نهاية المطلب في دراية المذهب

باب في الاستنجاء
فصل
[فيما يوجب الاستنجاء] (3)
128 - فأما ما يوجب الاستنجاء، فكل عينٍ ملوِّثةٍ. والريح لا يوجب خروجُها الاستنجاءَ، ولا فرق في العين الملوثة بين أن تكون نجاسةَ البلوى، وبين أن تكون نجاسةً نادرة، كالدم والقيح.
__________
(1) الذي ذكَرَ وجهين -كما صرح باسمه النووي- هو (بعض المصنفين) وليس ابن عمر، كما قد يتبادر. وهنا يظهر إِنصاف إِمام الحرمين، فمع تحامله على (بعض المصنفين) -ويعني به أبا القاسم الفوراني- إِلا أن ذلك لم يمنعه من النقل عنه، واختيار (تقريبه) كما مر آنفاً بل يترضى عنه. (ر. المجموع: 2/ 79).
(2) في النسخ الثلاث (فصل) وسوغ لنا هذا التغيير مضمون كلام الإِمام في السطور التالية.
(3) زيادة من المحقق.

(1/104)


ولو خرجت حصاةٌ أو دُودةٌ، فلم يقع لوث محسوس، ففي المسألة وجهان: أصحهما - وجوب الاستنجاء؛ فإنها لا تخلو عن لوثةٍ، وإن كانت [خفية] (1).
[فصل]
[فيما يُستنجى به] (2)
129 - وأما القول فيما يستنجى به، فإن آثرَ القاضي حاجتَه استعمالَ الماء، فليكن طهوراً، [كما] (3) سبق وصفه.
وإن آثر الاقتصار على استعمال جامدٍ، فالخبر واردٌ في الأحجار، ولكن كلّ ما يقوم مقامها في المقصود، فهو بمثابتها، ولم يُعيّن الأحجارَ إلا أصحابُ الظاهر، وسنذكر السرَّ المعنوي في ذلك، في الفصل الذي بعد هذا.
فليكن ما يستنجى به عيناً طاهرة، منشِّفةً، غيرَ محترمَةٍ. فلو استنجى برَوثة، لم يجز، ولا يُعتدُّ به؛ فإن استعمالها يُثبت في محل النجو نجاسةً زائدةً غيرَ نجاسةِ البلوى.
والاقتصارُ على المسحات يختص بنجاسة البلوى، وقد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الروث (4) فهذا اشتراط [طهارة] (5) المستعمَل.
وأما قولنا: "منشِّفة"، فالمعنيُّ به أن الجامدات ينبغي أن تكون بحيث يتأتى بها قلعُ النجاسة، فلو كان ما استعمله أملسَ، لم يعتد به؛ فإنه لا يقلع النجاسةَ، ويبسُطها، ويُعدِّيها عن محلّها، إلى غير محلّها.
__________
(1) في الأصل: خفيفة، والمثبت من (م)، (ل).
(2) زيادة من المحقق.
(3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، وقد صدقتنا (م)، (ل).
(4) النهي عن الاستنجاء بالروث، رواه الشيخان، وأصحاب السنن، وأحمد، والدارمي (ر. البخاري: الوضوء، باب لا يستنجى بروث، ح 156 وباب الاستنجاء بالحجارة، ح 155، مسلم: الطهارة، باب الاستطابة، ح 262).
(5) زيادة من (م)، (ل).

(1/105)


