نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الجنائز
1637 - ذكر الشافعي آداباً في حق المحتضَر إذا قرب موتُه، فنقول: ينبغي أن يكون في نفسه حسن الظن بالله تعالى عند قرب موته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو حَسن الظن بالله تعالى" (1).
ثم ينبغي أن يلقَن الشهادة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله" (2)، وروى معاذ عن النبي عليه السلام أنه قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" (3).
ثم لا ينبغي للملقّن أن يلحّ على من قرب أجله، بل يذكِّره الشهادة برفق، بحيث لا يُضجره.
ثم مما يؤثر (4) إذا فاضت نفسه، أن يُغمض عينيه رجل رفيق، ويشد لحييه بعصابة؛ حتى لا تبقى صورتُه مشوّهة في المنظر، ويكون هذا عند تحقق الموت،
__________
(1) حديث: "لا يموتن أحدكم إلا وهو حسن الظن بالله" رواه مسلم عن جابر بن عبد الله. (ر. مسلم: كتاب الجنة (51) باب الأمر بحسن الظن بالله (19) ج 3 ص 2205 ح 2877).
(2) حديث: "لقنوا موتاكم ... " رواه أبو داود وابن حبان من حديث أبي سعيد، وهو في مسلم عنه وعن أبي هريرة (ر. مسلم الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله، ح 916، 917، أبو داود: الجنائز، باب في التلقين، ح 3117، ابن حبان: 2992، والتلخيص: 2/ 102 ح 732).
(3) حديث: "من كان آخر كلامه، لا إله إلا الله ... " رواه أبو داود، والحاكم، وأحمد من حديث معاذ بن جبل، وعند مسلم بمعناه من حديث عثمان رضي الله عنه (ر. مسلم: الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة، ح 43، أبو داود: الجنائز، باب في التلقين، ح 3116، أحمد: 5/ 233، 247، الحاكم: 1/ 351، 500 وصححه ووافقه الذهبي، التلخيص: 2/ 103 ح 733، وخلاصة البدر المنير: 1/ 253 ح 877).
(4) في (ل) "نؤثره".

(3/5)


من غير تأخير؛ فإنه قد لا تُطاوعُ الأعضاءُ إذا بعد الزمان، وكذلك نُؤثر تليين مفاصله عند الموت؛ حتى لا تبقى منتصبة، فيعسر التصرف فيها عند الغُسل، ومحاولة الإدراج في الكفن.
وذكر (1) جملاً من علامات الموت؛ والغرض أنا لا نُحدث شيئاً مما ذكرناه إلا ونحن على تحقق من الموت.
وينزع عنه الثياب التي تدفئه إذا مات؛ حتى لا يتسرعّ التغييرُ إليه، ويسجّى بثوبٍ خفيف، ولو وضَع سيفاً أو غيرَه على بطنه حتى لا يربو، فحسنٌ.
وقد ورد في بعض الآثار تلاوة سورة يس (2) عند قرب الأمر.
والذي كان يقطع به شيخي أن المحتضَر يُلقَى على قفاه، وأخمصاه إلى القبلة، وذكر العراقيون أنه يُلقَى على جنبه الأيمن كما يفعل في لحده، ولست أثق بهذا؛ فإن عمل الناس على خلاف هذا. وإن كان ما ذكرناه منقاساً في رعاية استقبال القبلة.
...
__________
(1) "وذكر": أي الشافعي.
(2) حديث: "اقرؤوا يس على موتاكم" رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، والحاكم، وروي معناه موقوفاً، وفيه مقال، ورمز له السيوطي بالحسن، وضعفه الألباني.
(ر. أحمد: 5/ 26، 27، أبو داود: الجنائز، باب القراءة عند الميت، ح 3121، النسائي في الكبرى: عمل اليوم والليلة، باب ما يقرأ على الميت، ح 10913، ابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا حضر، ح 1448، الحاكم: 1/ 565، ضعيف أبي داود للألباني: ص 316 رقم 683، ضعيف الجامع الصغير: 1072، والتلخيص: 2/ 104 ح 734).

(3/6)


باب غسل الميت
1638 - نذكر في صدر هذا الباب أموراً تتعلق بآدابٍ في مقدمةِ الغسل، وكيفية الغُسل، ثم نذكر المسائلَ الفقهية إن شاء الله عز وجل، فنقول: الأَوْلى ألا يُنزع عن الميت قميص، بل يغسَّلُ فيه، وإن مست الحاجة إلى مس بدنه باليد في الغسل، فَتق الغاسلُ القميصَ وأدخل يده في موضع الفتق، فإن نزع القميص، جاز، ولكن يجب أن يستر عورة الرجل بثوب يُلقى عليها، والعورة ما بين السرة والركبة، وهذا يُبنى على العلم بأنه يحرم النظر إلى عورته، ويكره النظر إلى سائر بدنه، إلا عند الحاجة.
ثم ذكر المزني أنه يعيد الغاسل تليين مفاصله عند الغسل، وتردد أصحابنا، والوجه فيه أن يعلم أن التليين في هذا الوقت، لم يرد فيه أثر، ولم يوجد فيه نصّ للشافعي، ولكن الوجه أن يقال: إن لم تمس حاجة إلى التليين وإعادته، فلا وجه له، وإن مست الحاجة إلى إعادة التليين، فلا معنى للتردد فيه.
ثم نقول: ينبغي أن يُغسَّل في موضعٍ خالٍ، لا يطلعُ عليه إلا غاسله، ومن لا بد منه في الإعانة، ولا ينبغي لمن يتعاطى ذلك أن يذكر شيئاً من العلامات التي تكره، فقد يسودُّ وجه الميت بثوران الدم فيه، وقد يميل وجهُه لالتواء عصبٍ، فلو ذُكر، فقد يظن به من لا يدري سوءاً.
ثم يفضى بالميت إلى مغتَسله، وهو لوح مهيأ لهذا الشأن، فلو لم يكن، فسرير، وينبغي أن يكون المغتَسل منحدراً في وضعه، حتى لا يقف الماء وينحدر، ثم يعتدّ (1) الغاسل موضعاً (2) فيه ماء كثير، وينحيه من السرير، حتى لا يترشش،
__________
(1) اعتدّ الشيء: أحضره، أي يُحضر الغاسل ...
(2) في النسخ الثلاث: موضعاً، وبمثلها جاءت (ل)، ولكن أضيف بين سطورها كلمة (مِخضب) والمخضب إناء كبير تغسل فيه الثياب. (المعجم).

(3/7)


ولا يتقاطر إليه، ويكون معه ما يغترف به الماء من ذلك الإناء المنحَّى.
1639 - والأصح المنصوص عليه للشافعي أن بدن الآدمي لا ينجس بالموت؛ إذ لو كان ينجس، لما كان في تنظيفه بالغسل معنى.
وذهب أبو القاسم الأنماطي إلى أنه ينجس، واستنبط قوله من أمر الشافعي بتنحية الإناء الكبير الذي فيه الماء. وهذا غير صحيح؛ فإن الشافعي نص على ما يفسد هذا (1)؛ فإنه قال: يُنحَّى حتى تكون النفس أطيب في ألا يتقاطر الماء، ثم الماء المستعمل إذا كثر تقاطره، فقد يثبت إلى ما يتقاطر إليه حكم الاستعمال، فيخرج عن كونه طهوراً، وإن بقي طاهراً.
1640 - ثم إذا أفضى به إلى مغتسله ألقاه على قفاه أولاً، ثم يتقدم، فيجلسه برفق، ويكون ميله (2) إلى وراء، فلا يجلسه معتدلاً؛ فإن الميلَ إلى الاستلقاء أوفق، لما يحاوله مما نذكره الآن. وينبغي إذا أجلسه على الهيئة التي ذكرناها، أن يعتني بحفظ رأسه، حتى لا يميل إلى وراء ميلاً بيناً، ثم إذا أثبته كذلك، اعتمد بيديه على بطنه ماسحاً متحاملاً بقوة -وميل الميت إلى وراء- فإن كان فيه فضلةٌ يخشى مبادرتها خرجت، ثم يأمر من معه في هذا الوقت حتى يصب الماء بقوة، ويُكثر؛ حتى إن كان من شيء خَفي في كثرة الماء. والمجمرةُ -مع الاعتناء بفائح الطيب- تكون عنده في هذا الوقت مُتَّقِدَة. ثم إذا تقدر الفراغُ من هذا المقصود الذي ذكرناه، فيتعهد -وقد ردّه إلى هيئة الاستلقاء- غَسْلَ سوأتيه، ولا يمس بيده واحدة منهما، ثم يلفّ على يده خرقة، ويُمعن في غسل إحداهما، ثم ينحي تلك الخرقة، ويلف أخرى، ويغسل الأخرى، فيكون ما جرى بمثابة الاستنجاء في حق الحي، ثم كل خرقة ردّها، ابتدرها بعضُ من يُعينه وغسلها. ثم إن كان ببدنه قذر اعتنى به، ولف خرقة على يديه وغسله، ثم يتعمد خرقة نظيفة، فيبلها، ويتعهد ثغره، وأسنانه بها، ويكون ذلك كالسواك، ولا يفتح فاه في ذلك، ويتعهد منخريه كذلك، ويزيل أذىً إن كان، ثم
__________
(1) إشارة إلى قول الأنماطي.
(2) (ل) مثله إلى ورد.

(3/8)


يوضئه وضوءاً تاماً، ثلاثاً ثلاثاً. وذكر الشيخ أبو بكر أنه يأتي بالمضمضة والاستنشاق. وظاهر هذا أنه يوصل الماء إلى داخل فيه وأنفه، ولا يكتفي بإيصال الماء إلى مقادم الثغر والمنخرين، وكان شيخي يقول: يكتفي بإيصال الماء إلى ثغره ومنخره، وهذا معنى المضمضة فيه، وكذلك القول في المنخرين. والذي أرى القطعَ به أن أسنانَه إن كانت متراصة، فلا ينبغي أن يتكلف الغاسل فكّها، وفتحها، لمكان المضمضة، وإن كان فمه مفتوحاً ففي إيصال الماء إلى داخل فمه وأنفه تردد من الأئمة. والسبب فيه أنه قد يبتدر الماء إلى جوفه، فيكون ذلك سبباً في تسارع الفساد والبلى إليه، ونحن مأمورون برعاية صونه جهدنا، وإن كان مصيره إلى البلى.
ثم إذا فرغ من ذلك وضَّأه، وتعهد شعره وسرّح لحيته، وشعرَ رأسه إن كان ذا لِمّة، وكانت قد تلبّدت، حتى لا يمتنع بسببها وصول الماء إلى أصول الشعر، ويستعمل مشطاً واسع الأسنان، وَيرْفُقُ جهده؛ حتى لا ينتف شعره، ثم يضجعه على شقه الأيسر ويبتدىء غسله، فيصب الماء على رأسه، وعنقه وشقه الأيمن كلِّه، إلى فخذه، وساقه، ورجله، ثم يلقيه على قفاه برفق، ويضجعه على شقه الأيمن، ويغسل شقه الأيسر، كما تقدم ذكره في الأيمن، وهذه غسلة واحدة، وهو في ذلك كلِّه يُتبع الماءَ يدَه دلكاً، وعليها خرقة.
ثم ذكر الشافعي أنه بعد كل غسلة، يُجلسه، ويمرّ يده على بطنه ويردّه، ولكنه يتحامل في المرة الأولى قبل ابتداء الغسل، ويرفُق في غيرها من الكرَّات على حسب ما تقتضيه الحال، ثم يغسله ثانية وثالثة، فإن حصل النقاء المطلوب، وإلا غسله خمساً أو سبعاً، هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم اللّواتي كنّ يغسّلن ابنته زينب فقال: "اغسلنها ثلاثاً، خمساً، سبعاً" (1)، والإيتار مرعي عند محاولة الزيادة على الثلاث، ولا مزيد على الثلاث من غير حاجة.
__________
(1) حديث: "اغسلنها ثلاثاً ... " متفق عليه عن أم عطية، ولكن عندهما بعد قوله: خمساً: أو أكثر من ذلك. (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 189، باب غسل الميت، ح 544، والتلخيص: 2/ 107 ح 741).

(3/9)


1641 - واستعمال السدر في بعض الغسلات مما ورد الشرع به (1) رعايةً للتنظيف، ولكن إذا تغير الماء بالسدر تغيراً طاهراً، لم تحتسب تلك الغسلة عن الفرض، ولا بد في إقامة الفرض من إفاضة ماءٍ طهور، وبه الاعتداد، وذكر العراقيون وجهاً بعيداً عن أبي إسحاق المروزي أنه يتأدى الفرض بالماء المتغيّر بالسدر، وإن كان لا يجوز أداءُ الوضوء والغسل به في الجنابة والحَدث؛ فإن الغرض الأظهر من غُسل الميت النظافة، وهذا بعيد غير معتدٍّ به من المذهب.
ثم استعمال مقدار يتفق من الكافور في الغسلة الأخيرة حسن، أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم (2)، ورائحته على الجملة مُطردَةٌ للهوام إلى أمد.
ثم لم تختلف الأئمة في أنا ننشفه بعد الفراغ من غسله، ويبالغ في تنشيفه حتى لا تبلّ أكفانُه، ولم نر في الوضوء والغسل التنشيفَ، كما تقدم، والفرق لائح، والأوْلى استعمال الماء البارد؛ فإنه يجمع اللحم والجلد، والماءُ المسخن يُرخي ويرهِّل إلا ألاّ يحصل النقاءُ المطلوبُ إلا بالمسخن، أو يكون الهواء بارداً، وكان يعسر استعمال الماء البارد فيه.
فهذا بيان كيفية الغسل.
1642 - ثم نبتدىء بعد هذا المسائلَ الفقهية، ونصدّرُها بأن الأقل المجزي، الذي يسقط به الفرض وصولُ الماء إلى جملةِ ظاهر البدن، جرياناً، كما ذكرناه في غُسل الجنابة، وفي اشتراط النية في غسل الميت وجهان مشهوران: أحدهما - تجب؛ فإنه غُسل حُكمي، فشابه غسلَ الجنابة.
والثاني - لا تجب؛ فإنها لا تتأتى من الميت، وإيجابها على الغاسل بعيد، والغرض الأظهر من هذا الغسل النظافة أيضاً، ويخرج على هذا الخلاف أن الغريق إذا لفظه البحر، فظفرنا به، فإن لم نشترط النية، فقد تأدى الغُسل بالبحر، وإن شرطنا النية، فلا بد من إعادة الغُسل وإقامة النية، ولو غسل كافرٌ مسلماً، ففي الاعتداد به
__________
(1) ورد ذلك في الحديث السابق نفسه.
(2) ورد ذلك في حديث غسل زينب رضي الله عنها، المتفق عليه، والذي مضت الإشارة إليه آنفاً.

(3/10)


خلاف، مبنيٌّ على ما ذكرناه من اشتراط النية؛ فإن الكافرَ ليس من أهل النية. ثم الغاسل ينوي إذا شرطنا النية.
ومما يتعلق بهذا أن المجنونة إذا طهرت عن حيضها، فلا نبيح للزوج قربانها حتى تغتسل، ولا تتأتى النية منها، ولكن يكفي في استحلالها إيصال الماء إلى بدنها، ثم لو أفاقت، فهل تعيد الغُسل؟ فيه خلاف كالخلاف في الذمية إذا اغتسلت، ثم أسلمت، ولم يصر أحد من أئمتنا إلى أن قيّمها يُغسِّلها، وينوي عنها، كما ذكرنا أن غاسل الميت ينوي، فهذا مما لم يتعرضوا له بنفيٍ وإثبات والله أعلم.
فرع:
1643 - إذا غسلنا الميت، فخرجت منه نجاسة، فلفظ الشافعي: أنا نعيد غسله. وقد اختلف الأئمة في المسألة، فذهب بعضهم إلى أنه يعاد غسله من أوله، والذي جرى من الأمر يوجب تجديد غسله؛ فإن الغرض الظاهر تنظيفه كما ذكرناه، ومن أئمتنا من قال: يقتصر على إزالة تلك النجاسة [ولا يعاد غسله] (1).
ومنهم من قال: تغسل تلك النجاسة، ثم يجب إعادة الوضوء فيه.
فمن رأى الاقتصار على غسل النجاسة، فلا يفرق بين نجاسة ونجاسة، ومحل ومحل، ومن يرى تجديد الوضوء، فلا شك أنه يقول ذلك في نجاسة تبدُرُ من أحد السبيلين، فأما من أوجب إعادة الغُسل، فإن كانت النجاسة خارجة من السبيل، فالغسل، وإن انفجر عرق وظهرت نجاسة، ففي إيجاب إعادة الغسل احتمال عندي، من جهة أن هذا القائل يرى السبب الظاهر في الغسل التنظيف. وهذا يستوي فيه كل نجاسة ومحل، والله أعلم.
فصل
يجمع تفصيلَ القول في الغاسلِين ومن يكون أَولى
1644 - ونحن نصدّره قبل القول في الأَوْلى، بمن يجوز له أن يغسل، فنقول: أما الزوجة، فإنها تغسل زوجها وفاقاً، والأصل فيه ما روي عن عائشة رضي الله عنها
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ل).

(3/11)


أنها "قالت: لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه" (1) وقيل: كانت تظن أنهن لو تركن حقوقهن من غسله، تولى أبو بكر الغسل، فلما تولاه علي والعباس، ندمت على ما تركت.
والزوج يغسل زوجته عند الشافعي، خلافاً لأبي حنيفة (2)، وقد "صح أن علياً غسّل فاطمة رضي الله عنهما" (3)، فإذا ماتت أمّ ولد الإنسان، أو جاريتُه الرقيقة، فللسيد أن يتولى غُسلها، وإذا مات السيد، فأم الولد هل تغسله؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تغسله (4 فإنها عَتَقَت بموته.
والثاني - تغسله 4)، فإنها كانت محلّ حلِّه، وعتقها بمثابة انتهاء النكاح نهايته في حق الزوجة.
والأمة المملوكة هل تغسل سيدها؟ فيه وجهان أيضاً، ولعل الأصحَّ المنعُ، فإن الملك فيها انتقل على التحقيق إلى الورثة، ولم يكن الحلّ فيها مقصوداً في الحياة.
1645 - ثم الزوجان عندنا يغسل كل واحد منهما صاحبه، وسببه أن النكاح ينتهي نهايته، فجواز الغسل يعقبه كالميراث، ولا تعويل في جانبها على العدّة؛ فإن العدّة واقعة وراء منتهى النكاح، وليست المرأة زوجة في العدة قطعاً.
ولو مات الزوج، فوضعت في الحال حملاً، وانقضت عدتُها، فإنها تغسل زوجها، وإن انقضت العدة، كما يغسل الزوج زوجته، وإن لم يكن معتداً.
__________
(1) حديث عائشة: رواه أبو داود، وابن ماجة، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الجنائز، باب في ستر الميت عند غسله، ح 3141، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في غسل الرجل امرأته وغسل المرأة زوجها، ح 1464، وصحيح ابن ماجة: 1/ 247 ح 1196).
(2) ر. مختصر الطحاوي: 41، رؤوس المسائل: 192 مسألة: 92، حاشية ابن عابدين: 1/ 575، 576.
(3) حديث: "غسل علي لفاطمة رضي الله عنهما" رواه الشافعي من حديث أسماء بنت عميس، وكذا رواه الدارقطني ورواه البيهقي، وإسناده حسن، قاله الحافظ. (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 206 ح 571، الدارقطني: 2/ 79، البيهقي: 3/ 396، التلخيص: 2/ 143).
(4) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).

