نهاية المطلب في دراية المذهب

باب النية في الوضوءِ
60 - طهارات الأحداث تفتقر إلى النّية: وهي الغُسل، والوضوء، والتيمم.
وإزالة النجاسة لا تفتقر إلى النية.
ونسب بعض الأصحاب إلى ابن سُريج (1) وجهاً في اشتراط النيّة في إزالة النجاسة، وهذا غلط، وسنذكر في أحكام النجاسات سببَ هذا الغلط، ثم نذكر كيفية النيّة، ووقتَ النيّة في قسمين.
فأما القول في الكيفية، فتأتي كيفيّة النيّة في الغسل والتيمّم في بابيهما.
61 - فأما الوضوء، فينقسم إلى وضوء الرفاهية، وإلى وضوءِ الضرورة، فأما وضوء الرفاهية، وهو وضوء من لا عُذر له من النواقض للطهارة (2)، ففي النية مسلكان: أحدهما - التعرّض لرفع الحدث، فإذا نوى المتوضىء رفعَ الحدث، صح وضوؤه وارتفع حدثُه.
وإن نوى رفع حدث البول، وكان حدثه نوماً، أو مسّاً، فالوجه القطع بارتفاع الحدث، وصحّة الوضوء، والسبب فيه أن عين الحدث لا سبيل إلى تخيل ارتفاعه، وإنما ثبت بسبب الحدث منعٌ، وهو الحدث على التحقيق، ثم يرتفع ذلك المنعُ بالوضوء، وذلك المنعُ ليس جنساً معيّناً ولا نوعاً مخصوصاً، فإن فُرض
__________
(1) ابن سُريج، أحمد بن عمر، أبو العباس، القاضي، البغدادي، تفقه بأبي القاسم الأنماطي وغيره. حامل لواء الشافعية في زمانه، وناشر مذهب الشافعي، وتفقه به جماعة من حملة المذهب ورفعائه. توفي سنة 306 هـ (ر. طبقات الشافعية الكبرى: الطبقة الثالثة: 3/ 21، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة الدمشقي: 1/ 48، وطبقات الفقهاء للشيرازي: 108، والأعلام للزركلي).
(2) يشير بقوله هذا إِلى أصحاب الحدث الدائم مثل سلسل البول، والاستحاضة. وسيأتي الحديث عن نية الوضوء بالنسبة لهم قريباً.

(1/51)


غلطٌ في التعرّض لذكر السبب، فالمقصود ارتفاع الحكم الواقع بذلك السبب، وذلك الحكم لا يتصنّف ولا يتفرعّ.
62 - وكان شيخي يذكر هاهنا في وقوع الغلط في تعيين النيّة أقساماً، لا بدّ من ذكرها على إيجاز، فالعبادات تنقسم: فمنها ما يُشترط التعيين في نيّتها، كالصلاة والصوم، ومنها ما لا يُشترط التعيين فيها.
وهذا القسم يَنقسم قسمين: أحدهما - ألا يُشترط التعيين، ولكن لو عيَّن الناوي وغلط، لم يُعتدّ بالعبادة، وهذا كما أنا لا نشترط في نيّة الكفارة التعرض لذكر سببها، ولو نوى من أعتق رقبةً إعتاقها عن يمين، ثمّ تبيّن أنه ما كان حلف، وإنما كان ظاهَر، فالإعتاق لا يقع عن الكفارة التي كانت عليه، وكذلك لو نوى بما يُخرج زكاةَ مالٍ غائب، ثم ظهر له أن ذلك المال كان تالفاً في وقت إخراج الزكاة، فما أخرجه لا ينصرف إلى سائر أمواله. ولو كان نوى بما أخرجه تزكية ماله مطلقاًً، لانصرف إلى ما بقي من ماله الزكاتي. فهذا أحد القسمين.
والقسم الثاني - ألا يضرَّ الغلط في التعيين، وكان يذكر من ذلك ما لو نوى الإمامُ إمامةَ زيدٍ، ثم تبين أن المقتدي به عمرو، فلا يضرّ الغلط في ذلك. ثم كان يقول: حقيقة هذا القسم يؤول إلى أن أصل النية في هذه الصورة غيرُ مشروطٍ في صحّة صلاة الإمام، فإذا عين وأخطأ، لم يضرّ؛ فإن أقصى التقدير بطلانُ النية، ولو لم ينو الإمامُ أصلاً، لصحت صلاتهُ.
ولم يذكر غَلطَ المقتدي في تعيين إمامه، فإن فيه سرّاً سأُظهره في كتاب الصلاة، وكان يُلحق الغلط في تعيين الحدث بالقسم الأخير. وهذا فيه أدنى نظر على موجب تقسيمه؛ فإن أصل النية لا يسوغ تركه في الوضوء.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أن المتيمم لو نوى استباحة الصلاة عن الحدث، ثم ظهر له أنه كان جنباً، صح تيمّمه، والغلط من الجنابة إلى الحدث لا أثر له.
ولمّا نقل المزني هذا في التيمم، استشهد عليه بغلط المتوضّىء من حدثٍ إلى حدث.