وأما قولنا: "غير محترمةٍ"، فالمراد تحريمُ استعمال المطعومات، والأشياء التي عليها كتابة محترمة معظَّمة، مما يُحفظ، فالمحترَم هو الذي يحرم استعمالُه في النجاسة، فإذا فرض استعمالُ محترمٍ، انتسب المستعمِلُ إلى المأثم، وفي سقوط الفرض وجهان: أحدهما - أنه يسقط؛ لحصول ارتفاع النجاسة.
والثاني - لا يسقط؛ لأن الاقتصارَ على الأحجار من الرُّخص، والرُّخص لا تناط بالمعاصي.
وهذا الاختلاف يُضاهي الاختلافَ في المسح على الخُف المغصوب، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وحكى الأئمّة اختلافَ نصّ الشافعى في الاستنجاء بالتراب، والذي يجب القطع به أنه أراد بالتراب المدَرَ (1) المتماسكَ لمَّا نصّ [على] (2) الاستنجاء به.
ومن شبّب من المصنفين بترديد الجواز في التراب المنتثر، فهو غالط؛ فإنَّ التراب يلتصق بالنجاسة، ولو قُدّر تحامل، انتشرت النجاسة، ونُقلت عن محلها.
ونقل البُويطي جوازَ الاستنجاء بالحُممَةِ (3)، ونقل غيرُه منعَ ذلك، وقطع المحصّلون بتنزيل النصين على حالين، فإن كانت الحممةُ صُلبةً، لا تنتثر، وتقلع النجاسة، جاز الاستنجاءُ بها، وإن كانت رخوةً تنتثر، لم يجز، وتَخيّلُ التردد في ذلك غلط.
ولو استنجى بعصفورةٍ حيّةٍ، عصى ربَّه، وإذا انقلعت النجاسة، ففي سقوط الفرض الوجهان المقدمان في استعمال الأشياءِ المحترمة.
ولو استنجى بيد غيره، فهو كالاستنجاء بالعصفورة، ولو استنجى بيد نفسه، فالوجه القطع بالإجزاء؛ لحصول القلع، وانتفاءِ المأثم؛ فإنه لا حرج على المرء في تعاطي النجاسة باليد، ومن خرّج الصورة الأخيرة على الخلاف، فغالط.
__________
(1) المدر: الطين اللزج المتماسك (المعجم).
(2) في الأصل: عن، والمثبت تقدير منا، صدقته (م)، (ل).
(3) الحممة: واحدة الحُمم، وهو الفحم والرماد، وكل ما احترق من النار (المعجم).

(1/106)


أما الاستنجاء بالجلد الطاهر الجافّ، فقد نقل حرملةُ (1) امتناعَه، ونقل البويطي أنه يجوز الاستنجاء به، ونقل الربيع أنه إن كان قبل الدباغ، لم يُجْزه، وإن كان بعده يجوز، فمن أصحابنا من يجعل ذلك أقوالاً.
ووجّه المنعَ بأنه من المأكولات، ووجّه التحليلَ بكونه طاهراً منشِّفاً غيرَ محترمٍ؛ فإن استعمالَ الجلد في النجاسة غيرُ محرم. ومن فصّل، قال: الجلد قبل الدباغ دسم غير نشاف، وإذا دُبغ، فهو نشاف.
ومن أصحابنا من قال: المذهب ما نقله الربيع، والقولان المطلقان في النفي والإثبات محمولان على ما قبل الدباغ وبعده.
وكان شيخي يقول: العظم الطاهر إذا جفّ، وصار بحيث لا يؤكل لجفافه، فلا يجوز الاستنجاء به؛ لأنه على الجملة من المطعومات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه طعام إخوانكم من الجنّ" (2).
__________
(1) حرملة بن يحيى بن عبد الله بن حرملة بن عمران التجيبي، المصري، أبو حفص، من أصحاب الشافعي، أحد الحفاظ المشاهير، وكبار رواة مذهبه الجديد، صنف المبسوط، والمختصر. ولد سنة ست وستين ومائة، ومات في شوال سنة ثلاث، وقيل: أربع وأربعين ومائتين. والتجيبي نسبة إِلى تجيب بتاء مثناة من فوق مضمومة، وقيل مفتوحة، ثم جيم مكسورة، بعدها مثناة من تحت، ثم ياء موحدة، وهي قبيلة نزلت بمصر. (له ترجمة في طبقات السبكي: 2/ 127، وطبقات الإسنوي: 1/ 28، وطبقات الفقهاء للشيرازي: 99، ووفيات الأعيان: 2/ 64).
(2) حديث النهي عن الاستنجاء بالعظم "فإنه طعام إِخوانكم من الجن" رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وساقه في باب ذكر الجن، بأتم مما ساقه في الطهارة، ورواه مسلم من حديث ابن مسعود (ر. البخاري: الوضوء، باب الاستنجاء بالحجارة، ح 155، كتاب مناقب الأنصار، باب ذكر الجن، ح 3860، مسلم: الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، ح 450، تلخيص الحبير: 1/ 109 ح 143).

