نهاية المطلب في دراية المذهب

إمام الحرمين لسان مذهب الشافعي
بل لسان الشريعة على الحقيقة
التاج السبكي
في الأشباه والنظائر

(5/4)


كتاب البيع (1)
2867 - الأصل في البيع الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ) [البقرة: 275] وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ) [النساء: 29] وستأتي الأخبار في الأبواب على قدر الحاجة. وأصلُ البيع متفق عليه، ذكر المُزَني لفظةً عن الشافعي في البيع جامعةً، والذي نص عليه في الأم أجمعُ لتراجم أبواب البيع، فنقتصر على اللفظة الأتم.
قال رضي الله عنه: "وجماع ما يجوز به البيع عاجلاً وآجلاً أن يتبايعا عن تراضٍ منهما، ولا يعقداه بأمر منهي عنه، ولا على أمر منهي عنه، فإذا تفرقا عن تراضٍ منهما، فقد لزم البيع، وليس لأحدهما ردُّه إلا بخيار، أو عيب يجده، أو شرط يشرطه، أو خيار الرؤية، إن جاز بيعُ خيار الرؤية" (2).
فدلّ بذكر العاجل والآجل على بيع العين، والسلم، والمؤجل؛ وذكَر التراضي، فأشعر بأن الإكراه يمنع انعقاد العقد، وعنَى بقوله: "بأمر منهي عنه" الأثمان المحرَّمةَ بوجوه التحريم، وأراد بقوله: "وعلى أمر منهي عنه" الشرائطَ الفاسدةَ، على ما ستأتي مفصلة، إن شاء الله تعالى. ونبه على خيار المجلس، وعلى ما يُنهيه، بقوله: "فإذا تفرقا عن تراضٍ" ثم استثنى عن حكمه بلزوم العقد بعد التفرق جهاتِ الخيار.
فأراد بقوله: "إلا بخيارٍ" خيارَ الشرط، وذكر خيارَ العيب، ثم قال: "أو شرط
__________
(1) يبدأ العمل من أول كتاب البيع باتخاذ الجزء الخامس من (ت 1) أصلاً، و (هـ 2) نصاً مساعداً.
(2) انظر الأم: 3/ 3. وعبارة إمام الحرمين هنا فيها نوعٌ من التصرف، فليست بنص الألفاظ الواردة في النسخة المطبوعة المتداولة من الأم: وليس في مفتتح كتاب (البيوع) من المختصر أيضاً.

(5/5)


يشرطه" يعني خيارَ الخُلف (1) على ما سيأتي، ثم ردد قولَه في خيار الرؤية، وبيعِ الغائب. وهذا مقصود الباب، فقال: "إن جاز بيعُ خيار الرؤية"، فنقل الأئمة قولين عن الشافعي: في أن من اشترى عيناً لم يرها، فهل يصح العقد أم لا؟.
أحدهما: أنه لا يصح، وهو اختيار المُزني؛ فإن العين في العُرف تُعْلَم بطريق المعاينة، فإذا لم يرها المشتري، عُدّت مجهولة عُرفاً، واستقصاء الطريقة في الخلاف (2).
والقول الثاني: أن البيع صحيح؛ فإن المبيع متميَّز [والشرع] (3) قاضٍ باعتماد قول البائع، وعليه ابتنى قبول قوله في الملك وغيره، مما يشترط في صحة العقد.
التفريع على القولين:
2868 - إن حكمنا بفساد البيع، فأول ما نذكره تفصيلُ القول في الرؤية؛ فالمذهب أن من رأى شيئاً، ثم غاب عنه، فاشتراه على قرب العهد بالرؤية، والغالب على الظن أن المبيع لا يتغير في تلك المدة، فالبيع صحيح، والرؤية المتقدمة كالمقارِنة.
وحكى العراقيون والشيخُ أبو علي عن أبي القاسم الأنماطي أنه يشترط مقارنةَ الرؤية للعقد، ونزَّلها في البيع منزلة اشتراط اقتران حضور الشاهدين بعقد النكاح، ثم الشيخ حكى عن الإصطخري أنه قال: "كنت أناظر بعضَ من يذبّ عن الأنماطي، وكنت أُلزمه المسائلَ، وهو يرتكبها (4) حتى قلت: لو عاين الرجلُ ضيعةً وارتضاها، ثم
__________
(1) خيار الخلف: هو حق الفسخ لتخلف وصفِ مرغوبٍ اشترطه العاقد في المعقود عليه. كمن اشترى حصاناً على أنه من خيل السباق كامل التدريب، فوجده غيرَ ذلك، وهذا طبعاً غير خيار العيب بل فوات أمرٍ زائد. (الدكتور عبد الستار أبو غدة - الخيار وأثره في العقود: 2/ 719).
(2) يقصد في علم الخلاف، ولإمام الحرمين في هذا العلم أكثر من مؤلّف: منها: الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، وقد وفقنا الله لتحقيقه، وغنية المسترشدين، والأساليب.
(3) مزيدة من (هـ 2).
(4) يرتكبها: لم أجد هذا اللفظ مصطلحاً من مصطلحات الجدل والمناظرة فيما راجعت من مؤلفات في هذا المجال، وكذلك لم أجده منصوصاً في المعاجم اللغوية، ولا في كشاف =

(5/6)


ولاَّها ظهرَهُ، فاشتراها، فهل يصح ذلك؟ فتوقف".
قال أبو سعيد (1): لو ارتكب، لكان خارقاً للإجماع، والوجه في مذهب الأنماطي أن ما لا سبيل إلى تحصيله على يسر، فلا شك انه لا يشترط، وهو كرؤية كل جزء من قرية أو دار يشتريها، فأما إذا صرف عنه بصره في حالة إنشاء العقد مقبلاً على من يبايعه، فقد نقل الإصطخري الإجماعَ فيه، وما أرى الأنماطي يسمح بهذا، ويحتمل أن يكتفي بكون المبيع بمرأى منه حالة العقد، وإن كان لا يلحظه. وبالجملة مذهبه فاسد.
والأصحاب لما اكتفَوْا بتقدّم الرؤية، شرطوا أن يكون الزمان المتخلل بحيث لا يتغير فيه المبيع غالباً، وهذا يختلف باختلاف صفات المبيع، فما يتسارع إليه التغير، يُعتبر فيه ما يليق به، والعقار وما يَبعُد تغيُّره يراعى فيه ما يغلب تغيُّره فيه. ثم قال الأئمة: إذا تقادمت الرؤية، وتخلل زمان يغلب التغير فيه، فتلك الرؤية لا حكم لها، وإذا اشترى تعويلاً عليها، لم يصح، على منع شراء الغائب.
وذكر الشيخ في شرح التلخيص ما ذكرناه ووجهاً آخر: أن الرؤية المتقدمة كافية في تصحيح العقد، ثم إن اتفق تغيّر، ثبت الخيار، كما سنذكره، واختار هذا الوجهَ وصححه، ولم أرهُ لغيره.
فرع:
2869 - إذا حكمنا بصحة البيع تعويلاً على الرؤية المتقدمة القريبة، فإذا المبيع قد تغير على ندور، فقد قال الأئمة: للمشتري الخيارُ، ثم لم يفصّلوا قولاً في التغير، الذي يُثبت الخيار، ونحن نذكر من نص الشافعي، وقول العراقيين ما بلغنا فيه. قال الشافعي: "لو اشترى نخيلاً كان رآها غيرَ مؤبّرة، فإذا هي قد أُبّرت، قال:
__________
= اصطلاحات الفنون ولا كليات أبي البقاء، ولا تعريفات الجرجاني، ولا في الألفاظ التي ضبطها ابن خلكان في الوفيات، وابن شاكر في الفوات.
ويلوح من السياق في المواضع التي تكرر فيها في كلام إمام الحرمين أن معناه أن الخصم في المناظرة يلزم خصمه: إن قلت بكذا يلزمك أن تقول بكذا، لما هو ظاهر الخطأ، فإذا لم يعرف الخصم دَفعْ هذا الإلزام، والتزم ما ألزمه، سمي مرتكباً.
(1) أبو سعيد: هو الإصطخري.

(5/7)


له الخيار". وهذا يُشعر بتعلق الخيار بفوات غرضٍ، وهو الثمار. وقال العراقيون: إذا كان التغيّر إلى نقصٍ، ثبت الخيار، فهذا ما وجدتُه.
والذي أراه أن التغيّر اليسير الذي لا يُكترثُ به لا يثبت خياراً، وكذلك التغير إلى الزيادة، ولا شك أنا لا نشترط أن يكون الحادث عيباً؛ فإنّ خيار العيب لا يختص بهذه الصورة.
فالظاهر عندي أن يقال: كل تغير لو فرض خُلْفاً في صفةٍ مشروطة، تعلق بها الخيار، فإذا اتفق بين الرؤية والعقد، أَثْبَت الخيارَ. وكأن الرؤية المتقدمة بمثابة شرطٍ في الصفات الكائنة حالة الرؤية.
ويمكن أن يقال: كل تغيّر تخرج به الرؤيةُ عن كونها مفيدةً معرفةً وإحاطةً، فهو مثبت للخيار.
وبيان ذلك أن الرؤية المعتادة تتعلق بصفاتٍ من المبيع، كما سنذكرها، ويغيب عنها صفاتٌ، فكل ما تشتمله الرؤية المعتبرة، ولو لم تتعلق الرؤية به، لكان المبيع غائباً، فإذا تغير، ثبت الخيارُ.
2870 - ومما نفرّعه على هذا القول: أن البائع إذا ذكر صفاتِ العين الغائبة، واستقصاها بذكر صفات السلم، والتفريع على منع بيع الغائب، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما- لا يصح؛ فإن طريق إعلام العين الغائبة المعاينَةُ، والدليل عليه أنا نكتفي بالرؤية، وإن لم نُحط بجملة صفات المبيع، ولو كان المرعيُّ الإعلامَ، لما صح العقد بالرؤية المعتادة.
والوجه الثاني- أن البيعَ يصح؛ فإن الرؤية تُطلع على خاصيةٍ، قد لا يناله استقصاء الوصف، فنزل منزلةَ الإعلام التام بالوصف عند عدم الرؤية، والغرض الإعلام بالجهتين. فإن صححنا العقدَ ووفت الصفات، فلا كلام، وإن اختلفت، فكل صفة يشترط ذكرها فإذا ذكرها كاذباً، كان كما لو لم يذكرها، فلا يصح العقد.
2871 - ومما نفرعه النموذج وبناء البيع عليه، فإذا أخرج الرجل نموذجاً من حنطة، وقال: بعتُك من هذا النوع مائةَ صاع، فهو باطل على كل قول؛ فإنه لم يُعَيّن

(5/8)


حنطةً، ولم يرع شرائط السلم، وإن قال بعتُك المائة الصاع، التي في هذا البيت، وهذا النموذج منها، فإن لم يدخل النموذج في البيع، فقد قيل: هذا بيع غائب، فلا يصح على هذا القول.
ويحتمل عندي أن تكون رؤية النموذج بمثابة وصف المبيع الغائب على ما مضى.
فإن قيل: مثل هذا لا يُكتفى به في وصف المُسْلَم فيه. قلنا: لأن السلم ينافيه التعيين جملة، كما سيأتي في السَّلم إن شاء الله تعالى، وأصل التعيين معتمدُ بيع الأعيان.
فأما إذا أدخل النموذج مع الآصع في البيع، فقد قطع القفالُ بالصحة، وألحق ذلك ببيع الصُّبْرة التي يدل ظاهرها على باطنها، وخالفه طوائفُ من الأئمة. والقياس ما قاله، ولا شك أن النموذج مفروض في المتماثلات.
فأما إذا صححنا بيع الغائب، فما ذكره العراقيون، والصيدلاني، وشيخي، أنه لا بُد من ذكر الجنس، فلو قال: بعتك ما في كُمي، ولم يعرفه المشتري، فالبيع باطل. وهذا ظاهر مذهب أبي حنيفة (1).
ومن أصحابنا من صحح العقد، تفريعاً على هذا القول، وهو قياسٌ ظاهر، فإذا كنا لا نشترط استقصاءَ الصفات، فلا تزول الجهالة بذكر الجنس، والمرعي في هذا القول أن يكون المبيع متعيناً.
ثم قال العراقيون: يشترط ذكرُ النوع، حتى يقول بعْتُك العبدَ التركي، ولم يشترط أصحاب القفال ذلك، ثم قالوا: إذا ثبت اشتراط الجنس والنوع، فهل تُشترط صفاتُ السلم؟ أم يكتفى بالمعظم؟ فعلى وجهين، ولعلهم أرادوا بالمعظم ما تحيط به الرؤية المعتادة.
وهذا الذي ذكروه يجانب طريق المراوزة؛ فإنَّهم ذكروا التعرضَ للصفات على قولنا: لا يصح بيع الغائب؛ فقالوا: استقصاءُ الصفات هل تنزل منزلة الرؤية، حتى
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 48، المبسوط: 13/ 68، رؤوس المسائل: 273 مسألة 161، إيثار الإنصاف: 294، فتح القدير: 6/ 335.

(5/9)


يصحَّ العقدُ بسببه، كما سبق في التفريع على القول الأول؟ وذكروا استقصاء الصفات على تجويز بيع الغائب في معرضٍ آخر. فقالوا: إذا وصف المبيع على الاستقصاء ثم وفت الصفات، فهل يثبت خيار الرؤية أم لا؟ فعلى وجهين. وتوجيههما واضح.
فأما (1 اشتراط استيفاء الصفات في تصحيح العقد على قول تجويز بيع الغائب فمما انفرد به العراقيون. ثم قياس طريقهم عندي، أن من 1) اشترط استقصاءَ الصفات -على قول تجويز بيع الغائب- فإذا وفت، ثبت خيارُ الرؤية وجهاً واحداً، فإن هذا القائل لا يصحح بيعَ الغائب إلا عند استقصاء الصفات، وخيار الرؤية لا سبيل إلى نفيه أصلاً، ولو خُص الخيار بالخُلف، لكان خيار الخلف. ومما نفرعه على تجويز بيع الغائب خيار الرؤية.
فصل
2872 - خيارُ المجلس يثبت في البياعات، كما سيأتي، فالوجه أن نذكر حكمَ خيار المجلس في بيع الغائب أولاً، ثم نبني عليه خيارَ الرؤية، فنقول: اختلف الأئمةُ في خيار المجلس في بيع الغائب، فمنهم من قال: يثبت خيار المجلس للمتعاقدين، كما يثبت في كل بيع، ووجهه ظاهر.
ومنهم من قال: لا يثبت لهما خيار المجلس متصلاً بالعقد؛ فإنَّ خيار الرؤية خيارٌ شرعي لا يختص ثبوته بغرض، فهو في معنى خيار المجلس، فيبعد اجتماع خيارين من جنسٍ واحدٍ، وهذا الوجه بعيدٌ؛ فإنّ نفي خيار المجلس في حق البائع لا وجه له؛ إذ ليس في حقه خيار الرؤية، وكل ما نذكره فيما رآه البائع دون المشتري.
ومنهم من قال: يثبت خيارُ المجلس للبائع عقيب العقد على الاتصال، ولا يثبت للمشتري خيارُ المجلس، لمكان ثبوت خيار الرؤية له، وهذا أمثل من الثاني.
والصحيح هو الأول. فهذا هو القول في خيار المجلس. وفيه بقية سنذكرها.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2).

(5/10)


2873 - فأما خيار الرؤية، فلا شك في ثبوته عند الرؤية، وهل يثبت قبل الرؤية للمشتري؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإنه منوط في الخبر -إن صح- بالرؤية، كما سنرويه في آخر الباب.
والوجه الثاني - أنه يثبت الخيارُ قبل الرؤية؛ فإنا نُثبت له حقَّ الفسخ عند الرؤية، مغبوناً كان أو مغبوطاً، فلا معنى لاشتراط الرؤية.
ثم إن لم يثبت خيار الرؤية قبلها، لم ينفذ فسخُ المشتري، ولا إجازته. وإن أثبتنا الخيارَ قبل الرؤية، فينفذ الفسخُ ولا تنفذ الإجازة؛ لأن الفسخ مقصود الخيار، فنفذ لقوّته، ووقفت الإجازةُ على الرؤية. هذا ما وجدته في الطرق. فأما إذا رأى، فالخيار يثبت.
وأحسنُ ترتيب فيه: أنا إن أثبتنا للمشتري خيارَ المجلس عقيب العقد، فهذا الخيارُ يثبت على الفور، ولا يمتد امتداد المجلس، وإن قلنا: لا يثبت له خيار المجلس ابتداءً، فإذا ثبت له الخيار عند الرؤية، فهل يمتد امتدادَ المجلس، فعلى وجهين: أحدهما - أنه على الفور، كخيار العيب، ووجهه أنه معلّق شرعاً بالرؤية، وليس ممدوداً، فليقرن بها كخيار العيب المنوط بالاطلاع على العيب، وهذا هو الصحيح.
والوجه الثاني - أنه يمتد في حقه امتداد المجلس؛ فإنه لم يثبت له خيار المجلس، وهذا شبيهٌ بخيار المجلس، فكأنه اعتاضه عنه. فإن قلنا: خياره على الفور، فلا يثبت للبائع الخيار، وإن نفينا خيار المجلس عنه ابتداء؛ فإنا إذا حكمنا بأن خيار الرؤية على الفور، فلابد من اختصاصه بمن لم يرَ. وإن حكمنا بأنه يمتد امتداد المجلس، وأثبتنا للبائع خيار المجلس ابتداء، فلا خيار له عند الرؤية، بعد انقضاء المجلس.
وإن لم نُثبت للبائع خيارَ المجلس ابتداء، وحكمنا بامتداد خيار الرؤية في حق المشتري، فهل يثبت للبائع الخيار مع المشتري؟ على وجهين: أحدهما - لا يثبت، ويختص بمن لم يَرَ المبيع، والثاني - يثبت، وحقيقةُ الوجهين ترجع إلى أن هذا خيار المجلس أم لا، فكأن أحد القائلَيْن يزعم أن خيار المجلس يتراخى في بيع الغائب إلى وقت الرؤية، فعلى هذا يثبت الخيارُ للبائع مع المشتري، والثاني - يقول: ليس هو

(5/11)


خيارُ مجلس، وإن امتد امتداد مجلس المشتري، [فعلى هذا لا يثبت للبائع] (1).
فهذا ما أردناه.
فصل
يجمع مسائل تلتحق ببيع الغائب
2874 - منها: إذا اشترى صُبْرةً من حنطة، أو غيرها من المتماثلات، وكان لا يختلف ظاهرها وباطنها، فهو صحيح قولاً واحداً؛ فإن الظاهر دالٌّ على الباطن، وهذا يُعدّ رؤية عُرفاً، ولو كان باطن الصُّبْرة يخالف ظاهرَها، فحِفْظِي عن الإمام (2) أن ذاك بيعُ غائب، وفيه احتمالٌ ظاهر عندي، ولو ظهرت تحت الصُّبرة دِكَّة، وكان المشتري يَحسَب الصُّبرة حنطة إلى استواء الأرض، فقد كان شيخي يقول: هذا بيع الغائب، وقال غيره: هو بيع معاين؛ فإن الحنطة لم تختلف، ولكن يثبت الخيار للمشتري، وستأتي نظائر ذلك، في بيع المصراة، ولا وجه لما قاله شيخي.
ولو قال: بعتك صاعاً من داخل الصُّبْرة، فهو بيع غائب. وأقرب صورة شبهاً بهذا مسألة النموذج، إذا لم يدخل في البيع، ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبْرة، فليس بيعَ غائب، ولكن في بيع صاع من صُبْرة تفصيلٌ لا يتعلق بالغَيْبة والحضور.
ولو اشترى ثوباً منشوراً، ورأى أحد وجهيه، وكان لا يستدل به على الوجه الثاني، فهو بيع غائب، فإن كان لا يختلف وجهاه كالكرباس (3)، وما في معناه، ففيه وجهان، ذكرهما شيخي والصيدلاني. والوجهُ القطعُ بأنّه بيعُ غائب.
وذكر المُزني مسألة تردد فيها الأصحابُ، وهي أن من باع منديلاً نصفه في صندوق
__________
(1) مزيدة من: (هـ 2).
(2) الإمام يقصد والده.
(3) الكرباس: الثوب الخشن، وهو فارسي معرّب، بكسر الكاف، والجمع (كرابيس) وينسب إليه بيَّاعه، فيقال: (كرابيسي) وهو نسبة لبعض أصحاب الشافعي رضي الله عنه. (المصباح).

(5/12)


ونصفه بارز منه، فقد اختلف الأئمة في المسألة، فمنهم من قطع بأن المسألة على قَوْلي بيع الغائب، والشافعي أجاب بالفساد، جرياً على أحد القولين، وأشار بعضُ الأصحاب إلى أن البيعَ يفسُد في هذه الصورة قولاً واحداً؛ لأن ما لم يره في محل خيار الرؤية لو صح البيع فيه، وما رآه لا خيار فيه، وهذا قد يُفضي إلى قطع البارز عن المستور.
وهذا ليس بشيء؛ فإنا لو قدرنا خيار الرؤية، لاقتضى ردّ الجميع، كما لو اشترى عمامة رآها، ثم وجد بجزءٍ منها عيباً؛ فإنه يرد جميعَها، ولا يختص الرد بمحل العيب.
وأشار بعض الأصحاب إلى تخريج المسألة على تفريق الصفقة، إذا اشتملت على مختلفين، وهذا فاسدٌ، لما قدمناه؛ فإن الكل في حكم ما لم يُرَ، كما استشهدنا به في العيب؛ إذ المبيع واحد، فلا وجه إلا طريقة القولين.
ولو اشترى ثوباً مطوياً، فقد ألحقه الأئمة ببيع الغائب، وقطعوا القول به.
فصل
2875 - المعتمد في الأصل اتباع العُرف في الإعلام، ونحن في منع بيع الغائب إذ [عَنَيْنا] (1) بأن المبيع لم يعلم، [عنينا لم يعلم] (2) بما يعلم مثلُه في العرف، ومعلوم أن من الثياب ما يَنْقُصه النشر والردّ إلى طاقةٍ واحدة، ولا يُنشر كذلك إلا إذا أريد قطعه، وقد جرى العرف بأن مثل هذا الثوب يُرى منه طاقات، ولا ينشر عند البيع.
فما نقله الأئمة تخريج المسألة على قولي بيع الغائب، ويحتمل عندي أن يُصحَّح البيع قطعاً، لما في النشر من التنقيص، ويُلحق ذلك ببيع الجوز، والمقصود منه لُبُّه، ولكن لما كان في كسره إبطالُ مقصود الادّخار، وانضمَّ إلى ذلك عموم العرف، صح العقد.
__________
(1) في النسختين عينا. والمثبت تقدير منا.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

(5/13)


فإن قيل: عمّ العُرف ببيع الثياب التّوزيَّة (1) في المُسوح (2)، قلنا: لا يتجه فيه إلا التخريج على بيع الغائب، وعموم عرف أهل الزمان يُحمَل على مقصود المالية، والإضراب عن رعاية حدود الشرع على قول من يمنع بيع الغائب.
والذي يحقق ذلك أن من أراد ابتياع ثوب بعينه ممّا في المسح، فإنه يراه عرفاً، ثم يشتريه.
فإن قيل: من اشترى جارية متنقبة، فهو بيع غائب، فإن أراد الخروج عن القولين، فكيف السبيل؟ قلنا: ينظر إلى وجهها، ويديها، ورجليها، وإلى ما يظهر من أطراف ساقها وساعدها، في الفِضْلَةِ (3) والمهنة، ويجوز أن نقول: ينبغي أن يرى ما ليس عورة من الجارية باتفاق، وهو المعروض منها في العرف.
وظهر اختلاف الأصحاب في أن رؤية الشعر هل هي من تمام عرضها، حتى إذا لم يُرَ، كان العقد بيعَ غائب.
ولم يتعرض الأصحاب لكشف الرأس، وهو محتمل عندنا، ويمكن أن يستفاد من ذكر الاختلاف في كشف الشعر الاختلافُ فيه.
فرع:
2876 - قال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: بيع اللحم في الجلد قبل السلخ باطلٌ، قولاً واحداً، سواءٌ بيع دون الجلد، أو مع الجلد.
وعندي أن تخريج بيعه مع الجلد على قولي بيع الغائب محتمل. وقال الشيخ: إذا سلخ الجلد، ثم رُدّ اللحم إليه فبيع، فهو على قولي بيع الغائب.
وبيع الرؤوس والأكارع، وعليها جلودها مشويةَ ونِيّة جائزٌ، قولاً واحداً. وذلك
__________
(1) الثياب التّوزيَّة: نسبة إلى مدينة (تُوْز) وزان فُعْل، مدينة من بلاد فارس، وعوامّ العجم تقول: تَوْز بفتح التاء (المصباح).
(2) "المسوح" جمع مِسْح، وهو ثوب غليظ من الشعر (المعجم) و (المصباح) فهل المعنى أن الثياب التوزية كانت تعرض للبيع ملفوفةً في "المسوح" أم أن "المسوح" علمٌ على نوع من الأغلفة كانت تُدرج فيها الثياب التوزية. كما هو المفهوم من السياق؟
(3) المراد بالفِضلة (بكسر الفاء) الثوب الواحد الذي يُبقيه المتفضل على جسده عند النوم والمهنة.

(5/14)


غالب في العرف، والجلودُ مأكولة عليها؛ فهي كاللحم. وأما السموط فقد قال الشيخ: يجوز بيعهُ مشوياً، ونِيّاً مهيأً للشي.
وأنا أقول: أما المشوي فكما قال، وفي النِّىّ احتمالٌ.
فرع:
2877 - من باع شيئاً والبائع لم يره، ففي صحة العقد قولان. والمراوزة يرتبون القولين في ذلك على القولين فيه إذا رأى البائع ولم ير المشتري، ويجعلون عدم رؤية البائع أولى باقتضاء الفساد. والعراقيون يرون عدم رؤية المشتري أولى باقتضاء الفساد، وما ذكروه أفقه؛ فإن المشتري متملكٌ، والضبط بالتملك أَلْيق، والبائع مزيل. والذي يحقق ذلك أن المشتري إذا اطلع على عيب فيما حسبه سليماً، فله الخيار، والبائع لو باع ما يحسبه معيباً، ثم استبان أنه سليم، فلا خيار له.
التفريع:
2878 - إذا صححنا بيعَ ما لم يره البائع، ففي ثبوت الخيار له وجهان: أحدهما - يثبت كالمشتري، والثاني - لا يثبت وهو الأصح؛ لأنه مزيل، والخيار عنه بعيد.
فرع:
2879 - كان شيخي يقول: هبة الغائب كشراء الغائب، ويحتمل أن تُرتَّب الهبةُ على الشراء؛ إذ الهبة بالصحة أولى؛ فإنها ليست عقدَ مغابنة، والرهنُ قريبٌ من الهبة.
***

(5/15)


بابُ خيار المتبايعين ما لم يتفرقا
2880 - خيار المجلس ثابتٌ عند الشافعي، والمعتمد الخبر الصحيح، ومعنى خيار المجلس أن يتخير المتعاقدان، في الفسخ والإجازة، بعد العقد ما لم يتفرقا.
ونحن نتكلم في معنى لفظةٍ في الحديث المعتمد، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار، ما لم يتفرقا إلا بيعَ الخيار" (1).
وقد اختلف أصحابنا في قوله: "إلا بيع الخيار"، منهم من قال: معناه يلزم البيعُ بالتفرق عن مجلس العقد إلا بيعاً يشرط فيه خيار ثلاثة أيام؛ فإنه يبقى جوازه ببقاء مدة الخيار، وإن انقطع خيارُ المجلس بالتفرق.
ومن أصحابنا من قال: معناه أنه يثبت خيار المجلس في كل بيع إلا بيعاً يشترط فيه المتعاقدان نفيَ خيار المجلس.
وهذا التأويل يستدعي تقديمَ بيان المذهب في ذلك، فنقول: اختلف الأئمة في البيع الذي يشترط فيه نفيُ خيار المجلس على ثلاثة أوجه: فمنهم من قال: الشرط فاسد لمخالفته مقتضى الشرع، ثم إذا فسد الشرط، فسد البيع. وهذا ليس بالمرضي.
__________
(1) الحديث متفق عليه، وهو من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وله عنه ثلاث طرق: الأول - عن نافع بلفظ: "البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار" وهكذا هو عند البخاري: 2/ 18، 19، كتاب البيوع، باب 44 البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، ح 2111، ومسلم: 5/ 9، كتاب البيوع: باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، ح 1531، وكذا مالك: 2/ 671/79، أبو داود: البيوع، باب في خيار المتبايعين، ح 3454، والنسائي: 2/ 213، البيوع، باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما، ح 4470، والطحاوي: 2/ 202، والبيهقي: 5/ 268، وأحمد: 2/ 73. (إرواء الغليل: 5/ 153 - 154) وراجع إن شئت باقي طرق الحديث وألفاظه في الموضع نفسه.

(5/16)


ومنهم من قال: الشرط صحيح، وينتفي الخيار، ويلزم العقد. وهذا القائل يحمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا، وقد روى الشافعي هذا التأويلَ عن مسلم بن خالد الزنجي (1)، فإن قيل: كيف يحمل قوله: "إلا بيع الخيار" على نفي الخيار، قلنا: المتعاقدان لو تخايرا في المجلس، وأَلزما العقدَ، لزم. فإذا شرطا قطعَ خيار المجلس، فكأنهما تعجلا التخايرَ والإلزامَ حالة العقد.
ومن أصحابنا من قال: الشرط فاسد، والعقد صحيح، ويثبت خيار المجلس.
وهذه الأوجه الثلاثة تقرب من الاختلاف في شرط نفي خيار الردّ بالعيب، على ما سيأتي. ولذلك لم نُغرق في التوجيه.
وإذا صححنا بيع الغائب، فشرط فيه نفي خيار الرؤية، ففيه الأوجه الثلاثة في خيار المجلس. وخيار الرؤية أبعد عن قبول النفي؛ فإن بيع الغائب مع نفي الخيار غرر ظاهر، ولا يتحقق ذلك في خيار المجلس.
فهذا تمهيدُ معتمدِ الباب. ثم نذكر بعد ذلك فصلين: أحدهما - ما يثبت فيه خيار المجلس من العقود، والثاني - في ذكر ما يقطع الخيارَ، أو يُنهيه.
[الفصل الأول
فيما يثبت فيه خيار المجلس] (2)
2881 - فأما ما يثبت فيه خيارُ المجلس، فقد قال الأئمة: إنه يثبت في كل بيع؛ فإن المعتمد فيه الخبر، وهو عام في كل بيع، فيندرجُ تحت ما ذكرناه: بيعُ العُروض، والصَّرف، والسَّلم، والمرابحة، والتَّوْلية والإشراك، كما سيأتي بيانها.
__________
(1) مسلم بن خالد بن فروة المخزومي أبو خالد الزنجي المكي الفقيه، روى عنه ابن وهب والشافعي وآخرون. توفي في خلافة هارون الرشيد سنة ثمانين ومائة بمكة. (ابن حجر، تهذيب التهذيب: 10/ 128).
(2) عنوان النص من عمل المحقق، أخذاً من تقسيم المؤلف نفسه.

(5/17)


وذكر شيخي وجهين في الولي الذي يتولى طرفي العقد، إذا باع مالَ الطِّفل من نفسه، أو باع ماله من طفله، فهل يثبت له خيار المجلس، فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإن المعوّل الخبر، وهو في المتبايعين، والولي قد تولى الطرفين.
والثاني - يثبت، وهو ظاهر المذهب؛ فإنه بيعٌ محقق، وغرض الشارع إثباتُ خيار المجلس في البيع، وخصص المتبايعين إجراء للكلام على الغالب المعتاد.
فإن قلنا: له الخيار، فيمتد امتدادَ مجلس العقد، ثم الوجه عندي إثباتُ الخيار من وجهين: أحدهما - للولي على الخصوص، والثاني - للطفل، والولي نائب عنه، فإن فسخ نفذ كيف فرض الأمر، وإن أجاز في حق نفسه ونظر في إجازته لطفله، لزم العقدُ، وإن أجاز في حق نفسه، بقي له النظر لطفله في الفسخ والإجازة.
فرع:
2882 - إذا اشترى الرجل من يَعتِق عليه، فالمذهب المشهور أنه لا يثبت فيه خيارُ المجلس؛ فإنه ليس عقد مغابنة، والحديث وإن لم يتقيد بالمغابنة، فهو مشعرٌ بعقد يفرض في مثله استدراك غبينة (1). وقال أبو بكر الأُودَني: يثبتُ خيارُ المجلس، وتمسك بظاهر الحديث، وبقوله صلى الله عليه وسلم "لن يَجزيَ ولدٌ والدَه إلا بأن يجدَه مملوكاً فيشتريه فيُعتقَه" (2)، قال: هذا ظاهر في إثبات إنشاء إعتاق بعد العقد، وعنده أن المشتري لو فسخ في المجلس، انفسخ، ولو أعتقه، أو ألزم العقد، كان كما لو اشترى عبداً لا يعتِق عليه. وستأتي تصرفات المتعاقدين في مكان الخيار وزمانه.
فإذا قلنا: لا خيار للمشتري، فلا خيار للبائع أيضا، وإن كان العقد من جانبه عقد مغابنةٍ. ولكن النظر إلى كون العقد عقد عَتاقة.
هذا قولنا في البيوع.
__________
(1) الغبينة: الخديعة: يقال: لحقته غبينة في تجارته. (معجم).
(2) الحديث: "لن يجزي ولدٌ والده إلا بان يجده مملوكاً ... " رواه مسلم عن أبي هريرة، كتاب العتق، باب فضل عتق الوالد، ح 1510.

(5/18)


2883 - فأما ما سواها، فالعقود الجائزة من الجانبين لا معنى لتخيّر (1) خيار المجلس فيها: فإن الجواز مطرد غيرُ مختص بمجلس. وأما العقد الجائز من أحد الجانبين كالرهن والكتابة، فلا وجه لتوهم خيار المجلس في المرتهن والمكاتب؛ فإنهما متخيران أبداً، ولا يثبت الخيار للراهن والسيد، قطع به الأئمة، وعللوا بأنهما مغبونان تحقيقاً، والخيار للاستدراك.
وهذا تكلف. والمعتمد الخبر وهو في البيع. والرهن والكتابة ليسا في معنى البيع، والقياس منحسمٌ.
وصلح المعاوضة بيعٌ في الحقيقة، ففيه الخيار.
ولا خيار في الهبة التي لا ثواب فيها، إذا اتصلت بالقبض. وإن كان فيها ثواب، فقد ذكر العراقيون وجهين في ثبوت خيار المجلس والشرط: أحدهما - يثبتان؛ [لأنها في معنى البيع، والثاني لا يثبتان] (2)؛ لأنها لا تسمى بيعاً؛ والمتبع التوقيف. وهذا الخلاف من طريق المعنى يقرب من تردّد الأصحاب في أن الهبة بالثواب هل تفتقر إلى القبض في إفادة الملك؟ وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
وأما الحوالة، ففي حقيقتها خلاف، فإن حكمنا بأنها ليست معاوضة، فلا خيار فيها، وإن حكمنا بأنها معاوضة، فقد قال العراقيون: لا يثبت فيها خيار الشرط، وفي خيار المجلس وجهان. وكان شيخي يثبت الخلاف في الخيارين، وهو الوجه إن لم يكن من الخيار بُدّ. والظاهر أنهما لا يثبتان؛ فإن الحوالة لا تسمى بيعاً، وليست في معناه، وهي بعيدةٌ عن قبول الفسخ.
وأما القسمة فمنقسمةٌ إلى قسمة إجبار، وقسمة اختيار. فإن كانت قسمةَ إجبارٍ، فلا خيار فيها، والمحكَم القرعةُ. وإن كانت قسمةَ اختيار، خرج أمرُ الخيار على حقيقة القسمة؛ فإن قلنا: ليست القسمة بيعاً، فلا خيار فيها، وإن قلنا: إنها بيع،
__________
(1) كذا في النسختين، فهل هي مصحفة عن (تخيل)؟ يرشح ذلك قوله في صورة الكتابة والرهن: "فلا وجه لتوهّم".
(2) زيادة من: (هـ 2).

(5/19)


فقد ذكر صاحب التقريب وجهين على هذا القول في ثبوت الخيارين: أحدهما - الثبوت، والثاني - وهو مختارُه، أنهما لا يثبتان؛ فإن القسمة لا تسمى بيعاً، وليست عقداً منشأً، وإنما لها حكم البيع في بعض القضايا.
وقد نجز الفصل الأول.
الفصل الثاني
فيما يقطع خيار المجلس أو ينهيه
2884 - فنقول: ما يقطع خيارَ المجلس ينقسم إلى قولٍ، وإلى ما ليس بقول.
فأما القول، فينقسم إلى المتعرض للخيار، وإلى تصرفٍ يتضمن فسخاً أو إجازة، فأما التصرف، فسنذكره عند نجاز القول في أصل خيار المجلس والشرط.
وأما القول المتعرض لنفس الخيار؛ فنقول: إذا قال المتعاقدان في المجلس: ألزمنا العقد، أو أجزناه، أو قطعنا الخيار، انقطع الخيارُ، ولزم العقدُ، وإن كانا في المجلس؛ فإن الخيار حقُّهما، فإذا أسقطاه، سقط، وكان كإسقاط حق الرّد بالعيب، عند الاطلاع، وليس ذلك كشرط نفي الخيار في العقد؛ فإنه منعٌ لثبوت موجَب العقد، فكان كشرط التبرِّي من العُيوب، من غير اطلاع عليها.
ولو قال أحد المتعاقدين: أجزتُ العقد، ولم يساعده الثاني، لم يبطل خيار صاحبه. وهل يبطل خياره في نفسه؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يبطل، كما لو ثبت لهما خيار الشرط، فأسقط أحدهما خيارَ نفسه. والثاني - لا يبطل خيارُه؛ فإن وضع خيار المجلس أن يثبت للمتعاقدين جميعاً، وإن انقطع، [انقطع] (1) عنهما، ولا وجه لإبطال خيار من لم يُبطل حق نفسه، فيبقى خيارُ المجيز أيضاً.
فإن قيل: هلا بطل خيارُ المجيز، وخيار من لم يجز، حتى تنزل إجازةُ المجيز منزلةَ ما لو فارق صاحبه؟ قلنا: المفارقة [تُنهي] (2) خيارَ المجلس بنص الخبر، وليس
__________
(1) مزيدة من: (هـ 2).
(2) مزيدة من: (هـ 2).

(5/20)


فيه تفويتٌ لحق واحدٍ منهما؛ فإنه إذا هم أحدهما بالمفارقة، تمكن الثاني (1) من مساوقته، واستمكن من مبادرة الفسخ.
قال شيخي: لو قالا: أبطلنا الخيار، أو قالا: أفسدناه، ففيه وجهان: أحدهما - لا يبطل الخيار؛ فإن الإبطال يُشعر بمناقضة الصحة، ومنافاة الشرع، وليس كالإجازة؛ فإنها تصرفٌ في الخيار، وهذا ضعيف جداً، ولكن رمز إليه شيخي، وذكره الصيدلاني.
2885 - فأما ما لا يكون قولاً، وهو رافعٌ للخيار، فالأصل في ذلك الافتراق، فإذا تفرق المتعاقدان، زال خيارُ المجلس، وإذا لزم أحدهما المجلس، ففارقه الثاني، انقطع الخيارُ؛ فإن هذا إذا جرى عُد افتراقاً، والشارع اعتبر الافتراق، وليس من شرطه، أن يأخذ أحدُهما جهةً، ويأخذ الآخر جهة أخرى، ولو تساوقَ المتبايعان، وزايلا مكان العقد، ولم يتفرقا، فالبيع جائز، والخيار قائم، وإن تماشيا أياماً منازل (2)، فالمعتمد في قطع الخيار افتراقُهما.
ثم الرجوع في الافتراق إلى العرف، فليس في ذلك توقيفٌ شرعي، ولا ضبط معنوي؛ فإن جمعهما بيتٌ مقتصدٌ، فالمفارقة بخروج أحدهما من البيت، وإن كانا في عَرْصةٍ ضاحية (3)، فإذا فارق أحدهما، ومشى خطوات، وبَعُد بُعداً، يُعدّ ذلك مفارقةً، انقطع خيارُ المجلس. ولو تبايعا قريبين من باب بيت، فتعدى أحدهما البابَ، وخرج، فالظاهر عندي أن ذلك مفارقة، وإن خطا خطوتين مثلاً. وإذا تبايعا في صدر بيتٍ مقتصد، فالمفارقةُ بالخروج من الباب.
هذا حكم الجريان على العرف.
ويخرج من ذلك أن البعد يختلف باختلاف المجالس، فإن جمعهما بيتٌ، فالتعويل على الخروج منه، وإن لم يجمعهما بيت، فيراعى فيه بُعدٌ يُعدّ فراقاً، ويمكن
__________
(1) عبارة (هـ 2): تمكن الآخر من المساوقة.
(2) منازل: جمع منزل. والمراد هنا مراحل الطريق التي ينزل المسافرون بعدها للراحة.
(3) عَرْصة الدار ساحتها. وهي البقعة الواسعة التي ليس فيها بناءٌ، والجمع عراصٌ وعرصات (معجم ومصباح). والمراد هنا أنهما تبايعا في بقعة خارج البلد.

(5/21)


أن يقال: وجه التقريب فيه -إذا لم يكن بيتٌ جامع- إن جلوس رجلين في مجلس واحد ليس يخفى، وذلك ينقسم إلى التقارب في الجلوس والتباعد، وقد يتدانى رجلان حتى يتماسَّا، وقد يبعد أحدهما عن الثاني بعضَ البعد، ولكن يُعدان في مجلس واحد.
فهذا ما ينبغي أن يراعى.
فنقول: إذا فارق أحدهما الثاني، وانتهى إلى موضع، لو استقر فيه، لم يُعدّ المكان مجلساً جامعاً، فهذا فراق، وإن كان أقرب من ذلك، فليس فراقاً.
ويمكن أن يقال: المجلس الواحد ما يتسير فيه التفاهم، مع الاقتصاد في الصوت، ويراعى في ذلك اعتدال الأحوال. فهذا أقصى الإمكان.
ويخرج عليه أن البيت إذا تفاحش اتساعه، وقد تبايعا في صدره، فيتحقق الفراق بأن يفارق أحدهما الثاني إلى بعض البيت؛ فإن مثل هذا البيت لا يبين أن يكون مجلساً واحداً لشخصين.
فإن قيل: العرف يختلف في اتحاد المجلس، وقرب الجلوس وبُعده، باختلاف الأقدار والمناصب، فالمتوسط لا يقرب من الملك قُربَه ممن هو في مثل حاله، قلنا: المجلس لا يختلف عندنا بذلك، والذي خيّله السائلُ مغالطةٌ؛ فإن منصب الملك يمنع أن يجتمع [معه] (1) متوسط في مجلس واحد، فهذا من باب امتناع اتحاد المجلس، وليس من تفاوت المجلس.
2886 - فإن قيل: لو وقف المتعاقدان متباعدين، وزادت المسافة بينهما على مقدار المجلس، وتناديا بالإيجاب والقبول، فهل ينعقد العقد؟ وإن انعقد فما حكم خيار المجلس؟ قلنا: الوجه القطع بصحة البيع، إذا اتصل الإيجاب بالقبول من جهة الزمان، هذا ما أثق به، نقلاً ومعنى.
فأما خيار المجلس ففيه احتمال ظاهر، يحتمل أن يقال: لا خيار؛ فإنهما أنشآ العقد على صورة التفرق، وهو قاطعٌ للخيار إذا طرأ على المجلس الجامع، فإذا قارَن العقدَ، منع ثبوتَه. ويجوز أن يقال: يثبت لكل واحد منهما الخيار. ثم إذا قدرنا
__________
(1) في الأصل: فيه.

(5/22)


ثبوتَه، اعترض احتمال آخر في أن أحدهما إذا فارق مكانَه، وبطل خيارُه، هل يبطل خيار صاحبه أم يبقى خيار صاحبه إلى أن يفارق هو أيضاً مكانه؟ فيكون خيار كل واحد منهما منقطعاً عن خيار الثاني. هذا فيه تردد.
فإن قيل: إذا تعاقدا والمجلس جامع، ثم صابرا حتى بُني بينهما جدار حائل، فهل يصيران في حكم المتفرقين؟ قلنا: إن بنى أحدُهما الجدارَ، فالظاهر أن هذا بمثابة مفارقته، وإن بنى غيرُهما، اتصل القول بأن أحد المتبايعين لو حُمل وأُخرج من المجلس، هل ينقطع الخيار؟ وفيه فصل يأتي إن شاء الله تعالى.
ومن لطيف القول في هذا الفصل، أن المتبايعين لو كانا بقربِ الباب، فخرج أحدهما، فهو مفارق، وإن قربت المسافة. ولو كانا في مكانٍ ضاحٍ، فلا بُد من اعتبار بُعدٍ، كما سبق بيانه، فلو كانا في مكان بارز كما ذكرنا، ففارق أحدهما بعد العقد وبَعُد على الحدّ المذكور، فانتصب (1 واتبعه الآخَر، لم ينفعه ذلك بعد وقوع الفراق. ولو كانا في بيتٍ قريبين من بابه، ففرّ أحدُهما وفارق العتبة 1)، فاتبعه الثاني على الفور، فالظاهر عندي في هذه الصورة أن البيع على جوازه؛ فإن مثل هذا لا يُعد تفرقاً في العرف.
فهذا مقدار غرضنا في البعد المُنهي للمجلس.
فصل
2887 - إذا مات أحد المتعاقدين في مجلس العقد، فالمنصوص للشافعي أنه لا ينقطع الخيار بموته، بل يقوم وارثه مقامه.
وقال في المكاتَب: إذا باع شيئاً أو اشتراه، ثم مات في مجلس العقد، وجب العقد، فأشعر قولُه "وجب" بانقطاع الخيار.
واختلف الأئمة: فمنهم من قال: في انقطاع خيار المجلس بالموت قولان، سواء فُرض العاقد مكاتَباً أو حُرّاً.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2).

(5/23)


توجيه القولين: من قال بالانقطاع تمسك بأن خيار المجلس يقطعه التفرق؛ من حيث إن المفارق بفراقه يخرج عن مجلس التخاطب، ومفارقة الدنيا بالموت أبلغ في هذا المعنى، والميت في حكم التصرفات كالمعدوم، فكأنه عُدم عن مجلس العقد.
والقول الثاني - أنه لا ينقطع الخيار؛ فإنه حقٌ ثابت قاطِعُه في الحديث التفرّق، وهذا ليس تفرقاً إطلاقاً، فالوجه إبقاء الخيار حقا لوارثه.
ومن أصحابنا من قطع ببقاء الخيار، وقال: أراد الشافعي بقوله: وجب البيع، أي استمرت صحته، ولم يبطل، وقد يَظن ظانٌّ أن البيع ينقطع بموت المكاتب رقيقاً.
ومن أئمتنا من حاول الفرق، وتقرير النصين، وقال: إن كان العاقد مكاتباً، انقطع الخيار بموته، بخلاف ما لو مات من يورَث؛ لأن الوارث ينوب مناب المورث، وكأنه هو، فإذا خلفه كان بمثابة الميت، والسيد ليس في حكم النائب عن مكاتبه، فإذا انقلب إلى الرق، بَعُد أن يقال: ينوب السيد عن مكاتبه، ويخلُفه.
وهذا ليس بشيء؛ فإن المكاتب إذا رَقَّ، قام السيد مقامه في الحقوق، التي ثبتت له، والخيار من الحقوق التابعة للملك والعقد، فإذا انقلب العقد بحقوقه إلى السيد، فالخيار من حقوقه.
والطريقة المشهورة طرد القولين.
التفريع:
2888 - إن حكمنا بانقطاع الخيار بموت أحدهما، فقد لزم العقد من الجانبين، وإن قلنا: لا ينقطع خيار المجلس بموت أحد المتعاقدين، فإن كان الوارث في مجلس العقد حل محل الميت، وكأنه لم يمت، فيتعلق بالوارث من المفارقة والبقاء في المجلس ما كان يتعلق بالعاقد لو بقي، وإن كان الوارث غائباً، فبلغه الخبر، ثبت الخيار. ثم ذلك الخيار يثبت على الفور، أو يمتد امتداد مجلس بلوغ الخبر، فعلى وجهين ذكرهما الإمام، وصاحب التقريب: أحدهما - أنه على الفور؛ فإن المجلس قد انقضى، ولكنّا رأينا ألاّ نعطلَ حقا ثبت للمورث، فأثبتنا أصله للوارث، وعسر اعتبار المجلس؛ فاقتضى ذلك الفور.

(5/24)


والوجه الثاني - أنه يمتد؛ فإن الخيار الذي ثبت للمورث كان ممتداً، فليثبت للوارث على الامتداد، والوجهان كالوجهين فيه إذا مات أحد المتعاقدين في زمان الخيار، فخيار الشرط موروث، فإن كان الوارث غائباً، فلم يبلغه الخبر حتى انقضى الزمان المضروب للخيار، فكيف يثبت الخيار لذلك الوارث؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه يثبت على الفور؛ فإن الزمان المذكور قد انقضى، والثاني - أنا نثبت للوارث الخيارَ في مثل المدة التي كانت بقيت، لما مات من له الخيار.
ونتمم تفريع ذلك في خيار الشرط ثم نعود إلى خيار المجلس، فنقول: إذا مات من تولى العقد، فقد انقضى من زمان الخيار يومٌ، وقد بقي يومان، فبلغ الوارثَ الخبرُ، وقد بقي من مدة الخيار يوم، فلا خلاف أن خيار الوارث يدوم في هذا اليوم؛ فإنه من بقية الزمان المذكور، وهل ينقطع خياره بانقضاء اليوم الأخير؟ أم يثبت له مع ذلك اليوم الخيارُ في يوم آخر؟ حتى يكمل له -بعد بلوغ الخبر- من الخيار ما كان باقياً لمَّا مات المورِّث؟ على وجهين. ومأخذهما ما قدمناه.
2889 - عاد بنا الكلام إلى خيار المجلس، فنقول: انقطاع المجلس بالموت كانقضاء زمان الخيار قبل انتهاء الخبر إلى الوارث، وتقدير مجلسٍ بمثابة ضرب مدةٍ للوارث، وقد انقضت المدة المذكورة قبل الخبر، والفور كالفور.
2890 - ومما نذكره في ذلك أنه إذا مات أحد المتعاقدين ووارثه غائب، فبلغه الخبر، والعاقد الباقي سبقه (1) إلى ذلك المجلس، فلا خلاف أنه يثبت له مع ذلك الوارث الخيارُ؛ فإن موت من مات إذا لم يقطع الخيارَ عن وارثه، فلا يتضمن قطع الخيار عن العاقد الباقي. ولكن اختلف أئمتنا في أنه هل يدوم خيارُ الباقي من المتعاقدين إلى أن يبلغ الخبرُ الوارثَ؟ أم يقضى بان الخيار يزول في حقه، حتى يثبت للوارث، ثم يعود إذ ذاك خيارُه؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يدوم خيارُه؛ إذ سبب استئخار خيارِ الوارث عدم بلوغ الخبر إليه، ولو كان الوارث عالماً، لتخيَّرَ، والباقي من المتعاقدين عالم بحقيقة الحال.
__________
(1) في (هـ 2): "سبق".

(5/25)


والوجه الثاني - أنه لا يثبت له الخيار، قبل بلوغ الخبر إلى الوارث؛ فإنه لو تخير، لكان منفرداً في التصرف في خيار المجلس، في وقتٍ لا ينفذ فيه تصرف صاحبه.
2891 - وتحقيق ذلك يستدعي مزيداً؛ فنقول: من مات أبوه في غيبةٍ وهو لم يشعر بموته، فتصرف في ماله، على ظن أنه يتصرف ظالماً في مال أبيه، ثم بان أنه كان مات أبوه، وأنه تصرف في ملك نفسه، ففي نفوذ تصرفه اختلاف قولٍ، سيأتي إن شاء الله تعالى. فإن لم ننفذ تصرفَه في الصورة التي ذكرناها، فالوارث لو فُرض منه فسخٌ، أو إجازة قبل أن يبلغه الخبر، لم ينفذ.
وإن نفّذنا التصرفَ في الصورة المتقدمة، فالوجه أن يقال: إجازته لا تنفذ، وفسخه ينفذ، بناء على القاعدة التي نبهنا عليها في وقف العقود، أما ردُّ الإجازة، فالسبب فيه أن الإجازة رضا، وإنما يتحقق الرضا مع القطع وتصميم العقد، فأما ما كان على تردد، فلا يتأتى منه قطع الإجازة، وقد قدّمنا في تفريع خيار الرؤية أن إجازة المشتري لا تنفذ قبل رؤية المبيع، وفي تنفيذ فسخه كلام، وفيما ذكرتُه من الإجازة في المسألتين احتمال ظاهر.
فإن قيل: إذا قلنا: لا يثبت للعاقد الباقي الخيارُ قبل بلوغ الخبر إلى الوارث، تعليلاً بأنه لا ينفرد بالتصرف عاقدٌ في خيار المجلس، فلو بلغ الخبرُ الوارثَ، والعاقدُ لم يكن مع الوارث في ذلك المجلس، ولم يكن على علم من بلوغ الخبر إلى الوارث، فلا يثبت لهذا العاقد الخيارُ، إذا لم ينفذ التصرف على وقفٍ كما مضى. وإذا كان كذلك، فالوارث لو تخير، لكان منفرداً في تخيره.
ومنشأ ما نُفرعُ عليه منعُ التفرد بالخيار، فلو جَرَينا على حَقِّ هذا القياس، لقلنا: لا يثبت للوارث الخيار إلا إذا كان العاقد عالماً مع علمه. قلنا: هذا مُشكل، ولكن قطع الأئمة أنه يثبت له الخيار كما (1) بلغه الخبر، سواء اقترن ببلوغ الخبر علمُ العاقد الباقي، أو لم يقترن، وعللوا بأن شرط اقتران علمه يعطل خيار الوارث، ويُعسِّر الأمرَ. هذا منتهى الإمكان.
__________
(1) "كما" بمعنى عندما.

(5/26)


ثم إذا ثبت الخيار للوارث؛ فإن فسخ، نفذ، وإن أجاز، فحق العاقد الباقي في الفسخ هل يبقى؟ الوجه أن يقال: إن أثبتنا الخيار للوارث على الفور، وقلنا: لا يمتد امتداد المجلس، فإذا بطل الخيار بالتأخير، أو بالإجازة، انقطع خيارُ العاقد الباقي.
وإن قلنا: امتد خياره امتداد مجلس بلوغ الخبر، فإن أجاز وهو في مجلسه بعْدُ لم يفارقه، فبلغ الخبرُ العاقدَ الحى والمجلس مستمر بَعْدُ، يثبت له حق الفسخ. وإن فارق الوارثُ مجلسَ بلوغ الخبر، فقد انقطع خياره، فينقطع الآن خيار العاقد الباقي، ونجعل مفارقة الوارث لذلك المجلس، بمثابة مفارقة أحد المتعاقدين.
فإن قيل: إذا مات أحدُ المتعاقدين، وحكمنا بأن الخيار يثبت لوارثه، وكان غائباً، فقد بطل أثر هذا المجلس، فلو فارقه العاقد الباقي هل يتعلق بمفارقته حكمٌ؟ قلنا: لا يتعلق بمفارقته حكمٌ، والسبب فيه أن القاطع لخيار المجلس مفارقةُ أحد المتعاقدين الثاني، وإذا مات أحد المتعاقدين، فلا أثر لمفارقته، ولا يتعلق به في أمر المجلس حكمٌ، ووجوده وعدمه بمثابة.
فصل
2892 - مذهب الشافعي أن خيارَ الشرط موروث، فإذا شُرط للمتعاقدين، فمات أحدهما في مدة الخيار، قام وارثه مقامه، كما قدمنا التفصيل في انقضاء المدة قبل بلوغ الخبر، وانقضاء بعضها. قال صاحب التقريب: إذا حكمنا بأن خيار المجلس لا يورث، فقد خرَّج عليه بعضُ أئمتنا قولاً أن خيار الشرط لا يورث، [فإنه] (1) كما اختص المجلس بالعاقد، ولم يوجد منه فراق محسوس، فكذلك الشرط [يختص] (2) بالعاقد. وهذا بعيدٌ جداً، لم أره لغيره.
__________
(1) في الأصل: "وإنما".
(2) في الأصل: "مختص".

(5/27)


فصل
2893 - إذا ثبت خيارُ المجلس بين المتعاقدَيْن، فأُخرج أحدُهما من المجلس محمولاً مكرهاً، فلا يخلو: إما أن يُسدَّ فُوه في حال النقل، حتى لا يتمكن من الفسخ، أو ينقل من غير ذلك، فإن حُمل مُكرهاً مسدودَ الفم، وأُخرج من المجلس، ففي انقطاع خيار المجلس وجهان في الطرق، يقربان من القول في الانقطاع بموت أحد المتعاقدين، والأقرب في الإخراج بقاء الخيار؛ فإنَّ من له حق الخيار باقٍ، وإبطال حقه اللازم قهراً مع بقائه بعيدٌ، فهذا فيه إذا أخرج مسدود الفم. فأما إذا حُمل مفتوح الفم، وكان متمكناً من الفسخ، ففيه طريقان: من أصحابنا من قطع بانقطاع الخيار، وهو اختيار الصيدلاني، فإنه كان متمكناً من التصرف، فلا يتحقق الإكراه.
وذكر بعضُ أصحابنا وجهين في هذه الصورة، وأشار إليهما العراقيون، ووجه ذلك أنه كان مكرهاً في الإخراج، وهو سبب المفارقة، فقد جرى السبب القاطع للمجلس على كُره، فلا ننظر إلى تمكنه من الفسخ، وهذا يضاهي تركَ المجروح مداواةَ الجرح، مع القدرة عليها، حتى تَزهقَ روحُه (1)، وقد يكون المخرَج مبهوتاً في تلك الحالة، أو تكون عليه بقية من التروِّي، ففي إرهاقه وهو في تروّيه إكراه في مقصود الخيار.
فإن قلنا: يبطل خيار المكرَه المُخرج، فيبطل خيار الباقي في المجلس؛ فإنا نجعل هذا الإخراج في قطع المجلس بمثابة الخروج على سبيل الاختيار، ولو خرج مختاراً، لانقطع خيارهما جميعاً.
فأما إذا قلنا: لا يبطل خيار المخرَج كُرهاً، نُظر في الباقي، فإن ضُبطَ (2) حتى لا يساوق هذا المخرَج، فلا يبطل خيارُه؛ [إذْ] (3) تحقق الإكراه في حقه، كما
__________
(1) فترْكُ مداواة الجرح لا يمنع من تحميل الجاني الجناية على النفس، بعد أن كانت جُرحاً وجناية على الطرف.
(2) ضبط: المراد ألزم المجلس مرغماً حتى لا يرافق المكره على الخروج.
(3) في الأصل: إذا. وما أثبتناه من: (هـ 2).

(5/28)


تحقق في حق [المخرج] (1)، وإن كان مطلقاً، وكان يمكنه أن يساوقه حتى لا يتحقق الافتراق، فتقاعد ولم يساوقه، فذلك منه بمثابة إجازة العقد مع دوام المجلس.
وقد ذكرنا أن أحد المتعاقدين إذا أبطل خيار نفسه وحكمنا ببقاء خيار صاحبه، فهل يبطل خيار من أبطل خيار نفسه؟ فعلى وجهين: والمذهب البطلان.
ثم تمام التفريع في ذلك أنا إذا أثبتنا لهما الخيار، وقد جرى التفرق، فمهما (2) تمكن المخرجُ من التصرف وهو في المجلس، فالقولُ فيه كالقول في الوارث إذا بلغه الخبر، وأثبتنا له الخيارَ، وقد سبق القول في الفور والامتداد إذا زايله الإكراه وهو مارٌّ، غيرُ قار في موضع، فإن كنا نرى الخيار على الفور لو كان في مجلس، فالخيار على الفور، عند تحقق التمكن، وزوال الإكراه، وإن قلنا: يمتد الخيار امتداد المجلس، فإذا كان ماراً غيرَ لابثٍ، فالذي أراه أنه إذا فارق في مروره مكان التمكن، انقطع خياره؛ إذ لا ينضبط لمروره منتهى، فكان مكان التمكن مجلساً، وقد فارقه.
2894 - فإن قيل: إذا خرج عن مجلس العقد مكرهاً، وحكمنا بأنه لا يبطل خياره وبسبب هذه المفارقة، فإذا زايله الإكراه وتمكن من الانقلاب على المجلس والاجتماع بمُعَاقِده، فهل عليه ذلك إن أراد بقاء الخيار؟ قلنا: الوجه عندنا أنه إن طال الزمان، فقد انقطع ذلك المجلس حسّاً، فلا معنى للعود. وإن قرب، ولم يطل الفصل، ففي المسألة احتمال في تكليفه العودَ إلى الاجتماع بمُعاقده، من حيث إنه في استدامة الكَوْن على صورة المفارقة في حكم المؤْثر للفراق. والعلم عند الله تعالى.
فرع:
2895 - إذا جُنَّ من له الخيار في مكان الخيار وزمانِ الخيار، لم ينقطع خيارُه وفاقاً، وقام من يقوم عليه في أموره مقامه في أمر الخيار، وليس الجنون في معنى الموت؛ فإن الموت فراقٌ كما قدمناه.
فلو فارق المجنون مجلسَ العقد، فهذا فيه احتمال يلاحِظ إخراج أحد المتعاقدين عن مجلس العقد كُرهاً. ويجوز أن يقال: لا ينقطع بمفارقة المجنون؛ فإن التصرف
__________
(1) في الأصل: المكره. وما أثبتناه من: (هـ 2).
(2) "فمهما": بمعنى: فإذا.

(5/29)


في الخيار، انقلب إلى الولي القوَّام عليه، ويعارض ما ذكرنا أنه لو كان كذلك، لكان الجنون كالموت، وكان المجنون كالمعدوم، حتى تخرج المسألة على قولين في بطلان الخيار، وليس الأمر كذلك، ولا شك أن من نسي العقدَ، وفارق المجلس، ثم تذكره، فينقطع خيارُه، ولو أكره على المفارقة حتى تعدى بنفسه المجلسَ، فيظهر تنزيل هذا منزلة ما لو حُمل وأُخرج.
ولا وجه لتقريب ما نحن فيه من أحكام الحِنث في اليمين، وقد ذكرنا قولين في أن الناسي هل يحنَث في يمينه؟ فالذي نحن فيه لا يُتلقى من ذلك الأصل؛ فإن المعتبر في نفي الحِنْث، في حق الناسي على قولٍ = أن الحالف جعل اليمين وازعةً إياه مما حلف عليه، وهذا يُشعر بتخصيصه عقد اليمين بحالة الذكر؛ فإنّ اليمين المنسية لا تَزَعُ.
والأصل الذي نحن فيه ليس من ذلك، والناسي إذا فارق مجلس العقد في حكم مضيّعٍ حقَّ نفسه بالنسيان.
وأما إذا كان مكرهاً، فقد نقول: لا يبطل حقه اللازم بما هو مكره فيه، وذلك واضح لمن أَلِفَ مسالك الفقه.
فصل
2896 - خيار الشرط ثابت في نص السنَّة، وهو متفق عليه، ومذهب الشافعي أنه لا يُزاد على ثلاثة أيام، والمتبع في ذلك التوقيفُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث حَبّانَ بنِ مُنقذ، أنه قال فيما رواه نافع، عن ابن عمرَ، قال: "كان حَبانُ بنُ مُنقذ رجلاً ضعيفاً، وكان قد سُفع في رأسه مأموماً (1)، فجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار فيما اشترى ثلاثاً، وقال له: بع وقل لا خِلابة" (2) وكان
__________
(1) سفع في رأسه مأموماً: أي أصيب إصابة بالغة بأم رأسه، أي أصابت دماغه.
(2) حديث حبان بن منقذ: متفق عليه من حديث ابن عمر: البخاري: كتاب البيوع، باب ما يكره من الخداع في البيع، ح2117، 2407، 2414، 6964، ومسلم: البيوع، باب من يخدع في البيع، ح 1533، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 49 ح 1187، وليس عند الشيخين، ولا أصحاب السنن تسمية حبان بن منقذ، وأنه المخاطب بالحديث. ولكنه عند الشافعي، =

(5/30)


ثقل لسانُه لمكان الشجَّة، وكان يقول: لا خذابة، لا خذابة.
والخيارُ مخالفٌ لوضع البيع، في منع نقل الملك، أو في منع لزومه، فثبوتُ الخيارِ حائدٌ عن الموضوع، فيتعين التوقيف فيه، فليس في إثباته غيرُ الاتباع، وقد ورد الخبرُ في إثبات الثلاث (1)، فلا مزيد عليها، فإذا تشارط المتبايعان الخيارَ ثلاثة أيام، ثبت. وإن شرطاه أقل من ذلك، ثبت المشروطُ بلا مزيدٍ، ولا سبيل إلى الزيادة على الثلاث، ولا يختلف ذلك باختلاف صفات المعقود عليه.
2897 - ثم أول ما نذكره تفصيلُ القول فيما يثبت فيه خيار الشرط من العقود، فنقول: خيار المجلس يعم كلَّ بيع، كما تقدم. وخيار الشرط لا يثبت من البيوع في الصرف والسلم. والسبب فيه أن الصرف لا يقبل الأجل، والخيارُ أحق بأن يكون غرراً من الأجل، وهو في التحقيق تأجيلُ نقل الملك، أو تأجيلُ لزومه، والسلم وإن قيل: التأجيل في جهة المسلَم فيه، فلا يتصور ذلك في رأس المال؛ إذْ إقباضُه في المجلس شرط العقد، فكان في ذلك كالصرف من الجانبين، والخيارُ لو قُدر ثبوته، لتضمن جوازَ العقد في عِوَضيْه؛ إذ لا يتصوّر بيعٌ جائزٌ في أحد العوضين.
فرع:
2898 - إذا ثبت أن خيار المجلس يثبت في الصرف والسلم، فأثر ثبوته أن مَن فسخ العقد من المتعاقدين، انفسخ، وإن كان ذلك بعد جريان التقابض حِساً، ولو
__________
= وأحمد، وابن خزيمة وابن الجارود، والحاكم، والدارقطني. ذكر هذا ابن حجر في الإصابة في ترجمة حبان.
وقيل: إن صاحب القصة هو منقذ والد حَبانَ، وليس حَبان، وذكر ذلك البخاري في تاريخه، وابن ماجه، وحكاه النووي في المجموع، والتهذيب، وذكر الحافظ في التلخيص أن النووي قال: إنه الصحيح.
(1) في هامش الأصل: ما نصه: "في هداية الحنفية أن ابن عمر أجاز الخيار إلى شهرين". والذي أشار إليه هامش نسخة الأصل، تجده في الهداية: 3/ 27 منسوباً إلى أبي يوسف ومحمد، ونص عبارتها: "ولا يجوز الخيار أكثر من ثلاثة أيام عند أبي حنيفة وهو قول زُفر والشافعي، وقالا: (أي أبو يوسف ومحمد) يجوز إذا سمّى مدة معلومة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أجاز الخيار إلى شهرين" ا. هـ. بنصه.

(5/31)


أجازا العقدَ، نُظر: فإن أجازا بعد التقابضِ، لزم العقدُ، وامتنع فسخه، وإن أجازا العقدَ قبل جريان القبض، ففي المسألة وجهان، ذكرهما شيخي، وصاحب التقريب: أحدهما - أن الإجازة لاغية؛ فإن القبضَ يتعلق بالمجلس، وهو بعدُ باقٍ، فحكم المجلس في الخيار باقي. والوجه الثاني - أن خيار المجلس ينقطع.
ثم الذي أثق به في التفريع، أنا إذا قطعنا باللزوم، تعيّن على المتعاقدين التقابضُ، فإن تفرقا قبل التقابض، انفسخ العقدُ بعد اللزوم، ولم نُعَصِّهما إذا كان تفرقهما عن تراضٍ، وإن فارق أحدُهما الثانيَ منفرداً قبل القبض، انفسخ العقد، ولكنه عصى بانفراده بما تضمن فسخَ العقد، وإسقاطَ المستحق عليه من العوض.
فرع:
2899 - الإجارة هل يثبت فيها خيارُ المجلس والشرط؟ الطريقة المرضية فيها، أن خيار الشرط لا يثبت فيها؛ لأنه يتضمن تعطيل المنافع، ونحن منعنا إثبات خيار الشرط في الصرف؛ من حيث إن الصرفَ يقتضي تعجيلَ الإقباض، والخيار يؤخر التصرّفَ، وهو نقيض موضوع الصرف. فإذا فسد شرطُ الخيار في الصَّرف بتأخير مقصوده، فالخيار الذي يعطل المنافع بذلك أولى، وهل يثبت فيها خيارُ المجلس؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإن المعتمد فيه الخبر، وهو مختص بالمتبايعين، والإجارة لا تسمى بيعاً.
والوجه الثاني - أن خيار المجلس يثبت؛ فإنا فهمنا من إثبات خيار المجلس غرضَ تدارك الغبن إن كان، والإجارة في هذا المعنى كالبيع، وقد قال الشافعي: الإجارات صنفٌ من البيوع، فهو في التحقيق بيعُ المنافع. ثم المجلس في غالب الأمر لا يمتد، فإن مضى شيء من الزمان، وتعطل فيه مقدار نزر من المنفعة، فهو مما لا يبالَى به، وإن طال المجلس على ندور، فالنادر لا يغير وضعَ الشيء.
وذكر الإمام وبعض أصحاب القفال الخلافَ في خيار الشرط أيضاً. وحاصل الطريقة ثلاثةُ أوجه في الخيارين: أحدها - يثبتان، [والثاني - لا يثبتان] (1)، والثالث -
__________
(1) زيادة من (هـ 2).

(5/32)


يثبت خيارُ المجلس، ولا يثبت خيار الشرط.
والمرتضى الطريقةُ الأولى، فإن قلنا: لا يثبت الخياران جميعاً، وهو الأصح، فلا كلام.
وإن قلنا: يثبت الخياران، أو أحدُهُما، فالوجه عندي القطعُ بأن ابتداء المدة المضروبة في الإجارة تُحتسب من وقت العقد؛ فإن المصيرَ إلى أن المدة يحتسب ابتداؤها من انقضاء الخيار، يتضمن استئخار مدة الإجارة عن العقد، وهذا ينافي مذهب الشافعي؛ فإنه لا يرى إجارةَ الدار للسنةِ القابلة. والمصيرُ إلى أن ابتداء المدة من وقت تصرُّمِ الخيار تصريحٌ باستئخار موجَب العقد [عن العقد] (1) وإجارة الدار للسنة القابلة عند الشافعي بمثابة تعليق العقد على مجيء الزمان المرتقب، وهذا لا مساغ له.
فإن قيل: إذا احتسبنا المدة من ابتداء العقد، فتتعطل المنافع على المستأجر، أو
على المكري؟ قلنا: لا بد من التزام ذلك إذا قلنا بإثبات الخيار.
ومن فساد التفريع نتبين فساد الأصل.
ثم نقول: لو قُلنا: ابتداءُ المدّة من انقضاء الخيار، فالمنافعُ في مدة الخيار تتعطل على المكري، فلا بد من تعطيل كيف فرض الأمرُ.
فلو قالَ قائل: ينبغي أن تُجوّزوا للمُكري الانتفاعَ إذا صرنا إلى [أن] (2) ابتداء المُدَّة يُحسَبُ من انقضاء الخيار. قلنا: هذا الآن ينتهي إلى القُرب من خرق الإجماع. ومن أكرى داراً سنة مطلقاً، ثم أكراها من غير المكتري ثلاثة أيام، فلا مُجيز لذلك، فيما أظنُّ. وقال شيخي: من أئمتنا من يحتسب ابتداء مدة الإجارة من وقت انقضاء الخيار، وهذا يمكن توجيهُه على بُعده. ولهذا القائل أن يقول: إنما يمتنع استئخار حُكم الإجارةِ عن العقد، إذا لزم العقد. وهذا كما أنه يلزم ملك المشتري إذا لزم العقد، ويتأخر ملكُه، أو لزومُ ملكه إذا اشتمل العقد على الخيار. فإن صح هذا
__________
(1) زيادة من (هـ 2).
(2) مزيدة من: (هـ 2).

(5/33)


الوجه، فالقياس يقتضي جوازَ إجارة الدار للمكري في مدة الخيار، وأراه بعيداً.
التفريع:
2900 - إن احتسبنا المدةَ من العقد، فالمنافع الفائتة في زمان الخيار يُنظرُ فيها، فإن هي فاتت في يد المكري، فهي من ضمانه، وإن كانت الدارُ في يد المكتري، ففوات المنافع في يده بمثابة تلف جزءٍ من المبيع في زمان الخيار في يد المشتري. وسنعقد في ذلكَ فصلاً.
وإن فرَّعنا على أن العقد يحتسب ابتداءُ مدته من انقضاءِ الخيار، فلا خفاءَ بما نحاولهُ. وإنما الذي يغمض فيه أن المكرِي لو أراد أن يُكري الدار في مدَّة الخيار، فهل له ذلك؟
وكل ما ذكرناه في إجارةٍ تورد على عين، فأما الإجارة الواردة على المدة، فقد قال الشيخ أبو علي: من يجعلها كالسَّلَم، ففيها خيار المجلس، ولا يثبت فيها خيار الشرط، ومن أئمتنا من يجعلُها كالسلم (1)، فيثبتُ عنده فيها الخياران، بخلاف الإجارة الواردةِ على الحين، وذلك لأن المعتمد في نفي الخيار في الإجارة الواردة على العين ما قدمناه من تعطّل المنافع، وهذا المعنى لا يتحقق في الإجارة الواردة على الذمَّة، وفيه احتمالٌ عندي؛ لأن هذا لا يسمى بيعاً، والمعتمدُ في الخيارين الخبر، وهو في البيع.
فرع:
2901 - في المسابقة قولان: أحدهما - أنها جائزة، فلا معنى لتقدير الخيار على ذلك، والثاني - أنها لازمة، قال الأئمة: إذا حكمنا بلزومها، فهي في الخيارين بمثابَةِ الإجارة، والمسابقة عندي أبعد من الخيار، لأنها لا تعدُّ من عقود المغابنات، فازدادت بُعداً من البيع الذي هو مورد الخبر.
__________
(1) كذا في الأصل، وفي: (هـ 2). ولعلّ الصواب: البيع؛ فهو الذي يثبت فيه الخياران جميعاً باتفاق، وليس السَّلَم كذلك.

(5/34)


فصل
يحوي حقائق في جمع الخيارين وفي ثبوت أحدهما دون الثاني
2902 - فنقول: خيار المجلس يثبت في كل بيعٍ، وخيار الشرط لا يثبت في الصَّرف والسَلَم، ويثبت في غيرهما من البيوع. والوجه نفي الخيارين في الإجارة، ولا يتَّجه إثبات خيار الشرط في الإجارة؛ فيخرج من ذلك أن خيار الشرط أولى بالانتفاء في الإجارة؛ لأنه يتضمن التعطيلَ لا محالة، وخيار المجلس في الغالب لا يدوم.
وإذا قُلنا: القسمةُ بيع، وكانت قسمةَ اختيار، فقد ذكرتُ التردد فيها. والوجه أن يقال: هذا التردد في خيار المجلس؛ فإن خيار الشرط معتمدُه اللفظ، ويبعُد ثبوتُه لفظاً في القسمة، وهي لا تعتمد لفظاً.
ومن هذا الجنس أخذُ الشفيع الشقص المشفوعَ، فإذا أخذهُ ملكه بعوضٍ يبذله، وهو في حكم بيعٍ، ففي ثبوت الخيار للشفيع وجهان؛ فإنهُ ابتياع حكماً، ثم هذا إنما يجري في خيار المجلس، فأما خيار الشرط، فلا يثبت؛ فإن الخيار الذي يُثبته اللفظ يليق بعقدٍ يعتمد الإيجابَ والقبول.
ثم في خيار المجلس للشفيع غموضٌ أيضاً، من حيث إنه يستحيل ثبوتُهُ للمشتري؛ إذ هو مقهور، وثبوت الخيار حكماً في أحد الجانبين بعيدٌ. ثم إذا أثبتنا الخيار للشفيع، فليس المعني به ثبوتَ الخِيرة في الأخذ والترك، مادام في المجلس، تفريعاً على قول الفور. وقد غلط بذلك بعضُ الأصحاب. والصحيحُ عندنا أنه يأخذ على الفور، ثم له الخيار في نقض الملك وردّه.
وأما الحوالة فقد ذكرنا ترتيبَ المذهب في الخيار فيها، فإن قُلنا بثبوت الخيار، فقد قال العراقيون: لا يثبت خيارُ الشرط، وليس يتجه عندي فرق بين الخيارين في الحوالة؛ فإن المعتمد في الحوالة اللفظُ، فلا يبعد شرط الخيار معهُ.
فرع:
2903 - ذكر الأئمة أن الصداقَ لا يثبت فيه الخياران جميعاً، وقد ذكر

(5/35)


صاحب التقريب وغيرُه وجهاً آخر في إثبات الخيار في الصداق وحده، وإن كان لا يثبت في النكاح، كما يجري الرد في الصداق والنكاحُ بحاله. وهذا منقاسٌ، وقد ذكر الصيدلاني في كتاب الصداق قولين منصوصين في ثبوت الخيار في الصداق، ثم من أثبت الخيار في الصداق، لم يفصل بين خيار المجلس، وخيار الشرط. وخيارُ الشرط أليق بالصداق عندي من خيار المجلس، من حيث إنه يعتمد اللفظ، ويقبل التخصيص، فيجوز أن يشترط مختصّاً بالصداق. وخيار المجلس يبعُد ثبوتُه في الصداق؛ فإن وضعَه يتضمن التعَلُّقَ بالجانبين، فإذا امتنع ثبوتُه من جانبٍ، بَعُد ثبوته من الجانب الثاني.
فصل
2904 - إذا شرطنا في البيع خيارَ ثلاثة أيام، وثبتَ فيه خيار المجلس شرعاً، فقد رَتَّبَ الشيخُ في شرح الفروع ترتيباً وافقَ في معظمه ترتيبَ صاحب التقريب، فمما اشتهر فيه خلاف الأصحاب أن البيع إذا شُرط فيه خيار ثلاثة أيام مطلقاً، وثبت فيه خيار المجلس لا محالة، فخيار الشرط من أي وقت يحتسب؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يحتسبُ من وقت العقد، ولا يبعُد ثبوتُ الخيارين في وقتٍ واحدٍ، ومطلقُ الشرط يتضمنُ اتصال المشروط بالعقد.
والوجه الثاني - أنه يثبت ابتداءُ مدة الخيار المشروط من وقت التفرق، وهذا القائل يعلل ما قاله بوجهين: أحدهما - أن الشرط المطلق يتضمن إثبات الخيار في زمان لولا الشرط، لم يثبت جواز العقد، فإذا كان خيار المجلس ثابتاً شرعاً، وجَرَى شرط الخيار، أشعر ذلك بتخصيص الخيار المشروط بما بعد المجلس. والوجه الثاني - أن إثبات خيارين متماثلين، في وقتٍ واحدٍ لاغٍ، لا معنى له، وكل شرط لم يتضمن فائدة لغا، فسقط أثر الخيار.
ثم قال الشيخ وصاحب التقريب: هذا فيه إذا كان شَرْطُ الخيار مطلقاًً، فأما إذا صرحنا بإثبات خيار الشرط من وقت العقد، فإن قلنا: مطلق الشرط يقتضي ذلك، فهذا تصريح بمقتضى الإطلاق، فيصح. وإن قلنا: إن (1 الخيار المطلق يحتسب من

(5/36)


وقت التفرق، فإذا شرطا احتسابه من وقت العقد، ففي صحة الشرط وجهان، يتلقى توجيههما 1) من المعنيين اللَّذيْن ذكرناهُما في توجيهِ احتساب الخيار المطلق من وقت التفرق. فإن قلنا: سبب ذلك أن الشرط يتضمن إثبات الخيار، [حتى] (2) لا يثبت لولا الشرط؛ فاستئخار الخيار إذن من حكم إطلاق اللفظ، فإذا وقع التصريح بالاحتساب من وقت العقد، نجري على حكم التصريح، وإن اعتبرنا في التوجيه استبعادَ ثبوت خيارين، فهذا مسلكه المعنى إذن. فلا يجوز التصريح باشتراط جمع الخيارين، والشرطُ فاسد مفسدٌ للعقد، كما سيأتي تفصيل الشرائط في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.
وإن قلنا: الخيار المشروط يحتسب ابتداءُ مدته من وقت العقد عند الإطلاق، وهو الصحيح الذي اختاره ابن الحدّاد، فلو شرط احتساب ابتداء خيار الشرط من وقت التفرق، فقد قطع الشيخ بفساد الشرط، على هذا الوجه الذي عليه نفرعّ. ووجَّهه بأن الشرط تضمن إثباتَ ابتداء الخيارِ في وقتٍ مجهول، إذ لا يُدرَى متى يكون التفرق.
وذكر صاحب التقريب في هذه الصورة وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أن الشرط يصح. وهذا وإن أمكن توجيهه، فالأصح ما ذكره الشيخ.
فرع:
2905 - إذا حكمنا باجتماع الخيارين، فلو قالا: أبطلنا الخيارين، بطل الخيار.
وإن قلنا: يستأخر ابتداءُ خيار الشرط عن المجلس، فإذا قالا: أبطلنا الخيارَ أو قطعناه، فينقطع خيارُ المجلس، وهل ينقطع خيارُ الشرط؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يبطل؛ فإنه لم يصادفه الإبطال. والثاني - يبطل الخياران؛ فإن مقصودَهما إلزامُ العقد، هذا هو المفهوم من مطلق الإبطال. فلو قالا: أَلزمنا العقدَ، وجب القطعُ بانقطاع الخيارين.
فرع:
2906 - قد أوضحنا أن خيار الشرط يتأقَّت بثلاثة أيام، وشرط خيار زائد
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2).
(2) في الأصل: حين.

(5/37)


فاسدٌ مفسد. وأما خيار المجلس، فلا يتقدَّر بمقدارٍ، ومنتهاه إن لم يُقطع التفرقُ (1).
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً أن خيار المجلس لا يزيد على ثلاثة أيام، وإذا تمادى المجلس في سفينة، أو غيرها، وانتهى إلى ثلاثة أيام، انقطع الخيارُ. وهذا بعيدٌ مزيّفٌ.
فرع:
2907 - إذا ذكرا في البيع أجلاً، والعقد استعقبَ خيارَ المجلس، فقد ذكرنا أنه لو شرط فيه خيار الشرط، فهوَ من أيّ وقتٍ يحتسب؟ قال الشيخ: إن قلنا: خيارُ الشرط يحتسب ابتداؤه من وقت العقد، فيحسب ابتداءُ الأجل من وقت العقد أيضاً، وإن قلنا: الخيار المشروط يحسب ابتداؤه من وقت التفرق، ففي الأجل وجهان، والفرق بين الأجل والخيار أن الأجل ليس من جنس الخيار، فكان اجتماعهما أقربَ؛ لما بينهما من الاختلاف. فإن قيل: لا وجه لقول من يحتسب الأجلَ من وقت التفرق إذن، قلنا: الخيار يمنع المطالبةَ بالثمن، كالأجل، فكان قريباً منه. والخيار في التحقيق تأجيل لإلزام الملك، أو نقله، والأجلُ تأخيرُ المطالبة، ومن أخّر الأجل عن خيار المجلس، فقياسه يقتضي أن نقول: إذا شَرط في البيع خيار ثلاثة أيام، وأجَّل الثمنَ فيهِ، فينبغي أن يفتتح هذا القائلُ ابتداءَ الأجل من انقضاء خيار الشرط؛ لأنه عنده في معناه، ولا سبيل إلى الجمع بين المثلَين كما قررناه.
فرع:
2908 - إذا شرط المتبايعان الخيار لثالث، وفوضا إليه الفسخَ والإجازةَ، صح ذلك باتفاق الأصحاب، ونفذ منه الفسخُ والإجازةُ.
فإذا شرطا الخيارَ لثالث، ولم يتعرضا لثبوت الخيارِ لأنفسهما، فهل يثبت لهما الخيار، وقد أطلقا شرط الخيار لثالث، ولم ينفياه عن أنفُسِهما؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يثبت لهما الخيار؛ فإن الثالث في حكم النائب عنهما، وليس عاقداً؛ فاستحال أن يثبت له الخيار، ولا يثبت لهما. والثاني - أنه لا يثبت لهما؛ فإن هذا الخيار في أصله يتبع الشرط، فثبت لمن شُرِط له، ولا يثبت لغيره.
__________
(1) "التفرُّقُ" خبر المبتدأ: "ومنتهاه".

