نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الطهارة
قال الشافعي رحمه الله: " قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1) [الفرقان: 48] ... إلى آخره ".
4 - ومقصود هذا الباب تفصيلُ القول في الماء الطاهر، الذي يتغير ببعض الأشياء الطاهرة.
فأقول: اختلف طرق الأئمة في ضبط مقصود الباب، فالذي أراه المسلكَ المرضي أن اختصاص طهارات الأحداث بالماء يُتَّبع فيه موردُ الشرع، ولا يُطلب له معنى وعلّة؛ فإنّ طُهْرَ الحدث، واختصاصَه بالماء غيرُ معقول المعنى، وإذا كان كذلك، فالوجه اتباعُ لفظ الشارع، وربطُ الحكم به، وقد مَنّ الله تعالى على عباده بإنزال الماء الطهور؛ فقال عزّ من قائل: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وتكرّر ذكرُ الماء في الأخبار المأثورة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فممّا روي قوله صلى الله عليه وسلم: " خُلقَ الماءُ طهوراً " (2)، وغيرُه.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 2.
(2) حديث: "خُلق الماء طهوراً". قال الحافظ في التلخيص: " لم أجده هكذا "، وهو في حديث أبي سعيد الخدري، " أنه صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر بضاعة "، فقيل له: يا رسول الله، أتتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يُلقى فيها الحيض، ولحوم الكلاب والنتن؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" وقد رواه الشافعي: 1/ 21 (السندي)، وأحمد 3/ 15، 16، 31، 86، وأبو داود: الطهارة، باب ما جاء في بئر بضاعة، ح 66، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، ح 66، والنسائي: المياه، باب ذكر بئر بضاعة، ح 326، والدارقطني: 1/ 30، والبيهقي: 1/ 4. وروى ابن ماجة عن جابرٍ رضي الله عنه: " إِن الماء لا ينجسه شيء " ا. هـ مختصراً من تلخيص الحبير: 1/ 13 - 15. وراجع ما كتبه ابن حجر لترى تصحيحه لحديث =

(1/7)


فالوجه أن يقال: كل ما يسمى ماءً على الإطلاق، ويُفهم من لفظ الماء، فهو على الإطلاق صالحٌ للطهارات، (1 إذا كان طاهراً، وما يتغيرُ تغيُّراً يخرجُ بسببه عن اسم الماء مطلقاً، فهو غير صالحٍ للطهارات 1).
وإذا لم يتجه معنىً، ولزم اتباعُ اللفظ، والاقتصارُ على مقتضاه، فموجَب ذلك تحكيم معنى الاسم في النفي والإثبات.
هذا بيان ما يضبط مقصودَ الباب، وسنفصله بتخريج المسائل عليه.
5 - فإذا تغيّر الماء بوقوع طاهرٍ فيه، نُظر: فإن تغير ريحُه بمجاورة الواقع فيه، مثل أن يقع فيه كافورٌ صلب، أو ما في معناه من الأدهان ذوات الروايح الفايحة، وهي لا تخالط الماء، بل تعلوه طافيةً، فإذا تغيرّت رائحةُ الماء بهذه الأشياء؛ فالماء طهورٌ؛ فإنه يسمى ماءً مطلقاً، والمتبعُ الاسم.
6 - وإن تغير الماء بمخالطة الواقع فيه، فهو ينقسم على ما رسمه الأصحاب، إلى ما يمكن صونُ الماء عنه، وإلى ما لا يمكن صونُه عنه.
فأما ما يمكن صون الماء عنه كالزعفران والدقيق وغيرِهما، فإذا خالط شيءٌ منها الماءَ ولم يغيره، فالماء طهورٌ، مفهوم من مطلق اسم الماء.
وإن غيّره، نُظر: فإن تفاحش التغيرُ، بحيث يستجد ذلك المتغير اسماً، بأن يسمى صبغاً أو حبراً؛ فقد خرج عن كونه طهوراً؛ لسقوط اسم الماء المطلق عنه، ولا فرق بين أن يُعرَض على النار أو لا يُعرَض عليها.
وإن حصل أدنى تغيّر، ولم يَصِر الماءُ بحيث يتجدد له اسمٌ سوى الماء، فهو على موجب هذه الطريقة طهورٌ؛ فإنه يسمى ماءً على الإطلاق.
وما ذكرتُه من تفصيل القول في التغيّر ذكره شيخُنا أبو بكر الصيدلاني (2) فيما
__________
= "أبي سعيد"، وما قاله في إِسناد حديث " جابر " رضي الله عنهما.
(1) ما بين القوسين ساقط من نسخة: د3.
(2) الصيدلاني، محمد بسن داود الداودي، أبو بكر، تلميذ أبي بكر الققال المروزي، شارح المزني، وشرحه هذا يسمّى عند الخرسانيين "بطريقة الصيدلاني" (طبقات =

