نهاية المطلب في دراية المذهب

باب ما يوجب الغسل
173 - الأغسال الواجبة أربعة: غسل الجنابة، وغسل الحيض والنفاس، وغسل الولادة، وغسل الميّت.
فأما الجنابة، فلها سببان: أحدهما - تغييب الحشفة في فرجٍ، أيّ فرجٍ كان، من الآدمي والبهيمة، ولا يتوقف وجوب الغسل على الإنزال، وفيه أخبار ليس يليق بهذا المجموع ذكرها، وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: " إذا التقى الختانان، وجب الغسل، فعلتُه أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا " (1) والذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتقاء الختانين يحصل بتغييب الحشفة، فإن مدخل الذكر في أسفل الفرج، وموضع حديدة (2) الخافضة في أعلى فرج المرأة، فإذا غابت الحشفة حاذى موضع ختان الرجل، موضع ختان المرأة، فذاك المعنيُّ بالتقاء الختانين. قال الشافعي: يقال التقى الفارسان إذا تحاذيا، وإن لم يتضامّا (3).
ولو كان الرجل مقطوعَ الحشفة، فأولج مقدار الحشفة التي كانت من بقيّة ذكره، وجب الغُسل على المولج، ويتعلق به ما يتعلق بتغييب الحشفة نفسها.
والإيلاج في فرج الميّت يوجب الغسلَ على المولج، وهل يجب تجديد غسل
__________
(1) حديث " إِذا التقى الختانان ... " رواه الشافعي في الأم والمزني في مختصره، وحرملة في سننه، وأحمد في مسنده، والترمذي عن عائشة، والبخاري ومسلم بمعناه عن أبي هريرة، وكذلك النسائي (ر. التلخيص: 1/ 134 ح 180، الأم: 1/ 39، المسند: 6/ 161، واللؤلؤ والمرجان: كتاب الحيض باب نسخ الماء من الماء، ووجوب الغسل بالتقاء الختانين، ح 199 وصحيح النسائي: ح 185، 186، وصحيح الترمذي: ح 94، 95، وصحيح ابن ماجة: ح 492، اِرواء الغليل: 1/ 163 ح 127).
(2) حديدة الخافضة: آلة قطع الخافضة، وهي الخاتنة.
(3) في (م): يتصادما.

(1/142)


الميّت؟ ذكر بعض المصنفين وجهين فيه، والظاهر عندي أنه لا يجب؛ فإن التكليف ساقط، والغسل الواجب فيه ما يقتضيه الموت تنظيفاً وتعظيماً.
وكان شيخي يقول: إن أولج بهيمةٌ في فرجٍ، فينبغي أن يجب الغسل على المولَج فيه، اعتباراً بالإيلاج في فرج البهيمة، وهذا فيه نظر عندي من جهة أنه لا يفرض إلا في غاية النُدور. ثم في القدر المولَج واعتباره بالحشفة، كلام موكول إلى فكر الفقيه.
فهذا أحد سببي الجنابة.
174 - فأما الثاني - فنزول المنيّ، وهو في اعتدال الحال أبيضُ، ثخين، دافق، ذو دفعات، يخرج بشهوةٍ، ويُعقب خروجُه فتوراً، ورائحته رائحة الطلع، ويقرب من رائحة الطلع رائحة العجين. [وقد] (1) تزول بعض هذه الصفات باعتراض إعلالٍ، فيرقّ ويصفرّ، وقد يسيل من غير شهوة، لاسترخاءٍ في أوعية المنيِّ.
والمذيُّ (2) رقيق يخرج بنشاطٍ، ولا يُعقب خروجُه فتوراً، وحكمه في النجاسة ولزوم الوضوءِ حكم البول.
ومَني المرأة أصفر رقيق. وقد زعم الأطبّاء أنه لا يخرج منها، ولا شك أن لها مذيّاً، وإذا هاجت، خرج منها، وهذا أغلبُ فيهن منه في الرجال.
والودي (3) أبيض، ولا يخرج عند هيجان شهوة، والغالب أنه يخرج عند حمل شيءٍ ثقيلٍ، وهو نجسٌ كالبول.
فإذا تحقق الرجل أنه خرج المني منه، لزمه الغُسل.
175 - فإن شكَّ، فلم يدر أن الخارج منيٌ، أو وديٌّ، أو مذيّ، فهذا ممّا يتعين إنعام النظر فيه.
وكان شيخي يقول: إن تيقّن أن الخارج منيّ، لزم الغسل، وإن شك، ولم يدر،
__________
(1) مزيدة لاستقامة المعنى، وصدقتنا (م)، (ل).
(2) المذي فيه ثلاث لغات: فتح الميم مع سكون الذال، وفتحها مع كسر الذال وتشديد الياء: وزان غني، وكسر الذال مع التخفيف. ويرب حيئنذٍ إعراب المنقوص (المصباح).
(3) الودْي بفتح وسكون، وقد يكسر ويثقل، وزان مَنِيّ. (المصباح).