(1/52)


وحكى في غلط المتوضىء إجماعَ (1) العلماء.
63 - وأنا أقول: أما سقوط أثر الغلط في التيمم، [فواضح] (2)؛ فإن التيمم لا يرفع الحدث أصلاً، وإنما أثره في استباحة الصلاة، والأحداثُ ذُكرت أو لم تُذكر باقية لا تزول، فيظهر التحاقُ التيمم في ذكر الحدث بما لا يشترط فيه النية أصلاً. والوضوء يرفع الحدثَ، ففرض الغلط في تعيينه قريب الشبه بالغلط في تعيين أسباب الكفارات.
وسأذكر صورةً بعد ذلك، يتم بذكرها الغرض إن شاء الله تعالى. فهذا ذِكر مسلكٍ واحدٍ في كيفية النية.
64 - فأما الثاني - فهو ألا يتعرّض المتوضىء للحدث في نيته، ولكن ينوي استباحة شيء، فإن نوى استباحة ما يفتقر إلى الوضوء، صح وضوؤه، وارتفع حدثُه، واستباح ما عيّن، وما أضرب عن ذكره. فإذا نوى استباحة الصلاة، ارتفع حدثُه، وزال المانع بالكلية، وكذلك إذا نوى استباحة مس المصحف أو حمله. فأما إذا نوى ما لا يشترط فيه الوضوء، ولكن يستحب كقراءة القرآن عن ظهر القلب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يرتفع حدثه (3)؛ فإنه لم ينو ما يمنع الحدثُ منه.
والثاني - يرتفع؛ فإنه لما ذكر ما أمر فيه بالوضوء، وإن كان [ندبًا] (4)، فقد تعرض للحدث، فارتفع.
ولو كان محدثاً، فظن أنه متطهر، فتوضأ، ونوى تجديدَ الوضوء، فالتجديد على الجملة مأمور به، ولكن المذهبَ أن حدثه لا يرتفع؛ إذ التجديد مأمور به، لا لأجل
__________
(1) ر. المجموع: 1/ 314، لترى أنه نقل الإجماع في هذا أيضاً، ولترى بهامشها عن نسخة الأذرعي: أن النووي أخذ هذا من كلام (الإِمام) في أوائل باب نية الوضوء. ثم استدرك على النووي بكلام الإِمام، والذي نريده الآن هو إِثبات أن إِمام الحرمين هو المعني بقولهم (الإِمام) مطلقاًً. كما ذكرنا في ترجمته.
(2) يكاد إِمامنا أن يُسقط الفاء في جواب (أما) دائماً. وهي لغة كوفية، وعليها جرت نسخة الأصل، والمثبت من (م)، (ل).
(3) وهو الأصح (الروضة: 1/ 48).
(4) في الأصل: نذراً. والمثبت من (م)، (ل).

(1/53)


