نهاية المطلب في دراية المذهب

باب غسل الجنابة
183 - مضمون الباب بيان كيفيّة الغُسل، فنذكر أقلَّهُ، ثم نذكر أكمله. فأما الأقلّ، فهو إجراء الماءِ على ظاهر البدن ومنابت الشعور الكثيفة والخفيفة. قال النبي عليه السلام: " تحت كل شعرة جنابة، فبلّوا الشعر، وأنقوا البشرةَ " (1).
وما تقدم في الوضوء من الفرق بين الشعر الكثيف والخفيف لا يجري في الغسل؛ فإن المطلوب فيه استيعاب جميع ظاهر البدن.
ولا تجب المضمضةُ والاستنشاق في الغسل عند الشافعي.
وفي بعض التعاليق عن شيخي حكايةُ وجهٍ عن بعض الأصحاب، موافقٍ لمذهب أبي حنيفة (2)، وهو غلط.
ولا يجب الدلك، والغرض جريان الماءِ.
ويجب مع الاستيعاب النيّةُ، فإن نوى الجنبُ رفعَ الجنابة، فذاك، وإن نوى رفعَ الحدث الأصغر، لم ترتفع الجنابة، عن غير أعضاء الوضوء. وفي ارتفاعها عن أعضاء الوضوءِ كلامٌ، تقدّم ذكره في باب نيّةِ الوضوءِ.
__________
(1) حديث " تحت كل شعرة جنابة "، رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والبيهقي من حديث أبي هريرة، ومداره على الحارث بن وجيه، وهو ضعيف جداًً، وقال أبو داود: حديثه منكر. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ، (ر. أبو داود: الطهارة، باب الغسل من الجنابة، ح 248، الترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء أن تحت كل شعرة جنابة، ح 106، ابن ماجة: الطهارة، باب تحت كل شعرة جنابة، ح 597، البيهقي: 1/ 175، التلخيص: 1/ 142 ح 190).
(2) أي في فرض المضمضة والاستنشاق في الغسل. ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 135 مسألة 25، رؤوس المسائل 101 مسألة: 8، البدائع: 1/ 21، حاشية ابن عابدين: 1/ 102.

(1/151)


وإن نوى رفعَ الحدث مطلقاًً، ولم يتعرض للجنابة، ولا لغيرها، فالوجه الذي لا يتجّه غيره القطعُ بإجزاء الغُسل؛ فإن الحدث عبارةٌ عن المانع من الصلاة وغيرِها، على أى وجهٍ فُرض.
ولو نوت التي انقطع حيضُها بالغُسل استباحةَ الوِقاع، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في صحة الغُسل: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإنها إنما نوت ما يُوجب الغُسل وهو الجماع.
والثاني - وهو الأصح أنه يصحّ؛ فإنها نوت حِلَّ الوطء، لا نفسَ الجماع، وحلُّ الوطء لا يوجب الغسل.
84 - فأما الأكمل، فينبغي أن يبدأ فيغسل ما [ببدنه] (1) من أذىً ونجاسةٍ، إن كانت، وإن شكّ في نجاسةٍ، احتاط، وأزال الشك باستعمال الماء.
ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، كما تقدم وصفه.
فإذا انتهى إلى غسل القدمين، فقد اختلف قول الشافعي فيه، فقال في قولٍ: يغسل رجليه، ويُتمّمُ الوضوءَ قبل إفاضة الماء على البدن (2). وهذا مما رواه هشامُ ابنُ عروة عن أبيه عُروة، عن عائشة، عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم (3). وقال في (الإملاء): يؤخّر غَسل قدميه حتى يفرغَ من إفاضة الماء على بدنه، ثم يستأخر ويغسل قدميه، وهذا ما رواه ابنُ عباس (4) عن خالته ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في الأصل: بيديه.
(2) ر. المختصر: 1/ 23.
(3) حديث عائشة في وصف غسل الرسول صلى الله عليه وسلم: متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 68، كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، تلخيص الحبير: 1/ 142 ح 191).
(4) حديث ابن عباس عن خالته ميمونة، متفق عليه بمعناه، أخرجه البخاري في كتاب الغسل، باب الغسل مرة واحدة، 1/ 431 ح 249، وأخرجه مسلم في كتاب الحيض، باب صفة غسل الجنابة، 1/ 254 ح 317، وانظر تلخيص الحبير: 1/ 143 ح 192.