(1/8)


جمعه من طريقة القفال (1)، ولا [يستدّ] (2) في المذهب والخلاف غيره.
7 - فأما إذا كان المغيِّرُ بحيث لا يمكن صونُ الماء عنه، فمعظم ما وقع في هذا القسم يجاورُ الماءَ، كالكبريت في منبع الماء، ومجراه، وكذلك [النُّوْرة في مجرى الماء] (3) والقطران الخاثر، الذي فيه دهنيّة.
وقد تقدم أن تغتر المجاورة لا أثر له.
فأما ما يخالط كالأوراق الخريفيّة إذا انتثرت في الماء وتعفنت، وبليت فيه، فمقتضى هذه الطريقة أن الماء طهورٌ، وإن تفاحش التغيُّر؛ لأن أهل اللسان لا يسلبون عن مياه الغُدران والأنهار اسمَ الماءِ عند تغيرها بما وصفناه، وقد تقرر أن التعويلَ على بقاء الاسم المطلق، ولعل العرب فهمت تعذرَ الاحتراز، وعلمت أن آلةَ الغَسل (4)
__________
= الشافعية الكبرى: 4/ 148، 149)، وانظر أيضاً: (طبقات الإِسنوي: 2/ 129، 130)، ولم يتعرض السبكي ولا الإِسنوي لتاريخ وفاته، لكن ذكر ابن هداية في طبقاته أنه توفي في نحو سنة 427 هـ.
(1) القفال، المراد به القفال الصغير، أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله. توفي سنة 417 هـ وهو ابن تسعين سنة، وهو أكثر ذكراً في كتب الفقه، أما الكبير، فهو أكثر ذكراً في كتب التفسير والحديث، والأصول، والكلام، والجدل. واشترك القفالان في أن كل واحد منهما أبو بكر القفال الشافعي، لكن يتميزان بما ذكرنا من مظانهما، ويتميزان أيضاً بالاسم والنسب، فالكبير شاشي، والصجر مروزي، والشاشي اسمه محمد بن علي بن إِسماعيل.
وصاحبنا عبد الله بن أحمد بن عبد الله.
وهناك قفالٌ صغير آخر يشتبه مع صاحبنا القفال المروزي، وأعني به " القاسم بن محمد بن علي بن إِسماعيل " وهو ابن القفال الكبير الشاشي.
والقفال المروزي صاحبنا، هو أحد أئمة الدنيا، وشيخ الخراسانيين، وإذا ذكر القفال مطلقاً، انصرف إِليه.
(راجع: طبقات الشافعية الكبرى: 3/ 200 - 202، 472 - 474، 4/ 148، 149، 5/ 53 - 56، تهذيب الأسماء واللغات للنووي: 2/ 282، 283).
(2) في الأصل، (د 3): يستمرّ، وقدّرنا أنه تصحيفٌ عن (يستدّ) بمعنى يستقيم؛ فهي أوفق للمعنى، وهذا اللفظ يدور كثيراً على لسان إِمام الحرمين، وفي (م)، (ل): يستمر أيضاً.
(3) زيادة من (م).
(4) غسل من باب ضرب، والاسم الغُسل، بضم فسكون، وقد تضم السين أيضاً، هذا وقد ضبطت في الأصل بضم الغين.

(1/9)