الحدث، ومن يريد أن يقرأ القرآن عن ظهر القلب مأمور بالوضوء لأجل الحدث؛ فتعلق وضوؤه بقصد رفع الحدث.
فرع:
65 - إذا نوى المتوضىء استباحة صلاة بعينها دون غيرها، فعيَّن تيك الصلاة في نيّته، ونفى ما سواها، ففي المسألة وجهان: أحدُهما - أن حدثه باقٍ، ولا يصح وضوؤه أصلاً؛ فإن نيته فاسدة، [فكأنه لم ينو] (1)
والثاني - يصح وضوؤه (2)، ويرتفع حدثه، فيستبيح ما عيّن وما نفى؛ فإن الحدث لا بدّ من تقدير ارتفاعه في استباحة الصلاة المعينة. وإذا ارتفع حكم الحدث، لم يتبعض، ولا خلاف أنه لو عَيّن صلاةً، ولم ينف غيَرها، ارتفع حدثُه، واستباح كلَّ مفتقرٍ إلى الوضوء، فإذا عين ونفى، لغا نفيُه، وصار كما لو عيّن صلاة، ولم ينف غيرها.
قال الشيخ أبو بكر (3): لو اجتمعت أحداث ونوى رفع بعضها، ونفيَ ما سواها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يصحّ وضوؤه. والثاني - يصحّ ويرتفع جميعُ أحداثه.
66 - ولا بدّ بعد هذه الحكاية من التنبيه لأمرين: أحدهما - أن هذا الاختلاف الذي حكاه في ذكر حَدثٍ من الأحداث يوجب لا محالة اختلافاً فيما تقدم ذكره، في أن من غلط من حدثٍ إلى حدث هل يصح وضوؤه؟ إذ منشاً الكلام فيهما يؤول إلى مآلٍ واحد؛ فإن المعتمدَ في أن الغلط من حدثٍ إلى حدث لا أثر له - ما تقدم ذكره من أن الحدثَ هو المانع الحاصل، وذلك في حكم خصلةٍ واحدةٍ، ولا تتنوع (4)، وهذا بعينه يقتضي سقوطَ أثر العدد في أسباب ذلك المانع، وإذا سقط أثر العدد، والاختلاف، استوى الكلام في تعيين حدث من الأحداث، وفي الغلط من حدث إلى
__________
(1) مطموسة في الأصل. واثبتناها من (م).
(2) وهو الأصح (الروضة: 1/ 48).
(3) المراد الصيدلاني، فهذا لقبه، وهذه كنيته. ويتاكد ذلك منْ متابعة المسألة. وأبو بكر (كنية) لعدد ممن يتردد في (النهاية) لكن لا يذكر به مطلقاً غير مقيد إِلا الصيدلاني.
(4) في (م)، (ل): لا تتنوع (بدون واو).

(1/54)


حدث؛ فإن السرّ ذكر اتحاد ذلك المانع، والاتحاد ينافي التعددَ والاختلاف جميعاً.
وسمعت شيخي يذكر وجهاً ثالثاً في ذكر بعض الأحداث، ويقول: " إن نوى رفعَ الحدث الأول، يصح وضوؤه؛ فإنّ ما بعده ليس بحدث، وإن نوى رفع ما بعد الأول، لم يصح ".
وكل هذا حيْدٌ عندي عن الفقه؛ فإن المرعيّ هو المنع، وهو المعنيّ بالرفع.
وما اتحد، فلا يتحقق فيه تعددٌ، ولا اختلاف، ولا يترتب (1) بتقدّم أولٍ وتأخر ثانٍ.
فهذا أحد الأمرين اللذين نبهنا عليه.
67 - والثاني - أن الصيدلاني لما ذكر الوجهين -فيه إذا نوى رفع حدث من أحداث- شرط في تخريج الوجهين أن ينوي رفعَ حدث ويَنْفي ما سواه.
ومقتضى كلامه أنه لو نوى رفع حدث معينٍ، ولم يتعرض لنفي ما سواه، صح وضوؤه، كما لو نوى استباحة صلاة بعينها، ولم ينف غيَرها، صحّ وضوؤه، وإنما الوجهان فيه إذا نفى في نيته ما سوى الصلاة المعينة.
وهذا وهمٌ عندي، أما تعيين الصلاة، فلا بد فيه من الفصل بين أن ينفي ما سوى الصلاة المعينة وبين ألا ينفي، فأما إذا اجتمعت أحداثٌ فنوى رفعَ واحدٍ، ولم ينف غيره فينقدح فيه ذكر الخلاف؛ فإنه لم يتعرّض لما بقي من الأحداث، فقد يتخيل أنه لا يرتفع ما لم يذكره. فأما إذا عيَّن صلاة ولم ينف غيرها، فمقتضى (2) استباحة تيك الصلاة ارتفاع جميع الأحداث، وهذا بيّن لا إشكال فيه.
فهذا بيان كيفية النية في وضوء الرفاهية.
68 - فأما النية في طهارة الضرورة، وهي طهارة المستحاضة، ومن به سلس البول والحدث الدائم، فقد قال الأئمة: لو نوت المستحاضةُ رفعَ الحدث بوضوئها، واقتصرت على نية الرفع، لم يصح وضوؤها؛ فإن الوضوء لا يَرفع ما سيقعُ من الأحداث بعده، والأحداث الدائمة تقارن الوضوء، فليس رافعاً.
__________
(1) في (م): ولا تثريب.
(2) في (م): فمتضمن استباحته لتيك.

