نهاية المطلب في دراية المذهب

باب الاستطابة
125 - روى الشافعي بإسناده عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال: " إنما أنا لكم مثلُ الوالد، فإذا ذهب أحدُكم إلى الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها لغائطٍ ولا بولٍ، وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرمّة " (1).
وكان رضي الله عنه يذكر في صدر الباب آداباً تتعلق بمضمون الباب.
فإذا كان الرجل بارزاً في قومٍ، آثرنا له أن يُبعد، وَيبعد عن أعين الناظرين، ويستترَ بشيءٍ إن وجَدَ، ويُعِدّ الأحجارَ قبل قضاء الحاجة، وَيتَّقي الجلوس في موضعٍ هو مُتحدَّث الناس ومجلسُهم؛ قال النبي عليه السلام: " اتقوا الملاعن وأعدوا النُّبلَ.
قيل: ما الملاعن يا رسول الله؟ قال: الجلوس في مجلس الناس ومُتحدثهم " (2)،
__________
(1) حديث " إنما أنا لكم مثل الوالد ... " رواه الشافعي من حديث أبي هريرة (الأم 1/ 18)، ورواه ابن خزيمة: 1/ 43 باب 8620، وابن حبان 4/ 279 ح 1431، والدارمي 1/ 182 ح 1428، وأبو داود: الطهارة، باب كراهية استقبال القبلة عند قضاء الحاجة، ح 8، والنسائي: الطهارة، باب النهي عن الاستطابة بالروث، ح 40، وأبو عوانة: 1/ 200، وابن ماجة: الطهارة، باب الاستنجاء بالحجارة، ح 313، وصححه الألباني. (ر. التلخيص: 1/ 102 ح 122، وصحيح ابن ماجة ح 252، مختصر المزني: 1/ 11).
والرمة: العظام البالية.
(2) قال الحافظ: "رواه أبو داود، وابن ماجة، والحاكم من حديث أبي سعيد الحميري عن معاذ بلفظ "اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، والظل، وقارعة الطريق" وصححه ابن السكن، والحاكم، وفيه نظر" ا. هـ بنصه. ثم قال: رواه مسلم بلفظ: " اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس، أو ظلهم ".
وأما الرواية بلفظ: " اتقوا الملاعن وأعدوا النبل " فقال عنها الحافظ: " عن الشعبي مرسلاً، ورواه ابن أبي حاتم في العلل مرفوعاً، وصحح أبوه وقفه " ا. هـ (ر. أبو داود: الطهارة، باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البول فيها، ح 26، ابن ماجة: الطهارة، باب النهي عن الخلاء في قارعة الطريق، ح 328، الحاكم: 1/ 167، التلخيص: 1/ 105، 107، ح 132، 139).

(1/101)


والنُّبْل جمع نُبلة وهي الحصاة الصغيرة.
ولا ينبغي أن يتدانى مجلسُ اثنين يقضيان الحاجة، ويتحدثان، وينبغي ألا يكشف المرء عورتَه قبل الانتهاء إلى مَوضع الجلوس.
قال العراقيون: لا ينبغي أن يبول في الماء الراكد، وتحت الشجرة المثمرة، ولا يستقبل الشمسَ والقمر. ويروون في هذه الأشياء أخباراً.
ومن الجوامع الاستنزاه عن البول، قال النبي عليه السلام: " استنزهوا من البول؛ فإن عامةَ عذاب القبر منه " (1) ثم من الاستنزاه أن يتوقَّى البولَ في العَزَاز (2)، ويرتادَ موضعاً دَمِثًا (3)، ولا يستقبلَ مَهابّ الرياح، ويهتمَّ بالاستبراء، فيمكثَ بعد انقطاع القطر، ويتنحنح، وكلٌّ أعرَف بطبعه.
والنتر (4) مما ورد الخبر فيه، وهو أن يمرّ إصبعاً من أصابعه أسفل القضيب، ليُخرج بقتةً، إن كانت.
ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البول في الجُحر، وقال: "إنها مساكن إخوانكم من الجن" (5).
__________
(1) حديث " استنزهوا من البول ... " قال الحافظ: " رواه الدارقطني من حديث أبي هريرة، وفي لفظ له وللحاكم وأحمد وابن ماجه " أكثر عذاب القبر من البول "، وأعله أبو حاتم، فقال: إِن رفعه باطل " ثم قال: "وفي الصحيح عن ابن عباس فىِ قصة صاحبي القبرين: "أما أحدهما، فكان لا يستنزه من البول" (ر. تلخيص الحبير: 1/ 106 ح 136، والدارقطني: 1/ 128، والحاكم: 1/ 183، وأحمد: 2/ 326، وصحح الشيخ شاكر إِسناده برقم 8313 ج 16 ص 143، وابن ماجة: الطهارة، باب التشديد في البول، ح 348، والبخاري: الوضوء، باب من الكبائر ألا يستتر من بوله، ح 216).
(2) العزاز: الأرض الصلبة. (القاموس)
(3) دَمث المكان: لان وسهل. (القاموس).
(4) استنتر من بوله: اجتذبه، واستخرج بقيته من الذكر، والنتر جذبٌ فيه جفوة. (القاموس).
(5) رواه أحمد: 5/ 82، وأبو داود، الطهارة، باب النهي عن البول في الجحر، ح 29، والنسائي، الطهارة، باب كراهية البول في الجحر، ح 34، والحاكم: 1/ 186، والبيهقي: 1/ 99، وفي الأصل، ومثلها (ل): " الجحرة " وزان عنبة جمع جحر، والتصويب من كتب الحديث.