الماءُ، فأدامت على ما يتغير بهذه الجهة اسمَ ما هو مُعدٌّ للغسل، فالتعليل ببقاء الاسم، والمظنونُ أن سبَب بقاء الاسم تعذُّرُ التحرّز، فليفهم الفقيه مراتبَ الكلام.
8 - وأما الماء المتغير بالتراب أوانَ المدّ (1)، فقد قيل: إن التراب لا يخالط الماء، بل يجاورُه باجزائه المنتثرة فيه، وآيةُ ذلك أن الماء المتغيّر به لو سكن في إناءٍ، لتميّزت أجزاءُ التراب راسبةً.
وإن اعترض متكلفٌ من أهل الكلام (2) على فصل الفقهاء بين المجاورة والمخالطة، فزعم أن الزعفران ملاقاته مجاورة أيضاًً؛ فإن تداخل الأجرام محال.
قيل له: مدارك الأحكام التكليفية لا تؤخذ من هذا المأخذ، بل تؤخذ ممّا يتناوله أفهامُ الناس، لا سيما ما يُبنَى الأمر فيه على معنى اللفظ.
ولا شك أن أرباب اللسان لغة وشرعاً قسّموا التغيُّر إلى ما يقع بسبب المجاورة، وإلى ما يقع بسبب المخالطة، وإن كان ما يسمى مخالطة في الإطلاق مجاورة في الحقيقة، فالنظر إلى تصرف اللسان.
ومنتهى هذه الطريقة النظر إلى الاسم، وهذا لا انقسام فيه، وإنما الانقسام في أسباب بقاء الاسم وزواله، فهذه هي الطريقة الصحيحة، ونصُّ الشافعي (3) في آخر
__________
(1) أي زمان (المدّ) المقابل (للجَزْر)، وهما يتعاوران البحار، كما هو معروف.
(2) نلمح هنا تبّرم إِمام الحرمين بأهل الكلام، ولكن الذي نؤكده هو: أنه رفض أن تؤخذ الأحكام التكليفية من غير (ما يتناوله أفهام الناس) ومن غير (ما يقصده أرباب اللسان).
(3) يشير إِلى نص الشافعي في الأم في آخر حديثه عن المياه، حيث قال: "وإذا وقع في الماء شيء حلال فغير له ريحاً أو طعماً، ولم يكن الماء مستهلكاً فيه، فلا بأس أن يتوضأ به، وذلك أن يقع فيه البان أو القطران، فيظهر ريحه أو ما أشبهه.
وإِن أُخذ ماء فشيب به لبن أو سويق أو عسل، فصار الماء مستهلكاً فيه، لم يتوضأ به، لأن الماء مستهلك فيه. إنما يقال لهذا: ماءُ سويق ولبن وعسل، مشوب، وإِن طرح منه فيه شيء قليل يكون ما طرح فيه من سويق، ولبن وعسل مستهلكاً فيه، ويكون الماء الظاهرَ، ولا طعم لشيء من هذا فيه، توضأ به، وهذا ماء بحاله". ثم ضرب عدة أمثلة أخرى لتغير الماء وعدم تغيره، ثم ختم كلامه بالجملة التي أشار إِليها إِمام الحرمين، وذلك إِذ قال: "وهكذا كل ما ألقي فيه من المأكول من سويق أو دقيق ومرق وغيره إِذا ظهر فيه الطعم والريح مما يختلط فيه، لم يتوضأ به، لأن الماء حينئذٍ منسوب إلى ما خالطه منها (الأم: 1/ 6 - دار الشعب- القاهرة). =

(1/10)


الباب موافقٌ لهذه الطريقة؛ فإنه قال في ذكر ما لا يجوز التَوضؤ به، أو غير ذلك، مما لا يقع عليه اسم ماء مطلق: "حتى يضافَ إلى ما يُخالطه أو خرج منه" وهذا ظاهرٌ في أن أدنى تغيّر لا يُؤثر.
9 - وذكر طوائفُ من أئمتنا مسلكاً آخر في ضبط مقصود هذا الباب، ونفتتحه بالقول في المتغير بمخالطة ما يمكن صون الماء عنه.
ذهب أئمّةُ العراق إلى أن الماء إذا تغيّر بالزعفران وما في معناه أدنى تغيّرٍ، خرج عن كونه طهوراً، وهذا ما كان ينقله شيخي (1) عن القفال (2).
ولست أرى لهذا المسلك وجهاً سديداً، لكنّي أذكر الممكنَ في توجيهه، فأقول: لعلّ هؤلاء يقولون: المكلّفون فهموا من ذكر الماءِ في الطهارات أنه شيء لطيفٌ عامُّ الوجود، يقلع آثار النجاسات، ولا يُكسب ما يُغسَل به صفةً في نفسه، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] يشير إلى الماء الباقي على صفاتِ فطرته، والماءُ المتغيّر -على هذا التقدير- خارجٌ عمّا فُهم من صفة الماء، والماء الكثير الذي لا يقبل النجاسة ما لم يتغيّر، إذا تغيَّر بها أدنى تغيّرٍ، صار نجساً، فتغيُّرُ الماء القليل بمخالطة الطاهرات، كتغيّر الماء الكثير بالنجاسة على موجَب هذه الطريقة.
فأمّا ما يتغيّر بالمجاورة، كالماء المتغيّر برائحة الكافور الصلب وغيرِه، فيجوز التوَضؤ به عند هؤلاء، وإن كانوا يكتفون في المخالطَة بادنى تغيّر؛ فإنّ اكتساب الماءِ رائحةَ الكافور الواقع فيه كاكتسابه رائحة الكافور بالقرب منه غيرَ واقعٍ فيه.
__________
(1) شيخي: يريد والده رضي الله عنهما، فهو أستاذه الأول، وهو أبو محمد: عبد الله بن يوسف الجويني إِمام عصره، تفقه على أبي الطيب الصُّعلوكي، وقدم " مرو " قصداً لأبي بكر بن عبد الله بن أحمد القفال المروزي، شرح المزني، وشرح الرسالة للشافعي، كان ورعاً، دائم العبادة، مبالغاً في الاحتياط، توفي سنة 438 هـ (سير النبلاء ج 11 ورقة 137، طبقات السبكي 5/ 73 - 93).
(2) سبقت ترجمته، وقلنا: إِن المراد به القفال المروزي، المعروف بالصغير، وهذا عند الإطلاق دائماً.