(1/152)


ثم إذا فرغ مما أمرناه به، تعهّد بالماء معاطفَه، ومغابنه (1)، التي يعسر وصولُ الماء إليها، فيأخذ الماء كفّاً كفّاً، ويوصّل الماءَ إلى هذه المواضع، ومن جملتها أصول الشعور الكثيفة، ثم يُفيض الماء فيَحْثي (2) على رأسه، ثم على ميامنه، ثم على مياسره، وفي فحوى كلام الأصحاب، استحبابُ إيصال الماءِ إلى كل موضعٍ ثلاثاًً ثلاثاً، فإنا إذا رأينا ذلك في الوضوء، ومبناه على التخفيف، فالغسل بذلك أولى.
ثم نؤُثر أن يُتبع الماء يَدَيْه دلكاً؛ فإنه إذا فعل ذلك وصل الماء إلى البدن، ووقع الاكتفاء بما لا سرف في استعماله، ولو لم يستفد به إلا الخروجَ عن الخلاف، كفاهَ؛ فإن مالكاً (3) أوجب الدلك.
فصل
185 - ذكرنا في باب النية أن طهارات الأحداث تفتقر إلى النيّة، ثم بنينا عليه أنها لا تصحّ من الكافر؛ فإنها بدنيّة محضة، مفتقرةٌ إلى النيّة، وذكرنا التفصيل في الذمّيّة إذا اغتسلت عن الحيض تحت مسلمٍ.
وقد ذكر أبو [بكر] (4) الفارسي أن الغُسل يصح من الكافر طرداً للباب، استمساكاً
__________
(1) جمع مغبن، وهو الإبط، وبواطن الأفخاذ عند الحوالب. (معجم).
(2) الفعل واوي ويائي.
(3) ر. الإشراف: 1/ 125، مسألة: 47، حاشية الدسوقي: 1/ 90، جو اهر الإِكليل: 1/ 23.
(4) في الأصل: أبو زيد، وقد ترجح لدينا أنه تصحيف، وأن الصواب أبو بكر بالأدلة الآتية:
أ- لم نجد في كتب الطبقات والأعلام من يجمع بين هذه الكنية (أبو زيد) وهذا اللقب (الفارسي) وهو من أهل هذا الشان، وعاش في الفترة المناسبة.
(مما راجعناه: تهذيب الأسماء واللغات للنووي، وطبقات السبكي، وطبقات الإِسنوي، ووفيات الأعيان، وسير أعلام النبلاء، وطبقات الحفاظ، وطبقات ابن قاضي شهبة، وطبقات الفقهاء للشيرازي، وطبقات ابن الصلاح، وطبقات العبادي ... وغيرها).
ب- قرأنا المسألة في مظانها عسى أن يصرح أحد الكتب باسم صاحب هذا الوجه، فلم يسعفنا مختصر النهاية لابن أبي عصرون، ولا حواشي التحفة، ولا الروضة، ولا الوسيط، ولا الوجيز، ولا شرحه: فتح العزيز، ولا المجموع للنووي، ولا في شرح المنهاج، وحاشيتي قليوبي وعميرة. =

(1/153)