(1/55)


وحكى شيخُنا عن القفال: أن صاحب الضرورة لو نوى استباحة الصلاة مقتصراً على ذلك، لم يصح، ولا بد من الجمع بين نية الاستباحة، وبين نية رفع الحدث؛ لينصرف رفعُ الحدث إلى ما تقدم، وينصرف استباحة الصلاة إلى ما يقارِن، أو يتجدّد بعد الوضوء، وهذا غلط، لا يستراب فيه؛ فإن نية الاستباحة تليق بالمتيمّم، وصاحب الضرورة، وهي أيضاً [تُفِيدُ] (1) رفع الحدث؛ فإن صاحب الرفاهية لو نوى بوضوئه استباحةَ الصلاة، ارتفع حدثُه؛ فنيّة استباحة الصلاة في حق صاحب الضرورة تُغني عن الرفع، وعن إفادة إباحة الصلاة.
والصيدلاني لم يحك هذا عن القفال أصلاً، بل حكى القطعَ بأن نية الاستباحة في حق صاحب الضرورة كافيةٌ.
ولست أستريب في نقل شيخنا (2) عن القفال شرطَ الجمع بين نية الرفع والاستباحة، ولكنّه خطأ لا شكّ فيه. على أني أقول: لا ينبغي أن نعتقد أن طهارة المستحاضة تؤثر في رفع الحدث أصلاً؛ إذ الطهارة إنما ترفع الحدث إذا تمت، وكيف يُفرض تمامها، والحدث مقارن لها؟
فهذا منتهى القول في كيفيّة النية.
69 - [ووراء] (3) جميع ما ذكرناه غَائلةٌ لا يقف على سرّ المذهب من لم يتنبّه لها.
فأقول: ظاهر ما ذكره الأئمة أن النية في الوضوء من نية القربات، والشافعي أوجب النيةَ في الوضوء، من حيث أثبت أنّ الوضوءَ قُربةٌ، فعلى هذا إذا نَوى رفعَ
__________
(1) في الأصل: تقيّد. بهذا الضبط والوضوح، وهو تصحيف ظاهر. والمثبت من (م)، (ل).
(2) شيخنا المراد به هنا والده، فهو تلميذ القفال، وأما القفال فهو القفال (الصغير) المروزي أبو بكر عبد الله بن أحمد، وهو المراد عند الإِطلاق. هذا. والوجه المحكي عن القفال هنا حكاه النووي في المجموع: 1/ 332 عن أبي بكر الفارسي، والخضري، وأبي بكر القفال جميعاًً، وحكاه الرافعي: 1/ 333 عن أبي بكر الفارسي والخضري، وحكاه الغزالي في الوسيط: 1/ 365 عن الخضري، أما الحاكي هنا (شيخنا)، فلم يذكره أي منهم.
(3) غير مقروءة بالأصل، وقدرناها في ضوء السياق، وما بقي من آثار الحروف، وقد أكدت (م) صحة تقديرنا، والحمد لله على توفيقه، وكذا (ل) أيضاًً.

(1/56)