(1/143)


استصحب الغُسلَ السابق، ولم يلتزم الغسلَ إلا بيقين.
وكان يُجري هذا على الأصل المقدَّم في أن من استيقن الوضوءَ وشكّ في الحدث؛ استصحب الطهر السابق.
وهذا لا يشفي الغليلَ؛ فإنه صحّ في الأخبار والآثار تمييز المنيّ بصفاته عن سائر الخارجات. فلئن كان الشاك في الحدث لا يجد علامة يستمسك بها، فالعلامات هاهنا ثابتة، وكشف الغطاء في هذا أن الخروج بالشهوة، مع استعقاب الفتور دلالة قاطعة على أن الخارج منيّ، وليس هذا مما يتضمن غلبة ظن. وكذلك الرائحة التي تشبه رائحة الطلع والعجين من القواطع. وكذلك الخروج بدفقٍ ودفعٍ، وتزريق، من خصائص المنيّ، لا تثبت لغيره.
فأما البياض والثخن (1) فمما يشترك فيه المنيّ والودي، وقد يرق المني ويصفرّ، ويشبه لونه لون المذي، وهو ماء لزج، يميل إلى الصفرة قليلاً.
فإن كان في الخارج صفةٌ واحدة من الصفات الثلاث المقدَّمة، فليس هذا موضع اجتهاد وظنٍّ، بل نعلم أن الخارجَ مني.
أما الرائحة والفتور صفتان معلومتان، وأما الدفقُ، فلا يكفي فيه الخروج بدفع، فإن من به [أَدَرٌ] (2) يخرج بوله قطراً، ويقع بين القطرة والقطرة فترة، والتعويل على التزريق، وذلك لا يكون إلا مع انتشارٍ وشهوة، ثم لا بد من جريان الفتور، فليس من الممكن أن يزرِّق إلا منتشرٌ، ثم لا ينزل المني إلاّ مع نفسي (3) الأرواح، وذاك يقتضي
__________
(1) المنصوص في المعاجم مصدراً لثَخُن: ثخونة وثخانة، ولكن غلب على إِمام الحرمين استعمال: فَعَل بتحريك العين مكان فعولة، وفعول في مصدر الثلاثي، فيقول مثلاً: إِن تيقنا صَدَرَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدلاً من صدور، و" حَدَث العالم " بدلاً من حدوث.
(2) أدر يأدَر: أدَراً وأدَرة وأُدْرة، إذا انتفخت خصيته، لتسرب سائل في غلافها، وهي غير واضحة بالأصل، وفي (م): إِدرارٌ، وعبارة (ل): إِدرار بولٍ يخرج بوله قطعاًً.
(3) كذا تماماً. وفي (م): نغس. بالغين، وليس في المعاجم مادة: ن غ س، وفي (ل): تفشِّي، وهي من ألفاظ الطب والعلاج التي كانت شائعة في ذلك الوقت كما يظهر من السياق، ولكنها غير واضحة لنا (انظر العبارة مصورة من المخطوطات، في آخر هذا المجلد، أملاً بأن =

(1/144)