(5/38)


فإن حكمنا بأن الخيار يثبت لهما، فلو صرَّحا بنفي الخيارِ عن أنفسِهما، وخَصَّصا الخيارَ بالثالث، فَفي صحة هذا الشرط وجهان: أحدهما - يصح اتباعاً للشرط.
والثاني - لا يصح. وحقيقةُ الوجهين ترجع إلى أن من حكم بثبوت الخيار للعاقدين فهو بماذا؟ فكان من أصحابنا من يقول: سبب ثبوت الخيار لهما أن شرطَهما الخيارَ لثالث يقتضي من حيث اللفظ أن يثبت لهُما. فمن قال ذلك بنى عليه أنهما لو صرَّحا بالنفي عن أنفسهما، انتفى عنهما. ومن أصحابنا من قالَ: سبب ثبوت الخيار للمتعاقدَيْن استحالةُ ثبوته لمن ليس عاقداً، إلا على طريق النيابة، فعلى هذا الجمع بين إثبات الخيار للغَيرِ ونفيه عن المتعاقدين فاسدٌ.
ولا خلاف أنهما لو شَرَطا الخيارَ لأحدِ المتعاقِدَين ثبتَ له مختصّاً به، وانتفى عن الثاني.
قال صاحب التلخيص: لو كان المبيع عبداً، فشرط المتعاقدانِ الخيارَ له، ففوَّضا إليه الفسخَ والإجازة، جاز. وكان تفويضُ الخيار إليه بمثابة تفويضه إلى أجنبي، وقد ساعده الأصحاب على ما قالَ.
فرع:
2909 - إذا وكل رجل وكيلاً في بيع، وأذنَ له في اشتراطِ الخيار، فاشترَط على حسب أمره، ثبت الخيار له، واختلفَ أئمتنا في أن الخيارَ الثابتَ لمن؟ فمنهم من قالَ: هو للموكِّل، كما أن الملك في العوض له، والخيار من حقوق الملك والعقد. والوجه الثاني - أن الخيار للوكيل؛ فإنه المتعاطي للعقد، والوجه الثالث - أن الخيار ثابتٌ لهما جميعاً، فيثبت للوكيل لتوليه العقد، ويثبت للموكِّل لأن مقصود العقد إليه يئول.
وإذا شرط المتعاقدان الخيارَ لثالث، فلا يجري فيه إلا وجهان، كما تقدمَ ذكرُهما، ولا يخرج فيه أن الخيار لهما، ولا خيار للثالث. وقد ذكرنا وجهاً أن الخيار للموكّل ولا خيار للوكيل، ثم إذا أثبتنا الخيار للموكل وحده، أو للوكيل والموكل جميعاً، فإنما ذاك في خيار الشرط، فأمّا خيارُ المجلس، فإنه يتعلق بالوكيل، وينتهي بمفارقته المجلس. ويجب القطع بأنه لا ينفذ فسخُ الموكِّل وإجازتُه؛ فإنه لا تعلق له بالمجلس. وخيار المجلس إنما يثبت لمن يتعلق به المجلس، وينقطع بفراقِه. وهذا

(5/39)


كما أن حق القبول يتعلق بالوكيل المخاطب، فمجلس العقد يختص بالعاقد كالعقد.
فهذا ما أراه.
وقد نجزت قواعدُ القول في الخيارين.
فصل
2910 - قد تقدَّم القول في ثبوت الخيارين، ونحن الآن نذكر أحكام الزوائد التي تَحدثُ في زمانِ الخيار، ثم نذكر التصرُّفَ الذي يَصدُر من المتعاقدَين، أو من أحدهما.
والوجه تقديمُ القول في المِلكِ، فإذا ثبت الخيار للمتعاقدَيْن جميعاً، فقد اختلفت نصوص الشافعي في أن الملكَ في زمان الخيار لمن؟ والنصوص مشهورٌ، فلم أنقلها، وحاصلها أقوال: أحدها - "أن الملك في المبيع للمشتري"، وهو الصحيح. والثاني - "أن المِلكَ فيه للبائع". والثالث - "أن الملك موقوف". فإن تم العقد تبيّنا أن الملك زال إلى المشتري، بنفس العقد، وإن فُسخ العقدُ في زمان الخيار، تبيَّنا أن الملك لم يَزُل عن البائع، ثم طرد الأئمةُ الأقوالَ الثلاثةَ فيه، إذا كان الخيارُ لهما، أو كان الخيار لأحدهما.
وقال بعضُ المحققين: إن كان الخيار لهما، ففيه الأقوال. والأصحُّ أن الملك موقوف، وإن كان الخيار للمشتري فالأصحُّ أن المِلك له، وإن كان الخيار للبائع، فالأصح أن المبيع باق على ملكه، وكان الإمام يقول: يتّجه أن نجعل ذلك قولاً رابعاً مفصلاً، ضماً إلى الأقوال المرسلة.
توجيه الأقوال: إن قلنا: إن الملك للمشتري، فلأن البيعَ موضوعٌ لنقل المِلكِ، فلو استأخر عنه موضوعه، لكان في معنى تعليق العقدِ؛ إذ لا وجه لعقد لا يتحققُ فيه موضوعُه. نعم مقصود الخيار ثبوت استدراكٍ، وإلا فلا فرق بين تأخير المقصود بالعقدِ، وبين تأخير انعقادِه.

(5/40)


وإن قلنا: الملك للبائع، فوجهه أن البيع [المطلق] (1) الذي لا يفرض فيه خيارٌ
موضوعُه نزولُ المشتري في المبيع منزلة البائع، في استفادة التصرفات، ومعلومٌ أن الخيار يوجب استئخار التصرُّف، فأشعر ذلك باستئخار الملك.
وإن قلنا بالوقف، فوجهه النظر في الجانبين، واعتمادُ العاقبة في الأمر، وهذا القول يلاحظ [قول] (2) وقفِ العقود بعضَ الملاحظة.
ثم إذا حكمنا بأن الملك في المبيع للمشتري، فلا شك أن الملك في الثمن للبائع، وإذا حكمنا بأن المبيعَ باقٍ على ملك البائع، فالثمن باقٍ على ملك المشتري، وإذا حكمنا على الوقف، فالأمر في العوضين موقوف.
فإذا وضح غرضُنا في الملك، فنذكرُ بعد ذلك فصولاً: أحدها - في الزوائد، والثاني - في التصرفات المتعلقة [بالأقوال، والثالث في التصرفات المتعلّقة] (3) بالأفعالِ، ونختم الغرضَ بما يقطع الخيار وما لا يقطع.
[الفصل الأول
في الزوائد التي تحدث في المبيع في زمن الخيار] (4)
2911 - فأما الزوائد: أما المتَّصلةُ، فلا أثر لها، وهي لمن يستقر الملك في الأصل له، ولا موقع للزوائد إلا في الصداقِ، عند فرض الطلاق قبل المسيسِ، كما سنذكره إن شاء اللهُ تعالى.
وأما الزوائد المنفصلة، فمنها الكسبُ، فإذا اكتسب العبد المبيعُ في زمان الخيار شيئاً، فنفرع حكمه فيه إذا أُجيز العقد وتَم، ثُم نفرع حكمَه إذا فُسخ العقد.
فإن أجيز العقد، نُفرِّع الأمر على الأقوال في الملك، فإن فرّعنا على أن الملك للمشتري، فالزوائد له؛ فإنها استفيدت والملكُ له، ثم استقرَّ الملك آخراً. وإن
__________
(1) مزيدة من: (هـ 2).
(2) مزيدة من: (هـ 2).
(3) زيادة من: (هـ 2).
(4) العنوان من عمل المحقق.

(5/41)


قُلنا: المِلكُ للبائع، ففي الكسب وجهان: أحدهما - أنه للبائع؛ فإنه جرى والملك في الأصل [له، على هذا القول، وهو الظاهر، والثاني - أن الملك للمشتري؛ فإن الملك في الأصل] (1) تقرر عليه، وكان العقد معقوداً لذلك، والبائع لم يقصد باستبقاء الملك تأثُّلَه (2)، وهذا الوجه يلاحظ قولَ الوقف.
وإن فرعنا على قول الوقف، فالملك في الكسب للمشتري؛ فإن العقد إذا أُجيز نتبين أن الملك للمشتري.
فهذا تفريع الكسب، وقد أُجيز العقدُ.
2912 - فأما إذا فسخ العقد في زمان الخيار، بعد حصول الكسب، فنخرّج ذلك على أقوال الملك، فإن حكمنا بأن الملك للبائع، وقد استقر الملك عليه آخراً، فالكسبُ لهُ، وإن حكمنا بأن الملك موقوفٌ، فالكسب للبائع أيضاً؛ فإن العقدَ إذا فسخ فمُوجَب الوقف أنا نتبين أن مِلكَ البائع لم يزل، وإن حكمنا بأن الملك للمشتري، ففي الكسب وجهان: أحدهما - أنه له؛ إذْ حصل في زمانٍ كان الأصلُ مملوكاً له فيه. والثاني - أنه للبائع؛ فإن الملك في الأصل استقرَّ له، وآل إليه.
وحاصل الخلاف والوفاق في الإجازة والفسخ، أنا نقول: من اجتمع له ملكُ الأصل، واستقراره عليه، فالملكُ في الكسب له وجهاً واحداً. ومن لم يكن له ملكٌ في الأصل، ولم يصر المِلكُ إليه في المآل، فليس الكسب له وجهاً واحداً. وإن كان الملك لأحدهما أولاً، ثم لم يستقرَّ له، بل صار إلى صاحبهِ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ملك الكسب لمن صار الملكُ في المآلِ إليه، والثاني - أن الملكَ في الكسب لمن كان الملكُ حالة حصول الكسب له في الأصل.
ولو حدثت ثمرةٌ، أو وُلد مملوكٌ في زمان الخيار، فالقول فيه كالقول في الكسبِ، حرفاً حرفاً.
فهذا بيان الزوائد في زمان الخيار.
__________
(1) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (هـ 2).
(2) تأثله: المراد تثميره، ونماؤه.

(5/42)


[الفصل الثاني
في التصرفات التي تقطع الخيار] (1)
2913 - فأما التصرف، فنبدأ بالأقوال، وهي تنقسم إلى ما يقبل التعليق، وهو العتق، وإلى ما لا يقبله، كالبيع، فنبدأ بالعتق، فنقول:
إن أعتق المشتري العبدَ في زمان الخيار، فلا يخلو إما إن كان المشتري منفرداً بالخيار، أو كان الخيار لهما جميعاً، أو كان الخيار للبائع وحدهُ.
فإن كان الخيار للمشتري وحده، فينفذ عتقُه، سواء قلنا: الملك له، أو قلنا: الملك للبائع، أو وقفناه؛ فإنّ عتقه إجازةٌ منه، وله الانفراد بها، إذا كان منفرداً بالخيارِ، فنَفَذَ إذاً عتقُه وتضمَّن الإجازة، وإن فرَّعنا على أنه لا ملك لهُ.
وإن كان الخيارُ لهما جميعاً، نفرعّ العتق على الملك، فإن قُلنا: الملكُ للمشتري، ففي نُفوذ عتقهِ وجهان: أحدهما - ينفذ لمصادفته الملكَ. والثاني - لا ينفذ لثبوت حق البائع من الخيار فيهِ، وهذا يدنو من اختلاف القول في نفوذ عتق الراهنِ في المرهُون. فإن قلنا: ينفذ عتقه، فهل يبطل حق البائع من الخيار؟ فعلى وجهين: أحدهما - يبطل؛ فإن متعلّق الخيارِ العين، وإذا نفذنا العتق وتعذَّرَ ردُّه، فلا معنىً للخيارِ. والوجه الثاني - أن الخيار يبقى متعلّقه العقد، والعقدُ لا ينقطع بفوات المِلكِ في المعقود عليه.
التفريع:
2914 - إن حكمنا بأن الخيار قد انقطع، فلا كلام، وقد لزم العقد، واستقرَّ الثمن، وإن حكمنا بأن خيار البائع باق، فهل له ردّ العتق، فعلى وجهين: أحدُهما- ليس لهُ ذلك؛ فإن رد العتق بعيدٌ بَعدَ الحكم بنفوذهِ. والوجهُ الثاني - له ردّهُ؛ فإن العتق يضاهي الملك، فإذا كان جائزاً، كان العتق مشابهاً لهُ في الجواز.
التفريع على هذين الوجهين:
2915 - إن قلنا: له ردُّ الملك، فلا كلام. وإن قُلنا: ليس له رَدُّه، فإن أجاز
__________
(1) العنوان من عمل المحقق بناء على تقسيم الإمام.

(5/43)


العقدَ، جازَ، وإن فسخ، وجب على المشتري قيمةُ العبد، وقد يستفيد بذلك مزيداً، إذا كانت القيمة أكثرَ من الثمن.
هذا كلُّه تفريعٌ على قولنا: إنهُ ينفذ عتق المشتري، فأمَّا إذا قُلنا: لا يَنفذ عتقُ المشتري، فلا يخلو إما أن يفسخ البائعُ أو يجيز، فإن فسخ، ارتد العبدُ إليه مملوكاً، وإن أجاز العقدَ، ولزم الملك للمشتري، فهل ينفذ الآن عتق المشتري، فعلى وجهين: أحدهما - لا ينفذ؛ لأنه نجَّز العتقَ، فرددناه، فتنفيذُه بعد ردّه محال، وهو بمثابة ما لو أعتقَ عبداً لغيره، ثم اشتراه.
والوجه الثاني - أنه ينفذ عتقُه [إذا] (1) لزم ملكه؛ فإنه استقرَّ ملكه آخراً، فالاعتبار بما استقرَّ الأمر عليه، وهذا ميلٌ إلى قول الوقف.
فإن قلنا: بأن العتقَ لا ينفذ، فلا كلام، وإن قلنا: إن العتق ينفذ، فمتى ينفذ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه ينفذ إذا لزم الملك، والثاني - أنا نتبين أنه نفذ حين أنشأه، وإن كنا لا نُفرّع على قول الوقف. وهذا بعيد جداً، وهو تصريحٌ بمقتضى الوقف.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أن الملك للمشتري، فإن حكمنا بأن الملك للبائع، فلا ينفذ عتق المشتري أصلاً؛ إذ لا ملك له، وليس منفرداً بالخيار، وإن أجيز العقد، ففي نفوذ العتق الخلافُ المتقدّم. وهذا أولى بألاّ ينفذ. ثم التفريع ينساق كما مضى.
2916 - وإن فرَّعنا على أن الملك موقوف، فالقول الحاوي في التفريع عليه، أنه إن أُجيز العقد، فالتفريع في هذه الحالة على هذا القول، كالتفريع على أن الملك للمشتري وقد أجيز العقد. وإن فسخ، فالتفريع في هذه الصورة كالتفريع على أن الملك للبائع وقد فسخ العقد.
وكل ما ذكرناه فيهِ إذا كان الخيار لهُما جميعاً، أو كان الخيار للمشتري وحده.
__________
(1) في الأصل: فإذا.

(5/44)


2917 - فأما إذا كان الخيار للبائع وحدهُ، فالوجهُ التفريع على أقوال الملك، كما ذكرناه فيه إذا كان الخيار لهما جميعاً، ولا يتفاوت شيء من التفريع.
2918 - فأما إذا أعتق البائعُ العبدَ في زمان الخيار نُظر، فإن كان الخيار لهما، أو للبائع وحده، فينفذ عتقُه على الأقوالِ، لأن عتقَهُ يتضمن فسخاً، ويجوزُ للبائع الانفرادُ بالفسخ، وإن كان الخيار لهما، فلا يصح من المشتري إلزام العقد في حق البائع إذا كان الخيار لهما، نَعم إذا كان الخيار للمشتري وحدهُ، انفرد بالإجازة، ونفذ إذ ذاك عتقُه على الأقوال كلها، كما تقدَّم ذكرُه.
فرع:
2919 - إذا رَددنا عتق المشتري، والخيارُ لهما، فهل يكون عتقُه المردودُ إجازةً منه، حتى لو أراد أن يفسخ العقدَ بعد ذلك لا يمكنه؟ فعلى وجهين:
أحدهما - لا يكون إجازة؛ فإن المردود [لا] (1) حكم له، والإجازةُ لو حصلت، لكانت ضمناً للعتق، فإذا لم ينفذ العتقُ، كيف ينفذ ضمنُه.
والثاني - أنه يصير مجيزاً؛ فإنه ظهرَ بقصده الرّضا (2) بالملكِ؛ فكان ذلك إجازةً، وتحصيل ذلك أنّ قصدَ الإجازةِ منه صحيح، وإن رُدَّ العتق.
ويتجه أن يقال: إن أعتق ظاناً أن عتقه نافذٌ، فرددناه، ففيهِ الاختلافُ الذي قدمناه، فأما إذا كان يعتقد أن عتقه مرددٌ، فيبعد أن يكون ذلك إجازة منه، مع حكمنا بردّ العتق، وذلك يظهر فيه إذا صرَّح بأنه يعتقد أن العتق لا ينفذ، وإن أطلق الإعتاق، لم يصدَّق في قوله: لا أعتقد النفوذ.
وإذا حكمنا بأن عتق المشتري نافذٌ، ثم أثبتنا للبائع ردّ عتقه فَردَّهُ، فالوجهُ القطعُ بأن العتق وإن رُد كذلك، فالمشتري يكون مجيزاً إذا تصرَّف، ونفذ منه، والردُّ إنما كان لحق البائع، فهو بمثابة تنفيذنا فسخَ البائع، بعدَ نفوذ إجازة المشتري في حق المشتري.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) "الرضا" فاعل للفعل "ظهر".

(5/45)


فرع:
2920 - إذا أعتق البائع المبيعَ، ولم يكن له خيار، ولكنا رأينا في التفاصيل المقدَّمة أن ننفذ عتقه تفريعاً على قولنا: إن المِلكَ للبائع، ثم رأينا ألا نردّ العتق بعدَ نفوذهِ، فالوجه أن [نقول: إن كان] (1) في يد البائع، فإعتاقُه إياه بمثابة إتلافه المبيعَ حِسَّاً، وسيأتي ذلك في باب الخراج بالضمان.
فصل
2921 - إذا وهب الأب من ابنه عبدأ [فأقبضه] (2)، فله الرجوع فيما وهبَ. ولو أعتق الأبُ العبدَ، فهل ينفذُ العتقُ متضمناً رجوعاً، كما ينفذ عتقُ البائع ويتضمن الفسخَ؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدُهما - ينفذُ العتق؛ فإنه ينفرد بالرجوع، كما ينفرد البائع بالفسخ، فليكن العتقُ بمثابة التصريح بالرجوع. والثاني - أنهُ لا ينفذ، بخلاف عتق البائع؛ فإن مِلك المتََّهب تام. ينفذ فيه جميعُ تصرفاته، فلا وجه لإقدام غيره على التصرّف، فليرجع أولاً. ثم ليتصرَّف في مِلكِ نفسهِ.
ومن اشترى عبداً، ولزم ملكُه فيه، وأفلسَ قبل أداء الثمن، فللبائع الرجوع في عين المبيع، فلو أعتقه ابتداءً، ففي نفوذ عتقهِ وجهان، كما ذكرناه في الرجوع في الهبة.
هذا بيان العتق من التصرفات.
2922 - فأما البيعُ، ففيه طريقان [فنطرد] (3) كل واحدةٍ على حدَتِها.
أما الإمام، فكان يقول: إن المشتري إذا انفرد بالخيار، فباع، نفذ بيعُه، سواء قلنا: الملك له، أو قلنا: الملك للبائع.
فإذا فرّعنا على أن الملكَ له، فقد صادف بيعُه ملكَه. وإن قلنا: للبائع، فبيعُ المشتري وهو منفردٌ بالخيارِ يتضمن الإجازة. ثم نُقدِّر انتقالَ الملك للمشتري قُبيل
__________
(1) زيادة من: (هـ 2).
(2) مزيدة من: (هـ 2).
(3) في الأصل: ننظر.

(5/46)


البيع، ليكون بيعُه مصادفاً ملْكَه. وهو كحكمنا بارتداد الملك في المبيع إلى البائع إذا تلفَ في يده، وكان يقول رحمه الله: بيع البائع المبيعَ في زمان الخيارِ، إذا كان الخيار له أو لهما ينفذ على الأقوال، متضمناً فسخاً، كما ذكرناه في العتق.
فأما إذا باع المشتري وكان الخيار لهما، أو للبائع، فلا ينفُذ بيعُه، وإن قلنا: الملكُ له؛ فإنه ليس له الانفراد بالإجازة، بخلاف ما تقدَّم، فبيعه بين أن يصادفَ ملكَ الغيرِ، وبين أن يصادف حقَّ الغير، وإذا ذكرنا خلافاً في العتق؛ فهو لمزيَّتِه في القُوَّة والنفوذ، وهذَا بمثابة قَطْعِنا بردّ بيع الراهن، مع التردد في نفوذ عتقه. ثم كان يقول: إذا رددنا بيعَ المشتري، فهل نجعله إجازةً منه، فعلى وجهين، كما تقدم في العتق المردود.
وقالَ بعض أصحابنا: إذا باع المشتري وكان منفرداً بالخيارِ؛ فإن قلنا: المِلكُ للبائع، فلا ينفذ بيع المشتري، وإن كان منفرداً بالخيار، وإن قلنا: الملكُ له، ففي نفوذ بيعه وجهان؛ لضعف الملك بالجواز.
وما ذكره الإمام أفقهُ. وكان رحمه الله يُشير إلى الوجهين، في بيع الواهب العبدَ الموهوبَ فيُنزله منزلة إعتاقه إياه، وينزل البيعَ منزلة العتق من جِهة صدوره ممن يستبد بالرجوع، كما نزل بيع المشتري المنفرد بالخيار منزلة إعتاقه.
وقال بعض أصحابنا: إذا انفرد المشتري بالخيار، فباع، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - ينفذُ بيعه، ويلزم العقد. والثاني - لا ينفذ، ولا يلزم، والثالث - لا ينعقدُ العقد، ولكنه يتضمن الإجازَةَ.
وهذه الأوجُه نشأت في هذه الطريقة، من خلافٍ في أصلين، أحدُهما - أن بيعه هل ينفذ، والثاني - أن التصرف الفاسد هل يتضمن الإجازة. وكان الإمام يقطع بنفوذ البيع إذا انفرد المشتري بالخيار.
ونذكر ثلاثة أوجهٍ في الصورة الأخرى، وهي أن الخيارَ إذا كان لهمَا جميعاً، وقد ذكرنا أن المشتري لو انفرد بالبيع من أجنبيّ، لم ينفذ بيعُه، ولو باع ما اشتراه من البائع، قال: فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدُها - أنهُ ينفذ البيع الثاني، ويلزم البيعُ الأول؛ فإن الخيار لا يَعدوهما، فكان

(5/47)


إقدامهما على العقد متضمناً إلزام العقد الأول.
والوجه الثاني - أنه لا ينعقد؛ فإن المشتري لا يجوز لهُ الانفراد بالبيع، فإذا ابتدأ الإيجابُ، بطل، ثم القبول مترتب عليه.
والوجه الثالث - أن العقد الثاني لا يصح؛ لما ذكرناه، ولكن يلزم الأول؛ تخريجاً على أن التصرف وإن رُدّ يتضمن إجازة.
هذا بيان الطرق في البيع.
2923 - وما ذكرهُ الإمام يقتضي تردداً في بيع الراهن المرهون من المرتهن، من غير تقديم فك الرهن؛ فإن البيع لا يَنفُذ من الراهن على الانفراد، فكان التبايع منهما على صورة التبايع من المتعاقدين في زمان الخيار.
فإن قيل: نص الأصحابُ على أنَّا إذا منعنا بيع الدار المكراة على قولٍ، فيجوز بيعها من المكتري. قُلنا: قد ينقدح فرقٌ؛ فإن بيع المرهون لحق المرتهن، فإذا لم يصرح أولاً بإبطالٍ، لم يبعد تخيل خلاف فيه، وبيع الدار المكراة في قولٍ لم يبطل لحق المكتري، فإن من يصحح بيعَ الدار المكراة لا ينقضُ الإجارة، فالمبطل في البيع ثبوت يد المستأجر على المبيع، فإذا باع من المستأجر، فالمبيع في يد المشتري، فاقتضى ذلك القطعَ بصحة العقد، كما ذكرته في بيع الراهن من المرتهن، تصرفاً في القياس. وإلا فالذي أقطع به نقلاً صحّةُ البيع فليُعتقد ذلك. وإن كان يبطل به نظم الأوجه الثلاثة في بيع المشتري من البائع.
فصل
مشتمل على الوطء في زمان الخيار
2924 - أجمع المراوزةُ على أن الوطء من البائع فسخ، إذا كان له خيار، وكذلك جعلوا الوطء إجازةً من المشتري.
وقال العراقيون: وطء البائع الجاريةَ فسخ منه، وفي وطء المشتري وجهان: أحدهما - أنه إجازة منه، كما أنهُ فسخٌ من البائع؛ إذْ هو مشعرٌ من كل واحد منهما

(5/48)


باختيار الملك. والثاني - أنهُ لا يكون وطؤُه إجازةً، وإن كان فسخاً من البائع.
وهذا بعيدٌ.
والذي ينقدح في توجيهه على البُعد أن ما يصدر من المشتري قد يُحمل على الامتحان والاختبار (1)، [لا على الرضا والاختيار] (2)، وما يكون من البائع لا محمل له إلا اختيار رَدّها إلى الملك.
وقد اشتهر اختلافُ الأئمة في أن من أجمل عتقاً بين أَمَتين، فقال إحداكما حُرَّة، ثم وطىء إحداهُما، فهل يكون وطؤُه تعييناً للموطوءة في الرق، حتى تتعين الأخرى للعتق؟
والخلاف يجري كذلك في تعين المنكوحة بالوطء عند إجمال الطلاق. وقد مرَّ بي في الخلاف من قول من لا يُعدُّ من أئمة المذهب ذكرُ خلافٍ في أن الوطء هل يكون فسخاً من البائع؟ وهذا [في] (3) القياس غيرُ بعيدٍ، تخريجاً على الخلاف في تعيين المنكوحة والمملوكة في الوطء، ولكن لم أر ذلك لأئمة المذهب. وهذا هو النقل والاحتمال.
ونحن نذكر الآن ما يتعلَّق بالوطء من الأحكام، ونبدأ بوطء المشتري.
2925 - فنقول: إذا وطىء المشتري والخيار لهما، فلا شَكَّ في تحريم وطئه؛ فإنا إن حكمنا بأن الملكَ ليس له، فقد صادف وطؤه ملكَ الغير، وإن حكمنا بأن الملك للمشتري، فهو ضعيفٌ، وفيه حق الخيار للبائع، ثم لا يخلو وطؤه: إما أن يعرَى عن العلوق، أو يتصلَ به العلوق. فإن لم تعلق، فلا حدَّ للشُّبهَةِ. وفي انقطاع خيار المشتري ما قدمناه.
وأما المهرُ، فلا يخلو البائع إما أن يفسخ أو يُجيز، فإن أجاز واستقر الملكُ
__________
(1) أخذ الغزالي هذا التوجيه عن شيخه، فقال في الوسيط: " وقيل: إنه (أي الوطء) يحمل على الامتحان، كالخدمة " وقد علق ابن الصلاح على ذلك قائلاً: "هذا كلامٌ غث ينفر منه المؤمن" (ر. مشكل الوسيط. مطبوع بهامش الوسيط: 3/ 116).
(2) زيادة من: (هـ 2).
(3) في الأصل فيه، والمثبت من: هـ 2.

(5/49)


للمشتري، فالمهر يُنحى به نحو الأكساب، فيقال: إن قلنا: الملكُ للمشتري، وقد استقر الملك له، فلا مهرَ عليهِ، لأنه اجتمع له الملك أولاً، والقرار آخراً.
وإن حكمنا بأن الملك للبائع، ففي المهر وجهان: أحدُهما - يجب على المشتري للبائع؛ نظراً إلى الملك حالة الوطء. والثاني - أن المهرَ لا يلزم؛ نظراً إلى مآل العقد.
وأما إذا فسخ البائع، فإن حكمنا بأن الملكَ للبائع في زمان الخيار، فعلى المشتري المهر للبائع؛ إذ كان المِلكُ له حالةَ الوطء، واستقرَّ عليه آخراً. وإن حكمنا بأن الملكَ للمشتري، فوجهان: أحدهما - لا يجب، نظراً إلى الحال، والثاني - يجب، نظراً إلى العاقبة.
وإن فرَّعنا على قول الوقف، نظرنا، فإن أُجيز البيع، فهو كما قلنا: الملك للمشتري، وقد لزم البيع. وإن فُسخ، فهو كالتفريع على قولنا: الملكُ للبائع، وقد فسخ العقد.
هذا حكم وطء المشتري من غير علوق.
2926 - فأما البائع إن وطىء والخيار لهما، فنذكر أولاً حكم الوطء في التحريم والحل. وقد اختلف الأئمة في الترتيب، فقالَ بعضهم: إن قلنا: الملك للمشتري، فلا يحل للبائع الإقدامُ على الوطء، وإن قلنا: وطؤه يتضمن فسخَ العقد.
وإن قلنا: الملك للبائع، ففي إباحة إقدامهِ على الوطء وجهان: أصحهما - الإباحةُ. والثاني - لا يباح؛ فإن الملك ضعيف، وحِلّ الوطء يستدعي ملكاً تاماً.
ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إن حكمنا بأن الملك للبائع، فيحل له الإقدام على الوطء. وإن قلنا: الملك للمشتري، ففي إباحة الوطء للبائع وجهان: أحدهما - لا يباح لمصادفته ملك الغير. والثاني - يباح؛ فإن الوطء يتضمن الفسخَ، وكل ما يتضمن فسخاً يُقدّر نقلُ الملك فيه قُبَيْله، فيكون الوطء مصادفاً ملكَه. وهذا الطريق لصاحب التقريب.
وكان الإمام يقطع جوابَه في دروسه، بحل الوطء للبائع، إذا كان له خيار، وكان

(5/50)


يقول: لو جَعلنا الوطء رجعةً، لأبحناه للزوج.
ثم نقول: إذا أبحنا الوطء للبائع، فلا يلزمُه المهر؛ فإنا إنما نُبيح له الوطء على قولنا: المِلكُ له، أو على تقدير نقل المِلك إليه قُبيل الوطء، وذلك يمنع ثبوتَ المهر.
وإن حرّمنا الوطء، فلا شكَّ أنا مع التحريم نحكم بانفساخ العقدِ، فالوجه مع ذلك القطعُ بنفي المهر؛ فإنا وإن حرَّمنا الإقدام [على الوطء] (1)، فنقول: الفسخ يتضمن تقدير نقل الملك قُبيل الوطء.
فإن قيل: إذا أبحنا الوطء، فالإباحة تستدعي تقدير نقل الملك قُبيل الوطء، كما ذكرتموه لا محالةَ، فأما إذا لم يُبَح، فما المانع من الحكم بأن الفسخ لا يقتضي تقديمَ الملك على الوطء؟ قلنا: هذا التقدير محتمل، وللقول فيه مجال، ولكن لا يجب المهر مع هذا التقدير أيضاً؛ فإن مساقه يتضمن مقارنةَ الملك للوطء، وإذا قارن الملكُ الوطء، استحال إيجاب المهرِ، ولا سبيل إلى المصير إلى أن الوطءَ (2) يستعقب الفسخ.
فهذا تفصيل القول في وطء البائع والمشتري إذا كان الخيار لهُما جميعاً.
2927 - أما إذا كان الخيار للمشتري وحده، فظاهر المذهب أن الوطء منه إجازةٌ.
وذكر العراقيون الخلافَ هاهنا، كما ذكروه والخيار لهُما. فإذا وطىء وجعلناه مجيزاً، لم يلزمه المهر؟ فإنه عند انفراده بالخيار ينفرد بالإجازة، كما ينفرد البائع بالفسخ، ثم التفصيل في إباحة الوطء للمشتري كالتفصيل في البائع. والقول في المهرِ على ما ذكرناه في الأكساب، في مثل هذه الصورة.
فهذا كُلّه فيهِ إذا عَري الوطء عن الإعلاق.
2928 - فأما إذا اتصل الوطء بالإحبال، فنذكر حكمَ المشتري، ثم نشُير إلى حكم البائع.
__________
(1) مزيدة لاستقامة المعنى.
(2) عبارة الأصل: "إلى أن إيجاب الوطء".

(5/51)


فإذا وطىء المشتري الجاريةَ، وعلقت منه بولد، فأما نفي الحد والقول في المهر، فعلى ما مضى، لا يختلف منه شيء، فلا (1) يسقط المهر، وإن ثبت الاستيلاد؛ إذا (2) يجب وإن لم يكن علوقٌ.
وأما القول في الولد، فهو ينعقد حُراً؛ فإنّ من وطىء جاريةَ غيره بالشبهة، كان ولدهُ منها حراً، ولا تنحط رتبة وطء المشتري عن ذلك.
ونحن نذكر بعد هذا الاستيلادَ، ثم قيمةَ الولد: فأما ثبوت الاستيلادِ، فالقول الوجيزُ أن الاستيلاد كالعتق، وقد مضى القول في العتق، ولكن من أصحابنا من رتّب صور الخلاف في الاستيلاد على أمثالها في العتق، وجعل الاستيلادَ أولى بالنفوذ؛ من جهة أنه يعتمد فعلاً، والفعلُ لا يناله فسخ. ومن أصحابنا من قلبَ الترتيب، وجعل العتق أولى بالنفوذ؛ فإن حرمة الاستيلاد توقُّعُ حُرّيةٍ، وتنجُّزُها أقوى من تَوقُّعِها، ولا يبعد الحكم باستوائهما، لتعارض الكلام.
فإذا صح مأخذُ الاستيلاد، فنتكلم في قيمة الولد، ونقول: إن فرَّعنا على أن الملك للمشتري، وأجيزَ العقد؛ فلا تلزمه قيمة الولد؛ فإن الملك كان له في الابتداءِ، واستقرَّ عليه في الانتهاء.
وإن حكمنا بأن الاستيلاد نافذ، ولا سبيل إلى رَدّهِ، ولا وجهَ مع نفوذه لفسخ العقد، فهذا كما قدَّمناه؛ فإن الإجازة قد لزمت، والتفريع على أن المِلكَ للمشتري.
وإن قلنا: لا يثبت الاستيلاد، أو يثبت ولكنه يرد، فرُدَّ وفسخ العقد، ففي لزوم قيمة الولد وجهان؛ فإن العُلوق جرى والملك للمشتري، ولكن لم يستقرَّ الملكُ عليهِ، وقد ذكرنا في الأكساب الخلافَ في مثل هذه الصُورة.
هذا تفريعٌ على أن المِلكَ للمشتري.
__________
(1) في النسختين: ولا. والمثبت تقديرٌ منا.
(2) في النسختين: إذا. وهي بمعنى (إذْ)، وهو واردٌ، وضع كل منهما مكان الأخرى.

(5/52)


2929 - فأما إذا قلنا: الملكُ للبائع، فلا يخلو إما أن يفسخ أو يجيز، فإن فسخ، فلا شك أن الاستيلاد لا ينفذ في هذه الصورة، وتجب قيمة الولد؛ إذ الملك للبائع أولاً وآخراً، والكسب في هذه الصورة للبائع وجهاً واحداً، وإن أجاز البائع العقدَ في هذه الصورة، ففي نفوذ الاستيلاد وجهان: فإن حكمنا بأن الاستيلاد لا يثبت، ففي لزوم قيمة الولد وجهان مبنيّان على نظيرهما في الكسب، في مثل هذه الصورة.
وإن قُلنا: يثبت الاستيلاد، فهذا يبنى على أمرٍ، وهو أن الاستيلاد إذا ثبت بالإجازة، فيثبت عند الإجازة، أو يستند إلى العلوق؟ وفيه خلافٌ ذكرته، في الإعتاق.
فإن قلنا: إن الاستيلاد ثبت عند الإجازة، فقد تقدَّم العلوق، والمِلك للبائع إذ ذاك، ففي قيمة الولد وجهان، كما ذكرناه.
وإن قلنا: الاستيلاد يتقدم الإجازة إسناداً وتبيُّناً (1)، فنبني الغرضَ الآن على أن الأب إذا استولد جارية الابن، فمتى ينتقل الملك إلى الأب؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه ينتقل الملك قبيل العلوق، فعلى هذا نقول في مسألتنا هذه: لا تجب قيمةُ الولد؛ فإن العلوق صادف ملكَ المشتري، على التقدير الذي ذكرناه. وإن قلنا: ينتقل الملك بعدَ العلوق؛ فقد صادف العلوقُ ملكَ البائع، ولكن استقر ملك المشتري، ففي قيمة الولد وجهان، كما تقدم ذكره.
فهذا منتهى الغرض.
فأما إذا وطىء البائع واستولد، فإن كان له خيار فوطؤه فسخ، والاستيلادُ يثبتُ كيف فرض الأمر، ولا يلزمُه قيمةُ الولد؛ فإن الفسخ يُقارن الوطءَ، أو يتقدم عليه، والعُلوق بعدَ الوطء.
وإن كان الخيار للمشتري وحده، فوطىء البائع وأولد، فهو كالمشتري إذا استولد، ولم يكن منفرداً بالخيار فيفرَّع على أقوال الملك، ثم نفرض فيه الفسخَ، والإجازةَ. كما تقدّم ذكره.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2).

(5/53)


فصل
فيما يكون اختياراً في الفسخ والإجازة
2930 - فنقول: كل تصرفٍ يتضمنُ زوالَ المِلكِ كالإعتقاقِ، فلا شك أنهُ يتضمنُ فسخاً من البائع، وإجازةً من المشتري إذا صحّ، وفي الفاسد خلافٌ مضَى، والبيع في معنى الإعتقاق، والاستخدام ليس اختياراً أصلاً، قطع به الأئمة. وذكر بعض أصحاب القَفاّل وجهين في أن ركوب الدابة هل يكون اختياراً؟ وهذا بعيدٌ. وهو من هفوات المصنف. وقد مرَّ بي رمزٌ إليه من أئمة الخلاف (1). وهذا يقتضي تردُّداً في الاستخدام لا محالة.
وفي تعليق شيخي عن شيخه القفال وجهان، في أن الإجارةَ هل تكون اختياراً؟ وهذا فيه احتمالٌ؛ من حيث إنها عقدٌ يقتضي تمليكاً، والتزويج في معنى الإجارة، وأما الوطء، فقد سبق الكلام فيهِ، وأنه هل يكون اختياراً؟
قال الشافعي: إذا سلَّم البائع المبيعَ في زمان الخيارِ إلى المشتري، فلا يكون ذلك إجازةً من البائع. واتفقَ الأصحاب على هذا، وإن كان التسليم دلالة ظاهرة في التنفيذ. وقالَ مالك (2): التسليمُ إجازة من المسلِّم، وليس التسلّمُ اختياراً من القابض، وقال الصيدلاني: إذا أذن البائع للمشتري في بيع المبيع، لم يكن مجرَّدُ إذنه إجازةً وقطعاً للخيار، ولو رجع عن إذنه، فهو على خيارهِ.
2931 - وقد عقدَ الشافعي باباً فيما يكون رجوعاً عن الوصية (3)، وليس من الممكن استيعابُ مضمون الباب هاهُنا، ولكنا نذكرُ ما يليق بغرضِنا: فمما يكون رجوعاً عن
__________
(1) يشير إلى ما قاله آنفاً في الفقرة الأولى من الفصل السابق "فصل مشتمل على الوطء في زمان الخيار" والمصنف هنا هو الذي قال عنه هناك: "لا يعد من أئمهَ المذهب" وهو أبو القاسم الفوراني، والغالب أنه يرمز إليه بقوله: "بعض المصنفين".
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 523 مسألة: 846.
(3) انظر الأم: 4/ 45.

(5/54)


الوصيّة العَرْضُ على البيع، والهِبَة قبل القبض (1)، ولو وطىء الموصي الجاريةَ الموصَى بها، فإن عزل عنهَا، فلا يكون رجوعاً عن الوصيّةِ، وإن لم يعزل وأنزل، كان رجوعاً.
والذي يدور الباب عليه أن كلَّ ابتداء لو تم، لكان مُزيلاً، فهو في ابتدائه يكون رجوعاً عن الوصيّة.
ولو أوصى بحنطة، ثم طحنها، كان ذلك رُجوعاً؛ لأنه عرَّضَها للتلف، فجُعِل كتحقيق التلف. والوطء لم يكن في عينه رجوعاً، وإنما الرجوع في الإنزال؛ من حيث أشعر بقصد الاستيلاد، وليس من الممكن أن يجري الاختيار في زمان الخيار مجرى ما يكون رجوعاً عن الوصيَّة.
والدليل عليه في النفي والإثبات أن الوطء اختيارٌ في ظاهر المذهب معَ العَزل، وليسَ رجوعاً عن الوصيةِ، والسبب فيهِ أن الوصية لا تتضمَّن تحريماً على الموصي، والجارية الموصَى بها مباحة على الموصي، فإذا كان يطؤها، فليس [في ذلك] (2) ما يتضمن منعَها عن الوصيةِ بعد الموتِ، فكان الاستمرار على الوطء غيرَ مشعر بالرجوع. والبيع يتضمّنُ في وضعِه إزالةَ الملك، وكل بائع موطَنٌ نفسَه على الانكفاف عن التي باعَها، فإذا وطئَها أشعرَ ذلك بردّه إياها على ما كانت عليه قبل البيع.
فإن قيل: أليس الظاهِرُ أن البائع إذا وطىء وله الخيار فوطؤُه مباحٌ؟ قلنا: فيه كلام. ثم تقدير الإباحةِ فيه يخرج على قَصْدهِ الردَّ، وأمَّا الوصيَّة، فإنها تنشأ على استمرار الموصي على الانتفاع مادام حياً، فهذا فرقُ ما بين البابين.
والعرض على البيع رجوعٌ عن الوصيَّة، وفحوى كلام الأئمة القطعُ بأنه ليس اختياراً، والسبب الفارق أن الوصيةَ ضعيفةٌ؛ من حيث إنه لم يُوجد في حياة الموصي إلا أحَدُ شِقي العقد، والبيع وإن كان جائزاً، فقد تم انعقادُه بشقَّيه. وتحصيل القول
__________
(1) نص عبارة الشافعي: " ولو أوصى لرجلٍ بعبدٍ، ثم أوصى أن يباع ذلك العبد، كان هذا دليلاً على إبطال وصيته به، وذلك أن البيع والوصية لا يجتمعان في عبدٍ، ولو أوصى لرجل بعبدِ، ثم باعه، أو كاتبه، أو دبَّره، أو وهبه، كان هذا كلُّه إبطالاً للوصية ". (الأم: 4/ 45َ).
(2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

(5/55)


فيهِ أن الشرع سوَّغ أن يتخلل بين الإيصاء والقبول الزمانُ الطويلُ وموتُ الموصي. ثم إن جرى من الموصي ما يُشعر بمناقضة الوصية، كان ذلكَ بمثابَةِ تخللِ زمانٍ طويل بين الإيجاب والقبول في البيع، فبهذا السبب كان الرجوع في الوصيَّة أوسع باباً من الاختيار في البيع.
2932 - ونحن نذكر الآن أربعَ مراتبَ، نجمع فيها قواعدَ المذهب:
الأولى - فيما يثبت على الفور كالرّد بالعيب، فكل ما ينافي الفورَ وُيشعر بالتأخير، فهوَ مُسقطٌ، وسنذكر ما يليق به في موضعه.
والثانية - الرجوعُ عن الوصيَّة، وهذا يعتمدُ ما يُشعر بمناقضةِ مقصود التنفيذ والاستمرارِ على الوصيَّة.
والثالثة - الاختيارُ في زمان الخيار، والأصل فيه ألا يحصل إلا بتصريحٍ أو تصرفٍ مزيلٍ للملكِ، والوطء قياسُه ألا يكون اختياراً، ولكنّ المذهب فيه ما قدَّمناه، وتقريب تعليلهِ على أقصَى الإمكان أن الوطء لا يصدُر إلا ممن يؤثرُ استبقاء أو ردّاً، ويبعد حَملُهُ على الاختيار، وكذلكَ يَبعُد حمله على الهم بالاختيار، وليس كالأمر بالبيع؛ فإنه يدل على الهم بالاختيار، ولا يَدُل على جَزمِ الرأي فيه، والهمُّ يقطعُ الوصيةَ لضعفها، والوطء ليس همّاً، بل لا يُقدم عليه إلا مُوطِّنٌ نفسَهُ على أمر. نعم قد يكون الوطء فجرة (1) من الواطىء، ولكن من له الخيار لا يُحمل أمرُه على هذه الجهة، كما أن الإعتاق قد يوجهه المرءُ على ملكِ غيره هازلاً، ولا يُحمل الإعتاق في زمان الخيار إلا على الاختيار.
__________
(1) كذا مع ملاحظة أنها في (هـ 2) بدون أي نقط، وفي الأصل بنقطة على الفاء. وأقرب ما تعطيه هذه الصورة في المعاجم (فجرة) كما رجحناه، وهي بمعنى المرة من الفجور من فجر الرجل إذا زنا، والمعاجم لم تذكر إلا (ركب فلانٌ فجرةَ) [بدون تنوين] إذا كذب كذبة عظيمة.
هذا. وقد راجعت مع الأساس واللسان والمحيط والوسيط والمصباح والمختار، الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، وغريب الحديث لأبي عبيد، وغريب الحديث للخطابي، وتهذيب الأسماء واللغات، والألفاظ التي فسرها ابن خلكان في الوفيات، ومعجم الأمثال العربية، فلم أظفر من كل ذلك بما يشفي الغلة، فعسى أن يكون ما قدرتُ صواباً. والعلم عند الله.
والمراد أن الوطء قد يكون (نزوة)، وليس معناه إرادة الاستبقاء، أو إرادة الإجازة.

(5/56)


ولو وهبَ أحدُهما المبيعَ ولم يسلمه، فالقياس عندي أنه لا يكون مختاراً؛ فإنه إنما يتم بالقبضِ، والهبةُ مُشعرةٌ بالهمِّ بخلاف الوطء، وفيه احتمال. والاستخدامُ ليس اختياراً على القاعدة.
وفي الإجارة والتزويج الاحتمالُ الظاهر.
ولو باعَ المبيعَ في زمان الخيار وشرط في البيع الخيارَ، فإن قلنا: لا يزول مِلكُ البائع، فيقرب تنزيل هذا منزلة الهبةِ قبل القبض، وإن قُلنا: يزول الملك، ففيه احتمالٌ أيضاً، لإمكان الاستدراكِ فيه، فكأنه هَم أن يبتَّ الخيارَ. ولو وهبَ البائعُ من وَلدهِ وسَلّمَه، فالوجه القطع بأنه اختيار؛ فإنّ ملك المتهب تامّ. والرجوعُ في حكم ابتداء حق أثبته الشارع.
والمرتبةُ الرابعة - حق الرجوع بعدَ تمام زوال الملكِ كرجوع الواهب، والرجوع في عين المبيع عند إفلاس المشتري بالثمن، والأصل فيه أن الرجوع يستدعي تصريحاً، فإنه جَلْبُ ملك ابتداءً، وقد ذكرت خلافاً في إعتاق من له الرجوع، وأنه هل ينفذ متضمناً رجوعاً، والوجه القطعُ بأن الواهبَ لو وطىء الجاريةَ الموهوبة، لا يكون وطؤه رجوعاً، ولا شك أن إقدامَهُ على الوطء محرَّم؛ فإن تلك الجاريةَ مباحةٌ للمتَّهب، ويستحيل أن تحلَّ جاريةٌ لرجلينِ في حالةٍ واحدة.
هذا بيان قواعد المذاهب فيما أردناه.
فصل
2933 - من ثبت له الخيار بالشرط، لم يقف نفوذُ تصرفه على حضور صاحبه.
وإن أجاز، نفذت الإجازةُ في غيبة صاحبهِ نفوذَها في حضرته، وكذلكَ إذا فسخَ. ولو أعتقَ المشتري، أو باع في حضرة البائع، فسكتَ البائع، ولم يُبدِ نكيراً، لم يكن سكوته إجازةً منه للعقد، والقول فيما فعله المشتري نفوذاً ورداً، كما تقدَّم استقصاؤه. وإن وطىء المشتري الجاريةَ المشتراة بحضرة البائع، فسكت، فهل يكون السكوت منه إجازةً؟ فعلى وجهين ذكرهما بعض أصحاب القَفّال، وصاحب

(5/57)


التقريب: أحدهما -[أنه لا يكون إجازة] (1) بمثابة سكوتهِ على البيع والعتق. والثاني - أنه إجازة؛ فإن المتبعَ في أمر الوطء ما ذكرناه من إشعارِه بتصميم العزم، والسكوتُ على الوطء في هذا المعنى كالوطء.
فصل
في التلف
2934 - لم يبقَ من أصول أحكام الخيار، إلا تفصيلُ القول في تلف المعقود عليه في زمان الخيارِ. فنقول: إذا تلفَ المبيع في زمان الخيار، فلا يخلو إما أن يتلف في يد البائع، أو في يدِ المشتري، فإذا تلف في يد البائع، فلا شكَّ في انفساخ العقد.
وإن كان سُلّم إلى المشتري، فتلفَ في يده، فنذكر طريقتين للأئمة: إحداهما - لصاحب التقريب وأصحاب القفال، وهي المرضيّة. قالوا: نخرّج المذهبَ على أقوال الملك، فنقول: إن قلنا: الملكُ للبائع، فينفسخ العقدُ، وإن جرى التلف في يدِ المشتري؛ لأنَّا إذا كنا نحكُم بانفساخ العقد بتلف المبيع في يد البائع بعد لزوم البيع، لبقاء عُلقة من العقدِ؛ فلأن نحكم بذلك، وقد تلف المبيع ملكاً للبائع أولى.
وإن حكمنا بأن الملكَ للمشتري وقد تلف في يَدهِ، فهل نقضي بانفساخِ العقد؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - لا ينفسخ، وهو الذي قطع به أصحابُ القفال؛ لأنه قد تلف في ملك المشتري ويدهِ. والثاني - أنه ينفسخ لبقاء عُلقة البائع فيه، وملكُ المشتري قبل القبض بعد لزوم العقد أثبتُ من ملكهِ في زمان الخيار.
التفريع:
2935 - إن فرعنا على أن المِلك للبائع، وقضينا بانفساخ العقدِ، فالمشتري يستردّ الثمن، ويغرَم للبائع قيمة المبيع كالمستام (2)، فإنا إذا ضمَّناهُ لتوقع العقد، فهذا الذي نحن فيه بالضمان أولى، وإن فرَعنا على أن الملك للمشتري،
__________
(1) سقط من الأصل، ما بين المعقفين.
(2) المستام، الذي يطلب شراء السلعة، فإذا تلفت في يده، ضمن قيمتها للبائع.

(5/58)


وحكمنا بانفساخ العقد، فالجواب كما مضى. وإن حكمنا بأن العقد لا ينفسخ، فهل يبقى الخيار أم ينقطع؟
التفصيل فيه: أنه إن كان اشترى عبداً بثوب معين، ثم تلف العبد في يد مشتريهِ، وبقي الثَّوبُ في يد البائع، فالبائع على حقه من الخيار؛ إذ لو اطلع على عيب بالثوب، وقد تلف مقابله، لردَّ الثوبَ، فكذلك هاهنا. وأما المشتري لو أرادَ الفسخَ، أو كان اشترى عبداً بثمن في الذمّة، فأراد البائعُ الفسخَ؛ ففي المسألة وجهان: أحدهُما - أن الخيار قد انقطع؛ لأنه كان متعلقاً بالمبيع، وقد فات، فأشبه ما لو اطلع المشتري على عيب بالعبد بعدما مات، فإن أراد ردَّ قيمته واسترداد الثمن، فليس له ذلك، والوجه الثاني - أن الخيار قائم؛ فإن متعلَّقه العقد والعقدُ باقٍ، فأشبه ذلك التحالفَ بعد تلف المعقود عليه. ومذهبُنا أن المتبايعين إذا اختَلَفا في صفة العقد بعد تلف المبيع في يد المشتري، تحالفَا وتفاسخا. فإن حكمنا بانقطاعِ الخيار، فقد لزم العقد، واستقر الثمن، وإن حكمنا بأن الخيار باق؛ فإن أجيز العقد، فالجواب كما مضى في انقطاع الخيار، وإن فسخ العقدُ، استرد المشتري الثمن. وغرِم قيمةَ المبيع للبائع.
قالَ الصيدلاني: إذا قبض المشتري المبيعَ في زمان الخيارِ، ثم أودعه عند البائع، فتلف في يده، فهو كما لو تلف في يدِ المشتري. فإن حكمنا بأن الملك للمشتري، وقلنا: لا ينفسخ العقد، فعلى المشتري الثمن، وإن قلنا: بأن الملك للبائعِ وقُلنا: ينفسخ العقد [لو تلف] (1) في يد المشتري، فنقول: الآن ينفسخ أيضاً، والثمن مَردودٌ على المشتري، ثم قَالَ: وعلى المشتري القيمةُ للبائع؛ فإن يد البائع يدُ أمانةٍ، وهي بمثابة يد المشتري. ولو تلف في يد المشتري، لالتزم القيمةَ، فكذلك إذا تلف في يد البائع؛ فإن يده بمثابة يد المشتري.
قلنا: هذا الذي ذكرهُ في إيجاب ضمان القيمة على المشتري، والتفريع على أن الملك للبائع محتمل؛ فإن العين المملوكة إذا عادت إلى يد صاحبها وتلفت، فيظهر أن يقال: لا ضمان على المشتري، فما ذكرهُ الصيدلاني أوجه.
__________
(1) زيادة من: (هـ 2).

(5/59)


ولو فَرعّ مفرعٌ على أن الملكَ للمشتري، وارتضى أن البيع ينفسخ إذا تلف المبيع في زمان الخيار في يد المشتري، فحينئذٍ إذا تسلم المشتري، ثم أودعه عند البائع وتلف، فالقيمة تجب على المشتري؛ فإنه تلف ملكه مضموناً في يدٍ أمينة.
2936 - هذا بيان طريقة [واحدةٍ] (1) على وجهها. وذكر العراقيون وبعضُ أصحاب القفال: أن المبيع إذا تلفَ في يد المشتري في زمان الخيار، لم ينفسخ العقدُ أصلاً، وإن فرَّعنا على أن الملكَ للبائع.
ثم فرَّعوا تفريعاً بديعاً، فقالوا: إذا لم ينفسخ العقد، ولم يفسخ أيضاًً، حتى انقضى زمانُ الخيار، فعلى البائع رَدُّ الثمن، وعلى المشتري غرامةُ القيمة، وعللوا بأن المبيع تلف ملكاً للبائع، والمشتري لا يملكهُ في زمان الخيار، ولو بقَّينا الثمنَ على ملكِ البائع، لكان محالاً فإنه إنما يملكُ الثمن إذا ملكَ المشتري المثمن، ولما انقضى الخيار، كان المثمن تالفاً، لا يتصور تقرُّرُ الملك فيه، فلما عسر جريانُ ملك المشتري في المبيع، اقتضى ذلك ألا يملكَ البائعُ الثمن. وهذا الذي ذكروه تخليطٌ ظاهر.
لكنّي أتصرّف [فيه] (2) ثم أنبّه على منشأ التخليط وطريق قطعه، فأقول: وجبَ أن نفرع هذا أولاً على أن الخيار هَل ينقطع بتلف المبيع في زمان الخيار؟ فإن قلنا: إنه ينقطع، وقلنا: لا ينفسخ البيع على طريقهم لجريان القبض، وإن قلنا: الملك للبائع، فيتّجه على ذلك أن نقول: يستقرّ العقد، وينقلب المبيع إلى ملك المشتري قبيل التلف تبيّناً (3)؛ فإنّ سبب استمرار ملك البائع الخيارُ، فإذا كان التلف يقطع الخيار، فيجوز أن يؤثر في قلب المبيع إلى المشتري، كما نقول إذا تلف المبيع بعد لزوم العقد في يد البائع، فينقلب إلى ملك البائع قُبيل التلف، فعلى هذا لا ضمان على المشتري، ويستقرّ ملكُ البائع في الثمن.
__________
(1) مزيدة من: (هـ 2).
(2) زيادة من: (هـ 2).
(3) سبق أن شرحنا معنى التبيّن.

(5/60)


وإن قلنا: لا ينقطع الخيارُ، وقَدْ رأَوْا أن البيع لا ينفسخ، فمن هذا ثار الخبط، كما ذكرناه.
وكان من حقّهم أن يحكموا بانفساخ العقد، ويعللوا بما ذكروه من أنه لا يتصوَّر إجراء الملك في الثمن، من غير جريانه في مقابِله، وقد عسر جريَانُه في مقابله.
وهذا التعليل حسن. ولكن تعليل الانفساخ أظهر، فيجب القطع بالانفساخ على قولنا: الملك في المبيع للبائع في زمان الخيار.
ثم إذا حكمنا بانفساخ العقد على قولنا: الملك للبائع، وذَكرنا جوابين على القول الآخر، فمما أجريناه في التفريع إلزام المشتري القيمةَ. فإن قيل: أيةُ قيمةٍ تعتبر؟ قلنا: إن فرَّعنا على أن الملك للبائع، فالقول في القيمة على هذا القول، كالقول في قيمة المستعار، والمأخوذ على سبيل السَّوْم، وإن قلنا: المِلكُ للمشتري ورأينا أن العقد ينفسخ، فمن ضرورة ذلك الحكم بانقلاب المبيع إلى ملك البائع، ثم التلف يجري في ملكه، فهاهُنا نقطع باعتبار قيمته وقت التلف؛ فإن المبيع كان قبلَه مملوكاً للمشتري، فاستحالَ اعتبار القيمة عليه من وقت الملكِ فيه له. فهذا ما أردناه.
فرع:
2937 - البائع إذا استولد الجارية ولا خيار له، فإن قلنا: الملكُ له، وقضينا بأن الاستيلادَ يثبت؛ فإن كانت الجارية في يد البائع، انفسخ العقدُ. وسنذكر قولين في أن البائع إذا أتلفَ المبيعَ قبلَ القبض بعدَ لزوم المِلكِ للمشتري، فهل يكون هذا كتلف المبيع بآفةٍ سماويَّةٍ، وذاك فيه إذا استقرَّ المِلك للمشتري. أمّا هاهنا، فقد أتلف ملكَ نفسهِ قبل زوال يده، فالوجه القطع بانفساخ العقد، وإن كان سَلّمها إلى المشتري واستولدها في يده، وقلنا: المِلكُ للبائع، فالوجه في الطريقة المرضيَّة الحكم بانفساخ العقد أيضاًً؛ فانا إذا فرّعنا على أن الملك للبائع، فلا أثر لما جَرى من التسليم في منع انفساخ العقد على قياس الطريقة المرضيَّة.
فرع:
2938 - إذا اشترى رجل عبداً بجارية، وكان الخيار للمشتري وحده، فلو أعتق المشتري الجاريةَ، لكان ذلك فسخاً منه للعقد، ولو أعتق العبد، كان إمضاءً وتنفيذاً للعقد، فلو أنه أعتقهما جميعاً؛ فلا ينفذ عتقه فيهما جميعاً؛ فإن تنفيذ العتق

(5/61)


فيهما يتضمن فسخاً وإجازة، وهما نقيضان، فلا سبيل إلى جمعهما، ولكن اختلف أئمَّتُنا: فمنهم من قالَ: ينفذُ العتقُ في الجارية، لأن ذاك يتضمنُ فسخاً، والفسخ أقوى، ومنهم من قالَ: ينفذ عتقُه في العبدِ وهو اختيار ابن الحداد والقياس، وذلك لأن عتقَهُ في العبد تنفيذٌ للعقد.
وإذا فرَّعنا على الأصح وهو أن الملك في المبيع للمشتري، فلا يحتاج في تنفيذ عتقه إلى تقدير واسطةٍ بل نقول: أعتق ملكَه، فنفذ. وهذا فرَّعه ابن الحداد على أن الملكَ في المبيع للمشتري، فيجتمع ملكُه في المبيع وسُلطان الفسخ في الثمن، ومنه نشأ الخلاف.
قال الشيخ أبو علي: يتَجهُ عندي أن أقول: لا ينفذ عتقُه في واحد منهما؛ فليس عتقه في أحدهما أولى من الثاني، وهو ينفرد بكل واحدٍ منهما، ولا سبيل إلى تنفيذهما، فالوجه ردّهما بالتدافع، كإفسادِنا النكاحَ الوارد على الأختين.
والذي أراه أنّا إذا حكمنا بأن الملكَ في المبيع للبائع، فينفذ عتقُ المشتري قطعاً في الجارية؛ لأن الثمن على هذا القول ملكُ المشتري، فقد اجتمع في الجارية ملكُه ونفوذ الفسخ، وما ذكره الشيخ أبو علي ينقدح هاهُنا؛ فإن معتمدَهُ تصوّر الانفراد في كل واحدٍ من العتقين.
فرع:
2939 - إذا شرط المتعاقدان خيار يومين، جاز، فلو زادا في اليومين الخيارَ يوم الثالث، فهذا يخرج على خلافٍ سنذكرهُ في أن الإبراء أو الزيادة في الثمن والمثمَّن هل يلحقان العقد في زمان الخيار؟ وهذا يأتي مشروحاً إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: يتصوَّر إلحاق الزيادة في الثمن والمثمن، فزيادة الخيار تثبت، كما لو شُرطت في العقد، وإن قلنا لا تلحق الزوائد، فالشرط في زيادة الخيار ساقط، والعقد بحاله.
قال الشيخ أبو علي: الزوائد عند أبي زيد تلحق في مجلس العَقدِ، ولا تلحق في زمان الخيار. وهذا مما انفرد به، ولا يظهر فرقٌ بين الخيارين.
فرع:
2940 - إذا اشترى عبدين على أنه بالخيارِ في أحدهما، فالعقد باطلٌ؛ فإن متعلّق الخيار مجهول، فإن قال: على أنِّي بالخيار في هذا العبد، فالصفقةُ قد

(5/62)


جمعت بيع خيار في عبدٍ، وبيعاً لا خيار فيهِ في عبد، فيخرج على قولي تفريق الصفقة.
فرع:
شذَّ من تفريع بيع الغائب، فرأيت تداركَه في آخر هذا الباب
2941 - قد ذكرنا أنه إذا رأى شيئاً، ثم اشتراه، وكان المبيع لا يتغيَّر غالباً في مثل تلك المدة، ولكن اتفق تغيُّره، فللمشتري الخيار. وقد استقصينا ذلك، فلو قالَ المشتري: هذا المبيع متغيرٌ عما رأيته؛ فلي الخيار. وقال البائع: هو على ما كان عليه. قالَ الصيدلاني: قال صاحب التقربب: القول قول البائع؛ فإنه يبغي بقولهِ المحتمل تقرير العقد، فصار كما لو اختلف البائع والمشتري في عيبٍ، فادَّعى البائع أنه حَدَث في يد المشتري، فالقولُ قول البائع. قال الصيدلاني: القياس أن القولَ قول المشتري في مسألة الرؤية؛ فإن البائع يدَّعي على المشتري أنه اطلع على المبيع على هذه الصفة، وهو ينكر اطلاع نفسه، فكان هذا بمثابة ما لو قال البائع للمشتري: هذا العيب قديم، ولكنك قد اطلعتَ عليه، وقال المشتري: ما اطلعتُ عليه، فالقول قول المشتري.
* * *

(5/63)


باب الربا
وما لا يجُوزُ بَعضُه ببَعض مُتَفاضِلاً ولاَ مُؤجَّلاً والصَرف
2942 - قال الشافعي (1): " أخبرنا عبد الوهَّاب ... الحديث ".
قد نصّ الله تعالى على تحريم الربا وتوعّد عليه، ولكن ذَكَرَ الربا مجملاً في القرآن، والتفسيرُ مُحالٌ على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعتمدُ في الباب الخبرُ، وقد روى الشافعي بإسنادهِ عن مسلم بن يسار، ورجل آخر عن عبادةَ بنِ الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تبيعوا الورِقَ بالورِق، ولا الذهبَ بالذهبِ، ولا البُرَّ بالبُرّ، ولا الشعيرَ بالشعير، ولا التمرَ بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عيناً بعين، يداً بيدٍ، ولكن بيعوا الورِقَ بالذهب، والذهبَ بالورق، والبر بالشعير، والشعيرَ بالبُرّ، والملح بالتمر، والتمر بالملح كيف شئتم يداً بيد" (2).
فنقول: نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحريم الرِّبا في ستة أشياء وهي الدراهم، والدنانير، والبر، والشعير، والتمر، والملح، واضطربت مذاهب العلماء في تعدّي مورد النصّ، ولا يليق التعرُّضُ للاختلاف بهذا الكتاب المقصور على بيان مذهب الشافعي وأصحابه، فالوجه الاقتصار على هذا المذهب.
2943 - والباب يشتمل على ضروب من الربا. وأصل جميعها ربا التفاضل، فنبدأ بهذا، ونستقصي القولَ فيه، ثم نذكر ما عَدَاهُ، ونصنّفُ الأشياء الستة صنفين،
__________
(1) انظر الأم: 3/ 12.
(2) حديث عبادة رواه الشافعي في الأم: 3/ 12، قال: أخبرنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن مسلم بن يسار، ورجل آخر، عن عُبادة بن الصامت. ورواه مسلم: كتاب المساقاة، باب الصرف، وبيع الذهب بالذهب نقداً، ح 1587، وفي الباب عن عمر وعن علي، وعن أبي هريرة وغيرهم (ر. التلخيص: 3/ 15 ح 1135).

(5/64)


فنذكر الأربعة منها فنّاً: وهي البُرّ، والشعيرُ، والتَمرُ، والملح، ثم نتكلم بعدها في الدراهم، والدنانير. فأما الأشياءُ الأربعة، فتحريم ربا الفضل فيها عند الشافعي معلَّلٌ في قوله الجديد بالطعمِ، ثم لهذه العلةِ محل وهو اتحاد الجنس، فإذا صادف الطعم جنساً متحداً، اقتضى تحريمَ التفاضل. وليس الجنسُ صفةً في العلةِ، وإن كان الحكم يتوقف عليه، وهذا بمثابة قولنا: الزنا موجبٌ للرّجم إذا صدر من محصنٍ، وليس الإحصانُ صفة في العلة، ولكنه محلّها. وقد استقصينا القول في ذلك في مجموعاتِنا (1) في الخلاف.
وأثر ما ذكرناه يبين في ربا النساء، وباب الصرف.
وقد ثبت الآن تحريمُ التفاضل في كل مطعوم متّحدٍ جنسُه سواء كان مقدراً بكيل، أو وزنٍ، أو لم يكن مقدراً، كالسفرجل، والرمان، والقثاء، والبطيخ.
واعتبر في القديم الطعم كما ذكرناه، وضمّ إليه التقدير وقال: علة الربا من الأشياء الأربعة الطعمُ، وإمكانُ التقدير. واعتبار التقدير في القديم وصفٌ في العلّة، وهي مركّبة من الطعم والتقدير، ومحل العلّة المركَّبة اتحادُ الجنس كما تقدم، وهذا أصل الباب في هذه الأشياء.
وإذا اختلف الجنسُ لم يحرم التفاضل، كما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: " وإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم ".
2944 - ثم أول ما نبدأ به شرح الطعم الذي اعتبرناه في العلّة: فكل ما يكون الغرض الغالب منه الطعْم، وإنما يُعد غالباً له، فهو مالُ ربا على الجديد، مقدَّراً كان أو غير مقدَّرٍ. والمقدر مما يُطْعم مال ربا في القديم؛ فالأغذيةُ والفواكه داخلةٌ
__________
(1) مجموعاتنا أي مؤلفاتنا، يشير إمام الحرمين، إلى كتبه في الخلاف، وقد عرفنا منها: الدرّة المضية فيما وفع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية (وقد وفقنا الله لتحقيقه وإخراجه). 2 - غنية المسترشدين ويسمى اختصاراً (الغنية). 3 - الأساليب. 4 - العُمَد وهذه لم نعثر على أثر لها في المكتبات للآن. ولإمام الحرمين أيضاً (الكافية في الجدل)، وقد حققته وأخرجته الدكتورة فوقية حسين، جزاها الله خيراً.

(5/65)


تحت الطُّعْم، والأدويةُ مطعومةٌ، وإن كانت تستعمل على نُدورٍ، ولكنها مُعَدَّةٌ لتُطعم إذا مست الحاجةُ إليها.
هذا هو الأصل، ونذكر مسائلَ فيها تردد.
قال العراقيون: الطين الأرمني مطعوم دواءً، فهو مال ربا، والطين الذي يأكله السفهاء لا ربا فيه؛ فإنه لا يعدّ مأكولاً، وأكله سفهٌ. وكان شيخي يتردد فيه، ويميل إلى أنهُ مال ربا، وما ذكروه في الطين الأرمني صحيحٌ، لا خلاف فيه. وذكر العراقيون فيما صُرف عن الطُّعم اعتياداً وأصله مطعوم، كدهن البنفسج، والورد، وغيرهما، أن المنصوص أن هذه الأدهان مال ربا، فإنها شَيْرج اكتسب روائح من الأزهار، وانكف الناس عن أكلها ضِنّة بها. قالوا: وذكر بعض الأئمة قولاً مخرَّجاً أنها ليست مالَ رباً؛ لأنها لا تُعدّ مطعومةً عرفاً.
قال صاحب التقريب: " دهن البنفسج مال ربا، وفي دهن الورد وجهان ".
ولستُ أفهم الفرق بينهما، ثم إذا جعلناها مال ربا فكلُّها جنسٌ واحد؛ فإنها شَيْرج اختلفت روائحها، لمجاورة أشياءَ مختلفة. هكذا ذكره العراقيون، وهو الوجه.
وذكر الإمام وجهين في الكتان ودهنه، وقطع العراقيون بأن دهنَ الكتان المعد للاستصباح ليس مالَ ربا، والظاهرُ ما قالوه؛ فإن الكتان ودهنه إن فُرض أكلُهما على ندور، فلا نظر إلى ما يندر، وإنما الاعتبار بما هما معدّان له غالباً، وهذا كالكبريت والقطران، قد يندر من بعضٍ أكلُهما، ولكنهما ليسا مُعدَّيْن لذلكَ.
قال العراقيون: ودَكُ السَّمكِ المعَدُّ للاستصباح وتدهين السفن ليس مال ربا، وعللوا ذلك بما قدمناه. وهذا يظهر فيه جعلُه مالَ ربا؛ فإنه جزءٌ من السمك، وهو مطعوم فيه، والزعفران مأكولٌ، والمقصود الأظهر منه الأكل تلذذاً وتداوياً.
ولو فرض علينا شيء يجري فيه الطعم وغيرُه على التقارب في التساوي؛ فالوجه القطع بأنه مال ربا؛ فإنه ظهر كونه مطعوماً، فكفى ذلك، ولا يضر ظهورُ غرضٍ آخرَ فيه، وفيما نقله العراقيون في دهن البنفسج وودك السمك المعدّ للاستصباحِ تناقضٌ؛ فإنهم لم ينظروا إلى العادة في انصراف دهن البنفسج عن الطُعم، واختاروا كونه مالَ ربا، وحكَّموا النص فيه، وقولهم في ودكِ السمكِ يخالف ذلك. وهذا غامض عليهم.

(5/66)


والوجه عندنا تخريجُ هذا الفن على الخلاف؛ فإنه متردّد بين الأصل المأكول، وبين الانصراف عن جهة الأكل لغرض في العادة.
فرع:
2945 - اختلف الأئمة في بلع السمكة الحيّة؛ فإن منعنا ذلك، فليس السمك مال ربا في الحياة. وإن جوزنا بلْعَها، فقد تردد شيخي في إجراء الربا فيها، وهذا بعيدٌ عندي. والوجه القطع بأنه لا ربا فيها؛ فإنها لا تُعدّ لهذا الشأن. وكان تخصيص ما ذكره بالصغار التي تُبتلع. وتردّد صاحب التقريب في السمكة، وبنى أمرها على ما ذكرناه، وقطع بالفصل بين الكبار والصغار.
وأما الماء، فمطعوم لا شك فيه، والمذهبُ أنه مملوك يباع، فهو مال رباً. ومن أصحابنا من قال: الماء لا يُملك؛ فيمتنع عنده بيع الماء بالدراهم، وسأذكر أحكام المياه مجموعةً في إحياء المواتِ، وتمام الضبط في هذا أن المعتبر في الاعتداد بالطُّعم حالةُ الاعتدال والرفاهية، فأما ما يطعم في سِني الأَزمِ والمجاعة، فلا معوّل عليه.
فصل
في اعتبار طريق التقدير
2946 - ما جرى في تقديره طريقٌ في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو المعتبرُ فيما يحرم فيه التفاضل، فالحنطة والتمر والشعير كانت تكال، فلا يجوز بيع بعضها ببعض مع اتحاد الجنس وزناً بوزنٍ، وإن كان الوزن أحصرَ من الكيل، ولكن المتبعَ الشرعُ، وإن صح الوزن في شيء في عَصر الشارع صلى الله عليه وسلم، تعيّن الوزنُ فيهِ؛ حيث تحرم المفاضلة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة " (1) فما معنى الحديث؟ قلنا: لعل اتخاذ المكاييل كان يعمُّ في
__________
(1) الحديث عن ابن عمر، أخرجه أبو داود في البيوع، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: " المكيال مكيال المدينة "، ح 3340، والنسائي في الزكاة، باب كم الصاع: 5/ 54 ح 2521، وفي البيوع، باب الرجحان في الوزن: 7/ 284، ح 4598، وصححه ابن حبان: =

(5/67)


المدينة، واتخاذ الموازين يعمُّ بمكة، فخرج الكلام على العادة، وإلا، فلا خلاف أن اعتبار مكاييل أهل المدينة، وموازين أهل مكة لا يرعى، ويجوز أن يقال: ما تعلق بالوزن من النُّصب وأقدار الدياتِ وغيرها، فالاعتبار فيها بوزن مكة، وما تعلق بالكيل في زكاةِ الفطر، والكفارات، فالمعتبرُ ما كان يغلب في المدينة. وليسَ في الحديث تَعرُّضٌ لأمر الربا.
فرع:
2947 - إذا اتخذ مكيالٌ لم يُعهد مثله في عصرِ الشارع، وكان يجري التماثل به، فالوجه القطع بجواز رعاية التماثل به؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعبَّدْنا في الحديث إلا بالكيل المطلق فيما يكال، ولم يعيّن مكيالاً، وأجمع أئمتنا: على أن الدراهم إذا بيعت بالدراهم، وعُدِّلَتا بالتساوي في كفّتَي ميزان، فالبيع صحيح. وإن كنا لا ندري ما تحويه كلُّ كِفة.
وهذا الذي ذكرته في مكيالٍ يجري العرف باستعماله، ولكن لم يعهد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو بيع ملءُ قصعة بملئها، وما جرى العرف بالكيل بأمثالها، فقد حكى شيخي تردّداً عن القفال، والظاهر عندنا الجواز. والوزن بالطيّان (1) وزنٌ، وإن لم يكن له لسانُ وزنٍ، والاستواء يبين فيه بتساوي قَرْعتي الكِفتين، والوزن بالقَرَسْطون وزنٌ، وقد يتأتى الوزن بالماء بأن توضع دراهم في ظَرْف، فتُلقى على الماء ويُنظر إلى مقدار غوصه، ثم يفعل مثل ذلك بمقابلهِ، وليس ذلك وزناً شرعيّاً ولا عرفيّاً. والظاهرُ أنه لا يجوز التعويل عليه في تماثل الربويات.
وما استَربْنا فيه، فلم ندرِ أنه كان مكيلاً في عَصر الشارع أو موزوناً، فلا يخلو إما أن يكون له أصل يعرف تقدير الشارع فيه، أو لا يكون، فإن لم يكن له أصل يُعلم
__________
= 1105 عن ابن عباس. وأخرجه أيضاًً الطبراني في الكبير: 3/ 2، 20/ 1، والبيهقي: 6/ 31، وأبو نعيم في الحلية: 4/ 20، والطحاوي في المشكل: 2/ 99، وقال الألباني: صحيح (إرواء الغليل: 5/ 193 ح 1343)، وانظر أيضاًً (شرح السنة للبغوي - تعليق شعيب الأرناؤوط: 8/ 69)، و (نيل الأوطار: 5/ 307).
(1) الطيان، والقرسطون: نوعان من الموازين كما يتضح من السياق. ولما أصل إلى وصف لهما.

(5/68)


تقديرُه شرعاً، وكان يتأتى فيه الكيل والوزن جميعاً، ففيه أوجه: أحدها - أن يكالَ؛ فإن الكيل كان غالباً في معظم المطعومات، فنعتبر موضع الإشكال بالغالب. والثاني - أنه يتعين الوزن؛ فإنه أحصرُ من الكيل، فإذا لم يثبت الكيل بالتوقيف، فطلبُ الأحصَرِ أولى. والثالث - أنا ننظر إلى العادة الغالبةِ في موضع المعاملة؛ فإنه إذا عسر اعتبار عرف الشارع، وقد وجدنا العرف أصلاً متبعاً، فالأقربُ اعتبار عرف الوقت.
وذكر شيخي وجهاً رابعاً - وهو أنا نتخيَّر بين الكيل والوزن؛ إذ ليس أحدهما أولى من الثاني. وهذا بعيد جداً لم أره لغيره. وإذا جرى التقديران، فلا بد من تفاضل يجري لأحدهما. ولو منع مانعٌ أصلَ البيع لاستبهام طريق التماثل، لكان أقربَ مما ذكره، ولكن لا قائل به من الأصحاب. فأما إذا كان للشيء أصل يعرف طريق تقديره في عصر الشارع، ولكنه في نفسه لا يُدرَى بماذا كان يُقَدَّر في العصر الأول، ففيه الأوجه المتقدمة، وزاد شيخي وصاحب التقريب والصيدلاني وجهاً آخر أنهُ يتعيّنُ أن يقدَّر بما يقدر به أصله.
فصل
2948 - في بيان الحال التي تباع في مثلِها أموال الربا، بعضُها ببعض، ويتصل به التفريع على القول القديم؛ فنقول: قد منع الشافعيُّ في معظم العلماء بيعَ الرطب بالتمر، واعتمد فيه الحديث المشهور، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال: " أينقصُ الرطبُ إذا جف؛ فقيل نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: فلا إذن " (1). ثم استنبط الشافعي من مورد الحديث أن
__________
(1) حديث أينقص الرطب إذا يبس؟ رواه مالك في الموطأ: 2/ 624، والشافعي في الأم: 3/ 15، وأحمد في مسنده: 1/ 175 - 179، وأبو داود: البيوع، باب في التمر بالتمر، ح 3359، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في النهي عن المحاقلة والمزابنة، ح 1225، والنسائي: بيوع، باب اشتراء التمر بالرطب، ح 4545، 4546، وابن ماجة: التجارات، باب بيع الرطب، ح 2264، والدارقطني: 3/ 49، 50، والبيهقي: 5/ 294، 295 وقد صححه الألباني (ر. تلخيص الحبير: 3/ 20 ح 1143).

(5/69)


المماثلة حقها أن يعتبر فيها حالُ كمال الشيء، فالتمر حالةُ كماله جفافه، فإذا بيع الرطب بالتمر مع التساوي في الحال، ثم فرض جفاف الرطب، نقص مقداره عند جفافه عن التمر الذي قابله، وكأنا تخيّلنا على الجملة أنَّ تعبّدَ الشارع في منع التفاضل يعتمد بشرف الطعام، فنعتبر التماثل في أشرف الأحوال، ثم بنى الشافعي على ما مهّدَهُ في ذلك منعَ بيع الرطب بالرطب؛ فإنهما إذا جفّا، لم يُدْرَ هل يتماثلان.
2949 - فنقول: بعد تمهيد القاعدة: كل رطب يعتاد تجفيفه لا يجوز بيع بعضه ببعض، وكذلك القول في العنب.
فأما الرطب الذي لا يجفف ولو فُرض تجفيفُه، لاستحشف وفسد، فهل يجوز بيع بعضِه ببعضٍ؟ فيه وجهان: أحدهُما - الجواز، وهو القياس؛ لأن هذا النوع كماله في إرطابه، وليست له حالة منتظرة أكمل من هذه.
وقد أجرى بعض أصحابنا لفظ الادّخار في أدراج الكلام، وهو غير معتمد؛ فإن اللبن يباع بعضه ببعضٍ، كما سنذكره، ولا يتأتى فيه الادخار، ولكن لما كان ذلك أكملَ أحوالهِ، روعي كمالُه، ولم يثبت أيضاً توقيف في النهي عن بيع الرطب بالرطب خصوصاً، وإنما النهي في بيع الرطب بالتمر. والوجه الثاني أن البيع باطل، نظراً إلى جنسِ الرطب، و [امتناعاً] (1) من تتبع التفاصيل في أنواع الجنس؛ فإن القول في ذلك يطول.
ولم يختلف أئمتنا في منع بيع الرطب الذي لا يجفف بالتمر، وكان القياس يقتضي تجويزَه عند من يجوّز بيعَ الرطب بالرطب، إذا كان لا يجفف. وما ذكرته مدلول كلام الأئمة، ولم أجد لهم نصاً في منع بيع التمر بالرطب الذي لا يجفف.
2950 - وأمَّا المشمش والخوخ، فقد يجري العرف في تشميسهما، ولكن لا يعم [عمومَ] (2) تجفيف الرطب والعنب، فذكر الأئمةُ ثلاثة أوجهٍ فيها: أحدُها - أنه لا يجوز بيع الرطب منها بالرطبِ من جنسهِ؛ إذ له حالة جفاف منتظرة، فأشبه الرطبَ
__________
(1) في الأصل: وامتناعنا.
(2) مزيدة من: (هـ 2).

(5/70)


والعنبَ. وهذا القائل يجوّز بيعَ الجاف منه بالجافّ، قياساً على الرطب.
والوجه الثاني - أنهُ يجوز بيع الرطب بالرطب، فإن أكمل أحوال المشمش، وما في معناه الرطوبةُ، والتجفيف فيه في حكم النادر، الذي يستعمل في الفاضل عن الأكل من رطب الجنس، وكُثْر الغرض في الرطوبة بخلاف الرطب؛ فإن الأصل فيه التجفيف.
والوجه الثالث - أنه لا يجوز بيع بعضه بالبعض، لا رَطباً ولا يابساً؛ فإنه لم يتقرر له حالة كمال؛ والبيعُ يعتمد حالة الكمال؛ فإمكان الجفاف وجريانه أخرج حالة الرطوبة عن قضية الكمال، وعدمُ عموم ذلك أخرج حالة اليبوسة عن حكم الكمال.
ولم يصر أحد من أئمة المذهب إلى تجويز البيع في حالة الرطوبة ومنعه في حالة الجفاف.
نعم، الرطب الذي لو جفف فسد، ولم يبق فيه انتفاعٌ يُحتفل به، يجتمع فيه أربعةُ أوجُهٍ: ثلاثة منها كما ذكرناها، والرابع - التجويز في حالة الرطوبة، والمنع في حالة اليبوسة؛ فإن الرطوبة في هذا النوع هي الكمال، والجفاف غير معتاد أصلاً.
2951 - وممّا يتصل بهذا الأصل -وفيه التفريعُ على القول القديم- تفصيلُ القول في بيع القثاء بمثله، وكذلك ما في معناه مما لم يجر فيه العرف بتجفيفٍ أصلاً، فنقول: أولاً - هذا غير مُقدّرٍ عُرْفاً بكيل ولا وزن، وإنما يباع عدداً، فإن فرَّعنا على القول القديم، ورأينا ضمَّ التقدير إلى الطعم، فليس هذا الجنسُ مالَ ربا؛ فيجوزُ بيعُ بعضه ببعضٍ كيف قُدّر وفُرض، وإذا أخرجناه على هذا القول من كونه مال ربا، فلو جُفف على نُدور، وكان مأكولاً، وجرى فيه الوزن في جفافه، فقد ذكر الإمامُ عن شيخه القفال، أنه لا يجري الربا فيه على القديم، وإن تقدر؛ فإن أكمل أحواله الرطوبة، وقد خرج في حال الرطوبة عن كونه مال ربا، فلا ننظر إلى حالة جفافه، ونتبع هذه الحالةَ تلك الحالة في سقوط الربا.
والظاهر بخلاف هذا؛ فإنه مطعوم مقدَر في الجفاف.
ويجوز على القديم بيعُ الجوز بالجوز، والبيض بالبيض، وكذلك كل معدود في

(5/71)


العرف. ويمتنع بيعُ لب الجوز واللوز بعضُه متفاضلاً على القديم؛ فإنه مقدَّر مطعوم في حالة شَرَفهِ، وليس مصيرُه إلى إجراء التقدير فيه نادراً، بخلاف ما قدمته في القثاء والسفرجل، وما في معناه. ولا رباً على القديم في الرمَّان. ويجري في حب الرمّان إذا جف [ما] (1) ذكرته في اللُّبوب.
فرع:
2952 - الشعير في سنبله لا يقدَّر، فإذا فرّعنا على القول القديم، فالوجه عندي منعُ بيع بعضه ببعض؛ فإنه من جنس ما يقدّرُ، ولا ننظر إلى حالته هذه، وليس كالجوز مادام صحيحاً، وكيف نستجيز التشبيب بالخلاف مع قيام النص في الشعير.
وقد تقرر في (الأساليب) (2) ردُّنا على أبي حنيفة (3) في إخراجه الحفنة، وهي بعض المنصوص عليه في الخبر. وهذا تفريعُنا على القديم.
2953 - فأما الجديد، فنقول عليه: كلُّ مطعوم مالُ ربا، وإن كان لا يُقدّر، وإذا كان كذلك امتنع بيعُ بعضه ببعض عدداً، والمانع تعذر التقدير، وهل يجوز بيع بعضه ببعض وزناً؟ فعلى وجهين: أحدهُما - وهو ظاهر المذهب أنه لا يجوز؛ فإن الوزن فيه غير معتاد، لا في عصر الشارع صلى الله عليه وسلم، ولا بعده، ولا سبيل إلى تجويز البيع عدداً؛ فالوجه المنع. والثاني - أنه يصح؛ فإنَّا إن نظرنا إلى الكمال، فرطوبتُه أكمل أحواله، والتقدير قد حصل بالوزن.
وأما عدم جريان العرف بالوزن؛ ففيه سرٌّ يجب رعايته. فنقول: ما جرى فيه عرف الشارع بالكيل، فقد تُعُبِّدْنا فيه بالتساوي في الكيل، فلا معدل عنه إلى الوزن، وما تقدر وجهلنا فيه عرفَ الشارع؛ ففيه اضطرابٌ تقدم ذكره، فأما ما نحن فيه، فقد جرى العرف فيه بالعدد، وذلك تساهل في الطريق، والشرع لا يقنع به، وفي الوزن الضبط التام، وليس فيه تركُ تقديرٍ تعلَّق به تعبّدٌ.
__________
(1) في النسختين: كما ذكرته. والمثبت تقدير منا.
(2) أحد كتب الإمام في علم الخلاف.
(3) ر. تبيين الحقائق: 4/ 85، 87، البدائع: 5/ 139، الهداية مع فتح القدير: 6/ 293.
وأبو حنيفة إنما جوّز الحفنة بالحفنتين والتفاحة بالتفاحتين؛ لعدم الكيل والوزن؛ لأن علة التحريم عنده الكيل أو الوزن مع الجنس.