(3/12)


1646 - ولو ماتت المرأة ولم نُصادِف لها زوجاً، ولا حميماً (1)، ولم تكن حيث ماتت امرأة أيضاً، فالذي قطع القفال به أن الرجل يغسلها في قميص، ويبذل كنهَ الجهد في غضِّ الطرف عنها.
وذكر العراقيون وجهاً أنها لا تغسل، ولكن تُيمَّم ويجعل فقدان من يغسلها، كفقد الماء. وهذا وجه بعيد.
وكذلك لو مات الرجل ولم يشهد إلا نسوة أجنبيات، فظاهر المذهب أنهن يغسلنه، ويغضضن من أبصارهن، وذكروا وجهاً أنه ييمم.
1647 - ومما ذكره الصيدلاني كلامُ الأصحاب في الخنثى إذا مات على إشكاله، ولم يُعلم له حميم من الرجال أو النساء، قال بعض الأصحاب: يجب أن يشترى له من تركته أمة تغسله.
وقال الشيخ أبو زيد: هذا ضعيف لا أصل له؛ فإن المذهب الصحيح أن الرجل إذا خلَّف أمة، لم تغسله؛ من حيث صارت ملكاً للورثة.
فالوجه أن يقال: الخنثى يغسله الرجال، أو النساء، مع غض الطرف، وليس أحد الجنسين أولى في ذلك من الثاني. قال القفال في توجيه ذلك: "هذا الخنثى لو فرض طفلاً صغيراً، لجاز للرجال والنساء جميعاً أن يغسّلوه حياً وميتاً، فتستصحب تلك الحالة".
ولا حاجة إلى التمسك بهذا؛ فإن مقتضاه جواز ذلك للجنسين في بلوغه استصحاباً لحكم الصغير في حالة البلوغ في الحياة، وهذا لا سبيل إلى التزامه، ولكن ذلك يوجَّه بمسيس الحاجة إلى الغسل، ثم ليس مع ضرورة الغسل جنس أولى من جنس.
ويرد في صورة الخنثى الوجه الذي ذكره العراقيون أنه ييمم ولا يغسل، وهذا بعيد غيرُ مرضي.
1648 - فإذا تمهد بما ذكرناه غسل الرجال للنساء وغسل النساء للرجال عند مسيس
__________
(1) الحميم: القريب.

(3/13)


الحاجة، فنحن نبتدىء الآن التفصيل فيمن هو أولى بالغُسل عند فرض اجتماع من يصلح لهذا الشأن.
فإذا ماتت امرأة، وخلّفت زوجاً وجمعاً من المحارم، من الرجال والنساء جميعاً، كان شيخي وغيره من أصحاب القفال يقولون: نساء المحارم أولى بالغسل من الزوج وغيره من الرجال، فإن لم يكن، فالنساء الأجنبيات أولى من الزوج، فإن لم نجد امرأة أصلاً، فالزوج أولى من الرجال المحارم، فإن لم يكن زوج، فالرجال المحارم، ثم ترتيب الكلام فيهم في الغسل على حسب ترتيبهم في الصلاة، وسيأتي ذلك في موضعه إن شاء الله عز وجل.
وذكر العراقيون نسقاً آخر في الترتيب، فقالوا: في الزوج ونساء المحارم وجهان: أحدهما - أن نساء المحارم أولى.
والثاني - أن الزوج أولى؛ فإنه كان ينظر من امرأته في حياتها ما لا ينظر إليه نساء المحارم.
والقائل الأول يقول: لا نكاح بعد الموت، وإنما يثبت الغُسل للزوج لحرمة تُبقيها الشريعة بعد انتهاء النكاح نهايته، والمحرمية سببها باق دائم، سيما مع الأنوثة، ثم فرعوا على هذا، فقالوا: إن قلنا: الزوج أولى من نساء المحارم، فلا شك أنه أولى من رجال المحارم أيضاً، وإن قلنا: نساء المحارم أولى من الزوج، ففي رجال المحارم مع الزوج وجهان: أحدهما - المحارم أولى لما ذكرناه من بقاء سبب المحرمية وانتهاء النكاح نهايته.
ومنهم من قال: الزوج أولى، لما سبق ذكره. ثم من يرى تقديمَ المحارم، فإنه يقدم أبعدهم على الزوج، ومن يقدم الزوجَ، فإنه يقدمه على أقرب المحارم، ثم ترتيب الأقارب المحارم كترتيبهم في الصلاة.
فهذا بيان الطرق في ترتيب من يُغسِّل، وهو فيه إذا كان يُفرض ازدحامُهم وتنافسهم في الغُسل، فإن سَلَّم من قدمناه في الغُسل ذلك لمن نؤخره، (1 جاز لمن نؤخره 1) أن يتعاطى الغسل، [كالزوج إذا سلّم الغسل] (2) لرجال القرابة، ونحن نرى تقديم الزوج.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(2) زيادة من (ت 1)، (ل).

(3/14)


1649 - وكان شيخي يقول: هذا يجري في الرجال بعضهم مع بعض، فأما النساء، فيجب تقديمهن على جنس الرجال إذا وجدت (1)، وإنما يغسّل الرجال المرأة إذا فقدنا النساء.
وهذا القسم عندي فيه احتمال ظاهر، فيجوز أن يقال: من نقدِّمه عند الزحمة، فحق عليه أن يتعاطى [الغسل] (2)، فإنه بحق واختصاصٍ قُدِّم، ويجوز أن يقال: له أن يسلم لغيره.
1650 - ومن دقيق الكلام في هذا الباب أنه لو اجتمع الأصناف المقَدَّمة، فامتنعوا من الغسل، فالوجه أن يقال: يختص بحكم الحَرَج من قوي تقديمه عند فرض الزحمة، ثم لا يسقط عن غيره، بل لو عطله الأدنوْن، والأقربون، تعين على الأجانب القيامُ بذلك؛ فإنه فرضٌ على الكفاية، في حق الناس عامة. وهذا واضح لمن تأمله. والعلم عند الله تعالى.
1651 - وكل ما ذكرناه في المرأة تموت، فأما الرجل إذا مات، فزوجته في غُسله كالزوج في غسل زوجته، وترتيب القول في تقديمها على الرجال المحارم، كما ذكرنا، فالرجال في غسل الرجل كالنساء في غسل المرأة.
وحكى شيخي والأئمة عن أبي إسحاق المروزي أنه كان يقول: ليس للزوجة رتبةُ التقدم على أحد، وإنما لها جواز الغسل فحسب، فأما أن تقدم، فلا. وهذا ليس بشيء، فالزوجة في حق الزوج، كالزوج في حق الزوجة، وفي حديث عائشة ما يدل على أن الزوجة أولى من رجال (3) المحارم: "لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا، لما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه" (4).
__________
(1) كذا. على معنى الجمع، أي: إذا وجدت النسوة.
(2) مزيدة من (ت 1)، (ل).
(3) في (ت 1): نساء، وهو سبق قلم واضح.
(4) سبق الكلام عن حديث عائشة أنفاً.

(3/15)


فصل
في تزيين الميت بالحَلْق، والقَلْم، وما يتعلق بذلك
652 - فنقول: في قَلْم أظفار الميت وحلق الشعور التي كان يؤمر ندباً بإزالتها من البدن، كشعر الإبط والعانة قولان: أحدهما - أنه يترك؛ فإنه ثبت لها حكم الموت، وهي من جملته، فتدفن عليه، وقد يكون في تعاطي بعض هذه الأمور، ما يناقض موجب التعظيم والاحترام.
والقول الثاني - أنها تُزال منه كما يُزيلها الحي من نفسه.
والشعر الذي كان يبقيه على نفسه في حياته تزيّناً بها كاللحية وغيرها، فلا شك أنها تبقى عليه، ومن هذا القسم لِمّتُه إن كان ذا لِمة، وهي بمثابة ذوائب المرأة.
فأما الشعر الذي كان يأخذه زينةً، لا أدباً شرعياً، كشعر الرأس إذا لم يكن ذا لِمة، فقد اختلف فيه الأئمة على طريقين: فمنهم من خرجه على القولين في القَلْم وحلق الشعور الباطنة، ومنهم من قطع بأن هذا الجنس لا يحلق؛ فإن حلقه زينة، ولا زبنة بعد الموت.
فصل
1653 - من مات مُحْرِماً يجب حتماً إدامةُ شعار الإحرام في بدنه، فلا يجوز أن يُقرَّب طيباَّ، ولا يخمّرَ رأسُه، إن كان رجلاً، ووجهها، إن كانت امرأة.
ولو ماتت المعتدّة التي كنا نأمرها بالإحداد، واجتناب الطيب في عِدتها، فهل نُقرِّبها طيباً؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا لا نقربها طيباً، كما لا نقرب المحرم؛ استدامةً لحكم الحياة.
والثاني - أنا نقربها طيباً بعد موتها؛ فإنا كنّا ننهاها عن استعمال الطيب، حتى لا تتزين للرجال، وتتحزَّن على زوجها المتوفى، وهذان المعنيان لا أثر لهما بعد الموت.

(3/16)


فصل
1654 - الكفار الحربيون لا حرمة لهم، إذا قتلوا أو ماتوا، تركناهم بالقاع، طعمةً للسباع، (1 فإن واريناهم 1)، فسببه أن يُغيَّبوا عن أبصار المسلمين، كما تُغيب الجيف.
1655 - فأما إذا مات فينا ذمِّي، على حرمة الذمّة، فإن لم يكن له ولي من أهل دينه، فلا يجب على المسلمين غُسله، وتحرم الصلاة عليه، قال الله تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ولو غسَّله مسلم لمكان ذمته وحرمته، فلا بأس.
وكان شيخي يقول: تكفينه ودفنه من فروض الكفايات على المسلمين، وليس ذلك كغسله، حتى يجوز تركه، أو كالصلاة حتى يحرم.
وفي كلام الصيدلاني ما يدل على أنه لا يجب تكفين الكافر (2) ودفنه، كما لا يجب غُسُله، فإنا إنما التزمنا الذب عنه في حياته، ثم ذكر هذا على العموم في الكفار.
وقال إن واريناهم، فلدفع أذيتهم وجيفهم، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر حتى قُلب قتلى بدر من الكفار، في القليب. وهذا الذي جاء به في أهل الحرب، وكلامه عام في كل كافر.
وعلى الجملة في وجوب دفن الذمي وتكفينه احتمالٌ ظاهر، كما قدمناه.
ومما يتعلق بالفصل أنه لو مات ذمي، وله قريب مسلم، وآخر كافر، فقريبه الكافر أولى بغُسله؛ فإنه أولى بموالاته وميراثه، وإن كان أبعد من القريب المسلم. وهذا واضح لا إشكال فيه.
فرع:
1656 - قال العراقيون: لو احترق مسلم ولو أمسسناه ماء، لتهرّأ، فلا نغسله والحالة هذه، بل نيممه، كما نُقيم التيمم مقام الغسل في حق المريض الحي. وهذا الذي ذكروه قياسُ طريقنا.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 1).
(2) المراد هنا الذمي.

(3/17)


ولو كان عليه جروح وقروح، وكنا نقدر أنه يتسرع البلى إليه، ويدخل الماء تجاويفه لو غسل، ولكن كان لا يتهرأ، فإنه يغسّل، ولا نبالي بتسارع الفساد إليه، فإن مصيره إلى البلى، والله أعلم وأحكم.
***

(3/18)


باب عدد الكفن وكيف الحنوط
1657 - تكفينُ المسلم فرضٌ، كما أن غُسلَه والصلاةَ عليه فرضٌ، ونحن نذكر الأقلَّ، الذي يُسقط فرضَ التكفين، ثم نذكر بعده الأكمل والأفضل، إن شاء الله عز وجل.
فالثوب الواحد، السابغ، الساتر لجميع بدن الميت لا بدَّ منه، فلو مات، وخلّف ديوناً مستغرقةً للتركة، فمؤنة تجهيزه مقدّمة، فلو قال الغرماء: لا نرضى أن يزاد في كفنه على ثوب واحدٍ، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه يكتفى به؛ فإنه ساتر، وإبراء ذمته من الديون أولى من الزيادة.
والوجه الثاني - أنه يكفن في ثلاثة أثواب، كما أنه إذا أفلس في حياته، فيترك عليه ثيابٌ تجمّله، من قميص ودرّاعة، وعمامةٍ تليق به، فيراعى هذا المسلك في أكفانه بعد وفاته.
1658 - ولو لم يخلِّف ديوناً، ولكن تنازع الورثةُ في أكفانه، وأرادوا الاقتصارَ على ثوب واحد، فالذي قطع به الأصحاب أنه لا يجوز لهم ذلك، بخلاف الغرماء.
وذكر صاحب التقريب أن من أئمتنا من ذكر وجهين في حقوق الورثة أيضاً، كالوجهين إذا نازع الغرماء. وهذا بعيد.
1659 - ومن لم يخلف شيئاً كُفِّن من بيت المال، ثم الذي قطع به الأئمة أنه يكتفى والحالة هذه بثوبٍ واحد سابغ، ولم يصر أحد إلى جواز الاقتصار على ما يستر العورة من الرجل، بل لا بد من ثوبٍ سابغٍ ساتر لجميع البدن.
وذكر صاحب التقريب وجهين في أنه هل يجب تكفينه من بيت المال في ثلاثة أثواب أم لا؟ وهذا حسنٌ، فإنا إذا كنا نذكر ذلك في حق الغرماء عند ضيق التركة، فليس يبعد ذلك في مال بيت المال، ثم قال صاحب التقريب: إن قلنا: لا يكفن من بيت

(3/19)


المال إلاّ في ثوبٍ واحد، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يكفن في ثلاثة أثوابٍ من بيت المال، فلو خلّف ثوباً واحداً سابغاً، فهل يُكتفى به على هذا الوجه، أم يستكمل الثلاث من بيت المال؟ فعلى وجهين ذكرهما. أحدهما - وهو الة جاس على ذلك أنا نكمل؛ فإنا نرى الثلاث حتماً على هذا الوجه الذي عليه التفريع، فتكميلها من بيت المال كابتدائها.
والثاني - لا يُكمل؛ فإن المتوفَّى إذا خلف ثوباً، فليس هو من أصحاب الضرورات في ذلك، ولا يُتعدّى ما خلفه إلى جهة بيت المال.
1660 - ثم استكمل صاحب التقريب بيانَ هذا الفصل على أحسن سياقَة.
فقال: أطلق الأئمة في الطرق أن أقل الكفن ثوبٌ واحد سابغ، ثم رددوا أجوبتهم في الثلاثة كما ذكرناه، وتحصيل القول في ذلك: أن الثوب الواحد السابغ تظهر فيه رعايةُ حق الله تعالى، ولا يجوز الاقتصار على ما يستر العورة، وإن كان يبدو من الميت شيء، لم يجز إلا إذا لم نجد سابغاً، فنضطر إلى الاكتفاء، وعليه يحمل ما روي "أن مصعب بنَ عمير، لما استشهد بأحد وكانت عليه نمرة (1) إذا ستر بها رأسه، بدت قدماه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُدرج فيها ويوضع على قدميه شيء من الإذخر" (2). وهذا محمول على أنه لم يوجد ما يستره ستراً سابغاً في ذلك الوقت، فأما تكفين الميت في ثلاثة أثواب في حق الغرماء، والورثة، وفي حق بيت المال، فهو مما يتعلق برعاية حق المتوفى في نفسه، كما ذكرناه في ثيابه التي تُبَقَّى عليه، إذا أفلس، وأحاطت به الديون.
ثم حقق هذا بأن قال: لو أوصى الميت بألا يكفن إلا في ثوب واحد، كَفَى الثوبُ الواحد السابغ؛ فإنه بوصيته رضي بإسقاط حقه.
ولو قال: رضيت بأن تقتصروا على ما يستر عورتي، فلا أثر لوصيته في ذلك، ويجب تكفينه في ثوب سابغ ساترٍ لجميع بدنه.
__________
(1) في هامش الأصل: "النمرة كساءٌ ملوّن" (وأضاف المعجم) به خطوط بيض وسود.
(2) حديث: "كفن مصعب" متفق عليه، من حديث خباب، رضي الله عنه. (اللؤلؤ والمرجان: بابٌ في كفن الميت 1/ 190 ح 547).

(3/20)


وهذا الذي ذكره في نهاية الحسن، واحتج بما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: "إذا مت، فكفنوني في ثوبي الخَلَق؛ فإن الحيَّ أولى بالجديد" (1) فنفذت وصيته.
فهذا منتهى القول في أقل الأكفان في تفاصيل الأحوال
1661 - فأما القول في الأكمل، فالرجل يكفن في ثلاثة أثواب، ولا ينبغي أن يزاد على هذا القدر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تغالوا في الأكفان؛ فإنها تسلب سلباً سريعاً" (2).
1662 - ثم الوجه أن نذكر ما تكفن المرأة فيه أولاً، ثم نذكر كفن الرجال.
قال الشيخ أبو علي: يجوز أن يزاد عدد أكفان المرأة على الثلاثة، عند أئمتنا، فإنها تُعنى بمزيّةٍ في الستر حيّةً وميتة، ثم يسوغ الاقتصار على الثلاثة، وإن زيد على الثلاثة، فينبغي أن تبلغ خمسة طلباً للإيتار، وليست الخمسةُ وإن أحببناها في حقها بمثابة الثلاثة في حق الرجل، حتى نقول تُجبَر الورثةُ عليه، كما تجبر على الثلاثة.
وهذا متفق عليه.
ثم إذا كانت تكفن في خمسة، فليكن أحدها إزاراً، والثاني خماراً، وهل يستحب أن تُقَمصَ؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا لا نستحب ذلك، وهو الجديد.
والثاني - أنها تُقَمَّصُ؛ فإن ذلك أستر لها، ثم ذكر الشافعي: أنه تُشد عليها أكفانها بشداد، واختلف أئمتنا في أن هذا الشداد من جملة الخمسة، أو هو سادس. فإن قلنا: هو [سادس] (3) [فهو شدادٌ] (4) وراء الأكفان، ثُمّ يُحَلّ في القبر، وينحَّى،
__________
(1) خبر وصية أبي بكر أن يكفن في ثوبه الخَلَق. قال الحافظ رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، وليس فيه ما يشهد بأنه يكفن في ثوب واحد، بل فيه، "وزيدوا على ثوبي هذا ثوبين" (ر. البخاري: الجنائز، باب موت يوم الإثنين، ح 1387، التلخيص: 2/ 143، ملحق بالحديث رقم 807، في آخر الكلام).
(2) رواه أبو داود من حديث علي بن أبي طالب. (ر. أبو داود: الجنائز، باب كراهية المغالاة في الأكفان، ح 3154، والتلخيص: 2/ 109 ح 747).
(3) في الأصل و (ط): شداد والمثبت من (ت 1). وعبارة (ل): فإن جعلته سادساً، فهو شداد ...
(4) زيادة من (ت 1).

(3/21)


ويُخرَج، ولا يُترك عليها إلا خمسة. ومن قال هو من الخمسة تركه عليها؛ فإنه من الأكفان.
وفي بعض التصانيف وجهان في الشداد إذا كنا نتركه عليها: أحدهما - وهو مذهب أبي إسحاق أنا نشد به وسطها، دون الرَّيْطة (1) الثالثة.
والثاني - وهو اختيار ابن سُريج أنه يكون وراء اللفائف حتى يجمعها، ويعصبها، وإن كنا نزيل الشداد، فلا شك أنه يشدّ فوق اللفائف.
1663 - ولا بد الآن من نظم القول.
فإن قلنا: لا تُقمَّص، فليس الشداد من الخمسة، فإزار، وخمار، وثلاث لفائف. وإن قلنا: الشداد من الخمسة، ولا قميص، فإزار، وخمار، ولفافتان، وشداد. وإن قلنا: تُقمّص، والشداد من الخمسة، فإزار، وخمار، وقميص، ولفافة واحدة، وشداد. وإن لم نعدّ الشداد، فلفافتان، ولا مزيد على الخمسة؛ فإنه سرف، ومغالاة، وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
1664 - وأما الرجل، فلم يختلف العلماء في أنه لا يستحب أن يلبَس قميصاً. ولو كفّن في أكثرَ من ثلاثة، فبلغ عدد أكفانه خمسة، جاز. ولم يكن منتهياً إلى حد السرف. نقله الصيدلاني عن نص الشافعي. والأوْلى الاقتصار على الثلاث. وروي عن عائشة أنها قالت: "كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض، سحُولية، ليس فيها قميص عمامة" (2) ثم إن كان تبلغ أكفانه خمسة، فأحدها قميص، والثاني عمامة، وثلاث لفائف.
فانتظم مما ذكرناه استحبابُ الخمسة في المرأة، وجواز تبليغ أكفان الرجل خمسة. ولا ينبغي أن يقمّص الرجل إذا كان عدد الأكفان ثلاثة، وهل تقمص المرأة إذا كان عدد الأكفان خمسة؟ فيه القولان المذكوران.
__________
(1) الريطة تُجمع على رياط، وهي كل ثوب لين رقيق، أو الملاءة، وهنا بمعنى الثوب عامة. (المصباح).
(2) حديث عائشة، متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: كتاب الجنائز، بابٌ في كفن الميت، ح 548).