(1/107)


[فصل]
[في كيفية الاستنجاء] (1)
130 - فأما القول في كيفية الاستنجاء، فهاهنا ينبغي أن يتثبّت الناظر.
فإن أراد القاضي حاجتَه أن يستعمل الماء، فالمرعيُّ فيه إزالة العين والأثر، كما يُعتبر ذلك في إزالة النجاسات كلِّها عن مواردها.
فأمّا إذا أراد الاقتصارَ على الأحجار، فمما يجب الاعتناءُ به أن الاقتصار خارج عن قاعدة إزالة النجاسة؛ فإن إزالة أثر نجاسة البلوى ممكن، لا تعذُّر فيه، وقد يكون استعمالُ الأحجار أعسر من استعمال الماء، وليس ذلك على قياس الأبدال، التي يتوقف الأمر فيها على إعواز المبدلات، كالتراب في التيمم مع الماء، وإلا لم يجز الاقتصار على الأحجار عند وجود الماء، وليس ذلك معفوّاً عنه أيضاً، إلحاقاً بما يعفى عنه من دم البراغيث والبثرات وغيرها، وليست نجاسة البلوى متواصلةً كدم الاستحاضة.
131 - وقد ذهب أبو حنيفة (2) إلى أن النجاسة معفوٌّ عنها، واعتقد الاستنجاء أدباً، ثم تعدّى من بعد ذلك إلى تقدير المعفوّ عنه من النجاسة بقدر درهم، أخذاً من نجاسة البلوى، وإنما حمله على ذلك خروج الأمر في هذه النجاسة عن قواعد الإزالات والرخص كلها، [بدليل جواز الاقتصار على الأحجار] (3)، وهذا غلطٌ ظاهر؛ فإنا على اضطرارٍ نعلم أن الذين كانوا يقتصرون على الأحجار، كانوا يستنزهون عن مثاقيل الذرّ من النجاسة على أبدانهم وثيابهم، ولا يشكّ ذُو فهمٍ أنهم لم يُجروا سائر
__________
(1) زيادة من المحقق، بناء على قول الإِمام في أول الموضوع: إِنه يقع في فصول أربعة.
(2) ر. بدائع الصنائع: 1/ 18، الهداية مع فتح القدير: 1/ 187، رؤوس المسائل: 106 مسألة: 13، حاشية ابن عابدين: 1/ 84، 210، 223، 224، 226.
(3) ما بين المعقفين مقحم بين سطور الأصل، مع إِشارة نسخة أخرى، وبدون تحديد مكانه في النص، فوضعناه حيث قدرنا استقامة الكلام معه، وهو ساقط من (م)، (ل).

(1/108)


النجاسات مجرى نجاسة البلوى، وأنهم كانوا يروْن الاقتصار مختصّاً بهذه النجاسة المخصوصة.
ثم ثارت مذاهبُ متناقضةٌ، فيما نَبّهنا عليه من الإشكال والخروج عن القواعد.
أما أصحاب الظاهر، فإنهم عينوا الأحجار، ولم يقيموا غيرها (1) مقامها، وليس ذلك بدعاً من مذهبهم [في] (2) اتباع موارد النصوص.
وأما مالك (3)، فإنه فَهِمَ التعبدَ بزالة عين النجاسة، والعفو عن أثرها، فأقام غيرَ الحجر مقامه، ولم يوجب رعايةَ العدد، وقال: إذا حصل الإنقاء بحجر أو حجرين، كفى، ولا يشتَرِط رعاية العدد.
132 - وأما الشافعي، فإنه رأى العددَ مرعيّاً، وقال: لو حصل الإنقاء بحجر واحدٍ، تعيّن استعمالُ الثاني والثالث، والإنقاء والعدد جميعاًً مرعيان عنده.
وهذا المذهب متردّدٌ بين التعبّد واعتبار المعنى؛ فإنه من حيث أقام غيرَ الأحجار مقام الأحجار، فقد قال: الغرضُ آلةٌ تُنقي، ولا تنقل، فهذا مصيرٌ منه إلى اعتبار الإنقاء، ولما أوجب مراعاةَ العدد، كان هذا خروجاً عن اعتبار الإنقاء.
وإنما ذكرت مسالك العلماء تنبيهاً على محلّ الإشكال.
ثم ما ذكره الشافعي هو المسلك المقتصد، والمنهج الوسط، ووجهه أنا فهمنا أن الغرض رفعُ عين النجاسة، ومن أنكر هذا الأصل، فهو جاحدٌ؛ فليس استعمالُ الأحجار في الاستنجاء بمثابة رمي الجمار؛ فإن الرميَ لا يعقل منه غرض، ولا محمل له إلا التعبّدُ المحض، والتزام الأمر؛ فتعيّنت الأحجار فيها، وأمّا الاستنجاء، فالغرض منه معقول، لا يُتمارى فيه؛ فاقتضى ذلك إقامةَ غير الأحجار مقام الأحجار.
__________
(1) ساقطة من: (د 3).
(2) في الأصل، (د 3)، (م): من.
(3) ر. الإشراف: 1/ 140 مسألة 67، حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد القيرواني: 1/ 151، 155، جواهر الإِكليل: 1/ 19.