(5/72)


وهذا وإن كان فقيهاً، فالأصح الأول. فلو جفف ما نحن فيه، وكان إذ ذاك يوزن، وقد منَعْنا بيعَ رطبه بالرطب وزناً، ففي جواز البيع في حالة الجفافِ خلافٌ مشهور: من أصحابنا من مَنع. وتوجيهُه أنه امتنع فيه عند هذا القائل جوازُ البيع في أكمل أحواله، فكان ما جرى من الجفاف على ندورٍ، تابعاً في المنع لحالة الكمال.
وهذا يلاحظ ما ذكرناه من التفريع على القول القديم في مثل ذلك.
ومن أصحابنا من قال: يجوز بيع البعض بالبعض في الجفافِ؛ لجريان العُرف بالوزن، وإذا جوزنا بيعَ الرطب بالرطب وزناً، وضممنا إليه القولَ في حال الجفاف، [كان ذلك] (1) بمثابة الرطب الذي لا يجفف اعتياداً، فيجري في حالة الرطوبة واليبوسة الأوجه الأربعة، التي تقدمت مشروحة.
قال العراقيون: جفاف البطيخ حيث يعتاد ذلك من البلاد في حكم جفاف المشمش، والأمر على ما ذكروه.
فرع:
2954 - قال صاحب التقريب: بيع الزيتون بالزيتون جائز؛ فإنه حالة كماله وليس له حالة جفاف، ولكن يعتصر الزيت منه، وليس ذلك من باب انتظار كمالٍ في الزيتون؛ فإنه تفريق أجزائه، وتغييره عن حاله، كما يستخرج السمن من اللبن.
والأمر على ما ذكره.
ومما يتصل بتمهيد هذا الأصل، القول في الدقيق، وكل ما يُتَّخذ منه. فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يجوز بيع الدقيق بالدّقيق مع اتحاد الجنس؛ والسبب فيه أن كمال البُرّ في كونه بُرّاً، والدقيق زائل عن الكمال، وهو إلى الفساد لو لم يُستعمل، وإذا كان كذلك، فلو بيع الدقيق بالدقيق كيلاً أو وزناً، ثم لاحظنا حالة كونهما بُرّين، لم نَدْرِ هل كانا متماثلين بُراً أم لا. فكان نظرنا إلى الكمال الزائل، بمثابة نظرِنا إلى الكمال المنتظر عند بيع الرطب بالرطب، وكذلك نمنع بيع الحنطة بالدقيق، كما نمنع بيع الرطب بالتمر، وكل ما يتخذ من البُرّ من كعك، أو خبز، أو سويق، فهو [في] (2)
__________
(1) في الأصل: كذلك. وفي: (هـ 2): وكذلك. وهذا التصرف منا رعاية للسياق.
(2) مزيدة من: (هـ 2).

(5/73)


معنى الدقيق؛ فيمتنع بيع بعضهِ بالبعض، ويمتنع بيعُه بالبُرِّ.
وقد يعترض فيما (1) ذكرناه علةٌ أخرى مع ما ذكرناه؛ فإن الخبز في معنى المختلِط؛ إذ فيه ماء وملح. وسنذكر بعد ذلك إن شاء اللهُ تعالى منعَ بيع المختلط بمثلهِ.
فهذا قاعدةُ المذهب، وسنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الفصل نصوصاً غريبة في ذلك.
فإن قيل: الحنطة المسوسة إذا قربت من العفونة، فما القول فيها؟ قلنا: ظاهر قول الأئمة جواز بيع بعضها بالبعض، وإن أمكن أن يقال فيها: إنها زايلت كمالَها، وهي أقرب إلى العفن من الدقيق. وإنما راعَوْا في هذا النظرَ إلى طرد القول في الجنس، ولا وجهَ غيرُه؛ فإنا لو ذكرنا غيرَ ذلك، لعَسُرَ النظرُ في تفصيل الحنطة، التي تمادى زمانُ احتكارِها. وهذا مما يعسرُ تتبعه.
ولعل هذا قبل أن تتآكل، فأما إذا تآكلت، وخلت أجوافُها، ففيها نظرٌ عندنا؛ فإن الأئمةَ أطلقوا بيع المسوسة بالمسوّسة، والمسوسة هي التي بدأ التآكل فيها، والقياس القطعُ بالمنع؛ إذ الحنطة المقليّة لا يباع بعضها ببعض، لما فيها من التجافي الحاصل بالقلي، فكذلك لا يجوز بيع الحنطة المبلولة بالحنطة المبلولة والجافَّة، لما ذكرناه في المقليّة، ولو بُلت الحنطة ونُحّي منها قشرتُها بالدّق والتهريس، وهي الكَشْك (2) - قال الأئمةُ: هي كالدقيق؛ فإنها تفسد على القرب، ويتفاوت ما يزايلها من القشر، ولو بُلَّتْ ثم جُفّفت ولم تُهرَّسْ، فإنها تتشَنج في جفافِها على تفاوت يُفضي إلى جهلٍ بالمماثلةِ قبل البلّ، فإن كان كذلك، فالوجه المنع. وفي الجاوَرْس (3) إذا نُحّيت منه القشرةُ احتمالٌ عندي، ولا شك في [جواز] (4) بيع الرّز بالرّز المنقَّى عن قشرته. فتأَملوا هذه المراتبَ.
__________
(1) في (هـ 2): في بعض ما ذكرناه.
(2) الكشك: وزان فَلْس: ما يعمل من الحنطة (مصباح).
(3) الجاوَرس: بفتح الواو، حب يشبه الذرة، وهو أصغر منها. (مصباح).
(4) مزيدة من (هـ 2).

(5/74)


2955 - ومما يتعلّقُ بهذا الفصلِ القَولُ في بيع هذه المطعومات بعضها ببعضٍ مع نزع النَّوى، والسبب فيه أنه يكتنز في المكيال، ويتجافى على تفاوت ظاهرٍ، على قدر الضغط، وإذا امتنع هذا، فلا شك في امتناع بيع [التمر] (1) المنزوع نواه بالتمر مع النوى.
وكان شيخي يذكر خلافاً في مُقدَّد المشمش والخوخ، فيقول: من أصحابنا من أجراهما مجرى التمر، فمنع البيع مع نزع النوى، ومنهم من جوَّز البيعَ مع النزعِ؛ فإن ذلك معتاد في جنسها، ونواها لا يُصلحها، بخلاف نوى التمر؛ فإنه عصامُها من التسويس. وهذا القائل يجوّز البيعَ مع النوى ومن غير نوى، ولم أر لأحدٍ اشتراط نزع النوى، إلا لشيخي، فإنه ذكر عن بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في اشتراط نزع النوى، كما يشترطُ نزع العظم عن اللحم في ظاهر المذهب.
فقد تحصلنا على ثلاث مراتبَ، أما التمر، فنزع نواه يمنع بيعَه، واللحم في ظاهر المذهب يتعيّنُ نزع عظمه، إذا حاولنا بيع بعضه بالبعض، وبينهما المشمش، وما في معناه، فيجوز بيعُ بعضِه ببعضٍ مع النوى، وفي تجويز البيع مع النزع الخلافُ المذكور.
وذكر العراقيون وجهين في جواز بيع التمر بالتمر مع نزع النوى، وهذا بعيد جدّاً، ثم جاؤوا بما هو أبعد منه، وذكرُوا خلافاً في بيع تمرٍ منزوع النوى بتمرٍ غير منزوع النوى، وهذا ساقط لا يُحتفلُ بمثله.
وقد تم الغرضُ من الفصلِ.
2956 - ونذكر الآن النصوص الغريبة في الدقيق والكعك.
نقل المزني في المنثور أن الشافعيَّ كان يمنع بيع الدقيق بالحنطة، ويجوّز بيع الدقيق بالدقيق، ونقلَ حرملةُ ذلك أيضاًً، وهذا النصُّ ليس يشعر بأن الدقيق يخالف جنسَ الحنطة، ولكن مقتضاه أن منع بيع الدقيق بالحنطة سببُه التفاوت الظاهر في الكيل، والدقيق مع الدقيق لا يتفاوتُ.
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

(5/75)


ونقلَ الحسينُ الكرابيسي عن الشافعي أنه كان يقول: الحنطةُ ودقيقُها جنسان؛ فيجوز بيع أحدهما بالثاني متفاضلاً، لاختلاف الصفة، والاسم، والمنفعة. والدقيق مع الدقيق جنس واحدٌ.
وحكى ابن مِقلاص (1) أن الشافعي جعل السويقَ مخالفاً لجنسِ (2) الحنطة؛ لأنه يخالفها في المعنى. والدقيقُ مجانس للحنطة؛ فإنه حنطة مفرقة الأجزاء، والحنطة دقيق مكتنز. وعلى هذا الخبز يخالف الحنطة، ويجب أن يخالف الدقيقَ السويقُ أيضاًً.
وقال العراقيون: بيع الخبز غيرِ اليابس بمثله، أو باليابس لا يجوز؛ لأن الرطوبة التي فيه ماءٌ، وفي بيع اليابس بمثله خلاف. وذكروا الخلاف في بيع الدقيق بالدقيق.
فهذا مجموع النصوص.
ولكن اتفق أئمة المذهب على أنها لا تُعدّ من متن المذهب، وإنما هي ترددات جرت في القديم، وهي مرجوعٌ عنها، والمذهب ما مهدناه قبل هذا.
فصل
في بيان القاعدة المترجمة بمُدّ عجوة ودرهم
2957 - وهذا ركن عظيم في مذهب الشافعي في أصل ربا الفضل، فنقول: مذهبُنا أن من باع مُدَّ عجوةٍ ودرهماً، بمُدَّي عجوة. فالبيع باطل، وقد اعتمد الشافعي في هذا الأصل حديثَ القلادة، وهو ما رُوي عن فَضالة بن عُبيدٍ قال: "أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلادةٍ فيها ذهب وخرزٌ تباع، وهي من المغانم، فأمر رسول الله
__________
(1) ابن مقلاص: عبد العزيز بن عمران بن أيوب. أبو علي الخُزاعي، الإمام. أخذ عن الشافعي، روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما ت 234 هـ (طبقات السبكي: 2/ 143).
(2) كان السبكي تقي الدين يقول عن رواية ابن مقلاص هذه: "إن الدقيق في تلك البلاد إنما يستعمل من الشعير، وحينئذِ لا إشكال في مخالفة السويق للحنطة" حكى هذا السبكي الابن تاج الدين في طبقاته: 2/ 143، 144.

(5/76)


صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة، فنزع، وقال: الذهب بالذهب وزناً بوزنٍ" (1)؛ فاعتمد الشافعي معنىً ظاهِراً قد تقصّيناه في الأساليب.
ولكن لا بد من ذكرِ ما يجري مجرى التحديد، ونشير إلى أصل التعليل. فنقول: إذا باع مُدَّ عجوة قيمته درهمان [ودرهماً بمدّي عجوة قيمةُ كلِّ مدٍّ درهمان] (2) فالبيعُ باطلٌ عند الشافعيّ. والذي اعتمدهُ الأصحاب فيه من طريق المعنى التوزيعُ.
فقالوا: الدرهم من هذا الجانب ثلث ما في هذا الجانب، فقابل ثلث ما في الجانب الآخر، وثُلث المُدّين ثلثا مُدٍّ، فيبقى مد وثلث، يقابل مُدّاً. وهذا تفاضل بيّن، ثم أثبتوا التوزيعَ بالقياس على جريانه في الشفعة إذا اشتملت الصفقةُ على شقصٍ وسيف، كما قررته في (الأساليب).
والتعويل على التوزيع في التحريم غيرُ سديدٍ عندي؛ فإن العقد لا يقتضي وضعُه توزيعاً مُفصلاً، بل مقتضاه مقابلةُ الجملة بالجملة، أو مقابلة جزأين شائعين مما في أحد الشقين بجزأين مما في الشق الثاني. والمصير إلى أن الدرهم ثلث ما في هذا الجانب تفصيل، والعقدُ جرى مبهماً، وقد تفصّل التوزيع في الشقصِ والسيف لضرورة الشفعة، كما أنا قد نقسم مِلكاً مشتركاً قسمة إجبارٍ، وإن كانت القسمةُ تُخالفُ شُيوعَ مِلك الشريكين في جميع أجزاء المِلك، فالوجه في التوزيع أن يقال: ثلثُ الدرهم وثلث المُدّ يقابل ثلُثَ المدّين، وهذا لا يفضي إلى ما يزيده، ولا ضرورةَ في تكلف توزيعٍ يؤدي إلى التفاضل.
فالمعتمد عندي في التعليل، أنا قد تُعبّدنا بالمماثلة تحقيقاً، وإذا باع مُدّاً ودرهماً بمُدّينِ، لم تتحقق رعاية التماثل، وهو شرط صحة العقد؛ ففسد العقدُ لعدم تحقق المماثلة، لا لتحقق المفاضلة. ثم لا نحكم بتوزيع التفصيل بوجهٍ، ولا سبيل إلى
__________
(1) حديث فضالة رواه مسلم: البيوع، باب بيع القلادة فيها خرز وذهب، ح 1591، وأبو داود: البيوع، باب في حلية السيف، ح 3351، 3352، والبيهقي: 5/ 292، 293. وانظر (التلخيص: 3/ 19 ح 1142).
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(5/77)


تحكم أبي حنيفة (1) في مقابلة مدٍّ بمدٍّ، ودرهم (2) بمد.
هذا قاعدة الفصلِ.
ومن مال إلى التوزيع من أصحابنا، فتقريبه أنا أُمرنا بطلب المماثلة، كما أُمرنا بتمييز الشقص المشفوع في الصفقة المشتملة على الشقص والسيف، ولا طريق يهتدى إليه إلا التوزيع.
وله نظائر في الشريعة، وهذا لا يقوى على السَّبرِ.
فقد حصل مسلكان: أحدهما - التوزيع، والآخر - عدم التماثل والاستبهامُ، ونحن الآن نُخرِّج مسائلَ الفصل على المسلكين.
2958 - فلو باع مُدَّ عجوة قيمتُه درهم ودرهماً؛ بمُدَّي عجوة قيمةُ كل واحد منهما درهم، فالبيع باطل باتفاق الأصحاب. فأمَّا من اعتمدَ التوزيع إذا قيل له: الدرهم نصف ما في هذا الجانب، فيقابل مداً، ويبقى مدٌّ في مقابلة مدٍّ، فلا تفاضل، فيقول مجيباً: إنما أدَّى التوزيع إلى التماثل من جهة أن قيمة المدّ الذي مع الدرهم فُرضت مثلَ الدرهم، وإنما صِيرَ إلى ذلكَ من جهة التقويم، والتقويم متلقى من الاجتهاد، وشرط التماثل أن يجري محسوساً .. هذا ما ذكره الموزّعون.
وأنا أقول: سبب التحريم في هذه الصورة ما قدَّمته من أن الصفقة اشتملت على مال الربا، ولم يتحقق جريان المماثلة، وقد تُعبّدنا بالمماثلةِ. وهذه الطريقة تجري في هذه الصورة جريانَها في الأُولى.
ولو باع مدَّ عجوةٍ ودرهماً بمُد عجوةٍ ودرهمٍ، فالبيع باطل، وسبيل تخريج الفساد على أصل التوزيع أن نقول: الدرهم في هذا الجانب [ثلثُ ما في هذا الجانب] (3) مثلاً، فنقابل ثلُثَ درهم وثلُثَ مدٍّ، ويعود التفريع إلى بيع ثلث درهم وثلث مد بدرهم، ولو وضع البيع كذلك أول مرّة، لكان هذا بمثابة بيع درهم ومد بمدين؛ فإنه
__________
(1) ر. إيثار الإنصاف: 288، 289، فتح القدير: 7/ 144.
(2) في هامش الأصل تعليق بخط مغاير، يقول: من يحفظ يصل إلى تحكم أبي حنيفة.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(5/78)


قد اتحد الجنس في أحد الشقَّين، واختلف ما في الشق الثاني، وما اعتمدتُه من الاستبهام يجري في هذه الصورة، كما تقرر من غير حاجةٍ إلى فَضْلِ بيان.
فهذه صُورُ الوفاقِ في التحريم مع التردّد في التعليل.
2959 - ونحن نذكر الآن صُوَراً اختلف فيها الأصحابُ، فننقلها، ونذكرُ الخلاف فيها، ثم نذكر ضبطَها بالتعليل.
فممَّا اشتهر الخلافُ فيه أنه إذا باع خمسةَ دراهم مكسرة، وخمسةً صحاحاً بخمسة مكسرةٍ، وخمسةٍ صحاحٍ، أو باع مدَّ عجوةٍ وصَيْحانيَّ (1)، بمدّ عجوة وصيحاني.
وذكر صاحب التقريب الخلاف فيه إذا باع خمسةً مكسرة وخمسةً صحاحاً بعشرة صحاح، وتعرض في توجيه الصحة لأمرٍ، وهو أن مُخرج الصحاح مسامحٌ بالصفة في الخمسة المقابلة بالمكسرة، والتفاوت في الصفة لا يضر. ولو باع خمسة مكسرة وخمسة صحاحاً بعشرة مكسرة، قد ذكر هو الخلافَ في هذه الصورة أيضاًً. وقال في توجيه الصحة: من أخرج الخمسة الصحاح مسامحٌ بالصفَةِ في مقابلة الخمسة المكسرة.
وكان شيخي يختار الفسادَ في هذه الصور كلها، جرياً على أصل التوزيع، فإنا نقول: الخمسةُ المكسَّرة ثلثُ ما في هذا الجانب مثلاً، فتقابل [ثلث] (2) ما في الجانب الثاني، فيؤدي [إلى] (3) التفاضل المحقق، والتوزيع في أصلهِ باطل عندي.
وهو في هذه الصورة نهاية في الفساد؛ فإن الصفقة إذا انطوت على عشرة من جانب، نصفها مكسّر، وعلى عشرة على هذا الوجه من الجانب الثاني، فتكلف التوزيع في هذا غلوّ، واشتغالٌ بجلب التفاضل على تكلف، وقد صارت المماثلةُ محسوسةً بين الجملتين. وهذا ما تُعبدنا به، ثم [هذا] على (4) وضوحه في المعنى يعتضد بما
__________
(1) الصَّيْحاني: تمرٌ معروف بالمدينة (مصباح).
(2) مزيدة من (هـ 2).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: "وهي وضوحه"، وفي (هـ): "وهي على وضوحه" وهذا التصرّف في العبارة من المحقق.

(5/79)


يقرب ادّعاءُ الوفاق فيه، فما زال الناس يبيعون المكسرة بالصحاح. والمكسرةُ لو قسمت، لكان فيها قِطع كبار وصغار، والقيمةُ تتفاوت في ذلك تفاوتاً ظاهراً. ثم لم يشترط أحدٌ تساوي صفة القطاع، فقد خرجت هذه المسائل على ما ذكرته أولاً، فمن رَاعى التوزيعَ، أفسدَ البيع، ومن تعلق بما ذكرناه، حكم بالصحة، لتحقق تماثل الجملتين.
2960 - والذي يحيك في الصدر نصُّ (1) الشافعي؛ فإنه قال: "لو راطل مائةَ دينار عُتُق، ومائة مروانيَّة بمائتي دينار وسط، فالبيع باطل" وقد اتحد الجنس في شقّي العقد، وقياسي يقتضي القطعَ بصحة العقد، ولم أر أحداً من الأئمة يشير إلى خلافٍ في صورة النص. واللفظ الذي ذكرته لصاحب التقريب (2) في توجيه الصحةِ إذا باع خمسةً مكسرةً وخمسة صحاحاً بعشرة صحاح، حيث قال: "صاحب العشرة الصحاح مسامحٌ بالصّفة". فيه احتراز من صُورة النص؛ فإن الشافعيَّ فرض مسألتَه في العُتُق وهي نفيسة، والمَرْوانيَّة وهي دونها، ثمَّ فرضَ من الجانب الثاني مائتي دينارٍ وسطاً حتى لا تتحقق معنَى المسامَحةِ، وإذا لم يتحقق ذلك، اقتضى العقدُ من الشقين طلب المغابنة، وهذا يقتضي التوزيعَ، وهو يُفضي إلى التفاضل لا محالةَ، لو ثبت التوزيع.
فهذا حكم المذهب تَلقِّياً من النصِ، وتصرُّف الأئمة.
وما ذكرتُه في هذه الصورة من التصحيح رأيٌ رأيتُه وهو خارج عن مذهب الشافعي وأصحابهِ.
ومما لا يخفى دركه أنه لو باع عشرةً مكسّرة بعشرة صحاحٍ، فالبيع صحيح؛ إذ لم يتحقق اختلاف جنس، ولا اختلافُ نوعٍ في واحد من الشقين.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 154. وفي نقل إمام الحرمين نوعُ تصرّف، فنص الشافعي هو: "لو راطل مائة دينار عُتُق مروانيه، ومائة دينار من ضرب مكروه، بمائتي دينارٍ من ضرب وسط، خير من المكروه، ودون المروانية - لم يجز" ا. هـ بنصه.
(2) صاحب التقريب: القفال بن الإمام أبي بكر القفال الكبير. وقد سبقت ترجمتهما.

(5/80)


فصل
فيما أثّرتِ النار فيه
2961 - هذا في وضعه كالقولِ في بيع الشيء في غير حال كماله، ولكنا أفردناه لغائلةٍ فيه. فنقول: بيع الدّبس (1) بالدّبس ممتنع باتفاق الأصحاب؛ والسببُ فيه أن النار قد أثرت فيه تأثيراً بيّناً، وأثر النار يتفاوتُ في التعقيد تفاوتاً ظاهراً؛ فإن ألسنة النار في اضطرابها تختلف حتى يُرى حِسّاً اختلاف الأثر فيما يحويه المرجل الواحدُ، وإذا كان كذلكَ، فالدِّبس قد كان عصيراً، والعصير على كمالٍ، إذ يجوز بيع العصير بالعصير، وإذا نظرنا إلى مقدار من الدّبس يقابله مثله، فلا نَدْري كم في أحدهما من أجزاء العصير قد تعقَد، وكم في الثاني منه؛ فكان هذا خارجاً [على] (2) منعنا بيعَ الدقيق بالدقيق، نظراً إلى توقع تفاوتٍ في كمالٍ سبقَ للحب، فهذا ما عليه التعويل.
ولو قيلَ: قد يخالف مكيالٌ من الدبس مكيالاً في الوزن لتفاوتٍ في التعقد، لكان كذلك، ولكن لا معولَ عليه؛ فإن المعقَّد يباع وزناً، فالتعويل على ما قدمته [من] (3) ملاحظة كمال العصير. فهذا بيانُ قاعدة الفصل.
2962 - ولو مِيزَ (4) شيءٌ من شيءٍ من غير تعقيدٍ، لم يضرّ، كالشمع يُميَّز بالشمس عن العسل، ثم يباع العسل بمثله، فيجوز، ولا امتناع فيه. ولو مِيزَ الشمع بالنار، ووقع الاختصار على قدر الحاجةِ في التمييز، ففيه اختلاف: من أئمتنا من قال: هو بمثابة التمييز بالشمس، ومنهم من منع؛ لأن النار أعظم وقعاً من الشمس، وهي تؤثر آثاراً متفاوتة في مقدار زمان التمييز.
__________
(1) الدِّبس: عصارة الرطب.
(2) في الأصل: عن.
(3) في الأصل: بين.
(4) ميز: وزان بيع، من مازَه: فصله عن غيره. (معجم).

(5/81)


وظهر اختلاف الأئمة في بيع السكر بالسّكر، والفانيذ بالفانيذ (1)، فمنعه بعضهم واعتمد أن تأثير النار ظاهر، وهو فوق التأثير في الدِّبس. وقالَ بَعضُهم: يصح؛ فإن تأثير النار قريب، والانعقاد من طباع السكر، لا من أثر النار، وأجزاءُ السكر لا تتفاوت.
فإن قيل: إذا صُفِّي العسلُ بشمس الحجازِ، فقد يكون أثر الشمس في تلك البلاد بالغاً مبلغ النار؛ فإنا نرى شرائح اللحم تُعرض على رمضاء الحجاز، فتنش نشَيشَها على الجمر. قلنا: هذا فيه احتمال، والأظهر جواز البيع؛ فإن أثر الشمس فيما أظن لا يتفاوت، وإنما يتفاوت أثر النار؛ لاضطرابها، وقربها وبُعدها من المرجل.
والتعويل على تفاوت الأثر، بدليل أنه لو أُغلي ماءٌ بالنار، أو خَلٌّ ثقيف (2)، لم يمتنع بيع بعضه بالبعض؛ فإن النار لا تؤثر في هذه الأجناس بتعقيدٍ، حتى يفرضَ فيه التفاوت، فتزيل بعضَ الأجزاء، وتُبقي الباقي على استواءٍ، وهذا الذي ذكرته جارٍ في كل ما ينعقدُ.
فصل
معقود في الألبان والأدهان والخلول
2963 - والغرض بيان اختلافها وتجانسها، فنقول: أدقّةُ الحبوب المختلفة الأجناس مختلفة، بلا خلاف، واختلف قولُ الشافعي في لحوم الحيواناتِ المختلفة، فقالَ في قولٍ: هي مختلفة؛ فإنها أجزاءُ أصولٍ مختلفةٍ، وقال في قول: هي جنسٌ واحد؛ لأنها اشتركت في الاسم، عند ابتداءِ دخولها في الربا، ولا ننظر إلى اختلاف أصولها؛ فإنها لم تكن مالَ ربا، والغرض من اختلاف الجنس واتحاده أمرُ الربا، وسيأتي القولان في بابه إن شاء اللهُ تعالى.
__________
(1) الفانيذ: نوع من الحلوى، يعمل من (القَنْد) والنشا. والقند: ما يعمل منه السكر، فالسكر من القند كالسمن من الزبد. (المصباح).
(2) خل ثقيف: شديد الحموضة، من ثقف الخل اشتدت حموضته، وصار حرّيفاً لاذعاً فهو ثقيف. (المعجم).

(5/82)


فأمَّا الأَدْهان والخلول إذا اختلفَتْ أجناس أصولها، ففيها طريقان: الطريقة المرضيّة - أنها مختلفة الأجناس؛ فإن أصولها مختلفة، وهي أموال الربا (1)، وليست كالحيوانات إذا اختلفت أصولها؛ فإن لحومها أجزاء أصولٍ لا ربا فيها.
ومن أئمتنا من يخرجها على القولين المذكورين في اللحمان، من حيث إنها تشترك في الاسم الخاص، ولا تتميز إلا بالإضافة كاللحوم، ولا يتم غرض هذا القائل إلا بفرق بينها وبين الأدِقّة. فنقول: الدقيق عين أجزاء الحبّ ولكنَّها مجموعة ففرقت، والدّهن المعتصرُ وإن كان (2) في أصله، ولكنّهُ في ظن الناس كالشيء المحصَّل جديداً. والوجه هو الطريقة الأولى.
وأمَّا الألبان، فالظاهر أنها كاللحوم، فنطرد فيها القولين؛ فإنها عصارة اللحوم جرت مَجراها.
ومن أصحابنا من قطع بالاختلاف، وطلب فرقاً بينها وبين اللحوم، فقال: اللحوم في أصولها ليست أموال الربا، والألبان يجري فيها الربا قبل انفصالها من أصولها، ويمتنع بيعُ شاة في ضرعها لبن بشاة في ضرعها لبن، وهذا الفرق رَديء؛ فإن الألبان في الضروع ألبان إطلاقاً واسماًً، فقد اشتركت في الاسم الخاص من أول حصولها، وهذا معتمد القضاءِ باتحاد جنس اللحوم، فلا فقه في إجراء الربا فيها في الضروع، بعد القطع باختلاف أصولها.
فرع:
2964 - اختلف الأئمة في السكر والفانيذ: فمنهم من قال: هما جنس واحد، وهذا بعيد. ومنهم من قال: هما جنسان؛ فإن قصبهما مختلف، وليس الفانيذ عَكَرَ السكر، فاختلف اسمُهما وصفاتهما، وهذا متلقَّى الاختلافِ. وأما السكر الأحمرُ الذي يسمى القوالبَ فهو عَكَرُ السكر الأبيض، وهو من قصبه، وفيه مع ذلك تردد، من حيث إنه يُخالفُ صفةَ السكر الأبيض مخالفةً ظاهرةً، وقد يشتمل أصلٌ واحد على مختَلِفات؛ فإن اللبن جنس واحد، ثم المخيض منه يخالف السمن، كما
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: أموال ربا.
(2) كان هنا تامة. وإلا كان في الكلام سقط.

(5/83)


سنذكره. ولعل الأظهر أنه من جنس السكر.
وذكر شيخي وجهين في عصير العنب وخلِّه: أحدهما - أنه جنسٌ. ولكن حالت صفة العصير، فكان ذلك كاللبن الحليب مع القارص. والثاني - أنهما جنسان، وهو الظاهر عندي؛ لإفراط التفاوت في الاسم، والصفة، والمقصود. والشيء لا يكون مأكولاً، فلا يجري فيه الربا، ثم تحول صفته، فيصير مأكولاً؛ ويدخل في حكم الربا. فإذا كان تحوُّل الصفات يؤثر هذا الأثر، جاز أن يؤثِّر في اختلاف الأجناسِ.
وكُسب السمسم مخالفٌ جنسَ دهنه وفاقاً، كما يُخالف المخيضُ السمنَ. ولو اعتُصر من اللحم ماؤُه، وبقي من اللحم ما لا ينعصر بفعلنا، فالكلُّ جنسٌ واحد، وليس كالدُّهن والكُسب؛ فإنا نعلم أن في السمسم دهناً وثُقْلاً في الخلقة، واللحم كلُّه في الخلقة شيءٌ واحدٌ، والبلحُ مع الرطب والتمر، والحُصرم مع العنب، في معنى العصير مع الخل عندي.
وحكى العراقيون عن ابن أبي هريرة أنه منع بيع الشَّيْرج بالشَّيْرج متماثلاً، وعلل بأن دُهن السمسم لا يتأتى استخراجُه إلا بالملح والماء، فهو على تقديره مختلِفٌ.
وسنذكر منع بيع المختلِط بمثله، ثم خصَّص هذا المنعَ بدهن السمسم دون غيره من الأدهان. حكَوْا هذا عنه، وزيّفوه، وقالوا: الماءُ لا يُخالطُ الدُّهن، والملحُ يبقى مع الكُسبِ، ولو كان في الشَّيْرج، لأُدركَ طعمه، ثم تخصيص هذا بالشَّيرج لا معنى له.
فصل
في المختلِطات
2965 - نقول: كل مختلِطٍ بغيره من أموال الربا بِيع بمثله، فالبيع باطل، كالسكَّر المختلط ببعض اللُّبوبِ إذا بيع بمثله، وبطلان البيع يُخرَّجُ على القاعدة الممهدة في بيع مُدِّ عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم.
وبيع اللبن باللبن جائز وفاقاً؛ فإن قيل: اللبن مشتمل على السمن والمخيض،

(5/84)


وهما جنسان مختلفان، قلنا: اللبن يُعدُّ جنساً واحداً، وليس يَبين فيه اجتماع أخلاطٍ، ولو سلكنا هذا المسلكَ، لمنَعنا بيع السمسم بمثله، لاشتماله على الثُّقل والدُّهن، ولقُلنا: لا يجوز بيع التمر بالتمر؛ لاشتماله على المطعوم والنَّوى.
واتفق الأصحاب على منع بيع الشَّهد (1) بالشهد، وعللوا بأنه شمع وعسل. وأوقع عبارة في الفرق بين الشهدِ واللبن أن الشمع غيرُ مخامر للعسل في أصله؛ فإن النحلَ ينسِج البيوت من الشمع المحض، ثم يُلقي في خَللَهِ العسلَ المحضَ، فالعسل متميّز في الأصل، ثم من يشتارُ (2) العسلَ يخلطه بالشمع بعضَ الخلط بالتعاطي والضَّغط، وليس اللبن كذلكَ.
فإن قيل: قد ذكرتم أن اللبن في حكم جنسٍ واحد، لا اختلاطَ فيهِ، فجوّزوا بيعَ اللبن بالسمن بناء على أن اللبن جنسٌ واحد. قلنا: هذا فيه بعض الغموض من طريق التعليل، ولكنه متفق عليه.
وفي معناه بيعُ السمسم بالشَيْرج، مع تجويز بيع السمسم بالسمسم، وأقصى الممكن فيه أن اللبن إذا قوبل بالسمن، فلا يمكن أن يُجعل مخالفاًً للسمن؛ فإنّ اللبن إذا مُخض يُجمع منه السمن، فإذا لم يكن مخالفاًً للسمن، فإنما يُجانسُه بما فيه من السمن، لا بصورته وطعمه؛ فإن صورته تُخالف صورة السمن، وإذا اعتبرنا السمنَ لما ذكرناه، انتظم منه أنه بيعُ سمنٍ بسمنٍ ومخيض، وأما بيع اللبن باللبن، فيعتمد تجانس اللبن في صفته الناجزة، ولا ضرورة تُحوِج إلى تقدير تفريق الأجزاء، فافهموا ذلك.
فإن قيل: ذكرتم أن منع بيع الشهد بالشهد معلّلٌ بأنه بيعُ شمع وعسل، ثم حققتم ذلك بتميّز العسل في الخلقة عن الشمع، والنوى في الفطرة متميز عن المطعوم في التمر؟ قلنا: الأمر كذلك، ولكن صلاح التمر في ادّخاره في بقاء النوى فيه، فاحتمل ذلك هذه الضرورةَ، وصلاح العسل في تصفيته. ويمكن أن يقال: الشمعُ في العسل بمثابة العظم في اللحم.
__________
(1) الشهد: بفتح الشين وضمها. (لغتان) (المصباح).
(2) يشتار العسل أي يجنيه، من قولهم: شُرتُ العسلَ أشوره شَوْراً من باب (قال) إذا جنيتُه وأخرجته من خليته. (المعجم).

(5/85)


فإن قيل: إذا قلنا: الألبان جنسٌ واحد، فلا يجوز بيعُ لبن البقر بلبن الإبل متفاضلاً، فلو بيع سمن البقر بلبن الإبل، فكيف حكمه؟ وليس في لبن الإبل سمنٌ يتميّز بالمخض والعلاجِ؟ قُلنا: الظاهر أنا لا نجعل لبن الإبل مشتملاً على سمن تقديراً، حتى يقال: هو بمثابة سمن البقر بلبن البقر، ثم إذا كان كذلكَ، فوَراءه احتمالٌ في أن سمن البقر هل يخالف جنسَ لبن الإبل، والتفريع على تجانس الألبان؟ فالظاهر أنه خلافه؛ فيجوز بيعه به متفاضلاً؛ والسبب فيه أنا حكمنا بتجانس الألبان، لاجتماعها في الاسم الخاص، وقد زال هذا المعنى، ولم نُقدّر في لبن الإبل سمناً.
والعلم عند الله.
فهذا تمهيد القاعدة في المختلطات.
2966 - ونحن نبني عليها الآن مسائل في بيع الخلول بعضِها ببعضٍ.
فنقول (1): بيع خل العنب بخل العنب، ولا ماء في واحدٍ منهما جائزٌ، مع رعايةِ التماثل. وبيع خل العنبِ بخل الزبيب ممتنعٌ؛ لمكان الماء في خل الزبيب. وعصيرُ الزبيب وخلُّه يجانس عصيرَ العنب وخلَّه. وبيع خل الزبيب بخل الزبيب ممتنعٌ، لتجانُس الخلَّين، واشتمالِ كل واحد منهما على الماء، فهو من فروع مُد عجوة. وكذلك يمتنع بيع خل التمر بخل التمر، فأما بيع خل التمر بخل العنب فيخرج على اختلاف القول في تجانس الخلول. فإن جرينا على الصحيح، وقلنا: هما جنسان، فالبيع صحيح، فإن الخلَّين جنسان، وليس في خل العنبِ ماءٌ، حتى يفرض تقابل الماءين. وإن قلنا: هما جنس واحد، فيمتنع البيع؛ لأنه بيع خل وماء بخل صرف يجانسه، فكان كبيع خل الزبيب بخل العنب. وأما بيع خل التمر بخل الزبيب، فيخرج على قول التجانس. فإن قلنا: هما جنس واحد، فالبيع ممتنع بما يمتنع به بيع خل التمر بخل التمر، وإن قلنا: هما جنسان، انبنى الأمر على أن الماء هل يجري فيه الربا؟ فإن قلنا: لا ربا فيه، صح العقد. وإن قلنا: فيه الربا، منع الأصحاب البيعَ؛
__________
(1) في النسختين: ونقول. (والفاء) تصرّف من المحقق.

(5/86)


لجهالة مقدار الماء أولاً، ثم للجمع بينه وبين غيره في الشقين وفي الماء وكونه غيرَ مقصودٍ إشكالٌ (1) سنشرحه في باب الألبان.
فهذا تفصيل بيع الخلول.
فصل
في بيع الألبان وما يُتخذ منها
2967 - لا خلاف في جواز بيع اللبن باللبن، وهذا حالُ كمالٍ فيه، وليس اللبن في ذلك كالرطب؛ فإن الرطب كمالُه عُرفاً في جَفافه المنتظر، واللبن يستعمل أكثره لبناً كذلك، وما يُستعمل من الرطب يُعدُّ تفكهاً بعُجَالةٍ من جنس. والمقصودُ الأظهرُ منه اقتناؤه قوتاً، وذلك بأن يجفف ويُدَّخر في المخازن، ويقتات على طوال السنة.
ولا يجوز بيع اللبن بشيء يُتخذ منه، لما قررتُه في فصل المختلطات، فينبغي أن يُعلم أن اللبن مشتمل على مخيض وسمن، ثم يُتَّخذ من المخيض إذا مِيز الأَقِطُ والمصل (2)، والجُبن يتخذ من اللبن كما هو، ثم إذا مِيز السمن، وبقي المخيض، فلا خلاف أن المخيض والسمنَ جنسان مختلفان، لتباين الصفات، واختلاف الاسم والغرض، ومن مقصود الفصل ما تقدّمَ من [أن] (3) اللبن إذا قُوبل باللبن، كان بمثابة جنسٍ واحد يقابله مثله، كالسمسم يباع بمثله، ولا ينظر إلى اشتمال اللبن على السمن وغيرِه. وإذا قُوبل اللبن بالسمن، أو بالمخيض، لم يصح العقد، وكان كبيع السمسم بدُهنه.
2968 - وجُملة ما سنذكره من مسائل الفصلِ يخرج على هذه القواعدِ، فاللبن يباع بمثله، والرائب الذي خَثُرَ بنفسهِ من غير نارٍ يباع باللبن الحليب، ويُباع بمثله.
__________
(1) في الأصل: إشكال سنشرحها في باب الألبان، وفي (هـ): إشكال ينتشر كما في فصل الألبان.
(2) المصل: وزان فلْس، عصارة الأَقِط، وهو ماؤه الذي يعصر منه حين يُطبخ، قاله ابن السكيت. (المصباح).
(3) مزيدة من (هـ 2).

(5/87)


فإن قيلَ: إذا خَثُر الشيءُ، كان أثقلَ، والذي يحويه المكيال من الشيء الخاثر يزيد على الرقيق من جنسه بالوزن زيادةً ظاهرةَ، فما الوجه في ذلك؟
قلنا: منع بيع الدبس بالدبس غير مبني على التفاوت في الوزن مع التساوي في المكيال؛ فإنا لو اعتبرنا ذلك لجوَّزنا بيع الدبس بالدبس وزناً، إذا كان يوزن. ولكنا اعتمدنا في ذلك خروجَ الدبس عن حال الكمال، ولا ندري كم في كل دبس من أجزاء العصير.
وأما الرائب الخاثر، فقد قطع الأصحاب بجواز بيعه باللبن، وجواز بيع بعضه بالبعض، ويتَّجهُ في بيع بعضه بالبعض أن يقال: الانعقادُ جرى في اللبن على تساوٍ، ولا يربو في الإناء إذا انعقد رائباً، ولا ينقص؛ فإنه طبيعة في نفس اللبن عقَّادة. وليس من جهة ذهاب جزءٍ وبقاء جزءٍ.
فأما بيع الخاثر باللبن، فإن كان يوزن، فيظهر تجويزه، وإن كان يكال، فبيعُ اللبن الحليب بالرائب الخاثر كيلاً فيه احتمال ظاهر في المنع، ووجهُ التجويز تشبيهُ الخاثر بالحنطة الصلبةِ العَلِكةِ، تباع بالرخوة. وتحقيقهُ فيه أن الرائب لبن خاثر، فكأنه لا يُعدُّ بعيداً عن اللبن الحليب، فيشبهان الحنطة الصُّلبة والرخوة.
وبيعُ المخيض بالمخيض جائز، إذا لم يكن فيهما ماء، ولا في أحدهما. وبيعُ السمن بالسمن جائز، والمخيض والسمن مختلفان؛ فيجوز بيع أحدهما بالثاني متفاضلاً.
واتفق الأئمة على جواز بيع المخيض بالزُّبد، ولا نظرَ إلى ما في الزُّبد من رغوة، وهي إذا مِيزَتْ كانت مخيضاً، ولكن لا مبالاة بذلك القدر؛ فإن المقصود من الزبد السمن.
2969 - وقال الأئمة: لو باع حنطةً بشعير، وفي الحنطة حباتُ شعيرِ، صحَّ البيع؛ فإنّ الشعيرَ في الحِنطةِ غيرُ مقصودٍ لمن يبتغي تَملّكَ الحنطة، ولو باع حنطةً بحنطة وفي أحد المكيالين حبّاتُ شعير، فالبيعُ مردودٌ عند الأصحاب؛ من جهة أن المماثلة تزول بين الحنطتين بسبب ذلك القدر من الشعير، والمماثلة معتبرة في بيع

(5/88)


الحنطة بالحنطة، والذي ذكرناه في بيع الحنطة بالشعير والمماثلةُ غيرُ معتبرةٍ في مقصود العوضين، [فلنقع] (1) على ذلك. ولهذا لم نمنع بيعَ المخيض بالزُّبد؛ فإن المخيض وما هو مقصود من الزبد مختلفان، لا تعتبر المماثلة بينهما، والرغوة إن ماثلت المخيض، فهي ليست مقصودةً.
والذي يشير إليه كلامُ الأصحاب أن المقدار اليسيرَ من الشعير، وإن كان يفرض متموّلاً، فالأمر كما وصفناه، إذا لم يكن بحيث يُقصد في نفسه. والأصحابُ لما جوزوا بيعَ المخيض بالزبد، لم يفرقوا بين القليل والكثير، وإذا كثُر الزَّبدُ، فالرغوة قد تبلغ مبلغاً يُطلبُ مثله في جنس المخيض، ولكن المرعيَّ في الباب [أن] (2) ما يُميَّزُ من الزَّبدِ في الغالب يُبدّدُ، ولا يُعتنَى بجَمْعه. وإن كثر الزَّبد، فهذا هو المعنيُّ بقول الأصحاب: الرغوةُ غيرُ مقصودة. والشعيرُ إذا قل بالإضافة إلى الحنطة، فلا يقصد تمييزها (3) ليستعملَ شعيراً، فيتعيَّن التَنبه لهذا.
وإذا بَاع الحنطةَ بالحنطة وفي أحد المكيالين من الشعير ما لو مُيّز، لم يَبِن على المكيال، فلا مبالاةَ بهذا أيضاًً. فإذا اتفق جنسُ المطلوب في العوضين، وكان في أحدهما جنس آخر، لو مُيّز لم يَبِن على المكيال، فلاَ مبالاة به. وإن كان يَبِينُ على المكيال، لم يضح البيع؛ لعدم المماثلة في الجنسِ المقصود.
وإن اختلف الجنس في العوضين، وكان (4) في أحدهما ما يُجانس العوض المقابلَ، ولكن لم يكن بحيث يُقصد على حياله، فالبيع صحيح، ولا نظر إلى التموّل تقديراً، ولا إلى التأثير في الكيل. أما التأثير في الكيل، فلا أثر له مع اختلاف جنس العوضين. وأما التموّل، فلم يُعتبر من جهة أنه مفردٌ غيرُ مقصودٍ، وشبّه هذا بأخذ المُحرِم الشعرَ من نفسه، فهو موجب للفدية، ولو قطع من نفسه عضواً عليها شعر، لم يلتزم الفِدية، من حيث لم يجرّد القصدَ إلى إزالة الشعر.
__________
(1) في الأصل: " فليقع " والمثبت من (هـ 2). والمعنى: فلننتبه لذلك.
(2) مزيدة من (هـ 2).
(3) تأنيث الضمير على ملاحظة لفظ " حبات الشعير ".
(4) في الأصل: وإن كان.

(5/89)


ولو باع حنطة بحنطةٍ، وفي أحد المكيالين تراب لو مِيزَ ظهر نقصُه في المكيال، فالبيع باطل، وكذلك إذا اشتمل المكيالان على التراب، على الحد الذي ذكرناه. فأما إذا كان التراب في أحد المكيالين، فالمفاضلة مستَيْقنةٌ، وإن كان الترابُ فى المكيالين جميعاً، فالمماثلة مجهولة، وكِلا الأمرين يؤثر في صحَّة البيع.
ولو كان التراب منبسطاً على صُبْرةٍ انبساطاً واحداً على تناسب، فبيع صاعٌ منها بصاعٍ، فالمماثلة متحققة، ولكن هذا غيرُ موثوق به؛ فإن الترابَ لا ينبسط على تناسب واحد؛ فإنه ينسلّ من خلل الحبات يطلب التسفل، ولذلك يكثر التراب في أسفل الصُبْرة.
فخرج مما ذكرناه أنه إذا كان يؤثّر الترابُ في المكيال، فلا يجوز بيع حنطةٍ فيها تراب بحنطة فيها تراب، إذا كان بحيث لو مِيز التراب، ظهر نقصانهُ على المكيال، وإن كان لا يظهر، فهو محتمل.
2970 - ومن تمام البيان في ذلك، أن النقصان قد لا يبين في المقدار اليسير، ويبين في الكثير، فالمتبع النقصان، فإن كان ما اشتمل عليه العقدُ بحيث لو مِيز التراب منه، لم يبن النقصان - صح العقد. [وإن اشتمل العقدُ] (1) على مقدارٍ لو جُمع ترابه [لملأ] (2) صاعاً، أو آصعاً، فالبيع باطل.
فإن استبعد من لم يُحط بأصل الباب تجويزَ البيع في القليل، ومنعَه في الكثير، لم نبُالِ [به] (3)، ولزِمْنا الأصلَ المعتمدَ في النفي والإثبات.
ولو باع رجلٌ دنانيرَ هَروِيَّة بمثلها، فالبيع مردود؛ فإن كل شق من الصفقة اشتمل على ورِقٍ وذهب، وبيع الذهب الإبريز بالهروي عينُ الربا، وهو من فروع مد عجوة.
وبيع الذهب الهروي بالورِق باطل، وليس كبيع المخيض بالزبد؛ فإنّ الرغوة في الزبد لا تقصد، والنُّقْرة في الهرويّةِ مقصودة.
__________
(1) زيادة من (هـ 2).
(2) في الأصل: يملأ.
(3) في الأصل: فيه.

(5/90)


2971 - ومن فروع الفصل بيع الزُّبد بالزّبد، وفيه وجهان ذكرهما الصيدلاني: أحدُهما - الصحة كبيع اللبن باللبن؛ فإنّ الرغوةَ التي في الزبد مختلطة بالسمن اختلاطاً خِلقياً، وهو أثبث من اختلاط رُكني اللبن، فإن ذلك الاختلاط يميّزه المخض، والرغوة لا تتميّزُ عن الزبد إلا بالنار. والوجه الثاني - أنه لا يصح بيع الزبد بالزبد، كما لا يصح بيع الشهد (1) بالشهد؛ فإنّ صفاتِ السمن لائحة من الزبد، كما يلوح العسل في الشهد، واللبن في مدرك الحس كالجنس الواحد المنبسط، والأَقِط من المخيض (2)، وكذلك المَصْل.
وأجمع الأصحابُ على منع بيع الأقِط بالأقِط، وذلك أنه إن كان مختلطاً بملح كثيرٍ يظهر له مقدار، فيلتحق بيع بعضهِ بالبعض ببيع المختلط. وإن لم يكن فيه ملح، فهوَ معروض على النار، وللنار فيه تأثير عظيم، فيلتحق القول فيه بالكلام في المنعقد، إذا بيع بعضه ببعض. ولم يفصلوا بين أن يكون عقدُه بالنار، أو بالشمس الحامية، وإذا امتنع بيع الأَقِط بالأقِط، فيمتنع بَيعُه بالمصلِ؛ فإنهما من المخيض، ولا يتفاوتان في الصفات تفاوتاً يختلف الجنس به، ويمتنع بيع المخيض بالأقِط والمَصْل. كما يمتنع بيع العصير بالدبس.
وبيعُ الجبن بالجبن باطل بالاتفاق؛ فإنه مختلط معقود، ولا شك في تفاوت العقد في الجبن، وهذا ظاهر فيه. وبيع الجبن بالأقِط ممتنع، كما يمتنع بيع اللبن بالأقِط.
قال العراقيون: الأقِط، والمخيض، والمَصْل، والجبن، جنسٌ واحد. أما المخيض والأقط والمصل، فكما ذكروه. وأما الجبن ففيه ما يُجانِسُ المخيضَ، وهو كقول القائل: اللبن والأقِط جنسن واحد، [والوجه] (3) أن يقال في اللبن جنس الأقطِ. وذكر شيخي أبو محمد في بيع اللِّبأ باللِّبأ (4) وجهين، وهو في الحقيقة لبن
__________
(1) الشَُّهد بالفتح والضم العسل في شمعه. فإذا فصل من الشمع صار عسلاً.
(2) المخيض: فعيل بمعنى مفعول: مخضت اللبن، فهو مخيض، إذا استخرج الزبد منه.
فالمخيض: اللبن بعد استخراج الزبد منه.
(3) زيادة من (هـ).
(4) اللبأ مهموز وزان عنب: أول ما تدرّه الحلوب بعد الولادة، قيل أكثره ثلاث حلبات، وأْقله حلبة.

(5/91)


معروض على النار في أول الحلْبِ من الدَّرّةِ الأولى، وسبب الاختلاف أن أثر النار قريبٌ في اللِّبَأ وهو مشبه بالسكر في المعقوداتِ، والجبن تناهى عقدُه، فاتفق الأصحاب على منع [بيع بعضه ببعض] (1).
2972 - ومما نتعرضُ له الإنْفَحة (2) والوجه القطع بطهارتها، لإجماع المسلمين على طهارة الجبن، وهو في الغالب لا يخلو عن الإنْفَحة، والذي إليه إشارةُ الأصحاب أن الإنْفَحَة جنسٌ على حيالها، مخالف للبن، وكل ما يتخذ منه، ولستُ أدري أنها من المطعومات وحدها، كالملح حتى تعتبر المماثلةُ في بيع بعضها بالبعض، أم ليست من المطعومات؟
فصل
" ولا خيرَ في شاةٍ في ضَرعها لبن ... إلى آخره " (3).
2973 - بيعُ اللبن الحليب بشاةٍ لبون في ضرعها لبن يقدر على حَلْبه باطلٌ عندنا.
فإذا كنا نُبطل بيع اللحم بالحيوان، كما سيأتي ذلك في بابٍ، فلا يخفى إبطال بيعِ اللبن بشاة في ضرعِها لبن.
وإن كانت الشاة لبوناً، ولم يكن في ضرعها لبنٌ وقتَ البيع، فالبيع صحيح. وإن كان في الضَّرع مقدارٌ نزرٌ لا يُقصَدُ حلب مثله لقلّته، فالبيع صحيح؛ فإنّ مثله ليس مقصوداً، والحيوان مخالف لجنس اللبن، فيلتحق ببيع المخيضِ بالزبد، مع النظر إلى الرغوة.
ولو باع شاةً في ضرعها لبنٌ بشاة في ضرعها لبن، وكان اللبنُ الذي يُقصد مثله
__________
(1) في الأصل: " بيعه ببعض ".
(2) الإنْفَحة: بكسر الهمزة وسكون النون، وفتح الفاء، والحاء مشدّدة، أكثر من تخفيفها، وفي لغة تبدل الهمزة ميماً: منْفحَّة.
(3) ر. المختصر: 2/ 149. وتمام نصّ الشافعي: " ولا خير في شاةٍ فيها لبن يقدر على حلبه - بلبنٍ؛ من قِبل أن في الشاة لبناً لا أدري كم حصته من اللبن الذي اشتريت به نقداً، وإن كانت نسيئة، فهو أفسد للبيع " (المختصر، بهامش الأم: 2/ 149).

(5/92)


موجوداً في كل ضرعٍ، فالبيع باطل، وهو بمثابة بيع شاةٍ ولبن [بشاةٍ] (1) ولبن.
وحكى العراقيون عن أبي الطيّب بن سَلَمة من أصحابنا أنه قال: يجوز بيع الشاة اللبون بالشاة اللبون، وإن كان في ضروعهما لبن، ووافق أنه لا يجوز بيع اللبن بشاةٍ في ضرعها لبن، وشبَّه ما جوَّزه وما منعه ببيع السمسم بالسمسم، وهو نظير بيع الشاة اللبون بالشاة اللبون، وبيع دُهن السمسم بالسمسم، وهو نظير بيع [اللبن بالشاة اللبون] (2) التي في ضرعها لبنٌ.
فصل
قال: " وكل ما لم يجز التفاضلُ فيهِ ... إلى آخره " (3).
اختلف قول الشافعي في أن القسمة بيعٌ أو إفراز حق.
وفي حقيقة القسمة وأحكامها مسائلُ ستأتي في آخر الدعاوى والبيّنات. فلا نلتزم الخوضَ فيها، ونختصر على مقدار غرضنا.
فنقول: ما جاز بيعُ بعضِه ببعضٍ، فالقسمةُ جائزةٌ فيه إذا كان يقبل القسمة، وما امتنع بيعُ بعضِه ببعض من أموال الربا، كالرطب والدقيق ونحوهما، فإن قلنا: القسمةُ ليست بيعاً، فلا يمتنع إجراؤها في هذه الأجناس؛ وإن قلنا: القسمةُ بيعٌ، فهي ممتنعة فيما يمتنع بيع بعضه ببعض، فلا يجوز على هذا القول قسمةُ الرطب والعنب، إذا كان لهما عاقبة التجفيف، وقد ذكرنا في مسائلِ الزكاة تردُّداً في قسمة الثمار إذا قطعناها قبل أوان الجِداد، وسبب التردد أن الأبدال لا مدخل لها في الزكاة، فلو لم تجز القسمة، ولم نميز حقَّ المساكين، لاضطررنا إلى الانتقال إلى الأبدال، فاختلف الأصحابُ على طُرقٍ استقصيناها في موضعها. وكمال البيانِ موقوفٌ على الإحاطة بباب القسّام.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) عبارة الأصل مضطربة هكذا: " بيع الشاة اللبون بالشاة اللبون ... إلخ ".
(3) ر. مختصر المزني: 2/ 150. وتمام العبارة: " وكل ما لم يجز التفاضل فيه، فالقَسْم فيه كالبيع ".

(5/93)


وقد نجز الغرضُ من هذا القول في ربا الفضل، وشَذّ عما ذكرناه فروع قريبةٌ نرسمُها، وبنجازها ينتجز هذا الركن.
فرع:
2974 - ذكرنا أن بيع ما لا يكال ولا يوزن من المطعومات، بعضُه ببعض - باطلٌ على القَولِ الجديدِ، كالخيارِ والبطيخ ونحوهما، فلو بيع القثاء بالقثاء وزناً، فالأصح المنعُ. ومن أصحابنا من جوَّز، كما نبهنا عليه فيما تقدم. وهو بعيد.
واتفقت الطرق على منع بيع البيض بالبيض والجوز بالجوز وزناً بوزن؛ من جهة أن المقصود منها في أجوافها، وقشُورُها تتفاوت تفاوتاً ظاهراً، وهذا لا يتحقق في القثاءِ وما في معناه، وذكر صاحب التقريب في البيض والجوز إذا بيع البعض منها بالبعض وزناً وجهين، وهذا بعيد.
فرع:
2975 - إذا قُلنا: الماءُ يجري فيه الربا، وهو المذهب، فلو باع رجلٌ داراً فيها بئر ماء بمثلها، وقلنا: الماءُ يجري فيه الربا - قالوا: في هذه الصورة وجهان: أحدُهما - الجواز، وهو الظاهر؛ فإن الماء الكائنَ في البئر ليس مقصوداً، ولا يرتبط به قصد. والثاني المنعُ، وهو القياسُ، ولا ينقدح للوجه الأول وجهٌ في القياس، لكن عليه العمل، ومعتمدُه سقوط القصد إلى الماء الحاصل، وقد ذكرنا في فصلِ الخلولِ أن من باع خلَّ التمر بخل الزبيب، والتفريعُ على اختلاف أجناس الخلول، فالقَولُ في منع البيع يؤول إلى الماء الذي في الخلَّين، وهو مال ربا. فلو قال قائل: الماء ليس مقصوداً في الخلّ، كما أنه ليس مقصوداً في مسألة الدار، قلنا: قَدْرُ الماء مستعملٌ على صفة الخَلِّ حتى كأنه انقلبَ خلاً، فلم يخرج مقدار الماءِ عن كونه مقصوداً، وإن كان لا يقصد ماءً، وهذا لا يتحقق في البئر ومائِها.
وقد نجز منتهى المراد في ذلكَ.
وقد كُنَّا ذكرنا في أول الباب أن حديث عُبادةَ في أصل الربا مشتمل على ربا الفضل، والتعرضِ للتقابض، والنَّساءِ. نعني ما يتعلق من حُكمهِ بالربا. وبَيّنا أن أصلَ الباب ربا الفضل، والتقابضُ وتحريمُ النَّساء متفرعان عليه. ونحن الآن نعقد المذهب فيهما.

(5/94)


فصل
2976 - قد ذكرنا أن علّة الرّبا في الأشياء الأربعة الطُّعم، ومحل العلة اتحادُ الجنس، وعلةُ الربا في النَّقديْنِ جوهرُ النقدية، والمحل اتحاد الجنس.
ويرجع حاصل القول في النقدين والأشياء الأربعة إلى أن العلَّةَ في تحريم ربا الفضل في الأشياء الستة ما هو مقصودٌ من كل صنف. ثم رأينا جمعَ الأشياء الأربعةِ في مقصود الطُّعم، كما قرَّرناه في (الأساليب) وكتاب (الغُنية) (1). والنقدان مجتمعان في معنىً واحدٍ، وهو جوهر النقدية.
فإن قيل: لم ذكرتم جوهرَ النقدية؟ قلنا: لأن التبرَ ليس نقداً في عينه، وكذلك الحلي والأواني. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعرض للدراهم والدنانير، بل ذكر الذهب والورِق، والمقصود منهما مقتصر عليهما، فاقتضى ذلك ذكرَ جوهر النقدية، وهذا يعم المطبوعَ من الورِق والذهب، وغير المطبوع.
فإذا ثبتت علةُ الربا في الأشياء الستة، فباب التقابُض والنَّساء يدخلان تحت ضبط واحدٍ. فنقول:
2977 - كلّ علّتين جمعتهما علة واحدة في تحريم ربا الفَضل، فإذا بيعت إحداهما بأخرى نقداً بنقدٍ، اشترط التقابض في المجلس، فلو تفرق المتعاقدان قبل التقابض، بطل العقد. ولا فرق بين أن يختلف الجنس أو يتحد. وإنما يختصّ باتحادِ الجنسِ ربا الفضل. واشتراط التقابض يعتَمد الاجتماعَ في علةِ التحريم، ولا التفات إلى [المحل] (2)، وهو اتحاد الجنس.
وخصَّص أبو حنيفة (3) اشتراط التقابض بالنقدين، ولا عذر له فيها. وقد طرد رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريمَ ربا الفضل في الأشياء الستةِ عند اتحاد الجنس،
__________
(1) الغنية: أحد كتب إمام الحرمين في علم الخلاف. وكذلك: (الأساليب).
(2) في الأصل: التحريم.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 75، طريقة الخلاف: 302 مسألة: 125، إيثار الإنصاف: 288، الاختيار: 2/ 31.

(5/95)


ثم قال فيها بجملتها " إذا اختلف الجنسان، فبيعوا كيف شئتم يداً بيد " وتحريم النَّساء، يُنحَى به نحو التقابض، فكل عينين جمعتهما علةٌ واحدة في ربا الفضل، فلا يجوز إسلام أحدهما في الآخر، اتحد الجنس أو اختلفَ، فلا يصح إسلام البُرّ في الشعير، ولا إسلامُ الدراهم في الدنانير. وأما الاجتماعُ في الجنسية فلا وقعَ له عندنا؛ فيجوز إسلام الثوب في جنسه، وإسلام الخشبة في جنسها.
ومنع أبو حنيفة (1) إسلام الشيء في جنسه، وظن أن اتحاد الجنس أحدُ وصفَي العلّة، وهذا عريٌ عن التحصيل، كما قرَّرناه في مصنفات الخِلافِ.
فإذا انعقدَ الأصلان وابتنيا على تحريم ربا الفضل، فنذكرُ بعدهما أن الدراهم والدنانير تتعيّنُ بالتعيين، فإذا عيَّن الرجل دراهمَ في بيعٍ ولزم، لم يملك إبدالها، ولو تلفت قبل القَبض والتسلم، انفسخ العقدُ، ولو أراد مالكها أن يستبدِل عنها، لم يكن له ذلك، كما لو فُرض التعيين في ثوب أو غيره، وخلاف أبي حنيفة (2) في ذلك مشهور.
فإذا تمهّدَ هذا، خُضْنا بعدهُ في فصولٍ من الصرف وتحقيق التقابُض.
فصل
2978 - إذا بيعت الدراهم بالدراهم أو بالدنانير، وجرى التعيينُ من الجانبين، فيرتبط العقد بما عُين فيه، ولا بد من التقابض في المجلس. ثم القول في مجلس التقابض، كالقول في مجلسِ الخيارِ، فلَسْنا نعني مكان العقد، وإنما نعني اجتماع المتعاقدَيْن وافتراقَهما، كما تفَصَّل في خيار المجلس بلا فرق، فإذا تفرقا قبلَ القبضِ، انفسخ العقد.
وإن تقابضا، والكلامُ مفروضٌ في التعيين، ثم وجد أحدُهما بما قبضه عيباً، فإن كان رديء الجنس، أو مشوَّشَ النقش، فإذا أراد الردَّ، فله ذلك، وحكم الردّ انفساخُ
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 15 مسألة: 1084، إيثار الإنصاف: 286.
(2) ر. طريقة الخلاف: 354 مسألة: 149، إيثار الإنصاف: 327، الغرة المنيفة: 81.

(5/96)


العقدِ، ولا استبدالَ؛ فإن مورد [العقد] (1) معيّن، ولا فرقَ بين أن يجري الردُّ في المجلسِ، أو بعد التفرق.
وإن جرى التعيينُ كما ذكرناه والتقابضُ، ثم بان أن الذي قبضه أحدُهما نحاسٌ، فهذا يُثبت الردَّ، وقد بان أن العقدَ لم يكن عقدَ صرفٍ. ثم لا يخفى حكمُ الرد والفسخ.
والمسألةُ تلتفت على أصلٍ سيأتي، وهو أن من سمَّى جنساً وعيَّنه، ثم تبين أن الذي عيَّنَ ليس من الجنس الذي سمّى، ففي انعقاد العقد خلافٌ سيأتي. وذلك نحو أن يقول: بعتُك هذه النعجةَ، والإشارةُ إلى جحش، فإذا قال: بعتُك هذه الدراهم، فإذا هي فلوس، فالأمر يخرج على الخلاف الذي أشرنا إليه. وإن قال: بعتُك هذا، وكان حسِب المشتري أنه دراهمُ، فأخلف ظنه، فيلتحق هذا بفصول التلبيس، وسنذكرها في باب التصْرِية إن شاء الله.
فهذا إذا جرى العقد على التعيين، وليس هو غرضَ الفصل، وإنما ذكرناه لاستيعاب الأقسام.
2979 - ولو وَرد العقدُ على الدراهمِ والدنانيرِ وصفاً بوصف، فهذا جائزٌ أولاً، اتفق عليه أئمتنا، ثم لا بد من التعيين بالقبض في المجلس، ولا يكون هذا من السلم؛ فإن وضعَ السلم على اشتراط تسليم رأس المال في المجلس فحسب، والصرفُ يجوز عقده على الوصفِ، ثم لا بد من التقابض. فإذا وضح ذلك، فلو تواصفا، ثم تقابضا، ثم بان أن ما قبضه أحدُهما ليس على الوصف الذي ذكره، فإذا جرى هذا في كل المقبوض في مجلس العقد، فالخطبُ يسير، فليردّ ما قبضه، وليستبدل عنه ما وصفه، ولا شك أن العقد لا ينفسخ بالرّدّ، وطلب البدلِ؛ فإن العقدَ ما ارتبط بالعين التي قبضها، وإنما ارتبط بموصوف، ثم بانَ أنَّ المقبوضَ ليس ذلك الموصوفَ، فكأن القابضَ لم يقبض، والمجلس بعدُ جامعٌ.
ولو تفرقا، ثم اطلع أحدهما على رداءة فيما قبضه لا يقتضيها الوصف، والقول فيه
__________
(1) في الأصل: العين.

(5/97)


إذا كان المقبوض -مع ما بان فيه- من جنس الدراهم والدنانير، فإن رضي به القابض، فلا كلام. كما سيأتي شرحُه فيه إذا قبَض المسلمُ المسلَمَ فيهِ، فوجده دون الوصف.
ولو أراد الردَّ، فله ذلك، ولكن إذا ردّ، فهل ينفسخ العقدُ بردّهِ؟ فعلى قولين: أحدهما - ينفسخ؛ فإنهما تفرّقا، ثم لما ردّ ما قبض، فكأنه لم يقبض في المجلسِ شيئاً، فيتبين انفساخُ العقد؛ من جهة التفرق قبل القبض المستحق.
والقول الثاني - لا ينفسخ العقد؛ فإنهما تقابضا ما لو قنِعا به، أمكن إجراءُ العقدِ عليهِ، فإذا رَام استبدالاً، فلا يرتفع القبض من أصله.
وعبَّر الأئمة عن حقيقة القولين، فقالوا: إذا فُرض ردٌّ على قصد الاستبدال، فنتبين أن القبضَ الذي هو ركن العقد لم يَجْرِ، أم لا [يستدّ] (1) النقض إلى ما تقدَّم من القبض (2)؟ فعلى قولين. وهذا بمثابة الاختلاف في نظيرٍ لهذا من السَّلم، فلو أسْلَم
__________
(1) في الأصل: "يستند"، وكذا في المجموع تكملة تقي الدين السبكي، والمثبت من (هـ 2).
وإستد: أي استقام، والمراد هنا مضى وامتد.
(2) هذه العبارة أجهدتنا، وأرهقتنا كثيراً حتى وصلنا إلى ما أثبتناه أخيراً في الصلب، ومعناها على الجملة، كما هو مفهومٌ من السياق: أنه إذا ردّ أحد المتعاقدين -في عقد الصرف- ما قبضه لرداءته؛ قاصداً استبداله، طالباً ما يتحقق فيه الصفة التي تم التعاقد عليها، فهل يقال: نحكم تبيناً أن ما حصل لم يكن قبضاً، وعليه فقد العقد ركنَ القبض؟ أم يقال: لا ينقض القبض الذي حصل، ولا يَرفعُ الردُّ بقصد الاستبدال حكمَ ما حصل من القبض؟
هذا معنى العبارة، كما هو واضح من السياق. ولكن الاضطراب والتصحيف أجهدنا كثيراً، وطوّح بنا بعيداً.
وبيان ذلك: أن عبارة الأصل كانت هكذا: " أم لا يستند النقض إلى ما تقدَّم من القبض " ونسخة (هـ 2): " أم لا يستدّ النقض إلى تقدم من القبض " [مع خلوها من الإعجام تماما، واحتمال أن تقرأ (البعض) بدل (النقض) وسقط منها كلمة (ما) الموصولة] فرحنا نبحث في كتب المذهب، وبعد لأْي وقعنا على النص كاملاً، نقله تقي الدين السبكي في تكملة المجموع: (10/ 121) وجاء بالعبارة هكذا: " أم لا يستند البعض إلى ما تقدم من القبض ". وللأسف وقعنا أسرى للثقة التي نوليها لطبعة المجموع القديمة، فاعتمدنا عبارتها، ورحنا نوجهها، فطوحت بنا بعيداً، وأركبتنا تعاسيف، إلى أن انعتقنا من هذه الثقة، ونظرنا إليها بعين النقد، فرأينا الخلل فيها، وأنها صحفت (استدّ) إلى (استند)، و (النقض) إلى (البعض)، وعندها استقامت العبارة، وإنما أسهبنا في وصف ذلك لكي يدرك من ينظر في =

(5/98)


الرجل في جارية، ثم قبض جارية، فوجدها دون الوصف؛ فإن قنِع (1) بها، فذاك. وإن ردَّهَا، فلا شك أنه يطلب جارية على الوصف المستحق، ولكن المسلَمَ إليه، هل يجب عليه استبراء الجارية التي رُدّت عليه، فعلى قولين مأخوذين من الأصل الذي مهّدناه الآن: فإن جعلنا ردّ الموصوفِ بمثابة ما لو لم يقبض، فيتبين أن ملك المسلم إليه ما زال عن الجارية بالتسليم إلى المسلِم، فلا حاجة إلى الاستبراء، وإن لم نُسند الأمر، فنقول: زال الملك فيها. ثم عاد وانتقض، فيجب الاستبراء.
2980 - عدنا إلى تفريع ما ذكرناه في الصرف. فإن قلنا بالاستناد (2)، فلو جرى الرد بعد التفرُقِ، بان انفساخُ العقدِ، ولم يملك الرادُّ بدلاً، وإن لم نقل بالإسنادِ، فالرّادّ يطلب من المردود عليه بدلَه على الوصف المذكور في العقد.
هذا إذا كان ما قبضه أولاً وأراد رَدّهُ من جنس ما سمّاه.
فأما إذا كان الموصوف دراهمَ والمقبوض زُيوفاً، فإذا وقع التفرق، بطل العقدُ، فإنه تفرّق قبل قبض الموصوف في الصرف.
ولو قال القابض: أقنعُ بما قبضتُه، لم يكن له ذلك، والجهةُ مختلفةٌ، فهو كما لو أسلم في جارية فسُلم إليه غلام، فليس له أن يقنع به.
وسيأتي شرح ذلك في كتاب السلَم.
وما ذكرناه في جميع المقبوض في رداءة الجنس، ومخالفة الجنس نُعيدُه في بعض المقبوض. فنقول: إذا تفرّقا، وقد تقابضا في ظاهر الحال، ثم بان أن بعضَ ما قبضه
__________
= عملنا هذا كيف كانت المعاناة، فيغض الطرفَ عما قد يجده من هناة هنا أو هناك، ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير، تنفعنا في مضجعنا وفي أخرانا إن شاء الله رب العالمين.
(1) قنع: من باب سلم سلامة: رضيَ، وقنَع: من باب خضع خضوعاً: سأل. ومنها: " القانع والمعترّ " (المصباح والمختار).
(2) الاستناد عند الأصوليين هو أن يثبت الحكم في الزمان المتأخر، ويرجع القهقرى حتى يحكمَ بثبوته في الزمان المتقدم، كالمغصوب؛ فإنه يملكه الغاصب بأداء الضمان، مستنداً إلى وقت الغصب.
هذا. وقد مضى بيان أتم لمعنى الاستناد، وغيره، في تعليقات باب النفاس.

(5/99)


أحدُهما زيفٌ، فلا شك في انفساخ العقد في ذلك القَدرِ، ويتفرع في الباقي قولا تفريقِ الصفقةِ على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وإن تفرقا، ثم كان بعضُ ما قبضه على خلاف الوصف مع اتحاد الجنس، فيخرجُ القولان في ذلك القدرِ الذي هو دون الوصف. فإن قلنا: لو ردّهُ، لانفسخ العقد تَبيُّناً (1)، فهل ينفسخ في الباقي على قولي تفريق الصفقة؟ [أم لا] (2)؟ وإن قلنا: لا ينفسخ العقدُ تَبَيُّناً، فليستبدل ذلكَ القدرَ. ولا يتطرقُ إلى هذا تفريقُ الصفقةِ؛ فإن التفريق ينشأ من انقسام حكم العقد ابتداءً، صحةً وفساداً، أو انتهاء فسخاً وإنفاذاً.
وقد يلتحق بما ذكرناه اشتمال الصفقةِ على جنسين من العقود، كالإجارة والبيع. وما ذكرناه من الاستبدال في البعض -حيث انتهى التفريع إليه- ليس من أصول [تفريق] (3) الصفقة في شيء.
فصل
2981 - ذكر الشافعي في آخر الباب الصورةَ التي فرضناها في مد عجوةٍ ودرهمٍ، وهي بيع الدنانير المروانيَّة والعُتُق بالدنانير الوسط، وقد قدّمنا تفصيلَ المذهب في هذا الأصل، ثم ذكر بعد ذلك إباحةَ الذريعة التي لا تُناقض أصول الشريعة.
فإذا كان عند الرجل مائةُ درهمٍ صحاح، فأراد أن يحصل له مكانها مائةٌ وعشرون درهماً مكسرةً، فالوجه أن يشتري بالمائة سلعة أو دنانيرَ، ويسعى في إلزام العقدِ بطريقه، ثم يشتري بالسلعة أو بالدنانيرِ المائةَ والعشرين المكسَّرة، ويصح ذلك.
وقصدَ الشافعي بما ذكرهُ الردَّ على مالكٍ (4)، فإنه يمنع أمثال هذا، واحتج الشافعي
__________
(1) التبين: قريب في معناه من الاستناد الذي شرحناه آنفاً، فهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي، بوجود علة الحكم، والشرط كليهما، في الماضي (راجع شرحاً أتم وتمثيلاً للتبيين في حواشي باب النفاس).
(2) زيادة منا، رعاية للسياق، حيث سقطت من الأصل، وامّحت من (هـ 2).
(3) مزيدة من (هـ 2).
(4) ر. القوانين الفقهية: 251، الكافي في فقه أهل المدينة: 304، تهذيب المسالك للفندلاوي: 4/ 252.

(5/100)


عليه بما روي أن عامل خيبرَ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر جَنيبٍ (1) فقال: " أكُلُّ تمر خيبرَ هكذا؟ قال: لا. ولكن نبيع صاعين من الجَمْعِ بصاع من هذا -والجمع هو الدَّقَلُ وهو تَمر رديء- فقال النبي صلى الله عليه وسلم أَوْه عينُ الربا! لا تفعلوا، ولكن بيعوا الجَمع بالدراهم، واشتروا بالدراهم الجنيبَ " (2).
ويقال: افتتح أبو حنيفة كتاب الحيل بهذا الخبر.
ولنا في الذرائع التي تتعلق بأمثال هذا والعاداتُ مطردة أو مختلفة كلامٌ سنذكره، إن شاء الله تعالى، في أثناء كتاب البيع.
* * *
__________
(1) الجنيب وزان زبيب: من أجود التمر. والجَمعُ، والدّقل الرديء منه. (المصباح).
(2) حديث: بيعوا الجمعَ بالدراهم. متفق عليه، من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة (البخاري: البيوع، باب إذا أراد بيع تمرٍ بتمرٍ خير منه، ح 2201، 2202، ومسلم: المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل، ح 1593، وانظر التلخيص: 3/ 19 ح 1140).

(5/101)


بَابُ بيع اللَّحمِ باللَّحْم
2982 - اختلف قول الشافعيّ بأن اللُّحمان جنسٌ واحدٌ أو أجناس، وذكر المزني أن الشافعي ذكر القولين، ثم زيّفَ قولَه أنها جنسٌ واحد.
توجيه القولين: من قال: إنهما أصنافٌ رجع إلى العادة؛ فإن الناس لا يعدُّون لحمَ الطائر من جنس لحم البقر، ولا يشكّون في اختلاف أجناس الحيوانات التي هي أصول اللحم، فلتكن اللحوم مختلفةً اختلافَها. ومن قال: إنها جنس واحد، احتج بأنها مشتركةٌ في اسمٍ لا تخصَّص بعده إلا بالإضافة، فكانت جنساً واحداً.
وفيما ذكرناه احترازٌ عن اجتماع المختلفات في اسم الثمار؛ فإن كلّ جنس يَختصُّ وراء اسم الثمار باسم خاصّ من غير إضافة، فيقال: خوخ، وتفّاح، ومشمش.
واللحوم لا تتميّزُ إلا بالإضافة إلى الأصول، فيقال: لحم البقر، ولحم الغنم.
التفريع على القولين:
2983 - إن حكمنا بأنهما جنسٌ واحد، فلحوم البرِّيات كلها جنس، ولحوم البحريّاتِ بَعضُها مع بعضٍ جنسٌ، وفي لحوم البرّيَّاتِ مع لحوم البحريَّاتِ على هذا القول وجهان: أحدُهما - أنها جنسٌ واحدٌ؛ طرداً لحكم الاتحاد. والثاني - البريُّ والبحريُّ جنسان، وإن حكمنا باتحاد الجنس في اللُّحمان؛ فإن المعتمدَ في الحُكم بالاتحاد الاجتماعُ تحت الاسم، وهذا لا يتحقق في لحوم البحريّ مع البرّيّ، بدليل أن من حلف لا يأكل اللحم، لم يحنث بلحم الحيتان.
وإن قلنا: اللحوم أجناس، فالبقر جنس ذو أنواع، كالجواميس مع غيرِها، وأنواع الإبل جنس، والضأن مع المعز جنس، والطيور أجناس: فالحمام على اختلاف أنواعها جنس منها: اليمام والقُمْرِي، والدُّبسي، والفَواخت، والقطا، وهي كل ما عَبّ وهَدَر، والبطُّ جنس، والدجاج جنس، والعصافير على اختلاف جثثها وألوانها جنسٌ.

(5/102)


والبحريّ مَع البريّ جنسان، والسموك جنس، والحيوانات المائيّة كبقر الماء، وغنم الماء، بالإضافة إلى ما يُسمَّى حيتاناً، على اختلافٍ بين الأصحاب: فمنهم من قال: جَميعُ البحريَّات بعضِها مع بعضٍ جنسٌ واحدٌ، ذو أنواع. ومنهم من قال: الحيتان مع ما لا يُسَمى حوتاً جنسان. ثم هذا القائل يحكم باختلاف ما عدا الحيتان، نظراً إلى البرّيّات، فغنمُ الماء وبقرُه جنسان.
وهذا التردُّد خارج على اختلافِ الأصحاب في أن جميع البحريات لها حكم الحوت، وإن اختلفت صُورُها حتى تحل ميتتُها، أم لا يثبت لها حكم الحوت؟ على ما سيأتي في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى.
والوحشيات -على قول الاختلافِ- تخالف الأهليَّاتِ. ثم لا يخفى اختلاف أجناس الأهلياتِ، كذلك تختلف أجناس البرّياتِ كالبقر الوحشي؛ فإنها جنس، والظباء جنس. وكان شيخي يتردَّد في الظباء والإبل، وقرارُ جوابه على أنها جنس، كالضأن مع المعز، ولا يتجه غَيرُه.
هذا قَولُنا في النظرِ إلى لحوم الحيوانات بعضها مع بعض.
2984 - فأمَّا القول فيما يشتمل عليه حيوان واحدٌ مما لا يعدّ من اللحم عند الإطلاق، ويخصص بأسماءَ من غير إضافةٍ، كالكرِش، والكبد، والمِعى، والطِّحال، والرئة.
فتحصيل القول في هذا يستدعي تقديم رمزٍ إلى أصلٍ في الأَيْمان. فإذا قالَ الرجل: والله لا آكل اللحمَ، فالذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب، أنه لا يحنث بأكل الكبد، والكرِش، والطَّحال، والمِعَى والرِّئة؛ فإنّ هذه الأشياء لا تسمى لحماً.
وحكى الشيخ أبو علي عن أبي زيد المروزي قولين: أحدُهما - ما ذكرناه، والثاني أنه يحنث؛ فإنّ هذه الأشياء في معنى اللحم. وهذا بعيدٌ، لم أره لغيره، ولم يختلف الأصحابُ في أن من حلف لا يأكل اللحمَ، لم يحنث بأكل الشحم. ولست أعني سَمْنَ (1) اللحم؛ فإنه معدود من اللحم، اتفق عليه من يوثق به. وأما القلب، فقد
__________
(1) في (هـ 2)، وفي المجموع ناقلاً عن النهاية: 10/ 219: "سمين".

(5/103)


قطع الصيدلاني وغيرُه من المراوزة أنه لحم، وذكر العراقيون أنه كالكبدِ. والذي قالوه محتمل، والكُلية عندي في معنى القلب، والأَلْيةُ (1) لم يعدُّها المحققون من اللحم، ولا من الشحم، وجعلوه مخالفاًً لهُما، وهذا فيه احتمالٌ عندي، فيشبه أن يقال: هو كاللحم السمين يجتمع للضائن (2) على موضع مخصوص.
2985 - فإذا ثبت ما ذكرناه من حكم الأَيْمان -واستقصاؤه محال على موضعه- عُدنا إلى غرضنا.
فالطريقةُ المشهورة أنا إذا حكمنا بأن اللحوم أجناس، فهذه الأشياء من الحيوان الواحد أجناسٌ؛ فإنها مختلفة الأسماء والصفات. وإن حكمنا بأن اللحوم جنسٌ واحد، فقد ذَكرنا خلافاً على هذا القول في لحوم البرِّيّات مع البحريّاتِ، ومأخذ قول من يَقول: إنهما جنسان من حكم اليمين؛ فإن من حلف لا يأكل اللحمَ، لم يحنث بأكل الحيتان، فما ذكرناه من الكَرِش وما في معناه يخرج على موجَب اليمين الذي ذكرناه. فكل ما يحنَثُ الحالف بأكله والمحلوف عليه اللحمُ، فهو من جنس اللحم على قولنا باتحاد جنس اللحمان، وكل ما لا يحنَث الحالفُ على اللحم بأكله، فهو خارجٌ على الوجهين، اعتباراً بلحوم الحيتان مع لحوم البرِّيَّات.
فهذه الطريقة المرضيَّة.
وحكى شيخي عن القفال عكْسَ هذا، فقال: إن حكمنا بأن اللُّحمانَ جنسٌ واحدٌ، فالمُسمَّياتُ التي ذكرناها ملحقةٌ باللحم مجانسة له، وليس الحكم بمجانستها للحم بأبعدَ من حكمنا بمجانسة لحم العصفور لحمَ الجزور.
وإن حكمنا بأن اللحمان أجناسٌ، ففي هذه المسمّيات من حيوانٍ واحدٍ وجهان: أحدُهما - أنها ملتحقة باللحوم، لاتحاد الحيوان، فكأن لحم كل حيوان يختلفُ
__________
(1) أَلْيةُ الشاة، قال ابن السكيت، وجماعة: لا تكسر الهمزة، ولا يقال: ليّة، والجمع ألَيات، كسجدة وسَجَدات، والتثنية: أَلْيان بحذف الهاء على غير قياس، وبإثباتها في لغةٍ على القياس. (مصباح).
(2) الضائن: ذكر الغنم، والأنثى: ضائنة. (مصباح).