(3/22)


وإن [كانت] (1) تكفن في ثلاثة أثواب، فينبغي أن تكون رياطاً سابغةً، وإنما ذكر الشافعي القولين في استحباب القميص إذا كانت تكفن في خمسة أثواب، والسبب فيه أن الإزار والخمار -إذا كانت تكفن في خمسةٍ- أولى من القميص، وإذا كانت تكفن في ثلاثة، فإزار، وخمار، [وقميص] (2)، وإذا لم تكن فوق الثياب لفافة، سابغة، فيكون ذلك خارجاً عن الوجه المختار.
ثم ما ذكرناه كلامٌ في الأوْلى، وإلا فلو ستر الميت بقميصٍ سابغٍ، فهو ستر تام، ويبقى الكلام في الثاني، والثالث.
ثم ذكر الشيخ أبو علي في الأثواب الثلاثة التي يكفن فيها الرجل خلافاً بين أصحابنا، فقال: منهم من قال: ينبغي أن تكون كلها سوابغ، ومنهم من قال: السابغة الريطةُ العليا البادية، فأما الريطتان الأخريان، فقاصرتان: الأولى - على حدِّ مئزر، يستر من السرة إلى الركبة، والثانية - من الصدر أو فويقه إلى نصف الساق، والثالثة وهي العليا، فتكون سابغة، يفضل منها شيء من جهة الرأس وشيء من جهة القدم، ويكون الفضل الأكثر من جهة الرأس.
1665 - ثم ذكر الأئمة كيفية إدراج الميت في أكفانه، فنسوق ما ذكروه على وجهه: فينبغي أن تفرش الريطةُ العالية في موضعٍ نقي، وتذرّ عليها الحنوط، وتبسط عليه الثانية، ويذر عليها الحنوط، ثم تبسط الثالثة، التي تلي بدنَ الميت ويذرّ عليها شيء صالح من الحنوط، ثم يعدّ مقدار صالح من القطن الحليج ويُعمد إلى شيءٍ، فيلفّ على قدر موزه ويعمِد بها إليتيه (3)، قال الشافعي ويبالغ في ذلك، فظن المزني أنه أراد أن يجاوز بها حدَّ الظاهر، وليس الأمر كذلك، بل أراد بالمبالغة أن يدس بين الإليتين، ويُفضي بها إلى الموضع، ويُبسطُ عليها مقدار عريض من القطن، ثم يشد
__________
(1) في النسخ الثلاث: "كان" وهي صحيحة، ولكننا أثبتنا ما جاءت به (ل) لما فيه من مزيد الإيضاح، ومنع اللبس.
(2) مزيدة من (ت 1)، (ل).
(3) في (ل): الميت.

(3/23)


وراء التُّبَّان (1) ويستوثق منه في الشد حتى إن [حرك] (2) أو زعزع، أمن خروج خارج منه، ثم يعمد إلى منافذه كالعين والأنف والفم والأذن، ويلصق بكل موضع قطنةً، عليها كافور، ليكون مدرأة للهوام.
1666 - ثم أحب الثياب البيض، وقد تواترت الأخبار في الاستحثاث عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحبُّ الثياب إلى الله البيض يلبسها أحياؤكم، ويكفن فيها موتاكم" (3) وكفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابٍ بيض، ثم رأى الشافعي تجميرَ الأكفان بالعود، واختاره على المسك لما صح عنده من كراهية ابن عمر لاستعمال المسك في الكفن، فآثر الخروج عن خلافه.
1667 - ثم يجوز تكفين المرأة في الحرير، كما كان يجوز لها لبسه في حياتها، ويمتنع ذلك في الرجال، كما حرم عليهم لبسه في الحياة، ولا يؤثر للنساء أيضاً التكفين في غير القطن والكتان؛ فإنه سرف، وقد ذكرنا أن السرف منهي عنه في الأكفان، وإن فرض نزاع في جنس الكفن، رددنا الأمر إلى ما يتعلق بمرتبة كل شخص، كما نفعل ذلك في حالة الحياة، مع اجتناب الرجال الحرير.
1668 - ثم ذكر العراقيون وجهين في أنه هل يجب استعمال الحَنوط (4)، أم هو مستحب؟ فمنهم من أجراه مجرى الثوب الثاني والثالث، كما قد تقدم شرح المذهب فيها. ومنهم من قال: لا يجب استعماله، وهو الذي يجب القطع به.
__________
(1) التبان: مثل سروالٍ قصير، بقدر ما يستر العورة المغلظة. (المعجم، والمختار، والمصباح).
(2) في الأصل، (ط)، (ت 1): جرّد. والمثبت من (ل).
(3) حديث: "أحب الثياب إلى الله البيض ... " بمعناه أخرجه أبو داود، وابن ماجة، والترمذي، والشافعي، وأحمد، وابن حبان، والبيهقي، كلهم من حديث ابن عباس.
وصححه الألباني (ر. أبو داود: 4/ 209، كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل، ح 3878، الترمذي: الجنائز، باب ما يستحب من الأكفان، ح 994 وابن ماجة: في اللباس، باب البياض من الثياب، ح 3566، والصحيح: ح 2869، والتلخيص: 2/ 69 ح 661).
(4) الحَنوط، والحِناط: مثل رسول وكتاب طيب يخلط للميت خاصة (المصباح).

(3/24)


ثم إذا هيئت الأكفان، وضع الميت على وسطها مستلقياً، ثم يعمد إلى الضِّفَّة التي تلي اليمين، وتلوى على اليسار، ويجمع الفاضل من جهة الرأس، فيثنى على وجهه، ويجمع ما انفصل من القدم ويثنى على الساق.
فرع:
1669 - إذا ماتت الزوجة، فهل يجب على الزوج مؤنة تكفينها وتجهيزها؟ فعلى وجهين مشهورين، أحدهما - لا يجب؛ فإن النكاح قد انتهى نهايته، فتزول المؤن بانتهائها.
والثاني - يجب؛ فإن النكاح وإن انتهى، فإنه يعقب تبعاتٍ كالميراث، والعدة، وجواز الغسل، وإذا مات ابن الرجل، أو أبوه فقيراً، وكان بحيث يستحق النفقةَ في حياته، على الذي بقي حياً، فيجب تكفينه، وتجهيزه وجهاً واحداً؛ فإن السبب الذي كان يستحق به النفقة في حياته القرابة المخصوصة، وهي باقية، وليست كالزوجيَّة التي انتهت بالموت.
فصل
1670 - كان الترتيب (1) يقتضي أن نذكر بعد الغُسل والتكفين، الصلاةَ، وحملَ الجنازة، ثم الدفن، وقد نقل المزني فصولاً في الدفن الآن، فنجري على ترتيبه فيها، ونستعين بالله تعالى.
1671 - فالدفن من فرائض الكفايات كالغُسل والتكفين والصلاة، ثم القبر يشق ويلحد، واللحد أولى عندنا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشق لغيرنا واللحد لنا" (2) ولما أراد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
__________
(1) يشير الإمام إلى أن هذا ليس هو الترتيب المرضي، ولكنه يسير عليه تبعاً لما التزمه من ترتيب (السواد): أي مختصر المزني.
(2) حديث: "اللحد لنا ... " رواه أحمد، وأصحاب السنن عن ابن عباس، وابن ماجة، وأحمد، والبزار من حديث جرير، وصححه الألباني (ر. أبو داود: 4/ 544، الجنائز، باب في اللحد (65) ح 3208، وابن ماجة: في الجنائز، باب في استحباب اللحد، ح 1554، 1555، وصحيح ابن ماجة: 1/ 259 ح 1261، 1262، والنسائي: في =

(3/25)


يدفنوه "أرسلوا وراء شاقٍّ ولاحدٍ، وكانوا يقولون: اللهم اختر لنبيك، فأقبل أبو طلحة اللاحد، فلحد قبرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1).
ثم يكون الميت في قبره على جنبه الأيمن في قبالة القبلة، وذلك حتم، فإن كان لحداً قُرّب إلى القبلة وألصق بمنتهى اللحد، وأضجع إضجاعاً لا ينكب على وجهه، واستوثق من وراء ظهره بلبنة حتى لا يستلقي، وحسن أن يترك تحت رأسه لبنة، ولو أفضى بوجهه إليها، أو إلى تراب قبره حتى يكون على صورة مستكين لربه، كان حسناً، ولا ينبغي أن يوضع على مخدة، أو مُضرَّبة (2)، وتنضد اللبن على فتح اللحد، وتسد الفُرج بما يمنع [انهيار] (3) التراب فيه.
ثم في الآثار: "أن يَحثي (4) كلُّ من دنا حثيات من التراب" (5)، ثم يهال التراب بالمساحي، ويرفع نعش (6) القبر بمقدار شبر، ولا يبالغ في رفعه أكثر من هذا أو قريباً منه، ولا يُجصَّص، ولا يُطيَّن ولو صب [عليه الحصباء] (7) كان حسناً، وقد فعله
__________
= الجنائز، باب اللحد والشق، ح 2011، والترمذي: في الجنائز، باب ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا والشق لغيرنا" ح 1045. والتلخيص: 2/ 127 ح 781).
(1) خبر أنهم أرسلوا وراء شاق ولاحدٍ ... رواه أحمد وابن ماجة من حديث أنس، وإسناده حسن. قاله الحافظ، وقال الألباني حسن صحيح، ورواه ابن ماجة أيضاً من حديث عائشة وحسنه الألباني. (ر. ابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في استحباب اللحد، ح 1557، 1558، والصحيح: 1/ 259، 260 ح 1264، 1265، والتلخيص: 2/ 127 ح 782).
(2) المُضرَّبة، كل ما أكثر تضريبه بالخياطة، وكساء، أو غطاء، كاللحاف، ذو طاقين مخيطين
خياطة كثيرة، بينهما قطن ونحوه. (معجم).
(3) في الأصل، (ط): انهباب. والمثبت من (ت 1) وأكدتها (ل).
(4) "يحثي" بالياء، والفعل واوي، ويائي (المصباح).
(5) روى البزار والدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم، حثى على قبر عثمان بن مظعون ثلاث حثيات من التراب، وهو قائم عند رأسه، ورواه الشافعي، وأبو داود في المراسيل، وذكر الحافظ أكثر من أثرٍ في حثي التراب، وكذا الدارقطني (ر. التلخيص: 2/ 131 ح 788، والدراقطني: 2/ 76، باب حثي التراب على الميت).
(6) النعش: ما يحمل عليه الميت، هذا هو المنصوص عليه في المعاجم، ولكن الإمام يستخدمه هنا بمعنى سطح القبر، ولم أر ذلك فيما بين يدي من معاجم.
(7) زيادة من (ت 1)، (ل).

(3/26)


رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبر إبراهيم عليه السلام.
1672 - ولو وضع واضع حجراً كبيراً عند رأس القبر، ليُعْلَمَ، ويقصَد للزيارة، فلا بأس به.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه أن يأتيه بحجر أشار إليه، ليضعه على رأس قبر عثمان بن مظعون فأعياه الحجر، فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، وحسر عن ذراعيه، واحتضن الحجر وشاله، ووضعه على رأس قبره، فقال: "حتى أعرف قبرَ أخي وأدفن إليه من مات من أهلي" (1).
1673 - ثم الأوْلى عند الشافعي تسطيح القبور، وهو أفضل من تسنيمها، وقد صح عنده أن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبرَ صاحبيه مسطحة (2)، وسطح رسول الله صلى الله عليه وسلم قبرَ إبراهيم (3).
ومالك (4) يرى التسنيم.
وقال ابن أبي هريرة من أصحابنا: إذا عمَّ في بعض البقاع من عادات الروافض
__________
(1) حديث: "وضع الحجر على قبر عثمان بن مظعون ... " رواه أبو داود، على نحو ما ساقه إمام الحرمين، بنفس ألفاظه تقريباً. وخرجه ابن ماجة أيضاً وابن عدي، وصححه الألباني.
(ر. أبو داود: الجنائز، باب في جمع الموتى في قبر، والقبر يعلم، ح 3206، وابن ماجة: باب ما جاء في العلامة في القبر، ح 1561، وصحيح ابن ماجة: 1/ 260 ح 1267، والتلخيص: 2/ 133 ح 794).
(2) حديث تسطيح قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، رواه أبو داود والحاكم، عن القاسم بن محمد، وروى البخاري من حديث سفيان التمار أنه رأى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسنما، قال البيهقي: يمكن الجمع بينهما، أنها كانت مسطحة أولاً، ثم لما سقط الجدار وأصلح في زمن الوليد بن عبد الملك سنمت. (ر. أبو داود: الجنائز، باب في تسوية القبر، ح 3220، والحاكم: 1/ 369، 370، والبخاري: الجنائز، باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم، بعد ح 1390، والتلخيص: 2/ 132 ح 790).
(3) ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم رش على قبر إبراهيم الماء، ووضع عليه الحصباء، فاستدلّ الشافعي بهذا، على أن القبر كان مسطحاً، قائلاً الحصباء لا تثبت إلا على مسطح. (ر. التلخيص: 2/ 33، 134 - ح 793).
(4) ر. حاشية الدسوقي: 1/ 418، الشرح الصغير: 1/ 560.

(3/27)


التسطيح، فعند ذلك التسنيم عندنا أفضل، مخالفة لعاداتهم.
1674 - وحكى العراقيون عن ابن أبي هريرة في مساق الكلام أنه إذا صار الجهر بالتسمية شعاراً لهم، رأيت الإسرار بها مخالفةً لهم. وهذا بعيد جداً، ولا ينبغي أن يرتكب الإنسان تركَ ما صح وثبت، لهذا المعنى، ثم إن احتمل هذا في هيئة قبر، فطرده في سُنَّة من سنن الصلاة بعيد لا أصل له.
قال شيخي أبو محمد: حكى بعض الأصحاب أن الشافعي قال: إن ظهر في ناحية كون القنوت في الصلاة شعاراً ظاهراً لهم تركتُ القنوتَ مخالفةً لهم. ثم قال: وهذا النقل مزيف، والشافعي أعلى من أن يدعو إلى ترك بعضٍ من أبعاض الصلاة بسبب إقامة المبتدعة له، والقول بذلك يرقى إلى التزام أمور لا سبيل إلى التزامها. ومهما اطردت عصابة أهل الحق على السُّنَن، لم يَبِن (1) اختصاص آخرين بها، حتى ينتهي الأمر إلى عدها من شعارهم.
وقيل: الأصل في ذلك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم إذا بدت جنازة، فأخبر أن اليهود تفعل ذلك، فترك رسول الله صلى الله عليه وسلم القيامَ ولم يقم" (2)، وهذا قريب؛ فإنه لم يكن القيام أمراً مقصوداً، ولا سنة في عبادة.
وأجرى بعض الأئمة التختم في اليسار هذا المجرى، واعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في اليمين، ولكن اشتهر هذا بأهل البدع، وصار شعارهم، فرأينا مخالفتهم، والأمر في هذا قريب أيضاً، ولكن أخبرني من أثق به من أئمة الحديث أن الذي ظهر وصح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم التختُّمُ في اليسار.
__________
(1) في (ت 1) "لم يبق".
(2) حديث ترك القيام للجنازة، رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، من حديث عبادة بن الصامت. وحسنه الألباني (ر. أبو داود: الجنائز، باب القيام للجنازة، ح 3176، وصحيح أبي داود: 2/ 611 ح 2719، والترمذي: الجنائز، باب ما جاء في الجلوس قبل أن توضع، ح 1020، والنسائي: الجنائز، باب الرخصة في ترك القيام، ح 1924، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في القيام للجنازة، ح 1544 بنحوه، وبمعناه أيضاً عند مسلم: باب نسخ القيام للجنازة، ح 962، والتلخيص: 2/ 112، 134 ح 751).

(3/28)


1675 - ومما ذكره الأئمة أنه لا ينبغي أن يدخل اثنان في قبرٍ إلا عند موَتان (1) والعياذ بالله، فإذا كثر الموتى أو ضاق المكان، فلا بأس بذلك، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "احفروا وأوسعوا، واجعلوا الرجلين والثلاثة في قبر" (2)، ثم ينبغي أن يقدم الأفضل إلى جدار اللحد مما يلي القبلة، ثم يليه مَنْ يليه في الفضل، وإذا جمعنا بين أم وبنت، قدمت الأم على البنت. قال الصيدلاني: الأم والابن إذا جمعا عند حاجة قدم الإبن لمكان الذكورة، ولا وجه في هيئة الوضع غيره. ومنع الأئمة الجمع بين النسوة والرجال ما بقي في الامتناع منه اختيار، فإن ظهرت الحاجة، فإذ ذاك.
ثم قال الشافعي: ينبغي أن يجعل بين الرجل والمرأة حاجزٌ من تراب.
1676 - والمقدار الذي يلحق بما يجب في الباب الدفن في حفرة يعسرُ على السباع في غالب الأمر نبشها، والتوصل إلى الميت فيها، وإذا كان كذلك، فلا يقتصر على أدنى احتفار. ومما يُرعَى أن تكتم روائحُ الميت، فهذان المعنيان يجب رعايتهما.
وقد قيل: الأوْلى أن يكون عمق القبر بمقدار بسطة، وهي قامة رجل وسط.
1677 - ثم يُكره للرجل أن يجلس على قبر، أو يتخذه متكأ، وكذلك يكره أن يتوطأ (3) الماشي في مشيه شفير قبر، ولا يجوز البناء في المقابر على قبرٍ، فإن موضع البناء يشغل مواقع القبور، التي تقدر في تلك الأماكن، فإن لم يكن في مقبرة مشتركة، فلا بأس بالبناء.
__________
(1) الموتان عكس الحيوان. أي الحياة، والمراد هنا كثرة الموت بالوباء ونحوه، قال الزمخشري: يقال: وقع في الناس: (موتان) بفتح الميم وضمها (أساس البلاغة، والمعجم).
(2) حديث: "احفروا، وأوسعوا، وأعمقوا" رواه أحمد، وأصحاب السنن الأربعة، من حديث هشام بن عامر، وصححه الألباني. (ر. أبو داود: الجنائز، باب في تعميق القبر، ح 3215، وصحيح أبي داود: 2/ 19 ح 2754، والترمذي: كتاب الجهاد، باب ما جاء في دفن الشهيد، ح 1713، والنسائي: كتاب الجنائز، باب ما يستحب من توسيع القبر، ح 2013، وابن ماجة: كتاب الجنائز، باب ما جاء في حفر القبر، ح 1560 والتلخيص: 2/ 127 ح 780).
(3) توطّأ الرجل الشيء برجله: داسه. (المعجم).