بغسل الذميّة تحت المسلم، وأجرى ذلك في الكافرة ليست تحت مسلمٍ، وطرده في غسل الجنابة، وهذا مزيَّف.
وحكى المحَامليّ في (القولين والوجهين) (1) وجهاً: أنه يصحّ من كل كافرٍ كلُّ طهر: غُسلاً كان، أو وضوءًا، أو تيمماً، وهذا في نهاية الضعف.
فرع:
186 - تجديد الوضوء مندوبٌ إليه، قال النبي عليه السلام: " من جدّد وضوءَه جدّد الله له إيمانه " (2).
___________
= جـ- وأخيراً أسعفتنا المقادير، فوجدنا طلبتنا في غير مظانها، إِذ ذكر الرافعي عند الكلام عن النية في الوضوء، بأنها " لا تصح من الكافر، فلو اغتسل الكافر، في كفره أو توضأ، ثم أسلم، لم يعتد بما فعله في الكفر لأنه ليس أهلاً للنية ... " ثم قال: "وقال أبو بكر الفارسي: لا يجب عليه إِعادة الغسل (إِذ صح منه) بدليل صحة غسل الذمية عن الحيض لزوجها المسلم " فهذا تصريح بأن صاحب النقل الذي ذكره إِمام الحرمين هو أبو بكر، وليس (أبو زيد).
د- ثم تأكد لدينا هذا بدليل قاطع، ساقته لنا المقادير، حيث نقل مصححو المجموع للنووي بهامشه عن الأذرَعي عن إِمام الحرمين، "وجوب الغسل على الكافر إِذا أسلم، وعدم صحة غسله في كُفره، وتغليطه لأبي بكر الفارسي في الاعتداد بغسل الكافر في كفره". (ر. فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 1/ 212، وهامش ص153 ج 2. والمجموع: 1/ 330).
وبعد كل هذا العناء أسعفتنا باليقين نسخة (ل) فقد صرحت بأنه: أبو بكر الفارسي.
(1) اسم لكتاب من مؤلفات المحاملي. والمحاملي: نسبة إلى بيع المحامل التي يركب عليها على ظهور المطايا، حيث كان بعض آبائه يبيعها في بغداد، وهذا اللقب (المحاملي) حمله نحو ستة من أعلام الفقه بعضهم أب إِلى بعض، والمعني هنا، والذي هو أكثر ذكراً في الكتب، وأثراً في الفقه، هو أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم بن إِسماعيل بن محمد بن إِسماعيل.
أبو الحسن، الضبي، ويعرف بابن المحاملي، الإِمام الجليل، من رفعاء أصحاب الشيخ أبي حامد، وبيته بيت الفضل، والجلالة، والفقه والرواية، صاحب اللباب، والمجموع، والمقنع، وغيرها، وله تعليقة عن الشيخ أبي حامد، وصنف في الخلاف، توفي سنة 415 هـ. (طبقات السبكي: 4/ 48 وما بعدها، وطبقات الإِسنوي: 2/ 381، وشذرات الذهب: سنة 415، والبداية والنهاية: 12/ 18، ووفيات الأعيان: 1/ 74، 75، والكامل: سنة 415 هـ).
(2) حديث: "من جدد وضوءه"، معناه عند البخاري، وأقرب لفظ إِليه ما رواه البيهقي عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "من توضأ على طهر كتب الله له عشر =

(1/154)


