نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الزكاة (1)
باب فرض الإبل السائمة
1748 - الأصل في الزكاة الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (2) [البقرة: 43] وقال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وقال صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس" (3) الحديث، وروى ابنُ عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا جارت الولاة، قحَطت السماء، وإذا مُنعت الزكاة، هلكت المواشي، وإذا ظهر الزنا، ظهر الفقر، وإذا أخفر أهلُ الذمة، أدِيل [للكفار] " (4). وقال صلى الله عليه وسلم: "ما خالطت الزكاة مالاً إلا
__________
(1) هنا انتهت نسخة (ل) وبدأت نسخة (ك) وعادت نسخة (ت 2) بعد انقطاعها، وما زالت نسخة (د 1) أصلاً، يساعدها (ت 1)، (ط)، (ت 2)، (ك)، والله المعين والهادي إلى الصواب.
(2) ورد هذا الجزء من الآية الكريمة، في تسع آيات من القرآن الكريم بهذه الصيغة بعينها.
أما لفظ الزكاة، فقد جاء في مقام الحث عليها، ومدح فاعليها، اثنين وثلاثين مرة.
(3) حديث "بني الإسلام على خمس" متفق عليه، من حديث ابن عمر (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 3 ح 9).
(4) حديث: "إذا جارت الولاة" لم أصل إليه بهذا اللفظ، ولكن عند ابن ماجة (فتن) باب العقوبات ح 4019 بمعناه، وهو عن ابن عمر أيضاً: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خمسٌ إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن ... ، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا ... " وذكره السيوطي في جامعيه بلفظ: "إذا ظهرت الفاحشة، كانت الرجفة، وإذا جار الحكام، قلّ المطر، وإذا غدر بأهل الذمة، ظهر العدوّ" وليس فيه منع الزكاة، وعزاه في الصغير للديلمي في الفردوس، وعزاه في الكبير له، ولابن عدي. ورمز له بالضعف، وضعفه المناوي في الفيض، إلا أنه أضاف قائلاً: "لكن له شواهد". =

(3/75)


أهلكته" (1) وقال صلى الله عليه وسلم: "مانع الزكاة في النار" (2) إلى غير ذلك.
وأجمع المسلمون على أن الزكاة من أركان الإسلام.
1749 - والزكاة هي النماء: من قولهم "زكا الشيء" إذا نما. وإخراج الزكاة وإن كان حطّاً من مقدار المال، ولكن يُمْنُ إخراجِه ينمّي المال. قال صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مالٌ من صدقة" (3). وقال عزّ من قائل: {وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39].
1750 - ثم الزكاة تنقسم إلى ما يتعلق بالذمة، ولا يختص بمال، وإنما المرعيّ فيه الإمكان، وهو زكاة الفطر، وإلى ما يتعلق بمالٍ، وهو منقسم إلى ما يتعلق بالأعيان، وإلى ما يتعلق بالقيم.
فأما ما يتعلق بالقيم، فزكاة التجارة، وأما ما يتعلق بالأعيان، فالأعيان التي تتعلق بها الزكاة: حيوان، وجوهر، ونبات.
__________
= وفي جميع النسخ: "أديل الكفار" ولكن المنصوص في المعاجم أنه يتعدى باللام: أديل له: أي نُصر (ر. المعجم والنهاية في غريب الحديث).
(1) حديث: "ما خالطت الزكاة مالاً ... " رواه الشافعي، والبخاري في تاريخه، والحميدي، والبزار، والبيهقي (ر. نيل الأوطار: 4/ 211، والترغيب والترهيب: 2/ 63، والحميدي: 1/ 115 ح 237).
(2) حديث: "مانع الزكاة ... " رواه الطبراني في الصغير، من حديث أنس، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ر. صحيح الترغيب: 1/ 320 ح 760، والطبراني في الصغير 2/ 58).
هذا وقد تعقب ابن الصلاح من استدل بهذا الحديث، وقال: "لم أجد له أصلاً" فتعقبه الحافظ ابن حجر قائلاً: "وهذا عجيب منه؛ فقد رواه الطبراني" (ر. التلخيص: 2/ 157)
(3) حديث: "ما نقص مال من صدقة" جزء من حديث رواه مسلم، والترمذي، وأحمد، والدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان من حديث أبي هريرة بلفظ: "ما نقصت صدقة من مال ...... "، (ر. مسلم: البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع، ح 2588، والترمذي: البر والصلة، باب ما جاء في التواضع، ح 2029، أحمد: 2/ 235، 386، 438، الدارمي: 1/ 396، ابن خزيمة: 2438، ابن حبان: 3248)

(3/76)


فأما الحيوان، فالنَّعم، وهي: الإبل، والبقر، والغنم.
والجوهر: الدراهمُ، والدنانيُر.
والنباتُ: في الزروع، والثمار كلُّ (1) مقتات.
1751 - ثم بدأ الشافعي من زكاة النَّعم بزكاة الإبل، واعتمد في نُصُبها وأوقاصها (2) ما رواه بإسناده عن أنس بن مالك (3) وهو مشهور مذكور في ظاهر المختصر (4). وفي أوله: "هذه الصدقة. بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي أمر الله بها".
فقوله أولاً: "هذه الصدقة" ترجمة، وعنوانُ الكتاب "الصدقة"، كما يُثبت الكاتب في أول كتاب: "هذا كتاب الصدقات". ثم ابتدأ الكتابَ بعد أن عَنْوَنَه فقال: "بسم الله" وأراد بالفرض التقديرَ: فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، معناه قدّرها، وتقديره إياها إبانتُه لها، ثم اشتمل الحديث على بيان النُّصب، والأوْقَاص.
__________
(1) خبر لقوله: "والنبات في الزروع والثمار".
(2) الأوقاص: جمع وقص، بسكون القاف، وفتحها. وهو ما بين الفريضتين، وقيل: إنها بالفتح فقط، وغلطوا الفقهاء في إسكانها (قاله ابن بَرّي). وقد ردّ هذا القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وغيرهما من أئمة الفقه، وأكدوا أن أكثر أهل اللغة قالوه بالإسكان. ثم هو بالسين أيضاً: الوقْس والوقص. قال النووي: رأيته هكذا بالسين في نسخ مختصر المزني عن الشافعي. (والذي في المطبوع: الوقص: بالصاد).
ثم: الشَّنَق بمعنى الوقص، ومنهم من جعل الشنق خاصاً بأوقاص الإبل.
راجع هذا بتفصيل في: (تهذيب الأسماء واللغات: 4/ 193، والمجموع: 5/ 391، وانظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: 141 ففرة: 268، ومختصر المزني: 1/ 195، والقاموس المحيط)
(3) حديث أنس رواه الشافعي بطوله، وله عدة طرق، أخرجها أبو داود، والنسائي، والبيهقي، والحاكم، قال ابن حزم: "هذا كتاب في غاية الصحة، عمل به الصديق بحضرة العلماء، ولم يخالفه أحد" اهـ (ر. البخاري: ح 1448 - 1454، 2487، 3106، 5878، 6955، والأم: 2/ 4 والتلخيص: 2/ 158 ح 813).
(4) المختصر: 1/ 188. هذا المثبت نص المختصر، وعبارة الأصل، (ت 1): "هذه الصدقة لمستغنيهم. بسم الله الرحمن الرحيم ... الخ"

(3/77)


ونحن نستاق ذكرها من أولها إلى آخرها، ونجري على ترتيب الحديث فيها، حتى يأنسَ الناظر بأصول المذهب في النُّصب والأوقاص، ثم ننعطف على استيعاب خفايا المذهب في كل نوع وفن منها.
1752 - فنقول: أول نصاب الإبل خمس، فليس فيما دون خمسٍ من الإبل شيء، وفي خمس شاة، وفي عشرٍ شاتان، وفي خمسَ عشرةَ ثلاثُ شياه، وفي عشرين أربعُ شياه.
فإذا بلغت خمساً وعشرين، وجبت فيها الزكاة من جنسها، ففيها ابنةُ مخاض، وهي التي استكملت سنة، وطعنت في الثانية، فإن لم يكن في ماله ابنةُ مخاض، فابن لبون ذكر، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ستاً وثلاثين، فإذا بلغتها، ففيها بنتُ لبون؛ وهي التي تزيد على التي قبلها بسنة، ثم لا شيء إلى ست وأربعين، وفيها حِقّة، وفى إحدى وستين جذعة.
وهذا منتهى الترقِّي في الأسنان.
ثم في ستٍّ وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حِقَّتان، ثم لا شيء في زيادتها حتى يبلغ المال مائةً وعشرين، فإذا بلغها وزاد بعيراً واحداً، فيجب في هذا المبلغ ثلاثُ بنات لبون، ثم يستقر الحساب في الأوقاص والنُّصب على عشرٍ عشرٍ، من غير تفاوت، في كل خمسين حِقة، وفي كل أربعين بنت لبون، ففي المائة والعشرين والواحدة ثلاثُ بنات لبون؛ فإنها ثلاث أربعينات.
وسنذكر التفصيل في الواحد الزائد.
ثم كلما كملت عشر تبدل بنتُ لبون بحقة.
هذا ما يقتضيه الحساب، حتى تتمخض الحِقاق، ففي مائة وثلاثين حقة، وابنتا لبون، فإنها خمسون وأربعينان. وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون. وفي مائة وخمسين ثلاثُ حقاق. فإذا زادت عشراً، انتقلنا من الحِقاق إلى بنات اللبون، وزدنا في العدد.
ففي مائةٍ وستين أربعُ بنات لبون. وفي مائة وسبعين حِقة، وثلاثُ بنات لبون.

(3/78)


وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون. وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون. وإذا بلغ المال مائتين، فيجتمع فيها حسابُ الحقاق وبنات اللبون؛ فإن المائتين خمسُ أربعينات، وأربع خمسينات؛ ففي المبلغ بحساب الخمسين أربع حقاق، وفيه بحساب الأربعين خمسُ بنات لبون.
وسيأتي في ذلك فصلٌ مفرد إن شاء الله تعالى، فهذا بيان النُّصب المرسلة.
ونحن ننعطف على الأول، ونأتي في كل مقامٍ بفصلٍ نستوعب ما فيه إن شاء الله تعالى.
فصل
1753 - فيما دون خمس وعشرين من الإبل الشاء (1).
والمعنى الضابط فيه أن الإبل قد بلغ دون الخمس والعشرين مبلغاً يحتمل المواساة، ولم ير الشارع أن يوجب فيما دون الخمس والعشرين بعيراً، فيكون إجحافاً برب المال، ولم يرَ أن يوجب شقصاً من بعير؛ لما في التشقيص من التعذر، ونقصان القيمة؛ فعدل عن جنس الإبل إلى الغنم، فأوجب في خمس شاةً، وفي عشرين أربعَ شياه، كما تقدم.
1754 - ثم الكلام في هذا يتعلق بأمرين:
أحدهما - في إخراج بعيرٍ يُجزىء عن الخمس والعشرين، والآخر في صفة الشاة التي يخرجها، فأما إذا أخرج بنتَ مخاض ومالُه خمس الإبل، فالذي قطع به أئمتنا أن ذلك يجزئه، وتعليله أنها تجزىء في الخمس والعشرين، فلأن تجزىء في الخمس، أوْلى، فهذا متلقى من جهة الفحوى، قريب من استفادة تحريم الضرب، من النهي عن التأفيف، في قوله تعالى {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23].
ثم لو أخرج بعيراً يجزىء عن الخمس والعشرين (2)، ولكن كان لا يساوي شاةً
__________
(1) الشاء: جمع شاة (المصباح).
(2) المراد أخرجه عن خمسٍ، كما هو واضح من سياق الكلام الآتي.

(3/79)


لعزة الغنم، ورخص جنس الإبل في ذلك القطر، فالذي قطع به الأئمة أنه يجزىء لإجزائه عن الخمس والعشرين. وفي بعض التصانيف عن القفال أنه لا يجزىء، حتى تبلغ قيمته شاةً، وقد ذكره شيخي أيضاً مطلقاً، ولم يَعْزُهُ إلى القفال.
واعتبار القيمة بعيدٌ على رأي الشافعي، ولكن المتبع في الباب ما ذكرناه من طريق الفحوى، في الإجزاء [في] (1) الكثير، وإشعار هذا بأنه يجزىء [في] (2) القليل، ولا التفات إلى القيمة، وإن علمنا أن سبب العدول إلى جنس الغنم الترفيه والتخفيف.
ولكن إن اتفق على ندور عزةُ الغنم، فالأصل المرعيُّ لا يختلف.
1755 - ثم إذا وضح أن البعير المجزىء عن خمسٍ وعشرين يجزىء عما دون ذلك، فإذا أخرج بعيراً عن خَمسٍ، فقد ذكر الأئمة خلافاً في أن البعير بجملته يقع فرضاً، أم الفرض منه الخُمس، والباقي متطوَّعاً به تبرعاً؟ فقالوا: في المسألة وجهان.
وذكر العراقيون أن هذا يناظر ما لو لزمته التضحية بشاة، فلو ضحى ببدنةٍ، أو بقرة، فالبدنة تقع فرضاً، أم الفرض مقدار السُّبُع، والباقي تطوع؟
وهذا التشبيه زلل، والوجه القطع بأن الزيادة على السُّبُع تطوعٌ في الضحايا؛ فإن من أراد الاقتصار على سُبُع بدنة بدلاً عن شاة، جاز له ذلك، فالستة الأسباع الباقية زيادة منفصلة عن السُّبع الكافي، ولكن يخرج ما ذكروه من الخلاف في الهدايا على ما تقدم ذكره في أن من استوعب الرأس بالمسح، فهل يقع الكل فرضاً أم لا؟ والأصح أن الفرض قدرُ الاسم؛ إذ يجوز الاقتصار عليه.
فهذا قولنا فيما استشهد به العراقيون في الهدايا.
فأما ما فيه كلامنا، فهو على مقتضىً آخر؛ من جهة أنا لا نعرف خلافاً في أنه لو أخرج خُمسَ بعير، بدلاً عن الشاة التي أوجبها الشارع، لم يَجْزِه ولم يكفهِ؛ فليست هذه المسألةُ مناظِرةً لما وقع الاستشهاد به، فخروج الخلاف فيها أَوْجَه.
__________
(1) في الأصل، و (ط) و (ت 1): من. والمثبت من: (ت 2)، (ك).
(2) في الأصل، و (ط) و (ت 1): من. والمثبت من: (ت 2)، (ك).

(3/80)


ومن يقول: الفرض مقدار الخُمس، فمعناه أنه مقدار الخمس على شرط التبرع بالبقية، حتى يزول عيبُ التشقيص.
فليفهم الناظر ذلك.
فلو ملك عشراً من الإبل، فأخرج بعيراً واحداً، فقد ذكر الأصحاب أن هذا يخرج على الخلاف المتقدم، فإن قلنا: يقع جميعُ البعير في الخَمس فرضاً، ويقوم مقام شاةٍ؛ فلا يقع الاكتفاء في العَشر ببعيرٍ واحد، بل لا بد من بعيرٍ وشاةٍ، أو بعيرين.
وإن قلنا: المفروض من البعير في الخَمس مقدار خُمسه، فيجزىء البعير عن العَشر، والمفروض منه مقدار الخُمسين، والباقي متطوَّع به، كما تقدم تفصيل ذلك.
وهذا غير سديد عندي، وخارج عن القاعدة المرضية؛ فالوجه القطع بإجزاء البعير الواحد في العشر لإجزائه في الخمس والعشرين، ومن حاد عن اعتبار الأوْلى من طريق الفحوى، فقد ضل عن سواء طريقه ضلالاً بعيداً، واختبط في أمورٍ خارجة عن الضبط.
وإذا وضح هذا في العشر؛ فتفريعه في الخمسةَ عشرَ، وفي العشرين على هذا النحو فالوجه المعتبر (1) أن ما يجزىء عن الكثير يجزىء عن القليل لا محالة.
وسنوضح اطّراد ذلك في تفاصيل المذهب بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فهذا قولنا في هذا الطرف، وهو إذا أخرج بعيراً عن خمس من الإبل، وأقامه مقام شاة.
1756 - ثم ذكر بعض الأصحاب تردداً، في أن البعير المخرجَ عن خمسٍ من الإبل أصل، أم بدل عن الشاة؟ وهذا بعيد؛ فإن إثبات البدل لا يناسب مذهب الشافعي، وإن غلط من ظن ذلك من قول بعض الأصحاب: إن قيمة البعير ينبغي ألا تنقصَ عن قيمة شاة مجزئة.
__________
(1) اضطربت النسخ كلها في هذه الجملة، ففي الأصل: "فالوجه المعتبر في"، وفي (ط): "والوجه المعتبر في" وفي (ت 1): "والوجه المصير إلى ما يجزي" والمثبت من (ت 2)، (ك).

(3/81)


ومما يجب التنبه له في هذا المقام أنه لو ملك خمسةُ نفر خمساً وعشرين من الإبل، فكان لكل واحد منهم خُمُسها شائعاً، فإذا أخرجوا بنت مخاضٍ، فيقع خُمسُها عن نصيب كل خليط، ولكن المُلاَّك في الخلطة كالمالك الواحد - على ما سيأتي تمهيدُ القول في الخلطة إن شاء الله تعالى.
1757 - فأما الكلام في جنس الشاة التي يُخرجها عن الخَمس من الإبل فزائداً، إلى الخمس والعشرين، فنقول: أولاً إذا ملك الغنمَ الزكاتيَّ، فلا شك أنه يُخرج من جنس غنمه، أو أفضلَ منه؛ فإن من ملك من المعز أربعين، أجزأته ثنية من المعز.
وإن ملك أربعين من الضأن، لم يجزئه إلا ضائنة كما سيأتي، ولا نظر إلى الغنم الغالبة في البلد.
وإذا كان يخرج شاةً من (1) خمس من الإبل، فليس المخرَج من جنس مال الزكاة.
فالذي ذكره العراقيون: أنه يخرج الشاة من الشاء الغالبة في البلد، وقالوا في استتمام الكلام: من عليه العُشر وزكاةُ الفطر، فيعتبر في العُشر جنس المعشَّر، وفي زكاة الفطر القوتُ الغالب في البلد، فكذلك إذا كان يخرج شاةً من غنمه الزكاتي، فالاعتبار بنوع غنمه، وإن كان يخرج شاةً من خمسٍ من الإبل، فالاعتبار بالغنم الغالبة في البلد.
وذكر صاحب التقريب نصّاً عن الشافعي موافقاً لما ذكره العراقيون، ونسب نقله إلى المزني، وغلَّطه في النقل، ونقل نصوصاً مخالفةً لذلك، متضمنها أنه يُخرج شاة من أي نوعٍ كان: جذعةً من الضأن، أو ثنية من المعز، ولا نظر إلى غنم البلد، والذي ذكره صاحب التقريب في نهاية الحسن، وتوجيهُه ما ذكره: وهو أن الشاة أُوجبت مطلقةً في الذمة، فاعتبر اسم الشاة، والشاة الشرعيةُ جذعة من الضأن، أو ثنية من المعز، ولا يتخصص لفظ الشارع بالعُرف على مذهب المحققين في الأصول، وشبَّه لفظ الشاة في ذلك بلفظ الشاة في الضحية؛ فإنها تجزىء، ولا يعتبر ما يغلب في
__________
(1) كذا في النسخ الخمس كلها (من)؛ فلا يسبق الظن إلى أنها محرّفة؛ فقد نصوا في كتب اللغة على أن (مِن) تأتي مرادفة لـ (عَن). (ر. مغني اللبيب على سبيل المثال).

(3/82)


البلدة، حتى لو كان غالب غنم البلدة الضأن، فضحى بثنيةٍ من المعز، أجزأت.
والذي ذكره العراقيون توجيهه -على البعد- تنزيلُ المطلق على العُرف في كل زمان. وسيأتي تفصيل المذهب في زكاة الفطر وأنَّ المعتبر فيها القوتُ الغالبُ في ظاهر المذهب، فقد يتمسك بهذا العراقيون.
وعلى الجملة ليست زكاة الفطر ممَّا نحن فيه؛ فإن الشارع ذكر فيها أجناساً مختلفة، ثم لم يحمل الأمر فيها على التخيير في ظاهر المذهب؛ فانبنى الأمر فيها على الالتفات إلى الأقوات، والتقديرُ: صاعاً من بُر إن كان قوتاً غالباً، أو صاعاً من شعير إن كان غالباً، وذِكْرُ الشاةِ مفردٌ فيما نحن فيه، واردٌ على الذمة؛ فكان إطلاقها كإطلاق الرقبة في الكفارة، أو كإطلاق الشاة في الضحية، وفي هَدْي المناسك، والتفصيل العويص في الإبل المذكور (1) في الدِّية، وذلك يأتي إن شاء الله تعالى في الديات.
وبالجملة تشبيه الشاة فيما نحن فيه بشاة الضحية قريب جداً.
فإن قيل: فلتجزىء على طريقة صاحب التقريب شاة معيبة، قلنا: ما وجب لغرض المالية، فهو مقيّدٌ بالسلامة، ولذلك يقيّد إيجاب الغرّة بالسلامة، والضحية تقيّدت بالسلامة عما يقدح في مقصودها، والرقبة في الكفارة متقيدة بما يليق بالمقصود من الإعتاق.
فإن قيل: فهلاّ خرج فيما نحن فيه وجهٌ أنه يُخرج الشاة من نوع غنمه إذا كان يملك غنماً؟ قلنا: لا نرى له خروجاً، وإن ذكره بعضُ الضعفة اعتباراً بإبل العاقلة؛ فإنا في طريقةٍ لنا نقول: يُخرج كلُّ غارمٍ من العاقلة من إبله إذا كان يملك إبلاً، والسبب فيه أنه لو كلف تحصيلَ ما ليس له، كان ذلك تكليفَ مشقة مضمومة إلى ما طوقناه من الغُرم من غير جناية، ولا يتبين ذلك إلا في كتاب الديات، والقدر المقنع هاهنا أن اعتبارَ مالِه -وليست الشاة واجبة فيه- بعيدٌ عن قياس الزكاة، فالوجه اعتبارُ مطلق الاسم، مع غرض المالية.
__________
(1) كذا في الأصل وباقي النسخ ما عدا (ت 2)، ووجهه أن المراد بـ (المذكور) هو التفصيل، وليس الإبل، أما (ت 2) ففيها: "المذكورة".

(3/83)


فهذا تمام القول في ذلك.
1758 - فالظاهر إذن اعتبار الاسم والمالية، كالضحية مع مقصودها. ويليه على بُعدٍ ما ذكره العراقيون من الرجوع إلى الغالب في البلد، فأما النظر إلى نوع مال المزكي، فقد غلط بالمصير إليه صائرون، ولا يعد هذا من المذهب، بل هو هفوة لا مبالاة بها.
ومما يتعلق بذلك أن الجذعة أو الثنية هي المجزئة في هذا المقام، وهل يجزىء الذكر؛ حتى يقبل جذع من الضأن أو ثَنِيّ من المعز؟ فيه وجهان، وسأعيدهما إذا عقدت فصلاً جامعاً -إن شاء الله تعالى- في أن الذكر متى يجزىء في المواشي المخرجة في الزكاة.
فهذا نَجاز القول في ذلك.
فصل
1759 - في الخمس والعشرين من الإبل بنت مخاض، وهي التي استكملت سنة وطعنت في الثانية، والمخاض اسم للناقة الحامل، والناقة تحمل سنة، وتُحيل سنة، فإذا استكمل ولدُها سنة، وحملت في السنة الثانية، يقال لولدها بنتُ مخاض، أو ابن مخاض.
فإذا ولدت الأم الولدَ الثاني، ودرّ لبنُها، فهي لبون، وولدها الأول قد استكمل سنتين، وطعن في الثالثة، وهو ابن لبون، أو بنت لبون.
فأما الحِقّة، فهي التي استكملت ثلاثَ سنين، وطعنت في الرابعة، وقد اختلف في اشتقاق هذا الاسم، فقيل: سميت حِقة لأنها على هذا السن تستحق أن يُحمل عليها، وقيل: استحقت الإطراقَ عليها، وأمكن العلوق منها.
ْوالجذعة هي الطاعنة في الخامسة.
وهذا منتهى أسنان الزكاة.

(3/84)


1760 - فنعود إلى غرض الفصل، فنقول: إذا ملك خمساً وعشرين من الإبل، وكان في ماله بنتُ مخاض مجزئةٌ، فهي واجبُ ماله، وإن لم يكن في ماله بنت مخاض، وكان فيه ابن لبون، أجزأ ابن لبون، وهذا منصوص عليه في الحديث (1)، وهو متفق عليه (2).
ثم الأنوثة في الزكاة مبغيّةٌ مطلوبة، والذكورة ملحقة بالعيوب، وإن لم تكن بمثابتها في كل الوجوه، فكأن الشارع رقى في السن، وقبل الذكورة؛ فكان ابنُ لبون بمثابة بنت المخاض، ولكنه يترتب عليه، فلا يُقبل ابنُ اللبون مع وجود بنت المخاض في المال، (3 فإن لم توجد بنتُ المخاض، أجزأ ابنُ اللبون، إذا كان موجوداً في المال 3)، وإن كان شراء بنت المخاض ممكناً.
هذا مقتضى النص، وهو مجمع عليه، فلو لم يكن في ماله بنتُ مخاض، ولا ابن لبون، وكان يحتاج إلى تحصيل أحدهما لأجل الزكاة، فالذي نقله الأئمة عن نص الشافعي أنه بالخيار: إن شاء اشترى بنت مخاض وإن شاء، اشترى ابن لبون، قال صاحب التقريب: الوجه أنه يلزمه شراء ابنة المخاض، ووجه قوله أنهما إذا فقدا في ماله، فقد استوى الأمر في بنت المخاض وابن اللبون، وإمكان التحصيل شامل لهما جميعاً، فصار الاستواء في حالة الفقد بمثابة ما لو وجدا جميعاً في مالهِ، ولو كان كذلك، لتعيّن إخراج بنت المخاض، ووجه النص أن الأصل استواء بنت المخاض وابن اللبون؛ فإنهما متعادلان: في أحدهما نقصان السن وزيادةٌ في الصفة، وفي الثاني زيادة السن ونقص الذكورة، وحكم ذلك الاعتدالُ، وإنما يتعين عند الوجود إخراج بنت المخاض لأجل النص، ثم ابن اللبون ليس على حقائق الأبدال، بدليل أنه
__________
(1) المراد حديث أنس الذي رواه البخاري في مواضع من صحيحه، كما سبقت الإشارة إلى ذلك آنفاً. ويقول الحافظ سراج الدين بن الملقن: "حيثما وجدته معزواً إلى أنس، أو إلى أبي بكر، فإنه في البخاري". (ر. خلاصة البدر المنير: 1/ 85، ح 993).
(2) ليس المراد هنا المصطلح الحديثي، الذي يعني أن الشيخين اتفقا على إخراجه، فلعل المقصود هنا الاتفاق على صحة الحديث، بالمعنى العام، أو الاتفاق على هذا الحكم، فقد نقل الإجماع على هذا ابن المنذر، والنووي (ر. المجموع: 5/ 400).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/85)


إذا وجد في ماله ابن اللبون أجزأ، وإن كان تحصيل بنت المخاض ممكناً، فإذاً قُدِّمت بنت المخاض لمكان النص في صورة الوجود.
1761 - ومما يتفرع على ذلك أنه لو كان في ماله بنت مخاض معيبة لا تجزىء وابن لبونٍ ذكر صحيح مجزىء، أجزأ ابنُ اللبون، ووجود تلك المعيبة وعدمها بمثابة واحدة. ولو كان في ماله بنتُ مخاض كريمة لا يؤخذ مثلُها [لكرمها] (1) إلا أن يتبرع بها (2)، وكان في ماله ابن اللبون، فهل يقبل منه ابن اللبون، أم نكلفه تحصيلَ بنت مخاض؟ اختلف أئمتنا: والذي مال إليه جواب أصحاب (3) القفال أنه لا يؤخذ منه ابن اللبون؛ فإن بنت المخاض موجودة، وهي مجزئة لو تبرع ببذلها؛ فلا يُؤخذ منه ابن اللبون، وليس كما لو كانت معيبة؛ فإن المعيبة لا تجزىء أصلاً فهي كالمعدومة.
وذكر العراقيون أن الكريمة كالمعدومة، وهي بمثابة المعيبة؛ فإنها إذا لم تكن مأخوذة، فكأنها معدومة، وهذا متجه لا بأس به. وظاهر المذهب غيره.
وهذه الترددات سببها خروج ابن اللبون عن قياس الأبدال، مع أنه يترتب على بنت المخاض من وجه، والأئمة تارة يتمسكون بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وتارة يتشوفون إلى طرفٍ من المعنى.
ومما ذكره صاحب التقريب متصلاً بذلك أن بنت اللبون هي فريضة الست والثلاثين، فلو عدمها المالك، ووجد في ماله حِقّاً ذكراً، فهل يجزىء الحِقُّ بدلاً عن بنت اللبون، كما يجزىء ابن اللبون، بدلاً عن بنت المخاض؟ تردد في هذا جوابه، وما ذكره من طريق الاحتمال متجه، ولكن الأليق بمذهب الشافعي اتباعُ النص، وتخصيص ما ذكره الشارع من إقامة ابن اللبون مقام بنت المخاض بمحله.
1762 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال "فإن لم يكن
__________
(1) في الأصل، و (ط): للزمها. ومعلوم أن كرائم الأموال، لا تؤخذ في الزكاة، إلا أن يتبرع صاحبها.
(2) (ت 2): والمالك لا يتبرعّ بها.
(3) ساقطة من (ت 2).

(3/86)


في ماله بنت مخاض، فابن لبون ذكر" (1)، وقد اختلف في فائدة تقييد كلامه بالذكر، فقال المحصلون: جرى ذلك تأكيداً للذكورة، ومثل هذا كثير، وقال بعض الضعفة: فائدته أن الخنثى لا تجزىء. وهذا هَوَس؛ فإنه إن كان ذكراً، فهو ابن لبون، وإن كان أنثى، فبنت اللبون خير من ابن اللبون. ومن منع هذا [قال] (2)؛ هذا تشويه في الخلقة يمنع صفة الأنوثة وخاصيّتها وصفةَ الذكورة، فكان عيباً مانعاً (3).
فصل
في الجبران
1763 - جبران نقصان الأسنان ثابت في صدقة الإبل، والأصل فيه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال في أثناء نُصُب الإبل وواجباتها: "ومن بلغت صدقته جَذَعة وليست عنده، وعنده حِقة؛ فإنها تقبل منه، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا عليه، أو عشرين درهماً" (4).
وأصل الجبران متفق عليه، واختصاص جريانه بنُصب الإبل متفق عليه أيضاً، ونحن نذكر تفصيل القول فيه إن شاء الله تعالى.
1764 - فنقول: من ملك ستاً وثلاثين من الإبل، فواجبها بنت اللبون، فإن كانت موجودة في ماله على شرط الإجزاء، فأراد أن يخرج بنتَ مخاض مع الجبران، أو أراد أن يخرج حِقة، ويستردّ من الساعي الجبران، فلا يقبل ذلك منه. نعم لو أخرج حِقّة بدلاً عن بنت لبون، من غير مطالبة بجبران، فهي مقبولة منه؛ فإن ما يقبل من الكثير، فهو مقبول مما دونه، بحكم فحوى الخطاب، كما تقدم.
__________
(1) جزء من حديثٍ سبق.
(2) في الأصل: "فإن".
(3) ر. المجموع: 5/ 389، 402.
(4) جزء من حديث أنس السابق.

(3/87)


فأما إذا لم يكن في ماله بنت لبون، وكان في ماله بنت مخاض، فأخرجها، وأخرج معها شاتين، أو عشرين درهماً، فهذا مقبول مجزىء، ولا نكلفه أن يشتري بنتَ لبون، وإن كان ذلك ممكناً متيسراً عليه.
وكذلك لو أراد مع عدم بنت اللبون أن يخرج من ماله حِقة ويسترد من الساعي شاتين، أو عشرين درهماً، جاز ذلك.
ولو لم يكن في ماله بنت اللبون وكان في ماله جذعة فإن أخرج الجذعة، فقد رقى بسنَّين. فيسترد جبرانين، وهما أربع شياه، أو أربعون درهماً.
وكذلك لو كان واجب ماله حِقة، فلم تكن في ماله، وكان في ماله بنت مخاض، فنزل، وأخرجها، وضم إليها أربعَ شياه، أو أربعين درهماً، فما بذله مقبول وفاقاً.
وكل مرتبة في الترقي والنزول مقابلة بشاتين، أو عشرين درهماً.
1765 - ولو كان واجب ماله بنتَ لبون، ولم تكن في ماله، وكان في ماله حقة وجذعة، فإن أخرج الحِقة واسترد جبراناً واحداً، جاز، وإن أخرج الجذعة، وأراد استرداد جبرانين، فالذي صار إليه معظم الأصحاب أنه لا يُجاب إلى ذلك؛ فإنه بترقّيه إلى الجذعة، قد تخطّى سناً قريباً ممكناً موجوداً في ماله. نعم، لو اكتفى بجبران واحد، وأقام الجذعة مقام الحِقة، فيسوغ ذلك، أخذاً من الفحوى، كما تقدم ذكره.
وقال القفال: لو أخرج جذعة، واسترد جبرانين، جاز؛ فإن الحِقة ليست واجبَ ماله، وإنما واجبُ ماله بنتُ اللبون، فلا أثر لتخطِّي الحِقة عند وجودها، وهذا منقاس حسن، وإن كانت جماهير الأئمة على مخالفته.
ولو كان واجب ماله بنتَ لبون، وكان في ماله بنتُ مخاض، وجذعة، ولم يكن في ماله حِقة، ولا بنت لبون، فلو نزل وأخرج بنتَ مخاض مع جبران، أجزأ، وإن أراد إخراجَ الجذعة واسترداد جبرانين، فهل يجوز ذلك؟ أما القفال، فإنه يجوّز ذلك؛ فإنه إذا كان يجوّز إخراج الجذعة مع وجود الحِقة القريبة من بنت اللبون، التي هي واجب ماله، وفي الترقي إلى الجذعة تخطِّي الحِقة؛ إذ الجهة واحدة، وهي

(3/88)


الصعود، فلأن يجوّز إخراجَ الجذعة مع بنت المخاض في جهة النزول [أوْلى] (1).
وأما من قال: لا يجوز إخراجُ الجذعة مع وجود الحِقة، فقد ذكروا وجهين في جواز إخراجها، ولا حِقةَ، مع وجود بنت المخاض: أحدُ الوجهين - أنه يتعين إخراجُ ابنة المخاض؛ لأنها أقرب إلى بنت اللبون من الجذعة، والثاني - أنه يجوز إخراج الجذعة؛ فإن الجهة قد اختلفت نزولاً وصعوداً، وليس كما لو كانت الحقة موجودة.
1766 - ومما يتعلق بتفريع الجبران أن من لزمه إخراج جذعة، فلم تكن، فأخرج ثنية، وهي الإبل فوق الجذعة، فإن تبرع بها، فلا شك أنها مقبولة، وإن أراد أن يسترد جبراناً، فهل يجاب إلى ذلك، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجاب، اعتباراً بالترقي من الحِقة إلى الجذعةِ، والثاني - لا يجاب، فإن الثنية ليست من أسنان الصدقة، فلا أثر لتلك الزيادة، والجبران إنما يثبت مع التردد في أسنان الصدقات، وهو على الجملة غير منقاس؛ فيتعين الاتباع فيها.
ولا خلاف أن من كان واجب ماله بنتَ مخاض، فأخرج فصيلاً، وضم إليه جبراناً، لم يُقبل منه. والفرق في ذلك بيّن واضح. ثم لا خلاف أن الدراهم التي يخرجها نُقْرة (2)، وكذلك تكون دراهم الشريعة حيث وردت.
1767 - ثم قال الأئمة إن كان رب المال يضم إلى ما يخرجه جبراناً واحداً، وهو شاتان، أو عشرون درهماً، فلو أخرج شاة وعشرة دراهم، لم يقبل وهذا عند الأئمة مشبه بما لو أطعم الحانث في يمينه خمسة وكسا خمسة، فإنه لا يجزىء عما لزمه.
وبمثله لو كان يخرج جبرانين فأخرج عن جبران شاتين، وعن جبران عشرين درهماً. فهذا مقبول منه، وهو مشبه بما لو حنث في يمينين، والتزم كفارتين، فأطعم في إحداهما عشرة، وكسا في الأخرى عشرة؛ فإن ذلك يجزىء ويخرج عن الكفارتين جميعاً، فكل جبران مشبه بكفارة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) النقرة: السبيكة تكون من الذهب أو الفضة. ولكن المقصود هنا الفضة.

(3/89)


1768 - ثم تمام القول في ذلك أن رب المال إذا كان يخرج سنّاً ناقصاً وجبراناً، فلو أخرج شاتين، فقال الساعي: أريد الدراهم، أو على العكس، فالذي نقله المزني أن الخيار في ذلك إلى المعطي. وقال الشافعي في الإملاء: المتبع رأيُ الساعي، وقد اختلف الأئمة في ذلك، فقاك بعضهم: في المسألة قولان: أحدهما - أن الرجوع إلى اختيار الساعي، كما لو ملك المالك مائتين من الإبل، واجتمع حساب الحِقاق وبنات اللبون؛ فإن الساعي هو المتَّبع في [أحد] (1) السنّين، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
والقول الثاني - أن المتبع اختيار المعطي، فإن النبي عليه السلام، قال: "وأخرج معه شاتين أو عشرين درهماً" فكان هذا متضمناً تخييرَ المخرِج صريحاً، وأيضاً؛ فإن الجبران أثبته الشارع تخفيفاً وترفيهاً، حتى لا يحتاج ربُّ المال إلى شراء السن الذي هو واجب المال؛ فالذي يليق بالتخفيف أن تكون الخِبَرةُ إلى المعطي، وليس كذلك إذا اجتمعت الحقاق وبنات اللبون، فإنه لم يتأصل فيه قاعدة مقتضاها الترفيه.
وذهب جمهور الأئمة وهو الذي قطع به الصيدلاني أن الاختيار إلى المعطي، في إخراج الشاة والدراهم، قولاً واحداً، كما نقل المزني، وما حكي في الإملاء من أن الاختيار إلى الساعي، فهو محمول عليه إذا كان الساعي هو المعطي.
ثم إذا خيّرنا ربَّ المال، فكان هو المعطي، فاختياره غير مرتبط برعاية الغبطة للمساكين، ولكن له أن يخرج الدراهم، وإن كانت الغبطة في إخراج الشاة.
وإن قلنا: المتبع رأيُ الساعي؛ فإن الساعي لا يتخير تخبر المتشهي بلا خلاف، بل يتعين عليه رعايةُ الغبطةِ والمصلحةِ للمساكين، فإنه فيما يخرجه يتصرف في أملاك المساكين، فيلزمه الاحتياط فيه.
ولو اختلف رب المال والساعي فقال رب المال -والواجب بنت اللبون ولم تكن موجودة في المال-: أنزل إلى بنت المخاض، وأجبر، وقال الساعي: بل أخرج الحِقة، وأنا أجبر، أو على العكس؛ ففي ذلك وجهان، تخريجاً على الخلاف المقدم
__________
(1) في الأصل و (ك): آخر، و (ت 2): أخذ. والمثبت من (ت 1).

(3/90)


في الشاة والدراهم، والأصح اتباع رب المال، ومن أصحابنا من قال: يتبع الساعي.
ثم إن كان رب المال يبغي ما هو الأصلح للمساكين [خلافه] (1)، فهذا موضع الخلاف، وإن كان ما يؤثره هو الأصلح، فلا يتصور فرض الخلاف فيه؛ فإنَّ الساعي [إن] (2) وافقه، فلا كلام، وإن خالفه، فرأيه غير متبع على خلاف النظر والمصلحة، وإن استوى ما يريد هذا وذاك في الغبطة، فالأظهر عندي اتباعُ رب المال في هذه الصورة.
فرع:
1769 - إذا كانت إبله معيبةً كلُّها؛ فإنا نقبل منه معيباً، كما سنذكره إن شاء الله تعالى، فلو كان واجب ماله بنت لبون، فلم يجدها في ماله، وأخرج بنت مخاض، وضم إليه جبراناً، قبلنا منه.
ولو أراد أن يرقى فيخرج حِقَّة معيبة، ويسترد من الساعي جبراناً، فقد قال أئمتنا: لا يجاب إلى ذلك؛ فإن الجبران المسترد قد يبلغ قيمة البعير الذي أخرجه، وهذا يجر تخسيراً محضاً، وضرراً بيّناً على المساكين، والغرض من إخراج الزكاة إفادةُ المساكين، لا الاستفادة منهم.
والذي يحقق ذلك أن الجبران بعيد عن مسالك الرأي، والمعتمد فيه الاتباع المحض، وإنما ورد فيما يعم ثبوته، وهو أن تكون الإبل سليمة، أو تكون فيها سليمة.
والذي يتجه عندي في ذلك أنا إن جرينا على ظاهر المذهب -وهو أن الخيار إلى رب المال- فينبغي أن يستثنى صورةُ المعيبة عن هذا، لما ذكرناه من أداء الأمر إلى تخسير المساكين، فأما إذا قلنا: الرجوع إلى رأي الساعي، ثم إنه رأى الغبطة للمساكين في أن يبذل الجبرانَ، ويأخذ سنّاً عالياً -وإن كان معيباً- فالوجه القطع بجواز ذلك على هذا الوجه، والذي منعناه ردّ الأمر إلى اختيار رب المال في هذه الصورة، وهذا بيّن، وهو مراد الأصحاب قطعاً.
__________
(1) ساقطة من الأصل، و (ط).
(2) ساقطة من الأصل، و (ط) و (ت 2) و (ك) والمثبت من: (ت 1).

(3/91)


فصل
يشتمل على تفاصيل المذهب في استقرار الفريضة
1770 - قد تبين أن النُّصب والأوقاص غيرُ مستقرة دون المائة والعشرين، وإنما يستقر الحساب من هذا المبلغ، فيجب في كل خمسين حِقَّة، وفي كل أربعين بنتُ لبون. فنبتدىء من هذا المحل، ونقول: لا بد من زيادة على المائة والعشرين، ثم إن زاد بعيراً (1)، تغير الحساب، (2 ووجب ثلاثُ بنات لبون، واختلف أئمتنا في أن الفريضة هل تُبسط على هذا البعير الزائد أم لا؟ فمنهم من قال تنبسط، فإذاً في كل أربعين وثلثِ بعير بنتُ لبون. وهذا في ظاهره مخالف لظاهر النص فيما رواه أنس؛ فإن فيه في كل أربعين بنت لبون، ولكن رُوي في بعض الروايات الصحيحة: "فإذا زادت واحدة على المائة والعشرين، ففيها ثلاثُ بنت لبون".
ومن أئمتنا من قال: البعير الزائد يغير الحساب 2) من الاضطراب إلى الاستقرار، ولا يتعلق به من الفريضة شيء؛ فإن حساب الاستقرار مقتضاه تعلقُ بنت اللبون بأربعين، وهو جارٍ مطرد وراء هذه المرتبة.
ثم قالوا: لا يمتنع أن يتعلق الحساب بشيءٍ وإن لم يتعلق به شيء من الفرض، واستشهدوا بالإخوة مع الأبوين، فإنه لا حظَّ لهم، ولكنهم يردّون الأمَّ من الثلث إلى السدس.
1771 - ومما يتعلق بذلك أنه لو زاد على المائة والعشرين شقص من بعير، فقد ظهر اختلاف الأئمة في أن الحساب هل يستقرّ به؟ فمنهم من قال: يستقر؛ فإن الزيادة قد تحققت، وفي بعض الروايات في هذا المبلغ: "فإن زاد، ففي كل أربعين بنت لبون". واسم الزيادة يثبت بشقص، وأيضاً: فإن هذه الزيادة لا حاجة إليها في تمهيد حساب؛ فإن الحساب القويم في الاستقرار مقابلةُ كل أربعين ببنت لبون.
__________
(1) في (ت 1): "بعيرٌ" بالرفع. وواضح أن النصب على تقدير: "زاد المالُ بعيراً".
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/92)


ومن الأئمة من قال: لا يستقر الحساب ما لم تزد بعيراً؛ اعتباراً بجملة الأوقاص والنصب في زكاة النَّعَم.
1772 - ثم مذهب أبي حنيفة (1) أن الفريضةَ تُستأنف وراء المائة والعشرين، فيجب في كل خمسٍ شاة، إلى بنت المخاض، على تفصيل لهم مشهور، وقد حكى العراقيون أن [ابن جرير] (2) من شيوخنا كان يخيّر وراء المائة والعشرين [بين] (3) مذهب الشافعي في المصير إلى الاستقرار، وبين مذهب أبي حنيفة في المصير إلى الاستئناف، وهذا متروك عليه غير معتد به، وهو في التحقيق خرم للإجماع؛ فإن التخيير مذهب ثالث، وإخراج قول ثالث -والعلماء على قولين- كاختراع ثان والعلماء مطبقون على قولٍ. فهذا منتهى الكلام في هذه المقام، ولا غموض وراء ذلك إلى بلوغ المائتين.
1773 - فنقول الآن: إذا بلغت الإبل هذا المبلغ، فقد اجتمع حساب الحِقاق وبنات اللبون جميعاً؛ فإن المائتين أربع خمسينات، وخمس أربعينات؛ فينشأ من هذا ضروب من الكلام: أولها - أن إخراج الحقاق مجزىء لثبوت حسابها، وكذلك إخراج بنات اللبون، عند رعاية الأصلح للمساكين، كما سنفصله الآن إن شاء الله تعالى.
وحكى صاحب التقريب والعراقيون قولاً غريباً للشافعي: أن واجب المال في هذا
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 412 مسألة 391، مختصر الطحاوي: 43.
(2) في جميع النسخ "ابن خيران" وهو تصحيف، صوابه: ابن جرير. أي محمد بن جرير الطبري. جاء ذلك التصويب في المجموع للنووي حيث قال: "حكى الغزالي في الوسيط عن ابن خَيْران، أنه قال بالتخيير بين مقتضى مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة، فأوهم (الغزالي) أنه قول أبي علي بن خيران من أصحابنا، وأنه وجه من مذهبنا، وليس كذلك، بل اتفق أصحابنا على تغليط الغزالي في هذا النقل، وتغليط شيخه في (النهاية) في نقله مثله، وليس هو قول ابن خيران، وإنما هو قول محمد بن جرير الطبري". ا. هـ (المجموع: 5/ 401). وحقّاً: لا يَعْرى من التصحيف أحد.
(3) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(3/93)


المبلغ الحِقاقُ. ثم قال صاحب التقريب قاطعاً قوله: هو مؤوَّلٌ محمول على ما إذا لم يكن في المال إلا الحقاق.
وذكر العراقيون هذا المسلك، وقالوا: من أئمتنا من أجراه قولاً بأن الاعتبار في زكاة الإبل بالزيادة في الأسنان ما وجدنا إليه سبيلاً، والدليل عليه ترتيب الواجبات في النُّصب، فإنها على الترقي في الأسنان إلى منتهاها، ثم بعد المنتهى الشرعي اعتبر الشارع الزيادة في الإبل، فإذا أمكن اعتبار السن، وجب التمسك به، وإخراج الحِقاق تعلق بالسّن، وإخراج بنات اللبون تعلّق بالعدد.
وهذا الذي ذكروه متروك مزيّف، لا يرجع إليه؛ فالذي نقطع به أن بنات اللبون والحِقاق أصلان في هذا المحل، ثم النصُّ، وما صار إليه الأصحاب أن الحقاق، وبنات اللبون إذا وجدت في المال، فالساعي يأخذ الأصلح، والأغبط للمساكين.
1774 - وذكر الصيدلاني، وغيرُه تخريجاً عن ابن سريج في أن الخِيَرةَ إلى رب المال، إن شاء أخرج الحقاق، وإن شاء بنات اللبون. ولا يجب عليه مراعاة الغبطة، كما أنه في ظاهر المذهب يتخيّر في الجبران. وقد تقدم التفصيل فيه.
وهذا الذي ذكره قياس ظاهر، وإن كان مخالفاً لظاهر النص، وهو معتضد بظاهر الخبر؛ فإن الخبر كما يتضمن إخراج الحِقاق لِمكان حساب الخمسين، يتضمن إخراج بنات اللبون لمكان حساب الأربعين.
1775 - فان قيل: بماذا توجهون النص؟ قلنا: إذا تعرض كل واحد من السِّنَّيْن للوجوب، وقد وُجدا جميعاً، فلو أخرج أحدَهما على خلاف الغبطة، فهو تارك شيئاً واجباً موجوداً، والجبران واقع في ذمة المخرِج وهو في لفظ الشارع موكول إلى خِيَرة المعطي، فإن فرّعنا على التخريج، فالأمر مفوّض إلى اختيار المالك المعطي.
وإن فرّعنا على ظاهر النص والمذهب، فالساعي يأخذ الأصلح والأغبط، فإن وافق ما أخذه وجهَ الغبطة، فلا كلام.
وإن أخذ شيئاً، والمصلحة في أخذ الآخر، مثل: إن أخذ الحِقاق وغبطة المساكين في بنات اللبون، أو كان الأمر على العكس، فالذي ذكره الأئمة أنه إن أخذ

(3/94)


ذلك على علم وبصيرة، قاطعاً بأنه تارك للنظر، فما أخذه على هذا الوجه لا يسقط به الفرض، بل هو مردودٌ، وربّ المال مطالَبٌ بالسن الذي فيه الغبطة.
فأما إذا اجتهد، وظن أن الذي أخذه الأصلح، وكان مخطئاً في ظنه، فالذي أخذه هل يقع الموقع؟ فيه ثلاثةُ أوجه: اثنان ذكرهما صاحب التقريب.
وذكر العراقيون الثالث معهما. فأحد الوجوه - أن المأخوذ لا يقع الموقع؛ لأنه على خلاف موجب الشرع. والثاني - أنه يقع فرضاً؛ فإنه على الجملة أصل، وقد انضم إلى أخذه الاجتهادُ. والقائل الأول يقول: إذا حصل الوفاق على أنه لو تعمد ترك النظر فيما أخذه، لم يقع الموقعَ، وقد تحققنا خطأه بيقين، فينبغي أن يكون هذا بمثابة ما لو تعمد. وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً، فقالوا: إن كان ما أخذه باقياً، ردّه، وطلب الأصلح، وإن فرّقه على المستحقين، فقد وقع الموقعَ، فإنّ تتبعه عسِرٌ.
فإن قلنا: ما أخذه يقع الموقع، فهل يجب على رب المال أن يجبر النقص أم لا؟ فيه وجهان مشهوران: أحدهما - لا يجب ذلك، وهذا فائدةُ وقوع ما أخذه موقع الإجزاء.
والثاني - يجب رعايةً لحق المساكين.
وإن فرعنا على وجوبه، فلو كان ذلك المقدارُ من الجبران بحيث يتأتى شراء شقص من بعير به، فكيف حكمه؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا نكلفه ذلك لما في التشقيص من التعذر، بل نأخذ منه في جبران النقصان الدراهمَ والدنانيرَ، بأن ينظر إلى المقدار الذي فات من الغبطة.
ومن أئمتنا من قال: يجب صرفه إلى شقصٍ، فإن الأبدال على طريقة الشافعي لا مدخل لها في الزكوات، ولا معدل عن النصوص (1). فإن قلنا: يتعين صرفه إلى جنس الإبل، فقد اختلف أئمتنا، فقال بعضهم: ينبغي أن يكون ذلك الشقص من نوع المأخوذ؛ حتى يتحد قَبيلُ المأخوذ.
__________
(1) فيما عدا نسخة الأصل: "المنصوص".

(3/95)


ومنهم من قال: يتعين تحصيلُ الشقص من النوع المتروك؛ فإنه كان الساعي مأموراً بأخذه ابتداءً، فأخطأ.
وظاهر النص ما ذكره الأصحاب في الوجهين - أنه يتعين نوع عند الكافة، حيث انتهى التفريع إليه. والخلاف فيما يتعين.
ولا يبعد عن القياس عندي في هذا المقام تخييرُ المالك، حتى يقال: إن شاء أخرج من نوع المأخوذ، وإن شاء أخرج من النوع الآخر، بعد أن يتحقق جبران النقصان. وقد أشار إلى هذا بعض المصنفين، وهو متّجه (1)، فتحصل إذاً ثلاثةُ أوجه.
1776 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا جوّزنا له إخراجَ الدراهم، ففي إجزاء إخراج الشقص أدنى نظر، لما فيه من العُسر والتعذر على المساكين، ولهذا اعتبر الشارع الأوقاص بين النصب؛ إذ لو أوجب في كل ما يزيد بحسابه، لاقتضى ذلك إيجابَ قسطٍ. ولمَّا كان التبعيض غيرَ متعذر في النَّقدين، فلا وقصَ عند الشافعي بعد وجوب الزكاة، بل في كل ما زاد بحسابه. فظاهر المذهب أنه إن أخرج شقصاً أجزأه، ولكن لا يلزمه، بل له إخراج الدراهم.
1777 - ثم قال صاحب التقريب: إن قلنا: يتعين إخراج شقص، فلو كان لا يوجد بمقدار الجبران شقص -قال- فالوجه قبول الدراهم في هذه الحالة؛ إذ لا سبيل إلى تكليفه ما لا يقدر عليه، ولا وجه لتأخير حق المساكين، وردد قولَه في غير هذا، مشيراً إلى أنه يتوقف إلى أن يجد جزءاً من بعير.
وهذا بعيد جداً غيرُ معتد به.
ثم قال: لو ملك خمساً من الإبل وواجبها شاة، فلو كان لا يجد جنسَ الشاة أصلاً، فيؤخذ منه قيمةُ شاةٍ على تقدير الوجود. وحكى الوفاق في هذا. قال: والسبب في الوفاق أن الشاة في وضعها خارجة عن جنس المال، فاحتمل في ذلك قيمة الشاة عند الضرورة.
__________
(1) إنصاف لـ (بعض المصنفين)، فلْيُحفظ ذلك.

(3/96)


1778 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الحِقاق وبنات اللبون جميعاً موجودة في ماله.
ولو لم يوجد في ماله إلا أحد السنَّين، فلا خلاف أن الساعي يأخذه، ويكتفي به وإن كان الأصلح الآخر، ولا يجب الجبران وفاقاً، وهو بمثابة ما لو وجبت بنتُ مخاضٍ في الخَمس والعشرين، فلم نجدها، ووجدنا ابن اللبون، فإنه يأخذه، ويكتفي به.
ولو عُدم السنّان جميعاً في ماله، فلا بد من تحصيل أحدهما.
وقد اختلف الأئمةُ في ذلك، فقال بعضهم: يجب شراء الأصلح، كما يجب إخراج الأصلح في ظاهر المذهب عند وجود السِّنَّيْن جميعاً.
ومن أئمتنا من خيّر المالك، ولم يُلزمه رعاية الأصلح، وقد سبق لهذا نظيرٌ فيه إذا لم نجد في الخمس والعشرين بنتَ مخاض، ولا ابنَ لبون. غيرَ أنَّا ثَمَّ لا ننظر إلى الأصلح. ولكن إما أن نعيّن ابنة المخاض؟ إذ هي الأصل، وإما أن نخيّر في شرائهما، والمرعيّ الغبطة في مسألتنا أو الخيرة.
ولو كان في ماله أربع حقاق وأربع بنات لبون، أخرج الحِقاق، وقُبلت، وإن كانت الغبطة في بنات اللبون؛ فإن بنات اللبون ليست كاملة، فهي كالمفقودة.
وكذلك إذا كانت الحِقاق سليمة، وبنات اللبون معيبة، فالمعيب كالمفقود. وقد مضى تفصيل ذلك.
1779 - ومما ينبغي أن نجدّد به العهد أنه جرت فصول متشابهة لا بد من أن [نسردها] (1) ونستاقَها، فنقول: ابنة المخاض وابن اللبون إذا اجتمعا في الخمس والعشرين، فبنت المخاض هي الأصل، وإن كانت الغبطة في ابن اللبون، فلا يجزىء غيرُ بنت المخاض مع وجودها، وإن عُدِما، فالقياس أنه يتعين تحصيل بنت المخاض، وهو وجهٌ، وظاهر النص أنه بالخيار، ولا نظر إلى الغبطة أصلاً.
وإن اجتمعت الحقاق، وبنات اللبون، في المائتين، فهما جميعاً أصلان، وليسا
__________
(1) في الأصل و (ط): نستردها. والمثبت من (ت 1) و (ت 2).

(3/97)


كبنت المخاض وابن اللبون، والكلام الآن في [أن] (1) الساعي يأخذ الأغبط، أم النظر إلى خِيَرة المالك؟ وقد رتبت (2) فيه ما ينبغي، فظاهر المذهب وجوب رعاية الغبطة.
ولا خلاف [أنه] (3) لو وجد أحد السنَّين بكماله دون الثاني أُخذ الموجود، ولم يراع في أخذه الغبطة.
وإن فُقِدا جميعاً، ففي تكليف شراء الأغبط خلافٌ ذكرته، فظاهر القياس تخييره؛ فإنهما على البدل واقعان في الذمة، فشابها الدراهمَ والشاتين في الجبران؛ فإنهما لما وقعا في الذمة، ولم يكن أحدهما أصلاً دون الثاني، فالمذهب تخيير المعطي، كيف؟ وفي بنت المخاض وابن اللبون إذا فُقِدا في الخمس والعشرين خلاف، وظاهر النص أن الخِيرة إلى من عليه الزكاة، وإن كانت بنت المخاض في رتبة الأصول لو كانت موجودة، فأما الخلاف الذي ذكرته في رعاية الغبطة في الجبران، فهو في نهاية البعد. ولست أعتد به من المذهب.
1780 - وقد بقي من تمام الفصل شيء يتعلق بحكم الجبران، فنقول: إذا عدم في المائتين الحِقاق، وبنات اللبون؛ فإن اتخذ بناتِ اللبون أصلاً، ونزل منها إلى بنات المخاض فأخرج خمسَ بنات مخاض، وأخرج معها خمسَ جُبرانات: عَشْرَ شياه، أو مائة درهم، جاز ذلك.
وكذلك لو قدَّر الحقاقَ أصلاً، وترقَّى منها إلى أربع جذاع، فأخرجها، واسترد من الساعي أربع جبرانات، جاز ذلك، وفي الخيرة في الجبران ما قدمناه من تفصيل المذهب.
ولو قدر الحقاق أصلاً، ونزل منها إلى بنات المخاض، وأخرج أربع بنات مخاض، وأخرج معها ثمان جبرانات لسنَّيْن، فلا يجزىء ذلك؛ فإنه في نزوله يتخطى واجباً، وهو بنات اللبون.
__________
(1) زيادة من (ت 1) وحدها.
(2) في (ت 2): ثبت.
(3) في الأصل و (ط) و (ك): ولا خلاف، ولو وجد. والمثبت من (ت 1) و (ت 2).

(3/98)


وكذلك لو قَدَّر بناتِ اللبون أصلاً، ورقى إلى الجذاع، فأخرج خمسَ جذاع، وأراد أن يسترد عشر جبرانات لسنَّين، فلا يجزىء ذلك؛ فإنه في صعوده يتخطى واجباً، وهو الحِقاق، وليس هذا كالصورة التي قدمناها في فصل الجبران، وهي إذا كان واجبُ ماله بنتَ لبون، فرقى إلى الجذعة، ففي جواز ذلك كلام سبق؛ فإن الحقة ليست واجبَ ماله، وإن كان على طريق رقيّه.
1781 - ومما يتعلق بذلك أيضاً أنه لو كان في ماله حقة، وأربع بنات لبون، فلو أخرج بنات اللبون، وأخرج الحقة واسترد من الساعي جبراناً، جاز، ولو جعل الحقة أصلاً، وأخرج معها ثلاث بنات لبون، وثلاث جبرانات، حتى تلتحق بنات اللبون بها بالحقاق، فالمذهب جواز ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك؛ فإنه في هذا السبيل يُبقي واحدةً من الأصول، وهي بنت اللبون. وهذا مُزيّف، لا أصل له، ولا اعتداد به.
فهذا تفصيل القول في الجبران في هذا الفصل.
1782 - ولو أخرج حقتين وبنتي لبون ونصف، لم يقبل منه؛ فإنه تفريق الفريضة.
1783 - ولو بلغت إبله أربعمائة، ففيها عشر بنات لبون، وثمان حقاق، فلو أخرج أربع حقاق، وخمس بنات لبون، ففي إجزاء ذلك وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ فإنه تفريق الفريضة، فأشبه ما ذكرناه في المائتين.
والوجه الثاني - يجوز، فكل مائتين أصل، فكأنه اعتبر في إحدى الجملتين حساب الأربعينات، وفي الثانية حسابَ الخمسينات. وهذا الخلاف يجري مهما بلغ المال مبلغاً يشتمل على أربعينات وخمسينات، بحيث يخرج منها بنات لبون وحقاق، من غير تشقيص. وهذا منتهى الغرض في ذلك.

(3/99)


فصل
قال: "ولا زكاة حتى يحول عليه الحول ... إلى آخره" (1).
1784 - الأموال التي تقتنى وتجب الزكاة في أعيانها، أو قيمها عند التجارة، فلا (2) تجب الزكاة فيها إلا إذا تم الحول. والأصل فيها ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "لا زكاة في مالٍ حتى يحول عليه الحول" (3) وقد تمهّد أن الشارع أثبت الزكاة في مالٍ نامٍ في جنسه كالنَّعم، وأموالِ التجارة، أو متهيءٍ للاستنماء كالنَّقدين، واعْتَبَرَ أيضاً مقداراً نامياً؛ فإن المالَ القليل لا يظهر له نماء، واعتبر مدةً يُفرض فيها النماء، بالنِّتاج أو الربح، وهو الحَوْل؛ فإنه يشتمل على فنون الأزمنة (4)، ثم إنها تتكرر من بعدُ.
والزكاة التي تجب فيما هو عين النماء والفائدة، كالثمار والزروع، فلا يعتبر فيها الحول، والنصاب معتبر على ما سيأتي ذلك مشروحاً.
ثم ذكر الأئمة حكمَ الوقص، وتفصيلَ القول في الإمكان وعدمه، وتلفَ المال، بعد الحول وقبله. ونحن نمهد أصولاً، ثم نفرع غرض الفصل إن شاء الله تعالى.
1785 - فنقول: من ملك تسعاً من الإبل، لزمته شاة بلا مزيد، ثم حكى الأئمة قولين عن الشافعي في أن الشاة الواجبة تتعلق بالنصاب والوقص جميعاً، وتنبسط على الجميع، أو تتعلق بالنصاب، والوقصُ عفو، ولا تعلق للزكاة به أصلاً؟
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 190.
(2) كذا بالفاء في جميع النسخ.
(3) حديث: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". أخرجه أبو داود، وأحمد، والبيهقي عن علي، والدارقطني من حديث أنس، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح 1573، والبيهقي 4/ 95، والدارقطني: 2/ 90، 91، وانظر إرواء الغليل: 3/ 254، والتلخيص: 2/ 156 ح 820).
(4) فنون الأزمنة: أي أنواعها، بمعنى أن الحول يشمل فصول الطبيعة، من حرٍّ وبرد، واعتدالٍ، وكذلك يشمل المواسم والأعياد، مما له أثر في الرواج، والكساد.

(3/100)


(1 فالمنصوص عليه في الجديد أن الوقص عفو ولا تعلق للزكاة به 1)، وإنما تتعلق الزكاة بالنصاب. وهو مذهب أبي حنيفة (2)، ونص في القديم (3) على أن الزكاة تتعلق بالنّصاب والوقص جميعاً.
1786 - والذي أراه أن في نقل القولين على هذا الوجه لبساً. وأنا أوضّحه في التفريع، إن شاء الله تعالى، فمن نفى التعلّق بالوقص، احتج بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "في خمسٍ من الإبل شاة، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ عشراً" (4) وهذا ظاهر [في] (5) نفي التعلّق بالوقص، وإن أمكن أن يقال: معناه لا شيء فيه زائداً، وتمسك هذا القائل بأن قال: من آثر المصير إلى التعلق بالوقص،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(2) ر. البدائع: 2/ 23، ورؤوس المسائل: 220 مسألة: 100.
(3) اختلف نقل الشيرازي في المهذب، عن الشافعي، فقد جاء فيه: "قال في القديم والجديد: يتعلّق الفرض بالنُّصُب. وما بينهما من الأوْقاص عفوٌ ... وقال في البويطي (من الجديد): يتعلق الفرض بالجميع ... " وقد سكت عنه النووي في المجموع، ولم يعقب عليه، ولم يشر إلى ما حكاه إمام الحرمين في النهاية، مع أنه كثير النقل عنها.
ولكن الذي يستحق النظر حقاً أن النووي -وهو يتحدث عن لفظ الوقص- قال ما نصه: "قال أهل اللغة، والقاضي أبو الطيب، وغيرُهما من أصحابنا: الشَّنق هو أيضا ما بين الفريضتين" ثم قال: "قال الشافعي في البويطي: ليس في الشنَق من الإبل، والبقر، والغنم شيء، قال: والشَّنق ما بين السِّنين من العدد ... هذا نصه في البويطي بحروفه". ا. هـ من المجموع، وقال هذا بنصه أيضاً في تهذيب الأسماء واللغات. فهذا نص يؤكد أن الشافعي يقول في البويطي: "ليس في الأوقاص شيء" وعبارة النووي توحي بأنه ينقل من البويطي بنفسه.
إذاً ما قاله الشيرازي من أن الشافعي يقول في البويطي: "يتعلق الفرض بالجميع" غير صحيح، وأن الصواب هو قوله في القديم، كما قال إمام الحرمين. والله أعلم. (ر. المجموَع: 5/ 390، 393، وتهذيب الأسماء واللغات: 4/ 194، والتنبيه: 38، ورؤوس المسائل مسألة رقم 100).
(4) رواه أبو داود، والترمذي، والحاكم، من رواية ابن عمر (ر. أبو داود: الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح 1568، والترمذي: الزكاة، باب ما جاء في زكاة الإبل والغنم، ح 621، وأحمد: 2/ 14، 15، والحاكم: 1/ 392، وخلاصة البدر: 1/ 297 ح 1022).
(5) زيادة من (ت 2).

(3/101)


قال: إنه لو تلف شيء من الوقص بعد الحول، يسقط قسطٌ من الزكاة، وكل ما لا تزيد الزكاة بزيادته، يبعد أن تنقص بتلفه ونقصانه.
ومن نصر القول القديم، احتج باتحاد الجنس والصفة واتصاف جملة المال بالكثرة، فلا معنى لتخصيص تعلق الزكاة بالبعض، وقد استشهد هذا القائل بما لو سرق السارق نصاباً وزيادة؛ فإن وجوب القطع يتعلق بالجميع، ولا يختص بمقدار النصاب. ولم يَحْكِ الأئمة في ذلك تردداً.
ولا يبين الغرض فيما ذكرناه إلا بالتفريع.
وذهب كثير من الأئمة إلى أن من ملك نصابين مثلاً، مثل أن يملك عشراً من الإبل، ولزمه شاتان، فتنحصر كل شاة في الخمسة، ولا تنبسط كل شاة على جميع العشر، وهذا فيه نظر بيّن، ومستدرك عظيم، سنذكره، إن شاء الله تعالى.
فهذا أحد الأصول.
1787 - ومن الأصول القولُ في الإمكان، فإذا حال الحول على نصابٍ زكاتي، ولم يتمكن المالك من تفريق الزكاة على المستحقين -كما سنصف الإمكان ومعناه- فهل نحكم بوجوب الزكاة، أو نقول يتوقف وجوبها على تحقق الإمكان، ووجود التمكن من تفرقة الزكاة؟ المنصوص عليه في الجديد أن الزكاة تجب بحولان الحول، ولا يتوقف وجوبها على الإمكان، ونصّ في القديم على أن الزكاة لا تجب إلا عند التمكن من الأداء.
توجيه القولين: من قال: الإمكانُ شرطُ الوجوب احتج بأن التكليف شرطه الاستطاعة، والشريعة مبناها على امتناع تكليف ما لا يطاق، فلا يستقيم إذن الحكم بالوجوب مع نفي الإمكان، والدليل عليه الحج مع الاستطاعة؛ فإنه لا يُقضَى بوجوبه دونها.
ومن قال: الإمكان ليس شرطَ الوجوب؛ قال: ثبوت الزكاة ووجوبُها حقاً لله تعالى متميز (1) على أدائها وتفريقها على مستحقيها، ونحن نرى الزكاة في قاعدة
__________
(1) "متميزٌ" بالرفع خبر (ثبوت).

(3/102)


القياس، وموجب الشرع تستدعي قدراً، وجنساً، ومضيَّ مدة، وقد تجمعت هذه الخصال، وتَمَّ ارتفاقُ المالك، أو تمكنُه من الارتفاق، فينبغي أن يُقتضب (1) من هذه الجهات ثبوت الزكاة حقاً لله تعالى وشكراً لنعمائه. والأداء أمر متميز عن الثبوت، ومن كان عليه دين، وهو غير ممتنع من أدائه، ومستحِقُّه غيرُ مطالبٍ به، فالديْن ثابت، ولكن لا يتعين أداؤه ما لم يطلبه مستحقُّه، كيف، ونحن نحكم بأن الدَّين ثابت على المعسر في حياته، وبعد مماته، حتى يجوز الضمان عنه، وإن كان الأداء غير ممكن.
وأما ما ذكره ناصر القول الأول من أن الإطاقة شرط التكليف، ففيما ذكرناه جواب عنه، وما استدل به من الحج، فهو متميز عما نحن فيه. أولاً؛ فإنه عبادة بدنية، وليس أمراً تميز أداؤُه عن وجوبه وثبوته، وهذا يدركه الفطن من قضايا الشريعة. على أن في الحج نظراً، فإن تعليقه بالاستطاعة من ترفيهات الشريعة، والدليل عليه أن المكلَّف لو تكلف المشقة وحجّ وهو غير مستجمعٍ للشرائط المعتبرة في الاستطاعة، فحجه يقع معتداً به عن حجة الإسلام، ولا يقال عبادة بدنية قُدِّمت على وقت وجوبها، كالصلاة تقدَّم على وقتها؛ فلا يقضى بإجزائها.
فليتأمل الناظر ذلك.
وهو مشبه بالدين المؤجل؛ فإنه ثابت، ولكن مَن عليه الدين مُمهَل غير مشقوق عليه.
فهذا هو بيان القولين وتوجيههما في الإمكان.
وتمام البيان يأتي بعد ذلك.
1788 - ومن الأصول في الفصل: أن الزكاة إذا وجبت، وتحقق التمكُّن، فلا يجوز تأخيرُ أدائها من غير عذر، وهي مع ارتفاع المعاذير واجبةُ الأداء، على الفور والبدار.
__________
(1) كذا في النسخ كلها، (يقتضب) أي يقتطع ويؤخذ من هذه الجهات ثبوت الزكاة. وقد تقرأ على غير هذا الوجه، فإنها غير منقوطة. والمعنى واضح من السياق على كل حال. والله أعلم بالصواب.

(3/103)


وأبو حنيفة يقول: إن وجوب أدائها على التراخي. ويظهر أثر الخلاف في أن الحول إذا حال، وتحقق الإمكان، فلو أخّر من عليه الزكاة حتى تلف المال، استقرت الزكاة في ذمة من التزمها، ولم تسقط.
وأبو حنيفة (1) يحكم بسقوط الزكاة، مهما (2) تلف المال الزكاتي.
1789 - ويبقى بعد تمهيد ما ذكرناه القول في معنى الإمكان.
قال الأئمة: الأموال تنقسم إلى ظاهرة وباطنة، كما سيأتي ذكرها، فأما الأموال الظاهرة، ففي وجوب صرف زكاتها إلى السلطان قولان معروفان: فإن قلنا: يتعين صرفها إلى السلطان، فلا إمكان -وإن حضر المستحقون- ما لم يتمكن مَنْ عليه الزكاة من تسلميها إلى السلطان، أو الساعي الذي هو منصوبه، وإن قلنا: يفرّق من عليه الزكاةُ الزكاةَ على المستحقين بنفسه، فظاهر المذهب أنا نستحب له الدفعَ إلى السلطان؛ إذ فيه أولاً الخروج عن الخلاف، والسلطان أيضاً أعرف بالمستحقين، وأقدر على البحث عن أحوالهم.
فإذا فرعنا على أن للمالك أن يفرق الزكاة بنفسه، وقد تمكن منه، ولكنه كان يؤثر وِجدان السلطان، وتسليمَ الزكاة إليه، فأخر لهذا السبب، فقد اختلف أصحابنا في أنه هل يعذر لهذا السبب؟ فمنهم من قال: يعذر -وإن كان أداء الزكاة على البدارِ- فهذا القدر محتمل.
ومن أئمتنا من قال: لا يعذر.
وفائدة هذا التردد أنه لو أخر للسبب الذي ذكرناه، فتلف ماله، فسقوط الزكاة عنه يخرّج على الخلاف. هكذا ذكره الأئمة.
وهذا فيه فضل نظرٍ عندي، فالوجه أن نقول: إن لم نعذره بهذا السبب، عصّيناه بالتأخير، وضمَّنّاه، وإن عذرناه بالتأخير، فاتفق تلف المال، ففي الضمان وجهان:
__________
(1) ر. طريقة الخلاف للأسمندي: 23، مسألة: 9، الغرة المنيفة: 39، تحفة الفقهاء: 1/ 474.
(2) "مهما": بمعنى (إذا).

(3/104)


أحدهما - لا يجب؛ لمكان العذر على الوجه الذي فرّعناه عليه.
والثاني - يجب؛ فإن هذا وإن كان عذراً عند هذا القائل، فهو عذر تخيّر، والزكاة دَيْن الله تعالى، فيظهر أن يقال: هذا مما نجوّزه، ولكن على شرط التزام سلامة العاقبة، ولا يخفى نظائر ذلك. وهذا بيّن.
1790 - ومما ذكره بعض المصنفين في ذلك أن الأولى في الأموال الباطنة أن يتعاطى المالك بنفسه تفرقةَ الزكاة، ولو دفعها إلى السلطان، جاز. ولو تمكن من الدفع إلى الوالي، فأخر حتى يؤديها بنفسه، فتلف المال، ففي سقوط الزكاة خلاف.
1791 - والقول الضابط في ذلك أن نقول: إن لم يتمكن من عليه الزكاة من تفرقتها أصلاً حتى تلف ماله، سقطت الزكاة تخفيفاً، وعُذِرَ، وإن تمكن، ولكن كان يرتاد (1) الأفضل والأولى، كما تقدم تصويره، [فهو محل النظر والتردد] (2)، ومن تلك الصور أنه إذا كان ينتظر حضورَ قريبه، الذي لا تلزمه نفقته، أو كان يرتقب حضورَ جيرانه -إذا وضح أن صرف الزكاة إلى هؤلاء أولى- أو كان ينتظر حضورَ من حاجته أشدّ، وضرُّه وفاقته أبْين، فإذا فُرض تلف المال في أثناء ذلك، ففي سقوط الزكاة وبقائها خلاف.
وكشفُ الغطاء في ذلك أن التأخير إن كان لترو ونظرٍ في صفات المستحقين على قرب، وكان يتمارى (3) في أمر من حضر، فما يُعدّ من الاحتياط والتروّي مع رعاية الاعتدال، فهذا أراه عذراً وجهاً واحداً؛ حتى لا أعصّي المؤخِّر بسببه.
فأما التأخير بسبب ارتقاب شهود الأقارب، أو الجيران، فجوازه محتمل، ويظهر أن يقال: لا يجوز؛ فإن الزكاة على الفور، وهذه فضيلة يبغيها، وتأخير الحق من ذي الحق بهذا غيرُ سائغ.
نعم لو شهد الأجانب والأقارب، فله أن يختار الأقارب، فأما أن يؤخر لانتظارهم
__________
(1) في (ت 2): ولكن كان يرجو بتأخيره زيادة الأفضل.
(2) زيادة من هامش (ت 2).
(3) يتشكك.

(3/105)


فبعيد. وكذلك القول في انتظار السلطان، كما قدمناه.
ثم هذا التردد عندي فيه إذا لم يظهر ضُرُّ مَنْ حضر وشهد، فأما إذا كانوا يتضرَّرون (1) جوعاً، وهو يؤخر إلى حضور جارٍ أو قريب، فلا سبيل إليه قطعاً؛ فإن مدافعاتهم على ضروراتهم، لمزيّة وفضيلة محالٌ.
ثم أقول وراء ذلك: حيث امتنع التأخير، فلا شك في وجوب الضمان عند تحقق التلف، وإن سوّغنا التأخير في بعض الصور، مع إمكان البدار، ففي وجوب الضمان مع هذا وجهان؛ نظراً إلى التزام سلامة العاقبة.
1792 - ومما يتعين الاعتناء به أن من قال: الإمكان من شرائط الوجوب، فالذي أراه القطعُ بأن المعنيَّ بالإمكان المشروط في الوجوب تصوّر الأداء، فأما ما يتعلق بإحراز الفضائل، فلا يسوغ المصير إلى أنه شرطُ وجوب الزكاة على هذا القول، وقد صرّح بذلك الصيدلاني في آخر الباب، وليس هو مما يتمارى فيه.
1793 - ومما يتعلق بتمام ذلك أنا إذا فرّعنا على أن الإمكان شرط الوجوب، فلو انقضى الحول، ولا إمكان، حتى مضى شهر مثلاً، فابتداء الحول الثاني يحتسب من مُنقرض الحول الأول، لا من وقت الإمكان، فلا يختلف حساب الأحوال باستئخار الإمكان، مصيراً إلى أن ابتداء الحول الثاني يعقب وجوبَ الزكاة.
ولو انقضت أحوال، والمالك على ارتفاقه، والمال على نمائه، وكان المالك لا يتمكن من أداء الزكاة، ثم تمكن، فلا يجوز أن يعتقد أن زكوات تلك الأحوال لا تجب.
نعم لو عسر [الارتفاق] (2) بغَصْبٍ في المال، أو ضلالٍ، ففيه أقوال، وتردّدٌ ظاهر، وكذلك لو فرض نتاج بعد الحول الأول، وقبل الإمكان، فهو محسوب من الحول الثاني، كما سيأتي تفصيل القول في النتاج، بناء على أن حساب الحول
__________
(1) في (ت 2): يقصرون جميعاً، وفي باقي النسخ "يتضررون" كما هو مثبتٌ؛ فلا يظنن ظانٌّ
أنها "يتضوّرون"، كما هو مألوف سمعنا الآن.
(2) في الأصل، و (ط): الارتقاب.

(3/106)


لا يختلف باستئخار الإمكان، فالنتاج إذاً وقع في الحول الثاني، فليحسب من فوائد الحول الثاني.
وقد نجز عند ذلك غرضنا من تمهيد الأصول، ونحن الآن نبتدىء التفريع والله ولي الإعانة بمنه وفضله.
1794 - فنقول أولاً: من ملك خمساً من الإبل، فانعقد الحول عليه، ثم تلف منه بعير مثلاً، أو خرج عن ملكه ببيع أو هبة، فإذا حال الحول والمال ناقصٌ عن النصاب، فلا شك أن الزكاة لا يجب منها شيء.
ولو انقضى الحول على الخمس، واستعقب الإمكان، فلم يؤدّ الزكاة، ولا عذر، حتى تلف المال، أو بعضه، لم يسقط من الزكاة شيء.
ولو لم يتمكن من الأداء، حتى تلف جميعُ المال، فلا زكاة.
ثم إن قلنا: وجبت بالحول، سقطت بسبب عدم الإمكان. وإن قلنا: الإمكان شرط الوجوب، فالزكاة لم تجب أصلاً، وكان هذا بمثابة ما لو تلف المال قبل حولان الحول.
وقد عبّر الأئمة عن القولين، فقالوا: الإمكان في قولٍ شرط الوجوب، وهو القديم، ومذهب مالك (1)، وفي قول هو شرط الضمان، فإذا لم يتمكن حتى تلف المال، فلا ضمان.
فهذا إذا لم يتمكن أصلاً. فأما إذا تمكن بعد الحول، ولكن أخّر لعذر من الأعذار التي ذكرناها في صور الوفاق والخلاف، فإذا تلف المال في هذه المدة، ففي سقوط الزكاة وبقائها الخلافُ المتقدم.
ولو تلف بعد الحول وقبل الإمكان بعير، فإن قلنا: الإمكان من شرائط الوجوب، فقد سقط جميع الزكاة، فإنه قد نقص المال عن النصاب قبل زمان الوجوب، فكان هذا بمثابة ما لو تلف بعيرٌ قبل (2 انقضاء الحول.
وإن قلنا: ليس الإمكان من شرائط الوجوب، فيسقط بتلف بعير قبل 2) الإمكان
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 382 مسألة: 517، حاشية الدسوقي: 1/ 443.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(3/107)


خُمس الواجب، ويبقى أربعةُ أخماس شاةٍ.
1795 - ولو انقضى الحول على تسعٍ من الإبل، فتلف قبل الإمكان أربع، وبقيت خمس، فيجتمع الآن أصلان: أحدهما - الإمكان، والثاني أن الزكاة هل تبسط على الوقص، أم ينحصر وجوبها في مقدار النصاب، والوقصُ عفوٌ؟ فنقول في هذه الصورة: إن قضينا بانحصار الزكاة في النصاب، فالنصاب باقٍ، فتجب فيه شاة، ولا يسقط بتلف الوقص شيء، وإن قلنا: تتعلق الزكاة بالنصاب والوقص جميعاً، فهذا يخرج الآن على قولي الإمكان، فإن قلنا: هو شرط الوجوب، فتجب شاةٌ كاملة، ويتنزل هذا منزلة ما لو تلف أربعٌ قبل حلول الحول.
وإن قلنا: الإمكان شرط الضمان وليس شرطَ الوجوب، فقد وجبت الزكاة، وهي شاة، وانبسطت على التسع، فإذا تلف أربعٌ قبل الإمكان، سقطت حصتها، وهي أربعة أتساع شاة، وبقيت خمسة أتساع شاة.
قلت: وعلى المتأمل هاهنا وقفة، إن كان يبغي دَرْك النهاية، فأقول: لو رُددتُ (1) إلى ما يظهر (2) له، لقلت إن الزكاة تتعلق بالتسع؛ فإن النصابَ والوقصَ من جنسٍ واحد، وإنما القولان في أنا هل نجعل الوقص في حكم الوقاية للنصاب، كما نجعل الربح في القراض وقاية لرأس المال عند فرض الخسران؟
فكأنا في قول نقول: هو وقاية للنصاب، وهو الصحيح، وإن كانت الزكاة تتعلق بالجميع، فإن الزكاة إذا لم تزد بها، لم تنقص بتلفها. وفي قولٍ نقول: ليس الوقص وقاية، بل تتعلق الزكاة على قضيةٍ واحدة بالكل، وإذا تلف البعض، سقطت حصتُه من الزكاة، وهذا ضعيفٌ غير متجه.
1796 - ومن تمام البيان في ذلك أن المشايخ قالوا: إذا ملك نصابين، فواجب كل نصاب منحصر فيه، وزعموا أن هذا متفق عليه، وإنما القولان في النصاب والوقص.
__________
(1) في (ت 2): وردت.
(2) في (ك): ما لا يظهر.

(3/108)


وتحقيق القول في ذلك أن من ملك نصابين، فالوجه أن يقال: واجب النصابين متعلق بجميع المال، من غير انحصار واختصاص.
والدليل عليه أن بنت المخاض واجب نُصب، وهي الأخماس، ثم لا وجه إلا إضافة بنت المخاض إلى جميع الخمس والعشرين من غير حصر وتخصيص، وكذلك إذا وجب في ست وثلاثين بنت لبون، فالوجه إضافتها إلى جميع المال.
ثم إذا وضح في الأسنان، فلا شك في اطراد قياسه حيث تكون الزيادة بالعدد.
والدليل عليه أنه إذا زاد بعير بزيادة عشرة عند استقرار الحساب، فلا يعتقد عاقل أن البعير وجب في العشرة، ولكن الوجه إضافة الكل إلى الكل، والذي يوضح ذلك، أن باب الخلطة مبناه على تعلّق جميع الواجب بجميع المال، وعليه ابتنى التراجع وتفريعات الخلطة، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
فإذاً خرج من هذا أن حقيقة المذهب أن من ملك نصابين، فواجبهما متعلق بجميع المال، بلا خلاف، ولكن ليس أحد النصابين وقاية للثاني.
وإذا ملك الرجل نصاباً ووقصاً، فالوجه انبساط الواجب على الكل، ولكن هل يسقط واجب النصاب بتلف الوقص، أم هو وقاية، والتلف محسوب من الوقص؟ فعلى قولين، كما تقدم ذكرهما.
فهذا هو الغرض. ولكن جرت عبارة الأصحاب في أن الزكاة هل تتعلق بالوقص أم لا. فهذا منتهى المراد في ذلك.
1797 - ولو ملك تسعاً من الإبل، وحال الحول، فتلفت خمس، وبقيت أربع قبل الإمكان، فإن قلنا الإمكان من شرائط الوجوب، فتسقط الزكاة بجملتها، ويتنزل منزلة ما لو تلف خمس وبقيت أربع قبل حلول الحول، ولو كان كذلك، لما وجبت الزكاة أصلاً.
وإن قلنا: الإمكان من شرائط الضمان، وقد وجبت الزكاة بحلول الحول، فيعود التفريع إلى أن الزكاة تتعلق بالوقص أم لا؟ فإن قلنا: إنها تتعلق بالوقص، فيسقط خمسة أتساع شاة، ويبقى أربعة أتساع، وإن قلنا: تتعلق الزكاة بالنصاب دون

(3/109)


الوقص، فيسقط خُمس شاة، ويبقى أربعة أخماس شاة، وهذا بيّن.
والتحقيق فيه ما أجريناه في أدراج الكلام من إيضاح معنى القولين في تقدير الوقص وقاية للنصاب.
فصل
(1 إذا كانت ماشيته نوعين صحاح ومِراض، فلا نأخذ الفريضةَ مريضة أصلاً، حتى 1) لو ملك خمساً وعشرين من الإبل، وأربعٌ وعشرون منها مِراض وواحدة صحيحة، فلا نقبل الزكاة إلا صحيحةً، وهذا متفق عليه.
ولكن قال الأئمة: لو كان في ماله صحيحةٌ كريمة، وباقي ماله مِراض، فلا نأخذ تلك الكريمة، فإنا لو فعلنا ذلك، كنا مجحفين به، ولكن نكلفه شراءَ صحيحة تناسب قيمتُها مالَه.
وذكر العراقيون فيه تقريباً في صورة، فنذكرها ليعتبر بها أمثالها.
فنقول: من ملك أربعين من الغنم، عشرون منها صحيحة قيمة كل واحدة عشرون درهماً، وعشرون مريضة قيمةُ كل واحدة منها عشرة، فنأخذ نصف قيمة مريضة، وهي خمسة، ونصف قيمة صحيحة، وهي عشرة، فنشتري صحيحة بخمسةَ عشَرَ.
وقد أجمع الأئمة قاطبةً على أن المعيبة لا تؤخذ من الصحاح، وإن كانت قيمتُها زائدةً على قيمة الصحيح.
1798 - ثم الذي ذكره علماؤنا أن العيب المرعيّ فيما نحن فيه ما يُثبت الردَّ بالعيب في البيع، ولا تعتبر العيوب المانعة من الإجزاء في الضحايا.
وحكى شيخي أن من أئمتنا من اعتبر السلامة عن عيوب الضحايا، والسلامةَ من العيوب التي تثبت الرد، وهذا زلل غير معتد به، والوجه القطع باعتبار عيوب الرد فحسب.
ولعل السبب في أن المعيبة لا تجزىء، وإن كانت رفيعة القدر أنه قد يتفق للساعي
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/110)


إمساكُ المواشي [مدّة] (1) إلى أن تتفق تفرقتها، فلو كانت معيبة، فقد تهلك في مدة الحبس، وعلى الجملة للتعبد مدخل في منع إجزاء المعيبة في الزكاة، كما أن له مدخلاً في الضحايا.
1799 - ولو وجب في ماله سِنّان، وكان جميع ماشيته معيبة إلا واحدة، فلو أراد أن يخرج معيبين، لم يقبلا منه، ولو أخرج تلك الصحيحة، وكانت سنَّ الفريضة، أو أعلى من السن، وأخرج مريضة، فالذي قطع به العراقيون والصيدلاني أن ذلك يجزئه؛ لأنه لم يُبق لنفسه صحيحة.
وكان شيخي يقطع في دروسه أنه إذا كان في ماله صحيحة واحدة، وواجب ماله أسنان، فلا بد من أن تكون جميعها صحيحة، ولا يكفيه أن يخرج تلك الصحيحة، وكان يعلل بأن من أخرج بعيرين من إبله، فهما يزكيان ماله، وكل واحدٍ منهما يزكي الثاني، وإن كانا مخرجين، فلو أخرج صحيحةً ومريضة، فيلزم أن تزكي المريضةُ الصحيحة.
وهذا عندي خروج عن ضبط الفقه، وتقديرٌ بعيد لا حاصل له، والمطلوب ألا يبقى للمالك صحيحة، ويُخرج مريضة، وما بعد ذلك لا أصل له. والزكاة إذا أُخرجت، فالباقي مزكّى بها، فأما الزكاة، فلا تزكي نفسها.
1800 - ومما يتصل بما نحن فيه أن الشافعي قال: "لو كانت ماشيته معيبة، لزمه أن يخرج خيرَ المعيب" فظاهر هذا يقتضي أنا نُلزمه أن يتخير للزكاة أفضل ماله وخيرَه، وقد اتفق أصحابنا على مخالفة هذا الظاهر، وزعموا أن القول به إجحافٌ برب المال.
وقد يقول القائل: إذا كان في ماشيته المراض ما هو أقل عيباً، وأقربُ إلى السلامة، فهو بالإضافة إلى ما هو أكثر عيباً، وأظهر مرضاً كالصحاح (2 بالإضافة إلى المريض، وقد ذكرنا أنه إذا كان في ماشيته صحاح، فلا يقبل فيه إلا صحيحة 2)، وإن
__________
(1) في الأصل، وفي (ط): هذه.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/111)


كان أكثرُ ماله مراضاً، فهذا فيه احتمالٌ، مع الاعتضاد بظاهر نص الشافعي.
ولكن أجمع الأئمة على خلافه؛ فإن المطالبة بالصحيحة -وفي المال صحاح- فيه تعبد، كما ذكرته.
ولا تعتبر فيه القيمة وارتفاعها؛ فإنا لا نقبل مريضةً رفيعة القدر، وإن كانت قيمتها تزيد على قيمة صحيحة مجزئة.
1801 - فاما إذا كانت ماشيته كلها مراضاً، فقد عُدمت الصحيحة المعتبرة منه، فيرجع النظر إلى اعتبار الإنصاف.
وقد قال الأئمة إذا كانت ماشيته كلها مراضاً، وكانت منقسمةً إلى رديئة، وإلى جيدة مع المرض، فلا نطلب البالغةَ في الجودة، ولا نأخذ الرديئة البالغة في الرداءة، ولكن نأخذ الوسط بين الدرجتين.
وحمل معظمُ الأئمة (1 قول الشافعي 1) على هذا، فقالوا: المعنيّ بقوله: [نأخذ] (2) خير المعيبة إلى (3) الوسط منها.
وذكر العراقيون في ذلك صورة، وحكَوْا فيها تردداً، وهي أنه لو ملك خمساً وعشرين من الإبل وفيها بنتا مخاض، والإبل كلها مريضة، ولكن كانت إحدى بنتي المخاض من أجود المال مع [العيب] (4)، وكانت الأخرى دونها، فللساعي أن يطلب الأجود، وإن كانت أرفع ما عنده؛ فإنها وقعت سنَّ الزكاة، فهذا مذهب بعض الأصحاب.
ومنهم من قال: لا نكلفه ذلك، بل نقنع بالوسط، وإن لم نجد، كلفناه أن يشتريَ بنت مخاض وسط، بالإضافة إلى ماله.
وهذا التردد سببه أن خير المعيب بمعنى الأجود وقع سنَّ الفريضة، فشابه ذلك طلب الساعي الأغبط، إذا اجتمعت الحقاق، وبنات اللبون في المائتين، والصحيح الاكتفاء بالوسط. كما ذكرناه.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(3) كذا في جميع النسخ، ولعلها "أي الوسط منها".
(4) في الأصل، (ط)، (ك): المعيب.

(3/112)


1802 - ولو ملك خمساً من الإبل المراض، فأراد أن يخرج شاةً مريضةً، لم يكن له ذلك، هذا ما وجدتُ الطرقَ متفقة عليه؛ وذلك أن ما يخرجه ليس من جنس ماله، بل هو واجب مطلق في الذمة، فيحمل على السليم عن العيوب.
وكذلك إذا كانت إبله مراضاً وكان واجبها بنتَ لبون، ولم تكن موجودة في ماله، فنزل وأخرج بنت مخاض مريضة، وشاتين للجبران، فنشترط الصحةَ في الشاتين، لما ذكرناه.
والدليل عليه أنه متردد بين الشاتين وعشرين درهماً، ولا يتخيل في الدراهم نقصان، لأنه ثبت إخراجها توقيفاً، وقد ورد الشرع بها مطلقةً من غير تفصيل.
فصل
قال: "وما هلك أو نقص في يد الساعي فهو أمين ... إلى آخره" (1).
1803 - إذا سلّم الرجل الزكاة في أمواله الظاهرة إلى السلطان، أو إلى نائبه، وهو الساعي، فالذي يجب القطع به أن ذمة المعطي قد برئت من الزكاة، وإن لم تصل إلى المستحقين، والسبب فيه أن الشرعَ نصبَ أيدي السلاطين نائبة عن المستحقين، فإذا قبضوها، فقد وقع القبضُ للمستحقين، فيد الساعي كيد ولي الطفل، ولو قبض وليُّ الطفل حقاً للطفل، وتلف في يده، فقد برئت ذمة المؤدي، وهذا يتضح جداً إذا قلنا: لا بد من دفع الزكاة في الأموال الظاهرة إلى الساعي.
فأما إذا قلنا لرب المال أن يفرقها بنفسه، فلو دفعها إلى الساعي مختاراً من غير قهر، فتلف (2) في يد الساعي والحالة هذه؛ ففيه اختلاف: من أئمتنا من قال: قد برئت ذمةُ المعطي؛ لأن السلطان على الجملة نائبٌ عن المستحقين، وليسوا متعينين.
ومنهم من قال: يد الساعي كيد وكيل المالك، ولو وكل وكيلاً، ودفع إليه زكاة ماله، وأمره بإيصالها إلى مستحقيها، فتلفت في يده، فلا شك أن ذمةَ رب المال
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 194.
(2) كذا "تلف" في جميع النسخ، وتصح على تأويل الزكاة بالحق أو المال.

(3/113)


مشغولة كما كانت، ثم الساعي على الجملة إن كان مفرّطاً في حبس الزكاة عن أربابها، فإنه يضمن لتفريطه، وإن كان يجمع الأموالَ، ويتردد على جباية الزكوات، فاتفق في أثناء ذلك تلفُ بعضها، فهو أمين غير ضامن؛ فإنه لا يجب عليه أن يفرّق كل قليل وكثير حصل في يده، والمرجع في الضمان ونفيه إلى تفريطه وعدم تفريطه.
1804 - ومما يذكر في ذلك أن السلطان لو كان جائراً، فسلّم الزكاة إليه، فتفصيل ذلك على التحقيق الذي نبغيه في هذا المذهب (1)، لا يحتمله هذا المكان، والقول فيه يتعلق بالإيالة (2) الكبيرة، وأحكام الولاة، ولعلّنا نذكر في موضعٍ نراه حظّاً صالحاً منه، تمس الحاجة إليه.
والقدر الذي يعتاد الفقهاء ذكره، أن الوالي هل ينعزل بفسقه أم لا؟ وفيه تردد لهم، فإن قضينا بانعزاله، فلا حكم لأخذه، فإن سلّمه إلى المساكين، فهو نحو وكيل، وإن لم يسلّمه إليهم، فذمة المالك مشغولة.
وإن قضينا بأن الوالي لا ينعزل بظلمه، فهو في الحكم الذي نحن فيه نازل منزلة العدل، إن قلنا: يتعين دفعُ زكاة الأموال الظاهرة إلى الوالي. وإن قلنا: لا يجب -ولم يكن قهر- فدفع رب المال إليه، فأهلكه، ولم يوصله إلى المستحقين، فالظاهر أنه يجب على المالك تثنية الزكاة، في هذه الصورة لتقصيره. وقد ورد عن النبي عليه السلام في خبر أنه قال في الزكاة: "سلموها إليهم، ولو وضعوها في أفواه دوابهم" (3) أراد استنفقوها، ولعل المراد الاستحثاثُ على اتباع الولاة، وترك الاعتراض عليهم، وبذل الطاعة لهم.
...
__________
(1) المذهب: المراد به (هذا الكتاب).
(2) "الإيالة الكبيرة": أي السياسة العظمى في أحكام الخلافة والإمامة.
(3) حديث: "سلموها إليهم ... " لم نصل إليه فيما رأينا من كتب السنة. ولكن روى الطبراني في الأوسط حديثين بقريب من هذا المعنى، أحدهما عن عبد الله بن عمر، والآخر عن سعد بن أبي وقاص. (مجمع الزوائد: 3/ 80).

(3/114)


باب زكاة البقر
1805 - اعتمد الشافعي في الباب حديثَ معاذٍ رضي الله عنه، وفي حديثه: "أنه أخذ من ثلاثين من البقر تبيعاً" (1)؛ فليس فيما دون الثلاثين زكاةٌ عند عامة العلماء.
وذهب بعض السلف إلى أن في كل خمسٍ منها شاة إلى الثلاثين، وهذا مذهب مهجور لا عمل به، ولا تعويل عليه، ومذهبنا ما ذكرناه.
1806 - ثم التبيع أولاً ذكَرٌ، فإن أخرج تبيعة، قُبلت؛ فإنها أفضل. والتبيع هو الذي استكمل سنة، وطعن في الثانية، ومعتمد المذهب فيه أنه قد ورد في بعض الأخبار الجَذَعُ في مكان التبيع، والجَذَع من البقر، كالجَذَع من الضأن، وليس كالثَّنِيَّة من الضأن. وقد ذكر بعض المصنفين ما ذكرناه، وقال: إنه المذهب، قال: وقيل: التبيع العجل الذي يتبع أمه.
وذكر العراقيون في معنى التبيع طرقاً: أحدها - أنه الجَذَعُ، كما سبق تفسيره، قالوا: وهو المختار، قالوا: وقيل: التبيع هو العِجْل الذي يتبع أمه، وقيل: هو الذي بدا قرنُه، وصار يتبع أذنَه.
وعندي أن هذا تصرف منهم في مأخذ اللفظ من طريق اللغة، فأما حظ الفقه مما ذكروه، فهو أنه الجَذَع.
__________
(1) حديث معاذ رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. (ر. أبو داود: الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح 1576، والترمذي: الزكاة، باب ما جاء في زكاة البقر، ح 623، والنسائي: الزكاة، باب زكاة البقر، ح 2452، وابن ماجة: الزكاة، باب صدقة البقر، ح 1803، والدارقطني: 2/ 102، والحاكم: 1/ 398، والبيهقي: 4/ 98، والتلخيص: 2/ 154 ح 814، وخلاصة البدر: 1/ 286 ح 996).