(1/11)


10 - وذكر شيخي: أن صاحب التلخيص (1) ذكر قولاً في أنّ الماءَ المتغيّر بمجاورة ما وقع فيه ليس بطهورٍ، وهذا غريب مزيفٌ.
ثم قال هذا الفريق: "لو تغيّر الماءُ بمخالطة ما لا يمكن صونُ الماءِ عنه، كالأوراق الخريفية وغيرها، فيجوز التوضؤ به؛ لمكان التعذّر، وهذا كعفونا عمّا يتعذّر الاحتراز منه من النجاسات، كدم البراغيث وغيره".
فالماء المتغير إذاً ينقسم إلى ما يتغيّر بالمجاورة، وإلى ما يتغيّر بالمخالطة، فأما ما يتغير بالمجاورة، فطهورٌ على ظاهر المذهب، وفيه القول الغريب الذي ذكره صاحب التلخيص.
وأمّا ما يتغيّر بالمخالطة، فإنه ينقسم إلى ما يمكن صونُ الماءِ عنه، وإلى ما يتعذر الاحتراز منه.
فأمّا ما لا يمكن التحرّز منه، فإذا حصل التغيّر به؛ فالماء طهورٌ.
وما يمكن التحرز منه إذا خالطه، نُظر، فإن لم يُغيّر الماءَ أصلاً، جاز التوضؤ به، وإن غيّره أدنى تغيّرٍ، لم يجز التوضؤ به.
11 - وذكر الشيخ أبو بكر الصيدلاني طريقةً ثالثةً لبعض أصحابنا، وهو النظر إلى التغير بالمخالطة، [قال هؤلاء: كل ما يتغير بالمخالطة] (2) فلا يجوز التطهر به، وإن كان مما يتعذّر الاحتراز منه في بعض المياه.
ونظر (3) أصحابُ هذه المقالة إلى أن التغيّر بالاختلاط في حكم انقلاب الجنس، فكأنّ الماء خرج عن كونه ماءً إذا غيّره ما خالطهُ، من حيث لا يُتوقَّع تميّز أحدهما عن الثاني، واتحد كل واحد من المخالطَيْن بصاحبه.
__________
(1) صاحب التلخيص هو أحمد بن أبي أحمد الطبريّ، الشيخ الإِمام، أبو العباس، ابن القاصّ، إِمام عصره، وصاحب التصانيف المشهورة " التلخيص " و" المفتاح " و" أدب القاضي " وغيرها، وهو تلميذ أبي العباس ابن سُريج، أقام بطبرستان، وأخذ عنه علماؤها، ثم انتقل إِلى طرسوس، ومات بها في سنة 335 هـ. (طبقات الشافعية الكلبرى: 3/ 59 - 63).
(2) زيادة من نسخة: (د 3) وهي في (م) أيضاً، ثم وجدناها في (ل) كذلك.
(3) في الأصل: ولكن نظر ... والمثبت عبارة (م)، (ل).