الحدث؛ فَيَنْقدح فيه ذكرُ خلافٍ في أنه هل يُشترط أن يضيف الوضوءَ إلى جهة التقرب إلى الله تعالى (1)؟ فإن أئمّتنا اختلفوا في أن من نوى صلاة الظهر هل يُشترط في صحة نيته أن يقول: لله تعالى؟ كذا القول فيه إذا نوى رفع الحدث، فيجرى فيه [الخلاف] (2) أنه هل يشترط أن يقول بقلبه: فعلتُه لله؟
وقد قطع أئمة المذهب أن المتوضىء لو نوى بوضوئه أداءَ الوضوء، وفرضيةَ الوضوء، صحت نيّته (3)، وارتفع حدثة، وإن لم يتعرض للحدث، ولا لاستباحة ما يفتقر إلى الوضوء، وذكروا اختلافاً في أن المتيمّم لو نوى فريضة التيمم هل يكفيه ذلك؟ وفرقوا بين الوضوء والتيمّم بأن الوضوءَ قربةٌ مقصودةٌ في نفسها؛ إذ يُستحب تجديدُها. والتيمم لا يُعنى إلا لغيره؛ ولهذا لا يستحب تجديدُه.
فهذه المسالك مُصرّحةٌ بأن نيةَ الوضوء نيةُ القربات، وإن ظن ظانٌّ أن الوضوء إذا كان يقع تنظفاً، ويقع مأموراً به، فالغرض من النية إيقاعُه مأموراً [به] (4)؛ فإن من عليه ألفُ درهم، فسلّم الألف إلى مستحق الدين؛ فلا يقع أداء الدين ما لم يقصد أداء الدين، كان ظناً بعيداً عرياً عن التحصيل. فالوجه الاكتفاء بما ذكره الأئمة.
هذا تمام المراد في كيفية النية.
70 - فأما القول في وقت النية؛ فهذا يستدعي ذكرَ تردد الأصحاب فيما يُعدّ (5) من الوضوء، وسنذكر في باب سنة الوضوء أن المتوضىء يسمي الله تعالى، ويغسل يديه ثلاثاً، ويستاك.
ثم اختلف الأئمة في أن هذه السنن هل تعدّ من الوضوء؟ فذهب ذاهبون إلى أنها
__________
(1) الأصح: لا يشترط (الروضة: 1/ 50).
(2) مزيدة من (ل) وحدها.
(3) هذا مسلك ثالث في كيفية النية، زاده الإمام بعد المسلكين اللذين نص على أنه سيذكرهما في الفقرة (61). وهذا ما استقر عليه المذهب، على سبيل المثال: يقول النووي من الروضة: "أما كيفية النية ... فينو أحد ثلاثة أمور ... الخ" (ر. الروضة: 1/ 48).
(4) زيادة من (م).
(5) في (م) بعد.

(1/57)


ليست من الوضوء؛ فإن التسمية مندوبٌ إليها عند استفتاح كل أمرٍ ذي بال.
وغسل اليدين ثلاثاً سنةٌ (1)؛ للتنظّفِ والتنقّي من النجاسة المتوهَّمة، والسواك مستحب في غير الوضوء، كما سبق تقريره في بابه.
وهذا وهم عندي؛ فهذه السنن من الوضوء. ولا يمتنع أن يشرع شيءٌ في مواضع، وليس شرط كون الشيء من الشيء أن يكون من خصائصه؛ فإن السجود يعدّ من أركان الصلاة، وإن كان مشروعاً عند التلاوة، وشكر النعم.
وأما السواك، فقد ذكرنا أن له أوقاتاً، منها الوضوء، فقد صحّ أنها من الوضوء، ومن قال غير ذلك، فهو غالط.
وإن نوى المتوضىء عند التسمية، واستدام ذكر النية حتى غسل بعض وجهه، صحّ وضوؤه، ولا يضر عُزوبُ النية بعد ذلك. ولو نوى عند غَسل الوجه صح، ولم يُعتدَّ بما قدمه على غسل الوجه من السنة؛ فإن النية لا تنعطف على ماضٍ، وإنّما يتعلق حكمها بالحال أو الاستقبال.
ولو قيل: يعتدّ بما مضى أخذاً من المتطوّع بالصوم إذا نوى نهاراً، فهو صائم من أول النهار؛ فتكون النية منعطفةً، فيكون وجهاً في الاحتمال، ولكن الصومَ في حكم الخصلة الواحدة، والوضوء يشتمل على أركان متغايراتٍ، فالانعطاف فيها أبعدُ، والمحفوظ في الوضوء أن النية لا تنعطف.
ولو نوى المتوضىء عند غسل اليدين، وقلنا: إنه من الوضوء، ثم عَزَبَت نيتُه قبل غَسل الوجه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الوضوء صحيح؛ فإن النية قارنت أولَه. والثاني - لا يصح (2)؛ فإن النية لم تقارن فرضاً من أفعال الوضوءِ.
والمضمضة والاستنشاق من الوضوءِ بلا خلافٍ؛ فليتفرّعْ عليه مقصود النية.
فرع:
71 - إذا نوى المتوضىء بوضوئه رفعَ الحدث والتبرّد، فضمُّ نيةِ التبرّد إلى النيّة المقصودة، لا يضر؛ فإن التبرد يَحصُل حسّاً وإن لم ينو، فلا معنى للنية فيه،
__________
(1) في (ل): سبب.
(2) وهو الأصح (الروضة: 1/ 47).