(3/115)


ثم المذهب الذي عليه التعويل أنه الذي استكمل سنة، وليس لما قيل من أنه العجل الذي يتبع أمه ضبطٌ، فإن كان يتطرق إلى المذهب شيء بعيد، فهو تردّد سنذكره في سن الجذعة من الضأن، وظاهر المذهب أنها التي طعنت في السنة الثانية، ومن أصحابنا من قال: إذا استكملت أشهراً، فهي جذعة. وهذا على بعده يجري في التبيع؛ فإن التبيع والجذع واحد، والمذهب ما ذكرناه.
1807 - ثم لا شيء في الزيادة على الثلاثين حتى تبلغ أربعين، ففيها مُسِنَّة، وهي التي استكملت سنتين، وطعنت في الثالثة، وهي بمثابة الثَّنِيَّة في الغنم، والمسن لا يؤخَذ مكان المسنة؛ فإن الوارد في الخبر المسنة، والتعويل في النصب وواجباتها الأخبارُ.
ولو أخرج مسناً بدلاً عن تبيعٍ ذَكر، حيث يؤخذ التبيع، فلا شك في إجزائه؛ فإنه أفضل من التبيع.
1808 - ثم يمتدّ الوقص بعد الأربعين إلى ستين. فإذا بلغت البقر ستين، استقر الحساب، ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. ففي الستين تبيعان، والأوقاص بعد ذلك عشر عشر، ففي سبعين تبيع ومسنة، وفي ثمانين مسنتان، وفي تسعين ثلاثة أتبعة، وفي المائة مسنة وتبيعان، وفي المائة والعشرة مسنتان وتبيع.
ويجتمع في المائة والعشرين الحسابان؛ فإنها ثلاث أربعينات، وأربع ثلاثينات، فالواجب أربعة أتبعة، أو ثلاث مسنات.
1809 - ثم الساعي يأخذ الأصلح عند وجود السنَّيْن، أو الاختيار إلى المعطي؟ تفصيل القول في ذلك كتفصيل القول في اجتماع الحِقاق وبنات اللبون في المائتين من الإبل، حرفاً حرفاً، من غير فرق في الأصل والتفريع، ولا مدخل للجبران في زكاة البقر أصلاً؛ فإنا أثبتناه في الإبل اتباعاً، ولا مدخل للقياس في قواعد الأبواب.
***

(3/116)


باب زكاة الغنم
قال الشافعي: "ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى ما أذكره ... إلى آخره" (1).
1810 - لما أراد رضي الله عنه، أن يذكر نُصب الغنم لم يحضره لفظُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "ثابت معنى ما أذكره". ويجوز أن يقال: صادفَ أوقاص الغنم مجمعاً عليه، فلم يتأنَّق في نقل لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي أربعين من الغنم شاة، ثم لا شيء حتى تبلغ مائةً وإحدى وعشرين، ففيها شاتان، ثم لا شيء فيها حتى تبلغ مائتين وواحدة، ففيها ثلاثُ شياه، ثم يمتد الوقص إلى أربعمائة، فلا شيء في الزيادة إلى هذا المبلغ، ثم إذا بلغت أربعمائة، ففيها أربع شياه، ويستقر الحساب، ففي كل مائةٍ شاة والأوقاص بعد ذلك مائة مائة.
1811 - ثم نؤخذ الجَذَعة من الضأن والثَّنِيَّة من المعز.
وأبو حنيفة (2) لا يقبل إلا الثَّنِيَّةَ من النوعين.
ومالك (3) يرضى بالجَذَعَة منهما.
ومعتمدنا ما رُوي عن سويد بن غَفَلَة، أنه قال: سمعت مصدّق رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أُمرنا بالجَذَعَة من الضأن، والثَّنِيَّة من المعز" (4).
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 196.
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 19.
(3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 379 مسألة: 510، حاشية الدسوقي: 1/ 435.
(4) حديث سويد بن غفلة، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي (ر. مسند أحمد: 3/ 414، وأبو داود، الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح 1579، النسائي: الزكاة، باب الجمع بين المتفرق والتفريق بين المجتمع، ح 2459، والدارقطني: 20/ 104، والبيهقي في الكبرى: 4/ 101، التلخيص: 2/ 513 ح 815).

(3/117)


1812 - ثم المذهب الذي عليه التعويل أن الجَذَعة هي التي استكملت سنة، وقال العراقيون: هكذا رواه الرِّياشي عن الشافعي، ومن أصحابنا من قال: إذا استكملت ستة أشهر، فهي جَذَعَة، وهذا ضعيف، نقلوه وزيّفوه، وفي بعض التصانيف أن الجذعة ما بين الثمانية الأشهر إلى العشرة، ولست أرى لهذا أصلاً، والتعويل على استكمال السنة، وقيل الجذعة من الضأن تحمل، وهي من المعز لا تحمل، وإنما تحمل منها الثَّنِيَّة، ولذلك قوبلت الجَذَعة من الضأن بالثَّنِيَّة من المعز.
1813 - وأما الثَّنِيَّة، فهي التي استكملت سنتين، ولم أر في ذلك تردداً أصلاً، ولا خلاف أن الجَذَعَة من الضأن كالثَّنِيَّة من المعز في الضحايا.
فهذا بيان نصب الغنم، وما يجب فيها.
فصل
يشتمل على بيان أخذ الذكور.
1814 - فنقول: التبيع أولاً ذكر مأخوذٌ، نصاً وإجماعاً، وإن كانت البقر إناثاً.
وابن اللبون مأخوذ من الخمس والعشرين من الإبل إذا لم يكن في المال بنتُ مخاض، وإن كانت الإبل إناثاً.
فأما القول في غيرهما، فنبدأ بالغنم، ونقول: إن كانت إناثاً، أو كان فيها إناث، فلا نقبل ذكراً، جَذَعاً ولا ثَنِياً، والذكورة في غير موارد النص عيبٌ. وقد ورد الخبر بالجَذَعة والثَّنِيَّة. فإن كانت الغنم كلها ذكوراً، فظاهر القياس والمذهب أنا نأخذ ذكراً، كما نأخذ من الغنم المعيبة معيباً.
ومن أئمتنا من قال: لا بد من الأنثى، جَذَعة أو ثَنِيَّة، وإن كانت الغنم ذكوراً اتباعاً للحديث.
1815 - وأما أخذُ المعيب، فليس في الحديث في صفة المأخوذ تعرّضٌ للسليم والمعيب، فحسُنَ حملُ المطلق على اتباع جنس المال، في الصحة والمرض.

(3/118)


1816 - ولو كانت إبله كلها ذكوراً، فهل نأخذ ذكراً؟ التفصيل أنها إن كثرت، وكان الفرض يزيد فيها بزيادة العدد، فهي كالغنم فيما ذكرناه من أخذ الذكور، وإن كانت النُّصب بحيث يزداد الفرض فيها بالترقي من السن، فهذا ينقسم: فإن كان في أخذ الذكر تسوية بين القليل والكثير، كأخذ ابن اللبون بدلاً عن بنت اللبون في الست والثلاثين؛ فظاهر المذهب أنه لا يؤخذ الذكر في هذه المنزلة؛ لأن في أخذه التسوية بين فريضة الخمس والعشرين وبين فريضة الست والثلاثين.
ومن أئمتنا من يأخذ الذكر في هذه المنزلة، طرداً للقياس الذي ذكرناه؛ فإنا إذا كنا نأخذ مريضة من مراض، فنقدر الذكر بمثابة معيب. ثم هذا القائل يقول: نأخذ من خمس وعشرين من الإبل الذكور ابنَ مخاض، ولا نكلف المالكَ ابنَ لبون؛ فإنّ ابن اللبون يؤخذ من الخمس والعشرين حيث يكون واجب المال أنثى.
1817 - وإن جمعنا كلام الأصحاب في المواشي، قلنا: أما مواقع النص في التبيع وغيره، فمستنثى، وأما غيره، فلا نأخذ ذكراً وفي المال أنثى.
فإن تمحّضَ المالُ ذكوراً، فأوجه: أحدها - أنا لا نأخذ ذكراً من غير فصل.
والثاني - أنا نأخذ الذكور من غير فصلٍ.
والثالث - أنا نأخذ من الغنم، ومن البقر، وكذلك نأخذ من الإبل، حيث لا يؤدي أخذُه إلى التسوية بين القليل والكثير، كما تقدم تقريره وتصويره.
فرع:
1818 - إذا كان يُخرج مالك الإبل الشاةَ عن الخمس، فهل نكلفه إخراج أنثى أم يجزئه الذكر؟ فعلى وجهين، ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - نكلفه الأنثى؛ فإنها الأصل في الزكاة، إلا أن يرد نص في ذكَر.
والثاني - يقبل منه الذكر؛ فإنها ليست من جنس ماله، والشاة في هذا الموضع مطلقة في السُّنّة، ليس فيها تعرض للذكورة والأنوثة.
وهذا الخلاف الذي ذكرناه يجري في شاة الجُبران؛ إذ لا فرق.

(3/119)


ثم قال الأئمة: الذكورة لا أثر لها في الضحايا، فيجزىء [الذكر] (1) إجزاء الأنثى؛ فإن الغرض اللحم، وما ينتجر (2) من اللحم، فأما الزكاة؛ فإنا نأمل فيها أن [ينتفع] (3) المسكين بأخذها واقتنائها؛ فتقع الأنوثة مقصودة من هذا الوجه.
فهذا منتهى القول في أخذ الذكور والإناث.
فصل
في السخال في الغنم، والصغار في غيرها من المواشي
1819 - فنقول: أولاً إذا ملك الرجل أربعين [سَخْلة] (4)، فالحول ينعقد عليها عندنا، ثم ينقضي الحول، وقد صارت جذاعاً، فيخرج منها جَذَعة إن كانت ضأنية.
وخالف أبو حنيفة في هذا، فقال: إذا ملك سخالاً، لا أمهات معها، لم ينعقد الحول أصلاً، حتى تصير جِذاعاً، ثم ينعقد ابتداءُ الحول.
1820 - وإذا ملك نصاب أو نُصباً من كبار الغنم، فحدث في أثناء الحول نتاج، فالسخال تتبع الأمهات في حولها بشرائطَ، منها: أن تكون مستفادة من نتاج الأمهات، فإن استفادَها عن إرث، أو شراء، أو غيرهما، لم تجب الزكاة فيها إلا بحول كاملٍ من وقت الاستفادة، كما سنذكر من بعدُ أن المستفاد من الأموال لا يضم إلى النصب العتيدة في الحول. ولكنْ حولُ كلِّ مستفاد من وقت استفادته.
ومما نشترطه أن تكون الأمهات نصاباً، فصاعداً، فإذا حدثت منها السخال، ثم تم حولها، فتجب الزكاة في السخال بحول أمهاتها، حتى لو كان في ملكه مائتان من
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ت 2): الذي. وهو تحريف واضح.
(2) في (ك)، (ت) "يتنجر" والمعنى واحد، وهو ما يتحصل من اللحم، بانتجاره عن العظم.
(3) في جميع النسخ: "يقتنع" والمثبت تقدير منا رعاية للمعنى. نرجو أن يكون هو مراد المؤلف.
(4) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(3/120)


الغنم، فنُتِجَتْ سخلةً في اليوم الأخير من الحول، فيجب في المال ثلاثُ شياه، ولولا هذه السخلة، لكان واجب المائتين شاتين. ولو كان يملك تسعاً وثلاثين من الغنم، فنُتِجَت سخلةً، فالآن كما (1) تم النصاب من هذا الوقت، ينعقد ابتداء الحول.
ومما نشترطه أن تحدث السِّخال في الحول، فلو انقضى الحول على الأمهات، ثم حدثت السخال في الحول الثاني، فلا زكاة في السخال بحكم الحول الأول، ولكنها يُتربص بها انقضاء الحول الثاني، ثم إذا نُتجت [سخالاً] (2) وقد بقي من حول الأمهات بقية، وماتت الأمهات بعد السخال، وكانت السخال نصاباً، فإذا تم حولُ الأمهات، وجبت الزكاة في السخال بحول الأمهات عندنا.
1821 - وأبو حنيفة (3) يقول: "إن هلك جميع الكبار، انقطع حول السخال، وزالت التبعية"، والسخال لا تتأصل في الزكاة عنده، فإذا صارت ثنايا، فينعقد الحول من ذلك الوقت، ولو بقي من الكبار واحد بقي حولُ السخال، وإن كان ذلك الباقي ذكراً.
1822 - وقال أبو القاسم الأنماطي ينقطع حول السخال بموت الأمهات، كما قال أبو حنيفة (4 إلا أن يبقى من الكبار نصابٌ، فلم يكتف ببقاء واحدٍ كما اكتفى أبو حنيفة 4).
1823 - وهذا غير معدود من المذهب، وإنما مذهب الشافعي ما قدمناه: من أن جميع الكبار لو تماوتت، فتبقى السخال في حول الأمهات بشرط أن تكون نصاباً كاملاً كما قدمنا.
1824 - ثم إذا انقضى حول الأمهات، وأوجبنا الزكاة في الصغار، فكيف التفصيل فيما يخرج منها؟
__________
(1) "كما" بمعنى عندما.
(2) في جميع النسخ "سخال" بالرفع. و"سخالاً" مفعول ثانٍ لـ (نُتج). (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 274، 404). فالمعنى أنتجها صاحبُها.
(3) ر. المبسوط: 2/ 157، حاشية ابن عابدين: 2/ 20.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(3/121)


فنقول: إن كان فيها كبيرة أو كبار، فلا تجزىء إلا كبيرة، على القياس الممهد في المراض والصحاح، والأصل فيه ما روي: "أن مصدق عمرَ قال لعمرَ: إن هؤلاء يقولون: يعدّون علينا السخال، ولا يأخذونها، فقال عمر: اعتدّ عليهم بالسخلة، يروح بها الراعي على يديه، ولا تأخذها، ولا تأخذ الأكولةَ، ولا الرُّبَّى (1).
ولا الماخضَ (2)، ولا فحلَ الغنم، وخذ الجذعةَ من الضأن والثنيةَ من المعز، وذلك عدل بين غِذاءِ (3) المال وخياره" (4).
فهذا إذا كان في المال كبيرة، أو كبار.
1825 - فأما إذا تمحضت السخال أو صغار الإبل والبقر، والصغر هو الانحطاط عن السن المجزىء في الشرع، فما دون بنات المخاض، فصيل وحُوار، كالسخال من الغنم، وما دون التبيع عجاجيل. وتفصيل المذهب فيما يؤخذ منها يقرب مما ذكرناه في أخذ الذكور من الذكور.
فمن أئمتنا من قال: يتعين الكبير في جميع ذلك ولا يجزىء إلا كبيرة، وهذا مذهب مالك، وقيل: هو قول قديم للشافعي.
ومن أصحابنا من قال: تؤخذ الصغيرة من الصغار، في جميع أجناس المواشي.
ومنهم من قال: تؤخذ الصغيرة من الغنم، فأما من البقر والإبل، فحيث يؤدي أخذ الصغير إلى التسوية بين القليل والكثير، فلا نأخذ الصغير، وذلك حيث يكون زيادة الواجب بالترقي في الأسنان، وحيث تكون الزيادة بالزيادة في العدد، فلا يؤدي إلى هذا، فيؤخذ من الإبل والبقر.
__________
(1) الرُّبَّى: القريبة العهد بالولادة. إلى خمسَ عشرةَ ليلة ولادتها. (ر. الزاهر: فقرة: 271).
(2) الماخض: الحامل التي أخذها المخاض لتضع. (ر. الزاهر: نفسه).
(3) الغذاء: بكسر الغين صغار السخال (ر. الزاهر: نفسه).
(4) حديث: "اعتد عليهم بالسخلة .. " رواه الشافعي، ومالك في الموطأ، وعبد الرزاق، والبيهقي (ر. الموطأ: 1/ 265، الأم: 2/ 9، 10، مصنف عبد الرزاق: 6808، البيهقي: 4/ 100، الثلخيص: 2/ 154 ح 817).

(3/122)


وهذا وجه عدل متجه، وقد ذكرنا نظيره في [الذكور] (1) وأَخْذها، ولكن بين الوجهين في الفصلين فرقان: أحدهما - في الظهور والصحة (2)، والثاني - في التفصيل، فأما الظهور، فهذا التفصيل في أخذ الصغار منقاس، كما ذكرناه، فأما في [أخذ] (3) الذكور، فقُصاراه أن نأخذ من ست وثلاثين ابن لبون، ونحن قد نأخذ ابن لبون من خمس وعشرين.
وهذا يُجاب عنه بأنا إنما نأخذ ابن لبون بدلاً عن بنت المخاض، إذا كان في ماله إناث، فأما إذا كان كله ذكوراً، فنأخذ ابن مخاض عن خمسٍ وعشرين، وابن لبون، من ست وثلاثين؛ فلا يؤدي إلى التسوية، فأما في الصغار، فإذا أخذنا فصيلاً من خمس وعشرين، وفصيلاً من إحدى وستين فيؤدي إلى التسوية بين القليل والكثير، وهذا بعيد لا وجه لاحتماله، ولكنه على بعده منقولٌ على الصحة، ذكره شيخي والصيدلاني وغيرهما.
وهذا في أخذ صغيرٍ من صغار.
فأما أخذ ابن لبون من ست وثلاثين، والإبل كلها ذكور، فمن وجَّه المنعَ فيه بأنا قد نأخذ من خمس وعشرين ابنَ لبون إذا كان في الإبل إناث، ولم يكن فيها بنتُ مخاض؛ فإذا أخذناه من ست وثلاثين، كان ذلك تسويةً بين القليل والكثير. وهذا إنما يجاب عنه بأنا إنما نأخذ ابنَ لبون من خمسٍ وعشرين، إذا كان فيها إناث، ولم يكن في المال بنتُ مخاض؛ فإنا نقيم زيادةَ السن في ابن اللبون مقام فضيلة الأنوثة في بنت المخاض، فأما إذا كانت الإبل كلُّها ذكوراً؛ فإنا نأخذ من خمس وعشرين ابنَ مخاض، فيظهر الفصل بين القليل والكثير، فأما أَخْذ فصيل من خمس وعشرين، وأَخْذُه من إحدى وستين، فتسوية على القطع بين القليل والكثير، فكان ظاهر السقوط.
فهذا بيان ما وعدنا من الفصل بين أخذ الذكور، وأخذ الصغار في الظهور.
__________
(1) في الأصل وغيرها: "الذكورة" والمثبت من (ت 1) وحدها.
(2) في (ت 2): واضحة.
(3) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(3/123)


1826 - فأما الفصل بينهما على (1) التفصيل، فهو أن من يفصل في الذكور إنما يقول ذلك في الست والثلاثين فحسب؛ فإن ما (2) يُصوّر من أداء أخذ الذكر إلى التسوية يتحقق في هذه الصورة، ولا جريان لهذا التفصيل في البقر. فأما من يفصل في الصغار، فإنه يطرد المنع حيث يكون ازدياد الفرض بالترقِّي في السن عند وجود الأسنان، وهذا يجري في صورٍ في زكاة الإبل ويجري أيضاً في زكاة البقر (3).
ثم قال الأئمة: إن قلنا: لا بد من كبيرة، وإن كانت الماشية صغاراً، فإنا نجتهد في ذلك ونحرص؛ حتى لا نجحف برب المال، فنأخذ جذعة من أربعين من سخال الغنم، قريبة القيمة من سخلة، ونشترط أن تكون سليمة من العيوب.
ولا ينبغي أن يظن الفقيه أنا نلتزم التسوية بين قيمة تلك الجذعة وبين السخلة؛ فإن هذا قد لا يتأتى أصلاً؛ إذ قد يكون أكبر سخلة في المال غيرَ مستكملة شهراً، وقد لا تكون شريفة الجنس أيضاً، فليس من الممكن فرض جذعة سليمة على قيمتها، ولكن معتمد هذا القول الاتباع أولاً، ثم بعده يقال: السخال إلى الكبر [ها هي] (4).
ولئن أخذنا في سنةٍ جذعة من صغار، فقد نرضى بجذعة من كبارٍ نفيسة، وتمحُّضُ الصغار مما يندر، فيقابل هذا الوفاقُ صوراً غالبة تنحط فيها الجذعة عن أسنان الماشية.
غير أنا مع هذا نحرص على ما ذكرناه، فإن أمكننا أن نرضى بجذعة تساوي سخلة [مما] (5) معنا، بأن نفرض شرفاً في جنس السخال، وكانت الجذعة من نوع قريب القيمة، فما عندي أن الأئمة يسمحون بالعدول عن النوع الشريف، وفيه احتمال؛ فإنه يعارض ما ذكرناه. [وإن] (6) عدلنا عن أسنان السخال، فلم نرض بسخلة، فلا يبعد
__________
(1) في (ت 1): "في التفصيل".
(2) (ت 1): إنما و (ت 2): "فإن جاء ما يصور من إذا أخذ". وفي (ك): "فأما من تصوّر من إذا أخذ الذكر".
(3) في (ت 2): في صورةٍ في زكاة البقر، ثم قال ...
(4) في الأصل، (ت 1): "ما هي" وفي (ت 2) أُسقطت الكلمة، ولم تأت بها أصلاً.
(5) في الأصل و (ط) و (ك): "ما" وفي (ت 2): "فما منعنا" والمثبت من (ت 1).
(6) في جميع النسخ ما عدا (ت 1): "أنا عدلنا"، فالمثبت من (ت 1).

(3/124)


أن نعدل عن نوعها، فنرضى بنوع دون نوعها. والعلم عند الله تعالى.
1827 - ولا أحد يصير إلى أنا إذا لم نجد جذعة قريبة من سخلة أنا نعدل إلى الدراهم، فإن هذا يؤدي إلى إيجاب إخراج قيمة سخلة، ولو أجزأت قيمة سخلة، لأجزأت سخلة في نفسها.
فلينظر الطالب فيما يرد عليه.
1828 - وقال الشيخ أبو بكر: إذا قلنا: يجوز أن نأخذ صغيرةً من صغار الإبل إذا تمحضت صغاراً، فينبغي أن يحرص الساعي حتى يأخذ من المقدار الكثير [فصيلاً أكبر سناً مما يأخذه مما دونه، حتى يحصل عند الإمكان فصلٌ بين المأخوذ من الكثير] (1) والمأخوذ من القليل، فلو أراد أن يأخذ أكبر فصيل من خمس وعشرين، فالوجه أن يُمنع، ويكلف النظرَ إلى الأسنان عند وجودها، ومعلوم أنه لو ملك خمسة وعشرين من جذاع الإبل، أو ثناياها، فإنا نكتفي منه ببنت مخاض، وهي أول الأسنان المعتبرة، فلينظر الناظر إلى مثل ذلك في الفُصلان (2).
ثم يخرج من هذا أنه يأخذ أكبر الفُصلان في المقدار الكثير. وعلى الجملة إن أمكن التفاوت، فهو حتم، والأمر فيه إلى نظر الساعي، واقتصاده (3). ومهما بُلي بهذا المقام، فقد وقع إلى (4) أمر ليس بالهيّن؛ فإن الأسنان إذا كانت موجودة ممكنة، فالمتبع والأسوة فيها الشرع، ولا اجتهاد. وقد كفى الشارع بنصوصه. وإن كانت الفُصلان كلُّها على مرتبة واحدة، فلا بدّ على هذا من التسوية بين القليل والكثير، على الوجه الذي نفرع عليه.
1829 - ثم قال الأئمة: الزكاة تنفصل عن الضحايا بعد تمهيد ما ذكرناه من وجوه: منها - أن الأصح أخذ صغيرة من صغار، حيث تكون زيادة الفرض بالعدد، فنأخذ
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل و (ط) و (ك).
(2) بضم الفاء، وكسرها.
(3) اقتصاده: أي توسطه.
(4) كذا. ومجيء (إلى) بمعنى (في) واردٌ في القرآن الكريم، قال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87].

(3/125)


سخلة من أربعين، وقد اشتدّ في الجديد نكيرُ الشافعي على من يخالف في ذلك، وقال: "قد يكون أقل جذعة تساوي عشرين، وكل سخلة تساوي نصف درهم"، ففي أخذ الجذعة استيعاب ماله، أو الإتيان على معظمه.
ولا مدخل للصغير في الضحايا، والسبب فيه أن الزكاة تتعلق بأصناف الأموال وأجناسها؛ ففي أخذ صغيرة من صغار جريان على ذلك، وأما الضحية؛ فإنها لا تتعلق بصنف المال وجنسه، وإنما الأمر بها على صفتها يصادف الذمة.
ومما تفارق فيه الضحية الزكاةَ أن الذكر في الضحايا يجزىء، وفي الزكاة التفصيل الذي تقدم، والفرق أن المقصود الأظهر في الضحايا اللحم، والذكورة لا تؤثر فيه، والغرض من الزكاة شرف الجنس إذا كان النصاب شريفاً، والأنثى أشرف في الماشية، وصرّح الصيدلاني بأن الشَّرْقاء (1) والخرقاء (2) مجزئة في الزكاة؛ فإنها ليست معيبة بعيب يؤثر في القيمة والمالية، وهي المرعية في الزكاة، وأما الضحايا، فقد يعتبر فيها استشراف المنظر حُسْناً.
وما حكيته عن شيخي من التسوية بين الضحايا والزكاة في هذه العيوب، غير معدود من المذهب، وإنما هو هفوة من السامع أو [المسمِّع] (3).
فصل
1830 - إذا اختلف أنواع ماشيةٍ مع اتحاد الجنس، فكان في الإبل مَهْريّة وأرْحَبِيّة، وفيها مُجَيْدِيّة (4)، وكذلك لو فرض اختلاف النوع في الغنم، فكان فيها ضأنية وماعز،
__________
(1) الشرقاء: مشقوقة الأذن. (الزاهر).
(2) الخرقاء: المثقوبة الأذن ثقباً مستديراً. (المعجم).
(3) في الأصل، (ك)، (ت 2): "أو المستمع" وفي (ت 1): "والمسمِّع" والمثبت كما ترى من هذه وتلك.
(4) المَهْرية من إبل اليمن، منسوبة إلى مَهْرة بن حَيْدان، وهم قوم من أهل اليمن، وبلادهم الشَحْر، بين عُمان وعدن أَبْين، والأرْحبية، والمُجَيْدِية كذلك من إبل اليمن. (الزاهر: فقرة: 276). =

(3/126)


فقد اختلف قول الشافعي في المأخوذ زكاةً منها، فقال في أحد القولين: ينظر إلى غالب ماله، فإن كان أكثره ضأناً، طلبنا جذعة من الضأن، وإن كان أكثره معزاً طلبنا ثنية من المعز.
والقول الثاني: أنا ننظر إلى كل صنف، ونحرص أن نأخذ من كل بقسطه على ما سنفصله في التفريع.
توجيه القولين: من قال: ينظر إلى الأغلب الأكثر، استدل بأنا لو تكلفنا النظر إلى كل نوع، فقد تكثر الأنواع في الماشية، وتكون الزكاة حيواناً واحداً، وذلك يعسر جداً، على ما سنبيّن عسره في التفريع.
ومن قال: ينظر إلى كلّ صنف، بناه على قاعدة القياس في الصنف إذا اتّحد، شريفاً كان أو خسيساً؛ فإنا نؤثر أن نأخذ من نوع المال، فيلزم هذا الأصل في اختلاف الأنواع.
1831 - التفريع: إن قلنا: نأخذ من غالب ماله، فلو ملك خمساً وعشرين من المعز، وخمسة عشر من الضأن، اكتفينا منه بثنية من المعز، كنا نأخذها لو كانت غنمه كلها معزاً، ولو كان الأكثر ضأناً، طلبنا جذعة من الضأن، كنا نطلبها لو تمحّض المال ضأناً.
ولو استوى النوعان في المقدار، فقد نزّل الأئمة هذا في التفريع، منزلة ما لو اجتمع في الإبل البالغة مائتين الحقاقُ وبناتُ اللبون، فظاهر المذهب أن الساعي يأخذ الأشرف، والأصلح، فكذلك ها هنا.
ومن قال ثَمَّ: الخِيَرةُ إلى المالك، يَطْردُ هذا القياسَ هاهنا أيضاً.
وإن قلنا: ننظر إلى كل نوع، فليس المراد به أنا نأخذ نصف ضأنية، ونصف ماعزة؛ فإن التبعيض فيهما عسر.
ولو بذل المالك أشقاصاً، ورضي بها الساعي، لم يَجُزْ، ولم يقع موقع الاعتداد وفاقاً، ولكن المراد باعتبار الأصناف، أنه إذا ملك عشرين من الضأن، وعشرين من المعز، وكانت الثنية من المعز تساوي اثني عشر، والجذعة من الضأن تساوي

(3/127)


عشرين، فإنا نأخذ نصف العشرين تقديراً، ونصف الاثني عشر، وذلك ستة عشر، فنكلفه أن يشتري بهذا المبلغ جذعة من الضأن وسطاً، أو ثنيّةً من المعز شريفة.
فهذا معنى النظر إلى الأصناف.
وقال الشافعي مفرِّعاً على هذا القول: لو ملك خمساً وعشرين من الإبل، عشرٌ منها مَهْرِيّة وعشرٌ أرحبية، وخمسٌ مُجَيْدية؛ فإنا نقدر خُمْسَي بنتِ مخاض أرْحَبية وخُمْسَي مَهْرِيّة، وخُمْسَ مُجَيْدِية، ونكلفه أن يشتري بها صنفاً من هذه الأصناف التي ذكرناها.
فهذا بيان رعاية الأصناف والنظر إليها.
ثم إنا نلحق بخاتمة الفصل أموراً يتم بها البيان.
1832 - فنقول: الضأن أشرف من المعز، فلو ملك أربعين من الضأن الوسط، فأخرج ثنيةً من المعز الشريفة، وكانت تساوي جذعة من الضأن الذي يملكه، فهذا محتمل متردد، والظاهر عندي إجزاؤها، وليس كما لو أخرج معيبة قيمتها قيمةُ سليمة؛ فإنا لا نقبلها.
والدليل على الفصل بين البابين، أنه لو كان في ماله سليمة، وأغلبه معيب، لم نكتف منه بمعيبة، وإذا كان في ماله ماعزة وضأنية، فإنا قد نأخذ منه ماعزة كما تفصَّل.
ثم مما يجب التفطّن له أن الذكورة والصغر ملحقان بالعيب في الزكاة بل قد يزيدان على العيب، بدليل أنا نأخذ من المعيب المتمحّض معيباً، وقد لا نأخذ من الذكور ذكراً، ومن الصغار صغيرة، على التفصيل المقدم.
1833 - ولو كانت ماشيته سمينةً في المرعى، فنطالبه بسمينة، ونجعل ذلك كشرف النوع.
قال صاحب التقريب: لو كانت ماشيته كلها ماخضة، لا نطلب منه ماخضة، وهذه الصفة معفوّ عنها، كما يعفى عن الوقص، والذي ذكره حسن لطيف.

(3/128)


وفيه نظر دقيق، وهو أن الماخض (1) قد تتخَيّل حيوانين: الأم، والجنين. وفي الأربعين شاةٌ واحدة؛ فتكليفه ماخضاً لا وجه له، وقد يرد على هذا إيجاب الخَلِفات (2) في المائة من الإبل، ولكن الدية اتباعية، لا مجال للنظر في مقدارها، وصفتها، ومن يحملها، ولا وجه عندي لمخالفة صاحب التقريب فيما ذكره.
1834 - ومما ذكره الأئمة عن صاحب التقريب أن الساعي لا يعتمد كريمةً شريفةً من ماشية الرجل، وقد صح نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في أخبار، فلو تبرع الرجل بإخراج تلك الكريمة، فهي مقبولة منه في ظاهر المذهب.
قال: ومن أئمتنا من قال: إنها غير مقبولة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن أخذ كرائم أموال الناس" (3).
وهذا مزيّف لا أصل له؛ من جهة أن المراد بالنهي منع السعاة من الإجحاف بملاك الأموال، وأمرهم برعاية الإنصاف، ولا يفهم الفقيه من هذا أن المالك لو تبرع ببذل كريمةٍ لا تقبل منه، (5 وهذا الوجه لم أنقله في (الزوائد) (4) من كلام صاحب التقريب. وغالب ظني أني اكتفيت فيه بنقل الأئمة 5).
ومما يتصل بذلك أنه لو بذل ماخضاً، قبلت منه على طريقة الأئمة، واعتدّت فريضة كالكريمة في نوعها، أو صفتها.
ونقل الأئمة عن داود أنه منع قبول الماخض، مصيراً إلى أن الحمل عيب، وهذا
__________
(1) الماخض: الحامل، التي حان وضع حملها. (المصباح).
(2) الخلفات: جمع خلفة، وهي الحامل أيضاًً. (المصباح).
(3) حديث النهي عن أخذ كرائم الأموال، متفق عليه من حديث ابن عباس، بلفظ: "إياكم وكرائم أموالهم". (ر. البخاري: الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، ح 1458، مسلم: الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، ح 19، التلخيص: 2/ 154 ح 816).
(4) الزوائد. لا أدري ما المقصود بها!! لم أر هذا اسماً لكتاب من كتب إمام الحرمين. والله أعلم.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/129)


ساقط من جهة أنه ليس عيباً في البهائم، وإنما يُعد عيباً في بنات آدم (1).
وذكر العراقيون أنه لو تبرع بالرُّبَّى -وهي التي تربِّي ولدها- على قرب عهد بالولادة، قُبلت، جرياً على القياس.
وحكَوْا وجهاً بعيداً عن بعض الأصحاب أن الرُّبَّى لا تقبل من جهة أنها لقرب عهدها بالولادة تكون مهزولة، والهَزْل (2) عيب. وهذا ساقط، فقد لا تكون كذلك، وقد تكون غيرُ الرُّبَّى مهزولة، والهزال الذي يعد عيباً هو الهزال الظاهر البيّن.
فصل
1835 - اختلف قول الشافعي في جواز نقل الصدقات، على ما سيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله تعالى، والغرض تفريع مسألةٍ ذكرها الشافعي وهي: إذا كان للرجل أربعون من الغنم، عشرون ببلدة وعشرون ببلدة أخرى، ووجبت الزكاة، فقد قال الشافعي: "يؤدي شاةً بأي البلدين شاء".
وقد تردد الأصحاب في هذا، فقال قائلون: هذا تفريع [تجويز] (3) نقل الصدقات، فإن منعنا ذلك، لزم إخراجُ نصف شاة بإحدى البلدتين، وإخراجُ نصفٍ آخر بالبلد الآخر، وتُحْتَمَلُ ضرورة التبعيض، حتى لا يؤدي إلى نقل الصدقة؛ فإن موجب القول بمنع النقل أن أهل كل ناحيةٍ بها المال استحقوا زكاته، وتعينوا لاستحقاقها، فلا يجوز إبطال استحقاقهم بسبب التبعيض، فيجزىء لهذه الضرورة نصفا شاتين، وإن كان ذلك لا يجزىء من غير ضرورة وحاجة.
والأئمة وإن اختلفوا في أن إعتاق نصفي عبدين هل يجزىء عن إعتاق رقبة مستحَقة في الكفارة، لم يختلفوا في أن إخراج نصفي شاتين لا يقوم مقام إخراج شاةٍ، من غير ضرورة ولا حاجة، ولكن إذا ثبتت ضرورة، أجزأت.
__________
(1) يعني الإماء، وما يترتب على بيع الأمة الحامل، من ملكية الجنين، وغير ذلك.
(2) كذا، مصدر هَزَل يهزُل من باب نصر، إذا ضعف؛ فهي صحيحة، وأما عكس الجدّ، فهي: هَزَل يهزِل من باب ضرب. (المعجم).
(3) مزيدة من (ت 1)، (ت 2).

(3/130)


ثم تمام التفريع عند هؤلاء أنه إن أمكن التبعيض، فذاك. وإن عسُر، ولم يصادف الإنسانُ نصفَ شاة، فقد قال صاحب التقريب: يخرج قيمةَ شاة (1) حيث عسر.
ونحن قد نجوّز إخراج القيمة عند التعذر والعسر، على ما سنقرر ذلك عند ذكرنا منعَ إخراج الأبدال في الزكوات.
وقد يخطر لذي نظرٍ أن الشاة التي تساوي عشرين، قد لا يشترى نصفها بعشرة، وإنما يشترى بثمانية، ولكنا عند الرجوع إلى القيمة، لمكان قيام ضرورة، نعتبر قيمةَ النصف بقيمة التمام، ولا نظر إلى ما أشرنا إليه.
فإن قيل: إذا جوزتم إخراج نصفي شاتين، وكان ذلك ممكناً، فقد يتوصل مالك المال إلى نصفي شاتين بأقل من عشرين. قلنا: لا نظر إلى ذلك، مع حصول نصفي الشاتين.
فهذه طريقة.
1836 - ومن أئمتنا من منع التبعيض، وقال: ينبغي أن يخرج شاة بإحدى البلدتين، والخِيَرةُ في ذلك إليه، وهذا ظاهر النص؛ فإنَّ ذكرَه البلدتين، وانقسامَ المال عليهما، ثم جوابه بأنه تجزىء شاة في إحدى البلدتين دالٌّ على أنه يفرعّ على منع النقل، [وإلا فلا] (2) فائدة -على قولنا بجواز النقل- لتخصيص هذه الصورة بالذكر.
وإذا ثبت أنه يخرج شاةً بإحدى البلدتين، فقد اختلف أصحابنا على وجهين في العلة، على هذه الطريقة الصحيحة، فمنهم من قال: سبب جواز ذلك -والتفريع على منع النقل- التبعيضُ والتشقيص، وهوْ مُجتنب في المواشي، وعلى ذلك ابتنى جريان الأوقاص، عفوَه (3) عن مزيد واجب.
__________
(1) وذلك لسهولة قسمة القيمة بين البلدين.
(2) في الأصل و (ط) و (ك): فلا فائدة، والمثبت من (ت 1)، (ت 2).
(3) ساقطة من (ت 1).

(3/131)


ومنهم من قال: علة التخيير بين إخراج شاة [هاهنا] (1) أو بالبلدة الأخرى أن المالك واحد، والمال منقسم، فله بكل بلدة من البلدتين عُلقة، فنفرع عليه التخيير فيما ذكرناه.
1837 - وينبني على هاتين العلتين مسألة وهي أنه إذا كان له أربعمائة من الغنم في أربع بلاد، فواجبها أربع شياه، والتفريع على منع النقل، فإن عللنا بالتبعيض في الصورة المقدمة، فلا يجوز النقل في هذه الصورة؛ بل يتعين إخراج شاة بكل بلدة، وإن علّلنا بأن له بكل بلدةٍ عُلقة، وجنس المال متحد، فهو بالخيار: إن شاء فرّق الشياه، كما ذكرناه في البلاد الأربعة، وإن شاء جمعها في بلدة، أو كما يشاء بعد (2) أن لا يتعدى الأربع البلاد ولا يبعض.
1838 - قلت: تجويز النقل بأن له بكل بلدة مالاً لا أصل له عندي، وإنما يظهر التعليل في الصورة المتقدمة بضرورة التبعيض لا غير، فإن لم يكن بدّ من تخريج المسألة الأخيرة على الخلاف، فلعل الأقرب في التعليل أن الزكاة وإن لم تتبعض في الصورة التي ذكرناها، فالغنم نامية، وهي سريعة المصير ترفّعاً إلى مبالغ يقتضي الحساب تشقيص واجبها على التفريق، وذاك يعسر ضبطه، فيجوز النقل لحسم هذا الإمكان.
ومما أقطع به تخريجاً على هذا التنبيه أنه لو كان للرجل عروض تجارة ببلد، وله مال تجارة ببلدة أخرى، ورأس المالين دراهم، فيجب القطع بأنه يخرج زكاة كل مال حيث هو، ولا يجوز النقل على منع (3) النقل، فإن التبعيض لا وقع له في الدراهم بوجه، ولذلك لم يثبت عند الشافعي للدراهم وقص بعد الوجوب، وهذا ظاهر لا ريب فيه. فيظهر بهذا بطلان التعليل بأن له بكل بلدة عُلقة في الجنس الواحد الزكاتي.
__________
(1) ساقطة من الأصل و (ط)، و (ك).
(2) كذا في النسخ الخمس. والعبارة صحيحة مستقيمة، والمعنى واضح: أي بعد أن يلتزم عَدَمَ تعدي البلاد الأربع، وعدم التبعيض.
(3) أي على القول بمنع النقل.

(3/132)


فصل
قال: "ولو قال للمصدق هذه وديعة، صَدَّقه ... إلى آخره" (1).
1839 - إذا جاء الساعي يطلب صدقة ماشيته مثلاً، فقال من في يده المال: ليست الماشية لي، وإنما هي وديعة، وليس عندي حساب حولان الحول عليها، أو تفصيل أمرها، أو قال: هي وديعة لذميّ، أو قال: ما تمّ حولها بعدُ، أو قد أديت زكاتَها إلى ساع آخر، مرّ بنا، أو أزلتُ ملكي في أثناء الحول وانقطع الحول، فكيف السبيل إليه؟
فنقول: هذه الصورة تفرع لا محالة على أنه يتعيّن دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى السلطان، فإذا جرى النزاع بين الساعي والمالك، وكان قول المالك يقتضي سقوطَ الطلب عنه لو صُدِّق، فظاهر نص الشافعي يقتضي أنه يُصدَّق، وقاعدة المذهب أن القول في جميع ذلك قولُ رب المال، وإن تُصوِّر في بعضها بصورة من يدعي إذا قال: قد أديت الزكاة.
وكأن السر فيه أنّا وإن قلنا: يتعين صرف الزكاة إلى الساعي، فالأصل قول رب المال، وهو الملتزِم، والزكاة تجب لله تعالى، ركناً في الإسلام، ولكن الشارع عيّن له نائباً، وأمره بصرف الزكاة إليه إقامةً لمصلحة كلية، فالقول إذاً قول رب المال في الوجوه التي ذكرناها.
1840 - وإنما الكلام بعد تمهيد القاعدة في أنه هل يحلَّف أم لا؟ وكيف السبيل فيه لو عرضت عليه اليمين فنكل؟
فنقول: ما تحققتُه من الطرق أنه إذا كان الظاهر لا يكذِّب المالكَ، ولم يُتصور بصورة مدّعٍ، مثل أن يقول: ما تمّ حول هذا المال، أو وقع النزاع في سخال، وتاريخ ولادتها، فكان رب المال يقول: ما ولدت في الحول المنقضي، فلا زكاة فيها لحول أمهاتها، وإنما ولدت من بعدُ، فلا ظاهر يكذبه فيما ذكرناه.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 201.

(3/133)


فإن كان المالك مع ما ذكرناه، عدلاً ثقة، عند الساعي، وكان لا يتهمه، فلا يحلِّفه، بل يكتفي بقوله.
وإن تصور بصورة مدّعٍ مثل أن يقول: قد أديتُ الزكاة، أو كان الظاهر يخالفه في مثل قوله: ليست الماشية لي، وظاهر اليد يقتضي كونَها له، أو قال: قد قطعت الحول ببيع (1)، ثم استفدت (2)، فإن انضم إلى مخالفة الظاهر في هذه الصورة، كونُه متهماً عند الساعي، [فإنه يحلّفه، وإن لم يكن متهماً عند الساعي] (3) بل كان في ظاهره عدلاً، فهل يحلِّفه؟ فعلى وجهين. ولو كان لا يكذِّبه ظاهر، ولم يكن عدلاً عند الساعي، فالذي ذكره العراقيون أنه لا يحلَّف أيضاًً.
ومن أئمتنا من قال: يُحَلّف.
1841 - فحاصل المذهب أنه إذا لم يكن الظاهر مخالفاً له، ولم يكن متهماً، فلا يحلّف. وإن كان الظاهر يخالفه وكان متهماً، حُلّف. وإن خالفه الظاهر وكان عدلاً، أو لم يخالفه الظاهر، ولم يكن عند الساعي عدلاً، ففي تحليفه وجهان.
فهذا أصل المذهب، ومستنده ما ذكرته من تأصّل ربّ المال في الزكاة؛ فإليه الرجوع.
1842 - ثم حيث قلنا يحلّفه الساعي، فقد ظهر اختلاف الأئمة في أن اليمين مستحبة أو مستحقة؟ وكل ذلك يؤكد ما ذكرته من أن الأصل رب المال، فإن قلنا: اليمين مستحبة، فلا أثر لعرضها، ولا وقع للنكول عنها.
والذي يفرع على ذلك أن الساعي إذا رأى عرض اليمين مستحباً، فالذي أراه أنه على هذا لا ينبغي أن يجزم الأمر باليمين؛ فإن السلطان أَمْرُه ممتَثَل، فإذا أمر، فقد أرهق واقتهر. وقد يخفى على رب المال عقدُ الساعي في أن عرض اليمين ليس بواجب.
__________
(1) في (ت 1): ببيعي.
(2) استفدت: أي استفدت مالاً استأنفتُ به حولاً جديداً. وعبارة النووي في الروضة: "ثم اشتريته". الروضة: 2/ 340.
(3) ساقط من الأصل و (ط) و (ك) و (ت 2)، ومثبت من (ت 1) وحدها.

(3/134)


وإن قلنا: عرضُ اليمين مستحق؛ فإذا حلف رب المال، سقطت الطَّلِبَة في جميع هذه الوجوه.
1843 - وإن نكل عن اليمين، فقد اختلف أئمتنا على أوجه، فمنهم من قال: يقضى عليه بنكوله، وهذا فائدة استحقاق اليمين. فإن قيل: القضاء بالنكول يخالف مذهب الشافعي. قلنا: نحن لا نقضي بالنكول في خصومات الآدميين، لإمكان ردّ اليمين فيها على المدعي، والرد هاهنا غير ممكن، لا على الساعي؛ فإنه نائب، ولا على المساكين، فإنه لا نهاية لهم، فمنتهى الخصومة نكولُه فقضي به.
1844 - ومنهم من قال: لا يقضى بنكوله، جرياً على القاعدة في الامتناع عن القضاء بالنكول. و [خصومة] (1) الزكاة أولى بهذا، لما قدّمنا ذكره في أثناء الكلام؛ إذ قلنا: الوالي في حكم النائب عن رب المال، وإلا فهو الأصل في التزام الزكاة، والمخاطب بها، فإن رأينا وجوبَ التسليم إلى النائب لمصلحة، فلا تخلو القاعدة عن حقيقتها، حتى يقضى فيها بمجرد النكول، من غير حجة تقوم.
1845 - ومن الأئمة من فصّل القول، وقال: إن كان ربّ المال متصوّراً بصورة مدعىً عليه، فلا يقضى بنكوله، مثل أن يقول: لم يحل الحول على هذا المال، أو ليس المال لي، وإنما هو وديعة عندي، فإذا حُلّف، ونكل عن اليمين، لم يقض عليه بنكوله؛ طرداً للقياس في منع القضاء بالنكول.
وإن تُصوِّر رب المال بصورة المدعي مثل أن يقول قد أديت الزكاة إلى ساعٍ آخر، أو بعتُ المالَ بيعاً يقطع الحول، فإذا حُلِّف ونكل عن اليمين، يُقضى عليه بنكوله؛ فأنه لو حلف، لكان على صورة مدعٍ مثبت، فإذا احتمل ذلك في تحليفه، فليجر في نكوله على قياس نكول المدعي، ولو نكل المدعي عن اليمين المردودة عليه، لقضي بنكوله. على ما سيأتي تفصيله مشروحاً في الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل.
1846 - وهذا -مع أنه أعدل الوجوه- فيه شيء؛ فإن المودع إذا ادّعى رَدَّ
__________
(1) في الأصل و (ط) و (ك): حصول.

(3/135)


الوديعة، فاليمين معروضة فيها عليه، وهو على صورة المدعين، ولو نكل، لم يقض عليه بنكوله.
[ولكن] (1) سبب منع القضاء عليه إمكانُ الردّ على الخصم، الذي هو مالك الوديعة، والرد غير ممكن في الزكاة، وانضم إليه تصوّر من عليه الزكاة بصورة المدعي، فقيل: إنه يقضى عليه.
فإن قلنا: يقضى عليه بنكوله، فلا كلام.
وإن قلنا: لا يقضى عليه، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يخلى سبيله، وهذا ظاهر المذهب.
1847 - ومنهم من قال يُحبس، حتى يَحلِف، أو يعترف. وهذا القائل يُعلل ذلك بأنا إذا كنا نخلّيه (2)، فلا فائدة للحكم بوجوب عرض اليمين عليه، والقضاءِ بأن استحلافه مستحق. فإن قُضي عليه بالنكول، فقد أفاد استحلافُه، وإن حبسناه، فيحلف، فقد ظهر وجوب اليمين عند الإنكار.
وإن قلنا: لا يحبس، ولا يُقضى عليه، فقد سقط أثر استحقاق الاستحلاف.
1848 - قلت: الحبس ليَحْلف خروجٌ عن قاعدة الشافعي، وانسلال عن الضبط بالكلية؛ فإن مما ظهر تشغيبنا فيه على أبي حنيفة مصيره في القسامة إلى حبس المستَحْلَفين حتى يحلفوا.
ولكن يجب القطع بأنه إذا كان لا يحبس، ولا يُقضى بنكوله، فلا يجب استحلافه. ولا يتفرع هذا قطعاً على رأي من يوجب الاستحلاف، ويجب رد الكلام إلى أنا إذا لم نقض بنكوله، فلا يجب استحلافه، فإن قصارى الأمر أن ينكل فيخلّى.
وإن قلنا: يُقضى عليه بالنكول، فيجب استحلافه. ومن تخيل خلاف ذلك فقد عاند وجحد.
__________
(1) في الأصل و (ط): "ولم يكن".
(2) في (ت 2): "نحلفه".

(3/136)


1849 - ويخرج من مضمون ذلك أن الوجه نفيُ إيجاب الاستحلاف؛ من جهة أن القضاء بالنكول عسر، وآل مآل الكلام، إلى أن موضع تسلّط الوالي في المطالبة بالزكاة، أن يعترف الرجل بالزكاة، فإذ ذاك يلزمه التسليم ظاهراً وباطناً، وإن أبى كاذباً عصى ربه باطناً، ولم يتسلط عليه الوالي.
1850 - ومما يتعلق بإتمام الغرض أنا إذا منعنا نقل الزكاةِ، وكان مستحقو الزكاةِ محصورين في البقعة، وقد عُرضت اليمين على رب المال، فنكل، فقد قال كثير من أئمتنا: تُردّ اليمين على المستحقين، وهو الذي ذكره الصيدلاني، ووجهه بيّن؛ فإنا على قول منع النقل نوجب صرف الزكاة إليهم، ولا نجوّز حرمانَهم، فتعيَّنُوا للاستحقاق، ونزلوا منزلةَ من يستحق ديناً.
ومن أئمتنا من قال: لا ترد اليمين عليهم، وإن تعيَّنوا بسبب الانحصار ومَنع النقل، وهذا الوجه ذكره العراقيون، وهو في بعض تصانيف المراوزة، ووجه ذلك أنهم وإن تعيّنوا، فسببه انحصارهم، وإلا، فالزكاة تتعلق في قاعدة الشرع بالصفات، لا بالأعيان، ثم من يرى الرد عليهم، فإنما ذاك فيه إذا ادَّعَوْا، والقول في أن دعواهم هل تسمع، وهل لها وقع؟ يخرج عندي على أن اليمين هل ترد عليهم لو نكل رب المال.
ومما يخرج على هذا القانون أنا إذا رأينا الرد عليهم، ونزلناهم منزلة مستحقين متعينين للدَّين (1)، فقياس هذا أن تنقطع طلبة السلطان فيه، ويكون الأمر موقوفاً على دعواهم [ورفعهم] (2) ربَّ المال إلى السلطان، فإن سكتوا، وهم أهل رشد لا يولى عليهم؛ فلا يبقى للسلطان في هذا تصرف وسلطنة، على سبيل الابتداء؛ فإن سلطانَه يثبت حيث يكون رأيُه متَّبعاً في الصرف إلى من رأى.
1851 - وقد ينقدح في هذا شيء، وهو أن المستحقين، وإن كانوا محصورين، [فلرب] (3) المال أولاً (4) ألاّ يسوي بين الفقراء، وهم ثلاثة مثلاً، بل يفضل بعضَهم.
__________
(1) ساقطة من (ت 1).
(2) في الأصل، و (ط) و (ك): فيرفعهم.
(3) في الأصل، و (ط)، و (ك): فرب.
(4) في (ط) و (ك): أولى.

(3/137)


فيجوز أن يقال: هذا على قولنا بوجوب تسليم الزكاة إلى السطان، يتعلق برأي الوالي، ويزيد وينقص، وإن كان لا يَحْرِم، ثم ما يفوّض إلى الوالي لا يكون تخيُّراً من طريق التمني (1)، بل يرى رأيَه.
1852 - وقد سمعت شيخي يقول: إذا منعنا النقل، وانحصر الفقراء، وزادوا على ثلاثة، فيجب صرف الحصة إليهم، ويجب التسوية بينهم، وإنما يجوز الاقتصار على الثلاثة، (2 وتجوز المفاضلة عند خروجهم عن الضبط الممكن؛ فإن سبب جواز الاقتصار 2) على الثلاثة أنهم أقل الجمع، ولا عدد بعده أولى من عدد، وسبب المفاضلة أن كل من أُعطي أقلَّ، فلو حُرم، لأمكن حرمانه بإقامة غيره مقامه، فأما إذا انحصروا، وامتنع النقل، وتيسر الاستغراق، فالوجه وجوب الصرف إليهم، مع رعاية التسوية.
والذي ذكره حسن منقاس إذا قلنا ترد اليمين عليهم، ويخرج عليه أنه لو مات منهم ميت، فحصته من الزكاة مصروفة إلى ورثته الأغنياء، إرثاً على فرائض الله تعالى، وكان شيخي يلتزم جميع ذلك.
1853 - وفيه مستدرك عندي؛ من جهة أن الحاجات هي سبب الاستحقاق، وهي تختلف باختلاف الأشخاص: فرُب رجل تنسدُّ حاجته بمقدارٍ (3)، وحاجة غيره لا تنسد بأضْعافه، فإطلاق التسوية مع ما ذكرناه، لا وجه له. نعم، لو كان المدفوع إليهم لا تنسد حاجتهم أصلاً، فإذ ذاك تتخيّل التسوية.
ثم هذا فيه شيء، وهو أن المستكفي في سِداد الحاجة بمقدارٍ قليل، وإن قصر المدفوع إليه عن كفافه، فهو أقرب إلى دفع الضرر عنه، بما يفرض مصروفاً إلى من لا تنسد حاجته إلا بالشيء الكثير، وللخبير في هذا تفكير.
__________
(1) في (ت 2): النهي.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(3) في الأصل، و (ط)، و (ك): "تنسد حاجته بمقدار حاجة غيره، وحاجة غيره لا تنسد بأضعافه".

(3/138)


والتفريع إذا بعُد على القاعدة، جرّ خبلاً وأموراً ينبو عنه (1) قياس القواعد الكلية.
1854 - ومما يتعلق بتمام القول في هذا إذا انتهى القول إليه أنا إذا منعنا نقلَ الصدقة، وقد انحصر المستحقون، فلو فرضنا في زكاة العين في المواشي وغيرِها انحصار المستحقين، مع التفريع على منع النقل، وأوجبنا فضَّ الزكاة على جميع الحاضرين، فلو اعتاضوا عن الغنم دراهمَ، فالذي يقتضيه القياس تفريعاً على هذه الأصول جوازُ ذلك؛ فإنهم المستحقون.
1855 - وقد ذكر الأئمة أنه لو مات منهم واحد، ورث حصتَه وارثُه الغني الخارجُ عن صفة الاستحقاق.
ولكن يظهر على قاعدة المذهب منعُ ذلك رعايةً للتعبد، ولأجله منعنا أصلَ الإبدال، وإن سلمنا أن سد الحاجة غرضٌ ظاهر في الزكاة.
1856 - ولو أبرأ هؤلاء مستوجب الزكاة، فاستحقاقهم واختصاصهم يقتضي تنفيذَ إبرائهم، ولكن أصل التعبد ينافي ذلك؛ فإن الزكاة عبادة واجبةٌ لله تعالى، فيبعد سقوطُها من غير أداء.
ولا نقلَ عن الأئمة في أعيان هذه المسائل.
1857 - ولو وجبت الزكاة، ووقع الحكم بانحصار الاستحقاق في معيّنين، فلم يتفق صرف الزكاة إليهم حتى افتقر طائفة، واتصفوا بالصفات المرعيّة في استحقاق الزكاة، فيحتمل أن يقال: يختص بالزكاة المعيّنون عند الوجوب، ويُجعل اللاحقون كمدد يَلحق الجندَ بعد انجلاء القتال وإحراز المغنم. ويظهر أن يقال: لمن عليه الزكاة الصرف إلى اللاحقين؛ وحرمان الأولين؛ فإن أصلَ الزكاة منوط بالأوصاف، لا بالأعيان، فإن فرض تعيّن، فالحكم بموجبه لأجل الضرورة، لا لأصلٍ متمهدٍ في الشرع.
__________
(1) كذا في جميع النسخ، فالضمير عائد على التفريع.

(3/139)


فصل
قال "ولو ضلت غنمه أو غُصبها أحوالاً، ثم وجدها، زكّاها لأحوالها ... إلى آخره" (1).
1858 - فأوجب الزكاة في الأحوال التي اطّرد الضلالُ والغصب فيها، وقال بعد ذلك في الضال والمغصوب والمجحود: "لا (2) يجوز فيه إلا واحد من قولين: إما أن لا تجب الزكاة؛ لأنه محول دونه، أو تجب لأن ملكه لم يزل".
1859 - فنقول: الضال، والمغصوب الذي يتعذر انتزاعه من يد الغاصب، والمجحود (3) في يد الجاحد ولا بيّنة، فقد تعذر تصرف المالك فيه، وحيل بينه وبينه، ولكن الملك دائم قائم، فنصُّ الشافعي كما قدمناه ونقلناه.
وقد اضطرب الأئمة، فذهب بعضهم إلى القول بوجوب الزكاة قطعاً، كما نصفه في التفريع، وحمل تردد النص على توجيه الحجة على مالكٍ (4) في تفصيلٍ له؛ فإنه قال: إذا مرت أحوالٌ مع اطراد الحيلولة، فتجب الزكاة في السنة الأولى فحسب، فقال الشافعي راداً عليه: هذا التفصيل لا معنى له، إما أن تجب الزكاة بجميع الأحوال؛ نظراً إلى استمرار الملك، وإما ألاّ تجب أصلاً؛ نظراً إلى اطراد الحيلولة، والفصل بين السنة الأولى وما بعدها لا معنى له، فكان كلامُ الشافعي صيغةَ المحاجّة، ولم يكن ترديداً منه للمذهب.
ومالك إنما قال ما قال [لأصلٍ] (5) له، وهو أنه قال: إذا مضت السنة، ولم يتمكن مالكُ المال من تأدية الزكاة بعد انقضاء الحول بأشهرٍ، ثم تمكن، فابتداء
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 203.
(2) من هنا بدأ خرم من (ك).
(3) انتهى الخرم من نسخة (ك).
(4) ر. المدونة: 1/ 132، والإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 384 مسألة: 521.
(5) في الأصل، و (ط)، و (ك)، و (ت 1): لا أصل له. والمثبت من (ت 2).

(3/140)


الحول الثاني يحسب عنده من وقت الإمكان، وهذا الأصل يقتضي ما ذكرناه من مذهب مالك.
1860 - ومن أئمتنا من حمل نص الشافعي على ترديد القول والمذهب؛ فإنه لم يتعرّض (1) للسنة الأولى وما بعدها، وذِكْرُه الحيلولةَ [والملكَ] (2) إبداءٌ لتوجيه القولين، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا تجب الزكاة في مدة الحيلولة؛ فإن مبنى الشرع مشعر بأن الزكاة إرفاقٌ في مقابلة ارتفاق المالك، ولذلك تتعلّق الزكاة بالمال النامي جنساً وقدراً، واعتبرت مدةٌ يغلب النماء في مثلها، والحيلولة تمنع الارتفاق. والثاني - تجب الزكاة نظراً إلى الملك، والجنسِ، والقدرِ، مع حولان الحول. وامتناعُ التصرف في حكم مرضِ المواشي، وانقطاعِ نسلها وزيادتِها، وقد يكون مع ما ذكرناه [فحولاً] (3)، ثم الزكاة تجب. وطريان الحيلولة بهذه المثابة.
1861 - ثم الذين جعلوا المسألة على قولين اختلفوا في محلهما، فقال بعضهم: لو غُصب مواشيَه (4)، وكانت تنمو وتتوالد، ثم ردت بعد أحوال إليه، مع الزوائد المستفادة، فيجب إخراج الزكاة للأحوال الماضية، قولاً واحداً. وإنما القولان فيه إذا رجعت الأصول وماتت الزوائد.
ومنهم من قال: في الصورتين جميعاً قولان، لصورة الحيلولة وامتناع التصرف.
وهذا فيه بُعد.
__________
(1) (ك): تنقرض السنة الأولى ...
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(3) في جميع النسخ حرّفت هذه الكلمة، فرسمت هكذا (سحول) أو هكذا (حول) وفي كلا الحالين بغير نقط. وما أثبتناه اختيار منا رعاية للسياق، بمساعدة عبارة الشيرازي في المهذب (ر. المجموع: 5/ 341).
والمعنى أن القائل بوجوب الزكاة يوجِّه قولَه بأن الملك متحقق في جنس مالٍ زكاتي بالغٍ النصاب، أما الحيلولة بينه وبين هذا المال، ومنعه من الارتفاق به ونمائه، فهي كآفةٍ من مرضٍ أو انقطاع نسلٍ، ثم قد يكون المال ذكوراً -لا تتكاثر- ومع ذلك تجب فيه الزكاة.
"فطريان الحيلولة بهذه المثابة".
(4) نائب الفاعل ضمير مقدّر يعود على المالك، و (مواشيه) مفعول به.

(3/141)


ومن فصّل القول في محل القولين، فلو عادت الأصول مع بعض الفوائد، ومات بعضها، فالوجه عنده طرد القولين في صورة تبعض الفائدة؛ نظراً إلى المعلوفة، فإنه لا زكاة فيها لمكان المؤنة، وإن كانت الفوائد تزيد على المؤن.
وإن فات في يد الغاصب شيء من الفوائد، وكان يفوت في يد المالك أيضاًً، فهذا لا يبالى به؛ فإنه لا أثر للحيلولة فيه، وإنما هو اتفاق جائحةٍ مثلها لا يسقط الزكاة، لو جرى في يد المالك، فالمعنيُّ بفوات الفوائد أن يُهلكها الغاصب، أو تهلك بسبب زوال نظر المالك.
ولو ردت الأصول والفوائد هالكة، وتمكن المالك من تغريم الغاصب، فهو في حكم عود الفوائد بأعيانها.
1862 - ومما تتعين الإحاطة به أنا إذا أوجبنا الزكاة في المغصوب والضالّ، فلا نوجب تعجيلَ إخراج الزكاة أصلاً، ولكن إذا عادت الأموال، فإذ ذاك نوجب إخراج الزكاة للأحوال الماضية، والطرق متفقة على ذلك تصريحاً وتلويحاً، وعدم التمكن من المال مع إيجاب الزكاة ينزل منزلة إيجاب الزكاة بانقضاء الحول من غير إمكان أداء الزكاة.
وتحقيق ذلك أنا، وإن غلّبنا تعلّق الزكاة بالذمة، فلا شك في تعلقها بالمال، فلو عسر الإخراج من عَيْن ذلك المال، لم نوجب إخراجها من مال آخر.
1863 - ونقول على موجب ذلك: لو انقضت أحوال في زمان الحيلولة، ثم تلفت الأموال قبل وصولها إلى يد المالك، سقطت الزكوات بتلفها، كما تسقط الزكاة بتلف المال بعد الحول وقبل التمكن من أداء الزكاة.
فهذا بيان أصل المذهب في الفصل.
فرع:
1864 - لو غُصب (1) عبداً، وكان مغصوباً عند استهلال رمضان، ففي زكاة الفطر طريقان: من أصحابنا من أجراها مجرى زكاة المال؛ حتى تخرَّج على
__________
(1) نائب الفاعل: (المالك) مقدّراً.

(3/142)


القولين. ومنهم من قطع بوجوب زكاة الفطر؛ فإنه لا يراعى فيها ماليّة المحل، ويجب إخراجها عن المستولدة، وعن الولد الحر.
ولو نشزت امرأة الرجل، وسقطت نفقتُها واستهل الهلال؛ فلا تجب الفطرة على الزوج؛ فإن الفطرة تتبع النفقة، وقد سقطت النفقة بالنشوز، ونفقة المملوك لا (1) تسقط بالغصب.
1865 - ولو أبق العبد، فظاهر كلام العراقيين أن فطرته في إباقه على التردد الذي ذكرناه، وليس إباق العبد بمثابة نشوز المرأة؛ إذ نشوز المرأة يضاد التمكين، والنفقة في حكم العوض عن التمكين، ونفقة المملوك في مقابلة الملك، ويجب على مقتضى هذا أن يقال: لو وجد الآبق طعاماً لسيده في إباقه، حل له أن يأكل منه. وهذا فيه نظر ظاهر، فليتأمله الطالب.
وبالجملة إن اتجه سقوط نفقة الآبق، ففي فطرته تأمل على الفقيه.
فرع:
1866 - إذا حُبس المرء، وحيل بينه وبين ماله، ولم يثبت على ماله يد، ولكن ضِيقَ الحبس، والإفرادَ عن المال، وعمن يتعلق التصرف به، عَسَّرَ عليه التصرف، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم، تنبيهاً ورمزاً، وجوب الزكاة. ولا وجه غيره.
فرع:
1867 - من اشترى نصاباً زكاتياً، ولم يقبضه حتى انقضى حول كامل في يد البائع، فللأئمة تردد في ذلك: فذهب بعضهم إلى أن القول في الزكاة في المبيع قبل القبض كالقول في المجحود والمغصوب.
وقال صاحب التقريب: تجب الزكاة قولاً واحداً؛ فإن المشتري قادر على الوصول إليه بأن يسلم الثمن، ويتسلم المبيع، وليس كالمغصوب الذي يتعذر الوصول إليه.
وحكى بعض المصنفين عن القفال القطعَ بأنه لا تجب الزكاة في المبيع، لضعف ملك المشتري فيه، ولذلك لا ينفذ تصرفه فيه، وإن أذن البائع، ولهذا يقال: إنه يتلف على ملك البائع، لو تلف في يده. والله أعلم.
__________
(1) في (ت 1) لا تسقط إلا بالغصب.

(3/143)


1868 - ثم نختتم الفصل بأمرٍ واضحٍ، فنقول: إذا طرأ على الحول زوال ملكه، ثم عاد، حكمنا بانقطاع الحول، ثم يستأنف بعد عود الملك حولاً جديداً، قولاً واحداً.
ولو طرأ علف مؤثر كما سيأتي شرحه، ثم أُسيمَت الماشية، قطعنا الحول، واستأنفنا حولاً جديداً باتفاق، ولا يُبنى على ما تقدم من الإسامة.
ولو نوى التاجر الاقتناء في السلعة، ثم جرت تجارة، ابتدأنا حولاً جديداً وفاقاً، ولو طرأ غصب -على قولنا: لا زكاة في المغصوب- ثم زال، فالوجه القطع بانقطاع الحول واستئنافه، كما ذكرناه في نظائره، ولا بناء أصلاً؛ فإن الحيلولة في منع الزكاة، كالعلف، ونية الاقتناء. وسنعود إلى طرفٍ من ذلك عند ذكر السَّوْم والعلف.
فصل
قال: "وإن ارتد، فحال الحول على غنمه ... الفصل" (1).
1869 - قال الأئمة: من وجبت عليه الزكاة، فارتدّ بعد وجوبها، فالزكاة الواجبة لا تسقط بالردة، وإذا حال الحول في زمان الردة، ففي وجوب الزكاة تفصيلٌ، مخرّج على اختلاف القول في ملك المرتد، فإن قلنا: يزول ملكه بالردة، فلا تجب الزكاة في حال الردة، وإن قلنا: لا يزول ملكه، فتجب الزكاة بحولان الحول في الردة، وإن قلنا: ملكه موقوف، فوجوب الزكاة على الوقف أيضاًً. وسيأتي تفصيل الأقوال في ملكه إن شاء الله تعالى.
1870 - قال صاحب التقريب: لو قلت: إذا ارتد، لم يخرج الزكاة، ما دام مرتداً، لم يكن بعيداً من جهة أن الزكاة قُربة محضة، مفتقرة إلى النية، ولا تجب على الكافر الأصلي -بخلاف الكفارة- فيتعذر أداؤها من المرتد، وقال على هذا: إذا حكمنا بأن ملكه لا يزول، ومضى حول في الردة، لم يخرج الزكاة أيضاًً للمعنى الذي
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 204.

(3/144)


ذكرناه. ثم قال: إن عاد إلى الإسلام، لزمه إخراج ما وجب في إسلامه، وما وجب في ردته، كما يجب عليه قضاء الصلوات التي مرت مواقيتها في ردته.
فخرج مما ذكره [أن] (1) الردة لا تنافي وجوبَ الزكاة، ولكنها تنافي أداءها لتعذّر النية، ثم قال: "ولو قُتل مرتداً فقد أيسنا من تأدية الزكاة على هذا الطريق، فسقطت في حكم الدنيا، ولم تسقط المعاقبة بها في العقبى" (2) هذا تمام كلامه.
1871 - قلت (3): ما قطع به الأصحاب إخراجُ الزكاة لحق المساكين عاجلاً، ولكن يحتمل أن يقال: إنه إذا أسلم، فهل يلزمه إعادة الزكاة؟ فعلى وجهين. وهذا يناظر مسألة، وهي أن الممتنع عن أداء الزكاة، إذا ظُفر بماله، أُخذ الزكاة منه، ولكن إذا لم ينوِ من عليه الزكاة، فهل تسقط الزكاة عنه، بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين، وترك النية بالامتناع، بمثابة ترك النية بالردة، هذا حاصل القول في ذلك.
فصل
قال: "ولو ضربت غنمَه فحولُ الظباء ... إلى آخره" (4).
1872 - المتولد بين الظبي والغنم لا زكاة فيه عندنا، ولا فرق بين أن يكون الفحول من الظباء والإناث من الغنم، أو تكون على العكس من ذلك، والمرعي أن المتولّد -كيف فرض الأمر-[لا يكون] (5) من جنس الغنم، والمرعي الجنس، كما تقرر ذلك في مسائل الخلاف.
...
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ك): إلى.
(2) القائل: صاحب التقريب، فهذا نهاية كلامه.
(3) القائل هنا إمام الحرمين.
(4) ر. المختصر: 1/ 204.
(5) ساقطة من الأصل، و (ط).

(3/145)


باب صدقة الخُلطاء
قال: "جاء الحديث "لا يجمع بين متفرق ... " (1) الحديث".
1873 - الخُلطة إذا ثبتت على شرطها، صيّرت مال الخليطين كالمال الواحد، في أصل الزكاة، وأخْذها وقَدْرها عندنا.
والأصل في الباب ما رواه أنس، وابن عمر، وعمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" (2).
زاد ابنُ عمر في روايته "وما كان من خليطين، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" (3) وروى سعد بن أبي وقاص من طريق السائب بن يزيد: "والخليطان ما اجتمعا على الرعي والحوض والفحولة" (4).
وعَقْد الباب ما ذكرناه، من أن مال الخليطين إذا صحت الخلطة، كمال مالك واحد، فلو ملك رجلان أربعين من الغنم، لزمتهما شاة واحدة، وإن لم يملك واحد منهما نصاباً كاملاً، ولو ملك اثنان ثمانين: كل واحد أربعين، لم يلزمهما إلا شاة واحدة، كما لو اتحد المالك، ولو ملك عشرة أربعمائة: كل واحد أربعين، لم يلزمهم إلا أربعُ شياه، كما لو كانت الجملة ملك مالك واحد.
1874 - ثم الخُلطة خلطتان: اشتراك، ومجاورة. فأما الاشتراك، فهو أن يملك اثنان أو عدد المالَ، وتشيعَ حصصُهم من غير تعيين، وأما المجاورة، فهو أن يتميز
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 205.
(2) جزء من حديث أنس (كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) الذي سبق في أول الزكاة.
(3) هذه الزيادة عند أنس أيضاًً في رواية أبي داود: (الزكاة، باب في زكاة السائمة، ح 1567).
(4) جزء من حديث سعد بن أبي وقاص، رواه الدارقطني: 2/ 104، والبيهقي: 4/ 106، وقد ضعفه الحافظ (انظر التلخيص: 2/ 155 ح 819، وخلاصة البدر: 1/ 289 ح 1002).

(3/146)


الملك عن الملك، ولكن يتجاور المالان تجاور المال الواحد، مثل أن يملك زيدٌ عشرين من الغنم بأعيانها، ويملك عمرو عشرين، ويتجاور الأغنام، كما سنصف، فيثبت مقتضى الخُلطة إذا استجمعت الخلطة شرائطها، وشرائطُها منقسمة إلى متفق عليه بين الأصحاب، وإلى مختلفٍ فيه، فالمتفق عليه أن يجتمع المالان في المرعى، والمسرح، والمراح، والمشرع (1)، والعبارة عن هذه الأوصاف أن تجتمع اجتماع ملك المالك الواحد، على الاعتياد الغالب فيه.
1875 - واختلف أئمتنا في أمورٍ منها: أنه هل يشترط أن يَتَّحِد رَعْيُها، أو تشترك رُعاتها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نشترط ذلك، ومعنى الوجه قبل التوجيه ألا يختص راع برعاية غنم أحد الخليطين، بل إن اتحد الراعي راعَى المالين جميعاً، وإن تعدد الراعي راعَى كلُّ واحدٍ جميعَ المال، على ما تقتضيه مصلحة الرعي.
ومن أئمتنا من قال: لا يضر أن يفرد كل واحد منهما لماله راعياً، يختص به بعد اتّحاد ما ذكرناه، من المراح، والمسرح. وسنبين وجهَ هذا عند ضبط المذهب.
1876 - ومما اختلف فيه الأئمةُ الفحل، فذهب بعضهم إلى أنه يجب أن يكون مشتركاً بين الخليطين، وقال: إن كان مملوكاً، فليكن مشتركاً، وإن لم يكن مملوكاً، يجب أن يشتركا في استعارته -وإن تعدّد الفحل- فالمطلوب الاشتراك عند هذا القائل، كما ذكرناه في الراعي.
ولا ينبغي أن يخصص كل مالك غنمه بفحل ينزو عليها، ولا ينزو على غنم صاحبه.
ومن أئمتنا من لم يشترط ذلك، وحكم بصحة الخُلطة، وإن انفرد كل واحد بإنزاء فحل على غنمه.
ومما اختلف الأصحاب [فيه] (2) حلبُ الألبان [فذهب بعضهم إلى أن شرط الخُلطة
__________
(1) المشرع: المراد ورود الماء. مأخوذٌ من المشرعة، وهي شريعة الماء التي يستقى منها، بغير رِشا (المصباح).
(2) زيادة من (ت 1)، (ت 2)، حيث سقطت من الأصل ومن باقي النسخ.

(3/147)


أن تحلب الألبان] (1) من المواشي المختلطة في محلبٍ واحد، ثم اقتصد في هذا الوجه، من قَرُب من التحقيق وقال: معناه ألا ينفردَ أحدُ الخليطين بمِحلب، يمنعه عن صاحبه، ولكن إن كان مِحلَب واحد، فيكون بين الخليطين، وإن كانت محالب كانت فوضى (2) بينهما. والغرض ألا يختصَّ أحدهما بآلة في الحلب عن صاحبه، اتحدت أو تعددت؛ فإن المال لو اتحد، فلا يفردُ بعضها بمحلب، فليكن مالاهما بمثابة مال واحدٍ، لمالك واحد، وهذا القائل لا يشترط حلبَ ألبانها في مِحلب واحد؛ فإن ذلك قد لا يعتادُ في مالٍ واحد.
وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لو انفرد أحد الخليطين بمِحلَب لا يبذله لصاحبه، جاز، ولم يؤثِّر، وهذا يقرب من الكلام في الراعي كما سبق.
والأظهر هاهنا ألا يشترط أن يكون المِحلَب فوْضى؛ فإن الأمر في ذلك قريب، والراعي قوام الأمر، فلو اختص كل مال براعٍ، ظهر منه الانفراد المناقض للخلطة.
وأبعد العراقيون في الوجه الأول، فحكَوْا وجهاً بعيداً: أنا نشترط خلط الألبان، ثم زعم هذا القائل أنهما يتسامحان في فضلاتٍ -إن كانت- في الألبان، كما يتسامح المتناهدان (3) في الأطعمة في السفر. وهذا بعيد عن التحصيل ساقط عن قاعدة المذهب.
1877 - ثم الضابط لمحل الوفاق والخلاف في الشرائط، أن كل ما يرجع إلى أنفُس (4) الماشية من الاجتماع الذي يظهر اعتباره في المال الواحد، فهو مرعي في أموال الخلطاء، كالاجتماع في المراح، والمسرح، والمرعى، والمشرع. ولو افترقت في هذه الأشياء، لكانت مفترقة حسّاً في ذواتها غيرَ مجتمعة، وإذا اجتمعت كذلك، فما يتعلق بخفة (5) المؤن، ففيه خلاف، كالاشتراك في الراعي، والفحل، والمِحلَب، كما تقدم، فمنهم من اشترطها، ومنهم من لم يشترطها.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) فوضى: أي شائعة.
(3) المشاهدان: من تناهد القوم الشيء تناولوه بينهم. (المعجم).
(4) (ك): نفس.
(5) في (ت 1)، (ك): (بحقه) وفي (ت 2): "بحقه ففيه".

(3/148)


1878 - ومما تكلم الأئمة فيه أنهم اختلفوا أن القصد هل يراعى في الخلط؟ فمنهم من لم يعتبره، وقال: لو اختلطت الأموال سنة وفاقاً، حصلت الخلطة، ومنهم من يراعي القصدَ حتى لو لم يكن، فكل مالك على الانفراد في ملكه.
وهذا يناظر ما سنذكره من أن القصد هل يراعى في الإسامة والعلف؟
ثم كما اختلفوا في أن القصد هل يراعى في الخلطة، أختلفوا في أنها لو افترقت من غير قصد، هل ينقطع حكم الخلطة فيها؟ وهذا كجريان الخلاف في العلف والإسامة جميعاً.
1879 - ثم خلطة الجوار هي التي يشترط فيها على الوفاق والخلاف ما ذكرناه، فأما خُلطة الشيوع والشركة، فلا يشترط فيها شيء مما ذكرناه؛ فإن الحصص شائعة (1) لا تميُّز فيها، نعم، يشترط في الخليطين جميعاً أن يكون كل واحد من الخليطين بحيث يلتزم الزكاة، حتى لو كان أحد الخليطين ذمِّيّاً، أو مكاتباً، لم يثبت حكم الخلطة أصلاً، ومن كان من أهل الالتزام، فله حكم ماله على الانفراد، ولا أثر للخلطة أصلاً.
1880 - ومما يشترك فيه الخليطان جميعاً اشتراط دوام الخلطة في جميع الحول، كما سيأتي ذلك مشروحاً في مسائل الباب.
فهذا قاعدة الخلطة، وبيان حصولها، وذكر تأثيرها على الجملة.
1881 - ثم إن الشافعي بين أن اسم الخلطة على الشركة أوقع منه على خلطة الأوصاف، وإنما (2) قال ذلك، لأن الخلطة على سبيل الجوار هي التي ورد فيها الخبر، كما لا يخفى على المتأمل، فقال الشافعي من طريق السنة "إذا ثبت بالخبر حكم خلطة الجوار، وهي المسماة خلطة الأوصاف، فخلطة الشركة باسم الخلطة وحقيقتها أولى (3) ".
والأمر على ما ذكره.
__________
(1) ساقطة من (ت 2).
(2) في الأصل و (ط) و (ك): فإنما.
(3) ساقطة من (ت 1).

(3/149)


فصل
1882 - إذا (1) ثبت خلطةُ الجوار على شرائطها المذكورة، فقد ذكرنا أن المالين كالمال الواحد، والخُلطة لهذا الأصل تقتضي تارةً إيجابَ الزكاة، وتارة تتضمن التقليل، وهذا متلقى من مصير المالين في حكم المال الواحد.
ثم نقول: من ذلك إذا أقبل الساعي، واقتضى الحال أن يأخذ بنفسه الزكاة، فإنه يأخذها من عُرض المال، من أي ملكٍ يتفق، ثم يثبت الرجوع تارةً، والتراجع من الجانبين أخرى، على ما سنصف. ثم نوضح التعليل.
1883 - فإذا كان بين رجلين أربعون من الغنم، وكانت متجاورة: عشرون منها لزيد، وعشرون لعمرو، وقد استجمعت الخلطة شرائطها، فالواجب شاة، فلو أخذ الساعي شاةً من أغنام أحدهما، سقطت الزكاة عنهما جميعاً، ثم يرجع من أُخذت الزكاة من غنمه على خليطه بقيمة نصف شاة، ولا يرجع عليه بنصف شاة؛ فإن الشاة وقعت زكاةً، وليست من ذوات الأمثال، وهذا بمثابة ما لو قال من عليه شاة عن أربعين لغيره: أدِّ زكاة مالي من مالك، فإذا فعل المأمور، فإنه يرجع حيث يرجع بقيمة الشاة.
ولو حال الحول على الأربعين ووجبت الزكاة، وتحقق التمكن، وأتلف مالكُ المال المالَ، فيلزمه إخراجُ شاة للمستحقين؛ فإن الزكاة باقية في ذمته إلى أن يؤديها، وهي شاةٌ، والزكاة في الأربعين المتجاورة قد (2) سقطت عن الخليطين بأداء أحدهما الشاة، فلا رجوع إلا بالقيمة.
1884 - ولو ملك أحدهما أربعين بقرة، وملك الثاني ثلاثين، وخلطا خلطة الأوصاف، فواجب المال مسنةٌ وتبيع، فلو أخذ الساعي تبيعاً من صاحب الأربعين،
__________
(1) في (ك) في أول الفصل: (قال) فجعل هذا من كلام الشافعي، كدأب المؤلف في أول الفصول، ولكني لم أجد هذا للشافعي في المختصر.
(2) في الأصل و (ط) و (ك): وقد.

(3/150)


ومسنةً من صاحب الثلاثين، فإنهما يتراجعان كما نص الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي صدرنا الباب به، فيرجع صاحب الأربعين على صاحب الثلاثين بثلاثة أسباع تبيع، ويرجع صاحب الثلاثين على صاحب الأربعين بأربعة أسباع مسنة.
والرجوع بالقيمة، لا بعين التبيع والمسنة.
ولو أخذ الساعي المسنّةَ من صاحب الأربعين، والتبيعَ من صاحب الثلاثين؛ فإنهما يتراجعان، فيرجع صاحب الأربعين على صاحب الثلاثين بثلاثة أسباع مسنّة، وصاحب الثلاثين على صاحب الأربعين بأربعة أسباع تبيع، وليس لقائلٍ أن يقول: إذا أُخذت المسنة من الأربعين والتبيع من الثلاثين، فقد أخذ كلَّ سن من محله، فلا رجوع؛ وذلك أن المالين كالمال الواحد، والمسنة شائعة في جميع المال، وكذلك التبيع.
هكذا ذكره شيخي، والشيخ أبو بكر. والأمر كذلك.
وتحقيقه أن من ملك سبعين من البقر، وانفرد بملكه، فزكاة ماله مسنة وتبيع، (1 ثم لا نقول: المسنة في أربعين، والتبيع في ثلاثين؛ فإن الأربعين ليست متميزةً عن الثلاثين، ولكن واجب الجميع مسنة وتبيع 1)، فلا جزء من الجميع إلا وفيه جزء من مسنة وتبيع.
وبيان ذلك: أن الشرع إذا أوجب في مائتي درهم خمسةَ دراهم، فذاك [بنسبةٍ] (2) من الجزئية معلومة، ففي النصاب رُبع عشر، وهو منبسط على الجميع، ففي كل جزء رُبع عشر، فإذا أوجب الشرع في أربعين شاةً شاة، فلا يتأتى في ذلك عبارة (3) بالجزئية، مع اختلاف صفات الشياه، ولكنه في الحقيقة جزئية، ففي كل شاة ما يخصها من حساب شاة في أربعين. كذلك في كل بقرة ما يخصها من المسنة والتبيع، من حساب مسنة وتبيع في سبعين، فإذا كان كذلك، ومالا الخليطين كمال
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) في الأصل و (ط) و (ك): بنسبته، وفي (ت 2): النسبة. والمثبت من (ت 1).
(3) أي اعتبار.

(3/151)


المالك الواحد، فيتضمن ذلك التراجعَ كما سبق تفصيله في الصورتين.
ولو وجد الساعي المسنة والتبيع جميعاً في مال صاحب الثلاثين مثلاً وأخذهما، فلا نقول إنه يرجع بقيمة مسنة على صاحب الأربعين، ولكن يرجع عليه بقيمة أربعة أسباع مسنة، وأربعة أسباع تبيع.
فقد بان ما نحاول من ذلك إن شاء الله تعالى.
1885 - ولو وجب في الأغنام المختلطة أربع شياه: مثل أن [مَلَكا] (1) أربعمائة: لهذا مائتان، ولهذا مثلها، فأخذ الساعي شاتين من هذا وشاتين من هذا، فالذي ذكره المحققون أنه يرجع كل واحد على الثاني بقيمة نصفي شاتين، للشيوع الذي ذكرناه.
ولكنهم قالوا: لا يفيد هذا التراجع؛ فإن الشياه المأخوذة المجزئةَ متساوية، فإذا كان يرجع كل واحد على الثاني بما يرجع به عليه، لم يفد.
نعم يخرّج هذا [على] (2) أقوال التقاصّ (3) عند تساوي الدَّيْنين، قدراً وجنساً، وليس كما ذكرناه في السبعين من البقر، وقد أُخذت مسنة من أحدهما، وتبيعٌ من الثاني؛ فإن التراجع في الأسباع يجرُّ اختلافاً في المقدار، والتقاصّ جار في مقدار التساوي من القيمة.
وعبر الأئمة في التراجع بالشاتين والمأخوذ منهما أربع شياه بعبارة تشعر بالمقصود. فقالوا: يرجع كل واحدٍ منهما على الثاني (4 بنصفي شاتين، أو 4) بنصفي شاة، وهو شاة؛ فإن الشياه لا تختلف.
1886 - ولو كان بين رجلين مائة وثمانون من الإبل، لواحد مائة، وللثاني ثمانون، فواجب المال حقتان، وبنتا لبون، فلو أخذ الساعي حقتين من صاحب
__________
(1) في جميع النسخ ما عدا (ت 2): ملك. فالمثبت منها.
(2) مزيدة من (ت 1).
(3) في (ت 1): التقايض.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/152)


المائة، وبنتي لبون من صاحب الثمانين؛ فإنهما يتراجعان، فيرجع صاحب المائة على صاحبه بأربعة أتساع حقتين، وإن شئت قلت: بثمانية أتساع حقة؛ فإن القيمة لا تختلف، ويرجع صاحب الثمانين بخمسة أتساع بنتي لبون، وإن أحببت، قلت: يرجع ببنت لبون وتُسع أخرى.
فهذا تحقيق التراجع.
1887 - وفي بعض التصانيف (1) كلامٌ فيه خبط، ونحن ننقله بعد تأسيس المذهب، ونذكر ما فيه.
قال: "لو كان واجب المال شاتين، وأخذ الساعي شاةً من أحدهما، وشاةً من الآخر، فلا تراجع؛ لأنه أخذ من كل واحد منهما ما وجب عليه".
وهذا قول من لا علم عنده بحقيقة الأصل الذي مهدناه، ولو حمل حاملٌ هذا على سقوط فائدة التراجع، لاستقام في المعنى، ولكن لفظ الكتاب دليلٌ على أن كل واحد منفردٌ بواجبه، لا شيوع له. وهذا خطأ صريح.
ثم قال: إن كان الواجب شاتين، فأخذهما من أحد المالين، جاز ويثبت الرجوع.
وحكى (2) عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: "إذا تمكن الساعي من أخذ شاة من كل واحد منهما، فليس له أخذ شاتين من أحدهما، حتى يحتاج إلى الرجوع".
__________
(1) سبقت الإشارة إلى أنه حيث القول: "بعض المصنفين" أو "بعض المصنفات" فإنما يعني أبا القاسم الفوراني. وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط تعليقاً على عبارة الإمام هذه: "قلت: التصنيف الذي نقل منه ذلك هو كتاب الفوراني أبي القاسم، وهو كثير الميل عليه والتخطئة له، يقول: قال بعض المصنفين كذا، وفي بعض التصانيف كذا، وبلا تسمية ولا كناية، ثم يفرط في تتبعه ومؤاخذته حتى يفضي به إلى الظلم له، وإلى أن يتصف هو بما يصفه من الخطأ والسهو". ا. هـ. ثم تعقبه في المسألة "نقلاً ودلالة" على حد تعبيره، بما لا نطيل بذكره، فراجعه إن شئت (مشكل الوسيط لابن الصلاح بهامش الوسيط: 2/ 424 - 426).
(2) الذي حكى هو صاحب (بعض التصانيف المشار إليه آنفاً).

(3/153)


وهذا لم أره إلا في هذا الكتاب. وقياس ما ذكره أنه لو أخذ مسنة من صاحب الأربعين، وتبيعاً من صاحب الثلاثين أنهما لا يتراجعان؛ إذ أدى كل واحد منهما واجبه، ويخرج من ذلك أن الساعي [إذا] (1) قدر على أن يأخذ المسنة من صاحب الأربعين، والتبيعَ من الثاني، يلزمه أن يفعل ذلك على مذهب أبي إسحاق.
وهذا خبط مطرَح من المذهب، ولا ينبغي أن يطّرق إلى أصول المذهب أمثال ذلك، أو يعتقد أنه من الوجوه الضعيفة، بل هو هفوة نقلناها؛ حتى لا يخلو المجموع عن ذكرها.
1888 - ولو كان واجب المال المختلط شاةً، وأخذ الساعي من أحد الخليطين أكولة (2) أو رُبَّى، فلا يرجع على خليطه بقيمة نصف شاة رُبّى، بل يرجع بقيمة نصف جذعة من الضأن؛ فإنه مظلوم بتلك الزيادة في الصفة، والمظلوم يرجع بالظلم على من ظلمه، دون غيره.
1889 - ثم إنما يظهر القول في التراجع في خلطة الجوار، فأما خلطة الاشتراك، فلا يظهر التراجع فيها، والزكاة المأخوذة من جنس المال؛ فإن المأخوذ يكون مشتركاً بينهما على ما يقتضيه أصل الشركة في أصل المال، نعم لو كان الواجب غير مجانس لأصل المال كالشاة تجب في خمسٍ من الإبل، فقد يفرض الرجوعُ فيه، فإذا كان بين رجلين خمسة من الإبل على اشتراكٍ، فأخذ الساعي من أحدهما شاةً، فإنه يرجع بنصف القيمة على شريكه، ولو كان بينهما عشرة من الإبل على الاشتراك فأخذ الساعي شاة من هذا وشاة من هذا، فأصل التراجع ثابت على قانون المذهب، ولكنه غير مفيدٍ (3) فيقع في التَّقاصّ، كما تقدم ذكره.
__________
(1) مزيدة من (ت 1)، (ت 2). وفي (ك): إن.
(2) الأكولة: هي التي تسمن للأكل، وليست بسائمة. (الزاهر).
(3) في (ت 1) و (ت 2): مقيّد.

(3/154)


فصل
قال: "ولما لم أعلم مخالفاً في أن ثلاثة ... (1) الفصل".
1890 - قصد الشافعي بهذا الردّ على مالك (2) في تفصيلٍ له في الخلطة، فإنه قال: إذا لم يكن نصيب بعض الخلطاء نصاباً، لا يلزمه الزكاة بسبب الخلطة، حتى لو كان بين رجلين أربعون من الغنم، لكل واحدٍ عشرون، لم تجب الزكاة على واحد منهما، واعتلّ بأن واحداً منهما لم يخالط من تلزمه الصدقة من غير خُلطة، فأشبه ما لو خالط ذمياً.
وهذا غير سديد؛ فإن الخُلطة تؤثر في تبليغ المالين نصاباً، ولا تؤثر الخُلطةُ في إزالة كفر الذمي. ثم ما ذكره مالك يقتضي أن لا تُفيد الخلطة في حق المساكين شيئاً، فإنه إذا كان مال كل واحد بحيث تتعلق الزكاة به، فالخلطة تقتضي تقليل الزكاة، ونحن إذا قلنا: على الخليطين في النصاب الزكاة، فقد جعلنا الخلطة في حق المساكين مفيدةً في هذه الصورة، فكان ذلك حكماً عدلاً؛ إذ تارة تفيد الخلطة للمساكين، وتارة تقلل من حقهم.
فصل
قال: "وبهذا نقول في الماشية والزرع والحائط ... إلى آخره" (3).
1891 - قد ذكرنا أن المواشي تثبت فيها خلطة الشركة والجوار جميعاً، فأما الزورع والثمار، ففيها ثلاثة أقوال: أحدها - أنها تثبت فيه الخلطتان، فإذا كانت الزروع أو الثمار مشتركة، فبينهما حكم الخلطة.
والجوار فيها أن يتجاورا ويتّحد الناطور، والنهر الذي يسقي، وما يمكن تقدير
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 206.
(2) ر. المدونة: 1/ 334، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 393 مسألة: 536.
(3) ر. المختصر: 1/ 206.

(3/155)


اتحاده من هذه المرافق لتخف المؤن فيها، ولعل الخلطة تثبت إذا كان بين البستانين بستان، إذا أمكن فرضُ اتحاد المؤن، والناطور. وفي هذا نظر.
ولا يمتنع أن يشترط اشتمال حائطٍ واحدٍ على أرْضَين، أو وقوعهما متجاورين من غير حائطٍ، حتى يقال: لا تتميز إحداهما عن الأخرى، بما هو علامة في تعدد الملكين وتميزهما، ولم يتعرض الأصحاب لتفصيل القول في ذلك، والله أعلم. فهذا قول.
والقول الثاني - أنه لا تثبت الخلطتان إلا في المواشي؛ فإنهما لو ثبتتا في الزروع والثمار، لما تضمنت قط تخفيفاً عن الملاك أبداً، بخلاف المواشي.
والقول الثالث - أن خلطة الشركة تثبت، وخلطة الجوار لا تثبت؛ فإن الشركة فيها كالشركة في المواشي، والجوار عسر التصوير، ولا يتعلق به من تخفيف المؤنة ما به مبالاة.
1892 - فأما الدراهم، والدنانير، وعروض التجارة، فالمذهب أن الجوار لا يثبت فيها، وفي الشركة قولان، وأبعد بعضُ الأئمة، فذكر في خلطة الجوار فيها وجهاً بعيداً، وتصوير الجوار فيها أن يتّحد حانوتها وخازنها، ومعنى الاتحاد قد أوضحناه في جوار المواشي، وهذا بعيدٌ؛ فإن اتحاد الحانوت والخازن لا يؤثِّر أثراً به احتفال.
فصل
مُشتمل على تفصيل القول في حول الخلطة والانفراد، وما يتعلق بذلك
1893 - فنقول: إذا ثبتت الخلطة بين مالين، لم يخل الأمر من ثلاثة أحوال: إما ألا ينعقد الحول قبل الخلطة، وينعقد الحول مع الخلطة، في حقهما جميعاً.
وإما أن ينعقد الحول على مال كل واحدٍ منهما، قبل اتفاق الخلطة، ثم تقع الخلطة في أثناء الحول.
وإما أن ينعقد الحول على مال أحدهما على الانفراد قبل الخلطة، ويقع ابتداء حول الثاني مع الخلطة.

(3/156)


فإن كان ابتداء حوليهما مع الخلطة، فلا إشكال، فإذا مضى حول من وقت الخلطة، وجبت الزكاة عليه كما سبق التفصيل، والمالان كالمال الواحد. ومن صور هذا القسم أن يملك أحدهما عشرين من الغنم، وكذلك الثاني، ثم يتفق الخلط، فالحول من وقت الخلط، ولا نظر إلى تاريخ ملكيهما قبلُ؛ فإن الحول لا ينعقد على مال ناقصٍ عن النصاب، فابتداء انعقاد الحول من وقت تمام النصاب بالخلطة.
1894 - ولو ملك كل واحد منهما نصاباً كاملاً، وانفرد به مدة، ثم اتفق الخلط، لم يخل إما أن يتفق تاريخ الحولين، أو يختلف، فإن اتفق التاريخان، فكأن اشترى أربعين من الغنم غرة المحرم، واشترى الثاني أربعين بذلك التاريخ، ثم انفرد كل واحد منهما بملكه شهراً، ثم خلطاه غرة صفر وانقضت السنة: شهر منها على الانفراد، وأحدَ عشرَ في الاختلاط، فالمنصوص عليه في الجديد أنه يجب في السنة الأولى زكاةُ الانفراد على كل واحد منهما، فيلزم كلَّ واحد شاة؛ فإن السنة قد اشترك فيها الانفراد والخلطة، فالتغليب للانفراد؛ فإنه الأصل، والخلط طارىء.
وحكى العراقيون قولاً عن الشافعي: أنه يجب عليهما زكاةُ الخلطة؛ نظراً إلى آخر الحَوْل، فعليهما إذن شاة واحدة.
وهذا في السنة الأولى.
فأما إذا انقضت السنة الثانية في دوام الخلطة، فلا خلاف أنه يجب عليهما زكاةُ الخلطة، وهي شاة واحدة في السنة الثانية؛ فإن هذه السنة تجردت الخلطة فيها.
فهذا إذا اتفق تاريخ ملكيهما.
1895 - فأما إذا اختلف التاريخان، فاشترى أحدهما أربعين غرة المحرم، واشترى الثاني أربعين غرة صفر، ووقعت الخلطة غرة ربيع الأول، فقد جرى مال كل واحد منهما في حول الانفراد شهراً، واختلف تاريخ الحولين أيضاًً؛ فنقول: إذا تم حول الأول، فالمنصوص في الجديد أنه يجب عليه زكاة الانفراد في هذا الحول، وهي شاة، فإذا تم حول الثاني، فتلزمه زكاةُ الانفراد أيضاًً، وهي شاة.

(3/157)


وحكى العراقيون قولاً عن القديم أنه يجب على الأول زكاةُ الخلطة؛ اعتباراً بآخر الحول، وهي نصف شاة، وكذلك يجب على الثاني -إذا تم حوله- نصف شاة اعتباراً بآخر الحول.
وذكر ابن سريج قولاً مخرجاً في اختلاف تاريخ الحولين، وهو أنه لا يثبت الخلط مع اختلاف الحولين أبداً، ويجب على كل واحد منهما زكاة الانفراد في جميع الأحوال المستقبلة، واشترط في ثبوت حكم الخلطة اتفاقَ الحولين.
وهذا غيرُ مرضيٍّ عند أئمة المذهب.
وإذا فرعنا على القول الجديد الأول؛ فإنما يثبت حكم زكاة الانفراد في السنة الأولى، فأما في السنين المستقبلة، فيثبت حكم الخلطة وإن كان التاريخ يختلف.
1896 - ولو تقدّم حول أحدهما على الانفراد، وثبت حول الثاني مع الخلطة، مثل أن اشترى رجل أربعين من الغنم وانفرد بها شهراً، ثم اشترى رجل عشرين، وكما (1) اشتراها خلطها بالأربعين، فإذا تم حول الأول، ففي الجديد تلزمه زكاة الانفراد، وفي القول القديم تلزمه زكاة الخلطة ثلثا شاة، فإذا تم حول الثاني ففي الجديد والقديم تلزمه زكاة الخلطة وهو ثلث شاة؛ فإنه كان مخالطاً في جميع السنة، فيجب عليه بحساب الخلطة.
وأما ابن سريج، فإنه يقول: يجب على صاحب الأربعين زكاةُ الانفراد أبداً، لاختلاف التاريخ. وأما صاحب العشرين، فلا تجب عليه الزكاة أبداً؛ لأن الخلطة لا تثبت في حقه، وماله ناقصٌ عن النصاب.
1897 - ومما نذكره في بيان تخريج ابن سريج أن من اشترى عشرين وأمسكها شهراً، ثم اشترى عشرين، فالحول ينعقد عليهما من وقت شراء العشرين الثانية؛ فإنه كمل النصاب الآن، وابتدأ الحول من وقت كمال النصاب.
ولو اشترى أربعين، ومضى شهر، ثم اشترى أربعين أخرى، فإذا تم حول
__________
(1) "كما" بمعنى عندما.