فتوراً لا محالةَ. ثم لا تفارق المنيَّ الرائحة المختصّة به، في غالب الأمر.
فإذاً هذه الصفات قلما تفترق، وإنما تختلف الرقة والثخانة، واللون: بياضاً وصفرةً، فإنْ عدمنا الدلائل الثلاثة القاطعة، ولم نجد إلاّ اللونَ والثخانة، لم نحكم على الخارج بكونه منيّاًً، بل لا يغلب على الظنّ كونُه منيّاً؛ فإن المني في غالب الظن لا يخلو عن مجموع تيك الصفات أو بعضها، فهذا هو الكشف التام في ذلك.
والحاصل منه أنا إذا عدمنا القطعَ، ينعدم غلبة الظنّ أيضاً.
176 - وممّا يُشكل في ذلك أن من أكثر الغشيان، فقد تخرج مادة الزرع دماً عبيطاً (1)، ويُعقب خروجُه فتوراً؛ لأنه مادة المنيّ، وإنما تخلّف اللونُ عنه، لأن في ممرّه لحمةً غُدديَّةً تبيّض الدمَ المارَّ بها، فإذا ضعفت، لم تلوِّن.
فإذا كان الخارجُ دماً عبيطاً، ويَعقب خروجَه فتور، ولكنّا تحققنا أنه المادّة، ففي ذلك وقفة عندي؛ فإنه لا يسمى منيّاًً، ولا يسقط اسمُ المنيّ بالاصفرار ولا بالرّقة، والظاهر أنه يوجب خروجُه الغسلَ إذا كان على الصفات الثلاث المرعيّة، أو على بعضها، فإن اللون لا معوّل عليه.
ومما يتعلق بذلك أنه لو خرج من الرجل شيءٌ في نومه، ثم انتبه، وما كان أحسّ في غمرات نومه بشهوة، ولا فتور، ولا تزريق ودَفْقٍ، فإن وجد رائحةَ الطلع، فهو مني، وإن لم يجدها، ولم يجد بياضاً وثَخَناً، فالظاهر أنه ليس بمني. وإن وجد الخارج ثخيناً أبيض، فلا نقطع بأنه مني؛ إذِ الوديّ قد يكون كذلك.
فهذا موضع الإشكال.
وقد يغلب على القلب أنه مني من جهة أنه لا يليق بصاحب الواقعة الوَدْي، أو ربما كان يذكر حلماً رآه، ووقاعاً تخيّله، ثم شاهد الخارج، فإن كان كذلك، فلا قاطع، فيجوز أن يقالَ: يَستصحب يقينَ الطهر، ويجوز أن نحمل الأمر على غالب الظن، تخريجاً على غلبة الظنّ في النجاسة؛ فإن هذا الذي انتهى الكلام إليه مما يغلب في
__________
= يلهمكم الله قراءتها الصحيحة).
(1) عبيطاً: طرياً - وفي (م): غبيطاً (بالغين).

(1/145)