(5/104)


أجزاؤُه، والكل لحمٌ. وهذه الطريقةُ رديئةٌ، لم أرها إلا لشيخنا؛ فلا أعدُّها من المذهب.
والعظمُ لا شك أنه ليس بلحمٍ، الصلبُ منه والمُشاشي (1)، والغضرُوفي (2)، وكذلك المِخَخَة (3).
وقطع أئمتُنا بأن الأكارع لحمٌ في اليمين، وهو من الشاة مجانسةٌ لسائر لحمها، ولا اعتراض على الاتفاق. ولعل ذلك من جهة أنه يؤكل أكْلَ اللحم، وإلا فالظاهر عندي أن العصبةَ المفردةَ ليست لحماً. والرؤوس من اللحوم لا شك فيه، وإنما أشرت إلى إشكالٍ في المعنى، من جهة أن الأكارعَ أعصابٌ تحويها الجلود، ولكنها إذا تهرَّت، أُكِلت أكلَ اللحم.
فهذا كلّه ترتيبُ القول في اتحاد الجنس واختلافِه.
2986 - فلا يخفى بعد هذا أن كل لحمين حكمنا باختلافِ جنسهما، فلا حرجَ في بيع أحدهما بالآخر، مع حقيقةِ التفاضل، ولا تعبّدَ إلا في التقابضِ وامتناع النَّساء.
وإن حكمنا باتحاد الجنس، أو فرضنا في بيع لحم الغنم يباع البعض منه بالبعضِ، فقد قطع معظمُ الأصحاب بأنهُ لا يجوز بيع اللحم الرَّطْب باللحم الرطب. بل يجب أن يُجفَّفا حتى لا تبقى في اللحم رطوبة، فيباع القديد، ولو كان على القديدِ ملحٌ يظهر له أثرٌ في الوزنِ، لم يجُز بيع البعضِ بالبعض. وحكى بعضُ الأئمة وجهاً أن بيع اللحم الرَّطْب باللَّحمِ الرَّطب جائزٌ، وخرّجوا هذا على بيع الخوخ الرطب بالخوخ الرطب.
وقد ذكرنا، فيه وفي أمثاله خلافاً، ووجه شبه اللحم بما ذكرناه، أن تقديدَ الخوخ قد يلتحق بما لا يعم، واستعماله رطباً أعم. كذلك القول في اللحم. وهذا غريبٌ، وظاهر المذهب ما قدمناه.
وبقيةُ الكلام في الباب التعرضُ للعظم.
__________
(1) المُشَاشَة: رأس العظم اللين الذي يمكن مضغه (معجم).
(2) الغضروف: العظم اللين الرَّخْص، في أي موضع كان (معجم).
(3) أمخ العظمُ: صار فيه مخ، والمُخاخة ما خرج من العظم في فم من يمصّه وجمعه مخاخ، ومِخخة. (معجم وقاموس).

(5/105)


2987 - لم يختلف أصحابنا أن بيعَ اللحم المنزوعِ العظمِ بلحمٍ يُشابهه في نزع العظم جائز، وليس كنزع النوى من التمر، وقد قدّمت هذا في الجواز مع النزع، وهل يجوز البيع مع العظم؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من لم يُجوّز، وإليه ميل الأكثرين؛ فإن العَظم يُفسد اللحمَ ولا يُصلحُه، وليس كذلك النوى في التمر. ومن أصحابنا من لم يوجب نزعَ العظم الخِلقي (1)، وهذا مشهور، ولكنهُ مزيف.
ثم إذا جوَّزنا البيعَ مع العظم، فلا يُشترطُ اتحادُ صنفِ اللحمين حتى تتقاربَ العظام، بل يجوزُ بيع الفخذ بالجنبِ، وإن كانت أقدارُ العظام تتفاوتُ، وهذا كتفاوت النوى في التمر.
وعندي: يجب أن يُرعى في هذا نظر؛ فإن العضوَ الذي فيه اللحم لو نحي منه مقدار صالح من اللحم، فالعظم الباقي في العضوِ لا يُحتمل في شراء ذلك العضوِ، فيجبُ أن يقالَ: إذا كان كذلك يمتنعُ بيعُ ذلك العضوِ بعُضو لم يُقطع من لحمه شيء.
وإن قلّ المقدار المقطوع بحيث لا يبالَى به، فلا بأس إذن على الوجه الذي نفرع عليه.
* * *
__________
(1) كذا في الأصل، وفي (هـ 2): " الخلفي " بالفاء.

(5/106)


بَابُ بَيعِ اللحْمِ بالحَيوانِ
روى الشافعي بإسناده عن ابن المسيّبِ أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع اللحم بالحيوان " (1) ومراسيل ابن المسيب مقبولٌ (2) عندَ الشافعي، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: " أن جزوراً نُحرَتْ على عهد أبي بكر رضي الله عنه فجاء رجل بعنَاقٍ، فقال: أعطوني جزءاً بهذا العَناق، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا المبيع " (3).
[فالمتبع] (4) في الباب الحديث، والقياسُ يقتضي تجويزَ لحم الشاة بالشاة، (5 من جهة أن الحيوان ليس مالَ رباً، فالمتّبعُ الحديثُ إذاً. ثم اتفق الأصحابُ على منع بيع لحم الشاة بالشاةِ 5).
وخرّجوا بيعَ لحم الشاة بالبقر والبعير، على القولين في تجانس اللُّحمان واختلافهما، وقالوا: إن قضينا بتجانسِها، فالبيع يمتنع، كبيع لحم الشاة بالشاة، وإن حكمنا بأن اللُّحمان مختلفةُ الأجناس، ففي البيع قولان: أقيسُهما الصحّةُ؛ لأن بيع لحم الشاة بلحم البقر جائزٌ متفاضلاً، وإذا منعنا بيعَ لحم الشاة بالشاة، فهو على تقدير الشاة لحماً، فإذا كان لا يمتنع البيع مع مصير الحيوان المقابل للحم لحماً، فكيف يمتنع بيع اللحم بذلك الحيوان.
والقول الثاني - أن البيع ممتنع، لظاهر نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع اللحم بالحيوان.
__________
(1) حديث النهي عن بيع اللحم بالحيوان رواه مالك في الموطأ: 2/ 655، والشافعي، وأبو داود في المراسيل (ر. التلخيص: 3/ 2 ح 1144، ومختصر المزني: 2/ 157).
(2) كذا في النسختين بتذكير " مقبول ".
(3) حديث ابن عباس رواه الشافعي في الأم، وفي المختصر: 2/ 157.
(4) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(5) ما بين القوسين سقط من (هـ 2).

(5/107)


وطرد بعض الأصحاب القولينِ في بيع لحم الشاة بالعبد من جهة أنه بيع اللحم بالحيوان.
2988 - والذي يجب التنبه له في مضمون هذا الباب، وأمثالِه أن من الأصول ما يستند إلى الخبر، أو إلى ظاهر القرآن، ولكن القياس يتطرق إليه من أصول الشريعة، فلا يمتنع التصرف في ظاهر القرآن والسنة، بالأقيسة الجليّة إذا كان التأويل منساغاً، لا ينبو نظر المصنف (1) عنه، والشرط في ذلك أن يكون صَدَرُ (2) القياس من غير الأصل الذي فيه ورُود الظاهر، فإن لم يتَّجه قياس من غير مورد الظاهر، لم يجز إزالةُ الظاهر بمعنىً يُستنبط منه، يَضمنُ تخصيصَه، وقصْرَه على بعض المسمَّياتِ، وقد ذكرت هذا على الاستقصاء في كتاب (الأساليب)، وألحقت فيما مهَّدتُه في ذلك الردَّ على القائلين بالأبدال في الزكوات.
هذا فيما يتطرق إليه المعنى.
فأما ما لا يتطرق إليه معنى مستمرٌ صابرٌ على السَّبْر، فالأصل فيه التعلّقُ بالظاهر، وتنزيلُه منزلةَ النصِّ. ولكن قد يلوح مع هذا مقصودُ الشارع بجهةٍ من الجهات فيتعيّن النظرُ إليه، وهذا له أمثلة: منها أن الله تعالى ذكر الملامسة في قوله (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ) [النساء: 43] وحملها الشافعي على الجسّ باليد، ثم تردّد نصُّه في لمس المحارم؛ من جهة أن التعليلَ لا جريان له في الأحداث الناقضةِ، وما لا يجري القياس في إثباته، فلا يكاد يجري في نفيه، فمال الشافعي في ذلك إلى اتباع اسم النساء، وأصح قوليه أن الطهارة لا تنتقض بمسهنَّ؛ لأن ذكْر الملامسة المضافة إلى النساء، مع سياق الأحداث، يُشعر بلمس اللواتي يُقصدن باللَّمسِ، فإن لم يتَّجه معنى صحيح، دلَّت القرينةُ على التخصيص.
ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس للقاتل من الميراث شيء " (3)
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: المنصف.
(2) " صَدَرُ ": أي صدور.
(3) حديث ليس للقاتل ميراث: أخرجه النسائي: كتاب الفرائض، باب توريث القاتل، ح 6368، ورواه ابن ماجه، ومالك في الموطأ، والشافعي، وعبد الرزاق، والبيهقي، كلهم =

(5/108)


فالحرمان لا يستدُّ فيه تَعليلٌ كما ذكرنا في الخلاف، وإذا انسد مسلكُ التعليل، اقتضت الحال التعلّق بلفظ الشارعِ، فردَّد الشافعي نصَّه في أن القتل قصاصاً، أو حدّاً، إذا صدرَ من الوارث، فهل يتضمن حرمانَه؟ فوجهُ تعليق الحرمان بكل قتلٍ التعلّقُ بالظاهر، مع حسمِ التعليل، ووجه إثبات الإرث التطلعُ على مقصود الشارع، وليس يخفى أن مقصودَهُ مضادّةُ غرض المستعجل، وهذا لا يتحقق في القتل الحق.
2989 - والذي نحن فيه من بيع اللحم بالحيوان خارج على هذا القانون، فمن عمم تعلّقَ بقول الشارع، ومن فصَّل تشوَّف إلى دَركِ مقصودهِ، وهو أن في الحيوان لحماً، فبيعُ الشاة به كبيع الشاة بلحمه. وعن هذا قال مالكٌ (1): إن قصد من الحيوان اللحمَ، لم يجز بيع اللحم به، وهذا يقربُ من مذهبهِ في اشتراط قصد الشهوة في ملامسة الرجال.
ومن تمسك بظاهر اللفظ، فقد يترتبُ كلامُه، فيقرب بعضُ المراتب ويَبعُد بعضها، وهذا كما ذكرناه في قتلِ المورِّث. فالقتل قصاصاً أقربُ قليلاً، وأما القتل حدّاً سيّما إذا ثبت بإقرارِ من عليه الحدُّ، فاعتقاد جريان الخبر فيه بعيدٌ. ومن هذا القبيل منع بيع اللحم بالعبد، ولو ادّعى العلم في أن هذا ليس مرادَ الشارع، لم يكن بعيداً.
* * *
__________
= عن عمرَ، وفي الباب عن أبي هريرة، وابن عباس (ر. التلخيص: 3/ 185 ح 1406، 1407، 1408).
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 539 مسألة 873، عيون المجالس: 3/ 1445 مسألة 1011.

(5/109)


بَابُ ثَمَرِ الحَائِطِ يُبَاعُ أَصلُهُ
2990 - صَدَّرَ الشافعي البابَ بما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من باع نخلاً بعد أن يُؤبر فثَمرتُه للبائع إلا أن يشترط المبتاعُ " (1) وقد ذكرَ الشافعي في هذا الباب تفصيلَ القول في بيع الأشجار وعليها الثمار، وفصّل القول في أنها متى تستتبع الثمارَ ومتى لا تستتبعُها، ثم ذكر في بابٍ آخر بعد هذا تفصيلَ القول في إفراد الثمار في البيع، وبيان تبقيتها وقطعها، وتفصيلَ الأقوال في ذلك.
2991 - والأشجار المثمرةُ أقسام، فمنها ما تبدُو ثمارها في أول الأمر كالتين، ومنها ما تطلع ثمارها وهي في سواتر، ثم تزول السواتر أو تُزال، وتبرز الثمار، ومنها ما يتردّدُ الناظر في اعتقاد ظهورها. فأما الأشجار التي تكون ثمارُها بارزةً من أول الفِطرةِ، فإذا بيعت الأشجار وأُطلق تسميتُها من غير تعرضٍ لذكر الثمار، فالثمار تبقى للبائع، ولا تدخل تحت مطلق تسميةِ الأشجار؛ فإنها ليست جزءاً، وقد استقلت بظهورها.
وأما ما يطلعُ مستتراً بساتر كطلع النخل؛ فإنه يكون مستتراً بالكِمام، وأكِمّةُ الطلع غُلفٌ كثيفة تبدو مستطيلةً كآذان الحُمر والطلع في أوسَاطِها فإذا شُقَقت ظهر الطلعُ على العناقيد أبيضَ، وهو أشبه شيء بالرُّز، فإذا أُطلق بيعُ النخلة والطلع مستتر بالكِمام، فمذهب الشافعي أن الثمار تتبعُ مطلقَ تسميةَ الأشجار، ويملكها المشتري.
هذا تأصيل المذهب في الباب، وسيأتي التفصيل الآن.
فأما ما يتردّدُ الاعتقاد في ظهوره، فمن جملته الأشجارُ التي تُبدِي أزهارَها، وهي تنقسم، فمنها ما يحتوي مركَّبُ الأزهارِ وأصلُها على الثمارِ، على هيئةِ خَوخاتٍ
__________
(1) حديث " من باع نخلاً ... " متفق عليه من حديث ابن عمر. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 376 ح 991، وانظر أيضاًً التلخيص: 3/ 65 ح 1212).

(5/110)


صغار، كالمشمش، والخوخ، وما في معناهما. فإذا بيعت هذه الأشجار وعليها أزهارُها، فالثمار في مطلق البيع للمشتري؛ فإنها مستترةٌ استتار الطلع، وفيها مزيدُ معنى، وهو أنهُ لا يعد ثمراً حتى يشتدَّ ويصلبَ، وذلك بعد انتثار الأزهار، وانكشافِها عن الخوخات.
ومن الأزهار ما لا يحتوي على الثمار، ولكنها تطلع والثمرةُ تحتها، كالكمثرى والتفاح، فما كان كذلك، فقد اختلف الأصحابُ فيه: فالذي مال إليه العراقيون أن الثمار لها حكمُ الظهور؛ فلا تتبع الأشجارَ المطلقةَ في البيع. ومن أصحابنا من قال: هي للمشتري؛ لأنها غيرُ منعقدة بعدُ، وإنما انعقادُها بعد انتثار الأزهار، وهذا هو الذي ذكره الصيدلاني.
ومما يتعلق بهذا القسم الكلام في الجَوْز، وقد قال العراقيون: القشرةُ العليا ساترةٌ للجوزِ سَتْرَ الكِمام للطلع، فإذا جَرى بيعُ الشجرة مطلقاًً، فالجوز تابعٌ. وقطع صاحب التقريب بخلاف هذا، واحتجَّ بأن هذه القشور لا تزول في الغالب إلا عند [الأكل] (1)، وحقّق بما ينبّه على المقصود؛ فقال: القشرة العليا تُعَدُّ من الثمرة، والكِمام تُعدُّ من الشجرة، وإذا برزَتْ منها العناقيد وأقطفت (2)، قُطفت، وتُركت الأَكِمَّة على الأشجار، تركَ السعف والكرانيف، وقشورُ الجَوْز ليست كذلك. والقُطن ملحقٌ بالنخيل، والمُراد ما يكون شجراً باقياً على مَمرّ السنين، فالقطن يؤخذ ويُتركُ القشرُ على الشجر، كما صوَّرناه في الكِمام. وأما الورد؛ فإنه يتستر بجزء من الشجرِ، يتشقق ذلك الجزءُ وتَبرُز الوردة، فهو كالنخل، وقد تبرز الوردةُ في غبَنِها (3) متضامَّة الأوراقِ، ثم تَتَفتّق، فماذا برزت بجُملتِها، فهي ظاهرةٌ لها حكمُ البروز إذ ذاكَ، فلا تتبع.
فهذا بيانُ الظهورُ والكمونِ في الثمار (4).
__________
(1) في الأصل: القطف.
(2) أقطفت الثمار حان قطافها.
(3) غَبَنِها: أي مخبئها: اغتبن الشيء خبأه في الغَبَن. (معجم).
(4) لا يسع المنصف إلا أن يسجل إعجابه بإحاطة أئمتنا بواقع المسألة التي يتكلمون فيها، فهذا =

(5/111)


2992 - ونرد التفصيل بعد ذلك إلى النخيل، وهي فحولٌ وإناث، والفحول لا تعنى ثمارُها للأكل، ولكنها تُعنَى لتؤخذَ، وتشقق أكِمّةُ الإناث ويُذرُّ فيها طلعُ الفحول، فتربو وتنمو. وقد تشَّققُ الأكِمَّة بأنفُسها. ثم التأبيرُ قد يختلف باختلافِ أنواع النخيل، فيتقدّمُ التأبيرُ في البعضِ، ويتأخر في البعض، ثم هي تتفاوتُ في أوان القطاف، ولم يجر عُرفُ القائمين بتعهد النخيلِ بتأبير جميعها، بل يكتفون بتأبير البعضِ، وقد تنبث رياح الفُحول إلى الجميع فتتأبر. ثم إن اتحد النوعُ تلاحق التأبيرُ على قُربٍ من الزمانِ، وإن اختلفت الأنواع، فقد تختلف أوقات تأبيرها.
فإذا تُصوِّر ما ذكرناه، قلنا: إذا باع الرجل نخيلَ بستانٍ والنوعُ متّحدٌ، وقد أبَّر بعضَها، فالذي لم يؤبَّر ملحقٌ في الحكم بالمؤبَّر، حتى لا يتبعَ الأشجارَ في إطلاق التسمية، فالكامن منها على الصورة التي ذكرناهَا يتبع الظاهرَ، والسببُ فيه أن رعايةَ الظُّهور في الجميع عسرٌ مفْضٍ إلى تتبع كل عنقود.
والقولُ في ذلك يختلفُ إذا كَثُرت النخيل، فعسُرَ التزامُ التفصيل، وإتباعُ الكامنِ الظاهرَ أوجَهُ؛ من جهة أن الكامن إلى الظُهور في أوقات متلاحقة، والأصل استقلال الثمار بأنفسها، وانقطاعُها عن تبعية الأشجار، وظهرَ بذلك وجوب الميل إلى إتباع الكامنِ الظاهرَ.
2993 - ثم صور الوفاق فيما ذكرناه والخلاف، تنشأ من معنيين: أحدُهما - اشتمالُ البيع واختصاصُه. والثاني - اختلافُ الأنواع، وتباينُ أوقات التأبير، [لأجلها] (1).
فإن اشتمل البَيعُ على نخيلٍ، وقد جَرى التأبير في بعضِها والنوعُ متحد، فقد اجتمع الاشتمالُ واتحادُ النوع، فيتبع الكامِنُ الظاهرَ وجهاً واحداً.
__________
= الوصف لأنواع الأشجار والثمار والزهور لا يكون إلا عن رؤية حقيقية ومتابعة لطبيعة هذه البساتين. وبعض نابتة العصر يهمزون أئمتنا ويلمزونهم، ويتشدقون بما يسمّونه فقه الواقع، وهم لا يدرون ما يقولون.
(1) في الأصل: كلها.

(5/112)


فإن أَفْرَدَ مالكُ النخيل نوعاً منها بالبيع المطلق، والبستانُ يشتمل على نوع آخر، وقد جرَى التأبيرُ فيما لم يبع، ولم يجرِ في شيء مما باع، فالمبيع مقتَطَعٌ عما لم يبع.
فإذا لم تكن ثمارُ النخيل المبيعةِ مؤبرة، وما كان جرَى التأبير في شيء منها؛ فإنها تتبع أصولَها في مطلق البيع، ولا نظرَ إلى ما جرى من التأبير في النوع الذي لم يُبع، وقد اجتمع في المبيع معنيان: أحدُهما - اختصاص البيع، والثاني - تميُّزُ النوعِ المبيع عن الذي لم يُبع بوجه، يقتضي التفاوتَ في أوقات التأبير، فاقتضى مجموعُ المعنيين تخصيصَ مورد البيع بحُكمه.
وإن اتَّحد نوعُ النخيل في البستانِ، وكان جرى التأبيرُ في بعضِها، فأَفرَدَ بالبيع نخيلاً منها، لم يؤبر شيء منها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نُتبعُ الأثمارَ الأشجارَ المطلقة في البيع، ولا ننظر إلى ما أُبّر؛ فإن المؤبَّر غيرُ مدرج في البيع؛ فلا يلحق البيع (1) منه حكم.
والثاني - أن الثمار كالمؤبّرة، فإنها ستتأبر على القرب، ودخول وقت التأبير عند هذا القائل كالتأبُّر نفسه.
وإن باع نوعين تختلف أوقات التأبّر فيهما، وقد جرى التأبيرُ في أحد النوعين، فهل يثبت للنوع الذي لم يؤبّر حكمُ التأبير، حتى لا تتبعُ الثمارُ الأشجارَ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبتُ لها حكمُ التأبير؛ إتباعا لما أُبّر؛ فإن البيع مشتمل على النوعين، والجنس واحد، فلا نظر إلى اختلاف النوعين، وقد يفرض تفاوت الأوقات في النوع الواحد بصفاتٍ يختلف النخيل بها مع اتحاد النوع.
فهذا بيان صُور الوفاق والخلاف في ذلك. وسنذكر نظائرَ لهذا في تصوير بدُوّ الزَّهو والصلاح، في الباب المعقود لبيع الثمار وحدَها.
فرع:
2994 - الفحول تُطلِع إطلاع الإناث، وتتأبّر على صورة تأبّر الإناث، فإذا لم يكن إلا الفحول، فبيعُها قبل التأبير كبيع الإناث، فتتبع الثمارُ الأشجارَ، هذا هو المذهب الظاهر.
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: (المبيع).

(5/113)


ومن أصحابنا من قال: ثمار الفحول لا تتبع الأشجارَ إذا أُطلق بيعها، وإن لم تؤبر، فالنظر إلى وجود ثمار الفحول ظاهرة كانت، أو كامنةً؛ فإن المقصود منها طلعُها لتجفَّف وتُذر في شقوق أَكِمّة الإناث، وإذا كان كذلك، فمنتَهى ثمارِها وجودُها، بخلاف ثمارِ الإناث؛ فإنها تُعنى للإرْطاب وظهُورُها في حكم المبدأ للمقاصدِ منها.
ومما يتفرع على ذلك أن البستان إذا اشتمل على الفحول والإناث، وكان ظهر طلع الفحول، فهل يستتبع الإناثَ في حكم التأبير؟ فعلى وجهين: وهما كالوجهين في استتباعِ النوعِ النوعَ وقد مضى.
فرع:
2995 - إذا أُبّرت نخيل، فاطلعت بعد تأبيرها نخيل، فما صار إليه ابنُ أبي هُريرة أن التي أَطْلَعت بعد التأبير لا تتبع المؤبرّةَ [وإنما تتبعُ المؤبرةَ فيما] (1) كان طلعها موجوداً عند تأبير ما قد أُبرّ. وقال غيرُه من أصحابنا: إن التي ظهر طلعُها بعد التأبير تتبع التي أُبّرت من قبل على تفصيلِ النّوع والأنواع كما تقدم.
فرع:
2996 - الثمرةُ التي لم تؤبَّر إذا أراد مالكُها أن يُفردَها بالبيع فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب جوازُ ذلك، وهذا مما تعلق به أصحاب أبي حنيفة (2) إذْ منعوا إتْباعَ الثمارِ النخيلَ، وقالوا: لما جاز إفراد الثمار بالبيع، دَلّ ذلك على استقلالها بنفسها، وحكى العراقيون عن أبي إسحاقَ المروزي أنه منع إفرادَ الثمارِ قبل التأبير في البيع، وقد ذكر صاحب التقريب في ذلك قولَين: وبناهُما على بيع الحنطةِ في سُنبُلها، وهذا منقدح حسن. وسنذكر تفصيلَ القولِ في الزروع، واكتتام الطلع بالكِمام لا ينقص عن اكتتام الحب بالسُّنبل.
فرع:
2997 - كل شجرةٍ لا تُعنى أوراقُها، فإذا بيعت، دخلت أوراقُها تحت البيع، وإن كانت ظاهرةً؛ لأنها لا تعد مستقلةً بنفسها، فليُعتقد كونُها تابعةً، وإن كانت لا تبقَى وتنتثر، لا خلاف في ذلكَ.
__________
(1) زيادة من (هـ 2).
(2) ر. مختصر الطحاوي: 78، اللباب: 2/ 495، الاختيار: 2/ 6.

(5/114)


ولو كانت الأوراق مقصودةً، كأوراق شجر التُوتِ، فإنها تُقطع لدُودِ القَزّ، فقد قال العراقيون: قال أبو إسحاقَ: الأورَاقُ الباديةُ كالثمار الظاهرةِ، فإذا أطلق بيعُ الأشجار، بقيت الأورَاقُ للبائع، اعتباراً بالثمار الظاهرة. وقال غيرُه من الأصحاب: إنها تتبع الأشجارَ بمطلق التسميةِ، طرداً لما قدّمناه من الأصلِ في أوراق الأشجار، من غير نظر إلى تفاصِيلها.
ولم يختلف علماؤنا في أن شجرة الخِلاَفِ (1) إذا بيعت، دخلت أغصانُها التي تُقطع عادةً، وتُخلَفُ تحت مطلق البيع، فإن تيك الأغصان من جِرْم الشجرة.
فكأنا نتخيَّل مراتبَ مرتَبةً: منها في جرم الشجرة، وهو داخل تحت مطلق البيع؛ فإن اسم الشجرة صريح فيما هو من جرمه، وإن كان يُقطع فيُخلَف.
والمرتبةُ الأخرى الأوراق، وهي تكاد تكون كالجرم في الاعتبار، وإن لم تكن من جِرم الشجرة في الخِلقة؛ من حيث إنها تظهر وتنتثر، ظُهورَ الثمار والأزهار، فهي ملحقة بما هو من جرم الشجرة، إلا إذا كانت بحيث تُقصدُ وتنتَحى، كما تُقصد الثمار، فإن كانت كذلك، ففيها خلاف أبي إسحاق. والجماهيرُ على إلحاقها بجنس الأوراق.
والمرتبةُ الأخرى في الثمار، وليست هي من [جِرم] (2) الأشجار، ولا تُعدُّ تابعةً كالأغصان، فالقول فيها ينقسم إلى الظهور والكُمون، كما سَبقَ تفصيلُه. وكان شيخي أبو محمدٍ يقول: إذا أبَّر الطلعَ وحكمنا ببقائه للبائع، فجِرم الكِمام للمشتري؛ فإنه يُترك على النخلة.
فرع:
2998 - ذكرنا أن الكُرسفَ (3) الحجازيّ كالنخلة، فإن أصول الكُرسفِ في الحجاز أشجارٌ تبقى على مكرِّ السنين، ويعتقب القطنُ عليها اعتقابَ الثمار، والقُطن في بلادنا زرعٌ، فلا يجوز بيعُه مع استبقاء الكرسُف؛ فإن أصله ليس باقياً، وسنقرر هذا في الزروعِ، وإنما نبَّهتُ عليهِ الآن حتى لا يلتبس ناجزاً.
__________
(1) الخلاف: شجر الصفصاف.
(2) مزيدة من (هـ 2).
(3) الكرسف: القطن. والمراد هنا نوع خاص من القطن وصفه الإمام.

(5/115)


فصل
قال: "ومعقولٌ إذا كانت الثمرةُ للبائع أن على المشتري تركَها ... إلى آخره" (1)
2999 - إذا باع الرجل شجرة وعليها ثمارٌ ظاهرةٌ، والبيع مطلق، فالثمرةُ للبائع، ولا يُجبَر على قطعها قبل أوانها، وحكم البيع اختصاصُ المشتري بملك الشجرة، وبقاء استحقاق التَّبْقية للبائع إلى أوان القطافِ، فبقي للبائع ما كان له من حق التبقية.
وورُود استحقاق المشتري على هذا الوجه على رقبة الشجرة.
وكذلك لو باع الرجلُ ثماراً مُزهيةً على أشجاره، على ما سنصف ذلك في بابه، فالمشتري يُبقي الثمارَ إلى أوان القطع، إذا جرى البيع في حالة الزَّهو.
3000 - فإذا تبيّنَ هذا عدنا إلى غرَضِنا من المسألة.
فإذا بقيت الثمرةُ للبائع، وجَرى ملك المشتري على رقبةِ الشجرة، فللبائع أن يسقي الشجرةَ التي باعها، إذا كان السقيُ لا يضرّ بالشجرة، وينفع الثمرةَ.
وليس للبائع أن يكلِّف المشتري السقيَ، لتنمو ثمارُه؛ فإن المشتريَ لم يلتزم تنميةَ الثمار، وإنما عليهِ تركُها إلى أوانِ جِدادها. نعم من الوفاء بتركها أن يمكِّن البائعَ من تنميتِها؛ إذْ لو منعه منه، لفَسدت الثمارُ، وأدَّى هذا إلى اضطراره إلى القَطعِ قبل أوانه، أو إلى فساد الثمارِ، فإذن على المشتري أن يمكنه من السقي.
وإذا باع الثمارَ المزهيةَ فمؤنةُ السقي إلى الجِداد على بائع الثمار، كما سَيأتي ذلك في بابها، والقدْرُ الناجزُ الآن أن السقيَ من تمام التسليم، وكأنه التزمَ تسليمَ الثمار تامَّة، ومن هذا نشأ اختلاف القول في الجوائح ووضعِها، كما سيأتي ذلك في بابها إن شاء اللهُ تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 162.

(5/116)


3001 - فإذا باع الأشجارَ واستبقَى الثمارَ، ولو سقَى الأشجارَ، لتضرَّرت، وتعرَّضت لعلّةٍ تنالُ الأشجارَ من السَّقي، ولو تَركَ السقْيَ، لانتقصت الثمارُ، أو فسَدَت، فالطُرُقُ مضطربةٌ في هذا المقامِ. ونحن نجمع حاصل أقوال الأصحاب.
فمن أئمتنا من يرعَى جانبَ المشتري، مَصيراً إلى أن بائع الشجرة التزمَ تسليم الشجرة على كمالها للمشتري، وكل ما يؤدي [إلى] (1) تنقيصِ الشجرة، فهوَ نقيضُ الوفاء بموجب العقد.
ومن أصحابنا من قال: للبائع أن يسقي إذا كان ينتفع ولا يبالي بتضرر المشتري.
وهذا حكاه العراقيون عن ابن أبي هريرة، ووجهه أنه استحق تبقيةَ الثمار، لا على الفساد. فكأنه استحق تنميتَها، والبيعُ لم يَرِد إلا على هذا الموجَب.
وذكر العراقيون وجهاً ثالثاً عن أبي إسحاقَ المروزي، وذلكَ أنه قالَ: إذا تعارض حقاهما، نُظر، فإن رضي أحدُهما بترك حقِّه، فذاك. وإن تدافَعا وتمانعا، فسخ القاضي العقدَ بينهما.
وحقيقةُ الأوجُه تؤول إلى أن من أصحابنا من يرعى جانبَ المشتري، ومنهم من يرعى جانبَ البائع، ومنهم من لا يقدّم أحدَ الحقَّين على الآخر. ثم من ضرورة استواء الحقين إذا كانا متناقضَين، ولم يكن أحدهما أولى من الثاني، أن يُفسَخ العقدُ بينهما.
3002 - ولو كانت الثمار لا تحتاج إلى السقي، بل كانت تتضررُ به، وكانت الأشجار لا تتضرَّرُ بالسقي، فالخلاف يعود على النحو المتقدِّم. فمن أصحابنا من رَاعى جانب المشتري، ومنهم من راعى جانب البائع، ومنهم من لم يُقَدِّم أحدَهُما على الآخر. ثم موجَب ذلك الفسخ، كما ذكرناه.
ومن الصُوَر الملتحقةُ بما ذكرناهُ أن البائع لو أمكنهُ أن يسقي، ولو سقى، لانتفعتِ الشجرةُ والثمرةُ، ولو امتنع من السقي امتصَّتِ الثمارُ رطوبةَ الأشجار، وأضرَّت بها، فإذا كان السقْيُ ممكناً، فالبائع مُجبرٌ من جهة المشتري على أحد الأمرين: إما أن
__________
(1) مزيدة من (هـ 2).

(5/117)


يسقي، وإما أن يقطعَ الثمارَ إذا كان يضُرُّ بقاؤُها.
فلو لم يجد البائع الذي بقيت الثمارُ له ماء، ولو أبقى الثمرةَ، لانتفعت الثمرةُ وتضررت الشجرةُ، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يُجبر على القطع؛ فإنه إنما يملكُ التَّبْقِيَةَ على شرط دفع ضررِها عن الشجرة، فالتبقيةُ إذن مشروطةٌ بما ذكرناه، فإذا تخلف الشرطُ، لم يثبت المشروط.
والوجه الثاني - أن الثمرة تبقى؛ لأنها تنتفع بالتبقيةِ، وإنما على البائع أن لا يترك مجهوداً يقتدر عليه، فإذا انقطع الماءُ، فلا تقصيرَ من البائع، وحقّ التبقيةِ قائمٌ له.
والوجهان يشيران إلى ما قدمناه الآن من أن المراعَى جانبُ المشتري أو جانبُ البائع. ولم يقع التعرضُ لاستواء الحقين، ولا بُدَّ من هذا الوجه، ثم موجَبُ استواءِ الحقين الفسخُ، كما ذكرناه.
[وما ذكرناه] (1) من التردد في قدر حاجةِ الثمرة، فأما ما يزيد على الحاجة، ويضر بالشجرة، فهو ممنوعٌ.
وتمام البيان في هذا أن أهل البصيرة، لو قالوا: الثمرةُ لا تفسد بترك السقيِ، بل تسْلَمُ الثمرةُ من غير سقي [غير] (2) أنها لو سُقيت، لظهرت زيادة عظيمة، والشجر يتضررُ بها، فهذا فيه احتمالٌ عندي، يجوزُ أن يقالَ: يُمنع البائعُ من هذا السَّقْي؛ فإن الزياداتِ في نهايتِها لا تنضبط، فالمرعيُّ الاقتصاد. ويجوز أن يقال: له أن يسقيَ لمكان هذه الزيادة، على مذهب من يرعى جانبَ البائع؛ فإنّ هذه الزيادة تحصلُ بالسقي، ولو ترك السقيَ، لفاتت، ومن يراعي الاقتصادَ في الاحتمال الأول، لم يكتفِ بأن لا تفسدَ الثمرةُ، بل انتقاصُها عن القصد، والمسلك الوسط آفةٌ في القدر المنتقص.
فهذا بيان المذهب في ذلك.
__________
(1) زيادة من (هـ 2).
(2) ساقطة من الأصل.

(5/118)


فصل
قال: " وإن كانت الشجرةُ مما تكونُ فيه الثمرةُ ظاهرةً ... إلى آخره " (1).
3003 - نذكر في هذا الفصل صورتين: إحداهما - لم يذكرها المزني، وبها البدايةُ، فنقول: إذا اشترى رجلٌ ثماراً على الأشجار، ثم لم يقطعها حتى أخرجت الأشجارُ ثماراً زائدة، لم تكن حالةَ البيع، فلا شَك أنها للبائع، وسبيلُ التقسيم أن نقول: ذلك التلاحق والتجدد لا يخلو إما أن يكون في ثمرة تتلاحق غالباً، وإما أن يكون في ثمرة يَنْدُر فيها التلاحق.
فإن اتفقَ في ثمرةٍ لا تتلاحق غالباً، ولكن اتفق فيها التلاحق، فإن أمكن التمييز، فلا إشكالَ، وإن عسُرَ التمييزُ، واختلط الزائدُ المتجدّدُ بالمبيع الذي كان موجوداً، فلا يخلو إما أن يتفق ذلك قبل التخليةِ بين المشتري وبين الثمار، وإما أن يتفق بعد التخليةِ بينه وبينها.
فإن جرى الاختلاطُ قبل التخلية، وعَسُر التمييزُ فنقول: في أصل المسألة قولان: أحدهما - أن البيع ينفسخ، والثاني - لا ينفسخ.
التوجيهُ: من قال بالانفساخ، تعلق بتعذرِ اجتلافِ (2) المبيع، واليأسِ من التمكن منه على موجَب العقدِ، فأشبه ذلك تلفَ المبيع، وسنذكر في باب الخراج أن من باع دُرَّةً، فسقطت من يده في لُجّة البحرِ، وأَيِسَ من إصابتها؛ فإن ذلك ينزلُ منزلة التلف المحقق.
والقول الثاني - أن البيع لا ينفسخ؛ فإن عين المبيع قائمةٌ والتصرف فيها ممكنٌ على الجملة، وليس يتعذر رفعُ المانع، كما سنبيّن في التفريع.
فإذا قلنا: البيع ينفسخ، فلو قال البائع: أنا أسمحُ بحقي وأبذله للمشتري؛ قيل
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 163.
(2) " اجتلاف " بالجيم: من جلفه جلفاً إذا قشره وكشطه، وقلعه واستأصله. (معجم)، والمراد هنا تعذّر فصل المبيع وقطعه وحده.

(5/119)


له: لا أثر لهذا، والتفريع على قول الانفساخ، وهو حكم نافذٌ لا يستدركُ بعد نفوذِه بتقدير بذل، وهذا لا خفاء به. وإن قلنا: البيع لا ينفسخ، فلا شك في ثبوت حق الخيار؛ فإن تعذر التَّسليم بإباق العبد المبيع وغيرِه يثبتُ الخيارَ للمشتري.
فلو قال البائع: أسمح بحقي، فلا تفسخ، فقد قال الأصحاب: على المشتري أن يقبل ذلك، ويمتنع عليه الفسخ، وشبّهوا هذا بمسألة النعل (1) وسنذكرُها في باب الخراج. وتلك المسألةُ ليست خالية عن الخلافِ، وهذه التي نحن فيها أولى بالخلافِ من تلك؛ فإنَّ إلزامَ المشتري تطوُّقَ مِنّةِ البائع فيهِ بُعدٌ، وفي هبة المجهول غوائلُ، وستأتي مسألةٌ في كتاب الصيود يَحارُ فيها نظرُ الفقيهِ، وهي إذا اختلَطت حمامةٌ بحمام برج، فكيف الخلاصُ منها إذا عسُر التمييز؟ فالمسألة الآن مختلَفٌ فيها. فإن أجبرنا المشتري سقط خيارُه، وإن لم نجبره، فهو على تخيره.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً في المسألةِ، وهو: أن العقدَ لا ينفسخ، ولا خيارَ ونجعلُ الاختلاطَ قبلَ القبض، بمثابة الاختلاط بعده. وإذا فُرِض اختلاطُ مِلكَين مع الجهالة في المقدار، فالأمر موقوفٌ إلى البيان إن أمكن، أو المفاصَلة بمُصالحةٍ، أو مخاصمةٍ، تفصل بطريقها.
وهذا قولٌ بعيد؛ فإنّ تعذُّرَ التسليم في القدر المبيع ثابت، ولو لم يطرأ إلا تغيُّر المبيع أوّلاً، وخرُوجه عن التعيّن آخراً، لكان ذلك كافياً في إثبات الخيار.
3004 - وكل ما ذكرنا إذا جرى التلاحق والاختلاط قبل التخلية، فأما إذا خلّى البائعُ بين الثمارِ وبين المشتري، فجرى الاختلاطُ، فهذا يُبنَى على أن الثمار لو تلفت بعد التخلية بجوائحَ، فهي من ضمان البائع، أو من ضمانِ المشتري؟ وفيه اختلافُ قولي سيأتي في بيع الثمار، فإن قلنا: هي من ضمان البائع، فالاختلاط بعد التخلية لا يُوجب انفساخاً، ولا يثبت خياراً، ويكون ما جرى بمثابة ما لو اشترى رجل حنطةً
__________
(1) مسألة النعل هي أن يُنْعل الحصان الذي اشتراه مثلاً، ثم يطلع على عيب قديمٍ فيه، فإذا أراد ردّه، فكيف التصرف في النعل؟ إذا كان خلعه سيُعقِب عيباً يمنع الرد. وستأتي في فصل قريب معقود في موضوع من اشترى أرضاً، ووجد فيها حجارة مودَعة بها.

(5/120)


وقبضها، ثم انثالت عليها حنطةٌ للبائع، فلا وجه إلا المخاصمةُ، أو التوقفُ، أو المصالحةُ.
ولا اختصاص لهذا الفصل بما نحن فيهِ، ولا ينبغي أن يَظن الناظِرُ -إذا انتهى إلى هذا الموضع- أنا نقتصر في بيان هذا المشكل على هذا، وإذا انتهينا إلى مسائلِ الصلحِ، أتيتُ في هذا بأشفى بيان وأكملِه.
3005 - وهذا كُلّه كلام فيهِ إذا كانت الثمارُ مما تتلاحقُ على ندور، فأما إذا كانت تتلاحق لا محالة في المُدة التي يُبقي المشتري الثمرةَ فيها، كالتين وغيره، فالكلام يقع في هذا الفصل في صحة العقد.
فإذا اشترى ثماراً مزهيةً على شرط التبقية، فقد قال العلماءُ: إذا كانت تتلاحقُ، فالبيع باطلٌ؛ فإنه عقدَهُ على وجهٍ يتعذرُ فيهِ تَسليمُ المبيع، وكان بمثابة ما لو اشترى عبداً آبقاً.
وذكر العراقيون قولاً بعيداً أن البيع موقوف، فإن سمح البائعُ [ببذل حقّه] (1) تبيناً انعقادَ العقدِ، وإن لم يسمح تبينَّا أن البيع غيرُ منعقد في أصله. وهذا قول مزيّفٌ لا أصلَ له، وهو بمثابة المصيرِ إلى وقف بيعِ العبدِ الآبقِ على تقديرِ فرضِ الاقتدارِ عليه وفاقاً (2). فإن طردوا هذا، فإنه على فسادهِ مطردٌ، وما أراهم يقولون ذلك.
فإن أراد من يشتري الثمار المتلاحقةَ أن يصحَّ العقد، فليشترط القطع، وإذا فعل ذلك، صحَّ العقدُ؛ فإنّ القطعَ ممكن قبل الاختلاط، وفاءً بالشرط، ثم إذا صح العقدُ، وتأخر القطعُ، واختلطت الثمارُ، فالقول في هذه الصورة كالقول فيه إذا كان الاختلاطُ مما يندُر، ولكنه اتفق على ندور، فالقول قبل التخلية وبعدها كما مضى حرفاً حرفاً.
وكل ذلك كلام في صورة واحدة لم يذكرها المزني.
3006 - فأما الصورة الثانية، وهي التي ذكرها المزني، فهي أن يبيع. الرجلُ
__________
(1) سقط من الأصل.
(2) كذا في النسختين، وواضح أن في الكلام سقطاً، تقديره: " وهو باطلٌ " وفاقاً.

(5/121)


الأشجارَ، وعليها ثمارٌ بقيت له، فلم يقطُفْها حتى أخرجت الأشجارُ ثماراً للمشتري، واختلطت بالثمار التي كانت للبائع، وقد اختلفَ أصحابُنا على طريقين: منهم من قال: لا ينفسخ العقد في هذه الصورة، ولا يثبت الخيارُ للفسخ؛ فإن [المبيع] (1) لم يختلط، وإنما الاختلاط في زائدٍ غيرِ معقودٍ عليه.
ولو اشترى رجل أشجاراً، وتجدَّدت ثمارٌ في يد البائع، وعابت، والمبيع في يد البائع، فلا خيار للمشتري بعيب الثمار، وهذا هو القياس الذي لا يسوغ غيرُه.
وهذا القائل يغلّط المزني في النقل، وينسبُه إلى الإخلال بالتصوير، ويقول: صورة مسألة الشافعي [هي] (2) التي انتجزت الآن، فنقل المزني التصويرَ إلى بيع الأشجار، وهو في بيع الثمار.
ومن أصحابنا من جعل المسألة على قولين في الصورة الأخيرة في الانفساخِ وخيارِ الفسخ، كما مضى. ويزعم أن الثمار وإن لم تكن مبيعةً، فهي من حق الشجرة المبيعة؛ فإن المشتري إنما ملك الثمارَ بملكهِ الأشجارَ، ومِلْكُ الأشجارِ ثبت بالعقد.
وهذا القائل يفصل بين صورة الاختلاط، وبين تعيُّب الثمارِ المتجددةِ في يد البائع.
فنقول: الاختلاطُ سببُه بقاءُ ثمرةِ البائع على الأشجارِ، وعلى البائع في الجملة تخلية المبيع للمشترِي، فقد حصَل الاختلاط بسبب ما استبقاه البائع لنفسهِ، ولَعلّنا نذكر ما يُداني هذا في باب الخراج، عند ذكرنا مسيسَ الحاجَةِ إلى قلع باب الدار المبيعة، لنقل ما فيها من أمتعة البائع، وأن الخيار هل يثبت بهذا السبب؟ ويقرب منه نقلُ الأحجار المودَعةِ في الأرض.
فهذا منتهى القول في الصورتين.
3007 - وتكلم الأصحاب وراءهما في شيء لا اختصاص له بالمسألة، ولكنا نذكره على ترتيب ذكر الأصحاب.
فنقول: من اشترى حنطةً، واستوفاها، ثم اختلطت بها حنطةٌ أخرى للبائع بعد
__________
(1) في الأصل: امتنع.
(2) مزيدة من (هـ 2).

(5/122)


القبض، فالقولُ في القدْر المختلِط قولُ المشتري إذا نازعه البائع، والسبب فيه أن اليدَ للمشتري، فإذا زعمَ أن المختلِط صاع والباقي لي، فالقولُ قولُه مع يمينهِ. ولكن سبيله في الخصومة ألا يتعرضَ للبيع؛ فإنه إذا ادّعى بيعاً في الصاعين، فسينكره البائع، ثم يرجع الكلام إلى اختلافِ المتبايعين في قدْر المبيع.
وإن اتفق الاختلاطُ قبل التسليم، وقلنا: لا ينفسخ البيع، ولم يفسخ أيضاًً، فالقول قول البائع، في القدر الذي باعه؛ فإن اليدَ له، فيبقى البيعُ فيما يذكره، ويده مستمرة عليه.
وإن جرى هذا الاختلاف في الثمرة؛ فإن لم يخلِّ بين المشتري وبينها، فصاحب اليد هو البائع، فلا رجوع إليه، ولو خَلَّى بين المشتري وبين الثمار ولم يقطُف بعدُ، فقد اختلف أصحابنا في أن اليد لمن في هذه الحالة؟ وهذا الاختلاف مبنيّ على القولين في وضع الجوائح.
وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً ثالثاً في اليد، فقال: الثمارُ في أيديهما؛ فإنه يتعلق بهما: السقيُ على البائع، والتصرف نافذ من المشتري في الثمار بعد التخلية، فاقتضى ذلك ثبوتُ أيديهما على التساوي، وإذا ثبت حكم اليد، فقد ذكرنا حكمَ ما قبل القبض وبعده، وحكمُ يد البائع، ويدِ المشتري. ولو اعترفا -والاختلاط بعد القبض مثلاً- بالالتباس، ورضيا بألاَّ يُفسخَ العقدُ، رجع الكلام إلى الوقف، والاصطلاح.
وسنوضحه في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى.
3008 - ومما يتعلق بهذه الجملة أن من باع جِزَّةً من القُرْط (1)، فينبغي أن يشترط في البيع القطعَ؛ فإنه يتزايد، فلو فعل ذلك، ثم لم يتفق القطعُ، حتى زاد القُرْط زيادةً بيّنة، فالذي حدث من جهة الأرض طولاً زيادة لا يستحقها المشتري (2)، فالتفصيل
__________
(1) الجِزّة: صوف شاةٍ في سنة، والمراد هنا المرّة من حَصْد القُرْط. والقُرط نبات عشبيٌّ حَولي كلئي، وهو يماثل البرسيم (معجم).
(2) ر. الأم: 3/ 59. باب بيع القصب والقُرط.

(5/123)


فيها كالتفصيل في الثمار إذا اختلطت، في الفسخ والانفساخ.
وذكرَ العراقيون عن بعض الأصحاب المصيرَ إلى أن البيعَ لا ينفسخ في هذه الصورة، ثم زيّفوا ذلك، واحتجوا بأن تلك الزيادة لا يجبُ على البائع تسليمُها، وإذا لم يجب تسليمُها وتعذر تمييزُها، فلا وجه إلا إلحاقُها بالثمار.
ولست أرى لما حَكَوْه وجهاً. ولكنا في هذا الكتاب الحاوي لا نجد بُدّاً من ذكر ما ذكره الأئمةُ في التصانيف المشهورة، فالوجه أن نذكر الوجوه الفاسدة، وننبه على فسادِها، وإن أمكن توجيهٌ على بعدٍ أتينا به، ولعل الممكن فيه أن الزيادةَ بدت في القُرْط من جهة الجزّ فهي معلومة، والاختلاطُ لا يتحققُ تحقُّقَه في الثمار. وهذا غير سديد.
وقد نجزَ الفصل بما فيه.
فصل
قال: " وكل أرضٍ بيعت فللمشتري جميع ما فيها ... إلى آخره " (1).
3009 - ظاهر نص الشافعي هاهنا أن من باع أرضاً، وذكر في البيع اسمَ الأرض، أو الساحة، أو العَرْصة أو البقعة، فيندرج تحت مطلق هذه الألفاظِ البناء والغراس.
ونصَّ الشافعي في كتاب الرهون على أن رهنَ الأرضِ باسمِها، لا يتناول ما فيها من بناءٍ وغرسٍ، ومن أصحابنا من أجرى القولين في البيع والرهنِ. أحدهما - أن البناءَ والغراس يندرجُ؛ لأنها إذا اتصلت بالأرضِ عُدّت من أجزائها، فاستَتْبَعتها استتباعَ الدور حقوقَها، وإن لم يجر لها ذكر. والقول الثاني - أن الأبنيةَ والغراسَ لا تدخل في البيع والرهن. هذا هو الأصح؛ فإن البيعَ معقودٌ باسم الأرضِ، وليس البناء، ولا الغِراسُ، مما يتناوله اسمُ الأرض.
ومن أصحابنا من أوّل ما ذكره الشافعي هاهنا، وقال: أراد إذا زاد البائع على اسم
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 165.

(5/124)


الأرضِ في صيغةِ العقد، فقال: بعتُكَ الأرضَ بحقوقها؛ فإن المعقودَ عليه هو الذي يُسمَّى في العقد. كما قرَّرناه.
وهذا يتضمن نسبةَ المزني إلى الإخلالِ في النقل، والاختصار على بعض لفظ صاحب المذهب.
وذهب بعضُ الخائضين في المذهب إلى تقرير النصَّيْن في البيع والرهن، والمصير إلى أن البيع يستتبع البناءَ والغِراس، بخلافِ الرهن، واعتمد هؤلاء في طلب الفرقِ قوةَ البيعِ وتضمنه إزالةَ الملك، بخلافِ الرهن، وهذا بالغٌ في الضعف؛ فإن المتبع الاسمُ في المزيل وغيرِ المزيل، والقويّ والضعيف. والصحيحُ الجاري على القاعدة اتباع الاسم، ونسبةُ المزني إلى الإخلالِ بالنقل.
ويلي ذلك طريقةُ القولين، ومحاولةُ الفرق ظاهر السقوط.
وإن جرينا على اتباع الاسم، فلو قال العاقدُ: بعتك الأرضَ بحقوقها، فمن أئمتنا من ذهب إلى أن البناء والغِراسَ لا يدخلان بهذا اللفظ أيضاًً؛ فإن الحقوق مجملةٌ والمعنيُّ بها في تفاوض أهل العُرف: مجرى الماء، ومَطْرحُ التُراب، والممرُّ، وما أشبهها.
ومن أئمتنا من صار إلى أن لفظَ الحقوق يحتوي على الغِراس والبناء. وهذا أشهر. والأول أقيسُ.
ولما ذكرناه التفاتٌ إلى أصل نذكره في باب الخراج، وهو أن أجزاء البناءِ بالإضافة إلى الدارِ تنزل منزلةَ الصفاتِ، أو كلُّ جزء من البناء يُقدَّر مبيعاً، حتى يسقطَ قسطٌ من الثمن بتلفه.
3010 - ومن مقاصدِ الفصلِ أن الرجل إذا قال: بعتُك هذه الدارَ، فالأصل أن كل ما يعدُّ جُزءاً من الدار، فاسم الدار يتناوله، والبيع يَرِدُ عليهِ، ثم هذا يفصّل بالثبوت ونقيضه، فكل ما ليس مثبتاً في الدار، فهو من الأقمشة (1) وليست مندرجة تحت اسم الدّار، واستثنى صاحب التلخيص مفتاح الدار؛ فإنهُ منقولٌ، والبيع يتناوله.
__________
(1) الأقمشة: الأمتعة: جمع قُماش. وقماشُ البيت متاعه. (معجم).

(5/125)


وقد اختلف أصحابنا في ذلك: فساعده بعضُهم، واعتلَّ بأن تسليم الدار مستحق، وإنما يتم التسليمُ بتسليم المفتاح، والأغلاقُ (1) من الدار، فتستتبع المفتاحَ، فإن المفتاح إنما يُعنَى للأَغْلاق.
ومن أصحابنا من قالَ: لا يدخل المفتاحُ تحت البيع؛ فإنهُ منقول غيرُ معدودٍ من أجزاء الدار، ولئن عُدَّ من مصالح الدار، كان بمثابة المكانسِ، والمساحِي، والمجارِفِ، وغيرها.
هذا قولُنا في المنقول، وسيلتحق بهذا الفصلِ طرفٌ من مسألةٍ سنُنبّه عليها في القسم الثاني.
3011 - فأما الثوابت في الدارِ فتنقسم إلى ما يثبَّتُ تَتِمَّةً لبناءِ الدار، وإلى ما يَثبَّت والغرضُ من إثباته ألا يتحركَ في الاستعمال، كالأجَاجين (2) والأَرْحِيَةِ، فأما ما أُثبتَ ليُعَدّ من الدار، ويستكملَ به بناؤُها، فلا شك في دخولها، وما أُثبت كي لا يتزعزَعَ، فمنه الطاحونة.
وحاصل ما قاله الأصحاب ثلاثةُ أوجُهٍ: أقيسُهما - أن الحجرين الأعلى والأسفل (3) لا يدخلان في البيع؛ فإنهما لا يعذان من أجزاء الدّار، وإن جرى إثباث في الأسفل، فليس هو ليلحقَ بأبنية الدار، وإنما هو لغَرضٍ في الاستعمال.
والوجه الثاني - أنهما يدخلان، أما الثابت، فيدخل لثبوته، ثم يستتبعُ الحجرَ الأعلى، كما تستتبعُ الأَغلاقُ المفتاحَ.
والوجهُ الثالث - أن الأسفل يدخل لثبوتهِ، كما يدخل [أيُّ] (4) حجرٍ آخرَ يُثبَّت في عرْصةِ الدار، وصورةُ الثبوت لا تختلف، والقصودُ لا معوَّل عليها، والأعلى لا يدخل؛ لأنه من المنقولات، والاستتباعُ باطل هاهنا؛ فإنه لا يتحقق ما لم يتقرر
__________
(1) الأغلاق: جمع غَلَق، ما تغلق به الدار، وتفتح الأغلاق بالإغليق، وهو المفتاح (معجم).
(2) الأجاجين: جمع إجّانة: آنية تغسل فيها الثياب.
(3) إشارة إلى حجري الطاحونة، فأحدهما يكون مثبتاً، والآخر يدور فوقه، والحبوب بينهما تطحن.
(4) زيادة اقتضاها السياق. حيث قدرنا سقوطها من النسختين.

(5/126)


في الحجر الأسفل مقصودُ الأَرْحية، وهذا يُخرجه عن جُزئية الدار، وعما ذكرناه من صورة ثبوت الحجر، وليس كذلك الأغلاق؛ فإنها تعني إغلاقاً، وتُعد مع هذا المقصود من أجزاء الدار، ثم الغَلَق دون المفتاح لا خير فيه، فكان الاستتباعُ متَجِهاً فيه.
وأما الإجانة المثبتةُ، فقد قال الأصحاب: القول فيها كالقول في الحجر الأسفل المثبت من الطاحونة؛ فإنََّ إثباتَ الإجَّانة ليس لإلحاقها بأبنية الدار، وإنما هو لغرضٍ في الاستعمال كما تقدم.
ولو اتخذ الرجل من داره مدبغةً وأثبت فيها أجاجين يمعَسُ (1) فيها الأُهب، نُظر: فإن قال: بعتُك الدارَ، ففي دخول الأجاجين خلاف مرتَّب على الصورة الأولى، والأجاجين أولى بالدخول إذا ظهر قصدُ البائع والمشتري. وإن قال: بعتُ منك هذه المدبغةَ وفيها أجاجين مثبَّتَةٌ، فلا شك في دخولها؛ فإن اللفظ مُصرّحٌ بها، فهو كما قال: بعتُك هذه الطاحونةَ، فالحجرُ الأسفل يدخل لا محالةَ، وفي الحجر الأعلى خلاف، والأظهرُ دخولُه، وهو أوْلى من المفتاح بالدخول؛ فإن الطاحونة تتعرض باسمِها للطحن، والطحنُ لا يقعُ إلا بالحجر (2). فهذا هو الذي لا يتجه غيرُه.
والرفوف في الدار منقسمة، فمنها ما أُثبتت مع الدار جُزءاً منها، وتتمةً لمرافقِها، فما كان كذلكَ، فهو داخلٌ تحت اسم الدار، وما يُبنى لوضع شيء عليه، كالخيوط التي تمدد لوضع الثيابِ عليها، فالمنقولُ منها لا يدخل كسائرِ الأمتعةِ. وما أُثبت بالمسامير حتى لا يتزعزعَ، فهو كالإجانة. والحجر الأسفل من الرحا، والسُلَّم المنقول من أمتعة الدار، وما أُثبت للبناء، فهو من الدار، كالمراقي المبنِيَّة من الطوب والجِصّ، وأما السلاليم المثبتة بالمسامير، فهي كالأجاجين، ومراقي الخشب إذا أثبتت إثبات تخليد، فهي على الأصح كمراقي الآجُر والجصق، بخلاف السلاليم.
فإن قيل: إذا فرَّعْتُم على أن اسم الأرض يتناول البناء، والغِراس، فما قولَكُم في
__________
(1) يمعس: يدلك: معسَ الشيء يمعَسُه معساً: دلكه دلكاً. يقال: معسَ الأديم ليّنه في الدباغ. (معجم).
(2) كذا في النسختيِن. ولعلها: "بالحجرين".

(5/127)


الأجاجين المثبتةِ، والحجرِ الأسفل من الرحا والسلاليمِ المسمّرةِ؟ قلنا: الاختلافُ يجري وإن وقع التفريع على القول الضعيف؛ لأن مأخذَ الخلاف من إلحاق هذه الأشياء بالمنقولات، ورد إثباتها إلى غرضٍ آخرَ يخالف البناء.
3012 - ولو قال: بعتك هذه الدارَ، وفيها أشجار، فحاصل ما قاله الأئمةُ أوجه: أحدُها - أن الأشجار لا تدخل، والتفريعُ على الأصح، وهو اتّباع الاسمِ، وذلك أن الأشجار ليست من أركان الدار.
والوجه الثاني - أنها تدخل، واسم الدار يشملها، والدورُ منقسمةٌ، فمنها ما يَعْرَى عن الأشجار، ومنها ما يشتمل عليها.
ومن أصحابنا من قال: إن بلغت الأشجار مبلغاً يُجوّزُ تسميةَ الدار بستاناً؛ فإنها لا تدخل في اسمِ الدارِ، وإن لم تبلغ الأشجار مبلغاً يُكسبُ الدارَ اسمَ البستان، فهي داخلةٌ. وهذا أعدل الوجوه.
ولو قالَ: بعتُك هذا البستانَ، فلا شك في دخول أشجارها تحت الاسم، وتردد جوابُ الأئمة في دخول البناء، فمال بعضُهم إلى أنه لا يدخل، وقالَ الأكثرون: إنه داخل. والبناءُ عندي بالإضافة إلى البستان كالشجر بالإضافةِ إلى الدار.
ولو قالَ: بعتُكَ هذه القرية، فلا شك في دخول دورِها، وأبنيتها، ومزارعها، تحت البيع. وذكر العراقيون في دخول أشجارِها تحت البيع قولين إذا لم يقع لها تعرض، وهذا الذي ذكروه أبعدُ من التردّدِ في أشجارِ الدارِ؛ من جهة أن الأشجارَ مألوفةٌ في القُرى، ولا تستجدّ القريةُ بالأشجار اسماً، والدار تستجدّ اسمَ البستان بكثرة الأشجار.
ولو قالَ: بعتُكَ هذا البَاغَ (1) أو البستان، فقد كان شيخي يتردد بعض التردُّدِ في العُروش التي عليها الكروم، من جهةِ أنها ليست مخلَّدة، والوجه عندنا القطع بدخولها تنزيلاً على المعهودِ من اسم الكرْم، أو البستان، في مُطلق العُرفِ.
__________
(1) الباغ: البستان.

(5/128)


وممَّا ذكرهُ العراقيون أن قالوا: من باع داراً وفيها بئر، فلا شك أن ما يحدثُ من الماءِ، فهو للمشتري، وأما الماءُ الذي كان موجوداً حالةَ البيع وهو جَمَّةُ (1) البئر، فلا شَكّ أنه من المنقولات، وليس من أجزاءِ الدار.
فإن قُلنا: لا يُملك الماء، وإنما يُختصُّ به، من جهة احتواءِ ظرفه عليه، وامتناعِ التصرفِ في ظرفه دون إذنه، فإذا جرى البيع، فيصير المشتري أولى بالماء؛ فإنه لا حقَّ في عينه، وقد امتنع على الناس تخطي مِلكِهِ إلى الماءِ، وإن قلنا: الماءُ يملك، فقد قطع العراقيون بأن القَدْرَ الموجودَ في البئر حالةَ العقد ملكُ البائع، ولست أرى قياساً، ولا توقيفاً يخالف ما ذكروه.
ولكن العادة عامة في المسامحة به. فإن نبا قلبُ ناظرٍ عن هذا فلذلك.
ولو كان في الأرض معدن [عِدّ] (2) كالنِّفظ وغيره، فإذا باع الأرضَ، وفيها المعدِن، فما يتجدَّد بعد البيع للمشتري، وما كان تجمّع، فهو للبائع، ولا تردُّدَ فيه، بخلافِ الماءِ؛ فإن في الناس من قال: إنه لا يُملك.
ونقل الصيدلاني أن الشافعي قال: إذا قالَ: بعتُك الدارَ وفيها حمَّامٌ، لم يدخل الحمامُ في البيع، [ونقل عن الربيع] (3) أنه قالَ: أراد الشافعيُ حمامات (4) الحجاز؛ فإنها بيوت من خشب، تُنقل وتحوّل، فأما إذا كان في الدار حمامٌ مبني، فهو من مرافق الدار، فيدخلُ تحت اسم الدار، ولا تعويل على اختصاص بعض الدور بالحمام، فإن هذا يجري في كثيرٍ من الأبنية، إذ قد توجد بعضُ الأبنيةِ في بعض الدور دون البعض.
__________
(1) جمة البئر: ما تراجع من مائها بعد الأخذ منه، والمراد هنا الماء الذي كان في البئر عند البيع.
(2) أولاً - كلمة عدّ مزيدة من (هـ 2).
وثانياً - العِدُّ بكسر العين: الماء الجاري، الذي له مادهّ لا تنقطع، والكثرة في الشيء. والمعدِن هنا مكان استخراج المعادن، (كالمنجم).
(3) زيادة من (هـ 2).
(4) في (هـ 2) أقحمت كلمة (مكة) قبل كلمة (الحجاز).

(5/129)


فصل
3013 - من باع أرضاً مزروعةً، فللأئمة طريقانِ في صحة البيع في الأرض، بعدَ الاتفاق على أن الزرعَ لا يدخل تحت تسميةِ الأرضِ، فإنّ سبيلَه سبيلُ المنقولاتِ، وليس معدوداً من أجزاء الأرض، فإذا كان الزرع يبقى للبائع، ففي بيع رقبة الأرض طريقان: أحدهما -وهو الأصح- أن البيع صحيحٌ.
ومن أصحابنا من خرّج بيعَ الأرض المزروعة على بقاءِ الزرعِ للبائع، على قولي بيع الدارِ المكراة، والجامعُ عند هذا القائلِ أن منافعَ الرقبة مستغرَقةٌ بالزرع حسَبَ استِغراقِها باستحقاقِ المستأجِر. والقائل الأول يفرق بين الأرض المزروعة، والمكراة.
ونقول: إثبات اليد للمشتري على رقبة الدار المكراة غيرُ ممكن مع استمرار يدِ المستأجِر واستحقاقِه، وتسليمُ الأرض المزروعةِ إلى مشتريها ممكنٌ. ثم من اشترى أرضاً وعَلِمَها مزروعة، فلا خيار له، لإقدامه على العقدِ على بصيرة بحقيقةِ الحال.
وليس له مع الفرض في العلمِ أجرةُ مثلِ الأرض، وكان منفعتَها مستثناة.
وهذا بمثابة ما لو علم المشتري أن الدار مشحونةٌ بأمتعةِ البائع، ولا يتأتى تفريغُها إلا في زمنٍ لمثله أجرةٌ، فلا أُجرةَ للمشتري.
ولو كان المشتري جاهلاً بكون الأرضِ مزروعةً، فإذا اشترى، ثم اطّلع، فله [الخيارُ، فإن فسخ، فلا كلام،] (1) وإن أجاز، فهل تثبت له أجرةُ مثلِ الأرض لمدة بقاء الزرع، فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدُهما - ليس له ذلك، لقدرته على الفسخ، فإن أجاز، فلا مرجع له، وهو كما لو اطّلع على عيبٍ قديم بالمبيع، وتمكَّن من الردِّ، فإن أجاز العقدَ لم يرجع بشيء من الأرش.
والوجه الثاني - أنه يثبت [له] (2) أجر المثل؛ فإن هذا ضررٌ يلحقه فيما ليس معقوداً
__________
(1) زيادة من (هـ 2).
(2) ساقطة من الأصل.

(5/130)


عليه، وهو المنافعُ. ويرِدُ على هذا الضررِ أن المنافع تنزل منزلةَ نقصِ الرقبة في إثباتِ الخيار، فليَجْر حكمُ الرضا مجرى حكم الرضا في العيب. وسيأتي لهذا الخلافِ في الأجرة نظائرُ في الفصل الذي يلي هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
3014 - ولو اشترى داراً وصادفها مشحونةً بأمتعة البائع، وكان لا يتأتى تفريغُها إلا في مُدَّةٍ، وما كان حسِبَ أن الأمرَ كذلك، فهل يثبت له الخيار، كما يثبت لو اطلع على الأرض، فصادفها مزروعة؟ المذهب ثبوتُ الخيارِ. ومن أصحابنا من لم يُثبتة، وصار إلى أن الغالب في العادة اشتمالُ الدارِ على أمتعةٍ، ثم إنها تفرَّغ، ثم لا ضبط لمقدار الأمتعة. والأصح الأول. والرجوع فيما يُثبت الخيارَ إلى ما يحتاج في نقله إلى مدةٍ يتعذّر فيها الانتفاع بالدار، وكان للمدة أجرة.
ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن من اشترى داراً مشحونةً بالأمتعة، كما صوَّرنا فقد أطلق الأصحابُ القولَ بصحة البيع، وذكروا في الأرضِ المزروعةِ طريقين في صحة البيع، ولا شك أن القياسَ يقتضي التسويةَ بينهما؛ إذ لا فرق. ولكن المنقول ما ذكرناه، من تخصيص الخلاف بالأرض المزروعة.
وإذا صححنا البيعَ في المزروعة، والدار المشحونة، فلو سلّم البائعُ الأرضَ وفيها الزرعُ، وسلَّم الدارَ وفيها الأمتعةُ، فقد ذكر أصحابنا وجهين في أن اليدَ هل تثبت للمشتري؟ أحدهما - أنها تثبت، وهو ظاهرُ المذهب؛ فإن الرقبة مسلَّمةٌ إليه، وإنما الاشتغال في المنافع.
ومنهم من قال: لا تثبت اليدُ في الموضعين، ما دامت المنافعُ مستغرَقة بالأمتعةِ والزروع.
ومن أصحابنا من ذكر وجهاً ثالثاً - فقال: اليدُ تثبت في الأرض المزروعة، دون الدار المشحونة. ولا يكاد يتضح الفرق.
وما ذكرته من تنزيل الدار المشحونة منزلةَ الأرض المزروعة في القياس، يتأكد بما نقلته من الخلاف، في أن اليد هل تثبت للمشتري عليها أم لا؛ فإنه إذا كان يمتنع ثبوتُ اليد حُكماً، فالبقعةُ المبيعة مشبهةٌ بالدار المكراة، من جهة امتناع ثبوت اليد.

(5/131)


3014/م- ولو باع الأرضَ، وهي مبذورةٌ، ما نبتت بعدُ، فالبذر للبائع، ولا يدخل تحت مطلقِ البيع. ثم الكلام في صحة البيع وجميعُ ما ذكرناه في الأرض المزروعة، يعود حرفاً حرفاً؛ إذْ لا فَرْقَ.
ولو باع الأرضَ المزروعةَ مع الزرع، فلا شك في صحة البيع، وانعقادِه عليهما.
ولو باع الأرضَ المبذورةَ مع البَذْر الكامن فيها، فالأصح الحكم بفساد بيع البَذْر؛ لأنه مجهول مستتر، وهذا متَّضح على منع بيع الغائب. ولا يبعدُ الحكمُ بصحة البيع في البذر، على تجويز بيع الغائب، وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً آخر، وهو أن البيع صحيح -وإن منعنا بيع الغائب- إذا بيع مع الأرض، فيجري تصحيح البيع [في البذر] (1) على قياسِ التبعيّه. وقد يتبعُ الشيءُ في حكم، وإن كان لا يجوز أن يتأصَّل فيه. وإن قلنا: البيعُ في البَذْر صحيحٌ، فلا كلامَ، وإن قلنا: البيعُ فيه فاسِدٌ، ففي الأرض قولا تفريقِ الصفقة، على ما ستأتي مسائله. إن شاء الله عز وجل.
3015 - ثم ذكر بعض الأصحابِ جُملاً من الكلام في الزروع، وما يصح بيعُه، وما لا يصح، ولم أَرَ ذِكْرَها؛ فإني أستقصيها -إن شاء الله تعالى- في باب بيع الثمار قبل بدوِّ الصلاح وبعد بدوّه.
والذي يليق بمنتهى كلامِنا منها: أن الزروع التي لا تُخلِفُ بعد الجَزّ حكمه بقاؤه للبائع في مطلق بيع الأرض. كما تقدم.
ولو باع أرضاً، وفيها أصولٌ لبقولٍ مُخْلِفةٌ بعد الجَزّ، فقد قطع شيخي بأن تلك الأصول تدخل تحت مطلق تسمية الأرض؛ فإنها من الثوابت، وهي مخالفة للأبنية والأشجار؛ من جهة بدوِّها وظهورها، ومفارقتها الأرضَ في صفتها، وأصول البقول ثابتة كامنة، وكأنها من أجزاء الأرض.
وذكر العراقيون والصيدلاني في دخولها تحت مطلق تسمية الأرض قولين: كالقولين في البناء والغِراس، كما مضى مفصلاً، وهذا هو القياس؛ إذ لا يلوح فرقٌ بينها وبين الغراس والأبنية.
__________
(1) مزيدة من (هـ 2).

(5/132)


ولو باع أرضاً، وفيها أصلُ البقل، وكان قد ظهر شيء حالةَ البيع، فلا خلاف أن الظاهرَ باقٍ على استحقاقِ البائع، وله تلك الجزّة البادية. وفي الأصول من التفصيل ما ذكرته الآن.
فصل
قال الشافعي: " وإن كان فيها حجارةٌ مستودعة ... إلى آخِره " (1)
3016 - إذا باع رجلٌ أرضاً، وفي باطنها أحجارٌ، نُظر: فإن كانت مخلوقةً فيها، فلا شكَّ في دُخولها تحت البيع؛ فإنها من أجزاء الأرض المبيعة، وإن كانت تلك الأحجار مستعملةً في أساس بنيان، فسبيلها كسبيل الجُدرانِ وغيرِها من الأبنية، وقد تقدم القول في أن الأبنيةَ هل تدخل تحت مطلق اسم الأرض في البيع أم لا؟ وإن لم تكن مخلوقةً فيها، ولا مبنية، ولكنها كانت مستودعةً للبائع؛ فلا خلافَ أنها لا تدخل تحت بيعِ الأرض، وهي بمثابةِ ما لو أودع كنزاً في الأرض، ثم باع الأرضَ، فالكنزُ للبائع لا محالةَ، ثم التفصيلُ وراء ذلك.
3017 - فنقول: الأرض لا تخلو إما أن تكون مغروسة، وإما أن تكون بيضاءَ، لا غراسَ فيها، فإن كانت بيضاء، لم يخل الأمر من أقسامٍ، وحقُّها [أن] (2) تُفرض فيه إذا لم يكن المشتري عالماً بكونِ (3) الأحجار، فإذا كان كذلك، فمن الأقسام ألا تضرَّ تَبقيةُ الأحجارِ تحت الأرض، ولا يضُرّ بالأرض نقلُها أيضاًً، فلا خيار للمشتري؛ إذ لا ضرار كيف قُدّر الأمرُ. ولكن ذكر بعضُ المصنِّفين (4): أن البائع بالخيار، إن شاء نقل الأحجار، وإن شاء تركها؛ فإنه لا يلتحق بالمشتري ضررٌ، على أي وجهٍ صُوّرت الحال. وهذا غلطٌ لا يجوز عَدُّه من المذهب.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 165.
(2) مزيدة من (هـ 2).
(3) كون: كان هنا تامة.
(4) نُذكّر بأن الإمام إذا قال: " بعض المصنفين " فإنما يعني به أبا القاسم الفوراني.

(5/133)


والذي قطع به الأئمةُ: أن للمشتري أن يجبر البائعَ على تفريغ أرضه، ونَقْلِ الأحجارِ منها، ولا تعويل على انتفاء الضِّرار، كما صوَّرناه، بل الأصل تمكن المالك من الإجبار على تفريغ مِلكهِ، والذي يوضح ذلك أن انتفاع البائع في التبقية ظاهرٌ، وربَّما يحتاج لو نقل الأحجارَ إلى موضعٍ يكتريه لينضدَ الحجارةَ فيه، فانتفاعُه بملك الغير، من غير إذنٍ واستحقاقٍ محالٌ، وقد يَعِنُّ للمشتري أن يضع مكان الأحجار أحجاراً لنفسه، فلا شك في وجوب القطع بأن المشتري لو أراد، أجْبرَ البائعَ على النقل. نعم، إذا استوى الأمران في عدم الضرار، فلا خيارَ للمشتري في فسخ البيع بسببه.
3018 - ولو كانت الأحجار تضرُّ بالأرض، ولكنَّ نقْلَها ودفعَ ضررِها على القُرب واليُسر ممكن، في زمانٍ لا تثبت لمثله أجرةٌ، فلينقل البائعُ إذا كان كذلك - ولا خيارَ للمشتري. وهو بمثابة ما لو باع الرجلُ داراً، ثم لحق سقفَها أَدْنى خَلل، بحيث يمكن تداركُه قريباً، فإذا أدركه البائعُ من غير استعمالِ عينٍ جديدة فيها من ملكه، فلا خيارَ للمشتري.
ولو باع عبداً، فغصبه غاصبٌ، واستمكن البائعُ من استرداده على القُرب، فلا خيارَ للمشتري. وكذلك لو نال العبدَ مرضٌ، وكان يزول بالمعالجة الناجزةِ على التحقيق، فلا خيارَ للمشتري إذا سعى البائعُ في طرد ما جرى.
وقد ذكر العراقيون وصاحبُ التقريب هذه المسألةَ، ولا خفاءَ بها، وما ذكرناه فيهِ إذا لم يكن في النقل ضررٌ، أو كان، ولكن هو عرضة الإزالة على قُرب، وكان لا يحتاج إلى تعطيل الأرض المشتراة، في مُدّةٍ لمثلها أجرةٌ.
فأما إذا لم يكن ضرر راجعٌ إلى رقبةِ الأرض، ولكن كان النقلُ لا يتأتى إلا بتعطيلِ منفعةِ الأرضِ، في مدّةٍ لمثلها أجرةٌ. فأولُ ما نذكره في ذلك أن المشتري يثبتُ له الخيار في فسخ البيع، إذا لم يكن مطّلعاً على شيءٍ حالةَ العقد. فلو قال البائع: لا تَفسخ؛ فإني أَغْرَم لك الأجرةَ، فقد ذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يبطل الخيار، ويجب على البائع النقلُ، وبذلُ أُجرةِ المثل؛ فإن إبقاءَ العقد، وجَبْر حق المشتري، ببذل الأجرة أَوْلى. والثاني - أنه على خيارهِ، كما لو

(5/134)


اطلع على عيب قديمٍ؛ فيثبت [له] (1) حق الرد. فلو قال البائع: أنا أغرَم لك أرشَ العيب، فلا ترُدّه، فلا يبطل حق المشتري من الردّ وفاقاً، فليكن كذلك فيما نحن فيه. وإن انفصل القائل الأول عن هذا، فقال: الخللُ في المنافع ليس متمكِّناً من نفس المبيع بخلاف العيب الكائن به، فهذا لا ينفع مع ثبوت حق الاختيار في الموضعين.
التفريع على الأصح:
3019 - وهو أن الخيار لا يسقط بما ذكرناه من بذل الأجرة. فإن فسخ المشتري، فلا كلام، وإن أجاز العقدَ، ونقل البائعُ الأحجارَ، فهل يلتزم أجرةَ المثل للمدَّةِ التي تُنقل فيها؟ فعلى ثلاثة أوجهٍ: أحدُها - أنه لا يلزمه؛ فإن المشتري كان قادراً على دفع هذه الظُّلامة عن نَفسه بالفسخ، فإذا لم يفعل، فهو الذي قَنِعَ بما يجري من حقوق هذا العقد.
والوجه الثاني - أن البائع يلتزم أجرةَ المثل؛ فإن موجَب البيع المطلق تمكينُ المشتري من منافع المبيع عَقِيب العقد؛ فإذا لم يتأتَّ ذلك، لزمه في مقابلة ما امتنع من المنافع عِوضه.
والوجه الثالث - أنه إن نقلَ وعطّل المنافعَ قبل القبض، لم يلتزم شيئاً، وإن سلّم الأرضَ إلى المشتري، ثم فعل ما ذكرناه بعد التسليم، التزمَ الأجرة. وهذا التفصيل يلتفت على خلافٍ يأتي في باب الخراج، في أن البائع لو جنى على المبيع، وعيّبه قبل القبض، فالعيبُ الصادرُ من جهته كآفهٍ سماويَّةٍ؛ حتى يقالَ: للمشتري [الخيارُ] (2) فحسبُ، أم هو كعيبٍ يلحقُ المبيعَ بسبب جنايةِ أجنبي؟ فيه قولان: سيأتي شرحُهما. ولا شكّ أن البائعَ لو جنى على المبيع بعد القبضِ، فهو كالأجنبي في التزام أرش النقص، فتفويتُ المنافعِ عند بعض الأصحابِ ينزل منزلةَ تعييب المبيع.
__________
(1) مزيدة من (هـ 2).
(2) ساقطة من الأصل.

(5/135)


وكل ما ذكرناه فيه إذا كان لا يلحقُ الأرضَ من النقل عيبٌ، وذَكرنا أمرَ تعطيل المنافع على التقسيم المفصَّل.
3020 - فأما إذا كان ينال الأرضَ عيبٌ، والغالِبُ أن ذلك يُتصوَّر في الأرض المغروسةِ؛ فإنها إذا كانت بيضاءَ، فغايةُ ما يُرتقبُ منها أن يحدث فيها حفائر، وطمُّها وردُّ التراب إليها ممكنٌ، فإذا كان كذلك، كَلَّف المشتري البائعَ النقلَ، ثم البائعُ يطمُّ الحُفَرَ، ويرد الترابَ إليها، ولا خلاف أن ذلك واجبٌ على البائع، ثم يعود النظر في تعطل المنافعِ، وتطاول المدة وقِصرها، وقد مضى ما يتعلق بأمر المنافع والأجرة.
3021 - والذي نستقصيه الآن حديثُ طمّ الحُفَر: أجمع الأئمة على إيجاب ذلك على البائع؛ فإنه ممكن، وسنذكر في كتاب الغصوب -إن شاء الله عز وجل- أن من غصب أرضاً وحفر فيها حفائرَ، فيلزَمُه طمُّها وتَسويتُها.
فإن قيلَ: من اعتدى فهدم جدارَ إنسانٍ، فالواجب عليه أرشُ النقص، ولم يلزمه إعادةُ ذلك البناء كما كان وإن أمكن هذا، فما الفرقُ بين احتفار الحفائر وبين هدْمِ البنيان؟ قُلنا: طمُّ الحفيرَةِ لا تفاوُتَ فيه، فقَرُب إلزامُه والتزامُه، وهدْم الجدارِ يتضمن إبطالَ صفةِ البناءِ، وليست تلك الصفةُ من حكم ذَوات الأمثال؛ فإن هيئات الأبنية تتفاوتُ، وما كان كذلك، فهو مشبه بذوات القِيَم، فتجب مقابلةُ التفويت فيه بالقيمة، وهو أَرْشُ النقصِ. وطمُّ الحفرِ يضاهي مقابلةَ المثليِّ بالمثلي، فالصفات المضمونة تنقسم انقسام المتلفات، فما يضاهي المثليات، يجب في تفويته الإتيانُ بمثل ما فوّت، كما ذكرناه من ردم الحفائر وطمِّها.
ونقول: لو رفع إنسانٌ لبنة من رأس جدارٍ، وأمكنَ ردُّه. فنقول من غير تَخيُّل اختلاف في الكيفية والهيئة، فهذا (1) بمثابةِ طمّ البئر وردم الحفر. ثم إذا ثبت وجوبُ الطمّ، وقُرْبُ زمان الإمكان، فلا خيارَ؛ فإن الاحتفارَ إن أورث نقصاً، فهو مما يمكن تَداركُه قريباً، وقد ضربنا لذلك الأمثلةَ، في صَدْر الفصل.
__________
(1) جملة: فهذا بمثابة طم البئر، مقول القول. وكان حقها أن تكون (هذا) بغير الفاء.

(5/136)


3022 - فأما إذا كانت الأرض مغروسة، ففيها تزدحم الأقسام: فإن لم يكن في تَبْقيةِ الأحجارِ ضررٌ وفي (1) نقلها، فالأمر كما مضى حرفاً حرفاً.
وإن كان القلع والنقلُ يضرّ بالغراس، ولو تُركت الأحجارُ، لم يَضُرّ تركُها بالغِراس، بأن كانت معمقةً، لا تنتهي إليها عروقُ الأشجار، ولو اقتُلِعت، تضررت الأشجار، فإن آثر البائعُ النقلَ، فلا شك أن له ذلك، فإنه ناقلٌ عينَ ملكه، وليس لقائلٍ أن يقول: يمتنع عليه النقلُ وفاء بموجَب البيع، وقياماً بتسليم الأرضِ والأشجارِ له. ولكن إذا نقلَ وعيَّبَ، فللمشتري الخيارُ في فسخ البيع.
والمسألة في أطرافِها مفروضةٌ في جهل المشتري بحقيقةِ الحالِ.
فلو قال البائع: لا أنقل الأحجارَ، وأتركُها في الأرضِ؛ حتى لا يَعِيبَ (2) الغِراسُ بالقلعِ، ولا ضِرارَ بالترك، فقد أجمع الأئمةُ في طُرقهم على أن خيارَ المشتري يبطل، والحجارةُ يتركها البائع. وكأن للشَّرع صَغْواً وميلاً إلى إبقاءِ العقد، إذا أمكنَ مع دفْع الضرارِ عن المشتري. [وهذا مشبهٌ بمسألةٍ] (3) [سَنُوردها] (4) في باب الخَراج، وهي أن الرجل إذا اشترى دابةً، وأنْعَلَها، ثم اطَّلع منها على عيب قديمٍ، ولو اقتلع النَّعْلَ، لحدثَ بذلك السبب عيبٌ حادثٌ يمنعُ من الردّ بالعيب القديم، فلو قال: تركتُ النعل، فلا أرجعُ فيه، وقصْدُه استبقاءَ حقه من الرَّدّ. قال الأئمة: له ذلك، والبائع المردود عليه مُجبرٌ على القبول، وهذه المسألةُ مقصودُها استبقاءُ حق الردّ. وقولُنا في استبقاء العقد، حتى لا يُفرضَ طريانُ سبب يُسلِّط على نقضه وفسخه، والمعاني هي المتبعة.
3023 - ثم قالَ الأئمةُ في مسألة النَّعْل وتَرْكِ الأحجارِ: ما يتركه التارك في المسألتين يملكه المتروك عليه، أم لا؟ فعَلَى وجهين: أحدهما - أنهُ لا يملِكه؛ فإن
__________
(1) كذا. ولعل الأوْلى: "في تبقية الأحجار ضررٌ ولا في نقلها".
(2) يعيب: يصيرُ ذا عيب. فالفعلُ لازم: عاب الشيءُ: صار ذا عيب، وعاب الشيءَ جعله ذا عيب. (معجم).
(3) عبارة الأصل: "وهذا مسألة سنردّدها ... " والمثبت من (هـ 2).
(4) في النسختين: سنردّدها. والمثبت تقدير منا على ضوء المعهود في لغة الإمام.