(1/12)


والمجاورة لا تقتضي هذا المعنى، ثم معظم ما لا يتأتى التصوّن منه [مجاورٌ] (1)، والأوراق الخريفية، كالخشب تجاورُ، وليس فيها رطوبات تخالط، حتى لو انتثرت وفيها رطوبة، فخالطت وغيّرت، سلبت الماءَ طهوريَّتَه.
فهذا تحصيل طرق الأصحاب، في مقصود هذا الباب.
ونحن نرسم الآن فروعاً نذكر فيها مقالات الأئمّة، ونُخرِّجُها على الطرق، فتتهذّب بذكرها القواعد والأصول.
فرع:
12 - الماء إذا ألقي فيه ملح، صودف منعقداً عن الماء الأُجاج، فتفاحش تغيُّره به، فقد ذكر أئمّة المذاهب فيه خلافاً، وقالوا: من أصحابنا من جوّز التوضؤَ به؛ لأن الملح انعقد من ماءٍ، فإذا ذاب في ماء عذبٍ، كان [كالجَمْد] (2)، يذوب في الماء، وأيضاًً فلا خلاف أن الماء الملح -الذي ينعقد منه الملح- لو انصبَّ في ماء عذبٍ وظهرَ تغيُّره [به] (3)، يجوز التوضؤ به؛ فليكن الملح بنفسه (4) بمثابته.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز التوضؤ بالماء الذي ظهر تغيُّره بالملح الواقع فيه؛ فإنه مع العلم به لا يسمى ماء مطلقاً، إذا تفاحش تغيُّرُه، وليس الملح من أجزاء الماءِ وجوهره؛ فإن المياه نزلت من السماء عذبة، ثمّ سلكها الله سبحانه وتعالى ينابيعَ في الأرض، فاكتسبَ ما انسلك في السبخات صفاتِها، ثم الملح المنعقد هي أجزاء السبخة تتجمع، وليست أجزاء الماء، ولذلك لا ينماعُ الملحُ في الشمس.
وأما انصباب الماء الأُجاج على العذب، فالمتبع فيه الاسم في مجاري الكلام؛ فالناس يقولون: " ماءٌ انصب على ماء "، وكان يجوز التوضؤ بالماء الأجاج عند انفراده، وإذا (5) ذاب ملحٌ في ماءٍ يظهر تغيّره به، فيمتنع أهلُ اللسان من تسميته ماء على الإطلاق.
__________
(1) في الأصل: مجاورة الأوراق، والمثبت عبارة (د 3)، (م)، (ل).
(2) في الأصل: " كالجامد " والمثبت من: د3، (م)، (ل) والجَمْد بفتح الميم وسكونها: الماء إِذا تجمد، (المعجم والمصباح).
(3) مزيدة من (م).
(4) في (م): نفسه، وكذا في (ل).
(5) في (م): بخلاف ما إِذا ذاب ملح في ماء، فيظهر تغيره به. =

(1/13)


وما ذكرناه في الملح المنعقد من الماء، فأما الملح المنتقَر (1) المحتفر من الجبال، الذي لم يُعهد منعقداً من الماء، فإذا ظهر تغيّر الماءِ به، قطعنا بزوال طهوريته، ولم ندرجه في الخلاف أصلاً، ومن ظنّ فيه خلافاًً، فهو غالط.
فرع:
13 - إذا وقع في الماء كافورٌ صلبٌ، وغيّر رائحة الماء، فقد ذكرنا أن الماء طهورٌ عند الأئمة، والمجاورة لا أثر لها، فلو كان كافوراً رَخواً (2)، فذاب في الماء، وخالطه، وظهرت رائحتُه، والكافور قليل، وسبب تغيّر الماء ظهورُ الرائحة الفائحة الغالبة، فمن لم يكتف من أئمتنا بأدنى تغيّرٍ، واتبع الاسم، حكم بأن هذا الماء طهور.
ومن صار إلى أن التغيّر اليسير بالزعفران يسلب تطهير الماء، فقد اختلفوا في الصورة التي ذكرناها، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز التوضؤ به؛ فإنّه متغيّر والكافور مخالط في محل التصوير.
وذهب الأكثرون إلى جواز التوضؤ به، فإن الكافورَ وإن كان مخالطاً، فليست المخالطة سببَ التغيّر، وإنما سببُ التغيّر قوة ريح الكافور، فالماء في معنى ما يتغيّر بمجاورة الكافور.
فرع:
14 - إذا جرت رياح في الربيع (3)، ونثرت الأوراقَ الرطبة، وتغيّرت المياه بها، فمن اتبع المخالطة والمجاورة، منع التوضؤ به إذا تغيّرت المياه بمخالطة الأوراق إياها.
ومن اعتبر في أصل الباب التعذّر والتيسُّر في الاحتراز، اختلفوا في هذه الصورة؛ وسبب الاختلاف أن ما تعلق بالأعذار، فكل عذر يعمّ وقوعُه أثّر، وكل
__________
(1) المنتقر: من انتقر الشيء: احتفره. (المعجم) فالمحتفر هنا عطف بيان للمنتقر.
(2) رخواً بفتح الراء وكسرها، أي هشّاً. (المختار).
(3) ذِكْرُ (الربيع) هنا له معنى مقصود؛ إِذ تختلف أوراق الربيع عن أوراق الخريف، بما فيها من (رطوبات) تجعل عصيرها مخالطاً للماء، بعكس أوراق الخريف الجافة، التي لا تخرج عن كونها (مجاورة).