مثله وقوعُ غلبة الظن. ويتطرق أيضاً إلى قبيله التعلّقُ بالصفات، كما تقرّر ذلك في النجاسات.
وليس هذا كما لو توضأ رجلٌ ثم شك: هل أحدث بعده أم لا؟ فإنه لا يغلب في مثل ذلك على الظن أمر يبتنى عليه غلبة الظن في وقوع الحدث، كما تقدم التقرير فيه.
وإن لم يغلب على الظن أن الخارج مني، لم يجب الغُسل، ولا شك فيه.
177 - فأما المرأة إن تحقق خروجُ المني منها، ولا يتصوّر الإحاطةُ بذلك إلا بفتور شهوتها، ولا شك أن شهواتِهنّ عند انقضاء الوطر تَفْتُر. فإن علمت ذلك من خروج الخارج، فهو منيّها، ولزمها الغُسل كالرجل، والدليل عليه ما روي أن أم سليم [أم] (1) أنس بن مالك قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل على إحدانا غُسل
__________
(1) في الأصل: " جدة أنس " والتصويب من (ل) ومن كتب الحديث.
وقد وقع هذا الخطأ في (الوسيط) للإِمام الغزالي أيضاًً، وقد تعقبه ثلاثة من الأئمة الذين لهم مؤلفات عن (الوسيط) وهم الإمام ابن الصلاح، والإِمام النووي، والإمام ابن أبي الدم، وقد رأينا أن نورد تعقيباتهم بنصها لما يأتي:
أ- أنها انتقلت من (الوسيط) إِلى تعقب (النهاية) وصاحبها.
ب- أنها تكشف عن مناهجَ ثلاثة في تفسير هذا الخطأ وتعليله.
ولنبدأ بابن الصلاح، قال: " قوله: (لماروي أن أم سليم جدة أنس بن مالك). هذا غلط تسلسل وتوارد عليه أبو بكر الصيدلاني، ثم إِمام الحرمين، ثم تلميذه صاحبنا (يعني الغزالي) ثم تلميذه محمد بن يحيى، فلا خلاف بين أهل الحديث، وأهل المعرفة بالصحابة، وبالأنساب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، وفي الصحيحين الإِفصاح بذلك " ثم استمر يعلل هذا الخطأ من هؤلاء الأئمة، ويفسّره، ويبين سببه، فقال: " ولكن من أعرض عن علم الحديث، مع ارتباط العلوم به، وقع في أمثال هذا، وما هو أصعب منه من التمسك بالحديث الضعيف، واطراح الصحيح، وإِن ارتفعت في علمه منزلته، وأسأل الله عفوه وفضله، آمين " ا. هـ بنصه (مشكل الوسيط 1/ 50 ب - بهامش الوسيط: 1/ 342).
أما الإِمام النووي رضي الله عنه، فقد قال: "قوله (لما روي أن أم سليم جدة أنس بن مالك .. إِلى آخره) صوابه: أم أنس، فهي أمه بلا خلاف بين العلماء من الطوائف، لا جدّته، وقد قال بأنه جدته أيضاًً الصيدلاني، ثم إِمام الحرمين، ثم الروياني، ثم محمد بن يحيى صاحب الغزالي، وهو غلط فاحش ... وأم أم سليم: سهلة، وقيل: رميثة، وقيل: غير ذلك " ا. هـ بنصه (ر. التنقيح في شرح الوسيط - بهامش الوسيط: 1/ 343).
وأما ابنُ أبي الدم، فقد قال: " ... الصواب أن أم سليم أم أنس بن مالك، لا جدته، =

(1/146)