(3/29)


1678 - ثم إذا قُبر المسلم في موضع، فلا ينبش موضعه ومضجعه ما بقي منه أثر، وإذا علم أن الأرض أكلته ومحقت أثره بالكلية، فيقبر في ذلك الموضع غيره، ولا يجوز والحالة هذه أن يمنع منه مع مسيس الحاجة، والأولى (1) في حكم نزيلٍ في منزلٍ من موضع مسبَّل على السابلة، فإن غيره من النازلين يحلّون حيث حل.
1679 - ثم ذكر الأئمة صوراً فيها خلاف ووفاق في نبش القبور جوازاً ومنعاً، فالمشهور أنه إذا كان تُرك غُسل الميت، ودفن حيث كان يجب غُسله، يُنبش ويغسَّل ويعاد، وذلك واجب إذا لم يتخلل من الزمان، ما [يتخيل] (2) في مثله تغير الميت، وحكى صاحب التقريب ذلك، وحكى قولاً آخر أنه يكره نبشه لأجل تدارك الغُسل.
وهذا غير مرضي، والمذهب وجوب النبش (3 في الحالة التي ذكرناها، لإقامة الغُسل، ثم اللفظ الذي نقله في القول الغريب مقتضاه جواز النبش، مع الكراهية، وليس معناه تحريم النبش، فهذا حكم النبش لأجل الغسل، والأصل فيه وجوب تدارك الغسل.
1680 - ولو دفن، ولم يصلَّ عليه، فلا يجوز النبش لأجل الصلاة، بل يصلى على القبر؛ فإن ذلك سائغ كما سيأتي ذكره.
1681 - ولو لم يكفن ووُوري ففي وجوب النبش 3) ليكفن وجهان مشهوران: أحدهما - المنع من ذلك؛ فإن القبر قد واراه وستره، فليقع الاكتفاء به إذا وقع؛ فإن النبش هتكه، ولا شك أن النبش حرام [لغرض] (4) في نقلٍ يراه [الناس] (5).
ومما يجب التنبيه له أنا وإن كنا نجوّز الصلاة على القبر، ونقول إذا قُبر من غير
__________
(1) "الأولى": التأنيث على معنى الجنازة أو الجثة.
(2) في الأصل، (ط)، (ت 1): يتخلل. والمثبت تقديرٌ منا، والحمد لله صدّقته (ل).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(4) في النسخ الثلاث: يعرض. والمثبت اختيارٌ من المحقق، ِ وفضلاً من الله ونعمة جاءت به (ل).
(5) في الأصل، (ط)، (ت 1): النابش. والمثبت من (ل).

(3/30)


صلاة، فلا ينبش ليصلَّى عليه، ولكن يحرم أن يُفعل ذلك قصداً بل يجب أن يصلى عليه قبل الدفن -وإن كانت الصلاة لا تمتنع بالدفن- فإن في مخالفة ذلك تركَ الشعار العظيم، الظاهر في فرض الكفاية، وفيه إهانةُ الميت فحرم.
1682 - ولو قُبر الميت في أرضٍ مغصوبة، فطلب مالكها إخراجَه، تعيَّن إخراجُه.
ولو كفن في ثياب مغصوبة، ودفن، فقد اختلف أئمتنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه يتعيّن النبشُ وردّ الثياب إلى مالكها، كما يجب ذلك بسبب تَخْلِية الأرض المغصوبة وردها، وقال قائلون: لا نفعل ذلك، ولا نجوزه، ونغرَم لمالك الثياب قيمتَها.
ثم يتطرق إلى الأرض المغصوبة والكفن المغصوب نوعان من الكلام: أحدها - أنه لو دفن في أرضٍ مغصوبة، وتغير، وكان إخراجه هتكَ حرمةٍ، فالذي أشار إليه الأئمة أنه يخرج مهما (1) طلب المالك، واحتُمل ذلك؛ فإن حرمة الحي أولى بالمراعاة.
ويجوز أن يظن ظان تَرْكَه؛ فإنا قد نقول: لو غصب غاصب خيطاً، وخاط به جرحاً، فلا يسلّ الخيط، إذا كان يؤدّي إلى إضرارٍ، وفي القواعد -على ما سنصف- تنزيلُ حرمة الميت منزلةَ حرمة الحي، فيما هذا سبيله، سيّما والأمر في ذلك قريب؛ فإنه سيبلى في زمان ينمحق أثره، والدليل عليه أن مبنى العاريّة على جواز الرجوع فيها، ثم من أعار بقعةً حتى دُفن فيها ميت، ثم أراد الرجوع في العارية، لم يكن ذلك له، وكان هذا من العواري اللازمة، فهكذا في الدفن في الأرض المغصوبة.
وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً في الكفن المغصوب، فقالوا: إن تغير الميت، وكان يؤدي النبش إلى هتك حرمته، فلا يردُّ.
وكان شيخي لا يرى هذا التفصيل، ويقول: لو بلع لؤلؤةً، ومات، فقد يشق بطنه لردها، ولا [مزيد] (2) على هذا في الهتك، ولكنا نحتمله لرد الحق إلى مستحقه. والله أعلم.
__________
(1) "مهما" بمعنى إذا.
(2) في النسخ الثلاث: يزيد، والمثبت تقديرٌ منا. وقد صدقته (ل).

(3/31)


وأما إذا كفن في ثياب مغصوبة، فمن قال: لا نجوِّز النبش، ونغرَم له القيمة، فلو عسرت القيمة في الحال، ففي ذلك احتمال ظاهر في جواز النبش، ويتصل الكلام فيه بأنا إذا كنا لا نجد ثياباً غيرها، ولو رددناها، لعرى الميت، فكيف الكلام في ذلك؟ وسأذكر في هذا بعد ذلك بياناً شافياً، إن شاء الله تعالى.
1683 - ومما ذكره الأئمة متصلاً بهذه الفصول المنتشرة أنه ورد في الحديث: "من صلى على ميت وانصرف، فله قيراطٌ من الأجر، ومن اتبع الجنازة، وشهد المرقد، حتى دفن الميت، فله قيراطان" (1). فإن صبر على القبر حتى رُدّ التراب كله، فقد حاز القيراط الثاني من الأجر، وإن نُضد اللبن، ولم يُهل التراب بعدُ، أو لم يستكمل، فقد تردد فيه بعض أئمتنا، والوجه أَن يقال: إذا ووري حصلت الحيازة.
فصل
في السقط وغسلِه، وتكفينه، والصلاة عليه
1684 - أجمع ترتيب فيه ما ذكره الشيخ أبو علي، وصاحب التقريب، فنطرد ما ذكره الشيخ، ونذكر بعد نجازه عبارةً لصاحب التقريب توهم خلافاً في قضية واحدة.
فإذا أسقطت المرأة مُضغة لا تُثبت لها حكمَ استيلاب، ووجوبَ غُرة (2)، [فلا] (3) غُسلَ، ولا تكفينَ، ولا صلاة، ولا يجب الدفن، والأوْلى أن يوارى.
1685 - وإن بدا أثر التخليق فيه، لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يطرِف، أو يصرخ ويستهلَّ، أو يأتي سوى ما ذكرناه بما يدل على الحياة قطعاً، ثم يموت،
__________
(1) حديث: "من صلى على ميت". متفق عليه من حديث أبي هريرة، وعائشة. (ر. اللؤلؤ: 1/ 162 ح 551، 552).
(2) في (ت 1): عدّة.
(3) في الأصل، (ط)، (ت 1): ولا. والمثبت من (ل).

(3/32)


فحكمه حكم سائر الموتى، فيجب غُسلُه، وتكفينُه، ويرعى في كفنه ما يرعى في كفن غيره، ويجب الصلاةُ عليه، ودفنُه وهو كسائر الموتى قطعاً.
والحالة الثانية - أن يبدوَ عليه التخليقُ، ولا يظهر بعد الانفصال شيء من علامات الحياة، ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يجب غسله والصلاةُ عليه؛ رعايةً لحرمة حقه.
والثاني - لا يجب غُسلُه، ولا الصلاةُ عليه؛ لأنه لم يثبت له موت بعد الحياة.
والثالث - أنه يجب غُسلُه، ولا يجب الصلاةُ عليه.
[ثم] (1) إن أوجبنا الصلاة، فالكفن التام، واجب كما مضى. وإن لم نوجب الصلاةَ، فيجب دفنه، وفاقاً، والخرقة التي تواريه لفافة تكفيه؛ فالدفن إذاً يجب قولاً واحداً، وكذلك يجب مواراتُه بثوب، وفي غسله والصلاة عليه الأقوال، ثم تمام الكفن يتبع وجوبَ الصلاة.
والحالة الثالثة - أن ينفصلَ، ويختلجَ، ويتحرك قليلاً ويجمد، قال (2): لا نصَّ في ذلك، ولكن من أصحابنا من ألحقه بالذي صرخ واستهل ومنهم من ألحقه بمن لا يظهر عليه شيء من علامات الحياة، حتى تجري الأقوال الثلاثة، وما (3) يتصل بها.
1686 - والذي ذكره صاحب التقريب [لم] (4) يغادر فيه من معنى ما ذكره الشيخ شيئاً، غيرَ أنه قال: إن لم يبلغ مبلغاً يُتوقع نفخ الروح فيه، فلا حكم له، وإن بلغ مبلغاً يقدّر نفخ الروح فيه، فإن تحقق عَلم، فكسائر الموتى، وإن لم يظهر عَلَم بعد الانفصال، ففيه الأقوال الثلاثة.
ويجوز أن يقال: اختلفت العبارة بين الشيخ وبين صاحب التقريب، بأنه إذا بدا
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، فيما نقدّر. والله أعلم. وقد صدقتنا (ل) بحمد الله وفضله.
(2) (قال) أي الشيخ أبو علي.
(3) عبارة (ل): وما يتصل بهذا الذي ذكره صاحب التقريب.
(4) في الأصل، (ط). ثم.

(3/33)


التخليق، فقد دخل أوانُ توقُّع جريان الروح [وإن] (1) لم يبد بعدُ تخليقٌ، فلم يدخل أوان توقع ذلك. وقد يظن ظان أن أوائل التخليق قد يجري [بينه] (2) وبين جريان الروح زمانٌ [بعيدٌ] (3)، فإن ظننا (4) ذلك، افترق الطريقان في هذا التفصيل.
وفيما ذكره صاحب التقريب فقهٌ، يليق بالباب؛ فإن هذا الذي نحن فيه من أحكام الموتى، وهم الذين كانوا أحياءً فماتوا، ثم تحققه (5) يوجب الأحكامَ التي ذكرناها، وفي توقعه تردُّدُ الأقوال.
1687 - ومما يتصل بتمام البيان في ذلك، أنا ذكرنا في الكتب أن المرأة إذا ألقت لحمَ ولدٍ، ولم يبد فيه التخطيط، فهل يتعلق به أميّة الولد، ولزوم الغرّة، وانقضاء العدة؟ فيه طرق ونصوص، فإن قلنا: يثبت بهذا حكم أمية الأولاد، فكيف يكون حكمه فيما نحن فيه؟ فأما صاحب التقريب، فيقطع بأن هذه الأحكام لا تثبت؛ إذ لا تتوقع الحياة قطعاً، وهو المعتبر عنده.
وأما الشيخ، فيلزمه أن يخرّج ذلك على الطرق في (6) إثبات أحكام الأولاد له، وهذا إلزام. والذي قاله رعاية التخليق، كما مضى، ولكن يبعد عندي في كل طريق أن تثبت أمية الولد، ثم لا نوجب دفنَه ولفَّه في خرقة. هذا المقدار يجب أن يُنظَر فيه. والله أعلم.
...
__________
(1) مزيدة من: (ت 1). وعبارة (ل): وإن يبدُ.
(2) في الأصل، و (ط): وبينه.
(3) في الأصل، (ط)، (ت 1): بعدُ.
(4) في (ل): "فإن قلنا ذلك".
(5) "تحققه" أي تحقق الحياة ثم الموت.
(6) في الأصل، و (ط): "وفي" بزيادة الواو.

(3/34)


باب الشهيد
1688 - من قتل من المسلمين في معترك الشرك، فهو شهيد، وسنذكر حكمه بعد ذكر الشهداء.
فلو رجع إلى الغازي سلاحُه، فهلك، أو أصابه سلاحُ مسلم في الحرب خطأ، فهو شهيد، وفاقاً بين الأصحاب. وكذلك لو وطئه دوابُّ المسلمين فمات، فهو كما لو أصابه سلاحُهم خطأ.
ولو قُتل صبيٌ، فهو شهيد، وكذلك المرأة.
1689 - ولو انجلى القتال، وهو في مصرع برمق، وكانت فيه حياة مستقرة، لكن كان يموت مما به لا محالة، ثم مات من الجرح الذي أصابه، فهذا هو الذي يسمى المُرْتَب (1)، وفيه قولان مشهوران. ولا بد من تفصيل محل القولين.
فإن انجلى القتال وهو حيّ، وكان لا تُرجى حياتُه ومات قريباً، ففيه قولان. وإن انجلى الحرب وهو على حركة المذبوح، فهو شهيد بلا خلاف.
وإن كان يُقطع بهلاكه لما به، ولكن بقي أياماً يتصرف، فطريقان: إحداهما - القولان، والأخرى - القطعُ بأنه ليس بشهيد.
ولو انجلى الحرب، وكان يخاف موته، وتُرجى له الحياة، فمات، فظاهر المذهب أنه ليس بشهيد. والشاهد فيه حديث سعد بن معاذ؛ فإنه أصابه سهم وكان ترجى حياتُه، ثم اتفق موته فيه، فغسل وصلي عليه.
1690 - والباغي إذا قتله العادل مغسول يصلى عليه، ومن يقتله البغاة من أهل العدل فهل يغسل ويصلى عليه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه شهيد؛ فإنه قتيلُ فئةٍ مُبطلة
__________
(1) المرتب: من أرتبه إذا أثبته. والمثبت الذي أثبتته الطعنة، أي حبسته مكانه (المعجم).

(3/35)


في القتال والثاني - ليس بشهيد؛ فإنه ليسَ قتيلَ مشرك.
ومن [في] (1) الرفقة إذا قتله قاطعُ الطريق في المكاوحة والقتال، فيه طريقان أحدهما - القطع بأنه ليس بشهيد. ومنهم من خرّجه على الخلاف في العادل إذا قتله الباغي.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين فيه: إذا دخل الكفار بلاد الإسلام في اختفاء، وقتلوا غيلة من غير نصب قتالٍ مسلماً، فهل يكون شهيداً أم لا؟ فهذا محتملٌ.
ويجب القطع بأن من قتله ذمي لا يكون شهيداً.
وقال شيخي: لو مات غازٍ في أثناء الحرب حتف أنفه من غير [سبب] (2)، ففي ثبوت الشهادة له وجهان، والوجه عندي القطع بأنه لا يكون شهيداً.
وإذا قتل مسلم مسلماً من غير فرض قتال، فلا يثبت له حكم الشهادة.
فهذا تفصيل القول فيمن يكون شهيداً.
1691 - والذين ورد فيهم لفظ الشهادة: كالغريب، والغريق، والمبطون، وغيرهم، فلا يثبت لهؤلاء أحكام الشهداء فيما نحن فيه.
1692 - فإذا ثبت من يكون شهيداً، ومن لا يكون شهيداً، فنحن نذكر الآن حكم الشهيد.
فنقول: لا يجوز غُسلُه، بل يجب تركه على دمائه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زمِّلوهم يكلومهم ودمائهم" (3) الحديث؛ فإبقاء أثر الشهادة واجب.
ولو استشهد جنب، فقد اختلف أبو حنيفة (4) وأصحابه فيه، فظاهر مذهبنا أنه
__________
(1) مزيدة من: (ت 1)، (ل).
(2) مزيدة من: (ت 1)، (ل).
(3) حديث دفن الشهداء بغير غسل أخرجه البخاري من حديث جابر: 2/ 94، كتاب الجنائز: باب (74) من لم ير غسل الشهيد، ح 1346. بلفظ "ادفنوهم". وأما لفظ إمام الحرمين: "زملوهم"، فهو عند النسائي: 4/ 78، كتاب الجنائز: باب مواراة الشهيد في دمه، وعند أحمد أيضاً: 5/ 421، ورواه بهذا اللفظ أيضاً ابن سعد في الطبقات 3/ 562.
(4) ر. رؤوس المسائل: 195، مسألة: 95، المبسوط: 2/ 57، حاشية ابن عابدين: 1/ 608.

(3/36)


لا يغسَّل، وخرج ابن سريج وجهاً أنه يغسل. وهذا بعيد غيرُ معتد به.
ومما يتعلّق بحكم غُسل الشهيد أنه لو أصابته نجاسة أجنبية، لا من بدنه، أو بسبب تعفره في مصرعه، فهل يجب غَسل تلك النجاسة منه؟ حاصل القول فيه أوجه، استخرجتها من كلام الأصحاب: أحدها - أن تلك النجاسة تُغسل عنه؛ فإنها ليست من آثار الشهادة، ولا يجوز تركها، وهذا القائل يقول: يجب غسلها، وإن كان يؤدي إلى إزالة دم الشهادة.
والثاني - أنها لا تغسل؛ فإنا على الجملة نُهينا عن غُسل الشهيد، فيجب ألا يُغيَّر هذا الحكمُ فيه.
والثالث - أن ننظر: فإن كان في غسل تلك النجاسة الأجنبية إزالةُ دم الشهادة، لم نغسلها، وإن كان لا تؤدي إزالتُها إلى إزالة دم الشهادة، فيجب إزالتُها حينئذ، وهذا أعدل الوجوه، والمسألة محتملة جداً.
فهذا تفصيل القول في النهي عن غُسل الشهيد.
1693 - فأما الصلاةُ عليه، فلا تجب باتفاق أئمتنا. والذي ذهب إليه المحققون أنها غير جائزة، ولو جازت الصلاة على الشهيد، لوجبت.
ومن أصحابنا من قال: تجوز الصلاة على الشهداء [ولكنها لا تجب، وكأن هذا القائلَ يعتقد جوازَ ترك الصلاة رخصة؛ لمكان الاشتغال بالحرب] (1) وتوابعه إذا انجلى، فلو تكلف (2) متكلف وصلى، جاز.
ثم من جوّز الصلاة لم يجوّز إزالةَ أثر الشهادة، ولم يجوّز الغُسلَ. وإن قيل: فالميت الذي يجب غُسله إذا لم يكن شهيداً، لا تصح الصلاة عليه قبل غُسله، فمن جوّز الصلاة على الشهيد، هل يغسِّله، ثم يصلي عليه؟ قلنا: لا سبيل إلى غُسله، وكأنه مغسول بصوب (3) رحمة الله تعالى.
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ل).
(2) في: (ت 1): فرض.
(3) صوب رحمة الله: الصوب المطر بقدر ما ينفع ولا يؤذي. (المعجم).