(1/14)


عذر يندر وقوعه، فإذا وقع، تردد الأئمة فيه، فمنهم من ينظر إلى وقوعه إذا وقع، وألحقه بما يعمّ وقوعه، ومنهم من ألحقه بما يتيسّر الاحتراز منه؛ فإن العسر الذي يتعذّر احتماله إنّما يتحقق فيما يعمّ، وما يندر في الأحايين في حكم عارضةٍ تزول.
وسيأتي ما يمهّد هذه القاعدةَ في مسائل التيمّم، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
15 - إذا طُرح كفٌّ من التراب في كوز ماءٍ فكدّره، فمن اتبع اسمَ الماءِ في الطريقةِ المرضيّة جوّز التوضؤ به؛ فإن التغيّر بالتراب لا يسلب اسمَ الماءِ.
ومن راعى المخالطةَ، اختلفوا في أن الترابَ مخالطٌ أو مجاورٌ.
وقد أجريتُ ذكرَ هذا في أثناء تمهيد الأصل.
فإن قيل: إنَّه مجاور، لم يضرّ، وجاز التوضؤ به.
وإن قيل: إنه مخالط مغيّر، فقد اختلف هؤلاء الآن في جواز التوضؤ به، فمنعه بعضُهم للتغير والمخالطة، وتيسُّر الاحتراز عنه في هذه الصورة.
وأجازه بعضُهم ذهاباً إلى أن التراب طاهر طهورٌ؛ فهو موافق للماءِ في صفته، فلا يضر تغيّر الماء به.
وهذا من ركيك الكلام، وإن ذكره طوائف؛ فإن التراب غيرُ مطهرٍ، وإنما عُلِّقت به إباحةٌ بسبب ضرورة.
والكلام في أصله مفرعٌّ على طريقةٍ غير مرضيّة، وإذا طال التفريعُ على الضعيف، تضاعف ضعفه.
فرع:
16 - إذا صُبَّ على ماءٍ قليلٍ مقدار من الماوَرْد، ولم يكن له طعمٌ محسوس، يخالف طعمَ الماء، ولا ريحٌ، فإن كان مقدارُه بحيث لو فُرض له طعمٌ مخالف لطعم الماءِ لغيَّره، على ما ذكرنا كلامَ الأصحاب في معنى التغير المؤثّر، فإذا بلغ الذي لا طعم له في الكثرة هذا المبلغ، لم يجز التوضُؤ بذلك المختلط؛ فإن ظهور صفة المخالط إن كانت له صفة، إنما أثَّر من حيث أشعر باختلاط الماءِ بغيره، فإذا تحققنا اختلاطهما، فليس المختلط ماءً مطلقاً، ومقدار المخالط كثيرٌ بحيث لا يُعدّ مثله مغموراً.

(1/15)