ولو توضّأ، ولم يُؤدّ بوضوئه شيئاًً، وأراد أن يجدّد، ففي استحباب ذلك وجهان، والأظهر أنه لا يستحبّ؛ فإنه لو استحبّ مرةً، لم يختصّ الاستحبابُ بها، ولم ينضبط القول في ذلك.
وقد يشبّه التجديدُ من غير تخلّل شيءٍ بالغسلَةِ الرابعة. وهذا الخلاف عندي فيه إذا تخلّلَّ بين الوضوء الأول والتجديد زمانٌ يقع بمثله تفريق، فأما إذا وصل التجديد بالوضوء، فهو في حكم الغسلة الرابعة.
187 - ثم ذكر الشيخ أبو علي وجهين في استحباب تجديد الغُسل: أحدهما - أنه يُستحب كالوضوء، والثاني - لا يستحبُّ؛ [إذ] (1) لم يرد فيه ما ورد في تجديد الوضوء، ولم يُؤثر عن السلف الصالحين.
فصل
188 - غُسل المرأة كغسل الرجل، ولا فرق بين البكر والثيّب، ولا يجب إيصال الماء إلى ما وراءَ ملتقى الشفرين؛ فإنا إذا لم نوجب إيصال الماء إلى داخل الفم، فما ذكرناه أولى.
وغسل التي انقطعت حيضتُها كغسل الجنابة، غير أنَّا نستحب لها أن تدخل فِرصةً (2) من مسكٍ في منفذ الدم، وقد ورد فيه حديث (3) عن النبي عليه السلام، فإن لم تجد، فطيباً آخر، فإن لم تجد، فالماء كافٍ.
__________
= حسنات" (ر. البخاري: كتاب الوضوء، باب الوضوء من غير حدث، ح 214، والسنن الكبرى: 1/ 162، مصنف عبد الرزاق: 1/ 54 باب هل يتوضأ لكل صلاة أم لا؟)
(1) في الأصل: إِذا. وهذا تقدير منا، وصدقتنا (م)، (ل).
(2) فرصة: خرقة أو قطنة، تتبع بها المرأة أثر الحيض (القاموس، والمصباح).
(3) الحديث: " خذي فرصة من مسك، فتطهري بها، .. " متفق عليه من حديث عائشة، أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب دلك المرأة نفسها إِذا تطهرت من المحيض، وكيف تغتسل وتأخذ فرصة ممسكة فتتبع أثر الدم، ح 314، وأخرجه مسلم: 1/ 260، كتاب الحيض، باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، ح 332.
(ر. تلخيص الحبير: 1/ 143 ح 193).

(1/155)


189 - الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشربَ، فلا بأس، ولكن ذكر بعضُ المصنفين أنا نستحب له أن يتوضّأ، ثم يأكل، وإن كان الوضوء لا يرفع الحدث.
وكذلك إذا أراد الجنبُ أن يجامعَ، فينبغي أن يغسل فرجه، ويتوضأ وضوءه للصلاة، وهذا الوضوء، وإن كان لا يرفع الحدثَ، فقد ورد فيه خبرٌ عن النبي عليه السلام (1).
فأما الوضوء بسبب الأكل والشرب، فلم أره إلا في تصنيف لبعض الأئمة (2)، وقد روي أن رجلاً سلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على حائطٍ، وتيمم، ثم أجاب (3). وقيل: إنه كان جُنباً، وكان التيمم في الإقامة ووجود الماءِ، ولكنه صلى الله عليه وسلم أتى به تعظيماً لردّ السلام، وإن لم يُفد التيمم إباحة محظور.
ولو تيمم المحدث، وقرأ القرآن عن ظهر القلب، كان جائزاً على مقتضى الحديث. والله أعلم.
...
__________
(1) الخبر هو "إِذا أتى أحدكم أهله، ثم أراد أن يعود، فليتوضأ" رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه أحمد، وابن خزيمة، وابن حبان والحاكم. (ر. مسلم: 1/ 249، كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، ح 308، وأحمد: 3/ 28، وابن خزيمة: 1/ 109، 110 ح 219، 220، 221، وابن حبان: 1/ 11، 12، وتلخيص الحبير: 1/ 141 ح 188).
(2) بل ورد حديث متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها (واللفظ لمسلم): "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إِذا كان جنباً، فأراد أن يأكل أو ينام، توضأ وضوءه للصلاة". رواه مسلم: 1/ 248، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع، ح 305، الرقم الخاص: 22، ورواه البخاري: 1/ 468 كتاب الغسل، باب الجنب يتوضأ ثم ينام، ح 288، وتلخيص الحبير: 1/ 140 ح 187.
(3) متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 76، 77 ح 209).

(1/156)