(3/37)


وقد يطرأ للناظر في ذلك شيء، وهو أن الشهيد إذا كان عليه دمُ الشهادة، فلا يجوز إزالته، وتعيّن بقاؤه، وإن لم يكن عليه دم أصلاً، فلا شك أنه لا يجب غُسله، ولكن في جواز غُسله الذي لا يؤدي إلى إزالة أثر الشهادة تردد، في هذه الصورة، من طريق الاحتمال، كما في (1) جواز الصلاة عليه، فليفهم الناظر ذلك.
1694 - وأما تكفين الشهيد، فلا شك أنه ينزع عنه الدرع، والثياب الخشنة، التي تلبس لمكان (2) آلةٍ في القتال.
ولا خلاف أيضاً أن قيِّم الميت الشهيد، لو أراد نزع ثيابه وإبدالَها، فلا حجر عليه في ذلك، ولا نظر إلى ما على ثيابه من دم الشهادة، وإنما النظر إلى ما اتصل ببدنه من أثر الشهادة.
وإن أردنا أن ندفنه في الثياب التي عليه، وهي متضمخة بدمائه، جاز.
ولا بد وأن تكون سابغةً، فإن لم تكن، وجب الإتيان بثوب سابغ، وما روّيناه في حديث مصعب بن عمير في ستر قدميه بالإذخر محمول على الضرورة.
وإن كان الثوب الذي عليه سابغاً، ولكن كان ثوباً واحداً، ونحن نرى إيجاب استعمال ثلاثة أثواب، فنوجب إكمال الثياب، والسبب في ذلك أنّ تركَ غُسله لإبقاء أثر الشهادة، وسبب الامتناع من الصلاة عليه، تعظيمُ قدره، [فأما] (3) تَرْكُ تكفينِه، فليس فيه تعظيم، ولا إبقاء لأثر الشهادة، فهذا منتهى القول في ذلك.
1695 - ونحن نذكر بعد هذا قول الأصحاب في المقتولين حدَّا.
أولاً - قال الأئمة: المرجوم في الزنا، يغسّل ويصلَّى عليه، وقد روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ على ماعز؛ إذ رجمه، ولم ينه عن الصلاة عليه" (4)،
__________
(1) في (ت 1): لا تجوز.
(2) (ل): لتكون آلة في القتال.
(3) في النسخ الثلاث: "فإن" والمثبت تقدير منا. ثم جاءت (ل) فإذا بها سقطت منها ضمن عدة جمل.
(4) حديث: "الصلاة على ماعز" رواه أبو داود من حديث أبي بَرْزَة الأسلمي بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يصل على ماعز بن مالك، ولم ينه عن الصلاة عليه" وكما =

(3/38)


وكان صلى الله عليه وسلم قد يمتنع عن الصلاة بنفسه لأسباب، فهذا محمول عليه.
1696 - فأما قاطع الطريق إذا قتل، ففي غُسله والصلاة عليه كلامٌ: قال بعض أصحابنا: لا يغسل، ولا يصلى عليه؛ استهانة به، وتحقيراً لشأنه، وتغليظاً على القطَّاع.
وقال بعض أئمتنا: يفرّع أمره على كيفية قتله، فإن قلنا: إنه ينزل من الصليب ولا يترك حتى يتهرأ عليه، فإذا أنزل، غُسل [وكفن] (1) وصلي عليه. وإن قلنا: يترك حتى يتهرأ، فلا يغسل، ولا يصلى عليه؛ فإنه إن قتل (2)، وصلي عليه، ثم صلب فإبقاءُ من صُلّي عليه خارجٌ عن القياس. وإن صُلّي عليه، وهو (3) منكّلٌ به على الصليب، كان بعيداً جداً.
فظاهر المذهب أنه يغسل ويصلى عليه. ثم هذا يتفرع على كيفية قتله، فإن قلنا: إنه ينزل من الصليب قبل أن يتغير، فإذا أنزل، فإذ ذاك، يغسل ويصلى عليه، ويكفن، ويدفن. وإن قلنا إنه يترك مصلوباً؛ فإنه يقتل، ويغسل، ويكفّن، ويصلى عليه، ثم يصلب، وكأنَ الهواء قبرُه.
ومن أئمتنا من يقول: إنه يُقتلُ بعد الصلب (4)، فيضطر هذا الإنسان إذا قال بذلك، وضم إليه أنه يترك على الصليب، أن يصلي عليه مصلوباً، إذا هلك، ثم لا يمكن فرض الغسل أصلاً، وكان لا يمتنع أن يقتل مصلوباً، وينزل، فيغسل،
__________
= ترى هو لفظ إمام الحرمين، وصححه الألباني. ورواه البخاري ومسلم من حديث جابر، دون قوله: ولم ينه عن الصلاة عليه، وأخرجه البخاري في الحدود عن جابر، وفيه فصلى عليه .. ثم قال البخاري: ولم يقل يونس وابن جريج عن الزهري "فصلى عليه". (ر. أبو داود: الجنائز، باب من قتلته الحدود، ح 3186، والحدود، باب رجم ماعز بن مالك، ح 4430، وصحيح أبي داود: 2/ 613 ح 2728، والبخاري: الحدود، باب الرجم بالمصلى، ح 6820، ومسلم: الحدود ح 16، باب رجم الثيّب، ح 1691، والنسائي: الجنائز، باب ترك الصلاة على المرجوم، ح 1958).
(1) مزيدة من: (ت 1).
(2) ساقطة من (ت 1)، وفي (ل): غسل.
(3) في الأصل، و (ط): فهو.
(4) أي يقتل وهو مشدود على الصليب.

(3/39)


ويصلى عليه، ثم يرد. ولكن لم أر ذلك في عقوبات القطّاع، ولم يذهب أحد إلى إنزال المصلوب وردّه. والله أعلم.
1697 - وتارك الصلاة الممتنع من قضائها إذا قتل، غسّل، وصلي عليه، عند الأئمة. كالمرجوم في الزنا.
وقال صاحب التلخيص: لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يكفن، وتوارى جيفته، ويسوى قبره، ولا يرفع نعشه. ثم قال: قلته تخريجاً.
قال صاحب التقريب: لست أعرف لتخريجه وجهاً، وهو متروك عليه، ولعله إنما خطر له ترك الصلاة عليه، من حيث إنه ترك الصلاة في حياته، فتُركت الصلاة عليه، وهذا تخييل، لا ثبات له، ثم إن تُخيّل ترك الصلاة عليه، وتخيل ترك غسله تبعاً لترك الصلاة عليه، فترك تكفينه هُتكة (1)، وقد ذكرنا أن الكافر الذميّ يكفن، وليس تارك الصلاة بأسوأ حالاً منه.
1698 - وأما المرتد إذا قتل على ردته، فلا شك أن لا يغسل، ولا يصلّى عليه، والوجه تنزيله منزلة الحربي الذي نقتله، وقد تقدم ذكره.
فصل
1699 - إذا وجدنا بعضاً من آدمي، فإن لم نتحقق أنه ميت، فلا سبيل إلى الصلاة عليه، وإن تحققنا موته، فنقدم ما وجدنا من أعضائه، فنصلّي عليه، ونغسله، ونواريه بخرقة. وقصد الشافعي بذلك الردَّ على أبي حنيفة (2) رضي الله عنهما؛ فإنه قال: "لا نصلي ما لم نجد نصفه، فزائداً" وحقيقة ذلك تستند إلى أن الصلاة على الغائب صحيحة عندنا، كما سيأتي، وهو لا يراها، ويربط الصلاة بما (3) شهد، وحضر.
__________
(1) هُتكة: فضيحة.
(2) ر. الأصل: 1/ 367، المبسوط: 2/ 54، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 399 مسألة: 377، حاشية ابن عابدين: 1/ 576.
(3) كذا (بما) في النسخ الثلاث، وجاءت (ل) بمثل أخواتها. وهو من استعمال (ما) مكان =

(3/40)


1700 - ثم ذكر الشافعي أنه إذا اختلط مسلمٌ بمشركين، وكان لا يتميز لنا، وهو ممن يُصلّى عليه؛ [بأن لم] (1) يكن شهيداً؛ فإنه يصلى عليه بالنية، ولا يضر ألا يتميزَ لنا عينُه.
ثم إن صلّينا بالنية، والصلاةُ محتومة، فليت شعري كيف الغُسل والتكفين؟ الذي أراه أنه يغسل جميعُهم؛ حتى يتأدى الغسلُ، في المسلم منهم. وكذلك يكفنون من عند آخرهم.
...
__________
= (مَنْ)، وهو وارد على ندورِ أو على تأويل.
(1) في الأصل: فإنه لم، و (ت 1): فإن لم. والمثبت من (ل).

(3/41)


باب حمل الجنازة
1701 - نذكر في الابتداء كيفيةَ حمل الجِنازة، وفيه مسلكان: نَصِفهما، ونذكرهما، ثم نذكر الأوْلى. أحدهما - الحملُ بين العمودين، وكيفيته أن يتقدم الحاملُ، ويتوسط الخشبتين الشاخصتين، من مقدمة الجنازة، ويضع الصدر الذي بين الخشبتين على كتفه، ثم إن استقل بقوته، فيضع الخشبتين على يمينه ويساره، ويضع الصدرَ على كتفيه.
ويحمل مؤخرة الجنازة رجلان؛ فإنه لا يتصور أن يتوسطها شخص؛ فإنه لا يرى موضع قدمه، فإذا [استقلّ] (1) المتقدم بالحمل بين العمودين، فيحمل مؤخرة الجنازة رجلان، فيضع كل واحد منهما عموداً شاخصاً على عاتقه، والعاتق الآخر منه بارز، وليس بين العمودين أحد في المؤخر، فتكون الجنازة محمولة على ثلاثة نفرٍ، وقد يتوسط المتقدم بين العمودين، ويضعف عن الاستقلال، فيحمل العمودين شخصان على عاتقيهما، والمتوسط بينهما، ويحمل المؤخَّرَ رجلان، كما وصفناه، فيكون حمَلةُ الجنازة خمسةَ نفر. فهذا تصوير الحمل بين العمودين.
1702 - وأما الحمل من الجوانب، فهو ألا يتوسط بين العمودين في صدر الجنازة أحد، ولكن يتقدم رجلان، فيضع أحدهما العمود الذي هو الشق الأيمن من الجنازة على عاتقه الأيسر، وعاتقه الأيمن بادٍ، ويضع الثاني العمود الذي يلي الشق الأيسر من الجنازة على عاتقه الأيمن، وعاتقه الأيسر بادٍ، وكذلك يحمل العمودين في مؤخرة الجنازة اثنان، فإن أراد إنسان أن يستدير في الحمل على الجوانب الأربعة في أزمنة، فيحمل كلَّ عمودٍ زماناً، فَعَل (2) ذلك. فيتقدم أولاً، فيحمل الشق الأيسر، من صدر
__________
(1) في النسخ الثلاث: اشتغل. والمثبت تقديرٌ منا صدقته (ل).
(2) جواب إن أراد.

(3/42)


الجنازة، فإنه يليه من الميت شقُّه الأيمن، فكانت البداية به أولى، وأيضاً، فإنه يحمل ياسرة السرير على كاهله الأيمن، ثم يستأخر، ويحمل ياسرة السرير من مؤخره، ثم يتقدم ويعترض السرير، فيحمل يامنته على كاهله الأيسر، ويتأخر كذلك ويحمل يامنته من مؤخّره، وقد استدار على الجوانب.
1703 - وظاهر نص الشافعي، وما اختاره المزني لمذهبه أن الحمل بين العمودين أفضل، كما سبق وصفُه من الحمل من الجوانب. وهذا ما إليه صَغْوُ الأئمة، وفيه أخبار رواها الشافعي في المختصر، منها ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ رضي الله عنه بين العمودين" (1).
وذكر صاحب التقريب تردداً في ذلك، فقال: يحتمل أن يقال: الحمل بين العمودين أفضل، ويحتمل أن يقال: لا فرق بين الحمل بين العمودين، وبين الحمل من الجوانب. والذي ذكره معظمُ الأئمة والعراقيون، تفضيل الحمل بين العمودين، وفي بعض المصنفات، أن الحمل من الجوانب أفضل. وهذا لا أصل له.
...
__________
(1) حديث "حمل جنازة سعد .. " رواه الشافعي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما روي أيضاً عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم فعلوا ذلك، منهم سعد بن أبي وقاص، وعثمان، وأبي هريرة، وابن الزبير، وابن عمر، وروى البيهقي هذه الأخبار أيضاً. (ر. المختصر 1/ 178، وسنن البيهقي: 4/ 20 - 21، والتلخيص: 2/ 110).

(3/43)


باب المشي بالجنازة
1704 - أولاً الإسراع بالجنازة [مأمورٌ به] (1)، وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الإسراع بالجنازة، فقال: دون الخَبَب؛ فإن كان خيراً، فإلى خير تقدمونه، وإن كان غير ذلك، فبعداً لأهل النار" (2) وروى أبو هريرة (3) رضي الله عنه قريباً من ذلك. وفي آخره "إن كان غير ذلك [فشر تضعونه] (4) عن رقابكم".
ثم المشي أمام الجنازة أفضل عند الشافعي للمشيعين، وهذا مذهب أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمر، ولا فرق بين أن يشيِّع راكباً أو ماشياً، ولا شك أن المشي أفضل؛ فإنه ما ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيد، ولا جنازة (5).
...
__________
(1) ساقط من الأصل، وفي (ت 1): مأثور. والمثبت من (ل).
(2) حديث "ابن مسعود عن الإسراع بالجنازة .. " رواه أبو داود، على نحو ما ساقه إمام الحرمين، ورواه الترمذي وابن ماجة أيضاً عن ابن مسعود، والحديث ضعفه أبو داود والترمذي وابن عدي والبيهقي وغيرهم كما في التلخيص. (ر. أبو داود: الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، ح 3184، والترمذي: الجنائز، باب الإسراع بالجنازة، ح 1011، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في المشي أمام الجنازة، ح 1484، والتلخيص: 2/ 112 ح 752).
(3) حديث أبي هريرة الذي أشار إليه إمام الحرمين هذا، وجعله سنداً للحديث الأول، هو الأصح، فهو متفق عليه بلفظ "أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة، فخير تقدمونها، وإن يك سوى ذلك، فشرٌّ تضعونه عن رقابكم" (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 192 ح 550).
(4) في النسخ الأربع: "فحتى تضعوه" والتصويب من نصّ الحديث.
(5) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم ما ركب في عيد ولا جنازة" سبق تخريجه في آخر كتاب الجمعة.

(3/44)


باب من أولى بالصلاة على الميت
1705 - المنصوص عليه للشافعي في الجديد أن الولي أولى بالصلاة (1) على الميت إمامةً، وتقدماً، من الوالي، وإن كان الوالي أولى بالإمامة في سائر الصلوات؛ فإن هذه الصلاة مختصة بالميت، فالمختص به أولى فيها، وليس كذلك الإمامة في الصلوات العامة.
ونص الشافعي في القديم على أن الوالي أولى بالإمامة من الوليّ. وهذا مذهب أبي حنيفة (2).
1706 - ثم نتكلم في الأقارب إذا حضروا: أجمع الأئمة على أن الأب أولى، ثم الجد أبو الأب. قال الصيدلاني هما أولى من ابن الميت، وإن كان الابن أولى بعصوبة الميراث من الأب. ثم الذي ظهر من كلام الأئمة أن الابن بعد الأب والجد أولى من غيره لقوة عصوبته، وليس هذا [كولاية] (3) التزويج؛ فإنا لم نثبته في التزويج ولياً أصلاً. وكان شيخي يرتب الأولى في الإمامة ترتيبهم في ولاية النكاح.
وفي ألفاظ الشافعي [في] (4) ذكر الولاة: والأولياء بعد الوفاة، هم الأولياء في الحياة، والابنُ لا حظّ له في الولاية أصلاً. وهذا الأصل لو ثبت، اقتضى تقديمَ الإخوةِ وأولياء النكاح على الابن.
وقد قطع الصيدلاني بتقديم الأب والجد على الابن وإن كان الابن في العصوبة مقدماً، ولا عصبة معه في الميراث.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 179.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 41، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 385 مسألة: 363، بدائع الصنائع: 1/ 317، حاشية ابن عابدين: 1/ 590.
(3) في النسخ الثلاث: "لولاية" وهو تصحيف واضح، والمثبت تقديرٌ منا. وقد صدقتنا (ل).
(4) مزيدة من (ل).

(3/45)


والذي تحصّل من كلامهم أن الولاية والإرث إذا اجتمعا في شخص واحد، كالأب والجد، فهو أولى من الابن، وإذا اجتمع شخصان لأحدهما رتبة الولاية في النكاح، كالأخ، وللثاني قوة العصوبة، والأخ محجوب به، كالابن، ففيه التردّد. والظاهر عندي تقديمُ الابن؛ فإنه يستحق ببنوّته التقديمَ في هذا الحكم، وليس للأخ ولاية الإجبار في النكاح، فقوة العصوبة متقدمة.
والعلم عند الله تعالى.
ثم ابن الابن في معنى الابن، وإن سفل، ثم إن لم يكن ابن، فالرجوع إلى ترتيب العصبات في ولاية التزويج، وقد ذكرنا قولين في الأخ من الأب والأم، مع الأخ من الأب، وفي الإمامة في صلاة الجنازة الطريقان. منهم من أجرى فيها القولين أيضاً كولاية التزويج، ومنهم من قطع بتقديم الأخ من الأب والأم، وهو الصحيح؛ فإن لقرابة النساء مدخلاً في الصلاة على الميت، كما سنذكره الآن، ولا مدخل لقرابة النساء، في التزويج أصلاً.
فهذا هو النظر في ترتيب الأقارب.
1707 - ثم إن لم يكن للمتوفَّى عصبة من الأولياء، ولا من البنين، فالخال أولى من الأجنبي. هكذا ذكره الصيدلاني، وكأنا نرعى في الباب أن يكون المتقدم مخصوصاً بنوع رقَّةٍ على المتوفى؛ فإنه إذا كان كذلك، فدعاؤه أقرب إلى الإجابة.
والله أعلم.
1708 - ثم إن لم يكن ولي عصبة، فالمعتِق ذو الولاء أولى بالتزويج، ولعل الظاهر تقديمُه على ذوي الأرحام، كالخال وغيره، وإنما نقدم الخالَ وغيرَه، إذا لم نجد وليّاً عصبة.
1709 - وإذا وضح ما يتعلق بترتيب الأقارب فنتكلم في صفات الأئمة: اشتهر خلاف أئمتنا فيه، إذا اجتمع أخوان أحدهما أفقه، والثاني أسن، فمن الأولى بالإمامة، والأسن يُحسن ما يقع به الاستقلال؟ فمنهم من قال: الأفقه أولى كما نجعله أولى في إمامة سائر الصلوات. وقد سبق ذلك في صفة الإمامة، ومنهم من

(3/46)


قال: الأسن أولى في هذه [الصلاة] (1)؛ لأن دعاءه أقرب إلى الإجابة، وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "إن الله تعالى يستحي أن يرد دعوةَ ذي الشيبة المسلم" (2).
ثم من قدّم الأسنَّ، لم يعتبر الشيبة وبلوغ سن المشايخ.
وذكر العراقيون أن نص الشافعي يدل على تقديم (3 الأسن على الأفقه في صلاة الجنازة، ونصه في سائر الصلوات يدل على تقديم 3) الأفقه. فمن أصحابنا من جعل المسألة على قولين في جميع الصلوات، نقلاً وتخريجاً، وهذا الذي ذكروه من طرد القولين في جميع الصلوات، لم يذكره المراوزة، بل قطعوا بتقديم الأفقه في غير صلاة الجنازة، وذكروا في صلاة الجنازة الخلافَ.
والحر والعبد إذا استويا، فالحر أولى لارتباط ما نحن فيه بالولاية، والرق ينافيها، وتردد شيخي في عبد فقيه، وحرٍّ غير فقيه، في درجةٍ واحدة والمسألة محتملة، كما قال.
والعبد القريب مقدّم على الحر الأجنبي، ولو اجتمع عبد أخ من الأب مثلاً وعمٌّ حرٌّ، ففي بعض التصانيف وجهان - أحدهما - أن العبد أولى لقربه، والثاني - العم أولى لولايته وحريته، وقلّما تمر أمثال هذه المسائل في بابٍ إلا دارَ فيه مصير بعض الأصحاب إلى التسوية، لتقارب الأمرين.
1710 - ومما يليق بتمام ما نحن فيه: أن الرجل أولى من المرأة، كيف فُرض الأمر، سواء كان الرجل أجنبياً، أو قريباً، حراً أو عبداً. والمرأة تتأخر عن كل رجل، وإن كانت على قرابة قريبة.
قال الصيدلاني: [الصبي] (4) المراهق (5) أولى من المرأة، وإن لم يبلغ سنَّ
__________
(1) في النسخ الثلاث: "الصورة" والمثبت من (ل).
(2) حديث: "إن الله يستحي أن يرد دعوة ذي الشيبة المسلم" قال عنه الحافظ لا أدري من خرجه (التلخيص: 2/ 118 ح 762).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(4) زبادة من (ل).
(5) (ت 1) المرأة هو أولى. وهو تصحيف عجيب.