وإن كان مقدارُ الماوَرْد الخليِّ عن الطعم قليلاً، بحيث لو فرض له طعمٌ، لم يظهر طعمُه في هذا المقدار من الماء، فالوجه أن ننُبّه على مثار الإشكال في ذلك، ثم نوضّح المذهبَ.
فنقول: إذا كان مخالطُ الماء جامداً، وكان يسيراً مغموراً، فالجاري على أعضاء الطهارة ماءٌ (1) لا شك فيه، وإذا كان المخالط مائعاً، فقد نعتقد أنه لم يجرِ على البدن الماءُ المحض، فمن هذه الجهة تردد الأئمةُ على ما أصف مسالكهم.
فأقول: إن كان مع الرجل مقدار من الماء لا يستوعب بدنَه في الغُسل، فصبّ عليه من المَاوَرْد ما كمّله، وكان مقدارُ المَاوَرْد مع ذلك قليلاً، على ما سبق طريقُ اعتبار القلة، فمقدار الماء يجوز استعماله من هذا المختلط، وهل يجوز استعمال الزائد عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - وهو مذهب أبي علي الطبري (2) على ما ذكره العراقيون: أنه لا يجوز استعمال الزائد عليه؛ لأنّا لو جوزناه (3) -وإنّما كمل مقدار الوضوء بالمخالِط- فنعلم قطعاً أن الماء لم يعم أعضاءَ الوضوء.
قال العراقيون: هذا غلطٌ منه، والصحيح استعمال الزائد؛ فإن المخالط مغمور، فكأن المختِلطَ ماءٌ كله.
وكان شيخي يصحح الوجه الأول، ويزيّف ما صحّحه العراقيون، ويعتلّ بما وجهنا به ذلك الوجه.
__________
(1) عبارة (م): "ماءٌ وغيره، وهذا لا شك فيه".
(2) أبو عليّ الطبري، ويعرف أيضاً بصاحب الإِفصاح. وهو الحسين بن القاسم، وهو عند أبي إسحاق الشيرازي في طبقاته وابن خلكان، والنووي في التهذيب "الحسن بن القاسم" وكذا عند ابن النديم في " الفهرست". توفي سنة 350 هـ.
وهو من أصحاب الوجوه المشهورة في المذهب، وصنف في " أصول الفقه "، وفي " الجدل " وفي " الخلاف "، وهو من تلاميذ أبي علي بن أبي هريرة (طبقات الفقهاء للشيرازي: 94، وفيات الأعيان: 2/ 76، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 261، طبقات الإِسنوي: 2/ 154، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي: 3/ 280، والفهرست لابن النديم: 300).
(3) جواب "لو": فنعلم قطعاً أن الماء لم يعم أعضاء. وعبارة (م): لأنا لو جوزناه، كمل مقدار الوضوء بالمخالط ....

(1/16)


وما صححه العراقيون يتجه بشيء ظاهر، وهو أن مقدار الماء يجوز استعمالُه قطعاًً وفاقاً، مع العلم بأنه إذا استعمل، فليس ماءً محضاً، وإذا لم يكن محضاً، فليس الواصل إلى الأعضاء ماء.
ومن تمام البيان في ذلك أن مقدارَ الماء إن كان يأتي على الوجه واليدين، ويقصُر عن الرجلين، فيصحّ غسل الوجه واليدين بهذا المختلط، وفي غسل الرجلين الخلاف المذكور، وإن كان مقدار الماء كافياً لوضوءٍ، صحّ الوضوءُ به، مع الاقتصاد في استعمال الماء، وفي استعمال الفاضل في طهارةٍ أخرى الخلاف.
وإن كان مقدار الماوَرْد في القلَّة، بحيث لا يتبيّن له في الحس أثر في تكميل مقدارٍ، ولا يظهر عند عدمه في الماء قصور في مُدرَك الحس، فلا أثر لذلك المخالِط قطعاً.
فإن قيل: قد ذكرتم في أول الكلام تقديرَ طعم المخالط، فما وجه ضبط القول فيه؟ والأمر يختلف بحِدة الطعم ونقيضها، فإن [احتدّ] (1) طعمُ الشيء، غلبَ القليل منه، وإن لم [يحتدّ] (2)، لم يغلب إلا مقدارٌ زائد. قلنا: أقصدُ (3) الأمور ووسطها معتبرنا في ذلك.
وقد نجز الغرض من أصل الباب وتفريعه.
فصل
قال الشافعي: "ولا أكره الماءَ المشمَّسَ إلا من جهة الطب ... إلى آخره" (4).
17 - يكره استعمالُ الماءِ المشمَّس في الجواهر المنطبعة، كالرصاص والنحاس
__________
(1) في الأصل: " اتحد " والمثبت من: (د 3)، (م)، (ل).
(2) في الأصل: " يتحد " والمثبت من: (د 3)، (م)، (ل).
(3) في (د 3): " قصد "، وكذا في (م)، (ل).
(4) الأم: 1/ 3.

(1/17)