(3/158)


الأربعين الأولى، ففي الجديد يجب فيه شاة، وفي القديم يجب فيه بحساب الخلطة نصف شاة؛ فإنه كان خليطاً لملكه في آخر الحول، وعلى التخريج يجب في الأربعين الأولى شاة، وفي الأربعين الثانية إذا تم حولها شاة لاختلاف التاريخ في [حولي] (1) الملكين، فكما نمنع حكم الخلطة مع اختلاف التاريخ في ملكي الخليطين، كذلك نمنع هذا بين ملكي مالكٍ واحد.
ولو ملك عشرين، ثم عشرين، فابتداء الحول من وقت كمال النصاب، وإذا اشترى أربعة من الإبل، وأمسكها شهراً، ثم ملك ستّة، فالحول ينعقد الآن على العشرة، ولا اعتبار بما تقدم من الملك على الأربعة؛ فإنها لم تكن نصاباً، فلم يختلف تاريخ الحولين؛ إذ لا حول على الأربعة، فهذا بيان قول ابن سريج في تخريجه.
وأبو حنيفة (2) يلحق المستفادَ بالأصل في حوله، ولا يعتبر فيه حولاً جديداً، والمسألة مشهورة معه في الخلاف.
والسخال إذا حدثت في حول الأمهات، وجبت الزكاة فيها بحول الأمهات، كما تقدم ذكره في زكاة الغنم، وأما الأرباح الطارئة، فسيأتي تفصيل القول فيها في زكاة التجارة، إن شاء الله.
1898 - ولو اشترى رجل أربعين من الغنم، وأمسكها شهراً، ثم اشترى رجلٌ آخر أربعين، وكما اشتراها خلطها بالأربعين الأولى، فإذا تم حول الأولى، ففي الجديد تلزمه زكاة الانفراد شاةٌ، وفي القديم نصفُ شاةٍ، نظراً إلى آخر الحول.
وأما الثاني، فالصحيح في الجديد أنه إذا تم حوله يلزمه (3) نصف شاة؛ فإنه كان خليطاً في تمام سنة.
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ك): جوار. وفى (ت 2): (حول). والمثبت من تصرّف المحقق.
(2) ر. رؤوس المسائل: المسألة رقم 102، المبسوط: 2/ 164، طريقة الخلاف للأسمندي: ص 17 المسألة رقم 6.
(3) في (ك): لم يلزمه.

(3/159)


وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر على هذا القول: أنه تلزمه شاة في هذه السنة، كأنه منفرد بملكه؛ لأنه وإن كان خليطاً في جميع السنة، فصاحبه لم ينتفع بخلطته، فيبعد أن ينتفع هو ولا ينفع، والتساوي مرعي في الخلطة بين الخليطين. وهذا تخييل لا حاصل له. والوجه اتباع القياس المشهور. وأما القول القديم، فلا يخفى التفريع عليه، وكذلك تخريج ابن سريج.
فرع:
1899 - إذا اشترى أربعين شاةً ومضى شهرٌ، ثم ملك أربعين أخرى،
ومضى شهر، ثم ملك أربعين أخرى، فعلى القول القديم يجب في الأربعين الأولى إذا تم حولها، ثلث شاة، وكذلك الثانية، والثالثة.
وعلى الجديد إذا تم حول الأربعين الأولى، ففيها شاة، لانفرادها في بعض الحول، وفي الأربعين الثانية إذا تم حولُها خلافٌ.
ْوالصحيح أنه يجب فيها نصف شاة؛ (1 فإنها كانت خليطة أربعين في جميع حولها، وهذا الحساب يقتضي فيها نصفَ شاة 1).
ومن أصحابنا من قال: فيها شاة؛ فإن الأربعين الأولى، لم ترتفق في حولها بالأربعين الثانية، فلم يلحق الأربعين الثانية تخفيف أيضاًً.
وهذا بعيد.
وأما الأربعين الثالثة، فالصحيح أنه يجب فيها ثلث شاة إذا تم حولُها؛ فإنها في جميع حولها كانت مخالطة لثمانين، فيقتضي هذا الحساب فيها ثلث شاة.
ومن أصحابنا من قال: في الأربعين الثالثة شاة؛ فإنه لم يرتفق بها الأربعين (2) الأولى والثانية؛ إذ أوجبنا على هذا الوجه الضعيف في كل أربعين من الأولى والثانية شاة، فكما لم يرتفق بالثانية ما تقدم، فكذلك لا يلحق الثالثة تخفيفٌ من الأملاك المتقدمة. وتفريع تخريج ابن سريج لا يخفى، فهو يوجب في كل أربعين شاة، في
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) كذا في الأصل، (ت 1)، (ط)، (ك) ولعلها بالواو والنون (الأربعون) أما (ت 2)
فعبارتها مستقيمة؛ فقد جاءت هكذا "فإنه لم يرتفق في الأربعين الأولى والثانية".

(3/160)


الأحوال المستقبلة، فيتم فيها ثلث ثلث إذا لم يزد المال بالنتاج.
فهذا بيان هذه التفاصيل، ذكرها العراقيون وصاحب التقريب.
فصل
قال الشافعي: "لو كان بين رجلين أربعون شاة، ولأحدهما ببلدٍ أربعون ... إلى آخره" (1).
1900 - هذه غمرة الخُلطة، ومقصودها الكلي أنه إذا كان بين رجلين مال مختلط على الشرط المذكور، وكان لأحدهما مال زكاتي من ذلك الجنس، وهو منفرد به، فللشافعي قولان: أحدهما - أن الاعتبار بالعين التي وقعت الخلطة فيها، ولا يجمع الملك المنفرد إلى مال الخلطة.
والقول الثاني - أن الملك المنفرد مضموم إلى المختلط، والعبارة عن هذا القول أن الخلطة خلطة ملك، وبيان القولين يتضح بالتصوير والتفريع.
1901 - فإذا كان لرجل ستون من الغنم، ولآخر عشرون، فخلط صاحبُ الستين عشرين بالعشرين لصاحب العشرين، وانفرد بأربعين، ونفرض اتفاق الحول، حتى لا نقع في التفاصيل المقدمة، ففي قولٍ نقول: الخلطة خلطة ملك، فنضم جميعَ أملاك الخليطين، وهو ثمانون شاة، فالواجب فيها شاة، ربعها على صاحب العشرين، وثلاثة أرباعها على صاحب الستين.
وفي قولٍ نقول: الخلطةُ خلطة عين، فالذي كل ماله مختلط وهو صاحب العشرين، فيعتبر في حقه عين ما وقعت الخلطة فيه، ولا يعتبر ما انفرد به خليطه في حسابه، وهو قد خالط عشرين بعشرين، فلزمه بهذا الحساب نصفُ شاة.
فأما صاحب الستين فبعض ماله مختلط، وبعضه منفرد. والتفريع على أن الخلطة خلطة عين، ففيما يجب على صاحب الستين في هذا القول أربعة أوجه، يجمعها وجهان أولاً، ثم يتفرع كل واحد إلى وجهين.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 209.

(3/161)


نقول: اختلف أئمتنا في أنا هل نجمع في صاحب الستين بين حكم الانفراد والخلطة أم لا؟ وفيه وجهان: أحدهما - أنا لا نُثبت في حقه إلا أحد الحكمين؛ فإن الجمع بينهما مع اتحاد الملك تناقض.
والثاني - أنا نجمع بينهما لاجتماعهما في ملكه.
التفريع على الوجهين: إن قلنا: لا نجمع، فقد اختلف الأئمة على هذا الوجه، فمنهم من قال: يغلّب حكم الانفراد، ويجعل كأنه انفرد بستين من الغنم، فيلزمه شاة واحدة في المختلط والمنفرد، وهذا كما أنا نغلب حكم الانفراد إذا جرى في حولٍ انفراد واختلاط.
هذا ظاهر المذهب.
ومن أئمتنا من قال: نغلّب حكم الخُلطة؛ لأن الخلطة متحققة في بعض ماله، وماله الذي انفرد به منضمٌّ إلى ما وقعت الخلطة فيه، فارتباط الملك أجمع من خلطة الجوار، فعلى هذا نجعل كأن كلَّ الملك مختلط في حقه، ولو كان كذلك، لوجب في الجملة شاة، ويخص صاحب الستين منها ثلاثة أرباعها، فعليه ثلاثة أرباع شاة.
وهذا تفريع على أحد الوجهين، وهو أنا لا نجمع بين حكم الانفراد والخلطة.
فأما إذا قلنا: نجمع في حقّه بين الأمرين، ففي كيفية ذلك وجهان: أحدهما - أنا نوجب في المنفرد بحسابه وفي المختلط بحسابه. وبيانه أنه قد انفرد بأربعين، فجعل كأنه انفرد بالستين، فنقدر فيه شاة، ففي الأربعين منها ثلثا شاة، ثم نعود، فنقدر كأن الستين مختلطة بالعشرين، والمجموع ثمانون، ففيها شاة فيخص العشرين منها ربع شاة، فيضم ذلك إلى ما أوجبناه في الأربعين بحساب الانفراد وهو ثلثا شاة، فالمجموع خمسة أسداس ونصف سدس.
والوجه الثاني - أنا نوجب فيما انفرد به بتقدير انفراده بجميع ماله، كما تقدم، فيلزمه فيه ثلثا شاة، كما تقدم، فأما ما خالط به، فنوجب عليه فيه مثلَ ما نوجبه على خليطه، وقد ذكرنا أنه يجب على خليطه نصف شاة، فكذلك يجب عليه نصف شاة، فنضمه إلى ثلثي شاة الذي أوجبناه في الأربعين المنفردة، فالمجموع شاة وسدس شاة.
فهذا بيان الأوجه.

(3/162)


وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً نذكره الآن في هذه الصورة، ولا نعود إليه، وذلك أنه قال: نجعل كأنه انفرد بالأربعين لا مال له غيره، ففيه شاة، ونجعل كأنه خالط بعشرين ولا مال له غيره، فيجب عليه فيه نصف شاة، والمجموع شاة ونصف.
وهذا مزيف مطَّرح، وفيه قطع ارتباط الملك بالكلية، ولا سبيل إلى ذلك.
1902 - صورة أخرى: إذا ملك رجلان مائةً وعشرين من الغنم، لكل واحدٍ ستون، فخلطا عشرين بعشرين، وانفرد كل واحدٍ بأربعين، فقد اشتركا في الخُلطة، ولكل واحد منهما انفراد بمالٍ، وليس كالصورة الأولى؛ فإنه انفرد أحدهما دون الثاني، فهذه الصورة نفرعها على أن الخلطة خلطة ملك، أو (1 خلطة عين؟
فإن قلنا: الخلطة خلطة ملك 1)، فنجعل كأن الكل مختلط، ولو كان كذلك، لوجب في الجميع شاة واحدة: على كل واحدٍ نصف شاة.
وإن قلنا: الخلطة خلطة عين، فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: منهم من قال: لا نجمع بين الانفراد والخلطة، بل نثبت أحدهما.
ومنهم من قال: نجمع بين الأمرين في حق كل واحد منهما.
فإن قلنا: لا نجمع، فقد اختلف أئمتنا، فمنهم من قال نغلّب الانفراد، فنجعل كأن كل واحد انفرد بالستين؛ فعلى كل واحد منهما شاة، ومنهم من غلّب الخلطة، وجعل كأن جميع المال مختلط، فعلى كل واحد منهما نصف شاة.
فأما من يجمع بين الأمرين، ففي كيفية ذلك وجهان: من أصحابنا من قال: نجعل كأن كلَّ واحدٍ منفرد بالستين، ففيها على هذا التقدير شاةٌ، يخص الأربعين منها ثلثا شاة، ثم نرجع، فنقول: نجعل كأنه خلط ستينه بالعشرين، فيجب في الجملة على هذا التقدير شاة، ويخص عشرين منها ربع شاة.
هذا حساب الخلطة، والذي تقدم حساب الانفراد، فنضم الربع إلى الثلثين، والمجموع خمسة أسداس ونصف سدس. وكذلك القول في حق الآخر.
ومن أصحابنا من قال: أما حساب الانفراد، فكما ذكرناه، ففي الأربعين ثلثا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/163)


شاة، وأما مال الخلطة، فنجعل كأنه لا تعلق له بالمال المنفرد، فيجب في الأربعين شاة، نصفها على كل واحد منهما، فنضمه إلى ما وجب بحساب الانفراد، فالمجموع على كل واحد شاة، وسدس شاة.
هذا بيان المذهب في هذه الصورة.
1903 - صورة أخرى: إذا ملك رجل أربعين من الغنم، فخلط عشرين منها بعشرين لرجل لا يملك غيرها، وخلط العشرين الأخرى بعشرين لرجل آخر، لا يملك غيرها، فهذا أغمض ما نفرع على هذه القاعدة.
فنفرع هذه الصورة على قولي الملك والعين، فنقول: إن قلنا: الخلطة خلطة ملك، فأما من خالط الرجلين، فجميع الأملاك في حقه مجموع؛ فإنه خالط الرجلين، فنقول: جميع الأموال ثمانون وواجبها شاة (1)، فيلزمه بهذا الحساب نصف شاة، وأما كل واحد من خليطه، فماله مضموم إلى جميع خليطيه وهو أربعون، وهل نضمه إلى مال خليط خليطيه؟، فعلى وجهين: أحدهما - أنا نضمه إلى جميع مال خليطه فحسب، ولا نضمه إلى مال خليط الخليط، فيجتمع في حق كل واحد ستون، عشرون له وأربعون لخليطه، فواجبه شاة ويخصه منها ثلث شاة.
والوجه الثاني - أنا نضمه إلى جميع مال الخليط، وإلى مال خليط الخليط، فمجموع المال ثمانون، وواجبه على هذا التقدير شاة، فيخص العشرين ربع شاة.
فهذا تفريع على قولنا الخلطة خلطة ملك.
فأما إذا قلنا: الخلطة خلطة عين، فنقول: في الخليطين، كل واحد منهما لا يملك إلا عشرين، وليس له مال ينفرد به، وقد خلط عشرينه بعشرين، فيعتبر في حق كل واحد منهما حساب الأربعين، ويجب نصف شاة في عشرينه.
فأما مالك الأربعين، فقد خالط رجلين، ولم ينفرد بشيء من ماله، ولكنه (2 خالط رجلين، فإن قلنا: نغلب حكم الانفراد، فهو غير منفرد بشيء من ماله، ولكن 2) ما جرد الخلطةَ مع واحد، فنجعله كما لو انفرد بأربعين، ولم يخالط أحداً،
__________
(1) في (ت 1): وواجبها مثله.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(3/164)


فيلزمه شاة، وكأنا نبطل الخلطة لانقسامها، ولا نثبت لها في حقه أثراً. وهذا الوجه بعيد في هذه الصورة.
وإن غلبنا الخلطة وحذفنا (1) الانفراد، وهو الأصح في هذه الحالة، فنجعل كأنه خالط أربعين بأربعين، فيلزمه نصف شاة.
وإن قلنا نجمع الحكمين، فنقدر جميع ماله مع كل واحد منهما، ونعرف (2) نسبته فنقول: لو كان جميع ماله مع هذا، لكان ماله ومال خليطه ستين، وواجبه شاة، وحصة الأربعين ثلثا شاة، فحصة كل عشرين من ماله ثلث شاة، ويجتمع ثلثا شاة من الخليطين.
ومن أصحابنا من قال: نوجب عليه فيما خلطه بنسبة ما نوجب على خليطه، وقد أوجبنا على كل خليط على قول العين، نصف شاة، فنوجب عليه نصف شاة مع هذا، ونصف شاة مع هذا، فتعود الوجوه إلى ثلاثة.
والذي يقتضيه الرأي عندي أن نحذف ما حكيناه من تغليب الانفراد؛ فإن حاصله إيجابُ شاة، وقد جرى ذكر هذا الوجه آخراً، فليقع الاكتفاء بذلك، ويسقط تغليب الانفراد؛ فإنه لا انفراد بشيء وإنما يتجه التغليب إذا جرى الخلطُ في بعض المال دون البعض، ولم يجر في الصورة التي ذكرناها انفراده بشيء من المال أصلاً؛ فلا معنى لما ذكر من تغليب الانفراد، وإبطال الخلطة تكلّفٌ لا وجه له، فقد اتجه إيجابُ شاةٍ، من جهة إلزامنا له بحساب ما يلزم خليطه، وهذا متجه مفهوم على هذه الطريقة؛ فليقع الاكتفاء به.
1904 - صورة أخرى: ملك رجل خمسة وعشرين من الإبل، وملك خمسةُ نفر مثلَ ذلك، خمسةً خمسةً، فخالط صاحبُ الخمسةِ والعشرين، كلَّ واحدٍ من هؤلاء بخمسة خمسة، فإن قلنا: الخلطة خلطة ملك، فنوجب على مالك الخمسة والعشرين نصفَ حِقّة، ونجعل كأن كل الأموال في حقه مجتمعة. وأما في حق كل واحد منهم،
__________
(1) حذف الشيء: أسقطه. (المعجم).
(2) في (ت 1): وتفرق بسببه.

(3/165)


فوجهان: أحدهما - أنا نضم مالَه إلى جميع مال خليطه فحسب، وهو خمسة وعشرون، فالمجموع في حق كل واحد ثلاثون، وواجبه بنت مخاض، فيخص الخمسة سدسُ بنت مخاض.
والوجه الثاني - أنا نضم خمسة كل واحد إلى جميع مال خليطه، وإلى أموال خلطاء خليطه، فعلى هذا نجمع الأموال كلها في حق جميع الخلطاء، فنحسب من خمسين، وواجبه حقّة، فالواجب في كلِّ خمسةٍ عشرُ حِقّة.
فأما إذا فرعنا على قول العين، فنعتبر في حق صاحب كل خمسة ما جرت خلطته معه، وهو عشرة، فيجب في كل خمسة شاة.
فأما مالك الخمسة والعشرين، فيجري فيه ما تقدم؛ فإن غلَّبنا الخلطة، فنجعل كأنه خالط بخمسة وعشرين خمسة وعشرين، فنوجب عليه نصف حقة.
وقال بعض الأصحاب: نبطل الخلطة، ونغلّب الانفراد، فيجب عليه في الخمسة والعشرين بنتُ مخاض، وهذا ضعيف لما تقدم في الصورة الأولى.
وأما من يجمع بين الاعتبارين، فوجهان: أحدهما - أنا نضم جميع ماله تقديراً إلى كل خمسةٍ، ويعتبر هذا الحساب، ثم يثبت في الخمسة التي خلطها ما يخصها. ولو خلط خمسة وعشرين بخمسة، لكان واجب المال على هذا التقدير بنتَ مخاض، ففي الخمسة والعشرين خمسة أسداس بنت مخاض، فيخص الخمسة سدس بنت مخاض، ثم يجتمع في الجميع على هذا التقدير خمسةُ أسداسٍ من بنت مخاض.
والوجه الثاني - أنا نوجب عليه في كل خمسةٍ خلطها بحساب ما أوجبنا على خليطه. وقد أوجبنا على قول العين على كل خليطٍ شاةً، فنوجب في كل خمسة شاةً، فيجتمع عليه خمسُ شياه، وهذا لا يوافق حكمُه ما تقدم من إبطال الخلطة وإثباتِ حكم الانفراد.
ومما تتعين الإحاطة به أن الخلطة في قاعدة الباب لما خففت المؤنة، صيرت المالَيْن كمالٍ واحد، والخلطة في هذه الصورة ونظائرها تفريق ماله، والتفريق يُكثر المؤنة، فهذه الخلطة أثبتت حكمَ التفريق في ملكه، وإن كان الملك جامعاً، ولكن

(3/166)


إبطال الخلطة (1) قبيح، بل الوجه تفريق ماله لموافقة خلطائه، وهذا يُفضي إلى ما ذكرناه. فليفهم الناظر ما ينتهى إليه.
1905 - صورةُ مسألة ابن الحداد في ذلك: إذا ملك عشراً من الإبل، وخلط خمساً منها بخمسةَ عشرَ لرجل، يملك خمسة عشر لا غير، وخلط الخمسة الأخرى بخمسةَ عشرَ لرجل آخر، على حسب ما ذكرناه في الخمسة الأولى.
فإن فرعنا على قول الملك، فأما صاحب العشرة، فجميع المال في حقه مجموع، وهو أربعون من الإبل، فيجب على مالك العشرة بهذا الحساب ربع بنت لبون، فأما القول في خليطه على قول الملك، فعلى الخلاف: ففي وجهٍ نضم الخمسة عشر لكل واحد إلى جميع مال خليطه فحسب، وهو عشرة، ونوجب عليه بهذا الحساب ثلاثةَ أخماس بنت مخاض. وفي وجه نضم خمسةَ عشرَ إلى جميع مال الخليط، وإلى مال خليط الخليط، فنجمع الأربعين في حق كل واحد منهما، وواجبها بنت لبون، فيخص كل خمسةَ عشرَ ثلاثة أثمان بنت لبون.
وإن فرعنا على قول العين، فيجب على كل واحدٍ من الخليطين في خمسةَ عشرَ ثلاثُ شياه، بحساب ما جرت الخلطة فيه عيناً.
فأما صاحب العشرة؛ فإن غلّبنا في حقه أحدَ الحكمين، فيعود الوجه الضعيف والآخر. فقال قائلون: في وجهٍ نبطل الخلطة، ونجعله منفرداً بالعشرة؛ فيلزمه فيها شاتان. وفي وجهٍ نقول: التغليب للخلطة؛ فنجعله مخالطاً للجميع، وماله مع مال خليطه أربعون، فواجب العشرة ربع بنت لبون.
وهذا الذي أجاب به ابن الحداد؛ فإنه قال: على صاحب العشرة ربع بنت لبون، وفي كل خمسةَ عشرَ ثلاثُ شياه، فوقع تفريعه على هذا الوجه من قول خلطة الغير.
وإن قلنا: يثبت الأمران، فينقدح وجهان: أحدهما - أنا نضم عشرته تقديراً إلى كل خمسةَ عشرَ، فنوجب فيها خمسي بنت مخاض، [فيجتمع] (2) من التقديرين خُمسا
__________
(1) في (ت 1)، (ت 2) و (ط): الخلقة.
(2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(3/167)


بنت مخاض.
والوجه الثاني - أنا نوجب عليه بالنسبة التي نوجبها على خليطه، وقد أوجبنا على كل خليط بحساب ما وقعت الخلطة في عينه، فعلى هذا نوجب على صاحب العشرة شاتين، كما أوجبنا على كل خليطٍ ثلاثَ شياه. وهذا يوافق ما قدمناه من إبطال الخلطة. ولكن هذا الحكم على هذا التقدير أحسن من المصير إلى إبطال الخلطة مع قيامها.
فهذا بيان هذا الأصل. ولا يخفى بعد هذه الصورة شيء على الفطن. إن شاء الله تعالى.
فرع:
1906 - إذا ملك الرجل خمسةً وستين من الغنم، وملك رجل آخر خمسة عشر، فخلط خمسةَ عشرَ من ملكه بالخمسةَ عشرَ لصاحبه، وانفرد بالخمسين، فالقدر الذي جرت الخلطة فيه ليس بالغاً نصاباً، فإن قلنا: الخلطة خلطة عين، فوجود هذه الخلطة وعدمها بمنزلةٍ؛ فإن المعول في هذا القول على ما وقعت الخلطة فيه، وهو ناقص عن الحساب، فعلى صاحب الخمس والستين شاة، وليس على صاحب الخمسةَ عشرَ شيء.
وإن قلنا: الخلطة خلطةُ ملك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا حكم لهذه الخلطة، فإنا إنما نُتبع الملكَ المنفردَ الخُلطةَ إذا جرَت الخلطةُ في نصاب، فإذا لم يبلغ ما جرى فيه الخلطةُ نصاباً، لم يكن للخلطة حكمٌ.
والوجه الثاني - أنا نثبت حكم الخلطة، ونجعل كأن الخمسين مضمومة إلى الثلاثين المختلطة، والمجموع ثمانون، وواجبها شاة، يجب ستة أثمان ونصف على صاحب الخمس والستين، ويجب ثمن ونصفُ ثمن على مالك الخمسة عشر.
وعلى هذا وقياسه فليعتبر المعتبر.
***

(3/168)


باب من تجب عليه الصدقة
1907 - المرعيُّ في صفة من يلتزم الزكاةَ الإسلامُ وكمالُه (1)، فلا يُرعى التكليف، والزكاة تجب في مال الصبي وجوبَها في مال البالغ، خلافاً لأبي حنيفة (2).
ولا زكاة فيما تحويه يدُ المكاتَب؛ لأنه ناقص الملك، والسيد إذا ملَّك عبدَه نصاباً زكاتيّاً، فإن قلنا: لا يملك العبد بالتمليك، فالزكاة واجبةٌ على السيِّد، والذي جرى من التمليك لا أثر له. وإن قلنا: يملك العبد، فلا زكاة عليه، كما لا زكاة على المكاتب، والمذهب أنه لا زكاة على السيِّد لزوال ملكه.
وذكر في شرح التلخيص وجهاً أن الزكاة تجب على السيد، وذلك التمليك لا أصل له؛ فإن السيد يتصرف فيه كيف شاء، ولا ينتهي إلى اللزوم، بخلاف ملك المكاتب؛ فإنه إذا عَتَق، لزم ملكُه، والعبد الرقيق، إذا أعتق، ارتد ملكه إلى المعتِق.
وهذا الوجه ضعيفٌ، لا أصل له؛ فإنا إذا قلنا: يملك العبد، فمن ضرورته زوال ملك السيد المملك، ويستحيل إيجاب الزكاة على من لا يملك، وإن كان قادراً على اجتلاب الملك.
ومن بعضه رقيق، وبعضه حر إذا استقر ملكه على نصابٍ بسبب نصفه الحر، فالزكاة تجب فيه. وقد نصّ الشافعي على أن من نصفه حر، ونصفه عبد يُكَفّر كفارة الحرّ الموسر، وخالفَ فيه المزني.
وإذا كنا نوجب كفارة الأحرار على من بعضه رقيق، فالزكاة بذلك أولى؛ فإن المعتمد في الزكاة الملك التام والإسلام، وقد تحقق ذلك.
__________
(1) "وكماله" أي بالحرية.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 45، بدائع الصنائع: 2/ 4، 5، رؤوس المسائل: ص 208،
المسألة رقم 107، المبسوط: 2/ 162.

(3/169)


هذا ما ذكره الإمام (1)، وهو منقاس.
وقطع العراقيون بأنه لا تجب الزكاة فيه، لنقصان المالك في نفسه، وهذا بعيد مع ما حكيناه من نص الشافعي في الكفارة.
...
__________
(1) الإمام: يعني والده.

(3/170)


باب الوقت الذي تجب فيه الصدقة
1908 - إذا كان السلطان يرى جباية الصدقات، فينبغي أن يبعث السعاةَ الأمناءَ الكُفاة. وإذا كانت أحوال الأموال تختلف، فالوجه أن يعيّن شهراً من السنة يؤدي فيه أرباب الأموال زكاتَهم، فإن وجبت الزكاة قبلُ، انتظر المالكُ مَقْدِم الساعي، وإن كان وقت وجوب الصدقة عليه، فذاك، وإن لم تجب الزكاة، فحسنٌ تعجيلُ الزكاة، حتى لا يتعب الساعي في العَوْد، عند وجوب الزكاة.
ثم لا يكلفهم الساعي ردَّ أموالهم من مراعيها إلى القرى؛ فإن ذلك عسر، ولا نكلف الساعي الترددَ على المراعي، ولكن نسلك طريقاً وسطاً، فنرُدُّ الأموال إلى مَنْهلٍ قريب من المرعى والقرى، ويحصرها الساعي، ثم إذا حاول عدَّها ردّها إلى مضيقٍ، وأخرجها منه، فذلك أهون لعدّها
***

(3/171)


باب تعجيل الصدقة
1909 - إذا انعقد الحول على نصاب زكاتي، جاز تعجيل صدقته قبل وجوبها بانقضاء الحول، وذكر المزني (1) في صدر الباب حديث أبي رافع: "أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بكْراً من رجل" (2).
والشافعي لم يستدل به في تعجيل الصدقة، وإنما احتج به في جواز استقراض الحيوان، وقد خالف فيه أبو حنيفة (3).
وردُّ الحديث إلى تعجيل الصدقة تكلّفٌ.
ونُقل عن ابن عمر أنه كان يبعث صدقة فطره إلى من كان تُجمع عنده قبل العيد بيوم أو يومين (4)، وهذا لا يدل على تعجيل الصدقة؛ فإنه لم يرو عنه أنه كان يوصل صدقةَ فطره إلى المستحقين قبل العيد، والظاهر أن الصدقات كانت تُجمع، ثم تفرق يوم العيد.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 211 - 213.
(2) حديث أبي رافع رواه مسلم، وأصحاب السنن الأربعة، ورواه مالك في الموطأ والشافعي عنه، ورواه أحمد والدارمي والبيهقي (ر. مسلم: ح 1600، الترمذي: ح 1318، أبو داود: ح 3346، النسائي: ح 4621، ابن ماجه: ح 2285، الموطأ: 2/ 680، الأم: 2/ 20، مسند أحمد: 6/ 375، 390، البيهقي: 4/ 110).
(3) حيث لا يجوز عند أبي حنيفة استقراض الحيوان (ر. مختصر الطحاوي: 86، مختصر اختلاف العلماء: المسألة رقم 1083، المبسوط: 12/ 131، البدائع: 5/ 209).
(4) أثر ابن عمر رواه مالك، والشافعي، والدارقطني، وابن حبان، والبيهقي، وروى البخاري من حديث ابن عمر أنه كان يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين.
(ر. البخاري: الزكاة، باب صدقة الفطر على الحر والمملوك، الموطأ: 1/ 210، ترتيب مسند الشافعي 1/ 253، الدارقطني: 2/ 152، ابن حبان: 3288، والبيهقي: 4/ 164، والتلخيص: 2/ 164 ح 836، وخلاصة البدر: 1/ 298 ح 1027).

(3/172)


1910 - [ثم] (1) لما علم المزني أن ما ذكره لا حجة فيه في تعجيل الزكاة، احتج بما هو حجة في الباب ظاهرةً، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب ساعياً، فلما رجع شكا ثلاثةَ نفر: خالدَ بنَ الوليد، والعباسَ بن عبد المطلب، وابن جميل (2)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما خالد، فإنكم تظلمون خالداً؛ فإنه حبس أفراسه، وأعتُدَه وروي وأعبده، وروي وأَدْرُعَه في سبيل اللهِ، وأما ابنُ جميل، فما نقم إلا أن أغناه الله، وأما العباس فقد استسلفتُ منه صدقةَ عامين" (3) معناه استعجلت.
أما قوله فإنه حبس أفراسه أشبه المعاني أن عمر كان يطلب منه زكاة التجارة في أفراسه وغيرها، فأوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حبسها في سبيل الله، وكان الساعي قبل أيام عثمان يطلب زكوات الأموال الباطنة والظاهرة جميعاً، وقصة ابن جميل معروفة.
فثبت أن تعجيل الصدقة قبل وجوبها جائز، ووافق أبو حنيفة (4) فيه، ومنع تقديم الكفارة على الحنث، وقال مالك (5) يجوز تقديم الكفارة، ولا يجوز تعجيل الزكاة.
ومضمون الباب فصول نرسمها على الترتيب، ونذكر في كل فصل ما يليق به.
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(2) ابن جميل: قيل: إنه كان منافقاً، ثم تاب بعد ذلك. قال الحافظ في الفتح: لم أقف على اسمه في كتب الحديث، ولكن وقع في تعليقة القاضي حسين المروزي أن اسمه عبد الله، وقيل: اسمه حميد، وقيل: أبو جهم، وقيل: أبو جهم بن جميل. اهـ ملخصاً من الفتح: 3/ 333.
(3) حديث بَعْث عمر على الصدقة، رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وأحمد (ر. البخاري: الزكاة، باب قول الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}، ح 1468، ومسلم: الزكاة، باب في تقديم الزكاة ومنعها، ح 983، والنسائي: الزكاة، باب إعطاء السيد المال بغير اختيار المصدق، ح 2466، والمسند: 2/ 322).
هذا، وقد رواه إمام الحرمين بتقديم وتأخير، وبالمعنى في صدقة العباس رضي الله عنه.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 455 مسألة رقم 447، حاشية ابن عابدين: 2/ 293.
(5) ر. المدونة: 1/ 284، الإشراف: 1/ 386 مسألة 526.

(3/173)


[فصل]
1911 - أما [الفصل] (1) الأول، فمقصوده أن المال إذا كان ناقصاً عن النصاب، فلا يقع تعجيل الصدقة عنه موقعها، على تقدير أنها إذا صارت نصاباً، وانقضى حولها، فالمخرَج زكاتها. هذا لو نواه، ثم جرى الأمر إلى ما قدّره، لم يقع ما أخرجه زكاةً، والسبب فيه أن مبنى هذا الباب، ومبنى تقديم الكفارة، أن الحق المالي إذا قدر تعلقه بسببين، فثبت أحد السببين المقصودين، فيجوز تقديم الحق المالي على وجود السبب الآخر، كما إذا حلف الرجل، ثم كفر بالمال قبل الحنث.
ووجوب الزكاة معلق بملك النصاب، وانقضاء الحول، فإذا ثبت النصاب، فقُدّمت الزكاة على انقضاء الحول، جاز، فأما إذا لم يكمل النصاب، فلا (2) يتحقق واحد من السببين، فكان كما لو قدم كفارةَ اليمين على اليمين.
1912 - ولو ملك أربعين من الغنم المعلوفة، وعجل الزكاة على تقدير أن يُسيمها، ثم ينقضي حولُها، لم يجز ذلك؛ لأن المعلوفة ليست مالَ الزكاة، كالناقص عن النصاب.
فمعتبر المذهب في ذلك أن الزكاة إنما تُعجل إذا انعقد الحول، فكان المال جارياً فيه.
ولو انعقد الحول، فأراد تعجيلَ صدقة سنتين فصاعداً، فأما ما يقع لسنةٍ فمجزىء، وأما الزائد، ففيه وجهان: أحدهما - أنه لا يقع موقع الاعتداد؛ فإنه لم ينعقد الحول في ذلك الزائد.
والثاني - يُعتدُّ به إذا دامت الشرائط إلى انقضاء الأحوال؛ فإن المال مال الزكاة، وهو كائن، والحول منعقد عليه، ويشهد لهذا الوجه قصةُ العباس.
__________
(1) زيادة من عمل المحقق، بناءَ على تقسيم المؤلف.
(2) في (ت 1)، (ت 2): فلم.

(3/174)


1913 - ولو ملك الرجل مائة وعشرين من الغنم، فواجب ماله شاة، فلو زادت واحدةً، فواجبه شاتان، فلو انعقد الحول على مائة وعشرين، فعجل زكاة مائةٍ وواحدة وعشرين على تقدير نتاجٍ في الحول، ففي الشاة الثانية وجهان مرتبان على تقديم زكاة السنة الثانية، فإن قلنا: يجوز تقديم زكاة السنة الثانية، فجواز تقديم الشاة الثانية في الصورة التي ذكرناها أولى، وإن منعنا تقديمَ زكاة السنة الثانية، ففي الشاة الثانية وجهان.
والفرق أنه لو اتفق نتاجٌ في آخر الحول الأول، وبلغت الماشيةُ مائة وإحدى وعشرين، وجبت الشاةُ الثانية، وإذا وجبت، فلا حاجة إلى حول جديد، فكان حول المال الذي واجبه شاة منعقداً على ما واجبه شاتان، وليس كذلك حكم زكاة السنة الثانية؛ فإنه لم يدخل حولها أصلاً.
1914 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن صدقة الفطر تجب إذا انقضى رمضان على ما سيأتي، ولو أخرج الرجل صدقة الفطر بعد دخول شهر رمضان، كفاه؛ فشهر رمضان إذا دخل بمثابة الحول إذا انعقد على النصاب.
1915 - فأما إخراج العُشر من الثمار والزروع، ففيه اضطراب. ونحن نأتي به مرتباً إن شاء الله تعالى.
فأما الرطب إذا جفّ، وصار تمراً، والعنب إذا صار زبيباً، فقد تعيّن إخراج الزكاة، ولا يكون الإخراج تعجيلاً؛ إذ لو أخر مع التمكن، كان مفرطاً عاصياً.
فأما الحب إذا اشتد، ولم يُفرِك (1) بعدُ، ولم يُنْقِ (2)، فالمذهب جواز إخراج الزكاة.
وذكر شيخنا وجهاً أنه لا يجوز إخراج الزكاة ما لم يُنقِ، وهذا ضعيف جداً؛ فإنا إذا كنا نخرج الزكاة قبل حلول الحول، فجواز ذلك وإجزاؤه فيما نحن فيه أولى، وقد وجب العشر.
__________
(1) أفرك السنبلُ: صار فريكاً، وهو أول ما يصلح أن يفرك ليؤكل. (معجم).
(2) أنقى البرُّ: سَمِنَ وجرى فيه الدقيق. (معجم).

(3/175)


ووجه المنع أن النصاب لا يمكن الاطلاع عليه ما لم تحصل التنقية، ونصاب سائر الأموال الزكاتية يمكن إدراكه.
قلت: إن لم يكن من هذا الوجه بد، فلعله فيه، إذا كنا لا نقطع بأن في السنبلة نصاباً من الحب، فقد ينتظم أن يقال: لم يتحقق النصاب، وهو الأصل، وأما إذا تحققنا أن السنابل مشتملة على أكثر من النصاب، فلا وجه لمنع تعجيل العشر. هذا بعد اشتداد الحب، وإدراكه. أما إذا ظهر الحب واشتد، ولم يُدرك ولم يُفْرِك بعدُ، فاشتدادُ الحب يناظر بدوّ (1) الزهو والصلاح في الثمار، فأما إذا اشتد الحب وبدا الزهو، فمن الاشتداد إلى التنقية، ومن الزهو إلى الجفاف على الجرين (2) وجهان، في جواز التقديم: أحدهما - يجوز، وهو القياس.
1916 - ومن عجيب ما يجب التفطن له أن الأئمة أطلقوا القول بأن الزكاة تجب باشتداد الحب، وبَدْوِ (3) الزهو، كما سيأتي ذلك في بابهما، ثم ترددوا في تعجيل الصدقة، والتعجيل يقع قبل الوجوب. وهذا اختلاف في التعجيل بعد الوجوب، والسرّ فيه أنا وإن قلنا بوجوب الصدقة بعد الصلاح؛ فإنا لا نوجب إخراجها إلى التنقية والتجفيف، وفائدة الحكم بالوجوب منعُ التصرف في حق المساكين من الزرع والثمار، فصار عدم إيجاب الإخراج قريباً مما قبل حلول الحول في المواشي وغيرها.
هذا مع أمرٍ آخر، وهو أنه لو أخرج من الحب قبل التنقية، ومن الرطب (4)، لم يجز.
ثم قد يوجّه منعُ التقديم بأن مقدار النصاب لا يتبين على التحقيق قبل الإدراك، والزروع والثمار متعرضة للآفات. والصحيح جواز تعجيل العشر.
__________
(1) في (ت 1): بدء.
(2) الجرين: الموضع الذي يجمع فيه الثمر ليجفف، والجمعُ جُرُن، مثل بريد وبُرد. (المصباح).
(3) "بَدْو": مصدر بدا بمعنى ظهر. وهو بهذا الوزن غير مألوفٍ، ولكنه صحيح منصوصٌ في كتب اللغة.
(4) "الرطب": أي قبل التجفيف، والصيرورة إلى التمر.

(3/176)


1917 - فأما إذا نبت الزرع، ولم تبد السنبلة، وطلعت الثمار ولم تزهُ بعدُ، فمن نبات الزرع إلى بَدْوِ الحب واشتداده، ومن طلوع الثمرة إلى الزهو وجهان مرتبان على الوجهين، في الصورة التي قبل هذه، والصورة الأخيرة أوْلى بمنع التعجيل؛ لأنه لم يبد (1) فيها ما يمكن تقدير النصاب فيه تخميناً وخَرْصاً، ومن يخرص إنما يخرص بعد اشتداد الحب وبَدْو الزهو.
ولعل الزرع إذا كان بقلاً أولى بالمنع؛ لأن جنس المعشر لم يحدث بعدُ، والطلع هو الذي يلحقه التغايير إلى الجِداد.
وذكر شيخي وجهاً في الفرق بين الزروع والثمار، وقال: يجوز التعجيل في الثمار دون الزروع في الصورة الأخيرة، التي نحن فيها، وفرّق بأن النخيل يقبل معاملةً على الثمار قبل بَدْوها، وهي المساقاة، والزروع لا تحتمل ذلك.
وهذا غير سديد؛ إذ لا خلاف أنه لا يجوز التعجيل قبل بَدْو الثمار وطلوعها، كما لا يجوز ذلك قبل نبات الزروع، فإن لم يكن من الفرق بد، فما أشرت إليه من الفرق أقرب، وهو أن عين المعشّر مفقودة والزرع بقل، وعين الثمار موجودة وإن كانت غير مؤبّرة بعدُ، فإذا بدا الحبُّ، ولم يشتد، [فلا يتضح إذ ذاك فرق.
فخرج مما ذكرناه أن الحب إذا اشتدّ] (2)، وأفرك، فالمذهب جواز التقديم، ومن الاشتداد إلى الإفراك، ومن الزهو إلى الجفاف وجهان: أصحهما جواز التقديم؛ ومن نبات الزرع إلى الاشتداد ومن بدو الثمار إلى الزهو ثلاثة أوجه، مرتبة على الصورة المتقدمة.
ولا تعجيل قبل النبات، وقبل بدو الثمار.
فهذا مضمون الفصل
__________
(1) في (ت 1): يكن.
(2) زيادة من: (ت 1) و (ت 2).

(3/177)


الفصل الثاني
فيما يفرض على المؤدي والقابض
1918 - قال الأئمة: ينبغي أن يكون قابض الزكاة المعجّلة على صفة الاستحقاق من وقت الأخذ إلى انقضاء الحول، فلو كان فقيرا حالة الأخذ، ولكنه استغنى بمال آخر سوى ما أخذه، أو ارتد، أو مات قبل حلول الحول، فحال الحول وهو غني، أو مرتد، أو ميت، فيتبين أن الزكاة التي عجلها، لم تقع موقعها. اتفق الأئمة عليه.
ولو ارتد بعد الأخذ، ثم أسلم قبل انقضاء الحول، فانقضى الحول وهو مسلم، أو استغنى، ثم افتقر، على الترتيب الذي ذكرناه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الزكاة لا تقع موقعها؛ لطريان ما نافى الإجزاء في الأثناء.
والثاني - وهو الأصح أنه يجزىء، فإن المعتبر صحةُ الأخذ، وكان من أهله حالة الأخذ، وكذلك يعتبر كونه من أهل الأخذ حالة الوجوب، ليقدر أنه أخذ الزكاة الآن.
فأما ما يتخلل بينهما، فلا معنى لاشتراط شيء فيه.
ولا خلاف أنه لو لم يكن من أهل الأخذ، فأخذ، ثم صار من أهله، ودام عليه، حتى انقضى الحول، فلا يجزىء ذلك الأخذ أصلاً، وآية ما ذكرناه، تظهر فيه إذا أخذه غنيّاً، ثم استنفقه فقيراً، وحال الحول.
فهذا ما يراعى في الآخذ.
1919 - ويشترط في المعطي الباذل صفات وأحوال:
ينبغي أن يبقى ماله، فلو تلف، أو نقص عن النصاب نقصاناً يمنع إيجاب الزكاة، كما سنصف ذلك، فيتبين أن الزكاة لم تقع الموقع، وكذلك لو مات صاحب المال، فيخرُج المقدَّمُ عن كونه زكاة؛ فإن الحول ينقطع بموته، وكذلك لو ارتد، وقلنا: الردةُ تمنع وجوبَ الزكاة، كما تقدم تقرير ذلك.
فطريان هذه الصفات يبطل إجزاء الزكاة.
ثم إذا جرى ما يبطل إجزاء ما عجل، فهل يثبت استردادُ المعجل؟ اضطربت

(3/178)


النصوص وتخبط المذهب، ونحن نستعين بالله ونفصل ما ينبغي أن يذكر، إن شاء الله تعالى.
1920 - فنقول: إن عجل الزكاة، وذكر أنها معجلة، وشرط أن يرجع إن لم تقع الزكاة موقعَها، فإن طرأ شيء مما ذكرناه، فيثبت حق الرجوع في ذلك وفاقاً، والأداء على هذا الشرط لا خلاف ولا إشكال.
ولو ذكر أنها زكاتُه المعجلة، ولم يشترط الرجوع، أو علم القابض ذلك من غير ذكر، فهل يثبت الرجوع إذا لم يُجْزِ ما أخرجه؟ فعلى وجهين: أصحهما أنه يثبت حق الرجوع؛ فإنه عيّن الجهةَ، فإذا لم تحصل تلك الجهة، لم يبق بعدها تمليك، فليس إلا الرد.
ووجه من قال: لا يرجع أن التمليك قد حصل، فإن حصلت الجهة المعيّنة، فذاك، وإلا فالتنفّل ممكن.
ولو قال: هذه صدقتي المعجلة، فإن وقعت الموقع، فذاك، وإلا فنافلة، لكان ذلك صحيحاً، وكان الوفاء به لازماً.
وهذا يقرب عندي من أصل في كتاب الصلاة: وهو أن من نوى صلاة الظهر قبل الزوال، فهل تنعقد صلاته نفلاً؟ فعلى قولين. وله نظائر.
1921 - ولو لم يذكر المؤدي أنه زكاة معجلة، (1 ولم يقترن بالقبض عِلْمُ القابض، ثم تبين أنها زكاة معجلة 1) وأنها لم تقع الموقع، ففي الاستراد ثلاثة أوجه: أحدها - لا رجوع.
والثاني - يثبت الرجوع.
والثالث - يفصل بين أن يكون المسلِّم إلى المسكين الوالي، وبين أن يكون المسلِّم المالك، والرجوعُ (2) والمسلِّمُ السلطان أولى؛ فإنّ تصرفه محمول على صرف
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1) وحدها.
(2) في (ت 1) والرجوعَ (بالنصب).

(3/179)


الصدقات المفروضة إلى مستحقيها، وبذلُ المالك ينقسم وجهُهُ. وهذه الصورة مرتبة على الأُولى، ومنع الرجوع أَوْلى فيها، والفرق لائح.
1922 - ولو قال المخرج المالك: هذه صدقته المفروضة، ولم يقل: إنها معجلة، ففيه طريقان: منهم من ألحقه بما إذا ذكر التعجيل، ولم يقيّد بالرجوع.
ومنهم من فَصَل بينهما، بأن الصدقة المفروضة قد تكون حالّة واجبة، وما يطرأ بعد قبضها لا أثر له، فإذا أمكن ذلك، فقد انفصل عن التقييد بالصدقة المعجلة.
1923 - فإذاً معنا مراتب: التقييد (1) بالتعجيل والرجوع، يثبت الرجوع فيه وفاقاً.
وفي التقييد بالتعجيل أو العلم به خلافٌ. وإذا كان مقيِّداً بالفرض من غير تعجيل، ففيه تردد. وإن كان مُطلِقاً، ففيه أوجه. وهذه المراتب مترتبة فيما نقصده. كما أوضحنا.
فرع:
1924 - إذا كنا نرى الاسترداد عند التقييد، ولا نراه عند الإطلاق، فلو اختلف القابض والمسلِّم فقال المسلِّم: قيدتُ فأَرْجِعُ، وقال القابض: بل أطلقتَ ولم أعلم، فالقول قول من؟
فعلى وجهين: أحدهما - القول قول المالك؛ فإن الرجوع إليه، وهو مؤتمن شرعاً، وقد ذكرنا شواهد ذلك في اختلاف الساعي والمصَّدِّق (2).
والثاني - أن القول قول القابض؛ فإن المالك اعترف بظاهر التمليك، ثم ادعى ما يُثبت له حقَّ الرجوع والنقض.
ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك: أنا إن صدقنا المالك، فقياسه أنه لو قال: لم أشترط التقييد لفظاً، ولكني نويتُ زكاتي المعجلة قصداً وأنا النَّاوي، فصدّقوني.
فهذا الفرعُ مبني على أنا لا نصدقه؛ فإنا فرعناه على أن التقييد لا بد منه في ثبوت حق الرجوع ظاهراً، والله يتولى السرائر.
نعم إن كنا نثبت الرجوع عند الإطلاق، في أحد الوجوه، فمعناه أنه يصدق في أني
__________
(1) في (ت 1) و (ت 2): أما التقييد.
(2) "المصَّدِّق" بتثقيل الصاد والدال، مخففة من المتصدّق بالبدل والإدغام (المصباح).

(3/180)


أردت زكاة مالي المعجلة. هذا لا بدّ منه في هذا الوجه. فليفهم المنتهي إليه.
فرع:
1925 - إذا أخرج زكاة ماله تعجيلاً، ثم إنه أتلف ماله قصداً، فهل يثبت له حق الرجوع والاسترداد، حيث يثبت له ذلك في التفصيل المقدم؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من لم يثبت له حق الرجوع؛ لأنه المتسبب إلى الإتلاف، وحق الاسترداد في حكم رخصة، تثبت لمن اجتاحت الجائحة ماله.
ومنهم من قال: له الاسترداد، لزوال شرط إجزاء الزكاة، والعلمِ بأنها لم تقع الموقع.
فرع:
1926 - مما ينبغي أن يتنبه له الناظر في أثناء الكلام أن الزكاة إذا كانت مفروضة، فلا حاجة في أدائها -وقد وجبت- إلى لفظٍ عند الأداء؛ فإن تسليمها في حكم توفية حق على مستحق، فأما من أراد الهبة والمنحة، فلا بد من لفظٍ، كما سنصفه في كتاب الهبات، إن شاء الله تعالى.
فأما إذا أراد الباذل صدقةَ التطوّع، ففي الاحتياج إلى اللفظ ترددٌ للأصحاب مرموز، وهو محتمل. والظاهر الذي به عمل الكافة أنه لا حاجة إلى اللفظ في صدقة التطوع؛ تشبيهاً لها بصدقة الفرض، وإن لم تكن مستحقّة.
فرع:
1927 - إذا أثبتنا لمن عجل الزكاة استردادَ ما بذله، وكان باقياً في يد من أخذه، أو في تركته إن مات، من غير زيادة، ولا نقصان، فإنه يسترد تلك العين.
وإن كانت زادت زيادة متصلة، فلا حكم لها، والعين مستردة معها.
وإن كانت زادت زيادة منفصلة قبل أن حدث ما يوجب الاسترداد، فتلك الزيادة هل تسترد مع الأصل؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تسترد؛ فإنها حدثت في ملك القابض، قبل أن حدث ما يوجب الاسترداد.
والثاني - تسترد؛ فإن الأمر في الرجوع يستند إلى التبيّن (1)، فكأنا نتبين أن الملك لم يحصل للقابض في أصله إذا حدث ما يوجب الاسترداد، وسيتضح هذا بما نذكره من بعدُ إن شاء الله تعالى.
__________
(1) التبيّن: مصطلح أصولي، سبق بيانه. ومعناه بإيجاز، أننا نتبين أن الحكم كان ثابتاً من قبل، ولذا يترتب عليه أثره بأثر رجعي.

(3/181)


1928 - ولو كانت العين ناقصة نقصان صفة، فهل يغرَم للراجع القابضُ أرشَ النقصان أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يغرَم؛ بناء على التبيّن، ولو تلفت العين، وطرأ ما يوجب الاسترداد، غرَّمه القيمة، فنقصان الصفة في معنى فوات الموصوف، وليس كما لو نقصت العين الموهوبة في يد المتَّهب، فأراد الواهب الرجوع؛ فإنه لا نُغرِّمه أرشَ النقصان؛ لأن العين لو كانت فائتة، لم نغرِّمه القيمةَ.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت الرجوع بالنقصان، وهو الذي حكاه الصيدلاني عن القفال؛ لأن القابض لم تكن يده يد ضمان وعهدة، وهذا القائل يحكم بانتقاض الملك، من وقت حدوث السبب الذي يوجب الاسترداد.
ولما حكى أبو بكر هذا عن القفال، أظهر في المسألة تردّداً، ونقل عن القفال في الاستشهاد مسألةً، وهي أن من اشترى عيناً، وَوَفَر (1) الثمن، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ بالعين؛ فإنه يردّها، فلو صادف الثمن ناقصاً نقصان صفةٍ، قال: يكتفي به ناقصاً، ولا يرجع في مقابلة نقصان الثمن بشيء.
وهذا مشكل؛ فإن الذي ذكره الأئمة أن من وجد بالعين المشتراة عيباً، وتمكن من ردّها، فلو رضي بها، لم يرجع إلى أرش، فإنه كان متمكناً من الرد، فإن رضي، لم يرجع. فأما إذا كان العيب في عوض المسترد، فلو قُدِّر تلفُ العوض، لكان يرجع بمثله، أو قيمته، فإلزامه الرّضا بالثمن المعيب بعد الرد بعيد.
1929 - ومما يتعلق بتحقيق القول في المسألة أنه إذا جرت حالةٌ توجب الاسترداد، فلا حاجة عندي إلى نقض الملك والرجوع فيه، بل ينتقض الملك، أو يتبين أن الملك في أصله لم يحصل، أو حصل ثم انتقض، وليس كالرجوع في الهبة؛ فإن الراجع بالخيار، إن شاء أدام ملك المتَّهِب، وإن شاء رجع. وليس لملك القابض وجهٌ إلا وقوعُ المقبوض عن جهة الزكاة، فإذا امتنع وقوعها عنها، زال الملك، ولو قدرنا وقوعها نفلاً -إذا لم تقع فرضاً- فموجب هذا امتناع الرجوع والاسترداد، وتفريعنا على ثبوت الرجوع.
__________
(1) وفَرَ: بفتحات ثلاث، من باب (وعد) يتعدى، ولا يتعدى، ويأتي بتشديد الفاء مبالغة، تقول: وَفَرْتُ الشيء إذا أتممته وأكملته. (المصباح).

(3/182)


فإذا تقرر ذلك، فنقول: ما ذكرناه من الرجوع في الزيادة، وتغريم النقصان، على التردد الذي قدمناه فيه، إذا جرت الزيادة والنقصان قبل حدوث السبب. فأما إذا جرت الزيادة بعد السبب، فلا شك أن الزيادة للراجع، فإنها إنما حدثت في ملكه على القاعدة التي ذكرناها.
وإن فرض نقصان بعد حدوث انتقاض الملك، أو فرض تلف، فالوجه عندي أن يقال: يجب الضمان؛ فإن العينَ لو تلفت [وهي] (1) على ظاهر ملك القابض، ثم حدث ما يوجب الاسترداد، لوجب على القابض الضمان، وكذلك إذا حصل التلف بعد انتقاض الملك.
وهذا يناظر شيئاً: وهو يدُ المستعير، فإنها ثابتة بإذن المالك من غير عدوان، ولكنها يدُ ضمان، وسبب ذلك أن حقيقةَ العارية، أن المستعير ملتزم أن يرد ما قبض، إذا انتفع، فإذا لم يتمكن من الرد، لزمه الضمان. كذلك تعجيل الزكاة، هو على تقدير وقوعها عن الفرض، فإذا لم تقع عنه، فالضمان ثابت.
فرع:
1930 - إذا أثبتنا الرجوعَ، وكانت العين تلفت في يد القابض، وأثبتنا الرجوعَ بقيمتها، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في القيمة المعتبرة: أحدهما - أن الاعتبار بقيمة يوم القبض.
والثاني - أن الاعتبار بقيمة يوم تلف العين، ولا يخفى توجيههما.
وقد ينقدح عندي وجه ثالث في إيجاب أقصى القيم، من يوم القبض إلى التلف؛ بناء على أنا نتبين أن الملك غيرُ حاصل للقابض، واليد يدُ ضمان تبيُّناً، وقد ذكر مثل هذا في يد المستعير والمستام (2)، وهذا الوجه بعيد، في هذا المقام، مع ثبوت ظاهر الملك للقابض.
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): "وبُني" والمثبت من (ت 1).
(2) "المستام" سام البائع السلعة من باب (قال) عرضها، وسامها المشتري، واستامها، فهو مستام، إذا طلب بيعها منه، أي رغب في شرائها. (المصباح) فيدُ المستام هنا، معناها إذا أخذ السلعة أو البضاعة ليفحصها رغبةً في شرائها.

(3/183)


1931 - ومما يجب التنبيه له في مقام المباحثة التي انتهينا إليها أنا حيث لا نُثبت حقَّ الرجوع، فتقديره ترديد الصدقة المقدمة بين أن تكون عن الفرض، وبين أن تكون نفلاً، ثم لا رجوع في واحدةٍ من الجهتين.
وإذا أثبتنا حقَّ الرجوع، فلهذا تقديران، لم يصرح بهما الأصحاب، وحوّم عليهما صاحب التقريب: أحدهما - أن نتبيّن أن ملك المعطي لم يزل، فكان الملك موقوفاً إلى ما ينكشف عنه الأمر في المآل، فإذا حدث أن الزكاة لم تقع موقعها، تبيّنا آخراً أن ملك المعطي لم يزل. هذا تقدير.
والتقدير الثاني - أن يُردَّدَ قبضُ القابض بين أن يكون عن زكاةٍ مستحقة، وبين أن يكون قرضاً: فإن وقعت الزكاة موقعها، فلا كلام، وإن لم تقع، فالقابض مستقرض. وهذا في نهاية الحسن.
1932 - ثم من استقرض عيناً، فقد اختلف القول في أن المستقرض متى يملك العين التي قبضها قرضاً؟ فأصح القولين أنه ملكها بالقبض، فعلى هذا لو أراد المُقرض أن يرجع في عين ما أقرض -وهي موجودة- لم يمكنه دون رضا المقترض، وللمقترض أن يأتي ببدلها مِثْلاً أو قيمة على ما يقتضيه الحال.
والقول الثاني - أن المستقرض لا يملك ما قبضه قرضاً، ما لم يتصرف تصرفاً يزيل الملك، ثم إذا جرى، تبيَّنا أن الملك انتقل إلى المستقرض قبيل التصرف بزمان، فعلى هذا قبل اتفاق التصرف مهما أراد المُقرض أن يرجع في العين، رجع.
فإذا ثبت هذا بنينا عليه ما يُوضحه، وقلنا: إن أثبتنا حق الرجوع، وكانت العين قائمة، فهل للقابض إبدالُها أم لا خِيَرَةَ فيه؟ إن قلنا: بالتبيّن، لم يملك الإبدال.
وإن قلنا: بتقدير القرض، ففي ملك الإبدال القولان. فإن قلنا: المُقْرَض (1) يملك بالقبض، فالخِيَرةُ إليه في العين، وإن قلنا: لا يملك ما لم يتصرف، فللمعطي الخيار كما في القرض.
ولو قبض القابض الزكاةَ، وباع ما قبض، ثم جرى ما يوجب الاسترداد، فإن
__________
(1) في (ت 2): المقْتَرَض.

(3/184)


قلنا: بالتبيّن، فقياسه أن نتبين أن التصرف مردود منتقض، وهذا يناظر ما لو قال السيد لعبده أنت حر يوم يقدم فلان، ثم إنه باع العبد ضحوةً، وقدِم وقتَ الظهر، ففي تبيّن انتقاض البيع قولان، مبنيان على أنه لو كان في يده حتى قدم فلان، فإنه يعَتِق عند قدومه، أو يتبيّن أنه عَتَق من أول النهار، فإن نحن قدّرنا العتق للحال، لم يُنقض تصرفُه المزيل للملك.
فإن قيل: ألستَ ذكرتَ أنه إذا حدث ما يوجب الاسترداد، انتقض الملك من غير حاجة إلى النقض، وهذا يوجب ارتداد العين إلى معطيها؟ قلنا: هذا يوجب ثبوت حق المعطي لا محالة، فأما إنه يرجع إلى العين، أو إلى بدلها، فهذا يخرج على ما أوضحناه الآن من التبيّن، أو تقدير الإقراض.
فهذا غاية المقصود.
ثم إن قدّرنا القرضَ، وكان نقصان، فالوجه القطع بالضمان فيه، كنظيره من القرض. وإن بنينا الأمر على التبيّن، فالوجه الظاهر إثباتُ ضمان النقصان، كما تقدم تصويره في القرض؛ فإن يدَ المقترض لا تنقص في اقتضاء الضمان عن يد المستام.
وأما الزوائد المنفصلة، فردّها يخرج على التبيّن.
ثم إن جعلناه قرضاً، فهو خارج على الطريقين، أم كيف السبيل فيه؟ فإن جعلنا المقترض مالكاً بالقبض، فالزوائد له، وإن قلنا: يملك بالتصرف، فلو استقرض أغناماً، ثم نُتجت في يده، ثم باعها، واستبقى النِّتاج، فإن قلنا: إن المستقرض يملك بالقبض، فالنتاج للمستقرض، وإن قلنا: إنه يملك بالتصرف، فينقدح في ذلك أمران: أحدهما - أن نقول: نقدّر نقل الملك في الأغنام إلى المستقرض قبل بيعه إياها، والنتاج متقدم على هذا التقدير، فهو للمقرض.
والثاني - أنا إذا نقلنا الملك أسندناه إلى حالة القبض، فالنتاج للمستقرض.
فهذا وجه المباحثة عن هذه القواعد.
فرع:
1933 - ومما يُبتنى على ما تقدم، وهو في التحقيق من أصول الباب: أن من ملك أربعين شاة، وانعقد الحول عليها، فله أن يخرج شاة منها، ومنع أبو حنيفة

(3/185)


ذلك؛ صائراً إلى أن انقضاء الحول يصادف مالاً ناقصاً عن النصاب، فكيف تقدّر وجوب الزكاة؟ وعندنا يجوز ذلك.
ثم إن سلمت الأحوال، ولم يطرأ ما يوجب أن يقال: لا تقع الزكاة موقعها.
فكيف يقدّر الكلام؟
قال صاحب التقريب: يقدّر كأن ملك المعطي لم يزل عن الشاة التي أخرجها؛ حتى يَنْقضي الحول وفي ملكه نصاب. وهذا فيه نظرٌ عندي؛ فإن تصرّف القابض نافذ، وملكه في ظاهر الأمر جارٍ، ولو باع الشاة التي قبضها، ثم حال الحول، فكيف نقول ملك المعطي قائم فيها؟
ولو اجترأ مفرع على مذهب صاحب التقريب، وقال: إذا كان التعجيل ينقُصُ المال عن نصاب، فلا ينبغي أن يتصرف القابض، كان ذلك فاسداً، فلا معنى للتعجيل إذاً مع القبض على يد القابض.
فالوجه أن يقال: تعجيل الزكاة خارج عن قانون القياس، وهو في حكم رخصة، فكأن الشرع جعل الحالة التي يقع التعجيل فيها، كحالة انقضاء الحول، لحاجة المساكين. فإذا انقضى الحول لم يتحقق (1) الوجوب في الحال، ولكن أغنى ما تقدم عن الوجوب. وتأديةُ الواجب رخصةٌ حائدة عن المنهاج المستقيم، في ترتيب الواجب، وبناء الأداء عليه.
1934 - ثم قال صاحب التقريب: إذا أخرج شاة عن أربعين، ثم طرأ ما يمنع إجزاء الزكاة، فإن لم يثبت الاسترداد، فكأنه تطوع بشاة قبل تمام الحول، فينقطع الحول، ولا تجب الزكاة. وإن أثبتنا حقَّ الاسترداد. قال: إن رأينا استرجاع الزوائد، فهذا على قول تبيّن استمرار ملك المعطي، ونفي ملك القابض، فإذا رجعت الشاة بعينها، فتجب الزكاة عند الحول، لمكان النصاب الكامل تبيّناً.
__________
(1) كذا في الأصل، (ط)، (ت 1) و (ت 2) والمعنى: لم يتحقق الوجوب عند انقضاء الحول؛ لأنه كان قد سقط بالأداء المعجل قبلاً. هذا وفي (ك) وحدها: "ثم تحقق" مكان "لم يتحقق".

(3/186)


قلت: ويجوز أن يلتفت في تلك الشاة التي تسلط القابض على التصرف فيها إلى المال المجحود والمغصوب.
قال: وإن قلنا: الزوائد لا تسترد، فكأنا نقول: زال الملك عن الشاة، ثم عاد عند الاسترداد، فلا تجب الزكاة للحول الماضي، ولكن ينعقد الحول الجديد، من وقت تمام التصاب، بانضمام هذه الشاة إلى ما في يده.
1935 - وذكر العراقيون ثلاثة أوجه فيه إذا أخرج شاة من أربعين، ثم طرأ ما يمنع الإجزاء، ونحن نسرُدها على وجهها، ثم نوضح الخلل فيها.
قالوا: إذا اقتضى الحال استرجاعَ الزكاة، وكان ما في يده ناقصاً، وبضم المسترد يكمل، وتم الحول من التاريخ الأول في الحول، فهل يجب إخراج الزكاة الآن إذا تم الحول الأول؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - يجب.
والثاني - لا يجب. والثالث - يفصل بين الماشية وغيرها؛ فإن الماشية إنما تجب الزكاة فيها إذا كانت سائمة، والشاة في الذمة ليست بسائمة، والدراهم إذا كانت دَيْناً تضم إلى العين في النصاب.
وهذا كلام مختبط، لا صدر (1) له عن معرفة القواعد، ولعلهم صوروا فيه إذا كان القابض أتلف الشاة، فإن كان كذلك، فلا معنى لترديد القول في ذلك؛ فإن المواشي إذا كانت ديوناً لا تجب الزكاة فيها قطعاً، فالوجه التخريج على التبيّن وزوال الملك، كما ذكره صاحب التقريب، مع الالتفات على القول في المجحود والمغصوب.
ونقول أيضاًً: من استقرض حيواناً، ففيما يجب عليه خلاف مذكورٌ في القرض، فإذا قررنا معنى القرض في الزكاة، اتجه فيه التردد في أن القابض يطالب بقيمة الشاة أو بشاة.
فرع:
1936 - حكى صاحب التقريب نصاً للشافعي، ثم أخذ يتكلم عليه. وذلك أنه قال: لو عجل الإنسانُ زكاة ماله، ثم مات قبل انقضاء الحول، قال الشافعي: تقع
__________
(1) "صدر": بفتحتين أي صدور، وهذا الاستعمال في وزن المصدر معهود كثيراً في كلام إمام الحرمين، فيقول مثلاً "حَدَث العالم" بدلاً من "حدوث".

(3/187)


الزكاة عن الوارث، كما كانت تقع عن الموروث لو بقي حياً. ثم قال: هذا النص يحتاج إلى التأويل.
فنقول: المذهب الظاهر المنصوص عليه في الجديد أن الحول ينقطع بموت المالك، ويستفتح الوارث حولاً جديداً، وذلك أن المالك قد تبدل، وتجدد ملك لم يكن، ونص في القديم على أن حول الوارث يبنى على حول الموروث، فإذا تم الحول الذي كان للميت، وجبت الزكاة على الوارث. وكأن المورِّث حيٌّ، فإن قلنا بذلك، فالنص يخرَّج عليه.
ولكن لا بد من تفصيل، فإذا اتحد الوارث، وورث نصاباً، أو نُصباً، فهو بمثابة المورِّث لو كان حياً، فإذا تم الحول، وجبت الزكاة. وإن تعدّد الورثة، فإن كان المخلَّفُ ماشيةً، فالخلطة ثابتة، والزكاة تجب بحكمها، وإن كان الملك من غير جنس الماشية، وقلنا: تثبت الخلطة فيه، فالجواب كما مضى.
وإن قلنا: لا تثبت الخلطة، فقد قال صاحب التقريب لما انتهى إلى ذلك في التفريع: الظاهر أنه إذا نقصت حصة كلّ واحدٍ عن نصاب، وقلنا: لا خلطة، فينقطع الحولُ واعتباره. قال: ويحتمل أن يقال: نجعل الورثة كالشخص الواحد، وكأنه عينُ المتوفى، ونستديم ذلك في حقوقهم في هذه الصورة، فإنا إذا كنا لا نستبعد استدامة الحول مع انقطاع الملك وتجدده، فلا يبعد أن يثبت حكم الخلطة في هذه الصورة على الخصوص.
ثم قال: لو اقتسموا المخلَّف قبل انقضاء الحول، وحصل كل واحد على ما هو ناقص عن النصاب، فهذا محتمل أيضاًً، فنجعل كأن لا قسمة، وكأنهم شخص واحد.
هذا إذا فرعنا على القول القديم في أن حول الوارث مبني على حول المورِّث.
فأما إذا فرعنا على الصحيح، وحكمنا بانقطاع حول المورّث ونصوّر في اتحاد الوارث، حتى لا نقع في تفريع الخلطة، فلا شك أنا نبتدىء حولاً جديداً للوارث، فأما إذا مضى حول، فهل يقع الآن ما أخرجه المورِّث من الزكاة عن حول الورثة؟
قال: يحتمل وجهين، بناء على أن من أخرج زكاة عامين، فهل يعتد بزكاة السنة الثانية؟ فيه وجهان: فما مضى من السنة الكاملة في حق الورثة على هذا كالسنة الثانية

(3/188)


في حق المعجِّل الحي. هذا محتمل، ويجوز أن يقال: لا يقع المخرَج عن الوارث. وهو الظاهر؛ فإنه مالاً جديد، لا يبنى حولُه على الحول الماضي، وليس كسنتين في حق مالكٍ واحد.
فهذا تمام كلامه على نص الشافعي.
فرع:
1937 - إذا كان للرجل مال غائب، فأخرج الزكاة، وقال للقابض: هذا زكاة مالي الغائب.
فنقول: إن كان ذلك المال سالماً، فالمخرج واقع موقعه، وإن تبين أنه كان تالفاً لمّا أخرج الزكاة عنه، فسبيله كسبيل تعجيل الزكاة إذا انخرم شرط من شرائط الإجزاء، وفي ثبوت الاسترداد من التفصيل في مسألة المال الغائب ما في الزكاة المعجلة، إذا لم تقع مجزئة.
وجملة التفاريع عائدة من غير فصلٍ.
1938 - ولو أخرج الرجلُ شاةً، وقال: هي زكاة الأربعين من الغنم إن ورثتها عن أبي، ثم وافق تقديرَه التحقيقُ - فالزكاة المخرجة على الظن، لا تقع الموقع؛ فإن النية مقصودة فيها، وهي مردّدة لا استناد لها إلى أصل.
ولو كان له مال غائب، فأخرج زكاته على تقدير البقاء، وكان باقياً، وقعت الزكاة موقعها، وصحت النية، وإن لم يكن على يقين من البقاء؛ فإن النية مستندة إلى بقاء المال، والمسألتان تماثلان مسألتين في طرفي رمضان: إحداهما - لو شك الناس فنوى ناوٍ صومَ غده إن كان من رمضان، ولم يسند نيتَه إلى أصل، ثم بان أنه من رمضان، فلا يقع صومُه مجزياً، وإن نوى في الليلة الأخيرة من شهر رمضان صومَ غده، إن كان من رمضان، ثم تبين أنه من رمضان، فالصوم صحيح؛ فإن النية مستندة إلى بقاء رمضان.
1939 - ومما يتعلق ببقية الفصل: [أن] (1) الذي يخرج الزكاةَ عن ماله الغائب إن نوى أنه من (2) ماله إن كان سالماً، وإن كان تالفاً، فنافلة، ثم بان أنه كان تالفاً،
__________
(1) زيادة من (ت 1) و (ت 2).
(2) كذا. وهي صحيحة؛ فمن معاني (مِن) أنها تأتي مرادفة لـ (عن).

(3/189)


فالمخرَج يقع تطوعاً، وإن كانت نيته في التطوع مترددة. والأصل بقاء المال، ولكن يقع التطوع مجزياً مع هذا التردد وفاقاً.
والسبب فيه أن من يخرج الزكاة على ظن، فغالب أمره أنه لا يسترد ما قدمه، ويحتسب به أجراً، وهكذا سبيل تعجيل الزكاة، فمن الوفاء بتصحيح التعجيل الحكمُ بوقوع الصدقة نافلةً لو نواها على التقدير الذي ذكرناه.
فرع:
1940 - له التفات على قواعد هذا الباب في الملك والتبيّن.
المريض إذا أعتق عبداً يستغرق ثلثَ ماله، ثم وهب منه بعد الإعتاق جاريةً وسلّمها، ووطئها المتَّهِب، وولدت له، ثم مات المريض، وردّ الوارث ما يزيد على الثلث (1)، فالعتق ينفذ لتقدمه، والهبة مردودة، والوارث يسترد الجارية، ويسترد ولدها رقيقاً، إذا كان الإعلاق على علمٍ بحقيقة الحال وحكمها، وقطع شيخي الجواب فيه، وهو كما قال.
وقد ذكرنا وجهين في أن الراجع في الزكاة المعجّلة عند طريان ما يقتضي الرجوع هل [يستردّ] (2) الزاوئد؟ والفرق لائح، لا حاجة إلى تكلف إيراده، مع ما ذكرناه من نهاية البيان في تقرير قاعدة المذهب في الزكاة المعجلة.
فإن قيل: إذا حكمتم بأن الوارث إذا أجاز، فهو منفِّذ، وليس بمبتدىء في العطاء، فهل يحتمل إذا وقع التفريع عليه أن يقال: الملك في الجارية ينقطع بالردّ؟
قلنا: تحقيق ذلك سيأتي في الوصايا. ولكن إذا جرى هذا، فنقول: مبنى الرد والإجازة في الوصايا على الإسناد (3)، فإذا ردت وصيته، فيتبين أن الملك لم يتمّ بها أصلاً، وإن كنا نرى الإجازة من الوارث تنفيذاً. والقول في هذا يتنزل منزلة القول في الهبة [تُنقض] (4) قبل القبض.
__________
(1) أي لم يجز الوصية بالزيادة على الثلث.
(2) في الأصل، (ط)، (ك): يشترط.
(3) كذا. ولعلها الاستناد. والاستناد عند الأصوليين هو أن يثبت الحكم في الزمان المتأخر، ويرجع القهقرى، حتى يحكم بثبوته في الزمان المتقدم، كالمغصوب، فإنه يملكه الغاصب بأداء الضمان، مستنداً إلى وقت الغصب. (كشاف اصطلاحات الفنون: 3/ 647).
(4) في النسخ الخمس "تنقص" بالصاد المهملة، والمثبت من تصرف المحقق.

(3/190)


وإنما يلتبس الكلام في الوصية؛ من جهة أن المريض إذا تصرف، ووهب كما صورناه، فإن المتّهب يتسلط على التصرفات المفتقرة إلى الملك التام، ولكن سبب تجويز الإقدام عليها تقدير استصحاب حياة الواهب؛ فإن الأصل بقاؤها، فإذا مات واقتضى الحال الرد، نَقضنا ما سبق، وتتبعناه. والملك في الزكاة المعجلة متردد بين الحصول تقدير طارىء عليه يقطعه، وبين الوقف المبني على التبين، فكان الخلاف في استرداد الزوائد لذلك.
فصل
مضمونه الكلام في استقراض الإمام للمساكين،
وفي تأدية الدين من الزكوات إذا وجبت وحلّت
1941 - فنبدأ بالاستقراض، ونقدم عليه أن من وكل وكيلاً حتى يستقرض له شيئاً، جاز ذلك. ثم إن علم المقرض أنه وكيل فلان، فهل للمقرض مطالبةُ هذا الوكيل إذا أراد المطالبة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يطالبه كما يطالب الوكيلَ بالشراء، وإن علم كونه وكيلاً، هذا ظاهر المذهب في الوكيل في الشراء.
ومنهم من قال: لا يطالب [الوكيل] (1) بالاستقراض وإن طالب الوكيل بالشراء، والفرق أن الوكيل بالشراء يقول: اشتريت، وهذه الكلمة في صيغتها ملزمة، فيجب الجريان على موجبها، ولو تبرع رجل بضمان مال، للزمه الوفاء به، وإن كان الضامن متبرعاً، فإذا لزمه الضمان وإن كان متبرعاً، فالوكيل بالشراء بمثابته، وأما الوكيل بالاستقراض، فلم يصدر منه ما يتضمن الضمان، ثم ينبني على هذا أنا إن لم نضمن الوكيلَ بالاستقراض، فنقول: لو قبض ما استقرض، وتلف في يده من غير تفريطه، فلا ضمان عليه، والضمان على موكِّله.
وإن أوجبنا الضمانَ على وكيل القرض، طولب، ولكنه يرجع على موكِّله؛ فإن يدَه يدُ موكله ولم يوجد منه تفريط.
__________
(1) زيادة من (ت 1) و (ت 2).

(3/191)


ولو قال الوكيل: اشتريت العبد لفلان، فأضاف العقدَ إلى موكله فِعْلَ السفير، لم يتعلق به الضمان أصلاً، من جهة أنه لم يُضف العقدَ (1 إلى نفسه، وهو الملزِم، فلم يتضمن اللفظُ التزامَه، كما لو قبل نكاحَ امرأة لرجل، وأضاف العقد 1) إليه، فلا يصير ملتزماً للمهر، والاعتبار باللفظ. فافهم.
وليس كما لو علم كونه وكيلاً في الشراء، لأن صيغة اللفظ الالتزام، فكان كما ذكرناه من الضمان؛ فإنه يلزم مع العلم بكون الضامن [متبرعاً في نفسه] (2) متفرعاً على الأصل.
فإذا ثبت هذا، قلنا بعده: لو قال المتوسط إذا قبض القرضَ: استقرضتُ هذا لفلان، فلا يتعلق به الضمان، كنظيره من الوكيل في الشراء، وإن لم يكن للّفظ في الاستقراض حكم، ولكنه تضمن نفيَ الضمان، وإثباتَ منزلة السفارة.
1942 - ونحن نقول بعد هذا: إن استقرض الإمام لجماعةٍ من المساكين شيئاً بإذنهم، صح ذلك، وكان القول في أنه هل يطالب، أو إذا تلف المقترَضُ في يده كيف السبيل فيه، على ما ذكرناه في وكيل المستقرِض.
وإن لم يوجد من المساكين إذن، ولكن علم الإمام حاجة حاقّة بهم، فاستقرض لهم شيئاً، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أن الاستقراض يقع لخاصّ الإمام، ولا يقع عن المساكين، وعلل الشافعي بأن قال: المساكين أهل رشد، لا يولّى عليهم، فالاستقراض لهم دون إذنهم لا يقع عنهم، وليس كما لو استقرض وليّ الطفل شيئاً له، على حسب النظر، فإنه يقع للطفل.
وينبغي أن يقع هذا فيه إذا لم يقصد الإمام بالاستقراض أطفالاً من المساكين، لا أولياء لهم؛ فإن ذلك لو فرض، فهو صحيح، بحكم ولاية الإمام أمثال هؤلاء.
والوجه الثاني - يصح الاستقراض للمساكين بحكم الحاجة، كما يصح (3) ذلك لهم
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) مزيدة من (ت 1)، (ت 2).
(3) في (ت 1): لا يصح.

(3/192)


إذا أذنوا (1) فيه (2)، وسألوه؛ وذلك أنهم لا يتعينون في نظر الإمام، ولكن الزكاة مصروفة إلى جهة الحاجة، والإمام ناظرٌ لها وفيها نظرَ الوليّ للطفل المولَّى عليه، والتفريع على ما ذكرناه بيّن هيّن.
1943 - فإن لم يصح القرضُ لهم، وقع عن خاصة الإمام، فإن صرفه إلى المساكين، كان متصدقاً بطائفة من مال نفسه. فإن صححنا ذلك، فالقرضُ واقعٌ لمن يقبضه من الإمام، وهو مطالب به، والإمام هل يطالَب في نفسه مطالبةَ الوكيل بالشراء؟ فعلى وجهين.
ومما ذكره الأصحاب في تفصيل ذلك: أن رب المال لو جاء إلى الإمام، وسأله أن يسلم شيئاً إلى المساكين قرضاً، ولم يقصد تعجيلَ زكاةٍ، ولكن قصد أن يصرف الصدقات إليه إذا حلّت؛ فقصد في الحال ذلك، فهذا إذا تُصوّر كذلك، يقطع الطِّلْبةَ بالكلية عن الوالي، حتى لو تلف ما قبضه في يده، لم يضمن أصلاً.
ولو سأل المساكين ذلك، فتلف ما قبضه في يده، ففي الضمان الخلاف المقدم في وكيل المستقرض.
ولو وُجد السؤال من المساكين، وانضم إليه مجيءُ رب المال إليه ومسألتُه أن
يصرف طائفةً من ماله إلى المساكين، فقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة: فذهب بعضهم إلى أنها تلتحق بما لو تمحض سؤال المساكين، كما تقدم.
وذهب بعضهم إلى أنها تلتحق بما لو تمحض سؤال رب المال. وقد مضى القول فيه.
فهذا ترتيب القول في الاستقراض للمساكين.
1944 - وقد حان أن نذكر صرفه الصدقة إلى هذه الجهة، والمسلك البيّن فيها أنه إذا استقرض لمسكينٍ بإذنه، ثم حلت الصدقة، والمسكين غارمٌ، فإن كان ممّن يحل صرف الصدقة إليه، فَعَل ذلك، فأدّى ديْنه. وإن ارتد، فحلّت الصدقاتُ؛ فديْن
__________
(1) في (ت 2): إذا نوى.
(2) في (ت 1): له.

(3/193)


المرتد لا يقضى من الصدقة، (1 بل هو مطالب به في نفسه، وكذلك إذا كان غنياً، لمّا حلّت الصدقة، فدينه لا يقضى من الصدقة 1).
وبالجملة فرضُه (2) منفصل عن الصدقات، وفي تأديته من الصدقة ما في قضاء الديون من الصدقات، وهو مبيّن مفصّل في قَسْم الصدقات.
1945 - وذكر الشيخ أبو بكر كلاماً فيه إشكال، فقال: لو حلّت صدقةُ زيد، والمستقرض من المساكين ممن يحل له أخذ الصدقة لدَيْنه، ثم استغنى بجهة، أو ارتد، فحلّت صدقةُ عمرو، فلا تصرف إلى دينه [صدقةُ عمرو، ويصرف إلى دينه] (3) صدقة زيد.
وهذا ليس بشيء؛ فإنه مديون عليه دين، لا يتعلق بزكاة زيد ولا عمرو، فينبغي أن يكون النظر إلى صفة حالة الآخذ، سواء كان من صدقة زيد، أو من صدقة عمرو، وإنما يتجه ما قاله لو فرع على منع النقل، وصوّر في انحصار المستحقين، ثم فرض طريان التغايير بعد الاستحقاق، فقد لاح ما ذكرناه، ولم يبق في جوانبه غموض.
فرع:
1946 - رب المال إذا سلّم الزكاة إلى الوالي، فقد بلغت الصدقة محلّها، فلو تلفت في يده من غير تقصيره مثلاً، فقد وقعت الزكاة موقعها.
ولو عجل الزكاة، وسلّمها إلى الوالي، فتلفت في يده، كما تقدم تصويره، ففي بعض التصانيف أنها تقع الموقع كذلك، كما لو وقع التسليم بعد الوجوب. وإن كنا قد نغيّر الأمر في الزكاة المعجلة بالتغايير التي تطرأ وتعرو (4)؛ فإنا بنينا هذه القاعدة على
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) كذا بالفاء، والمعنى فرض الاستقراض في هذه الصورة منفصل عن الصدقات، ولا علاقة له بها، فهو كأي قرض في التأدية من الصدقات.
ولو قرئت بالقاف "قرضه"، لكانت العبارة أوضح، ولكن النسخ الخمس كلها بالفاء الواضحة تماماً بدون أدنى لبس. والله أعلم.
(3) زيادة من (ت 1)، (ت 2). ثم كأنه يقول: لا تصرف إليه صدقة عمرو؛ لأنه عندما حلّت لم يكن من أهل استحقاق الصدقة، لغناه أو ردته.
(4) في (ت 1): تطرد، وتعرو، (ك) سقط "وتعرو".

(3/194)


أن يد الإمام يدُ المحاويج، فما يتلف في يده بمثابة ما يسلّم من الزكاة المعجلة إلى المسكين، ثم تتلف في يده، وهذا غير ضائر، والتلف في يده كإتلافه إياه استنفاقاً، وهذا لائح واضح.
ثم الإمام إذا أمسك الصدقة حتى تلفت في يده من غير عذر، فيضمنها للمساكين، وإن كان يحفظها، حتى تكثر ثم تُفرق، فهو معذور؛ فإنه لا يجب عليه أن يفرق كل قليل يحصل في يده، فإذا قُدّر التلف، وكان ينتظر اجتماعاً يُنتظر مثله، ولا يسمى تفريطاً، فلا ضمان عند تقدير التلف في ذلك، وقد بلغت الصدقةُ محلّها.
***

(3/195)


باب النية في إخراج الصدقة
قال: "إذا ولي الرجل إخراج زكاة ماله، لم يجزئه إلا بالنية ... إلى آخره" (1).
1947 - الزكاة من أركان الإسلام، والمنصوص عليه للشافعي هاهنا أن النية لا بد منها في تأدية الزكاة، وقال في موضع آخر: "إن قال بلسانه: هذا زكاة مالي، أجزأه"، وقد اختلف الأئمة في هذا النص: فقال صاحب التقريب فيما ذكره الصيدلاني: أراد اللفظَ باللسان مع العقد والنية بالقلب.
وقال طائفة من أصحابنا: يكفي اللفظ، ولا نؤاخذه بالنية وتحصيلها. قال (2): وهذا اختيار القفال، واحتج عليه بأمرين: أحدهما - أن الزكاة تخرج من مال المرتد، ولا تصح النية منه.
والثاني - أن الاستنابة في الزكاة جائزة، ولو كانت النية مقصودة، لوجب على المتعبّد أن يتعاطاها، فإن النيةَ سرُّ العبادات، والإخلاص فيها، أي في النية.
فقد حصل قولان في اشتراط النية على الترتيب الذي سقناه: أحدهما - أن اللفظ كافٍ، ثم إن لم يتلفظ ونوى، أجزأت النية عن اللفظ على هذا القول. والتفريع في الباب على أن النية لا بد منها. ولا عود إلى القول الآخر، وإن اختاره القفال.
والكلام في كيفية النية، ووقتها.
1948 - فأما الكيفية، فلو نوى الزكاة المفروضة، كفاه. ولو ذكر الزكاة في مجاري نيته، ولم يتعرض للفرضيّة، ففي المسألة وجهان كالوجهين فيه إذا نوى صلاة الظهر، ولم يتعرض للفرضية.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 215.
(2) ساقطة من: (ت 1). والقائل هنا هو الصيدلاني، فيما يحكيه عن صاحب التقريب.

(3/196)


وهذا فيه نظر؛ فإن صلاة الظهر قد تصح نافلةً من الصبي، ومن يصلي الظهر منفرداً، ثم في جماعة، فإن حمل ذكر الفرضية على هذا، كان متجهاً، فأما الزكاة، فلا تنقسم. ولو نوى الصدقة، لم يكف؛ فإنها تتناول المفروضة والنافلةَ جميعاً، ولو نوى الصدقة المفروضة، كفى ذلك.
1949 - ومما يتعلق بذلك أنه لا يلزمه تعيين مالٍ فيما يخرجه؛ فلو نوى الزكاة، ولم يعين مالاً، وله أموال، أجزأه ذلك. ثم لا يزال يُخرِج على الإطلاق حتى يؤدي المقدارَ الواجبَ عليه.
ولو عيّن طائفةً من ماله، فقال هذا زكاة مالي الغائب، وله مال غائبٌ وحاضر، فإن كان ماله الغائب باقياً، انصرفت (1) الزكاة عليه (2)، وإن كان تالفاً لما أخرج عنه، فلو أراد صرفَ الزكاة المؤداة إلى المال الحاضر، لم يمكنه.
ولو كان أطلق الإخراج، ثم تلف مالُه الغائب، فالزكاة واقعة عن الباقي من ماله، وهذا يلتحق بالقسم المذكور في أقسام النية: وهو إن التعيين قد لا يشترط، ولكن لو فرض التعيين، ثم قدّر خطأٌ، أو تلفٌ في جهة التعيين، فلا تقع الزكاة موقعها. ولو قال: هذا المخرَج عن مالي الغائب إن كان سالماً، وإن لم يكن، فنافلة، صح ذلك. وقد سبق بيانه.
ولو قال: هذا عن مالي الغائب، أو نافلة وردد نيته كذلك، فالنية فاسدة؛ فإنها مرددة غير مجزومة، مع تقدير بقاء المال. أما إذا قال: فإن كانت تالفةً (3)، فنافلة، فليس [في] (4) نية الزكاة -عند تقدير بقاء المال-[ترددٌ] (5). وهذا بيّن.
ولو قال: هذا عن مالي الغائب، وإن لم يكن سالماً، فعن مالي الحاضر، فقد قال الأئمة: يصح هذا، فإن كان الغائب سالماً، فعنه، وإن لم يكن، فعن
__________
(1) (ك): أو صرفت.
(2) (ت 1): إليه. وساقطة من (ت 2). وهي صحيحة بتأويل.
(3) كذا بالتأنيث على معنى (الأموال).
(4) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): "فيه"، والمثبت من (ت 1).
(5) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): "تردُّداً"، والمثبت من (ت 1).

(3/197)


الحاضر، والتردد بين الغائب والحاضر مع تقدير التلف والبقاء كالتردد بين الفرض والنفل في التقدير.
وذكر صاحب التقريب أن الغائب إن كان تالفاً، ففي وقوع المخرج عن الحاضر احتمال؛ فإن النية مترددة فيه، ولو قيل: هي مترددة في الغائب، لاح الجواب عنه؛ فإن الأصل بقاؤه، وزكاة الحاضر مربوطة بتقدير تلف الغائب. وهذا على خلاف استصحاب الأصل.
فإن قيل: النافلة مترددة أيضاًً، قيل: نعم. هي كذلك، وهي تناظر زكاة المال الحاضر، ولكن لا يمتنع أن نشترط في نية الفرض، ما لا نشترط في نية النفل. والعلم عند الله تعالى.
وقد سبق في باب التعجيل في النافلة كلامٌ، إذا ضم إلى ما ذكرناه الآن، كفى.
ولو قال: المخرَج عن أحد المالين، جاز، ثم له وجهان بعد هذا الإبهام: أحدهما - أن يعيّن أحدَهما، فيتعين، كما يُبهم طلقةً بين زوجتين، ثم يعين.
والثاني - أن يترك الأمر مبهماً، فإن كان تلف أحدُ ماليه، فالزكاة واقعةٌ عن الباقي منهما.
فهذا ما أردناه في كيفية النية.
1950 - فأما وقت النية، فإن نوى عند الصرف إلى المستحق، كفى، وحَسُن.
وإن قدّم النية على الإخراج، ثم أخرج، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - لا تجزىء حتى يقترن القصد بالمقصود، وهذا [لعمرنا قياس القصود] (1) والنيات.
والثاني - تجزىء. وتوجيه ذلك يعتضد بأن المقصودَ الأظهر من الزكاة إخراجها، ولهذا تجزىء النيابة فيها، مع القدرة على التعاطي.
ولو صرف الزكاة التي يقبضها الوالي إليه، ونوى عند الصرف إليه، كفى ذلك.
__________
(1) في الأصل، (ك): "هذا العمر نافياً بين المقصود"، (ت 2): لعمرنا قياس المقصود. والمثبت من (ت 1).

(3/198)


ولو وكل وكيلاً وفوض إليه النية، جاز. ولو نوى هو بنفسه، ولم يفوّض إلى الوكيل إلا التسليمَ إلى المتسحقين، جاز وحسُنَ. ولو نوى عند الصرف إلى الوكيل، ثم الوكيل بعد ذلك فرّق، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بإجزاء ذلك، وجعل اقتران النية بالتسليم إلى الوكيل، بمثابة اقترانها بالتسليم إلى المستحِق.
وقال صاحب التقريب: هذا يخرج على الوجهين المذكورين في أن تقدّم النية على الصرف إلى المستحِق هل يجوز أم لا؟ وهذا هو القياس، وليس الوكيل فيما ذكرناه كالوالي؛ فإن يد الوالي يدُ المساكين، بدليل ما تقدم ذكره من أنه لو تلف المخرج في يد الوالي من غير تفريطٍ، وقعت الزكاة موقعها، ولو تلف في يد الوكيل، فالزكاة واجبة في ذمة ملتزمها، والتسليم إلى الوكيل عند فرض التلف في بقاء الزكاة في الذمة، نازل منزلة ما لو ميز المالك ما يريد إخراجه إلى المستحقين، ثم تلف ما ميزه، فالزكاة باقية.
فرع:
1951 - الإمام إذا طلب زكاة الأموال الظاهرة، فامتنع مَنْ عليه الزكاة، فالإمام يأخذها قهراً، فإذا لم ينوِ من عليه الزكاة في امتناعه، فالطِّلْبة تنقطع عنه ظاهراً، ولكن هل تسقط الزكاة باطناً بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين مشهورين: وتوجيه وقوعها موقع الإجزاء يستمد من استقلال إجزاء الزكاة بالمقصود الأظهر، وهو سد الحاجة. فإن قلنا: لا تسقط الزكاة باطناً، فنية السلطان لا تكفي فيما يتعلق بالباطن.
وإن قلنا: تسقط الزكاة باطناً، فهل يجب على السلطان أن ينوي؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا؛ فإنا نُخَرِّج إجزاء الزكاة على تهوين أمر النية، وإسقاطها.
والثاني - يجب على السلطان أن ينوي؛ فإن الوالي فيما يليه من الزكاة بمثابة وليّ الطفل فيما يخرجه من الزكاة، من مال المولَّى عليه. والدليل عليه أن تفريع الباب واقع على اشتراط النية، ولو أخرج المالك زكاة ماله الباطن، من غير نية، لم يجزه ما أخرجه.
فإذاً تبيّن بما ذكرناه أن السلطان ينوي، وامتناع من عليه الزكاة يَرُدُّه مولياً عليه في

(3/199)


النية، كما (1) أضحى مقهوراً في أخذ الزكاة (2).
فصل
1952 - جرى في أثناء مسائل الباب، لما انتهى القول في أخذ الإمام الزكاة أن في الأموال الظاهرة قولين، وسيأتي توجيههما، والتفريع عليهما.
فإذا قلنا: للمالك إخراج زكاتها، فلا خلاف أن الأولى صرفُها إلى الإمام العادل، ولو لم يكن فيه إلا الخروجُ عن خلاف الأئمة، لكان ذلك كافياً.
وأما المال الباطن فيتولاه بنفسه، ولا خلاف أن توليه بنفسه أولى من التوكيل.
واختلف الأئمة في أن الأولى أن يُخرج بنفسه، أو يسلم إلى الإمام العادل. فقيل: التعاطي أولى، فإنه يكون فيما يخرجه على يقين، وقيل: التسليم إلى الإمام أولى؛ فإنه تفويض وتقليد لوالي المسلمين، ولو أخرج بنفسه، كان على ترددٍ في خطئه وصوابه، في صفات المستحقين. والله أعلم.
فصل
قال: "ولا يجزىء ورِقٌ عن ذهب ... إلى آخره" (3).
1953 - أجرى الشافعي هذا الأصل في هذا الباب، وشرطُنا اتباعُ ترتيب المختصر.
فالواجب عندنا في الزكاة اتباعُ النصوص، ولا مدخل للأبدال واعتبار القيم، فلو أخرج مالك الأربعين من الشاة السائمة قيمة شاة، لم يجزئه، وكذلك القول في
__________
(1) بمعنى عندما.
(2) ومعنى العبارة أن السلطان ينوي عمن أُخذت منه الزكاة قهراً؛ فإن امتناعه واقتهاره جعله مَوْلياً عليه في النية.
(3) ر. المختصر: 1/ 215.

(3/200)


المنصوصات، ولو أخرج بعيراً عن خمسٍ من الإبل، فقد ذكرتُ إجزاءَه، وفصّلتُ المذهبَ فيه، في زكاة الإبل، وإجزاؤه متلقى من فحوى النص، فإن البعير إذا أجزأ عن الخمس والعشرين، فلأن يجزىء عن الخمس أولى.
ثم قاعدة المذهب أن كل شيء مجزىء [من] (1) كثير، فهو مجزىء [من] (1) قليل دونه، من غير استثناء.
وقد جرى في أثناء التفاريع، أن من ملك مائتي بعير، واجتمعت الحقاق، وبنات اللبون، فأخرج منها ما لا يوافق غبطة المساكين، فكيف السبيل فيه؟ ثم ذكرنا في أثناء التفاريع، أن من أئمتنا من أخذ لجبر النقصان شيئاً من القيمة، وذلك لضرورة التبعيض في النَّعم، فليخرج من ذلك أنه مهما أدى الحساب في زكاة النَّعم إلى تشقيص في مسائل الخلطة، فهذا (2) الخلاف في إجزاء القيمة عن الشقص المقدر قائم.
1954 - ولو وجبت شاة، ثم تلف الأربعون (3) بعد الإمكان، وعسر الوصول إلى الشاة، ومست حاجة المساكين، فالظاهر عندي أنه يخرج القيمةَ للضرورة الداعية، ولا سبيل إلى تأخير حقوق المساكين.
ولعل هذا يناظر ما لو أتلف الرجل مثلياً، والتزم المثلَ، ثم أعوز المثل، وتوجهت الطلبة، فالرجوع إلى القيمة.
ثم إذا بذل القيمة، ووجد المثل، فهل يجب رد المثل، واسترداد القيمة؟ فيه خلاف معروف، وقد يتجه مثل هذا الخلاف في الزكاة في مثل هذه الصورة، والأشبه في الزكاة إجزاء القيمة وانقطاع الطلبة بالكلية، والسبب فيه أن مقابلة الشيء المثلي بمثله بيّن الغرض، والغالب على حصر الزكاة في المنصوصات التعبّد.
__________
(1) كذا في الأصل، (ط)، (ت 1)، (ك)، وهي صحيحة، حيث تأتي (مِن) مرادفةً لـ (عن) وفي (ت 2) وحدها: "عن".
(2) جواب مهما.
(3) في الأصل و (ط) و (ك): الأربعين.

(3/201)


1955 - ثم الذي يجب تمهيده في ذلك أن المعنى المعقولَ في الزكاة سدُّ الحاجة، ولا سبيل إلى جحد ذلك، ولكن انضم إلى هذا الغرض المعقول تعبّدان: أحدهما - النية، فهي مرعية عند الإمكان، ولكن الزكاة قد تستقل بالغرض الظاهر، وهو سدّ الحاجة، ولذلك وجبت في مال الصبي، ويأخذها الإمام، من الممتنع، وقد يتخيل على البعد أن امتحان ملاك الأموال ببذل أموالهم من غرض التكليف، وهذا يشير إلى إيقاعه عبادةً بالنية.
فهذا أحد التعبدين.
والثاني - اتباع النصوص.
وحكم سدّ الحاجة يقتضي ما يصير إليه أبو حنيفة (1)، ولكن يجب اتباع التعبد معه، كما تجب النية.
1956 - ثم في (2) اتباع المنصوص (3) معنًى على بعد، وهو أن يسلم إلى المساكين من الأموال النامية، حتى ينمو في أيديهم، ويسدّ منهم مسدّاً.
وهذا فيه بعض البعد، فلا جرم تستقل الزكاة بالسد عند الضرورة، من غير اتباع النصوص، ويجب بحسب هذا أن يأخذ الإمام ما يجده من مال مَن عليه الزكاة، إذا لم يجد المنصوصَ عليه، كما يأخذ الزكاة قهراً، وإن لم ينو مَنْ عليه الزكاة، ثم إن كان من عليه الزكاة قادراً على أداء المنصوص، ففيه تردد على حسب ما ذكرناه في امتناعه عن النية.
فهذا بيان قاعدة المذهب.
ولو وجبت شاة في خمس من الإبل فأخرج بعيراً يجزىء عن خمس وعشرين فقد ذكرنا ذلك مفصلاً في أول باب زكاة الإبل، فلا نعيده.
__________
(1) أي من جواز إخراج القيمة نظراً لمعنى سدّ الحاجة دون النظر إلى التعبد.
(2) ساقطة من (ت 1).
(3) في (ت 1) وحدها: "النصوص".

(3/202)


1957 - وذهب مالك (1) إلى أن الوَرِق يجزىء عن الذهب، والذهب يجزىء عن الوَرِق، وهذا فيه قربٌ؛ فإن الماشية إن قدرت ناميةً، واعتُقد فيها اختصاص، فلا اختصاص لأحد النقدين عن الثاني بشيء، ولكن الشافعي حسم الباب، وألزم اتباع النص، مع الإمكان. فليفهم الناظر ما يمرّ به.
...
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 392، مسألة: 534، جواهر الإكليل: 1/ 140، شرح الحطاب: 2/ 354.