(3/47)


التكليف. ولما ذكر صاحبُ التقريب تقديمَ كل رجل على كل (1) امرأة، أبان بعد هذا أن النسوة لو انفردن بالصلاة، سقط الفرضُ بصلاتهن. وفي بعض التصانيف القطعُ بأن الفرضَ لا يسقط بصلاة النسوة المفردات. وسأعود إلى هذا في باب الصلاة.
ولا شك أن الرجل أولى بالإمامة، فإن اقتداء النساء بالرجال جائز، ولو تقدمت امرأة لم يصح للرجال الاقتداء بها.
1711 - ومما يتمّ به المقصود: أن القرابة مقدمةٌ على الخصال كلها: من الفقه، والسن، والحرية، إلا الذكورة؛ فإنها مقدمة على القرابة، والذي ذكروه تصريحاً وتلويحاً، أن الخالَ وكل متمسك بقرابة، فهو مقدم على الأجانب، وإن كان عبداً مفضولاً.
فهذا منتهى القول في ذلك.
1712 - قال الصيدلاني في آخر هذا الباب: العبد المناسب (2) أولى من نساء القرابة، فإنهما استويا في أن لا ولاية لهما، وانفرد العبد بالذكورة. وهذا كلامٌ مختل؛ فإنه قيّد العبد بالمناسب، والذي ذكره صاحب التقريب: أن الذكر مقدم على كل امرأة في إمامة الصلاة، وهذا هو المذهب الذي لا يجوز غيره؛ لما ذكرت من أن اقتداء الرجل بالمرأة ممتنع، ولا يمتنع اقتداء المرأة بالرجل.
...
__________
(1) ساقطة من: (ت 1).
(2) المناسب: النسيب: القريب، ومن هنا كان الكلام مختلاً كما قال الإمام، فكأنه يقول: العبد القريب أولى من نساء القرابة.

(3/48)


باب صلاة الجنازة
1713 - ذكر في صدر هذا الباب أن صلاة الجنازة تقام مهما حضرت، في الأوقات كلها، ولا تكره إقامتها في الساعات المكروهة؛ فإنها صلاة ظاهرةُ السبب، ولا كراهة في إقامة الصلوات التي لها أسباب، في الأوقات المكروهة، وقد ورد عن النبي عليه السلام النهيُ عن تأخير صلاة الجنازة مهما (1) حضرت (2).
1714 - ثم ذكر بعد ذلك التفصيلَ في حضور الجنائز، وكيفية وضعها.
فإذا شَهِدت (3) جنائز في درجة واحدة، ولم يظهر لبعضها فضل، ففي كيفية وضعها -إذا اكتفى الولاة بصلاة واحدة على جميعها- وجهان في بعض التصانيف. وقد ذكرهما شيخي أيضاً: أحدهما - أنه توضع جنازة بالقرب من الإمام، ثم توضع الأخرى وراءها، ثم الثالثة وراء الثانية، وهكذا بهذه الصورة.
والوجه الثاني - أن الجنائز توضع صفاً، والإمام يقف عند واحدة، والباقي يصطف طولاً ذاهبةً في يمين الإمام، والجنازة الثانية عند رأس الأولى، وكذلك إلى حيث بلغت، وانتهت بهذه الصورة، وهذا مذهب أبي حنيفة (4).
والأولى الذي قطع به معظم الأئمة الهيئة الأولى في الوضع؛ فإن الإمام يكون وراء
__________
(1) "مهما" بمعنى (إذا) كما في نص الحديث: "إذا حضرت".
(2) حديث النهي عن تأخير الجنازة أخرجه الترمذي من حديث علي، وكذا ابن ماجة، قال الترمذي: هذا حديث غريب، وما أرى إسناده متصلاً. (ر. الترمذي: الجنائز، باب ما جاء في تعجيل الجنازة، ح 1075، وضعيف الترمذي: ح 182، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في الجنازة لا تؤخّر إذا حضرت ولا تتبع بنار، ح 1486، وضعيف ابن ماجة: ص 113 ح 326).
(3) "شَهِدت" أي حضرت.
(4) ر. بدائع الصنائع: 1/ 315، 316، حاشية ابن عابدين: 1/ 589.

(3/49)


جميع الجنائز في تلك الصورة، وفي الهيئة الثانية لا يسامت الإمام إلا جنازة واحدة، ثم في القرب من الإمام حظ في الشريعة مطلوب، إما بالفضل أو بالسبق.
1715 - ثم الفضل الذي نراعي إذا حضرت الجنائز معاً من غير تقدم وتأخر ما نصفه، فالرجل يُقرَّب إلى الإمام، ثم المرأة وراءه، ولو شهدت جنازة رجل، وصبي، وامرأة وخنثى، فالرجل يلي الإمام، والصبي وراءه، والخنثى وراء الصبي، والمرأة وراء الخنثى. وقد ذكرنا في كيفية الوضع في القبر أن الأفضل يقدم إلى اللحد، ثم الترتيب وراءه، كما سبق بيانه عند مسيس الحاجة إلى جمعهم في قبر واحد، فروعي في الوضع القربُ إلى جهة القبلة، لا معتبر ثَم غيرُها، والقرب من موقف الإمام أوْلى بالاعتبار في الجنائز.
فإن استوت الجنائز في الصفات المرعيّة، نظر: فإن ترتبت في الحضور، قدّم الأسبق منها، فالأسبق. وإن حضرت معاً، ولا فرق في الصفات، فإن رضي الأولياء، وضعت في القرب والبعد، كيف اتفق. وإن تشاجروا، فَصَلت القرعةُ شجارَهم. وقد ذكرنا في الوضع في القبر أنه يقدم الأفضل إلى جدار اللحد، فإن استوَوْا في الذكورة، فيعتبر هذا المعنى، إذا لم تترتب الجنائز في الشهود، ولا قرعة مع التفاضُل.
ثم المرعي في هذا الباب ما يقتضي في غلبة الظن تقرب الناس إلى الله تعالى بالصلاة عليه، ولا يليق بهذا المقام تقديمٌ لغير ذلك.
ويبعد أن يقدم حر على عبد، لمزية الحرية، وليس ذلك كاستحقاق الإمامة وغيرها؛ فإن الحرَّ مقدم من جهة تقدمه في التصرفات على العبد، والإمامة في الصلاة تصرُّف فيها، وإذا مات الحر والعبد استويا في انقطاع تصرفهما، وأقرب معتبر ما ذكرته في هذا المقام، وإذا كان كذلك، فالورع أقرب معتبر إذن. والعلم عند الله تعالى. وهذا مع الاستواء في الذكورة والأنوثة والصبا والبلوغ، والقول في ذلك قريب، وما ذكرناه فيه غُنية.
وإن ترتبت الجنائز، فالسبق، وحق القرب، لمن سبق، ولو سبقت جنازة امرأة وتَلتْها جنازةُ رجل، قُرِّبت جنازة الرجل، ونحّيت جنازة المرأة؛ فإن موقفهن -كيف

(3/50)


فرض تقدمهن أو تأخرهن- في [الحياة] (1) مؤخر.
ولو شهدت جنازة صبي، ثم جنازة رجل، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أنه لا تُنحى جنازة الصبي، بخلاف جنازة المرأة. والفرق لائح.
وذكر صاحب التقريب وجهاً أنه تنحى جنازة الصبي، لشهود جنازة الرجل، كما ذكرناه في المرأة والرجل.
ولو سبقت امرأة إلى الجماعة ولحق رجال، استأخرت، ولو شهد صبيان، وقُرّبوا، وشهد رجال قَبْلَ تحرم الإمام، فالظاهر أن الصبيان لا يؤخّرون لحق السبق، ويخرّج فيه الوجه الذي ذكره صاحب التقريب في الجنائز. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليليني ذوُو الأحلام منكم والنهى" (2).
فهذا ترتيب القول في ذلك.
1716 - ومما يتعلق بهذا أن من العلماء من قال: إذا حضرت جنازة رجل، أو امرأة، فقد قال أبو حنيفة (3): يقف الإمام في مقابلة صدر الميت، رجلاً كان أو امرأة.
وقال أحمد بن حنبل (4): في مقابلة صدر الرجل، وفي مقابلة عجيزة المرأة، كأنه يبغي سترها عمن وراءه.
__________
(1) في النسخ الثلاث: "الجنازة". والمثبت مما جاءتنا به (ل).
(2) حديث "ليليني منكم أولو الأحلام ... " رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وابن ماجة، والدارمي، وأحمد. (ر. مسلم: الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها، ح 432، وأبو داود: الصلاة، باب من يستحب أن يلي الإمام، ح 674، والنسائي: 2/ 87، كتاب الإمامة: باب من يلي الإمام، ح 808، وفي باب ما يقول الإمام أيضاً، ح 813، وابن ماجة: كتاب الإقامة، ح 976، وأحمد في المسند 1/ 457، 4/ 122). وفي إثبات الياء وحذفها في (ليلني) بحث نفيس للمغفور له أحمد محمد شاكر. راجعه في سنن الترمذي: 1/ 440، تَفِدْ علماً جديداً.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 41، بدائع الصنائع: 1/ 312، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 386 مسألة: 364، حاشية ابن عابدين: 1/ 587.
(4) ر. كشاف القناع: 2/ 111، الإنصاف: 2/ 516.

(3/51)


قال الصيدلاني: لا نص للشافعي في ذلك، ولكن اختار أئمتنا مذهب أحمد، وقد روي: "أن أنس بن مالك فعل ذلك، ثم روجع في فعله، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم يقف عند صدر الرجل وعجيزة المرأة" (1). وقانون الشافعي اتباع الأخبار.
1717 - ومما نذكره متصلاً بهذا أن الجنازة يسوغ أن تدخل المسجد من غير منع وحجر، خلافاً لأبي حنيفة (2) فكأنه نظر إلى إكرام المسجد، والنظر إلى إكرام المؤمن أقرب عندنا. ولم أر الزيادة على هذا، فإن إعمال الفكر في أمثال هذا لا معنى له، وهو من مواقع الاتباع.
فصل
1718 - الصلاة على الغائب مشروعة عند الشافعي، والأصل فيه "أن النجاشي لما مات، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع، وصفّ الأصحاب وراءه وصلّوا على النجاشي بالحبشة" (3). ومعنى المذهب أن الغرض من الصلاة [الابتهال] (4) إلى الله تعالى في التجاوز عن المتوفى، وهذا لا يختلف بالغيبة والشهود.
ولو كانت الجنازة حاضرة في البلد، وأمكن (5) إحضارها، ففي الصلاة عليها قبل أن تحضر خلاف، وهو مشبَّه بالخلاف في نفوذ القضاء على من في البلد، مع إمكان
__________
(1) حديث أنس في موقف الإمام من الجنازة. رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة. (ر. أبو داود: الجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه، ح 3194، والترمذي: الجنائز، باب ما جاء أين يقوم الإمام من الرجل والمرأة، ح 1034، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في أين يقوم الإمام إذا صلى على جنازة، ح 1494، والتلخيص: 2/ 119 ح 763).
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 593، وشرح معاني الآثار للطحاوي: 1/ 492، 493.
(3) حديث "الصلاة على النجاشي"، متفق عليه من حديث أبي هريرة، وجابر. (اللؤلؤ: 1/ 193 ح 555، 556، 557).
(4) في الأصل، و (ط): الانتهاء.
(5) (ل): ولم يمكن إحضارها.

(3/52)


الإحضار. والأمر في تجويز الصلاة أقرب عندي، للمعنى الذي ذكرته. وأما القضاء؛ فإنه يتعلق بأمور معتبرة في الإقرار والإنكار، [فاشتراط] (1) الحضور الممكن ثَمّ أولى وأقرب، والصلاة على الميت مقصودها ما ذكرناه.
1719 - ولو شهدت الجنازة، فتقدّم موقف الإمام عليها، فقد خرّج الأصحاب هذا على القولين في تقدم المأموم على الإمام، ونزّلوا الجِنازة منزلة الإمام، والإمام منزلة المقتدي، ولا يبعد أن يقال: تجويز التقدّم على الجنازة أولى؛ فإن الجِنازة ليست إماماً متبوعاً حتى يقال: تعيّن تقديمُه. وإنما الجنازة والمصلون على صورة مجرم يحضر بابَ الملك، ومعه شفعاء. ولولا الاتباع والجريان على سير الأولين، وإلا ما كان يتجه قولُ تقديم الجِنازة وجوباً، فهذا تمام ما أردناه في ذلك.
...
__________
(1) في الأصل، (ط): فاشترط. والمثبث من (ت 1). وجاءت (ل) بمثل الأصل، (ط).

(3/53)


باب تكبير صلاة الجنازة
1720 - صلاة الجنازة تشتمل على أربع تكبيرات، منها تكبيرة التحريم والعقد، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كبر خمساً، كما ذهب إليه الشيعة، ولكن الذي استقر عليه الأربعُ وما عداها منسوخ عند الشافعي (1).
وقد صلى النبي عليه السلام على النجاشي، فكبر أربعاً، وصلى على المسكينة التي ماتت ليلاً، فكبر أربعاً، وصلى أنس بالبصرة على ميت، فكبّر أربعاً، فقام العلاء بن زياد وقال: يا أبا حمزة كبرتَ أربعاً، فقال: هكذا رأيتُ رسول الله ضلى الله عليه وسلم. وروي أيضاً عن أنس: أنه قال: "صلت الملائكة على آدم، فكبروا أربعاً، ثم قالوا: هكذا سنتكم يا بني آدم". وكبر أبو بكر على النبي عليه السلام أربعاً، وكبّر عمر على أبي بكر أربعاً، وصهيب على عمر، والحسن على عليّ، والحسين على الحسن أربعاً أربعاً.
وروى النَّخَعي أن عمر بن الخطاب جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) أحاديث التكبير على الجنازة التي أومأ إليها إمام الحرمين، والتفاوت في عددها، كلها واردة، على تفاوت في الصحة والضعف، فأحاديث التكبير أربعاً متفق عليها في الصلاة على النجاشي، من حديث أبي هريرة، وجابر، وحديث صلاة أنس، وسؤال العلاء بن زياد له، رواه أبو داود، وخرج مسلم، والنسائي أحاديث التكبير أربعاً، وخمساً (ر. البخاري: كتاب الجنائز، باب (4)، الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، ح 1245، وباب (54) التكبير على الجنازة أربعاً، ح 1333. ومسلم: كتاب الجنائز، باب (22) في التكبير على الجنازة، ح 951 - 953، وباب (23) ح 954، وأبو داود: كتاب الجنائز، باب (57، 58)، والنسائي: كتاب الجنائز، باب (76) عدد التكبير على الجنازة، ح 1978، والترمذي: كتاب الجنائز، باب (37) ما جاء في التكبير على الجنازة، ح: 1035، وابن ماجة: الجنائز، باب (24) ما جاء في التكبير على الجنازة أربعاً، وباب (25) ما جاء فيمن كبر خمساً، ح 1502 - 1506، والتلخيص: 2/ 119 - 122 ح 765، 766، 767).

(3/54)


واستشارهم رضي الله عنهم في التكبيرات، فأجمعوا على أن التكبيرات أربع.
وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه كان يصلي، فيكبر على البدري سبعاً، وعلى الصحابي إذا لم يكن بدرياً خمساً، وعلى غيرهم أربعاً. وهذا مذهب غريب، لا قائل به.
1721 - ثم يستحب رفعُ اليدين عند كل تكبيرة، ولم ير أبو حنيفة (1) رفعَ اليدين إلا عند تكبيرة العقد، ورأى رفعَ اليدين عند كل تكبيرة من التكبيرات الزائدة في صلاة العيد.
وإذا وضح أن التكبيرات أربع، فلو زاد المصلي تكبيرةً خامسة، فقد خالف ما استقر الشرع عليه، وفي بطلان الصلاة وجهان: أحدهما - لا تبطل؛ فإنها ذكر في الصلاة.
والثاني - إنها تُبطل الصلاةَ؛ فإنها بمثابة ركعةٍ تزاد في الصلاة المفروضة.
وفي المسألة احتمال ظاهر، لمكان الأخبار والآثار.
1722 - ثم إذا كبر وعقد الصلاة، فقد قال الشافعي: يكبر، ويقرأ. ولم يتعرض لدعاء الاستفتاح، ولا للتعوذ. وقد ذكر الصيدلاني وجهين، وذكر غيره وجهاً ثالثاً، فأحد الوجهين - أنه يدعو للاستفتاح، ويتعوّذ، ثم يقرأ.
والثاني - وهو ظاهر النص، أنه يقرأ عقيب التكبير، ولا يدعو، ولا يتعوّذ؛ فإن هذه الصلاة مبناها على الإيجاز، وهو الذي يليق بها؛ لمكان الميت، وما ندبنا فيه إلى أسباب البدار والإسراع؛ ولهذا لا يختلف العلماء في أنا لا نؤثر قراءة السورة مع الفاتحة.
والوجه الثالث - أنه يتعوّذ ولا يقرأ وجهت وجهي؛ فإن التعوّذ قريب، وقد ثبت بنص القرآن أنه مشروع، في حق كل من يقرأ القرآن.
1723 - ثم قراءة الفاتحة لا بد منها.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 42، بدائع الصنائع: 1/ 314، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 391 المسألة: 368، حاشية ابن عابدين: 1/ 585.

(3/55)


وأما الجهر، فقد قال الصيدلاني: إن أقيمت الصلاة نهاراً، فلا جهر، وإن أقيمت ليلاً سنّ الجهر فيها، بالقراءة، وقد روي ذلك عن ابن عباس.
وفي بعض التصانيف أنه لا يسن الجهر بالقراءة، ليلاً كانت الصلاة أو نهاراً؛ فإن مبنى هذه الصلاة على التخفيف. وهذا متجه عندي. وفي الرواية عن ابن عباس ما يُسقط الاحتجاج بها، فقد روي: "أنه جهر بالقراءة في صلاة الجنازة، ثم قال: إنما جهرت، لتعلموا أن فيها قراءة" (1). وليس في الرواية تقييد بالليل. والظاهر أنه فعل ذلك نهاراً؛ فإن صلاة الجنازة يندر وقوعها ليلاً.
1724 - ثم إذا فرغ من قراءة الفاتحة، كبّر التكبيرةَ الثانية. ويصلي (2 على النبي عليه السلام.
والذي نقله المزني: "أنه يحمد الله عقيب التكبيرة الثانية 2) ويصلي ويدعو للمؤمنين والمؤمنات" (3)، واتفق أئمتنا على أن ما ذكره من حمد الله قبل الصلاة غيرُ سديد، ولم نر هذا للشافعي في شيء من منصوصاته.
وأما الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، فقد تردد فيه أئمتنا، فلم يره بعضهم، ومن رآه فمستنده أن الصلاة وراء التشهد الأخير تستعقب الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، فهذه الصلاة (4) بتيك (5). وإذا كان لا يصح في ذلك ثَبَت من جهة السنة، فإثبات هذه في
__________
(1) أثر ابن عباس، أورده الإمام بمعناه، وهو عند البخاري بلفظ: "عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب. قال: لتعلموا أنها سنة" وعند النسائي نحوه، وعند أبي داود عن مقسم عن ابن عباس. (ر. البخاري: 2/ 91، كتاب الجنائز، باب (65) قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة، ح 1335، وأبو داود: الجنائز، باب ما يقرأ على الجنازة، ح 3198، والترمذي: الجنائز، باب ما جاء في القراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب، ح 1026، 1027، والنسائي: الجنائز، باب (77) الدعاء، ح 1990).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(3) ر. المختصر: 1/ 183.
(4) المراد الصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم.
(5) أي كتلك.