(1/58)


وكل ما يحصل من غير نيّة، فالقصد فيه لاغٍ، لا يُناط به حكم.
ولو دخل الإنسان المسجدَ، وتحرّم بالصلاة، ونوى به فريضةَ الظهر وتحيّةَ المسجد، فتتأدى الفريضة، وتحصُل التحيةُ، وليس ذلك تشريكاً؛ فإن التحية كانت تحصل، وإن لم ينوها؛ إذ لا غرض من التحية إلا ألا يجلس مَن دخل المسجد حتى يصلي. ولو نوى المتحرم بالصلاة الفريضةَ والسنة، لم تنعقد صلاته؛ فإنَّ التشريك يمنع العقد. ولو قصد المسبوق بالتكبيرة التي يبتدىء بها العقدَ وتكبيرة الهُويّ، لم تنعقد صلاتُه.
ولو نوى المغتسل يوم الجمعة -وكان قد أجنب- (1) بغسله غسلَ الجنابة والجمعة، حصل الغرضان، ولو نوى غسلَ الجنابة فحسب، ففي حصول سنة غسل الجمعة قولان، سيأتي ذكرهما.
قال الشيخ أبو علي (2) في شرح التلخيص: "من أصحابنا من قال: من نوى بغُسله غسلَ الجنابة والجمعة، لم يصح غسلُه أصلاً؛ للتشريك، وكان ذلك كما لو نوى
__________
(1) في (م): وكان قد أجنب فنوى.
(2) الشيخ أبو علي المراد هنا، هو الشيخ أبو علي السِّنجي: الحسين بن شعيب بن محمد، من قرية سنج أكبر قرى مرو. عالم خراسان، فقيه عصره، وأول من جمع بين طريقتي العراقيين والخراسانيين، تفقه على شيخ العراقيين أبي حامد الإِسفراييني ببغداد، وعلى شيخ الخراسانيين، أبي بكر القفال المروزي، وله غير شرح التلخيص، شرح المختصر، وشرح فروع ابن الحداد، توفي 430 هـ. وقبره بجنب أستاذه القفال بمرو.
وكتاب (التلخيص) المشار إليه من عمل ابن القاصّ: أحمد بن أبي أحمد الطبري، أبو العباس، له غير التلخيص (المفتاح) و (أدب القاضي) و (المواقيت) وغيرها، كان إِماماً جليلاً، تفقه على أبي العباس ابن سريج توفي 335 هـ.
وقد شرح التلخيص أكثر من شارح، منهم القفال المروزي عبد الله بن أحمد. والذي جعلنا نرجح أن شارح التلخيص المقصود هنا هو أبي علي السِّنجي أن السِّنجي هو الذي يلقب بالشيخ، حتى عرف بهذا اللقب وشاع عنه، قال السبكي في الطبقات: "فمن مستحسن الكلام الشيخ والقاضي زينة خراسان. والشيخ والقاضي زينة العراق، وهم الشيخ أبو علي السنجي والقاضي الحسين، والشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب" (راجع طبقات السبكي: 3/ 59 وما بعدها، 4/ 344، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 253، 261، طبقات الشافعية للإسنوي: 2/ 297، 298).

(1/59)