(3/203)


باب ما يُسقط الصدقة عن الماشية
قال: "وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: في زكاة الغنم سائمةً ... إلى آخره" (1).
1958 - زكاة المواشي تتعلق بالسائمة، دون المعلوفة، والمتبع فيه مفهومُ قوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة" (2).
1959 - ولو عُلفت السائمة في بعض الحول، وأسيمت في البعض، فقد اضطرب الأئمة في ذلك، ونحن نصف ما قالوه، على أحسن ترتيب، إن شاء الله تعالى.
فمن أئمتنا من قال: إذا اعتلفت السائمة ولو في لحظة، فإنها بذلك تخرج عن حكم السَّوم، وينقطع الحول، فلو أسيمت بعد ذلك، استأنفنا حولاً جديداً.
والوجه الثاني - أن اللحظة لا تقطع السوم. ثم اختلف هؤلاء: فقال بعضهم: الحكم للغالب، فإن غلب السوْم في السنة، وجبت الزكاة، وإن غلب العلف، [سقطت] (3). وهذا حكاه صاحب التقريب وزيفه، وهو شبيه في ظاهر الأمر بقولٍ يُحكى (4) فيه إذا اختلف نوع الماشية، فالمأخوذ من أي نوع؟ وفيه قولان تقدّم ذكرهما: أحدهما - أن النظر إلى الغالب. ثم من اعتبر الغالب في السوم والعلف، لو فرض عليه استواؤهما، تردَّد، والأظهر السقوط.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 217.
(2) حديث: "في سائمة الغنم زكاة" رواه البخاري في حديث أنس في الصدقات، بلفظ: "وفي صدقة الغنم في سائمتها أربعين إلى عشرين ومائة شاة" وقد تقدم الكلام على حديث أنس.
وانظر: التلخيص: 2/ 156، 157، وخلاصة البدر: 1/ 291، ح 1005، 1006.
(3) في الأصل، (ت 1) و (ت 2) و (ت 3) و (ك): سقط. والمثبت من (ط) وحدها. وتأنيث الفعل هنا واجب؛ لأن الفاعل ضمير يعود على مؤنث.
(4) في (ط) و (ت 2): محكي.

(3/204)


ومن أئمتنا من قال: إن جرى العلف في زمانٍ لو أهملت الماشية فيه، لم تعش وضاعت (1)، فهذا يؤثر في قطع الحول، ولو جرى العلف في زمان لو أُجيع (2) فيه الماشية، لم تضع، فلا يؤثر مثل هذا العلف، والحكم للسّوْم، وهذا ما ذكره الصيدلاني، وشيخنا. واعتبر هؤلاء إمكان العطب والهلاك في مثل زمان العلف. فافهم.
وقال الصيدلاني على هذا: لو كان رب الماشية يردُّها ليلاً، وكان يُلقي لها شيئاً من العلف، ويردُّها إلى الإسامة نهاراً، فلا أثر لما يجري ليلا؛ فإنها لو أُجيعت ليلاً، واقتصر على الإسامة نهاراً، لم تهلك.
وقد يختلف هذا باختلاف العشب، وقلّته وكثرته، ومسيس الحاجة إلى العلف ليلا، فليتبع فيه المعنى.
ولو اعتبر معتبر في هذا المسلك ظهور ضرر بيّن، وإن كان لا ينتهي إلى العطب، لم يبعد. والله أعلم.
وذكر الإمام (3) وجهاً آخر، فقال: إن كان العلف بحيث يعد صرفه مؤنة ظاهرة بالإضافة (4 إلى فائدة الماشية، فهو قاطع للحول، وإن كان لا يُحتفَل به، ولا يُعدّ مثله مؤنة بالإضافة 4) إلى [فائدة] (5) الماشية، فلا أثر له.
فقد اجتمعت وجوة في قاعدة المذهب.
1960 - ومأخذها عندي يقرب من أصلٍ نذكره، وهو أن القتل يحرم الميراث، ثم أشار بعض العلماء [منا] (6) إلى أن المعنى الكلي فيه مخالفةُ قصد القائل، في استعجال الميراث، وتَعِبَ هؤلاء في إخراج قتل الخطأ على المعنى، ولم يسلموا عن انتقاض
__________
(1) ساقطة من (ك) و (ت 1). وضرب عليها في الأصل.
(2) في (ط)، (ت 1)، (ت 2): اجتمع.
(3) الإمام: يقصد والده.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(5) زيادة من (ت 1).
(6) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(3/205)


ما أبدَوْه، بحلول الدَّيْن، وعتق المستولدة (1).
وتمسك آخرون بظاهر الخبر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس للقاتل في الميراث شيء" (2).
ثم غلا المتعلقون بلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وطردوا الحرمان في القتل قصاصاً، أو حداً.
كذلك القول في هذا الباب، فاستنبط بعض الأئمة المؤنة عن العلف، وهؤلاء ترددوا على أنحاء، وهذا أصلهم.
واعتبر آخرون اسم العلف، لما عسر عليهم طردُ المعنى، من جهة أن الماشية المشتراة للتجارة تجب الزكاة في قيمتها، وإن كانت معلوفة، والمؤنُ تكثر على الحرّاثين في الزرع، وحق الله متعلق [به] (3)؛ فرأى هؤلاء أن يتبعوا اللفظ.
ثم غلا بعضهم، فأسقط الحولَ بعلفٍ في لحظة، واقتصد آخرون، فقال بعضهم: ما يقع قوامَ الماشية، واعتبر آخرون ما يعد مؤنة عرفاً، بالإضافة إلى الماشية، فهذا مأخذ الخلاف.
ولو اعتلفت الماشية بما لا يُتَقوّم، ولا يُتَموّل، فلست أرى في مثل ذلك خلافاً، وإن اتبعنا الاسمَ.
__________
(1) أي ينقض عليهم تعليلهم، حلول الدين إذا قتل المدين دائنه، وعتق الأمة المستولدة، إذا قتلت سيدها.
(2) حديث "ليس للقاتل من الميراث شيء" رُوي هذا المعنى بأكثر من لفظ، عن أكثر من صحابي، وهو عند أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ومالك في الموطأ، والشافعي، والبيهقي، وعبد الرزاق، والدارقطني، والطبراني. وصححه الألباني (ر. أبو داود: الديات، باب ديات الأعضاء، ح 4564، الترمذي: الفرائض، باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل، ح 2109، النسائي في الكبرى: ح 6368، ابن ماجه: الديات، باب القاتل لا يرث، ح 2646، الموطأ: 2/ 867، ترتيب مسند الشافعي: 2/ 108 - 109، مصنف عبد الرزاق ح 17782، الدارقطني: 4/ 72، البيهقي: 6/ 219، التلخيص: 3/ 84 ح 1358، 1359، 1360، وخلاصة البدر: 2/ 136 ح 1745، 1746، 1747، والإرواء: 6/ 117 ح 1671).
(3) في جميع النسخ: بها. والمثبت من (ت 1) وحدها

(3/206)


ولم يصر أحد إلى تلفيق السَّوْم والعلف، حتى إذا جرى في أثناء العلف إسامة في سنة، لو لُفّق وجُمع، وجبت الزكاة. هذا لا قائل به.
1961 - ثم إذا ثبت تفصيل العلف المعتبر، فقد اختلف أئمتنا في أن القصد هل يعتبر في الإسامة والعلف، حتى يقال: إذا اتفقت إسامةُ المعلوفة من غير قصدٍ، لم تجب الزكاة، فإذا اعتلفت الماشية السائمة، من غير قصدٍ، لم تسقط الزكاة.
هذا ما ظهر فيه اختلاف الأصحاب، فإن لم يعتبر القصد، فالنظر إلى عين العلف.
ولو اعتبرنا القصد، فقد اختلف أصحابنا في معنى القصد، فذهب الأكثرون إلى أن معناه أن الماشية إذا اعتلفت وفاقاً، فهي سائمة. وإن علفها مالكها قصداً، أثر ذلك، على ما سبق التفصيل في مقدار العلف.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً في معنى القصد، فقال: إن قصد المالك رد السائمة إلى العلف من السوم، فهذا يقطع -إذا جرى- الحولَ، وإن علفها قصداً، ولكن لم يقصد قطعَ السوم، فلا أثر له.
وبيانه أن الثلوج إذا تراكمت، وغطت المرعى، فلو ردَّ المالك الماشيةَ إلى العلف للعائق (1) الذي اتفق، وهو على عزْم الإسامة إذا تمكن، فهذا العلف لا يقطع الحول، وإن كثر واتفق مقصوداً، إذا لم يقصد قطعَ الإسامة.
فهذا منتهى القول في ذلك.
1962 - وظهر اختلاف الأئمة في أن الغاصب لو أسام الماشية، أو علفها، فهل يختلف الحكم بإسامته وعلفه، أم يدام الحكم الذي كانت الماشية عليه في يد المالك؟ وهذا خرّجوه على أن القصد هل يعتبر في العلف والإسامة؟ وكان شيخي يقول: الخلاف في إسامة الغاصب ظاهر. فأما إذا علف الغاصب بعلفٍ من عنده، فالظاهر أن السوم لا ينقطع؛ إذ لا مؤنة على المالك بما جرى، وما يخرجه الغاصب غير محسوب.
__________
(1) في جميع النسخ، ما عدا الأصل: (العايق).

(3/207)


ومن أحاط بما مهدناه في مأخذ الخلاف خرّج هذه المسألة عليه.
1963 - قال الشيخ الإمام (1): إذا قلنا: الغصب وإيقاع الحيلولة يمنع وجوبَ الزكاة، فطريانه في أثناء السنة، (2 ثم زواله، يتنزل منزلةَ طريان العلف على السوم فيما قدمناه، وكذلك إذا اختلفت الخلطة في أثناء السنة 2)، ثم انتظمت، فليخرّج على ما مهدناه في طريان العلف ثم العود إلى السوم.
فرع:
1964 - إذا غصب الرجل أربعين من الغنم المعلوفة، ثم أسامها، ومضت سنة في الإسامة، وقلنا بوجوب الزكاة، فإذا استردّ المالك الأربعين من الغاصب، وأخرج الزكاة منها، بناء على ما ذكرناه، فهل يرجع على الغاصب بقيمة الشاة التي أخرجها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع بها؛ فإن سبب وجوب الزكاة الإسامة، التي صدرت من الغاصب.
ثم إن جرينا على هذا، فهل له أن يرجع على الغاصب، قبل إخراج الزكاة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يرجع حتى يُخرج ويغرم.
والثاني - يرجع قبل الإخراج؛ فإن الزكاة لا رفعَ لها بعد وجوبها، والتمكن من أدائها. وهذا التردد الذي ذكرناه في أصل الرجوع، وتفريعه، يناظر أصلاً، سيأتي في المناسك، إن شاء الله تعالى، وهو أن الحلال إذا حلق شعر محرم وافتدى المحرم، فهل يرجع بما غرِم؟ فيه اختلافٌ، وفي وقت الرجوع خلافٌ أيضاًً.
...
__________
(1) الشيخ الإمام: يقصد والده.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/208)


باب المبادلة بالماشية
قال: "ولو بادل إبلاً بإبل ... إلى آخره" (1).
1965 - الزكاة تنقسم إلى زكاة العين، وإلى زكاة التجارة، فأما المال الذي انعقد عليه حول التجارة، فلو جرى في جميعه أو بعضه استبدالٌ في أثناء الحول على حكم التجارة، فالحول لا ينقطع بما يجري من ذلك، كما سيأتي ذلك في بابه، إن شاء الله تعالى.
1966 - فأما الزكاة المتعلقة بأعيان الأموال، فنقول فيها: إذا انعقد الحول على نصابٍ من الغنم، فلو أبدله مالكه في خلال الحول بنصاب مثله من جنسه، فقد انقطع الحول الأول، ويستأنف من وقت ملك الثاني حولاً جديداً؛ فإن الحول كان انعقد على عين النصاب الأول، ثم زال الملك عنه بما جرى من الاستبدال، فانقطع الحول المنعقد على عينه.
فكذلك لو انعقد الحول على نصاب معين، ثم جرى الاستبدال في بعضه، فينقطع الحول الأول، لمكان نقصان النصاب، ثم يبتدىء حولاً من وقت الاستبدال لكمال النصاب.
وأبو حنيفة يقول: إذا جرى الاستبدال في جميع النصاب، انقطع الحول واستأنفنا حولاً آخر، وإن جرى الاستبدال في البعض، لم ينقطع الحول الأول، وبنى مذهبه على أصلين له: أحدهما - أن نقصان النصاب في أثناء الحول عنده لا يقطع الحول، إذا صادفنا النصاب في أول الحول وآخره.
والآخر - أن المستفاد عنده مضمومٌ إلى الأصل، ونحن على مخالفته في الأصلين جميعاً.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 219.

(3/209)


1967 - ولو ملك نصاباً من الدراهم، أو الدنانير، ثم استبدله في آخر الحول بمثله، فلا يخلو إما إن لم يكن على قصد التجارة في إمساكه، وإما إن كان متجراً فيه، كدأب الصيارفة. فإن لم يكن متجراً، فجريان الاستبدال فيه، كجريان الاستبدال في النَّعم التي تتعلق الزكاة بعينها، فينقطع الحول، ويستأنف حولاً جديداً.
وإن كان متجراً فيها، فالدراهم مما تتعلق الزكاة بأعيانها.
وقد اختلف قول الشافعي في أن المغلّب زكاة العين، أو زكاة التجارة إذا فرض اجتماعهما. وسيأتي شرح ذلك. إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: المغلّب زكاة التجارة، فالمبادلة لا تقطع الحول، وإن قلنا: المغلّب زكاةُ العين، وقد قصد الاتجار ابتداء على الشرط المرعي فيه، فإذا جرى الاستبدال في أثناء الحول، ففي المسألة وجهان، ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أن الحول ينقطع؛ فإنَّ شرط دوام الحول في زكاة العين دوامُ الملك، والاستبدال يخرم الشرطَ، والتفريع على تقديم زكاة العين، فلينقطع الحول، كما ينقطع في نصاب من النَّعم، في مثل هذه الصورة.
والوجه الثاني - لا ينقطع. والسبب فيه أن زكاة العين تختص بالأموال النامية في جنسها كالنّعم. والدراهمُ والدنانيرُ ليست ناميةً في جواهرها، وإنما التحقت بالناميات، من جهة أنها مهيأةٌ للتصرف، ومعدةٌ له، والتصرف ممكن فيها على يسر.
فإذا كان سبب التحاقها بالناميات هذا، فيبعد أن ينقطع الحول بسبب جريان التصرف، وسبب انعقاد الحول إمكان التصرف. وهذا المعنى يختص بالنقدين.
فهذا تفصيلُ القول في جريان المبادلة في الأموال الزكاتية.
ولم يختلف علماؤنا في أن من ملك نصاباً من النقد (1) وجرى في الحول، ثم (2 اشترى به عَرْضاً للتجارة، فحول زكاة التجارة محسوبٌ، من وقت ملك الدراهم.
وهذا يدل على أن 2) قياس الزكاة في عين الدراهم قريب من قياس زكاة التجارة.
__________
(1) (ت 2): النقرة.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/210)


وسنذكر إيضاح هذا المعنى في باب زكاة التجارة. إن شاء الله تعالى.
1968 - ثم إن حكمنا بانقطاع الحول عند جريان المبادلة في النَّعم، فلا فرق أن يقصد بذلك الفرار من الزكاة وبين ألا يقصد ذلك، ولكنْ تبادل لغرضٍ له صحيح، فالحول ينقطع في الوجهين جميعاً، ومالك (1) يقول: إن قصد أن يتخذ ذلك ذريعة في قطع الحول والفرار من الصدقة، لم ينقطع الحول، وهذا مشهور من مذهبه في الذرائع.
ثم قال الصيدلاني: إن قصد الفرار كُره ذلك، ولم يُطلق التحريمَ، وفي بعض التصانيف إنه يأثم بذلك، [و] (2) في التأثيم احتمال؛ من جهة أنه تصرف مسوّغ، ثم إنْ أثَّمناه، فموجب الإثم قصدُه لا محالة.
1969 - ثم ذكر الشافعي المبادلة إذا جرت قاطعةً للحول، كما تقدم تصويرها، فلو رُدّ عليه النصاب الذي خرج عن ملكه بالعيب، فيبتدىء الحول من وقت العود إليه بالرد؛ فإن الملك الحاصل بالرد جديد، ولا يتبين انتقاض المبادلة من أصلها.
هذا (3) متفق عليه لا خفاء به.
وذكر أيضاً (4) أن المبادلة لو كانت فاسدةً، فالحول لا ينقطع؛ فإنها لم تُزل الملك. وهذا بيّن، والغرض بذكره الردّ على أبي حنيفة، فإن البيع الفاسد المتصل بالقبض يتضمن إزالةَ الملك عنده، ثم ينقطع الحول عند القبض إذا جرت المبادلة والقبض في جميع النصاب.
فصل
1970 - ذكر الشافعي تفصيلَ القول في بيع المال الزكاتي، بعد وجوب الزكاة، ورتب في ذلك أصولاً، وهذا يستدعي تقديم بيان المذهب في ذكر متعلّق الزكاة،
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 386، مسألة: 525، حاشية الدسوقي: 1/ 437.
(2) زيادة من (ت 1) و (ت 2).
(3) (ت 1): وهذا.
(4) ساقطة من (ت 2).

(3/211)


وللأصحاب طريقتان في قاعدة المذهب: منهم من قال: في متعلق الزكاة قولان في الأصل: أحدهما - أنها تتعلق بذمة المالك.
والثاني - أنها تتعلق بالعين، ثم إذا حكمنا أنها تتعلق بالعين، ففي وجه التعلق قولان: أحدهما - أنها تتعلق بالعين استحقاقاً، فيستحق المساكين جزءاً من المال، والثاني - أنها تتعلق بالعين استيثاقاً. ثم في كيفية الاستيثاق قولان: أحدهما - أنها تتعلق بالعين تعلق الأرش برقبة العبد الجاني.
والثاني - أنها تتعلق بها تعلّق الدين بالمرهون. وسيأتي توجيه الأقوال، في أثناء الكلام.
وقال ابن سريج: لا خلاف في تعلق الزكاة بالعين، وإنما تردّدُ الأقوال في كيفية التعلق.
وحقيقة هذا الأصل تبين بذكر شيئين، نوضحهما، ثم نأخذ في كشف الغطاء.
من قال: الزكاةُ تتعلق بالذمة، فعنده أن الأربعين من الغنم إذا وجبت فيها الزكاة، فيجوز بيع جميعها، ثم إن أدى البائعُ الزكاةَ من مالٍ آخر، نفذ البيعُ وتم، وإن لم يؤدّه، فالساعي يأخذ شاةً من الأربعين من يد المشتري.
هذا متفقٌ عليه، وإن حكمنا بأن الزكاة تتعلق بالذمة، فهذا أحد الأمرين.
والثاني - أنا إذا قلنا: تتعلق الزكاة بالعين استحقاقاً، فلا يتعين على المالك إخراج الزكاة من عين المال، بل لو أراد أداءها من مالٍ آخر، لم تجب الزكاة فيه، جاز وفاقاً.
1971 - فإذا تحقق الأمران، وظهر الاتفاق عليهما، فنقول بعد ذلك: من ظن أن الزكاة لا تعلّق لها بالعين في قولٍ أصلاً، وإنما تتعلق بالذمة المطلقة، فقد غلط، وكان ما قاله غيرَ معدود من المذهب؛ فإنا حكينا الوفاق على أن الساعي يأخذ شاةً من يد المشتري، ومن كان عليه دين مطلق، فباع مالَه، لم يكن لمستحق الدين تعلقٌ بما باعه، وإن تعذر عليه استيفاء دينه، ممن عليه الدين. فإذا أثبتنا للساعي أن يأخذ شاةً من يد المشتري، كان ذلك قاطعاً في التعلّق.

(3/212)


ولكن القول المعروف بقول الذمة معناه عندي، أن العبدَ إذا جنى، وتعلّق الأرشُ برقبته، فباعه السيّد قبل أن يفديه، ففي نفوذ البيع قولان. ثم إن حكمنا بنفوذ البيع، فيصير السيد ببيع العبد ملتزماً للفداء، فإن فداه، فيا حبذا، وإن لم يفده، فالمجني عليه ينقضُ البيعَ، فاعلم. فامتداد يد الساعي خارج على ما ذكرناه.
ولكن بين تعلق الزكاة وبين تعلق الأرش فرقٌ، على قول الذمة؛ وذلك أن السيد ليس مطالباً بالفداء أصلاً، إذا جنى عبده، ومالك المال متعبد شرعاً بالزكاة، مأمور بتأديتها، فلما نفذ البيعُ، وتوجه الأمر، أطلق مطلقون القول بأن الزكاة تتعلق بالذمة، على هذا الرأي. ثم إذا أُلزم هؤلاء امتدادَ يد الساعي، لم يجيبوا عنه.
فالوجه أن نقول: إذا نفذنا البيع في الجميع، فهذا خارج على أن بيع الجاني نافذ، والتعلق كتعلق الأرش، ولكن المالك متعبَّد بالزكاة مأمورٌ، بخلاف سيد العبد الجاني.
فهذا هو حقيقة هذا القول.
1972 - فأما إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، ففي قول نقول: تتعلق تعلق الدين بالرهن، فيؤثّر هذا في منع البيع، في مقدار الزكاة، قبل تأديتها، على ما سيأتي مشروحاً.
وفي قولٍ: تتعلق تعلّق الأرش.
ثم قال الأصحاب: في نفوذ البيع في مقدار الزكاة قولان، مبنيان على بيع العبد الجاني.
وهذا تخليط في المذهب، مشعر بذهول مُورده عن حقيقة الكلام. وبيانُه أنا ذكرنا أن قول الذمة لا محمل له إلا على تجويز بيع الجاني، فهو المعنِيُّ [به] (1) كما تقدم.
فإعادة القولين على قول العين خلطٌ، فلينصرف قول جواز البيع في الجاني، إلى قول الذمة، فلا يبقى لقول العين إلا واحدٌ، وهو أن بيع العبد الجاني ممتنع.
__________
(1) مزيدة من (ت 1).

(3/213)


ولن يفقه الطالبُ حتى يصرف همّته إلى تفصيل المهمات، وتنزيل كل شيء على حقيقته ومأخذه.
1973 - ونقول: في قولٍ: يستحق المستحقون جزءاً من المال، ويصيرون شركاء فيه، وهذا القول يتطرق إليه إشكال، نبهنا عليه، وهو أن من عليه الزكاة لو أدى الزكاة من مال آخر، جاز على الانفراد، من غير طلب رضا نائب المساكين، وهو الساعي، وهذا يخرم هذا القول.
وذكر صاحب التقريب لهذا السبب قولاً، انفرد بنقله مفرعاً على قول [الاستحقاق، فقال:] (1) استحقاق المسكين موقوف، فإن أدى المالك الزكاة من عين مال الزكاة، تبينا (2 أنهم استحقوا عند الوجوب جزءاً من المال، وإن أدى المالك الزكاة من مالٍ آخر، تبينَّا 2) أن المساكين لم يستحقوا من عين المال شيئاً. وسنوضح هذا القول في التفريع إن شاء الله تعالى.
1974 - وبالجملة مثار الأقوال والإشكال تعارُض أمرين مختلفين: أحدهما - أن الأمر والتعبّد توجه على المالك تَوَجُّه الأمر بالديون، وتسلُّط الساعي على عين المال تسلط ذي حق فيها، ومهما ثار إشكال كذلك، ترتب عليه اختلاف المذاهب والأقوال. وقول تغليب الذمة موجّه بتوجّه الأمر، وقول العين موجه بإضافة الشارع الواجب إلى المال في مثل قوله: "في أربعين شاة شاة".
فهذا بيان القاعدة.
1975 - ثم قال الأئمة: ما ذكرناه فيه إذا كان الواجب من جنس المال، فأما إذا كان الواجب مخالفاً لجنس المال، كالشاة تجب في خمس من الإبل، فقد قال الأئمة: قول الذمة أوجه، في مثل ذلك؛ إذ ليست الشاة جزءاً من الإبل.
قلت: أما تعلق الأرش، والرهن، فمنقدح، وإنما يضعف قول استحقاق جزء
__________
(1) زيادة من (ت 1) وحدها.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/214)


[من المال، فليقع الترتيب فيه، ثم من يقدّر استحقاق جزءٍ] (1) في ذلك، يحتاج إلى تقدير الاستحقاق بمقدار قيمة الشاة، وليس يخرج هذا القول عندي إلا على مذهب من يقول: يجزىء بعيرٌ عن [خمسٍ] (2)، وجزء منه على ما يقتضيه التقسيط [واجب] (3) الخَمسِ، والشاة [مقامة] (4) مقامه.
فإذا وضح ما ذكرناه تمهيداً، فنحن نخرّج على هذا الأصل فصولاً، مقصودة، تتضح في أنفسها، تهذب الأصل.
الفصل الأول
في بيع مال الزكاة بعد وجوبها
1976 - فنقول: إذا ملك أربعين من الغنم، ووجبت شاة، فباعها قبل تأدية الزكاة، ففي قولٍ يصح البيع، وهذا يشهر (5) بقول الذمة، وحقيقتُه ما تقدم. ثم إذا اطلع المشتري على حقيقة الحال، والزكاةُ بعدُ ثابتةٌ، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه يثبت له الخيار؛ فإن البيع وإن نفذ، فللساعي أخذُ شاةٍ منها، فتعرضها للأخذ يسلّط المشتري على الفسخ.
ومن أئمتنا من قال: لا خيار له، ما لم تؤخذ شاةٌ من يده، ثم إن أُخذت شاة من يده، بطل البيع فيها، بعد الانعقاد. وهل يبطل الباقي؟ فعلى [قولي] (6) تفريق الصفقة.
__________
(1) زيادة من (ت 1) و (ت 2).
(2) في جميع النسخ: "عشرين" والمثبت تصرُّفٌ من المحقق، يؤيده السياق والكلام الآتي بعدُ.
والمعنى إن ملك خمساً من الإبل، فواجبها شاة، ولكن إذا أخرج صاحبها بعيراً، أجزأ، لا شك في ذلك، فهو يجزىء عن الكثير فكيف لا يجزىء عن القليل. ولكنّ الواجبَ جزءٌ منه فقط هو واجب الخمس، والشاة مُقامةٌ مقام هذا الجزء، تفادياً للتشقيص.
(3) في الأصل، (ط)، (ك): "والواجب" والمثبت من (ت 1)، (ت 2).
(4) ساقطة من الأصل، و (ط) و (ك).
(5) يشهر: أي اشتُهر وعرف.
(6) في الأصل، و (ط): قول.

(3/215)


وإذا انتهى تفريع إليه، أحلنا استقصاءه على كتاب البيع، فلا [نُطنب] (1) إلا فيما فيه اختصاص بالزكاة (2).
فإن قلنا: ينفسخ في الجميع، فيسترد الثمن، وإن قلنا: لا ينفسخ، فللمشتري الخيار من جهة تبعّض ما اشتراه، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
فإن فسخ، فلا كلام، وإن أجاز، فالمذهب أن يجيز الباقي بقسطه.
وفيه قول آخر: أنه يجيزه بكمال الثمن، وهذا من فروع التفريق.
1977 - ولو وجبت الزكاة، فباع المالَ، والتفريعُ على الذمة، نفذ. فلو أدى البائعُ الزكاة من مالٍ آخر، فالمذهب أنه ينقطع خيار المشتري؛ فإن سبب خياره توقع الاسترداد، وقد زال هذا بتأدية الزكاة من مالٍ آخر. وفي بعض التصانيف وجه آخر: أن خيار المشتري لا ينقطع بتأدية الزكاة من مالٍ آخر؛ وذلك أن المشتري لا يأمن أن يخرج ما أداه مستحَقاً، فيعود التعلق بالمشتري.
ومما يحقق تفريعَ هذا الوجه أن الزكاة إذا وجبت فأداها، ثم أنشأ البيع، صح ولا خيار، وإن كان ما ذكرناه من خروج المؤدَّى مستحقاً متصوراً في هذه الصورة، ولكن الفرق أن الخيار إذا ثبت، ثم أدى الزكاة، فلو أبطلنا الخيار [لكنا مبطلين خياراً] (3) ثابتاً قطعاً بأمرٍ يتطرق إليه احتمال وإمكان، فأما إذا أدى الزكاة، ثم باع، فأصل الخيار لم يثبت، بل الأصل لزوم البيع، وانتفاء الخيار، وهذا واضح، لا شك فيه.
هذا إذا فرعنا على قول الذمة.
1978 - فأما إذا فرعنا على قول العين، واخترنا من الأقوال أن المحاويج يستحقون جزءاً، فعلى هذا القول، إذا باع، فالبيع في مقدار الزكاة باطل، وفي الباقي قولان، على تفريق الصفقة.
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ت 1): يطيب.
(2) راجع حديث إمام الحرمين عن أسلوبه في التأليف، في كتابه الغياثي، حيث يقول: "الوجه إحالة الاستقصاء في كل شيء على محله وفنه".
(3) زيادة من (ت 1) و (ت 2).

(3/216)


قال الصيدلاني: إن كان الواجب جزءاً من المال، كالعشر في [المعَشّر] (1)، أو ربع العشر، حيث يجب، فالقولان في الباقي على التفريق، فأما إذا كان الواجب حيواناً، فهو غير منسوب إلى المال بطريق الجزئية، وليس متعيَّناً أيضاًً، حتى يكون بمثابة ما لو باع عبداً مملوكاً له، وعبداً مغصوباً، فالوجه عند بعض الأصحاب القطعُ ببطلان البيع في الجميع، على هذا القول.
والأشهر جعل المسألة على قولين. ثم الترتيب من منازل التفريع في تفريق الصفقة، فإذا كان المستحق جزءاً، فقولان، وإن باع عبداً مملوكاً، وضم إليه مغصوباً، فقولان مرتبان، والفارق جهالةُ الثمن في المملوك؛ إذ لا جزئية. ولو باع أربعين من الغنم في القول الذي نفرع عليه، ففي البيع في غير الزكاة قولان، وهذه الصورة أولى بالفساد؛ لانضمام شيوع الشاة، مع الجهالة في الثمن عند تقدير التوزيع.
فهذه ثلاث مراتب.
1979 - قال صاحب التقريب: إن فرعنا على قول الوقف، قلنا: إن باع ما وجبت الزكاة فيه، ثم لم يؤد الزكاة من مالٍ آخر، بل أخذ الساعي شاةً من جملة الأربعين، فيتبين أن البيع غيرُ منعقد في المأخوذ، وفي الباقي قولان، كما ذكره الأصحاب.
وإن [أدى] (2) البائع الزكاة بعد البيع من مالٍ آخر، فقد تبينا آخراً أن المساكين ما استحقوا جزءاً من المال، فهل يصح البيع في مقدار الزكاة؟ (3 فعلى قولي وقف العقود: إن منعنا الوقفَ، فالبيع باطل في مقدار الزكاة 3)، وفي الباقي قولان، كما تقدم.
وإن جوّزنا وقفَ البيع، فيصح البيع في مقدار الزكاة، وإذا صح فيه، صح في غيره أيضاًً.
__________
(1) ساقطة من الأصل، و (ك) وفي (ط): "الخارج". والمثبت من (ت 1)، (ت 2).
(2) ساقطة من الأصل، و (ك)، وفي (ط) و (ت 2) باع البائع، والمثبت من (ت 1).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/217)


هذا تفريعٌ على قول الاستحقاق من أقوال العين.
1980 - ولو وجبت الزكاةُ في أربعين، فباع منها عشرين، أو ثلاثين، أو أكثر، واستبقى منها مقدار الزكاة، والتفريع على قول الشركة، ففي نفوذ البيع وجهان: أحدهما - النفوذُ؛ فإنه لم يبع جميعَ المال، بل أبقى مقدارَ الزكاة، أو زاد. والثاني - يفسد البيع في مقدار الزكاة؛ فإن تعلّق الشاة شائع في الجميع.
والوجه عندي أن نقول: يبطل البيع في جزء من كل شاةٍ، وفي الباقي التفريق، والقول في ذلك الجزء على [ما يقتضيه] (1) توزيع الشاة على الأربعين.
1981 - أما إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، تعلّق الدَّين بالمرهون، فالذي ذكره الأئمة أن البيع في مقدار الزكاة باطل، وفي الباقي قولان، كما تقدم.
وذكر بعض المصنفين: أنا على قول الرهن نبطل البيع في الجميع قولاً واحداً؛ فإن التقدير أن جميع المال مرهون بمقدار الزكاة، وليس كما إذا فرعنا على قول الاستحقاق؛ فإن الاستحقاق لا يعم جميع المال، والاستيثاق يعم الجميع. وهذا وإن كان فيه تخييل. فالذي ذكره الأئمة ما تقدم.
والتقدير عندهم أن مقدار الزكاة من عين المال مرهون بالزكاة دون الباقي، وإذا كان التقدير كذلك، [فمقتضاه] (2) الفصل بين قدر الزكاة وغيره، في تفريع الفساد والصحة. وهذا هو الحق، وما عداه في حكم هفوةٍ في المذهب.
وإن قلنا: التعلق مشبّه بتعلق الأرش، وقلنا: بيع الجاني باطل، فمقدار الزكاة لا يصح البيع فيه؛ وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، كما ذكرناه في قول الرهن.
ومن رأى الكلَّ مرهوناً، وقال: يبطل (3) البيع [بحسبه] (4) في الجميع، فلا شك أنه يطرد هذه الطريقة في قول تعلق الأرش، والطريقة خطأ في القولين كما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ك): "والقول في ذلك على يقتضيه" بدون (ما). وفي (ت 2): على نقيضه. والمثبت من (ت 1).
(2) في الأصل، (ط)، (ت 2) فمقتضى. وفي (ك): يقتضى. والمثبت من (ت 1).
(3) في (ت 1): ببطلان.
(4) في الأكل، (ط)، (ك)، (ت 2): "بجنسه" والمثبت من (ت 1).

(3/218)


1982 - ومما يتعلق بما نحن فيه: أنا إذا فرعنا على قولي تفريق الصفقة حتى انتهينا إليه، فإن قلنا ببطلان البيع في الجميع، فلا كلام، (1 وإن قلنا بالصحة، فللمشتري الخيار؛ لمكان التبعض، فإن فسخ، فلا كلام 1). وإن أجاز، فيجيز بكل الثمن أو بقسطه؟ فعلى قولين مشهورين جاريين في تفريع التفريق، سيأتي بيانُهما في البيوع. إن شاء الله تعالى.
1983 - قال صاحب التقريب: من أئمتنا من قال: يجيز المشتري بجميع الثمن حيث انتهينا إليه، والسبب فيه أن الشاة ليست معينة ولا جزءاً، فأخذها بمثابة عيب شائع في المبيع، وإذا اطلع المشتري على عيب قديم ثم رام الإجازة، فلا يُحَطّ عنه مقدارُ أرش العيب، وإن كنا قد نعتبر أرش العيب في بعض الصور، ولكنه يجيز البيع بالتمام، كذلك القول في مال الزكاة.
وهذا تخييلٌ لا تحصيل له، وليس مما يجوز ربط المذهب بمثله. نعم إن لم يكن بدٌّ من استعمال هذا المعنى، فقد استعملناه في تأكيد فساد البيع، والذي يوضح ذلك أنه لو صح ما ذكره، للزم بحسبه القطعُ بصحة البيع؛ فإن بيع المعيب جائز غيرُ ممتنع.
فهذا تفريع فصل البيع على تعلق الزكاة، وقد جمعنا أطراف الكلام، حيث انتهينا إلى تفريع تفريق الصفقة، وأوضحنا ما تعلق بخاصية الزكاة.
الفصل الثاني
في التفريع
حكم طريان الوجوب بعد البيع.
1984 - فنقول: من ملك أربعين شاة، وباعها قبل انقضاء الحول، فلا شك في صحة البيع، فلو انقضى حولُ المشتري في ملكه، وأوجبنا الزكاة، ثم إنه اطلع على عيب قديم، فإن فرعنا على قول الذمة كما فصلتُه، نُظر: فإن أدى المشتري الزكاة من
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/219)


عين الأربعين، ثم اطلع، فهل يملك ردَّ ما أبقى؟ فعلى قولين، كما لو اشترى عبدين، فمات أحدهما في يده، ثم وجد في الباقي منهما عيباً، فهل يرده؟ فيه اختلاف قولٍ وتفريع طويل، لا يختص بالزكاة، وسيأتي في موضعه. فهذا إن أدى الزكاة من عين المال.
(1 فأما إذا أدى الزكاة من غير المال 1)، والتفريعُ على قول الذمة؛ فإنه يملك الردَّ بالعيب الذي اطلع عليه.
وقد يأتي فيه وجه بعيد: أنه لا يرد قدر الزكاة، لجواز أن يكون ما أخرجه مستحَقاً، فيكون مقدار الزكاة معرضاً لأخذ الساعي، وهذا في حكم عيب جديد، يمنع من الرد بالعيب القديم، فهذا في قدر الزكاة، فأما ما وراء قدر الزكاة، فعلى قولي تفريق الصفقة انتهاءً، وهذا وجه ضعيف لا شيء (2)، فلا نعود إليه.
1985 - وإن فرعنا على قول العين، فإن أدى الزكاة من عين المال، فالقولان جاريان في رد الباقي كما تقدم.
وإن أدى الزكاة من مالٍ آخر، فإن قلنا: تعلّقُ الزكاة كالرهن أو الأرش، فيجوز الرد بالعيب؛ فإن من اشترى عبداً، فرهنه، أو جنى، وتعلق الأرش [برقبته] (3)، ثم [فك] (4) الرهن، وفدى العبدَ، واطلع بعد ذلك على عيب، فله الرد، ولا أثر لما جرى طارئاً ثم زال.
وإن قلنا: يستحق المساكين جزءاً، ولم نفرع على قول الوقف، فقد زال [الملك] (5) عن مقدار الزكاة، ثم لما أدّى من مالٍ آخر، عادَ.
وهذا يخرج على أصلٍ، وهو أن الملك الزائل العائد كيف يكون حكمه في تفريع
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(2) كذا في النسخ الخمس. فهل المعنى: لا وزن له، ولا يساوي شيئاً؟ أم أن الكلمة محرفة عن "لا شك"؟؟ وكيف تتحرف في النسخ الخمس؟.
(3) في الأصل، (ط)، (ك): فيه.
(4) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): انفك.
(5) في جميع النسخ، ما عدا (ت 2): المال.

(3/220)


الرد، وفيه خلاف معروف جارٍ في مسائلَ وأبوابٍ. فلو اشترى الرجل عبداً، ووهبه وسلّمه، ثم عاد إليه بهبة، واطلع على عيبٍ قديم، فهل يرده؟ فيه اختلاف مشهور، يجري في أحكام شتى.
هذا بيان ما أردناه. وما أشرنا إليه رمزاً رأيناه بيّناً، فلم نُعده، كالتفريع على قول الوقف، وهو ما حكاه صاحب التقريب.
الفصل الثالث
1986 - إذا ملك الرجل أربعين شاة، ووجبت الزكاة فيها، فلم يُخرج الزكاةَ حتى مضى حول ثانٍ، ولم يزد المالُ بالنتاج أيضاًً، فإن قلنا: يستحق المساكين قدر الزكاة من عين المال، فقد نقص النصاب في انقضاء الحول الأول، فلا تجب الزكاة في الحول الثاني، ولا تجب الزكاة على أهل الزكاة، حتى نقدرهم مخالطين، ونوجب زكاة الخلطة.
وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، أو تتعلق بالعين تعلُّق الدين بالرهن، أو تعلُّقَ الأرش، فيخرج هذا على أن الدين هل يمنع تعلّق الزكاة بالعين؟ وسيأتي شرح ذلك بعدُ، إن شاء الله عز وجل. وإنما ينتظم مرادنا في شرح المشكلات، إذا آثرنا الإيجاز والاختصار في البينات.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المال لا يزيد بالنتاج، فأما إذا كان يزيد بحيث لا ينتقص النصاب، مع تقدير إخراج الزكاة، فلا شك في تجدد الوجوب في آخر كل حول.
الفصل الرابع
1987 - لو أصدق الرجل امرأته أربعين من الغنم السائمة، فحال الحول في ملكها، وجبت الزكاة عليها، سواء كان الصداق في يده، أو في يدها، وتعرضه للتشطر، لا يتضمن نفي الزكاة في الشطر الذي يتوقع رجوعه إلى الزوج بالطلاق قبل

(3/221)


المسيس، فإن وجبت الزكاة عليها، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، فلا يخلو إما إن أخرجت الزكاة من عين المال، ثم طلقها، أو أخرجتها من مالٍ آخر، ثم طلقها، أو لم تخرجها أصلاً.
فإن أخرجتها من عين المال، ثم طلقها بعد ذلك، ففيما يرجع الزوج به أقوال سيأتي شرحها في كتاب الصداق - إن شاء الله تعالى. أحدها - أن الزوج يرجع في نصف الباقي، ونصف قيمة الشاة التي أخرجتها.
والثاني - أنه يرجع بمقدار نصف الأربعين من التسعة والثلاثين، وقد تختلف قيم الشياه.
والقول الثالث - أنه بالخيار إن شاء رجع بنصف الباقي، وبنصف قيمة الشاة المخرجة، وإن شاء رجع بقيمة نصف الأربعين، وترك الرجوع في العين، وذلك لمكان تبعض حقه عليه، ولا مطمع في تقرير ذلك، وهو من غمرات كتاب الصداق، وفيها يتبين الحصر والشيوع، وما يتعلق بهما.
هذا إذا كانت أخرجت من عين الصداق.
1988 - فأما إذا أَخرجت من مالٍ آخر لها شاةً، ثم طلقها الزوج، فإن لم نجعل حق المساكين شركة، فالزوج يرجع إلى النصف من الأربعين، وطريان الرهن (1) وتعلّق الأرش غيرُ مؤثر.
وإن أثبتنا حق المساكين شركةً في المال، فإن فرعنا على قول الوقف الذي حكاه صاحب التقريب، فالجواب كما مضى، فإنها إذا أدت الزكاة من مالٍ آخر، بنينا على ذلك أن لا شركة، وإن فرعنا على ظاهر المذهب، فقد زال الملك عن شاةٍ، وعاد، فيخرج هذا على الملك، الزائل العائد، وفيه وجهان: أحدهما - أنه كالملك الذي لم يزل أصلاً، ويرجع الزوج بنصف الأربعين. والثاني - أنه كالملك الزائل الذي لم يعد، فيجعل كما لو أخرجت شاة من الأربعين، ثم طلقها قبل المسيس. ولكن في
__________
(1) إشارة إلى تعلق الزكاة بالأربعين كتعلق الدين بالرهن أو كتعلق الأرش برقبة العبد.

(3/222)


هذا إشكال، وهو أن الشاة التي تخرجها من عين الصداق متعيّنة، فلينتظم (1) أقوال فيما يفعله الزوج في الباقي، كما تقدم.
1989 - فأما إذا زال الملك، وعاد، وقلنا: لا رجوع في الزائل العائد، وهو غير متعيَّن، فإذا لم يرجع فيه، فكيف سبيله في الرجوع في الباقي؟ ذكر الشيخ أبو بكر تردداً حاصله وجهان: أحدهما - أنه في الباقي على الأقوال الثلاثة التي ذكرناها إذا أخرجت الشاة من الأربعين.
والثاني - أنه لا يرجع في شيء من الباقي؛ لأن العائد في حكم الشائع، وليس جزءاً يهتدى إليه على (2) الشيوع؛ فيمتنع لهذا السبب الرجوعُ في الباقي، ويتعيّن حقُّ الرجوع في القيمة، فيرجع بنصف قيمة الأربعين.
1990 - ولو وجبت الزكاة عليها، فلم تخرجها حتى طلقها زوجها قبل المسيس، فإن جعلنا حق المساكين شركةً، ولم نفرع على الوقف، فلنجعل كأن تلك الشاةَ مخرجة؛ فإنها لو أدت بعد الطلاق شاةً من موضع آخر، فعود الملك بعد الطلاق لا أثر له، وإنما الاختلاف إذا زال ملكها، وعاد قبل الطلاق.
وإن لم نجعل حقَّ المساكين شركة، وجعلناه كالمرهون، فلو امتنعت عن إخراج الزكاة من سائر مالها، فيد الساعي تمتد إلى الصداق لا محالة، فإذا أخذ شاةً، فهو كما لو أخرجت الزكاة من عين الصداق بنفسها قبل الطلاق، ففي رجوع الزوج التفصيل المقدّم؛ وذلك أن المخرج بسبب الوجوب عليها بمثابة ما تخرجه بنفسها.
وهل يجب عليها أن تخرج الزكاة من سائر مالها، إذا قدرت عليه؟ فيه تردد للأئمة، منهم من أوجب؛ فإنها قادرة على [تخليص] (3) حق الزوج، ومنهم من لم يوجب.
__________
(1) (ت 1): فتنتظم.
(2) ساقطة من (ت 1).
(3) في الأصل و (ط): تخصيص.

(3/223)


وكذلك لو أصدقها عبداً، فرهنته، فطلقها [هل] (1) يجب عليها فك الرهن؟ والوجه عندي القطع بإلزامها فكَّ الرهن، كما يجب على المستعير ليرهن (2) أن يفك الرهن على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل. وكذلك الوجه القطعُ بإلزامها تأديةَ الزكاة، إلا على قولنا الزكاة شركة؛ فإذ ذاك يحتمل ألا نوجب. فافهم.
1991 - ولو جنى العبد المصْدَق، لم يلزمها فداؤه، وكذلك العبد المرهون، إذا جنى، لم يتوجه على الراهن فداؤه، فإذا فرعنا على أن تعلّق الزكاة بمثابة تعلق الأرش، فلا يلزم المرأة أن تؤدي الزكاة، من مالٍ آخر.
فهذا تمام مقصودنا هاهنا، وبقايا التفريعات في الحصر والشيوع في كتاب الصداق.
1992 - ولو طلقها زوجها قبل الحول، فانقضى الحول والأربعون بينهما نصفان، فيجب عليها نصف شاة، لمكان الخلطة، ولا يخفى أمره إذا تم حوله. وقد ذكرنا ما في هذا من خلاف ووفاق، في باب الخلطة. ثم (3) غرضنا في بيان معنى تعلق الزكاة. والله المعين.
...
__________
(1) في الأصل و (ط) و (ت 2): حتى، وفي (ك): حين. والمثبت من (ت 1).
(2) كذا. والمعنى: أن المستعير يلزمه فك رهن المستعار إذا رهنه.
(3) كذا في النسخ الخمس. ولعلها: "تَمَّ غرضُنا" بالتاء المثناة.

(3/224)


باب رهن الماشية
1993 - مضمون هذا الباب مأخوذ مما تقدم في تعلّق الزكاة.
فإذا ملك الرجل أربعين شاة، ووجبت الزكاة فيها، فرهنها، فالقول في صحة الرهن وفساده في قدر الزكاة، كالقول في البيع من غير فرق وترتيب؛ فإنَّ ما صح بيعُه، صح رهنه، وما لا فلا.
وإذا أفسدنا الرهن في مقدار الزكاة، ففي الباقي قولان مرتبان الآن على البيع.
والرهن أولى بالصحة وأقبل للتفريق؛ من جهة أن جهالة العوض تؤثر في البيع، ولا عوض في الرهن، وكل جزء من المرهون رهنٌ بجميع الدين، وسيأتي ذلك في باب تفريق الصفقة. إن شاء الله تعالى. فليتجاوز الناظر إذا أحلناه (1).
ثم ذكرنا تخيّر المشتري على قول تجويز التفريق. والتخيّر (2) ثابتٌ للمرتهن، إذا كان الرهن مشروطاً في بيعٍ، وفائدته أن يفسخ البيع، وإن لم يكن مشروطاً في بيعٍ، فلا معنى لإثبات التخيّر، فإن المرتهن أبداً بالخيار في فسخ الرهن.
1994 - ومما يتعلق بالباب أنه لو رهن نصاباً، قبل وجوب الزكاة، وقلنا: الدين لا يمنع (3 وجوب الزكاة، أو كان للراهن أموالٌ تفي بالدين، فإذا وجبت الزكاة في يد المرتهن، فإن لم يكن للراهن مالٌ سواه، وقلنا: الدين لا يمنع 3)، فقد قال شيخي: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالمال تعلق الدين بالرهن، فحق المرتهن مقدم على الزكاة؛ فإن الرهن في حقه سابق، والمرهون لا يُرهن، فإن كان دينُ المرتهن مستغرقاً لقيمة النعم صُرف إلى دينه.
__________
(1) في (ت 1): أجلناه.
(2) في (ت 2): التجويز.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(3/225)


وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالمال تعلق شركة واستحقاق، فمقدار الزكاة مقدّم على حق المرتهن، وإن قلنا: تعلقه تعلق الأرش، فمقدار الزكاة مقدم أيضاًً؛ فإن العبد المرهون لو جنى، تَعَلَّقَ الأرشُ برقبته، فإن لم يفْدِه الراهن، بيع في الجناية، ولم يُنظر إلى بطلان حق المرتهن من وثيقة الرهن، هكذا رتب رضي الله عنه.
والذي أراه أن مقدار الزكاة مقدمٌ، على قولنا إنّ تعلّقها تعلّق المرهون، ولا ينبغي أن يعتمد الباحث اللفظَ، ونحن إنما قدمنا أرش الجناية؛ من جهة أن تعلقه بالرقبة لا يستدعي اختيار الراهن، فإذا كان تعلقُ الأرش يزحم حق المالك في ملكه، فكذلك يزحم حق المرتهن في وثيقته، والرهن إنما يمنع الراهن من اختيار تصرفٍ ينافي ما التزمه للمرتهن، من حق الاختصاص. فأما ما يثبت من غير اختيار، فينبغي أن يزاحم حقَّ المرتهن. وكيف يستقيم الحكم بوجوب الزكاة والمالك لا مال له غيرُ المرهون، ثم يد الساعي مقبوضة عن تتبع المال، الذي وجبت الزكاة بسببه، هذا ما لا يكون.
وقد حكينا من وفاق الأئمة أنا إذا فرعنا على القول المشهور بالذمة، ونفذنا البيعَ بعد وجوب الزكاة، فالساعي إذا لم يجد البائعَ، اتبع عينَ المال، وأخذ منه حق المساكين، ثم يبطل البيع في ذلك المقدار، ويتفرع تفريق الصفقة انتهاءً؛ فإذاً ليس من غرض الأئمة في الفرق بين تعلّق الرهن، وتعلق الأرش أن يثبتوا الزكاة في المرهون على قول الأرش، وينفوها على قول الرهن، بل غرضهم أنا على قول الرهن نقطع ببطلان البيع في مقدار الزكاة، وعلى قول الأرش نُردِّد القول كما سبق. فالوجه القطع بإخراج الزكاة من المرهون، إذا كان لا يجد الراهن ما يؤدي زكاةً [غيرَ] (1) المرهون.
1995 - ثم إذا أخرجنا الزكاة عن (2) المرهون، فلو تمكن الراهن وأيسر، فهل يلزمه أن يَرهَنَ مقدارَ الزكاة جبراً للنقص الذي وقع في المرهون بأخذ الزكاة منه؟ قال الصيدلاني: إن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فيجب ذلك عليه، وإن قلنا: الزكاة تتعلق
__________
(1) كذا في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): عن. والمثبت من (ت 1) وحدها.
(2) كذا في جميع النسخ وهي مرادفة لـ (من)، نصّ على ذلك أهل الصناعة.

(3/226)


بالعين، ففي وجوب ذلك وجهان، مبنيان على أن الزكاة إذا وجبت في مال القراض، والتفريع على أن العامل لا يملك ما شُرط له قبل المقاسمة، فإذا أخرجت الزكاة منه، فمن أئمتنا من قال: سبيل الزكاة سبيلُ المؤن الواقعة في المال، فتحسب من الربح. ومنهم من قال: إخراجها بمثابة استرداد طائفةٍ من المال. فإن جعلناها كالمؤن، فلا يمتنع ألا نوجب على الراهن جبرَ النقصان إذا أيسر، وإن جعلناها كاسترداد طائفةٍ من مال القراض، فيتجه إيجابُ الجبران.
وما ذكره من الاحتمال متجهٌ، ولكن في البناء نظر، من جهة أن نفقات عبيد القراض من الربح، ونفقة المرهون واجبةٌ على الراهن.
والوجه أن نقول في تخريج الاحتمال: من رهن عبداً وسلّمه، فجنى جنايةً، وتعلّق الأرش بالرقبة، فلا يجب على الراهن أن يفديه، فلو سلّمه حتى بيع، لم يلزمه للمرتهن بسبب فوات الرهن شيء، والزكاة تثبت قهراً من غير اختيار الراهن، فكان لزومها كلزوم الأرش، ولكن مثار الاحتمال ما قدمناه في تمهيد تعلق الزكاة، وهو أن الأمر متوجه بتأدية الزكاة والتقرب بها على المالك، ولا يتوجه الأمر على السيد في الأرش، فقطعنا القول في الأرش بأنه لا يجب جبرُه للمرتهن. والزكاة من حيث إنها مأمور بها، والمالك مثاب عليها، فإذا اتفق أداؤها من مال الرهن وقعت (1) حقاً للراهن، فاتجه إيجاب الجبران عليه، وإن لم يكن وجوبها باختياره.
ثم ينتظم أن نقول: إذا فرعنا على قول الذمة، فهذا يشير إلى تغليب الخطاب، والأمرُ بإيجاب الجبران أوجَهُ.
وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، فهذا يشير إلى تضعيف تعلق الذمة من وجه، ثم قد يخطر للفقيه أنا إذا فرعنا على قول الاستحقاق والشركة، فذكر الخلاف في الجبران ظاهر، ولكن نفيه أوْجَهُ في القياس.
فهذا تحقيق الفصل.
__________
(1) في (ت 1): وقطعت.

(3/227)


1996 - ثم قد ذكر الشيخ أبو بكر: أن الراهن إذا كان يتمكن من تأدية الزكاة من مالٍ آخر، فهو محتوم عليه على الأقوال. وإنما التردد في صورة الإعسار، [كما مضى.
وأنا أقول: إن قلنا: بوجوب الجبران في صورة الإعسار] (1) إذا طرأ عليها الإيسار، فيجب على الموسر ابتداءً أن يؤدي الزكاة من مالٍ آخر. وإن قلنا [في صورة الإعسار: لا يجب الجبران، فلا يتعين على الموسر تأدية الزكاة من مالٍ آخر] (2) كما لا يجب عليه فداء العبد المرهون إذا جنى.
...
__________
(1) ساقط من الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2).
(2) ساقط من الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2).

(3/228)


باب زكاة الثمار
1997 - روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمسة أوْسُق من التمر صدقة إلى آخره" (1) صدر الشافعي الباب بذكر مذهبه في أن النصاب مرعيٌّ في المعشَّرات، فمن أنبتت له الأرض وأخرجت له الأشجار أقلَّ من نصاب، لم يلزمه العُشر، والمعتمد الخبر.
وأوجب أبو حنيفة (2) العشرَ في القليل والكثير، غيرَ أنه قال: ما دون خمسة أوسق يتولاه المالك بنفسه، ولا يلزمه تسليمه إلى الوالي، فإذا بلغ خمسة أوسق، لزمه تسليمه إلى الساعي.
وقال داود: ما يوسق من مكيل أو موزون يعتبر فيه خمسة أوسق، ولا تجب الزكاة [فيما] (3) دونه، وما لا يوسق تجب الزكاة في قليله وكثيره.
وعندنا ما يوسق فالنصاب مرعي فيه، وما لا يعتاد توسيقه، فالوَسْق معتبر فيه.
1998 - ثم الوَسْق ستون صاعاً، والصاع أربعةُ أمداد، والمُدُّ رِطلٌ وثلث، فمجموع الأوسق الخمسة ثمانمائة مَن (4).
ثم الذي قطع به الصيدلاني أن ذلك تقريب، وليس بتحديد، وذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه تقريب كما ذكرناه، والثاني - أنه تحديدٌ، ثم قالوا عليه: إن
__________
(1) حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق .... " متفق عليه، من حديث أبي سعيد الخدري. (ر. اللؤلؤ: 569 ح 567).
(2) ر. رؤوس المسائل: ص 211، مسألة: 111، ومختصر الطحاوي: 46، وتحفة الفقهاء: 1/ 496.
(3) زيادة من (ك) وحدها.
(4) المن: رطلان.

(3/229)


نقص ثلاثة أو خمسة أرطال، فلا بأس. والقول في ذلك من خاصية كتابنا؛ فالأولون يتجاوزون أمثالَه، لا عن تقصيرٍ أو عدم إحاطة، ولكن اعتمدوا أفهام طلبة زمانهم، والآن فأمثال هذا مما لا يستقل به بنو الزمان. والله المستعان.
وقد قدمنا في كتاب الطهارة تردّدَ الأصحاب في أن قلتين تقريب (1) أو تحديد، أتينا (2) فيه بالكلام البالغ. ونحن الآن نسلك في ضبط القول في هذا مسلكاً عجيباً بدعاً، إن شاء الله تعالى.
فنقول: الصاع قد يحوي نوعاً من الحنطة الحدْرة (3) الرزينة، ولو ردَّ مِلأها إلى الوزن، لكانت مبلغاً، وملؤها من الحنطة [الرخوة] (4) دون المبلغ الأول بكثير، وهذا واضح في التصوير، وذلك يجري في التمر العَلِك (5) والزبيب، جريانه في الحنطة والشعير.
1999 - فنقول بعد ذلك: ما علقه الشارع بالصاع، أو المُد، فهو تقدير وِفاقاً، كالصاع في صدقة الفطر، والمد في الكفارة، والفدية. ثم الذي لا أستريب فيه أن الصاعَ والمُدَّ لا يُعنى بهما ما يحوي البر وغيره، وإنما هو مقدار موزون مضاف إلى صاعٍ، أو مد، والصيعان يبعد ضبط أجوافها على وتيرةٍ حتى لا تتفاوت، وقد تكون متسعة الأسافل متضايقة الأعالي على تخريط، ويعسر تساوي صاعين، ثم تفاوت الأوزان في الأنواع ليس من النادر الذي يتسامح فيه.
قلت: وكنت بمكة أرى ملء صاعٍ من الحنطة المجلوبة من سراة (6) المسماة
__________
(1) في (ت 1): تقدير.
(2) في (ت 1) وأتينا.
(3) الحدارة في الحنطة: امتلاء حبها وسمنها (الزاهر/فقرة: 453).
(4) في الأصل و (ط) و (ك): الوجوه.
(5) يقال: طعام عَلِك أي متين مضغُه. (المعجم).
(6) سراة: اسمٌ لأكثر من موضع، منها ما هو في بلاد اليمن، أعلى الجبال الحاجزة بين تهامة ونجد. ولم أجد عند ياقوت ما يشتهر منها بالحنطة، كما لم أجد شيئاً عن الحنطة الحجرية.
راجعت معجم البلدان لياقوت، والزاهر، وأنيس الفقهاء، وحلية الفقهاء، وغيرها من المعاجم، فلم أظفر بطائل.

(3/230)


الحجرية، تزن خمسة [أمناء] (1)، وملء ذلك بعينه من الحنطة المصرية أربعة، أو أقل، فإذا اتفق الأئمة على مقدارٍ موزون، دلّ أنهم عَنَوْا بالصاع هذا المقدار، فالصاع في الفطرة خمسة أرطال وثلث، والمُدُّ رطل وثلث، ولا ينبغي للفقيه في هذا المقام أن يلاحظ التساوي المرعي في الربويات؛ فإن بيع الحنطة بالحنطة صاعاً بصاع جائز مع اختلاف الأنواع، وتفاوت الأوزان، وذلك لأن المماثلة التي تُعبدنا بها في الربويات لا ترتبط بتعليلٍ معنوي مستقيم على السَّبْر، فاتّبعنا فيه قول الشارع، وقد قال في سياق حديث الربا: "إلا كيلاً بكيل".
والذي يوضّح الحقَّ في ذلك أن ما كان مكيلاً في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز بيع بعضه ببعض وزناً بوزن، وإن كان الوزن فيه أحصر وأضبط، وما اعتيد الوزن فيه لا يستعمل الكيل فيه، فقد انفصل هذا الباب مما نحن فيه.
هذا قولنا في الصاع والمدّ.
2000 - فأما الوَسْق، فقد فسره أئمة اللغة أنه ستون صاعاً، ولكن لسنا فيه على تحقق ظاهر، ولا يبعد أنه وِقرٌ مقتصد، فلما لم يكن الوَسْقُ كالصاع الذي أوضحناه، تردد فيه الأئمة: فقال بعضهم: الوَسْق ستون صاعاً والصيعان متقدّرةٌ شرعاً، فكل وَسْق بالوزن مائةٌ وستون منّاً، والخمسة الأوسق ثمانمائة منٍّ، فنحمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأوسق على هذا، كما نحمل الصاع في نفسه على المقدار الذي ذكرناه.
ومن حمل ذلك على التقريب، فأقرب مسلك فيه أن نتخيل الصيعان من الحب الرزين، أو من التمر العلِك، ثم نعتبر الخفيف من كل نوع، ثم يحمل على الوسط.
هذا طرِيق التقريب، ويمكن أن يعبر عنه بأن الأوساق هي الأوقار، والوِقر المقتصد مائة وستون مناً، فكل نقصان لو بُثَّ (2)، وفرق على الخمسة، لم يُقَل: إنها منحطة عن الاعتدال، فهو غير ضائر، وما يُظهر الانحطاطَ، فهو مُنْقِصٌ، ولو أشكل
__________
(1) جمع من بدون تشديد، وفي (ت 1): أمننا.
(2) (ت 1): بُتَّ، و (ت 2): ثبت.

(3/231)


الأمر، فالأظهر على التقريب، أنه لا يؤثر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علّق باسم الأوسق، ولا يبعد أن يميل الناظر إلى النفي استصحاباً للقلة إلى تحقق الكثرة.
فهذا منتهى الإمكان الآن. والعجب ممن يطيب له ذكر ثلاثة أرطال، أو خمسة، وهو لا يدري من أين يقول ما يقول. والله ولي التوفيق بمنه ولطفه.
فصل
قال: "والخليطان في النخل يصَّدَّقان صدقة الواحد ... إلى آخره" (1).
2001 - وقد ذكرنا في باب الخلطة اختلاف القول في أن الخلطة هل يثبت حكمها في النخيل؟ وحاصل المذهب ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا حكم للخلطة فيها، ولكل مالكٍ حكم ملكه، ولا فرق بين الشركة والجوار.
والقول الثاني - أنه تثبت [الخلطتان جميعاً.
والثالث - أنه تثبت خلطة الشركة، ولا تثبت خلطة الجوار.
ثم فرع الشافعي على أن] (2) خلطة الشركة يثبت حكمها، فقال: "لو خلّف ميت نخيلاً مثمرة بين ورثة، فبدا الصلاح في ملكهم، فكانت الثمار خمسة أوسق، إذا صارت تمراً؛ فيجب العشر، فلو اقتسموا النخيل في البستان، قبل بدو الصلاح، وكان لا يبلغ نصيب الواحد خمسة أوسق، فالنخيل متجاورة، وقد زالت الشركة بالقسمة (3)."
فإن قلنا: خلطة الجوار كخلطة الشركة، فحكم الزكاة قائم، كما كان قبل القسمة، وإن قلنا: لا تثبت خلطة الجوار، فلا عشر على واحد منهم؛ إذ نصيبه ناقص [عن النصاب] (4).
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 223.
(2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(3) ر. المختصر: 1/ 223، 224 بمعناه.
(4) في الأصل و (ط) و (ك) و (ت 2): عنهم. والمثبت من (ت 1) وحدها.

(3/232)


2002 - اعترض المزني وقال: كيف تصح القسمة في الثمار، والقسمةُ بيعٌ، وبيع الرطب بالرطب باطل، فقال الأصحاب: قال الشافعي في الكبير: لو اقتسموا قسمة صحيحةً، فنبّه على ما ذكرتُه، وغرضه أن يتفاصلا، وتصوير ذلك بوجه من المقابلة ممكن من وجوه: منها أن الورثة اثنان زيد وعمرو وبينهما نخلتان شرقية وغربية، ولكل واحد منهما النصف من أصل كل نخلة وثمرتها، فيبيع زيد نصيبه من النخلة الشرقية، من عمرو أصلها وثمرتها بعشرة، ويبيع عمرو نصيبه من أصل النخلة الغربية وثمرتها، من زيد بعشرة، ثم يتقاصَّان العشرة بالعشرة، فتخلص الشرقية لعمرو، والغربية لزيد. فهذا وجه في التفاصل.
ووجهٌ آخر، وهو أن يقول زيد لعمرو: بعت منك نصيبي من أصل النخلة الشرقية، بنصيبك من ثمرة النخلة الغربية، ويقول عمرو لزيد بعت منك نصيبي من أصل النخلة الغربية بنصيبك من ثمرة النخلة الشرقية، فإذا قبلا، خلصت الشرقية لأحدهما بثمرها، وخلصت الغربية للثاني، ولا ربا؛ لأن الجذع من كل نخلة هو المجعول عوضاً للنصيب من الثمرة. وهذا القدر كاف في التصوير.
والصيدلاني لما ذكر الوجه الثاني، قال: هذا مما لم يذكره الشيخ (1)، فقضَّيتُ العجب من هذا، فأين يقع التصوير من معاصات الفقه، حتى ينتهي التأنق (2) إلى
__________
(1) لم يبين إمام الحرمين المقصود بالشيخ هنا، وهو لقب مشترك أعيانا تتبعه لنعرف من المقصود به، حتى ترجح لدينا، بل تيقّنا أنه عند إطلاقه يريد به الشيخ أبا علي السنجي، ولكن هل يمكن هنا، في هذا الموضع، وهو يجريه على لسان الصيدلاني أن يراد به السنجي أيضاًً؟؟ احتمالٌ قائم ولكن يعكر عليه أن الصيدلاني معاصر للسنجي، فقد توفي الأول سنة 427 هـ والثاني سنة 430 هـ. وغير معهود حكاية أقوال المعاصرين، ونقلها، إلا نادراً!! فهل الصيدلاني يقصد بالشيخ أستاذه أبا بكر القفال المروزي؟ فقد علق على المزني شرحاً يسمى عند الخراسانيين بطريقة الصيدلاني، وقد حررها عن شيخه القفال المروزي، كذا قال السبكي (طبقات الشافعية: 4/ 148، 149). ثم قول إمام الحرمين في السطور التالية، "وكأن الطبقة المتقدمة ... " يشهد بأن (الشيخ) الذي يقصده الصيدلاني ليس من طبقته، بل هو متقدم عليه بيقين، كذلك قوله: "قَطْع الأستاذ"، فهو يعجب من نقد الصيدلاني لأستاذه، لعدم تصوير المسألة. فنستطيع أن نقطع الآن بأن المقصود بالشيخ هو القفال.
(2) التأنق: طلب الأعجب، والأكمل. (معجم).

(3/233)


قَطْع (1) الأستاذ في تصوير، وكأن الطبقة المتقدمة فرغوا من معاصات الفقه، وأخذوا يستفرغون بعدها جُمام (2) الكلام في التصويرات.
نسأل الله تعالى حسنَ الإعانة، وتقييض منصفين ينظرون في مجموعنا هذا. وهو ولي التوفيق (3).
فصل
2003 - الأوسق التي ذكرناها تُعتبر في الزبيب والتمر، لا في العنب والرطب، إلا أن يكون الثمر بحيث لا يجفف، ولو جفف، يفسد، ففيه كلام سيأتي إن شاء الله تعالى، ثم الأوسق معتبرة في الحبوب الزكاتية لا محالة، فلو كانت على الحبوب قشور، فالمعتبر فيها أن الحبوب إن كانت بحيث تطحن مع ما عليها من قشر، كالذرةِ، فهي توسق مع قشورها، وإن كانت لا تطحن مع القشور، لم توسق مع القشور، كالبر وما أشبهه.
فصل
قال الشافعي: "وثمر النخيل يختلف، فثمر النخيل يُجدّ بتِهامة، وهي بنجدٍ بُسرٌ وبلح ... إلى آخره" (4).
2004 - مضمون هذا الفصل يتعلق بتكميل النصاب، وضم ثمرة نخلة إلى ثمرة نخلة.
ْفنقول: أولاً - إذا كان للرجل نخلة تثمر في السنة مرتين: كانت تُثمر وتُجدّ، ثم
__________
(1) قطع فلاناً بالحجة، غلبه وأسكته. (معجم)، والمعنى: كيف يصل الأمر في طلب الأكمل إلى المؤاخذة على تصوير المسألة وهل فرغت الطبقة المتقدّمة من مشكلات الفقه، وغوامضه، حتى يؤاخذوا على التصوير.
(2) جُمام: جُمام الإناء ملؤه، والمراد هنا تمامُ الكلام، وكلُّه. وفي (ت 1): جملة الكلام.
(3) هذا الدعاء يؤكد أن الصيدلاني يقصد (بالشيخ) متقدماً عليه، وليس السنجي.
(4) ر. المختصر 1/ 224.

(3/234)


تُطْلِع، وتثمر، وتُجَدّ، فقد قطع الشافعي، واتفق الأصحاب على أنه لا يضم الحَمْل الثاني إلى الحَمل الأول، حتى لو كان كلُّ حَمْلٍ ناقصاً عن النصاب، وكانا نصاباً، فلا عشر، والحَمْلان في السنة الواحدة كالحَمْلين في سنتين إجماعاً.
2005 - ثم إذا تمهد هذا قلنا: نخيل تِهامة أسرع إدراكاً من نخيل نجد، فإذا أطلعت نخيل الرجل بتهامة، ثم أطلعت نخيله بنجد، فقد يضم ثمار نجد إلى ثمار تِهامة، وقد لا يضم. ونحن نذكر الوفاق في طرفي النفي والإثبات، ونذكر موضع الخلاف.
فنقول: إن أطلعت نخيلُ تهامة، ثم أطلعت نخيل نجد قبل بدوّ الزهو والصلاح، في ثمار تهامة، فلا خلاف أنا نضم ثمارَ نجدٍ إلى ثمار تهامة، في تكميل النصاب.
ولو [جُدّت] (1) ثمارُ تهامة، ثم (2) أطلعت النجديّات، فلا خلاف أنا لا نضم، ثم نفرد ثمرةَ كل ناحية بحكمها.
ولو بدا الصلاح في التهاميّات، ولم تُجَدّ بَعْدُ، فأطلعت النجديات، فقد اختلف أئمتنا، فمنهم من يرى الضمَّ، وهو الذي قطع به الصيدلاني، ومنهم من لا يضم؛ فإن النجديات أثمرت بعد وجوب الزكاة في الثمار التهامية؛ إذ الزكاة تجب ببدوّ الصلاح، كما سنصفه إن شاء الله تعالى، فإذا تلاحقت قبل الوجوب، تضامَّت، وإذا وجد آخرها بعد وجوب الزكاة في أولها، فلا ضم وهذا اختاره بعض المصنفين، وزعم أنه المذهب.
فإذاً اعتبر بعض الأئمة الزهوَ، واعتبر بعضهم الجِداد، ووجهه أن الثمرة ما دامت على الشجرة، فله حكم التلاحق في العادة، والأحكام تتبع العادات فيما يتعلق [بالمعاملات] (3).
ثم الذين اعتبروا الجداد، اختلفت عبارتهم، والمحصَّل منها وجهان: أحدهما -
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ت 2)، (ك): وجدت. والمثبت من (ت 1).
(2) هنا خلل في ترتيب أوراق نسخة (ك). حيث انتقل الكلام متصلاً من نهاية ص 74 إلى أول ص 112.
(3) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): العادات. والمثبت من (ت 1) وحدها.

(3/235)


أن الاعتبار بوقوع الجداد، فإن لم يقع، فالثمار النجدية المطلقة (1) تلحق، والثاني - أن الاعتبار بدخول وقت الجداد، فلا ضم ولا إلحاق بعده، وإن تركت الثمار على الأشجار أياماً، فهي في ترك الضم كالمجدودة.
2006 - ثم تمام البيان فيه أنه قد يدخل وقت الجداد، بحيث لو فرض، لم يكن بعيداً، وإن كان تركه أياماً أَوْلى بها، فمن (2) يعتبر وقت الجداد لا عينَه، فالأمر فيه متردد عندي بين أول الوقت في الجداد وبين أوْلى الوقت فيه. ولعل النهاية التي هي الأولى أحق بالاعتبار، حتى تصير الثمار كأنها مجدودة. والله أعلم.
2007 - ثم فرع الشافعي مسألة وقال: إذا كانت له تِهاميّة تثمر في السنة مرتين، فلو أطلعت نجدية قبل جداد الثمرة الأولى، والتفريع على اعتبار الجداد، فثمرة النجدية مضمومة إلى الثمرة الأولى التهامية. فإذا [جُدّت] (3) التهامية، وبقيت ثمار النجدية، ولم تجد، حتى أطلعت تلك التهامية مرة أخرى، قال الشافعي: لا أضم الثمرة الثانية إلى ثمار النجدية، وعلل بأنه لو ضمها إلى ثمرة النجدية، (4 وهي مضمومة إلى الحَمل الأول للتهامية، فيلزم من ذلك ضمُّ الثمرة الثانية إلى التهامية الأولى منها بواسطة النجدية 4)، وذلك ممتنع لا سبيل إليه عنده.
وبمثله لو [جُدّت] (5) التهامية في حَملها الأول، ثم أطلعت بعدها نجديّة، فلا تضم إلى الحَمل الأول للتهامية، فلو أطلعت التهامية مرة أخرى، والنجدية لم تجد بعدُ، فالحمل الثاني من التهامية مضمومة إلى ثمار النجدية، على قياس الضم؛ إذ ليس [في هذا الضم] (6)
__________
(1) (ت 2): المطلعة.
(2) (ت 2): فهل.
(3) في الأصل، (ط)، و (ك): وجدت.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(5) في الأصل، (ط)، (ت 2)، (ك): وجدت.
(6) في الأصل و (ط) ليس للضم، وفي (ت 2): ليس في الضم، وفي (ك) ليس الضم. والمثبت عبارة (ت 2).

(3/236)


ما استبدعناه (1) في المسألة الأولى، من ضم حَمْل شجرة إلى حملها. وهذا بيّن.
فصل
قال الشافعي: "ويُترك لصاحب البستان جيّدُ الثمر ... إلى آخره" (2).
2008 - إذا اشتمل البستان على أنواع محصورة من الثمار، وكان الأخذ من كل نوع بقسطه متيسراً، فإنا نفعل هذا؛ فإن التبعيض فيها لا يجرّ ضرراً. وليس كما إذا تعددت أنواع الماشية، مع اتحاد الجنس؛ فإنّ القول اختلف فيها، ففي قولٍ نعتبر الأغلب، وفي قولٍ نعتبر قيمَ الأنواع ونقسطها، ونأخذ ما يتوزع من قيمتها، ونصرفه إلى نوعٍ. والتشقيصُ على كل قولٍ في الحيوان مجتنب، ولا تعذّر في تشقيص الثمار؛ فإنها قابلة للتجزئة.
فأما إذ كثرت الأنواع، وعسر تتبعُ كل نوع، وإخراج العشر من كل واحد، فقد اتفق الأئمة على أنا نعتبر الوسط، فنترك الجيد البالغ من البَرْنيِّ (3) والكَبيس، ولا نأخذ الرديء كالجُعْرور (4) ونحوه، فنرتاد نوعاً وسطاً بين الجيد والرديء، والغرض في الحيوان والمعشرات توفيةُ الوسط على أيسر وجه على المستحقين.
...
__________
(1) كذا في جميع النسخ، فهل هي: "استبعدناه"؟ وقد نقل النووي عبارة إمام الحرمين هذه في المجموع بتصرف، فقال: "لأنه لا يلزم من هذا الضم المحذور الذي ذكرناه" (ر. المجموع: 5/ 460).
(2) ر. المختصر: 1/ 225.
(3) البَرْني: نوعٌ من أجود التمر. وهو فارسي معناه حَمْل مبارك: بَرْ = حِمل، ني = جيد. (ر. المصباح). والكبيس من أجود التمر أيضاًً.
(4) جعرور وزان عصفور: نوع رديء من التمر (المصباح). والنهي عن أخذ الجعرور ورد في حديث أبي أمامة بن سهل عن أبيه عند أبي داود: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجُعرُورِ ولونِ الحُبَيْقِ أن يؤخذا في الصدقة" قال الزُّهري: لونين من تمر المدينة. (ر. أبو داود: الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، ح 1607).

(3/237)


باب كيف تؤخذ صدقة النخل والكرم والخَرْص
2009 - أولاً - نصدّر الباب بأن الخرص ثابتٌ شرعاً، وقد خرص عبدُ الله بنُ رواحة نخيل خيبر على أهل خيبر، في قصة مشهورة (1)، وكيفية الخرص أن يأتي الخبير بأقدار الثمار، وما تصير إليه إذا جفت الأشجار، ويحزر قدرَ كلِّ نوع على الأشجار، ثم يستبين أن كل نوع إذا جف، فإلى أي مقدار يرجع، ثم يضبط المبلغ ويخبر عنه، فهذا صورة الخرص.
ثم اختلف القول في أن الخارص الواحد يكفي أم لا بد من خارصين؟ كما اختلف القول في القاسم، وسأجمع في ذلك قولاً شافياً، أذكر فيه مواقع الوفاق والخلاف، فيما يُشترط العدد فيه، وفيما يكتفى فيه بالواحد، في كتاب الشهادات، إن شاء الله تعالى.
2010 - فإذا ثبت أصلُ الخرص، فالذي نرتبه عليه بيانُ القول في أن العُشر متى يجب في الثمار والزروع؟ فالذي ذهب إليه الأئمة، وشهدت به النصوص أن حق المساكين يتعلق بالثمار إذا بدا الصلاحُ فيها، كما سنصفُ (2 معنى بدو الصلاح في كتاب البيع -إن شاء الله تعالى- وبدو الاشتداد في الحب بمثابة 2) بدو الصلاح في الثمار، وتمام الاشتداد في الحب، ليس شرطاً، كما أن تمام الصلاح غيرُ مرعي في الثمار.
ثم إذا وجب حق المساكين، فيجب حقُّهم تمراً وزبيباً، وحباً مشتداً منقًّى، ولا خلاف أن الخطاب بالتأدية لا يتوجه قبل انتهاء مدة المعشَّرات نهاياتِها، التي يتأتى تأدية العشر كما وصفناه منها.
__________
(1) حديث خرص عبد الله بن رواحة، رواه أبو داود، والدارقطني عن عائشة (ر. أبو داود: الزكاة، باب متى يخرص التمر، ح 1606، والبيوع، باب في الخرص، ح 3413، والدارقطني: 2/ 134، والثلخيص: 2/ 171 ح 848).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/238)


فهذا حكم الوجوب من غير إيجاب التأدية، وإن كان تأدية الثمر وما في معناه ممكناً، باعتبار الخرص.
2011 - وذكر صاحب التقريب قولاً غريباً في كتابه: أن حق المساكين إنما يجب عند جفاف التمر والزبيب، وتمييز الحب، وزعم هذا القائل أن وجوب الزكاة في وقت وجوب تأديتها، لا يتقدم الوجوب على الأمر بالأداء.
وهذا شبيه بالقول الذي حكيناه في أن الإمكان من شرائط الوجوب، ولعل ما ذكره أقرب في ظاهر النظر من قول الإمكان؛ فإن الواجب التمرُ، وإيجاب التمر قبل وجوده أبعد من الحكم بوجوب زكاة المواشي والنقود في الذمة، مع ارتقاب من يسلّم إليه.
وهذا الذي نقله بعيد (1) غير معدود من المذهب عندي.
2012 - ومن أجرى الأبواب كلَّها على قياسٍ، ولا (2) يُجوِّز أن يتميز كل باب بخاصية، فليس مِن طلب الحقيقة في شيء، فليعلم الناظر أن الثمار يخلقها الله تعالى على تدريج، وفيها منتفع عظيم قبل الجِداد والتجفيف؛ فإن الانتفاع بالأعناب، والأرطاب، لا ينقص عن الانتفاع بالتمور والزبيب، وأصل الوضع مشعر بأن الله تعالى إذا أفاد الموسر ثمرةً، وانتهت إلى الانتفاع، فيلزمه أن ينفع المساكين، فهذه القضية تقتضي لا محالة ثبوتَ حق المساكين (3) عند بدو الصلاح، ولكن لو كلفنا أربابَ الأشجار إخراجَ العشر، لعسر عليهم، فقد يريدون (4) أن يجففوا، وحقوق المساكين (5) لا تنقص بالتجفيف قدره (6)، بل تزيد؛ فأوجب الشرع حقَّ المساكين،
__________
(1) (ت 2) غير بعيد معدود.
(2) (ت 1): ولم يجوّز.
(3) عادت نسخة (ك) إلى حيث تسلسلها الأول. فبعد أن قفزت من ص 74 إلى 112، 113، عادت إلى ص 75.
(4) كذا. ويمكن أن تكون: "تقدير بدون أن يجففوا ... ". مكان قوله: "فقد يريدون أن يُجففوا". والله أعلم.
(5) (ت 1): قد تنتقص.
(6) كذا في النسخ الخمس. والمعنى: "لا ينقص قدرُ حقوق المساكين" وهو مفهوم من السياق. ولكن في العبارة خللاً، لعل صوابه: لا ينقص بالتجفيف (قدرها). والله أعلم.

(3/239)


وأخر -لما ذكرناه- التأدية، ثم ألزم [رب] (1) النخيل أن يقوم بمؤنة الجداد والتجفيف في [حصة] (2) المساكين، كما يفعله بحصته، وليس هذا كالإمكان الذي أشرنا إليه؛ فإنه قد يتفق الإمكان مع الوجوب، فإن اتفق تأخّره، ففي الذمة متسع. وليس بدعاً أن يثبت الوجوب مع عسر الأداء، كما في الديون.
2013 - ونحن الآن نذكر آثار الوجوب عند بدو الصلاح، فنقول: من اشترى الأشجار والثمار قبل بدو الصلاح، ولزم له الشراء، ثم بدا الصلاح، فقد تعلّق حق المساكين، فلو رام ردّه بعيب قديم، فهو كما لو اشترى أربعين من الغنم، وحال عليها الحول، ووجبت الزكاة، ثم اطلع على عيب قديم. وقد بان تفريع مثل هذا عند ذكرنا الأقوالَ في متعلق الزكاة في الذمة والعين، وكذلك لو بدا الصلاح، ثم أراد بيعَ الثمار، فهذا بيعُ مالٍ تعلق به حقُّ المساكين، ثم القول في تغليب الذمة والعين [وتخريج] (3) البيع في قدر الزكاة وتفريق الصفقة وراءه على ما مضى، حرفاً حرفاً.
2014 - ومما يجب أن يكون على ذُكر من الناظر في ذلك أن الأوقات التي تجري من بدو الثمرة إلى بدو الزهو، ليست في حكم الحول الذي ينقضي على الأموال الزكاتيه، حتى يقال: من لم يكن ابتداء بدو الثمار في ملكه، وكان ابتداء الزهو في ملكه، لا تلزمه الزكاة، بل لو ملك المالك بجهةٍ من الجهات الثمارَ في أيامٍ قليلة، [وبدا] (4) الزهو، وجبت الزكاة، فبَدْوُ الزهو في حكم استهلال هلال شوال في وجوب فطرة العبيد (5).
2015 - ثم قال الأئمة: إذا أوصى بثمارٍ، ومات، فقبل الموصَى له، ثم أزهت، فالعشر على الموصَى له، وإن كان وُجد الزهو في حياة الموصي، فالعشر واجب عليه، يؤدَّى من تركته.
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ت 1)، (ك): لرب. والمثبت من (ت 2).
(2) في الأصل، (ط)، (ك): رخصة. والمثبت من (ت 1)، (ت 2).
(3) في الأصل، (ط)، (ك): ويخرج.
(4) في الأصل، (ط)، (ت 1)، (ك): وبدو. والمثبت من (ت 2).
(5) في (ت 2): العيد. وهو تصحيف، فالمعنى أن زكاة فطرة العبد تلزم مالكه باستهلال هلال شوال وهو في ملكه، حتى ولو كان تمكله قبل ذلك بيوم واحد.

(3/240)


وإن بدا الزهو بعد موته، وقبل قبول الوصية، فهذا يخرج على أن الملك في الموصَى به، بين موت الموصي وقبول الموصى له لمن؟ وفيه خلاف سيأتي في موضعه.
فإن قلنا: الملك في ذلك الزمان للموصى له، نظر: فإن قبل الوصية، فقد تأكد الملك، فالعشر واجب عليه، وإن رد، فقد زال ملكُه بعد ثبوته، ففي وجوب العشر عليه وجهان، وسنذكر نظيرهما في صدقة فطرة العبد الموصى به في فروع ابن الحداد، وإنما لا أستقصيه لأنه بين أيدينا (1).
وإن قلنا: الملك موقوف، فإن قبل، بان أنه حصل بموت الموصي، فعلى هذا يلزمه العشر، وإن ردّ، بان أنه لم يحصل بالموت له ملك، فيرد. فعلى هذا لا يلزمه، ويلزم الورثةَ.
وإن قلنا: الملك بين الموت والقبول للورثة، فهو ملك ضعيف، فإن رد الموصى له، لزم الورثةَ العشرُ، وإن قبل، فوجهان: أحدهما - يلزمهم؛ لمكان وقوع الزهو في ملكهم.
والثاني - لا يلزمهم؛ فإن الملك الذي أضيف إليهم ملكُ تقدير، لا يفيد ارتفاقاً وانتفاعاً، فلا يوجب إرفاقاً.
وإن قلنا: الملك للميت إلى قبول الموصَى له، فلا زكاة؛ فإن إيجاب الزكاة ابتداءً على الميت محال، وإذا لم نوجب على الموصَى له والورثة، أسقطنا العشر رأساً.
وسنعود إلى ذلك في مسألة الوصية بالعبد، وجريان الاستهلاك (2) بعد الموت.
ونذكر -إن شاء الله تعالى- الخيارَ في البيع، والتفريع على أقوال الملك، والقول في عُشر الثمار عند الزهو، وفي زكاة الفطر على وتيرة واحدة.
فهذا بيان القول في وقت وجوب العشر.
__________
(1) أي سيأتي.
(2) في (ت 1)، (ت 2): الاستهلال. والمراد بالاستهلاك: استهلاك الثمار موضع الزكاة.

(3/241)


ثم وراء ما ذكرناه دقيقةٌ، بها ينكشف الغطاء، وسيأتي بابٌ في الزكاة في الأملاك في زمان الخيار، وما يجري فيها من زهو وغيره، وفيه نستقصي هذا إن شاء الله عز وجل.
2016 - فنقول إذا جرى الخرص، فقد اختلف قول الشافعي في أن الخرص هل يُثبت حكماً لا يَثبت دونه؟ فقال في أحد القولين: لا حكم له، إلا أنا نضبط المقدار، ونطلبُ العشرَ في أوانه بحسبه.
والقول الثاني - أنا نُثبت حكماً على ما سنصفه، فنقول: الخارص يُضمِّن المالكَ حصةَ المساكين تمراً، ويُطلق تصرفَ المالك في جميع الثمار بما بدا له، وينقلب حق المساكين إلى ذمته. وفي القول الأول لا يتغير بالخرص في ذلك حكم، وحكم تصرف المالك في الثمار، كما سنوضحه الآن.
وعبّر الأئمة عن القولين بأن قالوا: الخرص في قولٍ عِبرة (1): أي يفيد الاطلاع على المقدار ظناً وحسباناً، ولا يغيّر حكماً، وفي قول هو تضمين، أي يضمَّن المالك حق المساكين، ويُطلَق تصرفُه في الثمار.
فإن قلنا: الخرص عِبرةٌ، فربُّ الثمار يتصرف في تسعة الأعشار، ولا يتصرف في العشر، الذي هو حق المساكين.
2017 - وهاهنا وقفةٌ طال فيها نظرنا، فليأخذ الناظرُ المقصودَ عفواً صفواً، فرب ساع لقاعد.
فنقول: أما إذا وجبت الزكاة في المواشي أو غيرِها، ففي قول الذمة يتصرف في الجميع، كما مضى، وفي قول العين لا يتصرف في مقدار الزكاة، فإن تصرف في الجميع، ففيه التفريق والقول الطويل كما مضى، ولو أبقى مقدار الزكاة، وتصرف في الباقي على منعنا التصرفَ في مقدار الزكاة، ففي نفوذ تصرفه فيما يزيد على مقدار
__________
(1) عبرة أي تقدير، من عبرت الدراهم واعتبرتها، إذا اختبرتها، وقدّرتُها، وعرفتُ قيمتها. (المصباح).

(3/242)


الزكاة كلامٌ وخلافٌ ألحقته بالحاشية (1) فيما تقدم، والعشر عندنا يتعلق [بالمعشَّر] (2) على حسب تعلّق الزكاة بالنُّصُب، من غير فرق، فما معنى قطع الأصحاب بالتصرف في تسعة أعشار الرطب والعنب؟.
والغرض يَبينُ في ذلك بذكر ثلاثة منازل: إحداها - إذا وجبت الزكاة، وتحقق الإمكان، فأرادَ التصرف في بعض المال، على قولنا: يُرَدُّ تصرُّفُهُ في مقدار الزكاة، وقد ذكرنا فيه خلافاً. ووجه المنع شيوع واجب الزكاة في الجميع.
[المرتبة الثانية] (3) - ولو حال الحول، ولم يتمكن (4) المالك من تأدية الزكاة، وقلنا بوجوبها، فالتصرف -على المنع- في مقدار الزكاة مردود، وفي الباقي خلاف، فالأولى تنفيذه إذا أبقى مقدارَ الزكاة؛ فإنه غير منسوب إلى التقصير في التأخير، فلو سددنا عليه التصرف فيما يزيد على قدر الزكاة؛ لكان ذلك حجراً مضراً. فهذه المرتبة الثانية.
والمرتبة الثالثة - الحكم في الثمار بعد الزهو، على قول العِبْرة، فالذي رأيته للأئمة القطع بنفوذ التصرف في الزائد على قدر الزكاة؛ فإن المنع من التصرف في الثمار بالكلية خروجٌ عن الإجماع، وهو خلاف ما درج عليه السلف، وفيه منع الناس من أكل الرطب والعنب؛ فإن تأدية الزكاة لا تقع إلا من التمر والزبيب، وفيه طرف من المعنى وهو أن مالك الثمار ملتزم مؤنة تربية الثمار إلى جفافها، وهو في ذلك يُرَبِّي حقَّ المساكين، فقوبلت هذه المؤنة بإطلاق تصرفه في التسعة الأعشار، فهذا إذن مقطوع به كما ذكرناه.
2018 - ونعود بعد ذلك إلى تفريع القولين في أن الخرص عِبْرة، أو تضمين؟ فأما
__________
(1) لست أدري أي حاشية يعني!! فهل يريد فضول الكلام في التفريعات المتقدمة، أم يقصد الحاشية بمصطلحنا المعاصر (هامش الكتاب)؛ فإن كان كذلك، فلم نجد شيئاً بهامش أية نسخة.
(2) في الأصل، (ط)، (ت 2)، (ك): العشر. والمثبت من (ت 1).
(3) زيادة من عمل المحقق.
(4) (ت 1): وتمكن.

(3/243)


حكم التصرف على قولنا إنه تضمين؛ فإنه يتفرع على أصلٍ نذكره مقصوداً، ثم نفرع عليه التصرف، فإن قلنا: الخرص تضمين، فلو حصل التضمين كما سنذكره؛ فإن فيه تفصيلاً، فلو تلفت الثمار بعد بدو الصلاح وجريان التضمين، فإن أتلفها هو بنفسه، فعليه للمساكين عشرها تمراً؛ فإنه قد ضمن حقَّهم.
وإن قلنا: الخرص عبرة، (1 فإن أتلف الرطب، لم يضمن إلا يضمنه متلفُ الرطب على غيره 1)، فليلتزم قيمةَ العُشر لما أتلفه؛ فإنه لم (2) يضمن للمساكين حقهم تمراً.
فهذا إذا أتلف وقد جرى الخرص، فأما إذا دخل وقت الخرص، ولم يتفق بعدُ جريانه، فلو أتلف رب الثمار الثمارَ، فإن قلنا: الخرص لو جرى، لكان عبرة، فالجواب كما تقدم. وإن قلنا: الخرص تضمين لو جرى، فإذا أتلف الثمر قبل الخرص، ففيما يلزمه وجهان مشهوران: أحدهما - يلزمه قيمة العشر رطباً، كما أتلفه؛ فإن التضمين لم يجر بعدُ بالخرص.
والثاني - يضمن التمرَ؛ فإن العشر قد وجب، ولا يجب العشر إلا تمراً، فيما يقبل التجفيف.
وحقيقة هذا ترجع إلى أن الشرع يُلزم التمرَ الجاف، والخرصُ يُظهر مقداره، فأما أن يتضمن الخرص بنفسه إلزاماً لا يقتضيه نفسُ بدو الصلاح، فلا. وهذا حسن في التوجيه.
فإذا قلنا: الخرص عِبْرة، فلو جرى التضمين من الخارص صريحاً، والضمان من صاحب الثمار قبولاً، فهو لغو على قول العبرة، ولو أتلف الثمارَ، لم يلتزم إلا قيمة عشر ما أتلف.
2019 - ومما يتعلق بإتمام القول في ذلك أن من أئمتنا من قال: الخرص يتضمن التضمين إذا جرى ذكر ضمان (3 التمر صريحاً، بأن يقول الخارص: ألزمتك حصة المساكين تمراً جافاً، فإن جرى الخرص المجرد من غير ذكر ضمان 3)،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) سقطت من (ت 2).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/244)


فلا يلزمه عند صدور الإتلاف منه إلا قيمةُ ما أتلف.
فإذا جمعنا ما قيل في التضمين إلى قول العبرة، انتظم منه أقوال في أنه إذا أتلف الثمار ماذا يلزمه؟
أحدها - أنه يلتزم التمر، وإن لم يجر خرص، إذا كان الإتلاف بعد بدو الصلاح، مصيراً إلى إلزام الشرع.
والثاني - أنه يلتزم التمر (1 إن جرى الخرص، مطلقاً كان، أو مقيداً، ولا يلتزم إلا قيمة ما أتلف إذا لم يجر خرص.
والثالث - أنه يضمن التمر 1) إذا جرى ذكر التضمين. وإن لم يجر ذكره، فأتلف لم يلتزم إلا قيمةَ ما أتلف.
2020 - ثم الذي أراه أنه يكفي تضمين الخارص، ولا يشترط قبول المخروص عليه.
فإن فرعنا على قول العبرة، فلا يلتزم إلا قيمةَ ما أتلف، ولو جرى التضمين والقبول مثلاً. فهذا بيان الحكم في الإتلاف.
ولا يخفى أن الإتلاف قبل بدو الصلاح لا حكم له؛ فإنه قبل وجوب حق المساكين، فهو بمثابة إتلاف مال الزكاة قبل حولان الحول. وكل ما ذكرناه مفروض في الإتلاف.
2021 - فأما إذا تلفت الثمار بآفة سماوية، قبل أوان الجداد، فينبغي أن يعلم الناظر أنا إذا فرعنا على قول العبرة، فلا يخفى القطع بسقوط حق المساكين؛ فإنه تلف حقُّهم، وفات بفوات الثمار، من غير تقصير من المالك، فكان هذا بمثابة تلف مال الزكاة بعد الحول، وقبل الإمكان.
وإن قلنا: الخرص تضمين، فالذي أراه أن يسقط الضمان بالتلف؛ فإنه ضمان على شرط ألا تكون جائحة، ولو قيل: تسليطه على التصرف في حق المساكين يُلزمه
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/245)


الضمان وإن تلف، وكأنه قبض حقهم، وألزم ذمته التمرَ إلزامَ قرار -والعلم عند الله تعالى- فهذا (1) احتمال معنوي. والذي قطع به الأصحاب سقوطُ الضمان بالجائحة.
فهذا بيان حكم التلف والإتلاف.
2022 - فأما التصرف، فعلى قول العبرة يتصرف فيما يزيد على حقوق المساكين، كما تقدم ذكره، وفي تصرفه في مقدار حق المساكين من التفصيل ما في تصرف مالك المال الزكاتي في حق المساكين، بعد وجوب الزكاة.
وإن قلنا: الخرص تضمين، فحيث ثبت ضمان التمر، على ما تقدم تفصيله، نفذ تصرفه في حق المساكين. وحيث قلنا: لا يثبت الضمان، فتصرفه في حق المساكين كتصرفه على قول العبرة.
فهذا تمام ما أردناه في ذلك.
2023 - ثم ذكر صاحب التقريب في التفريع على وجه حكاه وجهاً بعيداً، لم أذكره؛ حتى لا يختلط بالمذهب ونظمه، وأنا أذكره الآن.
فإذا جرى الخرصُ، ولم يجر ذكرُ الضمان، فقد قال بعض الأصحاب: لا ضمان بمجرد الخرص، فإذا أتلف في هذه الحالة الثمارَ، والتفريع على هذا الوجه الذي انتهينا إليه، فالمذهب أنه يلتزم قيمة ما أتلف.
وذكر وجهاً آخر هاهنا، أنه يضمن أكثر الأمرين من مكيلته تمراً جافاً، أو قيمةِ العشر كما (2) أتلفه. وهذا غريب لا أصل له، فليسقط.
وبالجملة إذا لم يثبت الضمان على قول التضمين، التحق التفريع بقول العبرة.
فرع:
2024 - إذا كان بين رجلين رطب مشترك على النخيل، فخرص أحدهما على الثاني، وألزم ذمتَه حصةَ نفسه تمراً جافاً، فقد قال صاحب التقريب: يتصرف المخروص عليه في الجميع، ويلتزم لصاحب التمر، على قولنا: الخرص تضمين، كما يتصرف في نصيب المساكين بالخرص.
__________
(1) جواب: ولو قيل.
(2) "كما": بمعنى "عندما".

(3/246)


وإن قلنا الخرص عبرة، فلا أثر للخرص في حق الشركاء.
وهذا الذي ذكره بعيد جداً في حق الشركاء، وما يجري في حق المساكين، لا يقاس به تصرف الشركاء في أملاكهم المحققة؛ فإن المذاهب على التردد، في أن المساكين هل يستحقون من عين الثمار، ولا شك أن المالك مطالب بحقهم، وحقوق الشركاء في أعيان الثمار لا مطالبة لأحد على أحد.
ثم إن ثبت ما قاله صاحب التقريب، فمستنده عندي خرصُ عبدِ الله بنِ رواحة على اليهود؛ فإنه ألزمهم التمرَ، وكان ذلك الإلزام في حقوق الملاك والغانمين. والله أعلم.
والذي لا بد منه في مذهب صاحب التقريب في ذلك، أن الخرص في حقوق المساكين يكفي فيه إلزام الخارص، ولا يشترط رضا المخروص عليه، فأما في حق الشركاء، فلا بد من رضا المخروص عليه لا محالة.
فرع:
2025 - سنذكر في كتاب المساقاة اختلاف القول في أن الخرص هل يجري في سائر الثمار؟ وفائدة الخلاف جوازُ المساقاة، أو منعها فيما عدا النخل والكرم، فأما أمر الزكاة، فلا حاجة إلى الخرص في غير النخيل والكروم من الأشجار؛ إذ لا عشر إلا في النخل والكرم، كما سيأتي، ورأيت الأصحاب قاطعين بأن الخرص لا يجري في الزروع أصلاً؛ فإن الحبوب لا يضبطها الخرص، فلا خرصَ، وإن جرى، فلا حكم له أصلاً.
فصل
2026 - إذا ادّعى أصحاب الثمار جائحة، وسبباً في ضياع الثمار، فإن كان ما ادَّعَوْه ممكناً غيرَ بعيد، مثل أن يدّعوا اختلال الثمار ببَرَدٍ، ولقد كان البرد وأثره يختلف في الأشجار، اختلافاً متفاوتاً، فإذا ادَّعى صاحب ثمرة أثراً، فما قاله محتمل، وهو مصدق فيه، وإن اتّهم، حُلِّف.
وإن ادعى شيئاً يكذبه المشاهدة، مثل أن يدّعي حريقاً، ونحن نعلم أنه لم يقع، فهو مكذَّب.