(3/56)


صلاةٍ (1) مبناها على نهاية التخفيف بعيدٌ.
ثم إن كانت الصلاة تستعقب في التشهد دعاءً، فهي مسبوقة أيضاً بأذكار وتمجيدات، فينبغي أن يُصوَّبَ المزني في ذكر التحميد قبل الصلاة.
ثم يكبر تكبيرةً ثالثة، ويدعو له. والدعاء له هو المقصود من هذه الصلاة والركن الأوضح.
ثم يكبر تكبيرةً رابعة (2 وقد نص الشافعي في معظم كتبه أنه يكبر التكبيرة الرابعة، ويسلّم 2) ومقتضى نصوصه أنه لا يذكر بين التكبير والسلام شيئاً. وفي رواية البويطي: إنه يقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنّا بعده. وفيما نقله الصيدلاني في هذه الرواية: اللهم اغفر لحيّنا وميتنا.
وأما القول في السلام، فقد سبق في صفة الصلاة تفصيلُ المذهب، بعد اختلاف النصوص في عدد السلام استحباباً.
قال الصيدلاني: الكلام في تعدد السلام، واتحاده في هذه الصلاة، كالكلام في سائر الصلوات، في تخريج القولين أو تنزيل الأمر على اختلاف الأحوال.
وقال بعض أصحابنا: هذه الصلاة أولى بأن يقتصر فيها على تسليمة واحدة، لأنها مبنية على الإيجاز، وسبب ذلك ما أمرنا به من الإسراع في تجهيز الميت، وما نحاذره من التغايير.
ثم إن رأينا الاقتصار على تسليمةٍ واحدة، ففي، بعض النصوص: إنه يبتدىء التسليمة منقلباً إلى يمينه ويختمها ووجهه مائل إلى يساره، فيدير وجهه من يمينه إلى يساره في حال التلفظ بالسلام، وقد اخنلف أئمتنا في ذلك، فمنهم من رأى ذلك رأياً، فيحصل توزيع تسليمة واحدةٍ على الجانبين، مع الاقتصار على واحدة، وإسماع مَنْ على اليمين واليسار. ومنهم من يقول: إذا كان يسلم تسليمةً واحدة، فإنه
__________
(1) صلاة: أي صلاة الجنازة.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/57)


يأتي بها تلقاء وجهه من غير التفات، وهذا القائل يحمل كلامَ الشافعي على الأمر بتسليمتين.
وهذا التردد لم أذكره فيما أظن فيما تقدم، ولا شك أنه جارٍ في جميع الصلوات، مهما (1) رأينا الاكتفاء بتسليمة واحدة.
فهذا بيان كيفية الصلاة.
1725 - ثم نحن نذكر الآن بيان الأقل الذي لا يجزىء أقلُّ منه، فالذي قطع به الأئمة أن التكبيرات محتومة، وهي مشبهة بالركعات في الصلوات، ولا شك في كون النية ركناً، وقراءة الفاتحة ركنٌ عندنا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركن، قال الصيدلاني: "وأقلها اللهم صل على محمد"، ولم يتعرض للصلاة على الآل، وقد مضى في سائر الصلوات اختلاف القول في الصلاة على الآل في التشهد، والظاهر هاهنا أنها ليست ركناً، لاختصاص هذه الصلاة بالاختصار.
والدعاء عقيب التكبيرة الثالثة لا بد منه، فظاهر كلام الأئمة أنه لا بد من ربط الدعاء بالميت الحاضر، ولا يكفي إرسال الدعاء للمؤمنين.
وكان شيخي يقول: يكفي إرسال الدعاء للمؤمنين، والتكبيرة الرابعة لا يعقبها ركن إلا السلام.
ثم ذكر الشيخ أبو علي في ذكر الأقل: أنه يكفي أن يقول السلام عليكم، وردّد جوابَه في أنه لو قال السلام عليك، من غير صيغةِ الجمع في الخطاب، فهل يجزىء ذلك، وهل يكفي أم لا؟
ثم قال: الأوْلى الاقتصارُ على تسليمة واحدة، فعلى هذا يقول: السلام عليكم، وهل يؤثر أن يقول: ورحمة الله؟ حكى فيه تردداً من طريق الأوْلى، مَصيراً إلى رعاية الاقتصار. فهذا بيان الأقلّ.
__________
(1) "مهما" بمعنى (إذا).

(3/58)


وعلى الجملة إذا فهم الفقيه ابتناء هذه الصلاة على الإيجاز والاقتصار، يعتقد أن ما يصح النقل فيه يجب أن يكون ركناً. ويبعد اشتمالها على سنن لها أثر في اقتضاء التطويل.
1726 - وذكر صاحب التقريب عن البويطي أنه نقل كلاماً للشافعي، وقال في أثنائه: وقد قيل: إن الصلاة دعاء للميت. قال صاحب التقريب: يحتمل أن يكون هذا حكايةً لمذهب الغير، وإن حملناه على مذهب الشافعي، فمقتضى هذا النص سقوطُ فرضية القراءة، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجواز استغراق الصلاة بالدعاء للميت. ولم يتعرض لإسقاط التكبيرات بين العقد والحَل اقتصاراً على الدعاء. واللفظُ صالح له.
وهذا غيرُ معدود من المذهب، بل الوجه القطع بحمل ما قال على حكاية مذهب الغير؛ فإن هذه الصلاة ذاتُ حل وعقد، ويشترط فيها من السنن، والطهارة، والاستقبال، ما يشترط في سائر الصلوات.
فرع:
1727 - قطع الأئمة بأنه لو سها في صلاة الجنازة، لم يسجد للسهو؛ لأنه لا مدخل للسجود في هذه الصلاة ركناً، فلا يدخلها جبراناً.
فصل
1728 - ذكر الشيخ أبو علي أموراً في أحوال الميت يجب الاعتناء بها.
فقال: الميت يغسل، ويكفن، ويحمل، ويصلّى عليه، ويدفن. فأما غسله
فينبغي أن يقوم به ماهر، مع مُعينٍ إن كان يكتفي بمعين واحد، ثم يوضع على جنازة أو سرير، ويحمله أربعة، ولا يجوز أن تنقص حملته عن أربعة؛ فإنه لو جُوّز النقصان في ذلك، لكان هذا إزراءً بالميت، ولساغَ أن يحمل الميتَ رجل واحد. وهذا ترك (1) لحرمته، وغضّ من قدره.
__________
(1) كذا. ولعلها: هتك. وفي (ل): (نزل). ولم أصل إلى مأخذها ومعناها.

(3/59)


وأما الصلاة عليه، فقد حكى (1) في عدد المصلين أوجهاً: قال: من أصحابنا من قال: لا بد من أربعة يصلّون، ومنهم من قال: يكفي واحد يصلي عليه، ثم قال: ومن شرط جمعاً، لم يشترط أن يصلوا جماعةً بل قال: لو صلوا أفراداً، جاز.
ثم قال: لا بد أن يتولى دفنَ الميت ثلاثة، ولا يجوز النقصان مع الإمكان.
هذا مساق كلامه.
1729 - ونحن نقول: أما كل ما يؤدي إلى إزراءٍ بالميت واستهانةٍ، فلا شك في تحريمه، ولكن فيما ذكره نظر.
فأما الغسل، فليس يظهر في إفراد رجل واحد بغسله إزراء، مع ما نقول: إن أقل الغُسل جريان الماء على جميع البدن، وأما قوله: لا يجوز نقصان الحمَلَة عن أربعة، فهذا هفوة؛ فإن الحمل بين العمودين قد يحصل بثلاثة، كما سبق تصويره، وميلُ نص الشافعي إلى أن الأوْلى الحمل بين العمودين، ولا شك أن الطفل الصغير لو احتمله رجل واحد، فلا إزراء فيه، والمرعي في إثبات التحريم ظهور الإزراء، وفي حمل رجلين أيّدين للجنازة احتمال ظاهر.
ومما يجب رعايته أن الحَمَلَة ينبغي أن يكونوا بحيث لا يُخاف على الميت الميل والسقوط، وينبغي ألا يحملوه على هيئة قبيحة مزرية.
وأما ما ذكره من عدد المصلين، فقد ذكر غيرُه على الوجه الذي ذكره. ولم أر للاقتصار على اثنين ذكراً، وهو محتمل جداً؛ فإنا ذكرنا في مسألة الانفضاض في الجمعة أن من أئمتنا في تفريع الانفضاض من يكتفي بواحدٍ يبقى مع الإمام، فيكون الإمام معه اثنين، وهذا منقدح هاهنا، ملتفت على أن الاجتماعَ يحصل بهذا.
وما ذكره من الدفن فيه نظر؛ فإن الطفل الصغير يكفيه واحد، يضعه في قبره، وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم عليه السلام بنفسه في قبره. ولو استقلّ رجلان بوضع الميت في قبره من غير أن يُزرُوا به في هيئة الوضع، فلست أرى بذلك بأساً، والمعتمد في ذلك ترك الاستهانة، واجتناب تعريض الميت للسقوط.
__________
(1) فاعل (حكى) ضمير يعود على الشيخ أبي علي.

(3/60)


فصل
في المقتدي في صلاة الجنازة
1730 - قال الشيخُ أبو علي: من اقتدى في صلاة العيد بمن يكبر خمساً في الركعة الأولى، فهل يتابعه من يرى التكبيرات سبعاً، ويقتصر على الخمس، أم لا؟ ذكر فيه قولين. وكذلك لو كان المقتدي يرى خمساً، وكان الإمام يكبر سبعاً، فهل يتابعه، فيزيد اتّباعاً؟ فعلى قولين.
والذي عندي فيه أن المقتدي لو تابع، أو ترك المتابعة في التكبيرات، أو لم يكبر أصلاً، وكان الإمام يكبر، فلا ينتهي الأمر في ذلك إلى الحكم ببطلان الصلاة؛ فإن هذه التكبيرات ليست من الأركان (1)، حتى يقال: سبق الإمام بها، أو سبق المأموم بها، وفيه احتمال ظاهر. والعلم عند الله.
ثم قال الشيخ: لو اقتدى في صلاة الجِنازة بمن يرى التكبيرات خمساً، فهل يتابعه في التكبيرة الخامسة؟ فيه طريقان: منهم من قال: فيه قولان، كالقولين في تكبيرات صلاة العيد، ومنهم من قطع القولَ بأنه لا يزيد في صلاة الجِنازة على أربع تكبيرات، وهذا يلتفت على خلافٍ قدمناه في أن التكبيرة الخامسةَ هل تبطل الصلاة؛ فإن رأيناها مبطلةً، لم يتابِع المقتدي الإمامَ فيها.
ثم قال: إذا قلنا: يقتصر المقتدي على أربع، ولا يزيد وإن زاد إمامه، فإذا أتى المقتدي بالأربع، فيسلم، أو ينتظر، ويصبر، حتى يسلمَ إمامه بعد الخامسة؟ فعلى وجهين ذكرهما.
وهذا له التفاتٌ إلى ما ذكرته من أن الخامسة هل تُبطل الصلاة؟ وله تعلّقٌ بأن صلاة الإمام إذا كانت على صفةٍ يعتقد المقتدي بطلانَها في عقده لو صدرت منه، فكيف يكون سبيل الاقتداء والحالة هذه؟ [هذا] (2) يخرّج على خلافٍ تقدّم ذكرُه في مسائل
__________
(1) الكلام هنا عن صلاة العيد.
(2) في النسخ الثلاث: "هذه" والمثبت من (ل).

(3/61)


الأواني، في اقتداء الشافعي بالحنفي مع انطواء صلاة الحنفي على ما يراه الشافعي مبطلاً للصلاة، فإن منعنا ذلك، فليبادر المقتدي إذا كبر أربعاً، وليسلم قبل أن يكبر الإمام التكبيرة الخامسة.
ومما ذكره في مساق كلامه أنه لو اقتدى شافعي في صلاة الصبح بمن لا يرى القنوتَ، فإن علم المقتدي أنه لو قنت، سبقه الإمام بالسجود على التفصيل المشهور فيه، فلا يقنت، وإن علم أنه لا يسبقه، إن قنت، فهل يؤثر له القنوت؟ فعلى قولين ذكرهما، كالقولين في تكبيرات صلاة العيد.
[وقد انتهى كلامه في هذا المعنى] (1).
1731 - ومما يليق بهذا الفصل ذكر المسبوق في صلاة الجنازة: فلو كبر الإمامُ، ولحق مسبوقٌ قبل التكبيرة الثانية، فإنه يبادر عندنا تكبيرةَ العقد، ويشتغل بالقراءة، ولا يتوقف حتى يكبر الإمام التكبيرة الثانية.
وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: يصبر حتى يكبر الإمام التكبيرة الثانية، ثم يعقد الصلاةَ متصلاً بتكبيره الثاني.
ثم قال أئمتنا: لو كبر المسبوق، وافتتح قراءة الفاتحة، فكبر الإمام الثانية، وهو بعدُ في القراءة، فالقول في أنه هل يقطع القراءة، أو يتممها، كالقول فيه إذا ركع الإمام في سائر الصلوات، والمقتدي بعدُ في القراءة، والاختلاف مشهور فيه. وهذا فيه نظرٌ عندي؛ فإن المسبوق في سائر الصلوات لو أدرك الإمام راكعاً، صار مدركاً للركعة بإدراك ركوعها، ومن أدرك الإمام في صلاة الجِنازة، مع التكبيرة الثانية، لم نجعله كمن أدرك الصلاة في أولها، فليست مبادرة الركوع بمثابة مبادرة التكبيرة الثانية. فليفهم الناظر ذلك. ولكن إن كان يعذر في ترك بعض القراءة، حتى لا يسبقه الإمام، فقد يتجه ذلك على بُعد.
1732 - ومما يتعلق بما نحن فيه: أن المسبوق لو لحق الإمامَ في التكبيرة الثانية،
__________
(1) زيادة من (ل) وحدها.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 398 مسألة: 376، حاشية ابن عابدين: 1/ 587.

(3/62)


فإنه يكبر، ويقرأ الفاتحة، وإن كان الإمام يصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم، أو يدعو، فلا ينظر إلى ما الإمام فيه، بل يجري على ترتيبِ صلاة نفسه؛ فإن ما يدركه المسبوق أول صلاته عندنا، كما تقدم.
ومما يجب الإحاطةُ به في ذلك أن المقتدي المسبوق لو أدرك تكبيرةً واحدةً، وأخذ يجري على ترتيب صلاة نفسه، فسلّم الإمام، ورفعت الجِنازة، فالمسبوق يتم الصلاةَ، ولا يضره رفعُ الجِنازة، وإن حوّلت عن قُبالة القبلة، وإن كنا لا نرى جوازَ ذلك في الجنازة الكائنة في البلدة، في ابتداء عقد الصلاة على الوجه الظاهر، فكان شيخي يقول: المقتدي في صلاة الجِنازة إذا كبر لما كبر إمامه، فكبر إمامه الثانيةَ، فلم يكبر حتى كبر الثالثة من غير عذر، فهذا يقطع القدوة؛ فإن الإمام سبقه سبقاً بيّناً على ما ذكره. وهو مقطوع به عندنا.
فصل
في الصلاة على القبور
1733 - نقول أولاً: إذا صلى على الميت طائفة، وسقط فرضُ الكفاية بهم، فيجوز أن يصلّي عليه جيل (1) آخر عندنا، والأصل فيه ما روي أن مسكينةً كانت تقمّ المسجد، فمرضت؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ماتت فآذنوني، فاتفق أنها ماتت ليلاً، فصلى عليها قوم، ودفنوها ليلاً، ولم يُحبّوا أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم، صلّى على قبرها (2).
ولا يؤثر للرجل، إذا صلى على ميت مرة، أن يصلي عليه مرة أخرى، اتفق الأئمة عليه، وقالوا: لا يستحب التطوّع بصلاة الجنازة.
__________
(1) الجيل: الأمة. والأمة: الجماعة. (معجم).
(2) حديث الصلاة على قبر المسكينة، متفق عليه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (اللؤلؤ: 1/ 194 ح 560).

(3/63)


فإن قيل: فإذا سقط الفرضُ بصلاة طائفة، فصلاة الطائفة [الثانية] (1) مستغنى عَنها، فتقع تطوعاً، قلنا: نحن نقدّر كأن الآخرين صلوا مع الأولين، ولو صلى جمع على ميت، صحت صلاة جميعهم، وإن كان يقع الاكتفاء ببعضهم.
ثم الذي يظهر من كلام الأئمة أن من صلى مرَّةً منفرداً، ثم أدرك جماعةً يصلون، فلا يؤثر له أن يصلي لإدراك الجماعة، بخلاف ما قدمناه في الصلوات المفروضة.
ثم ظاهر كلام الأئمة أن من صلى مرة، ثم صلى ثانية، فلا نقضي ببطلان صلاته، ولفظ الصيدلاني: "إنا لا نحب أن يصلي مرة أخرى".
والحكم ببطلان صلاة من صلى مرة فيه احتمال عندي.
1734 - ثم إذا دُفن الميت، فالصلاة على القبر جائزة عندنا، والشاهد فيه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبر المسكينة.
ثم اختلف أئمتنا في أنا إلى متى نجوّز الصلاة على القبر؟ فقال قائلون: نجوّزها إلى أن ينمحق في الأرض، ويبلَى، ولا يبقى له أثر.
وقال صاحب التلخيص: "تجوز إلى شهر، ولا تجوز بعده". ولا ندري لما ذكره ثَبَت توقيفي. وتكلّف بعضُ الناس لها وجهاً، فقال: لعله أخذه من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي؛ فإنه قد قيل: بين الحبشة والمدينة مسيرة شهر.
وهذا ليس بشيء؛ فإنه صلى الله عليه وسلم علم موته يوم مات، وصلى عليه يوم موته.
وذكر الشيخُ أبو علي في الشرح وجهاً آخر، وهو أن الصلاة على القبر تجوز إلى ثلاثة أعوام، ولا تجوز بعدها. وهذا غريب غيرُ معتدٍّ به.
وفي بعض التصانيف وجه رابع: إنها تصحّ أبداً من غير اختصاص بأمد، وهذا في نهاية البعد، وهو خارج عن الضبط بالكلية.
والذي عليه التعويل من هذه الوجوه تجْوِيز الصلاة إلى البلى والامِّحاق.
__________
(1) سقطت من الأصل، (ط).