إذا هي احتلمت؟ فقالت أم سلمة: فضحتِ النساء، فَضَحَكِ الله، وهل تحتلم المرأة قط؟ فقال النبي عليه السلام: تربت يمينك فمِما الشبه؟ إذا سبق ماءُ الرجل ماءَ المرأة نَزَع الولد إلى أعمامه، وإذا سبق ماءُ المرأة ماءَ الرجل، نَزَع الولد إلى أخواله. ثم قال لأم سليم: نعم عليها الغسل إذا رأت الماءَ" (1).
178 - ومما يتعلق بنزول الماءِ أن من أنزل واغتسل. ثم كان قد بقي شيءٌ من المني
فخرج، لزم الغُسل مرّةً أخرى، وإن كان هذا بقيّةَ ماءٍ تدفق معظمه، وهذه البقية
__________
= وهي امرأة أبي طلحة، ذكره علماء الحديث وغيرهم، منهم أبو داود في سننه، وهو كذلك في النسخ الصحيحة من (النهاية)، وقد يوجد في بعض منها مثلُ ما في (الوسيط) وهو غلطٌ من النساخ " (ر. إِيضاح الأغاليط الموجودة بالوسيط: 3 أ - بهامش الوسيط: 1/ 342).
قلت (عبد العظيم): هكذا رأينا اختلاف المناهج الثلاثة في تفسير هذا الخطأ:
أ- فابن الصلاح يفسّر ذلك بالإِعراض عن علم الحديث، ويجعله سبب الوقوع في هذا الخطأ، ثم راح يعرّض بأخطاء " أصعب من ذلك الخطأ، من التمسك بالحديث الضعيف، واطراح الصحيح " ويعني هؤلاء الأئمة " الذين ارتفعت منزلتهم في علومهم " الصيدلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، ومحمد بن يحيى.
ويرى ابن الصلاح أن هذا ذنب وإِثم، ظهر ذلك من ختام تعليقه هذا بقوله: " وأسال الله عفوه وفضله، آمين ".
ب- وأما الإِمام النووي، فقد اكتفى بقوله: " وهو غلط فاحش " بعد أن بين تسلسله عند الأئمة الذين ذكرهم الغزالي، وزاد عليهم (الإِمام الروياني).
ج- وأما الإِمام ابن أبي الدم، فقد ذكر أنه (أي الخطأ) في بعض نسخ النهاية، بل في القليل من نسخها، كما يفهم من عبارته التي نقلناها بنصها آنفاًً ثم زاد، فبرَّأ إِمامنا من هذا الخطأ، وكذلك الغزالي، وجعل هذا من غلط النساخ [قلت: قد صدق الواقع ابن أبي الدم، فقد وقع لنا نسخة صحيحة فيها: " أم أنس "].
وأقول ثانيةً: لقد ظهر لي تحامل ابن الصلاح -وغيره- على إِمام الحرمين، وعلى الغزالي، رأيت ذلك في كثير من تعقباته الحديثية، حتى إِنه يدفعه التحامل إِلى الوقوع في بعض الأخطاء، التي تعقبه في بعضها الإمام النووي، وأثبت أن الصواب مع إِمام الحرمين، والغزالي، وأحصيت شيئاً من ذلك، سيكون -إن شاء الله- موضع مناقشة في أحد فصول المقدّمة التي نعدها لهذا الكتاب، والله المستعان.
(1) حديث أم سليم، متفق عليه، رواه البخاري: كتاب الغسل، باب إذا احتلمت المرأة، ح 282، ورواه مسلم: كتاب الحيض: باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها، ح 313، وانظر التلخيص: 1/ 135 ح 181.

(1/147)


لا تخرج بشهوةٍ ودفْقٍ وفتورٍ، ولكن قد لا تفارقها الرائحة، فإذا تحقق أنه منيّ، تعلق به وجوبُ الغُسل، سواء خرج قبل البول، أو بعده.
فهذا بيان ما يوجب الجنابة.
179 - فأما الحيضُ، فإذا طهرت المرأة، اغتسلت. ودم الحيض، ودم النفاس يجتمع في الرحم، ثم يُزجيه الرحم عند الولادة، ثم قال الأكثرون: إنما يجب الغُسل بانقطاع الدم، وقال بعضُ المتأخرين: يجب بخروج الدم؛ فإن الطهارات تجب بخروج الخارجات، وهذا يضاف إلى أبي بكر الإسماعيلي (1). وهو غلط؛ فإن الغُسلَ مع دوام الحيض غيرُ ممكنٍ، وما لا يكون ممكناً يستحيل وجوبُه به، فالوجه أن يقال: يجب الغسل بخروج جميع الحيض، وذلك يتحقق عند الانقطاع، وليس فيما ذكرناه فائدةٌ فقهيّةٌ.
180 - فأما إذا ولدت المرأةُ، ولم تنفَس، فالأصح وجوبُ الغسل عليها؛ فإن الولد ينعقدُ من مائهما جميعاً، ففي انفصاله منها انفصالُ مائها.
وهذا التعليل غيرُ مرضيٍّ؛ فإن ما استحال من حال إلى حالٍ، لم يكن له حكم ما كان عليه قبل الاستحالة، والوجه في تعليل ذلك أن الغسل إذا كان يجب بخروج الماء الذي منه خَلْق الولد، فلأن يجب بانفصال الولد نفسِه أولى.
ومن أصحابنا من لم يوجب الغسل مصيراً إلى أن الأحداث لا تثبت قياساً، ولم يَرِد في انفصال الولد من غير نفاسٍ توقيف من الشارع.
فرع:
181 - ذكر بعض أصحابنا أن منيّ الرجل إذا انفصل من المرأة (2)، لزمها الغسل؛ فإنه يختلط منيُّها بمنيّه، فإذا انفصل، فقد خرج منيُّها.
__________
(1) أبو بكر الإِسماعيلي: أحمد بن إِبراهيم بن إِسماعيل بن العباس، الفقيه الحافظ، أحد كبراء الشافعية، المحدث، المصنف، توفي سنة 371 هـ وله أربع وسبعون سنة. (طبقات السبكي: 3/ 7، والإسنوي: 1/ 346، وطبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 119، والأنساب للسمعاني، وشذرات الذهب: 3/ 72، وتذكرة الحفاظ: 3/ 947).
(2) أي انفصل بعد الغسل.