(5/137)


الغرضَ ألاّ يحدثَ عيبٌ، وهذا لا يستدعي إثباتَ ملك. والوجه الثاني - أن المتروكَ عليه يملك ما أُجبر على قبوله. وهذا هو الذي يسدّ مسدَّ حقِّه الساقط بسبب الترك، فالحقوق لا تقابل إلا بأعواضٍ مملوكةٍ.
فإن قُلنا: يثبت الملكُ في المتروك، فأثرهُ ظاهر، ويتصرّفُ المتروك عليه في المتروكِ، تصرف المُلاك، ولا يرجع التارك إليه قط.
وإن حكمنا بأن المتروك عليهِ لا يَملك المتروكَ، فلا خلافَ أن البائع (1) يلزمه الوفاءُ بالترك، حتى لو قال بعد الترك: أقلع، وأقنع بأن يُرَدّ عليَّ المبيع، فلا يبالَى به. نعم لو جرت حالةٌ يزول فيها المعنى المقتضي للتركِ، فتلك الأعيان مردودة إذ ذاك على المالكِ التاركِ، كما أن [النَّعلَ] (2) لو استحق يزالُ، وإن سقَط، رجع فيهِ الراد، وكذا القول في الأحجار.
ولو انقلع الغِراس أو قلعه المشتري قصداً، وزال ما كنا نُحاذره من الضرار، فيعود حق التاركِ.
3024 - وتمام البيان في ذلك أن هبة الأحجار إن كانت ممكنةً على الصحة، فوهب البائع الأحجار، وقبلَ الهبةَ المشتري، واستجمعت الهبةُ شرطَ الصحة، فالوجهُ القطع بحصولِ الملك، والمنعُ [من الرجوع] (3) في الهبة التي لا رجوعَ في مثلِها، فأما إذا كانت الأحجار لا تصح هبتُها على قولٍ، وقد جرت الهبة كما وصفناها، فمِن أصحابنا من صححها للضرورة، وتحصيلِ استبقاء العقد، ومنهم من لم يُصحّحها.
ولو لم تجرِ هبةٌ على شرطها في الإيجاب والقبُول، ولكن قال: تركتُ الأحجارَ، فمن أصحابنا من قال: لا حكم لهذا القول، وإليه صَغْوُ الصيدلاني في كتابه. ومن أصحابنا من قال: هذا القول كافٍ، ويجب على البائعِ المتلفظِ به الوفاءُ بموجَبه، وقد ذكر ذلك طوائفُ من أئمتنا.
__________
(1) الكلام هنا في مسألة الأرض، وليس في مسألة النعل. فإن التارك في مسألة الأرض هو البائع، وفي مسألة النعل هو المشتري.
(2) في الأصل: الفعل.
(3) مزيدة من (هـ 2).

(5/138)


3025 - فتنخَّل من مجموع ما ذكرناه أنه لو قال: تركت الأحجارَ، فمن أئمتنا من لم يُقم لذلك وزناً، ولم يُثبت له حكماً، ومنهم من صححه، ثم من صحَّحه اختلفوا في أن الملك هل يحصل قهرياً أم لا؟ وإن جرت هبةٌ لا يصح مثلُها مفردةً، ففي صحتها الآن وجهان مرتبان على لفظِ التركِ، وهي أَوْلى بالصحَّةِ، فإنها على حالٍ عقدٌ تُصحّحُهُ الضرورةُ، ثم في إفادته المِلكَ -إن صحَّحناه- وجهانِ مرتبان على ما ذكرناه في التركِ، والملك أوْلى بالحصول في هذه الصُّورَة، وكأنَّ الضرورة رفعت شرطاً معتبراً في حالة الاختيار.
وإن جرت الهبةُ على شرط الصحة، فالمذهب أنها تُفيد الملك. وذهب بعضُ أصحابنا إلى ذكر الخلافِ في إفادة الملك أيضاًً، من جهة صَدَر الهبة عن حاملٍ عليها وليست كالهبة الصادرةِ عن اختيارٍ مجرد.
فهذا مجموع القول فيه، إذا كان النقلُ والقلع مضرّاً، وقد ترك البائعُ الأحجارَ على المشتري.
3026 - فأما إذا أبى إلا القلعَ، فله ذلك، وللمشتري الخيارُ، فإن فسخ، فذاكَ، وإن أجاز، وأحدث القلعُ النقصَ، فهل يغرَم البائعُ أرشَ النقصِ؟ قال صاحب التقريب: فيه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها في الأجرة للمدة التي يتعطل فيها المنافع بسبب الاشتغال بالنقل: أحدُها - أنه لا يغرَمُ؛ فإن المشتري بترك الخيارِ راضٍ بما يجري من النقص، والوجه الثاني - أن البائع يغرَم أرشَ النقصِ وفاءً بتسليم المبيع، والوجه الثالث - أنه يفصل بين ما قبل القبض وما بعده، كما ذكرناه في الأجرة.
وابتناءُ هذا على جناية البائع على المبيع بيّن كما تقدَّم.
وهذه فصول نرسلها، وسنذكر بعدَ نجازها ضابطاً لمجال النظر في هذه المسألة، منبهاً على المقصود إن شاء الله تعالى.
3027 - ولو كان القلع لا يضر، والترك يضر، يُجبر البائعُ على النقل، ولا خيارَ للمشتري، إلا أن يقتضيَ النقلُ تعطيلَ المنافعِ؛ فإذ ذاك يثبت الخيارُ، وينعكس الأمر على التفاصيل المقدمة في الأجرة عند اختيارِ الإجازةِ.

(5/139)


3028 - ولو كان القلْع والترك جميعاً مضرَّين، فلا شك في ثبوت الخيار، لتحقق الضِّرار من كل وجه، ولكن إن فسخ المشتري، فذاك، وإن أجاز وكُلِّف البائعُ النقلَ، لزمه النقل، وهل يلزمه أرشُ النقص؟ فعلى الأوجُه الثلاثة التي ذكرناها.
فرع:
3029 - إذا اشترى أرضاً بيضاءَ، وغرسَها، ثم اطّلع على أحجارٍ مدفونة فيها، منعت عروقَ الأشجار من الانتشار، فهذا ضررٌ لحق الأشجارَ التي ابتدأ المشتري غرسَها، فهل يثبتُ له الخيار؟ فعلى وجهين: أحدُهما - يثبت؛ فإن الضِّرار الذي بدا من آثار ما قدَّمه البائع من إيداع الأحجار، فرجع الضررُ إلى معنى قديم.
ومن أصحابنا من قال: لا خيار؛ فإنه لولا ابتداءُ الغرسِ، لما ظهر ما ظهر من الضررِ، وليس من شرط المبيع أن يصلح لكل جهةٍ من الانتفاع، والبائع لم يلتزم بموجَب العقد إلا السلامةَ الناجزةَ في المبيع، فأما تكليفه تحصيلَ كل غَرضٍ ممكن في جنس المبيع، فبعيد.
3030 - وقد نجزت مسائلُ الفصل، وهي مشتملة على أمورٍ بيّنَةٍ، وفي خَلَلها إشكالٌ في مواضعَ، ومهما كان الفصل على هذا النّعْتِ، فتمامُ الغرض في البيان يحصلُ بإرسالِ المسائلِ مقررةً، والتنبيهُ بعد نجازِها على مواقع الإشكال، حتى تكون ماثلة في النظر، يصادفُها الناظر مميزاً مفصلاً.
فأقول: مهما فُرض ضِرارٌ لا يندفع، فلا شك في ثبوت الخيار، بشرط ألا يكون المشتري مطلعاً على حقيقة الحال حالة العقد.
فإن كان مطَّلعاً، فلا خيار، وليس على البائع جُبرانُ نقصٍ في هذا القسم. وإن كان جاهلاً، فالخيار ثابت، ولا يخفى حكم الفسخ. فإن أجاز، وأراد أن يُلزم البائعَ أرشَ النقص، فهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن يتمكن البائعُ من دفع الضرر بترك الحجرِ. والآخر - ألا يتمكنَ، وذلك بأن يُفرض لُحُوقُ الضررِ، تُرِكَ الحجرُ أو نُقل، فإن لم يكن للضَّرر مَدفعٌ، ففي وجوب أرش النقص الأوجه.
وسبب الخلافِ تقابلُ الظنونِ؛ من جهة أن المشتري يجد خلاصاً بالفسخ، فإذا لم يفسخ، احتمل أن يكون ذلك كاطَّلاعه على حقيقة الحال حالةَ العقد، واحتُمل أن

(5/140)


يقال: النقصُ ظهر بعد العقدِ بفعل ينشئه البائع إما قبل القبض وإما بعدهُ؛ إذ النقصُ، وإن استَنَد إلى سبب متقدَّمٍ، فهو حادث. وهذا يلتفتُ على قتل العبد المرتد في يد المشتري، على ما سيأتي في باب الخراج. ومخْرَجُ الفصل بين ما قبل القبضِ وبعد القبضِ بيّن كما مضى.
فأما إذا كان يجد البائعُ سبيلاً في دفع الضرر بترك الحجر، فلا يلزمه أن يترك، ولكن لو نقلَ وظهرَ الضررُ، فمن أصحابنا من قال: في تغريم البائعِ ما تقدم من الخلاف، ومنهم من يقطعُ بتغريمه في هذا القسم بوجهٍ يُجبَر المشتري عليه، وهو تركُ الحجرِ (1).
ثم ينتظم على هذا تعطُّلُ المنافعِ، من غير نقصٍ في رقبة المبيع. وقد ذكرُوا الخلافَ في الأجرة، فالوجه ترتيبها. والفَرق لائح؛ فإن المنافعَ ليست معقوداًْ عليها، ولو قيل: القدرُ الذي يُفرِّغ البائعُ فيه المبيعَ غيرُ داخلٍ في استحقاق المشتري، لم يكن بعيداً، والمبيع كله مستَحق للمشتري بأجزائهِ، وصفاته.
فهذا مجالُ الإشكال في مسائل الفصل، ميزَّناه، وزدنا في تقريره حتى لا يبقى متشتتاً في المسائل، وقد نجز الفصل- ولله الحمد- بالغاً في البيان.
...
__________
(1) أي يقطعُ بأن يغرَم البائع الأحجارَ، فيتركها للمشتري، ويجبر المشتري على ذلك، فالأحجار على أية حالِ إضافةٌ وزيادةٌ في المبيع، والضرر في قلعها، وليس في تبقيتها.

(5/141)


باب الوَقْتِ الَّذِي يَحلُ فيهِ بَيعُ الثّمارِ ورَدّ الجائِحَةِ مِنْ كثَب
قال الشافعي: أخبرنا مالك عن حُميدٍ عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الثِمار حتى تُزهي، قيل: يا رسول الله وما تُزهي؟ قال: حتى تحمرَّ أو تصفرَّ ... إلى آخره" (1).
3031 - هذا الباب معقود لبيان بيعِ الثمارِ، والزروعِ، وهو مصدَّر بذكر ما يشترط في صحَّةِ بيعه القطعُ، وما لا يشترط فيه ذلك. ونحن نبدأ بذكر الثمار، ثم ننعطف على الزروع.
فمن باع ثمرة على الشجرة، لم تخل الثمرة إما أن تكون مُزْهية بدا الصلاحُ فيها، وإما ألا تكون كذلك، فإن لم تكن مزهية، فلا يجوز بيعُها بشرط التَّبْقية، ولو بيعت مطلقة، فالبيع في الإطلاقِ محمولٌ عند الشافعي على شرط التبقية، وعَقْد المذهب أن العادةَ جاريةٌ بتبقية الثمار، والعقود المطلقةُ منزلةٌ على حكم العادة المقترنة بها، ومقتضى العادة المطردة إذا اقترنَ بالعقد نزل منزلة الشرطِ المصرّحِ به، وعلى هذا بنينا تنزيلَ الدراهمِ المرسلةِ في العقدِ على النقد الغالبِ في العادة؛ حتى نقول: لو اضطربت العاداتُ في العقودِ، فإطلاق الدراهمِ فاسد، والعقد باطل، وعلى هذا الأصل لم نحوج المتكارِيين (2) إلى ذكر المنازِل (3) وتفصيل كيفيَّة الإجراء (4).
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 167، والحديث متفق عليه، رواه البخاري: بيوع، باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ح 2198، ومسلم: مساقاة، باب وضع الجوائح، ح 1555، ومتفق عليه أيضاًً من حديث جابر، وانظر التلخيص: 3/ 66 ح 1216.
(2) المتكاريين: المكاري بضم الميم: اسم فاعل من كاريتُه من باب قاتل، وهو في الأصل مفاعلة من الجانبين، بين كل طرفين تمّ بينهما كراء، وشاع اسماً لمن يؤجِر المطايا للركوب والرحيل عليها. (معجم ومصباح).
(3) المنازل: جمع منزلة: المرحلة من الطريق، ينزل بعدها المسافرون للراحة.
(4) الإجراء: من الجري: أي كيفية الإسراع بالمطايا.

(5/142)


وكلّ ما يتَّضح فيهِ اطرادُ العادة، فهو المحكَّم، ومضمرُه كالمذكور صريحاً، وكل ما تتعارض الظنونُ بعضَ التعارضِ في حكم العادة فيه، فهو مثارُ الخلافِ وسبَبُه.
وألحق القفالُ بما ذكرناه أمراً آخر، فقال: إذا عم في الناس اعتقادُ إباحةِ منافعِ الرهن للمرتهن، فاطراد العادة فيه بمثابة شرطِ عقدٍ في عقد، ويلزم منه الحكمُ بفساد الرهن، وقد يجري ذلك في أغراضٍ في القروض، لو ذكرت لفسَدَت القروض بها.
والقفال يجعل اطرادَ العرفِ بمثابةِ الشرطِ، ولم يُساعده كثيرٌ من أصحابنا، وقالوا: الرهنُ يصحُّ إذا لم يُشرط فيه شيء، وكذلك ما في معناه. وسنذكر الضبطَ في محل الخلاف والوِفاق -إن شاء اللهُ تعالى-
وكان شيخي يقولُ: لو كان في بقعَةٍ من البقاعِ المعدودة من الصرودِ (1) كرومٌ، فكانت الثمار لا تنتهي إلى الحلاوة، وعم فيها العُرف بقطع الحِصْرِم، فإطلاق البيع محمول على العُرف في القطع، وهو نازلٌ منزلةَ البيع بشرط القطع، فالتعويل في أصل المذهب على العادة.
وأنا أقول: لا شك أن حمل المطلقِ من البيع في الثمار التي لم يَبدُ الصلاحُ فيها على المقيّد بشرط التبقيةِ مأخوذٌ من العُرفِ.
والوجه في هذا عندنا أن يقال: كل ما يتعلق بتوابعِ العقودِ من التسليمِ، والقطعِ، والتبقيةِ، وكيفيةِ إجراء البهيمة المكراةِ، والمقدارِ الذي تَطوي في كل يوم، فهذه التوابع منزَّلةٌ على العرفِ، كما ذكرناه. ومن جملته حملُ الدراهم المطلقة على النقد الغالب، وهذا في اعتياد يعم، ولا يختصّ بتواطُؤِ أقوام.
3032 - فأما العادة التي تُتلقَّى من تواطؤ أقوامٍ على الخصوص، كشرط الإباحَةِ في الرهن، وشرائطَ معروفةٍ فاسدة في القُروضِ، فهذا محمول على اصطلاحِ أقوام،
__________
(1) الصرود: الصَّرْدُ شدة البرد، والجمع صرود (المعجم). وواضحٌ من السياق أن المعنى: إذا كانت كروم العنب في بقعةٍ معدودة من المناطق (الصرود) أي الباردة، فالعنب لا يتم نضجه بسبب البرد، فجرى العرف بقطعه وهو (حِصْرِم) أي حامض.

(5/143)


وقد يختصُّ ببعض البلاد ببعض الأعصارِ، ففي مثله التردد. فأما القفال، فإنه يرى الاصطلاحَ المطَّردَ بين أقوامٍ بمثابةِ العادةِ العاقَة، وامتنع غيرُه من هذا. وعندي أن هذا يُنزَّلُ على منزلةٍ (1) ستأتي مشروحةً في كتاب الصداق، وهي أن أقواماً لو تواطئوا على أن يُعبّروا بالألفين على الألفِ، فإذا وقع العقد بلفظِ الألفين، فالتعويل على التواطُؤ، أم على صيغة اللفظ؟ فيه تردّدٌ. وسيأتي في المسألة المترجمة السرّ والعلانيةِ، ووجهُ التشبيه أن العادةَ مُبينة كالعِبارة، والعادةُ التي لا يُعرف مستَندُها من اصطلاح كاللغات، والعادةُ التي تستند إلى اصطلاح معلومٍ كلغة المتواطئين على مُراطناتِهم. وإعمالُ عادةِ التواطؤ - أقربُ مما ذكرناه في مسألة السرّ والعلانيةِ، والسببُ فيه أن إعمالَ التواطُؤِ في تلك المسألة [ألغى] (2) صريحَ اللغة الثابتة، فقد لا يُحتمل ذلك.
3033 - ومما يَطرأ في هذا الأصل الذي نحن فيه أن الشيء إذا فُرض نُدورُه في بقعةٍ، ثم صُوّر اطرادُه، والحكم مستندَهُ العادةُ، فقد تردّد في هذا حملةُ المذهب، ومنه ينشأ اختلافهم في كثير دم البراغيث في بعضِ الأصقاع، في حكم العفو عن النجاسةِ. ويخرجُ على هذا القانون المسألة التي ذكرناها في الحِصرِم، في بعض الصرود؛ فإنّ فرض ذاك في نهايةِ الندور، وإن تُصوِّر واطَّردت عادةُ أهل البقعَةِ بقطف الحِصرِم، فهو على التردد الذي ذكرناه.
فهذا قولُنا في تأسيس الباب في الثمار التي تباع قبلَ بُدوّ الصلاحِ0
3034 - وإن بَدا الصلاحُ، فيجوز بيعُ الثمار على شرط التبقية إلى أوانِ الجِداد، وإن بِيعت مطلقةً، صح البيعُ، وحُملَ على موجَب التبقيةِ، بناء على ما مهَّدناه من اتباع العادة العامة في توابع العقد.
فإن قيلَ: نَهْيُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى تُزهي يشعر بمفهومهِ أن البيع قبل بدوّ الصلاح منهيٌّ عنه محرمٌ من غير فصلٍ بين أن يقدّرَ شرطُ القطع
__________
(1) في (هـ): "مسألة".
(2) مزيدة من (هـ 2).

(5/144)


أو يطلق. قلنا: ظاهرُ اللفظِ هذا، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تكلّم في أمرٍ مستندُه العادة، نزَّل لفظُه على موجَبها، والعادةُ الجارية أن الإنسان لا يشتري الثمارَ قبل الزَّهو ليقطفها، وإنما يشتريها لتبقيتها إلى الجداد. هذه العادة. وإن فُرض غيرُ ذلك، كان خُرْقاً وسفهاً، فكأنه نهى عن البيع المعتادِ قبل بُدوّ الصلاح.
3035 - ثم ذكر الأئمةُ من طريق المعنى مسلكين في ضبط المذهب: أحدُهما - أن الثمار قبل بُدوّ الصلاح تكون متعرضة للآفات والصواعق، ومن اشتراها كان معرَّضاً مقصودُه للهلاك، وفي ألفاظ الشارع ما يدل على هذا المعنى، إذ رُوي: "أنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة" (1).
والمسلك الثاني - أن الثمار قبل بدوّ الصلاحِ ستكبر أجرامها كبراً ظاهراً، وإنما هي من أجزاء الشجرة، فلم يجرِ شرطُ التبقية لذلك، وإذا بدا الصلاح فيها، فلا تكاد تزداد ازدياداً به مبالاة.
والأوجه في ضبط المذهب المعنى الذي قدمناه، وهو متلقى من الخبر كما ذكرناه. والمعنى الثاني معتضدٌ بأمير مذهبي، وذلك أن من اشترى أشجاراً عليها ثمارٌ غيرُ مُزهيةٍ، فالعقد صحيح، وإن لم يجر شرط القطع، لما كانت الأشجار مضمومةً في المِلكِ إلى الثمار، فإذا امتصت الثمارُ شيئاً من رطوبات الأشجار، فلا بأس؛ فإنهما جميعاً في ملكِ مالكٍ واحد، ولو كانت الأشجار ملكاً لزيد، وكانت الثمار مِلكاً لعمرٍو، وهي غيرُ مزهيةٍ بعدُ، فلو باعها عمروٌ من زيدٍ مالكِ الأشجار مُطلقاً، أو على شرْط التبقية، ففي صحةِ البيع وجهان: أحدهما - أن البيع يصح، كما لو جمع بين الثمار والشجر في العقد، ومعناه ما ذكرناه من اتحاد المالكِ في الأصل والفرع.
ومن منع قال: سبب تصحيح العقد الوارد على الثمر والشجر أن الأصلَ الشجرُ، والثمارُ معها تابعةٌ لها، فلا يضرّ تعرض [المبيع للتَّوى] (2)، فكأنَّ أحدَ القائلَيْن يلتفت
__________
(1) حديث: " ... حتى تنجو من العاهة"، هذا اللفظ عند مسلم في البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها، ح 1534 عن جابر مرفوعاً، "تذهب عنه الآفة" وعن ابن عمر لما سئل ما صلاحه، قال: تذهب عاهته.
(2) في النسختين: "البيع للنوى". والتوى: الهلاك: تَوِي المال يتوَى: ذهب؛ فلم يُرْج، =

(5/145)


على التعرض للعاهة ويحتمل ذلك في العقدِ الذي يكون الثمر يتعاقبه. والقائل الثاني يعتبر الاجتناب من امتصاص الثمار رطوبةَ أشجار الغير.
وأما أبو حنيفة (1)، فإن مذهبَه مجانبٌ لمذهَبنا، وهو أخذ فيه مسلكاً آخر، فحقُّ العقد عنده إذا أفردت الثمار بالبيع، أن تُفرَّغ الأشَجار منها. مزهيةً كانت الثمار، أو غيرَ مزهيةٍ. ورأى تبقيةَ الثمارِ إدامةً لِشغل ملك الغَيرِ.
وأجاب بعضُ الأصحاب عن هذا الطريق بأن قالوا: ليس للأشجار منفعةٌ تفوتُ بتبقية الثمارِ عليها، وإن كان يقدَّر ازديادُ الثمار من أجزاء الأشجار، فذلك قليلٌ بعد بدوّ الصلاح.
وهذا المعنى غيرُ سديدٍ، وهو مشعر بتكليف التفريغ إذا كانت المنافع المُعتبرةُ تتعطل، وليس الأمر كذلك عندنا؛ فإن من ابتاع شجرةً مطلقاًً لم يكلف قلْعَها، وفي إدامتِها شُغلُ منافعَ معتبرةٍ. ولكن كانت العادةُ التبقيةَ، وليس في التبقية تعريضٌ للتلف، فاحتمل ذلك، وجرى بقاءُ الشجرة حقاً مستحقاً تابعاً لملك الشجرة. وليس هذا من قبيل الإعارة، ولا يسوغ لبائع الشجرة أن يقلعها على شرط أن يغرَمَ (2) ما يَنقُصُه القلعُ، والسبب فيه أن التبقيةَ مستحقةٌ بعقدِ الشراء، وحقوقُ الشراءِ، لا تَبطُل على أربابها، وكذلك إذا اشترى بناءً مطلقاًً، استحق تبقيتَه إلى غيرِ آخِرٍ، لما قرَّرناه.
3036 - ومن هذا الأصل اختلف قول الشافعي في أن من اشترى شجرةً مطلقاًً، وملك بالشراء أغصَانها وعُروقَها، فهل يَملكُ مَغْرِسَها من الأرضِ؟ والأصَحُّ أنه لا يملكه؛ فإن اسمَ الشجرةِ لا يتناول شيئاً من الأرض.
وفي المسألةِ قول آخر: أنه يملكُه؛ فإنه يستحق تبقيةَ الشجر لا إلى نهايةٍ، فلْيُقضَ بملكه لمغرسها، وإلا، فلا نظير لهذا النوع من الاستحقاق.
__________
= والإنسانُ: هلك. (معجم).
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء للطحاوي: 3/ 117 مسألة رقم 1197، 1198، البدائع: 5/ 173.
(2) في (هـ 2): ألا يغرَم.

(5/146)


وهذا الاختلاف ليس يجري على منهاج الاختلاف المقدم ذكرُه، في استتباع الأرض أشجارَها؛ فإن ذاك منشؤه استتباعُ الأرض فرعَها، وأما ملك مغرس الشجرة، فليس من جهة استتباعِ الشجرة الأرضَ؛ فإن الفرعَ لا يستتبع الأصلَ، ولكنهُ من جهة ثبوت استحقاقٍ لا محمل لهُ إلا الملك.
ثم إن قُلنا: إنه يملِكُ المَغْرِسَ، فلو انقلعت تلك الشجرةُ، أو قلعَها، فمِلكهُ قائم على المغرس يتصرفُ فيه تصرفَ الملاك، وإن قُلنا: لا يملك مشتري الشجرةَ مَغرِسَها، فإذا انقلَعت، أو قَلَعها، لم يملِك أن يغرسَ فيه شجرةً أخرى؛ فإن حق التبقيةِ كان تابعاً للشجرة التي ملكها، وقد زالت تلك الشجرةُ، فتبع زوالَها زوالُ الحق في المغرس.
فصل
في تفسير بُدوّ الصلاح
3037 - معتمدُ الباب في الحقيقة الخبرُ، ومقتضاه اعتبارُ بدوّ الصلاح، وبيان ذلك في الثمار، ثم في غيرها.
أما الثمارُ، فتنقسمُ إلى ما يتلوّن عند الإدراك بلونٍ يخالف السابقَ قبل الإدراك، كالتمر والأعنابِ: السودِ والحمرِ، فبدوّ الصلاح في هذا القبيل بأن يبدو تلوّنُها، وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تُزهيَ، قيل له: يا رسول الله، وما تُزهي؟ فقال صلى الله عليه وسلم حتى تحمرّ أو تصفرّ"، ولا شك أن ذلك إذا ظهر فيها، طابَ أكلُها، وزالَ ما كان فيها، من عفوصيةٍ (1) أو قَرْصِ حموضة، أو مرارة، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث "حتى تطيبَ"، ثم لا يُشترط بلوغُها الغايةَ المطلوبةَ في الطيب؛ فإن هذا إدراك. وبين بدوّ الصلاح، وبين الإدراك وأوانِ القطافِ قريبٌ من شهرين.
هذا قولُنا في الثمار.
__________
(1) عفوصة: من العَفْص، وهو مادة قابضة يدبغ بها غالباً (معجم، مصباح).

(5/147)


3038 - وأما بدوّ الصلاح في البطيخ، فأن يطيب الأكلُ، ويظهرَ فيه التلوُّنُ أيضاًً.
وأما الثمار التي لا تتلوّن بالإدراكِ كالأعناب البيض، فالاعتبار فيها بالتَموّه، وجريانِ الحلاوة، وزوالِ قَرصِ العُفوصة، وطيبِ الأكل.
وهذه الأشياءُ [تجري] (1) في التحقيق على قضيةٍ واحدة، على ما سأصِفُه الآن.
وأما بدوُّ الصلاح في القثاء، فليس بأن يتلوّن، ولا يمكنُ أن يقال فيه: هو أن يطيب أكله، أو يمكن ذلك فيه؛ فإن القثاءَ يطيب وهو في نهاية الصغر. قال الأصحاب: الوجه أن ينتهي إلى منتهى يُعتادُ أكله فيه.
فإن قيل: خالفتم بين القثاءِ والثمار؛ إذ قلتم في القثاء: يعتبر اعتيادُ الأكل، والاعتياد لا يعتبر في الثمرة المُزهية، فما الذي أوجب الفرقَ؟ قلنا: لا فرق؛ فإن الزهو إذا ابتدأ، ابتدأ الناسُ في الأكل، وقد يغلب تأخيرُ المُعْظم إلى تمامِ الإدراك، كذلك القول في القثاء؛ فإن الصِّغار منه يُبْتَدرُ، ولكنّ عُمومَ الأكل يتأخَّر، والذي يتناهى صِغرُه لا يؤكل قصداً، إلا أن يتفق على شذوذٍ، فرجع الحاصل إلى طيب الأكل، وابتداءِ الاعتياد فيه، وعلامةُ ذلك في المتلوّنات التلوّنُ إلى جهة الإدراك، وعلامتُه فيما لا يتلونُ التموُّهُ، وجريانُ الحلاوةِ، والرَّونق.
3039 - فإذا تمهَّد معنى بدُوّ الصلاحِ فيما ذكرناه، فإذا باع الرجل ثمار بستان، وقد بدا الصلاحُ في بعضِها، فالذي لم يَبْدُ صلاحُه تابعٌ لما بدا فيه الصلاح، وترتيبُ المذهب في هذا الإتباع، كترتيب المذهب في إتباع ما لم يؤبَّرْ ما أُبِّر، في محلِّ الوفاقِ والخلافِ حرفاً حرفاً.
ولو باع ثمارَ بستان، وهي أجناسٌ مختلفةٌ، وكان بُدوّ الصلاح في بعضِها، فالجنس الذي لم يبْدُ الصلاحُ فيه، لا يتبع الجنسَ الذي أزهى بلا خلافٍ، وإنما التردد في اختلاف النوع مع اتحاد الجنس، كما مضى تفصيلُ ذلك في التأبير وحُكمِه.
قال العراقيون: لو باع الرجل ثمارَ بستانَيْن صفقةً واحدةً، وكان بدا الصلاحُ في أَحدِهما دون الثاني، فثمار البستان التي لم تُزه لا تتبعُ ثمارَ البستانِ التي بدا الصلاحُ
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(5/148)


فيها، وقطعوا القولَ بهذا. ولست أرى الأمرَ كذلكَ، سيما إذا لم يتباعدا تباعداً، يؤثر في اختلاف التغايير، ولا حاجز إلا جدار.
ولو كان للرجل بُستانان كما صَوَّرنا، وقد بدا الصلاح في ثمارِ أحدهما دون الثاني، فلو أَفردَ بالبيع الثمَار التي لم يَبْدُ الصلاحُ فيها، فالذي رأيت الطرُقَ متفقة عليه أنا لا نعتبِرُ حكمَ الثمار التي بيعت بثمار بستانٍ آخر، وهذا يشيرُ إلى ما ذكرهُ العراقيون من اعتبار اتحاد البستان وتعدُّده.
ولم يختلف علماؤنا أن بُدوّ الصلاح لو كان في مِلكِ غير البائع، ولم يَبْدُ الصلاحُ في بستان البائع. فلا يقال: الوقتُ وقتُ بدُوّ الصلاح، فتجعل الثمار المبيعة كأنها مزهية. هذا لا قائل به. وقد ذكرنا خلافاً فيه إذا اختلف الملكُ، واتَّحد البستان، وثبت التأبير أو الصلاحُ في بعضِ ثمار البستان، فهل يتبع المبيعُ غيرَ المبيع، والبستان واحدٌ؟ فيهِ الخلاف المعروف، ولا فرق بين أن يكون ما أبقاه البائع له، أو يكون لغيره؛ إذا كان البستان الواحد جامعاً لهُما. ولَعلَّ رعايةَ اتحادِ البستان من (1) جهة أنه كالشيء الواحد في التطواف عليه، والتردُّدِ فيه.
ومعظم هذه الأحكام تبتنَى على عاداتٍ. فهذا منتهى المراد في ذلك.
وكل ما ذكرناه في الثمار، أو ما يجري مَجرَاها.
3040 - فأمَّا القولُ في الزروع، فهي تنقسم إلى التي تُخلِفُ، وإلى التي لا تُخلِف.
فأما ما يُخلِفُ منها إذا جُزَّت كبعضِ [البقولِ، ومنها القُرط، وما في معناه، فهذا الجنس يكون متزايداً أبداً، ولا] (2) وقوفَ له، فإذا بيع منه جِزَّةٌ، فلا بد من شرطِ القطع، ولا يُنظر في هذا القسم إلى ما يقع في زمان العاهات، أو في زمان النجاةِ منها، وكذلك لا يُنظرُ إلى طيبِ الأكلِ، وذلك أنّا إذا كنا (3) نحاذر إمكان الآفة، ونشترطُ القطعَ لذلك، فالاختلاطُ الذي يجرّ إلى البيع اللبسَ العظيمَ لأن يُجتَنبَ أوْلى.
__________
(1) الجار والمجرور في محل رفع خبر لعل.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: أنا كنا، وفي: (هـ 2): إذا كنا. والجمع بينهما تصرفٌ اقتضاه السياق.

(5/149)


وهذا الأصلُ في شرط القطعِ مساو للثمار قبل بدوّ الصلاح، وليس مأخوذاً من مأخذها.
3041 - فأما الزروع التي لا تُخلِف إذا جُزت، فينبغي أن يُستثنى منها ما يتسنبل ويَستتر المقصودُ منه للغُلُفِ (1) والقصيل (2)، فإنا سنعقد في هذا فصلاً (3) على أثر هذا الفصلِ، ونتكلَّم فيما عدا ذلك.
قالَ الأئمة: الزرع الأخضرُ لا يجوز ابتياعه إلا بشرط القَطعِ، وكان شيخي يقولُ: لا مُعوّلَ على الخضرة، والتعويل فيما لا يُخلِف على النجاة من الآفة على القياس الممهَّدِ في الثمار، والذي أراه أن هذا ليسَ باختلافٍ؛ فإن الأخضرَ في الغالب يتعرض للآفة، فنُزل كلامُ الأصحاب عليه.
وفي (4) هذا الفصلِ سرٌّ، وهو أنَّا لو فرضنا زرعاً ناجياً من الآفة، لا يُخلِفُ إذا جُزَّ، وقد يزداد إذا لم يجز، فالذي رأيتُ الطُرقَ عليه أن هذه الزيادة غير ضائرةٍ، وهي عند فرضِ التبقيةِ على حُكم الشرط، أو على وفاق المشتري. والزيادة التي ذكرناها بمثابةِ نموِّ الثمار، إلى وقت اتفاق القطع، وليست كزيادة الزرع المُخْلِف.
وهذا على بيانهِ قد يزلّ فيه من لا يردُّ نظرهُ إليه.
3042 - وتمام البيانِ في هذا أن من اشترى بطاطيخَ على أصولها دون أصولها، فإن لم يكن بدا الصلاحُ، فلاَ بُدّ من شرطِ القطع، وإن بدا الصلاَحُ في الكبارِ منها، فللصغار حكمُ الكِبار، جرياً على إتباعِ المقدَّمِ، ولكن ما يحدث من الأصول، فهو لمالك الأصول. فإن فرض اختلاطٌ، رجع ذلك إلى مسألة الاختلاط، كما تقدم ذكرها.
__________
(1) للغلف: أي بسبب الغلف، والغلف جمع غلاف: مثال: كتاب وكتب. (المعجم).
(2) القصيل المراد به هنا ما يرادف الغُلُف، وليس القصيل المعروف الذي يتخذ للعلف، ويؤكد هذا قول إمام الحرمين الآتي بعد صفحات: "واختلف في بيع الحنطة في سنبلها، وهي مستترةٌ بغُلُفِها من قصيل السنبل".
(3) في (هـ 2): أصلاً.
(4) في (هـ 2): في هذا. (بدون واو).

(5/150)


ولو اشترى أصولَ البطيخ، صحَّ. وكل ما يُخرجه بعد الشراء، فهو ملكُ المشتري.
ثم من لطيف ما يجب التنبُّهُ له: أن من اشترى ما لا يُخلِف لو قُطع، ملكَ ظاهرَه وعِرْقَه المستترَ بالأرض، فلو قال قائل: لو اشترى البطيخَ وأصلَه قبل بُدوّ الصلاح، فهل تشترطون القطعَ، أو تلحقونها بما لو اشترى الثمار والأشجارَ معاً، حتى لا تشترطوا القطع؟ قلنا: إذا لم يكن بدا الصلاحُ في البطيخ، فهو وأَصلُهُ عرضةُ الآفة، وليس كالثمار تباع مع أشجارها؛ فإن الأشجار ليست عُرضةَ الآفة، فتجري الثمار تبعاً لها.
فهذا منتهى البيان في هذه الفصول.
فرع:
3043 - ذكر الشيخُ في شرح التلخيص أن من اشترى ثماراً بدا الصلاحُ فيها على شرط القطع [صح العقدُ، ولزم الوفاء بالشرط، ولا شك أن هذا يطّرد في ابتياع الشجر على شرط القطع] (1) من المغرِسِ، وابتياع البناء كذلك، وهذا واضح، ولكنّي أحببتُ نقلَه منصوصاً.
فرع:
3044 - إذا باع شجرةً عليها ثمرة مؤبرة، فالثمار للبائع، وله تبقيتُها إلى أوان الجِداد. فلو أصابَ الثمارَ آفة، وصارت بحيث لا تنمو، فهل للبائع أن يُبقيها ولا فائدةَ له في تبقيتها؟ أم للمشتري إجبارُه على قطعِها (2)؛ ذكر [شيخي] (3) لصاحب التقريب قولين في ذلك: أحدهما - أن له التبقية استبقاءً منه لحق الإبقاء إلى أقصى الأمد، ولا نظر إلى فائدته، والقول الثاني - أنه يُجبَرُ على القطع؛ فإن شغل ملك الغير بلا فائدةٍ لا معنى له.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في (هـ): تبقيتها.
(3) زيادة من (هـ 2).

(5/151)


فصل
3045 - ذكرنا أن من باع نخلةً، وعليها ثمرتُها غيرَ مؤبَّرةٍ، فهي تابعةٌ للنخلة إذا أُطلق اسمُها في البيع، فإن استثناها البائعُ، بقيت له، ولا خلاف في جواز استثنائِها.
وإن تردَّد المذهبُ في جواز إفرادِها بالبيع، كما سنذكره على إثر هذا الفصل، ولا يجوز استثناءُ الحَمْل إذا بيعت الجاريةُ الحامل بالولدِ الرقيق.
هذا أصل المذهب، وسيأتي تفصيلهُ، في باب الخراج إن شاء الله عز وجل.
3046 - ثم هل يُشترط في صحة استثناء الثمار شرْطُ القطعِ؟ فعلى قولين: أحدُهما - أنه لا حاجةَ إلى شرط القطع؛ فإن الاستثناءَ ليس تملُّكاً في الثمار، وإنما هو استبقاءُ الملكِ فيها. وآيةُ ذلك أنا نقطع بصحة الاستثناء. وظاهرُ المذهبِ أن إفراد الثمار بالبيع قبل التأبير ممتنع، ولا شرطَ على المستبقي.
والقول الثاني - أنه لا بد من شرطِ القطع؛ لأن هذا [الاستثناء] (1) في حكم جلب المِلكِ؛ إذ لا بد فيه من لفظٍ واختيارٍ، وعبَّر الأئمةُ عن حقيقة القولين بعبارةٍ، وبنَوْا عليها أحكاماً في أمثلةِ هذه المسألة، فقالوا: لما باع الشجرةَ أشرف مِلكُه في الثمرة على الزوال، غيرَ أنه تلافاها، فهل نجعل المِلْكَ المشرفَ على الزوال إذا استُدْرِكَ كالملك الزائل العائد؟ فعلى قولين.
3047 - ومن نظائر ذلكَ: أن الرجل إذا دبَّر عبداً فجنى في حياته جنايةً، تستغرق قيمتَه، وماتَ السيدُ، ولم يخلّف غيرَه، ففداه الورثةُ. [و] (2) معلومٌ أنهم لو سلّموهُ، لبِيع، وبطل العتقُ فيه. فإذا فَدَوْه، وحكَمْنا بنفُوذ العتق [فيه] (3)، فالولاءُ فيه لمن؟ فعلى قولين: فإن جعلنا المشرفَ على الزوال كالزائل العائدِ، فالولاء للورثة.
__________
(1) في الأصل: الاستبقاء.
(2) زيادة من المحقق.
(3) مزيدة من (هـ 2).

(5/152)


وإن لم نجعل الأمرَ كذلكَ، فالولاءُ للمولى المتوفى. وهذه المسألة تبتني على أن تنفيذ الوصية إجازةٌ، وليس ابتداءَ عطيةٍ، فإنَّا لو جعلنا التنفيذَ ابتداءَ تبرعٍ من الورثة، لم يختلف قولُنا في أنهم المعتقون، ثم كنا نقول: لا بد من إنشاء العتق فيه، وإن جعلنا التنفيذ إجازةً، فالقول في الولاء مضطربٌ عندي؛ فإنهم لم يحتاجوا إلى إنشاءِ العتق، فأيُّ معنىً لصرفِ الولاء إليهم، والعتق نفذَ على حكم التدبير الماضي، ولكن الأئمة نقلوا قولاً آخر: أن الولاء للورثة لقوة سببهم، ونزّلوا ذلك منزلةَ الإعتاقِ بلا مزيد. فالقول في الولاءِ عويصٌ، وهو بين أيدينا (1).
3048 - ومما يجب التنبُّه له في مسألة الاستثناء، أنا إذا شرطنا التقييدَ (2) بالقطع، فأطلقَه، فظاهرُ كلام الأئمة، أن الاستثناء باطلٌ، والثمرة للمشتري، وهذا مشكلٌ جداً؛ فإن صرْفَ الثمرة إليه، مع التصريح باستثنائه محالٌ عندي، فالوجه عدُّ الاستثناء المطلق شرطاً فاسداً مفسداً للعقد في الأشجار، ويكون كاستثناءِ الحمل.
ومما يتعيّنُ الإحاطةُ به، أن الخلاف في اشتراط التقييد بالقطع يترتب لا محالة على أن قطعَ الثمارِ هل يُستحق إذا بقيت للبائع؟ فالتقييد في الاستثناءِ يلتف بوجوب القطع، وجوازِ الإبقاء، فإن لم نشرط التقييدَ، رأينا الإبقاء، وإن شرطنا، أوجبنا الوفاء.
ولا خلاف أن الثمار إذا بقيت للبائع؛ لأنها كانت مؤبّرة، وما كان بدا الصلاح فيها، فلا يستحق عليه قطعُها وإن كان يُشترط في صحة البيع شرطُ قطعها، إذا أفردت بالبيع.
فصل
قال: "وكل ثمرةٍ وزرع دونها حائل ... إلى آخره" (3).
3049 - مضمون الفصل الكلامُ في بيع الحبوب المستترة والبارزة، فأما الحبوب
البارزة كالشعير، فيجوز بيعُها في سنبلها تعويلاً على العِيانِ، وأما بيعُ المطعومات
__________
(1) أي سيأتي في كتاب العتق.
(2) في (هـ 2): التنفيذ.
(3) ر. المختصر: 2/ 170.

(5/153)


المستترة بقشورها، فالقول منقسمٌ فيها (1): فمنها ما يكون بقاؤها في استتارها، وصلاحُها في قُشورِها، كالرُّمان، والبيض، والجَوْز في القشرة الثانية الخشنة، فالبيعُ جائز؛ فإن صلاح لُبِّ الجَوْز وبقاءَه في قشرته، وكذلك في حشو البيض، وفي حب الرمان، ولا (2) التفات على المجفف من حبِّ الرمان؛ فإن المقصودَ الأظهرَ منه في طراوته ورطوبته، وبيعُ الجوز في قشرته العليا إذا جفَّت عليه ممنوع عندَ الأصحاب، وكذلك بيعُ الباقلاء إذا جف في قشرته العُليَا، ممتنع، واختلف القول في بيع الحِنطةِ في سنبلها وهي مستترة بغُلفِها من قصيل السنبلِ، وكذلك الرّز في قشرتها العُليَا.
ومجموع ما قيل فيهما ثلاثة أقوال: أحدُها - الصحةُ؛ فإن لاستتار الحبوب بغُلفِها أثرٌ في طول البقاءِ، بخلاف القشرة العليا من الجوز، والباقلاء.
والقول الثاني - لا يصح؛ لأن ذلك ليس غالباً في الاعتياد، فلا مُعتبرَ به.
والقول الثالث - أن البيعَ صحيحٌ في الرّز، باطلٌ في الحنطة؛ فإن مُعظمَ ادّخارِ الرز في قشرته في العادة.
واختلف أصحابنا في بيع الباقلاء الرَّطْب في قشرته العُليا، وهي المسمى (الفول) والظاهر التجويز، وقد صح أن الشافعي أمرَ بعضَ أعوانه ليشتريَ له الفولَ الرطْب.
وبيع الجوز الرطب في قشرته العُليا قرَّبه بعضُ الأصحاب من الفول؛ فإن تِيكَ القشرة تصُون رطوبةَ اللب، صيانةَ قشرةِ الباقلاء. والجوزُ عن الجواز أبعد؛ فإن الغرض منه في جفافه.
3050 - وحقيقة القول في هذه المسائل تَبِين بنكتة، وهي أنا إذا (3) جوزنا بيعَ الغائب، فكل ما ذكرناه يجوز بلا استثناء؛ فإنا نجوّز على بيع الغائب أن يقول: بعتُكَ الدِّرهمَ الذي في كفّي، أو الثوبَ الذي في كُمِّي؛ وهذا في الجهالة فوق الصور التي ذكرناها. فإن كان المحذور فيها الاستتار، فهذا من ضرورة بيع الغائب، وإن كان
__________
(1) في (هـ 2): ينقسم: فمنها.
(2) في (هـ 2): فلا.
(3) سقطت من (هـ 2).

(5/154)


المحذور فيها الجهالة، فهي متحققة في (1) بيع الثوب الذي في الكُمِّ، وليس يدرى أنه كرباس غليظ، أو ثوب رومِيٌّ.
ومن الأسرار في ذلك أن العِيان محيط ببيع الباقلاء اليابس في القشرة العُليا، ولكن المقصودَ مستورٌ على خلاف العادة.
وقد أطلق أئمة المذهب أن بَيعْ نَيْلِ المعدِنِ في أدراج ترابه ممنوع، وزعم المحققون أن هذا مفرع على منع بيعِ الغائبِ، وإلا فقد تحققت جهالة واستتار، مع إحاطة العِيان بالكل. وهذا غير بِدْعٍ في بيع الغائب، ولكن جرى رسمُ المفرعين بأن يُفرّعوا على قولٍ صحيح عندهم مسائلَ، ويبينوا أقوالَهم فيها، ولا يتعرضون للقول الثاني.
3051 - فحاصل المذهب أن المسائلَ التي ذكرناهَا مصحَّحةٌ على جواز بيعِ الغائبِ، والقولُ فيها على قولِ منع بيع الغائبِ منقسمٌ ثلاثةَ أقسام: أحدُها - أن يكون استتارُ المقصودِ بحيث يظهر مسيسُ الحاجَةِ إليه، وتغلب العادةُ فيهِ، كالبيض، والجوز، واللَّوْز إذا بيعت في قشرَتها التي هي صوانُها.
والقسم الثاني - ما يضطرب النظر فيه في اشتداد الحاجةِ إلى احتمال الاستتار، وهو كالحنطةِ في سنبلِها، والرّز في قشرِهِ، والفولِ الرطب، والجوزِ الرّطبِ في قشرتها العُليا، وراء قشرتها الخشنة، فالرأي يضطرب في تحقيق إظهارِ الحاجة في هذه المسائل، فاختلف المذهبُ لذلك.
والقسم الثالث - استتار وجهالةٌ من غير حاجةٍ، ولا استمرار عادة، كالباقلاء اليابس في القشرةِ العُليا، فلا حاجة إلى هذا الاستتار، ولا عادةَ فيهِ، فاقتضى مجموعُ هذا القطعَ بمنع البيع، وردِّ الأمرِ إلى منع بيع الغائب.
فلتُفهم هذه المسائل على هذا الوجه.
3052 - وذكر الأئمة أن بيع لحم الشاة الذكيَّةِ في جلدِها قبل السلخ ممتنعٌ، وهذا الامتناع يجري على القولين جميعاً؛ من جهة أن الاستتار لا يزول إلا بقطع جزءٍ
__________
(1) في (هـ 2): وبيع.

(5/155)


وتفصيله؛ فإن السلخ قطعُ الجلد (1) الملتئم على اللحم عنه. وسيأتي لهذا نظائر عند ذكرنا بيعَ جزءٍ من نصْلِ أو خشبةٍ، وكان لا يتأتَّى تَسليمُ المسمَّى مبيعاً إلا بقطعٍ وتفصيل. ولعلَّنَا نُعيد هذه المسألة ثَمَّ -إن شاء الله تعالى-
وكان شيخي يقطع بمنع بيعِ الجَزَرِ، والسلقِ، والفجلِ، في الأرض. وهذا مفرعٌّ على منع بيع الغائب، وإذا جوزناه، صححنا البيعَ في هذه الأشياء، حسب تصحيحنا بيعَ الأشياء المدفونة في الأرض، إذا كان لا يَعسُر إخراجُها.
فصل
قال: "ولا يجوز أن يَستثني من التمر مدّاً ... إلى آخرِه" (2).
3053 - إذا باع ثمرةَ بستان إلا مدَّاً، فالبيع باطل، نصَّ عليه الشافعي -رحمه الله- في كتبه الجديدة، والقديمة، والسببُ فيه أن الثمار المشارَ إليها، ليست معلومةً بكيلٍ، ولا وزن، وإنما التَّعويل في إعلامها على العِيان، فإذا استثنى منها مقداراً، اختل به ضبطُ العِيان، فلا يُشار إلى شيء من الثمارِ إلا وللمُدِّ المستثنى منه نصيبٌ.
ولو استثنى من الثمار جُزءاً، كالنصف والرّبع، صح؛ فإنّ هذا لا يُخلّ بضبط العِيان؛ إذ لا يشار إلى شيءٍ من الثمار إلا وينتظم فيه القول بأن المبيعَ منه نصفُه مثلاً.
وعبَّر الشافعي عن هذا، وقال: "استثناء المقدار المعلوم عن المجهول يُكسبُه جهالةً لا تحتمل".
3054 - ولو أشار إلى صُبرةٍ في البيع (3)، وقال: بعتُك هذه الصُّبرة إلا مُدّاً، فإن كانت مجهولةَ الأمدادِ، فالجواب فيها كالجواب في الثمارِ، ولو كانت الصُّبرةُ معلومةَ الأمداد، فالبيع صحيح، والاستثناءُ ثابتٌ، ولا حاجة إلى ذكر أمدادِ الصُّبرةِ لفظاً،
__________
(1) في (هـ 2): " قطع اللحم الملتئم على اللحم عنه ".
(2) ر. المختصر: 2/ 171.
(3) ولو أشار إلى صُبرة في البيع: كذا في النسختين (البيع) وواضح أنها بمعنى المكان الذي يعرض فيه المبيع، أو الذي تحفظ البضاعة فيه.

(5/156)


بل يكفي أن يكونَ المتعاقِدان عالمين بمبلغ الأمداد.
ولو قالَ: بعتُكَ صاعاً من هذه الصّبرة، فإن كانت معلومةَ الصيعان، صح البيعُ.
واختلف الأئمةُ في تنزيله، فقال طوائفُ منهم: هذا بمثابة بيعِ جزءٍ من جملةٍ، حتى لو كانت الصُّبرة مائةَ صاع، فالبيع عُشر العُشر، وأثر هذا أنه لو تلفَ من الصُّبرة شيءٌ يقسط على المبيع والباقي. وهذا اختيار القفال.
وقال قائلون: ليس بيعُ صاعٍ محمولاً على مذهب التجزئة، ولو تلف شيء لم يتقسَّط التالف على المبيع وغيرِه، بل يبقى المبيعُ مَا بقِي صاعٌ؛ فإن البائع ما أخرَج بيعَ الصاعِ إخراجَ بيعِ الجزء من الأجزاء، والمقاصد هي المرعيّة.
هذا إذا كانت الصُّبرة معلومةَ الصِّيعان.
فأما إذا كانت مجهولةَ الصيعانِ، فقال: بعتك صاعاً منها، فهذا خارج على التردد في تنزيل بيع الصاع في صُورةِ العلم بمبلغ الصيعان، فإن نزلنا الصاعَ على الجزء، وبنينا عليه تقسيط التالف على المبيع والباقي، فالبيع على هذا المسلك مع الجهل بالصّيعان باطل؛ فإنه [بيعُ] (1) جزءٍ مجهولٍ، واستدَلّ القفال عليه بما لا دفع له، فقال: لو قُسمت الصُّبرةُ أمداداً، ومُيّزت، ثم قالَ مالكها بعتُكَ مُداً منها، فالبيعُ باطل، ولا فرق بين أن يتميز كذلكَ [وبين أن] (2) تجتمعَ. وهذا (3) هو القياس.
ومن نزَّل بيعَ الصاع في صُورةِ العِلم على الإبهام، لا على الجُزئية، صحح البيعَ في المُدّ من الصُّبرة المجهولة الأمداد، قائلاً: إن المبيع معلومٌ، ولا ننظر إلى الجزئية، ثم لا يقضي هذا القائلُ بتلف المبيع، ما بقي من الصُّبرة مقدارُ المبيع.
والقفالُ يقول: هذا خارجٌ عن الإشاعةِ، والتعيينِ، والوصْفِ، وإحاطةِ العيان.
ثم قال: لا فرق عندي بين بيع شيء مجهولِ القدر مضبوطٍ بالعِيانِ يستثنى منه مقدارٌ
__________
(1) مزيدة من (هـ 2).
(2) في الأصل: "كذلك أو تجتمع". ورجحنا (هـ 2) لما عهدناه في أسلوب إمام الحرمين من تكراره لـ (بين) مع الاسم الظاهر، على خلاف المشهور.
(3) في (هـ 2): فهذا.

(5/157)


وبين بيعِ مقدَّرٍ مُضافٍ إلى مجهول القدر مضبوط (1) بالعِيان.
3055 - ولو قالَ: بعتُك عشرةَ أذرع من هذه الأرض، وهي مجهولةُ الدُّرعان، فقد أطبقَ الأصحابُ على بطلان البيع، واعتَلُّوا بأن جوانبَ الأرضِ تتفاوت، وصيعانُ الصُّبرة لا تتفاوتُ. وإن كانت الأرضُ معلومةَ الدُّرعانِ، فالقفال يحمل البيع على الجزئية، ويصححه، ومن لا يرعى مذهبَ الجُزئية في الصاعِ، حكَمَ ببطلان البيعِ هاهُنا؛ فإن الذرعان متفاوتةٌ.
وسنذكر مسألةَ الأرض ونظائرَ لها في بابٍ وثَمَّ تتبينُ حقيقتُها.
3056 - قالَ الشافعي: لو قال بعت منك ثمرةَ هذا الحائط بثلاثة آلاف درهم إلا ما يخص ألف درهم، فإن أرادَ إلا ما يخص ألف درهم من الثمن، فقد باع الثُّلثين بألفين، وصح العقدُ. وإن أراد بالألفِ المذكورِ في صيغة الاستثناء جُزءاً من قيمة الثمارِ لو قُوِّمت، فالبيع باطل؛ فإن الاستثناء على هذهِ الصفَةِ يَجُرُّ جَهالةً. وهذا بيّن لا خفاء بهِ.
فصل
قال: "ولا يرجع من اشترى الثمرةَ وسُلمت إليه بجائحةٍ ... إلى آخره" (2).
3057 - إذا اشترى الرجل الثمارَ بعدَ بُدوّ الصلاحِ بشرطِ التبقيةِ أو مُطلقاً، وقد تقرَّر أن مقتضى الإطلاق التبقيةُ، وسلم البائعُ الثمارَ على الأشجار إلى المشتري.
فنذكر قبل الخوض فيما قيل في وضع الجوائح أصلين لا خِلافَ على المذهب فيهما: أحدهما - أن المشتري يتسَلّط على التصرفِ في الثمار بسبب القبضِ من كل الوجوه. والأصل الثاني - أن البائعَ يلزمُهُ سقْيُ الأشجار إذا كان نموُّ الثمار به، وهذا يُشعِر ببقاء عُلقة على البائع من حق العقد؛ فإن إيجابَ السقي للتنمية من حكم إتمام التسليم، وكأنَّ المستحقَّ على البائع أن يَسْعَى في تسليم الثمار على صفةِ الكمالِ.
__________
(1) في (هـ 2): معلوم.
(2) ر. المختصر: 2/ 172، 173.

(5/158)


فإذا وضح هذا فلو اجتاح الثمارَ جَائحةٌ سماوية من صاعقة، أو حرٍّ أو بَردٍ، وما ضاهاها من العَاهاتِ، فما يتلف من الثمارِ بسبب الجوائح أهي من ضمان البائع أم من ضمان المشتري؟
المنصوص عليه في الجديد أنه من ضمان المشتري وهذا هو القياس؛ فإنّ ما جَرى من التسليم إليه سَلّطَه على التَصرُّفات المفتقرة إلى كمالِ القبضِ، فدل على حصول القبضِ كاملاً، وهذا يتضمَّن احتسابَ التالف على المشتري.
والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في القديم- أن ما يتلف بالجوائح، فهو من ضمان البائع، فإن تلفت الثمارُ بجملتها، انفسخ البيعُ، وارتد الثمن إلى المشتري، ولو تلف بعضُها، انفسخ البيعُ فيه، وخرج القولُ في الباقي على قَوْلَيْ تفريقِ الصفقةِ.
وهذا القائل احتج بما رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع السنين" "وأمر بوضع الجوائح" (1) وقد عرض هذا الحديث على الشافعي فقال: هذا الحديث رواه سفيان بن عُيينةَ عن [حُمَيْد] (2) بن قيس عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد اللهِ مراراً، ولم يذكر وضعَ الجوائح، ثم روى وضعَ الجوائح، وقال: "كان قبله كلامٌ [فنسيتُه] (3) ثم رأيت أَروي ما أذكر"، قال الشافعي: فلعلَّ الكلامَ الذي كان (4) قبله شيء يدل على أن وضع الجوائح مستحبٌّ، لا واجب. ثم قال الشافعي: لولا أن سفيان وهَّن الحديثَ الذي رواه لقُلتُ به، وأراد بتوهينه إياه سكوتَه عن رواية وضع الجوائح أوّلاً، ثم تردُّدُه في كلامٍ كان قبل وضعِ الجوائحِ.
__________
(1) النهي عن بيع السنين، والأمر بوضع الجوائح، ورد كل منهما في حديث خاص، الأول عند مسلم عن جابر بن عبد الله: البيوع، باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، ح 1536، ورواه أيضاًً: أبو داود والترمذي والنسائي، وابن حبان. وحديث وضع الجوائح عن جابر أيضاًً، ورواه مسلم: كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح، ح 1554. وراجع التلخيص: (3/ 40 ح 1176، ص 71 ح 1222).
(2) في النسختين (حمد). والصواب حميد (مصغراً) كذا في مسلم.
(3) في الأصل: فنسيه.
(4) ساقطة من (هـ 2).

(5/159)


ورُبما يتمسَّك ناصر القول القديم (1) بما قدَّمناه في صدرِ الفصلِ من وجوب السقي على البائع، وانفصل عن تسلط المشتري على التصرف، بأن قال: لا يمتنع أن ينفذَ التصرفُ، وإن كان لو قُدِّر التلفُ، فالتلفُ (2) من ضمان المُمَلِّك (3) كالدار المستأجرة إذا قبضَها المُستأجر، فإنه يتصرّفُ فيهَا، ولو انهدمت الدار، انفسخت الإجارة في بقيّةِ المدّة.
وناصرُ القولِ الجديد يقول: البيع يستدْعي قبضاً كاملاً، والإجارةُ تصح من مالك الرقبة في حَال عَدمِ المنافع؛ فلا يَسوغُ اعتبار أحد العقدينِ بالثاني.
التفريع على القولين:
3058 - إن قلنا: التالفُ بالجوائح من ضمان المشتري، فلا كلام.
وإن قلنا: إنه من ضمان البائع، فهذا يطّرد إلى أوان القطافِ. فإن أخَّر المشتري القِطافَ تأخيراً يُعدّ به متوانياً مقصّراً، فما يقعُ في هذا الزَّمن، لا يكون من ضمان البائع قولاً واحداً؛ فإن المشتري منتسب (4) إلى التقصير في تأخيرِ القِطاف. فشابه هذا ما لو اشترى الثمارَ بشرط القطعِ، ثم لم يقطع؛ فاجتاحته الجوائح، فالتلفُ من ضمانِ المشتري إذا وقعَ بعد التسليم إليه. ولو حان وقتُ القِطاف ولكن ليس يُعدُّ (5) مؤخِّرُه في اليوم واليومين متوانياً [وقد] (6) يُعدُّ مُتَشوِّفاً إلى مزيدٍ في نَشْفِ (7) رُطوبة فِجَّةٍ (8) لا يستقلّ بنَشْفِها الجرين، فلو جَرت الجائحةُ في هذا الزمان، فظاهِر المذهبِ أن التالفَ من ضمانِ المشتري، ولا يخرج القولان، وإنما محل جريانِهما فيما قبل أوانِ
__________
(1) ساقطة من (هـ 2).
(2) في (هـ 2): فإن التالف.
(3) " المُمَلِّك ": أي الذي مَلك حق التصرف للمشتري والمستأجر.
(4) في (هـ 2): متسبب.
(5) ساقطة من (هـ 2).
(6) في الأصل: ولا يعدّ.
(7) نشف كسمع، ونصر، منه متعدِّ ولازم: نشِفَ الثوبُ العرقَ، ونشف العرقُ (قاموس).
(8) الفج بكسر الفاء غير الناضج (معجم)، ووصفت الرطوبة بالفجاجة، لأنها سببها.

(5/160)


القطافِ. وفي بعض الطرق رمزٌ إلى إلحاق هذا الزمن إذا لم ينتسب المشتري إلى التقصير بالزمان المقدَّم على القطافِ.
وعلى نحو هذا تردَّدوا في أمَدِ السقي الواجب على البائع، فأوجبوه على الوجه الذي ينفع قبل أوانِ القطاف، ورتبوا الكلامَ بعدهُ على ما ذكرناه.
3059 - ومما يتفرع على قول وضع الجوائح: أن الآفة لو لحقت الثمار من جهة سارق، فلأصحابنا وجهان على قولنا بوضع الجوائح: أحدهما - يوضع المسروق وضعَ الجائحة السماوية. وهذا ضعيف وإن كان مشهوراً في الحكاية؛ فإن السرقةَ نتيجةُ ترك التحفظ، [واليدُ] (1) للمشتري (2)، ولا نعرف خلافاً أنه لا يجب على البائع نَصْبُ ناطور على الثمار إلى جدادِها، ولستُ آمنُ أن يمنعَ ذلك (3) من يصير إلى الوجه البعيد من أن الفائت بالسرقة موضوع عن المشتري وهو من ضمان البائع.
ومما يتفرع على القولين أن الثمارَ لو عابت بالجوائح ولم تتلف، فثبوتُ الخيار للمشتري يبتني على الحكم بانفساخِ العقدِ لو تلفت الثمار، فلو حكمنا بالانفساخِ عند التلف أثبتنا الخيارَ للمشتري بالعيب، وإن لم نحكم بالانفساخ عند التلف، لم يثبت الخيار عند العيب.
3060 - ومن أهم ما نفرّعُه وفيه تمام البيان أن نقول: كل ما ذكرناه في آفاتٍ سماويّة لم يكن سببُها تركَ السَّقي من البائع.
فأما إذا ترك البائعُ السقيَ، فتلفت الثمارُ لتركه السقيَ، فللأصحاب في ذلك خبط، ونحن نفصله بعون اللهِ وتوفيقه، فنقول: أولاً - إذا تلفت الثمار بسبب تركِ
السَّقي، ولم يَشعر المشتري (4 بحقيقةِ الحالِ 4)، فلأصحابنا طريقان: منهم من قالَ: نقطعُ القولَ بانفساخ العقد، ورَدِّ الثمن؛ من جهة أن الآفةَ استندت إلى ترْك السقي
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(2) ساقطة من (هـ 2).
(3) " ذلك " إشارة إلى عدم وجوب نصب ناطور على البائع.
(4) ما بين القوسين ساقط من: (هـ 2).

(5/161)


المستحق بالعقدِ، فصارَ كما لو جَرى التلفُ مقدّماً على التسليم، وما يستند إلى سبب سابق في العقدِ يتنزل منزلةَ ما لو سبق هو بنفسه. والدليل عليه أن البائع لو أبرأ المشتري عن شيءٍ من الثمن، لم يسقط ذلك عن الشفيع، ولو حُطّ مقدارٌ من الثمن أَرْشا لعيبٍ قديمٍ كان، فهو محطوط عن الشفيع لمكان استنادِه إلى العيب المقترن بالعقدِ.
ومن أصحابنا من أجرى المسألةَ على قولين وإن كان التلف بسبب ترك السقي، ذكرهُ صاحب التقريب، وأورده الصيدلاني على وجهٍ سأُنبّه عليه بعد الفراغ عن الترتيب الذي أريده.
وهذا الاختلافُ قريبُ المأخذِ من أصلٍ سيأتي في باب الخراج: وهو أن من اشترى عبداً مُرْتدّاً وقبضه، ثم قُتل بالردة في يده، فهذا التلفُ بعد القبضِ، ونفوذِ تصرّفِ المشتري، ولكنه مترتب على سبب سابق. فإن قلنا: العقد ينفسخ، فلا كلام. وإن قلنا: العقد لا ينفسخ، فسببُ التلفِ تَرْكُ السقي وهو اعتداءٌ من البائع.
وإذا ترتب التلفُ على سببِ عدوانٍ، تعلق به الضمانُ، فالوجه أن نقول: إن لم يطلع المشتري على حقيقة الحالِ، حتى تلفت الثمار، فيضمنُ البائعُ لا محالةَ.
3061 - وإن بدا عَيْبٌ بالثمارِ لترك السقي، فكيف الوجه فيهِ؟ قال الصيدلاني: للمشتري أن يرد بالعيب، وزاد فقالَ: لو انقطعَ الماءُ، فله الرد بمجرد انقطاعِ الماءِ، ثم استتم الكلامَ فقال: إن فسخ، فلا كلامَ. وإن لم يفسخ حتى تلفت الثمارُ، ففي وضع الجوائح قولان.
وهذا كلام مختلِطٌ، فانَّ ثبوت الخيار فرعُ وضع الجوائح، كما قدمتُه في التفريع على القولين. وكلام الصيدلاني يدل على أن الخيار يثبت على القولين. وهذا على إشكالهِ متفقٌ عليه من الأصحاب.
فإذا عابت الثمارُ بسبب تركِ البائع السقيَ، فللمشتري الخيارُ، وإن حصل العيب بعد التسليم، ووقع التفريعُ على أن الجوائح لا توضع، وأن التالف بالآفة السماوية من ضمان المشتري، وتعليلُ ثبوتِ الخيارِ مع ثبوتِ اليدِ للمشتري تفريعاً على القولِ الجديد أن الشرع ألزمَ البائعَ تنميةَ الثمار بحكم العقدِ، فيصير العيبُ الحادثُ بهذا

(5/162)


السبب كالعيب المتقدم على القبضِ، وهو في ظاهرِ الأمر مشبه بخيار الخُلف؛ فإن الصفةَ المشروطةَ لا تستحق بمطلق العقد، وإذا شُرطت وأُخلِفت، ثبت الخيارُ. فإذا فُرض العيب في الثمارِ بسبب ترك السقي، فكأنا نقول: أجزاءُ الثمار كانت تزيد لو سُقيت، فإذا لم تُسقَ، فتركُ السقي تضمّن ألا تؤخذَ تيك الزوائدُ التي كان التزمَ التسببَ إلى وُجودِها، وهي تُضاهي على هذا الترتيبِ منافعَ الدار المُستأجرةِ، فإنها ستوجد شيئاً فشيئاً، والدار مسلّمة بنفسها.
3062 - ثم يَبِينُ حاصلُ المذهب بذكر صُورتين: إحداهُما - أن من اشترى عبداً مرتداً على علمٍ بردتهِ وقبضه، فلا ردَّ له لمكان علمهِ. فلو قُتلَ في يدهِ، ففي الانفساخ وجهان.
والصورةُ الثانيةُ - أن يشتريَ عبداً مرتداً ولا يدري رِدَّتَه، فإذا اطلع على رِدته، ردّهُ بالعَيب (1)، ولو قُتل لردّتِه قبلَ علمهِ، ففي الانفساخ وجهان أيضاًً، ولكن بالترتيب على صورة العلم، فالخيارُ يختصُّ ثبوتُه بالجهلِ بالردة، والانفساخ على الاختلاف في حالتَي العلم والجهل.
3063 - فإذا ثبتَ ذلك، قلنا بعدهُ: التلفُ بآفةٍ سماوية فيه القولان، والأصح أنه من ضمان المشتري، ويمكن أن يقرب من مسألة الردّة، من جهة أنه تعرض [للآفة] (2) تعرّض المريض، ولو اشترى عبداً مريضاً، فتلف بذلك المرض، فقد خرّجَ بعضُ الأصحاب هذا على الخلاف في قتل العبدِ المرتدّ في يد المشتري.
ولو كان هلاكُ الثمارِ وتلفُها بسبب ترك السقي، فلا يبعد الخِلاف في الانفساخِ، لمكان يد المشتري، أما الخيار فسبَبهُ استحقاقُ حق السقي على البائع، مع عدم الوفاء به. ولو اشترى عبداً مرتداً، ولم يكن عالماً بردتهِ، فلما علم لم يَردّه بالعيبِ، فيبطل خيارُه، فلو قتل بالردّةِ، فالأمر على خلافٍ في الانفساخ، كما لو علم بالردة حالةَ الشراء.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2).
(2) في الأصل: الآفة.

(5/163)


كذلك إذا عابَت الثمارُ بتركِ السقي، نظر: فإن لم يشعر المشتري حتى تداعَى الأمرُ إلى التلف، فلا خيارَ بعد التلفِ، والانفساخُ على الخلاف. ولكن إن حكمنا بالانفساخ، ارتدَّ الثمن إلى المشتري، وإن قُلنا: لا ينفسخ وقد انقطع الخيار من غير تقصير من المشتري في ترك الفسخ، فعلى البائع قيمةُ الثمار إن لم تكن من ذوات الأمثال، وإن جعلناها من ذوات الأمثال، فعليه المِثل، ويصيرُ تركُ السقي منه بمثابة جنايةٍ ذاتِ سَريان، فإذا تمت السرايةُ وتحقق التلفُ، وجب ضمان التالف على الجاني. هذا إذا لم نحكم بالانفساخ، ولم ينتسب المشتري إلى ترك الخيارِ.
فأمَّا إذا علم المشتري بالعيب وترتُّبه على ترك السقي، فله الخيار، فلو رضي، بطل خيارُه، فلو تَداعَى العَيبُ إلى التلفَ، فإن قُلنا: ينفسخ العقد. فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ، فهل يغرَم البائع بدل التالفِ لعدوانهِ، فعلى جوابَين أشار إليهما الأئمة: أحدهما - أنه لا يغرَمُ شيئاً، وكان من حق المشتري أن يفسخَ؛ إذْ أثبت الشرعُ له خياراً. والثاني -[أن عِوضَ الثمار يجب على البائع لعدوانه، وموجَبُ العدوان] (1) لا يسقط بترك المتخيِّر خيارَه.
وهذا يقرب مما قَدَّمناه في أثناء فصل الحجارة المستودَعة، فإنا قلنا فيها: إذا علم المشتري أن ضرراً سيلحَقُه بسبب القلع، فله الخيار، فلو لم يختر والحالةُ هذه، ونقل البائع، فهل يغرم المشتري ما ينقصه القلعُ؟ فيه أوجهٌ ذكرتُها ثَمَّ.
فهذا ترتيبُ القولِ في الجوائح والآفات التي تلحقُ الثمارَ، ما غادرنا غامضةً إلا غُصنا عليها.
فإن قيل: إذا أوجبتم على البائع قيمة ما تلف، فقد حططتم عنه شيئاً؛ فإنه التزم شرعاً تنميةَ الثمارِ وتبليغَها المنتهى، ولولا ما جرى، لانتهت الثمار إلى غايتها، فهلا غرّمتم البائعَ عوضَ الرُّطب الكاملِ مثلاً، أو قيمته، ولم اجتزأتم بتغريمه عوض البلحِ (2) أو المذنبِ (3)؟ قلنا: إذا كنا نُلزمُه بطريق الإتلاف، فلا نلزمُه إلا عِوضَ
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) البلح: ثمر النخل، مادام أخضر، قريباً إلى الاستدارة، حتى يغلظ النوى. (مصباح).
(3) المذنَّب: ثمر النخيل إذا ظهر فيه شيء من الإرطاب من قبل ذنبه. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي).

(5/164)


ما تلف، ولا ننظر إلى ما كان يكون لولا التلف، فإنَّ كل ما (1) يُتلَف بلحاً على إنسان بهذه المثابة.
وهذا تمام البيان في ذلك.
* * *
__________
(1) كذا في جميع النسخ (ما). والمعنى أن كل مُتْلَفٍ يراعى في تضمينه حالة الإتلاف، لا القيمة التي سيكون عليها مستقبلاً.
وقد تكون (ما) مستخدمة هنا للعاقل بمعنى (من)، وذلك سائغ.

(5/165)


بَابُ المُزابَنةِ وَالمحاقَلَةِ
3064 - المحاقلةُ معناها بيعُ الحَب في السنبل بالحنطة على تخمينٍ في المساواة، وهذهِ المعاملةُ باطلةٌ وِفاقاً، ونَهْيُ النبي صلى الله عليه وسلم محمولٌ عليها.
وفي البَابِ النهي عن المزابنة، ومعناها عند الأئمة بيعُ الرطب على رؤوس الشجرِ بالتمر الموضوعِ على الأرض، وهذا على صورة المحاقلة في الزرع.
وبيعُ العَرايا من قبيل المزابَنةِ التي أجملنا ذِكرَها. وهو صحيحٌ، كما سيأتي في الباب الذي يلي هذا. وفيه يبينُ تميّز ما يصح عمَّا يفسُد.
والمحاقلةُ مأخوذةٌ من الحقل، والحقلُ ساحةٌ تزرع، وسُمّيت المعاملة محاقلةً، لتعلقها بزرعٍ في حقل.
والمزابنة معناها المدافعةُ والزَّبْنُ الدفع، سُميت المعاملة بذلك لأنها إذا ابتنت على تخمينٍ في التقدير أورثت في عقباها تنازعاً، وتدافعاً بين المتعاقدَيْن.
ولو باع الرجل الزرعَ قبل بَدْوِ (1) الحبّ فيه بالحنطة، فلا بأس؛ فإن الزرع حشيشٌ بعدُ غيرُ معدودٍ من المطعومات، وهذا [لا خفاء به] (2).
* * *
__________
(1) بَدْو: ظهور. وهو مصدر: بدا يبدو. بُدُوّاً، وبَدْواً.
(2) في الأصل: وهذا (غير لاحق به).

(5/166)


بَابُ بَيع العَرَايا
قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن داود بن الحُصين عن أبي سفيانَ مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرخَصَ في بيع العَرايا فيما دون خمسةِ أوسق، أو في خمسة أوسق" الشك من داود ... إلى آخر الباب" (1).
3065 - إذا باع رجل الرطب على رؤوس الشجر بالتمر الموضوع على الأرض، وخرصَ الرطبَ قدراً، ثم قدّره تمراً، ثم باعه بخرصِه من التمر الموضوع على الأرضِ، وجرى البيعُ فيما دون خمسةِ أوسق، فالبيع صحيح عند الشافعي، ومعتمدُ البابِ الخبرُ الذي رَواه أبو هُريرة (2). وروى بيعَ العَرايَا على أكمل وجهٍ في البيان زيدُ بنُ ثابتٍ (3) كما ذكَرتُه في الخلاف.
ثم لا يجوز إيراد هذه المعاملةِ على أكثر من خمسة أوسق من التمرِ، ويجوز إيرادُها على دون خمسة أوسق، وفي تصحيحها في الخمسةِ الأوسُق تردّدٌ للشافعيّ وتميُّلُ قولٍ، ولفظه في المختصر: " وأَحَبُّ إليَّ أن تكون العريَّة أقلَّ من خمسة أوسق، ولا أفسخه في الخمسة، وأفسخهُ في أكثر ". فقطع بالصحة فيما دون الخمسَة وقطعَ بالفسادِ فيما زاد على الخمسة، ومال إلى الصحة في الخمسة، [وذكر أصحابنا قولين للشافعي مرسلين في الخمسة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 175، 176.
(2) حديث أبي هريرة: رواه الشافعي، في مختصر المزني: 2/ 175، ورواه البخاري: البيوع، باب بيع الثمر على رؤوس النخيل، ح 2190، وانظر الحديث رقم 2382، ورواه مسلم: البيوع، باب بيع الرطب بالتمر، ح 1541، وانظر التلخيص: (3/ 69 - 70 ح 1220).
(3) حديث زيد بن ثابت رواه الشافعي في المختصر: 2/ 176، 177، ورواه البيهقي في المعرفة: ح 2446، وانظر التلخيص: (3/ 70 ح 1221).

(5/167)


واختار المزني الفساد في الخمسة] (1)، وما ذكرهُ ظاهر متَّجه، فإن التعويل على الحَزْر. والخرصُ في طلبِ المماثلةِ في الربويات خارجٌ عن القياس، والذي نحكم بصِحَّته مستثنى عنه ملحق بالرخص، وقد ورد في بعض الألفاظ تصريح بهذا: رُوي أنه " نهى عن المزابنة وأرخص في العرايا " (2) الحديث.
3066 - وإذا كان كَذلك فالأصل أن يطّرد التَّحريمُ الثابت على موجَب القياس، والنهي المطلق عن المزابنة، ولا يثبت التصحيح في هذا النوع إلا على ثَبَتٍ، والروايةُ مترددة في الخمسة، وقد رَوينا في صدرِ الباب أن داودَ بنَ الحصين هو الذي تشكك، وإنما ذكرت هذا لأقطع وهمَ من يَعزِي هذا اللفظَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتقد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فيما دونَ خمسةِ أوسق، أو في خمسةِ أوسق" فإن هذا لو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكان تخييراً، فإذا كان التردُّد من الراوي، فالخمسةُ مشكوك فيها، ومعنا الأصلُ الثابتُ في التحريم، فينبغي أن نطردَه.
ومن قالَ بالتصحيح في الخمسةِ، وهو ظاهر النَّصِّ، فتوجيهه عسرٌ جداً، ولستُ أرَى طريقاً في التوجيه إلا أن تُحمَل المزابنَةُ على معامليما صادرة عن التخمين من غير ثَبَتٍ في الخَرْص، ولعلَّ المعاملةَ سُمّيت مزابنة لذلك، لاشتمالِها على المدافعة في غالب الأمر، ولا بُدّ وأن نتخيَّل الخرصَ متأصِّلاً في دَرْك المقادير، حتى ينقدِح لهذا القول وجهٌ.
ومنتهى الإمكانِ فيه أن الخرصَ معتبر في الزكاة، سيّما إذا جعلناه تضميناً، والماهرُ فيه يقلّ خطؤه، والأخرقُ بالكيل يتفاوتُ ما يكيله، والكيل بالإضافةِ إلى الوزن، كالخرص بالإضافة إلى الكيل. وفي كل حالة تقدير معتاد لائق بها، فليقم
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وانظر اختيار المزني في المختصر: 2/ 178.
(2) لفظ " أرخص في العرايا " ورد في حديث سهل ابن أبي حثمة، وقد رواه الشافعي في مسنده، ورواه أحمد: 4/ 2، وأخرجه البخاري: البيوع، ح 2191، ومسلم: البيوع، باب تحريم بيع الرطب بالتمر، ح 1540، وورد في حديث أبي هريرة السابق أيضاًً، ر. التلخيص: (3/ 69 ح 1219).

(5/168)


الخرصُ في الرطب الذي لا يمكن كيلُه مقامَ الكيل فيما لم يمكن كيلُه، والكيل على حالٍ أيسر من الوزن، والوزن أحصرُ من الكيل، فإذا احتمل الكيل ليُسرِه مع إمكان إجراء الوزن، فليُحتَمل الوزنُ، حيث لا يتأتى الكيل.
والشافعيُّ منعَ بيعَ التمرِ بالرطب لما تخيّلهُ من التفاوت عند تجفيف الرطب، ومتمسكه قولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: " أينقص الرطب إذا يبس " وهذه إشارةٌ من الشارع إلى المآل، فإذاً ما وراء الخمسة مردود بذكر الخمسة؛ فإن التقدير ينقصُ في اقتضاء المفهوم.
فهذا أقصى الإمكان في توجيه النص، وهو على نهايَةِ الإشكال.
3067 - ثم نفرّع على ما مهدناه مسائلَ، منها: أنه إذا اشترَى رجل في صفقاتٍ أَوساقاً كثيرة، وكل صفقةٍ لا يزيد مضمونُها على ما دون الخمسةِ، فالكل صحيحٌ، وحكم كل صفقة مأخوذٌ من مضمونها، لا تعلق لها بغَيرها.
ولو اشترى رجلان من رجل تسعةَ أوسق، فالبيع صحيح بلا خلاف؛ فإن إطلاق البيع يقتضي أن يملكَ كل واحدٍ من المشتريَيْن أربعةَ أوسقٍ ونصف، فلم يدخل في ملكِ كلّ واحد منهما إلا ما ينقصُ عن الخمسةِ.
ولو باع رجلان تسعة أوسق من رجل واحدٍ، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من أبطل البيعَ، وهو الذي اختاره صاحبُ التلخيص ووجهه أنه لو صح العقد، لدخل في مِلكهِ تسعةُ أوسقٍ بطريق الخَرْص دفعةً واحدة، وهذا يخالف مقصودَ الخبر، وإذا تحققت المخالفةُ، فلا فرق بين أن يتعدّدَ البائع أو يتَّحد.
ومن أصحابنا من صحح العقدَ، لأن الصفقةَ تتعدّدُ بتعدد البائع في العَهْد والردّ، فيجعل كأن المشتري اشترى أربعةَ أوسُقٍ ونصف في صفقة، واشترَى مثلَها في صفقةٍ أُخرى.
فترتيب المذهب إذاً أنه لو باع رجلان من رجلين، فاعتبار الخرصِ تسعةُ أوسق، فالبيع صحيح. ولو اشترى رجل من رجلين تسعة أوسق، فالبيع على الخلافِ. ولو اشترى رجلان من رجلٍ تسعةَ أوسق، فالبيع صحيح بلا خلاف.

(5/169)


3068 - ومما يجب التنبهُ له بعدما أعدنا الأقسامَ أنَّ الرجل الواحدَ إذا اشترى من رجلين شيئاً، واطلع على عيب، فالصفقةُ محمولةٌ على التعدد في حكم الردّ، وللمشتري أن يرد ما اشتراه من أحد البائعين، ويُمسِك الباقي.
ولو اشترى رجلان من رجل، واطلعا على عيبٍ، فهل ينفرد أحدُهما بالرد؟ فعلى قولين، سنذكرهُما في باب الخراج، فحكم الرد على مناقضة ما نحنُ فيه، والسبب في ذلك أن المرعي في كل أصل ما يليقُ به، وإذا اتحد البائع فقد تخيّل بعض العلماءِ أن المبيع خرج عن ملكه دفعة واحدة، فلو رجع إليه بعضُه، لكان خارجاً بعيبٍ عائداً بعيبين، وإذا تعدد البائع فردَّ المشتري تمامَ ملكِ أحدهما عليه، فردُّه لم يتضمن تبعيضاً عليه لم يكن قبل البيع، والمقصود المعتبر في بيع العرايا ألاَّ يملك الرجلُ دفعةً واحدةً خمسةَ أوسق، أو أكثرَ من خمسةٍ. وهذا الأصل يوجبُ ما ذكرناه من الترتيب في محلّ القطع والخلاف.
وقد انتظم من مجموع ما ذكرناه أنا في طريقةٍ نبغي ألاَّ نزيدَ على محل النصّ، وفي طريقة أخرى نثبت الخرصَ أصلاً، ولا يبعد تنزيلُه منزلةَ الكيل، ويفسد ما يفسد بالنصّ الدال على الفساد.
3069 - ونحن الآن نُخرّج على ما ذكرناه مسائلَ في الباب منها: أنه لو بيع الرطبُ الموضوعُ على الأرض المقطوفُ بخرصٍ من التمر، فإن بنينا الباب على الاتباع، فهذا ممتنع، فإن الخبر وردَ في الرطب على رؤوس الشجر. وإن جعلنا الخرص أصلاً سوّغنا هذا.
و [لو] (1) باع الرطبَ بالرطبِ على تقدير المُساواةِ بخرصهما تمرين، فقد ذكر العراقيون ثلاثة أوجه: أحدُها - المنعُ، وهو على طريقةِ الاتباع. والثاني - الجَواز، وهو على طريقة تسويغ الرأي، والقياس. والثالث - الفصل [بين] (2) أن يكون الرطبان، أو أحدهما على الأرض، وبين أن يكونا جميعاً على الشجر، فإن كانا
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.