(3/247)


وإن ادعى أمراً مثله يشيع، ولا يخفى، وقد يفرض خفاؤه على بعد، فالذي ذكره العراقيون أنه لا يقبل قوله، ويطالب بالبينة، وطردوا هذا في الوديعة، فقالوا: إن ادعى المودعَ سبباً في الضياع يشيع مثلُه غالباً، طولب بالبينة، فإن لم يأت بها، لم يحلّف. وقد دل ظاهر كلام الصيدلاني عليه.
والذي قطع به شيخي أن كل مؤتمن ادعى شيئاً محتملاً، وإن كان بعيداً، فهو مصدّق مع [يمينه] (1)، وإنما يردّ قوله إذا قطعت بكذبه، وهذا قياس ظاهر؛ فإن المودعَ إذا ادعى ردَّ الوديعة، فالأصل عدم الرد، ولكنه مصدق على (2) يمينه، فيكفي في تصديقه الإمكانُ، وإن بَعُد.
فالأمر في تلف الثمار على هذه التقاسيم.
ثم من يطلب البينة فيما يظهر غالباً، لا يشترط إقامة البينة في تأثير الحريق الذي ادعاه في ثماره، بل إذا أثبت الأصل بالبينة، صار اختلال ثمرته ممكناً غيرَ بعيد، فيحلف الآن على ما يدعيه من النقصان.
2027 - ثم ذكر الشافعي في الخرص دعوى من المخروص عليه، فقال: "إن قال: قد أحصيتُ مكيلة ما أخذت، فكان كذا ... إلى آخره" (3).
إذا صح الخرص من أهله في وقته، فادّعى المخروص عليه آخِراً تفاوتاً، نُظر، فإن قال: اعتمد الخارص في التحيّف قاصداً وظلمني، فلا يقبل ذلك منه؛ فإنه نسبَ مَن هو مؤتمن [شرعاً] (4) إلى ما يخالف منصبه.
ولو قال: أخطأ ولم يتعمد، نُظر؛ فإن نسبه إلى خطأ فاحشٍ يبعد (5) أن يقع مثله
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ت)، (ك): بيّنته. والمثبت من (ت 1)، ويشهد له السياق.
(2) "على" تُرادف (مع) قاله أهل اللغة.
(3) ر. المختصر: 1/ 237. وتمام عبارة الشافعي: إذا قال (أي المخروص عليه): قد أحصيتُ مكيلةَ ما أخذت، وهو كذا، وما بقي، فهو كذا، فهذا خطأ في الخرص، صُدّق، لأنها زكاة، هو فيها أمين.
(4) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(5) هنا خلل آخر في نسخة (ك) حيث انتقلت من آخر ص 78 إلى ص 114.

(3/248)


لذي بصيرة وخبرة، فلا يصدَّق، مثل أن يقول: خرص عليّ مائة وَسْق، وإنما هو خمسون، أو سبعون. والرجوع فيما يُعدُّ غلطاً فاحشاً، إلى أهل البصائر.
وإن ادعى غلطاً يقع مثله، فالذي ادعاه ممكن لا ينافى الأمانة، والخبرة، فيقبل ذلك منه، مع يمينه.
ولو ادعى غلطاً فاحشاً، فقد قال الأئمة: إن رُدّ قولُه فيما يتفاحش، فقوله مقبول في القدر الذي لا يتفاحش؛ فإن الذي ذكره فيه محتمل، وإنما الزائد هو البعيد، فقوله في القدر الزائد على المحتمل مردود، وقوله في المحتمل مقبول.
وسنذكر لذلك نظيراً في العِدَّة، فنقول: يتصوّر أن تنقضي عدّةُ ذات الأقراء باثنين وثلاثين يوماً وساعتين، فلو ادعت انقضاء العدة بأقلَّ من هذه المدة، لم تصدق، فإذا مضت المدة التي يتصوّر الانقضاء فيها، فتصدق الآن، وتكذيبها قبل هذا لا يوجب تكذيبها في المحتمل الممكن.
2028 - ولو ادعى المخروص عليه تفاوتاً يقع مثله بين الكيلين، بأن يفرض [إيفاءٌ] (1) في كَرَّةٍ من غير قصد، واقتصاد في الأخرى، [مثل] (2) أن يقول الخارص: "مكيلةُ الرطب تمراً مائةُ صاع"، فإذا خرج تسعةً وتسعين، فقد يكال، فيخرج مائة في الكرة الثانية، فقد ذكر الصيدلاني والعراقيون وجهين في ذلك، وتصويرها: أن يزعم المخروص عليه أن هذا النقصان كان لزلل قريب في الخرص. ويقول الخارص: بل هو لتفاوتٍ وقع في الكيل، وكان قد فات التمر (3) مثلاً. فمن يُصدِّقُ المخروصَ عليه، فتأويله الحملُ على ذلك في الخرص. ومن لم يصدِّقْه يقول: لم يتحقق النقص.
والذي أراه تصحيحُ الوجه الأخير.
__________
(1) "انفا" بهذا الرسم وبدون نقط في الأصل، (ط)، (ت 2)، (ك). وفي (ت 1):
انفا. والمثبت قراءةٌ منا، نرجو أن تكون صحيحة. والمعنى: "يفرض إيفاءٌ في كرة، وعدم إيفاءٍ في الأخرى".
(2) في الأصل، (ط)، (ت 2)، (ك): ثم. والمثبت من (ت 1).
(3) فات التمرُ: بمعنى أنه حدث فيه تصرف، فلا يمكن إعادةُ كيله كرَّة أخرى.

(3/249)


ولكن توجيه الأول لا بد من الوقوف عليه. فمن يصدقه يقول: قد يفرض كيل مع رعاية الاقتصاد (1)، فلا يختلف أصلاً، وإن أعيد مراراً، فيقول المخروص عليه: قد اقتصدت، فنقص، فكان لأجل الخرص ما كان، فقد قال ممكناً، فصدّقه القائل الأول.
ولا ينبغي أن يعتقد الإنسان أن الكيل يتفاوت لا محالة.
فرع:
2029 - قال صاحب التقريب: الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الخارص يُدخل النخيل كلَّها في الخرص. قال: وللشافعي قول في القديم: أن يترك لرب البستان نخلة، أو نخلات، يأكل ثمارها هو وأهله، ولا تكون النخلات محسوبةَّ عَليه. قال: وهذا على مقابلة قيامه بتربية الثمار إلى الجداد، ثم على تعبه في التجفيف بعد الرد إلى الجَرِين. ثم قال: ويختلف هذا باختلاف حال الرجل في قلة عياله وكثرتهم. وهذا ضعيف مرجوع عنه، وفي المصير إليه تغيير القواعد في النُّصب والزكوات.
فصل (2)
قال: "وإن أصاب حائطه عطش ... إلى آخره" (3).
2030 - إذا خُرصت الثمار، فأصاب الحائطَ عطش، ولو تركت الثمار على النخيل، لأضرت بها، ولو جُدّت على ما هي عليها، لأضر الجِدادُ بالمساكين؛ فإنهم لا يصلون من هذه الثمار إلى حقهم، قال رضي الله عنه: "ينبغي أن يرفع صاحب الحائط الأمر إلى الوالي"، ثم حق الوالي إذا تحقق عنده هذا أن يأذن في قطع الثمار؛ فإن النخيل [إذا بقيت] (4)، رجع النفع في بقائها إلى المساكين في السنين المستقبلة، فالنظر لهم يقتضي هذا أيضاًً.
__________
(1) "الاقتصاد": الاعتدال.
(2) في (ط)، (ت 2) فرع. مكان فصل.
(3) ر. المختصر: 1/ 228.
(4) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(3/250)


2031 - ثم إذا قطعت الثمار كذلك (1)، فقد قال الشافعي: يؤخذ عشر الثمار، أو ثمَنُ عشرها حقاً للمساكين، وهذا اللفظ فيه تردد.
ونحن نذكر طرق الأئمة مذهباً، ثم لا يخفى تنزيل اللفظ عليها.
قال قائلون: إن قلنا: القسمةُ [إفراز] (2) حق، فيجوز إجراء القسمة في عين الرطب، وإن قلنا: القسمةُ بيع، فهذا يخرج على أن الرطب الذي لا يتأتى منه التمر، هل يجوز بيعُ بعضه ببعض؟ وفيه خلاف سيأتي في كتاب البيع، إن شاء الله تعالى. فإن جوزنا بيع بعضه ببعض، جازت القسمة، وإن منعنا البيع، منعنا القسمة. وهذا القائل يقول في نص الشافعي إنه تردّد منه وإشارةٌ إلى القولين.
فإذاً، إذا جوزنا القسمة، فلا كلام. وإن منعناها -وحق المساكين ثابت (3) في عين الثمار- فالوجه تسليم جملة هذه الثمار إلى الساعي، حتى يصير قابضاً لمقدار حق المساكين؛ إذ ملكهم إنما ينحصر في هذه الثمار (4 إذا اتصل القبض بها، والقبض في المشاع إنما يجري بتسليم الكل، والقسمة ممتنعة على 4) هذا القول، فإذا تعين ملك المساكين بيع جميعُ الثمار وسُلم حصةُ المساكين في الثمن إلى الساعي.
ولو اشترى المالك حصة المساكين مشاعاً، جاز بعد جريان الإقباض كما ذكرناه.
فأما إذا ابتاعه من الساعي قبل تصوير الإقباض، أو فرض اشتراك الساعي، وربّ الثمار في بيع الجميع، فهذا غير جائز؛ فإن حق المساكين إنما يتعيّن وينحصر بالقبض، ونحن وإن قلنا: إنهم يشاركون ربَّ المال في جزءٍ استحقاقا، فلرب المال أن يوفي حقوقهم من مالٍ آخر، فلا يصلح ما نقدره لهم من الملك للتصرف. نعم إذا جرى فيه القبض، تحقق الملك على الأقوال كلها.
2032 - وذكر صاحب التقريب طريقةً أخرى. فقال: المحذور من القسمة في
__________
(1) "كذلك": أي في هذه الحالة.
(2) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): إقرار. والمثبت من (ت 1).
(3) ساقطة من (ت 1).
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/251)


القول الذي انتهى التفريع إليه أنها بيعٌ، وبيع الرطب بالرطب ممنوع، في قواعد الربا، والربا غير معتبر (1) في المقاسمة التي تقع مع مستحقي الزكاة، فيجوز قسمةُ الرطب، وإخراج العشر منه، وإن كنا نمنع قسمةَ الرطب بين الشركاء؛ وذلك أن تعبدات الربا إنما تراعى في البَيْعات (2) الخاصة بين المتعاملين المتعينين، فأما تصرف الإمام لأقوام لا يتعينون، فلا يراعى فيه تعبدات الربا. وقد يقع تصرف عام يمتنع إجراء مثله على الخصوص.
ثم زيف هذه الطريقة، وهي مزيفة. والشارع لم يخصص تعبدات الربا بتصرف دون تصرف.
2033 - وذكر أئمة المذهب طريقة أخرى، فقالوا: لا مدخل للأبدال في الزكوات في أصل المذهب، ولكن إذا مست حاجةٌ ظاهرةٌ إلى إخراج البدل، حكمنا بجوازه. وقد ذكرنا ترددَ الأصحاب في إخراج البدل عند مسيس الحاجة إليه، بسبب وجوب شقصٍ من حيوان. فإذا تعلق حق المساكين بالثمار، وعسرت القسمة؛ تفريعاً على منع قسمة الرطب، وقد يتعذر البيع، فإذا أخرج من عليه العشرُ بدلاً، أجزأ، لهذه الحاجة؛ فإن الأصل الذي به استقلال الزكوات سدُّ الحاجات، فإن كان تَعبّدٌ (3) وراء حصول ذلك، فهو متبع، ولكن [لا] (4) يبعد سقوط ذلك التعبد لحاجة، وقد تمهد هذا مذهباً وخلافاً. فإذاً يجوز إخراج القيمة في هذه الصورة إذا حكمنا بتعذر القسمة.
2034 - وذكر بعض الأصحاب وجهاً آخر، فقالوا: نحن وإن حكمنا بأن القسمة بيعٌ، فقد نجيزها للحاجة، حيث نمنع صريح البيع، وهؤلاء جوزوا قسمة الأوقاف للحاجة، وإن امتنع بيعها؛ فإذاً يجوز قسمة الثمار، وإن منعنا بيعها، تخريجاً على هذا.
__________
(1) في (ت 1)، (ت 2): ممتنع.
(2) (ت 1): البياعات.
(3) في (ط)، (ك)، (ت 2): يبعد.
(4) مزيدة من (ت 1)، (ت 2).

(3/252)


2035 - ثم قال المحققون: إذا جوزنا أخذ الأبدال للحاجة، وجوزنا القسمة للحاجة، فالساعي إن شاء أخذ عُشرَ القيمة، وإن شاء أخذ عشر الثمر، وهذا القائل يحمل نص الشافعي على هذا المحمل، حيث قال: يأخذ الإمام عشرَ الثمر، أو عشرَ القيمة، فهذا يبتنى على جواز البدل، وجواز القسمة جميعاً. ثم ما ذكرناه ليس تخيُّرَ تشهِّي (1)، ولكن الإمام يرعى الأصلح والأغبط للمساكين.
ثم قد تمهد في باب زكاة الإبل أمثالُ هذا في التخيّر، وسبق الخلاف في أن اعتبار الغبطة واجب، أم يتخير المالك، كما يتخير بين الشاتين والدراهم في الجبران؟
وهذا يخرج على ذلك. فإن فوضنا [الأمر إلى] (2) اختيار المالك، فليس عليه رعايةُ الغبطة، وإن فرضناه إلى نظر الساعي، فلا شك أنه يتعين رعاية المصلحة، وقد نقول: للمالك إخراجُ زكاة أمواله الظاهرة بنفسه، فننزله في التفريع منزلةَ الساعي في رعاية الغبطة.
فهذا بيان الفصل، وفي الفصل بقية ستأتي في آخر باب الزرع إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "ومن قطع من ثمر نخلة قبل أن يحلّ بيعه ... إلى آخره" (3).
2036 - مقصود هذا الفصل أن صاحب الثمار إذا قطعها قبل بدو الصلاح والزهو، فله ذلك، ثم لا عشر أصلاً؛ فإن حق المساكين إنما يثبت عند بدو الصلاح، ولكن إن اتفق ذلك، ولم يقصد به الفرار، فلا حرج. وإن قصد بذلك الفرارَ من حق المساكين، فلا يُرد تصرفه، ولكن يكره ذلك، وهو بمثابة بيع أموال الزكاة قبل حولان الحول. وقد مضى القول فيه.
__________
(1) كذا بإثبات الياء في جميع النسخ.
(2) في الأصل، (ط)، ك: الأموال. وهو تحريف ظاهر.
(3) ر. المختصر: 1/ 228.

(3/253)


فصل
قال "وفي كلٍّ أحب أن يكون خارصان ... إلى آخره" (1).
2037 - في الخارص والقاسم قولان: ففي قولٍ، نقيمه مقام الشاهد، فلا بد من العدد، وفي قول نقيمه مقام الحاكم، فيكفي واحد. ثم وإن اكتفينا بالواحد، فلا بد وأن يكون حراً عدلاً؛ فإنه بين أن يكون كالحاكم، وبين أن يكون كالشاهد، وما ذكرناه مرعيٌّ فيهما جميعاً.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً: وهو أنه إذا كان المخروص عليه طفلاً، أو كان فيهم طفل، فلا بد من خارصين، وإلا كفى خارص واحد، وقد ذكر مثلَ ذلك في القاسم، كما سيأتي إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولا تؤخذ صدقةُ شيء من الشجر، سوى النخل والكرم ... إلى آخره" (2).
2038 - هذا الفصل يحوي ترتيبَ مذهب الشافعي في الجديد، فيما يتعلق العشرُ به، ثم إذا نجز، استعقب ترتيباً لمذهبه القديم.
فأما الجديد، فالكلام في الثمار والزروع، أما الثمار، فلا زكاة إلا في ثمرة النخل والكَرْم. وأما الزروع، فقد قال الأئمة: لا تتعلق الزكاة إلا بكل ما يُقتات مع الاختيار، ويستنبته الآدميون قصداً، والغرض أنه لا عُشر في [البذور] (3) التي تنبت في
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 229.
(2) ر. المختصر: 1/ 229.
(3) أثبتناها من (ت 1)، (ت 2) مكان كلمة غير مقروءة في النسخ الأخرى، صورتها هكذا.
"ال ـ عاس" ولم أصل لكلمة بهذه الصورة ذات معنى. (انظر صورتها في آخر هذا المجلد).

(3/254)


الصحارى. وإن كانت أهل البادية يقتاتونها كالثُّفاء (1)، فإن اقتياتهم لها عن ضرورة ومسيس حاجة. والاقتيات المقرون بالاختيار يغني عن ذكر الاستنبات؛ فإنه ليس فيما لا يستنبت ما يقتات اختياراً، فالحنطة، والشعير، والرّز، والباقلاء (2)، والحِمّص (3)، والذرة، والماش (4)، واللوبيا، أقواتٌ يتعلق العشر بها.
وأما السمسم وبزر (5) الكتان، فلا زكاة فيهما؛ فإن كل ما غلبت الدّهنية عليه لا تقوم النفس بتعاطيه.
ثم كل ما تتعلق الزكاة به في الجديد، فالنصاب معتبر به. والنصاب خمسة أوسق، كما ذكرناه.
2039 - فأما ترتيب القديم، فكل ما تجب الزكاة فيه في الجديد، فترتيب القديم فيه كالجديد. وفي القديم أشياءُ زائدة أثبت العشرَ فيها: منها الزيتون، أثبت فيه العشر، وزعم أني رأيت الناس عليه، فأشار إلى الاتباع.
وذكر في القديم أن قوماً من بني خفاش (6) أخرجوا كتاباً لأبي بكر رضي الله عنه، وكان أمرهم فيه بإخراج الزكاة عن الوَرْس، ثم تردد في صحة ذلك. ثم قال: وإن وجب العشر في الورس، فلا يمتنع وجوبه في الزعفران.
__________
(1) الثُّفاء: وزان غراب وقد يثقّل، فيقال: "الثُّفَّاء": هو الحُرْف، وأهل العراق يسمّونه حبَّ الرشاد، ويؤكل في الاضطرار. (ر. الزاهر فقرة 291، والمصباح).
(2) الباقلاء هي الفول. (الزاهر: فقرة 290).
(3) الحِمص: بكسر الميم وتشديدها، وبِفَتحها أيضاًً، وليس في الحاء إلا الكسر (الزاهر: فقرة: 290، والمصباح، والوسيط).
(4) قال في الزاهر: فقرة 290: هو الزن، وقال في المصباح: حبّ معروف. ووصفه المعجم الوسيط بأنه: نبات له حب أُخيضر مدوّر، أصغر من الحِمص يكون بالشام والهند.
(5) البزر، بالذال والزاي.
(6) في (ت 2) خداش. ولم أصل إلى شي عن بني خفاش، ولا خداش، فلم يذكر أيا منهما القاموس المحيط، ولم أجد منسوباً إليهما في الأنساب، ولم أجد رواية في الكتب التسعة إلا لخداش بن سلامة السُّلمي، وهي لحديث في الأدب، ولم يضبط ابن خلكان في الوفيات، ولا ابن شاكر في الفوات واحدة من اللفظين، ولم يرد تحت مادة (خ. د. ش) ولا (خ. ف. ش) أي اسم في معجم البلدان، ولا معجم ما استعجم.

(3/255)


وحكى العراقيون عن أبي إسحاق أنه كان ينقل قولين عن الشافعي في القديم أن العسل هل يجب فيه العشر على من يشتاره (1)، سواء كان النحل له، أو يشتاره من المواضع المباحة.
ومما حكوْا فيه الترددَ في القديم التُّرمس، وهو لا يقتات على اختيار، وذكروا في ترتيب الجديد أنه لا يتعلق به العشر.
فهذا مما ذكر في القديم.
2040 - ثم لا مجال للقياس؛ فإن الشافعي اعتمد الآثار واتباعَ السلف، وكان يرى في القديم تقليدَ الصحابة، ولو كان يُحْتَمل القياس ويجوز، لكان السمسم والكتان من الزروع ملحَقيْن بالزيتون؛ إذ المقصود منهما الدهن، ولكن [لم يصر] (2) إلى ذلك أحد.
2041 - [ثم] (3) نقول: أما الزيتون، فالنصاب معتبر فيه، وهو خمسة أوسق، ثم عاقبة الزيتون الزيت، كما أن عاقبة الرطب والعنب التمرُ والزبيب.
وقد اضطرب الأئمة في ترتيب القديم في أن العشر يخرج من الزيتون أم من الزيت؟
وحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يتعين الإخراج من الزيت؛ فإنه النهاية المطلوبة كالتمر.
والثاني - أنه يتعين إخراج الزيتون؛ فإنه الموسَّق بلا خلافٍ في هذا الترتيب، ولا نقول بتوسيق الزيت أصلاً؛ فليؤخذ العشر مما يوسّق. [و] (4) لما كان العشر مأخوذاً من التمر والزبيب، فالتوسيق يتعلق بهما.
والثالث - أن الخيار إلى المالك، إن شاء أخرج العشر من الزيتون، وإن شاء أخرجه من الزيت.
__________
(1) اشتار العسل: جناه.
(2) في الأصل، (ط)، (ك): ما نص.
(3) زيادة من (ت 1) وحدها.
(4) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(3/256)


وعلى الوجوه الموسقُ الزيتونُ بلا خلاف، ثم إن أخرج من الزيتون، فلا كلام.
وإن أخرج من الزيت، فيسلم الزيت إلى المساكين.
والكُسبُ (1) الذي يتخلّف عن عصر الزيت ليس فيه نقلٌ عندي، ولعل الظاهرَ أنه يُسَلِّم نصيبَ المساكين إليهم، وليس كالقصيل (2) والتبن الذي يتخلف عن الحبوب؛ فإن الزكاة تجب في الزيتون نفسه. ثم على المالك مؤنة فصل الزيت، كما عليه مؤنة تجفيف الرطب والعنب، ولا يجب العشر من الزروع إلا في الحب. وفي المسألة احتمال.
فهذا تفصيل القول في الزيتون.
2042 - وأما الورس، ففيه على القديم قولان، [وفي الزعفران قولان
مرتبان] (3)، وهو أولى بأن لا يجب العشر فيه؛ فإن الأثر (4) ورد في الورس، وقاعدة ترتيب القديم الاتباع، فالزيتون في القديم في رتبة مقطوع به، وفي الورس تردد، والزعفران أبعد منه.
ثم إن أوجبنا العشر في الورس والزعفران، فالظاهر أنه يجب في القليل والكثير، ولا يعتبر التوسيق فيه.
وذكر الإمام (5) وغيره أنه يعتبر النصاب فيه؛ طرداً للقياس في الباب، ووجه قول من قال: لا يعتبر النصاب، أن هذه الأشياء يبعد أن يجتمع لمالكٍ واحد منها في السنة خمسةُ أوسق. وقد نقل مطلقاً أخْذُ العشر من الورس، فدل ذلك على أنه كان يؤخذ من القليل والكثير.
والعسل أبعد الأشياء. نقله العراقيون. وأرى القول فيه تقريباً من جهة الرأي، من حيث إسناد إلى أثر.
__________
(1) الكسب: وزان قُفل: تُفل الدهن، وهو معرب (المصباح).
(2) القصيل: ما اقتطع من الزرع أخضر لعلف الدواب. (معجم).
(3) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(4) في (ت 2): الأمر.
(5) الإمام: يقصد والده.

(3/257)


وكذلك الترمس، وهو -فيما أظن- حبٌّ ببلاد الشام، قريب الحجم من اللوبيا، ولا يقوتُ بل يَهيج الباه.
ونقل العراقيون أيضاًً تردداً في العُصفُر.
وقد لاح الغرض في ترتيب الجديد والقديم. وذكر الصيدلاني أن في حب العصفُر العشر في القديم. والله أعلم.
***

(3/258)


باب صدقة الزروع
"ذكر الشافعي رحمه الله في قوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (1) [الأنعام: 141] ... إلى آخره".
2043 - قد تقدم الكلام فيما يتعلق العشر به من الزروع، والتفريع على الجديد، ولا عود إلى القديم، وكل قول قديم عندي مرجوعٌ عنه، غيرُ معدود من المذهب.
ومقصود الباب أن أجناس الحبوب إذا اختلفت، لم تضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، فلا تُضمُّ حنطة إلى شعير، ولا خفاء بما يختلف، وإنما ننصُّ على مأخذٍ يخفى، فالعَلَسُ (2) نوع من الحنطة مضموم إلى كل نوع، وقيل هو حنطةٌ بالشام، حبّتان منه في كِمامٍ (3) واحد في السنبلة. هذا متفق عليه.
فأما السُّلْت (4)، فقد اضطربت الطرق فيه، فقيل: إنه على صورة الشعير، ولكن لا قشر له، وطبعه طبعُ الحنطة إلى الحرارة (5)، كذا قاله الصيدلاني.
وقد اختلف أصحابنا فيه، فذكر شيخنا أبو علي في شرح التلخيص أوجهاً عن صاحب التقريب، قد رأيتها في كتابه: أحدها - أنه مضموم إلى الشعير، وهو ما يقطع به شيخي نظراً إلى تقارب الصورة.
والثاني - أنه مضموم إلى الحنطة، لأنه يسد مسدها.
والثالث - وهو الذي قطع به الصيدلاني أنه أصل بنفسه، لا يضم إلى الحنطة،
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 229.
(2) العلس بفتحتين. (الزاهر: فقرة 289).
(3) الكمام: بكسر الكاف (الزاهر: فقرة 289).
(4) الشُلْت: بضم فسكون. (الزاهر: فقرة 289).
(5) أي كالحنطة في ملاسته، وكالشعير في برودته (الزاهر: فقرة 289)

(3/259)


ولا إلى الشعير. ولكن إن بلغ في نفسه خمسة أوسق، وجب العشرُ فيه. وما أرى السُّلتَ النوع الذي يسمى بالفارسية (ترشرجو) (1)؛ فإنه شعير على التحقيق، قد تَضْرَس منه البهيمة، وليس في معنى الحنطة. وما عندي أن السُّلتَ المذكور في الكتب موجودٌ في هذه الديار.
2044 - ثم أخذ الشافعي في الاعتراض على مالك (2) حيث رأى ضم ما سوى الشعير والحنطة بعضه إلى بعض، وما سواهما من الحبوب: كالباقلاء، والحِمّص، والعدس، وغيرها. مما يقوت يسمى القِطْنية (3).
وقال الشيخ أبو علي: إن ضممنا السُّلتَ إلى الحنطة، فلا يجوز بيعُه بها متفاضلاً، وإن ضممناه إلى الشعير، لم يجز بيعه به متفاضلاً، وإن قلنا: إنه أصل بنفسه، فيجوز بيعه بالحنطة، والشعير، جميعا متفاضلاً، ولا شك فيما قاله.
فصل
قال: "ولا تؤخذ زكاة شيء مما يَيْبَس ويداس ... إلى آخره" (4)
2045 - العشرُ إنما يخرج من الحبوب إذا يبست، وديست، ونُقَيت؛ فإنها عند ذلك توسق، ثم قال: "وهذا كما أن العشر لا يؤخذ من الرطب ولا من العنب، حتى يصير تمراً وزبيباً، فلو أخذ الساعي عشرَ الرطب والعنب، وكانا يقبلان التجفيف فالمؤدَّى لا يقع عن الفرض، وعلى الساعي أن يرده، ويطلب حقَّ المساكين تمراً وزبيباً، ولو تلف في يده، يضمن قيمته للمالك" (5)، وهذا واضح فيما ينتهي إلى التمر والزبيب.
__________
(1) في (ت 1) ترش جر. وفي ت 2: ترس حو.
(2) ر. المدونة: 1/ 248. حاشية الدسوقي: 1/ 449.
(3) القِطنية: بكسر القاف، سميت بذلك، لأنها تدّخر، وتخزن، فهي تقطن البيوت مع ساكنيها (المصباح).
(4) ر. المختصر: 1/ 231.
(5) السابق نفسه، بمعناه، لا بنصه.

(3/260)


فأما ما لا يتأتى منه التمر والزبيب ولو جَفَّا، فسدا، فحكم الزكاة الأخذُ منه، فإنه المنتهى، وليس يُرقب فيه جفاف، ولكن لو أخذ الساعي العشر، كان ذلك قسمةً في الرطب، وقد ذكرنا أن قسمة الرطب قد لا تصح.
والتفصيل فيه: أنّا إذا قلنا: القسمة إفراز حق، فيجوز ذلك، والوجه إخراج العشر منه. وإن قلنا: القسمة بيعٌ، ففي بيع ما لا يقبل الجفاف بمثله خلاف، وإن جوزنا البيعَ، جازت القسمة، وإن لم نجوز البيعَ، فقد تقدم التفصيل في القسمة فيما تقدم، حيث ذكرنا جداد الثمرة التي أصابها عطش.
فإذا كان جنس الرطب بحيث لا يجفف، فهو بمثابة ما لو صار كذلك بآفةٍ وعطش.
وفي ذلك عندي بقيةُ نظر: وذلك أنا إذا قلنا: لا يستحق المساكين جزءاً من المال، فليس تسليم جزء إلى الساعي قسمةَ عندي، بل هو أداء حق (1) المساكين، سِيما إذا غلَّبنا الذمةَ، والتعلقَ بها، فلا يؤثِّر الإشكال في القسمة إلا على قولنا: إن المساكين يستحقون جزءاً من المال. وهذا مما يجب التنبّه له، وهو الذي وعدناه في آخر فصل العطش. والله المستعان.
...
__________
(1) عبارة (ت 1): "بل هو أداء حق مستحق، يسمى إذا غلبنا الذمة". و (ت 2): "بل هو أداء حق المساكين سواء إذا غلبنا الذمة".

(3/261)


باب الزروع في الأوقات
قال الشافعي: "الذرة تزرع مرة، فتحصد ... إلى آخره" (1).
2046 - هذا اللفظ الذي صدر الشافعي البابَ به، قد اختلف الأصحاب في معناه. ونحن نذكر أصلاً في الزروع، ثم نعود إلى بيان قول الأصحاب في معنى كلام الشافعي؛ فنقول:
من زرع زرعاً وحصده، ثم ابتدأ زرعاً من ذلك [الجنس] (2) بعد حصاد الأول، فإذا أدرك الزرعُ الثاني، فهل يُضم إلى الزرع الأول في تكميل النصاب، أم يفرد كل زرع بنفسه؟
2047 - أولاً نجدد العهد بما تقدم ذكره في ثمار الأشجار، فنقول: لم يختلف الأئمة في أن النخلة إذا أثمرت وجُدّت ثمرتُها، ثم إنها أطلعت مرة أخرى، فأثمرت، فلا تضم الثمرةُ الثانية إلى الأولى، وإن وقعت الثمرة في أقل من مدة سنة. هذا لا خلاف فيه. وكذلك لو أثمرت نخلةٌ وجدّت، ثم أطلعت نخلةٌ أخرى بعد جِداد الأولى، وإن جرى الأمران في سنة واحدة، فلا تضم ثمرةُ النخلة الثانية إلى ثمرة النخلة الأولى، وقد سبق هذا.
2048 - فإذا تجدد العهد بما ذكرناه في ثمار الأشجار، خُضنا في الزروع، فنقول: إذا اتفق وقت الزراعة ووقت الإدراك، واتحد الجنسُ، فلا شك أن بعض الزروع مضموم في النصاب إلى البعض، اتصلت المزارع أو تباعدت.
فأما إذا اختلفت تواريخ الزراعة، واختلفت أوقات الإدراك، فهل يضم بعضها إلى
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 231.
(2) مزيدة من (ت 1).

(3/262)


بعض؟ نص الشافعي على خمسة أقوالٍ ذكر أربعةً منها وِلاءً (1). وذكر قولاً خامساً في الكبير، فنذكر الأقوال الأربعة المنصوص عليها هاهنا، ثم نذكر القول الخامس، ثم نُعقب ذكر الأقوال بتفصيل الصور، وتمييز مواضع الوفاق، عن مواضع الخلاف.
فالقول الأول - أن من زرع زرعاً وحصده ثم ابتدأ زرعاً آخر وحصده، فلا يضم أحد الزرعين إلى الآخر، وإن اجتمع الزرعان، والحصادان في سنة واحدة، ويتنزل الزرعان منزلة حَملين لشجرة واحدة، يقع طلع إحداهما بعد جداد الآخر.
والقول الثاني - أنه إن وقع البذاران، والحصادان في سنة واحدة، فأحدهما مضموم إلى الثاني، وذلك بأن يكون ما بين الزراعة الأولى وبين الحصاد الآخر أقل من سنة عربية؛ فالبعض مضمومٌ إلى البعض؛ فإن هذه الزروع تقدر مع سنة، وإن كان بين الزراعة الأولى وبين الحصاد من الزرع الثاني سنةٌ، فصاعداً، فقد وقع الحصاد بعد انقضاء السنة، فلا يضم الزرع الثاني إلى الأول إذا فرضنا الكلام في زرعين.
والقول الثالث - أن النظر إلى البَذْر، ولا اعتبار بالحصد، فإذا كان بين الزراعة الأولى والثانية أقل من سنة عربية، فالزرع مضمومٌ إلى الزرع، وإن وقع أحد الحصدين وراء السنة من تاريخ الزراعة، ووجه ذلك أن الذي يتعلق بالاختيار والفعل الزراعة، والحصد لا اختيار في دخول وقته، وهو مختلف على حسب اختلاف الأهوية.
القول الرابع - أن الاعتبار بالحصد؛ فهذا منتهى الأمر، وفيه استقرار الواجب، فإن وقع الحصدان في سنةٍ، وكان الزمان المتخلل بينهما أقلَّ من سنة عربية، فأحدهما مضموم إلى الثاني، ولا نظر إلى الزراعة، وإن كان بين الحصدين سنة، فلا يُضم أحدهما إلى الثاني.
فهذا بيان الأقوال الأربعة المذكورة هاهنا.
ونصَّ عَلى قولٍ خامس في الكبير، فقال: إن وقع البذران في سنة، أو وقع الحَصْدان في سنة، فأحدهما مضمومٌ إلى الثاني.
وهذا بعيد جداً، ويلزم فيه ألا يفرض زرعان على الاعتياد في سنتين، إلا ويضم
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 232. بمعناه لا بلفظه.

(3/263)


أحدهما إلى الثاني، فإن زرع سنةٍ، إذا حصد فتمضي أشهرٌ، ويُبْتَدأ الزرع الآخر لا محالة، فلا يقع بين الحصاد والزراعة -إذا لم تعطل السنة- سنةٌ كاملةٌ.
فهذا بيان الأقوال وحكايتها.
2049 - وتمام البيان يحصل بما نذكره الآن.
فالصورة التي تجتمع فيها الأقوال: أن يُزرعَ زرعٌ ويحصد، ثم يُزرع زرعٌ آخر، فتجتمع الأقوال التي ذكرناها.
ويتعين في هذا المقامِ التنبّه لشيء، وهو أنا حكينا الوفاق بين الأصحاب في أن حمل نخلة لا يضم إلى حمل تلك النخلة بعينها، إذا اتفق حملان في سنة، وكذلك أجمع الأصحاب أن نخلةً لو أطلعت بعد جداد ثمرة نخلةٍ، فلا ضم. والزرع في هذه الصورة على الأقوال، والفرق يرجع إلى العادة؛ فإن (1) توجيه هذه الأقوال يرجع إلى المناقشة في حكم العادة، وإلا فالأصل المتبع [أن] (2) ما يُعدّ رَيْع (3) سنة فالأصل فيه الضم. ثم اختلاف تاريخ الزراعات معتاد مطرد، وكذلك اختلاف أوقات الإدراك معتاد غير مستبعد، فأما تعدّدُ حملِ نخلةٍ بعد جداد الأخرى، [فمقدّرٌ] (4) غير واقع، أو نادرٌ في الوقوع؛ [فلذلك] (5) اتفق الأئمة على أن لا ضم؛ فإن النادر بعيدٌ عن التوقع، وواقعُه غير معدود من الريع (6) المتوقع في السنة الواحدة؛ فهذا هو الذي أوجب الوفاق في إحدى القاعدتين، والاختلافَ في الأخرى.
وقد تنجز القول في صورةٍ تجري فيها الأقوال في الزروع.
2050 - ولو اختلفت الزراعات في الأوقات، ولكن سبب التفاوت الضرورةُ في تدريج الزراعة، كالذي يبتدىء الزراعة في مبتدأ شهر، ثم لا يزال يواصل إلى
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ك): في أن.
(2) مزيدة من (ت 1)، (ت 2).
(3) في (ت 2): زرع.
(4) في الأصل، (ط)، (ك): فقدر.
(5) في الأصل، (ط)، (ك): فكذلك.
(6) في (ت 1): الربع، (ت 2): الزرع.

(3/264)


شهرين، على حسب الإمكان، فهذه الزروع تعدّ زرعاً واحداً، بلا خلاف؛ فإن الزرع الواحد هكذا يفرض، وإذا كان منشأُ الخلاف من تردد أهل العادة (1 إذا روجعوا، فحيث يتفق أهل العادة 1) يزول الاختلاف، ثم إذا تواصلت الزراعة، فيقع إدراك الجميع في أزمنةٍ متقاربة، حتى إذا كان بين الزرع الأول والزرع الأخير شهران، فإنهما قد يدركان معاً، وقد يقع بين الإدراكين أيام معدودة، لا مبالاة بها.
وإذا اتفق الزرعان معاً أو على التواصل كما ذكرناه، ولكن اتفق إدراك أحدهما والثاني بعدُ بَقْل، لم يبدُ فيه الاشتداد في الحب، فللأئمة طريقان في ذلك: أحدهما - التخريج على الخلاف. وهذا بعيد.
والوجه القطع بالضم، والإلحاقُ في ذلك ظاهر، ولكنه مرتب على ما إذا حُصد زرع، ثم ابتدىء زرعٌ آخر، ولو زُرع زرع وبدا فيه اشتداد الحب فابتدىء زرعٌ آخر، فالصورة الأخيرة أولى بالضم.
2051 - ونحن نعدّد الصور: فإن وقع زرع بعد حصدٍ، فالقولان.
وإن وقع زرع بعد بدوّ الاشتداد في [الأول] (2)، فعلى الأقوال، مع ترتيبٍ.
وإن وقعت الزروع متواصلةَ، فسبق البعضُ بالإدراك، ولم يبدُ الاشتداد في البعض، فطريقان، والأصح القطع بالإلحاق والضم؛ فإن ذلك يُعدّ زرعاً واحد.
فإن قيل: إذا تأخر بدو الصلاح في بعض النخيل، فالموجود المطلَع مضموم إلى المزهي وفاقاً، وإن كان ثمار النخيل أبعد عن الضم. قلنا: لهذا قلنا: الوجه في الزروع القطع بالضم، ثم الفرق أن الذي تأخر عن الإدراك حشيش، وحق المساكين متعلق بالحبّ، ولم يخلق بعد، وثمار إحدى النخلتين وإن لم تزه، فالزكاة ستتعلق بعينها إذا تموّهت (3)، فالعين موجودة، وإنما تخلّفت صفة، والصائر إلى الاختلاف في الصورة التي ذكرناها في الزروع آخراً أبو إسحاق المروزي، فلو أدركت قطعة
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(2) في الأصل، (ت 1)، (ك): الأقل.
(3) تموهت: يقال: تموّه العنب إذا صفا لونه، وظهر ماؤه، وذهبت عفوصة حموضته. (الزاهر: 287).

(3/265)


والأخرى بدا فيها اشتداد الحب، وقد وقعت الزراعة على التواصل، فالضم بلا خلاف، ولو أدركت قطعة وقد بدا الحب في قطعة، ولم يبد التماسك والشدة [بعدُ] (1)، فهذا الآن كثمرة مطلَعة مع أخرى مدركة، فليبتدر (2) الناظر الصور؛ فإن مدار الفصل عليها.
2052 - فإذا بان هذا الأصل في الزروع، عُدنا إلى شرح اللفظ الذي صدَّر الشافعي البابَ به. فقال: "الذرة تزرع مرة، فتحصد، ثم تستَخلِف، فتحصد مرة أخرى، فهو زرع واحد، وإن تأخرت [حَصْدَتُه الأخرى"] (3) هذا كلامه. واختلف أئمتنا في الصورة التي أرادها (5 الشافعي، فقال بعضهم: كلامه محمول على الذرة التي نسميها الهندبة (4) إذا أخرجت سنابلها، فقطعت فتَشْعَب من أصولها أغصان وأخرجت سنابل، فالكل زرع واحد، والأخير مضموم إلى الأول.
ومنهم من قال: الصورة التي أرادها 5) أن تتسنبل الذرة، فتشتد؛ فينتشر من سنابلها حبات، بتحريك الرياح، أو وقوع العصافير، فينبت منها زرع، فيُفرِك الأول، ثم يدرك الثاني من بعد.
ومنهم من قال: أراد إذا زرعت الذرة، فعلا بعضها، واحتوى على البعض، فبقيت الطاقات الصغار تحت الكبار مخضرة، فأدركت الطوال، ثم كبرت الصغار، وقد حُصدت الكبار.
فهذا بيان الصور.
2053 - ونحن نذكر اختلاف الأصحاب في كل صورة من الصور: أما الأول إذا حصدت السنابل، ونبت بعد الحصد أغصان، ثم لحقت وأدركت، فللأصحاب ثلاثةُ أوجه في هذه الصورة: أحدها - أن الثاني لا يضم إلى الأول وجهاً واحداً، وهذا
__________
(1) مزيدة من (ت 1).
(2) (ت 1): فليتدبّر.
(3) في جميع النسخ الخمس: حصده الأخير، والمثبت من نص المختصر: 1/ 231.
(4) الهندبة = الهندباء: بقل زراعي مُحول. (المعجم).
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/266)


القائل يأبى حمل كلام الشافعي على هذه الصورة. (1 ويقول: ما لحق في هذه الصورة 1) ثانياً على صورة الحمل الثاني من الشجرة بعد جداد الحمل الأول، فالوجه القطع بأنه لا إلحاق.
ومن أصحابنا من قال: هذه الصورة بمثابة ما لو حُصد زرع، ثم زرع آخر، فيخرج على الأقوال. ولكن ثَمَّ في الأقوال انتظر ما بين الزرعين، وهاهنا ينتظر ما بين الزرع الأول ونبات الثاني.
ومن أصحابنا من قال: نضم الثاني إلى الأول قولاً واحداً في هذه الصورة، وهذا القائل يحتاج إلى فَرْقين: أحدهما - بين الذرة والنخيل، والفرق أن النخلة ثابتة والأحمال رَيْعُها المتدارك، فكل رَيْع مفصول عما تقدمه، وعما يتأخر عنه، والذرة زرع، لا بقاء له، وإنما هو ريع واحد في نفسه، فإن تأخر بعضُه عُدّ كالشيء الواحد.
فهذا فرق.
والفرق الثاني - بين هذه الصورة وبينها إذا زرع زرع بعد حصادِ آخر، فنقول: هما زرعان، فَفُصِل أحدهما عن الآخر، والزرع واحد في مسألتنا، ولكن تفرق ريْعه؛ فيضم بعضه إلى البعض. فهذا بيان هذه الصورة.
وأما الصورة الثانية: وهي إذا تنثرت حبات، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن هذا كافتتاح زرع بعد إدراك زرع، فيخرج على الأقوال.
والثاني - أنا نضم هاهنا قولاً واحداً؛ فإن الثاني لم يقصد زراعته، ولكن اتفقت تبعاً للأول، فهو ملحق به، والجملة معدودة زرعاً واحداً.
فأما الصورة الثالثة وهي إذا كان بعض الطاقات كباراً، وبعضها صغاراً، فالذي قطع به جماهير الأصحاب الضمُّ، ولم يصر إلى الإفراد في هذه الصورة أحدٌ إلا أبو إسحاق المروزي، على ما تقدم شرح ذلك.
...
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/267)


باب قدر الصدقة
قال: "بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلى آخره" (1).
2054 - صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب فيما سقت السماء العشر، وفيما سُقي بنضح أو دالية نصفُ العشر (2) واتفق الأئمة أن ما يسقيه نهرُ وادٍ، أو قناةٍ، فهو بمثابة ماء السماء، وإن كانت المؤن قد تكثر على القنوات، وتقرب من مؤنة النضح. والسقيُ بالدَّلو الذي ينتزحه النواضح، والناعور الذي يديره الماء بنفسه على وتيرة واحدة، فإن كلاهما (3) تسبُّبٌ إلى النزح.
ثم القول في الثمار والزروع واحد.
ولو سُقي بالنهر مدة، وبالنضح مدة، وبني الأمر على هذا، ففي المسألة قولان - أحدهما - أن الاعتبار بالأغلب منهما؛ فإن غلب السقي بالنهر، فالواجب العشر، وإن غلب السقي بالنضح، فنصف العشر.
والقول الثاني - أنا نعتبرهما جميعاً، ونوجب بحساب العشر ونصف العشر، على ما يقتضيه التقسيط، حتى إن سقي نصف السقي بالنهر، ونصفه بالنضح، فنوجب
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 233.
(2) ورد هذا المعنى في حديث صحيح رواه البخاري عن ابن عمر، بلفظ: "فيما سقت السماء، والعيون، أو كان عَثَرياً العشرُ، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" ح 1483، وروى مسلم نحوه عن جابر، ح 981، وأقرب لفظ إلى ما ذكر إمام الحرمين ما رواه يحيى بن آدم في الخراج من حديث أبانٍ عن أنس. (ر. الخراج: 116 ح 371. وفي الباب أحاديث كثيرة خرّجتها معظم كتب السنة. (ر. التلخيص: 2/ 328 ح 844).
(3) كلاهما. هكذا بالألف، وهي صحيحة مع الإضافة إلى الضمير، على لغة من يلزمها الألف دائماً، كالاسم المقصور (تعليقات العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد رحمه الله على شرح ابن عقيل: 1/ 55، 56).

(3/268)


نصف العشر، ونصف نصف العشر، والمجموع ثلاثة أرباع العشر.
وهذان القولان يقربان من اختلاف القول فيه إذا اختلفت أنواع النَّعَم، فيخرج الزكاة من الأعم، أو من كل بقسطه؟ فيه قولان.
2055 - ثم الاعتبار في معرفة الأغلب، أو معرفة الأقدار ليجب في كلٍّ بقسطه بماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما - الاعتبار بعدد السقيات، فإذا وقعت سقيتان بالنهر وسقيةٌ بالنضح، فالغلبة على قول اعتبار الغلبة للنهر، وإن أوجبنا في كل بقسطه (1 ضبطنا مقدار كل واحد كما سنصفه، وأوجبنا فيه بقسطه 1). واختلف أئمتنا في أن النظر إلى ماذا في اعتبار الأغلب [أو] (2) في بيان المقدار للتقسيط، فمنهم من قال: الاعتبار بعدد السقيات، ولا يعتبر طول الزمان وقصره، ومنهم من قال: الاعتبار بما به نموُّ الزرع والثمر وبقاؤه، فإن جَرَتْ ثلاث سقيات في شهرين، وسقيةٌ واحدة في أربعة أشهر، فالذي وقع في الأربعة الأشهر أغلب.
وعبر بعض أئمتنا بعبارة أخرى، وهي قريبة مما ذكرناه آخراً، فقال: النظر إلى النفع، فإن كان نَفْعُ سَقْيةٍ واحدةٍ أكثر، وكانت أنجعَ من سقيات من جهةٍ أخرى، فالعبرة بالنفع. وهذا ينفصل عن الذي قبله بشيء، وهو أن القائل قبل هذا القول يعتبر المدة [كما] (3) ذكرناه في الشهرين والأشهر. وهذا القائل الأخير لا ينظر. إلى المدة، وإنما (4) ينظر إلى النفع الذي يحكم به أهل الخبرة والبصيرة.
ومما يتصل بما ذكرنا أنه إذا استوى السقي بالوجهين على الوجوه في الاعتبار والتفريع على التقسيط، فالأمر هينٌ بيّن، وإن فرعنا على الأغلب، وقد استوى الأمران، فللأصحاب وجهان: أحدهما - أنا نوجب العشر نظراً للمساكين، وقال العراقيون: نرجع من قول التغليب إلى التقسيط؛ إذ ليس أحدهما أغلب من الثاني،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) مزيدة من (ت 1)، (ت 2).
(3) مزيدة من (ط)، (ت 1)، (ت 2).
(4) (ت 1): ولا.

(3/269)


وهذا منقدحٌ، فإن أشكل الأمر، فلم يُدر الأغلب أيهما، فقد حكي عن ابن سريج أنه قال: يُجعل كما لو استويا إذا تقابل الأمران، فكان ذلك كما لو صادفنا داراً في يد رجلين، فكل واحد منهما يدّعي أن جميع الدار له، فنحكم بأن يد كل واحد منهما ثابتةٌ على نصف الدار. ثم قد ذكرنا حكم الاستواء إذا تحقق، ولا وجه في حالة الإشكال إلا ما ذكروه عن ابن سريج. ومما يجب العلم به أنا إذا اعتبرنا السقيات، فلا شك أنا نراعي سقياً يفيد، فأما سقية لا تفيد أصلاً، فلا اعتبار بها، وكذلك إذا أضرت.
فرع:
2056 - إذا كان بناء الزرع والنخيل على السَّيْحِ، والنهر، وماء السماء، فمسّت الحاجةُ إلى النضح، على الندور، فقد ذكر بعض أصحابنا في هذه الصورة أن الاعتبار بالسيح، والنضحُ مطَرحٌ، وهذا ضعيفٌ، لا أصل له. والصحيح أنه معتبر إذا جرى، ثم تفصيله ما ذكرناه.
2057 - ومما يتعلق به تمامُ البيان أن التعويلَ لو كان على السَّيْح، فجرى السقيُ بالنضح، وقلّ قدرُه، فقد شُبّه ذلك بالعلف، إذا جرى نادراً في بعض السنة، حتى يقال: لا يُسقط حكمَ السوم، (1 ولكن بين الأصلين [فرقٌ] وهو أنه إذا جرى العلف في نصف السنة، والسَّوْم في نصف السنة، فالمذهب المتبع سقوط السوم 1) بالكلية، وفي النضح والسيح لا نقول هكذا؛ والسبب فيه أن في السيح والنضح جميعاً زكاة، وإنما الكلام في المقدار، فاتجه التوزيع، أو التغليب. والعلف موجَبه إسقاط الزكاة. على أنه كان من الممكن أن يسقط نصفُ الزكاة، ويجب نصفها نظراً إلى السَّوم والعلف [ولكن لم يصر إلى هذا أحد، وقيل: كأن الزمان الماضي في العلف] (2) المعتبر غيرُ منقضٍ من الحول، بل قيل هو غير محسوب، وزمان السوم قبله يُحبَط ويُسقَط، حتى إذا جرى سَوْمٌ بعد العلف، استأنفنا الحول، وجعلنا تخلّل العلف
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) مزيدة من (ت 1).

(3/270)


المعتبر على التفصيل المقدم، كتخلّل زوال الملك، في أثناء الحول.
وما ذكرناه في هذا الفرع فيه، إذا كان البناء على السيح، فوقع النَّضح نادراً، (1 أو كان البناء على النضح، فوقع السيح نادراً 1)، فأما إذا كان البناء عليهما، فلا شك في اعتبارهما إما تغليباً، وإما تقسيطاً. واعتبار العلف والسوم جمعاً بين الإسقاط والإيجاب لا سبيل إليه. نعم. قد ذكرنا عن صاحب التقريب وجهاً غريباً في السوم أن الاعتبار بالغالب، وهو مزيّف كما تقدم.
فرع:
2058 - إذا كان رُطبُه لا يقبل التجفيفَ، وإن جفف يفسد، وكذلك العنب، فقد سبق التفصيلُ في المأخوذ منه، والذي نذكره الآن أن الأئمة اختلفوا في كيفية الأوسق: فذهب بعضهم إلى أنا نقدر الجفاف على الفساد، فإن بلغ جافاً خمسةَ أوسق، أوجبنا العشر في المقدار الذي لو جف، لكان خمسة أوسق، وإن كان الرطب خمسة أوسق في نفسه، لم نوجب العشر.
ومن أئمتنا من قال: لا نقدر الجفاف -وهو الأصح- ولكنا نقول: إذا بلغ الرطب الذي وصفناه، أو العنب خمسةَ أوسق، وجب العشر، وإن كان جافاً لا يبلغ هذا المبلغ وينقص نقصاناً ظاهراً.
فصل
قال: "وأخْذُ العُشر أن يكال للمالك ... إلى آخره" (2).
2059 - سبيل إخراج العشر أن يكيل تسعة للمالك، وواحداً للمساكين، وتقع البداية بالمالك؛ فإن نصيبه أكثر، وبتسلّم حقِّه، يبين حقُّ المساكين. وإن كان الواجب نصفَ العشر، يكيل للمالك تسعةَ عشر، وللمساكين واحداً.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(2) ر. المختصر: 1/ 233.

(3/271)


فصل
قال: "وهكذا العشر مع خراج الأرض ... إلى آخره" (1).
2060 - القول في الخراج يتعلق بالسِّير، والجزية. والخراج الثابت على أراضي العراق -من ضرب عمرَ رضي الله عنه- في حكم الأجرة عندنا في ظاهر المذهب، أو في حكم ثمن مؤجلٍ لرقاب الأراضي، وكيفما فرض العشرُ يثبت معه؛ فإن من استأجر أرضاً وزرعها؛ فإنه يؤدي الأجرةَ، ويلزمه العشر في زرعه، ْ خلافاً لأبي حنيفة (2).
2061 - وأما الخراج الذي يضربه الإمام على أراضي الكفار، فهو جزية عندنا، يسقط بإسلام مالك الأرض، سقوط الجزية.
وفي بعض التصانيف أن الإمام لو رأى صرفَ العشر إلى خراجٍ يضربه على أراضي المسلمين، فاجتهاده فيه نافد عند أبي زيد المروزي، وهذا ساقط، غير معتد به.
وفساده واضح.
...
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 234. وفيه: "وهكذا نصف العشر ... ".
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 443 مسألة: 436، رؤوس المسائل ص 214، مسألة: 113، المبسوط: 2/ 207.

(3/272)


باب صدقة الوَرِق (1)
قال: "روى أبو سعيد الخُدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس فيما دون خمس أواقٍ من الورق صدقة ... إلى آخره" (2).
2062 - روى أبو سعيدٍ الخُدري هذا الحديث (3). والأوقيةُ أربعون درهماً، وخمسُ أواق مائتا درهم، والاعتبار بوزن (4 مكة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الميزان ميزان 4) مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة" (5). ثم نتكلم بعد ذلك في تحقق الوزن، وفي الدراهم المغشوشة.
2063 - فأما تحقيق الوزن، فنقول: لو نقصت من المائتين جبة، فلا زكاة إذا تحقق النقصان، ردّاً على مالك (6)؛ فإنه قال: إذا نقص نقصاناً [تجوّزنا] (7) معه بالمائتين في المعاملة، ولم يكن ذلك النقصان مما يُحْتَفل به، فالزكاة واجبةٌ. وهذا مردود عليه، من جهة أن النصاب تقديرٌ شرعي، والزكاة متعلقة بالعين، وقد تحقق النقصان.
__________
(1) الورق بكسر الراء الدراهم، والمراد هنا الدراهم والدنانير، وقال الورِق، من باب التغليب.
(2) ر. المختصر: 1/ 234.
(3) حديث أبي سعيد: متفق عليه (ر. اللؤلؤ: ح 567).
(4) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(5) حديث: "الميزان ميزان مكة" رواه من حديث ابن عمر البزار (مختصر زوائد البزار: 1/ 507 ح 876) وأبو داود: (3/ 246 ح 3340) والنسائي: (5/ 54 ح 2520) قال الحافظ: وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي وأبو الفتح القشيري (ر. التلخيص: ح 853).
(6) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 398 مسألة: 550، جواهر الإكليل: 1/ 127.
(7) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 1) "يجوز ما معه بالمائتين في المعاملة" والمثبت من (ت 2).

(3/273)


2064 - ثم ذكر الصيدلاني في كتابه (1) لفظاً مشكلاً، وأنا ناقله، قال بعد الرد على مالك، فيما ذكرناه: "فأما التفاوت بين الميزان، فلا حكم له؛ فإذا خرج بأحد الميزانين مائتا درهم، وجبت الزكاة". هذا لفظه في الكتاب.
وأنا أقول: إن أراد بهذا أن ينقص بميزان ويخرج بميزان آخر مائتين، وهذا لفظه، فليس على ما يقدره؛ فإنا لا نأمن أن يكون الميزان الذي وفى به مختلاً، والميزان الذي نقص به كان قويماً، فإيجاب الزكاة تعويلاً على الوزن الوافي إيجابٌ على تردد، والأصل براءة الذمة عن الزكاة، فلا نشغلها إلا بيقين.
وإن أراد بذكر الميزانين تكرير الوزن، فإن المقدار قد يتفق نقصانه في الظن، في وَزْنةٍ، ثم يتأنَّق الوازن، فَيَفي في كرةٍ أخرى. وهذا الذي يقوله (2) الفقهاء: "النقصان بين الكيلين لا حكم له". وكذلك ما يقع بين الوزنين.
وهذا إن أراده، فهو غير متابَع عليه، (3 فإن الوزن حاضر، فإن التبس أمرٌ في كرة، أمكن أن يتثبت في الوزن مراراً حتى يَبين أن ذلك النقصان عن سوء فعل الوازن، ويتوصل في هذا إلى اليقين، الذي لا مراء فيه، فالاكتفاء بالوزن الوافي من غير تثبت مع القدرة عليه 3) لا معنى له.
وبالجملة النصاب مقدر، ودرك اليقين ممكن، وإيجاب الزكاة بالشك لا سبيل إليه.
2065 - ومما يتعلق بالغرض في هذا أن النصاب نُقْرة (4) خالصة. ولو كانت الدراهم مغشوشة، فإن بلغت النُّقرة التي فيها خمسَ أواق، وجبت الزكاة، وإلا فلا
__________
(1) كتاب الصيدلاني، معروف باسم طريقة الصيدلاني، وهو شرح للمزني، علقه عن شيخه أبي بكر القفال المروزي (الطبقات: 4/ 148، 149).
(2) (ت 1): هو الذي نقله الفقهاء.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(4) النُّقْرةُ: القطعة المذابة من الفضة أو الذهب، وقبل الذوب هي تبر. (المصباح)، (المعجم).

(3/274)


وأبو حنيفة قال: إن غلبت النُّقرة، وجبت الزكاة (1)، وهذا زلل بيّن؛ فإن الزكاة أوجبها الشرع في خمس أواقٍ من الورق، والنحاس ليس من الورق.
ولو كان معه مائتا درهم نُقرة، ولكن كان بعض ما معه جيداً، وبعضه رديئاً - ونعني بالجودة أن يكون ما نَصِفه بكونه جيداً ليناً تحت المطارق، والرديء فيه تشتتٌ (2) وتفتت لآفةٍ معدنية، أو سبب آخر، والنقرتان جميعاً خالصتان لا يشوبهما غش.
فينبغي (3) أن يُخرج من كل نوع حصةً، على القياس الذي مهدناه فيه، إذا كان معه تمرٌ رديء، وتمرٌ جيد، وهذا لائح. فإن أخرج الواجب من النوع الجيد، فقد أحسن، وإن أدّى من كل نوع حصةً، فقد أتى بالواجب.
وإن أخرج الجميع من الرديء، فقد قال الصيدلاني: إن أخرج الكل من الرديء، جاز مع كراهيةٍ؛ لأن كل واحدٍ فضةٌ خالصة، وهذا عندي خطأ صريح، إذا تحقق التفاوت في القيمة. ولو جاز هذا، لقلنا: من ملك أنواعاً من الإبل، فأخرج الفريضة من أردئها، جاز.
ثم قال الشافعي: "وأكره الورِق المغشوش". هذا لا تعلق له بالزكاة.
2066 - فنقول: الدراهم المغشوشة إن كان مقدار نُقرتها معلوماً، وكان العيار مضبوطاً، فالمعاملة بها جائزة، إشارة إليها وتعييناً، والتزاماً في الذمة. وإن كان مقدار النقرة مجهولاً، ولكن كانت الدراهم رائجةً، فقد اختلف أئمتنا في جواز التصرف بها: فمنهم من منعه، وصار إلى أن المقصود المطلوب مجهول، والجهالة مانعة من التصرف، وليس ذلك بمثابة الإشارة إلى الدراهم (4 الخالصة؛ فإن إحاطة النظر بالمشار إليه إعلامٌ، ولا يُحصي اللَّحظُ ما في الدراهم 4) المغشوشة من النُّقرة.
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 31.
(2) "ليس المراد من الجيد والرديء الخالص والمغشوش، وإنما الكلام في محض النقرة. وجودته ترجع إلى النعومة، والصبر على الضرب، ونحوهما، والرداءة إلى الخشونة، والتفتت عند الضرب". ا. هـ بنصه عن الرافعي في فتح العزيز بهامش المجموع: 6/ 10.
(3) قوله: فينبغي ... إلخ مرتبط بما سبق من قوله: ولكن كان بعض ما معه جيداً، وبعضه رديئاً.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/275)


ومن الأئمة من جوّز التصرف بها، فإنها رائجة جارية لمكان السكة (1)، والمقصود من النُّقرة جريانُها (2).
2067 - ولا خلاف أن بيع الغالية (3) والمعجونات جائزة، وإن كانت أخلاطها مجهولة الأقدار، وإن أردنا في ذلك فرقا، قلنا: المعجونات لو لم تكن عتيدة (4)، أدَّى فقدها إلى ضررٍ. ومواطأةُ الناس في أقدار أخلاطها غيرُ ممكن، وضبط العيار والمقدار (5) ممكن معتاد في كل ناحية.
فهذا منتهى القول في هذا. والله الموفق للصواب.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن كانت له فضة، خلطها بذهب ... إلى آخره" (6).
2068 - إذا كان معه فضةٌ مخلوطة بذهب، وكان مقدار كل واحد منهما مجهولاً، وكان علم أن وزن الجميع ألفٌ، ولم يدر أن الذهب منه ستمائة، والفضة أربعمائة، أو على العكس من ذلك، فإن ميّز أحدهما عن الثاني بالنار، وأخرج الزكاة بحسبه، فذاك. وإن لم يفعل هذا، فالذي ذكره الأئمة أن طلب اليقين محتوم في الخروج عن واجب الزكاة، وسبيله أن يأخذ بالأكثر في كلِّ واحدٍ، فيخرج زكاةَ ستمائة من الذهب، وزكاة ستمائة من الفضة؛ فإن الزيادة التي يخرجها من أحد التبرين لا تُجزىء
__________
(1) السِّكةُ حديدة منقوشة، تطبع عليها الدراهم والدنانير (المعجم) والمراد هنا لكون هذه النقرة معتمدة للتعامل بها، ومسكوكة على السِّكة.
(2) أي جريانها بين الناس، وقبولها في التعامل.
(3) الغالية نوعٌ من الطيب، يتكون من أخلاط عدّة، منها المسك والعنبر (المعجم، والمصباح).
(4) العتيدة: المهيأة الحاضرة، والمعنى لو لم تكن موجودة متاحة.
(5) أي أقدار الدراهم والدنانير. بخلاف الغالية.
(6) ر. المختصر: 1/ 235.

(3/276)


عن الآخر؛ فإن الأبدال غير مجزئةٍ في الزكوات. فهذا ما ذكره أئمتنا.
ثم ذكروا هندسةً في الاطلاع على مقدار الذهب والفضة، من ذلك المختلط، وهي معروفة (1)، وأهون منها أن يُسبك مقدارٌ نزرٌ من المختلط، ويقاس به الباقي، فإن عسر ذلك، فالوجه ما ذكرناه.
وقال العراقيون: إن غلب على ظنه مقدارُ كلِّ تبرٍ، نُظر: فإن كان يُخرج الزكاة بنفسه، فله أن يبني على ظنه، ولا نكلفه طلب اليقين، (2 وإن كان يسلِّم الزكاة إلى الساعي، فإنه لا يعتمد ظنَّه في ذلك، ويقول: خذ بالأكثر، واطلب اليقين 2)، أو ميز أحدَهما عن الثاني. هذا طريقهم.
والذي قطع به أئمتنا أنه لا يجوز اعتماد الظن في ذلك. وقياسنا لائح.
ووجه الإشكال فيما ذكروه أنا إذا أوجبنا الأكثر، فقد زدنا قطعاً، وإيجاب الزكاة من غير ثَبَت (3) مشكل أيضاًً. ولكن إن أخرج المستيقن من كل تبر، فيُخرج زكاة أربعمائة من الورق، وأربعمائة من الذهب، فيبقى عليه زكاةٌ على قطعٍ، وإسقاط حق المساكين لا سبيل إليه، هذا مقطوع به.
وكذلك إذا أخذ ستمائة نُقْرة، وأربعمائة ذهباً، فيجوز أن يكون مصيباً، ولكن إذا لم ينضم إليه ظن، فلا يبرأ به في ظاهر الحكم، وهذا متفق عليه. والكلام فيه إذا ظن، وبنى على ظنه.
__________
(1) رضي الله عن إمام الحرمين، لم يشرح لنا هذا النوع من هندسة المعادن، الذي ذكره الأئمة الفقهاء ووضحوه، واكتفى بقوله هي معروفة. ألم يكن يقدّر أن أجيالاً ستأتي بعده، تقرأ كتابه مثلي أنا وهي لا تعرف هذه الهندسة. رضي الله عن أئمتنا كيف عُنوا بفقه الواقع، وأحاطوا خبراً بكل ما يتكلمون فيه.
وغفر الله لمجتهدة العصر المحدَثين استطالتهم، وتطاولهم على أئمتنا الأعلام، وإلى الله براءتي مما يقولون.
هذا، وقد ذكر ابن الصلاح هذا النوع من الهندسة في مشكل الوسيط، فراجعه إن شئت (2/ 473 بهامش الوسيط).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(3) ثبت: بفتحتين، أي حجة.

(3/277)


2069 - وهذه المسألة ملتبسة جداً في القياس، ويحتمل من طريق النظر أن يقال: إذا أخرج الزكاة على تقديرٍ في التبرين، من غير ظنٍّ غالب؛ فإنه يَخرج عما عليه غالباً، وليس هذا كما لو شك في أعداد ركعات الصلاة، فإنا في ظاهر المذهب نُوجب عليه الأخذَ بالمستيقن، ولا نُجَوِّزُ التعويلَ على ظنٍّ إن كان، وسببُه أنه استيقن وجوبَ أربع ركعات عليه، فيلزمه أن يؤدي على يقين، وفي المسألة التي نحن فيها لم يستيقن الزكاة على وجه، حتى يلزمه الخروج عما عليه، ومن علم أن عليه دَيْناً لإنسان، ولم يعلم مبلغه، فيلزمه أن يؤدِّي مبلغاً يستيقن معه أنه خرج عما لزمه.
ولكن ما ذكرناه قياسه أنه وإن لم يظن، فإذا أخرج ما يجوز أن يكون هو الواجب، كفاه. وبقي عليه بابُ الورع والاحتياط.
ومما يُشكل في المسألة فرقُهم بين أن يفرق بنفسه، وبين أن يسلمه إلى السلطان، وهو مشكل؛ من جهة أنه لا يَدَ للسلطان في زكاة التبرين، فإذا سلمت إليه، لم يبعد أن يعوّل (1 على ما يخبر عنه من ظنه، إن كان للعمل بالظن في ذلك مساغ، وإنما 1) يحسنُ النظر في هذه المسألة إذا عسر السبك، والزكاة واجبة على (2) الفور لا يجوز تأخيرها، مع وجود المستحقين. فإن تيسر السبكُ، وجب ذلك، أو الأخذ باليقين، كما صوره المراوزة. فهذا هو الممكن، وبالجملة ما ذكره العراقيون متنفَّس للفكر، وتطريق لوجوه الاحتمال.
فصل
قال: "ولو كانت له فضة ملطوخةٌ على لجام ... إلى آخره" (3).
2070 - القول فيه أن كل ما يجتمع لو رُدَّ إلى النار، فهو محسوب على المالك في الزكاة، وأما ما لا يجتمع، فمستهلك، لا حكم له.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(2) هنا خلل آخر في ترتيب صفحات نسخة (ك)، حيث عادت من نهاية ص 125 إلى بداية ص 79.
(3) ر. المختصر: 1/ 235.

(3/278)


2071 - ثم ذكر الشافعي من مذهبه أن نصاب أحد النقدين لا يكمل بالثاني، فلو ملك مائةَ درهمٍ وعشرة دنانير، أو ملك مائتي درهم إلا دانق (1)، وملك عشرين ديناراً إلا حبة، فلا زكاة عليه فيهما، وخالف فيه أبو حنيفة (2) على تفصيلٍ لأصحابه في كيفية الضم.
فصل
قال: "وإن كان في يده أقل من خمسٍ ... إلى آخره" (3).
2072 - المذهب أن من كان له دين على مليء وفيٍّ، فالزكاة فيه كالزكاة في النقد الحاضر، وسيأتي تفصيل ذلك في الديون - إن شاء الله.
وغرضنا الآن البناء على وجوب الزكاة في الديون، ثم إن كان الدين على معسر، فهو بمثابة المال المغصوب، وإن كان على جاحد، فكمثلٍ (4)، ثم قد ذكرنا أنّا إذا أوجبنا الزكاة في المجحود والمتعذّر، فلا نوجب إخراج الزكاة في الحالِ منه.
2073 - وإن كان الدين مؤجلاً على مليء وفي، فهو فيما نحن فيه الآن بمثابة المال الغائب، مع أمن الطريق، فتجب الزكاة فيه بحلول الحول. ولكن إذا حال الحول وهو غائبٌ، أو مؤجل، ففي إيجاب إخراج الزكاة (1 في الحال عن الغائب والمؤجل
__________
(1) كذا في النسخ الخمس، ولا أدري لها وجهاً بالرفع أو بالنصب من غير تنوين. بعد أن كتبنا هذا وجدنا ابنَ هشام يحكي من مشكلات الجامع الصحيح ما ذكره ابن حجر في فتح الباري من رواية لحديث أبي هريرة: "كل أمتي معافى إلا المجاهرون" برفع (المجاهرون) وعقب ابن مالك قائلاً:
"ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين في هذا النوع إلا النصب، وقد أغفلوا وروده مرفوعاً بالابتداء، ثابتَ الخبر ومحذوفه" (ر. شواهد التوضيح: 94، وفتح الباري: 13/ 97).
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 430 مسألة: 414، المبسوط: 2/ 139، تبيين الحقائق: 1/ 280.
(3) ر. المختصر: 1/ 235.
(4) أي كمثل المغصوب.

(3/279)


قولان، سيأتي ذكرهما، وليس كالمتعذر؛ فإنه لا يجب إخراج الزكاة 1) عنه، قولاً واحداً، وإنما الخلاف في الوجوب.
2074 - ولو ملك مائةَ درهم نقداً، وكان له مائةٌ مؤجلة، تجب الزكاة فيها، فإذا حال الحولُ على النقد والدين، وجبت الزكاة، فإن قلنا: يجب الإخراج عن المؤجل، فيخرج زكاة النقد والدين، ناجزاً عاجلاً. وإن قلنا: لا يجب إخراج الزكاة عن المؤجل، وفرضنا في مائة مجحودةٍ، والتفريع على وجوب الزكاة، ولكن لا يجب إخراجها، فهل يجب إخراج الزكاة عن المائة النقد؟ ذكر شيخنا وجهين: أحدهما - لا يجب؛ فإنها ناقصة عن النصاب، فإذا لم يجب إخراجُ تمام زكاة النصاب، لم يجب إخراج شيء.
والثاني -وهو المذهب الذي لا يتجه غيره- أنه يُخرج زكاة النقد؛ لتمكنه منه، وإنما يعتبر التكميل في وجوب الزكاة، فإذا وقع التفريع في وجوب الزكاة، فالوجه أن يخرج الزكاة عما يتمكن منه.
2075 - ثم قال الشافعي: "وما زاد ولو بقِيراط، فبحسابه". فإذا ملك نصاباً من أحد التبرين، وزيادة، فلا شك في وجوب الصدقة في النصاب، ومذهب الشافعي أنه ليس بعد النصاب في زكاة النقد والتجارة وَقصٌ، ولكن ما زاد ولو قَيراط، فيجب فيه بحسابه، وهو ربع العشر، والأوقاص إنما تثبت في النَّعم توقِّياً من إيجاب الأشقاص في الحيوانات، ولا تعذر في تبعيض الحساب، في القليل والكثير من النقود.
2075/م- ثم عقد باباً في زكاة الذهب (2)، ونصابُه عشرون مثقالاً، وواجبُه ربع العشر، كواجب الوَرِق، ثم تعرض لاشتراط بقاء النصاب في تمام الحول، وقد مضى هذا مستقصًى فيما تقدم.
...
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) ر. المختصر: 1/ 236.

(3/280)


باب زكاة الحلي
2076 - ظهر اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلي، فذهب عمرُ، وابنُ مسعود، وعبدُ الله بن عمرو بن العاص، إلى إيجاب الزكاة فيها (1)، وعن ابن عمرَ وعائشةَ وجابر: "لا زكاة فيه" (2)، ففي المسألة إذن قولان مشهوران.
واستقصاء توجيههما في الخلاف (3).
ثم قال الأئمة: إنما القولان في الحلي المباح، فأما الحلي المحظور، فتجب فيه الزكاة قولاً واحداً. وهذا في الأصل متفق عليه.
2077 - ونحن نذكر أولاً تفصيل المذهب في الحلي المباح والمحظور، ثم نرجع إلى غرضنا من الزكاة، فنذكر حكم الرجال، ثم نذكر حكم النساء.
فأما الرجال، فيحرم عليهم استعمال الذهب في جميع الوجوه من غير تفصيل، إلا أن يُجدعَ أنفُه، وتمس حاجته إلى اتخاذ أنفٍ من ذهب، فله ذلك -وإن كان اتخاذه من الفضة ممكناً- فإن الذهب لا يصدأ، وقد صح هذا بعينه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه رأى رجلاً مجدوعاً كان اتخذ أنفاً من فضة، فقال: "اتخذه من ذهب؛ فإن الذهب لا يصدأ" (4).
__________
(1) أثر عمر أخرجه ابن أبي شيبة: 3/ 153، والبيهقي: 4/ 139، وأما أثر عبد الله بن عمرو بن العاص، فقد رواه الشافعي في الأم: 2/ 35، وفي المختصر: 1/ 238، وأما أثر ابن مسعود، فرواه الطبراني في الكبير: ح: 9594، والبيهقي: 4/ 139، والدارقطني: 2/ 108 (ر. التلخيص: 2/ 242، ح 859).
(2) أثر ابن عمر في الموطأ: 1/ 250، وكذا أثر عائشة، وأما أثر جابر، فرواه البيهقي: 4/ 138، والدارقطني: 2/ 107 (ر. التلخيص: 2/ 243، ح 860).
(3) لم يعرض لهذه المسألة في "الدرة المضيّة" فلعله استقصاها في كتاب آخر من كتبه في الخلاف.
(4) حديث: "اتخذه من ذهب ... " أخرجه أحمد: 5/ 23، وأبو داود: الخاتم، باب ما جاء =

(3/281)


فأما التحلي بالفضة، فلا يختلف العلماء في جواز تحلية السيف والمناطق، وآلات الحرب للرجال.
وما يليق بتزيين البدن: كالخلاخل والأَسْوِرَة، ونحوها مما يختص به النساء في العرف الغالب، فاستعماله حوام على الرجال.
ولعل السبب في إباحة استعمال الحِلية في السيوف، والمناطق، وغيرها، أن المحذور في الرجال الانحلال والتبذل، وما يُشعر بالتخنث، وإذا استعملوا الحلية في السلاح، لم يتحقق ما أشرنا إليه. ويستثنى مما أصَّلْناه الخاتم، فللرجل التحلِّي بخاتمِ الفضة، وقد دَرَج عليه الأولون، فهو مستثنىً بالإجماع، ويحرم على الرجال اتخاذ خاتمٍ من ذهب، وكذلك يحرم عليه تحلية السلاح بالذهب، والمتبع فيه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرج يوماً وعلى إحدى يديه قطعةُ ذهب، وعلى الأخرى قطعة حرير، فقال: "هما حرامان على ذكور أمتي حل لإناثهم".
2078 - وكان شيخي يقول: إن طُوّق خاتم الرجل بشيء من الذهب، وكان يجتمع بالنار لو رد إليها، يحرم ذلك وإن قل؛ طرداً لتحريم استعمال الذهب على الرجال.
قال الشيخ الإمام: وفي تمويه حلية السيف بالذهب، بحيث لا يجتمع شيء لو رد إلى النار احتمال، تشبيهاً بالأواني المتخذة من النحاس، إذا مُوّهت بالذهب، كما تقدم (1 في الطهارة، ولو شبه مشبهٌ القليلَ من الذهب 1) في تطويق الخاتم وغيره، بالضَّبة الصغيرة من الذهب، في الأواني، لم يكن مبعداً.
ويشهد لذلك أن الرجل وإن حرم عليه لبسُ الحرير، فقد يحل له ثوبٌ [طُرِّز] (2) بالحرير من غير إفحاش. وأنا أخرج على ذلك طُرُزَ الذهب، فإن كانت لا تجتمع لو
__________
= في ربط الأسنان بالذهب، ح 4232، والترمذي: اللباس، باب ما جاء في شدّ الأسنان بالذهب، ح 1770، والنسائي: الزينة، باب من أصيب أنفه هل يتخذ أنفاً من ذهب؟ ح 5161 (ر. تلخيص الحبير: 2/ 340 ح 857).
(1) ما بين القوسن ساقط من (ك).
(2) في الأصل، (ط)، (ك) طرّف. وليس في مادة (ط. ر. ف) هذا المعنى إلا بالهمزة: أُطرف (المعجم، والمصباح).

(3/282)


رُدّت إلى النار؛ فإني أراها كالتمويه، وإن كان الذهب يجتمع كطُرز بغداد ومصر، فالكثير منه يحرم، والصغير خارج على ما ذكرته في [أسنان] (1) الخاتَم.
واختلف الأئمة في جواز تحلية السرج واللجام بالفضة: فمنهم من حرم، ومنهم من أجازه تشبهاً بالسيف والمِنطقة؛ من جهة أن الفرس من آلات الرجال في القتال وغيره.
وأما تحلية الدواة، فقد وجدتُ الطرقَ متفقةً على منع الرجال منها، وخروجه عن الضبط الذي ذكرناه ظاهر.
2079 - فأما النسوة فكل ما يليق بزينة النفس والتزين للأزواج، فهن غيرُ ممنوعات منه، كالخلاخل والسُّور (2) والقِرَطة وخواتيم الذهب، والمخانق، وغيرها.
والذهب في حقوقهن كالفضة. ولو استعملن الحلية في السيوف والمناطق، وآلات الحرب، فهن ممنوعات من ذلك؛ إذ لا يجوز لهن التشبّه بالرجال (3 في ذلك، كما لا يجوز للرجال التشبه بهن 3) في زينة البدن. وإذا امتنع ما ذكرناه، فتحلية السرج واللجام أولى بالمنع.
وأما سكاكين المهنة التي لا تراد للحرب، فإذا كانت محلاة، فهل يحرم على الرجال استعمالها؟ ذهب المحققون إلى أنه يحرم على الرجال، وتردد بعض الأئمة فيه، وهو موضع التردد.
وعندي أن هذا التردد يُبين اختلافاً في النساء، فإن رأينا في حق الرجال أن نلحقها بآلات الحرب، منعنا النسوة، وإن قطعناها عن آلات الحرب في حق الرجال، ففيه احتمال في حق النساء.
__________
(1) في الأصل، و (ك): انسنان، وفي (ت 2): أسباب، والمثبت من (ت 1). والمراد طرف الخاتم وحروفه.
(2) سور: جمع سوار، مثل كتاب وكُتُب، ثم أُسكنت الواو تخفيفاً.
وقرطة: وزان عنبة، مفردها قرط، بضم أوله، والمخانق جمع مِخْنقة، وهي القلادة.
سميت بذلك، لإحاطتها بالعنق. (المصباح).
(3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).

(3/283)


2080 - فأما تحلية المصاحف بالذهب والفضة، فلأصحابنا فيه طريقان: قال الصيدلاني: أما التحلية بالفضة، فجائزة للرجال والنساء جميعاً، وأما التحلية بالذهب، فجائزة للنساء، وفي جوازها للرجال وجهان: أحدهما - المنع؛ طرداً لمنع استعمال الذهب في حق الرجال.
والثاني - يجوز؛ فإنه ليس تحلياً من الرجل، وإنما هو تعظيم لكتاب الله تعالى.
فهذه طريقة.
وذهب بعض أصحابنا إلى مسلكٍ آخر، فقال: في جواز تحلية المصحف بالفضة والذهب جميعاًً في حق الرجال والنساء خلاف، فلا يختص بالخلاف أحد التبرين، ولا أحد الجنسين. فمن منعه لم يره مما يجوز للرجال في آلات الحرب، ولم يره زينةً للنساء، ومن جوزه حمل على تعظيم كتاب الله وتكريمه، فعلى هذا يستوي فيه التبران، والرجل والمرأة.
وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً - فقال: من أصحابنا من جوز تحلية المصحف، ولم يجوّز تحلية غلافه المتصل بالمصحف، وخصص الخلاف بجلد المصحف، ثم زيف هذا الوجه، ومال إلى أنه لا فرق. فإذاً في غلاف المصحف إذا لم يكن متصلاً به تردد عندي، أخذاً من اختلاف الأصحاب في أن المُحْدِث هل يمس غلاف المصحف؟ والله أعلم.
2081 - ثم قال العراقيون: منع أبو إسحاق المروزي تحلية الكعبة والمساجد بخلاف تحلية المصاحف.
هذه صيغةُ كلامهم، ولم يذكروا في منع ذلك خلافاً، ولم أعثر على خلافٍ فيه أنقله. وليس يخفى وجه الاحتمال. وكذلك نقلوا عنه تحريم تعليق قناديل الذهب والفضة في المساجد، على ما ذكرناه.
وأما تحلية سائر الكتب قد (1) منعها الأصحاب، نصوا عليه.
قال الشيخ الإمام: من فصل بين الرجال والنساء في المصاحف، يتطرق إليه أن
__________
(1) هكذا بإسقاط الفاء في جواب (أمّا). وهي لغة الكوفيين.

(3/284)


يجوّز لهن تحليةَ كتبٍ يتعاطينها، لاعتقاد ذلك حلية في حقهن، وهذا بعيدٌ، لم يقل به أحد. وبه يتبيّن أن الأولى [رفعُ] (1) الفرق بين الرجال والنساء، في تحلية المصاحف.
وردد صاحب التقريب قولَه في جواز استعمال مكحلةٍ من فضة للرجال، وكذلك ملعقة فضة للغالية، وغيرها، لا للأكل به، على شرط الصغر، والأمر محتمل، كما قال.
2082 - ثم قال الإمام: كل حلية أبحناها، فالإباحة جارية إذا لم يكن سَرف، (2 وإن كان فيها سرف 2)، فوجهان، كالمرأة تتخذ خلخالاً من مائتين، وكذلك القول فيما يضاهيه. فإذا جوزنا للرجل تحليةَ سيفه ومنطقته، فليس الحلال منه على حدّ الضبة الصغيرة، في الأواني، حتى يراعى ما سبق، وحتى تعتبر الحاجة أيضاًً، كما تقدم اعتبارها في ضبة الإناء. بل تحلية هذه الآلات من الرجال، كتحلِّي النسوة فيما يجوز لهن. والله أعلم.
فهذا ما حضرنا ذكره من القول، فيما يحرم ويحل، من التحلِّي.
2083 - وحظ الزكاة من هذا الفصل: أنا إذا أوجبنا الزكاة في الحلي من غير تفصيل، لم نحتج إلى شيءٍ من هذه التفاصيل في الزكاة.
فإن قلنا: لا زكاة في الحلي المباح، وتجب الزكاة في المحظور، فهذا موقفٌ يتعين على الناظر إجالةُ الفكر فيه، بعد الاستعانة بالله.
فالذي يعتمده من ينفي الزكاة عن الحلي أنه مصروف عن جهة النماء، وكأنه يعتقد أن الحليَّ عَرْضٌ من العروض، ويعتضد المعنى بأن النقد ليس نامياً في نفسه، وإنما يلتحق بالناميات، من جهة تهيُّئه للتصرف، فإذا اتُّخِذَ منها حلي، زال هذا المعنى، وسياق هذا يقتضي أن يقال: كل حُلي لا يُكسَر (3) على صاحبه، لا زكاة فيه، فإن
__________
(1) في الأصل: وقع.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(3) أي محترم مضمون.

(3/285)


كان يستعمله على وجه محرم، فالتحريم يرجع إلى فعله في الحلي، لا إلى نفس الحلي، نعم. إذا قلنا: تكسر أواني الذهب والفضة على ملاكها، فتجب الزكاة فيها؛ لأن تلك الصنعة مستحقةُ الإزالة شرعاً، فالأواني في حكم الشرع متبرة (1)، وكذلك لو اتخذ من التبر صوراً وآلاتِ ملاهٍ.
وهذا الذي ذكرتُه إشكال ابتديتُه، وليس قاعدةً للمذهب، فحق من يعتني بجمع المذهب أن يعتمد ما يصح نقلُه، ويستعملَ فكره في تعليله جهدَه، حتى يكون نظرُه تبعاً لمنقوله. فأما أن يستتبع المذهبَ، فهذا قصدٌ لوضع مذهب. نعم يحسن بعد النقل إبداء الإشكال، وذكْر وجوه الاحتمال في الرأي، لا ليُعتقد مذهباً، ولكن لينتفع الناظر فيها بالتدرب في مسالك الفقه.
فننقل ما ذكروه الآن في ذلك.
2084 - قالوا: إذا اتخذ الرجل حُليَّ النساء، وقصد أن يتحلى هو به، لم تسقط الزكاة، وكذلك المرأةُ إذا اتخذت مناطقَ محلاةٍ وسيوفاً، وقصدت أن تستعملها، فعليها الزكاة. وما ذكرناه من الجانبين هو الذي عناه الأئمة بالحلي المحظور، ولو اتخذ الرجل حُليَّ النساء ليُلبسَها نساءه وإماءه، وليعيرها من النساء، فلا زكاة على القول الذي نفرع عليه. وكذلك لو اتخذت المرأة ما يليق بالرجال لتُلبسَها بنيها، وغلامَها، فلا زكاة.
2085 - فإن قيل: فما تعليل المذهب، والحليُّ في نفسه محترمُ الصنعة، غيرُ مكسر على الملاَّك، وعلى كاسره الضمان [وإن] (2) فسدت القصود (3)؟
قلنا: ضبطُ المذهب في ذلك عندي: أن الزكاة تجب في النقد لعينه، وعينُه لا تنقلب، بأن يتخذ منه الحلي، ولا يشترط في جريان الورق في الحول أن يكون مطبوعاً مسكوكاً أصلاً؛ إذ تجب الزكاة في السبائك، والتبر، والحليُّ في معناهما،
__________
(1) أي محطمة، مكسّرة، مُهْلكة.
(2) في الأصل، (ك): "فإن".
(3) (ت 2): العضو.

(3/286)


وإنما يتميز عنها بالاستعمال، فلا يلتحق الحُلي بالعُروض -وهو عين الورِق- إلا بقصد (1 ينضم إليه، وهذا يناظر -على العكس- الثيابَ وغيرَها من السلع؛ فإنها ليست أموال الزكاة في أعيانها، فمن اشترى شيئاً منها، ولم يقصد التجارة، لم يثبت حكمُ الزكاة، ولم يجر الحول، فإذا انضم قصدُ التجارة إلى صور الشراء، ثبت حكم الزكاة، فكما أن العُروض لا تدخل في الزكاة إلا بقصد 1)، كذلك الورِق والذهب بنفس الصنعة لا يلتحقان بالعروض.
فهذا قاعدة الكلام. والذي يوضح هذا: أن أئمة العراق، وغيرَهم قالوا: لو اتخذت المرأة حُلياً مباحاً للاستعمال، ثم نوت بعد ذلك أن تكسر الحلي، ولا تستعملَه، فإنه يجري في الحول.
فإن كنا نفرع على أن الحُليّ لا زكاة فيه، وهذا قطب الفصل ولبابه، فنتخذه معتبر الفصل، ويشهد لهذا ما ذكره الصيدلاني وغيرُه، من أن الزكاة تجب في أواني الذهب والفضة، على قولنا: لا زكاة في الحلي. فإن قلنا: لا حرمة لصنعة الأواني، فهي في الشرع كالتبر، وإن قلنا: لصنعتها حرمة، فلا يجوز استعمالها، فهي من حيث إنها لا تستعمل كالمكنوز من الحلي، فوضح بما ذكرناه أن الحلي لا تسقط الزكاة عنه بصنعته، وانصرافِه عن التهيّؤ للتصرف، ولا بد من قصد الاستعمال.
فإذا تقرر ذلك، قلنا: سقوط الزكاة مع قيام التبر في عينه في حكم الرخصة، والرخص لا تناط بالمعاصي، فإذا قصد استعمالاً محرماً، بطل قصدُه، وإذا بطل قصد الاستعمال -وقد ثبت أن عين صنعة الحلي لا تُسقط الزكاة- تعيّن إيجاب الزكاة.
فهذا بيان قاعدة المذهب.
2086 - ولو اتخذ الإنسان حلياً، ولم يقصد استعمالَه، لا في وجهٍ محظور، ولا في وجه مباح، ولم يقصد الكنز، فهذا فيه احتمال لائح، وفي كلام الأئمة إشارة إليه.
وقد جرى في أثناء كلام صاحب التقريب -ما يدل على أن الحليَّ المباح- على قول
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/287)


إسقاط الزكاة، لا يعود إلى الحول، ما لم يقصد صاحبُه ردَّه إلى التبر، حتى لو قصد إمساكه حلياً من غير كسر، فلا زكاة.
ومجموع ما قيل يوضحه صور نأتي بها، ونذكر في كل صورة ما قيل فيها.
فلو اتخذ حلياً، وقصد عند الاتخاذ، أو بعده استعمالاً مباحاً، فهذا هو الذي لا زكاة فيه، في القول الذي نفرع عليه. وإن قصد استعمالاً محظوراً، وجبت الزكاة. وإن قصد أن يكنزه، فالمذهب وجوبُ الزكاة، وما أشرنا إليه من خلافٍ فيه غيرُ معتد به.
وإن اتخذ حُلياً، ولم يقصد شيئاً، لا الكنزَ، ولا الاستعمال، فهذا فيه خلاف وتردد ظاهر، فيجوز أن يغلّب حكم جوهره، ويجوز أن يقال: هو مصروف عن جهة النماء، ولم ينضم إليه ما يُلحقه بالتبر، والجاري على القاعدة وجوبُ الزكاة، إذا لم تكن نية وقصد.
2087 - ومن حقيقة هذا الفصل أن من قصد عند الاتخاذ قصداً فاسداً، ثم غير قصده إلى وجهٍ صحيح، فالوجه سقوط الزكاة. فإذا أعاد القصدَ الفاسد، عاد إلى حول الزكاة، فيتبع القصد.
ومما يتصل بهذا أن من اشترى شيئاً على قصد التجارة، ثم نوى القِنية، سقطت الزكاة، فلو عاد إلى نية التجارة، لم يعد حول الزكاة بمجرد النية. وأحكام الحلي فيما ذكرناه تتبدل بالقصود والنيات، من السقوط إلى الثبوت. والسبب فيه أن القِنية لا معنى لها إلا الإمساك، فإذا انضمَّت النية إليه، كفت. أما التجارة فتصرفٌ، والنية لا تحصِّلها، وأما الحلي فإنه في نفسه معدول في صُنْعه وصُوره (1) عن جهة النماء، ولكن ينبغي ألا يُضمَّ إليه نية فاسدة وقصد في ترك الاستعمال، ومن هاهنا ظهر الاحتمال فيه إذا لم يكن له قصد أصلاً.
وبالجملة لست أرى لاقتران النية بابتداء الاتخاذ أثراً، والطارىء يعمل عمل المقارن، فإن اقتضى ما يطرأُ وجوبَ الزكاة، فسببه الجوهر، وإن اقتضى ما يطرأ
__________
(1) (ت 1) معدول صنعةً وصورةً.

(3/288)


السقوطَ، فسببه صورةُ الانصراف عن التصرف، ولا يخفى على ناظرٍ في وجه الرأي أن الأصحَّ في القياس إيجاب الزكاة في الحليّ.
ثم ما ذكرناه من القصد وتأثيره، لا يشترط فيه تحقيق القصد بالفعل، ولو قصد الاستعمالَ، كفى ذلك، وإن لم يستعمله.
فهذا ما أردناه.
فصل
قال الشافعي: "وإن انكسر حليها، فلا زكاة فيه ... إلى آخره" (1).
2088 - إذا فرعنا على نفي الزكاة عن الحلي، فلو انكسر الحلي، نُظر، فإن اختل اختلالاً لا يمتنع به استعمال الحلي، فلا حكم له، وإن انكسر وترضَّضَ، وخرج عن صنعته خروجاً لا يقبل الإصلاح، وإن أريد استعمالُه، فلا بد من سبكه، وإعادة صنعته، فإن كان كذلك، فكما (2) انتهى إلى هذه الحالة، جرى في الحول، وتهيّأ للزكاة في أوانها.
فأما إذا كان الانكسار بحيث يمتنع الاستعمال معه، ولكنه يقبل الإصلاح، فما حكمه؟ قال الأئمة: إن قصد مالكُه ردَّه تبراً، أو دراهم، وقد انكسر كما وصفناه، فيجري في الحول بلا خلاف، وإن كان المالك مصمماً على إصلاحه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يجري في الحول، وحكمه حكم الحُلي، ثم لا يجري في الحول، ولا تتعلق به الزكاة -وإن تمادت الأحوال- فإنه قابل للإصلاح، غيرُ ملتحقٍ بالتبر، وقد انضم إليه القصد في الإصلاح.
والوجه الثاني - أنه كما (3) انكسر على ما وصفناه، يجري في الحول، وإن قصد المالك إصلاحه؛ فإنه خرج عن كونه حلياً؛ إذ لا يتأتى استعماله حلياً.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 239.
(2) "كما" بمعنى: "عندما".
(3) "كما" بمعنى: "عندما".

(3/289)


ولو انكسر كما ذكرناه، ولم يقصد إصلاحه، ولم يقصد أيضاًً رده تبراً، أو دراهم، ففي المسألة وجهان، مرتبان على الوجهين في الصورة التي قبل هذه، وهاهنا أولى أن يجري في الحول، من حيث لا ينضم إلى الانكسار قصدُ الإصلاح، بخلاف الصورة التي تقدمت على هذه، وينتظم فيه إذا قصد الإصلاح، أو لم يقصد شيئاً، ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يجري في الحول مطلقاً.
والثاني - لا يجري ما لم يقصد ردَّه تبراً.
والثالث - إن قصد الإصلاح، (1 فهو حلي، وإن لم يوجد هذا القصد، جرى في الحول.
2089 - وتمام البيان فيما ذكرناه: أنا إذا قلنا: لو قصد الإصلاحَ، فهو حُلي، وإن لم يقصد، فإنه يجري في الحول، فعلى هذا لو انكسر، ولم يشعر المالك حتى يُفرض منه قصدُ الإصلاح 1)، وكما (2) عرف قَصَدَ الإصلاح، فهذا فيه تردد من جهة الاحتمال، ولا نقلَ عندي فيه.
فنقول: إن لم يشعر حتى مضى حول، ثم كما بلغه الانكسار، قصد الإصلاح، فيجوز أن يقال: على وجه رعاية قصد الإصلاح إذا كان سبب استئخار قصدِه عدمَ معرفته، فإذا قصد، قلنا: يتبين بالأَخَرة أنه مُقَر على حكم الحال، فلا نوجب الزكاة تبيُّناً (3).
ويجوز أن يقال: إذا مضى حولٌ ولا قَصْدَ، وجبت الزكاة، لعدم القصد، ثم لا مردَّ لما وجب، وإن قلنا بهذا الاحتمال الأخير، فقد وجبت الزكاة للسنة المنقضية.
فإذا قصد الإصلاح، فينقدح وجهان من الاحتمال: أحدهما - أنه ينقلب في المستقبل إلى حكم الحلي؛ فإنه قصد الآن.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) "كما" بمعنى: "عندما".
(3) سبق تفسير هذا المصطلح (التبيّن).

(3/290)


والثاني - أنه لا ينفع القصد في الاستقبال بعدما اتفق وجوب. الزكاة؛ فإن الزكاة إذا وجبت، التحق المنكسر بالتبر حكماً، فلا يثبت بعد ذلك حكمُ الحلي ما لم يُعِد الصنعة.
ومن أحاط بما ذكرناه، لم يخف عليه تفريعُ صورةٍ أخرى تَشَذّ عما ذكرناه.
***

(3/291)


باب ما لا زكاة فيه
2090 - مضمون الباب أن الزكاة تختص من بين الجواهر بالتبرين، فلا زكاة في اللآلىء، واليواقيت، وغيرهما. وإذا ضبطنا ما ينحصر، كفى ذلك، في نفي ما لا ينحصر.
وتعرض الشافعي للعنبر، وذكر أنه لا زكاة فيه، وأشار إلى اختلاف السلف.
***

(3/292)


باب زكاة التجارة
2091 - ذهب العلماء المعتبرون إلى إيجاب زكاة التجارة، وقد تقدم في أول الزكاة أن الزكاة تنقسم إلى ما يتعلق بالعين، وإلى ما يتعلق بالقيمة: فأما الأعيان التي تتعلق الزكاة بها، فالنَّعم، والنقدان، والمعشَّرات، كما سبق القول في أصنافها.
وأما ما تتعلق الزكاة فيه بالقيمة، فهو مضمون هذا الباب.
وذهب أصحاب الظاهر (1) إلى نفي زكاة التجارة، وعزي هذا إلى مالك (2)، وقال الصيدلاني: قد تردد الشافعي في القديم في زكاة التجارة. وهذا لم يحكه عن القديم غيره، فلا التفات إليه.
والأصل الذي اعتمده الشافعي حديث حِماس وهو ما روي أن حِماساً (3) قال: "مررتُ على عمر بن الخطاب وعلى عُنقي آدمه (4) أحملها، فقال: ألا تؤدّي زكاتك يا حِماس؟ فقلت: يا أمير المؤمنين مالي غير هذا وأُهُب (5) في القَرَظ، فقال: ذاك مال، فضَعْ، فوضعتُها بين يديه، فحسبها، فوجدها قد وجبت فيها الزكاة، فأخذ
__________
(1) ر. المحلى: 5/ 209.
(2) "وعُزي هذا إلى مالك". كذا قال الإمام بصيغة التمريض، ولم نصل إلى هذا فيما بين أيدينا من كتب السادة المالكية. وبمثل قول الإمام قال ابن قدامة في المغني: "وحكي عن مالك وداود أنه لا زكاة في التجارة". (ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب 1/ 401، المنتقى: 2/ 120، شرح زروق: 1/ 325، الكافي لابن عبد البر: 96، القوانين الفقهية: 103، والمغنى لابن قدامة: 2/ 623).
(3) حماس: بكسر الحاء المهملة.
(4) آدمة: جمع أديم (المعجم). وذكره الحافظ في التلخيص بلفظ: أُدُم. وهو الجمع المشهور لأديم.
(5) الإهاب اسمٌ للجلد قبل أن يدبغ، والقرظ حب معروفٌ، يدبغ به. (المصباح).

(3/293)


عنها الزكاة" (1) وفيه إثبات أصل الزكاة، ودلالة ظاهرة في أن النصاب يُعتبر في آخر الحول؛ فإنه لم ينظر إلى القيم المتقدمة، وإنما اعتبر قيمة الحال، ولعله علم أن الحول كان قد انقضى.
2092 - ثم قاعدةُ الباب تدور على أصولٍ منها: القول في الحَوْل ويلتفّ به النصاب، ووقت اعتباره، ويتصل بذكر النظر في الأثمان التي تُشترى السلع بها، والقول في جنسها، وقدرها. ومن القواعد فيها ما يقع التقويم به، ومنها ما تخرج الزكاة منه. ثم إذا تنجزت القواعد، فالكلام بعدها في الأرباح وأحوالها.
2093 - فأما الحول، فلا شك في اعتباره، ثم الشرط في زكاة الأعيان أن يدوم النصاب في جميع ساعات الحول، فلو انتقص في لحظة [انقطع الحول] (2)، ثم إذا تكامل بعد ذلك، استأنفنا الحول، وقد تقدم هذا في باب المبادلة.
فأما زكاة التجارة، ففيها ثلاثةُ أقوال: أحدها - أن نعتبر أن تكون قيمة [عَرْضِ التجارة نصاباً، من أول الحول إلى آخره، حتى لو نقصت قيمة] (3) السوق عن النصاب في لحظة، انقطع الحول. ثم إن فرض كمال بعد ذلك، استأنفنا الحول، فيكون ذلك كزكاة الأموال العينية.
والقول الثاني - أنا نعتبر النصاب في أول الحول وآخره، ولا يضر انتقاص القيمة في الأثناء.
والقول الثالث - أنا لا نعتبر النصاب في أول الحول، فإذا بلغت القيمة نصاباً في الآخر، أوجبنا إخراج الزكاة، ولا أثر لما يظهر من نقصان قبل ذلك.
فأما وجه القول الأول، فالقياس الظاهر، ووجه الثاني أن الأول للانعقاد، فلا حكم به إلا على بصيرة، والآخر لإخراج الزكاة، فأما الأوقات المتخللة، فاتباعها
__________
(1) حديث حِماس رواه الشافعي في الأم: 2/ 39، وابن أبي شيبة: 3/ 183، وعبد الرزاق: 4/ 96 ح 7099، والدارقطني: 2/ 125، والبيهقي: 4/ 147.
(2) ساقطة من الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2).
(3) ساقط من الأصل، (ط)، (ك). وأثبتناه من: (ت 1)، (ت 2).