(1/109)


وأما العدد، فلا ننكر فيه تعبداً وراء حصول الإنقاء، كالعدد المرعيّ في غسل الإناء من ولوغ الكلب.
على أنه لا يمتنع أن يقال: قد يبعُد تقديرُ حصول الإنقاء بحجر واحدٍ، وموقع النجاسة ليس منظوراً إليه، ولا تستمكن اليد من التصّرف التامّ فيه؛ فاقتضى مجموع ذلك استظهاراً باعتبار العدد، ثم إن فرض استيقان الإنقاء على ندور، طُرد التعبّد بالعدد فيه.
فهذا وجه معقولٌ، وأصل هذا التخفيف خارج عن قياس الأصول، وإذا اتجّه وجه في أمر الشارع، تعيّن اتباعُه، وقد قال النبي عليه السلام: "وليستنج بثلاثة أحجارٍ" (1).
وأتاه ابنُ مسعود بحجرين وروثة، فرمى الروثة، وقال: " ابغ لي ثالثاً " (2).
فأما اعتقاد التخصيص بالحجر، مع فهم كون الإنقاء مقصوداً، فلا وجه له، وإن ورد الأمر مختصاً بالحجر، فهو محمول على الموجود الغالب في حرّة المدينة.
فهذا تمهيد مذهب الشافعي.
ثم الذي راعاه الشافعيُ عددُ المسحات، فلو استنجى الرجل بحجر له ثلاثة أحرفٍ، واستعمل الأحرف، فقد راعى العدَد. ولو استنجى بحجر، ثم غسله واستنجى به بعد الجفاف ثانيةً، ثم بعد ذلك ثالثةً، كفاه.
133 - وإن أطلتُ الكلامَ فيه، فليُحتمل؛ فإن غرضي الأظهر في وضع هذا الكتاب التنبيهُ على قواعد الأحكام ومثاراتها؛ فإن صُورَ الأحكام، والمسائلَ فيه غيرُ معدومةٍ
__________
(1) حديث " وليستنج بثلاثة أحجار " جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد سبق الحديث عنه آنفاً (فقرة 125). وبلفظٍ مقارب عند مسلم من حديث سلمان: كتاب الطهارة، باب الاستطابة، ح 262.
(2) فأما حديث ابن مسعود: " رمى الروثة، وقال: ابغ لي ثالثاً " فالحنفية لم تصح عندهم الزيادة " ابغني ثالثاً " وقالوا: اكتفى صلى الله عليه وسلم بحجرين، فدلّ أن العدد ليس بشرط.
وهذه الزيادة رواها أحمد بسنادٍ رواته ثقات، قاله الحافظ في التلخيص. (ر. المسند 1/ 450، تلخيص الحبير: 1/ 110 ح 145).

(1/110)