(5/170)


جميعاً على الشجر، جاز؛ فإنه قد يكون لهما غرضٌ في استبدالِ الرطبين، بأن كان يهوى كلُّ واحدٍ منهما النوعَ الذي لصاحبه. وهذا لا يتحقق في الرطب الموضوع على الأرض؛ فإن الغرض الذي أشار إليه الخبرُ أن يبذل الإنسانُ فاضلَ قوتهِ من التمرِ، ويستبدل عنه رُطباً على الشجر يأكلُه، على مرّ الزمن، شيئاً فشيئاً مع أهله رطباً، وهذا لا يتحقق في الرطب الموضوع؛ فإنه بين أن يفسدَ، وبين أن يجفَّ.
3070 - ومن مسائل الباب أن الخبر الذي رواه زيدُ بنُ ثابت مختصٌّ بالفقراء، فإنه قال: " جاء طائفةٌ من فقراءِ المهاجرين والأنصار، وقالوا: إن الرطب يأتينا، وليس بأيدينا نقد، ومَعنا فضولُ قوتٍ من التمر ". الحديث. وظاهر المذهب أنَّ صحةَ بيع العَرِيّة لا يختص بالفقراء؛ فإن إرخاصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرية مطلق في الألفاظ، وما ذكرهُ زيدٌ حكايةُ حالٍ أداها على وجهِها.
وذكر بعضُ أصحابنا قولاً بعيداً أن صحةَ بيعِ العرايا تختص بأصحاب الحاجةِ، وهذا مذهبُ المزني.
وبيع الجاف بالرطب في سائر الثمار بناه الأصحابُ على القولين في أن الخرصَ هل يجري في ثمارِ سائر الأشجار؟ وفيه اختلافٌ قدّمتُه في كتاب الزكاة. فإن قلنا إنه لا يجري، فالبيع ممتنع لتحقق الجهالة، وإن قلنا: يجري الخرصُ فيهَا، فبيعها باعتبار الخرص يخرج على الخِلافِ المقدم، في الاتباع وطريق الرأي، فمن سلكَ الاتباع منعَ البيعَ، ومن جوَّز الرأيَ سوَّغ هذا. وحق الفقيه أن لا يغفل في تفاصيلِ المسائلِ عما مهدناه في كتاب الزكاة من تفصيل القول في بيع الثمار، وفيها حقُّ المساكين، ولا حق فيها. والتنبيه كافٍ.
* * *

(5/171)


باب بيع الطعام قبل أن يُستوفى
قال الشافعي: "أخبرنا مالاً عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتاع الطعامَ لا يبعْه حتى يستوفيَه". قال ابنُ عباس: أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الطعام أن يباعَ حتى يكتال، قال ابن عباسٍ برأيه: ولا أحسِب كلَّ شيءً إلا مثلَه ... إلى آخره" (1).
3071 - الأصل في الباب الحديث الذي رواه الشافعي (2) ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى عتاب بنِ أَسِيد "انهَهُم عن بيعِ ما لم يقبِضُوا وربحِ ما لم يضمنوا" (3) ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيعِ ما لم يُقبَض، وربح ما لم يُضمن " (4).
ومأخذ الباب يستند إلى أصولٍ منها: بيانُ حكم الضمانِ، فالمبيع قبل التسليم إلى المشتري من ضمان البائع، والمعنيُّ به أنه لو تلف، انقلب إلى ملكهِ قبل التلف، ولذلك ينفسخ العقد، كما سنقرره في باب الخراج، ومن أثر الضمان أنه لو عاب المبيعُ، ثبت الخيارُ للمشتري، ونزل العيب الطارىء في يد البائع منزلةَ العيب المقترن بالعقد، حتى كأن العيبَ حَدَثَ في ملكهِ، ثم طرأ البيعُ.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 180، 181.
(2) الحديث الذي رواه الشافعي، متفق عليه من حديث ابن عمر، بهذا اللفظ، وغيره، البخاري: البيوع، باب ما ذكر في الأسواق، ح 2124، وأيضاًً، ح 2126، 2133، 2136، ورواه مسلم: البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، ح 1526.
(3) حديث كتاب عتاب بن أَسِيد، رواه ابن ماجه: التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، ح 2189، والبيهقي في السنن: 5/ 313.
(4) رواه ابن ماجه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. (التجارات، باب النهي عن بيع ما ليس عندك، ح 2188) وراجع في هذا الحديث وما قبله التلخيص: (3/ 59، 60، أحاديث 1203، 1204، 1205، 1206).

(5/172)


فهذا أحد الأصول.
وينشأ منه الحكم بضعف ملك المشتري.
وقد جمع الشافعي بين الضمان وضعفِ ملك المشتري.
وممَّا يتردد الكلام عليهِ كونُ المبيع محبوساً بالثمن على قولٍ، ثم إذا سَلّمَ المبيعَ إلى المشتري، قيل: انتقل الضمان إليه، والمعنيُّ به استمرارُ ملكه، حتى لو فرض تلَفٌ أو عيبٌ، كان محسوباً على المشتري.
فإذا ثبتت هذه التراجم، فنجري بعدها على ترتيب السواد (1)؛ فنذكر تصرفات المشتري في المبيع، ونذكرُ بعدها تفصيلَ القول في كل مقبوض، ثم نندفع في مسائل الباب.
3072 - فأما القول في التصرفاتِ، فبيع المشتري في المبيع قبلَ القبض مردودٌ، والأخبار شاهِدة، وذكر الفقهاءُ في ضبط المذهب أن الضمانَين لا يتواليان، وعَنَوْا به أنا لو قَدّرنَا نفوذَ بيع المشتري في المبيع قبلَ القبض، لكان مضموناً على البائع الأول للمشتري، ثم يكون مضموناً على المشتري الأول للمشتري الثاني، ولا حاجة إلى هذا مع الخبرِ، وما أشرنا إليه من ضعف المِلك، بسبب ثبوت الضمان على البائع.
وامتناعُ البيع في المبيع قبل القبضِ ليس معلَّلاً بحق البائع؛ فإن البائع وإن رضي ببيع المشتري، لم ينفذ بيعُه، والغالب على هذا الأصل التعبُّدُ.
ثم لا فرقَ بين أن يقدَّر البيعُ قبل توفيةِ الثمن على البائع، وبين أن يقدَّر بعدَها؛ فإنَّ امتناع البيع ليس مبنياً على حق البائع.
__________
(1) مرةً ثانية تقابلنا لفظة "ترتيب السواد"، ولا ندري المقصود بها. وإن كنا نظن ظناً أن المراد سوادُ المؤلفات والمصنفات. مجرد ظن لا قرينة تعين عليه.
بل ترجح عندنا إلى ما يشبه اليقين أن (السواد) هو مختصر المزني. أما لماذا يسميه السواد، فلم نصل إلى تفسيرٍ له.
قلت: هذا التعليق كتبته قبلاً على مرتين -كما يظهر من قراءته- بينهما فترة زمنية ربما تصل إلى سنوات، فقد استغرق العمل في هذا الكتاب أكثر من عشرين عاماً.
والذي نزيده اليوم هو ما أخذناه عن شيخنا أبي فهر "أن لفظ (السواد) يستعمل بمعنى الأصل والمتن، وعليه شواهد، وإن لم يكن منصوصاً فيما بين أيدينا من معاجم".

(5/173)


هذا تفصيل البيع.
3073 - ولو أعتق المشتري العبدَ المشترَى قبل القبض، فالذي قطعَ به الأئمةُ أن العتقَ ينفذُ بعد توفيةِ الثمن على البائع؛ فإن العتقَ ليس تصرفاً يقتضي ضماناً، وقد صَادفَ ملكاً لازماً، من غير اعتراضٍ على حق الغير. وفي بعض التصانيف رمزٌ إلى وجهٍ بعيدٍ، في أن العتقَ لا ينفذ. وهذا لا وجهَ له.
فأما إذا أعتق المشتري العبدَ قبل تَوْفية الثمن، فإن قلنا: ليس للبائع حق حبس المبيع، (1 فالعتقُ ينفذ نفوذَه بعدَ توفيةِ الثمن. وإن أثبتنا للبائع حقَّ حبس المبيع 1)، ففي نفوذ عتق المشتري ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنه ينفذ لمصادفته ملكَ المعتِق. والثاني - لا ينفذ لتضمنه إبطال حق البائع من الحبس. والثالث - أنه يفصل بين أن يكون المشتري موسراً بالثمن، وبين أن يكون معسراً. وهذا الوجه ذكره صاحب التقريب، وذكر مثلَه في إعتاق الراهن. والخلافُ في ذلك كالخلافِ في عتقِ الراهن. وكان شيخي يجعل عتقَ المشتري أَوْلى بالنفوذ من عتق الراهن؛ من جهة أن حقَّ الحبسِ يثبتُ تابعاً غيرَ مقصودٍ، والرهن يُثْبت للمرتهن حقَّ الاختصاص قصداً، ولذلك عُقد الرهن، ثم أُكد بالتسليم.
3074 - ومن تصرفاتِ المشتري الإجارةُ، فلو أجر الدارَ المشتراةَ قبلَ القبض، وقبل تسليم الثمن. والتفريعُ بعدَ هذا نُجريه على ثبوتِ حقّ الحبس للبائع، فإذا أجر، ففي صحَّة إجارته وجهان: أصحهما - الصحَّةُ؛ فإنَّ ضمانَ عقدِ الإجارةِ لا يَرِدُ على محلّ ضمان عقد البيع؛ إذ المقصودُ من الإجارة المنافِعُ، وليست هي المبيعَ، فلا وجهَ لمنع الإجارة عن جهة الضمان، ولا وجه لمنعِها من جهة حقِّ الحبس الثابت للبائع؛ فإن ذلك لا يزيد على حقِّ المرتهن، وإجارةُ المرهون جائزةٌ على تفصيلٍ سيأتي في الرُّهون إن شاء اللهُ عز وجل.
ومن أصحابنا من منع صحةَ الإجارة؛ من جهة استدعائها ملكاً تامّاً، والمِلكُ في المبيع قبل القبض ضعيفٌ، ثم هذا القائل لا يفصِلُ في منعِ الإجارةِ بين ما قبل تسليم
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).

(5/174)


الثمن، وبين ما بعده؛ فإن معتمده ما ذكرناه من ضعف الملك. وهذا يطَّرد إلى قبض المشتري.
وتزويجُ المشتري الجاريةَ المبيعةَ قبل القبض يَنْزِلُ منزلةَ إجارته إياها في الخِلافِ المقدم. ولا شك أن التزويجَ مُنقصٌ للقيمة. وإذا كان كذلك أمكن أن نفصِل بين أن يزوّج قبل تسليم الثمن، وبين أن يزوّج بعدَ تسليمه إذا أثبتنا حقَّ الحبس. والإجارةُ ربما لا تؤدِّي إلى تنقيص القيمة، وفيها الخلافُ المقدَّمُ، وإن أدت إلى تنقيص القيمة. وقد ينتظم فيها وجهٌ أن نفرِّق بين ما قبل التوفيةِ وبعدَها.
ولا خِلافَ أن من استأجر داراً ثم أخرَها قبلَ القبضِ، لم تنفذ إجارتُها والسببُ فيهِ ظاهرٌ، وهو أن الإجارةَ موردُها المنفعةُ، فازدحام إجارتين على منفعةٍ قبل القبض باطل، كما يبطل ازدحامُ ضمانَي بيعين على مبيعٍ واحد.
3075 - ولو رهن المشتري المبيعَ قبل القبض، أو وهبهُ؛ فإن كان ذلك بعد تسليم الثمن، فهو كالعتق في هذا الأوان، ثم إن رَهَنَ، أو وَهَب، وأراد التسليمَ، لم يَمنع منه البائعُ، وقد توفر الثمن عليهِ، والمشتري بالخيار إن شاء، [ألزمَ] (1) الرهنَ والهبةَ بالإقباض، وإن شاء، لم يفعل.
وإن فُرِضا -نعني الهبةَ والرهنَ- قبلَ تسليم الثمن، فقد ذكرَ الأئمةُ وَجهين في نفوذهما، كالوجهين في العتق في هذا الوقت. ثم أجمعُوا على أن للبائع أن يمتنع عن التسليم إذا أثبتنا له حقَّ الحبس. وفائدةُ صِحةِ الرهن والهبة أن حق البائعِ إذا زال وقبَضه المشتري، فإن حكمنا بفساد الرهن والهبة أولاً، فهو ساقطٌ ملغىً، وإذا حكمنا بالصحةِ، فلا يُحتاجُ إلى تجديد عقدٍ، وهو على خِيرَتِه في الإقباض.
وذكر صاحب التقريب وجهاً ثالثاً، فقالَ: أما الهبةُ فعلى ما ذكرهُ الأصحاب، ويجوز أن يقال: لا يصح الرهن، وإن صحتِ الهبةُ، لأن الرهنَ قرينُ البيع؛ إذ لا يُعنى به إلا البيعُ في حق المرتهن، وكل ما امتنعَ بيعُه، امتنع رهنُه، وقياس هذا يوجب إبطالَ الرهن، بعد توفية الثمن. كما يمتنع البيعُ في هذا الوقت.
__________
(1) في الأصل: أبرم.

(5/175)


3076 - ثم ذكر الشافعيُّ بعد الكلام في المبيع تفصيلَ الأيدي التي لا يمتنع بها نفوذُ البيعِ وغيرِه من التصرفات.
والوجه أن نذكر أولاً ما اختلفَ علماؤنا في إلحاقه باليد في البيع.
فنقول: منها تصرفُ المرأة في الصداق قبل القبض، وهذا يُخَرّج على قولين مشهورين في أن الصداق مضمونٌ (1) بالعقد أو باليدِ، وسيأتي شرحُ ذلكَ في كتاب الصداق - إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك الإقالةُ. وقد اختلف القولُ في أنَّها بيعٌ، أو فسخٌ، فإن [جعلناها] (2) فسخاً، فلو تقايَلَ المتبايعان، وكانا تقابضَا العوضين في البيع، فلكلٍ منهما أن يتصرَّف في العِوَض الذي ارتدَّ إليهِ مِلكُه قبل أن يستردّهُ؛ فإن العقدَ إذا انفسخ، فليست يدُ واحدٍ منهما بمثابة يد البائع في المبيع؛ من جهة أن التلف يردُّ المبيعَ إلى مِلك البائع، ولو فرض التلف في أحدِ العوضين، أو فيهما، والتفريع على أن الإقالة فسخٌ، فيتلفُ كلُّ عِوضٍ على مِلك من كان مِلْكَه قبل التلف.
ثم الكلام في ضمان القيمة لمن كان مالكاً للعَيْن يأتي مستقصىً في موضعه، إن شاء الله عز وجل. وقَدرُ الغرض منه ما ذكرناه من أن الملك لا يزول بفرض طريان التلف.
وإن حكمنا بأن الإقالة بيعٌ، فالعوضُ المعيَّنُ في يدِ كلِّ واحدٍ منهما بمثابة المبيع قبل القبض، وكأنَّهما تبايَعا على التبادل في العِوضين تبايُعاً جديداً، والأجرةُ المعيّنة في الإجارة بمثابة المبيعِ، والبَدلُ المعيّنُ في الخُلع والصُّلح عن الدم، بمثابة الصداق.
فهذا بيان الأيدي على ما يُعد عِوضاً، أو يقرُبُ من معاوضة.
3077 - ومن رَدّ بالعيب ما اشتراه، ففُسِخَ العقدُ، ولم يرفع بعدُ يده، فالبائع يتصرَّف فيه قبلَ الاسترداد، كما ذكرناه في الإقالة على قول الفسخ.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2).
(2) في الأصل: جعلنا، وفي (هـ 2): جعلناه. والمثبت تصرفٌ من المحقق.

(5/176)


فأما سائرُ الأيدي. فإذا ثبتت يدٌ على ملكِ الغير، ولم تكن يدَ معاوضة، وملك المالك تامٌّ، وهو قادِرٌ على رَدّ المِلكِ إلى يَدِ نفسهِ، فبيعُه نافذ سواءٌ كانت تلك اليد يدَ أمانةٍ، أو يدَ ضمان، فيدُ الأمانة كيدِ المودَع والمقارِض قبل أن يربح، وغيرِهما.
ويدُ الضمان كيد الغاصب، والمستعيرِ، والمستام.
ولو وهبَ شيئاً وسلّمه، وكان يثبت له حق الرجوع، فرَجع في الهبَةِ وبقيت العينُ في يَد المتَّهِبِ، فتصرّف الراجع نافذٌ، لما قدمناه.
وإذا قبلَ الموصَى له الوصيّةَ النافذةَ، والعين الموصَى بها في يدِ الورثة، فتصرُّفُ الموصَى لهُ نافذٌ قبل قبض العين، إذا استمكنَ من أخذها. وإن تصرَّف قبلَ قبول الوصية، خرج هذا على تفصيلِ القولِ في أن المِلك في الموصَى به متى يحصل؟ وهذا سيأتي مقرراً في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.
فهذا منتهى البيان في ذلك.
فصل
قال: " ومن ابتاع جُزافاً ... إلى آخره " (1).
3078 - هذا الفصل مضمونُه بيانُ القبضِ ومعناه، واختلافِه في المقبوضات على حسب اختلافها، فنقول: المقبوضاتُ ثلاثةُ أقسام: ثابتٌ لا يُنقَل.
ومنقولٌ مقدّر، وَرَدَ البيعُ عليه باعتبار التقدير فيه.
ومنقول غيرُ مقدّرٍ، أو قابل للتقدير، أُورد البيعُ عليه جزافاً.
فأما الثابت، فهو العَقارُ، والقبض فيهِ التخليةُ، والقولُ التام في التخليةِ ومعناها، أنها تمكينُ القابض مع تمكنه من إثبات اليد عند ارتفاع يدِ الممكن. وهذا يستدعي حضورَ المقبوض والقابض، معَ التمكن الذي ذكَرناهُ. ولو كانت العينُ غائبة، ففي تحقيق التمكينِ منها كلامٌ سأذكره في كتاب الرهون، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 181.

(5/177)


هذا في الثابت الذي لا ينقل.
3079 - فأما المنقول الذي ليس مقدَراً، أو كان مقدَّرا ولكن اشتُريَ جزافاً، فالمذهب أن القبضَ فيه (1) لا يتتمُّ إلا بالنقلِ والتحويلِ، على ما أصفه الآن. وذهبَ مالك (2) إلى أن التخليةَ فيه كافٍ، ونقل حرملةُ قولاً للشافعي مثلَ ذلك.
التوجيه: من اعتبرَ النقلَ، استمسكَ بالعادةِ، والعادةُ مطرَدَةٌ بنقل ما يمكن نقله في [القبوضِ] (3).
ومن لم يشترط النقلَ، احتجَّ بان الغرضَ من القبضِ ظهورُ تمكُّن القابضِ بتمكين المُقْبضِ، وهذا المعنى يحصُل بالتخليةِ والتمكينِ التام. فإن قلنا بذلك، فالمتبعُ ما ذكَرناه من التمكين والتمكُّن.
وإن شرطنا النقلَ، لم نشترط التحويلَ إلى مسافةٍ بعيدةٍ، ولكن اكتفينا بما يُسمَّى نقلاً.
3080 - وهذا يبين بذكرِ صورتين: إحداهما - أن نَفرض البيعَ وحُضُورَ المبيع في بقعةٍ لا اختصاصَ لها بالبائع، مثل أن يتفق ما ذكرناه في شارع أو مسجدٍ، أو موضعٍ مباحٍ، أو في موضعٍ مخصوص بالمشتري، فإذا [جَرَى] (4) ذلكَ في أمثالِ هذه الأماكِن، ثم نقله المشتري بإذن البائعِ من الحيزِ الذي فيه البائعُ إلى حيز آخرَ يراه (5)، فهذا نقلٌ كافٍ.
ولو أن البائع في هذهِ الصوَر نقلَ المبيعَ من جانبه إلى جانبِ المشتري، ومكنه من قبضِه، والاحتواءِ عليهِ، فقد حصل القَبضُ الناقلُ للضمان، والمسلّطُ على التَّصرُّفِ، وإن لم يُوجد من المشتري فعل ولا استدعاءٌ، [بل] (6) يَحصُلُ القبضُ، وإن كرههُ المشتري.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2).
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 548 مسألة 891.
(3) في الأصل: المقبوض.
(4) في الأصل: فرض.
(5) في (هـ 2): يخاف.
(6) ساقطة من الأصل.

(5/178)


والسببُ فيه أن القبضَ مستحَق على البائع، فإذا أتى به، وقعَ على جهةِ الاستحقاق وإن أباه المستحِق.
وفي بعض التصانيف وجهٌ آخر: أن هذا لا يكون إقباضاً ما لم يقبله المشتري، كما لو وضع مالكُ العينِ عين مالهِ (1) بَيْن يَديْ إنسان، وقالَ: أودَعتُها عندكَ، فهذا لا يكون إيداعاً ما لم يقبل المودَع.
وهذا الوجه عندي يخرّج على قولٍ: وهو أن من عليه دينٌ حالٌّ إذا جاء به، فهل يُجبَر مستحِقه على قبولهِ؟ المذهبُ أنه يُجبَر، وفيه قول بعيدٌ أنه لا يُجبرُ. والقولان (2) مشهوران (3) في الدَّينِ المؤجَّل. فإن قُلنا: لا إجبار، فلا يكون ما جاء بهِ إقباضاً، وإن قلنا: إنه يجبرُ، فالظاهر أنه إقباضٌ وفيه احتمالٌ. ولا يَبعُد أن يقال: إذا لم نجعل هذا إقباضاً، فينوب السلطانُ عنهُ ويقبضُ.
ولو كان بين البائع والمشتري مسافةَ التخاطبِ مثلاً، فلو رفعَ المبيعَ من جانبهِ، ووضعَه على نصفِ المسافةِ الكائنةِ بينه وبين المشتري وهو يَبغي بذلك الإقباضَ، ففي حصولِ القبضِ بذلك وجهان، ذكرهما شيخي.
ولو كان وَضَعَه دون النصف، والمسافةُ الباقية وراء المبيع إلى المشتري أكثر من النّصفِ، فلا يكون ما جاء به نقلاً ناقلاً للضَمانِ وإقباضاً. ولو كان الباقي من المسافة أقلَّ مما بين البائع والمبيع، فالذي مضى إقباضٌ؛ فإنا لا نشترط أن نضع المبيع في حجر المشتري، أو بالقُرب منه.
وللناظر فيما ذكرناه فضلُ نظرٍ، ومزيدُ تدبر فيه، إذا كانت المسافةُ بين المتبايعين أكثرَ من مسافةِ التقارب والتخاطب، وذلك بأن تكون عشرين ذراعاً مثلاً، فلست أرى النقلَ إلى بقعةٍ بينها وبين المشتري تسعةُ أذرعٍ إقباضاً، ويقرب أن يقال: ينبغي أن يقع المبيعُ من المشتري على مسافة تنالُ المبيعَ يدُ المبتاع، من غير احتياجٍ إلى قيام وانتقال.
__________
(1) في (هـ 2): ملكه.
(2) في (هـ 2): القولان (بدون واو).
(3) ساقطة من (هـ 2).

(5/179)


ولا شك أن البائعَ لو نقل المبيع من حَيّزهِ إلى صوبٍ عن يمينه، أو عن يَسارهِ، وهو يبغي الإقباضَ والمشتري في مقابلتِه، فليس ما جاء بهِ قبضاً؛ فإن صورةَ النقل لا تكفي حتى يكون نقلاً إلى المشتري، أو نقلاً من المشتري؛ فإن المشتري لو أخذ المبيعَ بإذن البائع، ونقلَه إلى [أيّة] (1) جهةٍ فُرضت، فهذا قبضٌ.
ولا يخفى على الفقيه أن الإقباضَ من البائع بجهةِ النقل يُشترط فيه أن يُشعرَ المشتري به، ويتمكَن منه، حتى لو وضعه بين يديه، وهو راقدٌ، فتلف المبيعُ قبل أن ينتبه، فهو من ضمان البائع. والسببُ فيه أن سرَ الإقباض التمكينُ، ثم صُورُ التمكينِ تختلف باختلاف المبيع، ومن ضرورة التمكينِ إشعارُ المشتري بما يجري، وعلمُه بحقيقة الحال، وتمكّنُه كما ذكرناه في التخلية.
وكل ما ذكرناه فيه إذا جَرى البيعُ ونقلُ المبيع في بُقعةٍ لا اختصاص لها بالبائع.
3081 - فأما إذا جرَى البيعُ في مسكن البائع (2)، وكان ملكَه أو مُستَأجَره أو مستعاره، فإذا أذن للمشتري في القبضِ والنقلِ، فأخذ المشتري المبيع ونقله إلى جانب نفسهِ، فليس ما جاء به قبضاً؛ من جهةِ أن الشرط في ثبوت يدِ المشتري القابض زوالُ يدِ المُقبض، وإذا كانت الدار للبائع، فهي تحت يدهِ، وما في الدارِ حكمهُ حكمُ الدارِ، ولو فرضَ نزاعٌ بين دخيل في الدارِ وبينَ مالكِ الدار في مبيعٍ قريبٍ من الدخيل ومجلسهِ، فصاحبُ اليد فيها صاحبُ الدار، إذا لم تكن العينُ متعلِّقة على نعتٍ من الاختصاص بالدخيل، بأن يقعَ النزاعُ في ثوبٍ، والدخيل لابسه، أو في متاع وهو محتوٍ عليه.
وفي هذا كلامٌ طويلٌ ليس هذا موضعَه؛ فإنا سنفصل، إن شاء الله تعالى تفصيلَ الأيدي التي تثبتُ بها رتبةُ المدَّعى عليه في كتاب الدعاوى - إن شاء الله تعالى.
فلو أذن البائعُ للمشتري في نقل المبيع إلى بقعةٍ من الدار و [أجّر] (3) تلك البُقعة
__________
(1) زيادة من (هـ 2).
(2) هذه هي الصورة الثانية من الصورتين الموعودتين.
(3) في الأصل: وليجر.

(5/180)


[منه] (1) أو أعارهُ إياها، فجرَى النقلُ إلى بقعة من الدار استأجرَها المشتري أو استعارها، فهذا نقل كافٍ، وقبضٌ ناقل للضمان؛ من جهةِ اختصاصِ المشتري بتلكَ البقعةِ.
وإذا قالَ البائعُ: دونكَ المبيعَ، فاقبضه وانقُلْه إلى تلك الزاويةِ، فهذا إذنٌ في النقل، وإعارةٌ للزاوية.
وإن قال: ارفع هذا (2) العينَ المبيعة، وانقلها إلى تلك البقعة، ولم يتعرض للقبضِ والإقباض، والدار مختصةٌ بالبائع، فالذي جرى ليس بقبضٍ.
وإذا فهمَ الفقيهُ المقاصِدَ، لم يخفَ عليهِ قضايا الألفاظ وموجبات الصيغ.
3082 - وتمام البيان في هذا يستدعي كلاماً في تصوير [قبض] (3) العدوان من الغاصب.
فنقول: وإن فرَّعنا على الأصح في اشتراطِ النقل في المنقول في قبض المبيع، فلسنا نشَرطُ ذلك في قبضِ العدوان، بل المعتبرُ فيه الاستيلاءُ المحقَّقُ، حتى لو ألقى رجلٌ راكبَ فرسٍ من الفرسِ، وركبَ مكانَه مستولياً، وتلفت البهيمةُ تحتهُ، فالضمان يجب عليه، على المذهب الظاهر. وكذلكَ لَو نحّاه من بساط كان عليه، وجلسَ عليه (4)، فهذا عدوانٌ مضمِّن.
3083 - والقولُ الوجيزُ الضابطُ لما نقصده: أن التمكين المحقَّقَ في المنقول ليس قبضاً في البيع على الصحيح، حتى ينضمَّ إليهِ نقلٌ، وفيه قولٌ بعيد أن التمكينَ كافٍ، والاستيلاءُ المجرَّدُ قبضُ عدوان في المنقول، من غيرِ نقل. وفيهِ وجهٌ ضعيفٌ أن ضمان العدوان يقف على النقلِ.
فلو جرَى من المشتري [استبدادٌ] (5) بأخذِ المبيع، نُظر: فإن جرَى منه ما هو قبضٌ
__________
(1) في الأصل: فيه.
(2) كذا في النسختين باسم الإشارة المذكر. ولها وجة في الصحة.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في (هـ 2): مكانه.
(5) في الأصل: استيلاءٌ.

(5/181)


لو صدر من البائع، أو من [غيرِ] (1) إذنهِ، فإن كان المشتري يستحق ذلكَ بأن كان وفَّر الثمن، وامتنع البائعُ من التسليم المستحَق، فالذي فعله المشتري قبضٌ ناقلٌ للضمان مُسلِّط على التصرّف.
وإن لم يكن المشتري مستحِقاً لما فعل، وفرعنا على [أنَّ] (2) البدايةَ بالتسليم لا (3) تجب على البائع، فالذي فعله المشتري إتيانٌ بصورةِ القبضِ، وهو فيه مبطلٌ.
والقولُ الوجيزُ في ذلك أنا نجعلُه بمثابةِ ما لو اشترى طعاماً مُكايلةً، ثم قبضه جزافاً، فلا يتسلّطُ على التصرفِ في الرأي الظاهِر، وينتقلُ ضمانُ العُهدةِ إليهِ، حتى لو تلف تحت يده، كان من ضَمانهِ.
وإذا قُلنا: لا بد من النقلِ في قبض المبيع، وجعلنا الاستيلاءَ قبضَ عدوانٍ، فلو وُجد الاستيلاءُ من المشتري من غير نقلٍ، فهو كالقبض جُزافاً فيما اشترى مُكَايلةً.
وذكر شيخي وجهاً آخر: أن الاستيلاءَ كما صورنا لا يقتضي نقلَ الضمانِ، كما لا يقتضي التسليطَ على التَّصرُّفِ. وهذا بعيدٌ. والوجه ما تقدَّمَ.
ولو جرت التخليةُ من البائع، والقبولُ من المشتري من غير نقلٍ، ولا فرضِ استيلاءٍ -والتفريعُ على أن النقلَ لا بدّ منه- فلا يتصرف المشتري، وهل ينتقل الضمانُ إليه؟ فيه وجهان ذكرهُما العراقيون. فليميز الناظرُ بَيْن تخليةٍ من البائع، ولا قبولَ من المشتري، وبين تخليةٍ منه وقبولٍ من المشتري، في الحكم المطلوب، والتفريعُ على اشتراط النقل. فإن لم يكن من المشتري قبولٌ، فلا ينتقلُ الضمانُ إليه. وإن كان منه قبولٌ، ففي الانتقالِ وجهان؛ فإن التخليةَ مع القبولِ تُثبت صورةَ الاستيلاء معَ تخلّف النقل المعتبر، فافهمُوا ترشدوا.
هذا قولنا في النقل والتخلية.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق. ويتأكد صحةُ هذه الزيادة بما قاله الإمام في أول الفقرة ويتأكد من الفصل الذي يتلو هذا مباشرة.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ساقطة من (هـ 2).

(5/182)


3084 - والقسم الثالث فيه: إذا كان المبيع مقدَّراً، وقد أُورِدَ البيع باعتبار تقديره، بأن يقول: بعتُكَ هذه الصُّبرة، كل صاع بدرهمٍ، فلا بد من إجراء الكيل، ولا يتم القبضُ دونَهُ، والتخليةُ غير كافيةٍ، بل (1) لا بد من إجراء الكيلِ أو الوزنِ على حَسَب ما وقعَ تنزيلُ العقدِ.
والأصل فيه ما رواه الشافعي في السواد (2) عن الحسَن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " نهى عن بيع الطعام حتى يجري فبه الصاعان " (3) ومراسيل الحسن (4) مستحسنةٌ عند الشافعي فلو اشترى بُرّاً كيلاً، فلا يتم القبضُ فيه حتى يُكالَ بعد العقد على
__________
(1) (هـ): ولا بد.
(2) مرة ثالثة نلتقي بكلمة (السواد)، وقد وضح معناها هنا، فالسواد اسم كتابِ يحيل عليه روى فيه الشافعي، ويحيل عليه إمامُ الحرمين، ويلتزم ترتيبه، ويجري في كتابه هذا (النهاية) على ترتيب هذا (السواد). كما قال ذلك في الموضعين السابقين.
فما هذا الكتاب الملقب بالسواد؟
هل هو مختصر المزني؟
أكاد أجزم بذلك لسببين:
أ- أن إمام الحرمين صرح بذلك، في خطبة كتابه؛ إذ قال: "سأجري على ترتيب المختصر جهدي"، وقد تحقق ذلك، وتم فعلاً. (فالنهاية) تسير على ترتيب مختصر المزني حرفاً حرفاً، حتى وإن انتقد إمام الحرمين هذا الترتيبَ، وأعلن أن فيه تشويشاً في بعض المواضع، لكنه يعقب بإعلانه التزام هذا الترتيب، وعدم الخروج عليه.
ب- السبب الثاني أن ما رواه الشافعي هنا في السواد نجده في المختصر: 2/ 183.
ولكن يبقى السؤال: لم سمي مختصر المزني بـ (السواد)؟
أقول الآن -عند المراجعة الأخيرة- إن (السواد) يطلق لغة على الصُّلب، والمتن، والأصل، وإن لم نجد هذا منصوصاً في معجمٍ من المعاجم للآن، وقد سبق أننا أفدنا هذا من شيخنا أبي فهر، برّد الله مضجعه.
(3) ومرسل الحسن هذا، رواه البيهقي: 5/ 316.
ورواه مرفوعاً عن جابر، ابن ماجه: التجارات، باب النهي عن بيع الطعام، ح 2228، والدارقطني: 3/ 8، والبيهقي: 5/ 316. وانظر التلخيص: 3/ 63 ح 1211.
(4) الحسن المراد به الحسن البصري. وكذا دائماً حيث أطلق، فهو الحسن البصري.

(5/183)


المشتري، ولَو وُزنَ عليه، لم يكفِ، ولو اشتراهُ وزناً، فتمام القبض فيه بالوزن، فلو كيل بدلاً من الوزن، لم يكفِ.
ولا يخفى على الفقيهِ أن ما نرعاه من اتباع الشرعِ في الكيل والوزن، حتى لا يجُوزَ إقامةُ تقديرٍ مقام التقدير الثابت شرعاً، إنما هو في بيع مالِ الربا بجنسهِ حيثُ تجبُ رعايةُ المماثلة، [فإذا] (1) لم يكن كذلك، فلا حرجَ. وكيفَ يُشكِلُ هذا مع جواز ابتياع الحِنطة بالدراهم جُزافاً.
فلو اشترى رجلٌ حنطةً كيلاً، وبقاها في المكاييل، ثم باعها مكايلةً، فهل يجوزُ أن يكتفي بصبِّ تلك المكاييل بين يدي المشتري؟ فعلَى وجهين: أحدهُما - لا يكفي ذلك، [بل] (2) تُصبُّ الحنطةُ، ثم يُبتدأ كيلُها للمشتري. وهذا القائل يحتج بما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الطعام حتى تجري فيه الصَّاعان " قيل: معناه حتى يجرى فيه (3) صاعُ البائع، وصاعُ المشتري وهذا [يُتصوّرُ] (4) فيهِ إذا اشترى رجلٌ طعاماً مكايلةً، [و] (5) باعه مكايلةً، ولعلَّ أمثالَ هذهِ المعاملات كانت تجري في مواسمِ الحجيج وغيرِها، فكان الرجل يبتاع مكايلة [بمقدارٍ، ويبيع مكايلةً] (6) بأقل أو أكثر، فنزل حديثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كانوا يجرون من ذلكَ.
هذا وجهُ هذا الوجه.
والوجه الثاني - أنه يكفي أن تصُب المكاييل للمشتري الثاني، ووجهه أن كونَ الحنطة في المكاييل على الدوام، ينزل منزلةَ أخذٍ جديد بالمكاييل؛ فإن الغرض من الأخذ بالكيل احتواءُ الكيل على المَكِيل، فإنه المقدِّرُ، والحنطةُ مقدّرةٌ به، والدليل عليه أنه إذا اشترى حنطةً مكايلةً، ثمِ ملأ المكيالَ، ونقلَ ذلك، كفى وتم القبض، ولا حاجةَ إلى تفريغ المكيالِ حتى يُقضى بتمام القبض.
__________
(1) في الأصل: وإذا.
(2) في الأصل: بأن.
(3) ساقطة من (هـ 2).
(4) في الأصل: مصوّر.
(5) في الأصل: أو.
(6) ساقط من الأصل.

(5/184)


3085 - والغرضُ من هذا الفصل شيء واحد، وباقي القول في القبض جزافاً وكيلاً سنجمعه في فصلٍ على إثر هذا إن شاء الله تعالى.
وذلك المقصودُ: أنا إذا جرينا على اشتراط النقل وهو المذهبُ، فقد أطلق الأصحابُ القولَ بأن الكيل مع تفريغِ المكيال كافٍ؛ فإنّ من ضرورتهِ النقلُ من جهةِ الأخذِ إلى جهةِ التفريغ، وهذا يُوهم لبساً.
ومُعظمُ العماياتِ في مسائل الفقهِ من تركِ الأولين تفصيلَ أمور كانت بيّنةًً عندهم، ونحن نحرِصُ جهدَنا في التفصيل، ولا نبالي بتبرم الناظر.
فالكيلُ لَعَمْري نقلٌ، لكن يجب معهُ اعتبار الأمور التي مهّدناها (1)، حتى لو كالَ البائع الحِنطة التي باعها مكايلةً، وأخذ يصُبّها عن يمينه وعن يسارهِ، لا في جهة المشتري، فالذي جاء بهِ كيلٌ، وليس بنقل، والنقلُ باقٍ في الحكم بصحة القبض.
فإذن الكيلُ أو الوزن معتبرٌ في عَقدِ المكايلة والموازنة، وقد يقعُ الكيل على صُورَةِ النقل فيسُدّ مسدَّينِ، وقد يقعُ لا على صُورَةِ النقل، فيبقى الكلام في النقل على ما تقدَّم.
فصل
في بيع الحنطة مكايلةً مع جريان القبض جزافاً
3086 - فنقول: إذا اشترى طعاماً كيلاً، ثم قبضهُ جزافاً، فقد قال الأصحاب: لو تلفَ ما (2) قبضه كذلكَ، فإنه يتلف من ضمانه وفاقاً، ولا ينفسخ البيعُ أصلاً.
ولو أرادَ بيعَ ذلك الطعامِ الذي قبضه جزافاً نُظر: فإن أراد بيعَ الكيل، فلا يصح منه البيعُ في الجميع؛ إذْ حق البائع متعلِّقٌ به، وقد يزيد إذا كيل.
والمسألة مصوّرة فيه إذا باع عشرةَ آصع، وأشار إلى صبرة، ويجوز أن تكون الصُّبرة عشرة، ويجوز أن تزيدَ، فلو أنهُ قبض جزافاً، ثم باع القدر الذي يستيقن أنه
__________
(1) (هـ 2): قدمناها.
(2) عبارة (هـ 2): " قال الأصحاب: ذلك الطعام الذي قبضه كذلك ".

(5/185)


حقهُ، أو أقَلُّ من حقه، فهل يصح البيعُ في [هذه الصورة] (1)؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدُهما - وهو اختيار أبي إسحاقَ أن البيعَ يصحّ؛ [لأن القبضَ ناقلٌ] (2) للضمان، فإذا انتقل الضمانُ، تَم الملك وزايله [الضعفُ] (3) المترتب على تعرض البيع للانفساخ عند تقدير التلف. وإذا صادفَ البيعُ مِلكاً تاماً مِن مالكٍ مطلقٍ، نَفَذَ.
والوجهُ الثاني -وهو اختيار ابنِ أبي هريرةَ- أنه لا يصح البيعُ في شيءٍ مما قبضهُ؛ فإن القبضَ فاسدٌ، وهذا ما قطع به شيخي، وطوائفُ من الأصحاب. وتوجيهُ الوجهِ يترتب على إثبات فسادِ القَبضِ، والدليل عليه الخبرُ الذي رَويناه من الأمر بإجراء الصَّاعَين، ومناهي الرسول صلى الله عليه وسلم محمولةٌ في هذه المَواضِع على الفسادِ، واقتضاءِ التحريم.
ثم قد أطلق الأولون الحكمَ بفسادِ القبض على الجُملة، مع المصير إلى تصحيح البيعِ في القدرِ المستيقَن. فلو قيل: فما معنى الفَسادِ على هذا الوجهِ مع صحَّةِ البيع في القدر المستحق؟ قلنا: لو قبض الطعامَ كيلاً، ثم ادّعى بعد ذلكَ نقصاناً متفاحشاً، لا يتوقعُ مثلُه في الكيل، لا يُقبل قولُه، ولو قبضهُ جزافاً، كما صورناه، ثم ادَّعى نقصاناً متفاحشاً عن حقه، فالقول قَولُهُ مع يمينه؛ فإن البائع يدعي عليهِ قبضَه، وهو يُنكِرُه، فالقول قولُه.
وهذا ليس مَحْملاً واضحاً في فسادِ القبض المعترف بهِ. وقد قيل: لو باع الجملةَ على جهالةٍ، فالبيع في الكُلِّ باطل قولاً واحداً، ولا يخرّج [على] (4) تفريق الصفقة، فهذا أثرُ الحكمِ بفسادِ القبض بالجملةِ.
وهذا كلام مختلط؛ فإنا إذا نقلنا الضمانَ، وجوزنا التصرُّف في القدرِ المستيقَن، فقد صححنا القبضَ فيه، والوجه في فرض بيعِ الكُلِّ التخريج على قول تفريقِ الصفقة، ولا حاجةَ إلى الاعترافِ بفسادِ القبض في الكل، مع التصحيح في التفصيل، وإنما
__________
(1) زيادة من (هـ 2).
(2) في الأصل: لا القبض ناقل.
(3) في الأصل: الضعيف.
(4) في الأصل: عن.

(5/186)


يستحق إطلاقُ الفساد ممن يمنع التصرفَ من القدر المستيقن، وهذا لا شك فيه.
3087 - ويتصل الآن باستتمام الكلام فصولٌ نأتي بها أَرْسالاً: منها: أنا قدَّمنا فيما سبق أن الاستيلاءَ من غير إذن البائع ينقُل الضمانَ، حتى لو فرض التلفُ، كان من ضمان المشتري القابضِ قهراً، ولا ينفسخُ البيع. ولكن إذا أثبتنا للبائع حقَّ الحبس، فالمبيع مسترَدٌّ من المشتري؛ فإن ذلك ممكن؛ فلو باع المشتري، لم ينفذ بيعُه وجهاً واحداً رعايةً لحق البائع، وإن تحقق انتقالُ الضمان. وهذا كامتناع بيع الراهِن في المرهون.
ومسألةُ القبضِ جُزافاً مفروضةٌ فيه إذا جرى ذلك القبضُ عن رضاً من البائع، أو فرّعنا على أن لا حَقَّ للبائع في الحبس.
ولو رضي بالقبض جزافاً، ثم بدا له بعد جريان صورة القبضِ، فهذا يخرّج على تسلّط المشتري على البيع في القدر المستيقَن، فإن سلطناه عليه، فقد أَلْزمنا القبْضَ، فلا سبيل إلى تسليط البائع على نقضه؛ إذ القبضُ صدر عن إذنهِ، وتوفر عليه مقصودَاه: من نقلِ الضمان، والتسليطِ على التصرف. وإن قلنا: لا يتسلّطُ القابضُ على التصرّف في قدر حقّهِ، فهل يملك البائعُ نقضَ يده، والعودَ إلى حقّ الحبس؟
هذا محتمل عندنا. والعِلم عند الله.
3088 - وممّا يتعلّقُ الآن بتفصيل بيع الطعام مكايلةً أن الرجل إذا اشترى طعاماً كيلاً سلَماً، واستقرَّ له ما اشتراهُ في ذمّةِ المسلَمِ إليه، واستقرَّ ذلك عن جهةِ [إقراضٍ] (1)، أو بدلِ متلفٍ، ثم استحق عليه مستحِقٌ بجهةٍ من الجهاتِ مكاييلَ من الحنطةِ، فقال للمستحِق عليه استَوْفِ حقّكَ من فلان، وذكر الذي يُستحَقُّ عليه الطعام، فإذا اكتالَ المستحِق [المتأخِّر] (2) لنفسهِ، لم يصح مثلُ ذلك القبض؛ فإن القبض يتعلّق بالقابض والمقْبض. ولا يجوز تقديرُ صُدورِهما من شخصٍ واحدٍ. فإن قدَّرهُ مقدّرٌ
__________
(1) في الأصل: إقباض. لصحة اختيارنا، راجع المجموع: 9/ 280.
(2) في الأصل: المستأجر.

(5/187)


وكيلاً بالقبض (1) من جهة الآمِر قابضاً من جهة نفسهِ، فهذا هو الذي لا نُصحّحهُ.
ولو قالَ [لمستحِق] (2) الطعام: اكتل حقَّك من حنطتي هذه، فإذا اكتاله بنفسه بأمرِ البائع، فَفِي حُصول القبضِ على الصحَّةِ وجهان: أحدُهما - أنه يصح لجريان صورة القبض بإذن صاحب الحنطةِ وبائعها. والثاني - لا يصح لاتحادِ القابضِ والمُقبض، والإذنُ بمجرَّده ليس إقباضاً. وهذا القائلُ يعضد كلامَه بالحديث الذي رويناه في صدرِ الفصل.
فإن قيل: قد قطعتم جوابَكم قبيلَ هذا بما يُناقِضُ هذا إذْ قلتمُ: لو كان للآذن الآمِر حنطة على إنسان، فقال لمن يستحق عليه: اقبض حقَّكَ منه، فإذا قبض زعَمتم أنه لا يصح. قُلنا: الفرقُ ظاهر؛ فإن [مِلْكَ] (3) الآذنِ فيما قدّمناه لا يثبت في عينٍ حتى يقبض له أولاً، فإذا قبض القابض لنفسهِ، ولم يجرِ القبض للآذن، كان باطلاً وجهاً واحداً؛ فإنه لا يستحق على من قبض منه شيئاً، ولم يثبت للآذِن المتوسّطِ استحقاق في عينٍ حتى يترتب عليه قبض هذا القابض. والمسألة التي ذَكَرنا الوجهين فيها مفروضة فيه إذا كان للآذن حنطةٌ حاضرةٌ عتيدةٌ، فأمر المستحِق بالاكتيال منها.
فإذا ظَهر محلُّ الخلاف والوفاقِ بنينا عليه غرضَنا، وقلنا: لو قال اقبض حقي من فلانٍ، صح، ووقع القبضُ والملكُ في المقبوض للآذِن، حتى لو تلف المقبوض في يَدِ الوكيل، كان محسوباً على الآذن، ويدُ الوكيل أمانة. وبمثلهِ لو قال: اقبض لي من فلانٍ حقّي، ثم اقبض منه حَقّكَ، فأمّا قبضُه له فصحيح. وقبْضُه لنفسه بعد قبضه له [يخرّجُ] (4) على الوجهين المقدمين.
ولو قال للذي يستحق عليه طعاماً: خُذ هذه الدراهمَ، واشترِ بها لنفسِك طعاماً، لم يصحّ هذا أبداً.
__________
(1) في هامش (هـ 2): خ " بالإقباض ".
(2) في الأصل: المستحق.
(3) في الأصل: مالك.
(4) في الأصل: تخريج.

(5/188)


ولو قال: اشترِ لي [طعاماً] (1) في الذمةِ، واقبض لنفسك، فالشراء صحيح، والقبضُ فاسدٌ. ولو قالَ: اشترِ لي واقبض لي، ثم اقبض منه حقّكَ، فالشراء والقبض للآمرِ صحيحان، وقبضُه لنفسه على الوجهين.
3089 - ومما يجب التنبُّه له أنه إذا قال: اقبض حقَّك من فلانٍ، فقبضه، لم يصح، والمقبوضُ ملك المقبوضِ منه، فليردّهُ عليه. وإذا ثبت هذا، فلا خفاء في أن تصرفه لا يَنفذ، ويدُه ضامِنةٌ؛ فإنها لا تنحط في هذا المقام عن يدِ المستامِ.
وسأفصّل هذا في آخر الفصل إن شاء الله عز وجل.
ولو قال: اقبض حقَّك من صُبرتي هذه، فإذا اكتال بنفسه، وقلنا: يصح قبضُه، فلا كلام، ويتسَلّطُ على التصرُّفِ. وإن قُلنا: لا يصحّ قبضُه، فليس هذا كما لو اشترى طعاماً مكايلةً وقبضهُ جزافاً؛ فإنا ذكرنا ثَمَّ أن البيعَ في القدر المستيقن ينفذ عند أبي إسحاق، وهَاهُنا لا يَنفُذ البيع أصلاً، بل لا يملكُ القابضُ ما أخذ. والسبب فيه أن مسألة الجزاف مفروضةٌ في ثبوت الملك في الحنطةِ المعيَّنة بالعقدِ، ثم في قبضها التفصيلُ. فلقد قبض ما ملك بالعقدِ، فجرى الأمرُ على ما مضى. والمسألةُ الأخرى مصوّرةٌ فيهِ إذا استحق حنطةً في ذمة إنسانٍ، فأمره من عليه الحنطةُ أن يقبضها على وجهٍ، فإذا لم يصحّ ذلك الوجه، لم يملك المقبوضَ، ولم يتعيَّن حقُّه فيه؛ إذ لم يسبق له قبلُ استحقاق عينٍ (2). وهذا واضحٌ لا إشكالَ فيهِ.
وقد نجز القول في أصول القبضِ. ونحن نرسم فروعاً شذَّت عن التفاصيل في
القواعد.
فرع:
3090 - إذا باع طعاماً بطعامٍ مكايلةً، فإذا جرى التكايلُ في المجلسِ وترتب التقابُض عليهِ، فإذا تفرّقا، استمرت صحةُ العقد، ولو جَرَى التقابض مُجازفةً من الجانبين، وتفرقا عليه، ففي فساد العقد وجهانِ: أحدُهما - أنه يفسد، لأن القبضَ لم يتم. والثاني - لا يحكم بالفسادِ، لجريانِ صورةِ التقابض.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) لعلها: عين هذه الحنطة.

(5/189)


وهذا يَبتني عندنا على الخلافِ المذكور في أن القابضَ على المجازفة هل يتسلط على بيع ما استيقنه؟
وتحقيق [القول] (1) فيهِ أن من يصحح التصرفَ في القدر المستيقنِ، يصحح القبضَ من جهةِ أن أثر القبضِ نقلُ الضمانِ والتصرّفِ، فإذا اجتمعَا، لم يبقَ لذكرِ الفسادِ معنىً. فعلى هذا إذا تفرقا، لم يبطل العقدُ.
وإن لم يسلَّط القابضُ على التصرف، فالقبض على هذا لم [يُفِدْ] (2) أحدَ مقصوديه، وهو التصرفُ، وأفادَ نقلَ الضمانِ. فإذا فرض التفرقُ على هذا الوجهِ، ففي بطلان العقدِ وجهان: أحدهما - أنه يفسُد لنقصان القبض. والثاني - يصح لجريانهِ واقتضائه لنقل الضمان.
وذكر بعضُ الأصحاب أن رجُلين لو تبايعا طعامين في الذمَّةِ، ثم تقابضا من غير رؤية في المقبوضِ، قال (3): هذا يُخَرَّجُ على هذا الخلافِ المذكور في التقابض مُجازفة. وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإن القبضَ [من غير رؤية يخرّج عندنا على بيع الغائب، فإن القبضَ] (4) [عن] (5) ثابتٍ في الذمّةِ مُملِّكٌ كالبيع، فحلّ محلّهُ.
فإن قلنا: لا يحصل التمليك، فتفرقا، فسدَ العقدُ، وليس كالقبض على مُجازفةٍ في عينين، فإن القبض وارد على مِلك، وإن حكمنا بأن القبضَ مع [عدم] (6) الرؤية مُملِّكٌ، ففي التفرق احتمال؛ من جهة أنه تفرق على جوازِ العقد، فإنا (7) إذا خرَّجْنا قبضَ ما لم يره القابضُ على بيع الغائب، فلا بدّ من تقديرِ خيارٍ فيهِ، والتفرقُ على حكم الخيارِ ضعيف، ولهذا لا يثبت خيارُ الشرطِ في عقدِ [الصَّرفِ] (8)، ولنا في
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: ينفذ.
(3) أي بعضُ الأصحاب هو القائل.
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(5) في الأصل: عين، وفي (هـ 2) غير. والمثبت تقدير منا، لعله الصواب.
(6) سقطت من الأصل.
(7) عبارة (هـ 2): فإذا أخرجنا.
(8) في الأصل: التصرف.

(5/190)


خيارِ الرؤيةِ في قبض ما لم يرهُ القابض تردُّدٌ (1)، فلينعمُ الناظرُ نظرَه فيه، فإن خيارَ الرؤيةِ متعلَّقُهُ الخبر، وهو إن صح واردٌ في الشراء، ففي (2) الخيار من طريق المعنى غموض [أيضاًً؛ من جهة أن المقبوض إذا كان على الصفةِ المستحقةِ، فلا فائدة] (3) من رد ما قبضه، فإنه لو رَدّه، لاستمكن المردودُ عليه من رد ذلك بعينه عليه، وليس هذا فسخاً. بخلاف الخيار في العقد. ويجوز أن يقال: هذا فسخٌ في القبض، فإذا أنشأ من عليه الحق إقباضاً، فليفعل.
فرع:
3091 - قد ذكرنا أن الأصحَّ اعتبارُ النقلِ في المنقول، حتى لا يصحَّ القبضُ دونَه. فلو باع رجل داراً، وفيها أمتعةٌ باعها مع الدار، فقد اختلف أصحابُنا في اشتراط النقلِ فيها لتحقيق القبض، فذهب بعضهم إلى [أن] (4) النقلَ لا بدّ منه؛ طرداً لقياس اعتبار النقل، وذهب آخرون إلى أن النقل لا يعتبر، ووجّهُوا هذا بأن المنقولات تتبع الدارَ.
وهذا التوجيه غيرُ سديدٍ. والوجه تخريجُ الخلافِ على أصل سيأتي في الرهون.
وهو أن من باع الوديعةَ من المودَع، فهل يحتاج إلى إقباضٍ جديد، أم يكفي دوامُ اليد؟ ووجهُ خروجِ ما ذكرناه على ذلك الأصل أن اليدَ تثبتُ على الدار، فيصيرُ المنقول فيها تحت يد المشتري، فانتظم التردد على هذه القاعدة.
فإن بقي في النفس اقتضاءُ تفصيل، فهو مستقصى في الأصل الذي أشرنا إليه.
فرع:
3092 - إذا بَعث من يستحقُ مكيالاً من طعامٍ مكيالَه إلى المستحقّ عليه حتى يملأه، فإذا ملأه، لم يصر نفس هذا إقباضاً عندَنا، خلافاً لأبي حنيفةَ (5)، وهذا يخرّج على ما مهدناه من أن صورةَ التقدير لا يكون إقباضاً، حتى ينضمَّ إليه ما يتم الإقباضُ به.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2).
(2) في (هـ 2): وفي.
(3) ساقط من الأصل.
(4) مزيدة من (هـ 2).
(5) ر. بدائع الصنائع: 5/ 244.

(5/191)


فرع:
3093 - إذا كان لرجل على رجل دينٌ موزونٌ، استحقَّهُ عليهِ وزناً، فلا يستحق القبض فيه إلا وزناً، سواءٌ كان ذلك في بيع أو قرضٍ، أو غيرِهما.
فلو ألقى من عليه الحقُ إلى مستحِق الحق كيساً فيه دراهمُ مجهولة، وقال: خذها بحقِّك، فأخذها من غير وزنٍ، فالقبض فاسدٌ غيرُ مملِّكٍ، كما سبق. ولكن لو تلفت تلك الدراهمُ في يدِ القابضِ، كانت مضمونةً عليه؛ فإنه قبضها على قصد التملُّكِ، فإذا لم يصح مقصودُه، ثبت الضمان، ولا ينحط هذا من ضمان المحكوم به في حق المستام.
ولو ألقى إليه الكيس، وقال: خذ منه حقَّك، فإنه لم يسلِّم إليه ما في الكيس مملِّكا، ولكن سلَّمها إليه، والملكُ دائمٌ للمسلِّم، فوكَّله بأن يقبضَ حقه منه، فإذا قبض حقهُ منه وزناً، ففي صحَّة القبضِ الوجهان المقدَّمان في نظائرِ ذلك، ولو تلفت تلك الدرَاهِمُ في يده، قبلَ أن يقبضَ منها حقَّه، فلا يكون التالف مضموناً عليه؛ فإن يده يدُ الوكيل المؤتمن قبل أن يقبض، ولا ضمان على الوكيل فيما تلف تحت يدهِ.
وليس كيَدِ المستام؛ فإنه قبض ما قبض لمنفعةِ نفسِه من غير استحقاقٍ، واليد إذا كانت بهذه الصفةِ، فهي يَدُ ضمان والتوكيل ثابت ويدُه مستمرةٌ على حكم الأمانة، إلى أن ينشأ قبضُ حقِّ نفسهِ. وهذا يناظر ما لو أودع عند رجل عبداً، وذكر أن المودَعَ له أن يستخدمَ العبد إن أراد ذلك، فاليد يدُ وديعةٍ في الحالِ، فإذا ابتدأ في الاستخدام على حكم العارية، فيصير العبدُ إذْ ذاكَ مضموناَّ؛ فإنه مستعار الآن.
3094 - وذكر شيخي تردُّداً عن القفال في مسألةٍ أجراها في أثناء الكلام، وهي أنه لو دفع رجلٌ إلى إنسانٍ دراهمَ، وقال له: اشترِ لنفسِكَ بهذا شيئاً، فقال: يجوز أن يحمل مُطلقُ هذا التسليم (1) على الإقراض، ثم لا يخفى حكمُه، ويجوز أن يحمل على الهبةِ والنحلة، والدليل عليه أن الشافعي قال: " إذا قال من لزمته كفارة لمالكِ عبدٍ: أعتقه عنّي، ولم يذكر عِوضاً، فإذا أعتقه عنه مطلقاًً، صحّ، وحُمل العتقُ على جهةِ التبرع " فليكن الأمر كذلك هاهنا.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2).

(5/192)


فصل
في الاستبدال
3095 - الأعيانُ الثابتةُ أعواضاً في الحقيقة في المعاوضات (1) لا يجوزُ الاستبدال عنها قبل القبض، بناءً على الأصل الممهّدِ في منع بيعِ المبيع قبل القبض، والاستبدالُ بيعٌ. وفي جوازِ الاستبدالِ في الصداق، وما ضممناه إليه من بَدل الخُلع والمصالحةِ عن الدم، الخلافُ المقدَّم، بناءً على أن الأعيانَ هل تثبت أعواضاً على الحقيقة، أم هي مضمونةٌ بالأيدي؟ [وعلى] (2) هذا يُبْتَنى حكمُ التلفِ، على ما سيأتي في كتاب الصداق.
وغرضُ الفصل تفصيلُ القولِ في الاستبدالِ عن الديون.
فنقول: الأموالُ الثابتةُ في الذمَّة تنقسم ثلاثةَ أقسام: أحدها - ما يثبت معوَّضاً في محل المبيع المثمَّن، والثاني - ما يثبت ثمناً. والثالث - ما يثبت بسبب من الأسباب، وليس مُتَّصفاً بكونه ثمناً ولا مثمناً، كالقرْضِ في ذمة المقترض وقيمةِ المتلَفِ، والمالِ المضمون في ذمّة الضَّامِن.
3096 - فأما ما يثبت معوَّضاً مثمناً في محل المبيع، فهو المسْلَم فيه، فلا يجوز الاعتياض عنه، كما لا يجوز الاعتياض عن العَيْن المبيعة، وذلك أن المسلمَ فيه مبيع مقصودٌ كالعَين المبيعة (3)، والملك في العين أقوى من الملك في الديْن، فإذا امتنع الاستبدال عن الملك في العَيْن، فلأن يمتنِع عن الدين الذي وقع مبيعاً أولى. ولو كان على المسلِمِ قرضٌ، فإخال المُقرِضَ بحقهِ على المسلَمِ إليهِ، فالحوالة فاسدةٌ؛ فإنها في التحقيق بيع سلمٍ بدينٍ، وذلك باطلٌ.
ولو كان للمسلَم إليهِ دينٌ على إنسانٍ عن جهةِ قرضٍ، وكان من جنسِ ما عليه في
__________
(1) عبارة الأصل: " في الاستبدال للأعيان الثابتة أعواضاً في الحقيقة المعاوضات ... الخ ".
(2) زيادة من: (هـ 2).
(3) (هـ 2): المعينة.

(5/193)


عقدِ السلم، فلو أحال المسلِمَ على من عليه القرض، ففي الحوالة وجهان: أحدُهما - أنها فاسدة؛ فإنها تضمنت مقابلةَ سليم بقرضِ، فلتفسد كما تَفسُد إحالةُ القرضِ على السلم.
ومن أصحابنا من قالَ: حوالةُ السلَم على القرض صحيحةٌ؛ فإن الواجبَ على المسلَم إليه أن يوفر على المسلِم حقّهُ، فإذا فعل، فقد خرج عما عليه، فالأصح منع الحوالة؛ فإنا لو صححناها، لكُنَّا نقلنا استحقاقَ المسلَم من السلم إلى القرض، ومن ذمَّة المسلم إليه إلى ذمّةِ المستقرض، وهذا على حقيقة المعاوضة. وإن لم نجعل الحوالةَ معاوضةً، فيجب أن تصح الحوالة على السلم أيضاًً. وذكر الشيخ أبو بكر الصيدلاني وجهاً في صحة إحالةِ القرضِ على السلَم والسلَم على [القرض] (1)، تخريجاً على أن الحوالةَ استيفاءٌ وليس بمعاوضةٍ.
وإذا جمعنا الإحالَةَ على السلم، وإحالةَ السلم على غيرهِ، انتظم على ما ذكره ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها - المنع. والثاني - الجوازُ. والثالث - الفصل بين إحالة القَرْض على السلم؛ فإنها ممنوعة وبين إحالةِ السلم على القرض؛ فإنها جائزة.
فهذا قولُنا فيما ثبت من الديون على مرتبة الأعيان المبيعة.
3097 - فأما ما ثبت قرْضاً، أو قيمةً عن مُتلَفٍ (2)، أوْ لازماً عن جهةِ ضمانٍ، فالاستبدال عن جميعها جائزٌ. وإذا استبدل مستحِقُّ الدين في هذه الجهاتِ وأمثالِها عن الدين عيناً، صح الاستبدال لو جرى تسليمُ العين في المجلس. وإن تفرقا قبل تسليم العين، نُظر: فإن كان الاستبدالُ في شقيّه وارداً على ما يشترط التقابض فيه [ثم] (3) جرى التفرُّقُ، فيبطل الاستبدالُ، وإن لم يكن العقدُ عقدَ ربا، بأن كانت الديون دراهمَ وأعواضُها ثياب، وما في معانيها؛ فإذا جرى التفرُّقُ قبل القبض فيها، ففي بطلان الاستبدال وجهان: أحدهما - أنه لا يبطل؛ لأن اشتراط الإقباض لا يستند
__________
(1) في الأصل: السلم.
(2) هذا هو القسم الثالث من أقسام الأموال الثابتة في الذمة التي ذكرها في أول الفصل، وقد قدّمه وذكره ثانياً، وسيأتي الثاني وقد سماه (الثالث) في الصفحة التالية.
(3) في الأصل: لو.

(5/194)


إلى أصلِ في غير عقود الربا والسَلَم، فليكن الاستبدال من دينٍ في عين بمثابَة بيعِ عينِ بدين، ولا (1) يُشترط الإقباضُ فيه.
والوجه الثاني - الاستبدالُ يَفسُد، ويندرجُ تحت نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم " عن بيع الدين بالدين " (2). وهذا ظاهر نص الشافعي، وليس الاستبدال في معنى بيع العين بالدين؛ فإن العقد ينزل على مقصود المتعاقدين، وغرضُ الاستبدال استيفاءُ الدين من مالية العَين، فإذا لم يجز القبضُ، كان في حكم دينٍ في مقابلة دين.
وهذا تكلّفٌ والصحيح الأول.
3098 - وإذا ثبت جواز الاستبدالِ عن الديون في هذه الجهاتِ، فهل يصح بيعُ الدينِ من إنسان آخر بعينٍ تؤخذ منه؟ فعلى قولين: أحدهما - يجوز؛ فإن الدينَ مملوكٌ، فإذا جاز استبدالُ مستحقِّه عليه، ونفذَ تصرُّفُه فيهِ، فينبغي أن يجوز بيعُه من الغير (3 أيضاًً، اعتباراً بالأعيان التي تَنفُذ التصرفات فيها.
والقول الثاني - لا يصح بيعُ الدين من الغيرِ 3)، فإن الدينَ ليس ملكاً محصَّلاً، ولهذا يمتنع رهنُه، وإنما جوزنا الاستبدالَ توصُّلاً إلى الاستيفاءِ، وإبراءِ الذمة، ولا خلاف أنا وإن جوزنا بيع الدين من [الغير] (4)، فلا يجوز بيعُ الدين من الغير بالدين؛ فإن هذا لَوْ جُوّزَ انطبق عليه نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالىء بالكالىء.
وكان شيخي يقول: اشتراطُ القبضِ في الاستبدال متلقىً من القولين من بيع الدين من الغَير، فإن جوّزنا ذلك، فالاستبدالُ بيعٌ محقق، ولا يُشترط في بيع العين القبضُ، إذا لم يكن العقدُ مشتملاً على عِوضَي الربا. وإذا لم نجوّز بيعَ الدين من الغَيرِ، فلا نجعل الاستبدال في حقيقة البيع بل نجعله استيفاءً، والاستيفاءُ لا يَتعدَّى المجلسَ.
__________
(1) في (هـ 2): ثم لا يشترط الإقباض فيه.
(2) حديث النهي عن بيع الدين بالدين رواه الحاكم: 2/ 57، والدارقطني: 3/ 71، والبيهقي: 5/ 290، 291، وانظر التلخيص: (3/ 62 ح 1209).
(3) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).
(4) في الأصل: "العين".

(5/195)


3099 - فأما القسمُ الثالث وهو الدَّيْن الثابتُ ثمناً، فنقول: في جَوازِ الاستبدال عن الثمن قولان للشافعي: أحدهما - أنه باطِل؛ فإنه دَين ثبت عوضاً في معاوضةٍ، فلا يجوز الاستبدال عنه، كالمسلَم فيه.
والقول الثاني - يجوز الاستبدال عنه؛ فإن الثمن لا يُقصد لعينهِ، وإنما تُقصدُ الماليّةُ منه، والاستبدال يُديمُ الماليةَ وحكمَها، وليس كذلكَ المسلَم فيه؛ فإنه مقصودٌ في جنسهِ، كالأعيان المعيّنَة.
وهذا ضعيف في القياسِ، ولكن رُوي عن ابن عُمر أنه قال: كنا نبيعُ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدراهم، فنأخذ بدلَها دنانيرَ، ونبيع بالدنانير، فنأخذ بَدَلها دراهم، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما لَبسٌ " (1) وروي " وليس بينكما شيء " وهذا الحديث يقرب من مراتب النصوص، وقد حملناه في الخلاف على التبادلِ في المجلس، وهذا يخرج على مصيرنا إلى أن إلحاق الزوائد بالثمن والمثمّن جائزٌ في مجلس العقدِ، وزمانِ الخيار، ويشهدُ لهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما لَبس ".
3100 - وتمام البيان موقوف على أن نذكر حقيقةَ الثمن والمثمَّن، وحاصلُ المذهب في ذلك ثلاثةُ أوجه: أحدُهما - أن الثمن هو الدراهم والدنانير المضروبتان.
والوجه الثاني - أن الثمن ما اتصل به باء الثمنيّة في صيغة العقد، فإذا قال القائل: بعتك هذا العبدَ بهذا الثوبِ، فقال مالك الثوب: قبلتُ، كان الثوبُ ثمناً والعبدُ مثمناً.
ولو فُرضت الصيغةُ على خلاف ذلك، فالمتبعُ عند هذا القائِل في تمييزِ الثمنِ عن
__________
(1) حديث ابن عمر، روي بهذا اللفظ، وغيره (ر. أحمد: 2/ 83، 154، أبو داود: البيوع، باب في اقتضاء الذهب من الورق، ح 3354، 3355، والترمذي: بيوع، الصرف، ح 1242، والنسائي: بيوع، بيع الفضة بالذهب، ح 4582، والبيهقي: 5/ 284، 315، تلخيص الحبير: 3/ 60 - 61 ح 1208).

(5/196)


المثمن الباءُ التي سميناها باءَ الثمنية، فعلى هذا إذا قال بعتك هذه الدراهم بهذا العبد فالدراهم مثمن والعبدُ ثمن.
والوجهُ الثالث - أن العقد إذا اشتمل على نقد وعَرْضٍ، فالثمن هو النقدُ سواءٌ ذكر بالباء، أو لم يذكر به، وإن لم يشتمل العقدُ على نقدٍ وإنما قوبل عَرْضٌ بعرض، فالثمن منهما ما يتصل به باءُ الثمنيةِ.
وإن قُلنا: الثمنُ هو النقدُ، فهل يصحُّ أن يُذكر مثمناً أوْ لا؟ ظهر اختلاف أصحابنا في أن السلم في الدراهم هل يصح؟ والأصح الصحةُ. والوجهُ الآخر وإن كان مشهوراً، فلا مخرجَ لتوجيهه إلا الامتناعُ من تقدير الدراهم على رتبةِ المبيع المثمَّن.
فإذا ثبت هذا فإن قلنا: لا يصح السلمُ في الدراهم. فلو قال: بعتك هذه الدراهمَ بهذا العبد، فمن أئمتنا من منع هذا. كما منعنا السلم في الدراهم.
والجامعُ ما ذكرناه من تقدير النقد مبيعاً ومنهم مَنْ أجاز هذا. وكان شيخي يقول: لو قال بعتك ألفَ درهم بهذا العبد من غير تعيين الدراهم، فهو بعينه على الخلاف المذكور في السلم في الدراهم، وإنما التردد في الدراهم المعينة إذا ذكرت مبيعةً.
3101 - فإذا ثبتت هذه المقدمةُ، وصلناها بأخرى، وقلنا: إذا قال: بعتك هذا العبدَ بثوبٍ، وأطنب في وصفه، فالثوبُ هل يثبت له حكمُ المسلمِ فيه؟ أم هو على حكم الأثمان؟ خرج الأصحابُ هذا على الخلاف المذكور في أن العروض هل تصيرُ أثماناً بباء الثمنية، ولم يختلفوا في صحة العقد. فإن قلنا: الثوبُ ثمن، فلا يجب تسليمُ العبد في المجلس، وإن قلنا: الثوبُ في حكم المسلم فيه، فهل يجب تسليم العبد في المجلس؟ فعلى وجهين سنذكرهما في كتاب السلم: أحدهما - أنه يجب؛ [فإنّ] (1) الصفقةَ اشتملت على موصوفٍ من العروض، وهذا هو السلم. والثاني - لا يثبت حكم السلم؛ فإنها لم تثبت على صيغة السلم، ولصيغ العقودِ آثار بيّنة، فإذا انضم هذا إلى ما ذكرنا لحقيقة الثمنية، عُدْنا بعدَ ذلك إلى إتمام القول في الاستبدال.
__________
(1) في الأصل: في.

(5/197)


3102 - فنقول: لا مطمع في تصحيح الاستبدال عن الأعيان. فأما الديون فما حَكَمنا بكونه مثمناً، فلا يجوز الاستبدال عنه، وإن لم نوجب تسليمَ مقابله في [المجلس] (1)، فإنَّ مَنْع الاستبدالِ مُتلقّىً من كون الشيء مبيعاً، لا من وجوب تسليم مقابلِه.
وكل ما حكمنا بكونه ثمناً، فحاصل المذهبِ في الاستبدال عنه ثلاثةُ أقوال: أحدها - الجوازُ. والثاني - المنعُ. والثالث - الفصلُ بين النقد وغيره؛ فإن النقودَ لا تُعنَى لأعيانها، بخلاف العُروض. وإذا كانت العروضُ معيّنة، فلا حاصلَ للفرق بين أن تكون أثماناً أو مثمنات.
وذكر صاحبُ التقريب على قولنا بالمنع عن الاستبدال عن الدراهم الواقعة ثمناً، إنما نمنع استبدالَ عَرْضٍ عن الدراهم، فأما استبدالُ نوعٍ من الدراهم عن نوعٍ، أو استبدالُ الدنانيرِ عن الدراهم، فهل يمتنع؟ فعلى وجهين: فإن القولَ يظهر في التحول من نقدٍ إلى نقد، في أن المستبدِلَ لم يحد عن المقصود، فإن النقود إذا استوت في الجريان، فليست هي مقصودةً لأعيانها، وإن سميت، ويعتضدُ هذا بحديث عبدِ الله بن عمر. ولا مطمع في تقدير معنى.
وكل ما أجريناه مسالكُ ضعيفة لا تصبرُ على السبر مع مصيرنا إلى أن إفلاس المشتري بالثمن يُثبت حقَّ الفسخ في المبيع. وقد ينقدح فيه أن يقال: المالية تعذّرَت بالإفلاس.
وهذا منتهى الكلام في الاستبدال، وما يجوز منه وما يمتنع.
فصل
في تلف المبيع قبل القبض وتعيُّبه
3103 - الكلامُ في التلف والنقصان: فأما التلف، فلا يخلو إما أن يكون بآفة سماوية، وإما أن يكون بإتلاف متلفٍ. فإن كان التلفُ بآفةٍ، فالبيع ينفسخ، والمبيع
__________
(1) في الأصل: الجنس.

(5/198)


يرتدُّ إلى ملك البائع تبيُناً (1) قبل تقدُّر تلفه. وهذا من ضرورة الحكم بالانفساخ، فإنه لو هلك ملكاً للمشتري، لاستحال أن يُستردَّ الثمنُ، ويُقضَى بانفساخ العقد، حتى قالَ الأئمةُ: لو مات العبدُ المبيعُ قبل القبض، فمؤنةُ تجهيزه ودفنهِ على البائع.
ثم إذا كان يتقدم انتقالُ الملك على التلف، فقد ذكر بعضُ المصنفين وجهين في التقدير: أحدهما - أنه ينتقل الملك إلى البائع قبيل التلف. والثاني - أنه يستند إلى أول العقد. وحقيقة هذا يرجع إلى أنا نتبين بالأَخَرة أن لا عقدَ أصلاً، فيكون العقدُ قبل القبض موقوفاً على ما تبين، فإن لم يسلَم المبيع، تبيَّنا أن لا عقدَ فيما مضى.
وهذا في نهايةِ البُعد.
وبنى هذا القائلُ الزوائدَ المتجدّدة بعد العقد على ما ذكره. وقال: إن قدرنا النقلَ قبيلَ الموت (2)، فالزوائدُ المنفصلةُ تسلم للمشتري؛ لأنها تجدّدت على ملكه، وإن حكمنا بتبين [انتفاء] (3) العقدِ، فالزوائد تكون للبائع على طرد التبين أيضاًً، ولعلنا نعيد فصل الزوائد في باب الخراج.
هذا كله تفصيل القول فيه إذا تلف المبيع لا بجنايةِ جانٍ.
3104 - فأما إذا أتلفه متلفٌ، لم يخلُ إما أن يتلفَه أجنبي، أو يتلفَه المشتري، أو يتلفَه البائع.
فإن أتلفه أجنبي، فالذي قطع به المراوزةُ أن البيعَ لا ينفسخ. وذكر العراقيون قولين في انفساخ العقد: أحدهما - أنه ينفسخ، كما لو تلف بالآفة السماوية؛ فإن المعقود عليه العينُ المبيعةُ وقد فاتت. والقول الثاني - أن البيع لا ينفسخ، ولكن المشتري بالخيار. كما سنفصله في التفريع. ووجه هذا القولِ أن إتلاف الأجنبي أعقب ضماناً على المتلف، والقيمةُ إذا ثبتت خلفت المقوَّمَ في الأعواض المالية.
__________
(1) سبق أن شرحنا مصطلح التبيّن، وهو أن يظهر في الحال أن الحكم كان ثابتاً من قبل في الماضي بوجود علة الحكم والشرط كليهما في الماضي.
(2) كذا. ولعلها: قبل (التلف).
(3) زيادة من (هـ 2).

(5/199)


التفريعُ:
3105 - إن حكمنا بأن البيع ينفسخ فالمشتري يسترد الثمنَ، والبائعُ يطالب الأجنبي بقيمة المتلف.
وإن قلنا: لا ينفسخ البيع، فالمشتري بالخيار. وسببُ خياره أنه عدِم العينَ التي كانت مورداً للبيع؛ فإن فسخ العقدَ، عاد التفريع إلى ما ذكرناه في قول الانفساخ.
وإن أجاز العقدَ [استقرّ] (1) الثمنُ عليه، واتبع [الأجنبي] (2) بقيمةِ المتلَف، فإذا غرِم الأجنبي القيمةَ، والتفريع على أنه يثبت للبائع حقُّ الحبس (3)، فهل يستحق حبسَ القيمةِ حتى يتوفر الثمن عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحق ذلك، كما لو أتلف أجنبيٌ العينَ المرهونةَ، وغرِم القيمةَ؛ فإنها تكون محبوسةً بالدين. والوجه الثاني - أن البائع لا يملك الحبسَ؛ فإن حق حَبْسه لم يكن مقصود عقدٍ حتى ينتقلَ من العين إلى القيمة، بل ثبت على طريق التبعية، فينبغي أن يسقط بتلفِ العين. والدليل عليه أن الراهن لو أتلف العينَ المرهونةَ في يد المرتهن، فإنه يغرِم قيمتَها لتكون رهناً، والمشتري لو أتلف المبيعَ، لم يلزمه بَذْلُ القيمةِ للبائع لتكون محبوسةً.
التفريع:
3106 - إن قلنا: لا يملك البائع حبسَ القيمةِ المأخوذةِ من الأجنبي، سِيقت القيمةُ إلى المشتري، ولم يملك البائعُ إلا مطالبتَه بالثمن. وإن قلنا: يملك البائعُ حبسَ القيمةِ، فلو تلفت تلك القيمةُ المحصلة في يده بآفة سماوية، فالمذهب أن البيعَ لا ينفسخ؛ فإن سببَ انفساخِ البيع تلفُ المبيع. وليست القيمة مبيعةً؛ إذ قد تكون ألفين والثمنُ ألفاً. ومن أصحابنا من حكم بالانفساخ.
وهذا خبطٌ. وسببه أن الأصح أن البائعَ لا يملك حبسَ القيمة، والتفريعُ على الضعيف أضعفُ من أصله.
3107 - فأما إذا تلف المبيع بإتلاف البائع، قال العراقيون: في المسألة طريقان.
وقالت المراوزة: في المسألة قولان: أحدهما - أن إتلافَ البائع المبيعَ بمثابة تلفه بآفة
__________
(1) في الأصل: استتر.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في (هـ 2): الفسخ.

(5/200)


سماوية. وهذا أحدُ الطريقين للعراقيين. والقول الثاني - أن إتلاف البائعِ كإتلاف الأجنبي، وإتلافُ الأجنبي لا يوجب (1) انفساخَ العقدِ في طريق المراوزة. وهو على قولين في طريقة العراقيين.
التوجيه: من لم يجعله كالأجنبي، احتج بأن ضمانه يجب أن يكون ضمان العقود؛ [إذْ] (2) لم يجرِ القبضُ بعدُ، [و] (3) ضمانُ العقودِ يتضمن ردّ الثمن.
والقول الثاني - أنه كالأجنبي، فإنه جنى على ملكٍ مستقرٍّ للمشتري.
التفريع:
3108 - إن حكمنا بالانفساخ، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ على اختلافِ الترتيبين، فالمشتري بالخيار بين أن يفسخ، ويرجعَ إلى الثمن، وبين أن يجيز العقدَ، ويُلزمَ البائع قيمةَ المبيع. ثم التفريع وراء ذلك كما مضى.
وكان شيخي يقطع بأنه لا يثبت للبائع حقُّ الحبس في القيمة التي يغرمها؛ فإنه المتسبب إلى إبطال حقه من الحبس في عين المبيع، وليس كالأجنبي. وفي المسألة احتمال على بُعدٍ.
وطرد الأصحابُ وجهين في المرتهن إذا أَتلفَ العينَ المرهونةَ، وغرِم القيمةَ في أن القيمة هل تكون مرهونةً؟ وسيأتي ذلك في الرهون - إن شاء الله تعالى.
3109 - فأما إذا أتلف المشتري المبيعَ، فإتلافُه قبضٌ للمبيع، اتفق الأصحاب عليه؛ فيستقر العقدُ والثمنُ، ولا يلزمُ المشتري بذلَ القيمة ليحبسَها البائعُ وجهاً واحداً. وتعليل ذلك أن إتلافَه صادفَ ملكَه، فاستبعد العلماءُ أن يقضُوا بردّ المتلَفِ إلى ملك الغيرِ، بعد صَدَرِ الإتلاف من المالك.
وإذا أعتق المشتري العبدَ المبيعَ قبل القبض، ونفذنا عتقَه على التفصيل المقدّم، كان إعتاقُه قبضاً، وإتلافاً للمبيع، من طريق الحكم.
هذا كلُّه كلامٌ في تلفِ المبيعِ بالجهات.
__________
(1) (هـ 2): يوجب (بدون " لا ").
(2) ساقطة من الأصل.
(3) الواو ساقطة من الأصل.

(5/201)


3110 - فأما نقصانُ المبيع، فإنه ينقسم إلى نقصان جزئي، وإلى نقصانٍ لا يتطرق إليه التجزُّؤ.
فأما النقصانُ الجزئي، فهو بمثابةِ ما لو اشترى عبدين، فتلف أحدُهما، أو كُرَّيْن (1) من الطعام، فتلِفَ أحدُهما، فالبيع ينفسخ في التالف، وفي انفساخِه في الباقي قولا تفريق الصفقة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ثم المذهب الذي عليه التفريع أنا إذا خيرنا المشتري على قولنا لا ينفسخ العقد في الباقي، فإن أجاز العقدَ في الباقي، أجازه بقِسْطه من الثمن، هذا هو الصحيح. وفيه قول آخر، سنذكره في تفريع تفريق الصفقة.
والنقصان الذي يرجع إلى الجزئية [يَحُدُّهُ] (2) في ضبط المذهبِ أن يكون التالفُ بحيث يمكن إفرادُه بالبيع، ولا يكون جزءاً من الباقي.
ولو باع رجلٌ داراً، فاحترق سقفُها، فقد اختلف أئمتُنا في ذلك: فذهب بعضُهم إلى أن ذلك بمثابة تلفِ أحدِ العبدين، من قِبَل أنّ إفرادَ السقف بالبيع قد يمكن تقديرُه، وإن عسر فرضُه لتعذُّرِ فصلِه، فلا تعويلَ على ذلك، مع إمكانِ إفرادِ السقف بتقديرِ القيمة له، وليس ذلك كأطراف العبد؛ فإنها لا تستقلّ فيما ذكرناه. ومن أصحابنا من جعل احتراق السقفِ وتلفِ غيره من بنيان الدار بمثابة تلفِ أطرافِ العبد، حتى ينزل منزلةَ العيبِ، على ما سنفصله.
هذا بيانُ ما يتعلق [بنقصانِ الجزءِ.
3111 - فأما القولُ في العيب الذي يتعلّق بصفةِ المبيع، ولا يتعلق، (3) بما ينقسم في حكم التقويمِ، أو في حكم الإفراد بالعقد، فالوجه أن نُعيد فيه التقاسيمَ الثلاثة.
فإن عابَ المبيعُ بآفةٍ سماوية، مثلِ أن سقطت يدُ العبد بآفةٍ قبل القبضِ، فللمشتري
__________
(1) كُرَّين، مثنى كُر، والجمع أكرار، مثل قفل وأقفال. والكرّ مكيالٌ يسع ستين قفيزاً. (مصباح).
(2) في الأصل: نجده.
(3) سقط ما بين المعقفين من الأصل.

(5/202)


الخيارُ لا غيرُ؛ فإن ردّ ارتدَّ الثمنُ، وإن أجاز لزمهُ تمامُ الثمن. والقول في أحكام الرد في باب الخراج.
3112 - وإن قطعَ أجنبيٌّ يدَ العبدِ المبيعِ، فهذا نفرعه على حكم إتلافهِ، فإن جعلنا إتلافَه بمثابةِ التلفِ بآفةٍ سماويةٍ، فمساقُ ذلك يقتضي لا محالةَ ثبوتَ الخيارِ للمشتري، كما لو عابَ المبيعُ بآفةٍ سماويةٍ. ثم إن فسخ استرد الثمنَ، والبائعُ يطالب الأجنبي بأرش اليد، وإن أجاز استقر الثمنُ عليه للبائع، وله مطالبة الأجنبي بأرش اليد.
وإن فرعنا على أن إتلافَه لا يكون كالتّلفِ بالآفةِ السماويةِ، فالخيارُ يثبت للمشتري أيضاًً؛ لأن المبيعَ في عُهدةِ البائع إلى أن يسلّم، والدليل عليه أنا في صورة إتلافِ الأجنبيِّ نُثبت الخيارَ للمشتري أيَضاً، لجريان التلفِ في عُهدةِ البائعِ. فإن أجاز المشتري العقدَ غرِم الأجنبيُّ أرشَ اليدِ. وإن فسخ استردَّ الثمنَ، وغَرَّمه البائعُ (1).
فيستوي التفريع على القولين في كل حكمٍ بسببين: أحدهما - أن الذي جرى ليس [تلفَ أجنبي] (2) يتطرق الاختلافُ إليه في الانفساخ، والعهدةُ مطردةٌ على البائع في كلِّ قولٍ، واجتماع هذين المعنيين يوجب تسويةً بين القولين.
3113 - وإذا عابَ المبيعُ بفعل من جهة البائعِ، فإن جعلناه بمثابةِ الأجنبيّ، فقد مضى التفريعُ فيه، فيثبتُ له مطالبةُ البائعِ بأرش الجنايةِ، فسخَ أو أجازَ (3).
وإن جعلنا [فعله] (4) كالآفة السماويةِ، فنقول على ذلك: إن فسخ، استردّ الثمن
__________
(1) أي يغرّم البائعُ الأجنبيَّ (ر. الروضة: 3/ 505، وفتح العزيز بهامش المجموع: 8/ 410، وقليوبي وعميرة: 2/ 212).
(2) في الأصل: "تلفاً حَتى".
(3) هذه العبارة وردت بحروفها عند العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية: "وإن أُلحق البائعُ في الإتلاف بالأجنبي، فله (أي المشتري) مطالبة البائع بالأرش، فسخ أو أجاز" ثم عقب قائلاً: كذا ذكره الإمام (إمام الحرمين) وفيه نظر" ا. هـ بنصه (ج 3 ورقة 204 ظهر.
مخطوطة مصورة).
(4) في الأصل: نقله.