(3/294)


عسر، والأسعار متقلبة، لا ثبات لها، وليس في الأثناء وقتٌ يختص بابتداء حكم، أو إخراج حق.
والقول الثالث وجهه حديث حِماس كما تقدم، ومعناه أن اتباع القيمة متعذِّر، سيّما في حق المسافرين في أسفارهم، وتغلب الأسفار في حق التجار وأموالهم.
فنحصر نظرنا على الوقت الذي تخرج الزكاة فيه، ثم نمزج بهذا الذي ذكرناه النظرَ فيما نشتري به العروض.
2094 - فنقول: إن اشترى عَرْضاً عَلى قصد التجارة، إما أن يكون الثمن عرضاً، كان ورثه أو اتّهبه، وإما أن يكون نقداً، أو نصاباً زكاتياً من الماشية. فإن كان الثمن نقداً، لم يخل إما أن يكون نصاباً، أو ناقصاً عن النصاب، فإن كان نصاباً، فالحول يُحسب من وقت ملك النقد بلا خلاف، فلو ملك مائتي درهم [ومضت ستة أشهر، فاشترى عَرْضاً للتجارة] (1) ومضت ستة أشهر أخرى، فقد تم الحول، ولا ينقطع حولُ الدراهم بابتياع العرض؛ فإن الزكاة تتعلق بقيمته، وقيمتُه دراهم، فحول التجارة يبتني على حول النّاضّ وفاقاً.
وكذلك لو اشترى عرضاً بعرضٍ للتجارة، وانعقد الحول، ومضت ستة أشهر، فباعه بمائتي درهم، فإذا مضت ستة أشهر أخرى، وجبت الزكاة، فحول النقد مبنيٌ على التجارة، وحول التجارة مبنيٌ على حول النقد أيضاًً اتفاقاً.
ولو اشترى عرضاً بنقد، وكان ناقصاً عن النصاب، مثل أن يشتري العرضَ بمائة درهم، فليس للدرهم حولٌ منعقد، حتى يبني عليه. ولكن ننظر إلى قيمة السلعة المشتراة، فإن كانت القيمة مائتين، والثمن مائة، فينعقد الحول من وقت الشراء، وإن كانت قيمة السلعة مائة، ثم بلغت مائتين في آخر الحول، فهذا يخرج على الأقوال في وقت اعتبار النصاب: فإن اعتبرنا الآخر، وجبت الزكاة، وإن اعتبرنا مع الآخر الأول أيضاًً، لم ينعقد الحول ما لم تبلغ قيمة السلعة نصاباً، فإذا بلغتها، انعقد الحول من ذلك الوقت. هذا هو الأصل.
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(3/295)


2095 - وقال الربيع: إذا اشترى سلعة بما ينقص عن النصاب، لم ينعقد الحول، وإن بلغت القيمةُ مائتين، وتمادت السنون، حتى تباع بمائتين، ثم يقع الشراء بهما، فابتداء الحول من وقت النضوض، وبلوغ الناضّ مائتين.
وهذا مردود، لا أصل له، وما ذكره من تخريجاته؛ ويلزمه أن يقول: من اشترى عرضاً للتجارة بعرضٍ، كان ورثه، لم تجب الزكاة فيه؛ إذ لا نصَّ. وهذا غير معتد به مذهباً.
ثم لم يختلف الأئمة في أن ما يجري من الاستبدالات بعد ثبوت أصل التجارة لا تقطع الحول؛ إذ العروض التحقت بالأموال النامية، بسبب التجارة، من حيث إنها [مُكسِبةٌ] (1) لتحصيل نماء الناميات، وإذا كان كذلك، فلا وجه لانقطاع الحول بالاستبدال، وهو عين التجارة، وأيضاًً فالمعتبر المالية في جهة التجارة، وهي دائمة في تبادل [الأعراض] (2) لا تنقطع.
فهذا إذا اشترى العرض بنقد.
فأما إذا اشتراه بعرض، فإن كانت قيمةُ المشترى نصاباً، انعقد الحول، وإن كانت أقل من نصاب، خرج على أقوال الحول.
ولو اشترى عرضاً بنصابٍ من النَّعم، جار في الحول، فهذا الفصل سيأتي في أثناء الباب إن شاء الله تعالى.
2096 - وتفريع المسائل على الأصح، وهو أن النصاب يعتبر في آخر الحول، فلا عود إلى غيره إلا رمزاً، أو مست الحاجة إليه.
2097 - ثم إن وقع الشراء بعرضٍ، فالتقويم يجري في آخر الحول، بالنقد الغالب في البلد، فإن عم في البلد النقدان جميعاًً، فالذي ذكره الجماهير أنه إذا كان يبلغ نصاباً بأحدهما دون الثاني، فليقوّم بما يبلغ به النصاب.
__________
(1) في الأصل، (ك): مكتسبة.
(2) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 1) الأعواض. والمثبت من (ت 2) وحدها.

(3/296)


وإن كان يبلغ النصاب بكل واحد من النقدين، وكان التقويم بأحدهم أنفع للمساكين، تعين اعتبار الأنفع، وإن استوى النقدان، في النفع وبلوغ النصاب، فأوجه ثلاثة: أحدها - أن المالك يتخير فيهما.
والثاني - أنا [نردّ] (1) نظرنا إلى أقرب البلدان إلينا، فنقوِّم بالغالب في أقرب البلدان، ولا نزال نجول فيها بالفكر، حتى ننتهي إلى بلدةٍ يغلب فيها أحدُ النقدين، ثم إن وجدنا ذلك في بلدةٍ، لم نَعْدُها ووقفنا.
والوجه الثالث - أنا نقوّم بالدراهم؛ فإنها على الجملة أقرب من الدنانير، في شراء المستحقات (2).
وذكر العراقيون وجها آخر: أن النقدين إذا استويا في الغلبة، وكان التقويم بأحدهما أنفع، فالخيار إلى المالك، حتى لو اختار غيرَ الأنفع، جاز.
وهذا لا يعدَم نظيراً في قواعد الزكاة، فإنا ذكرنا إن الخيار بين الشاتين والعشرين في الجبران إلى المعطي، ولا نظر إلى الأنفع، وذكرنا تردداً في مثل هذا الحكم، في اجتماع الحِقاق، وبنات اللبون، في المائتين.
ثم قال العراقيون: لو كان التقويم بأحدهما ينقصه عن النصاب، والتقويمُ بالثاني يبلغه، تعيّن الأخذ بما يُبلغه نصاباً، وإنما التخيير في تفاوتٍ يرجع إلى القيمةِ والنفع، مع وجوب الزكاة في الوجهين جميعاًً؛ إذ لا معنى للتخيير بين إيجاب الزكاة، وبين إسقاطها.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر: وهو أن الواجب اعتبارُه بالدراهم إذا لم يكن الثمن في الأصل نصاباً من النقد، والسبب فيه أن الدنانير بالإضافة إلى الدراهم تكاد أن تكون عَرْضاً، من جهة أن صرف كسور الدنانير إلى المستحقرات عسر، ثم قال: فلو تردد العَرْضُ بين النقدين، وكان يساوي بالدنانير نصاباً، وينقص عن النصاب بالدراهم، فلا زكاة.
__________
(1) ساقطة من الأصل، (ط)، (ك).
(2) في (ت 1)، (ت 2): المستحقرات. ولعلها أقرب إلى السياق وأولى.

(3/297)


وهذا بعيد جداً. ولكن انتظم نقلُه، من جهة المصير إلى تعيين الدراهم.
فهذا تفصيل ما يقع به التقويم. وقد تمهدت قاعدة النصاب والحول، والأصلُ فيما يقع فيه التقويم.
ثم هذه الأصول تمهدها فروع، نرسمها.
ونقل صاحب التقريب قولاً قديماً: أن التقويم أبداً يقع بالنقد الغالب في البلد، وإن وقع الشراء بنصاب من غير النقد الغالب، (1 فابتداء الحول من وقت ذلك النصاب، ولكن التقويم في آخر الحول بالنقد الغالب 1).
وهذا غريب جداً، وليس له اتجاه في المعنى؛ فإنا لم نقطع حول النقد، من حيث اعتقدنا اعتباره في العروض.
فرع:
2098 - إذا فرعنا على أن نقصانَ القيمة في أثناء الحول لا يؤثر في حق المتربص بالسلعة، فلو كانت السلعة في أثناء الحول تساوي مائة، فباعها بسلعة أخرى، فالمذهب أن ذلك لا يؤثر.
وذكر بعض أصحابنا أن الحول ينقطع في هذه الصورة؛ لأنا كنا نُديم الحول لو استمر ملكه على السلعة الناقصة القيمة، ونتربص منتظرين ارتفاع القيمة، فإذا زال الملك، ابتدأنا الحول في السلعة المستفادة. وهذا ساقطٌ مع ما قررناه من أن المبادلة لا أثر لها في أموال التجارة. فهذا إذن مزيفٌ.
ولو باع السلعة في أثناء الحول بمائة درهم، ثم اشترى بها سلعةً، ففي انقطاع الحول خلاف مشهور هاهنا، وهو أمثل من الخلاف الأول.
وأنا أفصّل هذا فأقول: إن اشترى عرضاً بمائتي درهم، ثم باعه بعشرة دنانير، في أثناء الحول، فلا نظر إلى نقصان الدنانير؛ فإن المعتبر الدراهم، فإن بقيت الدنانير، قوّمناها في آخر الحول، وإن صرف الدنانير في آخر الحول إلى عرض آخر، لم نبال بما جرى، وقومنا بما بعنا في آخر الحول.
وإن اشترى بمائتي درهم، ثم باعه عند انخفاض السعر بمائة درهم، ثم اشترى
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/298)


بهذا عَرْضاً، فهذا موضع الخلاف؛ فإنه لو باع حقق النقصان.
ولو اشترى عرضاً بعرض، ثم باع العرض بمائة درهم، وهي النقد مثلاً، فيعود الخلاف.
فحصل منه أنه إن لم يبع، فالاعتبار بآخر الحول، على القول الذي عليه التفريع، وإن باع بأقلَّ من النصاب في الأثناء، فإن باع بغير النقد الذي يقع التقويم به، (1 فهو كبيع العرض بالعرض، وفيه تردد ذكرتُه. وإن باع بالنقد الذي يقع التقويم 1) به، فكان ناقصاً، فهذا موضع الوجهين.
فرع:
2099 - إذا اشترى عرضاً بمائة درهم، فقد ذكرنا أن الحول من وقت الشراء، على ظاهر المذهب، ولم ينعقد للمائة حول حتى نعتبرَ تاريخه، فإذا تم الحول [فالتقويم] (2) بماذا؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - التقويم بالنقد الغالب، كما مضى مفصلاً.
والثاني - أن التقويم بالثمن؛ فإنه وإن لم يكن نصاباً، فهو أخصُّ بالعرض -من حيث إنه ثمنُه- من غيره، وهو من جنس مال الزكاة، والتقويم به ممكن.
فرع:
2100 - إذا اشترى عرضاً، ثم اختلفت الأسعار: انخفاضاً وارتفاعاً حتى انقضى الحول، فقوّمنا العرضَ، فلم يبلغ نصاباً، فلا نوجب الزكاة، ولكن نحكم بانقطاع الحول، ونستأنف حولاً جديداً أم ننتظر بلوغَ القيمة نصاباً؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ينقطع اعتبار الحول الأول بنقصان النصاب في آخره، ونستأنف حولاً جديداً، حتى لو بلغت القيمة بعد شهرٍ من آخر الحول نصاباً، فلا نوجب الزكاة إلى أن يمضي حولٌ من منقرض الحول الأول.
والوجه الثاني - أنه مهما (3) بلغت القيمة نصاباً، أوجبنا [الزكاة] (4)، ولا نحسب مقدار ذلك الزمان، بين النقصان والكمال من أول الحول تقديراً. فإذا مضى شهرٌ،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1)، (ت 2).
(2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(3) "مهما" بمعنى: (إذا).
(4) زيادة من (ت 2).

(3/299)


وبلغت القيمةُ نصاباً، أوجبنا الزكاة، ثم نبتدىء حولاً جديداً، من وقت وجوب الزكاة، ولا نرد حول التاريخ الثاني (1) إلى منقرض الحول الأول وفاقاً.
2101 - فإذا ثبت ما ذكرناه، قلنا بعده: لو اشترى عرضاً بمائتي درهم، ثم باعه في أثناء الحول بعشرين ديناراً، فالدنانير عَرْض في هذه الصورة؛ إذ التقويم بالدراهم، فنقوّم الدنانير في الآخر بالدراهم، فإن بلغت نصاباً بالدراهم، أوجبنا الزكاة باعتبار الدراهم، وإن لم تبلغ قيمتُها نصاباً بالدراهم، فيُبنى هذا على الخلاف الذي ذكرناه الآن، في أن العرض إذا لم يبلغ نصاباً، فيسقط الحول الأول، أم لا؟ فإن قلنا: لا يسقط، ولكن نتربص ارتفاع القيمة، فنقول في مسألة الدنانير: نتربص بها إلى أن تبلغ قيمتُها بالدراهم نصاباً فلو بقيت سنين، ولم تبلغ الزكاة، فلا زكاة.
وإن قلنا: يسقط حكم الحول الأول ونبتدىء من منقرضه حولاً، فنقول في مسألة الدنانير: سقط حكم الحول الأول وابتدأنا الحول على الدنانير، فعلى هذا ينقلب الأمر إلى زكاة الدنانير، حتى تتعلق الزكاة بأعيانها.
ويسقط حكم التجارة، أو يتمادى حكم التجارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن حكم التجارة قائم، والدنانير عرض، فلو مضت سنة أو سنون، وقيمتها لا تبلغ نصاباً من الدراهم، فلا زكاة.
والثاني - أنه تنقلب إلى الدنانير؛ فإنها نصاب كامل، وهي من الأموال التي تتعلق الزكاة بأعيانها، ويبعد أن يملك الرجل نصاباً من الدنانير سنين، ولا تلزمه زكاتها.
وهذا له التفات إلى اجتماع التجارة في مال تتعلق الزكاة بعينه، وسيأتي هذا مشروحاً إن شاء الله.
فإن استدمنا حكم التجارة، فلا كلام، وإن انقلبنا إلى زكاة أعيان الدنانير، فإذا مضى حول، وجب فيها ربع العشر، وإن لم تبلغ قيمتُها نصاباً بالدراهم. ثم على هذا الوجه نعتبر حول الدنانير أيَّ وقت؟ فعلى وجهين: أحدهما - نعتبرها من وقت حصولها وإن تقدم على آخر حول التجارة.
__________
(1) (ت 1): ولا نرد تاريخ الحول الثاني إلى منقرض الحول الأول.

(3/300)


والثاني - نعتبر ابتداء حول الدنانير من وقت تقويمنا الدنانير في آخر الحول، وعِلْمنا بأنها لا تبلغ نصاباً تقويماً بالدراهم، والتوجيه لائح لا نتكلف إيراده.
فرع:
2102 - إذا قوّمنا السلعة في آخر الحول، فبلغت مائتي درهم، ولم يتفق إخراج الزكاة حتى ارتفع السعر، وصار العرض يساوي ثلاثمائة، بعد شهر من منقرض الحول، فما حكم الزيادة بعد الحول؟ فعلى وجهين: ذكرهما الشيخ أبو علي في شرح الفروع، أحدهما - أنه لا يجب إلا إخراج الزكاة عن المائتين، والمائة الثانية تحسب من حساب الحول الثاني، ثم ننظر إلى آخر الحول الثاني، فإن كانت القيمة زائدة كما عهدتها، أوجبنا الزكاة في آخر الحول.
والوجه الثاني - أنا نوجب الزكاة في المائة الزائدة من حساب الحول الأول. وهذا له التفات على أن النصاب إذا لم يكمل في آخر الحول، فهل يتأنَّى حتى يكمل؟ أم يبطل هذا، ويستأنف حولاً جديداً؟ ووجه التشبيه ظاهر.
ولو قومنا العرض، فبلغ مائتين في آخر الحول، وزكى المائتين، ثم فُرضت زيادةُ مائةٍ بعد هذا بشهر، فلا خلاف أن المائة الزائدة بعد تأدية الزكاة في المائتين محسوبة في الحول الثاني.
فرع:
2103 - إذا قومنا العرض في آخر الحول بثلاثمائة درهم، وباعه صاحب العرض بمائتين، وغُبن في مائة، فيلزمه زكاةُ ثلاثمائة، والمائة التي غبن فيها بمثابة طائفة من ماله، يتلفها بعد وجوب الزكاة فيها، وبمثله لو كانت القيمة مائتين في آخر الحول، فوجد زبوناً وباع السلعة بثلاثمائة، فهذه المائة الزائدة ما حكمها؟ فعلى وجهين: أحدهما - ربح، وهي بمثابة ما لو ارتفعت القيمة بالسوق في آخر السنة؛ إذ لولا السلعة، لما حصلت هذه المائة.
والثاني - أنها كسبٌ جديد، يضم إلى المائتين، ويحسب من الحول الثاني؛ فإن القيمة لم تزد، إنما احتال المالك في تحصيلها، فهو كما لو اكتسبها بصنعة وعمل.
ومن كان له سلعة قيمتها مائتان، وهو متجر فيها، فورث مائة درهم، فالدراهم تضم من وقت الاستفادة إلى السلعة، ويُعتبر فيها حول جديد لا محالة.

(3/301)


فصل
2104 - الزكاة في ظاهر المذهب، تخرج مما يقع به تقويم السلعة، وقد سبق التفصيل فيما يقع به التقويم، وللشافعي تردد في القديم، وقد جمع صاحب التقريب الجديد والقديم، وقال: حاصل المذهب فيما نحن فيه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يُخرج مما يقوّم به، وهو الجديد، والقديم، وبه الفتوى.
والثاني - أنه يخرج الزكاة من أعيان العروض، باعتبار القيمة.
والثالث - أنه بالخيار: إن شاء أخرج مما يقع به التقويم، وإن شاء أخرج من العروض.
توجيه الأقوال: من قال: لا يجزىء إلا الإخراج مما يقع به التقويم قال: متعلَّق الزكاة معنى العروض، لا أعيانُها، والزكاة تخرج مما تتعلق به، ومن عيَّن العروضَ، احتج بأنها الأموال، والقيم تقدير. ومن خيّر، حمل الأمر على ما وجهنا به القولين، وقال: حكم مجموعهما، والعمل بهما التخيير، وكأن الأمر عنده مشوب، وهذا يناظر [المصيرَ] (1) إلى الخِيَرة، عند تعارض النقدين في الغلبة، والتفريع على الجديد، وهو الأصح.
فرع:
2105 - إذا اشترى عرضاً بمائتي درهم، وعشرين ديناراً، فيتعين التقويم بهما جميعاًً، باعتبار التقسيط، ووقت هذا الاعتبار حالَ العقد؛ فإن المثمَّن يتوزع على الثمن في تلك الحالة، والسبيل فيه أن نقول مثلاً: تقوّم الدراهم بالدنانير، فإن كان مائتا درهم تساوي عشرةَ دنانير، أو الدنانير تساوي أربعمائة درهم، فثلثا السلعة يقوَّم بالدنانير، وثلثها بالدراهم في آخر الحول. ويميز الثلث عن الثلثين، فإن بلغ كلُّ واحدٍ منهما نصاباً مما قوّمناه به، فذلك. وإن لم يبلغ كل قسط نصاباً، لانحطاط السعر، فلا زكاة أصلاً. وإن بلغ أحدهما نصاباً دون الثاني، تجب الزكاة في حصة التي بلغت نصاباً، دون الثاني.
__________
(1) في جميع النسخ: "الأمر" ما عدا (ت 1)، والمثبت منها.

(3/302)


وإن قال قائل: العرض جنسٌ واحد، والغِنى حاصل بالجميع، وليس في زكاة التجارة وقص، بعد الوجوب، فإسقاط الزكاة عن بعض المال بعيدٌ عن القاعدة الكلية، وإن انقدح قياسٌ جزئي. قلنا: هذا بمثابة استبعاد من يستبعد نفيَ الزكاة عمن ملك عشرين دينار إلا سدس دينار، وملك مائتي درهم إلا سدس درهم، فالغِنى متحقق، ولكن لا نضم نصاباً إلى نصاب.
وإن خالف مخالف في النقدين، فلا خلاف أن من ملك أربعةً من الإبل، وتسعةً وثلاثين من الغنم، وتسعة وعشرين من البقر، فلا زكاة عليه. وسبب جميع ما ذكرناه أن الغالب في أمر النصب التعبد الذي لا يعقل معناه.
وقد ذكرنا قولاً قديماً من نقل صاحب التقريب ملحقاً بالحاشية (1): أن التقويم أبداً يقع بالنقد الغالب، فعلى هذا يقوّم جميع العرض بالنقد الغالب، فإن لم يبلغ نصاباً، فلا زكاة فيه، وإن بلغ نصاباً، أو نصاباً ووقصاً، وجبت الزكاة في جميعه.
هذا موجب هذا القول، ولكنه غير صحيح.
فصل
2106 - مضمون هذا الفصل القولُ في الأرباح، وما يضم منها إلى الأصل، وما لا يضم، وما اختلف فيه.
فنقول: من ملك عشرين ديناراً، وكما ملكها، اشترى بها سلعة، ثم انقضى الحولُ، والسلعة تساوي أربعين ديناراً، فيجب إخراج الزكاة عن الأربعين؛ فإن الاعتبار في مقدار المال بآخر الحول، (2 وهذا ظاهر على القول الصحيح في أن الاعتبار 2) بآخر الحول، حتى لو نقصت القيمة عن النصاب أول الحول أو في أثنائه، وكَمَل في آخر الحول، وجبت الزكاة. فإذا كنا نعتبر في النصاب في أصل المال آخر الحول، فالربح إذا ألفيناه في آخر الحول، أوجبنا الزكاة [فيهما] (3)، ضماً إلى الأصل.
__________
(1) مرة أخرى يشير إلى (الحاشية)، ولعله ملحق بحاشية (التقريب).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(3) في جميع النسخ "فيها" ما عدا (ت 2) فالمثبت منها.

(3/303)


فأما من قال: نعتبر في النصاب جميع أزمان الحول، كدأبنا في زكاة الأعيان، حتى لو نقص السعر، ورجعت القيمة إلى أقل من النصاب، انقطع الحول، فهذا القائل قد لا يسلّم أن الربح الحاصل في آخر الحول فيه الزكاة، وقياسه يقتضي أن نقول إذا ظهر الربح في أثناء الحول بارتفاع السعر، فظهوره بمثابة نضوضه (1)، وسنذكر اختلاف القول في أن السلعة إذا نضت في الأثناء، وظهر الربح ونضّ، فهل نضم الربح، أو نبتدىء له حولاً، كما (2) يحصل ناضاً؟ هذا ما لا بد منه.
ولكن حكى الأئمة القطعَ بإيجاب الزكاة في الربح إذا لم ينضّ في وسط الحول.
وسبب ذلك أن أئمة المذهب ينقلون القولَ الضعيف، ثم إذا توسّطوا التفريعَ، لا يفرعون إلا على الصحيح، فوقع القطع تفريعاً على الصحيح، وهو أن الاعتبار في النصاب بآخر الحول. هذا إذا اشترى سلعة، فزادت قيمتُها بالسوق، ولم تنض في خلال الحول.
2107 - فأما إذا اشترى سلعة بعشرين، ومضت ستة أشهر، فباعها عند ارتفاع السعر بأربعين ديناراً، فمضت ستة أشهر أخرى، أما حول العشرين، فقد تم، والكلام في الربح الناضّ، الذي حصل في خلال السنة، ومضى بعد حصوله ستة أشهر، وفيه نصان، فالذي نقله المزني في هذا الباب أن ذلك الربح الذي ينض يبتدىء حوْله، ولا يضم إلى حول رأس المال. ونصُّ الشافعي في القراض يدل على أنه مضموم إلى أصله في حوله.
والطريقة المشهورة تأصيل قولين في المسألة: أحدهما - أن الربح وإن نضَّ، فهو مضمومٌ إلى أصله؛ فإنه فائدة مستفادة منه، فكان كالنتاج، ولا خلاف أن النتاج في المواشي مضموم إلى الأمهات في حولها، كما تقدم بيان ذلك.
والقول الثاني - وهو المرضي، وهو الذي فرَّع عليه ابن الحداد -أنا نستأنف حولاً
__________
(1) نضَّ العَرْض: أي صار نقداً، ببيع أو معاوضة، فالناضُّ من المال ما كان نقداً، وهو ضد العَرْض. والعَرْض بتسكين الراء، من صنوف الأموال، ما كان من غير الذهب والفضة اللذين هما ثمن كل عَرْض. (الزاهر: فقرة 301).
(2) "كما" بمعنى (عندما).

(3/304)


جديداً للربح الذي نضَّ؛ فإنه مالٌ جديد، استفاده، لا من عين ماله القديم، وليس كالنتاج؛ فإنه من أعيان الأمهات، وكأن الربح الذي نضَّ مأخوذ من كيس (1) الطالبين، وسببه الرغبات التي فطرها الله تعالى في النفوس.
2108 - ثم ذكر الشيخ أبو علي تردداً للأصحاب في تصوير القولين، وأنا آتي به بيِّناً إن شاء الله تعالى: فلو اشترى السلعة بعشرين، ثم بعد ستة أشهر باعها بأربعين، وبقيت الدنانير إلى آخر الحول، وكان هو على قصد التجارة في أعيان الدنانير، أو كان على عزم أن يشتري بها سلعة، ثم لم يتفق، ففي الربح الحاصل قولان: أحدهما - أنه يعتبر فيه حول مبتدأ من وقعت حصوله.
والثاني: يبنى حوله على حول الأصل، فإذا مضت ستة أشهر، من وقت حصوله، فقد تم حول رأس المال، ووجبت الزكاة فيه، فتجب الزكاة في الربح، وإن لم يمض من وقت حصوله إلا ستة أشهر، قياساً على النتاج في هذه الصورة.
فأما إذا اشترى سلعة بعشرين ديناراً، وباعها بعد ستة أشهر بأربعين، ولم يقصد التجارة، أو قصد قطعها، فمضت ستة أشهر أخرى، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: نخصّ الربحَ بحولٍ قولاً واحداً هاهنا، وهذا ضعيف.
ومن أصحابنا من خرج القولين في هذه الصورة أيضاًً؛ فإنّ تغيُّر قصدِه لا يخرج الربحَ المستفادَ عن كونه ربحاً، ومن يرى الضم فمعوله ضمُّ الفائدة إلى الأصل كالنتاج، وهذا المعنى متحقق في هذه الصورة.
ثم إذا فرعنا على أن الربح إذا نضّ يُفرد بحولٍ، فابتداء حوله من أي وقت يحتسب؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه محسوب من وقت النضوض؛ لأن السعر لو بقي مرتفعاً، ولم تنضّ السلعة، إلا في آخر الحول، فالزيادة مضمومة في هذه الصورة، فالسبب الذي أوجب إفراد الربح حصولُه بطريق النضوض.
والوجه الثاني - أنه يحتسب ابتداء الحول من وقت الظهور؛ فإنه حاصلٌ بالظهور، ولكن لا ثقة بالأرباح حتى تنض، فإذا نضّ، تبينا بالأخرة حصولَ الربح. وتحققَه
__________
(1) أي أن الربح ثمرةُ المهارة في العمل، وليس من عين المال.

(3/305)


عند الظهور. وقد تقدم لهذا نظير في الفروع المتقدمة.
هذا بيان الأصل.
2109 - ونحن نذكر الآن صورةَ فرعٍ لابن الحداد نذكر فيه ما تتهذب به الأصول إن شاء الله.
فإذا اشترى الرجلُ عَرْضاً بعشرين، ومضت ستةُ أشهر، (1 فباع العرْضَ بأربعين ديناراً، ثم اشترى على الفور بالأربعين عَرضاً، وأمسك ستةَ أشهر، ثم باعه بمائة دينار، قال ابن الحداد: يجب على صاحب المال في آخر الحول زكاة خمسين ديناراً، فإذا مضت ستةُ أشهر 1) أخرى يخرج زكاة العشرين التي استفاد أولاً ربحاً في أثناء الحول، فإذا مضت ستةُ أشهر أخرى، أخرج زكاة الثلاثين الباقية.
هذا جوابه. وهو سديد مفرعٌّ على أن الربح إذا نضَّ، استأنفنا له حولاً، ووجه قوله تخريجاً على ذلك، أنه لما اشترى السلعة بعشرين أولاً، فهي رأس المال، فإذا باع بأربعين، فالنصف منها ربح، فإذا اشترى بالمجموع سلعة، ثم باعها بمائة في آخر السنة، فالربح المستجد وهو ستون في آخر الحول منبسط على الأصل والربح المستفاد في أثناء الحول، فيخص رأس المال من الستين ثلاثون، وهذا لم ينض إلا الآن، وهو آخر حول رأس المال، فوجبت الزكاة في الأصل والربح.
وهذا يناظر صورةً نَذكرها وهي أنه إذا اشترى عَرْضاً بعشرين ديناراً، وباعها بعشرين، واشترى بها سلعة، وباعها في آخر الحول بخمسين، فتجب الزكاة في الخمسين.
فأما قوله: تجب الزكاة في العشرين الزائدة ريعاً في أثناء الحول إذا مضت ستة أشهر، [فصحيح؛ تفريعاً على أن الربح الناض يبتدأ له حول، وقد استفاد العشرين في أثناء الحول، فإذا مضت ستة أشهر] (2) (3 بعد منقرض حول رأس المال، فتمّ الآن حول تلك العشرين.
فأما قوله: إذا مضت ستة أشهر 3)، وجبت الزكاة في الثلاثين الباقية، فهذا
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) زيادة من (ت 1) وحدها.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/306)


صحيح؛ فإن هذه الثلاثين ربح على الربح، وقد نضت في آخر حول رأس المال، وهو وسط حول الربح، فيبتدىء لهذه الثلاثين حولاً كاملاً، فإذا انقضى، أوجبنا الزكاة فيه.
وما ذكرناه تفريع على أن الربح يُبتدأ له الحول.
فأما إذا فرعنا على ضم الربح إلى رأس المال، فنوجب الزكاة في المائة بتمامها، كما (1) حصلت ونضّت. فهذا بيان الفرع الذي ذكره.
2110 - ولو كانت [المسألة بحالها، ولكن لما اشترى بالأربعين السلعة وكانت] (2) تساوي مائة كما تقدم في آخر حول رأس المال، فلم يتفق بيعها حتى مضت ستةُ أشهر، ثم بيعت بالمائة: فأما إخراج الزكاة من الخمسين الأولى، فعلى القياس المتقدم. فأما إذا مضت ستة أشهر من آخر حول رأس المال، والسلعة ما نضّت بعدُ، فإن بيعت بالمائة، أو تركت، فتجب زكاة الخمسين الأخرى الآن، لأن حول العشرين التي كانت ربحاً في خلال الحول قد تم، ولم تنض حصتُه من الربح الثاني في خلال السنة، فتجب الزكاة في ربح الربح، بانقضاء حول الربح الأول، لا محالة. وهذا واضح.
وهذه الصورة تنفصل عن الصورة المتقدمة، بما ذكرناه، من أن ربح الربح الأول نضّ في خلال حول الربح الأول، فاقتضى ذلك حولاً لربح الربح، ولم ينض ربح الربح في خلال سنة الربح، وهي الصورة الأخيرة.
2111 - ومما ينبغي ألاّ نغفل عنه -وإن كان بيِّناً- أنا في صورة ابن الحداد إذا جرينا على ما فرع عليه، فتجب الزكاة في الثلاثين الباقية من المائة، بعد سنةٍ من انقضاء السنة الأولى، ثم إذا مضت السنةُ الثانية من تاريخ حول رأس المال، وأوجبنا عند انقضائه زكاة الثلاثين، فلا شك أنا نوجب الزكاة مرةً ثانية في الخمسين الأولى التي
__________
(1) "كما" بمعنى (عندما).
(2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(3/307)


أوجبنا الزكاة فيها في آخر حول رأس المال.
فهذا تمام البيان فيما ذكره ابن الحداد.
2112 - وذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر لبعض الأصحاب، مخالفاً لمذهبه مع التفريع على أصله، فقال: من أصحابنا من قال: إذا تم حولُ رأس المال، وبيعت السلعة بالمائة، فلا تجب إلا زكاةُ رأس المال، وهو عشرون، فإذا مضت ستة أشهر أخرى، فقد تم حول (1 العشرين المستفادة في البيعة الأولى، فيخرج زكاتها، فإذا مضت ستة أشهر أخرى، فقد تم حول 1) الستين من تاريخ انقضاء حول رأس المال، فيخرج الآن زكاة الستين.
وهذا فاسد. ولكن بناه صاحبه على خيال تخيله، وهو أن السلعة في البيعة الأولى نضّت؛ فأثّر نضوضُ رأس المال في انقطاع تبعية الربح الثاني عنه، حتى تجب الزكاة في الربح الذي يخصه بحساب حوله، ثم نضّ الربح الثاني، فابتدأنا من نضوض حصة رأس المال حولاً جديداً. وهذا القائل يقول لا محالة: لو ملك الرجل عشرين ديناراً ستة أشهر، ثم اشترى بها سلعة، فمضت ستة أشهر، فباعها بمائة، لا يزكي إلا عشرين، والثمانون يبتدىء لها حولاً آخر، من آخر حول العشرين، الذي هو رأس المال، وكأنه يقول: إنما يَتْبَعُ الربح إذا دام العَرْض سنة، وهذا ليس بشيء؛ فإن النقد، وإن ظهر، فهو في معنى العَرْض، والعَرْض في معنى النقد، ولولا ذلك، لكان ينقطع حول العَرْض بالنضوض، ولما انبنى حولُ عَرْضٍ على حول النقد المصروف فيه.
فالحق ما ذكره ابن الحداد، وما عداه خيال لا حاصل له، ولست أعده من المذهب.
وقد ذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر بالغاً في الركاكة والضعف، ولم أستجز نقله في هذا المجموع.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/308)


فصل
2113 - جمع الشافعي بين أن يشتري الرجل عرضاً بدراهم، أو دنانير، أو نصابٍ من الماشية الزكاتية، ثم قال مجيباً: "حولُ التجارة من يوم أفاد النقدَ أو الماشيةَ" (1). وظاهر كلامه يدل على أن ثمن العرض المشترى لو كان نصاباً من النَّعَم السائمة، فالحول يعتبر من يوم ملك النصاب الزكاتي من السائمة. وهذا غامض.
وقد اعترض عليه المزني فقال: "جمع الشافعي بين النقد والماشية، وليسا سواء؛ فإن زكاة النقد كزكاة التجارة في القدر، فإن ثبتت التجارة على ملك النقد، فهو لتشابه مقدار الزكاة. فأما زكاة الأربعين من الغنم فشاة، فلا يمكن بناء زكاة التجارة عليه" (2).
قال الأئمة: اعتراض المزني صحيح في المعنى مذهباً، ومعناه مضطرب؛ من جهة أن البناء إن امتنع، فليس سببه الاختلاف بدليل أن الاختلاف، لو منع البناء، لجاز البناء مع الاتفاق، حتى لو باع أربعين من الغنم بأربعين من الغنم، لوجب البناء من جهة اتفاق الزكاتين، وليس الأمر كذلك.
وقد اختلف أصحابنا فيما نقله المزني: فمنهم من قال: هو غالط في النقل، والوجه القطع بأنه لا يبنى على حول السائمة، كالدراهم؛ من جهة أن العرض مقوم بالدراهم؛ فكأن الدراهم موجودة في معنى عرض التجارة وماليته، وإن لم تكن موجودة. وليس كذلك الماشية؛ فإن عرض التجارة لا يقوم بها، فليست الماشية موجودة، ولا معتبرة في معنى العرض. وهذا هو المذهب.
ومن أئمتنا مَنْ أَوّلَ النص على وجهه، فقال: صوّر الشافعي ملك النقد والسائمة وشراء العرض في يوم واحد، وهذا بيّن في لفظة مصرّح به، ثم قال: فحول التجارة من يوم ملك السائمة. فكان هذا إعلاماً منه لذلك اليوم، لا للتأرخ بملك السائمة،
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 242. وهذا معنى كلام الشافعي، وليس بنص المختصر.
(2) ر. المختصر: الموضع السابق نفسه.

(3/309)


وهذا عندي تكلف، واللفظ مشكل.
وذهب الإصطخري إلى أن حول التجارة مبنيٌ على حول الماشية؛ فإنها مال زكاتي، وليس كما لو اشترى عرضاً بعرض؛ فإنها لا تجب الزكاة في أعيانها، واستدل على ذلك بأن حول التجارة مبني على حول النقد، مع أن زكاة النقد زكاةُ العين، وزكاة التجارة زكاةُ قيمة.
وليس (1) هذا بشيء. وقد ذكرنا سببَ بناء حول التجارة على حول النقد فيما تقدم، والوجه القطع بأن من اشترى عرضاً على قصد التجارة بنصابٍ من النعم السائمة، انقطع حول السائمة، وافتتحنا حولَ التجارة من وقت الشراء، والكلام على النص غامض، والوجه التغليط في النقل. وبالجملة لا نترك قواعد المذهب بغلطات الناقلين.
وإذا نجزت هذه الأصول، فإنا نزسم بعدها فروعاً.
فرع:
2114 - نقل صاحب التقريب عن ابن سريج أنه إذا اشترى مائتي قفيز من الحنطة بمائتي درهم، ثم إذا انقضى الحول، وتمكن من أداء الزكاة، فأتلف الحنطة، وقيمةُ الحنطة يوم الإتلاف مائتا درهم، كما كانت، ثم غلت القيمةُ وبلغت قيمة المائتين أربعمائة درهم، فهذا يفرع على أن الزكاة تخرج من العين أو القيمة؟ وفيه أقوال قدمناها في أصول الباب.
فإن قلنا: الزكاة تخرج من العرض حتماً، فيخرج خمسة أقفزة قيمتها عشرة، وإن قلنا: يتعيّن إخراج القيمة، فإنه يُخرج خمسة دراهم، اعتباراً بالقيمة يومَ الإتلاف، وكان القيمة يومئذ مائتي درهم، وما فرض من زيادة القيمة بعد الإتلاف غيرُ معتبر، ْوهو بمثابة ما لو أتلف الغاصب ثوباً قيمته مائةٌ يومَ الإتلاف. وإن قلنا: يتخير في
__________
(1) من هنا بدأت نسخة هـ 1، ولكنها متلاشية من أطراف الأوراق بسبب بلل يذهب بأكثر من نصف الصفحة أحياناً مما يتعذر معه الاستفادة بها، ولذا لن نعتمدها في المقابلة إلا من أول (باب زكاة المعدن) حيث يخف هذا الأثر. ولكن ذلك لن يمنعنا من اللجوء إليها عند المشكلات، والله المعين.

(3/310)


إخراج الزكاة بين القيمة والعين، فيتخير بين إخراج خمسة (1). وبين إخراج خمسة أقفزة قيمتها عشرة.
وحكى صاحب التقريب وجهاً عن بعض الأصحاب أن القيمةَ عشرةُ دراهم (2)، وهذا بعيدٌ، لا وجه له، لما ذكرناه في الغصب (3).
والممكن في توجيهه أن حق المساكين في طريق ظاهرة لا يتعلق بعين المال تعلق استحقاق، وإنما نَعتمد الذمة، والمتلَف بحكم التفريط كأنه باق؛ من جهة أن الزكاة لم تسقط، فإذا أتلف الحنطة، فهو مأمور بإخراج قيمة ربع عشر ما أتلفه، وقيمة ربع عُشْره عشرة.
فرع:
2115 - إذا اشترى للتجارة جاريةً بألف، فولدت ولداً في آخر الحول، وقيمته مائتا درهم، فإن لم تنقُص الجاريةُ بالطلق، فقد قال ابن سريج: لا نوجب على المالك إلا زكاة ألف، ولا نضم الولد إلى الأم؛ فإنه فائدة لا من طريق التجارة.
ثم قال: فلو نقصت قيمةُ الجارية، وصارت تساوي ثمانمائة، وقيمةُ الولد مائتان، فنجبرُ نقصان الأم بقيمة الولد، وزعم أن الولد لا تضمُّ قيمتُه إلى قيمة الأم، لزيادة الزكاة. ولكن قيمة الولد تجبر نقصان الأم.
وهذا فيه تردّد ظاهر؛ من جهة الاحتمال. أما قوله: لا تُضم؛ فإن هذه الزيادة ليست نتيجة التجارة، فمُتَّجِهٌ حسن. ولكن مساق هذا قد يقتضي أنه لا يجبر به نقصان الأم، ويقال: النقصان حاصل، والولد في حكم التجارة غير معتد به أصلاً، وكأنه وُهب له ذلك الولد.
وإن كنا نجبر به النقصان، فلا يمتنع أن يقال: تُضم قيمة الولد إلى قيمة الأم، وإن لم يتفق نقصان؛ فإنه جزء منها، والولد في حكم الملك مضموم إلى الأم.
ولا خلاف أنهِ لو اشترى جاريةً، فزادت في يده، وازدادت قيمتها لزيادتها
__________
(1) كذا بحذف التمييز للعلم به من السياق.
(2) أي إذا قلنا: يتعين إخراج القيمة، يخرج في هذه الصورة عشرة دراهم، باعتبار قيمتها أربعمائة، فربع العشر فيها عشرة.
(3) أي لما ذكرناه في تضمين الغاصب القيمة باعتبار يوم الإتلاف، ولا نظر لارتفاعها بعد ذلك.

(3/311)


المتصلة، فنعتبر قيمتها، بالغةً ما بلغت.
وقد ينقدح في هذا فرق، من جهة أن إفراد الزيادة المتصلة غير ممكن.
والذي ذكره ابن سريج فقيه: أمّا منعُ الضم حيث لا نقصان، فَلِما تقدّم، وأمّا الضم للجبران، فسببه أن الأم انتقصت بسبب الولد، فقيل: نقصانها انفصال الولد، والولد عتيد (1)، فيجعل كأنه لا نقصان، وقياسه يقتضي أن الجارية لو نقصت بالولادة، فأمر الجبران على ما ذكرناه، وإن انتقصت بسبب آخر، فلا يجبر نقصانها بالولد حينئذ. والله أعلم.
ومما فرّعه على ما أصّله أن الجارية إذا كانت تساوي ألفاً، فنقصت مائة من قيمتها بسبب الولادة، فصارت تساوي تسعمائة، وقيمة الولد مائتان، فنجبر المائة الناقصة بمائة، من قيمة الولد، ونلغي الأخرى.
ومما يعترض فيما ذكرناه أنا إذا لم نضم قيمةَ الولد إلى قيمة الأم، فكيف قولنا في زكاة الولد في السنة الثانية؟ أنخرجه من حساب التجارة في السنين المستقبلة، أم كيف الوجه؟ الظاهر أنا لا نوجب الزكاة؛ فإنه فيما نختاره الآن منفصل عن تبعية الأم، وليس أصلاً في التجارة، ولا نقلَ [إلا] (2) ما ذكرناه عن ابن سريج، وفيه الاحتمال اللائح، وليس تصفو أطراف المسألة عن احتمال.
فرع:
2116 - إذا وجبت الزكاة في مال التجارة، فأراد المالك بيعَ المال، ذكر صاحب التقريب تردد الأصحاب في جواز البيع، قبل تأدية الزكاة، وقال: من أصحابنا من خرجه على القولين في بيع مال الزكاة، كالمواشي إذا وجبت الزكاة فيها، ومنهم من مال إلى تجويز البيع. وقال بعض الأصحاب: إن قلنا: الزكاة تؤدى من عين العرض، فهو كزكاة العين إذا وجبت. وإن قلنا: الزكاة تؤدى من القيمة، فالتفصيل في منع البيع وتجويزه، كالتفصيل في خمس من الإبل وجبت فيها الزكاة؛ فإن الشاة ليست من جنسها، كالقيمة ليست من جنس العروض.
__________
(1) عتيد: حاضر موجود.
(2) في جميع النسخ: أما. والمثبت من (ت 1) وحدها.

(3/312)


قلت: وهذا غفلة عظيمة، وذهول عن أمرٍ لا يخفى على الشادي الفطن، وذلك أن بيع مال التجارة تجارة، فكيف يخطر لذي فهمٍ منعُ ما هو من قبيل التجارة في مال التجارة. ونحن وإن قلنا: إنه يتعيّن إخراج العرض، فسدُّ بابِ البيع لا وجه له، فالذي قدمتُه غلط، غيرُ معدود من المذهب.
فإن قيل: أرأيتم لو باع مال التجارة على اقتناء عوضه؟ فهذا قطع للتجارة. فهلاّ خرجتم هذا على تفصيل المنع؟ قلنا: إذا كانت المالية قائمة، فنجعل كأن البيع لم يجر، والدليل عليه أنه لو نوى القِنية، انقطعت التجارةُ بمجرد النية، ولا امتناع فيه.
نعم، لا ينقدح الخلاف إلا فيه إذا وجبت زكاة التجارة، فوهب مال التجارة، فهذا يخرج على التفصيل المقدم في زكاة الأعيان؛ فإن الهبة تقطع المالية، وهي متعلق زكاة التجارة، كما أن البيع يقطع الملك في متعلّق الزكاة، فهذا ما لا يجوز تخيّل غيره.
فصل
قال: "ولو اشترى عرضاً لغير تجارة ... الفصلُ إلى آخره" (1).
2117 - من كانت له عروض ورثها، أو اتهبها، فلو نوى التجارة فيها، لم ينعقد الحول عليها بمجرد النية. ولو اشترى عرضاً، ونوى الاقتناء، أو لم ينو شيئاً، لم ينعقد حول التجارة؛ فإن الشراء في نفسه ليس بتجارة؛ إذ المشتري قد يقتني ولا يتجر، ولو اشترى ونوى التجارة مع الشراء، فينعقد حول التجارة حينئذ، ولو نوى القِنية، أو اشترى [مطلقاً، ثم نوى التجارة، فلا حكم لهذه النية الطارئة، ولو اشترى] (2) شيئاً بقصد التجارة، ثم نوى بعد انعقاد حول التجارة الاقتناءَ، انقطع الحول بمجرد النية للقنية، والسبب فيه أن الاقتناء معناه الحبس للانتفاع، فإذا أمسك ونوى القنية، فقد قرن النية بما هو على صورة الاقتناء في نفسه، فأما إذا نوى التجارة
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 243.
(2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(3/313)


في مال قِنية، فهذه نية مجردة، وإمساك المال [ليس] (1) على صورة التجارة.
وقد حكى العراقيون، عن الكرابيسي أنه قال: قد تثبت التجارة بمجرد النية؛ فإن التربص والانتظار لارتفاع الأسعار من صورة التجارة. وهذا بعيد غيرُ معدودٍ من المذهب.
2118 - ولو اتهب شيئاً ونوى الاتجار، فليس بتجارة، وإن كان يتعلق بقصده، وكذلك إذا احتش، أو احتطب، أو اصطاد، ولو نكحت [المرأة، ونوت التجارة في الصداق، أو خالع الرجلُ امرأةً، ونوى التجارة فيما يستفيد من عوض] (2) الخلع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه متجر، وينعقد الحول؛ لأنه استحقاق مال بمعاوضة.
والثاني - أنه ليس يثبت حكم التجارة؛ فإن هذه الجهات لا تعدّ من التجارات في العرف، ولهذا يجوز خلوها من الأعواض الصحيحة.
2119 - ولو اشترى عبداً بثوبٍ، وقصد التجارة، فرُدّ عليه الثوب بالعيب، واسترد العبد منه، نظر، فإن كان الثوب عنده على حكم التجارة، فإذا عاد إليه، يعود على [حكم] (3) التجارة، [وإن كان الثوب على حكم القنية عنده، فإذا اشترى به عبداً على قصد التجارة] (4) ثم رُدّ الثوب عليه، كما صورناه، فيعود الثوب إلى ما كان عليه قبل البيع من حكم القنية؛ فإن التجارة إنما تثبت في العبد بالبيع الذي جرى، وقد زال البيع بالفسخ، فزال حكم التجارة بزواله، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل البيع. ولو كان الثوب عنده للتجارة، ثم جرى الرد كما ذكرناه، فتعود التجارة، والرد يرد الأمر إلى ما كان (5 قبل العقد، حتى كأن العقد، لم يلزم.
ثم مما يجب التنبيه له -على ظهوره- أن الرد إذا جرى، رجع الأمر إلى ما كان 5)
__________
(1) ساقطة من الأصل، (ط)، (ك).
(2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(3) في الأصل، (ط)، (ك): قصد.
(4) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/314)


من التجارة قبلُ، فما تخلل من البيع لا يقطع الحول؛ فإن الماليّة هي المرعية، وهي متصلة لم تنقطع، وبيان ذلك بالمثال: أن من اشترى أولاً ثوباً للتجارة، ثم باعه بعبد على قصد التجارة، أو مطلقاً، فإذا رد عليه الثوب بالعيب، فقد زال ملكه عن الثوب وعاد، والحول مستمر؛ فإن العبد قام مقام الثوب، وبه استمرت مالية التجارة، ولا تعويل في التجارة على الأعيان، وإنما المتبع فيها المالية.
2120 - ولو كان عنده ثوبٌ للقنية، فباعه بعبدٍ، ولم يقصد التجارة، ثم وجد بالعبد عيباً، فرده بالعيب، وقصد بالرد التجارة في الثوب الذي يسترده، فلا يصير متجراً؛ فإن الاسترداد بالعيب ليس معدوداً من المعاوضة، والتجارة إنما تثبت إذا اقترنت النيةُ بما هو معاوضة، والدليل عليه أن الشفيع إذا أبطل حقَّه من الشفعة في البيع، ثم اتفق رده، فلا تثبت الشفعةُ بسبب الرد، وقد قطع الشافعي بأن الشفعة تثبت في المهور، وبدل الخلع، والصلح عن الدم، وقد ذكرنا خلافاً في أن التجارة هل تحصل مع النية في هذه الجهات، ثم الشفعة لا تثبت في الرد، فكيف تثبت التجارة في الرد.
ْومما نذكره أن الثوب أولاً لو كان عنده للقنية، ثم اشترى عبداً بذلك الثوب للتجارة، ثم ردّ الثوب عليه، فلا تثبت التجارة، فإن الرد يرفع العقد، ولا تثبت التجارة من غير عقدِ تجارة، ولم يكن الثوب قبل البيع للتجارة، حتى يقال: انقطع البيع، وعاد إلى ما كان قبل البيع من التجارة.
2121 - ولو كان الثوب عنده في حول التجارة، فاشترى به عبداً لقصد التجارة، ثم نوى اقتناء العبد، ثم رد الثوب عليه، فهذه صورة فيها لطف، فليتأملها الناظر.
ْفنقول: نية القنية تقطع الحول أولاً، فإذا رد الثوب بالعيب، فلا نقول: نقدر كأن الحول لم ينقطع؛ فإن المالية المرعية في التجارة قد انقطعت بنية القنية، وإذا انقطعت، انقطع الحول بانقطاعها، وكان ذلك بمثابة زوال الملك عن الأعيان في زكاة الأعيان.
فإن قيل: إذا رد الثوب فاجعلوا كأن البيع لم يكن، وافتتحوا حول التجارة؛ فإن

(3/315)


الثوب كان للتجارة في أصله، قلنا: هذا تخيل ظاهر، ولكن القِنية في العبد قطعت حول التجارة، والرد ليس تجارة مستجدة، ولو نوى القِنية ثم نوى التجارة، انقطع الحولُ بنية القِنية أولاً، ثم لم يعد بنية التجارة، حتى تجري تجارةٌ مع نية مقرونة بها، وإنما موضع التخييل والإشكال أن نية القنية لم تجر في الثوب، ولكن الزلل كله يأتي من النظر إلى الأعيان في هذا الباب، ومتعلق الحول والزكاة الماليةُ، ولهذا لا ينقطع الحول بالمبادلات، بخلاف القول في زكاة العين، والمسألة فيها احتمالٌ، في عود الثوب إلى التجارة حتى يبتدىء من وقت الرد في الثوب، وهذا احتمالٌ في مسلك النظر، وإلا، فلا شك في انقطاع الحول بنية الاقتناء، فإذا انقطع الحول، ثم لم يتجدد تجارة، فلا وجه إلا الحكم بارتفاع التجارة، فإن ابتدأ عقدَ تجارة ثبت حكمها، إذ ذاك ابتداءً.
فصل
قال الشافعي: "إذا اشترى نخيلاً للتجارة ... إلى آخره" (1).
2122 - قاعدة الفصل أنه إذا اجتمع في مالٍ سببُ وجوب زكاة التجارة، وزكاةِ العين جميعاًً، مثل أن يشتري أربعين من الغنم السائمة للتجارة، وينقضي الحول في الحسابين، جميعاًً، فلا خلاف أنا لا نجمع بين الزكاتين، وإنما نوجب إحداهما، وفيما (2) نوجبه قولان مشهوران: أحدهما - أنا نوجب زكاة التجارة؛ فإنها أعم وجوباً؛ إذ تعم جميع صنوف الأموال.
والثاني - أنا نوجب زكاة العين؛ فإنها متفق عليها، فكانت أقوى وأولى. هذا إذا اشترى أربعين سائمة للتجارة.
ولو اشترى أربعين معلوفةً للتجارة، فقد تجرد فيها جهةُ التجارة، فلو أسامها في أثناء الحول، ولم يقصد القِنية، فقد ذكر أئمتنا طريقين: منهم من قال: المتأخر من
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 244.
(2) في الأصل: "وفيما لا نوجبه".

(3/316)


السببين يرفع المتقدم، ويتجرد قولاً واحداً، ومنهم من قال: المتقدم يمنع المتأخر قولاً واحداً. والفريقان يقولان: صورة القولين إذا وقع السببان معاً، والصحيح طرد القولين في الطارىء أيضاًً. ولكن يحتاج هذا إلى فضل بيان.
2123 - فنقول: إذا اشترى أربعين من المعلوفة للتجارة، ومضت ستة أشهر، وأسامها، واطرد السوم فيها؛ فإن قلنا في اقتران السببين: المغَلَّبُ زكاة التجارة، فلا كلام. وإن قلنا: المغَلَّبُ زكاة العين، فإذا مضت ستة أشهر من وقت شراء الأصل، فأسام، ثم مضت ستة أشهر من وقت الإسامة، فقد تم حول التجارة، ولم يتم حول العين، والتفريع على تغليب زكاة العين، ففي هذه الصورة خلاف: من أئمتنا من قال: نوجب في آخر حول التجارة زكاة التجارة، ونعطل الأشهر الستة الأخيرة من حساب السوم، ثم نبتدىء حولَ السوم وزكاة العين من منقرض سنة التجارة.
ومنهم من قال: نبتدىء من وقت الإسامة حولَ زكاة العين، فإذا مضت سنة من وقت الإسامة، وجبت زكاة العين، وعلى هذا تتعطل الستة الأشهر المتقدمة على الإسامة.
2124 - ومما يتعلق بما نحن فيه: أنا إذا رأينا تقديمَ زكاة التجارة، وقد اشترى أربعين من الغنم السائمة، ومضت سنةٌ من وقت الشراء، والسوم دائم، ثم قوّمنا الأربعين، فلم تبلغ قيمتُها بالنقد نصاباً، فلا وجه لإيجاب زكاة التجارة. وهل تجب زكاة السوم في هذه الصورة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا نوجب زكاة السوم؛ فإنا أسقطنا حكمها على القول الذي نفرع عليه، فلا نرجع إليها.
والوجه الثاني - أنا نوجب زكاة العين في هذه السنة، وذلك أن سببي الزكاتين قد اجتمعا، وعسر الجمع بينهما؛ إذ ازدحما، فإن قدمنا أحدهما، فليس ذلك إسقاطَ الثاني أصلاً، ولكنه تقديمٌ، وهو بمثابة ما لو قتل رجلٌ رجلين على ترتيب؛ فإنه يُقتل بالأول، ولأولياء الثاني الدية. فلو عفا أولياء الأول، ثبت حق الاقتصاص لأولياء الثاني؛ فإن القصاص كان ثابتاً في حق القتيل الثاني، ولكن قدّم الأول، فإذا سقط، فحق الثاني ثابت، وقياس هذا بيّن في الأصول، لا إشكال فيه.

(3/317)


ولو رأينا تقديم زكاة العين، وقد اشترى أربعين سائمة فنقص عدد الأربعين، ولكن قوّمنا ما بقي، فكان يبلغ نصاباً بالنقد، ففي المسألة الوجهان المقدمان، ففي وجهٍ لا نوجب زكاة التجارة، كما لا نوجب زكاة العين، وفي وجه نوجب زكاة التجارة، كما تقدم.
2125 - ولو اشترى عبداً للتجارة، فاستهل شوال، وجبت فيه زكاةُ الفطر، ولم يمتنع وجوبها مع وجوب زكاة التجارة، خلافاً لأبي حنيفة (1).
2126 - ولو اشترى رجل ثمرة لم يبد الصلاح (2 فيها على قصد التجارة، ثم بدا الصلاح 2) فيها، فتعتبر زكاة العين، وهو العشر، أو زكاة التجارة عند انقضاء الحول من وقت العشر؟ فعلى القولين المقدمين، فإن قدمنا زكاة العين، أوجبنا العشر، وإن قدمنا زكاة التجارة، لم نوجب العشر.
ولو قصرت الثمار عن خمسة أوسق، وبلغت قيمتها في آخر الحول نصاباً، ففيه الخلاف المقدم الذي سبق، وكذلك لو بلغت خمسة أوسق، ونقصت قيمتها عن النصاب باعتبار النقد، ففيه الخلاف المذكور.
2127 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا غلبنا العينَ، فإذا أخرجنا العشرَ، فلسنا ننتظر بعد هذا تجدد العشر، وزكاة التجارة إذا استجمعت شرائطها تتجدّد.
ولا نقول على تغليب العين يسقط اعتبار التجارة في المستقبل بالكلية؛ فإن التجارة قائمةٌ متجددة في الأحوال المستقبلة، فيجب اعتبارها، فليس للفقيه أن يلتفت إلى كل خيال بعيد، فالوجه إذن أن يبتدىء حولاً بعد العشر للتجارة، ثم لا ينبغي أن يبتدىء حول التجارة من وقت بدو الصلاح، وإن كنا قد نطلق أن العشر يجب عند بدو الصلاح؛ فإن ذلك تقدير، وليس تحقيقاً.
والذي يكشف الحق فيه أن الصلاح إذا بدا، فعلى مالك الثمار أن يربي العشر
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 474 مسألة رقم: 466، البدائع: 2/ 74.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(3/318)


للمساكين، إلى الجفاف، فيستحيل أن يكون في تربية العُشر، ويكون ذلك الزمان محسوباً من حول التجارة.
هذا منتهى المراد.
2128 - وكل ما ذكرناه فيه إذا اشترى ثمرةً لم يبدُ الصلاح فيها، ثم بدا، وكان قَصَدَ التجارةَ لما اشترى، واشترى الثمرة وحدها، فأما إذا اشترى الأشجار ومغارسَها من الأرض، وعلى الأشجار ثمارُها، غيرَ مُزهية، ثم أزهت، فالقول في الثمار ما ذكرناه.
فإن رأينا تغليبَ زكاة التجارة، فنوجب ربعَ العشر في قيمة الأراضي، والأشجارِ، والثمارِ، ولا إشكال.
وإن قلنا بإيجاب العشر في الثمار، ففي الأشجار وجهان: أحدهما - أنه لا يجب فيها شيء؛ فإن العشر وإن وجب في الثمار، فهو يكفي عن زكاة الأشجار؛ فإن الثمار كما أنها فائدة المالك من الأشجار فالعشر منها فائدة المساكين، فليكتفوا به.
والوجه الثاني - أنه تجب زكاة التجارة في الأشجار؛ فإن التجارة فيها [متجردة] (1)، والعشر يختص بالثمار، والدليل عليه أنه يتصور تجرد الثمار في الملك عن الأشجار، ثم يجب العشر فيها، والملك في الأشجار لغير مالك الثمار.
وإن قلنا: تجب زكاة التجارة في الأشجار، فالأراضي بذلك أولى، وإن قلنا: لا تجب زكاة التجارة في الأشجار، ففي المغارس وجهان: [والفرق] (2) بُعْدُ الأراضي عن التبعية؛ فإن الثمار جزء من الأشجار، وليست جزءاً من الأراضي.
ثم ينبغي أن يقال: كل ما يدخل في معاملة المساقاة يدخل (4 في الخلاف، من (3) الأراضي التي بين الأشجار، وكل ما لا يدخل 4) في معاملة المساقاة (5)، فتجب زكاة
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): منجزة، والمثبت من (ت 1).
(2) في الأصل، (ط)، (ك): والفرض.
(3) كذا. ولعلها: مثل.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 1) وعبارة (ت 2): " ... وليست جزءاً من الأراضي التي بين الأشجار، وكل ما لا يدخل .. ".
(5) يقول النووي في المجموع: 6/ 52: "وهذا قاله الإمام احتمالاً لنفسه".

(3/319)


التجارة فيه قطعاً. وسيأتي ذلك مشروحاً في المساقاة إن شاء الله تعالى.
2129 - ولو اشترى نخيلاً للتجارة، ولم تكن قد أطلعت، ثم أثمرت، فالثمار المتجددة بعد الشراء بمثابة الولد المتجدد لا محالة، وقد ذكرنا فيما تقدم من الفروع عن ابن سريج أن من اشترى جارية للتجارة، فولدت في آخر الحول، ولم تنقص قيمتها، فلا نضم قيمة الولد إلى قيمتها.
وقد ذكر الصيدلاني أن الذي ذكرناه من تقديم زكاة التجارة يجري في الثمار المتجددة، ونص على هذا في مجموعه، فعلى هذا نقول: إذا تم حولُ التجارة من وقت شراء الأشجار، قوّمناها مع الثمار، ونجعل الثمارَ بمثابة زيادةٍ متصلةٍ، وبمثابة أرباح متجددةٍ في قيمة العروض، ولا نجعلها كأرباح تنضّ في أثناء الشهر (1)، حتى نجعل المسألة على القولين المقدمين في نضوض الأرباح. وقول ابن سريج يخالف هذا لا محالة. وإذا جمعنا قوله إلى هذا انتظم منه الخلاف لا محالة، ووجه الاحتمال لائحٌ لا خفاء به.
وقد يظهر عندي أن يبتدىء -على ما ذكره الصيدلاني- حول التجارة من وقت وجود الثمار، على قولنا بابتداء حول الربح الناض في أثناء السنة، والسبب في ذلك أنا على أحد القولين نبتدىء حولَ الربح من حيث استيقنا حصوله، وهو ما دام في السلعة من حيث القيمةُ غيرُ موثوق به، واستيقان الوجود متحقق في الثمار، فليس كالزيادة المتصلة؛ فإنه لا يمكن إفرادها بالتصرف، وهذا ظاهرٌ في الاحتمال. ولكن الصيدلاني لم يفصّل، وظاهر قوله أن الثمار بمثابة الزيادة المتصلة.
ومما ذكره الصيدلاني في ذلك أن من اشترى أرضاً مزروعة على نية التجارة، ففي العشر الخلاف المقدم. فإن قلنا: المغلب زكاة التجارة، فنقوم الجميع كما تقدم.
وإن قلنا: نغلب زكاة العين، فالعشر ثابت في الزرع. وفي زكاة التجارة في الأراضي الخلافُ الذي تقدم.
__________
(1) كذا في جميع النسخ، ولعلها تحريفٌ صوابه: "في أثناء السنة" كما هي عبارة النووي، في حكايته للأقوال. (ر. المجموع: 6/ 52) وكما هو وارد بعد سطور. ولكن العجب من إجماع النسخ الخمس على: (الشهر).

(3/320)


2130 - ولو اشترى أرضاً للتجارة، واشترى بذراً للتجارة أيضاًً، ثم زرع الأرض بذلك البذر، فقد قال الشيخ: إن غلّبنا زكاة التجارة، فلا إشكال، والوجه تقويم الجميع، ثم لا يخفى ما يزداد في البذر في حكم زيادة متصلة، وإن قلنا: يقدّم العشر، فقد ذَكَر في إتباعِ الأرض العشرَ خلافاً، كما تقدّم.
وقد يخطر للفقيه أن التبعية بعيدة في هذه الصورة؛ من حيث تميز البذر عن الأرض أولاً، ثم فرض الزرع، وليس كما لو اشترى الأرضَ مزروعةً.
ووجه تخريج الخلاف أن أحد القائلين يعتقد أن من أدى عشر الزرع، فهذا تأدية حق الأرض؛ فإن الزرع فائدة الأرض، وهذا بعيدٌ من مذهبنا؛ فإن العشرَ حق الزرع، ولا تعلق له بالأرض.
ثم قال: لو اشترى بذراً للقِنية، وأرضاً للتجارة، ثم زرع أرضَ التجارة ببذر القِنية، فأما الزرع، فواجبه العشر، ولا تبعية أصلاً، وفي الأرض زكاة التجارة هاهنا وجهاً واحداً. وهذا لا شك فيه.
***

(3/321)


باب زكاة مال القراض
2131 - عامل القراض إذا ربح في مال القراض، فقد ظهر اختلاف القول في أن العامل هل يملك حصتَه المسماةَ له من الربح؟ وسنذكر القولين وحقيقتَهما في كتاب القراض، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: لا يملك العاملُ شيئاً من الربح إلا عند المقاسمة، فقد قال الأئمةُ: تجب زكاة رأس المال والربحِ على المالك، ثم إذا أخرج الزكاة، فقد اختلف أئمتنا في أن الزكاة كيف سبيلُها إذا أخرجها من عين مال القراض؟ فقال بعضهم: الزكاةُ بمثابة المؤن: كأجرة الدلاّل والكيّال، فعلى هذا الزكاة محسوبة من الربح.
ومن أئمتنا من قال: ما أخرجه من الزكاة بمثابة طائفة من المال يستردّها المالك، وإذا استرد صاحب المال طائفة من المال، فالمسترد محسوبٌ من رأس المال، والربحُ جميعاً مفضوضٌ (1) عليهما، وعلى ما تقتضيه القسمة والتوزيع، وسيأتي شرحُ ذلك في كتاب القراض.
2132 - وذكر بعض الأئمة [ترتيباً] (2) في هذا الخلاف، فقال: هذا ينبني على أن الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة، فإن قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، فهي كالمؤن وجهاً واحداً. وإن قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فإذا أخرجها من عين مال القراض، فهي مؤنة، أو استرداد طائفةٍ من المال؟ فعلى الوجهين المقدّمين.
وهذا الترتيب ليس بالمرضي؛ فلا يمتنع تخريج الخلاف على قول زكاة العين أيضاًً، من جهة شيوع تعلق الزكاة في الجميع، ثم المشكل في ذلك أن الأئمة قطعوا
__________
(1) مفضوضٌ: أي مقسومٌ موزع.
(2) في الأصل، (ط)، (ك): ثبتا. والمثبت من (ت 1)، (ت 2)، وهو موافق لما سيأتي في السياق قريباً.

(3/322)


بإيجاب الزكاة في جميع المال للأصل والربح، وهذا بيّنٌ في رأس المال وحصّةِ المالك من الربح، فأما حصةُ العامل، فالاحتمال فيها لائح، وذلك أنا وإن لم نملِّك العاملَ، فملك المالك في حصة العامل ضعيفٌ. وقد قدّمنا اختلافَ القول في زكاة المجحود، والمغصوب، والمتعذّر، وحقُّ العامل متأكد في حصته، ولو أراد المالك إبطال حقه من حصته، لم يجد إليه سبيلاً.
وإن قلنا: يملك العاملُ حصته بالظهور قبل المقاسمة، فقد ذكر بعض الأصحاب في حصته ثلاثَ طرق: إحداها - تخرج الزكاةُ في حصته على قولين على أصل المغصوب، والمجحود، ووجهُ ذلك: أن العامل لا يتمكن من التصرف في حصته قبل المقاسمة.
ومن أصحابنا من أوجب الزكاة على العامل؛ فإنه وإن كان لا يتصرف فيه لنفسه ما دام مختلطاً، فهو قادرٌ على الوصول إليه، بأن يستقسم ويفاصل، فإذا ثبت الملك، والتمكن من الوصول إلى التصرف، فالوجه القطع بوجوب الزكاة.
وذكر بعض الأصحاب طريقةً أخرى عن القفال: أن الزكاة لا تجب على المقارض قولاً واحداً، وإن قلنا: إنه يملك حصته؛ وذلك أن الملك وإن ثبت، فهو ضعيف، فكان كملك المكاتب. وهذا ضعيف.
والذي قطع به الصيدلاني وجوبُ الزكاة.
ثم إن قلنا: ملكه متعلَّق الزكاة، فإن كان نصاباً، وجبت الزكاة، وإن لم يكن نصاباً أخرج على الخلطة، وقد مضى التفصيل [في] (1) الخلطة، فلا نعيده.
ثم إذا أوجبنا الزكاة على العامل، فإن أخرج الزكاة من مالٍ آخر، فلا كلام، وإن أراد الإخراج من مال القراض، فقد اختلف الأئمة فيه، فقال بعضهم: لا يجوز للعامل الإخراج منه، فإنا وإن ملكناه، فلا نسلطه على التصرف بنفسه، فلا يُخرج الزكاة منه، ما لم يأذن المالك.
والوجه الثاني - ذكر العراقيون أن له أن يُخرج الزكاة من مال القراض، وهذا يمكن
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2): "على" والمثبت من (ت 1).

(3/323)


تخريجه على ما ذكرناه، من أن الزكاة مؤنةٌ أم استرداد طائفةٍ؟ فإن قلنا: إنه مؤنة، فلا يمتنع أن يخرجها من عين المال، وإن قلنا: الزكاةُ كإخراج طائفةٍ، فيمتنع عليه إخراجُ الزكاة دون الإذن، كما يمتنع عليه التصرف في نصيب نفسه قبل المقاسمة.
2133 - ومما يتم به التفريع أنا إذا أوجبنا الزكاة على العامل، فابتداء حوله من أي وقتٍ يحتسب؟ اختلف أئمتنا في ذلك: فذهب بعضهم إلى أن ابتداء الحول من ظهور الربح، بارتفاع السعر، ووجه ذلك بيّن.
وذهب بعضهم إلى أن الحولَ يحسب من حول رأس المال؛ فإنه الأصل، ووجهه استفادة الربح للمالك والعامل على وتيرة، فإذا كان حول نصيب المالك من يوم ما ملك رأس المال، فكذلك نصيبُ العامل يجب أن يحتسب حولُه من حول رأس المال.
2134 - ومن تمام البيان في هذا الفصل أنا [إذا] (1) قلنا: يجب على العامل زكاةُ نصيبه، فالمالك يُخرج زكاة المال، وزكاةَ نصيبه، والظاهر على هذا القول أنه يكون ما يخرجه من المال بمثابة استرداد طائفة؛ فإن العاملَ اختص بالتزام ما اختصه، والمالك كذلك؛ فبعُد تقدير المؤنة فيه، وإنما يتجه الوجهان على قولنا: لا يملك العامل، ويخرج المالكُ زكاة جميع المال، فكأنَّا في وجهٍ نقول: لا نشترط تمام الملك، فيما شرط للعامل، بل نوجب الزكاة، كما نوجب المؤن، فأما إذا تخصص كلُّ واحد بالتزام ما عليه، فيبعدُ تقدير المؤنة، وقد أشار إلى ما ذكرناه من الفرق بين القولين الصيدلاني، وهو فقيه حسن، ولم يتعرض لتخصيص الوجهين بأحد القولين أحد غيره.
وبالجملة القطع بإيجاب الزكاة في جميع الربح على المالك على أحد القولين مشكل، والوجه تخريجه على المغصوب والمجحود والأملاك الضعيفة.
...
__________
(1) زيادة من (ت 2) وحدها.

(3/324)


باب الدين مع الصدقة
2135 - اختلف قولُ الشافعي في أن الدين هل يمنع تعلّق الزكاة بالعين؟ فقال في أحد القولين: "إنه يمنع وجوب الزكاة"، وهو مذهب أبي حنيفة (1). وقال في القول الثاني: "لا يمنع".
وتوجيه القولين يتعلق بمسائل الخلاف، ولكنا نذكر ما يتعلق بربط التفريع ونظم المذهب.
فمن قال بوجوب الزكاة، فمتعلقه تمامُ الملك، وآيتُه نفوذُ تصرف المالك بما شاء، بما في يده.
ومن قال: لا تجب، استدل بمعنيين: أحدهما - ادعاء ضعف الملك؛ من جهة أنه مأمور بصرف ما في يده إلى دينه، وقد يتسلط مستحق الدين على أخذه عند تعذر استيفاء الدين.
والثاني - أن الزكاة تجب في الدين، وسبب وجوبها المال الذي في يد من عليه الدين، فلو أوجبنا الزكاة فيما في يده، لكان مالُه سببَ الزكاتين.
2136 - وإذا وضح هذا، فرّعنا عليه، وقلنا: إن حكمنا بأن الدَّين لا يمنع تعلّق الزكاة بالعين، فلو انضم إليه انقطاعُ تصرف المالك، وذلك يُفرض من وجوهٍ نذكرها، منها: أنه لو [أحاط] (2) به الدين، فحجر القاضي عليه لمكان الديون، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك يمنع الزكاة. وإن كان الدين لا يمنع التصرفَ، فلا يتضمن تضعيف الملك، وإذا حجر عليه انْسدَّ طريق التصرف، ولم يستمر ادّعاء
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 50، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 424، مسألة 405، رؤوس المسائل: ص 217، مسألة 116، المبسوط: 2/ 192.
(2) في جميع النسخ ما عدا (ط): أحاطت.

(3/325)


الملك التام، فإن لم نجعل الحجرَ مانعاً، فلو مضت سنةٌ، والحجر مستمر، ولم يتفق صرفُ ماله إلى جهة الديون، فتجب الزكاة. وإن جعلنا الحجرَ مانعاً، فلا تجب الزكاة. وإذا جرى الحجر في أثناء الحول، فينقطع الحول بطريان الحجر.
ومن الصور في منع التصرف أن من كان عليه دين فرهنَ به النصابَ الزكاتي الذي في يده، فتم الحول، والتفريع على أن الدين لا يمنع تعلق الزكاة، ففي هذه الصورة وجهان، كما قدمناه في المحجور، ومأخذ الخلاف في ذلك انسداد (1) التصرف.
فهذا إذا قلنا: مجرد الدين لا يمنع تعلق الزكاة.
فأما إذا قلنا: الدين يمَنع تعلق الزكاة بالعين، فلو ملك الرجل أربعين من الغنم السائمة، وكان عليه أربعون من الغنم ديناً في ذمته عن جهة السلم، فهل يمنع هذا الدينُ تعلقَ الزكاة بالغنم السائمة؟ فعلى وجهين مأخوذين من المعنيين اللذين ذكرناهما في توجيه هذا القول، فإن قلنا: المانع تعرُّضُ ماله للصرف إلى دينه، فلا تجب الزكاة. وإن قلنا: المانعُ أداءُ ذلك إلى إيجاب زكاتين بسبب مالٍ واحد، فتجب الزكاة في هذه الصورة؛ فإن مستحق الدين لا يستوجب الزكاة؛ فإن الغنم إذا كانت ديناً، لم تكن متصفة بالسوم، والزكاة لا تجب إلا في السائمة، وسبب ذلك أن الشارع خصص الزكاة بالمال النامي، والدين لا ينمو، وإذا كانت الدراهم ديناً، فهي في معنى النقد؛ من جهة أن سبب الزكاة في النقد تهيؤه للتصرف، وهذا متحقق في الدين على المليء الوفيّ.
2137 - ومما يتفرع على هذا أن من ملك مائتي درهمٍ، وكان عليه [مائة] (2) درهم ديناً، والتفريع على أن الدين مانع، ففي هذه الصورة وجهان، مأخوذان من المعينين، من جهة أن المئة التي هي دين لا تتعلق الزكاة بها، لكونها ناقصة عن النصاب.
وكذلك الخلاف لو كان مستحق الدين كافراً أو مكاتباً.
__________
(1) في (ت 1): استداد.
(2) في الأصل، (ط)، (ك): مائتي.

(3/326)


ولو ملك الرجل نصاباً زكاتياً، وكان عليه دين، وكان يملك من العقار وغيره من صنوف الأموال، ما يؤدي به الدين، فالذي قطع به أئمتنا في الطرق أن الدين لا يمنع تعلّق الزكاة في هذه الصورة.
ومذهب أبي حنيفة أن الزكاة لا تجب في هذه الصورة، وقد ذكر شيخي تردداً في هذه الصورة؛ أخذاً مما ذكرناه؛ فإن مستحق الدين يجب عليه الزكاة، بسبب المال الزكاتي، فلو وجبت الزكاة على مالك المال، لأدّى إلى إثبات زكاتين بسبب مالي واحد.
وهذا بعيد لا أعدّه من المذهب.
2138 - ومما يتفرع على هذا القول أن الدين إذا لم يكن من جنس المال الزكاتي، مثل أن يكون المال نصاباً من النعم، والدين دراهم، أو كان المال دنانير، والدين دراهم، فالأصح المنع.
2139 - ومما ذكره بعض المصنفين أن الشافعي نص في القديم على أن الدين لا يمنع تعلق الزكاة بالأموال (1 الظاهرة، ويمنع تعلقها بالأموال 1) الباطنة، وقال: من أصحابنا من جعل هذا قولاً ثالثاً، وهذا لا اتجاه له.
والصحيح عندنا، أن المراد بهذا أن من ادّعى أن عليه ديناَّ -وإنما ذكر هذا لتسقط الزكاة- فالإمام لا يصدّقه في زكوات الأموال الظاهرة، وأما الأموال الباطنة، فالإمام لا يتولّى، أخذَها، فإذا علم الإنسان أن عليه ديناً، وقلنا: الدين يمنع تعلق الزكاة بالعين، فلا يلزمه إخراج الزكاة.
وهذا فيه نظر. فإن قلنا: إن الدين يمنع تعلق الزكاة، واعترف صاحب المال بدين، فالظاهر عندي تصديقه، كما يصدق في ادعاء انقطاع الحول، أو غيره، مما سبق تقريره، فإن المالك مؤتمن فيما يدّعيه من الممكنات، وهذا في الدين أظهر؛ فإن إقراره بالدين ثابت، وهو مطالب بموجبه.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(3/327)


فرع:
2140 - إذا ملك نصاباً زكاتياً، وانعقد الحول عليه، فقال قبل انقضاء الحول: لله عليّ أن أتصدق بهذا، ثم حال الحول، ففي وجوب الزكاة فيه طريقان: من أئمتنا من قطع بأن الزكاة لا تجب قولاً واحداً، لأنه صار المال مستحقاً قبل دخول وقت الوجوب.
ومنهم من خرج الزكاة على القولين، وهذا يقرب مأخذه من مال المحجور عليه المفلس، من حيث إن من جعل ماله صدقة، انحسم التصرف عليه فيه.
والظاهر أن لا زكاة؛ لأن ما جعل صدقة، لا يبقى فيه حقيقة ملكه.
وكذلك لو كان يملك خَمساً من الإبل، فقال: جعلتها هدايا، ففي وجوب الزكاة التردد الذي ذكرناه، والظاهر أن لا وجوب. وقد ينقدح فرق بين أن يقول جعلته صدقة، وبين أن يقول: لله عليّ أن أتصدق به، فإذا عيّن، ولم يذكر عبارة في الالتزام، فهذه الصورة أولى، بأن يمتنع فيها وجوب الزكاة عند انقضاء الحول.
ولو كان له نصاب زكاتي، فقال مطلقاً: لله عليّ التصدق بأربعين شاة، وكان في ملكه أربعون، فحال الحول، وما كان عين المال في نذره، فإن قلنا: الدين لا يمنع تعلّق الزكاة بالعين، فتجب الزكاة. وإن قلنا: الدين يمنع تعلقَ الزكاة، ففي هذه الصورة وجهان: أصحهما - أن الزكاة تجب؛ فإن الوجوب بالنذر ضعيف، وهو مشابه للتبرعات، والناذر بالخيار في نذره، والزكاة وظيفة لله تعالى على عباده، فلا يؤثّر النذر فيما يجب شرعا وظيفةً للمساكين.
2141 - ومما يتعلق بهذا أنه لو وجب الحج على إنسان، فوجوب الحج هل يكون ديناً مانعاً من وجوب الزكاة على قولنا الدين يمنع وجوبَ الزكاة؟ فيه وجهان، وسبب خروجهما أن دين الحج لا يتضيّق، ودين الزكاة لا يقبل التأخير، والمال ليس مقصودَ الحج، ثم دين الحج، ودين النذر [يعتدلان عندي؛ إذ] (1) أحدهما يجب من
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ك): "ثم دين الحج ودين النذر بعيد لأن عند أداء أحدهما" وهو تصحيف عجيب، وأما (ت 1) فهكذا أيضاًً إلا أنها قالت: "بعيد لأن عندي أداء ... " والمثبت من (ت 2) بمعاونة الرافعي في الشرح الكبير: 5/ 510، 511.

(3/328)


غير اختيارٍ (1)، ولكن ليس المال مقصوداً، والمنذور (2) مقصودٌ في المالية، ولكنه يُدخله الناذر على نفسه متطوعاً.
فرع:
2142 - إذا قلنا: الدين لا يمنع تعلّق الزكاة، فإذا وجبت الزكاةُ، فمات قبل أدائها، واجتمعت الزكاة ودين الآدمي، فمن أئمتنا من قال: في تقديم الدين أو الزكاة ثلاثة أقوالٍ ستأتي مشروحة في الوصايا: أحدها - أن دين الله أحق بالتقديم، (4 وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دين الله أحق بالقضاء" (3).
والثاني - أن دين الآدمي أحق بالتقديم 4) اعتباراً باجتماع القصاص، وحق قطع السرقة؛ فإن القصاص مقدمٌ.
والثالث - أنهما يستويان؛ فإن الحق المالي الذي يضاف إلى الله، عائدته وفائدته ترجع إلى الآدميين أيضاًً، وهم يأخذونها وينتفعون بها. فيجب أن يستويا، وليس كالحد والقصاص؛ [فإن الحد عقوبة مبناها على الدفع، والاندراء، ومن أصحابنا من قطع بتقديم الزكاة؛ فإنها متعلقة] (5) بالعين؛ فلتقدّم على الدين المطلق الذي لم (6) يتعلّق بالعين في حياة من عليه الدين.
وكان شيخي يقطع بهذا ويخُصّ إجراءَ الأقوال بالكفارات الماليّة -التي لا تتعلق بالأموال-[مع] (7) الديون المطلقة، ومن أجرى الأقوال في الزكاة بنى ما قاله على أن الغالب في الزكاة التعلُّق بالذمة.
__________
(1) شرح وبيان لاعتدالهما أي تساويهما. والمراد هنا دين الحج.
(2) هذا هو الثاني المعادل لدين الحج.
(3) متفق عليه من حديث ابن عباس، في إجابة السؤال عن قضاء الصوم (اللؤلؤ: 254 ح 705: وقال الحافظ: وله طرق فيهما وألفاظ مختلفة (ر. التلخيص: 2/ 307).
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(5) ساقط من الأصل، (ط)، (ك).
(6) سقطت (لم) من (ت 1) وحدها.
(7) في الأصل، (ط)، (ك)، (ت 2) من. والمثبت من (ت 1)، والمعنى حينما يتعلق بالتركة كفاراتٌ مع ديونٍ مطلقة غير متعلقة بالعين، فتستوي الكفارات مع هذه الديون في عدم التعلق بالعين، ولكنهما يختلفان في أن الكفارات حق لله، والديون حق للآدمي، فهنا تجري الأقوال الثلاثة.

(3/329)


فصل
مقصود هذا الفصل وجوب الزكاة في الديون
2143 - فإذا ملك رجل ديناً بالغاً نصاباً على مليّ وفيّ، وكان الدين حالاًّ، فالوجه القطع بوجوب الزكاة إذا حال الحول، ويجب إخراج الزكاة عاجلاً، وقد حكى الزعفراني (1) قولاً في القديم عن الشافعي أن الزكاة في الديون لا تجب أصلاً، وهذا بعيد في حكم المرجوع عنه.
والمقطوع به في الجديد وجوب الزكاة: ثم إن كان الدين مجحوداً وعليه بيّنة، فلا حكم للجحد، وإن كان من عليه الدين معسراً، فهو كالمال المغصوب، فأما الدين المؤجل، ففي بعض الطرق أنه غير مملوك عند بعض الأصحاب، فإذاً لا زكاة فيه.
وهذا وإن كان يُلفى مذكوراً في نقل المذهب، فهو مزيّف غير معتدّ به. وإن قلنا: هو مملوك، فقد اختلف الأئمة فيه: فقال بعضهم: هو بمثابة المال الغائب الذي يسهل إحضاره، ومنهم من جعله كالمجحود والمغصوب، من حيث إنه لا يتوصل إلى التصرف في المؤجل اختياراً. فإن قلنا: ليس كالمجحود، فهل يجب إخراج الزكاة عنه في الحال إذا وجبت؟
فعلى وجهين: والأصح عندي أنه لا يجب إخراج الزكاة؛ فإنه لو أخرج خمسة نقداً [وماله مؤجل، لكان ذلك إجحافاً به، وما يساوي خمسةً نقداً] (2) يساوي ستةً نسيئة، [ويستحيل] (3) أن نقنع (4) بأربعة مثلاً، فالواجب في توقيف الشرع خمسة (5).
__________
(1) الزعفراني: الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، أحد تلاميذ الشافعي، وجلسائه، ممن روَوا عنه المذهب القديم، بل هو أثبت رواة القديم، قال أبو عاصم: الكتاب العراقي منسوب إليه، ت 260 هـ (ر. طبقات السبكي: 2/ 114 - 117).
(2) زيادة من (ت 1) وحدها.
(3) في الأصل، (ط)، (ك): "ويستحب" وهو تصحيف عجيب.
(4) هنا اضطراب آخر في نسخة (ك) حيث انتهت إلى ص 102 وانقطع السياق، حيث يلي هذا صفحات من كتاب الحج، ثم يليها صفحات من كتاب الصيام، ثم بعد الصيام يدخل في باب الحج من أوله، مما يعني أن هنا خرما ذهب بباقي كتاب الزكاة، وأوائل كتاب الصوم.
(5) المعنى أنه يستحيل أن نرضى من صاحب الدين بأربعة حالّة، لتكون في قيمة الخمسة الواجبة =

(3/330)


2144 - ولا شك أنه لو أراد أن يُبرىء فقيراً عن دينٍ له عليه (1)، فلا يقع ذلك عن الزكاة؛ فإن تأدية الزكاة من ضرورتها [أن تتضمن] (2) تمليكاً محققاً.
فصل
2145 - من التقط لُقَطَة (3) فكانت نصاباً، فإنه يعرّفها سنة، ثم له أن يتملكها في السنة الثانية، وإذا تملكها، كان بمثابة القرض، وفي ملك القرض قولان: أحدهما - أن المستقرض يملك بنفس الإقراض.
والثاني - أنه إذا تصرف تصرفاً يستدعي الملك، فيتبيّن حصول الملك قُبيل التصرف.
فإذا مضت سنتان من وقت الضياع، ولم يتفق من الملتقط التملك في السنة الثانية، فعثر عليها المالك، ففي وجوب الزكاة عليه (4) في السنة الأولى قولان تقدم ذكرهما، وهما القولان في الضال، والمغصوب، وفي وجوب الزكاة في السنة الثانية قولان مرتبان على القولين في السنة الأولى، وهذه السنة [أولى بسقوط الزكاة من السنة الأولى؛ فإن الملك في هذه السنة معرضٌ للزوال؛ فإنه يتصور] (5) من الملتقط أن
__________
= المؤجلة؛ فإن واجب الشرع خمسة، ولا سبيل إلى قبول ما دونها. (راجع أيضاًً فتح العزيز: 5/ 502).
(1) في (ت 1): عين. وهو تصحيف ظاهر.
(2) ساقط من الأصل، (ط).
(3) لُقطة: بفتح القاف على غير قياس، فالأكثر في كلام العرب أن فُعَلة بفتح العين جاء فاعلاً، وفُعْلة بسكون العين جاء مفعولاً. فكان القياس أن تكون اللقطة بفتح القاف علماً على من يلتقط، ولكن أجمع أهل اللغة، ورواة الأخبار على أن اللقطة بفتح القاف: هو الشيء الملتقط. (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 570).
(4) الضمير يعود على المالك.
(5) زيادة من (ت 1). وفي (ت 2) سقطت جملة: "وهذه السنة أولى بسقوط الزكاة من السنة الأولى".

(3/331)


يتملك، ويده قاصرة عن ذلك في السنة الأولى (1).
وإن تملك الملتقط اللقطة في السنة الثانية، وقلنا: يملكها قبل التصرف، فإذا مضى حول كامل، فلا زكاة على صاحب اللقطة في اللقطة، فإن الملك قد زال، وهل تجب الزكاة على الملتقط المتملّك؟ هذا يخرج على أن الدين هل يمنع تعلّق الزكاة بالعين، أم لا؟ وقد مضى تفصيل ذلك على ما شرحناه، ثم صاحب اللقطة يستحق قيمتَها على الملتقط المتملك، ولكنها في حقه ملكٌ ضالٌّ إذا لم يكن عالماً بالملتقط، وقد سبق التفصيل في إيجاب الزكاة في الملك الضال.
فصل
قال: "ولو أكرى داراً أربع سنين بمائةٍ وستين ديناراً ... إلى آخره" (2).
2146 - إذا أكرى داراً أربع سنين بمائةٍ وستين ديناراً، وسلّم الدارَ وكانت الأجرة حالّة، فإذا مضت سنة، فالذي نقله المزني أنه لا يجب إلا إخراج زكاة ربع الأجرة.
والمسألة من أولها إلى آخرها مفروضة فيه، إذا كانت أُجَرُ السنين لا تتفاوت. فإذا مضت السنة الثانية، وجبت زكاة نصف الأجرة لسنتين، ويحط ما أدّاه في السنة الأولى، وهو زكاة [رَيْع السنة] (3). ويجب في السنة الثانية ثلاثةُ أرباع الأجرة لثلاث سنين، ونحط عنه زكاة النصف لسنتين، ونوجب الباقي. ويجب في انقضاء السنة الرابعة زكاة المائة والستين لأربع سنين، ونحط ما مضى من تأدية زكاة ثلاثة الأرباع لثلاث سنين (4). هذا ما نقله المزني.
ونقل غيره عن الشافعي إيجابَ الزكاة في تمام المائة والستين عقيب السنة الأولى، وهذا قياس المذهب.
__________
(1) ر. الشرح الكبير: 5/ 504.
(2) ر. المختصر: 1/ 247، غير أن اللفظ هناك: "بمائة دينار".
(3) في (ط) ربع السنة، وفي (ت 1) رُبع لسنة، وفي (ت 2) ربع سنة. والمثبت تقديرٌ منا رعاية للسياق، فالمعنى زكى في نهاية السنة الأولى رُبع الأجرة فقط.
(4) انظر شرحاً وافياً للمسألة، وتمثيلاً بالأرقام في الشرح الكبير: 5/ 514.

(3/332)


وحقيقة الفصل يُتلقَّى من القول في ملك الأجرة، فظاهر المذهب أن المكري يملك الأجرة التامة بنفس العقد، ثم إن فُرض انفساخ العقد بسبب انهدام الدار، فينتقض الملك بعد ثبوته، وهذا التقدير لا يمنع ثبوت الزكاة.
ثم من سلك هذا المسلك وجّه القولين بما نصفه، فقال: إن قلنا: تجب زكاة المائة والستين، فوجهه ظاهر؛ فإن الملك ثابت، فإن فُرض فسخ، زال وانقطع، ولا يتبين أن الملك لم يكن ثابتاً قبلُ، فأشبه الصداق قبل المسيس، فإذا قَبضت الصداقَ، ومضى حَوْل، وجبت عليها الزكاة، في جميع الصداق، وإن كان ملكُها في الصداق عرضةً للتشطر، لو قدر طلاق الزوج.
ومن قال بما ذكره المزني نقلاً، حاول الفرقَ بين الصداق والأجرة، بأن الصداق إنما يتشطر بتصرفٍ من الزوج في ملكه، وليس ذلك رفعاً للعوض - (1 تبعاً للعقد الموجِب للعوض- 1) بالفسخ، وما يفرض من انفساخٍ، فهو معترض على أصل العقد.
2147 - ومن أئمتنا من قال: القولان في تأدية الزكاة مأخوذان من الملك: فإن قلنا: تجب الزكاة في الكل دفعةً واحدة، عقيب السنة الأولى، [فهذا] (2) جواب على أن الملك يحصل في الأجرة دفعة واحدة مع العقد، وهذا قاعدةُ المذهب والقياش.
والقول الثاني - أنه يؤدي الزكاة على التدريج الذي ذكره المزني، وهذا يبتنى على أنا لا نحكم بالملك في الأجرة دفعة واحدةً، ولكن نقف الأمر، فإن مضت المدة سالمةً عن اعتراض ما يوجب الانفساخ، تبيّنا بالأخرة أن الأجرة مُلكت عند العقد، وإن طرأ الانفساخُ بعد مضي ربع المدة، تبيّنا أنه لم يجر الملك إلا في ربع الأجرة، فقد حصل طريقان في الملك، فمن الأئمة من حصَّل الملك قولاً واحداً، وخرّج قول المزني على ضعف الملك، من حيث يتعرض للانفساخ.
ومنهم من قال: قول المزني خارج عن ابتناء أمر الأجرة على التبيّن عند طريان
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).
(2) في الأصل، (ط): فهل. وفي (ت 2) فهو.

(3/333)


فاسخٍ أو استمرار سلامةٍ، وقد ذكر الصيدلاني الطريقين جميعاًً في الملك.
فرع:
2148 - قال: "فإن غنموا، فلم يقسمه ... إلى آخره" (1).
القول في أن الغانمين إذا أحرزوا الغنائم، هل يملكون ما غنموه قبل القسمة، يأتي في كتاب السير، ولكن القدر الذي تَمَسُّ الحاجة إلى ذكره الآن: أن من أئمتنا من قال: لا يملكون، ولكنهم ملكوا أن يملكوا.
ومنهم من قال: ملكوا ملكاً ضعيفاً، ومن أعرض منهم عن حقه، سقط حقُّه، كما سيأتي.
وحظّ الزكاة من هذا الفصل: أنهم إذا غنموا أنصُباً زكاتية، فإن قلنا: لا يملكون قبل القسمة، فلو حال حول قبل القسمة، فلا زكاة فيها.
وإن قلنا: إنهم مالكون، فحاصل ما قاله الأئمة ثلاثةُ أوجه: أصحها -وهو المذهب- أن لا زكاة؛ فإن الملك إن ثبت، فهو في نهاية الضعف والوَهاء.
والثاني - أنه تجب الزكاة.
والثالث - إن كان فيما غنموه ما ليس بزكاتي، ونحن نقدر أن يقع الزكاتيُّ خُمساً، ولا زكاة في الخمس، فلا زكاة أصلاً؛ فإن للإمام أن يوقع القسمة على الأجناس، على شرط التعديل، فيوقع الزكاتي في الخمس، وإن كان ذلك ممكناً مُقدّراً، فلا زكاة لضعف الملك، وانضمامِ هذا التقدير إلى ضعف الملك.
والذي قطع به أئمة المذهمب نفيُ الزكاة، وقد يمتزج بهذا الذي ذكرناه تفاصيلُ القول في الخلطة وهي بينة (2).
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 248.
(2) انتهى إلى هنا الجزء الخامس من نسخة (ت 2).
وجاء في خاتمته ما نصه:
"تم الجزء الخامس، بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد نبيه، وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرّم، وعظم.
يتلوه في الجزء السادس -إن شاء الله- باب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار".
وهنا انقطع سياق هذه النسخة، وسنلتقي بها -إن شاء الله- من أول (باب البيع الفاسد).

(3/334)


باب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار
قال الشافعي: "ولو باع بيعاً صحيحاً على أنه بالخيار ... إلى آخره" (1).
2149 - إذا جرى البيع في مال زكاتي بشرط الخيار، أو فرضنا الكلامَ في خيار المجلس، فاختلاف القول في أن الملك في زمان الخيار لمن؟ مذكور في كتاب البيع، ولا نَضْمن استقصاءَه هاهنا.
فنفرض البيع قبل وجوب الزكاة، فإن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع، فتم الحول في زمان الخيار، وجبت الزكاة، ثم يتفرع ما تقدّم، وهو البيع هل يبطل في قدر الزكاة؟ وإن بطل، فهل يتداعى إلى الباقي؟ هذا قد تقدم مشروحاً، مبيّناً على تعلق الزكاة بالعين، أو بالذمة، وعلى تفريق الصفقة، فلا نعيد ما مضى.
وإن حكمنا بأن الملك في زمان الخيار للمشتري، فيبتدىء عقدُ الحول في حقه من وقت الشراء، والأولى فرض هذه المسائل في زكاة الثمار، حتى [نفرض] (2) بدوّ الزهو في مدة الخيار، ونقول بحسبه: إن يُقدّر ذلك في الخيار، وقلنا: الملك للمشتري، وجبت الزكاة عليه. هذا ما قطع به الأئمة إلا صاحبَ التقريب؛ فإنه قال: وجوب الزكاة على المشتري يُخرّج على قولين، لمكان ضعف ملكه، والعقد عرضة الفسخ، ثم قال: إذا كنا نخرج المسألة في المغصوب على قولين مع قرار الملك، لتعذر التصرف، فالتصرف يتعذر في زمان الخيار، والملك ضعيف، وقد مضت مسائل في ضعف الأملاك، وأوردنا فيما انتهينا إليه ما يليق به.
__________
= (ومن هنا كانت المراجعة على نصوص ثلاثة فقط: الأصل، (ط)، و (ت 1)، إذ هذا الجزء ساقط من (ك) ".
(1) ر. المختصر: 1/ 248.
(2) في الأصل: "نفرع" والمثبت من (ت 1).

(3/335)


ونحن الآن نذكر كلاماً جامعاً في الأملاك إن شاء الله تعالى.
2150 - من اشترى نصاباً زكاتياً، ولم يقبضه حتى انقضى الحول، فقد قدمنا فيه طرقاً للأصحاب، في أول الكتاب، عند ذكر المجحود والمغصوب: فمن الأصحاب من قطع بوجوب الزكاة، ومنهم من خرّجه على المغصوب لتعذر التصرف، قبل القبض، ومن قطع بالوجوب فصَّل بأن المشتري قادر على التوصّل إلى التصرف بأن يوفّي الثمن، أو يقبض دون التوفية، وحكى بعضُ الأصحاب القطع بأن لا زكاة؛ لأن المبيع ليس من ضمان المشتري، فهذه مرتبة في الملك.
ومما يلي هذا الكلامُ في الكراء العاجل، وقد تكلمنا عليه، فإن جرينا على الأصح، وهو أن الملك ثابت في الجميع، فإن طرأ انفساخ، انقطع من غير تبيّن، فالكراء المقبوض أولى بالزكاة من البيع؛ فإن التصرف نافذ فيه، وإنما فيه توقع الانفساخ. وإن قلنا: الملك في الأجرة موقوف، فالمبيع أولى بوجوب الزكاة؛ فإن الملك فيه متحقق، وهو عِمادُ الزكاة، والتصرف المجرد مع التوقف في الملك لا يؤكد الزكاة ووجوبَها.
2151 - ومما يتعلق بالملك ملكُ المشتري في زمان الخيار، فالذي ذهب إليه الأئمة أنا إذا حكمنا بأن الملك في زمان الخيار للمشتري، فهو ملك الزكاة، وإن كان يمتنع عليه معظم التصرفات، وإنما قالوا ذلك لأن الملك مصيره إلى اللزوم، والعقد معقود له، فكان الجواز في أوله محتملاً. وذكر صاحب التقريب في ذلك تردداً؛ من جهة امتناع التصرف أخذاً (1) من المجحود والمغصوب.
وهذا منقاس. ولم يذكره غيره، ثم تردد فيه إذا كان الخيار مشروطاً لهما جميعاًً، أو للبائع. فأما إذا كان الخيار للمشتري وحده، والتفريع على أن الملك له، فملكه ملك الزكاة بلا خلاف؛ فإن الملك ثابت، والتصرف نافذ، وتمكنه من رد الملك لا يوجب توهيناً، وكذلك إذا قلنا: الملك للبائع، وكان الخيار ثابتاً له، فملكه ملك الزكاة؛ فإن تصرفاته فسخ، وهو منفرد بالفسخ.
__________
(1) ساقطة من (ت 1).