في المصنفات، فهذا أصل الباب، ومنه تتشعّبُ المسائل.
34 - ثم ينبغي ألا يُحدث نجاسةً سوى نجاسة البلوى، فلو استعمل الرجل روثةً، فقد ذكرنا أن الفرض لا يسقط به، ثم لو أراد بعد ذلك الاقتصار على الأحجار، لم يجز؛ فإنه باستعمال الروث أحدَثَ نجاسةً أجنبيّة، وقد تقرّر أن الاقتصار على الأحجار يختصّ بنجاسة البلوى، فيتعيّن إذاً استعمالُ الماءِ.
ولو استعمل حجراً أملسَ، فإنْ نقل النجاسة، تعيّن استعمالُ الماء؛ فإنه كما يختصّ [ما ذكرناه] (1) بنجاسةِ البلوى، كذلك يختصّ بالمحلِّ المخصوص.
وإن وضع الحجرَ الأملس، ورفعه، ولم ينقل النجاسة، ثم أراد استعمالَ الأحجار المنشِّفة بعد هذا، جاز.
ولو استعمل حجراً مُبتلاًّ، لم يجز؛ فإنه لا ينشّف، فإن انبسطت النجاسة بهذا السبب، وتعدّت محلَّها، تعيّن استعمالُ الماء. وإن لم تنبسط النجاسةُ، وأراد أن يستعمل بعد ذلك الحجر المبتلِّ أحجاراً ناشفةً منشفة، فقد كان شيخي يمنع ذلك ويقول: ذلك البلل يتنجّس بملاقاة النجاسة، فيصير في حكم نجاسة أجنبيّة؛ فيتعيّن استعمال الماء.
وَلي في هذا نظرٌ؛ فإن عين الماء لا تنقلب نجساً، وإنما تجاوره النجاسة أو تخالطه.
135 - وفي هذا الفصل بقية فقهٍ، تتعلق بكلامٍ بعد هذا.
ولو خرجت نجاسةٌ نادرةٌ كالدّم والمذيّ، ففي جواز الاقتصار على الأحجار قولان: أحدهما - يجوز؛ فإنّا لم نتعبّد بالإحاطة بأصناف النجاسات الخارجة.
والثاني - لا يجوز؛ فإنه تخفيفٌ غيرُ منقاسٍ، ورد في نجاسة البلوى.
وقال العراقيون: القولان في نجاسة نادرةٍ يتعلق بخروجها الوضوء، فأمّا ما يتعلق به الغُسل، وهو دمُ الحيض، فيتعيّن في إزالته الماء قولاً واحداً، وهذا ليس بعيداً عن الاحتمال.
__________
(1) زيادة من (ل).

(1/111)


136 - ومما يتعلّق بالاستنجاء كيفيّة استعمال الأحجار. وفيه فصلان. أحدهما - في كيفية إعمال الحجر، فينبغي أن يوضع الحجر بالقرب من النجاسة، ثم يجري ملصقاً بالجلد حتى ينتهي إلى النجاسة، ولو وضع على النجاسة، فإنه يخلّف شيئاًً وينقله، ثم إذا انتهى الحجر إلى النجاسة، فلو أجراه على هيئة الإدارة، وكان يبغي أن يلقى كل جزءٍ طاهرٍ من الحجر أجزاء من النجاسة، فهذا إن فعله غيرُ ممتنعٍ.
واختلف أصحابنا في أنّه هل يجب ذلك؟ فقال بعضهم: يجب، لما ذكرناه؛ فإنه لو أمرّ الحجرَ من غير إدارةٍ؛ فإنه يلقى الجزءَ الثاني من النجاسة، بما قد تنجّس من الحجر.
وهذا غيرُ سديدٍ؛ فإنّا إنّما منعنا استعمال الروث؛ لأنه يُلحق بالمحل نجاسة أجنبيّة، والحجر في الصورة التي فيها الكلام إن تنجس، [فإنما تنجس بنجاسة البلوى، فلا تثبت] (1) نجاسة أجنبية، فلئن كان يوجه هذا الوجه، فالسبيل فيه أن من أمرّ الحجر من غير إدارة، فإنه ينقل النجاسة لا محالة، وإن كان يديره، فيخطف النجاسة، ولا ينقلها. وقال بعض الأئمة: لا يجب ذلك؛ فإن هذا تخفيفٌ لا يُوازنه في المساهلة رخصةٌ كما تقدّم، فلا يليق بوضعه تكليف الإدارة، وربط الأمر بكيفيةٍ لا يستقل بها إلاّ رجل صَنَاعُ اليد.
وسرّ هذا الفصل يتضح بأمرٍ، وهو أن المقتصر على الأحجار لو كُلّف ألاّ ينقل النجاسةَ في محاولة رفعها أصلاً، لكان ذلك تكليفَ أمرٍ يتعذّر الوفاء به، وذلك لا يليق بالفرائض التي ليست برُخص، فكيف يليق بما مبناه على نهاية التخفيف؟ فالقدر الذي يعسر -مع رعاية الاحتياط- التَصوّنُ منه في النقل، يجب أن يُعفى عنه، وهو بمثابة إلقاءِ الجَبيرة على محل الخلع؛ فإنه لا بدّ من أخذ أطرافٍ من المواضع الصحيحة، حتى تستمسك الجبيرة؛ فإذاً ما ذكره الأصحاب من النقل ومنعه عَنَوْا به ما لا ضرورة إليه، وهذا الذي ذكرته في النقل لم أره منصوصاً عليه للأصحاب، ولكن لا بدّ منه. فهذا أحد الفصلين.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من: (د 3)، (م)، (ل).