المسبوقُ بتكبيرة العقدَ والهُويّ". وهذا بعيد، لم أره لغيره. ووجه خروجه أن يفرعّ على أحد القولين، وأنه لو نوى غسلَ الجنابة ولم يتعرض لغسل الجمعة، لم تتأدّ سنةُ غسل الجمعة، فإذا نواه، فهو تشريك في ظن هذا القائل، وهو بعيد؛ فإن مبنى الطهارات على التداخل.
72 - عدنا (1) إلى غرضنا:
لو نوى المتوضىء رفعَ الحدث أولاً، ثم عَزَبَت نيتُه؛ فنوى ببقية الطهارة تبرّداً، وهو ذاهل عن نية رفع الحدث، ففي المسألة وجهان: أحدهما (2) - أنه لا يصح منه بَقيَّة الطهارة على هذا الوجه؛ فإنَّه لما جرّد قصد التبرد، فكأنّه رفض (3) النية، ولو رفضها ورفعها، وجرّد قصد التبرد، لم يعتد بما يأتي به عند الوضوء، فكذلك إذا عزبت، وجرد قصدَ التبرد.
والثاني - أنه يقع بقيةُ الطهارة معتدّاً بها؛ فإن النية المنسية، كالنية المذكورة. فإذا نوى التبرّدَ وقد نسي نيةَ رفع الحدث، كان كالجامع بين نية الرفع، وقصد التبرّد.
فرع:
73 - المسلم إذا نكح ذميةً، فحاضت، حرُم وطؤها، فإذا طهرت عن الحيض، لم تحلّ للزوج، ما لم تغتسل، فإذا اغتسلت، حلّت له. فإن قيل: كيف تحلّ، ولا يصح الغُسل إلا بالنية، ولا تصْح النيةُ من الكافر؟ قلنا: يتعلّق بالغسل حقان: حق الزوج، وحقُّ الله تعالى، بدليل أن المسلمة إذا طهُرت عن الحيض ضَحْوةً، فللزوج أن يجبرها على الغُسل لتحل له، وإذا كان (4) ذلك، قلنا: يصحُّ من الذمية الغُسل إذاً؛ لِحَقّ الزوجِ.
فلو أسلمت، فهل يجب عليها إعادة الغُسل إذا صارت من أهل النية؟ فعلى وجهين
__________
(1) عبارة (م): على التداخل عندنا، ولو نوى ...
(2) في (م): " أصحهما "، (ل): "أحدهما وهو الأصح". وهذا الوجه هو الصحيح فعلاً (الروضة: 1/ 49).
(3) رفض النية أي تركها ونقضها.
(4) لعل كان هنا تامة، والمعنى فإذا تقرر ذلك. وفي (م): كذلك.

(1/60)


مشهورين: والأصح عندي ألا تجب الإعادة؛ فإن القُربة إذا رُوعي فيها معنيان، ثم استقلت بأحدهما، صحت، ولم تجب الإعادة. وكذلك (1) قال الشافعي: " الكفارة تجب على الكافر، فإذا أدّاها في كفره ثم أسلم، لم يلزمه إعادة الكفارة " ولعلّ الفارق بين الكفارة -ولا خلاف فيها- وبين الغسل -[وفيه] (2) الخلاف- أن الكفارة المؤدّاة بالمال لا تخلو قط عن غرضٍ مرعي لآدمي من تخليصٍ عن رِقٍّ، أو إطعامِ محتاج، أو كسوة عارٍ؛ فكان أمر النية أضعفَ فيها، والغسل قد لا يتعلق بحق آدمي؛ فإن المرأة إذا لم تكن ذات زوج، كان عليها الغسل لله تعالى.
74 - ومما يتعلق بذلك: أن المسلمة إذا امتنعت من الغسل عن الحيض تحت زوجها، فأوصل الزوجُ الماء إلى بدنها قهراً، حلّت له. وهل يلزمها أن تغتسل لله تعالى؛ قال الإمام (3) -رحمه الله-: فيه الوجهان المذكوران في الكافرة إذا أسلمت.
وفي المسألة احتمالٌ آخر، يُشير إلى القطع بإيجاب الغسل، من حيث إنها امتنعت عن النيّة، وكانت من أهلها.
ثم ما ذَكَرناه من صحّة الغسل على التفصيل المذكور في غسل امرأةٍ ذاتِ زوج. فأما
__________
(1) في (م): ولذلك.
(2) في الأصل: وفيها. والمثبت من (م)، (ل).
(3) وقفت طويلاً أمام لفظ (الإِمام) هنا لأعرف من المقصود بالإِمام، ذلك أن هذا اللفظ (الإِمام) لم يرد هكذا مطلقاً بغير قيد أو وصف. إِلا مرتين فقط في هذا الجزء (الطهارة) كله. هذه، والثانية في أواخر كتاب الحيض. وهناك جزمنا بأن المقصود بالإِمام هو والد إِمام الحرمين أبو محمد، وذلك عن طريق ما حكاه عنه ابن أبي عصرون في مختصره.
أما هنا، فالأمر مشكل، إِذ هذا القول الوارد هنا المنسوب (للإِمام) هو بعينه ما أسنده النووي في المجموع: 1/ 331 إِلى إِمام الحرمين، وهذا أيضاً ما يفهم من ابن أبي عصرون في مختصره. فهل يكون المقصود بالإِمام هنا (إِمام الحرمين نفسه) وهذا اللفظ من عبارة الناسخ الذي نسخ الكتاب؟ أم أن المقصود هنا أيضاً (بالإِمام) هو الجويني الأب أبو محمد، وتجوّز النووي في نسبة كلام الوالد للابن؟ أمّا ابن أبي عصرون، فالأمر بالنسبة له أيسر، فهو يختصر النص، ويسمعه ذكر الأحكام بدون نسبتها إِلى أصحابها. ولذا لم يفد في هذا الموضع. والذي يغلب على الظن ويترجح لديَّ أنه (أبو محمد الجويني) ويظل للاحتمال مجال. والعلم عند الله. (والآن بعد أن أبحرنا في لُجج النهاية تأكد لدينا بأكثر من دليل صحة ما قدّرناه).