(3/336)


2152 - ومن الأملاك التي يتعلق الكلام بها ملك الغانمين قبل القسمة، فإن قلنا: إنهم لا يملكون، فلا يثبت حكمُ الزكاة، وإن قلنا: إنهم يملكون، ففيه التفصيل الذي قدمناه، والأصح أن لا زكاة، والسبب فيه أن الملك في المغنم غير مقصود، وإنما يتحقق القصد عند القسمة، والغرض من الجهاد إعلاء كلمة الله، والذب عن دين الله، ولما كان كذلك، انحط ملك الغانم قبل القسمة، عن ملك المشتري في زمان الخيار.
وينحط عن هذا الملك ما نصوّره: إذا أوصى رجل بثمار لإنسان، ومات الموصي، فأزهت الثمارُ بعد موته، وقبل قبول الموصى له، ففي أصحابنا من قال: الملك يكون للورثة إلى القبول، فإذا حصل الزهو، ثم القبول بعده، فالأصح الذي لا يسوغ غيره أن ملك الورثة لا يكون ملك الزكاة، ولا يلزمهم العشر، ولا زكاة فطر العبد الموصى به، في مثل هذه الصورة؛ فإن هذا الملك تقدير، اضطررنا إليه، لما لم نجد مالكاً متعيّناً في هذا الزمان، فلا حاصل لهم في هذا الملك، وهذا الذي ذكرته فيه إذا قدرنا هذا الملك، ثم قبل الموصى له الوصية، فأما إذا ردّ الوصيةَ، فيظهر وجوب الزكاة على الورثة، إذا كان الزهو بين موت الموصي وبين القبول؛ فإن الملك قد رُدّ، ثم تحقق، وفيه الخلاف الذي تكرر أمثاله في الأملاك الضعيفة، التي لا يثبت التصرف فيها.
2153 - فهذه رتب في الأملاك: أعلاها المبيع قبل القبض، والقول في الأجرة منقسم، كما ذكرته، والصحيح أنها مملوكة، وهي أولى بالزكاة من المبيع، لأنها محل التصرف، ثم ينحط عنهما ملك المشتري في زمان الخيار، ثم يليه ملك الغانم قبل القسمة، ويتأخر عن الجميع الملك المقدر كما فرضناه (1).
2154 - ثم من اشترى زوجته، وقلنا: إنه يملكها، فينفسخ النكاح بهذا الملك، وإن كان ضعيفاً وفاقاً؛ فإن سبب ارتفاع النكاح (2 ما بين النكاح 2) وملك اليمين من
__________
(1) أي كما فرضنا الملك المقدّر في صورة الموصى به بعد الوفاة وقبل قبول الموصَى له أو ردّه.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/337)


المضادة في وضع الشرع، وإن كان كذلك، فالمضادة تثبت مع الملك الضعيف، ولو قدرنا للوارث ملكاً في زوجته الأمة، وكانت موصى بها لإنسان، فهل ينفسخ النكاح بالملك المقدر؟ فيه وجهان.
فليتأمل الناظر منازل الأحكام.
والظاهر أنا إذا أثبتنا الملك للغانم، في زوجته قبل القسمة، حكمنا بانفساخ النكاح، وفيه خلاف ظاهر.
2155 - ومن ملك من يعتِقُ عليه ملكاً ثابتاً عَتَق عليه، وإن اشتراه، وقلنا: الملك له في زمان الخيار -ففي عتقه عليه خلاف- إن قلنا: يجوز شرط الخيار في شراء من يعتق على المشتري. وفي حصول العتق في ملك الغنيمة كلامٌ وخلاف، ويبعد العتق ْفي الملك المقدّر كما صورناه، وفيه شيء.
فلينظر الناظر إلى هذه الأحكام في هذه المراتب، فأولاها بالنفوذ ما يبتنى على المضادة، كانفساخ النكاح، ويليه العتق لسلطانه، ويتأخر عنه أمر الزكاة التي نحن فيها.
2156 - ومما يتصل بتمام الغرض أنا وإن ترددنا في أن الزكاة هل تجب بملك المشتري في زمان الخيار، فإذا فرّعنا على هذا القول، فينقطع لا محالة [حول] (1) البائع؛ فإن زوال الملك إذا تحقق، قطع الحولَ، وإن لم يكن متأكداً.
فهذا منتهى الغرض في الأملاك، وما يتعلق بها في غرضنا.
فرع لابن الحداد:
2157 - إذا مات رجل، وخلف نخيلاً مثمرة، وديوناً مستغرقة للتركة، ثم أزهت الثمارُ قبل صرف التركة إلى الديون، فمن أصحابنا من قال: الدين يمنع ثبوت الملك للورثة، فعلى هذا لا عشر عليهم، ولا يجب أيضاًً على الميت؛ فإنه لا يتعبد بعبادة بعد انقطاع التكليف عنه بالموت، ولا شك أنها لا تجب على الغرماء.
__________
(1) في الأصل، (ط): حق.

(3/338)


وإن جرينا على المذهب، وحكمنا بأن الملك يثبت للورثة في التركة، وإن كانت الديون مستغرِقةً لها، وقلنا: لا يمنع الدينُ الزكاةَ، فالتركة كالمرهون، وفيه الخلاف المقدم.
فإن قلنا: بوجوب الزكاة في المرهون، فمن أئمتنا من قال: إن حكمنا بأن الزكاة تتعلق بالعين، فهي مقدمة، وإن قلنا: إنها تتعلق بالذمة، فعلى ثلاثة أقوال: قال الشيخ أبو علي: الصحيح تقدم الزكاة، وإن قلنا: إنها تتعلق بالذمة، فإن لها تعلقاً على حالٍ بالعين، أقوى من تعلق الدين بالرهن. والدليل عليه أن من وجبت الزكاة في ماله، فتلف قبل الإمكان، سقطت الزكاة، ولو تلف الرهن، لم يسقط الدين، والدين يتعلق بالتركة أيضاًً تعلق استيثاق، فلا وجه لتقديم الزكاة؛ فإنها لا اختصاص لها بالعين، فالوجه التسوية عندي.
ثم الأقوال الثلاثة لا تخفى.
فإن لم يجد الوارث ما يخرج منه العشر، أخرج العشر لا محالة من ثمار التركة، ثم إذا وجد الوارث بعد هذا ما يفي بمقدار الزكاة، فهل يلزمه أن يغرم للغرماء ذلك القدرَ؟ ذكر وجهين: أحدهما - أنه يجب ذلك؛ فإن العشر إنما وجب على الوارث، وهو المخاطب بها (1)، والتركة مستحقة للغرماء. قال: هذا هو الأصح.
ومن أئمتنا من قال: لا يجب على الوارث أن يجبر ذلك؛ فإنه لم يفرط فيه، وإنما وجبت الزكاة بإيجاب الله تعالى، ثم أُخذت من المال، فكانت بمثابة المؤنة في المال، ولا خلاف أن نفقة التركة من وَسَطها، إلى أن يتفق صرفُها إلى الغرماء، فإن كانت النفقة تجب على المالك، فلتكن الزكاة كذلك.
ومن قال بالوجه الأول الذي صححه الشيخ (2)، انفصل عن النفقة بأن قال: الزكاة عبادة مقصودة، وجبت فيه، وخُوطِبَ الوارث بها، والنفقة ليس لها تعلق بالذمة على التحقيق، فأخذت من التركة، وهذا إذا كان الوارث لا يجد ما يؤدي العشرَ منه، فأما
__________
(1) "بها": الضمير يعود مؤنثاً على الزكاة.
(2) "الشيخ": المراد به أبو علي السنجي في شرح فروع ابن الحداد.

(3/339)


إذا وجد ما يُخرج العشرَ منه، فإن قلنا: لو لم يجد الوارث شيئاً، ثم وجد، جبر ما أخرج من التركة، فإذا كان واجداً، لزمه الإخراج منه، وتخليص التركة. وإن قلنا: لا يجب الجبران في الصورة الأولى، فلا تجب تأدية الزكاة في هذه الصورة على الوارث، وإن كان غنيّاً كالنفقة (1).
فرع آخر لابن الحداد:
2158 - إذا اشترى رجل شقصاً فيه الشفعة على نية التجارة بعشرين ديناراً، ثم لم يتفق أخذه بالشفعة، حتى مضى حولٌ، وبلغت قيمة الدار (2) مائةً، قال ابن الحداد: يؤدي المشتري الزكاةَ عن مائةِ دينارٍ، والشفيع يأخذ الدار بعشرين ديناراً، والسبب فيه أن ملكه استمر سنة، وأمر الزكاة منقطع عن أمر الشفعة، فجرى كل حكم على مقتضاه.
والقياس ما قاله الشيخ أبو علي: من أئمتنا من خرج قولاً في نفي الزكاة لتعرض ملك المشتري للزوال والقطع، ولو تصرف في الدار، فتصرّفه بصدد النقض من جهة الشفيع، وليس كالصداق؛ فإن تصرفات المرأة لا تُنْقَضُ في شيء من الصداق، إذا طلقت قبل المسيس، وقد كانت وهبت وسلَّمت، أو باعت.
وهذا الذي ذكره إن كان يتجه تفريعه، فالوجه أن يستثنى منه مقدار عشرين ديناراً؛ فإن ملكه إن كان يعترض عليه، فيُبذل له في مقابلته عشرون، وعين المال غيرُ مقصودٍ في زكاة التجارة، وإنما المقصود المالية، والمالية دائمة في مقدار العشرين.
[وقد] (3) يجوز أن يقال في العشرين: إنها وإن كانت قائمة، فتحكُّم المالك مختل فيها أيضاً. وإنما تتحقق التجارة من متحكم مختار، أما الدار، فتصرفه فيها منقوض، والعشرون لا يملك التصرف فيه، قبل قبضه من الشفيع، وهذا تكلُّفٌ، والوجه ما ذكرته من إبقاء الزكاة في العشرين؛ لتحقق المالية على الاستمرار في ذلك المقدار.
__________
(1) ساقطة من (ت 1). والمراد بالنفقة هنا: النفقة على التركة إلى أن تُصرَف إلى الغرماء.
(2) المراد بالدار الشقص، كما صرح بذلك النووي في حكايته هذا الفرع نفسه عن ابن الحداد (ر. المجموع: 6/ 74)
(3) في الأصل، (ط): ولا يجوز.

(3/340)


ثم ذكر الشيخ في التفريع على ما ذكره ابن الحداد وجهاً، وذلك أن المشتري يقول: قد وجبت الزكاة في مالية الدار، فتَخرج الزكاة منها، ثم يكون ذلك بمثابة نقصان في صفة الشقص المبيع، فالشفيع يأخذه إن أراد بعد الزكاة، بتمام العشرين كما لو نقص الشقص بآفة سماوية، وهذا خرجه على الأصل الذي ذكرناه في الفرع المتقدم على هذا، وهو أن العشر إذا أُخرج من التركة، فالوارث لا يجبره، وتكون الزكاة كالمؤنة والنفقة.
وهذا الوجه في هذه المسألة ضعيف عندي؛ فإنه إن اتجه في تلك المسألة ما تقدم؛ من جهة أن الورثة لم ينتسبوا إلى شيء لأجله وجب العشر في الثمار، والمشتري لما قصد التجارة، فسبب وجوب الزكاة قصدُه، فحَسْبُ (1) نقصان الزكاة التي وجبت بسبب قصده على الشفيع بعيدٌ، وقد نجز غرض [الفرع] (2).
فرع:
قال في الكبير (3): "لو باع ثمرةً قبل بدو الصلاح ... إلى آخره".
2159 - نقل الصيدلاني هذا النص عن الكبير، ونحن نصوّر موضعَ النص أولاً، ثم نستوعب تفصيل المذهب فيه.
إذا أثمرت نخيلُ إنسانٍ، فباع الثمار قبل بدوّ الصلاح، مطلقاً؛ من غير شرط القطع، فالبيع باطل عندنا، والثمار باقية على ملك البائع، فإذا بدا الصلاح في يد المشتري، فيده ليست يد استحقاق، والعشر يتعلق بعين الثمار -على ما تقدم تفصيل التعلق- والبائع متعبد؛ فإنه المالك، والبيع فاسد، فلو أتلف المشتري الثمارَ، ثم أفلس البائع، وحجر عليه، وأحاطت الديون به، فقد تقدم في باب الثمار اختلافُ
__________
(1) حَسَبَ الشيء عدّه من باب نصر. وحساباً أيضاًً.
(2) في الأصل، (ط): الفرض.
(3) "الكبير" المراد به "المختصر الكبير للمزني" جمع فيه نصوص الشافعي رضي الله عنه على نحو ما فعل في المختصر الصغير المعروف، وقال ابن الصلاح تعليقاً على هذا النقل في وسيط الغزالي: "المزني رحمه الله له (المختصر الكبير) وهو كالمتروك، و (المختصر الصغير) وهو هذا المختصر المشهور المعروف "بمختصر المزني" الذي أكثر تصانيف الأئمة شروح له" (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح، مطبوع بهامش الوسيط: 2/ 470).

(3/341)


القول في أن الخرص حيث يجري - عبرةٌ أو تضمين، ثم ذكرنا أنا إذا جعلناه عبرة، فإذا أتلف (1) الثمارَ، فحق المساكين في الرطب، وإن جعلناه تضميناً، فحقهم بعد الخرص في التمر. وإن بدا الصلاح ودخل [وقت] (2) الخرص، ولم يتفق الخرص فأتلفت الثمار -والتفريع على قول التضمين- ففيما يجب وجهان: أحدهما - على المتلف المالك التمر الجاف، ودخول وقت الخرص كالخرص.
والثاني - أنه لا يجب التمر ما لم يجر الخرص، ونص الشافعي في الكبير يدل على أن وقت الخرص بمثابة الخرص، في إيجاب العشر.
2160 - ثم إذا تجدد العهدُ بمواضع الخلاف في ذلك، فنقول: إذا أفلس البائع والديون عليه، والزكاة من جملة الحقوق الواجبة عليه، فإن قلنا: الواجب عشر الثمر رطباً، فيغرم الرطب، أم قيمته نقداً؟ هذا ما تقدم ذكره، تخريجاً على أن الرطب من ذوات الأمثال أم لا، والجريان على أنه مضمون بالقيمة، فقيمة العشر ثابتة في ديونه، ثم يخرج الآن ما قدمناه، من أنه إذا اجتمع دين الله، وديون الآدميين، فما المقدم؟ ففي قولٍ يقدم حقُّ الله تعالى، وفي قولٍ يقدم حق الآدمي، وفي قولٍ لا تقديم، ولا تأخير، وتثبت الديون فوضى (3) على [التضارب] (4) في ماله، وإن ضاق المال أخذ كلٌّ ما يخصه، ومسألة الشافعي في الكبير مفروضة فيه إذا أتلف المشتري الثمار في البيع الفاسد، فالقيمة المأخوذة منه تتعلق بها الزكاة، حسب تعلقها بالعين في بقاء العين، والتفريع على الأصح: وهو أن من وجبت عليه الزكاة، (5 فمات، وخلف ذلك المال، وأحاطت الديون، فالوجه تقديم الزكاة 5)، كما نُقدِّم ديناً متعلِّقاً بالرهن على الديون المرسلة في مرتبةٍ واحدة. ثم قال الشافعي في الصورة التي ذكرناها: إذا ْأفلس البائع، وقد كان أتلف المشتري الثمار -على حكم الفساد- فتؤخذ القيمةُ من
__________
(1) (ت 1): تلفت.
(2) مزيدة من (ت 1).
(3) فوضى: أي شائعة مشتركة لا فرق بين الزكاة والديون.
(4) في الأصل، (ط): النصاب.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/342)


المشتري المتلِف، وهي مائة درهم مثلاً، ثم يصرف عُشرها -وهو عشرة- إلى مستحقي الزكاة يقدَّمون بها، وكان قيمة نصيب المساكين تمراً يساوي عشرين، قال: فهم مقدّمون بالعشرة التي تقدمت، ويضاربون الغرماء بعشرةٍ أخرى إلى تمام قيمة العُشر تمراً، وهذا فرَّعه على أن الخرص تضمين، ثم فرعه على أن دخول وقت الخرص يفيد ما يفيده جريان الخرص على حقيقته، ولهذا أوجب التمرَ، واعتبر قيمته، ولم يعتبر قيمة الرطب، ثم وجد العُشر من قيمة الرطب متعلِّقاً بالقيمة التي غرمها المشتري، والباقي إلى تمام قيمة التمر يُصادف الذمة، فتضارب (1) سائرَ الديون.
هذا نص الشافعي، والذي ذكره منقاسٌ على قول الخرص.
2161 - وتمام البيان: أنا إن قدمنا حق الله تعالى، وإن كان مرسلاً، فنقدم العشرين، وإن رأينا تقديم الزكاة لكونها متعلقة بالعين، فإذا غلَّبنا تعلق الزكاة بالذمة، فهو وجه بعيد، فعلى هذا تقع المضاربة بالجميع، من غير تقديم في شيء. وقد يخرج عليه (2) تقديم حقوق الآدميين، تفريعاً على تقديم ديونهم. وإن قدمنا ما نراه متعلّقاً بالعين، فقد يتجه فيه أن ثمن [التمر] (3) بكماله متعلِّق بقيمة الرطب، كما تتعلق الشاة بخمسٍ من الإبل، وإن اختلف الجنس، ولا وجه إلا ما ذكره (4) الشافعي؛ لم (5) يحد عن القياس الظاهر، إلا أن القول قد يعتدل بين مذهب العِبرة والتضمين، ثم على قول العِبرة لا يجب إلا عشرة، وهي مقدّمة على قياس النص، وعلى قول التضمين التقديم بعُشر قيمة الرطب، وإن كان الضمان في قيمة التمر، وهذا لطيفٌ في مأخذه جداً.
__________
(1) في (ت 1): فيضارب بها سائر.
(2) ساقطة من (ت 1).
(3) في الأصل، (ط): المثمن.
(4) في (ت 1): والأوجه ما قاله الشافعي.
(5) كذا في النسخ كلها، والكلام مستقيم بشيء من التأمل.

(3/343)


فصل
قال الشافعي: "ولو اشتراها قبل بدو الصلاح على أن يجُدَّها ... إلى آخره" (1).
2162 - هذه الصورة مصوّرة في بيع يصح، وبيانها أن يشتري الثمارَ قبل بدوّ الصلاح، على شرط القطع، فيصح البيع، فلو لم يتفق القطع وفاء بالشرط، حتى بدا الصلاح، فالزكاة تجب لا محالة، وإن وجبت، فالقطع يُبطل حق المساكين من الثمر المتوقع، ثم إذا أبقينا الثمار، كان ذلك خروجاً عن الشرط المستحق في العقد، فيعسرُ الأمرُ في ذلك قطعاً وإبقاء.
2163 - فأول ما نصفه في ذلك اختلاف القول في أن الفسخ هل يثبت أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما - أن الفسخ يثبت؛ فإن العقد تعذر إمضاؤه لما تقّدم، وكل عقد يتعذر إمضاؤه، فيثبت فيه الفسخ.
والثاني - لا يفسخ؛ لأن سبب التعذر طارىء فيه، بعد لزوم العقد، وتسليم الثمن إلى المشتري.
فإن قلنا يثبت الفسخ، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن العقد ينفسخ كما (2) بدا الزهو، من غير حاجةٍ إلى إنشاء فسخ؛ فإن هذا سبب التعذر، فنفسه يوجب الانفساخ، وهذا القول سيأتي في كتاب البيع، في أن من اشترى حنطة، فانثالت على حنطة أخرى قبل التسليم، فنقول: في قولٍ نفسُ هذا يوجب انفساخ البيع، والأصح أن العقد لا ينفسخ، ولكن للبائع حق الفسخ فيه، فإن اختاره، نفذ، وإلا ْبقي العقد، ثم إن حكمنا بالفسخ، أو الانفساخ، فالتفريع: إن قلنا بالانفساخ، نفذ الفسخ، وارتفع العقد، سواء رضي المتعاقدان بتبقية الثمار، أو طلب البائع الوفاء بالقطع؛ فإن الانفساخ متعلق بصورة الحال، لا يتوقف على تراضيهما،
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 249.
(2) "كما" بمعنى (عندما).

(3/344)


واختلافهما، وإن أثبتنا حق الفسخ، فنقول: إن طلب البائع، فحق الفسخ يثبت لتعارض حق المساكين وحق الوفاء بالشرط، وإن رضي البائع والمشتري بالتبقية، بقّينا الثمار إلى الجِداد، ولا يفسخ البائع ولا المشتري، وإن رضي البائع بالتبقية، وأبى المشتري إلا الوفاء بالشرط، ففي المسألة قولان. أصحهما - أن لا فسخ، وتبقى الثمار؛ فإن الحق في تخلية الأشجار والوفاء بالقطع للبائع، فإذا ترك حقَّ نفسه، كفى ذلك، ولم يكن للمشتري عذر في طلب القطع.
والقول الثاني - أن طلبه ثابت؛ فإنه يقول قد استحقت القطع شرطاً، فلا أقبل من البائع تركَ الثمار، وربما يكون للمشتري غرض ظاهر في القطع، والوفاءِ [بشرطه] (1) الذي جرى في طلب القطع.
ثم إن حكمنا بالانفساخ أو أثبتنا للبائع حقَّ الفسخ، ففسخ، فالزكاة في الثمار على من؟ فعلى قولين: أقيسهما - أن الزكاة تجب على المشتري؛ فإن بَدْوَ الزهو كان في ملكه، والفسخ لا يرفع العقدَ من أصله تبيناً وإسناداً إلى ما تقدم، ولكنه يقطع العقد في الحال.
والقول الثاني - أن العشر يجب على البائع؛ فإن ملكه وإن زال، فسبب العَوْد إليه إنما يمتنع من قطع الثمار، لما فيه من إبطال حق المساكين. ولو قلنا: يفسخ، فالزكاة في الثمار باقيةٌ، فلزم منه أن تبقى الثمار بسبب الزكاة، بعد الفسخ، وكل ما أثبت حقَّ الفسخ من جهة التعذر، فينبغي أن يرتفع بسبب الفسخ، فكأن الملك لم يزل، فرفعناه رفعاً على هذا التقدير، وأوجبنا العشر على البائع، وجعلنا كأنه لم يبع، وقد بدا الصلاح في ملكه، وهذه المسألة لا تبين إلا عند النَّجاز منها؛ فإن الأصل فيها والتفريع عليه يلتف أحدهما بالآخر التفافاً يعسر فيه التفصيل.
وهذا منتهى غرضنا الآن، في أنه يتطرق الفسخ إلى العقد.
2164 - وفي المسألة قول آخر أن: لا فسخَ، ولا انفساخَ، ولكن إن طلب البائع القطعَ، قطعت الثمار، وإن قيل: هذا يؤدي إلى أن تنقص حقوق المساكين، قلنا
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ت 1): بشرط. والمثبت من (هـ 1).

(3/345)


في جوابه: الثمرةُ إذا مُلكت على قضية الشرط، فحق المساكين يثبت فيها على جريان القطع؛ إذْ شرطُ القطع متقدم على وجوب الزكاة، ثم الشرط ثبت على الصحة، ثبوتاً شرعياً، ونحن قد نقطع الثمار بعد وجوب العشر لحاجةٍ داعيةٍ إليه، مثل أن يخاف أن يضرّ بالنخيل إذا قل الماء، فإن قلنا: يقطع الثمار، فقد نقول: لا يُخرِج حق المساكين من عين الثمار؛ فإن قسمة الرطب ممتنعة، وقد تقدم نظيرُ هذا في قطع الثمار، بسبب عطش الأشجار، فعلى هذا يُخرج عشر قيمة هذه الثمار إذا قطعها، وإن جوزنا قسمة الثمار، فيسلم عشر الثمار التي قطعها إلى المساكين، ثم نقول عند ذلك: إذا قلنا: الخرص عِبرة، أو الخرص إذا جرى تضمين، فلا يجب ضمان [التمر] (1) قبل جريانه، فالجواب ما ذكرناه.
وإن قلنا على قول التضمين: نفسُ بدو الصلاح يضمّنه [التمر] (1)، فالذي يظهر في هذه الصورة أنه لا يضمن [التَّمْرَ] (1)، وإن فرعنا على الوجه الذي ذكرناه، والسبب فيه أن عين بدو الصلاح إنما يُضَمِّن [التَّمْرَ] (1) إذا كان إبقاءُ الثمر ممكناً. فأما إذا أوجبنا القطعَ على القول الذي فرعنا عليه، فيبعد أن [يضمَّن] (2) التَّمرَ، ثم نمنعه من تصييره تمراً، فليتأمل الناظر ما يمر به.
2165 - ومن بقية الكلام في المسألة: أنا إذا قلنا: ينفسخ العقد أو يفسخ، وجرينا على الأقيس: أن الزكاة تجب على المشتري، فلا نقول: نكلِّف المشتري القطعَ بعد الفسخ، ونُلزمه ما ذكرناه من بذل عشر الثمار، أو عشر قيمتها؛ فإنا لو كنا نسلك هذا المسلك، لأوجبنا الوفاء بشرط القطع، ولم نفسخ العقد، والوجه أن تَبَقِّي الثمار وتبقيةَ عشرها محال؛ فإن الأمر في ذلك قد لا ينقسم، والجملة في ذلك أنا لا نكلف المشتري بعد الفسخ قطعَ جميع الثمار؛ إذ لو كنا نكلفه ذلك، لكلفناه القطعَ وفاءً بالشرط حتى لا يحتاج إلى الفسخ، فإذا فسخنا، فينبغي ألا نعتقد جريان الأمر على
__________
(1) في النسخ الثلاث (الثمر) [بالثاء المثلثة] في المواضع الأربعة، والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى: كيف نضمِّنه حقَّ المساكين تمراً [بالمثناة]، ونحن نحكم بقطع الثمار [بالمثلثة].
وصيرورتها تمراً [بالمثناة] لا يكون إلا بالإبقاء حتى تمام الجفاف.
(2) في الأصل، (ط): يضم.

(3/346)


حكم القطع في الجميع، ولكن القول في ذلك يخرج على أن الثمار هل تقسَّم، فإن قلنا: لا تقسم، فلا بد من تبقية جميع الثمار، وإن قلنا: إنها تقبل القسمة لو كانت موضوعة على الأرض، فهل نجري القسمة فيها بالخرص؟ فعلى وجهين ذكرناهما فيما تقدم، فلو منعنا القسمة، وهو الأصح، فلو قيل لنا: سبب ثبوت الفسخ إذاً ماذا؟ وأي فائدة في تنفيذه، والثمار تبقى قهراً، وإن لم يرض تبقيتَها البائع؟ قلنا: أما الفائدة، فرجوع تسعة الأعشار إلى ملكه، حتى يزيد في ملكه زيادةً ظاهرة، فكأنا لما تعذر الوفاء بالشرط، لم نرض أن تزيد الثمار للمشتري بسبب التبقية.
ثم نقول: إن أخرج المشتري حقّ المساكين من موضع آخر، والتفريع على أن المساكين لا يستحقون شِركاً من الثمار فيرتدّ جميع الثمار إلى البائع، وإن أخذ الساعي العشرَ من عين الثمار، فلا شك أن البائع يرجع بمقدار الزكاة على المشتري؛ فإن الزكاة وجبت عليه دون البائع.
فهذا كله على قول منع القسمة، وتبقية الجميع، فإن جوّزنا القسمةَ خَرْصاً سلّطنا البائع على مراده في تسعة الأعشار، وبقَّينا حقَّ المساكين في العشر، ثم يأتي في حق المساكين الخرص والتسليط بسببه على التصرف، إن جعلنا الخرصَ تضميناً، كما قدّمناه في الثمار المملوكة، التي لا تتعلق تبقيتُها بمناقضة شرط.
2166 - ومن لطيف القول في ذلك: أنا إذا حكمنا بالانفساخ، فهذا يقع من غير نظر إلى التراضي من المتعاقدين وإلى الاختلاف بينهما، وإن أثبتنا الفسخَ، (1 فلو رضي المتعاقدان، بقيت الثمار، ولو أبى البائع، أثبتنا الفسخ 1) ولو رضي البائع وأبى المشتري، فقولان مضى ذكرهما.
ْوإن جرينا على الصحيح وهو أن البائع إذا رضي، لم يكن للمشتري حق الفسخ، فلو رضي البائع، ثم بدا له أن يطالب بالقطع، فإن فرّعنا على أن المشتري يكلف القطعَ، ولا يثبت الفسخ، فإذا رضي بالتبقية، ثم رجع، فله أن يكلفه القطع،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 1).

(3/347)


ويكون هذا بمثابة ما لو رضيت المرأة بالمقام تحت زوجها المَوْلى، ثم بدا لها، فلها المطالبة مهما أرادت.
فأما إذا قلنا: لا يكلف المشتري القطعَ، ولكن يثبت حق الفسخ للبائع، فهذا سببه أن القطعَ متعذر، فإذا رضي بالتبقية، فلو قيل: هذا إسقاط منه لخياره في الفسخ، فلا يعود حقه، كمن اشترى شيئاً لم يره، ثم رآه ورضي به، فلا يعود خياره، وإن لم يرض بعيب. ويجوز أن يقال: سبب خياره ثبوت حق القطع ساعة فساعة، مع تعذر الوفاء به، وهذا يتجدد، فلا يسقط الخيار بالكليّة.
2167 - وهذا تمام المسألة، ولن يقف الناظر على حقيقتها، ما لم يُحط بجميع أطرافها، فهذا تمام القول في هذا، وقد مهدنا فيه ما يرشد إلى بيان ما نورده متصلاً به. إن شاء الله عز وجل
فصل
قال: "ولو باع المصدّق شيئاً، فعليه أن يأتي بمثله ... إلى آخره" (1).
2168 - مقصود الفصل أن الساعي إذا جمع الزكوات، فليس له أن يبيع أعيان ما أخذ، بل يوصلها إلى مستحقيها. والقاعدة المعتمدة في ذلك أن المالك لا يُخرج أبدال المنصوصات، بل يتيعن عليه المنصوص، وهذا التعبد يجب اتباعه، وهذا المعنى يتحقق في حق الساعي، فإذا لم نُجِز للمالك أن يُخرج ورِقاً عن ذهب في الأموال الباطنة، فهذا مرعي في حق الساعي، ولو ظهرت حاجةٌ في حق الساعي، مثل أن علم المؤنة ستثقل عليه في سَوْق ما جمعه من النَّعم، فله البيع، وكذلك لو لم تكن الطرق آهلة، فيبيع.
ولو لم تظهر حاجة من الجهة التي ذكرناها، ولكن كانت الغبطة في البيع، وظهرت غبطة، يجوز للقيم بيعُ عقار الطفل بمثلها، فليس للساعي البيعُ بسبب الغبطة، كما ليس للمالك أن يرعى غبطة المساكين، ويصرف إليهم الأبدال عن
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 250.

(3/348)


المنصوصات، لمكان الغبطة، حتى لو صرفَ إليهم خمسةَ دنانير، بدل خمسة دراهم، لم يجز ذلك، ولو علق الإنسان نظره، بأن الإمامَ لو رضي بذلك، ورآه رأياً، فهذا من اتباع اجتهاده.
وإذا رأى الإمام الجريان على مذهب أبي حنيفة في مجتهدٍ فيه، فحكمه متبع، وليس هذا من غرضنا في المسألة.
2169 - ولو وجبت الزكاة، وقلنا: المالك يتولّى تفرقة الزكاة، فعدِمَ المستحِقَّ في موضعه، وقلنا: عليه والحالة هذه أن ينقل الصدقة إلى بلدة فيها مستحقون، فإن كانت المسافة بعيدةً، واحتاج إلى مؤنةٍ في سوق النَّعَم، أو كان في الطريق خطر، فإن ركب الخطرَ، فتلف ما أخرجه، فهو عليه؛ فإن المخرج لا يصير زكاةً ما لم يصل إلى المستحقين، وليس له أن يُنفق على ما يسوقه، ثم يحسبه من الزكاة. والساعي قد يجوز له أن ينفق على الزكاة المأخوذة على حسب الحاجة من عين الزكاة. والسبب فيه أن ما انتهى إلى يد الساعي، فهو زكاة، وما يفرّقه من المال ليس بزكاة ما دام في يده.
والغرض من هذا أنه إذا كان المالك يحتاج إلى بذل مؤنة في النقل، أو ركوبِ غرر، ولو أخرج بدلاً، لم يكن واحد منهما، ففي إخراج البدل تردد في مثل هذه الصورة، قد تمهد أصله في إخراج الأبدال.
والقول فيما ينقله ويلتزمه من المؤنة يأتي مستقصىً في نقل الصدقات. إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "وأكره للرجل شراء صدقته ... إلى آخره" (1).
2170 - إذا تصدق الرجل بشيء مؤدياً فرضاً، أو متبرعاً، ثم رأى ذلك الرجل أن يبيع ذلك الشيء، فيكره للرجل المتصدّق أن يشتريه؛ لأن آخذه قد يسامح المتصدّق، فيكون في حكم الراجع في شيءٍ من صدقته. ولو اشترى، صحَّ. وكان عمر رضي الله
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 250.

(3/349)


عنه حمل رجلاً على فرسٍ في سبيل الله، فرآه يبيعه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شرائه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تعد في صدقتك" (1). ولو وكل وكيلاً حتى يشتريه، فإن كان يعلم أن الوكيل نائبه، فالجواب في كراهيته كما تقدم (2)، وإن كان وكيله مجهولاً، فالكراهية أخف، ولكن لا يؤثر ذلك، ويمكن أن يقال: هذا القسم لا يلتحق بالكراهية، بل هو من باب الأولى (3).
...
__________
(1) حديث نهي عمر عن ابتياع فرسه، رواه البخاري: الهبة، باب إذا حمل على فرس، ح 2636، ومسلم في أول كتاب الهبات، ح 1620، وأبو داود: كتاب الزكاة، باب 9، ح 1593، والنسائي في آخر الزكاة، باب شراء الصدقة، ح 2618.
(2) أي بعلم البائع للصدقة أن مشتريها وكيل المتصدّق، وذلك لتحقق العلّة، وهي ما ذكر من أنه قد يتسامح مع المتصدق.
(3) انتهى إلى هنا نسخة الأصل (د 1) وفي خاتمتها:
"نجز الثاني بحمد الله، وعونه وحسن توفيقه.
يتلوه في الذي يليه باب زكاة المعدن". ولن نلتقي بهذه النسخة ثانية، فهذا كل ما وجدناه منها.
وانتهى هنا أيضاًً نسخة (ت 1) وفي خاتمتها:
"كمل الجزء الثالث بعون الله تعالى ومنّه، ويتلوه -إن شاء الله تعالى- في الجزء الرابع منه: باب زكاة المعدن". وانقطع سياقها إلى أن نلتقي بها في أول البيع.
وانتهى هنا أيضاًً نسخة (ط) الجزء الخامس منها، وسياقها مستمر في الجزء السادس منها

(3/350)


باب زكاة المعدن (1)
قال: "ولا زكاة في شيء يخرج من المعادن ... إلى آخره" (2).
2171 - في نَيْل المعادن حقٌّ ثابت، والكلام في تمهيد الباب يتعلق بفصول: منها حق المعدن يختص بالتبرين، الذهب، والفضة، دون ما عداهما، وعلقه أبو حنيفة (3) بكل جوهر منطبع مُنْطرق: كالرصاص، والنحاس، والحديد. وفي الأخبار ما يدل على تخصيص التبرين.
والفصل الثاني، والثالث، والرابع (4)
في المقدار الواجب، وفي النصاب، وفي الحول.
[الكلام في المقدار الواجب] (5).
2171/م- وفيه ثلاثة أقوال: أحدها - أن الواجب ربع العشر؛ اعتباراً بزكاة الدراهم والدنانير.
والثاني - أن الواجب في نَيْل المعدن الخمس، وتوجيههما مذكور في الخلاف (6).
والقول الثالث - أنا نَفْصل بين ما يؤخذ عفواً من غير كثير تعب، وبين ما يستفاد مع
__________
(1) من هنا بدأ الاعتماد على نسخة (هـ 1) أصلاً، (ط) نصاً مساعداً، إلى أن ينتهى الخرم من نسخة (ك)، فتكون نصاً مساعداً ثانياً. إن شاء الله.
(2) ر. المختصر: 1/ 250.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 457، مسألة 449، والدرة المضية - مسألة 250.
(4) لم يَعْنِ الإمام بهذا فصولاً ذاتَ عناوينَ وأرقام، وإنما قصد أنه سيتناول هذه المسائل فيما يأتي. ولذا ستراه يمزج بين المسائل بدون تفصيلها بفصولٍ وعناوينَ.
(5) زيادة على ضوء السياق، حيث مكانه مطموس في الأصل، وساقط من (ط).
(6) لم يتعرض الإمام لهذه المسألة في (الدرة المضية)، فلعله يشير إلى كتاب آخر من كتبه في الخلاف، التي لم تصل إلينا للآن.

(3/351)


نَصَب، فنوجب ربعَ العشر فيما يؤخذ مع التعب، ونوجب الخمس فيما يؤخذ نَدْرة (1).
فأما من أوجب ربع العشر، اعتبر (2) واجب المعدن بما يجب في جنسه عند انقضاء السنة.
ومن أوجب الخمس اعتبر واجبه بواجب [الرّكاز] (3)؛ فإن كل واحد منهما مركوز في الأرض.
ووجه قول الفَصْل: أن فيما سقت السماء العشر، وفيما سُقي بنضح ودالية نصفُ العشر، فإذا كان يختلف واجب ما تُخرجه الأرض بقلّة التعب وكثرته، فلا يمتنع مثلُ ذلك فيما يستفاد من النَّيْل.
[الكلام في النصاب]
2172 - فإن قلنا: الواجب ربع العشر، فالنّصاب معتبر، وإن قلنا: الواجب الخمس، ففي اعتبار النصاب قولان: أحدهما - يعتبر كما يعتبر النصاب في المعشَّرات عندنا، والثاني - لا يعتبر النصاب، كما لا يعتبر في الغنيمة، وإخراج الخمس منها - النصابُ (4).
[الكلام في الحول]
2173 - ثم إن لم يُعتبر النصاب، فلا يعتبر الحول، وإن اعتبرنا النصاب، فهل يعتبر الحول؟ فعلى قولين: النصاب أولى بالاعتبار من الحول، ولذلك (5) اعتبر
__________
(1) الندرة بفتح النون، القطعة من الذهب والفضة، توجد في المعدن، وجمعها ندرات، وندر الشيءُ يندُرُ ندوراً خرج من غيره وبرز، والاسم منه الندرةُ، ومنه نادر الجبل، وهو ما خرج منه وبرز (الزاهر فقرة: 308، والمعجم، والمصباح).
(2) جواب أما. بدون الفاء على مذهب الكوفيين، واعتبر هنا بمعنى (قاس).
(3) في الأصل الزكاة.
(4) "النصاب" نائب فاعل للفعل (يعتبر) في الغنيمة ...
(5) في (ط) وكذلك.

(3/352)


النصاب في المعشرات، ولم يعتبر فيها الحول، والسبب فيه أنا لم نوجب الحقَّ ما لم يبلغ النصاب مبلغاً يحتمل المواساة في نفسه بمقداره، فأما الحول فمدة الارتفاق، فيبعد إثباتها في مال جملته رَفَق (1)، وفائدة، ونَيْل؛ ولهذا نعتبر حساب النصاب في السخال، ولا نعتبر فيها حولاً مستجداً.
هذه قاعدة الباب. والأقوال معلومة.
2174 - وفي القول الثالث وهو الفصل بين نيلٍ ونيلٍ نظر، فلا بد من بيانه.
فما يحصل نادراً (2) [جملةً] (3) من غير حاجة إلى طحنٍ، ومعالجة بالنار، فهو الذي فيه الخمس؛ لأنه يحصل مع [خِفّة] (4) العمل، فكان شبيهاً بما سقي بالأنهار، وما يحتاج فيه إلى الطحن والمعالجة، ففيه ربع العشر، كما يسقى بالنضح والدالية.
فإن اجتمع كثرةُ النَّيل، وسقوطُ العمل بالطحن والعلاج، فالخُمس.
وإن قلّ النَّيْل، ومست الحاجة إلى الطحن والعلاج، فربع العشر.
فإن كان يوجد شيئاً فشيئاً، على قلةٍ، ولكن كان لا يحتاج إلى الطحن والنار، أو كان يوجد الشيء الكثير، ولكن مع الطحن والعلاج، ففي هذا تردد للأئمة في الطرق، فمنهم من يعتمد العملَ في إيجاب ربع العشر، وسقوطَه (5) في إيجاب الخمس، ولا ينظر إلى القلة والكثرة، ويجعل الكثرة كاتفاق كثرة الرَّيْع فيما يسقيه النضح، وكاتفاق قلة الرَّيْع فيما يسقيه السماء. وهذا قريب من الضبط.
ومنهم من قال: [الاحتفار] (6) من المعدن (7) إذا كان يكثر، عُدّ ذلك من العمل المعتبر، كالطحن والعلاج، فالنظر في ذلك عند هذا القائل إلى نسبة النَّيْل إلى
__________
(1) رَفَق بفتحتين، سهل المطلب (المعجم).
(2) "نادراً" أي ظاهراً خارجاً من المعدِن كما قلنا في التعليقات آنفاًً.
(3) في الأصل: جمله.
(4) في الأصل: حَقِّه، ولم أجد لها وجهاً.
(5) أي يعتمد سقوطَ العمل في إيجاب الخمس.
(6) في الأصل: الاحتقار. وهو تصحيف واضح. والمراد أعمال الحفر.
(7) المعدن: المكان الذي عدن فيه الجوهر من جواهر الأرض. وسمي المعدن المأخوذ منه معدناً، باسم المكان (الزاهر والمعجم) والمعدن هو ما يسمى الآن في عرفنا (المنجم).

(3/353)


العمل، أيّ عملٍ كان، ولأهل البصائر في ذلك جهاتٌ في الكلام، فربما يعدّون العمل كثيراً، والنيلَ بالإضافة إليه قليلاً، وربما يعدّون النيلَ كثيراً، والعملَ بالإضافة إليه قليلاً، وربما يعدّون ذلك مقتصداً. [فمن يعد نيله بالإضافة إلى عمله قليلاً، أو مقتصداً، فواجبه ربع العشر، ومن عدّ نيله كثيراً بالإضافة إلى عمله، فواجبه الخمس] (1). فهذا بيان هذا القول في هذه الطريقة.
2175 - ولا يبين تحقيق القول فيه إلا بمزيد كشف، فيه تمام الإيضاح، فنقول: إذا كان استفادةُ دينار في اليوم مقتصداً، فلو استفاد ديناراً إلى قريب من آخر النهار، ثم استفاد بعملٍ قليل ديناراً، في بقية النهار، فلا نقول في الدينارين الخمس، ولكن في الدينار الأول ربع العشر، وفي الثاني الخمس، وتمام القول في ذلك أن الدينار إذا كان مقتصداً في اليوم، فَعَمِل العاملُ طول يوم، فلم يجد شيئاً، ثم إنه وجد في آخر النهار دينارين، فلا ينبغي أن نوجب في جميعه الخمس، ولكن نحط من جملته القدرَ المقتصد، وهو دينار، فنوجب فيه ربع العشر، ونوجب في الزائد الخمس، وهذا فيه احتمال على بعد؛ فقد يقال: الزمان الذي لم يصب فيه فقد [حَبط] (2)، وخاب العاملُ فيه، وهذا الموجود الآن نادر (3) [فيجب] (4) الخمس [فيَ كله، والأوجه ما] (5) قدّمتُه؛ فإنه لو عمل نهاره، ولم يصب شيئاً، ثم أصاب [مقداراً لو يفرق على عمله]، لكان مقتصداً كالدينار يصيبه من آخر النهار، [فينبغي ألا] يجب فيه إلا ربعُ العشر، وإذا كان كذلك، فالوجه [في المسألة الأولى حطّ مقدار] الاقتصاد، ونخصص الباقي بالخمس فهذا [منتهى الكلام في ذلك].
2176 - وإذا ثبتت الأصول فنبتدىء التفريع بعد ذلك، فإن لم نعتبر فيما يستفيده النصابَ، فلا شك أنا لا نعتبر الحول أيضاًً، ففي كل ما يستفيده واجبه في الحال، قلّ
__________
(1) عبارة الأصل هنا مضطربة، وفيها تكرار، وكلمات مطموسة، فأثبتنا عبارة (ط).
(2) في الأصل: خبط.
(3) نادرٌ: أي بارزٌ وظاهر.
(4) في الأصل: في.
(5) مطموس في الأصل: وأثبتناه من (ط). وهكذا كل ما بين المعقفين من الصفحات التالية.

(3/354)


أم كثر، وقد مضى التفصيل في أن الواجب ربع العشر أو الخمس.
2177 - وإن قلنا: يعتبر النصاب، ولا يعتبر الحول، [فلا يخلو] إما أن لا يكون له ذهب وفضة إلا ما يستفيده، وإما أن يكون له سوى ما يستفيده من النَّيْل، فالنيل المتواصل بعضُه مضموم إلى بعض، وذلك بأن يدوم العمل على العادة في مثله، ويدوم النَّيْل، فإذا اجتمع من دفعاتٍ نصاب، وجب الحق في الجميع، ما تقدم وما تأخر، وكانت الدَّفَعات مع الاستمرار والتواصل، بمثابة ما يتقدم وما يتأخر في ثمار النخيل، فالبعض مضموم إلى البعض، على التفصيل المذكور في الثمار، وذلك لأنها وإن ترتبت؛ فإنها تُعد دخلَ سنةٍ واحدة، فيعتبر هذا المسلك في النَّيْل، ثم الثمار (1) يضبطها [السنة] (2)، ونيل المعدن [لا يضبطه] (3) السنة، والرجوع في التواصل إلى العرف الواضح بين أهله في الباب، فإن كان العمل متواصلاً، ولكن انقطع النَّيل، ثم بعد تخلل فصل عاد، ففي ضم الأول إلى الثاني اختلاف بين الأئمة: منهم من نظر إلى انقطاع النَّيْل، ولم يضم الأول إلى الثاني. ومنهم من نظر [إلى] (4) تواصل [العمل] (5)، ولم ينظر إلى النَّيل تواصَلَ، أو انقطع، ورأى الضَّم.
ولو انقطع العمل، وتخلل فصل يُعدّ مثله [قطعاً، نُظر: فإن أعرض العامل] عن العمل، فهذا باتفاق الطرق يتضمن قطع الأول عن الثاني، [وهذا فيه إذا أعرض مِن] غير عذر، فأما إذا انقطع العمل بعذر، نُظر: [فإن كان ذلك الانقطاع بسبب] الاشتغال بإصلاح آلات العمل كالمعاول وغيرها، [فهذا يعد من تواصل العمل، فلا انقطاع]، وإن كان بسبب مرض أو عارض شغل، [ففيه وجهان: أحدهما - أن ذلك قطع، والثاني - ليس] قطعاً.
ورأى الأئمة قطعَ العمل بعذرٍ، بمثابة انقطاع النَّيل في المعدن.
__________
(1) ساقطة من (ط).
(2) في الأصل: للسنة.
(3) في الأصل. لا يضبطها.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في الأصل: للعمل.

(3/355)


2178 - وانتظم من ذلك أن العمل والنَّيل إذا تواصلا، فالضم، وإن تواصل العمل وانقطع النيل، فوجهان. وإن أعرض من غير عذر، وظهر قطعه للعمل، انقطع وفاقاً. وإن كان معذوراً: [فإصلاح] (1) الآلات بمثابة العمل على المعدن، وفي القطع بعذر المطر وغيره وجهان، ثم نفس قصد الإعراض لا يقطع، ما لم يحقق قصده بالترك زماناً، وليس كقصد القِنية؛ فإن نفسه يقطع الحول في التجارة، ثم إذا لم يقطع ضممنا جميع الدُّفَع، فإذا تم النصاب، فإذ ذاك، نوجب الحق (2).
ومن ذلك الوقت ينعقد حول الزكاة في المستقبل.
وإن حُكم بالانقطاع في بعض الصور، وكان قد استفاد مثلاً على التواصل تسعةَ عشرَ دينار، ثم انقطع، واستفاد بعد الحكم بالانقطاع ديناراً، أما التسعةَ عشرَ السابقة، فلا واجب فيها، وأما الدينار الذي استفاده آخراً بدَفعة أو على التواصل، فقد ضمّه الأئمة إلى التسعةَ عشرَ؛ فإنه مع الذي تقدم نصابٌ، وقد تحقق كمال النصاب، والحول ليس معتبراً، فيجب إخراج حق المعدن من الدينار الأخير.
هذا ما صار إليه جماهير الأئمة، وعلى ذلك بنى ابن الحداد.
2179 - وذكر الشيخ أبو علي في الشرح وجهاً بعيداً عن الأصحاب: أنه كما لا يضم الأول إلى الثاني، لا يضم الثاني إلى الأول، فلا يجب في الدينار شيء من حق المعدن، كما لا يجب في التسعةَ عشرَ، وقال في توجيهه: التسعةَ عشرَ لو بقيت سنين، لم يتعلق بها واجب، فهي كالمنعدمة في هذا المعنى، فكأنها عَرْضُ قِنية، وهذا بعيدٌ، والمذهب كما تقدم.
ثم إذا تم النصابُ، فلا خلاف أنا من وقت (3) تمام النصاب نحكم بانعقاد حول الزكاة في المستقبل.
__________
(1) في الأصل: بإصلاح.
(2) هنا سقط في نسخة الأصل. وهو من وسط الصفحة، مما يوحي بأنه كان ساقطاً من النسخة التي أخذ عنها الأصل، أو أن ناسخ الأصل هو الذي ترك ورقة كاملة بوجهيها.
ولذا ستكون هذه الصفحات عن نسخة (ط) وحدها. (من س 6 ص 4 ش).
(3) هذه أرقام المخطوطة (ط) إلى أن ينتهى السقط الذي في الأصل.

(3/356)


وهذا الذي ذكرناه تفريع على أن النصاب شرطٌ، والحول غير معتبر. وما كان له مالٌ سوى ما يستفيد من النيل.
2180 - فأما إذا شرطنا الحولَ مع النصاب، فنشترط في النيل المتواصل وقتَ كمال النصاب حولاً كاملاً، وابتداء الحول من تمام النصاب، واشتراط الحول بعيدٌ عن قاعدة المذهب.
فأما إذا كان له مالٌ سوى ما يستفيده من النيل، والتفريع على أن النصاب شرطٌ في واجب المعادن، والحول ليس بشرط، فذلك المال لا يخلو إما أن يكون نقداً، وإما أن يكون مال تجارة، فإن كان نقداً؛ مثل إن كان معه مائة درهم، فوجد مائة درهم من المعدن، فالذي ذكره ابن الحداد وتابعه المحققون عليه أنا نوجب في المستفادة من المعدن حقَّها؛ فإنها قد كملت بالمائة العتيدة الموجودة عند العامل على المعدن؛ فإن الشيء في النصاب مضمومٌ إلى جنسه، والحول غير معتبر في النيل على القول الذي نفرع عليه، فقد كمل النصاب لاتحاد الجنس، ولا حول.
وذكر الشيخ (1) وجهاً بعيداً: أن حق المعدن لا يجب في هذه الصورة، وهذا وإن أمكن توجيهه على بُعد، فالمذهب ما قدمناه.
2181 - فأما إذا كان عنده مال تجارة، مثل إن كان قد اشترى عرضاً للتجارة بمائة، وبقيت قيمته مائة، واستفاد من نيل المعدن مائة، فنذكر في ذلك ثلاث صور: إحداها - أن يجد المائة مع آخر جزء من الحول، بحيث يتم حول المائة مع هذا النيل، من غير فرض تقدم ولا تأخر، فإن كان كذلك، فحق المعدن واجب في المائة جرياً على ما مهدناه، وتجب زكاة التجارة في العرض المشترى للتجارة، والتفريع على أن الاعتبار في النصاب بآخر الحول، وقد تم النصاب بالنيل، في آخر الحول، فوجب زكاة التجارة في المائة، لكمالها بالنيل في آخر الحول، ويجب حق المعدن في المائة المستفادة لكمالها بمال التجارة، وهذا حسن.
__________
(1) "الشيخ" هنا يريد به الشيخ أبا علي السنجي في شرح فروع ابن الحداد، وسيتضح ذلك من الكلام في الفقرة بعد هذه بفقرتين.

(3/357)


ولكن نَيْل المعادن غيرُ مستفاد من جهة التجارة، وقد ذكرنا في زكاة التجارة فرعاً عن ابن سريج أن الجارية المشتراة للتجارة، إذا ولدت، لم يُضم الولد إليها في القيمة، على تفصيلٍ تقدّم، وإن صح أن ولدها لا يضم إليها، فالنَّيل أولى بأن لا يضم، وقد ذكرنا في شراء الأشجار للتجارة أن الثمار في حساب التجارة مضمومة، وهذا أيضاًً يخالف ما ذكره ابن سريج في الولد، ولسنا نحكم بقول ابن سريج على هذه الأصول، بل نستدل بما أجراه (1) على تزييف ما حكيناه عن ابن سريج.
ثم هذا فيه إذا وجد المائة مع آخر حول للتجارة.
2182 - فأما إذا كانت عروض التجارة في أثناء حَوْلها وقيمتها مائة، فوجد مائة من النيل (2)، فقياس قول ابن الحداد إيجاب حق المعدن في المائة التي وجدها، فإنا نكمل النصابَ بالمائة في مالية التجارة، ونوجب حق المعدن، وإن كنا لا نوجب إلا زكاة التجارة في مال التجارة، فإن الحول إن كان معتبراً في مال التجارة، فهو غير معتبر في نيل المعادن، على القول (3) الذي نفرع عليه.
وفي المسألة وجه آخر، حكاه الشيخ، وذكره العراقيون: أنه لا يجب في النيل حقُّه، وقد تقدم هذا الوجه.
2183 - ولو اشترى عرضاً بمائةٍ للتجارة، وقيمتها مائة، وانقضى حول، ولم تزد قيمة السلعة، ومضى مثلاً شهر من الحول، ثم وجد مائة (4) من نيل المعادن، فهذا ينبني على أنا إذا قومنا سلعةَ التجارة، فلم تبلغ قيمتُها نصاباً، ثم مضى شهر، فارتفعت القيمة، فبلغت نصاباً، فهل نوجب الزكاة الآن؟ فيه خلافٌ شرحته فيما تقدم.
فنقول: إذا وجد النيلَ بعد شهر من انقضاء الحول الأول، فهذا على الأصل الذي
__________
(1) كذا. ولعلها بما أجريه، أو لعلها بما أجراه ابن الحداد.
(2) هذه هي الصورة الثانية من الثلاثة الموعودة.
(3) انتهى الخرم الذي كان في نسخة الأصل (هـ 1).
(4) هذه هي الصورة الثالثة.

(3/358)


مهدناه، بمثابة ارتفاع السعر، [بعد انقضاء الحول] (1) ثم في ارتفاع السعر خلاف، فإن أوجبنا فيه زكاةَ التجارة، [فنقول: إذا وجد مائة] من نيل المعدن في الحول الثاني، فإن قلنا: تجب زكاة [التجارة بارتفاع السعر]، فتجب زكاة التجارة بسبب وجود النيل، ثم [إذا وجبت زكاة التجارة بسبب] وجود النيل، فلا شك في وجوب حق المعدن [في النيل، وإن قلنا: لا تجب زكاة التجارة] بارتفاع السعر، فلا تجب أيضاًً زكاة التجارة بسبب وجدان النَّيْل، وهل يجب حق المعدن، وإن لم تجب زكاة التجارة؟ الظاهر أنه يجب، وفيه وجه آخر، وهو بعينه في هذا المنتهى بمثابة ما لو وجد النيلَ قبل انقضاء الحول الأول على مال التجارة، فهذا تمام البيان في ذلك.
2184 - وذكر الشيخ أبو علي في الشرح هذه الأحوالَ الثلاثة، ولم يصوّر المال الأول في عرض التجارة، بل صور مائة درهم عتيدة، ووجد مائة من النيل، ثم حكى ثلاثة أحوال: أحدها - أن يجد النَّيْل قبل انقضاء حول المائة العتيدة، وذكر فيه المذهبَ الظاهر، والوجهَ البعيد، وهو بعينه صورة مسألة ابن الحداد، وهذا مستقيم، ثم فرض فيه إذا وُجد [النَّيلُ] (2) مع آخر جزءٍ من حول المائة، فتجب الزكاة في المائة العتيدة، وفي النَّيل حقُّه، وهذا سهو عظيم، فإن المائةَ لا ينعقد عليها حول، حتى يفرضَ له وسط وآخِر، ولا شك أن المائةَ لا زكاة فيها، في الصورة التي ذكرها، وإنما انتظم ما ذكرناه في عَرْض التجارة، والحَوْلُ على ظاهر المذهب ينعقد عليه، والاعتبار فيه بآخر الحول بالنصاب (3).
فأما إذا كانت المائة نقداً، ولم يكن متَّجِراً فيها، فمهما وجد المائة من النيل، ففي حق النيل ما قدمناه، والمائة العتيدة تجري في الحول من وقت الكمال، هذا مما لا يتمارى [فيه الفقيه.
وقد نجر] الآن تفصيل القول في النصاب، والحول، والتكميل، [والضم.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من نسخة الأصل، حيث أصابها بلل ذهب بأطراف الصفحات من أسفل.
(2) مزيدة من (ط).
(3) (ط) في النصاب.

(3/359)


وما ذكره] الأئمة في اختتام الكلام أنا إذا أوجبنا الخمسَ [في نيل المعدن، فإنا] نكمل المستفاد من النيل، بمال التجارة، وإن كان [واجبهما يختلف، فالنظر في] التكميل إلى اجتماعهما في اشتراط [النصاب].
فصل
2185 - إنما يخرج حق المعدن عند التنقية، ولا يُجزىء إخراج تراب المعدن مختلطاً بالنَّيْل؛ فإن المقصود مجهول، وعلى العامل على المعدن القيام بمؤنة التنقية، كما على صاحب الزرع تنقية الحب، وعلى صاحب الثمار القطافُ والتجفيفُ على الجرين.
ثم قال الأئمة: بيع تراب المعدن وفيه نيله باطل؛ لأن المقصود مجهول، والجهالة مؤثرة في البيع، واشتهر خلاف الأئمة في التعامل بالدراهم المغشوشة، التي لا ينضبط مبلغ التبر فيها، فمن منع وجّه المنع بما ذكرناه من الجهالة، ومن جوّز يستدل بأن المقصود من النقود نفاذُها وجريانُها، وهذا متحقق مع الجهالة بمقدار التبر.
قال الشيخ أبو بكر: بيع المعجون جائز، فإن آحاد الأخلاط غيرُ مقصودة، وإنما المقصود المعجون في نفسه، فكأنه في حكم جنس [متحدٍ] (1) وهذا الذي ذكره من تصحيح البيع صحيح، ولكن التعليل بما ذكره مختلّ؛ فإن الغرض يختلف بأقدار الأخلاط، اختلافاً ظاهراً؛ إذ لو رددنا إلى ما ذكرناه من جهالة المقصود، لَمَا صححنا البيع، ولكن السبب الظاهر في تصحيح البيع مسيسُ الحاجة؛ فإن المعاجين لو لم تكن عتيدة مهيّأة عند الاحتياج إلى [استعمالها، لجر ذلك] ضرراً عظيماً، فلا يستقل تعليل صحة البيع، ما لم يعضد [بما ذكرناه، من معنى] الضرورة، فليفهم الناظر ما يمر به.
وحكى [الصيدلاني عن القفال] أنه سئل عن بيع الثمار الجافة المختلطة [على ما قد
__________
(1) في الأصل: متجدد.

(3/360)


يعتاد في نيسابور،] فقال: إنه جائز، كما يجوز بيع المعجون؛ فإنه يُقصد كذلك، وهذا لا أراه متفقاً عليه؛ إذ لا ضرورة، والأجناسُ المختلفة مشاهدة معاينة.
والأطعمة التي تطبخ من أجناس وتباع، كالحلاوات، وما يشبهها، يجوز بيعها، وقد يقال: لا يتحقق فيها من الضرورة ما يتحقق في الأدوية، ولكن لا ينظر إلى تفاصيل الأحوال، والحاجة ماسة إلى الأطعمة، والأدوية، والضرورة الحاقّة المرهقة ليست شرطاً؛ وإذا اشتهر الخلاف في النقود مع نفوذها، فلأن يجري الاختلاف في الفواكه أولى، والأجناس مشاهدة، والناس يتشاحون في أقدار تلك الأجناس.
فصل
2186 - مضمون هذا الفصل الكلام في الركاز والغرض يتعلق بفصولٍ، منها: القول في تصوير الركاز، وصفته، ومكانه.
ومنها: التفصيل في التداعي فيه.
ومنها: بيان حق الله تعالى فيه.
والذي أراه تقديمَ حكم الركاز، وبيان حق الله تعالى فيه، فنقول: الكلام في هذا يتعلق بشيئين: أحدهما - الجنس الذي يتعلق به حق الله تعالى.
والثاني - مقدار الواجب.
فأما الجنس، فقد قال الشافعي في بعض كتبه في الركاز: لو كنت أنا الواجد، لخمّستُ القليل والكثير، ولو وجدت [فخارة لخمّستها] (1)، [والظاهر] (2) من المذهب أن الركاز الذي يتعلق به الحق [هو التِّبران، كما] ذكرناه.
وذكر أصحابنا قولاً آخر من تردد الشافعي: [إن كل ما يصادف] موضوعاً على
__________
(1) المذهب أن حكم الركاز يختص بالذهب والفضة، وفي غيرهما طريقان: إحداهما - القطع بأنه لا يجب، والثانية - في غير الذهب والفضة قولان: أصحهما - لا يجب.
ولذا حمل الأصحاب قول الشافعي: "ولو وجدتُ فخارة، لخمستها" على الورع، لا على أنه واجب (ر. المجموع للنووي: 6/ 99).
(2) في الأصل: "فالظاهر"، ولا معنى للفاء؛ فما قبلها لا يناسب ليترتب عليه ما بعدها.

(3/361)


أوصاف الكنوز، فيتعلق به حق [الله تعالى. وذكر الشيخ] أبو علي في شرح التلخيص وجهاً عن بعض الأصحاب [أن حق المعدن] لا يختص بالتبرين، بل يعمّ كلَّ مستفادٍ كما ذكرناه في القول البعيد في الكنز، ثم على هذا لا يختص بما ينطبع ويتطرق كما قال أبو حنيفة، بل يعم كل مستفاد، وهذا بعيد.
2187 - فأما الكلام في المقدار الواجب، والحول، والنصاب، فلا خلاف أن الحول غير مرعي فيه، وواجبه الخمس، وفي اشتراط النصاب قولان: أحدهما - ليس بشرط فيه، والثاني - إن النصاب مرعي فيه، والأصح أن النصاب لا يراعى فيه.
ونحن نذكر مراتب في النصاب في أصولٍ متفاوتة، حتى يبين مأخذُ الكلام فيها، فنقول: الزروع والثمار يعتبر النصاب فيها؛ فإنها مطلوبة بالأفعال الاختيارية وإن كان المستفاد منها موكولاً إلى أمور غيبية، فالحاصل منها متعلق بالتعب الذي يكاد أن ينضبط، فاعتبر أن يكون المستفاد بحيث لا يستوعبه مؤن [التحصيل] (1)، وأقدار التعب، والنَّصَب.
وأما نيلُ المعادن، فإنه متعلِّق بالعمل بعضَ التعلق، ولكن الاختيار أبعدُ عن هذا الباب منه عن الزروع والثمار.
وأما الركاز، فإنه ليس مما يُجرَّدُ الطلب إليه، بل هو مما يقع وفاقاً [غير متعلق بقصد] مضبوط؛ فيبعد اعتبارُ النصاب فيه، فهذا بيان القول [في هذه المراتب.
2188 - ثم] إذا وضح أن واجب الركاز الخمس، فالمذهب الظاهر [أنه يصرف إلى مصرف] الصدقات، وذكر بعض الأئمة قولاً بعيداً: [أنه يصرف مصرف الفيء] وهذا يوجه بأن الركاز مال جاهلي، كما سنصفه [إن شاء الله تعالى، فلا يبعد أن يكون] واجبه مصروفاً إلى مصارف الفيء؛ فإنه في الحقيقة مال جاهلي، اتفق الظفر به من غير إيجاف خيل وركاب، وهو صورة الفيء، وهذا بعيد.
والوجه أن يُصرف إلى مصارف الصدقات؛ إذ لو كان كالفيء، لما اختص واجده به، ولصرفت أربعة أخماسه إلى المرتزقة.
__________
(1) في الأصل: التعجيل.

(3/362)


فإن قلنا: إنه يصرف إلى الصدقات، فواجب المعادن بذلك أولى، وإن قلنا: إنه يصرف إلى مصارف خمس الفيء، فنقول في نيل المعادن: إن قلنا: واجبه ربع العشر، فهو صدقة، وإن قلنا: واجبه الخمس، فالأصح أنه صدقة، بخلاف واجب الركاز، فإن من صرف واجب الركاز إلى الفيء فمتعلقه أن الركاز مال جاهلي، وهذا لا يتحقق في نيل المعادن.
وأبعد بعضُ أصحابنا، فذكر في واجب المعادن على قولنا إنه الخمس قولاً آخر: إنه يصرف إلى جهة الفيء، وهذا ساقط، غير معدود من المذهب.
ثم من قال: مصرفه مصرف الصدقات، فلا بد من النية، كالزكوات، ومن قال مصرفه مصرف خمس الفيء، فلا يشترط النية أصلاً، ولا ينحو به نحو القُرَب والعبادات.
فهذا منتهى قولنا في هذا الفصل.
2189 - فأما الكلام في الركاز: قال العلماء: هو مال جاهلي، في مكان جاهلي، ونحن نوضح المقصود [في ذلك]، فنقول: نتكلم أولاً في الركاز المأخوذ في بلاد الإسلام، [ثم نذكر ما يوجد في بلاد الكفر.
قلنا: ما يوجد في بلاد] (1) [الإسلام، فالكلام] (2) أولاً في صفته، ثم في مكانه.
2190 - فأما في صفته [فينبغي أن يكون مالاً من] ضرب الجاهلية. فإن كان الموجود دراهمَ [من ضرب الإسلام، فليس] له حكم الركاز أصلاً. قال الأصحاب: ما يوجد منه لقطة، ثم ظاهر كلام المعظم أن واجده ينحو به نحو اللقطة، فيعرفه سنة، ثم يتخير بعدها في تملكه.
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أن ما يوجد على هذه الصفة، فهو محفوظ لمالكه أبداً، وإن أخذه السلطانُ، فهو مال لا يدرى مالكه، فإن رأى حفظَه،
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. (غير المتلاشي بسبب البلل، بل خرم في العبارة).
(2) ما بين المعقفين هنا، وفيما يأتي سببه التلاشي بسبب البلل، فليعرف ذلك بدون التنبيه؛ فإنه يتكرر في كل صفحة عدة مرات.

(3/363)


حفظه، وإن رأى الاستقراضَ منه لمصلحةٍ، فعلى ما سنذكر -في المعاملات- تفصيلَ القول في الأموال الضائعة.
قال الشيخ: اللقطة هي التي تنسلُّ من مالكها، فتقع في مضيعة، فأثبت الشارع لآخذها سلطانَ التملك، ليكون ذلك ذريعة في استحثاث الأمناء على الأخذ، فأما ما وضعه مالكه كنزاً، فاتفق العثور عليه، بسبب احتفار الأرض، فليس يثبت فيه حق التملك. قال: وكذلك إذا طيرت الريحُ ثوباً في دار إنسان، فليس ذلك لُقَطة تُملّك بعد التعريف.
وذكر غيره أن حكم اللقطة يثبت في هذه المواضع كلها. وهذا قياسٌ متجه.
وفيما [ذكره] الشيخ أبو علي فقهٌ.
ولو انكشفت الأرض عن كنز بسبب [رجفة، أو سيلٍ] (1) جارفٍ، فصادفه إنسان، فلست أدري ما يقول [الشيخ أبو علي في] ذلك، والمال البادي ضائع الآن، والذي يليق [بقياسه أنا لا نثبت حق] التملك، اعتباراً بأصل الوضع، قياساً على ما [حكيناه عنه، في الثوب تلقيه] الريح في دار إنسان. هذا إذا كان على المال آثار الإسلام.
فإن كان الموجود تبراً، أو أواني، وكان يجوز تقديرها جاهلية، ويجوز تقديرها إسلامية، فقد ذكر العراقيون وجهين فيها: أحدهما - أنها كنز، إذ (2) لم يظهر عليها أثر الإسلام. والثاني - أنها لقطة، كما تقدم، إذ لم يظهر عليها آثار الكفر.
فهذا قولنا في صفة المال.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين فيما يتردد بين الجاهلية والإسلام، كما ذكرناه. ثم قال: إن لم نجعله ركازاً، فهل نجعله لقطة؛ حتى تُملَّك بعد سنة التعريف؟ فعلى وجهين، وسبب ذلك ضعفُ أثر الإسلام فيه، فخص الخلاف في التملك بهذه الصورة.
__________
(1) كل ما بين المعقفين هنا مطموس مغسولٌ من أطراف صفحات الأصل، فليعلم بدون تنبيه على آحادها.
(2) "إذ" هنا وفي الجملة الآتية بمعنى "إذا"، وذلك وارد سائغ، وعليه شواهد.

(3/364)


2191 - فأما الكلام في مكانه، فإن وجدها واجدها في مكان جاهلي، عليه آثار الكفر القديمة، فهذا كنز، في حقه، وكذلك إن صادفها واجدها في مواتٍ، ليس عليه أثر الإحياء.
فأما إذا كان في موضع، عليه أثر عمارة الإسلام، فنقدم على ذلك أصلاً، ونقول: من أحيا أرضاً ميتة، وملكها بالإحياء، فإذا فيها كنز جاهلي، صار محيي الأرض أولى به.
كذا ذكره الأئمة. ثم هذا يخرج على أصلٍ سيأتي في موضعه وهو أن ظبيةً لو دخلت دار إنسان، فأغلق صاحبُ الدارِ البابَ، فإن قصد بذلك ضبطَ الظبية، ملكها، وإن جرى منه الإغلاق على وِفاقٍ، من غير [قصد]، فهل يصير مالكاً للظبية بصورة الإغلاق؟ فيه وجهان. [والأظهر] أنه لا يملك، لعدم القصد. كذلك من أحيا أرضاً، [ولم يتعرض للكنز]، فلا يصير مالكاً لعين الكنز، ولكن يصير أولى [به من غيره.
ومما تعرض] له الأئمة في هذا، أن من أحيا أرضاً، ثم باعها، فإذا فيها كنزٌ، فهو مردود على من أحياها، ولو تداولتها الأيدي، لم يملكوها، وهي مردودة إلى من أحيا. وللكلام في هذا مجال.
فإذا قلنا: من أغلق باب داره، لم يملك الظبية، إذا لم يكن قصدٌ، فلو فتح البابَ، وانطلقت الظبية، واصطادها إنسان، [ملكها] (1)، فلا يبعد أن يقال: من أحيا أرضاً، وفيها كنز، فيصير أولى بالكنز، حتى لا يؤخذ والأرض في يده. فإذا زال ملكه، وبطل اختصاصه برقبة الأرض، فلا يبعد أن يقال: ينقطع اختصاصه بالكنز. وما قيل من (2) بقاء حقه يخرج على أنه يملك الركاز بالإحياء، على مذهب من يرى مغلِقَ الباب من غير قصد مالكاً للظبية.
فليتأمل الناظر ما ذكرناه في ذلك.
2192 - وتحصل منه أن كون الركاز مالاً جاهلياً، لا بد منه، فأما كونه في مواتٍ، أو مكانٍ جاهلي، فليس شرطاً فَي كونه كنزاً؛ فإن من أحيا مواتاً وفيه كنز، وتمادى
__________
(1) في الأصل: فملكها.
(2) ط: في.

(3/365)


الزمان، فصاحب الإحياء أولى به، ولكن إذا أخذه، وكان كنزاً ففيه الخُمس، كما تقدم، فرجع ذكر المكان إلى تخصيص من يأخذ، لا إلى كونه كنزاً.
والمعنى المعتبر في كونه كنزاً أن يكون عليه علامة الجاهلية، ولكن إن كان [المكان] (1) عاماً، فمن سبق إليه أخذه، وإن كان عليه عمارة الجاهلية، [ولم يملكها] مسلم على التعيين، فهو في معنى العموم، [ولا بد من التنبيه لشيء]، وهو أن المكان الذي عليه أثر الجاهلية، لم يتفق [فيه اختصاصٌ، لا للعام]، ولا لمن يستحق الفيء، حتى يلتحق في أنه لا يختص به أحد كالموات الذي لا اختصاص لأحد به، فهذا تصوير الركاز في بلاد الإسلام.
2192/م- فأما إذا وجد الركاز، في بلاد [الكفار] (2)، نُظر: فإن وُجد في عمارة الكفار، فهو بمثابة أموالهم، فإن أخذناه قهراً بإيجاف الخيل والركاب، فهو غنيمة، وإن ظهرنا عليه، من غير قتال، فهو فيء، ومستحقه أهل الفيء. وإن وجدنا ركازاً في مواتهم الذي لا عمارة فيه، فإن كانوا لا يذبّون عنه، فوجدانه في مواتهم كوجدانه في موات الإسلام، وإن كانوا يذبون عن مواتهم، كما يذبون عن عمرانهم، فقد قال الشيخ أبو علي في هذه الصورة: سبيل ما نجد من مثل هذا الموات، كسبيل ما نجده في عمرانهم، وعمم غيره من الأصحاب القولَ في ذلك، وقالوا ما وجد في موات الكفار، فهو كما يوجد في موات الإسلام، وإن كانوا يذبون عنه. والمسألة محتملة من طريق المعنى.
هذا منتهى ما أردناه في تصوير الركاز.
2193 - ومما يتعلق بذلك تفصيل الاختلاف في الركاز، فنقول: قد يمتزج بهذا الفصل ما تمهد من القول في أنه متى يحل للآخذ الركازُ الذي يصادفه؟ ومقصود الفصل بيان الاختلاف، فنقول: من اشترى داراً، فوجد فيها ركازاً، فلا يحل له أخذه بينه وبين الله، ولكن يعرضه على البائع الذي كان قبله مالكاً، ثم إن كان ذلك البائع
__________
(1) ما بين المعقفين من الكلمات التي أصابها بلل ذهب بها، في أطراف الأصل.
(2) في (ط) الحرب.

(3/366)


وضعه، فيأخذه، وإلا عرضه على من كان بائعاً قبله، فلا يحل إلا [لمن] (1) وضعه، وإلا نرتقي حتى ننتهي إلى من أحيا تلك البقعة [أول مرة]، فنحكم له بأنه يحل له أخذُه، وإن لم يضعه؛ فإنا [قد ذكرنا أن] من أحيا بقعةً، فيصير أولى بركازها. فهذا إذا [أردنا بيانَ ما يحل.
2194 - فإن] رددنا الكلامَ إلى التداعي، فنقول: من اشترى داراً، فوجد فيها ركازاً، ثم قال: أنا وضعته، [فهو لي، وقال بائع الأرض: بل أنا وضعته] (2)، فالقول في صورة التداعي قولُ المشتري، الذي هو صاحب اليد، فإنا نصادف الدار، والركاز في يده.
قال الشيخ أبو علي: هذا إذا كان ذلك الموضع، بحيث يتصور من المشتري وضعه في المدة التي تثبت يده فيها على الدار، فإن كان موضعه وصفته، تنافي دعواه على قطعٍ، وكنا نعلم أنه لا يتأتى منه في هذه المدة [هذا الوضع] (3) فلا نصدقه، بل نصدق من كان قبله، على شرط الإمكان الذي ذكرناه، ولا شك فيما ذكره.
وإن كان وضعه لا ينافي دعوى المشتري، ولكن كان يغلب على القلب كذبه، فإن كان يمكن على البعد صدقه، فنصدقه (4) بناءً على يده.
ومما يتعلق بذلك أنه لو استأجر داراً، أو استعارها، ثم وجد ركازاً، واختلف المكري والمكتري في وضعه، فالقول قول المكتري؛ إذ وضعُه ممكن، وظاهر (5) اليد على الركاز له، فليكن النظر إلى اليد على الركاز.
ولو كان استأجر داراً، ثم ردها، ورجعت الدار إلى يد مالكها، ثم قال المستأجر: كنتُ وضعتُ الركاز في الدار، إذ كانت في يدي، وقال المكري: بل كنتُ وضعته قبل أن أكريت الدار منك، فنقول: أولا - لو قال: أنا وضعته بعد رجوع
__________
(1) هذه وكلمات بعدها -بين المعقفين- مما ذهب به أثر البلل من الأصل.
(2) ساقط من الأصل (من غير البلل).
(3) ساقط من الأصل.
(4) (ط): فيصدق.
(5) (ط) فظاهر.

(3/367)


الدار إلى [يدي] (1)، وكان ما قاله ممكناً، فالقول قوله، وإن قال: أنا وضعته قبل [أن أكريتها]، فقد سلَّم مرور الكنز بيد المستأجر وليس [يدعي ابتداء الوضع] بعد رجوع الدار إلى يده، فقد ذكر الشيخ الإمام [في ذلك تردداً، وهو] لعمري محتمل.
والظاهر عندي أن القول فيه قول المكتري، لما نبّه عليه في تصوير المسألة من [أن] (2) تسليم المالك للمكتري حالةٌ تنسخ يد المالك في الكنز، ولو أنشأ المكتري الدعوى فيها، لقبلت دعواه، فإذا أسندها إلى تلك الحالة، قُبلت أيضاًً.
فرع:
2195 - إذا وجد الإنسان ركازاً في ملك إنسان، وكان ذلك مستطرَقاً، يستوي الناس في استطراقه من غير منعٍ، فقد ذكر صاحب التقريب في ذلك خلافاً، وفي موضع الخلاف تأمل، وظاهر كلامه أنه أورده في حكمين: أحدهما - أنه إذا وَجَد من ليس مالكاً لتلك الساحة الركازَ، ولم يكن مالك الأرض محيياً على الابتداء، وكان لا يستبين لنا من الذي أحيا تلك الأرض ابتداء، فهل له أخذه؟ فعلى وجهين:
أحدهما - لا يأخذه؛ لأنه لم يصادفه في مكان مباح، لا اختصاصَ لأحد به، وقد ذكرنا في تصوير الركاز اشتراط ذلك.
والثاني - يحل له أخذه؛ فإن الملك، وإن كان مختصا بشخصٍ، فالاستطراق شائع (3)، والمنع زائل، وليس مالك الأرض محيياً، حتى يثبت له الاختصاص، كما سبق.
والظاهر عندي أنه لا يصير واجد الركاز في الأرض المملوكة مالكاً له، وإنما الخلاف في حكم التنازع، فإذا قال الواجد: كنت وضعتُه، وقال المالك: بل أنا وضعته، والساحة مستطرقةٌ لا منع فيها، فالقول قول من؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين. أحدهما - القول قول المالك، لظاهر حقه، ويده في الأرض، وهذا هو الظاهر.
__________
(1) ما بين المعقفين من الكلمات ذهب به البلل الذي أصاب الأصل.
(2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(3) (ط): بالاستطرق تتابع.

(3/368)


والثاني - القول [قول الواجد، لأن] يده ثابتة على الكنز الموجود في الحال، وهذا فيه إذا [أخرج الكنز].
فأما إذا تنافس المالك وغيرُه في إخراج الكنز، فهو [مسلَّم إلى المالك] والقول قوله في هذه الصورة، مع يمينه بلا خلاف.
فرع:
2196 - من أحيا أرضاً، فظهر [فيها] (1) معدن (2)، [فقد] (3) ملكه، وما يخرجه من نيله يلزمه أن يخرج الحق منه، كما يخرجه من المعدن الذي لم يجر الملك في رقبته، ولو اشترى إنسان تلك الأرض، وقد ظهر فيها المعدن، فإنه يملك الأرض والمعدن، ثم إذا عمل فيه، التزم واجبه.
ولو أحيا أرضاً، فإذا فيها ركاز، فقد ذكرنا أنه يصير أولى بالركاز، فلو باع الأرض، لم يصر المشتري أولى بالكنز؛ فإنه ليس من أجزاء الأرض، بل هو [مودع] (4) فيه، ونيل المعدن متَّصِل بالأرض خِلقةً وفطرة.
فرع:
2197 - إذا عمل ذمي على معدنِ من معادن الإسلام، فإنا نمنعه، كما سنذكره في كتاب إحياء الموات؛ فإن ابتدر العمل وصادفَ شيئاً، أو صادف ركازاً في موات، فهو ممنوع منه ابتداءً، ولكنه إذا ابتدره، وصادفه، فقد قال الأئمة: إنه [يملكه كما] (5) يملك المسلم الواجد، وليس كرقبة الأرض، فإنه لا يملكها بالإحياء، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأنا أقول: أما نيل المعدن إذا صادفه، فلا شك أنه يملكه ملكه الحشيش والصيد، فأما واجب [المعدن] (6)، فإن جعلناه صدقة، وهو المذهب، فلا يجب على الذمي، ولكنه يفوز بجميع ما وجده، وإن [قلنا: يسلك] به مسلك الفيء،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) هذا هو الحكم الثاني الذي أورده صاحب التقريب.
(3) في الأصل: وقد.
(4) في الأصل: فروع.
(5) ساقط من الأصل.
(6) في الأصل: الصدقة.

(3/369)


على قولِ الخمس، فيلزمه إخراج الواجب.
[فأما إذا وجد] ركازاً على صفته في مكانه، فالذي ذكره الأصحاب أنه يملكه [كما ذكرناه في نيل المعدن] وفي هذا أدنى احتمال عندي؛ فإن الركاز كالحاصل [في قبضة الإسلام، وهو] في حكم مُحَصَّلٍ للمسلمين ضالٍّ عنهم. ثم إذا وقع (1) الحكم بأنه يملك ما يجده، فالقول في الواجب على ما ذكرناه. فإن صرفناه مصرف [الصدقات، لم نوجب عليه شيئاًً، وإن صرفناه مصرف] (2) الفيء، فنأخذ منه خمسه. والله أعلم.
...
__________
(1) في (ط): رجع.
(2) ساقط من الأصل. (بغير البلل)، وما هو ساقط بسبب البلل وضعناه بين معقفين من غير أن ننبه عليه بصفة دائمة.

(3/370)


باب ما يقول إذا أخذ الصدقة
2198 - يستحب للساعي أن يدعو لصاحب المال إذا أخذ الصدقة، لظاهر قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة أبي أوفى فقال: "اللهم صلِّ على آل أبي أوفى" (1)، ثم المستحب الذي ورد به الأثر، وهو لائق بالحال، أن يقول الساعي: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله طهوراً، وبارك لك فيما أبقيت.
2199 - ثم تكلم الأئمة في اختصاص الصلاة بالأنبياء صلى الله عليهم أجمعين، إذ جرى ذكر الصلاة في قوله تعالى {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، فقالوا: لا ينبغي أن يصلّي أحد على غيرهم قصداً، والمتبع فيه ما كان الناس عليه في الأعصار السابقة، قبل ظهور الأهواء، فما كان أحد في الأولين يقول: أبو بكر صلى الله عليه. وهذا كما أن قول القائل: الله عز وجل مما [لا يسوغ] (2) استعماله في حق غير الله. وإن كان الجليل من الجلال، والعزيز من العزة، ثم [ما كان مما] (3) لا يمتنع منه السلف ذكر الصلاة تبعاً للأنبياء في حق غيرهم، إذا ذُكِروا تبعاً، كقول القائل: صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه وأصهاره. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمل لفظ [الصلاة في حق] (4) غيره، كما ورد في الحديث، أنه قال: "اللهم صلِّ على آل [أبي أوفى" فقال الأئمة: كان الصلاة] حقَه، فله وضعها فيمن شاء،
__________
(1) حديث الصلاة على آل أبي أوفى، رواه البخاري: كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، ح 1497. وفي المغازي، ح 4166، والدعوات، ح 6333. ورواه مسلم: كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته، ح 1078.
(2) في الأصل: مما يسرع.
(3) في الأصل: كما كان لا يمتنع ...
(4) ساقط من أطراف الأصل.

(3/371)


[ممّن] (1) يحل له [الدعاء، وهو كمجلس] الكرامة في دار الإنسان، هو أولى به، وله أن يُجلس فيه من أراد.
وكان شيخي (2) يقول: السلام بمنزلة الصلاة فيما ذكرناه، فلا نقول: أبو بكر وعليّ عليهما السلام.
وظاهر ما ذكره الصيدلاني أن الصلاة على غير الرسل في حكم ترك الأولى والأدب، وهذا لا يبلغ ما يوصف بالكراهية، [وفي هذا نظر] (3)؛ فإن المكروه يتميز عندنا عن ترك الأولى، بأن يُفرض فيه نهي مقصود، كالنهي عن الاستنجاء باليمين، وقد ثبت نهي مقصود في التشبه بأهل البدع، وإظهارِ شعارهم، وذكر الصلاة والسلام [مما اشتهر] (4) بالفئة الملقبة بالرفض، وينضم إليه توقي السلف عن إطلاق ذلك مقصوداً في حق غير الأنبياء، فالقول في ذلك قريب. والله أعلم.
...
__________
(1) في الأصل: فيمن.
(2) في (ط): ينحى بقول.
(3) في الأصل: في هذا أدنى نظر.
(4) في الأصل: ما استقل.

(3/372)


باب من تلزمه زكاة الفطر
2200 - قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرض زكاة الفطر في رمضان على الناس، صاعاً من تمرٍ أو صاعاً من شعير، على كل حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين" (1).
وفي بعض الروايات: "أو صاعاً من بُرّ". وذكر الأئمة: أن أبا حنيفة خالف هذا الخبر، من وجوه كثيرة، ولا حاجة [بنا إلى ذكرها، وإن مست الحاجة إلى ذكر مذهب أبي حنيفة في مجاري] (2) الكلام، ذكرنا قدرَ الحاجة منه.
2201 - وزكاة [الفطر تجب] (3) على المرء في نفسه، وتجب عليه بسبب غيره.
فأما الشرائط [المرعية في] وجوب الفطرة على الرجل في نفسه، سيأتي (4) فيها فصل يحوي [المعتبرَ فيها].
والشافعي صدّر الباب بتفصيل القول فيمن تجب الفطرة [بسببه على الإنسان] ونحن نقول: لو رددنا إلى القياس الذي عقلناه، لما أثبتنا على الإنسان صدقة فطرة غيره؛ فإن القُربات بعيدة عن التحمل، وإن نحن قلنا: الفطرة غير محتملة، بل وجوبها بسبب الغير، بمثابة وجوب زكاة المال بسبب المال، فهذا بعيد أيضاًً، من جهة أن قريبَ الإنسان ليس محلّ ارتفاقه، كماله، فبَعُد إيجاب إخراج الفطرة عنه قياساً على زكوات الأموال، ولكن أجمع المسلمون على أن الفطرة تجب على الغير، بسبب
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 252.
(2) ساقط من الأصل. (بغير البلل إياه).
(3) ساقط من الأصل بالبلل، وكذا ما بعده.
(4) جواب (أما) بدون الفاء.

(3/373)


الغير، ثم اضطربت المذاهب، فاعتبر أبو حنيفة (1) في ذلك الولاية، وأوجب على الولي إخراجَ الفطرة عن المُولَّى عليه، ثم نقض هذا، ولم يطرده، وسبيل الرد عليه موضَّح في الأساليب (2)، ونحن لم نستمسك بتعليل (3)، ولكنا [نعتمد] (4) حديثا نقله الأثبات، عن الرسول صلى الله عليه وسلم [وذلك أنه صلى الله عليه وسلم] (5) قال: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" (6)، فالفطرة تتبع المؤنة في أصلها، ثم يعتبر في وجوبها بسبب الغير كونه من أهل الطهرة، على ما سيأتي ذلك في [أثناء] (7) الكتاب -إن شاء الله تعالى-
والغرض الآن مقصور على الجهات المرعيّة. ثم نستفتح الآن تفصيلَ ما أجملناه، فنقول:
2202 - الجهات المقتضية للمؤنة تنقسم ثلاثة أقسام: قرابة، وزوجية، وملك.
أما القرابة، فتفصيل القول فيما يوجب النفقة منها، وفي الصفات المرعيّة مع القرابة سيأتي مستقصى في كتاب النفقات، إن شاء الله تعالى، وفيه نذكر محل الخلاف والوفاق، فإذا وجب على الأب نفقةُ ولده: صغيراً كان، أو كبيراً، وجب عليه إخراجُ [الفطرة] (8) عنه، إذا كان من أهل الطُهرة، وإذا لم تجب النفقة، لم تجب [الفِطرة] وإذا اختلف المذهب في النفقة، تبعه الاختلاف في [الفِطرة، وهذا] يطّرد، وينعكس، كدأب الحدود الجامعة، المانعة.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف الفقهاء: 1/ 473، مسألة: 464، مختصر الطحاوي: 51، وانظر الدرة المضية، مسألة 253.
(2) الأساليب أحد كتب إمامنا في الخلاف.
(3) (ط) بتعامل. ولعلها حرفت عن (تعاقل).
(4) في الأصل: نعهد.
(5) ساقط من الأصل. (بغير البلل).
(6) حديث: أدوا صدقة الفطر ... الدارقطني: 2/ 141، البيهقي: 4/ 161 عن ابن عمر، ورواه الشافعي مرسلاً، ورواه الدارقطني من حديث علي: 2/ 140 (ر. التلخيص: 2/ 352 ح 870).
(7) في الأصل: إثبات.
(8) ذهبَ من الأصل بسبب البلل، وكذا ما سيأتي بعده.

(3/374)


[وقد ذكر شيخنا] أبو بكر فصلاً بين الصغير والكبير من الأولاد، في حكمٍ يتعلق بالنفقة، ثم ألحق به حكمَ الفِطرة، وذلك أنه قال: إذا استهل هلال شوال، وللطفل الصغير من خاصِّه (1) قوتُ يومه، فلا يجب على الأب نفقته في ذلك اليوم، ويجب عليه فطرته. ولو فرضت هذه الصورة في الابن البالغ، لقلنا: لا فطرة على الابن [البالغ] (2)، لأنه لا يفضل من قوته شيء، ولا تجب الفطرة على الأب أيضاًً، لسقوط النفقة عنه في يوم وجوب الفطرة. ثم قال: نفقة الصغير آكد، ولهذا تتسلط الأم على الاستقراض على الأب في غيبته، وعند امتناعه؛ لمكان نفقة الصغير. وهذا يفضي إلى تقرير النفقة في الذمة من جهة الاستقراض، ومثل ذلك لا يثبت [للابن البالغ] (3) المعسر، فإن كانت نفقة الصغير آكد، عُدّت الفطرة جزءاً من النفقة.
وهذا بعيد عن القياس.
وقد قال شيخي: لا تجب فطرة الطفل في الصورة التي ذكرها، والقياس ما ذكره.
وتردد شيخي في جواز الاستقراض، وقال: القياس المرتضَى امتناعُ ذلك من الأم، إلا أن يسلطها السلطان، فيجري استقراضها مجرى [استقراض] (4) السلطان.
فإن جرينا على ما ذكره أبو بكر، كان حكم الطفل في الصورة المذكورة مستثنىً [في العكس، وظاهر المذهب عندي ما ذكره الشيخ أبو بكر، والأقيس ما ذكره] (5) شيخنا.
فهذا غرضنا الآن في جهة القرابة.
__________
(1) المعنى أن الفطرة تجب باستهلال شوال، فإذا أهل شوال وللطفل قوتُ يومه من خاصِّه: أي ملكه الخاص، فقد استغنى عن نفقة أبيه، فلا تجب على أبيه نفقته، ولكن تجب فطرته (إذا لم يفضل عن نفقته في ذلك اليوم شيء من ماله) والابن الكبير بخلافه، فلو استغنى يوم استهلال شوال، فقد سقطت نفقته عن أبيه، وتبعتها الفطرة في السقوط، ثم تسقط عنه الفطرة أيضاًً إذا لم يبق ما يؤدي به الفطرة بعد نفقة ذلك اليوم.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: للأب الغائب.
(4) سقطت من الأصل.
(5) سقط من الأصل.

(3/375)


2203 - فأما الزوجية، فالزوج يخرج فطرةَ زوجته، معسرة كانت الزوجة، أو موسرة، بناء على ما مهدناه تلقِّياً من خبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" والقول في تفصيل الزوجة الأمة، والمكاتبة، منصوص في أثناء الباب، فلم نذكره هاهنا.
[فرع (1):
2204 - الابن إذا أعف أباه، فزوجه، فعليه الإنفاق على زوجة أبيه، وهل يجب عليه إخراج الفطرة عنها، فعلى وجهين: أحدهما - تجب، جرياً على إتباع الفطرة النفقةَ، والوجه الثاني - لا تجب، لأن الابن ليس أصلاً في التزام نفقة زوجة الأب، بل الأصل في التزامها الأب، بحكم الزوجية، ولكنها نثبتها وفاءً بالإعفاف، وإذا انحسم القياس، وتعين اتّباع لفظ الشارع، ولم يرد لفظه، والأصل أَنْ لا تُحملَ (2)، فلا نوجب التحمل.
والأصح عندي إيجابُ الفطرة؛ لأندراج زوجة الأب [المعسر] (3) فيمن يمونه الابن الموسر.
ومما يخرج على هذا الخلاف أن الأب المعسر إذا كان يتعفف بمستولدةٍ له، فالابن يُنفق عليها، وفي إيجاب الفطرة الخلاف المقدم] (4).
فرع:
2205 - الزوجة إذا كانت مخدومة، [فعلى الزوج أن يَقيم لها خادمة] (5) تكفيها المَهْن (6) والخدمة، ثم إن استأجر امرأة لخدمتها، لم يخرج الفطرة [عن المستأجرة؛ فإن الأجرة] عوض مَحْض، وليست من المؤن، وإن أخدمها الزوج واحدةً من مماليكه، ففطرتها تجب عليه بحكم الملك، وإن كان ينفق على أمة الزوجة لتخدمها، فقد قال بعض أئمتنا: على الزوج إخراج الفطرة عنها، نظراً إلى
__________
(1) هذا الفرع بتمامه سقط من الأصل.
(2) أي الأصل براءة الذمة.
(3) في (ط) وهي الوحيدة هنا: المعتبر. وقدرنا أنها تصحيف عن (المعسر). بناء على السياق.
(4) انتهى السقط الذي أشرنا إليه، وعادت (هـ 1) أصلاً.
(5) ساقط من أطراف سطور الأصل، وكذا ما بعده.
(6) مهن مهنا من باب قتل ونفع، خدم غيره، والفاعل: ماهن (المصباح).

(3/376)


المؤنة. والأصح عندنا أن ذلك لا يجب، لأمرين: أحدهما - أن نفقة الخادمة قد لا تجب؛ إذ لو حصل الغرض بمستأجرة، أو متبرعة، لكان ذلك ممكناً. والوجه الثاني - أن مؤونة الخادمة تتمة نفقة الزوجة وقد أخرج الفطرة عن زوجته.
2206 - وأما جهة الملك، فعلى المولى فطرة عبيده، وإمائه، وأمهات أولاده، إذا كانوا من أهل الطُهرة.
ثم الذي ذهب إليه المحققون أن صدقة الفطر في المملوكين، لا يُنحى بها نحو زكاة الأموال، حتى يراعى في إيجابها تمكن السيد من مملوكه؛ فإن الماليةَ غيرُ مرعيةٍ في هذه القاعدة، ولهذا وجبت الفطرةُ بسبب الابن، والزوجة. والمالية مختلة، في المستولدة، والفطرة واجبة، ولا يمتنع إيجاب الفطرة، وزكاة التجارة (1)، كما تقدم في باب التجارة.
وذهب بعض أصحابنا إلى تنزيل فطرة العبد منزلة زكاة الأموال، وبنوا على ذلك أحكاماً: منها - تخريج فطرة العبد المغصوب على القولين المذكورين في زكاة المال المجحود والمغصوب.
ْومنها - أن الحول إذا حال على نصاب زكاتي، ولم يتمكن المالك من إخراج الزكاة، حتى تلف [المال، فلا زكاة وإنما الخلاف في أنها وجبت، ثم سقطت، أو لم تجب أصلاً، ولو استهلّ الهلال، ولم يتمكن من إخراج الزكاة حتى تلف] (2) العبد، قال هؤلاء: تسقط الفطرة بتلفه، وهذا بعيدٌ جداً.
ثم من سلك هذا المسلك، قال: إن أوجبنا الفطرة بسبب العبد المغصوب، ففي وجوب إخراجها على التعجيل وجهان: أحدهما - أن لا تعجَّل، كما لا تعجَّل [زكاة المال] (3) المغصوب، وإن فرعنا على وجوب الزكاة (4).
__________
(1) المراد زكاة تجارة الإماء.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) ساقط من أطراف الأسطر، وكذا ما سيأتي بعده.
(4) جواب الشرط مفهوم مما قبله.

(3/377)


والوجه [الثاني - أنه يجب] تعجيلها، والفارق بين البابين في ذلك، هو الذي أوجب [عدم] (1) [ترتيب صدقة الفطر على زكاة] المال. وقياسهم هذا يقتضي تخريج هذا الخلاف في موت العبد قبل الإمكان، وكل ذلك تخليط.
والوجه القطع بايجاب الزكاة وتعجيلها.
فرع:
2207 - إذا أبق العبد، والتفريع على المسلك الضعيف في أن المغصوب لا تجب الفطرة فيه على المولى، ففي الآبق على ذلك تردد: قال قائلون: إنه كالمغصوب؛ لأنه غير مقدور عليه، وقال آخرون: ليس كالمغصوب؛ إذ لا يد عليه.
ولا حاصل لهذا، نعم، لو خرج هذا على خلاف الأصحاب في أن الآبق هل، يستحق النفقة، لكان قريباً، وفيه خلاف سنذكره في النفقات، إن شاء الله تعالى.
ولا خلاف إذا كانت ناشزة في وقت وجوب الفطرة، فلا يلزم الزوج فطرتَها، فمن جعل إباقَ العبد كنشوز الزوجة في إسقاط النفقة، لم يبعد أن يُسقط الفطرة، ومن لا، فلا.
ولنا إلى هذا عودة، على أثر هذا الفصل.
وقد نجز عقدُ المذهب، في الجهات التي تقتضي إيجابَ الفطرة بسبب الغير، ولم نَرَ بسط القول في تفاصيل النفقات؛ فإنها مذكورة في موضعها.
2208 - ونحن نختم هذا الفصل ببيان القول في أن الزكاة يلاقي وجوبُها ذمةَ من منه التحمل أم لا ملاقاة معه، وإنما الوجوب على المخاطب ابتداءً؟ والترتيب في ذلك يستدعي صورتين: [إحداهما - أن الكلام] (2) إذا كان في الزوجة وهي موسرة، فإذا أوجبنا الفطرة [على الزوج، فيظهر] في هذه الصورة الخلاف في أن الوجوب هل [يلاقيها؟ وربما] كان يقول الإمام: فيه قولان مستخرجان من معاني كلام الشافعي
__________
(1) مزيدة رعاية للسياق. حيث قدرنا سقوطها من (ط) وحيث كانت في الكلمات المغسولة من الأصل. والله أعلم.
(2) ساقط من أطراف الأسطر، من الأصل، وكذا ما يأتي بعده.