وغيرهما، وقد نهى عمر رضي الله عنه عن ذلك، وقال: " إنه يُورث البرص " (1)، ورُوي أن عائشة، أم المؤمنين رضي الله عنها، كانت تشمّس الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص " (2).
وقال الأئمة: إنما ثبتت الكراهيّة بشيئين يجتمعان، أحدهما - أن يجرى [التشمِيسُ] (3) في البلاد الحارّة، دون المعتدلة والباردة.
والثاني - أن يكون التشمِيس في الجواهر التي ذكرناها، فإنّ حَمْيَ الشمس إذا اشتدّ على الماء فيها، فقد يعلوها شىء كالهباء، وهو الضارُّ فيما قيل. فأما التشميس في الخزف والغدران (4)، فلا يضرّ أصلاً.
وإذا كان المرعيُّ أمراً يتعلق بالطبّ، فلا فرق بين أن يشمَّس الماء قصداً، وبين أن تنتهي الشمس إلى إناءٍ من غير قصدٍ.
__________
(1) أثر عمر رواه الشافعي في الأم (1/ 3) عن إِبراهيم بن محمد، عن صدقة بن عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله: أن عمر كان يكره الماء المشمس ... الخ.
قال الحافظ: "صدقة ضعيف، وأكثر أهل الحديث على تضعيف " إِبراهيم "، لكن الشافعي كان يقول: إِنه صدوق، وإن كان مبتدعاً ... ولحديث عمر الموقوف هذا طريق أخرى، رواها الدارقطني (1/ 39) من حديث إِسماعيل بن عياش، حدثني صفوان بن عمرو، عن حسان بن أزهر، عن عمر، قال: " لا تغتسلوا بالماء المشمس، فإنه يورث البرص " وإسماعيل صدوق فيما يروي عن الشاميين، ومع ذلك لم ينفرد به، بل تابعه عليه أبو المغيرة ... " انظر (التلخيص 1/ 27، 28 ح 8).
(2) حديث "لا تفعلي يا حميراء ... " أخرجه الدارقطني (1/ 38) وابن عديّ في الكامل (3/ 42)، وأبو نعيم في الطب، والبيهقي (1/ 6) من طريق خالد بن إِسماعيل، عن هاشم بن عروة، عن أبيه عنها. قال ابن عدي: " خالد كان يضع الحديث "، وتابعه وهب بن وهب أبو البخترى، عن هشام، قال: ووهب أشرّ من خالد. راجع (تلخيص الحبير: 1/ 24، 25 ح 5) لترى كل ما قاله الحافظ في رجال هذا الحديث، وطرقه. ونلاحظ أن إِمام الحرمين يورد الحديث بصيغة التمريض: "روي".
(3) في الأصل: " الشمس " والمثبت من: (د 3)، (م)، (ل).
(4) الغدران: جميع غدير، والغدير في الأصل، القطعة من الماء يغادرها السيل، والمراد هنا، تشمس الماء في مقره في الأرض.

(1/18)


وخصصّ الشيخ أبو بكر (1) النُّحاسَ بالاعتبار من سائر الأجناس.
وأنا أقول: يَبعُد أن ينفصل من إناء الذهب والفضّة، مع طهارتهما شيء محذورٌ، وكان شيخي يطردُ قولَه فيما ينطبع وينطرق.
وقال العراقيون: تختص الكراهة بما قُصدَ تشميسه دون ما يتفق، ولم يتعرضوا لتفصيل الجواهر، وهذا غلطٌ.
وأنا أقول: ليست الكراهية في هذا الفصل مؤثرةً في تنقيص مرتبة الطهارة؛ فإن سبب الكراهية حِذارُ الوَضَح (2)، وهذا يتعلق بالاستعمال في الوجوه كلها.
وأما الماء المسخّن، فلا كراهية في استعماله أصلاً.
فصل
18 - إزالة النجاسة عند الشافعي رحمه الله تختصّ بالماء، وقد تخيّل رضي الله عنه اختصاص إزالة النجاسة بالماء تعبداً، من حيث رأى الماءَ في الشرع هو المعدّ للطهارات، وقد قررت ذلك على أقصى الإمكان في الخلاف (3) مع (4) إشكاله. والله أعلم.
...
__________
(1) الشيخ أبو بكر، لعله يقصد به الصيدلاني، فهو الذي يعبر عنه أحياناً بـ "شيخنا"، وأما (أبو بكر) الباقلاني، فيعبر عنه بـ (القاضي)، والباقلاني أكثر ذكراً في الأصول والكلام، بل لعلّه لا يذكر -عند إِمام الحرمين- في الفقه أصلاً، وأبو بكر الفارسي ذكره مرتين فقط في هذا الجزء الأول (الطهارة).
ويقطع كل احتمال أن النووي في المجموع: 1/ 88 نسب هذا الكلام للصيدلاني صراحة.
(2) الوَضَح: البياض. والمراد هنا داء البرص.
(3) أي في كتبه التي ألفها في الخلاف، وهي (الأساليب) و (الغنية) و (العمد) و (الدرّة) وهي الوحيدة التي وقعت لنا للآن، وقد نشرت بتحقيقنا، ولكن ليس فيها هذه المسالة.
(4) في (د 3): وبينا إِشكاله.

(1/19)