(1/61)


إذا لم تكن الكافرة ذاتَ زوجٍ، فاغتسلت، أو اغتسل الكافرُ ثم أسلما، فيجب إعادة الغسل وجهاً واحداً.
وقال أبو بكر الفارسي (1): يطرد الخلاف في إجزاء (2) الغسل في حق كل كافر.
وهذا غلط صريح متروك عليه، وليس من الرأي أن تُحسب غلطاتُ الرجال من متن المذهب.
فرع:
75 - من توضأ ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، فهو على طهارته؛ فإن الردّة الطّارئة ليست من الأحداث المبطلة للوضوء.
ولو تيمم، ثم ارتد، ثم عاد مسلماً، ففيه وجهان: أحدهما - أنه على تيممه، كالوضوء، والثاني (3) - أنه يبطل تيممه؛ فإن حق التيمم أن يستعقب صحةَ الصلاة.
ولذلك لا يصح التيمم لصلاة الظهر قبل دخول وقتها. فإذا ارتد المتيمم، فقد انتهى إلى حالة لا يتأتى منه الصلاةُ فيها؛ فضعف التيمُّم لذلك. ومَن ضعَّف التيمم، قضى ببطلانه بحسبانٍ مجرد؛ فإن المتيمم إذا رأى [سراباً] (4) ظنه ماءً، ثم تبين أنه ليس بماءٍ، لزمته إعادةُ التيمم بظنٍّ تحقق بطلانهُ.
ولو ارتدّ وتوضأ وهو مرتدّ، لم يصح [ذلك منه، ولو ارتد في خلال الوضوء، فإن أدى شيئاً وهو مرتد لم] (5) يعتدّ بما جاء به في ردته، وإن لم يأت بشيء، وأسلم
__________
(1) أبو بكر الفارسي، أحمد بن الحسين بن سهل، ويقال له البلخي أيضاً. صاحب عيون المسائل في نصوص الشافعي، اختلف في طبقته، فقيل: من الثانية، وعدّ من تلاميذ أصحاب الشافعي، وأنه تفقه بالمزني، وقيل: بل من الثالثة ممن تفقه بابن سريج، واختلف في سنة وفاته، فقيل سنة 305 هـ أي قبل ابن سريج بسنة، وقيل توفي سنة 350 هـ (طبقات السبكي: 2/ 184 - 186، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 124، وطبقات العبادي: 45، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 195).
(2) في (م): إِجراء (بالراء المهملة. وعليها علامة الإِهمال واضحة تماماً).
(3) وهو الصحيح (الروضة: 1/ 47)
(4) في الأصل: "شراباً" بالمعجمة، والمثبت من (م) و (ل).
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه على ضوء السياق، مع الاستعانة بمختصر ابن أبي عصرون، ثم تحقق صدق تقديرنا بعد حصولنا على نسخة (م)، وكذلك (ل).

(1/62)


على قُربٍ -حتى لا نقع في تفريع تفريق الوضوء- فالنيةُ تنقطع بطريان الردّة؛ فإذا عاد، ولم يجدد نية في بقية الطهارة، لم يصح وإن أعاد [النية] (1) لمّا عاد مسلماً، فقد انقطعت النية، فيكون كما لو قطع المسلم النيةَ، وقسمها على أعضاء وضوئه: فنوى عند غسل الوجه رفع الحدث عن الوجه، وكذلك عند كل عضوٍ، ففيه خلافٌ سيأتي - إن شاء الله عز وجل.
...
__________
(1) زيادة من (م)، (ل).

(1/63)