(5/203)


ليس له غيره، وإن أجاز، لم يطالِب البائعَ بأرشِ الجناية؛ لأنا نزلنا فعلَه منزلةَ آفةٍ سماوية.
فإن قيل: هلاّ سلكتُم هذا المسلكَ فيه إذا كان الجاني أجنبيّاً؟ قلنا: لا تعلّق للعقد به، وإنما يلتزم ما يلتزم بالجناية المحضة، فيستحيل أن نُحبط جنايتَه في جهةٍ من الجهات، [نعم] (1) يجوز أن يختلف مستحِق الأرش، فأما أن يَبْرَأَ الجاني، فهذا محال. وإذا كان الجاني هو البائع، وجعلنا فعلَه كآفةٍ سماوية، فعهدةُ العقدِ متعلقةٌ به، فكفى إثباتُ حقّ الرد للمشتري، وهذا بمثابةِ إتلافهِ على قولنا: إنه كالتلف السماوي، فإنا لا نُلزمه القيمةَ.
والمرأةُ إذا ارتدت، فقد أفسدت على زوجها حقَّ المستمتعِ، ولا تنزل منزلةَ المرضعةِ تُفسدُ النكاح بالإرضاع.
وإن عاب المبيع بجنايةِ المشتري بأن قطع [يدَ العبدِ] (2) المبيع، فلا شك أنه لا خيارَ له، وإن جرى القطعُ في استمرارِ يدِ البائع، ولكنا نجعله قابضاً لمقدارٍ من المبيع؛ فإن إحباطَ الجنايات لا سبيلَ إليها، والعيبُ في هذا المقام بمثابةِ جزء من المبيع.
ثم قال العلماء: إن ألزمنا الأجنبي أرشَ القطعِ، فجراحُ العبدِ من قيمته، كجراح الحرِّ من ديتِه على النَّصِّ. وفي المسألة قولٌ آخر خرّجَه ابنُ سُريج: إنه يتعلق بالجنايةِ نقصانُ القيمة، وسيأتي ذلك في كتاب الخراج.
وإن جعلنا البائعَ كالأجنبي في الجناية، فقطع يدي العبدِ، ثم رجليه، واندملت الجراحات، فقد نُلزمه بسبب اليدين القيمة الكاملة وبسبب الرجلين قيمة عبدٍ أقطعَ اليدين، ثم نسلِّم العبدَ إلى المشتري إذا كان أجاز، ولا نلزمه إلا الثمن المسمَّى.
3114 - وأما إذا كان الجاني هو المشتري، فقد قطع الأئمة بأن المرعيَّ في حقه النقصانُ لا المقدَّر، والسببُ فيه أنا لو اعتبرنا المقدّرَ، لجعلناه قابضاً للعبد حُكماً إذا
__________
(1) في الأصل: ثم.
(2) ساقط من الأصل.

(5/204)


قطع يديْه، مع بقاء العبد في يدِ البائع، وهذا محالٌ لا سبيل إليه؛ فكانت هذه الصورة مستثناةً من بين الصور في القطع، باعتبار النقصان؛ والسببُ فيه أن قطعَه ليس بجناية، وإنما هي قبض، والأرش يتقدّر في الجنايات.
ومن غصب عبداً فسقطت يداه بآفةٍ، لم يلزمه إلا النقصانُ، مع تحقق العدوان، لأنه لم يجنِ، فلا إشكالَ إذن في أن الأرشَ المقدرَ لا سبيل إلى اعتباره في حق المشتري، وليس ذلك معللاً بالضرورة، وإنما تنكر (1) في الضرورة بتلك الصورة مستشهد بها للتقريب من فهم المسترشد. والتعليلُ ما ذكرناه، من أن ما صدر منه ليس جناية.
فهذا تفريعُ التلفِ والنقصانِ على أبلغ وجهٍ وأوجزِه.
فرع:
3115 - إذا غصبَ المشتري المبيعَ من يد البائعِ، قبل توفيرِ الثمنِ عليه، فإن لم نُثبت للبائع حقَّ الحبس، فلا كلامَ. وإن أثبتنا له حقَّ الحبس، فلو أتلف البائعُ المبيعَ في يدِ المشتري وكان اغتصبه، فنقول: أوّلاً للبائع استردادُ المبيع منه لحقه في الحبس؛ فإن أتلفه البائعُ، فقد (2) ذكر صاحبُ التقريب قولين: أحدهما - أن البيعَ قد استقر بقبضه وإن ظَلَم (3) فيه، فعلى البائع القيمةُ، ولا خيارَ للمشتري في فسخ البيعِ.
والقولُ الثاني - أن الخيارَ يثبت للمشتري؛ فإن إتلافَه على صورة إتلاف المشتري، والمشتري إذا أتلف كان قابضاً، فإذا أَتلفَ البائع، كان ذلك في معنى استراد العين من المشتري، ثم ردّد كلامَه على وجهٍ معناه ما نبديه: فيحتَملُ أن يقال: ينفسخ العقدُ بإتلافه، وكأنه ردّ المبيع إلى يدهِ، ثم أتلفه، ليخرج على الخلاف في إتلاف البائع
__________
(1) في هامش (هـ 2) نسخة أخرى: " تيك الضرورة في تلك الصورة ". والعبارة على الحالين غير مستقيمة، ولعل تصحيفاً وقع فيها وصوابها: "وإنما (يذكُرُ) في الضرورة تلك الصورة مستشهدٌ ... " ومستشهد فاعل (يذكر) أو سقطت الألف علامة التنوين في مستشهد، وتكون هكذا: تتكرر في الضرورة ... مستشهداً بها. والله أعلم.
(2) في النسختين: قد (بدون الفاء).
(3) أي كان ظالماً في قبضه، حيث اعتدى على حق البائع في حبس المبيع.

(5/205)


المبيع. والظاهر أن البيعَ لا ينفسخُ، ولكن للمشتري الخيار في الفسخ والإجازة، ثم لا يخفى تخريجُ الحكمين وتفريعُهما. ولو تَلف المبيع في يد آخذه، وهو المشتري، كان من ضمانه ولا [يستفيدُ] (1) التصرفَ فيه، لبقاء حق الحبس للبائع فيه.
فهذا تفصيلُ القول في ذلك.
* * *
__________
(1) في الأصل: يستند.

(5/206)


باب بَيعْ المصرَّاة (1)
قال الشافعي: "أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُصَرُّوا الإبلَ والغنمَ للبيع، فمن ابتاعَها بعد ذلك، فهو بخيِّر النظرين بعدَ أن يحلبها ثلاثاً: إن رضيها، أمسكها، وإن سخِطَها ردَّها وصاعاً من تمر" (2).
3116 - التصريّةُ: الجمعُ، وهو مصدر صَرِيَ يَصْرَى، ويقال للماء المجتمعِ في مستنقعه ماءٌ صَرَىً (3) وصَري، ومعنى التصريةُ في مقصود الباب جمعُ اللبن، وسدُّ الأخلاف (4)، وتركُ الحِلاب، حتى تتكاملَ الدَّرَّة وتتضاعفَ نُوبٌ (5) منها، فينظر الناظر فيحسَبُ ما يشاهد درَّةَ نوبةٍ، فيعتقدُ غزارة اللبن، وقد تُسمَّى المصراةُ مَحَفَّلةً، والتحفيل الجمع أيضاًً. والخبر يرد باللفظين.
فنقول: من صَرى ناقةً أو بقرةً أو شاةً، وأوهمَ بالتصريةِ غزارةَ اللبن، ثم استبان المشتري أن لبنَ المشتراة بَكِيٌّ (6) أو مقتصد، فله الخيار، وإن لم يَجْرِ شرطُ غزارةٍ
__________
(1) من هنا صار التحقيق معتمداً على ثلاث نسخ، فقد أضيفت نسخة (ص) (راجع وصف النسخة والتعريف بها في المقدمة).
(2) ر. المختصر: 2/ 184، والحديث متفق عليه، من حديث أبي هريرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 970).
(3) صَرِي صرى: من باب تعب، وصَرَى يصري: من باب رمى، متعدّ، وماء صَرىً، وصفٌ بالمصدر. وصريتُه بالتثقيل مبالغة (المصباح) ولا تُصرُّوا: بضم التاء، وفتح الصاد، على وزن لا تزكوا. قال الحافظ: "هذا هو الصحيح، وبعضهم يرويه بفتح التاء وبضم الصاد".
(التلخيص: 3/ 54 ح 1195).
(4) الأخلاف: جمع خِلف بكسر الخاء، وهو من ذوات الخف كالثدي للإنسان، وقيل: الخِلْف طرف الضرع. (مصباح).
(5) نُوَب: جمع نوبة، وهي المرة من الحلْب.
(6) بكي: قليل من بكأت البئر: قل ماؤها، والحيوان الحلوب: قلّ لبنه.

(5/207)


لفظاً، والمعتمدُ في الباب الخبرُ الذي رواه الشافعي.
ثم الكلامُ يتعلق بفصلين: أحدهما في الخيار. والثاني فيما يردّه إذا ردَّ البهيمةَ في مقابلة اللبن.
[الفصل الأول] (1)
3117 - فأما القول في الخيار: فإذا جرت التصريةُ كما وصفناها، وتعلّق بها ظنُّ المشتري ثم أَخْلَفَ، ثبت الخيار. وقاعدةُ مذهب الشافعي تدل على أن ثبوت الخيار جارٍ على القياس. وبيان ذلك أن أئمة المذهب قضَوْا بأن كل تلبيسٍ حالٍّ محلَّ التصرية من البهيمة إذا فُرض إخلافٌ فيه، ثبت الخيارُ، فلو جعَّد الرجلُ شعرَ [المملوك تجعيداً] (2) لا يتميز عن تجعيد الخِلقة، ثم زال ذلك، ثبت الخيار للمشتري، فنزلوا التجعيد منزلةَ اشتراطِ الجعودة، وقد طردتُ في هذا مسلكاً في (الأساليب) وإذا جرى الخُلفُ بشيء لا ظهورَ له، فلا مبالاة به، كما إذا كان على ثوب العبد نقطةٌ من مداد، [فهذا لا يتنزل منزلةَ شرط كونه كاتباً، ولو كان وقْعُ المدادِ] (3) بحيث يعد من مثله أن صاحب الثوب ممن يتعاطى الكتابةَ، فإذا أخلفَ (4) الظنُّ، ففي ثبوت الخيار وجهان. وإذا بني أمرٌ على ظهورِ شيء في العادة، فما تناهى ظهوره يتأصل في الباب، وما لا يظهر يخرجُ عنه، وما يتردد بين الطرفين يختلف الأصحاب فيه.
وهذه المراسمُ تكررت في هذا المجموع.
ومن صور الخلاف أن مالك الشاة إذا سعى في علفها على خلافِ العادة حتى ربا بطنُها، وكان يبغي بذلك أن يغلبَ على ظن الناظرِ أنها حامل، فإذا جرى ذلك، ففي ثبوتِ الخيارِ وجهان. وسببُ الاختلاف أن رَبْو البطن من العلفِ لا يكاد يلتبس بمخيلة
__________
(1) هذا العنوان من عمل المحقق أخذاً من كلام المصنف.
(2) زيادة من (هـ 2)، (ص).
(3) ساقط من الأصل.
(4) أخلف: لم يتحقق، يقال: أخلف الغيثُ أطمع في النزول، ولم ينزل. وفي (هـ 2) و (ص): أخلف ذلك الظن.

(5/208)


الحمل وعلامته، فكان الاختلاف للتردد فيما ذكرناه.
وألحق الأئمةُ بصورة القطع حبسَ الماء في القناة وإرسالَها حالة البيع، أو حالةَ الإجارة، وقد يفرضُ ذلك في إجارة الطواحين (1).
وكل هذا مثبتٌ للخيار ملتحقٌ بصورة القطع.
3118 - ومما يتصل بهذا أن من باع جارية ذاتَ لبنٍ، وكان صرّاها، فإذا بان خلافُ المظنون (2)، ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما - يثبت الخيار [كما يثبت في البهيمة المصراة. والثاني - لا يثبت الخيار] (3)؛ فإن اللبن لا يقصدُ من الجارية إلا على ندور في الحضانة.
وهذا الخلاف ليس من النمط الذي ذكرناه قبيل هذا؛ فإن التلبيس بالتصرية في الجارية كالتلبيس بالتصرية في البهيمة، وإنما نشأ الاختلاف من أصلٍ آخر، وهو أن الأصل في خيار الخُلْف أن يترتب على الشرط، والفعلُ الموهم المدلّس أُلحق بالشرط، وهو دونه، ويقوى أثرُه فيما يظهر توجُّه القصدِ إليه، [فأما ما لا يتوجه القصدُ إليه] (4) فلا يظهر التلبيسُ فيه. ويمكن أن يقال: هذا مع هذا التقريب يلتحق بما قدمناه من مواقع الخلاف؛ فإن الشيء إذا كان لا يقصد، فما يجري من تلبيسٍ فيه وفاقاً لا يوهم. ويمكن أن يقرَّب مما تقدم من وجهٍ آخر، وهو أن الضروعَ والأخلافَ يُعتاد معاينتها، ويدركُ الفرقُ فيها، وليس كذلك الثديُ في بنات آدم؛ فإن المشاهدةَ لا تتعلق به غالباً.
وغرضُنا تخريجُ الوِفاق والخلافِ على أصولٍ ضابطةٍ.
3119 - وذكر العراقيون التصرية في الأتان. والمسلك المرضي ما نزيده فنقول: ظاهر المذهب أن لبن الأتان نجس، فإذا فرضنا التصريةَ، فاللبن لا يقابَل بشيء، ولكن لا يبعد ثبوت الخيار؛ إذ قد يُقصد غزارةُ لبنها لمكان الجحش، فيلتحق هذا
__________
(1) المراد الطواحين التي يستخرج بها الماء من باطن الأرض.
(2) في (هـ 2) المطلوب، (ص): المضمون.
(3) زيادة من (هـ 2) و (ص).
(4) سقط من الأصل.

(5/209)


الخيارُ بصور التردد. ومن أصحابنا من حكم بطهارة لبنها وحرّمه، فالقول كما مضى؛ فإن اللبن المحرمَ لا يتقوّم. ومن أصحابنا من حكم بحل لبنها تفريعاً على الطهارة، حكاه العراقيون عن الإصطخري.
وهذا عندي لا يلتحق بالمذهب، وهو من هفوات بعض الأئمة، فنقول: إن لم يُبح اللبن، فالنظر في الخيار. وإن فرعنا على الوجه الضعيف وأبحناه، فالقول في تصرية الأتان كالقول في تصرية الجارية. وسنذكر أن لبن الجارية هل يقابل بشيء في الفصل الثاني من الباب.
فرع:
3120 - إذا تحفَّل اللبنُ بنفسه من غير قصدٍ من مُحفل، ثم جرى الظن والإخلافُ كما ذكرناه، ففي ثبوت الخيار وجهان. كان يذكرهما شيخي في الخلاف، وذكرهما غيره.
وعندي أن الخلافَ في ذلك يشير إلى تردد الأصحاب في مأخذ الخيار في الباب، وينقدح للخيار مأخذان: أحدهما -[تَنْزيلُ] (1) فعلِ الملبِّس منزلةَ قوله؛ فإنه بشرطه يُطمع المشتري في مقصودٍ، وقولُه بين الخُلْف والصدق. كذلك الفعل يُنَزَّلُ هذه المنزلةَ.
ومن أصحابنا من يبني الخيار في الباب على قاعدةِ خيارِ العيب، ويزعم أن من اشترى عبداً مطلقاًً، ولم يقع التعرضُ لشرط السلامة، فسبب الخيار إشعارُ ظاهرِ الحال بالسلامة، فإن بان ما يخالف الظاهر، ترتب عليه خيارُ الرد. وهذا يتحقق في المحفَّلة، فإن ظاهرَ الأمر يُشعر بغَزَر (2) اللبن.
فإن أخذنا الخيار من تشبيه فعل الملبِّس بقوله، فلا خيار في التي تحفَّلت بنفسها، من غيرِ قصد. وإن أخذنا الخيار من تنزيل العقد على الظاهر، فهذا يقتضي ثبوتَ الخيار في التي تحفلت من غير تحفيل (3).
__________
(1) فِي الأصل: ينزل.
(2) غزَر: غزارة. وهذا معهود في أسلوب إمام الحرمين، فيستعمل صَدَر مكان صدور، وحَدَث مكان حدوث.
(3) في (هـ 2): محفل.

(5/210)


فرع:
3121 - إذا اشترى مصراة فكما (1) حلبها اتفق درور لبنٍ على الحد المطلوب التي دلّت التصريةُ عليه، ثم استمر الأمر كذلك وفاقاً، فهل يثبت الخيار للمشتري؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون، وهما خارجان على قياسنا أيضاًً.
والخلاف في ذلك مُشبهٌ بأصلٍ سيأتي في الخراج، ويلتفت على أصلٍ في النكاح.
فأما ما يأتي في الخراج، فهو أن من اشترى عبداً، وكان به عيبٌ قديم، لم يتنبه له المشتري إلا بعد زواله، ففي ثبوت الخيار وجهان، ووجه الشبه بيّن.
وأما أصلُ النكاح: فإذا أُعتقت الأمةُ تحت زوجها الرقيق، فلم تشعر حتى عَتَق الزوجُ، فهل يثبت لها الخيار الآن؟ فعلى اختلاف نصوصٍ وأقوال.
وذكر العراقيون أن من ابتاع شاةً وعلم أنها مصراةٌ، ثم تحقق الأمرُ كما علم، وقل اللبنُ، فهل يثبت الخيار؟ فعلى وجهين.
ولست أرى لقولِ من قال بثبوت الخيار هاهنا وجهاً، إلا أن يقول قائل: لعل المشتري يستبهم عليه من التحفيل قدرُ اللبن الأصلي، فإذا رجع إلى أصله، فقد يكون دون القدر المظنون (2). وهذا مزيف لا أصل له.
وقد انتهى القول في الخيار.
3122 - وإذا تبين أصلُ الخيار، فالكلام بعد ذلك في أنه على الفور أم لا؟ وكيف السبيلُ فيه؟ فنقول: إذا لم يتبين للمشتري اختلاف ظنه إلا بعد يومٍ، أو يومين مثلاً، فلا يبطل خيارُه؛ فإن الكلام في الفور والتراخي يقع بعد الاطلاع على موجِب الخيارِ.
فلو حصل الاطلاع في اليوم الأول مثلاً، فالخيار يثبت على الفور أم يمتد إلى انقضاء ثلاثة أيام من وقت العقد؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه على الفور، قياساً على خيار الخُلف والعيب، كما سيأتي حكمهما إن شاء الله عز وجل.
والوجه الثاني - أنه يمتد ثلاثةَ أيامٍ؛ فإنه صح في روايات حديث المصراة أنه عليه
__________
(1) "فكما" بمعنى (عندما).
(2) (هـ 2)، (ص): المطلوب.

(5/211)


السلام قال: " فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثاً " فهذا خيارٌ شرعي مؤقت بما يتأقت به خيارُ الشرط، فاتُّبِع.
ومن قال بالوجه الأول، انفصل عن ذكر الثلاثة في الحديث، وقال: الغالب أن التلبيس لا يبين إلا بعد تكميل الحَلْب (1)، فجرى ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تنزيلاً على العادة في الباب.
قال شيخي: من أثبت الخيارَ ثلاثةَ أيامٍ، يُلحقه بخيار الشرط في حكمه، ويعيد فيه الاختلافَ في أن هذا الخيارَ يحتسبُ من وقت العقد، أو من وقت انقضاء خيارِ المجلس، كما تقدم ذكره في خيار الشرط بالإضافة إلى خيار المجلس.
ولو حصل الاطلاع على خُلْف (2) الظن آخرَ جزء من الأيام الثلاثة، فلا خلاف أنا لا نتعدى هذا، فلا يظنن ظان أنَّا نمدُّ الخيارَ من وقت الاطلاع ثلاثة أيام.
فإذا ظهر ذلك، فالمطلعُ في آخر الأيام خيارُه على الفور. ومأخذُ الفور على أحد الوجهين القياسُ على النظائر في خيار الخلف، والردَّ بالعيب.
وهو على الوجه الثاني من مصادفته آخر الوقت، لا من كونه في وضعه على البدار والفور.
وقد نجز القول في الخيار تأصيلاً وتفصيلاً.
[الفصل الثاني] (3)
3123 - وأما الفصل الثاني، فمضمونه الكلام فيما يرده المشتري في مقابلة اللبن، إذا ردَّ البهيمة المصرَّاة. وهذا الفصل معتمده الخبر في أصل المذهب، وليس كأصل الخيار؛ فإنه قد يستدّ فيه طرفٌ من القياس، كما نبهنا عليه، فالمعتمد إذاً في المردود
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، ولعلها: " بعد تكميل الثلاث "، أو "بعد تكميل الحلب ثلاثاً" والله أعلم.
(2) في (هـ 2)، (ص): خلاف.
(3) العنوان من وضع المحقق أخذاً من تقسيم الإمام.

(5/212)


قول النبي عليه السلام: " وإن سخطها ردّها، ورد معها صاعاً من تمر ". واختلف طرق الأصحاب: فذهب بعضهم إلى اتباع الخبر ومحاذرةِ الميل عنه، فأوجبوا في مقابلة اللبن المحلوبِ صاعاً من تمر، قلَّ اللبنُ أو كثر. فإن قل قدرُ اللبن مرةً وأبرّت عليها قيمةُ الصاع، عارضَ ذلك الاكتفاءُ بصاعٍ من تمر وإن كثر اللبن. فهذا مسلك.
ومن أصحابنا من قال: يقلّ التمرُ بقلة اللبن، ويكثر بكثرته، فقد يوجب ردَّ آصعٍ، وقد يكتفى بردّ مُدٍّ، فما دونه، على ما يقتضيه تعديل القيم.
3124 - ثم كما اختلف الأصحاب في المقدار: فصار صائرون إلى اتباع الصاع، من غير زيادة ولا نقصان، وذهب آخرون إلى اعتبار قيمة المبذول بقيمة اللبن. كذلك اختلفوا في الجنس، فذهب ذاهبون إلى أن الأصلَ التمرُ، فلا مَعْدِلَ عنه. وقال قائلون: يقوم مقام التمر الأقواتُ؛ اعتباراً بصدقةِ الفطر، ثم لا يعدِّي الأئمةُ في هذه الطريقة القوتَ إلى الأقطِ، كما يعدي بعضهم إليه في صدقة الفطر؛ فإن السبب الحامل على المصير إلى إجزاء الأقِط خبر فيه، وذلك الخبر لا يعدَّى به مورده.
وقد روى شيخي في بعض صيغ حديث المصراة التعرضَ للحنطة. وهذا هو الذي مهد لأصحاب القوت مذهبَهم، وإلا فالأصل الاتباع.
ثم من عدَّى إلى الأقوات، وانحصر فيها، فليس منسلاً بالكلية عن الاتباع.
وأما تنزيل المبذول على قيمة اللبن، فهو مسلكٌ في الجُبران. والضمانُ منقاسٌ.
وذكر شيخي مسلكاً غريباً زائداً على ما ذكرهُ الأصحاب في طرقهم، فقالَ: من أصحابنا من قالَ نَجري في اللبن على قياس المضمونات، فإن بقي عينُه، ولم يتغيَّر، ردّه، وليسَ عليه رَدّ (1) غيرهِ. وإن تغير، ردَّ مثلَه؛ فإنّ اللبن من ذواتِ الأمثالِ؛ فإن أعوز المثلُ، فالرجوعُ إلى القيمة. وقد أومأ إليه صاحب التقريب، ولم يصرح به.
وهذا عندي غلط صريحٌ، وتركٌ لمذهب الشافعي، بل هو حيدٌ عن مأخذ مذهبه، ويبطل عليه مذهب الشافعي في مسألة المصراة، ولا يبقى إلا الخيار، فإن اعتمدنا فيه الخبر، لم يبعد من الخصم حمله على شرط الغزارة، مع تأكيد الشرط بالتحفيل.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2)، (ص).

(5/213)


فهذا إذن هفوةٌ غير معدودةٍ من المذهب ولا عودَ إليها (1).
التفريع على الوجهين المقدَّمين:
3125 - من قال بالاتباع [والانحصارِ] (2) على الصاع فلو (3) بلغت قيمةُ الصاع قيمة الشاة، أو زادت، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما: أنا نوجب الصاع وإن بلغت قِيماً، ولا ننزل عن الاتباع.
والوجه الثاني (4): أنا لا نرى ذلك؛ فإن النبي عليه السلام وإن نصَّ على الصاع من التمر، فقد أفهمنا أنهُ مبذولٌ في مقابلةِ شيءٍ فائت من المبيع يقعُ منه (5) موقعَ التابع من المتبوع؛ فينبغي أن لا يتعدَّى على (6) هذا المعنى حدَّ التوابع. [والغلوّ] (7) في كلِّ شيءٍ مذموم، وقد يغلو المتبعُ للفظ الشارع، فيقع في مسلكِ أصحاب الظاهر.
التفريع على الوجهين:
3126 - إن حكمنا بأن الصاعَ واجبٌ، فلا كلام، وإن لم [نر] (8) إيجابَ الصاع في الصورة التي ذكرناها، اعتبرنا القيمة الوسط للتمر [بالحجاز] (9)، واعتبرنا بحسَب ذلك قيمةَ مثلِ ذلك الحيوانِ اللبون بالحجاز، وإذا نحن فعلنا هذا، جَرى الأمرُ في المبذول على الحدّ المطلوب.
ثم قال العراقيون: إن زادت قيمةُ الصاع على نصف قيمة الشاة، فالوَجهان
__________
(1) راجع حكاية السبكي لهذا الكلام بنصه، وتعليقه عليه، فإنه بالغٌ مفيد (المجموع: 12/ 51, 52, 53).
(2) في الأصل: الحصار، والمثبت من (هـ 2) و (ص).
(3) في (ص): فقد تغلب.
(4) ساقطة من (ص).
(5) في (ص): يقع (فيه) موقع (البائع) من (المبيع).
(6) ساقطة من (ص).
(7) ساقطة من الأصل.
(8) ساقطة من الأصل.
(9) ساقطة من الأصل، والمثبت من (ص).

(5/214)


جاريان، وإن كانت قيمةُ الصاع مثلَ نصفِ قيمة الشاة، فيجب بذلُ الصاع، هكذا رواه (1).
وقطع صاحب التقريب جوابه باعتبار قيمة الوَسط من صورة الوجهين.
ومما يدور في الخلد أن اللبن إن كان شُرب أو ضاع، فالأمر على ما ذكرناه. وإن كان متغيراً، لم يُردَّ وقد حدث به عيبُ التغيير، ولكن وإن كان اللبنُ موجوداً حالة العقد ثم حُلبَ وتغيَّر، فلا نجعل الشاةَ مع اللبن بمثابةِ عبدين يشتريهما الرجل، ويقبضهما ويحدُث بأحدهما عيبٌ في يَدهِ، ويطَّلِع على عيبٍ قديم بالثاني، فهذا من فروع تفريق الصفقةِ آخراً، وفيه اختلافٌ سيأتي. وليس الأمر في اللبن معَ الشاةِ كذلك، وفيه نص النبي صلى الله عليه وسلم على إقامةِ الصاع مقامَ اللبن.
وإن فرض فارض بقاءَ اللبن الحليب من غير تغير، حتى يثبت الخيار، فهذا تكلُّفُ أمرٍ لا يتصوَّر؛ فإنَ خُلفَ الظن يَبينُ بالحلب في النوبةِ الأخرى، ويتغيَّر اللبن لا محالةَ في جميع الأَهْوية. ولَو صُوِّرَ ذلَك على بُعد، فردُّ عين اللبن عندي مع الاتباع ليس بعيداً عن الاحتمال، والخبر يكون محمولاً على غالب الحال. وهذا يشابهُ قولَ من يُثبت الخيار على الفور، ويحمل ذكرَ المدةِ في الحديث على غالب الأمر، فإن الخُلف لا يبين إلا في مُدَّةٍ.
فرع:
3127 - لو بان التلبيس، ورضي المشتري بالبهيمة، ثم وجدَ بها عيباً قديماً، فأراد الردَّ، فله الردُّ بالعيبِ القديم.
ثم قالَ الأصحاب: يرُدّ مكان اللبن صاعاً من تمر، كما لو رَدّ بسبب التصرية، قطع الإمام (2) وصاحبُ التقريب والصيدلاني أجوبتَهم بذلك، ونصّ الشافعي عليه في المختصر (3).
__________
(1) الذي رواه هو أبو محمد، والد إمام الحرمين، وشيخه، وقد ترجح لدينا ذلك، اعتماداً على ما ألِفناه من أسلوب الإمام، ثم قطعنا به بعد ما قرأنا حكاية هذا القول، وجميع الأقوال في المسألة لتقي الدين السبكي في المجموع: 12/ 58، 59.
(2) الإمام: والده.
(3) ر. المختصر: 2/ 185.

(5/215)


وهذا فيه إشكال من طريق القياس؛ فإن المعنى لا يُرشد إلى إثبات الصاع بدلاً عن اللبن، وإنما المتبع فيهِ الخبر، والخبر وردَ في التصرية، والقياسُ في هذا يقتضي أن ننزلَ البهيمةَ مع وجود اللبن في ضرعها، منزلةَ ما لو اشترى الرجل شجرةً مع ثمرتها، ثم تلفت الثمر فأرادَ رَدَّ الشجرةِ بعَيب قديم صادفَهُ بها، فيدخل هذا في تفريق الصفقة، هذا حكمُ القياس. ولكن الشافعي وجميعَ الأصحاب، حكموا بما ذكرناه. والسببُ فيهِ أن الردَّ بالعيب القديم في معنى الرد بالخُلف قطعاً. واللبن في الواقعتين على قضيةٍ واحدةٍ، فرأى الشافعيُ إلحاقَ الواقعةِ بالواقعةِ، كما رأى إلحاقَ الأمة بالعبد في قوله عليه السلام "من أعتق شِرْكاً له من عبدٍ قُوِّم عليه". وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: إن من أصحابنا من ردّ هذه المسألةَ إلى موجَب القياس، وخرَّجها على تفريقِ الصفقةِ. وقد ذكرنا طريق القياس.
فرع:
3128 - إذا أثبتنا الخيارَ في الجارية المصرَّاة، فإذا رُدّت، فهل يجب ردُّ شيءٍ في مقابلةِ لبنها؟ اختلف أصحابنا في المسألة.
فمنهم من أوجب ردَّ الصاع، وقال: إذا نزّلنا الجارية منزلة البهيمة المحفّلةِ في أصلِ الخيارِ، وجب أن ننزِّلَها منزلتها في التفصيل.
والوجه الثاني -ذكره الصيدلاني وغيره- أنه لا يجب في مقابلة اللبنِ شيءٌ؛ فإنّ لبنَ الآدميات لا يباع في الغالب.
وهذا فيهِ فضل نظر، والوجه أن نقولَ: إن لم يكن لذلك القدرِ قيمةٌ، ونحن نرى تنزيلَ المبذول على قيمة اللبن، فلا يجب شيء، وإن اتبعنا الصاعَ، ولم ننزله على القلَّة والكثرة على قيمة اللبن، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - أنه يجب الصاعُ، لتحقيق الاتباع، والثاني - لا يجبُ؛ لأن الصاع [أُثبت] (1) بدلاً شرعياً، فليثبت له مبدل، وليكن المبدل متمولاً.
هذا إذا لم يكن اللبن متقوَّماً. فإن كان اللبن متقوَّماً، يجب البدل لا محالةَ، فإنَّ
__________
(1) في الأصل، (هـ 2): أثبته.

(5/216)


نفيَ البدل في هذا المقام لا يقتضيه خبرٌ ولا يوجبه قياس. [نعم، الواجب] (1) فيه وجهان سبقَ ذكرهُما: أحدهما - الصاعُ، والثاني - قدرُ قيمة اللبن من التمرِ، أو القوت.
فهذا كشف الغطاء في ذلك.
فرع:
3129 - حكى العراقيون أنَّ محمدَ بنَ الحسن قال للشافعي: لو اشترى الرجل شاةً وحلبها، ولم تكن مصراةً، فوجد بها عيباً قديماً، فهل له الردُّ بالعيب؟
فقال الشافعي: يرُدُّها. قال: فهل يردُّ في مقابلة ما حلبَ شيئاً؟ فقال: لا يلزمُه شيء؛ فإن اللبن ليس يتحقق وجودُه في غير صُورةِ التصرية، فلا يقابَلُ بشيء، ويحمل على التجدّد بعد العقد. فهذا ما ذكروه.
وفيه نظر: وذلك أنا إن كنا نرددُ القولَ في أن الحمل هل يعلَم، فاللبن معلوم في الضَرع، وكيف لا، وقد تتكامل الدرَّةُ ويأخذ الضرعُ في التقطير. ولكن الوجه في ذلك أن نجعل اللبن كالحَمْلِ، وسيأتي قولان في أن الحمل هل يقابَل بقسطٍ من [الثمن] (2) واللَّبن في معنى الحمل. فإن قلنا: لا يقابل بقسطٍ، فالجواب ما حكَوْه، وإن قلنا: إنهُ يقابلُ بقسط من الثمن، فالوجه أن يرد بسبب اللبن شيئاً.
* * *
__________
(1) في النسخ الثلاث: " نعم. ما الواجب؟ فيه وجهان ". وهذا تصرّف من المحقق.
(2) في الأصل: التمر.

(5/217)


باب الخراج بالضمان والرَّدّ بالعيبِ
قال الشافعي: " أخبرني من لا أتهم عن ابنِ أبي ذئبٍ عن مَخْلدِ بنِ خُفافٍ أنه ابتاع غلاماً، فاستغلّهُ ثم أصابَ به عيباً، فقضى له عمرُ بن عبد العزيز بردِّه، وغلّتِه، فأخبر عُروةُ عُمرَ عن عائشةَ أن النبي عليه السلام، قضى في مثل هذا أن الخراجَ بالضمان.
فردّ عمرُ قضاءَه، وقضى لمَخْلدَ بنِ خُفاف بردّ الخراجِ ... إلى آخر الكلام " (1).
3130 - مقصودُ الفصلِ [الكلامُ] (2) في حكمِ الزوائدِ الحاصلةِ من المبيع عند فرض اطلاع المشتري على عيبٍ قديمٍ يُثبت مثلُه [الردَّ] (3)، فنقولُ:
من اشترى شجرة فأثمرت، أو شاةً فولدت، أو مملوكاً فاكتسبَ، فهذه الزوائد إذا تجدَّدَت على ملكِ المشتري تسمى الزوائدُ المنفصلةُ، وإذا صوّر معها اطلاع المشتري على عيب قديم، والمبيعُ لم يلحقه عيبٌ حادث في يد المشتري، فله الردُّ بالعيب، ولا تمنعه الزوائدُ من الردّ، خلافاً لأبي حنيفة (4)، ثم يستبد المشتري بالزوائد، فلا يردُّها، ولا فرقَ بين ما حدث بعد القبض، وبين ما حدث في يد البائع بعدَ لزوم المِلكِ للمشتري.
والزوائدُ الحادثةُ في زمان الخيارِ قد استقصينا حُكمَها في أبواب الخيار، فحاصل المذهب أن الزياداتِ المنفصلةَ متروكة على المشتري، وله حق الرد، فلا هو يَمنعُ الردَّ ولا يرتدُّ إلى البائع.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 186، 187.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: بالرّد.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 157 مسألة رقم 1233، ومختصر الطحاوي: 80، 81.
البدائع: 5/ 257، 285، إيثار الإنصاف: 299. ثم الأمر عند الحنفية فيه تفصيل، وليس على إطلاقه، كما ذكر إمام الحرمين.

(5/218)


وإذا كان هذا قولَنا في الزيادات المنفصلةِ، فالزيادات المتصلةُ كالمنفصلة في أنها لا تمنع الردَّ، ولكن تتبع المردودَ لا محالةَ، ولا سبيل إلى تخليفها على المشتري، وليس للزياداتِ المُتَّصلة أثرٌ ووقْعٌ إلا في الصداقِ وما يدنو منه، وسأذكر فيها قولاً جامعاً، إن شاء الله عز وجل.
وإذا اشترى رجلٌ عبداً، أو جاريةً واستخدمهما، ثم اطلع على عيبٍ بهما، فله الردُّ. وانتفاعُه السابقُ قبلَ اطلاعه، لا أثر له، وهو بمثابة [استبدادِهِ] (1) بالغلات المستفادة.
ومعتمد الباب ما رواه الشافعي بإسناده عن عروةَ عن عائشةَ عن النبي عليه السلام " أنه قضى بأن الخراج بالضمان " (2) ومعنى هذا اللفظ أن ما يخرج من المبيع من فائدةٍ، فهو للمشتري على مقابلة كون المبيع في ضمانهِ، مدة [الاستغلالِ] (3) والزوائدِ، فكأن الشارعَ جعل الزوائد في معارضة خطرِ الضمان، عند تقدير التلف.
هذا معنى الحديث.
ومفهومُه يشير إلى أن الزوائد للبائع إذا تجدَّدت في يد البائع؛ فإن البائعَ في عُهدة الضمان، وقد ذهب إلى هذا أبو حنيفه (4)، ومذهبُ الشافعي ما قدمناه.
هذا في الزوائدِ الطارئةِ على ملكِ المشتري، فأما إذا ابتاعَ جاريةً حاملاً، فالقولُ فيه، وفيما لو اشترى شجرة لم تؤبَّر، سيأتي في فصلِ مفردٍ، إن شاء اللهُ تعالى.
وإن اشترى شجرةً، فكثرت أغصانها، فهي ملحقةٌ بالزيادات المتصلة، وليست كالثمار، ولو اشترى شجرةَ فِرْصَادِ (5)، فأورقت في يد المشتري، ثم اطلع على
__________
(1) في النسخ الثلاث: استبداله. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق وبمساعدة مختصر العز بن عبد السلام.
(2) حديث الخراج بالضمان، رواه مع الشافعي، الطيالسي: 6/ 206 ح 1464، والحاكم: 2/ 15، والترمذي: البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ... ح 1285.
(3) في الأصل: الاشتغال.
(4) ر. بدائع الصنائع: 5/ 238، فتح القدير: 6/ 296.
(5) الفِرصاد: شجرة التوت، وضرب المثل بها لأن أوراقها تعنى لذاتها، فهي ثمرتها في الحقيقة، لأنها تتخذ غذاء لدود القز.

(5/219)


عيب، فقد اختلفَ أصحابُنا فيه: فمنهم من قال: الأوراق كالثمارِ التي تتجدد وتبرز في مِلك المشتري، ومنهم من قال: هي كالأغصان، وقد ذكرتُ قريباًً من هذا في باب استتباعِ الأشجارِ الثمارَ قبل التأبير، وأوراقُ سائر الأشجار ملحقةٌ بالأغصان.
ثم ذكر الشافعي تفصيلَ القول في وطء الجاريةِ المشتراة قبل الاطلاع على عيبها، فإن كانت ثيباً، فوطؤها عند الشافعي بمثابة استخدامها. ولذلك وصل هذا الفصل بما قدّمه من الاستغلال والانتفاع.
وإن كانت الجارية بكراً، فافتضّها، ثم اطلع على عيب بها، فالافتضاض عيبٌ حادث في يد المشتري. وسيأتي التفصيل في العيب الحادث في يد المشتري مع الاطلاع على عيبٍ قديم إن شاء الله تعالى.
3131 - والذي يقتضيه الترتيبُ أن نقول: إذا اشترى شيئاً ثمَّ اطلع على عيب به، لم يخل: إما أن لحقه تغييرٌ، أو لم يلحقه، [فإن لم يلحقه] (1)، ردّ ما أخذ كما أخذ، واستردَّ الثمن.
وإن لحقَهُ تغيير، لم يخل: إما أن يكون زيادةً، أو نقصاناً. فإن كانت زيادة تنقسم إلى المتصل والمنفصل، كما مضى. وإن كان نقصاناً، فهو العيبُ الحادث.
وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو أصابَ المشتريان صفقةً واحدةً ... إلى آخره " (2).
3132 - إذا اشترى رجلان عبداً من رجل، ثم تبيَّن عيبٌ بالعبد، فإن اتفقا على ردّه، كان لهما ذلك، وإن أراد أحدُهما أن ينفرد بالردّ دون صاحبه، فالمنصوص عليه للشافعي في كتبه الجديدة، ومعظم كتبه القديمة أن لكل واحد منهما أن ينفرد،
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ر. المختصر: 2/ 188.

(5/220)


وإن لم يُساعدْه صاحبه. وقال أبو حنيفه (1): ليس لواحد منهما أن ينفرد بالرد، ونقل أبو ثور قولاً للشافعي موافقاً لمذهب أبي حنيفة.
والتوجيه مستقصى في الخلاف، ولكنا نذكر القدرَ الذي يتعلق بضبط المذهب من التوجيه.
3133 - فمن منع انفرادَ أحدهما بالرد؛ اعتمد معنيين: أحدهما - أنه قال: العبد خرج عن ملك البائع دفعة واحدة والتبعيض عيبٌ؛ فإن نصفَ العبد لا يُشترى بما يخصُّه من الثمن لو بيع كلّه، فيؤدي هذا إلى أن يخرج المبيعُ عن ملكه بعيب، ويعودَ بعيبين إليه، وهذا ممتنع.
والمعنى الثاني - أن الصفقة متّحدة [نظراً] (2) إلى اتحاد البائع، فلا سبيل إلى تفريقها في الردّ.
ومن قال بالقول الصحيح، فمعتمَدُه أن كل واحدٍ إذا انفرد بالرد، فقد ردّ ما ملك كما ملك، وقد قرّرنا ذلك في (الأساليب).
ثم هذا القائل: لا يسلِّم أن الصفقةَ متحدةٌ، بل يزعمُ أنها متعددة؛ من جهة تعدُّد المشتري.
ونقول: حقيقة القولين يؤول إلى التعدد والاتحاد، فإن حكمنا بأنهُ يجوز لكل واحد من المشتريين الانفرادُ بالرد، فهذا قضاءٌ منا بتعدّد الصفقة؛ نظراً إلى جانب المشتري (3). وإن منعنا ذلكَ، كان حكماً باتحاد الصفقة؛ اعتباراً بجانب البائع.
التفريع على القولين:
3134 - إن جوزنا لكل واحد أن ينفرد بالردّ، فلو خاطب البائع رجلين بالبيع، فقال: بعتُ منكما هذا العبدَ بألف، فقبل أحدُهما، ولم يقبل الثاني -والتفريعُ على
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 57 مسألة 1136، إيثار الإنصاف: 309، فتح القدير: 6/ 312 - 314.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في (هـ 2)، (ص): الشراء.

(5/221)


قول التعدد- ففي صحة البيع إذا انفرد أحدهما بالقبول وجهان: أظهرهما في القياس - التصحيحُ؛ وفاءً بتعدد الصفقة، وإجراءً لحكمِ الآخر على الأول رداً وقبولاً.
وأظهرهُما في النقل - أن ذلك مُمتنِعٌ؛ فإنا وإن حكمنا بتعدد الصفقةِ، فصيغة قولِ البائع تقتضي جوابَهما، حتى كأنها مشروطةٌ بأن يجيباه جميعاً، وهذا بمثابةِ اقتضاءِ الإيجاب الجوابَ على الفور، وليس هو من حكم العقد، وإنما هو من مقتضى اللفظ في مُطَرد العرفِ.
وللشافعي نصٌّ في كتاب الخُلع يشهدُ لتصحيح القبول من أحدهما؛ فإنه قال: إذا خالعَ زوجتَيه، فقبلت إحداهما، صح القبول منها، ولزمها قسطٌ من البدل المسمَّى.
وإذا كان يصح هذا في الخُلع، فالبيع بالصحة أولى؛ من قِبَل أن الخلعَ معاوضةٌ مشوبة بالتعليق، والتعليق بصفتين يتضمن وقوف الطلاق على وجودهما جميعاً.
والمعاوضةُ لا تقتضي هذا الفنَّ؛ فإن الأحكامَ والمقاصدَ عليها أغلبُ، وقضايا الألفاظ على التعليقات أغلبُ.
وإن فرّعنا على اتحاد الصفقة، فيمتنع انفرادُ أحدهما بالرد فيما يَنقُصُه التبعيضُ، [فأما ما لا ينقصه التبعيضُ] (1) كذوات الأمثال، فإذا اشترى رجلان صاعاً من الحِنطةِ واقتسماهُ، وظهرَ عيب بالحنطةِ، فهل لأحدهما الانفراد برَد نصيبه؟
اختلف أصحابُنا فيه: فمن مانعٍ ومن مجوّزٍ. والخلاف مأخوذ من المعنيين المذكورين في توجيه القول، فإن كان التعويل على اتحاد الصفقة، فلا فرقَ بين أن يكون الشيء بحيث ينقُصه التبعيضُ، أو لم يكن كذلك، وإن وقع التعويل على أن التبعيض عيبٌ حادث، فهذا المعنى لا يتحقق في البُرِّ وغيرهِ، وكأنّ أصحاب هذا القول غيرُ متفقين في اتحاد الصفقة.
3135 - ومن التفريع على هذا القول أنّا إذا منعنا أحدَهُما من الانفراد بالرد، فلو أرادَ مطالبتَهُ بالأرش، فهل له ذلك، أم لا؟
إن أَيِسْنَا من إمكان الردّ في نصيب صاحبه، بأن أعتقهُ، وكان معسراً، فلم يَسْرِ
__________
(1) ساقط من الأصل.

(5/222)


العتق، فقد تحقق اليأس من إمكان الرد، فله الرجوعُ بالأرش؛ فإن ردّ البعض ممتنعٌ، وردُّ الجميع مأيوس عنه. وسيأتي تمهيدُ ذلكَ في الرجوع بالأرش.
وإن لم يُعتِق، ولم يأت بما يزيل المِلك بالكلية، فلا يخلو: إما أن يرضى بالعيب ويُسقِط حقَّ نفسه من الرَّد وإما ألاَّ يرضى، ولا يسقطَ، ولكن امتنع الردُّ منه لغيبةٍ، أو ما في معناها.
فإن أسْقط حق الرد [فهل للذي] (1) لم يُسقط حقهُ الرجوعُ بالأرش؟ أم لا؟ ذكر أصحابُنا وجهين، نسردهما، ثم نذكر حقيقتَهما: أحدُهما - أنه يملك المطالبةَ بالأرش؛ فإن الاجتماعَ على الرد منهما غيرُ ممكنٍ بعدما أَسقط [أحدهما] (2) حقّه.
والوجه الثاني - أنه لا يرجع بالأرش، لأن الرَّدَّ ممكن، بأن يملّكَ ذلك النصفَ باتّهابٍ، أو ابتياعٍ، أو غيرِهما، وإذا ملكه، فيضمُّ ما ملكه إلى ما اشتراه، ويردُّ الجميعَ، ويرجعُ بنصف الثمن، ويكون النصفُ المضمومُ إلى نصفه الذي اشتراه مؤنةً عليه يدرأ بها عيبَ (3) التبعيض، ويلزم البائعَ قبولُه كما يلزمُ قبولُ النعل.
وإذا كان ذلك ممكناً، فتوقعه يمنع المطالبةَ بالأرش.
ونحن نقول: أما الإجبار على قبول النعل، فهو صحيح، وكان تفصيلُه محالاً على هذا الباب، وسيأتي إن شاء اللهُ تعالى.
وأما إلزامُ البائِع قبولَ نصفٍ لم يبعه من هذا الشخص، فليس يشابهُ النَعل؛ من جهةِ أن النعل تَبَعٌ.
وقد اختلف أصحابُنا في هذا النوع، وهو كاختلافهم في أن من باع ثمرة على رؤوس الأشجار فتَجَدّدت للبائع ثمارٌ، واختلطت بالمبيع، فلو وَهَب تلك الثمارَ من المشتري، فهل يُجبر المشتري على القبُول؟ فيه وجهان: والأقيسُ عندي أن لا يُجبر على القبول؛ فإن تطويق الإنسان مِنَّة في أمر مقصودٍ ليندفعَ به حقٌّ له ثابت بعيدٌ من الجواز.
__________
(1) في الأصل: قبل الذي.
(2) في الأصل: حقهما. (وهذا تصحيف طريف).
(3) ساقطة من (هـ 2).

(5/223)


3136 - فإذا ثبت ذلك عُدنا إلى غَرضِنا، فإن كنا لا نلزم البائعَ قبُولَ ذلك النصف، فلو قالَ البائع: فأنا أقبلُه، قُلنا: لا حكم لتمليكك إيّاهُ عند هذا القائل، قبلت أو أبيت، فيثبت إذاً الرجوعُ بالأرش.
وإن قلنا: لو رجع النصف وضمّه إلى ما اشتراه، أُجبر البائعُ على قبولهِ، فهل يمتنع حَقُّه من الأرش لذلك؟ فعلى وجهين: أصحّهُما - أنه لا يمتنع؛ فإنَّ توقعَ العود بعيدٌ، وتكليفه التمليكَ أبعدُ منه، وليس ذلك العائد مما يملكه بالابتياع من بائعه؛ فإبطال حقُّ ناجزٍ له لتوقع ما ذكرناه لا وجه له. وإذا غابَ صاحبُه ولم يبطل حقّه، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في أنه هل يرجع بالأرش للحيلولة الناجزة؟ ونظائرُ ذلك كثيرة.
ثم يتفرعُ عليه إذا أمكن الردُّ بالمُساعدة ردّ الأرش، والرجوع (1 إلى الرد على خلافٍ للأصحاب في أمثاله معروف، ثم حيث أثبتنا له الرجوعَ 1) إلى الأرش، ففي كيفيتهِ كلام سنصفهُ في الأصول التي نمهّدها.
فإن قيل: إذا جوّزتم لأحدهما الانفرادَ بالرد على القول المشهور، فهل تُلزمونهُ أن يضم أرشَ نقصِ التبعيض إلى ما يرده؟ قلنا: [لا] (2)، فإنا لو سَلّمنَا كونَ التبعيض عيباً حادثاً، لكُنَّا مسلِّمين قاعدةَ المسألة. ومعتمد القول المشهور النظرُ إلى ما تَملّكَه من البائع، وكل واحدٍ لم يتملك منه إلا البعضَ، وقَدْ ردَّ ما ملكه. فإن قيل: الإضرار بالبائع على كل حالٍ من غير جُبرانٍ لا وجه له. قُلنا: هو الذي أضرَّ بنفسه؛ إذ ملّك الشخصين بعضين.
3137 - ومن تمام البيان أنا إذا حكمنا بتعدد الصفقة على القول الصحيح، فإذا وفَّر (3) أحد المشتريَيْن حصتَه، من الثمن، وجب على البائع أن يُسلّم إليه قسطه من المبيع، كما يسلمُ الشائعَ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).
(2) ما بين القوسين ساقط من الأصل.
(3) في (هـ 2): وجد، (ص): وفا.

(5/224)


وإذا حكمنا باتحاد الصفقةِ، فلا يجب على البائع تسليمُ شيء من المبيع إلى أحدهما وإن وفر الثمن، حتى يوفر الثاني حصته أيضاًً، وهذا القائل يجعل المشتريَيْن كالمشتري الواحد. وإن اشترى رجل عبداً، ووفر معظمَ الثمن، لم يملك مطالبةَ البائع بتسليم شيء من المثمن إليه، إذا أثبتنا للبائع حقَّ حبس المبيع، وكذلك إذا اتحد العاقدُ من كل جانبٍ، وكان المبيع قابلاً للقسمة، فلو وفَّر المشتري بعضَ الثمن [وطالبَ بتسليم بعض المثمن] (1)، فالمذهب الظاهر أن للبائع ألا يجيبَهُ، ويديمَ حبس المبيع بكماله ما بقي من الثمن شيء، قياساً على الرهن؛ فإنه لا [ينفك] (2) ما بقي من الدَّيْن شيء.
وأبعد بعضُ أصحابنا، فأوجب إجابة المشتري إلى تسليم بعض المبيع، على قدر ما سلّمَه من الثمن، وصار إلى أن حكمَ الثمن التوزّع على المثمن، هذا موجَب المعاوضة، فليثبت الحبس على موجَب التوزّع، وليسَ بين الدَّينِ والرهنِ مقابلة العوضَين.
وهذا وإن كان منقاساً من وجهٍ. فالمذهبُ الأولُ.
ثم ذكر الأصحابُ هذا فيما يقبل القسمةَ، وامتنعُوا منه في العَبدِ وغَيرهِ مما لا ينقسم، والسبب فيه أنا لو أوجبنا تسليم بعضٍ من هذه الأشياء، اضطرَّ البائع إلى تسليم الجميع على مناوبةٍ ومهايأة؛ إذْ تسليمُ المشاع لا يتأتّى إلا كذلك. وحق الحبس ضعيفٌ لا يحتمل هذا المعنى؛ ولهذا قطع الأصحاب بأن المرتهن لو رد الرهنَ إلى يد الراهن، ولم يرفع الرهنَ، فالرهن باقٍ على لزومه. ولو أعاد البائع المبيعَ من المشتري، فهل يبطل حقّه من الحبس؟ فيه اختلاف بين الأصحاب معروف، والفارق أن حق الرهن وثيقةٌ مقصودة بعقدٍ، وحق الحبس ظاهرٌ بدون ترتيب في تسلّمٍ وتسليم.
3138 - وممَّا يتصل بذلك أنهُ إذا اشترى رجلٌ من رجلٍ عبداً، ثم مات المشتري وخلَّف ابنين، واطلعا على عيب قديم بالعبد، فليس لأحدهما الانفرادُ برَدّ حصتهِ؛
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: ينقل.

(5/225)


فإن الملك تفرَّق عليهما إرثاً، والعقد في أصله وقع على الاتحاد، والاعتبارُ بما وقعَ العقد عليهِ، لا بما أفضى حكمُ التوريث إليه.
ولو اشترى رجل من رجلين عبداً، فلا خلاف أن الصفقةَ متعدّدةٌ في حكم الرَّدّ، فإذا اطّلَع المشتري على عيب قديمِ، تخيَّر: فإن أحبَّ ردَّ عليهما، وإن أراد أن يرد نصيب أحدهما عليه، ويمسكَ نصيبَ الآخر، فله ذلك. ولا خلاف أنهما إذا أنشآ البيعَ في العبد المشترك بينهُما، فقبِل المخاطبُ الواحدُ البيعَ في حصةِ أحدهما، صح ذلك.
ولو وكّل رجلان رجلاً حتى يشتري لهما عبداً من رجل، أو وكّل رجلانِ رجلاً حتى يبيع عبداً مشتركاً بينهُما من رجل، وقد صَحَّ تفصيل القول في أن الصفقة تتعدَّد في حكم الرَّدّ بتعدد البائع، وفي تَعدُّدِها بتعدد المشتري القولان والتفصيل، فإذا تعدَّد الموكِّل من أحد الجانبين واتّحَدَ الوكيل، فحاصل ما قالهُ الأصحابُ ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها - أن الاعتبارَ بالمُوكِّل من الجانبين؛ فإنه الأصلُ، وإليه المصيرُ. أمّا الموكِّل بالشراء، فهو المالكُ دون الوكيل، فإذا وكَّل رجلان رجلاً بالشراء، اقتضى العقد تثبيت الملك للموكّلَيْن مبعّضاً، كما لو توَلّيا الشراء بأنفُسِهما، والتعويل على ما يقع عليه مقتضى العقد. وإن وكل رجلان رجلاً بالبيع، فالمبيع يخرج عن أملاكِ البائعَيْن، وما قدرناه من اتحاد الوكيل لا أثرَ له في مقتضى العقد؛ فإن عبارة الوكيل مستعارةٌ، وكان وكيل الرجلين ناطق بلسانين.
والوجه الثاني - أن الاعتبار بالوكيل، لأنهُ المتعاطي للعقد، وانقسامُ الملك على الموكِّلَيْن إزالة وجلباً، بمثابةِ انقسامِ المبيع على الوارثين وكان المشتري واحداً.
والوجه الثالث - أنا نفصِّل بين جانب المشتري وجانب البائع، فنقول: الاعتبارُ في جانب البائع بالموكِّل، وفي جانب المشتري بالوكيل، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي، والفاصلُ عنده بين الجانبين أن الوكيل في جانب البائع لا استقلال له أصلاً، ولو مال العقد عن مُوجَب إذن الموكِّل بالبيع، لفسد العقد، ثم لم نجد نفاذاً.

(5/226)


وليس كذلك الوكيل بالشراء؛ فإنه قد يقرب (1) ممن يتأصَّل، وإذا لم يجد الشراءُ نفاذاً على الموكِّل به، فقد (2) ينفذ على الوكيل إذا كان العقدُ وارِداً على الذمَّة.
وهذا الفصل عندنا إنما يستقيم في التوكيل بالشراء في الذمّة، فأما إذا وكل رجلٌ رجلاً حتى يشتري له عبداً بثوب معيّنٍ عيَّنه، فالوكيل في هذا المقام بمثابةِ وكيل البائع لا شك فيه.
ثم ما ذكرناه من اختلاف الأصحاب في اعتبار الوكيل والموكِّل يجري في صُورتين: إحداهما - أن يتّحد الوكيل ويتعدَّد (3) الموكّل. والأخرى أن يتعدَّد الوكيل العاقد، ويتّحدَ الموكِّل، فالخلاف جارٍ في الموضعين كما بَيّنا.
فصل
قال: " ولو اشتراها جَعْدةً، فوجدها سبْطةً ... إلى آخره " (4).
3139 - معظمُ المقصود من هذا الباب الكلامُ في الرد بالعيب، وما يتَّصل به ويشابهه، وتفصيلُ القول فيما يتعذّر به الرد، وحقيقةُ الأرش، والرجُوعُ به، وبيانُ مواقع الوفاق والخلاف في هذه الأحكام.
ونحن قد التزمنا الجريانَ على ترتيب المختصر في الأبواب والمسائل، فإن اقتضى في بعض المواضع تقديمَ مؤخر وتأخيرَ مقدَّم، حتى [يلقَى] (5) الناظرُ المقاصدَ مجموعةً، سهل احتمال هذا.
فالذي نرى أن نذكره تفصيلُ القول فيما يكون عيباً، ثم التفصيل فيما يتعلق حقُّ الردّ فيه بالشرط، وتقدير الخُلف فيه، ثم نصف بعدها الحكمَ بتيسُّر الرد، ثم نذكر وراءه الأسبابَ التي يتعذر الرد بها.
__________
(1) في (ص): يفرق.
(2) في (ص) على الموكّل به، نفذ ...
(3) ساقطة من (ص).
(4) ر. المختصر: 2/ 189.
(5) في (هـ 2): يلفي، (ص): يلتقي.

(5/227)


[القول في العيب] (1)
3140 - فأما القول في العَيب، فالجامع له: أن كل ما ينقُص من العَيْن تنقيصاً يخالف المعتادَ في جنسه، فهو عيبٌ وإن كان لا يؤثر في نقصانِ القيمةِ، بل قد يؤثر في زيادتها، وهذا كالخَصْي. فمن اشترى عبداً، ثم بان أنه خَصِيّ، ردّه بالعيب. وكل ما يؤثر في تنقيص القيمة عن المعتاد في الجنس، فهو عيب، وإن لم يكن نقصانَ جزءٍ، بل قد يكون زيادةً، مثل أن يشتري مملوكاً، ثم يطلع منه على إصبعٍ زائدة، ونقصانُ القيمة قد يرجع إلى نقصان الصفات (2 كما أن زيادة القيمة قد ترجع إلى زيادة الصفات 2) فالعبد الكاتب يشترى بأكثرَ مما يشترى به الأمّي، والعبد العفيف يُشترَى بأكثر مما يُشترَى به الزاني، وكذلك القول في الأمين والسارق والخَوَّان.
ولا يمكننا أن نقول: كل صفةٍ تُفقد، فهي ملحقة بالعيوب، حتى يثبت الخيارُ بفَقدِها من العقود وتفاوت القيم معَ الصفاتِ نِسَبٌ (3)، فكيف الضبط في ذلك؟
3141 - [الوجه] (4) أن نقول: النقائص المذمومة معلومةٌ، فإذا كان الشيء نقيصةً مذمومة، والعادةُ غالبةٌ في اطراد ضدّها، فتلك النقيصة إذا نقصت العينَ أو القيمةَ، فهي عيب.
وكل صفة لو وُجدت، لكانت فضيلةً، ولكن لا يعُمّ وجودُها. وعدمُها لا ينتهي القول فيه إلى الذم، فانعدام هذا الضَّرب لا يلتحقُ بالعيوب.
فالوجه أن نتخذ ما ذكرناه معتبراً، وتتميَّز عن مقتضاه الخيانةُ، والزنا، والسرقةُ، عن عدم الكتابة، والاحتراف، وغيرهما.
ومما يجب الإحاطة به أن مبنَى العيوب على أنها تُثبت حقَّ الرَّد للمطلع عليها في العقد المطلق، وقد يَشِذُّ عن هذا الأصل واحدٌ، وهو أن الافتراع في حكم التعييب،
__________
(1) هذا العنوان من عمل المحقق.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص).
(3) هذا الضبط من (هـ 2).
(4) ساقطة من الأصل.

(5/228)


بدليل أنا نجعل افتراعَ المشتري مع اطّلاعه على عيبٍ قديمٍ في التفصيل بمثابة عيب حادثٍ ينضم إلى الاطلاع على العيب القديم.
ثم لو اشترى رجل جارية فكانت ثيباً مفترَعةً، لم نجعل الثيابةَ عيباً مثبتاً للرد في مطلق العقد، والسبب فيه أن البكارة ليست صفةً غالبةً في العادة، والجواري منقسمات إلى الثيبات والأبكار، والثُيَّب أكثر، فلا يرتبط الظن بالبكارة، نظراً إلى غالب الحال، حَسَب ارتباط الظن بالسلامة من العيوب، فإزالة البكارة تنقيصٌ، وليست البكارة مستحقَةً بمطلق العقدِ.
ثم ما ذكرنا من أن نقصان العين على المعتاد في الجنس عيبٌ جارٍ، ولكنهُ مشروط بأن يفوت بفوات ذلك [النقص] (1) غرضٌ ماليٌ، أو غيرُ مالي. فلو اشترى الرجل عبداً، ثم تبين له أنهُ قد قُطعت فلقة من لحمةِ ساقه، ولم يكن لذلك أثرٌ في غرض ولا ماليّةٍ، فهذا ليس بعيب.
وقد ذكرت لصاحب التقريب تفصيلاً في الشاة إذا وجد مشتريها على أذنها قطعاً. قال: إن كان لا يمنعُ من الإجزاء في الضحايا، فليس بعيب. وإن كان مانعاً، فهو عيب.
والخصاءُ الذي ذكرناه في المملوك إن لم يؤثر في المالية، فهو مؤثر في أغراضٍ ظاهرةٍ.
ثم ألحق أئمتنا بما مهدناه صوراً، فيها خلافٌ مع بعض العلماء، فالعبد الزنّاءُ معيبٌ، مردود كالجارية إذا كانت مساحقةً، خلافاً لأبي حنيفة (2)، فإنه لم يجعل اعتياد الزنا من العبد عيباً. والبَخَر (3) والبول في الفراش عيبان في الجنسين، وأبو حنيفة (4) جعلهما عيباً في الإماء. وإن تحققت العُنَّة في المملوك، ففيها نظر عندنا. والظاهر أنها عيبٌ.
__________
(1) في الأصل: العين، (هـ 2)، (ص): المعين. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق، وعبارة العز بن عبد السلام، في مختصره.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 156 مسألة 1230، بدائع الصنائع: 5/ 274، فتح القدير: 6/ 7, الاختيار: 2/ 19.
(3) البَخر: من بخِر الفم بخراً: باب تعب أنتنت ريحه، فالذكر أبخر، والأنثى بخراء (مصباح).
(4) ر. الاختيار: 2/ 19.

(5/229)


3142 - ثم المناقبُ التي لا تُعد نقائضُها عيوباً ونقائصَ، ولا ترتبط الظنون بها تصيرُ مستحقةً بالشرط، فإذا اشترى الرجل عبداً على شرط أنه كاتب، ثم أخلف الشرطُ، ثبت الخيار. والتحقَ عدمُ المشروط بالعيوب.
ثم إن كان ما يشرطه مما يؤثِّر في الماليّةِ، فالخُلف فيه يُثبت الخيارَ، فإذا كان العبدُ الكاتب يساوي ألفاً، والأمّي يساوي تسعمائةٍ وقد تعلّق الشرط بصفةِ الكمال، فالخلف مثبت للخيار. وعدَّ الأئمة من ذلك ما لو شرط جُعودةَ الشعرِ، فخرج الشعر سَبِطاً (1).
فأما إذا كان الأمرُ المشروط لو عُدم لم يؤثر في نقصانٍ، ولو وُجد لم يتضمَّن زيادةً في الماليَّة، نُظر فيه: فإن كان لا يتعلّق بغرض مقصود، فالخُلفُ فيه لا يُثبت الخيارَ، وهذا بمثابة ما لو اشترى عبداً على شرط أنه أحمقُ، أو مشوّه، فخرج حسناً عاقلاً، فلا خيار. والشرط لاغ، على ما سنفصّل مراتب الشروط في بابها.
فأما إذا شرط ما يتعلق بغرضٍ، ولا يؤثر في الزيادة الماليَّة، مثل أن يشتري جاريةً على شرط أنها ثيّب، فإذا خرجت بكراً، ففي ثبوتِ الخيار وجهان: أحدُهما - أنه يثبت، لتخلف الغرض. والثاني - لا يثبت؛ لأن المعتبر في البيع الماليّة، وما يتعلق بها.
ومن هذا الجنس ما لو اشترى جارية، وشرط أنها سَبطةُ الشعر، فإذا كان شعرها جعداً وأخلفَ شرطُ الشارط في السُبوطة، فلا شك أنَ الجعدَ أشرفُ، وقد يكون السبط أشهى إلى بعض الناس، ولا ينسب من يبدي ذلك من نفسهِ إلى مفارقة الجَمهور، [والانسلالِ] (2) عما عليه العامّةُ، فإذا فُرض الخُلف في هذا المشروط، ففي الخيار الوجهان المذكوران في البكارة والثيابة.
__________
(1) سبط، بكسر الباء، ويجوز فتحها، على الوصف بالمصدر. سبط الشعر من باب تعب إذا كان مسترسلاً (المصباح).
(2) في الأصل: الإفلال. ولم أصل إلى معنى لها يناسب السياق. وكذلك الإقلال بالقاف في (ص).

(5/230)


وقال الصيدلاني: كلُّ ما لو كان مشروطاً [و] (1) اتصل الخُلف به، اقتضى خياراً وجهاً واحداً، فالتدليس الظاهر فيه كالشرط، كما ذكرناه في باب التصرية، فإذا جعَّد البائعُ شعرَ المملوك، ثم بان سَبطاً، ثبتَ الخيار.
وكل ما لو فُرض مشروطاً وَصُوّر (2) الخُلف فيه، فكان في الخيار وجهان، فإذا فُرض التدليس فيه، ثم ترتَّب عليه خلف الظن، قال: لا خيار وجهاً واحداً، لضعف المظنون أولاً، وقصُور الفعل في الباب عن القول.
وهذا تحكم منه لا يُساعَد عليه، فالتدليس في ظاهر الفعل كالقول في مجال الوفاق والخلاف، على الاطراد والاستواء، فإذا سبَّطَ الرجل شعرَ الجارية، ثم بان أن شعرها جَعْدٌ، ففي الخيار الوجهان عندنا.
وقد نجز الغرض في بيان العيب، وما يجري الخُلف فيهِ، وتمييز [أحد] (3) البابين عن الثاني.
[القول في الرّد] (4)
3143 - فأما القول في الرد، فحق الرّد ثابت على الفور والبدارِ، فإن رضي بالعيب القادرُ على الرد، أو لم يرض وقصَّر في الردّ، وسكت مع التمكن من النطق بالردّ، فيبطل حقُّه، وإذا بطل حقُّه، لم يرجع إلى أرش؛ فإن الأرشَ إنما يثبت في حق من لا يتمكّن من الرد، ولا يرضى الشرعُ باستمرار الظُّلامةِ عليه، فأما إذا أبطل حقَّ نفسهِ قصداً، أو تقصيراً، فلا مرجع له إلى الأرش.
ولو أراد المطالبةَ بالأرش مع التمكن من الرد، لم يَملِك إلزامَ البائع وِفاقاً.
ولو تراضيا على الرجوع إلى الأرش؛ ففي المسالةِ وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يحل له ذلك؛ فإنه اعتياضٌ عن حق، والحقوق المطلقة لا تقابلُ بأموال.
__________
(1) في الأصل: أو.
(2) في (ص) ووقع.
(3) ساقطهَ من الأصل.
(4) العنوان من عمل المحقق.

(5/231)


والوجه الثاني - أنه يحل أخذُ الأرش؛ فإن للأرش مدخلاً في الباب، بدليل الرجوع إليه عند تعذّرُ الرد. ثم الحق لا يعدو الرادَّ والمردود عليه، فإذا تراضيا على بذل مالٍ، بعُدَ امتناعُه.
التفريع على الوجهين:
3144 - إن قلنا: يحل أخذ الأرشِ، فلا كلام. وإن قلنا: لا يحلّ؛ فلو أخذه على ظن الجواز والحلِّ، ثم تبين الأمرُ، واستردّ منه ما أخذ، فهل يعود إلى استحقاق الرد، فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدُهما - أنه لا يعود إلى الرد؛ فإنه أسقطه فسقط. والثاني - يعود إليه؛ فإنه لم يُسقط حقهُ [مطلقاًً] (1) بل ربطه باستحقاق العِوض، وعلَّقَه (2) به، فإذا لم يسلم له العوض، لم يتحقق سببُ إسقاط الحق.
وذكروا هذين الوجهين في الشفيع، إذا اعتاض عن الشفعة ظاناً أن ذلك حلال، ثم استرد منه العوض، فهل يكون على حقّه من الشفعة؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
فإن قيل: أليس الخلعُ بالعوض الفاسد يوجب البينونة، والصلح عن الدم على العوض الفاسد يوجب سقوط القصاص؟ قُلنا: السببُ فيه أنه إن لم يثبت ما سماه، ثبتَ عوضٌ شرعي، وليس ذلك مناظراً لما نحن فيه. ونظير ما نحن فيه ما لو خالع الرجل امرأتَه المبذّرةَ، على مالٍ، فالمال لا يثبت، ولا يقعُ الطلاق رجعيّاً.
3145 - وقد حان الآن أن نذكر الموانع من الردّ بالعيب.
فنقول: قد يمتنع إمكانُ الرد بسبب عدم العين أو عدم الملكِ فيه، وقد يمتنع بسببٍ مع استمرار الملك على الجُملة في العين.
فأمّا إذا فُقد المبيعُ وهلكَ، أو زالت الماليَّة فيه، بأن أعتق المشتري العبدَ، فإذا فَرضنا هلاكاً، أو زوال ملكٍ، ثم اطلع المشتري على العيب القديم، فالردُّ غيرُ ممكن، ولا خلافَ أنه لو أراد أن يقيم قيمةَ الفائت مقامه ليردّها ويستردَّ الثمن، لم يجد إلى ذلك سبيلاً.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص): وعكفه منه.

(5/232)


ولكن لم يرض الشرعُ بإحباط حقِّه إذا تحقق تعذُّر الردِّ، فرجُوعه في هذا المقام إلى الأرش. ومعناه ما نصِفُه.
فليعلم الطالب أنا لا نلزم البائعَ نقصان قيمة المبيع في نفسه، حتى نقول نُقدِّر المبيعَ سليماً، فإذا [كانت] (1) قيمتُه ألفاً، ونقدّرهُ معيباً، فإذا قيمتُه تسعمائةٍ، ونوجب المائةَ الناقصةَ. بل نقولُ: نعتبر النقصانَ على النَسقِ الذي بَينَّاه، ونضبط نسْبتَه، ونعرف جزئيَّته، ثم نقول: يرد البائع مثلَ ذلك الجزء من الثمن إلى المشتري، فإن [كان] (2) الناقص عُشر القيمة، فالمسترد عُشرُ الثمنِ. ثم قد يكونُ الثمن مثلَ القيمة، أو أقلَّ منها، أو أكثر.
ومما يجب التنبيهُ له أن العيبَ إذا كان من جهة نقصان العين كالخصاء، ثم فات الردُّ بفوات العين، أو الملكِ، فلا رجوعَ إلى الأرشِ أصلاً؛ إذْ لا نقصانَ في القيمة، حتى يُعتبرَ بنسبته استردادُ جزءٍ من الثمن. والأعراض لا تتقوم.
هذا قولُنا في زوال العين والملك.
ويلتحق بهذا القسمِ مصيرُ الجاريةِ المشتراةِ مستولدةً؛ فإن حُرمةَ الاستيلاد في الغرض الذي نحن فيه كالحريّةِ الناجزةِ.
3146 - والقول بعد هذا في تقاسيم الموانع، مع بقاء المبيع مملوكاً.
فنقول: من الموانع زوالُ ملك المشتري عن رقبة (3) المبيع بجهةٍ من الجهاتِ، فلا شك أن الردَّ غيرُ ممكنٍ، والمِلكُ زائلٌ، ولكن لو عاد المبيعُ إلى ملكِ المشتري بعدَ الزوالِ، فالتفصيل في ذلك أنه إن زال بجهةٍ لا تتعلق بجنسها عهدة الرد كالهبة، ثم عاد إليه بمثل تلك الجهة، أو بجهةٍ أخرى لا ردَّ فيها، فإذا جرى الزوال والعودُ والمشتري غيرُ مطلعٍ على العيب في الأحوال التي جرت، ثم اطلع على عيبٍ قديم بعد عود الملك إليه، كما صوَّرنا؛ فهل يثبت له الردُّ الآن على البائع؟ فعلى وجهين
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) مزيدة من المحقق رعايةً للسياق.
(3) في (ص): بقية.

(5/233)


مشهورين: أحدهُما - له الردُّ؛ لأنا لو نفذنا ذلك منه، كان راداً ما ملك كما ملك.
والوجه الثاني - لا يرد، لأن الردَّ نقضُ الملكِ المستفادِ من جهة العقد، وهذا ملكٌ جديد وليس الملكَ المستفادَ بالعقد.
وسيأتي لهذا نظيرٌ في المفلس إذا قبض المبيعَ، وزال ملكه، ثم عاد إليه، ثم أفلسَ واطَّرد الحجرُ عليه، فهل يثبت للبائع حقُّ فسخِ البيع؟ فيه من الخلاف ما ذكرناه.
وكذلك إذا زال ملك المرأةِ عن الصداق، ثم عاد إليها، وطلقها زوجُها قبل المسيس، وسنكرّر (1) هذا الخلافَ في كل أصلٍ على حسبِ ما يليق به.
3147 - ولو باع رجل عبداً بجاريةٍ وتقابض المتعاقدان العوضين، ثم إنَّ قابضَ العبد وهبه وسلَّمه وعاد إليه بالهبة مثلاً، ووجد قابضُ الجارية عيباً، فلا شك أنه يثبت لصاحب الجاريةِ ردُّها؛ فإن الملكَ فيها لم يتبدل. ولو تلف العبدُ أو عَتَقَ، لثبت لصاحب الجاريةِ ردُّهَا غيرَ أنه في ردّها يرجع إلى قيمة العِوضِ المقابلِ للجارية. فإذا زال الملكُ عن العبد، وعَادَ كما صوَّرناه، فردَّ صاحب الجاريةِ الجاريةَ؛ فإنه يرجع إلى العبد العائدِ، أم إلى قيمته؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من خرّج استرداد ذلك العبدِ الزائلِ العائدِ على الوجهين السابقين. وهذا القائل يسوّي بين الاسترداد، وبين فرض الردّ في عينِ ما زال وعَادَ.
ومن أصحابنا من قطع بأن العبدَ يسترد عند ردَّ الجارية، وإن اختلف المذهب في أن العبد في نفسه هل يرد إن اطلع على عيبه. والفارق عند هذا القائل أن المستردّ ليس مقصوداً، فلا يشترط فيه ما يشترطُ في المردود المقصود.
فهذا كله فيه إذا كان الخروجُ والعودُ لا بجهةٍ تُثبتُ الردَّ.
3148 - ولا نتعدى هذا الفصلَ حتى نذكر ما يليق به من حكم الأرش.
فإن قلنا: إن زال الملك بالجهة التي ذكرناها، لم نتوقع بعدهُ إمكان ردٍّ، وإن
__________
(1) في (ص): وسنذكر.

(5/234)


فُرض العودُ، فقد تحقق اليأسُ من الردّ، فإذا اطَّلعَ على العيبِ والملكُ زائلٌ أم عائد، فيرجع لا محالةَ إلى أرش العيب، كما لو فاتت العينُ، أو زال الملكُ بالعتق.
وإن قلنا: الردُّ ممكن عند تقدير العَوْد، فهذا الإمكان دائمٌ ما بقي الموهوب مملوكاً، بحيث يتصور فيه نقلُ الملك، فهل يثبتُ الرجوع إلى الأرش في الحال؟
القياس أنه يثبت، وهو مذهب طوائفَ من المحققين؛ فإن التعذر ناجز، والاستدراك بطريق الردّ عند تقدير العود ممكنٌ على بُعدٍ، والحق الناجز لا يتعطل بتوهمِ مستدركٍ قد يكون، وقد لا يكون.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت الرجوعُ إلى الأرش، مادامَ إمكانُ الرد متوقعاً.
وهذا الخلاف مبني على أن شُهود الزورِ إذا شهدوا على إنسانٍ بمالٍ، وجرى القضاءُ بشهادتهم، ثم رجعوا، فالقضاء بالاستحقاق لا يُنقَضُ. وهل يغرَم الشهودُ بدل الفائت للمشهود عليه؟ فعلى قولين. ولا خلاف أنهم لو شهدوا على إعتاقٍ، أو طلاق ورَجَعوا عن الشهادة بعد نفاذ القضاء؛ فإنهم يغرَمون.
والفاصل بين محلّ الوفاق والقولين أن العتق لا مستدرَك له أصلاً، والحيلولةُ الواقعةُ في الشهادة على المال ممكنةُ الزوال بأن يعترفَ المشهودُ له للمشهود عليه.
فنميز صورة القطع عن صورة القولين. كذلك القول في الرجوع إلى الأرش.
3149 - فأمّا إذا كان زوال الملك بجهةٍ تُثبتُ الردَّ، مثل أن يشتري عبداً، ويبيعَه من غير علم بعيبه، فقد تحقق زوال الملكِ بالبيعَ، والبيع جهة يثبت الردُّ فيها، فإن اطلع المشتري من المشترِي على العيب وردَّه، فللمشتري الأول الرّدُّ على البائع الأول بلا خلافٍ. فإن قيل: أليس قَد زال الملك وعاد؟ قلنا: الردُّ ينقضُ الجهةَ المتجدّدة، ويردُّ الملك الذي كان ثابتاً قبل تجدد الجهة، وسبب الاختلاف في الرد بعد زوال الملك وعودِه أنا نعتقد العائد ملكاً جديداً، وليس كذلك إذا نُقِضت الجهة الحادثةُ، وارتد الملك الذي كان قبلَها. هذا إذا ردَّ على المشتري الأول ما باعَهُ.
فأمّا إذا اطلع المشتري الثاني على العيب، ورضي به، فقد بَطل حقه من الرَّدّ.
وهل يملك المشتري الأولُ حق الرجوعِ بالأرش على البائع؟ فعلَى قولَين ذكرهُما

(5/235)


صاحب التقريب وغيرُه: أحدُهما - وهو الأظهر الأشهرُ أنه لا يرجع؛ لأنه كما راج عليه العيبُ في البيع الأوَّل، فكذلك روَّجه على المشتري منه، وانتهى الأمر إلى رضاه به.
والقولُ الثاني - أنه يرجع بالأرش وهذا أميلُ إلى القياس؛ لأن سبب الرجوع بالأرش ما اقتضاه العقد من السلامة، وإسقاط المشتري حقَّه عن هذا المعنى لا يُسقطُ حق المشتري الأول، ورضاه بمثابة تبرعٍ منه عليهِ، وهذا لا يُلزمهُ أن يتبرع على البائع الأول، كما تبرعَ عليه.
ولو لم يرض المشتري بالعيب، ولم يطلع بعدُ عليه، فهل يملك المشتري الأولُ الرجوعَ بالأرش على البائع الأول في الحال؟ هذا يُخرَّجُ على ما قدَّمناه في الهبة إذا كان الزوال بها والعَوْد بمثلها. فإن قلنا ثَمَّ مع إمكان الرد بالعَودِ: يملك المطالبةَ بالأرش في الحال، فكذلك القولُ هاهُنا؛ لتحقق التعذّر في الرد ناجزاً. وإن قلنا: لا يملك طلبَ الأرشِ؛ لتوقُّع الردّ، فهاهُنا لا يملِكُه أيضاًً.
ورأى بعضُ الأصحاب عدمَ المطالبةِ بالأرش هاهنا أولى؛ من جهةِ أنَّا نأمُلُ رضا المشتري الثاني بالعيب. وهذا عند هؤلاء مَقْطَعةٌ لحق الرجوع بالأرش، ومن لا يرى ذلك قطعاً لحق الرجوع بالأرش، فقد يَعِنُّ له من جهةٍ أخرى فرق، وهي أنَّ رَدّ المشتري الثاني بالعيب على المشتري الأول ممكنٌ ظاهرُ الإمكان، وهو مطّرد على نَظْم المعاملة، وعوْد الموهوب إلى الواهب توقُّعٌ، لا انتظام له، وإذا كان الرد أمكنَ، كان الرجوعُ بالأرش أبعدَ.
ولو باع المشتري الأول من المشتري الثاني، وأعتق المشتري الثاني، ثم اطلع على عيب، ورجع بالأرش على المشتري الأول، فلا شكَّ أنهُ يرجع بالأرشِ على البائع الأًول؛ فإنّ توقّع الرد منقطعٌ. وما تخيّله بعض الأصحاب أن المشتري الأولَ روَّج على المشتري الثاني لا يتحصل في هذه الصورة، وقد رجع عليه بالأرش.
3150 - ولو باع العبد المشترَى من إنسانٍ، ثم إنه اشترى ذلكَ العبدَ من المشتري منه، ثم اطلع على عيبٍ قديم، كان به في يد البائع الأول، فلا شَكَّ أنه لو أراد الرد على الذي باع منه آخراً، وهو المشتري الثاني أمكنه ذلك، ثم إذا رد عليه، فله أن يردَّ

(5/236)


عليه حكمَ البيع الأول، ثم إذا اتفق ذلك، فللمشتري الردُّ على البائع الأول، فإن الجهاتِ التي تخللت، ارتفعت بالفسوخ، وكأن لم تكن.
ولو اشترى المشتري الأول من المشتري الثاني، ثم اطلع على العيب كما صَوّرنَاه، فأراد الردَّ على البائع الأول، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يملك ذلك، والثاني - يملكه. والوجهان مرتبان على ما لو عَادَ إليهِ بجهةٍ لا تُثبت الردّ.
والصورة التي نحن فيها أولى بأن لا يجوز الرَّدُّ فيها على البائع الأول. والفرق أن الرد على أقرب الجهات ممكن، فالاشتغالُ بالأقربِ أولى، وليس كذلك إذا كان العَوْد بهبةٍ؛ فإن الردَّ على من منه تَلقِّي (1) الملكِ آخراً غيرُ ممكن.
فإن قيل: إذا باع المشتري الأولُ ما اشتراه من إنسانٍ، ثم وهب ذلك المشتري منه، فما قولكم في هذه الصورة؟ قُلنا: اجتمع في هذه الصورة ظنُّ الترويج بالبيع الأول، وتبدّل المِلك بجهةٍ لا تقتضي الردَّ، فالقول في تمليك المشتري الأول الردَّ مُتَلَقَّى مما قدَّمناه من الأصول المفردَة.
والفقيهُ لا يختلط عليه مأخذُ الكلام عند اجتماع المقتضيات، واختلافها واتفاقها.
وما غادرْنا مأخذاً في تأصيلٍ وتفصيلٍ، وترتيبٍ وتقديمٍ، من طريق الأوْلى في ملكِ الرد، والرجوع بالأرش في محل اليأس والإمكان، إلا نبهنا علَيهِ، فلاَ معنى للتطويل بتكثير الصُّور.
وقد نجز الكلامُ في هذا المانع وهو انتقالُ الملكِ.
3151 - ومن الموانعِ حدوث العيب في يد المشتري، فإذا اشترى رجل شيئاً وقبضه، فعاب في يده، لم يخلُ: إما أن يترتب ذلك على سببٍ كان في يد البائع، أَوْ لا يترتب على متقدّم. فإن ترتَّب على متقدِّم، مثل أن تُقطعَ يدُه بسرقةٍ سبقت، أو يتمادى به مرضٌ تقدَّم أصلُه، فهذه الأجناسُ نجمعُها في فصلٍ.
ونقصُر الآن غرضنا على العَيب المتجدّد، الذي لا استنادَ له إلى سابقٍ.
فإذا حدث واطلع على عيبٍ قديمٍ، فهذا الفصلُ فيه أدنى اختلاط في كلام
__________
(1) (ص): بلغ.