(3/64)


1735 - ثم قال الشيخ أبو زيد: إنما يصلي على القبر من كان من أهل الصلاة يوم الموت، فلو دفن وتمادى الزمان، ولكن كانت التربة حُرّة، لا يبلى دفينها إلا في الأمد الطويل، فلو كان الإنسان إذ ذاك طفلاً غير مميز، أو لم يكن، فوُلد وشبّ، وبلغ، لا يصلي على قبر ذلك الميت. وإن كان من أهل الصلاة يوم الموت، فيصلي على القبر ما لم يبل، كما تقدم. وهذا حسن.
ومن أئمتنا من لم يساعده على هذا التفصيل، وجوّز الصلاة في الحالتين جميعاً. ثم من جرى على التفصيل الذي ذكره الشيخ أبو زيد اختلفوا فيمن كان صبياً مميزاً يومئذ، ثم بلغ: فمنهم من قال: هذا يصلي على القبر؛ لأنه يوم الموت كان من أهل الصلاة، ومنهم من قال: لا يصلي بعد البلوغ، وهو اختيار الصيدلاني؛ لأنه يومَ الموت، لم يكن من أهل فرضية الصلاة، ولا اعتبارَ بكونه من أهل الصلاة على الجملة، إذا لم يكن من أهل الفرضية.
ومن كان كافراً يوم الموت، ثم أسلم، فالذي أراه أنه يصلي؛ فإنه كان متمكناً من الصلاة بأن يُسْلم، ويصلي، كالمحدث، والمرأة إذا كانت حائضاً يوم الموت، ثم طهرت، فالحيض ينافي صحةَ الصلاة ووجوبَها، ولكن هي على الجملة ممن يخاطَب [بالصلاة] (1) فالذي أراه أنها تصلي، إذا طهرت، عن ذلك.
ومما يتعلق بهذا الفصل، أنا إذا راعينا البلى، فإن تحققنا بقاء الميت، أو بلاه، فلا يخفى حكمه، وإن لم ندر، وترددنا، فقد يخطر للناظر بناء الأمر على بقاء الميت، وهو الأصل. ويجوز أن يقال: الصلاة تستدعي يقين البقاء في القبر.
1736 - ومما نذكره في ذلك الصلاة على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب المنعُ منها، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتخذوا قبري مسجداً" (2) وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) زيادة اقتضاها الإيضاح.
(2) ورد النهي من النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره مسجداً، في الحديث المتفق عليه، الآتي بعد هذا، وروى هذا الحديث مالك في الموطأ، وأحمد في المسند بلفظ: "اللهم =

(3/65)


"لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (1). ويخرّج هذا المنعُ على عللٍ منها: أن من افتتح الصلاة الآن ولم يكن مولوداً ولا موجوداً يوم توفي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم في الطريقة المرضية أن هذا يُمنع من إقامة الصلاة على القبر.
وذكر الشيخ أبو علي للمنع معنى آخر مأخوذاً، من الحديث: وهو ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث" (2)، وروي أكثر من يومين. وإذا كان كذلك، فلا معنى للصلاة على قبره.
ثم ذكر الشيخ أبو علي وجهاً عن بعض الأصحاب أنه تجوز الصلاة على قبره صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ونحن وإن جوّزنا ذلك، فلا يجوز أن يصلَّى عليه جماعة، بل يُصلّى عليه أفراداً، وهذا القائل يحمل المنع من اتخاذ القبر مسجداً على إقامة الجماعة. وتنزيل القبر في ذلك منزلة المساجد المهيأة للجماعات. والعلم عند الله تعالى.
1737 - ومما يتعلق بالقول في الصلاة على القبر أنا وإن جوزنا الصلاةَ بعد الدفن، وقلنا أيضاً: إنه لو دفن ميت، ولم يصلّ عليه، لم ينبش، بل يصلى عليه مدفوناً، فلا يجوز مع هذا كلِّه تأخيرُ الصلاة إلى ما بعد الدفن. ولو فُعل ذلك قصداً حَرِج به أهلُ الناحية، وإن وقعت الصلاة موقعها بعد الدفن. وهذا بيّن لا شك فيه.
__________
= لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" مالك عن عطاء بن يسار، وأحمد عن أبي هريرة وعند أبي داود، من حديث أبي هريرة: "ولا تجعلوا قبري عيداً" (ر. الموطأ 1/ 172، كتاب قصر الصلاة: ح 85، والمسند: 2/ 246، وأبو داود: 2/ 534، كتاب المناسك، باب (100) زيارة القبور، ح 2042).
(1) حديث "لعن الله اليهود ... " متفق عليه من حديث عائشة، وأبي هريرة. (ر. اللؤلؤ: 1/ 107 ح 306، 307، 308).
(2) حديث "أنا أكرم ... " قال الحافظ: لم أجده هكذا، لكن روى الثوري في جامعه: "ما يمكث نبي في قبره أكثر من أربعين ليلة حتى يرفع" ثم أورد الحافظ حديثاً عن أنس مرفوعاً: "مررت بموسى ليلة أسري بي، وهو قائم يصلي في قبره، وذكر أحاديث أخرى، وقال: إنها تقدح في هذه الأحاديث، ثم ذكر أن البيهقي أفرد جزءاً في حياة الأنبياء في قبورهم، فليراجع. كذا قال. (التلخيص: 2/ 125 ح 776).

(3/66)


فصل (1)
1738 - قد ذكرنا أن فرض الصلاة على الميت يسقط بواحد يصلي أو جمع، وأظهرنا الخلافَ في أقله، وقد تردد الأئمة في أن الفرض هل يسقط بصلاة النسوة المجردات.
وغرضنا الآن أنه إذا صلى على الميت جمعٌ كثير يقع الاكتفاء ببعضهم، فالذي ذهب إليه الأئمة أن صلاة كل واحدٍ تقع فريضة؛ إذ ليس بعضُهم بأن توصف صلاته بالفرضية أولَى من بعض، فإذا عسر التمييز والتخصيص، فالوجه القضاء بالفرضية في حق الكافة.
ويحتمل أن يقال: هو بمثابة ما لو أوصل المتوضىء الماء إلى جميع رأسه دفعةً واحدة، وقد تردد الأئمة في أن الكل يوصف بالفرضية، أم الفرض مقدار الاسم على الإبهام من الرأس، فليخرّج الأمر في الجمع على ذلك.
ولكن قد يتخيل الفطن في ذلك فرقاً؛ ويقول: مرتبة الفريضة تزيد على مرتبة السنة، وكل مصل في الجمع الكثير لا ينبغي أن يُحرَم رتبة الفرضية، وقد قام بما نُدب إليه. وهذا لطيفٌ، ثم لا يتحقق مثله في مسح الرأس أيضاً؛ فإن التطوّع بالزيادة على مقدار الفرض في مسح الرأس مشروع، والتطوّع بصلاة الجنازة ممنوع.
ثم قال الأئمة: إذا صلى قومٌ على الميت، وسقط الفرض بهم، فيجوز أن يصلِّي عليه آخرون، وإذا صلَّوا كانوا بمثابة ما لو كانوا مع الأولين في جماعة واحدة، وهذا وإن كان يتميز عن الصورة الأولى؛ من جهة ما جرى من التمييز في الترتيب، فوجهه مع ما فيه من الاحتمال الظاهر أن التطوع بصلاة الجنازة غيرُ مشروع، فإذا صح في الأخبار والآثار ترتيبُ الجماعة في إقامة الصلاة على الميت، فالوجه تنزيل المرتبين منزلة المجتمعين في جماعة واحدة.
__________
(1) في (ل): (فرع) مكان فصل.

(3/67)


فصل
"ولا يُدخل الميتَ قبرَه إلا الرجالُ ... إلى آخره" (1)
1739 - إن كان الميت رجلاً، فلا شك في ذلك، وإن كان امرأة، فالأمر أيضاًً كذلك، ولكن قال الشافعي فيما نقله الصيدلاني: يتولى ذلك زوجها، ومحارمها، وإن لم يكونوا، فعبيدها، فإن لم يكونوا، فخصيان، فإن لم يكونوا، فأرحام، فإن لم يكونوا، فالأجانب.
فأما تقديمه الزوج والأرحام الذين هم محارم، فهو حتمٌ قياساً على الغُسل، وأما ذكره الأرحام، الذين ليسوا محارم، فما أراه محتوماً؛ فإنهم في وجوب الاحتجاب عنهم في الحياة كالأجانب، وفي العبيد -وقد انقطع ملكها عنهم بالموت- احتمالٌ ظاهر. وقد ذكرنا تردداً في غُسل الأمة مولاها. وفي الخصيان احتمالٌ بيّن سيأتي ذكره، في أول كتاب النكاح إن شاء الله تعالى، عند ذكرنا من يحلّ له النظر، ومن لا يحل.
1740 - وغرض الفصل أن النسوة لا يتولَّيْن دفنَ امرأةٍ، والسبب فيه أنهن يضعفن عن مثل ذلك، وقد يؤدي تعاطيهن لهذا إلى انهتاك في الميّتة، وأيضاًً فإنهن ينكشفن في تعاطي ذلك، ورعاية الستر فيهن أوْلى من رعايته في المتوفاة، فإن لم يوجد غيرهن، فإذ ذاك يفعلن عن اضطرار.
ثم ينبغي ألا يتعاطى الدفنَ أقلُّ من ثلاثة، كما تقدم ذكره، فإن زادوا، فقد قيل ينبغي أن يكون عددهم وتراً، ولاستحباب ذلك نظائر في الشريعة، والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تولى دفنه علي، والفضل، وأسامة، وقد قيل: ممن تولى ذلك عبد الرحمن بن عوف (2)، فإن صح، حُمل تركُ رعاية الإيتار على الجواز.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 184.
(2) حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دفنه علي والعباس، وأسامة .. "، رواه أبو داود، وفيه أنهم أدخلوا معهم عبد الرحمن بن عوف. (ر. أبو داود: 3/ 544، كتاب الجنائز، =

(3/68)


1741 - ثم ذكر الشافعي أن الميت يُسلّ من قِبل رأسه، وبيان ذلك أن الجِنازة توضع ورأسها عند مؤخرة القبر ثم يدخل القبرَ من يتعاطى هذا ويسلُّون الميت، فيأخذون مقاديمه، ورأسه، ويدخلونه القبر كذلك، سلاً رفيقاً.
وأبو حنيفة (1) يقول: توضع الجنازة على طول القبر في جهة القبلة، ثم يأخذه الرجال عرضاً ويردّونه القهقرى، إلى قبره. وروي عن إبراهيم النَّخَعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل به ذلك (2).
قال الشافعي: هذا من أقبح ما يغلط به، وقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ملصق بالجدار، ولحده تحت الجدار، ولا موضع للجنازة وراء القبر أصلاً.
ثم عقد الشافعي باباً فيما يقال إذا أدخل الميت قبره، والدعوات مسطورة، فلتتأمل (3).
...
__________
= باب (66) كم يدخل القبر؟ ح 3209، 3210، والثلخيص: 2/ 128 ح 784).
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 406 مسألة: 386، وفتح القدير: 2/ 98، حاشية ابن عابدين: 1/ 600.
(2) حديث: "أن النبي صلى الله عليه وسلم سُل من قبل رأسه .. " رواه الشافعي عن ابن عباس، وروى ابن ماجة عن أبي رافع قال: سلّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ سلا.
(ر. المختصر: 1/ 184، والأم: 1/ 241، وابن ماجه: الجنائز، باب ما جاء في إدخال الميت القبر، ح 1551، والتلخيص: 2/ 128 ح 783).
(3) ر. المختصر: 1/ 185: باب ما يقال إذا أدخل الميت قبره.

(3/69)


باب التعزية وما يهيّأ لأهل الميت
1742 - التعزية سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من عزى مصاباً، فله مثل أجره" (1)، ثم ذكر الشافعي أن من شهد الجنازة، فينبغي أن يؤخر التعزية إلى ما بعد الدفن؛ فإن أولياء الميت لا يتفرغون إلى الإصغاء إلى التعزية، وهم مدفوعون إلى تجهيز الميت. وغرض التعزية الحمل على الصبر بوعد الأجر والتحذير من الوزر في إفراط الجزع، وتذكير المصاب رجوعَ الأمر كلِّه إلى الله.
ولا بأس بتعزية أهل الذّمة، ولكن لا يدعى لميتهم الكافر، بل يقال: جبر الله مصيبتك وألهمك الصبر، وما أشبه ذلك.
1743 - وذكر صاحب [التلخيص] (2) في كتابه: أنه لا أمد للتعزية تقطع عنده، بل لا بأس بها وإن طال الزمان. فمن أصحابنا من ساعده على ذلك، فإنه لم يَثبت في ذلك توقيف وثبت.
ومنهم من قال: لا تؤثر التعزية بعد الثلاث، فإن فيها تجديدَ ذكر المصيبة، وفي الحديث ما يشهد لهذا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله
__________
(1) حديث: "من عزى مصاباً .. " رواه الترمذي، وابن ماجة والحاكم عن ابن مسعود. وقد ضعفه الألباني. (ر. التلخيص: 2/ 138 - ح 799، والترمذي: الجنائز، باب ما جاء في أجر من عزى مصاباً، ح 1073، وابن ماجة: الجنائز، باب ما جاء في ثواب من عزى مصاباً، ح 1602، والبيهقي: 4/ 95، خلاجمة البدر المنير: 1/ 276 ح 965، ضعيف ابن ماجة: ص 121 ح 350، إرواء الغليل: 765، ضعيف الجامع الصغير: 5696).
(2) في الأصل، و (ط): التقريب. والصواب أنه (التلخيص)، فقد نصّ على ذلك النووي، حينما أشار إلى حكاية إمام الحرمين لهذا الوجه (ر. المجموع: 5/ 306). وأكدت (ل) ذلك.

(3/70)


واليوم الآخر أن تحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا الزوجة فإنها تحد على زوجها" (1) ولا يبعد أن تشبه التعزية بالحزن على الميت.
1744 - ثم قال الشافعي: حسن أن يصنع الجيران لأهل الميت طعاماً؛ فإنهم قد لا يتفرغون لذلك. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ورد نعيُ جعفر: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً" (2).
...
__________
(1) حديث: "لا يحلّ لامرأة ... " رواه مسلم من حديث عائشة، وحفصة. (ر. التلخيص: 3/ 239 ح 1646، مسلم: 2/ 1124، باب وجوب الإحداد ح 1486، 1487).
(2) حديث: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً" رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، والدارقطني، والحاكم، والشافعي، من حديث عبد الله بن جعفر. (ر. أحمد: 1/ 205، أبو داود: الجنائز، باب صنعة الطعام لأهل الميت، ح 3132، الترمذي: الجنائز، باب ما جاء في الطعام يصنع لأهل الميت، ح 998، ابن ماجه: الجنائز، باب ما جاء في الطعام يبعث إلى أهل الميت، ح 1610، الدارقطني: 2/ 78، الحاكم: 1/ 372، مختصر المزني: 1/ 186، التلخيص: 2/ 138 ح 800).

(3/71)


باب البكاء على الميت
1745 - أهل المحتَضَر لو بكَوْا عليه قبل أن تقبض نفسُ الميت، فلا بأس، وإن أمكنهم أن ينكفوا إذا قضى نحبه، فهو الأولى؛ إذ روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجب (1)، فلا تبكين باكية" (2)، وإن غُلبوا، فلا كراهية في البكاء على الجملة، مع توقِّي النياحة، وشق الجيب، وضرب الخدود، وقد ورد الحديث بالنهي عن النُّدبة، ومعناها أن يُذكر من يُبكى له بمناقب، فيقال: واسيداه واكهفاه، وما أشبه ذلك. وقد روي أن خالد بن الوليد لما وقع في الموت، وكان يُغشى عليه ويُفيق والذين بحضرته يندبون، ويقولون: واكهفاه، واجبلاه، فأفاق من غشيته، وقال: إني خُوِّفتُ بما ندبتموني به، وقيل (3) إنه كهفهم وجبلهم.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع حافداً له من أولاد بعض البنات في حجره وهو يجود بنَفْسه، ونَفْسُه تتقعقع، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها رحمة وإن الله يرحم من عباده الرحماء" (4).
__________
(1) الوجوب: الموت، وقيل: إذا أدخل القبر. والأول أصح. (ر. التلخيص: 2/ 139).
(2) حديث: "إذا وجب .. " رواه مالك والشافعي عنه، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، من رواية جابر بن عتيك. (ر. أبو داود: الجنائز، باب في فضل من مات بالطاعون، ح 3111، والنسائي: الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت، ح 1847، وأحمد: 5/ 445، 446، والموطأ: كتاب الجنائز 1/ 233، والتلخيص: 2/ 138 ح 801).
(3) وقيل أي: وقوْل. وفي (ل): "وقيل: أنت كهفهم". أي قيل له: أنت كهفهم وجبلهم.
(4) حديث: "إنها رحمة ... " متفق عليه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما (ر. اللؤلؤ والمرجان: الجنائز، باب البكاء على الميت، ح 531).

(3/72)


وحديث بكائه على ابنه إبراهيم معروف (1) وقد قيل له في ذلك فقال: إنما (2) نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين: أحدهما عند الفرح والآخر عند [الحزن] (3).
1746 - ومما يجب التثبت فيه أن النياحة محرّمة، والأخبار في تغليظ الأمر على النائحة مشهورة، والبكاء ليس بمحرم، والقول الضابط في ذلك أن كلّ قول يتضمن إظهار جزع يناقض الانقياد والاستسلام لقضاء الله، فهو محرم، وشق الجيب، وضرب الرأس والخد، أفعالٌ مشعرة بالخروج عن الانقياد لحكم الله.
والذي ظهر في الأخبار ومذاهب الأئمة تحريمُ ذلك، وعندي أن في الاقتصار على الحكم بالكراهية مجال، والتحريم يختص بالقول الذي يخالف الرضا بمجاري القضاء. والعلم عند الله تعالى.
والظاهر ما قاله الأئمة، فالمعتمد فيما يحرم ما ذكرناه، ورفع الأصواتِ على إفراطٍ في معنى شق الجيوب.
1747 - ومما اعتنى الشافعي بالكلام عليه، ما روي أنه مات بعض آل عمر (4) وكان النساء يبكين وابن عباس وابن عمر جالسان على باب حجرة عائشة، فقال ابن عباس لابن عمر: هلا نهيتهن، فقد سمعتُ أباك عمر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الميت ليعذّب ببكاء أهله عليه، فسمعت عائشة ذلك، فقالت:
__________
(1) حديث بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم، أخرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، (ر. البخاري: كتاب الجنائز، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا بك لمحزونون، ح 1303، ومسلم: كتاب الفضائل، ح 2315، باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان، وأبو داود: الجنائز، باب في البكاء على الميت، ح 3126، والتلخيص: 2/ 139 ح 802).
(2) حديث "وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين فاجرين" عند الترمذي: كتاب الجنائز، باب (25) الرخصة في البكاء على الميت، ح 1005، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة غير الترمذي ولفظه عند الترمذي: "صوت عند مصيبةٍ، خمشِ وجوه، وشقّ جيوب، ورنّةِ شيطان" قال النووي في الخلاصة: المراد به الغناء والمزامير. (ر. تحفة الأحوذي: 4/ 85).
(3) في الأصل، و (ط): الجزع.
(4) الذي عند الشيخين، أن الميت كان من آل عثمان بن عفان (ر. اللؤلؤ: 1/ 185).

(3/73)


رحم الله عمر: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا، ولكنه قال: إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله. ثم قالت: حسبكم القرآن قال الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
ثم فيما ذكرته إشكال أيضاً؛ فإن الزيادة في عذاب الكافر لمكان بكاءٍ يصدر من غيره مشكل، قال المزني: بلغني أن الكفار كانوا يوصون بأن يندَبوا ويُبكَوْا؛ فإنهم يعذبون على وصاياهم. والرواية الصحيحة عن عائشة في ذلك أنها قالت: رحم الله عمر ما كذب، ولكنه أخطأ أو نسي، إنما مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهوديّةٍ ماتت ابنتها، وهي تبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنهم يبكون، وإنها تعذب في قبرها" (1) وهذه الرواية لا تُحوج إلى تأويل أصلاً؛ إذ ليس فيها أنها تعذب بسبب بكائهم. والله أعلم (2).
...
__________
(1) حديث: "إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" متفق عليه عن عمر رضي الله عنه، يرويه عنه ابنه عبد الله، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم. واستدراك عائشة رضي الله عنها هذا الحديث على عمر مشهور. والروايتان اللتان أوردهما إمام الحرمين، متفق عليهما؛ سواء الأولى التي تحتاج إلى التأويل الذي روي عن المزني، أم الآخرة، التي لا تحتاج إلى تأويل، والتي اعتمدها إمام الحرمين رضي الله عنه. (ر. اللؤلؤ: 1/ 184 الأحاديث من 534 - 539).
(2) خاتمة نسخة (ل) التي انتهت هنا جاء فيها ما نصه: "تم بحمد الله ومنّه السفر الأول من (النهاية) وهو آخر كتاب الكنائز (كذا) يتلوه (كتاب الزكاة) إن شاء الله تعالى.
كتب من نسخة الفقيه الأجل، الكبير، الإمام، العالم، العامل، الورع، تقي الدين أبي عبد الله، محمد بن الشيخ أبي علي بن رزين، نفعه الله بالعلم، وزينه بالحلم في الدارين.
كتبه العبد الفقير إلى رحمة الله تعالى الراجي عفو الله وكرمه، إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة، غفر الله له، ولجميع المسلمين في ... ها ليلة الخميس رابع عشر ذي القعدة من شهور سنة ست وعشرين وستمائة للهجرة النبوية.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم".

(3/74)