(1/102)


وإذا كان في بنيانٍ، فإنا نؤثر له إذا أراد دخولَ ذلك البيت أن يقدّم رجله اليسرى، وفي الخروج يقدّم رجله اليُمنى، على الضدِّ من دخول المساجد، والخروج منها.
ويقول عند الدخول: بسم الله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقول عند الخروج: الحمد لله الذي أذهب عنّي ما يؤذيني، وأبقى عليّ ما ينفعني. ولا يستصحب شيئاًً عليه اسمٌ معظم، ولا يدخل ذلك البيتَ حاسِرَ الرأس، ويتكىء إذا جلس على رجله اليُسرى، ولا يستنجي في موضع قضاء الحاجة. وقد وردت أخبار فيما عدَّدْناه.
126 - ثم يتصل بما ذكرناه القول في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة.
والكلام في ذلك قسمان: يتعلق أحدهما بما يحرم، ويتعلق الثاني بالآداب.
فإذا كان الرجل في مكانِ بارزٍ حرُم عليه استقبالُها، واستدبارُها عند قضاء الحاجة. ولو كان في عَرْصَةِ دارٍ، فهو بارزٌ يحرم عليه الاستقبال والاستدبار للقبلة، وإن كان في بيت يُعدّ ساتراً، لم يحرُم عليه الأمران، ولكن الأدب أن يتوقاهما، ويُهيىءَ مجلسه مائلاً عن الاستقبال والاستدبار (1). ولو كان بينه وبين صوب القبلة ما يستره، كفى ذلك، وزال التحريم فيما ذكرناه. وينبغي أن يكون مجلسه قريباً من الساتر.
وذكر بعضُ المصنفين أنه ينبغي أن يكون بينه وبين الساتر ما يكون بين الصفّين، وهو قريب من ثلاثة أذرعٍ، وإن كان أقرب، كان الستر أبلغ. وهذا تقريب لا بأس به.
ولو تستّر في الصحراء بوَهْدَةِ، أو شيء آخر، زال عنه التحريم، ولو أناخ راحلتَه وتَستَّر بها، فهو مستترٌ، وقد رُوي ذلك عن ابن عمر.
__________
(1) هنا في هامش (م) بخط مغاير، ما نصه: "حاشية: ولو كان في مرحاضِ مرتب هُييء لذلك، وهو على جهة القبلة، فلا يحرم، ولا يكره، لكن الأولى أن يجلس مائلاً عن القبلة، ما أمكنه، ويستنجي في مكان قضاء حاجته، بالماء في المرحاض المذكور دون غيره. والله أعلم".

(1/103)


ولو أرخى ذيله في قُبالة القبلة، فقد ذكر رضي الله عنه (1) فيه: وجهين في أن ذلك هل يكون تستراً؟ والوجه عندي القطع بأنه تستر؛ فإن المحذور ألا يستقبلَ القبلةَ ولا يستدبرها بإحدى سوأتيه، وهذا المعنى يزول بإرخاء الذيل. والقدر المعتبر في الساتر أن يستر من الجالس لقضاء الحاجة ما بين سُرَّتِه إلى موضع قدميه، وهو قريب من مقدار مُؤخَّرة الرَّحْل.
[باب] (2)
127 - إذا خرج خارجٌ من أحد السبيلين ملوِّث، وجب فيه الاستنجاء.
والقول في مضمون الباب يتعلق بفصولٍ:
أحدها - فيما يوجب خروجه الاستنجاء.
والثاني - فيما يستنجى به.
والثالث - في كيفية الاستنجاء.
والرابع- في انتشار النجاسة في خروجها.