(3/378)


رضي الله عنه: أحدهما - أن الوجوب يلاقيها. والثاني - لا يلاقيها، وعلى الزوج الفطرةُ ابتداء؛ لأنه صاحب زوجة، فيصير منفعته (1) فيها كملكٍ في نصاب.
ثم يُبتنى على القولين أمران: أحدهما - أن الزوج إذا كان معسراً، فهل يلزمها الفطرة، فإن جعلناها بمثابة نصابٍ في زكاة المال، فلا يلزمها شيء، وكأنها بالزوجية مستخرجة عن المخاطبة بالفطرة، وإن جعلناها متأصلةً، وقدرنا الزوج حاملاً عنها، فإذا عسر التحمل بالإعسار، استقر الوجوب عليها. فهذا أحد الأمرين.
والثاني - أن المرأة مع يسار الزوج إذا أخرجت فطرة نفسها من غير إذن الزوج، فهل يقع ما أخرجته الموقع؟ فعلى ما ذكرناه، فإن لم يُربط الوجوب بها، لم يُجْزىء ما أخرجت. وإن جعلناها الأصل، وقدرنا الزوجَ حاملاً، أجزأ ما أخرجت.
ثم لم يختلف أئمتنا في أن الزوج الموسر إذا أخرج الفطرة عنها، لم يحتج إلى مراجعتها، ولا حاجة إلى نيتها، ثم إلى استنابتها زوجَها، ووجوب الإخراج على الزوج يقطع هذا الخيال.
ولو نشزت المرأة وأسقطنا (2) الفطرة عن الزوج، لمكان سقوط النفقة، فالوجه (3) عندي القطع بإيجاب الفطرة عليها، في هذه الحالة، وإن حكمنا بأن الوجوب لا يلاقيها؛ لأنها بنشوزها بمثابة المخرجة (4) نفسَها عن إمكان التحمل عنها.
فليفهم الناظر ذلك. وهذا يخالف الإعسار من الزوج، وما ذكرناه ليس خالياً عن احتمال. فهذا بيان إحدى الصورتين.
2209 - فأما الأخرى، فمضمونها فطرة المملوك، والقريب [الفقير، وقد قال] (5) طوائف من المحققين: نقطع بأن الوجوب لا يلاقي هؤلاء، [أما العبد، فلا يقدر]
__________
(1) في (ط): متعته.
(2) في الأصل: أسقطنا (بدون الواو).
(3) جواب (لو).
(4) في الأصل: المخرجة (عن) نفسها.
(5) ساقط من أطراف الأسطر. وكذلك ما بعده.

(3/379)


على شيء، وأما الفقير المعسر، فلا تجب [عليه] (1) -لو [لم] (2) يكن عنه متحمِّل (3) - فطرة (4) نفسه، فكيف يقال: إن الوجوب يلاقيه.
وما قدمناه من اختلاف القول في الزوجة الموسرة قد يتجه؛ من جهة أنها تلتزم فطرة نفسها لو لم يكن عنها متحمل.
وقال قائلون: الخلاف في هؤلاء، وأن الوجوب هل يلقاهم، كالخلاف في الزوجة. وهذا بعيد، ولولا لفظ الحديث، لما عددت إجراء الخلاف من المذهب في هذه الصورة، وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فرض زكاة الفطر على الناس، على كل حر، وعبد" واللفظ تضمن إضافة الوجوب إلى العبيد والأحرار، فإن قيل: هل وراء التعلق باللفظ مسلك في المعنى؟ قلنا: الممكن فيه أن المولى في حكم الفطرة مادّة العبد ومتعلّقه، وكذلك القول في يسار القريب الملتزم للنفقة، بالإضافة إلى من يُخرج الفِطرة عنه، وإن غمض مُدرك المعنى في واقعة، عسر إجراؤه في التفصيل.
فهذا هو الضبط البالغ على حسب الإمكان.
2210 - ثم فيما يجري فيه لفظ التحمل في الشرع مراتب، نذكرها لتُعِين على ضبط الأصول: فالمرتبة العليا - كتأدية الزكاة صَرْفاً إلى الغارم، وهذا [تحمل] (5) على الحقيقة، وارد على وجوبٍ مستقر.
والمرتبة الثانية - في تحمل العقل، وقد اضطرب المذهب في أن الوجوب هل يلاقي القاتل؟ أم لا؟ ويظهر الحكم [بإثبات] (6) الملاقاة من [جهة أنه المتلف] (7)،
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) زيادة من (ط).
(3) (ط) يتحمل.
(4) فاعل تجب.
(5) في الأصل: الحمل.
(6) في الأصل: بإيجاب.
(7) ساقط من الأصل بسبب البلل.

(3/380)


والتحمل تخفيف عنه، والذي يظهر ذلك أن العواقل [لو افتقروا، تعلق الغُرم] بمال القاتل، وهذا ظاهر جداً في أن الوجوب يلاقيه.
فإن قيل: فإذ [قد] (1) قطعتم بهذا، فأي أثرٍ لقول من يقول: الوجوب لا يلاقيه؟ قلنا: أثره أن الإبراء لو وُجه عليه، مع تحمل العقل، لغا. ولو فرض ذلك ممن القاتل وارثه، لم يكن وصيّة لوارث، ويجوز أيضاًً أن يقال: هو مع العاقلة كالبعيد منهم مع القريب، ثم لا توجيه (2) على البعيد مع إمكان مطالبة القريب.
والمرتبة الثالثة - ما نجز الفراغ منه في صدقة الفطر. ثم هذا ينقسم إلى صورتين، والتحمل في إحداهما أخفى منه في الأخرى، كما سبق تقريره. ومن ضعف التحمل في هذه المرتبة، أن المتحمل لو عجز بعد الالتزام، فلا عَوْد إلى من منه التحمل، بخلاف ما ذكرناه في [الدية] (3).
والمرتبة الرابعة - ما سيأتي في كتاب الصوم، في كفارة الوقاع، فإنا نقول: الزوج قد يتحمل عن زوجته الكفارة، وهذا أبعد المراتب؛ إذ فيها أمران غامضان: أحدهما - يوجد في المرتبة المتقدمة، وهو تحمل القُرَب. والثاني - إيجاد الكفارة.
وليس الأمر في صدقة الفطر كذلك، فإن الإنسان يُخرج الفطرة عن نفسه، ثم عمّن يمونه.
فرع:
2211 - إذا قلنا: الزوج هو المخاطب بفطرة الزوجة، ثم كان معسراً، فنفقة الزوجة قارّة في ذمته، إلى أن يجدها، وليس الأمر في فطرة الزوجة كذلك، وذلك أن الفطرة لا تكتفي بالذمة ما لم يقترن بها إمكان، ولهذا لا تجب الفطرة على من كان معسراً حالة الإهلال عن نفسه، فالقول في فطرة زوجته بهذه المثابة.
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) في (ط): نوجه.
(3) في الأصل: الذمّة.

(3/381)


فصل
قال الشافعي "وإنما يجب عليه أن يزكي عمن كان عنده [منهم في شيء من نهار آخر] شهر رمضان ... إلى آخره" (1).
2212 - في وقت وجوب الفطرة أقوال: [أحدها - وهو -المنصوص] (2) عليه في الجديد- أن الفطرة تجب مع أول جزءٍ من الليلة الأولى من شوال، ووجه ذلك أن الصدقة منسوبة إلى الفطرة عن رمضان، وهذا يتحقق بانقضاء شهر رمضان.
والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في القديم- أن الفطرة تجب مع أول جزء من يوم العيد، وهو طلوع الفجر، وذلك مذهب أبي حنيفة (3) رضي الله عنه، ووجهه أن أثر الفطر إنما يظهر بالوقت القابل للصوم، وعلى الجملة، فيوم العيد في الفطر وتعينه، كأيام رمضان في تعيّن الصوم.
والقول الثالث -حكاه صاحب التلخيص- أن الزكاة لا تجب إلا بالوقتين جميعاًً، وهذا لا يكاد يتجه.
التفريع على الأقوال:
2213 - إن حكمنا بأن وقت الوجوب الجزء الأول من ليلة العيد، فلو اشترى مملوكاً بعده، أو ولد له ولد بعده، فلا فطرة عليه فيهما، ولو كانا موجودين ملكاً وولادة في الوقت الأول، ثم زال الملك، ومات المولود، لم تسقط الزكاة.
وإذا فرعنا على القديم، أجرينا هذه التفاصيل مع طلوع الفجر من يوم العيد.
وإن اعتبرنا الوقتين، قلنا: لو ملك عبداً مع الجزء الأول من ليلة العيد، ثم زال ملكه قبل طلوع الفجر، فلا زكاة، وهذا لا خفاء به.
ثم نفرع على اعتبارهما فرعين: أحدهما - أن من ملك عبداً مع الجزء الأول من ليلة
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 253.
(2) ساقط من أثر البلل، ومثله الذي قبله.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 466، مسألة 454، مختصر الطحاوي: 51.

(3/382)


العيد، ثم مات قبل طلوع الفجر، وخلفه وارثه، وطلع الفجر، فلا زكاة؛ إذ لم يجتمع الوقتان (1) في ملك مستمر. [قال الشيخ أبو علي] (2) في شرح الفروع: من أصحابنا من أوجب الزكاة [تفريعاً على قول للشافعي] قديم، في أن حول الوارث يبتني على حول المورّث، [وهذا ضعيف].
والفرع الثاني - أن من ملك عبداً مع الوقت الأول، فزال ملكه قبل طلوع الفجر، ثم عاد، [مَطْلع] (3) الفجر، والتفريع على اعتبار الوقتين، ففي وجوب الزكاة وجهان يلتفتان على عود ملك المتّهب، بعد زواله في حكم الرجوع في الهبة. وكذلك إذا فرض هذا في الصداق في حكم الرجوع إلى عين (4) الصداق، عند فرض الطلاق قبل المسيس.
2214 - ثم اتفق الأئمة على أن الاعتبار بوقت الوجوب، فإذا حكم به، ثم طرأ الإعسار (5)، فالزكاة مستقرة في الذمة، وملتزمها مُنْظَر إلى الوجود، والتمكن، ولو لم يكن من أهل الالتزام في الوقت الأول، ثم استجمع الصفاتِ المرعيةَ بعد ذلك، فلا وجوب.
والمذهب أن من صدر منه موجِب كفارة، وكان معسراً، وعاجزاً عن إقامة البدل، ببدنه، فلا تسقط الكفارة. وإن حكمنا بأن الاعتبار في صفتها بحالة الوجوب، فقد ذكر صاحب التقريب وجها (6) أنها لا تجب، قياساً على زكاة الفطر، وأخذاً من حديث الأعرابي (7) كما سنرويه في موضعه. والفرق على [ظاهر] (8) المذهب أن الكفارة شبيهة
__________
(1) في (ط): الرقبتان.
(2) ساقط بسبب البلل، وكذا ما يأتي بعده.
(3) في الأصل: "فطلع" وسقط من (ط) جملة: "ثم عاد مطلع الفجر".
(4) في (ط): غير.
(5) في (ط): الاعتبار.
(6) (ط): قولاً.
(7) إشارة إلى حديث الأعرابي الذي واقع امرأته في نهار رمضان، وعجز عن الكفارة.
(8) في الأصل: صاحب.

(3/383)


بقيم المتلفات، وجبران ما تحدثه الجناية من نقص، فلم تسقط، وقرّت في الذمة، وليست زكاة الفطر كذلك، بل هي شبيهة بزكاة المال، إذا انقضى الحول والنصاب ناقص.
فصل
[قال] (1): "وإن كان عبد بينه وبين آخر ... إلى آخره" (2)
2215 - تجب فطرة العبد المشترك على الشريكين، خلافاً لأبي حنيفة (3)، وأصلنا خارج على القاعدة الممهدة في إتباع الفطرة المؤنةَ، فإذا وجبت المؤونة على الاشتراك، وجبت الفطرة كذلك. وأبو حنيفة خالف أصله في إتباع الفطرة الولايةَ؛ فإن ولاية الملك ثابتة على الاشتراك ولا زكاة. وقد قال: لو اشترك رجلان في عبدين، لكل واحد منهما النصف من كل عبد، فلا زكاة وإن كان يبلغ ما يخاطب به كل واحدٍ صاعاً، لو قدر ثبوته، وقالوا: لو اشترك رجلان في ثمانين من الغنم، فعلى كل واحد منهما شاة، والأشقاص تقدر أشخاصاً، فجرى (4) مذهبهم في العبد المشترك خارجاً عن قوانينهم، واستمر قولنا على الأصل.
2216 - ثم لا يخلو العبد المشترك من أحد أمرين: أحدهما - أن لا يكون فيه مهايأة بين الشريكين، والثاني - أن تجري (5) مهايأة بينهما، فإن لم تجر مهايأة، فالأكساب والمؤن على الاشتراك، ما يعم منها، وما يندر، وصدقة الفطر تجري كذلك مشتركة.
ثم المذهب يتفصل فيما يخرجه كل واحد منهما، إذا اعتبرنا قوت كلّ مخرِج، وقد
__________
(1) ساقط من الأصل ومن (ط).
(2) هذا من كلام الشافعي. ر. المختصر: 1/ 253.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 474، مسألة 465، حاشية ابن عابدين: 2/ 75، رؤوس المسائل: 220، مسألة 118.
(4) (ط): يجري.
(5) في الأصل: أن لا تجري.

(3/384)


اختلف قوتاهما. وهذا سيأتي بعد ذلك.
2217 - وإن جرت مهايأة وتواضع الشريكان على أن يستعمله كل واحد منهما في يوم، فأصل المذهب أن المهأياة لا تلزم، وسيأتي شرحها، في كتاب الرهن -إن شاء الله تعالى- وحقيقتها ترجع إلى مفاصلة في المنافع، وينفرد كل واحد [بمنفعته] (1) في نوبته، ثم المنافع تنقسم فؤائدها، فيما يجري على العادة في الاستفادة، فحكم الاختصاص به جارِ على حكم المهايأة، ثم المؤنة الراتبة تنزل على المنافع، فمن اختص بمنفعة في نوبةٍ، اختص بالتزام مؤنة العبد في تلك النوبة؛ فإن المؤنة تتبع المنافع، وإليه أشار الرسول صلى الله عليه وسلم، في المرهون؛ إذ قال: "الرهن محلوب ومركوب، وعلى من يحلبه ويركبه نفقته" (2).
ولئن اختلف المذهب [في نفقة العبد الموصى] (3) بمنفعته أبداً، وكان الأصح توجه النفقة على [الورثة لملكهم] الرقبة، فالسبب فيه مفارقة الملك جهة المنفعة، ولا خلاف أن استحقاق المنفعة لو كان إلى أَمدٍ (4)، فالنفقة على مالك الرقبة.
ونفقة الأمة المزوّجة [على زوجها] (5) وإن كان الملك للسيد المزوِّج، تنزيلاً للنكاح في الأمة، منزلة النكاح في الحرة. وما أشرنا إليه فيه إذا افترق الملك واستحقاق المنفعة، فأما إذا اجتمعا، فلا شك أن النفقة تتبع المنفعة، وملكَ الرقبة.
وأما الأكساب النادرة كصيدٍ يتفق من عبدٍ ليس اكتسابه بالاصطياد، أو كقبول هبةٍ ووصيةٍ، فالمذهب الأصح أنها لا تختلف بالمهايأة، بل تكون مشتركة أبداً؛ والسبب فيه أن المهايأة مقصودها تفاصُلٌ في المنافع، وإنما يُحتمل ذلك في المعتاد منها المعلوم، وما يندر لو دخل تحت المهايأة، لجر دخولُه جهالةً في [المفاصلة] (6).
__________
(1) في الأصل: بمنفعةِ.
(2) حديث: "الرهن مركوب ... " رواه الدارقطني: 3/ 34، والحاكم: 2/ 58 من حديث أبي هريرة، وانظر التلخيص: 3/ 83 ح 1242.
(3) ساقط من أطراف الأسطر.
(4) في (ط): أحد.
(5) ساقط من الأصل (بغير البلل إياه).
(6) في الأصل: المهايأة.

(3/385)


وذهب بعض أصحابنا إلى أنها داخلةٌ تحت قضية المهايأة، مَصيراً إلى أن التفاصُل وقع في المنافع، والأكسابُ [نتائجها، فلا مبالاة بالندور فيها.
ثم كما اختلف الأئمة في الأكساب] (1) النادرة، اختلفوا في المؤن النادرة، جرياً على إتباع المنفعة المؤنةَ، في محل الوفاق، والخلاف.
2218 - فإذا تمهد ذلك، بنينا عليه أمر الفطرة، وقد اختلف أئمتنا فيها، فذهب بعضهم إلى أنها من المؤنة النادرة، فتخرج على الخلاف المقدم، وقال آخرون: هي من المؤن [المعتادة] (2)؛ لأنها وظيفةٌ معلومة الوقت والمقدار، وهي أقرب [إلى] (3) الضبط من النفقة؛ من جهة أن بناءها على الكفاية، وهي تختلف باختلاف الرغابة والزهادة. ومن قال بالأول، [انفصل] (4) عن هذا بأن قال: يومُ العيد لا يتعين في السنة؛ من جهة اختلاف الأهلة؛ فلا يدرى أن العيد في أي نوبة يقع، وأيضاًً، فالمؤنة الراتبة هي التي تقيم البدن، وتديم التمكن من المنفعة، وليس كذلك زكاة الفطر. فإن جعلناها نادرة [خرجت الآن على] (5) الاختلاف، وإن جعلناها راتبة، فالفطرة على من يقع وقتُ [الوجوب في نوبته] (6) ولم يختلف العلماء في أن العبدَ المشترك لو جنى، لم يختص الأرش بالتزام أحد الشريكين، لمكان المهايأة، وإن جرت الجناية في نوبته؛ والسبب فيه أن الجناية يتعلق أرشها بالرقبة، والملك مشترك، ولم يجر فيه تفاصُل، وآية ذلك: أن المولى لا يلزمه الفداء، بل يخاطَب [بالخِيَرة] (7) كما لا يخفى.
2218/م- ولو كان نصف الشخص عبداً، ونصفه حراً، فالفطرة واجبة، وترتيب
__________
(1) ساقط من الأصل. (من غير البلل).
(2) في الأصل: المعتبرة.
(3) في الأصل: من.
(4) في الأصل: تفصل، ومعنى "انفصل عن هذا" أنه خرج عن الاعتراض القائل: إن الفطرة وظيفة معلومة الوقت والمقدار بخلاف النفقة.
(5) ساقطة من أطراف أسطر الأصل.
(6) ساقط بسبب البلل إياه.
(7) في الأصل: بالخريرة.

(3/386)


المذهب في تفصيل ما بين مالك الرق وقدر الحرّية، كتفصيله بين الشريكين في العبد المشترك.
ولو فرعنا على أن الفطرة تجب بإدراك الوقتين: غروب شمس النهار الأخير، وطلوع فجر العيد، فاتفق [وقوع] (1) أحد الوقتين في إحدى النوبتين، ووقوع الآخر في الأخرى، فإن كنا نرى لزوم الفطرة على الاشتراك، فلا إشكال، وإن حكمنا بتأثير المهايأة فيها، فنقطع القول في هذه الصورة بثبوتها مشتركة؛ من جهة أنه لم ينفرد واحد منهما في نوبته بموجب الفطرة.
فصل
وقال: "وإن باع عبداً على أن له الخيار ... إلى آخره" (2).
2219 - من اشترى عبداً بشرط الخيار، ثم استهل الهلال في زمان الخيار، فالقول في زكاة الفطر يبتنى على الملك. وقد تفصل المذهب في حصول الزهو في زمان الخيار، والقول الجامع (3) الآن أن زكاة الفطر يُنحى بها [نحو] (4) زكاة المال في جميع ما قدمناه، إلا أن زكاة الفطر أحق بمجامعة الملك الضعيف، والاكتفاء به؛ من جهة أنها لا [تعتمد المالية] (5) اعتماد زكاة المال، ولذلك اتجه القطع بإيجاب صدقة الفطر [في العبد المغصوب] وكان تنزيله على القولين المذكورين في زكاة المال بعيداً!
2220 - وقد ذكر الشافعي بعد هذا وقوعَ العبد موصىً به، ونحن نرى ضمّ ذلك الفصل إلى هذا، فنقول: إذا أوصى رجل بعبدٍ لرجل، ثم مات الموصي، فاستهل الهلال، وجرى قبول الوصية أو ردها، فالقول بوجوب الفطرة يستدعي تقديمَ مراسم الكلام في الملك، فإذا مات الموصي، ففي الملك الموصى به ثلاثة أقوال - أحدها - أن الملك يحصل للموصى له بموت الموصي، فإن قبل الموصى له الوصية، استمر
__________
(1) في الأصل: وفرغ.
(2) ر. المختصر: 1/ 253.
(3) ساقطة من (ط).
(4) مزيدة من (ط).
(5) ساقطة من الأصل، بسبب البلل.

(3/387)


الملك، وإن ردَّها، انقطع الملك من وقت ردّه.
والقول الثاني - أن الملك يحصل للموصى له بالقبول.
والقول الثالث - أن الملك موقوف، فإن قبل الوصية، تبينا حصول الملك له مع موت الموصي، وإن رد، تبينا أن الملك لم يحصل أصلاً. وتوجيه الأقوال وتفريعها يأتي في كتاب الوصايا - إن شاء الله تعالى.
2221 - ومما (1) تمس الحاجة إليه في غرض الفصل أنا إذا قلنا: الملك يحصل بالقبول، ففي الملك للموصَى به ما بين موت الموصي إلى اتفاق القبول وجهان: أحدهما: أن الملك فيه للورثة، والثاني - أن الملك فيه مستصحب للميت في ذلك الزمان.
ونحن نفرع بعد ذلك الزكاة، فنقول: إن قبل الموصَى له الوصية، والتفريع على أن الملك يحصل له بموت الموصي، وقد جرى الاستهلال بين الموت والقبول، فزكاة الفطر تجب على الموصى له. وهذا يناظر ما قد تقدم في زمان الخيار، إذا فرعنا على أن الملك للمشتري، وفرضنا انفراده بالخيار. وإذا كان كذلك، [فوجوب الزكاة] (2) مقطوع به، أعني زكاة المال، وإذا قطعنا بوجوبها، فزكاة [الفطر أولى] بالوجوب. وقد ذكرنا وجهاً لصاحب التقريب في أن [الزكاة لا تجب في الملك في زمان الخيار، وإنما قال ذلك إذا كان الخيار لهما؛ فإن ذلك يقصر تصرّفَ المشتري، وقصور التصرف قد يمنع وجوبَ الزكاة في قول مخرّج (3) على المغصوب.
وملك الموصَى له على القول الذي نفرع عليه يناظر الانفراد بالخيار، مع ثبوت الملك، من جهة أنه قادرٌ على التصرف والوصول إليه من غير معترض عليه.
وإن قلنا: الملك موقوف، فالزكاة تابعة له، وقد قبل الوصية فتبينا وقوع الاستهلال في ملكه.
__________
(1) في (ط): وما.
(2) ساقط من الأصل (بسبب البلل).
(3) في (ط): يخرج.

(3/388)


وإن قلنا: الملك يحصل بالقبول، فلا زكاة على الموصَى له؛ فإن الاستهلال مقدّم على حصول الملك.
ثم إن حكمنا على هذا القول بأن الملك قبل القبول للورثة، وقد جرى الاستهلالُ في ملكهم، ففي وجوب الزكاة عليهم وجهان: أحدهما - أنها تجب لمصادفة الوقت الملكَ.
والثاني - لا تجب؛ فإن الملك المحكوم به تقدير في حقوقهم، وقد ذكرنا في زكاة الثمار في مثل هذه الصورة، أن الأصح نفيُ الزكاة عنهم، وزكاة الفطر أحرى بالوجوب، لما مهدناه.
فإن حكمنا بأن الملك قبل القبول مستدام للميت، فالذي قطع به الأئمة أن الزكاة لا تجب؛ فإن الحكم بوجوبها ابتداءً إيجاب قُربة على الميت؛ وهذا بعيد. وفي بعض التصانيف وجهان: أحدهما - ما ذكرنا. والثاني - أن الزكاة تجب؛ فإن معتمدها الملكُ، والإرفاقُ على أصل الشافعي؛ ولذلك انقدح وجوب الزكاة على الصبي، والمجنون، وإن كان لا يثبت تكليفهما.
وهذا الخلاف يخرج عندي على مسألة تردد فيها الإمام، [والدي] (1) [وهي أن الزكاة] هل تجب في نصاب يعزى ملكه إلى حَمْل، فالذي ذهب إليه الأئمة [أن الزكاة لا تجب] فيه؛ فإن حياة الحَمْل غيرُ موثوق بها، وكذلك وجودُه، فإنا [وإن قضينا بأن] الحَمْل يعرف، فالحكم يتعلق به عند انفصاله، وهذا قبل الانفصال غير موثوق به.
وذكر شيخي وجهاً في وجوب الزكاة إذا انفصل؛ فيخرج على ذلك ما حكيناه الآن من إيجاب الزكاة على الميت، ولا فصل بأن يقال: الحمل إلى الوجود مصيره؛ فإن الاستصحاب في حق الميت مستند إلى وجوبٍ محقق سابق؛ فيعتدل الأمران في نظر الفطن.
فهذا تفريعُ الزكاة مع تصوير القبول من الموصَى له.
__________
(1) ساقطة من (ط). وهذا تأكيد أنه إذا قال الإمام، فإنما يقصد والده.

(3/389)


2222 - فأما إذا ردّ الوصيةَ، فإن فرعنا على أذن الملكَ حصل له بالموت، ثم انقطع بالرد، فالذي (1) ذكره الأصحاب وجوبُ الفطرة إذا جرى الاستهلال قبل رده، بناء على الملك.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر: أن (2) الفطرة لا تجب في صورة الرد، لضعف الملك، وإفضاء الأمر آخراً إلى الرد، وهذا ضعيف جداً، سيّما في صدقة الفطر.
وإن فرعنا على أن الملك يحصل بالقبول، فلا زكاة على الموصَى له، وإن قلنا: الملك للورثة، فيعود الخلاف، ووجوب الزكاة عليهم في صورة الرد أولى؛ فإن الذي كنا نقرره في الملك، أفضى إلى التحقق بسبب الرد، وإن قلنا: الملك للميت، فالكلام كما مضى في نفي الزكاة عنه، أو إيجابها على الوجه البعيد، ولا ينقدح فصلٌ في ذلك بين الرد والقبول.
فهذا ما أردناه في ذلك.
2223 - ولو كانت المسألة [بحالها] (3)، ولكن مات الموصي، واستهل الهلال، ثم مات الموصى له قبل الرد والقبول، فهذا فرعه ابن الحداد في صدقة الفطر.
ونحن نقدم على غرضه أصلين: أحدهما - في الملك، فنقول: ورثة الموصَى له يتخيّرون بين الرد والقبول تخيّرَ الموصى له لو بقي، خلافاً لأبي حنيفة (4)، فإن قبلوها، فالملك على الأقوال، ففي قولٍ هو حاصلٌ بنفس (5) [موت الموصي] (6)، وقبول الورثة يقتضي إلزاماً و [تثبيتاً] (7)، وفي قولٍ الأمر على [التبيّن، فإن] قبلوا، بان أن الملك حصل بنفس موت الموصي، وفي قولٍ يحصل الملك بالقبول، فعلى
__________
(1) في الأصل: الذي بدون فاء.
(2) في (ط): "في أن".
(3) مزيدة من (ط).
(4) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 421.
(5) في (ط): نفس.
(6) ساقط من أطراف الأسطر.
(7) في الأصل: وتبيينا.

(3/390)


هذا يستعقب قبولُ الورثةِ الملكَ، ثم يثبت الملكُ للموصَى له الميت في ألطف لحظة، وينتقل إرثاً إلى ورثته القابلين، وسبيله سبيل التركة، يُقضى منها ديون الموصَى له، وتنفذ وصاياه، ثم لا نقول: يتقدم الملك على قبولهم، مستنداً إلى وقت موت الموصى له؛ فإن قول القبول لا يحتمل إلا استعقابَ الملك.
فهذا ما أردناه من القول في الملك.
والأصل الثاني - في بيان المذهب فيمن يملك عبداً، لا يملك سواه، واستهل الهلال، فهل يلزمه إخراج الفطرة عنه، وقد تردد الأئمة في ذلك: فذهب الأكثرون منهم إلى إيجاب الفطرة عن العبد، وإن كان لا يملك مولاه غيرَه؛ فإن المعتمد في المال المعتبر في إيجاب الفطرة أن يفضل عن القوت يوم العيد مقدارُ الفطرة، والعبد في نفسه فاضل عن القوت.
ومن أصحابنا من قال: لا تجب الفطرة عن العبد؛ فإن الفاضل ينبغي أن يكون مالاً غيرَ ما منه الإخراض.
ومن أصحابنا من [فصل] (1) بين أن يكون العبد مستغرَقاً بحاجة الخدمة، وبين أن لا يكون كذلك، فإن كان مستغرقاً بالحاجة، فلا فطرة [فيه] (2) لتعذر تقدير بيعه، وإن لم يكن الرجل محتاجاً إلى الخدمة، فالعبد مال كسائر الأموال.
وهذه المسألة فيها وقفة: أما من أوجب الفطرة، فلا التفات له إلاّْ على الذمة، ووجود [المالية في الرقبة] (3)، وأما من يلتفت على تقدير صرف العبد إلى هذه الجهة، [فقد يقال له:] مقدار الصدقة من الرقبة إن كان ينقص من المالية، فالزائد عليه يجب أن يُخرَج قسط من الفطرة عنه، تخريجاً على إيجاب الفطرة عن العبد المشترك، وهذا لا بد منه.
ولكن الذي أطلقه الأصحاب نفيُ الزكاة في وجه، ولست أرى لذلك وجهاً، وقد نص الشافعي على أن الطفل إذا كان لا يملك إلا عبداً، وكان مستغرَقاً بحاجة خدمته،
__________
(1) في الأصل: قال.
(2) زيادة من (ط).
(3) ساقط بسبب البلل.

(3/391)


فعلى الأب الموسر إخراجُ الفطرة عنه، وعن عبده، فأما إخراجُ الفطرة عنه، فبين؛ فإن العبد من حيث كان مستغرقاً بحاجته كالمعدوم، وأما إيجابه (1) الفطرة عن العبد، فيدل على أصلين: أحدهما - أن الابن إذا أعفَّ أباه بزوجةٍ، فقد ذكرنا في فطرتها وجهين، فإذا أوجب الشافعي إخراج الفطرة عن عبد الطفل، اتجه به وجوب إخراجها عن زوجة الأب، وحاجةُ الإعفاف، ثَم كحاجة الخدمة هاهنا.
وليس ينحسم عندي [تقدير] (2) الخلاف في عبد الطفل، على ما تمهد في زوجة الأب، [ويدل]، (3) نص الشافعي على أنه لا يقدّر بيع العبد، ولا بيع شيء منه، ولا يتغير أمر الفطرة بهذا التقدير، ويتطرق إلى محل النص الإمكان، فليتأمل الناظر ما انتهى [إليه] (4).
هذا منتهى الغرض في الأصلين الموعودين، قبل كلام ابن الحداد.
ونقول الآن:
2224 - إذا أوصى بعبدٍ لإنسانٍ، ومات الموصِي، واستهل الهلال، ومات الموصَى له، وقبل ورثتُه، فإن فرعنا على حصول الملك بموت الموصي، أو على [قول] (5) الوقف، فقد تحققنا أن الاستهلال وقع في ملك الموصَى له، فتجب الفطرة. قال ابن الحداد: إنما تجب إذا مات موسراً، ولم [يُقدَّر] (6) ملك العبد يساراً مغنياً، تفريعاً على أضعف الوجوه المتقدّمة فيمن لا يملك إلا عبداً.
وإن [فرعنا على] (7) أن الملك يحصل بالقبول، فلا زكاة في تركة الموصَى له ولا على [ورثته؛ فإن] الاستهلال سابق على حصول الملك، وهل تجب الفِطرة على
__________
(1) في (ط): إيجاب.
(2) في الأصل: تقرير.
(3) في الأصل: وقد نص ....
(4) مزيدة من (ط).
(5) مزيدة من (ط).
(6) في الأصل: يقرر.
(7) ساقط بسبب البلل.

(3/392)


ورثة الموصي، أو الموصي نفسه؟ فيه التفصيل المقدم في صدر الفصل.
2225 - ومن تمام البيان في هذا أن ما ذكرناه مفروض فيه إذا وقع الاستهلالُ بعد موت الموصي، وقبل موت الموصَى له.
فأما إذا وقع الاستهلال بعد موت الموصى له، وقبل قبول الورثة، فإن فرعنا على أن الملك يحصل بموت الموصي، فالأصح أنه لا فطرة في تركة الموصَى له؛ فإن سبب الوجوب (1) وجد بعد موته، فلو أوجبنا الفطرة، [لانتسبنا] (2) إلى إثبات إيجابها ابتداءً على ميت.
وقد ذكرنا وجهاً عن بعض التصانيف أن الزكاة في مثل هذه الصورة قد يلقى وجوبُها الميتَ ابتداء.
وإن وقع الاستهلال مع موت الموصَى له، فهو كما لو وقع بعد موته. وباقي التفريع لا خفاء به.
2226 - ثم إن ابنَ الحداد أجرى في بعض الاستشهاد مسألةً من العتق نحن ذاكروها: وذلك أنه قال: لو أوصى لرجل ببعض أبيه أو ابنه، ومات الموصي، ثم مات الموصَى له قبل القبول، ثم قبل وارثه، فإن صح القبول، وعتَقَ المقبول، فإن كانوا ورثوا عنه مالاً سواه، قُوِّم باقيهِ في تركة الميت، وإن لم يكن ترك الميت شيئاًً، اقتصر العتق (3)، ولم يقوّم عليه، وكلام ابن الحداد [يجرّ] (4) أموراً يقع بيانها في منازل: فمما تقع البداية به أن الأئمة ذكروا وجهين في [أن قبول الورثة] (5) هل يصح في هذه الصورة؟ أحدهما - أنه يصح، وهو القياس، [اعتباراً بقبول] سائر الوصايا.
والثاني - لا يصح منهم القبول؛ إذ لو صح، لعتق الشقص المقبول عن الميت
__________
(1) سبب الوجوب هنا استهلال شوال.
(2) (ط): لانتسبت.
(3) في (ط): "اقتصر على العتق" ولعل تمام الجملة: "اقتصر العتق على الشقص".
(4) في الأصل: "يجري"، وساقطة من (ط). والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.
(5) ساقط من الأصل من أطراف السطور.

(3/393)


الموصَى له، وثبت الوَلاء له، وصَرْفُ العتق إلى الغير، وإثبات الولاء له بعيد، وليس ذلك كقبولهم سائر الوصايا؛ فإن الملك مقدر للموصَى له، ثم ينتقل [منه] (1) إليهم، فاستقرار الملك عليهم.
وهذا يناظر اختلافَ القول في أن من مات وعليه كفارة يمين، فاختار الورثة من الخلال الثلاث الإعتاق، فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان: والأصح أن الورثة لو تبرعوا بإعتاق عبدٍ عنه، لم يقع الموقع، ومما يشابه ما ذكرناه بعضَ المشابهة أنه إذا وُهب لطفل من يعتِق عليه، فهل يقبله وليُّه؟ فيه اختلاف -وسيأتي بيان هذه الأصول في كتاب العتق- والأصح تصحيح القبول، وتنفيذ العتق، على تفصيلٍ سنذكره على أثر ذلك، والسبب فيه أن قبول الوارث حالٌّ [محل] (2) قبول المورِّث، فليصح (3) منه ما يصح من قبول الموصَى له.
فهذا بيان حكم منزلة المنزلة الثانية في (4) البحث عن تنفيذ العتق في جميع المقبول. والتفصيل فيه إذا فرَّعنا على أن الملك يحصل بموت الموصي مثلاً، فالموصَى له إما أن يقدر صحيحاً إذ ذاك، أو يقدر مريضاً مرض موته، فإن كان صحيحاً، ثم جرى القبول من الورثة، فينفذ العتق في كمال القبول لا محالة، وإن كان مريضاً مرض الموت، فهذا يخرج على أن المريض لو وُهب منه من يعتق عليه، فقبله، فالعتق فيه من ثلثه، أو من رأس ماله؟ وفيه اختلاف مشهور، وهذا بعينه يخرج فيما [نحن] (5) فيه.
المنزلة الثالثة في البحث عن [سريان] (6) العتق بعد تقدير نفوذه في المقبول - قال [ابن الحداد] (7): يختلف ذلك بيسار الموصَى له وإعساره، وزعم أنه إن كان
__________
(1) في الأصل: منهم.
(2) في الأصل: فحلّ.
(3) (ط): فليس يصح.
(4) (ط): من.
(5) مزيدة من (ط).
(6) في الأصل: "شيء بأن". وهذا من غرائب التصحيف.
(7) ساقط من الأصل، بسبب البلل.

(3/394)


[موسراً، قُوّم] العبد على تركته، وإن كان معسراً، اقتصر العتقُ على المقبول، إذا لم يخلف غيرَه، وهذا الذي ذكره قد وافقه عليه بعضُ الأصحاب، ونزّلوا قبول الوارث منزلة قبول الموصَى له.
وليقع الفرض فيه إذا كان صحيحاً عند موت الموصي، والتفريع على الوقف، أو على حصول الملك بموت الموصي، والأصح ما اختاره الشيخ أبو علي، وهو أن العتق لا يسري (1) أصلاً، وإن خلف تركة وافيةً؛ لأن الميت في حكم المعسر، وما خلفه الميت مستغرَق باستحقاق الورثة، ولم يختلف علماؤنا في أن الرجل إذا قال: إذا مت، فأعتقوا عني نصف عبدٍ، فإذا نفذت وصيتُه، لم يَسْر العتق، وما ذكره الأولون من أن قبول الورثة بمثابة قبوله (2) في حياته خطأ من وجهين:
أحدهما: أن قبوله صادر عن اختياره، بخلاف قبول الورثة، وما يعتبر فيه اختياره في حقه، لم يقم فيه قبول الورثة مقام قبوله، وليس ذلك كقبول سائر الوصايا؛ فإنهم إنما يقبلونها في حقوق أنفسهم؛ فيجوز أن يقال: ورثوا حقَّ القبول لأنفسهم، والعتق النافذ على الميت ليس من حقوق الورثة، وأيضاًً فإنه إذا قبل في حياته، فله حكم اليسار إن كان يملك مالاً، ولا يثبت حكم اليسار فيما يقع بعد موته بدليل المسألة التي ذكرناها من الوصية بإعتاق نصف العبد.
ثم قيد ابن الحداد [تصوير] (3) مسألة العتق بأن قال: إذا أوصى له بنصف أبيه، فلم يعلم به حتى مات، وقد أجمع الأئمة على أن [التقييد بعدم] (4) العلم غير مفيد، ولو [علمه، كان كما] (5) لو لم يعلمه. وقد يجري لابن الحداد تقييدات في الصور [وفاقية، لا] (6) حاجة إليها، هذا منها.
__________
(1) في (ط): يرى.
(2) في (ط): شابه قبول.
(3) في الأصل: تقرير.
(4) في الأصل: التنفيذ يقدم.
(5) ساقط من الأصل، بسبب البلل.
(6) ساقط من الأصل، بسبب البلل.

(3/395)


فصل
قال: "ولو مات بعد ما أهل شوال، وله رقيق، فزكاة الفطر عنه، وعنهم في ماله مبدّأة على الدَّين ... إلى آخره" (1).
2227 - قال الأئمة: إذا اجتمعت الديون، وزكاة الفطر، والكفارات المالية، ففي المسألة أقوال:
أحدها - أن الحق المالي الواجب لله، مقدم على ديون العباد.
والثاني - أن الديون مقدمة.
والثالث - أنها مستوية، تزدحم وتتساوى في [التضارب] (2) بالحصص.
2228 - توجيه الأقوال: من قدم حقوق الآدميين استدل بابتنائها على الضِّنّة، وبعدها عن السقوط، واستشهد باجتماع القصاص، وقطع السرقة في اليد الواحدة، فإن القصاص مقدمٌ وفاقاً، ومن قدّم حق الله، احتج أولاً بما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "دين الله أحق بالقضاء"، وقال من جهة المعنى: الحقوق المالية مصرفها الآدميون، فكأنها حقوق لهم، وهي معتضدة بحق الله تعالى، ويخرج على ذلك القصاص؛ فإنه عقوبةٌ محضة زاجرة، وكذلك حد (3) السرقة ولا مصرف لقطع السرقة، على نحو مصرف (4) الزكاة، ومن سوّى أضرب عن الترجيح، وقابل مستمسك القائلين بعضه ببعض، ورأى الأمر مفضياً إلى الاعتدال.
هذا في زكاة الفطر والكفارات.
وأما زكاة المال، فقد تمكن فرضها [بتعلقه] (5) بالذمة بعد الموت، وذلك بأن
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 254.
(2) في الأصل: بالنصاب.
(3) (ط): حق.
(4) (ط): تصرف.
(5) في الأصل: متعلقه.

(3/396)


تجب الزكاة، ويتحقق الإمكان، ويتلف المال، ثم يموت من عليه الزكاة، فالقول في الزكاة في هذه الصورة كالقول في زكاة الفطر، [فأما إذا] (1) تعلقت الزكاة بالمال، فمات، واجتمعت الديون، فالأصح تقديم زكاة المال؛ فإنها متعلقة بعين المال على حالٍ، وإنما التردد في كيفية التعلق، على ما سبق تقريره.
وقال بعض أئمتنا: إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة، فالأقوال الثلاثة في التقديم والتأخير جارية. وهذا ضعيف مزيف.
فصل
قال: "ولو ورثوا رقيقاً، ثم أهلّ شوال، فعليهم زكلاته بقدر مواريثهم ... إلى آخره" (2).
2229 - من مات وخلف عبداً وورثة، ولم يخلف ديناً، فاستهل الهلال قبل قسمة التركة، فالفطرة تجب في ذمم الورثة؛ لمكان اشتراكهم في الرقيق.
ولو [كانت] (3) التركة مستغرقةً بالدين، فظاهر النص وجوبُ الزكاة، من غير فرق بين أن يباع العبد في الدين، أو لا يتفق بيعه فيه، ونقل الربيع عن الشافعي أنه قال: على الورثة إخراج الزكاة عن العبيد إن بقوا لهم، وهذا بمفهومه دليل على أنهم إن بيعوا (4)، فلا زكاة على الورثة.
وترتيب القول فيه أن الملك في أعيان التركة حاصل للورثة، وإن كانت مستغرقةً بالديون، وهذا هو المذهب.
وذكر بعض أصحابنا قولاً بعيداً: إن الدين المتعلق بالتركة يمنع حصولَ الملك للورثة، وهذا القول ذكره الصيدلاني وشيخي، وغيرهما. ثم رأيت الأمر على تردد في تفريع هذا القول الضعيف، فالذي إليه صَغْوُ معظم المفرعين أن الأمر موقوف،
__________
(1) في الأصل: فإذا.
(2) ر. المختصر: 1/ 254.
(3) في الأصل: قلت.
(4) في (ط): يبيعوا.

(3/397)


فإن صُرفت أعيان التركة في الديون، تبينا أن الورثة لم يملكوها، وإن أبرأ أصحاب الدين الميتَ، أو أدى الورثة الدين من خواص أموالهم، واستبقوا التركة لأنفسهم، فيتبين أنهم ملكوا التركة بموت المورث. وما نقله الربيع مشعر بذلك؛ فإنه قال: "عليهم الزكاة في العبيد إن بقوا لهم".
[وقال قائلون] (1): الملك يثبت للورثة عند زوال الديون من غير [تبين] (2) [وإسناد] (3)، وهذا في نهاية الضعف.
ثم مما يُحتاج إلى التزامه أن الورثة إذا لم يملكوا التركة، فيجب القضاء بتبقيتها على تملك الميت؛ إذ لا سبيل إلى الحكم بالملك فيها للغرماء، ولا يستقيم على مذهبنا إثبات ملكٍ لا مالك له، فإذا لاحت المقدمة، قلنا بعدها: إن جرينا علي الأصح في إثبات الملك للورثة، فالوجه القطع بوجوب زكاة الفطر عليهم، لثبوت ملكهم عند الاستهلال، وقد قطع أئمتنا بأن فطرة العبد المرهون واجبة على الراهن، وسيد العبد الجاني، وعندي أن انسداد التصرف بالرهن لا ينقص عن انسداده بغصب العبد، وقد ذكرنا طريقين في العبد المغصوب، وعادة أئمة المذهب إذا ذكروا شيئاًً ضعيفاً أن لا يعودوا إليه.
وإن قلنا: إن الورثة لا يملكون التركة، فلا زكاة عليهم، ولا زكاة على الميت أيضاًً، لما تقدم، وفيه الوجه الضعيف، فلا عود إليه بعد هذا.
2230 - قال شيخنا أبو بكر: إذا ورث الرجل مَنْ يعتِق عليه، ولكن التركة مستغرَقة بالديون، لم يختلف أئمتنا في أنّه لا (4) يعتِق عليه. هكذا قال. فإن قيل: هلا خرجتم هذا على (5) إعتاق الراهن العبدَ المرهون؟ قلنا: قد قطع شيخي والأئمة بأن (6) الوارث إذا أعتق عبداً في التركة المستغرقة بالديون، فنفوذ عتقه خارج على
__________
(1) ساقط من الأصل، بسبب البلل.
(2) في الأصل: يقين.
(3) ساقط من الأصل، بسبب البلل.
(4) ساقطة من (ط).
(5) (ط): على هذا.
(6) (ط): أن.

(3/398)


نفوذ (1) عتق الراهن، وكذلك السيد إذا أعتق عبد عبده المأذون، وقد أحاطت به الديون، فنفوذ العتق خارج على أقوال عتق الراهن، فإذا كان كذلك، فتعليل ما ذكره الصيدلاني أنا لو نفذنا العتق، لألزمناه القيمة، وذلك بعيدٌ من غير صدَر (2) اختيار منه، وإذا أنشأ العتقَ، فقد اختار إزالة المالية، فضمن (3) حقوقَ الغرماء، وشاهد ذلك أن من اشترى النصف من أبيه، وعَتَقَ عليه، سرى العتقُ إلى باقيه (4) على شرط اليسار، ولو ورث النصف من أبيه عتَقَ عليه ما ورثه، ولا سريان؛ إذ لو سرّينا، لغرمناه قيمة الباقي من غير اختيارِ منه، فنفوذ العتق في عبد التركة من غير إنشاء عتق يضاهي السريان، وليس [الاحتمال] (5) منقطعاً (6) مع ذلك، [لحصول] (7) الملك، ولكن لم أجد إلا ما نقله الصيدلاني، والتعويل على النقل.
فصل
قال: "ومن دخل عليه شوال، وعنده قوتُه، وقوتُ من يقوته ... إلى آخره" (8).
2231 - وجوبُ الفطرة على الإنسان يعتمد الإسلامَ، وكونَه من أهل الملك [التام] (9)، ولا يَشترط استجماعَ (10) شرائط الخطاب، فتجب الفطرةُ في مال الظفل والمجنون.
__________
(1) (ط): تفرد.
(2) صدر: صدور. وهذا الوزن (فَعَل) يستخدمه الإمام غالباً.
(3) (ط): فضم.
(4) (ط): أمه.
(5) في الأصل: الانقطاع.
(6) في الأصل: منقطع.
(7) في الأصل: بحصول.
(8) ر. المختصر: 1/ 254.
(9) مزيدة من (ط).
(10) "استجماعَ" مفعول "يشترط" بالبناء للفاعل، والفاعل ضمير يعود على "وجوب الفطرة".

(3/399)


ومضمون الفصل شيئاًن بعد ذلك: أحدهما - تفصيل القول في اليسار المعتبر في الفطرة، مع ردّ الكلام إلى التفرد بالالتزام عن النفس.
والثاني - القول في إخراج الفطرة عن الغير إذا اجتمع جمعٌ، ويتصل به القول فيه وفي غيره إذا ضاق الفاضل عن الوفاء بالجميع (1).
2232 - فأما اليسار الذي اعتبره الأئمة في الفطرة، فليس معناه ملك النصاب الزكاتي، خلافاً لأبي حنيفة (2).
ثم الذي ذكره الأئمة في تفسير اليسار، أنهم قالوا: إذا فضل عن قوت المرء وقوت من يقوته صاعٌ، أخرجه، ولا شك أنه لا يحسب عليه دَسْت (3) ثوبٍ، يليق بمنصبه، ومروءته، والذي أراه أن المعتبر فيما لا يحسب في هذا الباب، هو المعتبر في الكفارة، وسنذكر في الكفارات المرتَّبة أنا نُبقي على من التزم الكفارة المرتَّبة عبدَه المستغرَقَ بخدمته، فلا يلزمه إعتاقه عن كفارته، وإذا كان هذا قولَنا فيما يتعلق به حاجةُ الخدمة، فالمسكن أولى بالاتفاق.
وسيكون لنا في هذا فضلُ بحض إذا انتهينا إليه.
والقدر المغني هاهنا، تشبيه يسار هذا الباب بيسار الكفارات.
فإن قيل: المسكنُ والعبدُ مبيعان في ديون الآدميين وفاقاً، وقد حكيتم اختلافَ القول في تقديم ديون الله، وديون الآدميين، فما وجه ذلك؟ قلنا: الديون تجب بطرق في التزامها من فعلٍ أو قول، ووضعُها أن تُلتزم (4) عند وجود أسبابها، والفطرة تجب بإيجاب الله تعالى، وكذلك الكفارات، فتوقَّف وجوبُها على الشرائط المرعية شرعاً، ثم إذا وجبت، فالنظر على التسوية، أو على التقديم، يقع بين [واجبين] (5).
__________
(1) (ط): عن الجميع.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 468، مسألة 456، رؤوس المسائل: 220، مسألة 119.
(3) الدست من الثياب، ما يلبسه الإنسان، ويكفيه لتردده في حوائجه، والجمع دسوت. مثل: فلس وفلوس. (المصباح).
(4) في (ط): على أن تلزم.
(5) ساقطة من الأصل.

(3/400)


فإن قيل: المحجور عليه إذا كان عليه كفارات، وقد اطّرد عليه الحجر، فالكفارات على التراخي، وأداء الدين على التضييق، فهل تُجرون الأقوال والحالة هذه؟ قلنا الأقوال في التقديم تُلفَى مرسومة للأصحاب في ازدحام الديون في التركة، وفي إجرائها في حالة الحجر تردد عندنا، أما إن لم نجرها، وقدمنا ديون الآدميين، فهو واضح، وإن أجريناها، فالمرعيُّ حق من عليه الكفارة؛ فإنه قد يحاول تبرئةَ الذمة منها، والتخلصَ من غَرَر الفوات، وهذا التردد عندي قريب من اختلاف القول في أن الديون المؤجلة هل تحل بالحجر حلولَها بالموت؟
ولولا أني وجدتُ رمزاً للأصحاب في أن عبدَ الخدمة غيرُ معتد به في الفطرة، لما قطعت قولي في أن المسكن غيرُ محسوبٍ؛ من جهة أن الفطرة لا بدل لها، بخلاف الكفارات. نعم، الإطعام في المرتبة الأخيرة لا بدل له، ولكن لا يمتنع عودُ القدرة على الصوم.
وقد ذكرنا أن الصحيح أن عبد الخدمة في حق من أخرج صاعاً. عن نفسه، يجب إخراج الفطرة عنه، فهو إذن غير محسوب في فطرة المولى، وهو معتد به في الفطرة المضافة إليه، على المذهب الظاهر.
فهذا ما أردناه في ذلك.
ثم المسكن وعبد الخدمة بعد ثبوت الفطرة مبيعان في الفطرة؛ فإنها بعد الوجوب التحقت بالديون.
2233 - وديون الآدميين تمنع وجوبَ الفطرة وفاقاً، وإن رأينا تقديم الفطرة عليها بعد الثبوت، فليتنبه الناظر لذلك، وليفصل بين شرط الثبوت ابتداء، وبين القول في الازدحام بعد الوجوب، وإنما قلت ما قلته آخراً (1) في الديون، من إجماع الأصحاب على تقديم النفقات على القريب والبعيد على الفطرة، فما لم يفضل عن قوته، وقوتِ كل من يقوته - فاضل، لم يجب إخراج الفطرة. ولو ظن ظان أن دين الآدمي على طريق لا يمنع وجوب الفطرة، كما لا يمنع وجوب الزكاة في قول، كان مُبعداً.
__________
(1) في (ط): إجراء.

(3/401)


هذا منتهى نظري.
2234 - والنظر بعد ذلك في الفاضل، فإن فضل صاع من الجنس المجزىء، أخرجه، وإن فضل أقل من صاعٍ، فقد ظهر الخلاف في ذلك: فذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب إخراجه، كما لا يجب إعتاق نصف الرقبة في الكفارة، ولا إطعام خمسة من المساكين، ولا كِسوتهم.
ومن أصحابنا من قال: يجب إخراج الفاضل وإن قل قدره. وهذا هو الأوجه.
وتهذيب المراتب في هذه القاعدة أن نقول: كل أصل ذي بدل، فالقدرة على بعض الأصل لا حكم لها، وسبيل القادر (1) على البعض كسبيل العاجز عن الكل، والمستثنى من هذا الضبط وجود المقدار من الماء الذي لا يكفي لتمام الطهارة، فيه (2) قولان. وسبب الخلاف ورود الماء مطلقاً في الشرع من غير توقيف [وتقدير، ثم] (3) التيمم مشروط في لفظ الشارع بانعدام جنس الماء، وهذا لا يتحقق في الكفارات المرتبة.
وأما الفطرة، فلا بدل عنها، فالوجه إيجاب الميسور منها. وهذا كالساتر للعورة، فإن لم يجد ما يستر تمام العورة، لم يجز له ترك المقدور عليه. وكذلك إذا انتقصت الطهارة بانتقاص بعض المحلّ، فالوجه القطع بالإتيان بالمقدور عليه، وقد ذكر بعض الأصحاب فيه اختلافاً بعيداً، وهو قريب من التردد فيما نحن فيه، ومن انتهى في الكفارة المرتبة إلى إطعام ستين مسكيناً 4)، فلو وجد طعام ثلاثين، تعين عليه إخراجه عندي قطعاً، وكذلك لو وجد طعامَ مسكينٍ [واحدٍ] (5) فإن طعام [كل] (6) مسكين في حكم كفارة. نعم، لو وجد بعضَ مُدٍّ، فقد يتطرق إليه احتمال.
__________
(1) في (ط): القدرة.
(2) كذا. ولعلها: ففيه.
(3) في الأصل: وتقديم التيمم.
(4) لأنه لا بدل عن الإطعام.
(5) زيادة من (ط).
(6) زيادة من (ط).

(3/402)


فهذا آخر ما أردناه في أحد مضموني الفصل، وهو الكلام فيما يخرجه المرء عن نفسه، وشرائط الوجدان واليسار.
2235 - فأما القول في ازدحام أقوامٍ، فللأصحاب فيه خبط عظيم، ونحن لا نألوا جهداً في التهذيب أولاً، ثم نختتم الكلامَ بالتنبيه على الحقائق، التي من الذهول عنها تثور العمايات، والقول في هذا يتعلق بفصلين: أحدهما - في فطرة الرجل في نفسه، مع تقدير (1) إخراجه الفطرة عن غيره، والفاضل صاع واحد.
فلتقع البداية بذلك.
2236 - فنقول: إذا فضل عن قوت الرجل وقوت من يقوته صاع، وله زوجة، فالمذهب الأصح أنه يتعين عليه إخراج الصاع الفاضل عن نفسه؛ تأسياً بقوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" (2). وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لو أراد إخراج الفطرة عن زوجته، جاز؛ فهو بالخيار بين أن يُخرج عن نفسه، وبين أن يُخرج عنها.
وحكى العراقيون وجهاً أنه يتعيّن عليه إخراجه عن زوجته، وهذا بعيد، معدود من غلطات المذهب.
أما من خيّر، فلعله تلقَّى مذهبه من مذهب الإيثار في النفقة، لمّا رأى الفطرة متلقاةً من النفقة. وهذا ساقطٌ؛ من جهة أن الفطرة قُربة، ولا إيثار في القُرب. ولست أعرف خلافاً في أن من وجد من الماء ما يكفيه لطهارته، لم يكن له أن يؤثر به رفيقه ليتطهر به. وما تخيله الذاهب إلى التخير من أمر النفقة لا أصل له؛ فإنا لم نُتبع الفطرةَ
__________
(1) (ط): تقديره.
(2) حديث: "ابدأ بنفسك ... " قال الحافظ: لم أره هكذا، بل في الصحيحين من حديث أبي هريرة: "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول". (ر. التلخيص: 2/ 354 ح 872، والبخاري: النفقات، باب وجوب النفقة على الأهل والعيال، ح 5355، ومسلم: كتاب الزكاة، باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى ... ، ح 1034).

(3/403)


النفقةَ [عن] (1) معنى (2) معقول، حتى نلتزم تنزيل الفرع على الأصل، إن كان ينتظم ذلك، وإنما اتبعنا فيه الخبرَ.
ومما يتعلق بهذا أنه لو فضل صاعٌ، وله أب أو ابن، فلا أحد يصير إلى تقديم أحدٍ من هؤلاء على النفس، وإنما الوجه البعيد في الزوجة؛ من جهة تأكد نفقتها و [مضاهاتها] (3) الديونَ. نعم. الأوجه وجوب تقديم النفس، وذكر الأصحاب أجمعون وجهاً آخر في التخيير.
ثم لا فرق في هذا المقام بين القريب والبعيد، فإنا إذا تعدّينا النفسَ، وجوزنا الإخراج عن الغير، ولا (4) مسلك له إلا [تخيّل] (5) الإيثار، ولا اعتراض على المؤثر في تقديم ولا تأخير.
2237 - وممّا (6) يجري في هذا المقام أنا إذا جوّزنا له الإيثار، فلو أراد أن يفضَّ (7) الصاع على جَمْع، فهل، يجوز ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يجوز، وهو الأصح. والثاني - يجوز، وقد قدمنا أن الفاضل لو كان أقلّ من صاع، فالأصح إيجاب إخراجه، والصحيح هاهنا منع الفض؛ إذْ إخراجُ مقدارٍ كامل عن شخص ممكن، والوجه الآخر غيرُ بعيد أيضاًً.
فهذا قولنا في ترديد الصاع بين الرجل في نفسه، وبين من يتعلق به.
2238 - فأما إذا فضل صاعان، فأخرج أحدهما عن نفسه، وازدحم الباقون في الآخر، فالقول في ترتيبهم، وتقديم الأولى منهم يطول. ونحن نقول: لتقع البداية
__________
(1) في الأصل: مع.
(2) (ط): معين.
(3) في الأصل: وقصا بها. وهو تصحيف واضح. والمثبت من (ط).
(4) (ط): بلا.
(5) في الأصل: تخير.
(6) في (ط): وما.
(7) يفضّ: يفرّق. من باب قتل. (المصباح).

(3/404)


بالنسب والسبب إذا اجتمعا كاجتماع (1) الزوجة والابن. وقد اختلف الأئمة في التقديم، فقال بعضهم: الزوجة مقدمة، وقال آخرون: القريب مقدم، وقال آخرون: لا فرق، وهو متخير.
أما تقديم الزوجة، فمتجه من تأكد النفقة.
وأما تقديم القريب، فلست أرى له وجهاً، ولم يذكره إلا بعضُ المصنفين. وأما التخيير، فصاحبه لا ينظر إلى المراتب في هذا المقام، وإنما يُجريه على مذهب الإيثار، كما ذكرناه في الفصل الأول المفروض في صدقته وصدقة غيره. وهذا ضعيف في هذا المقام؛ فإن الإيثار إنما يُفهم في ترك الرجل (2) حقَّ نفسه. أما حيث وقع الفرض في فراغه عما عليه، فلا انقداح للإيثار مع تفاوت الرتب (3 وذكر الصيدلاني في هذا المقام وجهاً آخر، وهو أنه يفض الصاع عليهما، وهذا ركيك مع تفاوت الرتب 3) ولا ينقدح إلا حيث ينقدح الإيثار والتخيّر، فأما أن يُثبت هذا الوجه، مع الاعتراف بتفاوت الرتب، فلا وجه لذلك.
نعم، إذا ادعى صاحب هذا الوجه أن الزوجة مع القريب في رتبة واحدة، فيجوز أن يَبتني على ذلك الفضَّ والقسمة، ولست أرى لاعتقاد الاستواء وجهاً؛ فإن الفطرة تبعُ النفقة، ونحن لا نسوّي بين الزوجة وبين القريب في النفقة.
فأما إذا اجتمع قريبان، والفاضل صاع، فكيف [التفضيل] (4)؟ الذي أراه في ذلك أن الفطرة في هذا المقام تترتب ترتب النفقة، فمن كان أولى بالنفقة، فهو أولى بالصاع الفاضل، ولن تجد في المغمضات أصلاً أقوم من إتباع النفقة المؤنةَ. ثم القول في ازدحام الأقارب في النفقة مستقصىً في كتابها.
ولا يجري عندي في هذا المقام وجه التخيير أصلاً، وقد أجراه طوائفُ من أصحابنا. فإذن التخيير على ضعفه لا اتجاه له إلا في المرتبة الأولى، حيث يؤثر المرء
__________
(1) في (ط): باجتماع.
(2) ساقطة من (ط).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(4) في النسختين: "التفصيل" بالصاد المهملة.

(3/405)


غيره على نفسه، ثم إذا تفاوتت الرتب، فكما لا ينقدح التخيير، لا ينقدح الفضُّ والقسمة، فالتخيير والفض قريبان. وقد يجري الفضُّ في مقام آخر سننبه عليه إن شاء الله تعالى.
2239 - فإذ نبهنا على الأصل، فنأتي بما صح فيه النقل. فإذا اجتمع الأب والابن، ففيه أوجه: من أصحابنا من أوجب تقديمَ الابن؛ نظراً إلى تأكد نفقته في الصغر، ومنهم من أوجب تقديم الأب لحرمته، ومنهم من خيّر، والتخيير إن خرج، فله مسلك آخر في هذا المقام، وهو اعتقاد استوائهما في النفقة. ووجه الفضّ ينقدح الآن على مذهب الاستواء إن (1) قدرنا البعضَ مجزئاً، ثم المخيَّر قد يجعل التقسيط من خيرته، ويتجه مع اعتقاد الاستواء إبطال (2) التخيير، وتجويز (3) التقسيط أو إيجابه.
ولو اجتمع الأب والأم، فقد ذكروا أوجهاً أُخَر: أحدها - الأب أولى، والثاني - الأم أولى، لتأكد الوصاية برعايتها، والثالث - هما سواء، ثم يجري التخيير، والفض، على نحو ما تقدم.
ولو اجتمع الأب والأم والابن، جرت الوجوه، وزاد وجهٌ لازدياد العدد، فهذا ما ذكره الأئمة.
والأصل ما ذكرتُه من تنزيل الفطرة أولاً على النفقة، فإن اقتضت النفقةُ ترتيباً، اتبعناه، وإن اختلفا في النفقة، انتظم بحسبه اختلافٌ في الفطرة. وإن اتفق على استواءٍ المرتبةُ، انقدح التخيير، والفض على وجهين: أحدهما على الوجوب، والآخر على الخيرة.
2240 - وقد نجز الفصل، وبقي وراءه غائلةٌ لا بد منها، وهي أنا إن قلنا: الصدقة التي يخرجها المرء عن غيره هو متحمل فيها، والوجوب يلاقي من منه التحمل، فمن آثار ذلك أنه يجب عليه تعيين من يخرج عنه بالقصد، وإن كان لا يجب عليه مراجعته، فهذه استنابة شرعية قهرية.
__________
(1) (ط): إذ.
(2) (ط): وإبطال.
(3) عبارة (ط): وتحرير التقسيط إيجابه.

(3/406)


وإن قلنا: الوجوب لا يلاقي إلا المخرِج، فلا معنى للتقديم والتأخير. نعم إن عين من قلنا: إنه مؤخر أفسد بتعيينه ما أخرجه، وكان هذا كما لو نوى إخراج الزكاة عن بضاعةٍ له بالريّ، فإذا هي تالفة. وقد أوضحنا هذا في باب نيةِ الزكاة بما فيه أكمل مقنع.
هذا منتهى الفصل تحقيقاً وتلفيقاً والله أعلم.
فصل
2241 - ذكر الشافعي في آخر هذا الباب فصولاً تتعلق بصفات من يلتزم الفطرة، وأحكام من يتحمل عنه الفطرة، ونحن نرتبها على مساقٍ يحويها إن شاء الله تعالى.
فنقول: الغرض ينتجز بالكلام في الصفات المعتبرة فيمن يلزمه إخراج الفطرة [عن نفسه، وفيمن يلزمه إخراج الفطرة] (1) عن غيره، وفيمن تتحمل الفطرة عنه، وإذا عسر التحمل، فكيف الحكم فيه؟
2242 - فأما القول في صفات من يُخرج الفطرة عن نفسه، فلا بد وأن يكون محكوماً له بالإسلام، فليس على الذمي فطرة، ويشترط أن يجد في وقت الوجوب شيئاًً فاضلاً عن قوته، وقوتِ من يمونه.
ثم تردد الأئمة في صفة ملك الشخص، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا بد وأن يكون من أهل كمال الملك، وزعموا أنه يراعى في وجوب الصدقة على المرء كمالُ ملكه فيما يخرجه، كما يشترط في وجوب الزكاة كمال الملك في النصاب المزكى، فعلى هذا لا تجب الفطرة على المكاتب في نفسه، كما لا تجب الزكاة في أمواله.
هذا هو المذهب الظاهر، فلا فرق إذن بين الزكاتين، في اشتراط الإسلام، والملك التام، وإنما يفترقان في أن النصاب معتبر في زكوات الأموال؛ فإن الزكواتِ حقوقُها، فاشترط أن تبلغ مبلغاً يحتمل المواساة، وزكاة الفطر حق البدن؛ فاكتفى فيها بالوجود. ثم كما لا تجب الزكاة على المكاتب في نفسه، لا يجب على المولى
__________
(1) ساقط من الأصل.

(3/407)


إخراج الزكاة عنه للحيلولة الواقعة بينهما، المقتضية سقوط نفقته عنه.
وذكر ابن سريج قولاً مخرَّجاً إن المكاتب يلزمه إخراج الفطرة عن نفسه، ولم يشترط هذا القائل الملك التام فيما يخرجه، بناء على ترتب الفطرة على النفقة.
وحكى الشيخ أبو علي في شرح الفروع وجهاً عن بعض أصحابنا، أن السيد يجب عليه إخراج الزكاة عن مكاتبه، ووقوع الحيلولة بالكتابة كوقوعها بالغيبة والإباق.
وهذا بعيد لم يحكه غيرُه.
وبنى (1) الأئمة القول المنصوص والمخرَّج، على اختلاف القول في أن المكاتب لو تبرع بشيء من ماله بإذن مولاه، فهل يصح تبرعه، وفيه قولان، ووجه البناء أن من نفَّذ تبرعَه، وجّه ذلك بأن الحق لا يعدوهما، وقد اجتمع في التبرع ملك المكاتب، وإذن مَنْ ضعف الملك بسبب رعاية حقه، ثم صدقة [الفطر] (2) في وضعها واجبةٌ، فصار تقدير الخطاب بها شرعاً بمثابة الإذن الصادر من السيد في التبرع، وأيضاًً فالمكاتب مملوك السيد، وهو مستقل بنفسه بحكم الكتابة، فالأمر دائر بينه وبين مولاه، فلم يتجه إسقاط الفطرة، فإذا لم يكن بد من إثباتها، فلا تجب على السيد لما ذكرناه، ويتعين لالتزامها المكاتب، فرجع حاصل القول في الصفات إلى اعتبار الإسلام، ووجدان ما يُخرج. والأمر في اشتراط تمام الملك على التردد. والذي ذكرناه نصّاً وتخريجاً.
2243 - أما ما يراعى في صفات من يُخرج الفطرة عن الغير، [فمن راعى تمامَ الملك في إخراج الفطرة عن النفس، راعاه في إخراجها عن الغير] (3)، فكما لا يجب على المكاتب إخراج الفطرة عن نفسه، لا يجب عليه إخراج الفطرة عن زوجته، ومن أوجب على المكاتب إخراج الفطرة عن نفسه، أوجب عليه إخراج الفطرة عن زوجته، ولم يعتقد فصلاً بين الإخراج عن النفس، وبين التحمل عن الغير، ولا فرق بينهما باتفاق الأئمة.
__________
(1) (ط): وبين.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ساقط من الأصل.

(3/408)


2244 - فأما الإسلام، فقد اختلف قول الشافعي في أن الذمي إذا ملك عبداً مسلماً، أو كان له ابن مسلم فقير، هل يلزمه إخراج الفطرة عنه؟ فأحد القولين أن ذلك لا يلزمه، والثاني يلزمه.
والقولان منطبقان على أن الوجوب يلاقي الشخص، ثم يتحمل عنه المتحمل، وفيه التردد المتقدم، فإن قلنا: الوجوب لا يلاقيه، فلا تجب الفطرة على الذمي بسببه، كما لا تجب عليه الفطرة عن نفسه، وإن قلنا: الوجوب يلاقي الإنسان، ثم يتحمل المتحمل عنه، فوجوب الفطرة على ذلك يعتمد إسلام العبد والقريب، [ثم] (1) الذمي يتحمله تحمل النفقة.
وكان يحتمل أن يقال: على قول الملاقاة والتحمل قولان: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أنه لا يتحمل لكفره، ويمتنع التحمل بما يمتنع الالتزام به. هذا متّجه كذلك.
ثم إذا قلنا: على الذمي إخراجُ الفطرة عن المسلم، فالنية لا تصح منه، ولم يصر أحدٌ من أصحابنا إلى تكليف مَنْ منه التحمل النية. وكيف يُقدَّر ذلك، وقد يكون صغيراً، فلا خروج لهذا إلاّ على استقلال الزكاة بمعنى المواساة، كما [تخرج] (2) الزكاة من مال المرتد، وقد تقدّم نظائر هذا.
هذا بيان صفات المتحمل.
فأما الأسباب التي يقع التحمل بِها، فقد مضت مستقصاة في أول الكتاب.
فرع:
2245 - ولو أسلمت ذمية تحت زوجها الذمي، ثم استهل الهلال في تخلف الزوج، ثم أسلم في العدة، ففي وجوب النفقة (3) لها في زمان التخلف قولان، وتفصيل. فإن لم نوجبها، لم نوجب الفطرة على الزوج، وإن أوجبناها، ففي الفطرة
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) عبارة الأصل: كما لو الزكاة من مال المرتد.
(3) لأنها في فترة تخلف الزوج عن الإسلام عرضة لانفساخ النكاح، إذا لم يلحق بها مسلماً قبل انقضاء العدة، فالنكاح شبه موقوف في فترة تخلفه، ومن هنا جاء القولان في وجوب نفقة الزوجة في هذه الفترة قبل إسلامه.

(3/409)


قولان، كالقولين في الذمي يملك عبداً مسلماً.
2246 - فأما القول فيمن منه (1) التحمل، فلا بد من إسلامه حقيقة أو حكماً، ولا يشترط أن يكون من أهل الاستقلال، لو قدر له مال؛ فإن المال لا يليق بصفات من يتحمل عنه، والإسلام إنما شرط لوقوع الفطرة طهرة، واتفق علماؤنا على أن المسلم لا يلزمُه الفطرة بسبب عبده الكافر؛ وذلك أنا إن قدَّرنا ملاقاةَ الوجوب، فالكافر لا يلاقيه [وجوب الفطرة، وإن لم تقدر الملاقاة، فلا يمتنع أن يكون وجوب] (2) الزكاة مشروطاً برعاية صفاتٍ فيما منه الإخراج، كالنُّصب، وصفاتٍ مخصوصة فيها، فكما اختص وجوبُ الزكاة بمالٍ مخصوص، جرى الأمر كذلك في الفطرة، وقد يكون المتحمل عنه على نعت الاستقلال، لولا سبب التحمل، فإن المرأة الموسرة كذلك، والزوج يتحمل عنها. والضابط في التحمل اتباع المؤنة كما تمهد.
فرع:
2247 - إذا أبان الزوج زوجته الحرة، وكانت حاملاً، فنفقتها واجبة، وتجب فطرتها عند الاستهلال، إذا بقيت كذلك، جرياً على ما مهدناه، من إتباع الفطرة النفقةَ.
وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب: أنا إن أوجبنا النفقة للحامل، فالفطرة واجبة، طرداً للقياس، وإن أوجبناها للحمل، فلا تجب؛ فإن فطرة الحمل غيرُ واجبةٍ، والنفقة إن صرفت إلى الحامل، فالمقصود الحمل، والأصح الأول.
2248 - ونحن الآن نتكلم في اختلال سبب التحمل بأسباب، ثم نوضح الحكم فيمن منه التحمل، فإن اختل التحمل بفقرِ من يقدّر متحملاً، لو كان غنياً، وكان من منه التحمل فقيراً، أو رقيقاً، فإذا زال التحمل، والشخص الذي يعزى التحمل إليه ليس من أهل الاستقلال، فينتظر من ذلك سقوط الفطرة.
فأما إذا عسر التحمل، ولم يعسر تقدير الزكاة من جهةٍ أُخرى، فهذا هو الغرض.
__________
(1) "منه" هنا بمعنى (عنه).
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(3/410)


نصّ (1) الشافعي على أن زوج الحرة إذا كان معسراً، فالأولى لها أن تخرج الفطرة عن نفسها، إذا كانت موسرة، قال: ولا يبين لي أن ذلك عليها.
ونصَّ على أن السيد إذا زوَّج أمته من إنسان، فأعسر، فلا فطرة عليه. قال: ويجب على السيد إخراج الفطرة عن أمته المزوّجة، فقال الأكثرون في المسألتين قولان، نقلاً، وتخريجاً؛ فإن الحرة الموسرة من أهل التزام الفطرة لو لم تكن مزوجة، والسيد يلتزم فطرة أمته إذا لم تكن مزوجة، فعُسْر التحمل من الزوج، يُخْلِف قدرةَ [الزوجة] (2)، والتزامَ السيد بسبب الملك.
وذهب بعض الأصحاب إلى محاولة الفرق، ولا يكاد ينقدح، ولكن [الذي] (3) ذكروه أن الحرة في النكاح أثبت من الأمة، ولذلك (4) يحتكم الزوج عليها -إذا وفاها حقوقها-[بالمسافرة] (5)، واستغراق ساعات الليل والنهار، [في حق] (6) المستمتع، والأمر في الأمة على خلاف ذلك، فلما ضعف تسلّطُ الزوج على الأمة، بقي حق التحمل بحق الملك، وهذا تكلّف. ومثله لا يوجب قطعاً.
ولكن الأولى التنبيه على أمثال ذلك بترتيب الخلاف، على الخلاف.
2249 - ونحن الآن ننظم [مسائل] (7) يجري فيها الاختلاف، ويترتب البعض منها على البعض.
فالحرة الموسرة إذا أعسر زوجها، فهل عليها إخراج الفطرة عن نفسها؟ فعلى قولين. وإن كان زوجها مكاتباً، وقلنا: لا يلزمه الفطرة عن نفسه وزوجته، فالحرة هل تُخرج عن نفسها؟ فعلى قولين [مرتبين] (8) على الصورة الأولى، والأخيرة أولى
__________
(1) في (ط): عن.
(2) في الأصل: الزوج.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في (ط): وكذلك.
(5) ساقطة من الأصل. والمراد استتباعها عند سفره.
(6) في الأصل: بحق.
(7) في الأصل: مسألة.
(8) ساقط من الأصل.

(3/411)


بإلزامها؛ لانحسام إمكان التحمل، فكأن لا سبب في التحمل. [و] (1) إذا زوج المولى أمته من معسر، فوجوب الفطرة على السيد على قولين مرتبين على إعسار زوج الحرة، وهذه الصورة أوْلى بالالتزام لضعف الزوجية، وقوة الملك.
فإن زوجها المولى من عبدٍ أو مكاتب، فقولان مرتبان على الصورة الأخيرة، وهذه الصورة أولى بإيجاب الفطرة لتناهي الضعف في الزوج والزوجة، واستمرار الملك.
فرع:
2250 - إذا زوج السيد أمته من حُر وسلّمها إليه، وجبت النفقة، والفطرة على الزوج. وإن كان لا يسلمها إلا بعد الفراغ عن الخدمة، ففي وجوب النفقة خلافٌ، سيأتي ذكره في النفقات، والفطرة مرتبة على النفقة، فإن أوجبنا النفقة على الزوج، أوجبنا الفطرة عليه، وإن لم نوجب النفقة، لم نوجب الفطرة، وعلى السيد إخراجُها عن أمته، فإنا إذا لم نوجب النفقة على الزوج، أوجبناها على السيد.
ومن أصحابنا من قال: النفقة بينهما، [فالفطرة إذن بينهما] (2) كالعبد المشترك بين شريكين.
فرع:
2251 - العبد إذا تزوج بإذن مولاه، فإنه ينفق على زوجته من كسبه، ولا خلاف أنه لا يخرج الفطرة عنها، فإن قال قائل: كسب العبد ملك السيد، فإذا جعلتموه متعلَّقاً لنفقة زوجته، فاجعلوه متعلَّقاً لفطرتها؛ فإن الفطرة تنحو نحو النفقة، قلنا: النفقة تلزمُ ذمةَ العبد، ولكن لما كان النكاح بإذن المولى، اقتضى الإذنُ في الالتزام إذناً في الأداء، ولا محل إلى ذلك أقرب من كسب العبد. أما الفطرة؛ فإنها على من يلزمه النفقة، والعبد ليس من أهل التزام الفطرة، والسيد لم يلتزم نفقةَ زوجةِ عبده، حتى تتبع الفطرةُ النفقةَ. فليفهم الناظر ما يمرّ به.
2252 - ولو ملَّك السيد عبدَه شيئاًً -على قولنا بصحة التمليك- فليس للعبد أن يستقل بإخراج فطرة زوجته عنه (3)، ولو قال له: ملكتك ذلك، وأذنت لك في إخراج
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) ساقط من الأصل.
(3) قد كررنا أن (عن) تاتي مرادفة لـ (مِنْ).

(3/412)


الفطرة، فقد ذكر شيخي في ذلك وجهين، وهو عندي يترتب على ما تقدم في زوجة المكاتب، وما نحن فيه أولى بأن لا يجب؛ فإن العبد لا استقلال له أصلاً، وليس من الفقه النظرُ إلى نفوذ تبرع العبد على قول الملك، قولاً واحداً، مع اختلاف القول في تبرع المكاتَب، فإن ذلك لسبب يشير إلى استقلال المكاتب، وضعف إذن المولى.
فإذا استهل الهلال، ثم رام السيد أن يرجع، لم يجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن الاستحقاق إذا ثبت، فلا رَفع له، وهذا بمثابة [لزوم] (1) تعلق النفقة بالكسب.
والوجهُ عندنا القطع بأنه لا يجب عليه إخراج الفطرة عن زوجته.
ولو ملكه مالاً، والتفريع على ثبوت الملك، وأذن له في أن يخرج فطرةَ نفسه عما ملكه، فلا نجعله ملتزماً للفطرة، حتى يتوجه عليه الخطاب بها؛ فإن ذلك من [مؤن] (2) الملك. والسيد هو الأصل في توجه الخطاب عليه، فلا يجد سبيلاً إلى إزالة الخطاب عن نفسه، ولو أخرج العبد بإذن المولى الفطرةَ عما ملكه، كان ذلك رجوعاً من السيد في ملكه، ورداً له إلى جهة الفطرة.
فرع:
2253 - إذا غاب العبدُ، وانقطع خبره، واستهل الهلال، فهل يلزمه إخراج الفطرة عنه؟ ذكر الأئمة في ذلك قولين: أحدهما - أنها لا تجب؛ لأن الأصل براءة الذمة.
والثاني - أنها تجب؛ فإن الأصل بقاؤه، وهذا مستدام إلى تحقّق وفاته.
وعلى نحو هذا ذكر الأئمة قولين في أن العبد الذي انقطع خبره إذا أعتقه المظاهر عن كفارته، فهل يحل له الإقدام على الوقاع أم لا؟ ففي قولٍ يحل؛ بناء على [الأخذ بحياته، وفي قولٍ لا يحل بناء على] (3) اشتغال ذمته بالكفارة، والمصير إلى اشتراط ظهور براءتها في حل الوطء.
وقال الأصحاب في هذا النوع: إنه من تقابل الأصلين، وهذا مما يستهين به
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) في الأصل: فوت.
(3) ساقط من الأصل.

(3/413)


الفقهاء، وهو جزء من مغمضات مآخذ الأدلة الشرعية، وكيف يستجيز المحصل اعتقادَ تقابل [أصلين] (1) لا يترجح أحدهما على الثاني، وحكماهما النفيُ والإثبات، وهذا لو فرض، لكان متاهةً ومحارة، لا سبيل إلى بتّ قولٍ فيها في فتوى أو حكم.
والوجه في أمثال ذلك ما نصفه، فنقول: إن غاب غيبة قريبة، ولم يظهر انقطاعُ خبره، فالزكاة تلزم، والعتق مُجزىء، وإن كنا لا نستيقن بقاءه، وهو على مائة فرسخ (2)، فلا (3) خلاف في هذه الصورة.
وإن انقطعت أخباره لعائق يقتضي مثلُه قطعَ الخبر، فالأمر عندي كذلك، وإذا انقطعت أخباره، ولا عائق يوجب قطعها، فهذا علَم على الموت، ولكن لا يجوز الحكم به في تحقيق الموت، ولا تقسم به المواريث، ولكن إذا اعتضد هذا العلَم بأصلٍ في الشرع، وهو براءة الذمة، كان ذلك مغلباً على الظن في طريق الاجتهاد، أن الذمةَ لا تشغل، وعدم ثبوت الموت متمسك للقول الآخر، فإذا لم يثبت الموت بطريق شرعي، تعين الحكم بالحياة، فإذن هذا مقام في الظنون والاستدلالات، ولا بد من رد هذه المسألة إلى الأصل المقدّم في العبد المغصوب، فإن قلنا: لا زكاة فيه، فما نحن فيه أولى بنفي الزكاة، [وإن] (4) أوجبنا الزكاة في المغصوب، ففي الذي انقطع خبره قولان.
وسأجمع في ربع المعاملات إن شاء الله جميعَ المسائل التي خرّجها الفقهاء على تقابل الأصلين.
ومما يجب التنبّه له أن خبر الحياة إذا انقطع، فقد يظن الظان أن الموت لو كان، لاستفاض الخبر به، فإذا لم يستفض، لم يتحقق القول بغلبة الظن في الموت، وهذا
__________
(1) في الأصل: الأصلين. وعبارة (ط): اعتقاداً يقابل أصلين.
(2) ساقطة من (ط).
(3) في الأصل، و (ط): ولا. وهذا تقدير منا.
(4) في الأصل: فإن.

(3/414)


تلبيس؛ فإن الذي لا يُرْمق (1) قد لا يتحدث بموته، ولكنه يعتني بإنهاء أخبار نفسه، فإذا انقطعت، كان ذلك مسلكاً في الظن بموته.
فصل
قال: "ولا بأس أن يأخذها بعد أدائها ... إلى آخره" (2).
2254 - غرض الفصل أن من فضل عن قوته صاع، فأخرجه، فلا يمتنع أن يأخذ الصدقةَ، وذلك أنه لا يستدعي وجوبُ هذه الصدقة غِنىً ينافي المسكنةَ والفقر، والزكاة المنوطة بالغنى وهي زكاة المال قد تجب على من يحلّ له أخذ الصدقة؛ وذلك أن الصدقة تؤخذ بجهاتٍ لا يشترط فيها المسكنة، فإن من لزمه دين عن حَمالة يؤدي ما تحمّله من الزكاة، وإن كان غنياً، وابن السبيل يلتزم زكاة ماله الغائب، ويخاطب بإخراجها، ويأخذ من سهم أبناء السبيل، وفي العامل كلام سيأتي. فهذا وجه.
وقد يملك الرجل عشرين ديناراً وهو من المساكين، فلا يمتنع على الجملة التزامُ الزكاة وأخذُها.
...
__________
(1) لا يُرْمق: بضم فسكون كما في (ط): أي لا يرى، ولا ينظر، والمراد هنا بالذي يُرمق ذو المكانة والمنزلة بين الناس، فمن لم يكن كذلك يموت ولا يسمع به أحد. والمعنى أن انقطاع الخبر، ليس دليلاً على الموت في حق كل أحدٍ، فهناك (غير المرموق) أي حامل الذكر والشهرة، الذي يموت ولا يتحدث بموته أحد.
(2) ر. المختصر: 1/ 255.

(3/415)


باب مكيلة زكاة الفطر
قال: "وأي قوتٍ كان الأغلب ... إلى آخره" (1).
2255 - مضمون الباب يحصره فصلان: أحدهما - في الجنس المخرج في الفطرة، فالرجوع فيه إلى الخبر، وقد استوعب الخبر معظم الأجناس، فإن شذ شيء، فهو في معنى المنصوص عليه.
والضابط أن المجزىء ثمرٌ وحَب، أما الثمر، فالتمر، والزبيب. والحبّ كل مستنبت مقتات في الرفاهية، وقد ضبطت ذلك على أبلغ وجه في باب المعشَّرات، وإن أحببنا قلنا: يجزىء في الفطرة كل معشَّر. هذا هو المذهب.
وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أو صاعاً من أَقِط"، وليست هذه الرواية على الحد المرتضى في الصحة عند الشافعي، وليست على حد التزييف عنده، وإذا (2) اتفق ذلك، تردد قوله، فهذا منشأ اختلاف القول، ثم ألحق الأئمة بالأقِط الجبنَ واللبنَ نفسَه؛ فإنه أولى معتبر فيما يعتمد [للاقتيات] (3) وأما السمن، فلا؛ فإنه ليس قوتاً، وكذلك المَصْل (4)، وإنما القوت اللبن، أو ما ينعقد منه، من غير تفصيل، فالمصل مخيض (5)، والسمن أحد جزئي اللبن، والاقتيات
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 255.
(2) (إذا) بمعنى (إذْ)، وهو استعمال صحيح، غفل عن التنبيه إليه أكثر النحويين، قاله ابن مالك في شواهد التوضيح: 62، 63.
(3) في الأصل: الاقتيات.
(4) المصل: وزن فلس: عصارة الأقِط، وهو ماؤه الذي يُعصر منه حين يُطبخ، قاله ابن السكيت (المصباح).
(5) مخيض: فعيل بمعنى مفعول. من مخض اللبن إذا حركه ليستخرج زبده. (المصباح والمعجم).

(3/416)


يحصل عند اجتماعهما خلقة (1).
وذكر العراقيون قولين في اللحم، وهذا فيه بعدٌ؛ فإن الإلحاق بالأقِط فيما قدمناه يقرب من إلحاق الشيء بالشيء إذا كان في معناه، أو يتصل بالتشبيه الظاهر، واللحم بعيد، ولكن كأنهم اعتقدوا الأقِط أصلاً للنص فيه، وترقَّوْا منه إلى اللبن؛ لأنه يقوت، ثم قالوا: إنما يقوت من حيث إنه عصارة اللحم؛ فارتقَوْا منه إلى اللحم.
فهذا إجمال القول الكلي فيما يجري في الأجناس.
2256 - والكلام بعد ذلك في الأشخاص والبلاد:
أولاً - ذكر بعضُ أصحابنا قولاً مطلقاً: إنه يجزىء الصاع من كل جنس من هذه الأجناس، من كل شخص في كل حالٍ، وهؤلاء تمسكوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "صاعاً من تمر أو صاعاً من بر أو صاعاً من شعير"، وأظهر معاني (أو) التخيير، وهذا غير سديد؛ فإن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم [يُورده] (2) مخيراً، وإنما أراد الإشارة إلى معظم الأجناس (3 في أحوالٍ مختلفة 3)، وهذا يضاهي قولَه تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33].
فلا عود إلى هذا القول.
والمذهب المبتوت أن القول في إجزاء هذه الأجناس يختلف باختلاف الأحوال.
ثم اختلف أئمتنا فيما حكاه العراقيون من (4) المعتبر في ذلك، فقال بعضهم:
__________
(1) في (ط): صلفه.
(2) في الأصل: لم يرده.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(4) كذا في الأصل، وهي صحيحة؛ لأن (مِنْ) تاتي مرادفة لـ (في) قاله ابن هشام في مغني اللبيب: 424. وأما (ط) فاختارت (في)، ولكن الصواب ما جاء في الأصل لسببين: الأول: أن (ط) منسوخة بخط حديث في القرن الرابع عشر الهجري. =

(3/417)


المعتبر القوت الغالب في البلد، حتى لو عم البرُّ لم يجزه غيرُه (1). وإن كان في البلد من يليق به اقتيات الشعير. وإن عم الشعير أجزأه، عن الكافة، وإن كان يليق بالأغنياء أن يقتاتوا البر، فهو أوجه.
ومن أصحابنا من قال: يُخرج كل (2) واحد ما يليق بمنصبه في الاقتيات، فعلى هذا لا نظر إلى ما يعم في البلد، وإنما النظر إلى ما يليق بحال كل شخص.
2257 - التوجيه: من اعتبر حالَ كل شخص، فوجهه أن عموم أمر لا يليق بحال الشخص لا يغير منصبه، وكما يعتبر وِجدانه وفِقدانُه (3) الفاضل مِن القوت، فينبغي أن يُعتبر ما يختص بحاله.
ومن اعتبر القوت الغالب رأى النظر في تفاصيل أحوال الناس بعيداً، والأحوال تحول، ومراتب الناس تتبدل وتزول، فالوجه أن يلحق هذا بقاعدةٍ كلية جسيمة، لا يُعرَّج فيها على التفاصيل، ولا يعدَم الناظر أمثلة ذلك.
التفريع:
2258 - إذا أوجبنا جنساً وأخرج جنساً أعلى منه، قُبل، لا شك فيه.
وإن أخرج جنساً أدنى [مما] (4) وظفناه عليه، لم نقبله منه. وكان شيخي يرى البرّ أعلى الأجناس، ويقول: إن اكتفينا بالرز في موضع، أجزأ البر فيه، وإن كانت قيمة الرز أكثر، فلا نظر إلى القيم، وإنما النظر إلى شرف القوت، وقد تغلو قيمةُ الشعير بسببٍ، ولا يقوم مقام البر، وإن كانت قيمةُ البر دون قيمته. والبر أعلى من التمر والزبيب، والتمر والزبيب كان يتردد فيهما، ولعل الأشبه تقديمُ التمر. والتمر والزبيب إذا أضيفا إلى الشعير، فالأمر فيه متردد، أما التمر فكان يقدمه على الشعير، ويتردد في الزبيب والشعير.
__________
= الثاني: أن القاعدة الصحيحة أنه إذا اختلفت نسختان، وكانت لغةُ إحداهما غير مألوفة والأخرى مألوفة مأنوسة، فالأولى هي الأحق بالاعتماد، طالما كان لها وجه في الصحة؛ وذلك أن الناسخ يميل إلى مألوفه ومعتاده، فيغير ما يظنه مخالفاً للصواب.
(1) ساقطة من (ط).
(2) عبارة (ط): "يخرج عن كل واحد".
(3) في (ط): وجدناه، وفقده.
(4) في الأصل: منه.

(3/418)


فإن فرض استواء قوتين، والتفريع على اتباع القوت الغالب في البلد، تعيّن الغالب؛ لاختصاصه بما هو المعتبر في الباب.
ولو اعتبرنا كل شخص بنفسه، وكان يليق بمنصب [الواجد]، (1) البرُّ، غير أنه كان يجتزىء بالشعير، [لم يجزئه إلا البر. ولو كان يليق به الشعير، غير أنه كان لا يجتزىء بالشعير] (2) ويتنعم باقتيات البر، فأراد أن يخرج الشعير، فهل يجزئه ذلك؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجزئه؛ نظراً إلى ما يعتاده، ولعل الأصح أنه يجزئه الشعير؛ فإن المتعة (3) المعتبرةَ بحال الزوج وغناه، لا تعتبر بتخرّقه (4) في السخاء، وإنما يعتبر ما يليق بحاله وبماله.
ولو أخرج نصف صاع من شعير، حيث يجزىء الشعير، ونصفَ صاع من بُر، فالمذهب أنه لا يجزئه؛ فإن النصوص متبعة، والتبعيض في الجنس يخالفها. فلو قال قائل: لو أخرجت البقية شعيراً، قبلتموه، فاقبلوا أعلى الجنسين. قلنا: لا مبالاة بهذا مع بناء المذهب على الاتباع، ومصيرِنا إلى أن ديناراً لا يقوم مقام درهم. وأبعد بعضُ الأصحاب، فحكم بالإجزاء، وهذا غير معدود من المذهب.
ولو استوى جنسان، امتنع التبعيض، بلا خلاف، وإنما الخيال الذي قدمته فيه إذا كان يجزىء الأدنى، ويقبل الأعلى، فإذا جرى التبعيض بينهما، ففيه ما قدمناه. ثم لا مَدْخل (5) للأبدال كما تمهد في أصول الزكوات.
2259 - ولا يُجزىء (6) مُسوّس معيب، وإذا حكمنا بإجزاء الأَقِط، فلا يجزىء المملّح الذي يظهر الملح عليه، لأن الملح غيرُ مجزىء، وهو ينقص من مكيلة
__________
(1) في ط: واحد.
(2) ساقط من الأصل.
(3) عبارة (ط): فإن الشعير هو المعتبر بحال المخرج.
(4) تخرق في الكرم اتسع. (معجم).
(5) في (ط): لا تدخل الأبدال.
(6) في (ط): يجتزىء بمسوس.

(3/419)


الأقِط، فإن أخرج مقداراً زائداً، وكانت (1) الزيادة تقابل مقدارَ الملح، فلا يجزىء أيضاًً؛ لأن جوهر الأقِط قد فسد بالملح، وإن كان التمليح غير مفسد، فالأقِط مجزىء، على شرط مراعاة القدر في مكيلة الأقِط. والرجوع في ذلك إلى أهله.
ولا يجزىء الدقيق، وهو في حكم البدل، وذكر بعضُ أصحابنا في الدقيق قولينْ، أخذاً من الأقِط المضاف إلى اللبن، حكاه العراقيون، وهذا مزيف، لا أصل له.
هذا قولنا في الأجناس.
2260 - فأما المقدار، فصاع من كل جنس، والصاع أربعة أمداد، والمُدّ رطل وثلث بالبغدادي.
فرع:
2261 - إذا كان بين رجلين عبد، فعليهما إخراج الفطرة عنه، فإن قُلنا (2) الرجوع إلى القوت الغالب في البلد، فالمخرج من جنسه، ولا يختلف باختلاف أحوال الشريكين، وإن اعتبرنا كلَّ إنسان بنفسه، وكان قوت أحدهما شعيراً وقوت الآخر برّاً (3)، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن كل واحد منهما يُخرج نصف صاع من قوته، ولا يضر الاختلاف، فيُخرج هذا نصف صاع من شعير، وهذا نصف صاع من بر، وهو اختيار ابن الحداد، وأبي إسحاق المروزي، ووجهه أن كل واحد في نصفه بمثابة مالك عبد تام؛ فاعتبر حال كل واحد، ومن أصحابنا من منع هذا، وهو اختيار ابن سريج، نظراً لاتحاد العبد.
وإنما كان يتجه اعتبار كل واحد لو كان مُخرَجه (4) صاعاً كاملاً، فإذا لم يكن كذلك؛ فيجب أن ننزلهما منزلة شخص واحد، فإن جوزنا التبعيض، فلا كلام، وإن منعناه، لم نقل لمن قوته البر أن يخرج الشعير موافقةً لمن قوته الشعير، بل على من
__________
(1) في (ط): أو كانت.
(2) في (ط): كان.
(3) في (ط): بسراً.
(4) في (ط): يخرج.

(3/420)


قوته الشعير أن يخرج نصف صاع من بر، ولا وجه له غيره، وإن كان يجر إجحافاً، وبهذا يتجه ما اختاره ابن الحداد.
2262 - ثم ذكر الشيخ في الشرح مسألتين في أحكام التبعيض: إحداهما - أنه قال: إذا ملك الرجل أربعين من الغنم: عشرون منها معزاً، وعشرون، ضأناً، فلا يجزىء نصف ماعز، ونصف ضأن، وفاقاً. والتفصيل فيه مذكور في صدقة النَّعم. ولو خلط رجل عشرين من المعز، بعشرين من الضأن لآخر، وثبتت الخلطة على شرطها (1)، فالذي ذهب إليه الأصحاب، أنهما يُخرجان من الأربعين ما يخرجه مالك هذه الأربعين لو انفرد.
وحكى الشيخ وجهاً غريباً أن لمالك المعز أن يخرج نصفاً من ماعز، ومالك الضأن يخرج نصفاً من ضأن، لمكان تميز المِلكين، وهذا في نهاية الضعف، وهو مفسدٌ لقاعدة الخلطة.
ومما ذكره في أحكام التبعيض أن طائفةً من المُحْرمين إذا اشتركوا في قتل ظبية (2)، وسنبين [أن] (3) كفارتها على التخيير، فلو أخرج بعضُهم جزءاً من حيوان، وبعضهم الطعامَ، وصام بعضهم نسبة حصته، قال: ذلك مجزىء. [ويجعل] (4) كأن كل واحد منهم انفرد بإتلاف بعضٍ من الظبية. ولو (5) كان كذلك، لتخير بين الخلال الثلاثة.
ولو انفرد محرمٌ بقتل ظبية، فهو بالخيار بين الخلال الثلاث، فلو بعّض الأمر، فأخرج للبعض قسطاً من حيوان، وللبعض طعاماً، وصام عن البعض ففي إجزاء ذلك وجهان، ذكرهما الشيخ.
ولا خلاف أن من لزمته كفارةُ اليمين، فأراد أن يعتق قسطاً من رقبة، ويطعمَ ثلاثة
__________
(1) في (ط): شرطهما.
(2) هذه هي المسألة الثانية من المسألتين اللتين أشار إليهما قبلاً.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في (ط): لو (بدون واو).

(3/421)


ويكسوَ آخرين، على نسبة تتلفّق من [الخلال الثلاث] (1)، فلا يجزىء ذلك، وإنما اتجه الخلاف في فدية (2) الصيد؛ من جهة أن حكم الغرامة غالب عليه، ولا يمتنع في حكمها التبعيض، إذا ثبت التخير في الأصل.
فصل
2263 - ومصرف صدقة الفطر، مصرف زكوات الأموال، فلا بد من صرفها إلى الأصناف الثمانية، وذهب أبو سعيد الإصطخري إلى أن الفطرة يُنحى بها نحو الكفارة، والإطعامِ فيها.
ْوالمد في الشرع طعام شخصٍ، فيبعد تقديرُ صرفه إلى أشخاص، وواجب الفطرة صاعٌ، فيبعد تنزيله منزلة الكفارة. ثم المتبع النص، والصدقات مضافة إلى الأصناف، والفطرة زكاة، وطعام الكفارة مضاف إلى المساكين. والله أعلم.
...
__________
(1) في الأصل: الحال شيء تام.
(2) في (ط): بدنة.

(3/422)


باب الاختيار في صدقة التطوع
2264 - مقصود الباب الكلامُ على خبرين: أحدهما - قوله صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" (1) وهذا يشير إلى أن الفقير لا يُرى له التصدق بالنزر الحاصل في يده. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في خبر آخر، لما سئل عن أفضل الصدقة، فقال: "جَهد المُقِلّ" (2) قال الأئمة: الخبران منزلان على أحوال الناس: فمن رسخ دينُه، ولاح يقينه، وظهرت ثقته بربه، فلا ينبغي له أن يدّخر شيئاً لغدٍ، ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت بلال، ورأى فيه كسرة خبز، تمعرت وجنتاه، وقال: "أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً" وإن استشعر الرجل ضعفاً في نيته، فلا نؤثر له وهذه حالتُه أن يتصدق بالقليل الذي معه، ويبقى بعد التصدق جزوعاً، سيء الظن.
...
__________
(1) جزء من حديث سبق عزوه، والكلام عليه.
(2) حديث: "جهد المقل ... " رواه أبو داود عن أبي هريرة وغيره: الزكاة، باب (40) الرخصة في ذلك، ح 1677، وأخرجه النسائي: كتاب الزكاة، باب (49) جَهْد المقل، ح 2527، وأخرجه الدارمي في الصلاة (135)، وأحمد: 2/ 358، 3/ 412، 5/ 178، 179، 265.

(3/423)


ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوالٍ
أبو عمرو بن العلاء
المتوفي سنة 154هـ

(4/4)