(1/112)


[فصل]
[في العدد] (1)
137 - فأما الثاني - فقد تقرّرَ أن العدد مرعيٌ في الأحجار، وقد ذكر الأصحاب وجهين في طريق رعايةِ العدد، فقال قائلون: لا بد من إيصال كلِّ واحدٍ من الأحجار إلى جميع المحَلّ، إلى استيعاب النجاسة.
وقال آخرون: يستعمل حجراً في الصفحةِ اليمنى، وحجراً في الصفحة اليسرى، ويستعمل الثالث في ملتقى الحجرين الأولين، وهو المسرُبَة.
138 - توجيه الوجهين من طريق المعنى:
من قال بالمسلك الأول، احتجّ بأن فائدة العدد توارُدُ الأحجار على محلٍ واحدٍ، وهذا إنما يتحقّق إذا استعمل كُلَّ حجرٍ في جميع المحل، والمسلك الذي ذكره صاحب الوجه [الثاني] (2) لا يتحقق معه فائدة العدد؛ فإنه لا ينتهي في كل موضعٍ إلا حجرٌ واحدٌ، فهو في التحقيق إيصال مسحةٍ بدفعاتٍ إلى جميع المحل.
وقد يقال لناصر الوجه الأول: إذا عم الجزء الأولُ جميعَ المحل، فقد رفع طبقةً من النجاسة، ولا ينتهي إلى البشرة إلا الحجر الأخير، فالعدد راجعٌ إلى ترديد الأحجار على النجاسة.
وكان شيخي يقول: الوجهان موضوعان على التنافي، فصاحب الوجه الأول لا يُجيز المسلك الثاني، وصاحب الثاني لا يجيز الأوّل.
وقال العراقيون: الخلاف راجع إلى الأوْلى، والمسلكان جميعاً جائزان.
وهذا الذي ذكروه بعيد في المعنى، ولكن نقل الصيدلاني خبرين نذكرهما.
__________
(1) زيادة من المحقق، رعاية لتقسيم المؤلف نفسه.
(2) زيادة اقتضاها السياق، مكان كلمة غير مقروءة في الأصل، وساقطة من (د 3). وصدقتنا (ل)، (م).

(1/113)


أحدهما - أنه عليه السلام قال: " حجرٌ للصفحة اليُمنى، وحجر للصفحة اليُسرى، وحجر على الوسط " (1) وهذا بظاهره يشهد للوجه الثاني.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وليستنج بثلاثة أحجارٍ، يُقبل بواحدٍ، ويُدبر بواحدٍ، ويحلّق بالثالث " (2). ومعنى الخبر عند من يرى الوجه الأول أنه يأخذ حجراً، فيمرُّه من مقدم الصفحة اليمنى، فيديره منها إلى الصفحة الأخرى، ثم يأخذ حجراً آخر، ويبدأ من الصفحة اليسرى، وينهيها إلى منتهى الصفحة اليمنى، ثم يدير الحجر الثالث على جميع المحلّ، وهذا القائل يحمل الخبر الذي رويناه أولا على ذلك؛ فيقول: يبدأ بحجر من الصفحة اليمنى إلى منتهى اليسرى، كما تقدّم، فيحمل ما ذكرناه من قوله: حجر للصفحة اليمنى على البداية بتلك الجهة، لا على التخصيص، وقوله: حجر للوسط محمول على الإدارة على جميع المحل، وهذا الأخير بعيد؛ فإنّ حملَ الوسط على الجميع لا يستقيم، فإن قيل: معناه يبدأ بالوسط، فلستُ أرى فيه معنى.
والذي ذكره العراقيون من تجويز الأمرين يقوى بهذا الخبر. والعلم عند الله.
139 - ومّما يتعلقّ بكيفيّة الاستنجاء، أنَّ الاستنجاء باليمنى منهي عنه، وهو مكروه غير محرّمٍ، وقد حرّمَه أصحاب الظاهر، ثم إذا كان يستنجي من الغائط، فيستعمل
__________
(1) قال الحافظ: رواه الدارقطني وحسنه، والبيهقي، والعقيلي في الضعفاء. ا. هـ وقد حسّنه النووي في التنقيح. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 111، ح 148، الدارقطني: 1/ 56 - ح 10، باب الاستنجاء، والبيهقي: 1/ 114، والعقيلي في الضعفاء الكبير 1/ 16، التنقيح - بهامش الوسيط: 1/ 309).
(2) قال ابن حجر في التلخيص: إِن الرافعي، تبع فيه الغزالي في الوسيط، والغزالي تبع الإِمام في النهاية، والإِمام قال: إِن الصيدلاني ذكره. وقد بيض له الحازمي والمنذري في تخريج أحاديث المهذب.
وقال ابن الصلاح في الكلام على الوسيط: لا يعرف ولا يثبت في كتاب حديث، وقال النووي في شرح المهذب: هو حديث منكر لا أصل له. ا. هـ بنصه. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 110، 111. ح 147، مشكل الوسيط لابن الصلاح: 1/ 309 بهامش الوسيط).