(1/148)


وهذا فيه تفصيل عندي، فإن لم تكن الموطوءة ذاتَ منيٍّ، بأن كانت صغيرةَ، لم يلزمها الغُسل، وإن كانت ذات منيٍّ، ولكن لم تقض وطَرَها، فلا يلزمها الغسل؛ فإنه لا يَنفصل لها منيٌّ، وإن انقضى وطرها، فيختلط منيّها بمنيّه، فإن [انفصل] (1) بعد أن اغتسلت، فيظهر وجوبُ الغسل عليها، وليس هذا مقطوعاًً به أيضاًً؛ فإنّه قد لا يختلط منيُّها بمنيّه، ولكن يخرج هذا على إيجاب الغسل بالاحتمال الغالب. كما ذكرته.
فأما الوضوء فلا شك في وجوبه عليها، فإن ذلك المنفصل يخرج معه شيء من رطوبتها الباطنةِ، لا محالة، فيجب الوضوء لذلك.
فأمّا غسل الميّت، فمن فروض الكفايات على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فرع:
182 - كان شيخي يفرض في أثناء الكلام جنابةً مجردةً من غير حدثٍ، ينقض الوضوء، فكان يصوّر فيه إذا لفّ خرقةً على حشفته، وأولجها؛ فإنه لو فرض الإيلاج دون (2) ذلك، يتقدَّم الجماعَ ملامسةٌ.
ولو فرض الإيلاج في دبرٍ، أو فرج بهيمةٍ حصل الغرضُ الذي أشار إليه رحمه الله.
فإن قيل: إذا أولج الحشفة ملفوفة، فلم يحصل التقاء الفرجين، فلم وَجب الغسل؟ قلنا: هذا تخييل لا مبالاة به، فإن أحكام الوطء [علّقت] (3) بالإيلاج في الفرج، وقد حصل هذا.
فإن قيل: إذا نزل المنيُّ، فهلا عُدَّ هذا مما يقتضي الجنابة المحضة؟ قلنا: المنيّ لا يتصوّر خروجه وحده، بل يخرج مع رطوبةٍ يتعلق بخروجها وجوب الوضوء.
وهذا فيه نظرٌ؛ فإن المنيّ إذا انفصل، فهو طاهر، وتلك الرطوبة التي قدّرناها ينبغي أن تكون نجسةً، ثم يجب الحكمُ بنجاسة المنيّ لذلك.
__________
(1) في الأصل، (م): انفصلت.
(2) دون ذلك: أي دون لف خرقة.
(3) في الأصل: علق.

(1/149)


وهذه التقديرات إنما ذكرتها؛ لأن من أصحابنا من حكى قولاً بعيداً عن (الأمالي) (1) مثلَ مذهب أبي ثورٍ، في أن من أحدث وأجنب، لزمه أن يتوضأ ويغتسل، ولا يندرج الوضوءُ تحت الغسل، فعلى هذا قد يُحوج إلى تقدير الجنابة المحضة.
ثم الذي أراه أن الذي لم يُدرِج الوضوءَ تحت الغسل، إنما يقول ذلك إذا تميّز الحدثُ عن الجنابة، فأما إذا كان انتقاض الوضوء بتقدم المس المتصّل بالوقاع، فالأظهر الإدراج هاهنا.
...
__________
(1) الأمالي: من كتب الإِمام الشافعي، كما هو معروف.

(1/150)