلام على ألفاظ [السواد] (1)، فقد تناهى في إيضاحها الأئمةُ الماضون، ولكنّي أنسبُ النصوصَ التي نقلها المزني (2) إليه، وأتعرض لشرح ما يتعلق بالفقه منها، إن شاء الله تعالى.
3 - وما اشتهر فيه خلافُ الأصحاب ذكرتُه، وما ذُكر فيه وجهٌ غريبٌ منقاسٌ، ذكرت ندورَه وانقياسَه، وإن انضم إلى ندوره ضعفُ القياس، نبهتُ عليه، بأن أذكر الصوابَ، قائلاً: " المذهب كذا "، فإن لم يكن له (3) وجهٌ، قلتُ بعد ذكر الصواب: وما سوى هذا غلط.
وإن ذكر أئمةُ الخلاف وجهاً مرتبكاًً (4) أنبه عليه بأن أقول: اتفق أئمةُ المذهب على كذا، فتجري وجوهٌ من الاختصار، مع احتواء المذهب (5) على المشهور والنادر.
وإن جرت مسألةٌ لم يبلغني فيها مذهبُ الأئمة خرّجتُها على القواعد، وذكرت مسالك الاحتمال فيها، على مبلغ فهمي.
__________
(1) في الأصل: السؤال. والصواب: "السواد" كما في النسخ الأخرى كلها، والمراد بالسواد (الأصل) أو (المتن) هكذا يُستخدم هذا اللفظ من قبل الأئمة والمؤلفين القدماء في كتبهم ومؤلفاتهم. وسيرد هذا الاستعمال كثيراً في كلام الإِمام، وهو غير موجود في المعاجم.
(2) المزني، إِسماعيل بن يحيى بن إِسماعيل، أبو إِبراهيم، صاحب الشافعي، وأعرف من أن يعرّف، ومن تصانيفه المختصر الذي يجري إِمامُ الحرمين على منواله في النهاية. توفي بمصر: 264 هـ.
(3) أول الموجود من نسخة (د 3).
(4) كذا في الأصل، (د 3): (مرتبكاًً) ولما أصل إِلى المقصود (بالمرتكب) مع طول بحثي. هذا. وعبارة (د 3): " ... وجهاً مرتبكاًً إِجماليا بأن أقول"، وفي (م): (مرتبكاً)، و (ل): (مرتبكاً)، كأختيها، وواضح أنه أحد مصطلحات علم الجدل، وسيأتي توضيح لهذا المصطلح فيما نستقبل من أبواب الكتاب وفصوله.
(5) المذهب: يريد به كتابه هذا.

(1/4)


وتعويلي في متصرفات أموري على فضل الله تعالى. وقد استقرّ رأيي على تلقيبه بما يُشعر بمضمونه، فليشتهر بـ
(نهاية المطلب في دراية المذهب)
والله ولي التوفيق، وبيده التيسير، وهو بإسعاف راجيه جدير.
***

(1/5)