(1/114)


يُسراه في محل النجاسة، ويصب الماء بيُمناه، وإن كان يستنجي من البول، فلو أخذ الحجر بيمينه وأخذ العضو بيساره، فإنْ كان يحرك يسراه ويمينُه قارّة، فهو مستنجٍ باليَسار، وإن كانت يده اليُسرى مع العُضو قارّة، وكان يحرك الحجر في يده اليمنى، فهو مستنجٍ باليمنى، وإن كان يُعمل يديه ويحرّكهما، فقد ارتكب النهي بتحريكه يمناه.
ولا شك بعد هذا كلّه أن الجمع بين الأحجار والماء هو المحبوب، وفيه نزل قوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} [التوبة: 108] الآية.
[فصل]
[في انتشار النجاسة] (1)
140 - فأما القول في انتشار النجاسة، فقد نقل المزني: " ويقتصر على الأحجار، ما لم تعْدُ النجاسةُ المخرج " (2)، ونقل عن القديم أنه قال: " ويقتصر على الأحجار، وإن انتشر، إذا لم يجاوز العادة في الانتشار ". فأوهم المزني أن المسألة فيها قولان.
وكان شيخي ينقل عن الربيع أنه قال: " يقتصر ما دامت النجاسة بين الإليتين، فإن ظهرت على ظاهر الإليتين، فقد تعيّن الماءُ ".
وقد ساعد بعضُ الأصحاب المزنيَّ في تخريج المسألة على أقوال، وهذا غلط، لا يعدّ من المذهب، والأصل اعتبار العادة في الانتشار، وما نقل عن الربيع قريبٌ مما ذكره عن الشافعيّ، وإن لم يكن ما ذكره حدّاً يوقف عنده، بل الوجه إحالة الأمر على العادة.
وأمّا ما ذكره المزني، فمأخوذ عليه، فإن الشافعيّ قال: " ما لم تعْدُ النجاسةُ المخرجَ، وما حوله "، فأغفل المزني: " وما حوله ". والدليل على ما ذكرناه من رد الأمر إلى العادة أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت الاقتصار على الأحجار رخصةً في
__________
(1) العنوان من عمل المحقق، أخذاً من تفصيل الإِمام في أول الباب.
(2) ر. المختصر: 2/ 11.

(1/115)


حق عامّة الخلق، على عموم الأحوال، مع العلم باختلاف الخلق والأحوال، والظاهر الانتشار في غالب الأمر، فلا ينبغي أن نستريب في أن التعدّي المعتاد لا يمنع الاقتصار على الأحجار.
141 - ولكن يتطرّق إلى ذلك إشكال معنوي، فإن النجاسة إذا كانت متبعّرة أو قريبةً من التبعّر، فقد تنفصل من غير تلويثٍ يتعدَّى إلى [ملتقى الشرج] (1) إطارِ المنفذ، فإن فُرضتْ لوثَةٌ على الملتقى، فتيكَ تخطفها الأحجار، ويعفى عن الأَثر الباقي، وإن رقَّت النجاسة بَعض الرقّة، وانتشرت إلى معاطف الشرج المطبقة بالمنفذ، فإن النجاسة تغوص في أثناء تلك المعاطف، والأحجار تلاقي ظاهرها، وتبقى الأعيان على تلك المعاطف مندفنةً، وإزالة عين النجاسة لا بدّ منها.
وقد بلغني أن بعض الناس سأَلَ عليّاً عن الاقتصار، فلعله رضي الله عنه تفرّس فيه خروجاً عن الاعتدال، فقال: " كنا نبعر بعرات وأنتم تثلطون ثَلطاً " (2)، فهذا وجهٌ في الإشكال من جهة المعنى، ولم أذكره لأدعوَ إلى التردّد في أن عين النجاسة إذا انتشرت انتشاراً معتاداً، فهل يجوز الاقتصار على الأحجار فيها؛ فإنّ إطلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم رخصة الاقتصار قاطعٌ، كما سبق ذكره وتقريره.
ولكن ينبغي أن يتنبّه الفقيه للعفو عن أعيان النجاسة في الصورة التي ذكرناها.
وهذا الإشكال لا [يجري] (3) في حق من يستعمل الماء؛ فإنه بلطافته ينفذ إلى
__________
(1) في العبارة اضطراب واضح: ففي الأصل: " تلويث يتعدى إِلى الشرج ملتقى أطاب المنفذ " وفي د3: " ... تلويث يتعدى إِلى الشرج أطاب المنفذ "، وأطاب الشيء جعله طيباً، أو وجده طيباً، وأطاب: استنجى، وأطاب أزال الأذى والقذر. (المعجم - والقاموس). وفي (ل): "يتعدى إِلى الشرج ويلتقي أطارَ المنفذ " وفي (م) " يتعدى إِلى الشرج ملتقى لطار المنفذ ". والمثبت تقديرٌ منا، مؤلَفٌ من كلمات النسخ الأربع. (انظر العبارة مصورة من المخطوطات في آخر هذا المجلد).
(2) ثلط الصبي ثلّطاً: سلح سلّحاً غير متماسك. والثلط: الغائط غير المتماسك. وأثر علي رضي الله عنه، رواه البيهقي في السنن الكبرى: 1/ 106.
(3) في الأصل: يُجدي. والمثبت تقدير منا، وقد صدقته (ل).

(1/116)


حيث تنتهي النجاسة إليه من معاطف الشرج، وإذا استعين بالدّلك مع صب الماءِ وانحصرت بسببه تلك المعاطف، زالت النجاسة.
ولو انتشرت النجاسة انتشاراً معتاداً، ولكن ترشّش منها شيء إلى محلٍّ منفصل، فيتعين غسلُ ذلك المحل، وإن كان قريباً من محل النجوِ، وكان بحيث لو فرض اتصال نجاسة البلوى به، لما كان مجاوزاً حدّ الاعتياد، والسبب فيه أنه منفصلٌ عن محلّ النجو بالفاصل الذي لم تبلُغْه النجاسة. هكذا ذكره الصيدلاني، والأمر على ما ذكره.
ولو قضى الرجل حاجتَه، ثم قام وخطا، واحتكت إحدى إليتيه بالأخرى، وتعدّت النجاسة بهذا السبب أدنى تعدّ، تعيّن استعمالُ الماء، فإنه المتسبّب إلى التعدّي من غير حاجةٍ وضرورة.
فرع:
142 - نصّ الشافعي على أن من توضأ، ثمّ استنجى، ولم يَمسّ فرجَه أنه متطهر، ونصّ أن من قضى حاجته، وتيمّم، ثم استنجى، لم يصح تيمّمه.
فمِن أصحابنا من قال: في [المسألتين] (1) قولان، وتقدير القولين في الوضوء بعيدٌ جدّاً، ولولا أن المزني نقل في (المنثور) (2) قولاً عن الشافعي أن الوضوء لا يصح، لما عددت هذه الطريقةَ من المذهب.
وصار الأكثرون إلى القطع بالصحّة في الوضوء، وخرّجوا القولين في التيمّم.
والفرق أن التيمّم طهارةٌ ضعيفةٌ، لا تقدم على دخول وقت الصلاة؛ فإنّها طهارة ضرورة، فإذا لم يَستعقب جوازَ الصلاة. لم يصح. وإذا تيمم، ثم استنجى، فالتيمم لم يستعقب جواز الصلاة، وهذا غيرُ سديدٍ (3) عندي.
ولو كان على بدن المتيمّم نجاسةٌ، ومعه من الماء ما يكفي لإزالتها من غير مزيد،
__________
(1) في الأصل: المسألة.
(2) المنثور: كتابٌ للمزني.
(3) ر. الأم: 1/ 19.

(1/117)


فقد ذكر بعضُ أصحابنا أن تقديم التيمّم على إزالتها مخرج على الخلاف، وهذا بعيدٌ جدّاً، وإن كان الفرق يعسر بينها وبين نجاسة البلوى.
ولا نعرف خلافاً في أنّ من تيمّم وهو عارٍ، ثم اكتسىَ، جاز، وإن كان التيمم لا يستعقب جواز الصلاة إلى أن يكتسي.
***

(1/118)