(5/237)


المشايخ، ولكن الوجه أن نستاق ما بلغنا على أقوم ترتيب، ثم نذكر حاصلَ المذهب عندنا.
والوجهُ في الترتيب أن نقول: إذا جاء المشتري إلى البائع لاستدراكِ الظُّلامةِ، فلو رضي البائع بقبول المبيع، مع العيب الحادثِ، فلا كلام.
ولو أراد المشتري أن يُلزمَه قبولَ المبيع رداً عليه، من غير أن يغرَمَ له شيئاً في مقابلةِ العيب الحادث، فلا سبيل إلى إلزامه ذلك؛ فإن هذا إلحاق ظُلامة في استدراك ظُلامَةٍ.
ولو قال المشتري للبائع: اغرَم لي أرشَ العيب القديم، وقال البائع: رضيتُ بالمبيع معيباً، فرُدَّه من غير أن تَغْرَمَ شيئاً، فليس للمشتري حق الأرش.
ولو قال البائع: لستُ أغرَمُ لك الأرشَ، ولا أقبلُ المبيع مع العيب الحادث، ولكن ضُمَّ إلى المبيع أرشَ العيب الحادث، ورُدّ المبيعَ معهُ واسترِدَّ الثمنَ. وقال المشتري: بل أطلبُ أرشَ العَيبِ القديمِ، ولا أرغب في الردِّ مع أرش العيب. ففي المسألة وَجهان: أحدهما - أن المتبع قولُ البائع، فإن جرى عليه المشتري، فذاك، وإن أبى، بطل حقُّه، وليس له طلبُ الأرشِ.
هذا منتهى ما ذكرهُ الصيدلاني وغَيرُه.
وذكر بعض أصحابنا خلافاً على صيغةٍ أخرى، وقالُوا: لو جاء المشتري إلى البائع، وقالَ: دُونَك المبيعَ وأرشَ العيب الحادث، فاقبلهُما ورُدَّ عليَّ الثمن. فقال البائع: لا أقبلُ ما جئتَ به، ولكن أغرَم لك أرشَ العيب القديم، فهل يُجبر البائعُ على موجَبِ قول المشتري، فعلى وجهين: أحدُهما - أنه يجبر في هذه الصورة، ومعناه أنه ينفذ الردّ عليه وإن لم يقبل، كما ينفذ عليه أصلُ الرد إذا لم يكن عيبٌ حادث، ويستردُّ منه الثمن.
والوجه الثاني - أنه لا يجبر على ما قاله المشتري، وله أن يغرَم أرشَ العيب القديم.
هذا منتهى ما ذكره الأئمة. ولن يحصل شفاء الغليل إلا بما نذكُرُه.

(5/238)


3152 - فنقول: تحققنا من كلام الأئمة أن أخذ الأرشِ بالتراضي جائزٌ، وليس كأخذ الأرش إذا تجرد العيبُ القديم، وتمكن من الرّدِّ؛ فإن في جوازِ أخذِه عند التراضي خلاف، وظاهر النصِّ أنه لا يجوز أخذه، وكذلك لا خلاف أن إحباط حقِّ المشتري لا يجوزُ، ولا بد من تمهيد حقِّه إما بجهة الردّ، وضم الأرش، وإما بجهة تقرير العقد، وغرامةِ الأرشِ للعيب. فإذاً المستدرَك وجهان لا غير.
وحاصل ما ذكرهُ الأصحاب من الخلاف في الطرفين، وما تلقَّيتُه من فحوى كلام الأئمة: أنهما إن تراضيا على أرشِ العيب القديم، أو على الردّ وضمّ أرش العيب الحادث، نفذ ما تراضيا عليه.
وإن دعا أحدُهما إلى أحد المسلكين وأباه الثاني، ودَعَا إلى المسلك الآخر، ففي المسألة أوجهٌ: أحدها - أن المتبع في تعيينِ أحدِ المسلكين رأيُ المشتري؛ فإنه ذو الحق.
والثاني - أن المتبع رأي البائع؛ فإنه الغارم من وَجهٍ والمُدخل في ملِكِه، إن شاء لم [يردّ عليه العقد في المسلك الآخر، فليتخير، وليقنع المشتري بأن] (1) يحصِّل غرضَه من أحد المسلكين.
والوجه الثالث - وهو مأخوذٌ مما لهج به الفقهاءُ في المسائل، وأثناء الكلام، وهو أن من دعا إلى الردِّ، وضمِّ الأرش، لا يجاب إليه؛ لأن هذا إدخالُ شيءٍ جديدٍ في حكم العقد، لم يكن قبلُ.
وهذا هو المعنيُّ بقول العُلماء: العيب الحادث يمنعُ من الردَّ بالعيب القديم. فأما الرجوع بالأرش، فخارج على مضمون العقد؛ فإن الملك لا يستقرُّ في الثمن على الكمال إلا في مقابلة المبيع السليم، فتقريرُ العقد وإلزامُ الاستدراك بطريقِ غرامةِ الأرش، أقربُ إلى مقتضى العقد.
وهذا القائل يقول: إذا فُرض التراضي على الرد وضمِّ أرشِ العيب الحادث، فسبيله كسبيل الإقالة.
__________
(1) ساقط من الأصل. هذا، ولعل الصواب: " يردّ عليه العبد ".

(5/239)


وليت شعري ماذا يقول في مبيع يتعيّبُ في يد المشتري، ثم يتقايَل البائعُ والمشتري على تقدير ضم الأرش إلى المبيع، واسترداد تمام الثمن. هذا فيه احتمالٌ؛ [من جهة] (1)، أنا إن جعلنا الإقالة بيعاً، فشرطه أن يقع بما وقع عليه العقد الأول. وإن جعلناه فسخاً، فالفسخ تلوُ (2) العقد، ولا يجوز أن يختلف مورد العقد والفسخ، ولكن من حيث إن هذا فسخٌ نيط بالتراضي، فلا يبعد احتمال ذلك فيه.
وإن أردنا أصلاً أقربَ منه، وبالحقيقة هو المأخذ، قلنا: إذا اشترى رجل عبدين، وتلف أحدُهما في يده واطلَعَ على عيب قديمٍ بالثاني، فهل له أن يرد العبدَ القائم، وقيمةَ العبدِ التالف ويستردَّ الثمن؟ على قولين سنذكرهُما في تفريق الصفقة.
فإن أثبتنا هذا الحقَّ، فضَمُّ أرشِ العيب الحادث بذلك أوْلى؛ فإن الفائت لا يتأَصَّلُ مبيعاً. وإن منعنا ما ذكرنا في العبدين، فالمسألةُ محتملةٌ في العيب الحادث، ووجه الاحتمالِ أن المغروم في مقابلةِ العيب الحادث مالٌ متأصل، إن لم يكن الفائت بحيث يُفردُ. والتراضي في معرض الإقالة على العبد القائم، وقيمةِ التالف ما أراه جائزاً، وإنما تردَّدنا في العيب الحادث في صورة الإقالة لما فيه من معنى التبعية.
وقد نجز ما عندنا في هذا نقلاً، وترتيباً، واستنباطاً من قول الأئمة.
3153 - ثم من بقيةِ هذا الفصل أنهما إذا اتفقَا على أرشِ العيب القديم، وقبضَه المشتري، فلو زال العيبُ الحادث، فهل يثبت للمشتري حقُّ ردِّ المبيع مع الأرش الذي أخذه؟ فعلى وجهين:
أحدُهما - له ذلك؛ فإن الأرش المأخوذَ، كان لمكان الحيلولة بين الردّ الذي هو الأصل، وبين المشتري.
والوجه الثاني - لا رجوعَ إلى الرد، وأخذُ الأرشِ مُسقِطٌ له. ولهذا نظائرُ في الشرع في الجراحات والغرامات، ستأتي في موضعه.
ولو لم يقبض المشتري الأرشَ، ولكن قضى قاضٍ بثبوته، ثم زال العيبُ
__________
(1) زيادة من (هـ 2)، (ص).
(2) تِلْو وزان حِمْل: تابع. (معجم).

(5/240)


الحادثُ، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا قبض الأرشَ. وهذه الصورةُ أوْلى بعَوْدِ حق الرد.
ولو قال المشتري: رضيت به، ورضي البائع ببذلهِ، ولم يجر قضاءٌ ولا قبضٌ، ففي المسألة وجهان مرتبان على صورة القضاء. والرد أولى في الصورة الأخيرة منه في الصورة التي قُبيْلها (1).
ولو لم يجر من ذلك شيء، ولم يتفق اطلاعٌ على العيب القديمِ، حتى زال العيبُ الحادث، فالمذهب المقطوعُ به أن حق الرد ثابتٌ. وفيه شيء بعيدٌ [غيرُ] (2) معتدٍّ به.
3154 - ومما يتعلق بهذا الفصل مسألة النعل، وقد ردَّدْنا الاستشهادَ بها، فإذا اشترى رجلٌ دابةً وأنعلَها، ثم اطلع على عيب قديم بها، فإذا كانت الدابّةُ لا يلحقُها عيبٌ حادثٌ بسبب قلع النعل، فالمشتري يقلع النعلَ؛ فإنه عينُ ملكهِ، ويرد الدابةَ بالعيب القديم، ولو أراد ترك النعل على البائع حتى لا يلحقه تعبُ القلعِ، لم يكن له ذلك.
وإن كان بحيث لو قلعَ النعلَ انخرمت ثُقَبُ (3) المسامير، وعاب الحافر عيباً حادثاً، ولو تركَ النعلَ لم تعُد الدابة معيبة، ولا يلحقها عيب إذا استحق النعلَ، فلا نكلفُ المشتري قلعَ النعلِ، وله تركه على البائع؛ حتى يتأتى له الردُّ بالعيب القديم.
اتفق عليه الأئمةُ.
ثم اختلفوا في أن هذا تمليكٌ أو إعراضٌ لقطع ما يَحْذرُ (4) من ظهور العيب الحادث.
وقد ذكرتُ هذا النوعَ في فصل اختلاطِ الثِّمارِ، ووجهتُ الاختلاف فيه، وفائدةُ الخلاف أنا إن جَعلنا التركَ تمليكاً، فلو سقطَ النعل، فهو للبائع. وإن قلنا: تركُهُ إعراضٌ، فهو لازم لا يملك المشتري العودَ إليه، مادام متصلاً. ولكن لو سقطَ وفاقاً
__________
(1) في (هـ 2): "قبلها".
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ثُقَب: جمع ثقبة، وزان غرفة، وغرف. والثقبة هي الثقب. (مصباح).
(4) في (ص): يحدث.

(5/241)


فهو للمشتري. وهو بمثابة قولنا: الكفنُ ملك الوارث، ولكن الشرعَ ألزمَ إدامتَهُ على الميت، فإن بلي عليه فذاك، وإن جرت حادثةٌ تميَّزَ الكفنُ بسببها عن جثةِ الميت، فهو ملكُ الورثةِ.
3155 - ومن تمام ذلكَ أنا [إن] (1) جوَّزنا للمشتري تركَ النَعل على البائع، فلَسنَا (2)
نُلزمه ذلكَ، فإن اختار قلْعَ النعل قبل الرد بالعيب القديم، فله ذلكَ، ولكن يمتنع عليه الردُّ، ولا يلتحق بالعيب الحادث السماوي من غير اختيارٍ من المشتري، بل انتساب المشتري إلى التعييب قطعٌ منه لحقه من الخيار، إلا أن يطلع على العيب بعد القلع فيعود ما قدَّمناه من التفاصيل في العَيب الحادث والقديم.
ويخرج من هذا أنهُ إن أرادَ الردّ بالعيب، كلفناه أن يلتزم ترك النعل، فإن لم يفعل، فلا رَدَّ، ولا أرش. هكذا ذكرهُ الأئمة.
وفيه احتمالٌ من جهة أن النعل عينُ ملكه، وقد أنعل قبلَ الاطلاع، فإلزامُه تركَ ملكهِ فيه بُعد من طريق المعنى.
وإذا باع الثمار على الأشجار، وجرَى فيه الاختلاطُ، فقد قدَّمنا في ترك البائع ثمارَهُ الزائدةَ المختلطة كلاماً على الاستقصاء في موضع ذلك، في باب الثمار.
والذي نَزِيده أن من أصحابنا من جعل ما يتركه البائعُ على المشتري من الثمار، بمثابة ما يتركه المشتري على البائع من النعل.
ومن أصحابنا من قال: ليست الثمار كالنعل، فلا يلزمُ المشتري قبولُ منَّةِ التارك، وليس كالنعل؛ فإن الأمر يقرب فيهِ. ثم هو من حيث الصيغة متصل بالدَّابَّة مثبتٌ عليها بالمسامير.
وإن تكلَّمنا في بيع العبد وعليه ثياب (3)، فإن ما عليه من الثياب هل يدخل تحت البيع؟ فنذكر تردُّدَ الأصحاب في دخول النعل تحت بيع الدابة.
فهذا ما أردناه.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص): فإنا.
(3) في (هـ 2)، (ص): سلبه.

(5/242)


فصل
3156 - قد ذكرنا في تقاسيمِ العيب الحادثِ ما يطرأ مستنداً إلى سبب في يد البائع. وها نحن نبيّن التفصيلَ فيه.
فنقول: ما ذهب إليه معظم الأئمة أن بيعَ العبد المرتدِّ وشراءَه صحيح، وإن كان مستحق الدم؛ لأن الماليَّةَ فيه كاملة. وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع وجهاً غريباً أنهُ يمتنع بيعُه، وهذا [وإن] (1) كان ينقدح توجيهُه، فهو بعيدٌ في الحكاية غيرُ معتدٍّ به.
والعبدُ إذا قَتَلَ في قطع الطريق، وظفرنا به، وقَضَيْنا بتحتُّم قتلهِ، تفريعاً على ردَّ توبته، والتفريع على ما عليه الجُمهور من تصحيح بيع المرتد، ففي تصحيح بيعه، وقد تحتم قتلُه وامتنع سقوطُ القتلِ خلافٌ، فالذي ذهب إليه الجُمهور صحّةُ البيع، وإن كان دمه مستحَق الإراقة.
وذهب بعض الأصحاب إلى منع بيعهِ وإن جوَّزنا بيع المرتدّ. وذهب إلى ذلك أبو عبد الله الختن (2) من مشايخنا.
والفرق بين ما نحن فيه وبين المرتد أن المرتدَّ غيرُ محتومِ القتلِ، ومن الممكن أن يُسلمَ فيسقطَ القتلُ عنه، وقتلُ القاطع محتومٌ [لا دَرْءَ له] (3)، فكان كالمقتولِ (4). وإذا صححنا بيعَ المرتد، فلو قبضهُ المشتري، ثم قتل في يده بإصراره، على الردّةِ، فحاصل المذهب ما جمعهُ الشيخ أبو علي في شرح الفروعِ وهو ثلاثة (5) أوجهٍ:
____________________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) أبو عبد الله الختن: محمد بن الحسن بن إبراهيم الفارسي، ثم الاستراباذي. والختن، بفتح الخاء، والتاء، وهو ختن الإمام أبي بكر الإسماعيلي، أي زوج ابنته. والختن من أئمة المذهب أصحاب الوجوه، برع في القراءات، والمذهب، والجدل، والنظر. ت 386 هـ.
(تهذيب الأسماء: 2/ 255).
(3) في الأصل: لإدراكه، و (هـ 2): لا درا له. والمثبت من (ص).
(4) في (هـ 2) كالمرتد.
(5) في (ص): على ثلاثة.

(5/243)


أحدها - أن التلفَ من ضمان المشتري، سواءٌ علمه مرتداً، فاشتراه وقبضه، أو كان جاهلاً بذلك. ووجه هذا أن صُورة التلفِ جرت في يَدِ المشتري وتحت استيلائهِ، فكان محسوباً من ضمانه، كما لو تلف بآفةٍ سماوية.
والوجه الثاني - أنه إن قبضه غيرَ عالمٍ بردّتهِ، ثم استمرَّ به الجهل حتى قُتلَ مرتدّاً، يُحكم بانفساخ العقد ونزُّل ذلك منزلةَ ما لو قتلَ في يد البائع.
والوجه الثالث - أنه يفصل بين العلم والجهل، فإن قبضهُ على علم بحالهِ، استقرَّ الضمان عليه، وقتلُه في يدهِ بمثابةِ موته حتفَ أنفهِ. وإن كان على جهل حتى قُتل العبدُ، فهو من ضمان البائع؛ من جهة أن المشتري معذورٌ بسبب جهله المستمرّ.
3157 - توجيه الأوجه: من قال: التلفُ من ضمان المشتري، فوجهه التمسُّكُ بالصورة، فإنَّ التلفَ جرى تحت يدِ المشتري، فيستحيلُ إلحاقهُ بضمان البائع.
والدليل عليه أنه يتسلّط على التصرف، ويَبعد أن يُفيدَه القبضُ التصرفَ، ولا ينقلَ إليه الضمان. وفي المصيرِ إلى تجويز البيع مع الحكم بان التلفَ من ضمان البائع حكمٌ بتوالي (1) الضمانين.
ومن قال: التلف من ضمان البائع، اعتمد استنادُه إلى سببٍ كان في يد البائع.
والأسبابُ وإن تقدمت، [فالمسبب] (2) في حكم المقترن بها، ولذلك ألزمنا [الميّتَ] (3) بسبب احتفاره البئرَ في حياته غُرْمَ المتردِّي، وإن خرج بالموت عن كونهِ جانياً.
ونظائر ذلك كثيرةٌ.
وعن هذا صار من صار إلى فساد البيع، وكان يقرُبُ في (4) ذلك الوجه الوقفُ، حتى يقالَ: إن قُتلَ المرتدّ، تبيّنَّا أن بيعَهُ لم يصح، وإن عاد إلى الإسلام، تبيَّنا الصحَّة، ولم أر ذلك لأحدٍ.
__________
(1) في (ص): بزوال.
(2) في الأصل: السبب.
(3) غير مقروءة في الأصل. وفي (هـ 2): المستبب، (ص): المسبب، والمثبت تقديرٌ منا، على ضوء السياق.
(4) في (هـ 2): من.

(5/244)


ومن فصل بين العلمِ والجهلِ رأى السببَ مؤكداً في حالة الجهل، وقدَّره منقطعاً مع علم المشتري؛ حتى كأن رضاه بما رآه قاطعٌ لما سبقَ من السبب. فإن حكمنا بالانفساخ من غير تفصيل، فلا كلام.
وإن قلنا: لا ينفسخ العقد، فإن كان عالماً، لم يرجع بشيء، وإن كان جاهلاً، رجعَ بأرش العيب، فيقوَّمُ العبد مرتداً ومسلماً وتُضبط النسبة والجزئية، ويثبت الرجوع بذلك الجزء من الثمن، فمهما (1) كان الكلام في الرجوع بالأرش، اختلفَ الحكم بالعلمِ والجهل بلا خلاف، وإنما الخلافُ في الانفساخ؛ فإن من أصحابنا من حكم بالانفساخ مع العلم بحقيقة الحال.
وكان شيخي يحكي طريقين في شراء العبدِ المريض وقبضِه، وتمادي المرضِ إلى الموت في يد المشتري، فمن أصحابنا من ألحقَهُ بالردة والقتل بها.
ومنهم من قطع بأن الموتَ بالمرض من ضمان المشتري قولاً واحداً؛ فإن المرض يتزايد ويتجدَّد في يد المشتري، حتى يُفضي إلى الهلاك، والردةُ خصلةٌ واحدةٌ، وقد سبقت في يد البائع. ثم إذا قلنا: التلف من ضمان المشتري، فيرجع الكلام إلى الرجوع بالأرشِ، وذلك يختلف بالعلمِ والجهل كما تقدّمَ.
ويتفرع على ما ذكرناه أن من اشترى عبداً سارقاً، فقُطعت يدُه في يد المشتري، فهذا مستندٌ إلى سبب سابق، فإن اتبعنا وقوعَ السبب، جعلناه كما لو حصل القطعُ في يد البائع، فيُرعَى الأرشُ في عبدٍ أقطعَ وسليمٍ (2). وإن اتبعنا وقوعَ المسبَّب، فقد يثبت عند الجهلِ الرجوعُ بالأرشِ، ولكنَّ سبيلَه ما نصفه، فنقول: عبدٌ متهيىءٌ
__________
(1) "مهما" بمعنى (إذا).
(2) المراد أن الأرش هنا يعتبر أرْشَ القطع، أي النقص الذي حدث بسبب القطع، على حين في حالة اعتبار وقوع المسبب يكون الأرش عن النقص الواقع بسبب تهيؤ العبد للقطع، وليس بحصول القطع. وهو فرق دقيق في المعنى، يشهد بدقة الإدراك.
ولكن لنا أن نتساءل عن الفرق بين أرش القطع، وأرش التهيؤ للقطع، وهل هناك فرق واقعاً وفعلاً؟؟
إن الأقطع عرفت حقيقةُ حاله، ووضح أمره، أما المستحق القطع المتهيىء له، فسيقطع اليوم أو غداً، ولا يُدْرى كيف سيكون أثر القطع عليه. فلعلّ هذا هو الفرق.

(5/245)


للقطع كم قيمته؟ وعبدٌ سليمٌ غيرُ متهيىءٍ للقطع كم قيمته؟ فنعتبر النسبةَ كذلكَ، ولا نعتبر وقوعَ القطعِ على هذا الوجهِ، لجريانه في يد المشتري.
فرع:
3158 - لو اشترى جارية مزوَّجة بكراً، فافتضها الزوجُ في يد المشتري، فهذا ملحق بعيب حادثٍ في يَد المشتري مترتبٍ على سبب في الاستحقاق سابقٍ في يد البائع.
ولا يخفى التفريع بعد هذا التنبيه.
فصل
3159 - قد رأينا أن نأتي في هذا الباب بفُصولِ العيب متوالية، ولا نلتزم ترتيب السواد (1).
وهذا الفصل يجمع كلاماً في أعيان عيوب قد نحتاج فيها إلى فضلِ نظرٍ، وكلاماً على الفوْر ومعناه.
أما الأصلُ فيما يكون عيباً، فقد تمهّد على أحسن وجهٍ فيما سبقَ.
وغرضنا الآن ذكرُ مسائلَ: فالبول في الفراش عدّهُ الأصحاب من العيوب، ولا شك أنهم عنَوْا به إذا كان يتفق في غير أوانه المعتاد، فأما إذا كان المشتَرَى صغيراً لا يندُر بولُ مثله في الفِراش، فليس ذلك منه عيباً.
وعَد الأصحاب الصُّنانَ من العيوب. وفيه تفصيلٌ لا بدّ منه: فإن كان الذي يلحق العبدَ مما يعم مثله في حق الشبان إذا تحرّكوا وعرِقوا، فهذا لا يعد عيباً، ولو كان يطرأ ذلك من غير سبب، وكان لا يندفع إلا بعلاجٍ يخالفُ المعتادَ، فهذا تميّزَ عما عليه الناس، وقد يعد عيباً.
والبَخَر الأصلي ناشىء من أخلاطٍ متكرِّجةٍ (2) في خَمْل (3) المعدة وهو العيب.
__________
(1) السواد: يريد به مختصر المزني.
(2) كَرَج الشيء بفتحتين إذا فسد (معجم).
(3) خَمْل: وزان فَلْس: الهُدْب. وخمل المعدة: ألياف كأهداب القطيفة تغطي سطحها الباطن (معجم).

(5/246)


وما يكون من قَلَح الأسنانِ، ويزيله الاعتناءُ بتنظيفِ الفَم فلا يُعدُّ عيباً.
والجاريةُ إذا احتبس حَيضُها، رُوجع في أمرها أهل الصناعة (1)، فإن قالُوا الاحتباسُ في هذا السن نادرٌ، فهو فيما يقال عيبٌ، وفي البنية علةٌ حابسةٌ للفضلةِ التي تَمَس الحاجة إلى استرسالها، وإن لم يُبْعد أهلُ الخبرةِ احتباسَ الحيض في هذا السن، فلا يكون عيباً حينئذٍ.
ولو اشترى الرجل عبداً، فخرج كافراً، فالذي ذهب إليه عامة الأصحاب أن الكفر عيبٌ.
وذكر العراقيون وجهاً أنهُ ليس بعيب، واسم العبد لا يتعرض للإيمان ولا للكفر.
والقول في هذا يُفصّل عندي: فإن كان الغالبُ العبدُ المسلمُ في موضع العبدِ، وكان الكفرُ منقصاً للقيمة، فهو عيب. وإن لم يكن الإيمان غالباً في العبيد، بل كانوا منقسمين، وكان الكفر منقصاً للقيمة، فهذا فيه تردُّدٌ. وظاهرُ القياس أنه ليس عيباً، وظاهر النقلِ أنه عيبٌ؛ فإن الكفر بالإضافة إلى الإيمان مع اضطراب العادة كالجهل بالكتابة، بالإضافةِ إلى العلم بها. وإن لم يكن الكفر بنقصٍ، والعاداتُ مضطربةٌ، فالوجهُ القطع بأن الكفرَ لا يكون عيباً.
فإن قيل: إذا خرج العبدُ زنَّاءً، فهو معيبٌ عندنا، والكفر شرٌّ من الزنا، [فإن] (2) قيل: ضررُ الزنا يتعدى، ويُفضي إلى حَبطِ (3) الأمانة في الحُرَم، وليس الكفر كذلك، فينقدح أن يقال: العبد الكافر قد ثبت كفره في الصبيان، والسفهاء غيرِ ذوي الرأي، وهذا يوجب كونَ الكفرِ عيباً على الجُملة. قلنا: الأمرُ كذلك، ولكن في تقرير الضَّرر من الكفرِ بُعدٌ، وهو ظاهرٌ في الزنا.
ومما يتعلق بهذا أن الرجل إذا اشترى عبداً على أنه كافرٌ، فخرج مسلماً، نُظر: فإن كنا متاخمين لبلادِ الكفر، وكانوا يكثرون الوُلوجَ فينا، وقد يكون الكافرُ أكثرَ
__________
(1) المراد هنا أهل صناعة الطب، أي الأطباء.
(2) في الأصل، (هـ 2): (وإن).
(3) في (ص): خبط. وحَبطَ من باب تعب: فسد وذهب، أي فساد الأمانة وضياعها (المعجم).

(5/247)


قيمةً، فإذا أَخْلفَ الشرطُ والحالة هكذا، ثبت الخيار.
وأبعد بعضُ أصحابِنا وقال: لا خيار. وهو مذهبُ أبي حنيفة (1). وارتاعَ هؤلاء من تشغيبٍ في نسبتِنا إلى إيثارِ الكُفر، وهذا غيرُ سديدٍ؛ فإن الماليّةَ هي المرعيّة، وهي مأخوذةٌ من الرغبات في كثرتها وقلّتها، فالكافر يشتريه المسلمُ والكافرُ، والمسلمُ لا يمكَّنُ الكافرُ من شرائه. هذا إذا كان الكافرُ أكثرَ قيمةً.
وإن لم يكن الأمر كذلك فخُلْفُ الشرط فيه بمثابة خُلْفِ الشرط في الثيابَةِ والبكارة والجُعودة والسُبوطة، فإذا بان مسلماً والمشروط كونُه كافِراً، فهو كما لو شَرط أن يكون سَبِطَ الشعرِ، [فخرج جَعْدَ الشعرِ] (2).
ولو اشترى داراً، ثم بان له أن الجندِيين ينزلونها، فهذا عَيبٌ.
ولو اشترى ضيعةً، فبان في خراجها ثِقَل، فهو عيب. وإن كنا لا نرى أصلَ الخراج، فإن المتبعَ فيه رأيُ الولاة.
والرجوعُ فيما يكونُ عيباً وما لا يكون عيباً إلى أهل الخبرة. والقيمُ تتفاوت بالرغبات.
هذا ما أردناه في هذا المقصود.
3160 - المقصودُ الثاني من الفصل: بيان الفور.
وكنتُ على أن أؤخّر تفصيلَهُ إلى كتاب الشُّفعةِ، ولكن بَدا لي أن أُنجز ما تَمسُّ الحَاجةُّ إليه.
فنقول أولاً: نفوذ الفسخ لا يتوقفُ عندَنا على القضاء، ولا على الرِّضا، فلو انفردَ من له الرَّدّ، وقال رَدَدتُ المبيعَ، أو فسخت العقدَ، انفسخ عندنا.
فإذا لاح هذا قلنا بعده: إن تمكن من الفسخ بين يدي قاضٍ، فلا عُذرَ في التأخير، ولو أخر بطل حقه، ولو هَمَّ بالرفع إلى القاضي، (1 ولم يكن المردود عليه حاضراً، ولم يتمكن من الإشهاد، فليسَ من الوفاءِ بالفور أن يقول في نفسه، فسخت
_________
(1) ر. رؤوس المسائل: 286 مسألة 173، فتح القدير: 6/ 8.
(2) ساقط من الأصل.

(5/248)


العقد، بل لو لم يقله، وابتدر إلى القاضي 1)، فهوَ مشتغلٌ بالأمر على أحزم الوجوه، لا يعدُّ في العرفِ مقصراً، ولا يلزمه أن ينطق بالفسخ؛ فإنه لو نطقَ به لم يُصدَّق فيه، فلا معنى له.
وإن كان المردود عليه حاضراً، فابتدر مجلسَ القضاء وترك الرد عليه، ظاهرُ المذهب أنه يَبطل حقُّه؛ إذ الناس يعدّونه مقصّراً.
ولو لم يجد المردودَ عليه، وأمكنه أن يتلفظ بالرد، ويُشهدَ، فأبى إلا الارتفاعَ إلى مجلس القضاءِ، ففي المسألةِ وجهان، سنذكر نظيرَهما في الشفعَة.
والانتفاعُ بعد العثور على العيب والاطلاعِ، يُبطل حقَّ الردّ، فإذا علم [عَيْبَ] (2) غلامٍ، فاستخدمه ولو في لحظةٍ، بطل حقه، حتى لو استخدمه في مدَّةِ ارتفاعه إلى مجلس القضاء، قضينا ببطلان حقّه.
وهاهنا نبيّن أثرَ الاستخدام، ولا ينبغي أن نفرضَ الاستخدامَ في زمانٍ لو سكتَ فيه، بطل حقُّه.
والقول في ركوب الدابةِ كالقول في الاستخدام، إلا أن يكون الركوب ضرورياً في الردّ، بأن كان يعسر قَوْد الدابَّة وسوقها، فإذ ذاك يُحمل الركوبُ على الردّ. قال صاحب التلخيص: لو ركب الدابّةَ [منتفعاً] (3)، ثم اطلع على عيب بها، فإن استدام الركوبَ، بطلَ حقُّه؛ فإن استدامتَه كابتدائه، وإن نزل كما (4) اطَّلعَ واشتغل بالبدار، فحقُّه ثابت، وإن وضع على الدابةِ سَرْجاً أو إكافاً، وعلّق عليها لجاماً أو عِذاراً، ثم اطّلع على عيبٍ، فإن وضعَ الإكافَ والسرجَ من فورهِ، لم يبطل حقُّهُ، وإن استدام الإكافَ والسرجَ زماناً، كان كما لو استدام الركوبَ، ولا يضر استدامةُ العِذارِ واللجامِ؛ فإنه لا ثقل منهما، ولا يُعدُّ معلِّقهما [منتفعاً] (5) بالدابة.
__________
(1) ساقط من (هـ 2) ما بين القوسين.
(2) في الأصل: بيع.
(3) في الأصل، (ص): مشفعاً. والمثبت من (هـ 2).
(4) كما: بمعنى (عندما)، كعهدنا بها في أسلوب إمام الحرمين.
(5) في الأصل: مشفعاً.

(5/249)


والأصل الرجوعُ إلى العادة في الباب، فإن ظهرت، فالوفاق في النفي والإثبات، وإن اضطربت بعضَ الاضطراب ثار خلافُ الأصحاب.
فصل
قالَ: " ولو اختلفا في العَيبِ ومثلهُ يحدث ... إلى آخره " (1).
3161 - إذا ظهرَ عيبٌ بالمبيع في يد المشتري، فاختلف البائع والمشتري في قدمهِ وحُدوثه، فادّعَى المشتري قِدَمَه [وتلقِّيه] (2) منه، ووجودَه في يد البائع. وقال البائع: إنه حدث في يدك، فإن كانت المشاهدةُ تُكذب أحدَهما كذَّبناه، ولا يكاد يخفى تَصويرُ ذلك.
فإن كانت الجراحةُ طريَّة، والتسليمُ من سنين، فالمشتري مكذَّب في دعوى القدم، وإن كانت الجراحة مندملة، والتسليم من أيام معدودَة، فالبائع مكذَّب في دعوى الحُدوث.
وإن احتُمل الأمران، فالقول قول البائع في نفي العَيب (3)، في يده؛ فإنّ الأصل الغالبَ السلامةُ، والأصل بقاءُ العقد على اللزوم، والمشتري في دعوى العيب يدعي ثابتاً يخالف الاعتياد، ويبغي رفعَ لزوم العقد، فالوجهُ الرجوعُ إلى قول البائع، ولكن لا بُدَّ من يمينه؛ لتطرُّقِ الاحتمال إلى الحال، ثم لا يُقنَع من البائع إلا بيمين جازمة ينفي بها العيب، ويقول: بالله لقد بعتُه وسلمتُه، وما به عيبٌ.
3162 - وقال ابنُ أبي ليلى (4): إنه يحلف على نفي العلم؛ (5 فإنّ جزمَ اليمين في نفي العيوب مجازفةٌ، وسنذكرُ في أقسام اليمين أن ما يتضمَّنُ منها نفيَ فعلِ الغير، فهو على نفي العلمِ 5)، والعيوب قد تكون بهذه المثابة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 190.
(2) في الأصل، (ص): ويكفيه.
(3) في (ص): الحدوث.
(4) ابن أبي ليلى: محمد بن عبد الرحمن ت 148 هـ.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ص).

(5/250)


وهذا الذي ذكره، وإن كان فيه وجهٌ من التخييل، فهو بعيدٌ عن فقه الفصلِ؛ فإن غرض المشتري ليس يتعلّق بعلم البائع وجهلهِ؛ فإنَ حقهُ من الرد يتعلق بالعيب إن كان، وينتفي بانتفائهِ، فلا بد من التعرض لنفي موجِب الخيار؛ فإنه لو حلف على نفي العلم، اتجه للمشتري ادّعاءُ الخيار مع الاعتراف بانتفاء علمه.
فإن قيل: فكيف تتجه اليمين؟ وما الوجه فيه؟ قُلنا: إن كان [خَبَرَ] (1) البائعُ العبدَ، فقد يطلع على خفاء أمره، ويجوز اعتمادُ مثلِ هذا في اليمين، بل يجوز إقامةُ الشهادةِ على الإعسار، وأن لا وارثَ غيرُ الحاضرين، وعلى عدالةِ الشهودِ، وانتفاءِ ما يقدحُ فيهم بمثل هذا.
وإن لم يكن خَبَرَ البائعُ العبدَ، واستوى في نظره كونُ العيبِ وعدمُه، فلا يخفى وجه الاحتياط، وطريق التورُّع.
وإن سُئلنا عن جوازِ الحلفِ، فنصُّ الشافعي مصرّحٌ بجواز الحَلفِ ونَصُّه في مسألة العبد المشرقي، والسيد المغربي معروف؛ فإنه قال: لو اشترى مغربيٌّ رُبِّيَ بالمغرب، وهو ابنُ ثلاثين سنة عبداً مشرقياً، ابنَ خمسين سنةً، ثم باعه من يومهِ، ثم فرض (2) نزاعٌ في قدم عيبٍ وحَدَثِه (3). قال الشافعي: يحلف المغربي بالله لقد بعتُه، وما به عَيب. فإن قيلَ كيف ينساغُ هذا؟ قلنا: لا وجه له إلا البناءُ على ظاهرِ السلامة، وعلى هذا بُني أصلُ الخيارِ، وإلا فحكمُ قولِ القائل بعتُكَ هذا العبدَ يُنزل (4) العبد على صفَاتِه سليماً كان أو معيباً، ولكن أقام الشرع لظنّ السلامة حكماً، فإذا تعلق أصل الخيار بظنِّ السلامة [ابتنى] (5) جوازُ الحلف على ظن السلامة.
ثم قال الشافعي: يحلفُ البائع: بالئه لقد بعته (6) وما به عيب، (1 فاعترض المزني
__________
(1) في الأصل: خيّر.
(2) في (ص): عرض.
(3) في (هـ 2)، (ص): حدوثه. والمثبت هو ما عليه لغة إمام الحرمين.
(4) في (هـ 2)، (ص): تنزيل العبدِ.
(5) في الأصل: ما ابتنى.
(6) في (هـ 2)، (ص): بعته وأقبضته. (وهو مخالف للسياق).

(5/251)


وقال: لا تنقطع الخصومةُ بهذه اليمين، فقد يحدث العيب بعد البيع وقبل القبض، ولو كان كذلك، لثبت الخيارُ للمشتري، فليحلف بالله لقد بعته وأقبضتُه وما به عيب 1).
قلنا: لا شك أن البائع لا يخرج عن عهدة الرد باليمين التي ذكرها الشافعي، ولكن لعلّه صوَّر دعوى المشتري في اقتران العيب بالبيع، وإذا قصَر المشتري دعواه على ذلك، فاليمين تكون على حسب الدعوى، في حكم المضادَّة.
3163 - وقرّر الأئمةُ في هذا الفصل أصلاً في صيغ الدعوى والإنكار واليمين، وذلك أنهم قالوا: لا يشترط أن يكون الإنكارُ على مضادّة الدعوى لفظاً ومعنى، بل يكفي مضادّةُ المعنى. هكذا قال الأصحاب.
وهذا اللفظ فيه اختلالٌ. والوجه أن يقال: يكفي أن يكون الإنكار مضاداً لمقصود المدَّعي.
وبيانُ ذلك أن من ادعى ألفاً على رجلٍ من جهة قرضٍ، فيكفي في الإنكار أن يقول المدعَى عليه: لا يلزمني تسليم ما تدّعيه إليك. فهذا يضادُّ مقصودَه. وفيه غرضٌ ظاهرٌ عظيمُ الوقعِ للمنكرين، فقد يكون الإقراضُ جارياً، ولكن برئت ذمَّةُ المقترض بسبب، ولو اعترفَ بالأصلِ وادّعى طريَانَ ذلك السببِ، فيقف موقف المدَّعين، والقول قولُ صاحبِهِ فربما يجترىء ويحلف. وإذا قال: لا يلزمُني: تردّدَ هذا بين نفي الاقتراض، وبين ثبوت البراءة بعد جَريان الاقتراض، فاكتفى الشرعُ بلفظٍ يتضمنُ دفعَ مقصودِ المدعي، ويشمل الغرضَ الذي نبَّهنا عليه، ومضادَّةُ الدعوى في معناها أو مقصُودِها، وسرُّ هذا يأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجلّ.
ثم اليمين تقعُ على حسب الإنكارِ. ولو وقع الإنكارُ على مضادَّة صيغَةِ الدعوى لفظاً ومعنى، فقال (2 المدعي: أقرضتُك. وقال 2) المدعَى عليه: ما أقرضتني، فلما انتهى الأمرُ إلى اليمين، أراد ردَّ اليمين إلى المقصودِ، وأن يحلف بالله:
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص).

(5/252)


" لا يلزمُني تسليمُ ما تدعيهِ إليك ". [فَهَلْ] (1) يُقبل ذلك منه، أم يكلفُ أن يأتي باليمين على حسب الإنكار الذي صدر منه؟ فعلَى وجهين مشهورين.
ولو اكتفى في الإنكار بمضادّةِ مقصودِ الدعوى، ثم أتى باليمين على صيغةِ مضادَّة الدعوى لفظاً ومعنى، قُبلت منه اليمين؛ فإنها اشتملت على مقصود الإنكار، وزادت تصريحاً وقطعاً للإيهام.
ولو قال المدعي: أقرضتُكَ ألفاً، وعليك ردُّه، فاعترف المدعَى عليهِ بالاقتراض، ثم قالَ: أحلف: " لا يلزمني تسليم شيءٍ إليك "، لم يُقبل ذلك منه؛ فإنه اعترفَ بالأصل، ووقف موقفَ المُدّعين فيما يُسقط القرضَ، ولا تُقبل اليمين من المدَّعِي. ولو قال: أرجعُ الآن إلى إبهام الإنكار، لم يقبل منه؛ فإن ذلك [يُقبلُ] (2) من وجه تردده، وإذا اعترف بالأصل، زال التردُّدُ، وانحصر مجملُ الإنكار في ادعاء مسقط القرض. وهذا مقام المدعين.
3164 - وإذا تمهَّد هذا، عدنا إلى كلام المزني فنقول: لعل الشافعي فرضَ فيه إذا ادّعى المشتري اقترانَ العيب بالبيع، ولم يدعِ غَيرَه، فإذا أنكر البائعُ دعواه، كفاه ذلك؛ فإن الإنكارَ قد يقصُرُ عن معنى الدعوى، فيكتفي به، كما قدّمنَاه. فكيف يُشترَط أن يزيدَ على معنى الدعوى؟
ولو قبض عوضاً كان موصوفاً في الذمةِ، ثم تنازع القابضُ والمقبضُ في عيبٍ بالمقبوض يُحتَملُ تقدُّمُه، ويحتمل حدوثُه، فقد اختلف أصحابُنا فيه، َ على ما حكاه صاحبُ التقريب.
فمنهم من قال: القول قول المُقبِض النافي لتقدُّمِ العيب، كما لو كان التنازع في عيبِ عينٍ متعيَّنةٍ في العقد.
ومنهم من قال: القولُ قولُ القَابضِ؛ فإن الأصلَ اشتغالُ ذمّةِ المقبضِ بما عليه، وهو يَدّعي براءةَ نفسهِ.
__________
(1) في الأصل: فلا.
(2) في الأصل: مقبل.

(5/253)


وهذا الاختلافُ يقربُ من تقابل الأصلين، ويعتضد الوجهُ الأخير، بأنَّ ردّ المقبوض ليس يتضمن فسخَ العقد، حتى نقولَ: الأصلُ استدامةُ لزومهِ، وليس في تصديق القابض إلا الاستبدالُ.
ومما يتعلق بهذا الفصلِ أن المتبايعين إذا تنازعا في قدم العيب وحدوثه، وجعلنا القولَ قولَ البائعِ مع يمينه، فمقتضى اليمينِ حدوثُ العيب، ولكن البائع مصدَّقٌ في نفي قِدمهِ، لا في حقيقةِ حدوثهِ.
ويظهرُ أثرُ هذا في مسألةٍ، وهي أن المتبايعين بعد جريان ما وصفناه، لو تنازعا في مقدار الثمن مثلاً، وتحالفا وتفاسخا، فإذا ارتدَّ المبيع إلى البائع، قال: غرّموه أرشَ العيب؛ فإني أَثبتُّ حدوثَه، لم نُجبه إلى ذلك؛ فإنا صدقناه (1) محافظةً على استدامةِ لزومِ العقد، ودفعاً لما يطرأ عليه بالقطع. فالآن إذا انتهى الأمر إلى تغريم المشتري شيئاً بيمين غيرِه، والأصلُ براءةُ ذمته، فلا سبيل إلى التزامِ هذا.
3165 - ومن نظائر ذلك أن الوكيل بالبيع واستيفاءِ الثمن إذا قالَ: قد استوفيتُ الثمنَ، وسلمتُه إلى الموكِّل، قُبِل قولُه مع يمينهِ؛ لأنه مؤتمن من جهةِ موكِّله. فلو استُحِق المبيعُ في يَدِ المشتري، واقتضى الحالُ الرجوعَ بالثمن، فلا نرجع على الموكِّل؛ فإنه أنكر قبضَ الثمن، وكُنَّا صدقنا الوكيلَ حتى لا نغرِّمَه [شيئاً وهو مؤتمن، فأما أن نغرمه] (2) حتى تُشغلَ ذمة الأصلُ براءتها، فلا سبيل إلى ذلك.
وإذا تولَّجت مسألة من كتابٍ في كتابٍ، فهي غريبة، ولا وفاءَ باستقصائها إلا في كتابها.
ونقل الأئمة عن الشافعيِ مسألةً في الاختلاف تدنو من الأصل الذي ذكرناه، وهي أن من اشترى عبداً وبه وَضحٌ (3)، ثم حدث بياضٌ آخر، ثم زال أحدُهما، فقال البائع: الزائل البياضُ القديم، فلا ردَّ لك، وقال المشتري: الزائل البياضُ الحادث
__________
(1) في (ص): صدقناه أولاً. وفي الأصل: ولا محافظة.
(2) ساقط من الأصل.
(3) الوضح: بياض البرص. (معجم).

(5/254)


الذي كان يمتنع بسببه الردُّ بالبياض القديم، والآن قد زال الحادث المانع، فقولاهما متعارضان لا يترجحُ أحدُهما على الثاني - ولكنَّ القولَ قولُ من يدعي استمرارَ لزوم العقد؛ فإنه الأصل، وليس كما إذا تحالف المتبايعانِ في مقدار الثمن والمثمن؛ فإنهما يتحالفان؛ لأنهما تناكرا جهةَ لزومِ العقد، وليس أحدُهما أولى من الثاني.
ثم قال الشافعي: فيحلف البائعُ ويغرَم للمشتري أرشَ أقلِّ البياضيْن إذا وقع التناكرُ في الأقلّ من القديم والحادث، وكانا مختلفين في المقدار.
والأمر على ما قال؛ فإنا بنينا الأمر على استصحاب اللزوم، وعلى براءةٍ في الأرش المبذول.
فصل
3166 - قد مضت مسائلُ الرد على مساقٍ شافٍ، ونَحنُ نذكرُ في هذا الفصل حقيقةَ الرد، وانشعابَ المذاهب فيهِ، وهو يشتمل على مسائلَ في الزوائد أَخَّرتُها لمّا رأيتُها مستندة إلى حقيقةِ القول في الردّ. فأقول:
الردّ بعد قبض المبيع قطعٌ للعقد من وقتِه، ولا يستند ارتفاعُ العقد إلى ما تقدَّم.
هذا مذهبُ الشافعي، وعليه بَنَينا المذهَب في إبقاء الزوائد المنفصلةِ المتجددةِ بعد العقد على المشتري إذا [هو] (1) ردَّ الأصلَ، فلا الزوائدُ تمنعُ من الفسخ بالعيب القديم، ولا هي ترتدُّ إلى البائع عند ارتدادِ الأصلِ إليه. وهذا إذا جرى الفسخُ بعد قبض المبيع.
ثم لا فصل فيما مهدناه في الزوائدِ بين ما حدث من الزوائد بعد قبض المبيع، وبين ما حدثَ قبل القبض وبعد العقدِ؛ فإنّ الملكَ إذا استقرَّ في الأصلِ بالقبضِ، استقرَّ الملكُ في الزوائدِ ثم يختص الأصل بالارتداد.
والذي يعترض في هذا الفصل ما كان موجوداً حالةَ العقد، وكان حكمه أن يتبعَ الأصل [هل] (2) يجبُ التَّعرُّضُ له أو لا؟
__________
(1) مزيدة من (هـ 2)، (ص).
(2) في الأصل: يتبع هذا الأصل يجب، (هـ 2): يتبع الأصل. هذا يجب. والمثبت عبارة (ص).

(5/255)


فإذا اشترى رجل جاريةً، وكانت حاملاً، فقد اختلف القولُ في أن الحمل هل يُقابلُه قسط من الثمن؟ [فعلى قولين:] (1) أحدهما - أنهُ يقابله قسط؛ فإنه مقصود في جنسهِ، وقد كفانا الشرعُ أمراً كُنّا لا نَستقلُّ به، وهو إدخالُه في البيع مع أنهُ لا يُقدَر على تسليمه.
والقول الثاني - لا يقابله قسطٌ؛ [إذ لا يمكن إفراده بالبيع] (2) وإنما ينتظم التقسيط عند تجويز الإفراد.
التفريع على القولين:
3167 - إن قلنا: يقابله قسطٌ، فهو مبيع (3) وحكمُه [فيما] (4) نحن فيه، أن يردَّ إذا رُدّت الأم، و [من] (5) حكمه أن يُحبَسَ مع الأم، في مقابلةِ الثمن، إذا انفصل، ويبقَى العقدُ عليه إذا بقي، وإن تلفت الأم على أحد قولي التفريق. وهو بعد الانفصال بمثابةِ مملوكٍ مضموم إلى مملوكٍ.
وإن قلنا: الحمل لا يقابله قسطٌ من الثمنِ، فهو في حكم البيع كالمعدوم، فإذا ولدته أُمُّه، نجعله كزيادَةٍ متجدِّدةٍ بعد البيع. وقد مضى القول في الزياداتِ، وسيأتي باقي بيانها، إن شاء الله تعالى.
وإذا باع شجرةً عليها طلعٌ غيرُ مؤبَّرٍ، فمن أئمتنا من خرَّج مقابلةَ الطلع بقسط من الثمن على القولين المقدمَيْن في الحمل. والجامعُ أنهما جميعاً دخلا تحت العقد بمطلق تسميةِ الأرض. وقد شبَّه الشافعي الطلعَ في كِمامه بالحَمْل في أحشاء البطن.
ومن أئمتنا من قطع بأن الطلعَ يقابله قسطٌ من الثمن. وهذا التردد يبتني عندنا على الاختلاف في [الثمر] (6) قبل التأبير، هل يجوز إفرادُه بالبيع؟ وقد مضى فيهِ قولٌ بالغ.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ومن العجيب أن تتفق النسخ الثلاث في هذا السقط.
(2) ساقط من الأصل، ومكانه: " فهو مبيع ".
(3) في (هـ 2) ممتنع.
(4) في الأصل: " ما ". والمثبت من (هـ 2)، (ص).
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل، (ص): " الثمن " والمثبت من (هـ 2).

(5/256)


فهذا مما اعترض في نظمِ كلامنا في الزوائد.
3168 - ومما يعترض أيضاًً، وبه تمام هذا الغرض: أن من اشترى جاريةً، فعَلِقت بمولودٍ، وأرادَ ردّها، ولم يعبْها الحملُ الطارىء في يدِ المشترِي، أو كان طرأ في يد البائع، فإذا أراد الردَّ، فهل يتبعُ الحملُ الأصلَ حتى يرتد إلى البائع؛ كما يتبعُ الحملُ الأصلَ في الدخول تحت استحقاق المشتري؟ على قولين. وكذلك القولان في الطلع الذي لم يُؤبّر، إذا كان كذلكَ يومَ الرَّد، وقد تجدد بعد العقدِ، ففي ارتداده إلى البائع القولان.
وهما يجريان في صُوَرٍ؛ منها:
إذا أفلس المشتري بالثمن، والجاريةُ المبيعةُ حامل في يده بحَمْلٍ متجدّدٍ، فإذا رجع البائعُ فيها، فهل يرجعُ في حَملها؟ فعلى قولين.
وكذلك إذا علقت الدابّةُ المرهونةُ بحَمْلٍ بعد الرهن، ثم احتجنا إلى بيعها في الديْن وهي حامل، فهل نقضي بتعلّق حق المرتهن بالحمل؟ فعلى قولين.
وإذا وهب الرجل من ابنه جاريةً، وافتضها وعلقت بمولودٍ رقيقٍ، فرجع الأبُ في الهبة، فهل ينقلب الحمل إليه ملكاً؟ فعلى قولين.
ولا فرق في هذه المواقف بين الطلع الذي لم يُؤبر وبين الحملِ.
3169 - وضابط الباب: أن الحمل والطلع المستتر يتبعان الأصلَ في الأعواضِ الثابتة في العقودِ الاختياريّة، سواء [ثبتَ] (1) الأصلان مبيعاً أو ثمناً، أو صداقاً أو أجرةً، أو بدلاً في خُلعٍ أو صلح. وإذا [أُثبتا] (2) في عقد الهبةِ، فالمنصوصُ في الجديد أنهما لا يستتبعان الحملَ والطلعَ، ونَصَّ في القديم على أن الهبةَ كالبيع في اقتضاء الاستتباع. وإذا كانت الأصول ترتد بطرقٍ قهريّةٍ، كالردِّ والرجوعِ في الهبةِ، ورجوعِ البائع إلى المبيع عند إفلاس المشتري، والبيع المحتوم في حق المرتهن، فهل تستتبعُ الأصولُ الطلعَ والحملَ؟ فعلى قولين. والفرق بين الابتداءِ المعلّقِ بالاختيارِ،
__________
(1) في الأصل، (ص): أثبت.
(2) في النسخ الثلاث (أثبتنا). وما قيدناه تصرف منا رعاية للسياق.

(5/257)


وبين ما يجري قهراً أنّ عُقودَ الاختيارِ تستدير بُعْد (1) المبيع عن العُسر، ولو نفذنا (2) البيعَ على الجاريةِ والشجر، دون الحمل والثَمرةِ، [لجرَّ] (3) ذلك عُسراً في الأصلين، فاقتضى الشرع إتْبَاعَ الحمل والطلع الأصلَيْن.
وما يجري من الارتداد قهراً ليس في حكم العقود، فجرى الأمرُ في التبعيّةِ على التردُّدِ، ولما كانت الهبةُ دون البيع في التعبداتِ فرّق الشافعي في الجديد بينهما في مقتضى الإقباض.
فهذا تفصيل القول في الزوائد والردّ بعد قبض المبيع.
3170 - فأما إذا رَدّ المشتري المبيعَ قبل القبض، بعيبٍ كان مقترناً بالعقد، أو تجدد في يد البائع، فالزوائد التي تجددت بعد العقد لمن تكون؟ في المسألة وجهان مبنيان على حقيقةِ القول في اقتضاء الفسخ قبل القبض (4 وفيه وجهان: أحدُهما - أن الفسخ قبل القبض 4) كالفسخ بعده، في أنه يتضمن قطعَ العقد في الحال، ولا يتضمن الاستناد إلى ما تقدّمَ.
والثاني - أن الفسخ يتضمَّن ارتفاعَ العقدِ من أصله تبيُّناً، حتى كأن لم يكن العقد.
فإن قلنا: الفسخُ قطعٌ لا يتضمن استناداً، فالزوائد المتجددة بعد العقد متروكةٌ على المشتري، كما تُترك عليه إذا جرى الفسخُ بعد القبضِ.
وإن قلنا: الفسخُ قبل القبض يتضمن الاستنادَ، فترتدُّ الزوائدُ إلى البائع.
وهذا الاختلاف هو الذي قدّمناه فيه إذا تلف المبيعُ قبل القبض، وانفسخ العَقد، فقد ذكرنا الخلافَ في الزوائد المتجدّدةِ بعد العقدِ، إذا كان الانفساخ بتلفِ المبيع قبل القبض.
__________
(1) (ص): بيع.
(2) (ص): نزلنا.
(3) في الأصل: تجرّد، ومطموسة من (هـ 2).
(4) ما بين القوسين سقط من (ص).

(5/258)


3171 - ومما ذكرهُ بعضُ الأصحاب أن الزوائدَ المتجددةَ بعد العقد هل يحبسها البائعُ حَبْسَ المبيع؟ فعلى وجهين: وهذا فيه فضلُ نظر. أما الحملُ الذي كان موجوداً حالة العقد فحبْسُه محمولٌ على اختلافِ القَولِ في أن الحملَ هل يقابله قسط من الثمن، كما مضى؟
وأما الحبس في الزوائد المتجدّدةِ بعد العقد، فليس على حُكمِ حبسِ المبيع بالثمن، ولكن إنما ينقدح الاختلافُ فيه من قِبَل تعرضِ العقدِ للانفساخ، ثم إذا فرض، فالمذهب متردّد في أن الزوائدَ لمن؟
فالذي ذكره بعضُ الأصحابِ في منع الزوائدِ من المشتري محمولٌ على هذا الأصل، لا على تقدير الحبس في مقابلةِ الثمن.
وهذا القياس يتضمن طردَ الخلاف في الأكساب، وإن لم تكن من عيْن المبيع؛ لما نبهنا عليه.
فليفهم الناظر ذلك.
فهذا بيان المذهبِ في حقيقة الرد بعدَ القبض وقبله، وكيفية ابتناء أمرِ الزوائد على أصل المذهب في حقيقة الرد.
وأما أبو حنيفة (1) فإنه جعل الفسخَ قبل القبض رفعاً للعَقدِ من أصله، ورَدَّ الزوائدَ مع الأصل، وأراد طردَ ذلك بعدَ القبض، وقال: [الرّدُّ] (2) بعدَ القبض رفع للعقدِ من أصله، ثم ترَدّد في الزوائد، فلم يسمح بردّ الزوائد، ولم يرَ إسقاطَ اعتبارها، فقال: الزوائدُ تمنع الردَّ بعد القبض.
فهذا منتهى القولِ في ذلك.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 80، بدائع الصنائع: 5/ 257، 285، تبيين الحقائق: 4/ 70، إيثار الإنصاف: 299.
(2) في الأصل: أراد.

(5/259)


فصل
3172 - إذا اشترى رجلٌ عبدَيْن وقبضهما، فتلف أحدهما بعد القبض، ووجد المشتري بالثاني عيباً، وأراد ردَّه بالعيب إفراداً من غير أن يضم إليه قيمةَ التالف، وجوزنا ذلك في تفريق الصفقة، كما سيأتي إن شاء اللهُ عز وجل. فالوجه أن يُقوَّم التالفُ والقائمُ المردودُ، وننسب إحدى القيمتين إلى الثانية، ثم نقول: إذا رَدَّ (1) العبدَ القائمَ استردّ من الثمن مثلَ نسبة قيمةِ القائم من التالف، فإن كان قيمةُ التالف ألفين وقيمةُ القائم ألفاً، استرد ثلثَ الثمن. وعلى هذا البابُ وقياسُه.
ومقصدنا أن القيمةَ في التالف بأيّ (2) يوم تعتبرُ؟ ذكر صاحب التقريب قولين عن الشافعي:
أحدهما - أنا ننظر إلى قيمة يومِ البيع؛ فإن التوزيع بيان تقسيط الثمن على المثمن، وهذا يحصل يومَ العقد؛ فإن كل جملةٍ توزعت على جملةٍ، قابلت أجزاؤها أجزاءها.
والقول الثاني - أنا نعتبر حالةَ قبضِ المشتري؛ فإن المبيع إنما يدخل في ضمانهِ ساعةَ قبضه، حتى كأنه مبتدأُ العقدِ. وهذا يلتفت عندنا على ما قدَّمناه من أن الفسخ قبلَ القبض يُعدِم العقدَ تبيُّناً أم كيف السبيل فيه؟ ولكن هذا تقديرٌ بعد القبض، فيوجه هذا القول بأن المبيع يدخل في ضمانه بقبضه، فإنما يحسب عليه الأمر من يوم قبضه؛ فإن الردَّ والاسترداد من أحكامه.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً مخرَّجاً، وهو أنا نعتبر أقلَّ القيمتين في التالف من يوم البيع والقبض، فإن كانت قيمةُ التالف يوم البيع أقل، فبها العَبْرُ (3)؛ فإن التوزيع وقع يومئذٍ. وإن كانت قيمتُه يوم القبض أقلَّ، فالاعتبار به؛ فإنه يومئذٍ دخل في
__________
(1) في الأصل: إذا أراد.
(2) في الأصل: تأتي.
(3) العَبْر: التقدير، من عَبَر المتاعَ والشيء نظر كم وزنه. (المعجم). وفي (هـ 2)، (ص): العبرة.

(5/260)


ضمانهِ، فإن كانت من زيادة قبل ذلك، فلا اعتبار بها.
ثم طرد الأئمةُ ما ذكرناه من التردّدِ في الوقت المعتبَر في القيمة في الرجوع بأرشِ العيب القديم عند مسيس الحاجَةِ إليه، فإن كان العيبُ القديم يومَ البيع مُنْقصاً ثلث القيمةِ، وكان يوم القبض مُنقصاً ربعَها، ففي المسألة أقوال: أحدها - الاعتبار بيوم العقد. والثاني - الاعتبارُ بيوم القبض. والثالث - أنا نراعي ما هو الأضرُّ بالبائع في الحالتين؛ فإن الأصلَ عدمُ استقرار الثمن، والعبارة عن هذا: أنَّا نَعتبرُ أكثر النقصانين من يوم العقدِ والقبض.
فهذا بيان المراد في القيمة المعتبَرةِ في أرش العيب. وسنعود إليها ببيانٍ شافٍ، في تفريق الصفقة، إن شاء اللهُ عز وجل.
فصل
قال المزني: سمعت الشافعيَّ يقولُ: " كل ما اشتريتَ مما يكون مأكولُه في جوفه ... إلى آخره " (1).
3173 - إذا اشترى الرجل جَوْزاً، فكسره، فوجده فاسدَ الجوف، أو اشترى بطيخاً، أو رماناً، فتبيّنَ ما ذكرناه، فسبيل التفصيل فيه أنه إن زاد في الكسرِ والقَطعِ على المقدار الذي يُطَّلَعُ به على فسادِ الجوفِ، فهذا الذي [أحدثه] (2) في حكم عيبٍ حادثٍ في يد المشتري. وقد سبق القولُ في أن العيبَ الحادثَ مع الاطلاع على العيب القديم، هل يمنع الردَّ بالعيب القديم.
فأما إذا اقتصر على القدر الذي يَطلعُ به على فساد الجَوفِ -وذلك يختلف باختلافِ وجهِ الفساد- فإن كان الفساد في الطعم، بأن كان البطيخ حامضَ الجَوف، أو مُرَّه فتقوير البطيخ للاطلاع على الطعم زيادةٌ على قدر الحاجة، إذ يكفي في ذلكَ غرزُ مِسلَّةٍ وذوقُ ما يعلق بها. وإن كان الفساد من تدوّد البطيخ، فقد لا يطلع عليه إلا بالتقوير.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 192.
(2) في الأصل: ذكره.

(5/261)


3174 - فإذا حصل التنبيهُ لهذا، عُدنا إلى مقصود المسألة، قائلين: إذا وقع الاقتصارُ على قدر الحاجة، ثم أراد المشتري الردَّ بالعيب القديم، فكيف السبيل فيه؟
المسألة لها صورتان وراء ما ذكرناه: إحداهُما - أن يكون للمبيع مع الفساد الذي بان قيمةٌ. والأخرى - ألا يكون للمبيع مع ذلك الفساد قيمةٌ.
فإذا كان للمبيع قيمة بأن قيل: هذا صحيحاً [بكذا، وهو] (1) مع الفساد بكذا، فهل يملكُ المشتري الردَّ؟ فعلى قولين: أحدهُما - لا يملكه؛ لمكان العيب الذي حدث في يده فيهِ؛ اعتباراً بالعيوب الحادثةِ في يد المشتري، لا من جهة الاطلاع على وجه الفسادِ.
والقول الثاني - يملك المشتري الردَّ؛ فإن التغيير الذي صدرَ منه كان طريقاً إلى الاطلاع على العيب، فلا يصير مانعاً من الردّ بالعيب.
التفريع على القولين:
3175 - إن حكمنا بأن العيبَ الحادث بالكسر كالعيوب الحادثة لا بالجهات التي يطلع بها على العيب، فالقول في العيب الحادث والقديم كما تفصَّل فيما مضى.
وإن قلنا: العيبُ الحاصل بجهة الاطلاع لا يمنع حق الرد، فهل يغرَم المشتري أرشَ العيب الحادث بسبب كسره وتغييره ليضمه إلى المبيع، ويستردّ الثمنَ؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يغرَمُ الأرشَ، فعَلى هذا لا فرق بين ما انتهينا إليهِ، وبين عيبٍ حادثٍ لا عن جهة الاطلاع، إذا فرعنا على أن المشتري يملكُ ضمَّ الأرش إلى المبيع واسترداد الثمن، وإن قلنا: لا يملك ذلك في العيب الحادث إلا في جهة الاطلاع، فعَلى هذا الوجه يتميز العيب في جهة الاطلاع عن غيره في التفريع على هذَا القول.
ومن أصحابنا من قال: يرد المشتري المكسورَ من غير أرشٍ في مقابلةِ الكسر، ويسترد الثمنَ بكماله، وكأن المشتري معذور فيما يُوصِّله إلى الاطلاع من غير تعرُّضٍ للضمان.
__________
(1) زيادة من المحقق لا يستقيمُ الكلامُ دونها.

(5/262)


3176 - ومما يجب التنبُّه له ولا تتحقق الإحاطة بالمسألة دونه أن المسألة التي نحن فيها لا تتميّز أصلاً عن تفصيل القول في العيوب الحادثةِ إلا على قولنا: إن المشتري يرد المغيَّر المكسورَ من غير أَرْش، فإن لم نسلك هذا المسلكَ، فلا فرقَ؛ فإنا إذا ذكرنا في الكسر خلافاً في المنع من الرد وضَمِّ أرش الحادث من العيب، فقد ذكرنا مثلَه في كل عيبٍ حادثٍ، فلا تنفصل هذه المسألةُ عن غيرها إلا إذا جوَّزنا الردَّ من غير غُرم أرشٍ في مقابلة عيبِ الكسر.
ولو قال قائلٌ: مسألةُ الكسر أولى بأن يحتكم المشتري فيها بالرد، مَعَ غرامةِ الأَرْش، كان هذا فرقاً في ترتيب مسألةٍ على مسألةٍ.
ثم ما أجريناه من أرش عيب الكسر لا خفاء به.
فنقول: كم قيمةُ الجوز صحيحاً فاسد الجوف؟ فيقال مثلاً: مائة. ثم نقول: كم قيمتُه مكسوراً بيِّن الفساد، فيقال: خمسون، فالأرش إذاً خمسون؛ فإن الأرشَ المعتبر للعيب الحادثِ مَحْضُ نقصانِ القيمة، لا حاجةَ فيه إلى تقديرِ نسبةٍ ومقابلةٍ.
وكل ما ذكرناه؛ في الصورة الأولى، وهي إذا كان للجوز مع فساد جوفه قيمةٌ.
3177 - فأما الصورة الثانية، وهي إذا قيل: لا قيمةَ للجوز مع فسادِ جوفه في حالة صحَّتهِ، ويظهر تصوير هذا في البيض وقشرهِ، فقد قال طائفةٌ من أئمتنا: إذا تبيّن ذلك، وأراد المشتري الرجوعَ بالأرش، فيرجع بجميع الثمن على البائع وسبيل رجوعهِ بالجميع استدراك الظُلامَة، لا استبانةُ أن البيع لم ينعقد من أصله لكون المبيع غيرَ متقوَّم. وهذا القائل يقول: إذا استرد المشتري الثمنَ استدراكاً للظلامة، فذلك المكسر يبقى على حكم اختصاصه بالمشتري، حتى إن مست الحاجةُ إلى تنقيةِ الطريق، فعلى المشتري تكلّفُ ذلك.
وهذا فاسدٌ؛ فإن الذي لا يتقوَّمُ لا يجوز أن يكون مورداً للبيع. ولا يدرأ هذا الإشكالَ أن يقولَ قائل: يقدّر في الصحيح من الجنس ضربٌ من الانتفاع وإن قَلَّ: مثل أن يُنقَش ويُتخذ منه اللُّعبَ، أو ينثر كدأبِ الناسِ في الجوز، وقد يعبث به الصبيان؛ فإن هذا تشبيبٌ بتقدير قيمة وإن قلت. وإذا كان كذلك، التحق هذا بالصورة الأولى.

(5/263)


وإن قال هذا القائل: نُقدّر لصحيحه قيمةً على تقدير (1) ألا يتبين فساد، وهو على ما هو عليه من صحته، فهذا [تكلُّفٌ] (2) أيضاً، وقد تبين الأمرُ.
وإن قال هذا القائل: يمكن ترويجُ الصحيح بضم آحاده إلى ما ليس فاسداً في جنسه، فهذا في تقديره (3) له وُجَيْه (4).
وبالجملة لا وجهَ إلا القطع بتبيّن فساد العقد؛ فإن من يصير إلى الصحَّة لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يُقدِّرَ قيمةً قليلةً، والمسألة مفروضةٌ حيث يتبين أن لا قيمة مع الصحة.
وإما أن يقدِّر رواجاً في آحادِ ما فيه الكلام، مع ما لا فساد بهِ، وهذا ليس بشيء؛ فإن الذي يسمح بقبول فاسدٍ لا قيمة له، يسمح بقبول الناقص دونه. وقد تجري قيمةٌ تقدر على تلبيسٍ، وهذا الأخير فيه، فالوجه القطع بتبيُّن فسادِ العقدِ والقشورُ مختصّةٌ بالبائع.
فإن قيل: قد قال الشافعي: "إلا أن لا يكون لفاسدِه (5) قيمة، فيرجع بجميع الثمن". فما محمل هذا؟ قلنا: معناه أنه يرجع بجميع الثمن لتبين فساد العقد.
وهذا تمام المراد.
3178 - ويلتحق بالمسألة أن من قال بجواز الرد في الصورة الأولى، استشهد برَدّ (6) المصرَّاة؛ فإن تلك الواقعةَ اشتملت على لحوقِ تغييرٍ (7) بالمبيع، ثم لم يمتنع الرَّدُّ؛ إذ اللبنُ قد حُلب، ثم حال واستحال. والاستشهاد بتلك المسألة -والمذهبُ فيها مستندٌ
__________
(1) (هـ 2)، (ص): تأويل.
(2) في الأصل: تكليف.
(3) عبارة الأصل: فهذا فاسدٌ في تقديره ...
(4) تصغير (وجه).
(5) العبارة في المختصر: إلا أن لا يكون له فاسداً قيمة.
(6) (ص): بفساد.
(7) (ص): يعتبر.

(5/264)


فلما تعارضت هذه الوجوه، اختلف لأجلها أصحابُنا؛ لمّا علموا أن لا سبيل إلى إبطال حق المشتري من الأرش والرد جميعاً.
فذهب ابنُ سُريج إلى أن هذا عقد تعذَّر إمضاؤُه، فالوجه فسخُه، كما يُفسخ العقدُ إذا اختلف المتبايعان وتحالفا، ثم من حُكمِ الفَسخِ (1) ردُّ الثمنِ، ولا سبيل إلى استردادِ الحلي لما ذكرناه من وجوه الإشكال، فنقدِّر كأن الحلي تلف، والوجه إذا قدَّرنا ذلك الرجوعُ إلى قيمةٍ معتبرة بالذهب إن كان الحُليُّ من فضةٍ، فنعتبر قيمةَ الحلي وبه العيب القديم، ومساقُ هذا يقتضي تبقيةَ الحُلي على المشتري ملكاً، هذا مذهب ابن سُريج.
وذكر العراقيون وجها آخر، وهو أن الحُليَّ يُرَدُّ على البائع، ونورد الفسخَ عليه، ثم المشتري يغرَم للبائع أرشَ العيبِ الحادث، على تقدير أنه عيَّبَ ملكَ غيرهِ في يده الثابتةِ على سبيل السَّوْم.
وهذا يُناظر قولاً للشافعي منصوصاً عليه في النكاح، وهو أن الرجل إذا دخل بامرأته، ثم فسخ النكاح، أو انفسخ [لمعنى] (2) بعد المسيس، فالمنصوص عليه أن الزوج [يستردّ] (3) جملةَ المسمَّى، ويرتد إليها البُضْعُ، ثم يغرَم الزوج لها مهرَ المثل، فجرى رجوعُ المهرِ، وارتفاعُ النكاحِ على قياس الفسوخ. ثم الزوج غرم مهر المثل، حتى لا يخلو الوطء عن المهر.
وقالَ صاحب التقريب: يُحتملُ وجة ثالث، وهو أن البائعَ يغرَم للمشتري أرشَ العيب القديم، ثم لفظه في الكتاب: "وأرجو أن يصح هذا". وقد مال إلى اختيار ذلك بعضُ المحققين، وقال: قد وقعَ التقابُل على شرط الشرع ابتداءً، وجرى الملك على جميع الثمن، فإذا فُرِض ضمانُ أرشِ العيب، فهذا تمليكٌ جديد، وإن كان له استناد إلى سابق من طريقِ الاستحقاق، والمرعي في تعبدات الربويّات حالةُ العقد، فغرامةُ الأرش في هذا المضيق، يقدَرُ كأرشٍ مبتدأ مترتبٍ على جناية على ملكِ الغير.
__________
(1) في (ص): حكم بالفسخ.
(2) في الأصل: بمعنىً.
(3) ساقطة من الأصل.

(5/266)


فلما تعارضت هذه الوجوه، اختلف لأجلها أصحابُنا؛ لمّا علموا أن لا سبيل إلى إبطال حق المشتري من الأرش والرد جميعاً.
فذهب ابنُ سُريج إلى أن هذا عقد تعذَّر إمضاؤُه، فالوجه فسخُه، كما يُفسخ العقدُ إذا اختلف المتبايعان وتحالفا، ثم من حُكمِ الفَسخِ (1) ردُّ الثمنِ، ولا سبيل إلى استردادِ الحلي لما ذكرناه من وجوه الإشكال، فنقدِّر كأن الحلي تلف، والوجه إذا قدَّرنا ذلك الرجوعُ إلى قيمةٍ معتبرة بالذهب إن كان الحُليُّ من فضةٍ، فنعتبر قيمةَ الحلي وبه العيب القديم، ومساقُ هذا يقتضي تبقيةَ الحُلي على المشتري ملكاً، هذا مذهب ابن سُريج.
وذكر العراقيون وجها آخر، وهو أن الحُليَّ يُرَدُّ على البائع، ونورد الفسخَ عليه، ثم المشتري يغرَم للبائع أرشَ العيبِ الحادث، على تقدير أنه عيَّبَ ملكَ غيرهِ في يده الثابتةِ على سبيل السَّوْم.
وهذا يُناظر قولاً للشافعي منصوصاً عليه في النكاح، وهو أن الرجل إذا دخل بامرأته، ثم فسخ النكاح، أو انفسخ [لمعنىً] (2) بعد المسيس، فالمنصوص عليه أن الزوج [يستردّ] (3) جملةَ المسمَّى، ويرتد إليها البُضْعُ، ثم يغرَم الزوج لها مهرَ المثل، فجرى رجوعُ المهرِ، وارتفاعُ النكاحِ على قياس الفسوخ. ثم الزوج غرم مهر المثل، حتى لا يخلو الوطء عن المهر.
وقالَ صاحب التقريب: يُحتملُ وجة ثالث، وهو أن البائعَ يغرَم للمشتري أرشَ العيب القديم، ثم لفظه في الكتاب: "وأرجو أن يصح هذا". وقد مال إلى اختيار ذلك بعضُ المحققين، وقال: قد وقعَ التقابُل على شرط الشرع ابتداءً، وجرى الملك على جميع الثمن، فإذا فُرِض ضمانُ أرشِ العيب، فهذا تمليكٌ جديد، وإن كان له استناد إلى سابق من طريقِ الاستحقاق، والمرعي في تعبدات الربويّات حالةُ العقد، فغرامةُ الأرش في هذا المضيق، يقدَّرُ كأرشٍ مبتدأ مترتبٍ على جناية على ملكِ الغير.
__________
(1) في (ص): حكم بالفسخ.
(2) في الأصل: بمعنىً.
(3) ساقطة من الأصل.

(5/266)


فهذا بيان مذاهب الأصحاب.
3180 - ولا يكاد يخفى على ذي بصيرةٍ أن كل مسلك من المسالك التي ذكرناها لا يخلو عن حيدٍ عن قانونٍ في القياس جارٍ في حالة الاختيارِ، ولابد من احتمالِ مسلكٍ من المسالك.
والكلامُ في تعيين ما يظنه الفقيهُ منها. ولم يَصِر أحدٌ إلى التخيير بين جميع هذه المسالك؛ من حيث اشتملَ كلُّ واحد على مَيْل عن أصلٍ. والضرورةُ تحوج إلى واحدٍ منها؛ وذلك أن كلَّ متمسك بمسلك قد بنى كلامَه على أمرٍ غلب على ظنه أن مسلكه أولى وأقربُ إلى طرق الرأي وأبعدُ عن اقتحام ما لا يجوز. فإذا كان سبيلُ اختلافِهم ما ذكرناه ووصَفناه، فلا خِيَرةَ.
3181 - وأقربُها عندنا الرجوعُ إلى أرش العيب القديم، والمصيرُ إلى [أن] (1) حقَّ العقدِ قد توفَّر في التعبد بالمقابلة، وهذا الأرشُ استرجاعٌ مُنشَأٌ اقتضَته الضرورةُ.
وهذا عندنا كالتوزيع إذا اضطررنا إلى الحكم به؛ فإن العقدَ لا يتضمّنُه ولا يقتضيه. فإذا بَاع الرجل شِقْصاً مشفوعاً وسَيفاً بألفٍ، ثم طلبَ الشفيعُ الشُفعَةَ في الشقص، اقتضى الشَرْعُ التوزيعَ على السيفِ والشِّقص اقتضاء له استنادٌ إلى العقد، ولكنَّ العقدَ لا يقتضيه. كذلك جملةُ الثمن ملكها البائع، وإن [كان] (2) المبيع معيباً.
3182 - ولو كان الثمن جارية، (3 استباح بائعُ الثوب بالجارية وطأها، وإن كان قد ينتقض المِلك في بَعض الجاريةِ 3) لمكان الأرش.
وينشأ من هذا الذي أشرنا إليه، ومما فهمته من فحوى كلام الأئمة تردُّدٌ في أمرٍ، وهو أن الحاجة إذا مسَّت إلى تغريم قابض الثمنِ الأرشَ، فلوْ أراد أن يأتي من مالٍ آخر بمقدار الأرشِ، فأبى المشتري إلا استردادَ جزء من الثمن المعيّن، فكيف السبيل فيه؟
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (هـ 2)، (ص).
(3) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).

(5/267)


الظاهر أنه يتعين ردُّ جزءٍ من الثمن المعيَّنِ، وفي مرامزِ الأصحابِ ما يخالف هذا. ويدلّ على أنه لو جبر النقصانَ من مالٍ آخر، جاز.
3183 - ومما يجب التنبُّه له أنا إذا قلنا -في العيب الحادث حيث لا ربا في الصفقةِ ولا تعدّدَ-: إن المشتري يضم أرشَ العيب الحادثِ إلى المبيع، ويرُدُّهما، فهذا في أصلِ وضعهِ إشكال؛ فإن التمليك بالفسخِ رداً واسترداداً حقُّه ألا يتعدَّى المعقودَ عليه، والردُّ كاسمه، فتقدير إدخالِ مالٍ جديدٍ في التمليك بطريق الرّدِّ بعيدٌ. وقد ذكرتُ طرفاً من هذا في فصلِ العيوب الحادثة.
ولا وجه يطابق القاعدةَ إلا أن نقول: الرَّدُّ (1) يَرِدُ على المعيبِ بالعيبيْنِ فحسب، من غير أنه يقتضي تضمينَ المشتري أرشَ العيب، بتأويلِ تقدير الضمان في حقِّه، وتشبيهِ يده بالأيدي الضامنة. ولكن قد لا يثق المردودُ عليه بذمّة الراد، فيضمُّ الأرشَ إلى المبيع المردود، فيكون المضمومُ مستحقاً بالسبيل الذي أشرتُ إليه، وليسَ أرشُ العيب الحادث مردوداً، ولو قال الراد: أَرُدُّ، ثم أبذل، لم يكن له ذلك؛ لعدم الثقةِ. وإذا ردَّ مع الأرش، جرى الملكُ في عين المضمومِ بتأويل أنه ضمن، وأقبض، لا على معنى أنه ملكَ بالرد شيئاً، لم يَرِد عليهِ العقد.
فإذا تبين (2) هذا، فقد عيّنَ بعضُ أصحابنا في صفقة الربا هذا المسلَك ولم يرَ غيره، وقد أوضحنا الأصحَّ عندنا.
وأبعدُ (3) الوجوه تقديرُ تبقيةِ الحُلي على المشتري وإلزامهُ قيمتَه ذهباً. ويليه ردُّ الآنيةِ (4) مع الأرش، وهو أمثل من الأول، لما حققناه من اختلافِ جهةِ الأرشِ وردّ المبيع، وإذا كان كذلك، فلا ربا. وأمثلُ الوجوه الرجوع إلى الأرش للعيب القديم.
__________
(1) في (ص): الرادّ.
(2) في (ص): ثبت.
(3) في الأصل: وأبعد بعض الوجوه، (ص): وأوضح بعد.
(4) كذا في النسخ الثلاث، ولم يسبق لـ (الآنية) ذكرٌ في تصوير المسألة، فهل عبر عن الحلي بالآنية؟

(5/268)


فرع:
3184 - قال صاحب التقريب: إذا اشترى رجل ثوباً، فصبغهُ صبغاً منعقداً، ولم ينقُصه الصبغُ، بل زادَ في قيمته، ثم اطَّلع على عيبٍ قديم، فإن رضي المشتري بردّ الثوب مع الصبغ من غير مطالبةٍ بشيء، في مقابلة الصبغ، فله ذلك، ويستردُّ الثمنَ، ويملك المردودُ عليه الثوبَ [فإنه صفةٌ للثوب] (1)، لا تُزايلهُ وليس كالنعل (2). ولم يَصِر أحدٌ من الأصحاب إلى أن [المشتري] (3) يرد الثوبَ، ويبقى شريكاً بسبب الصبغ، كما سيجيء أمثالُ ذلك في الغُصوب وغيرها. لم أرَ (4) هذا لأحدٍ، مع تطرق الاحتمال.
ولو قال المشتري: أردُّ الثوبَ، وأُلزمُك قيمةَ الصبغِ، فهل يُجبر البائع على إسعافه؟ فعلى وجهين كالوجهين فيه إذا قال المشتري: أضم أرشَ العيب الحادث، وأردُّ المبيعَ، وأسترد الثمن، ففي إجبار البائع على هذا وجهان تقدّمَ ذكرهُما.
ولو قال المشتري: أطلب أرشَ العيب القديم، وقال: بل رُدّ الثوب وأغرَم لك قيمةَ الصبغ، فعلى وجهين، فقد جرى الصبغُ الزائد مجرى أرشِ العيب الحادث في طرفي المطالبة.
وهذه المسألةُ ذكرها صاحب التقريب، وأشار إليها العراقيون. والاحتمال فيها من الجهة التي ذكرتُها، وهو تجويز الرد مع ملك المشتري في عين الصبغ؛ فإنا قد نجعل الغاصبَ إذا صبغ الثوب شريكاً.
فصل
قال الشافعي: " لو باع عبدهُ وقَد جنى ... إلى آخره " (5).
3185 - إذا استُحق دمُ العبد أو طرفُه بجهةٍ لا يتطرقُ إليها مالٌ، كالردّةِ والقتلِ في
__________
(1) ساقط من الأصل. وفي (ص): "فإن صفة الثوب".
(2) إشارة إلى من نعلَ الدابة، ثم اطلع فيها على عيبِ قديم. وقد سبقتٍ آنفاً.
(3) في الأصل: البائع. وهو سبقُ قلم من الناسخ.
(4) في (ص): لم أره لأحد.
(5) ر. المختصر: 2/ 193.

(5/269)


المحاربة، والقطعِ في السرقة، فقد تمهد القول في هذه الفنون.
ومقصودُ هذا الفصلِ محصورٌ فيه إذا جَنى العبدُ على آدميٍّ مضمونٍ خطأً أو عمداً.
والبدايةُ بالخطأ ومَوجَبُه المال، ثم الأرشُ يتعلق برقبةِ العبد، كما سنبين في كتاب الديات. فإذا تعلق أرشُ الجناية الواقعةِ خطأً برقبة العبدِ، أوْ أوجبت الجنايةُ قَوَداً، فعفا مستحِقُّهُ على مالٍ، فمتعلَّقُه الرقبةُ، فلو باع سيد العبدِ العبدَ الجاني قبل أن يفديَه، ففي صحة البيع قولان: أحدهما - أنه لا يصح، كبيع العبدِ المرهون، والمالُ متعلِّق بالرقبةِ في الموضعين. وإذا جنى المرهونُ، تقدَّم المجني عليه بحق الأرشِ على المرتهنِ، فإذا منَعَ حقُّ المرتهن البيعَ، وجب أن يمنعَ حقُّ المجني عليه أيضاًً.
ومن قال بصحة بيع العبد الجاني، احتج بأن تعلّق الأرش لم يصدر عن اختيارِ السيّد، وإليه الفِدَاء، فلْينفُذ بيعهُ، وليكن اختياراً للفدَاء. والرهنُ وثيقة أنشأهَا المالك، وقصد بها الحجر على نفسهِ إلى أداء الدينِ؛ فكان مطالباً بموجَب اختياره.
التفريع على القولين:
3186 - إن قلنا: البيعُ فاسدُ، فلا يصير السيدُ ملتزماً للفداءِ به، ولا يطالَب، بل هو على خِيرتهِ، فإن أحب. فدى، وإن أحب سلَّم العبدَ (1) للبيع.
وإن قلنا: البيعُ صحيحٌ، فقد اختلف أصحابُنا في التفريع على هذا القول: فمنهم من قال: البائعُ يلتزم الفداءَ، ويتوجَّه علَيه الطلبُ من جهة المجني عليه، وعليه الخروجُ عنه باطِناً وظاهراً، فعلى هذا عبّر الأصحابُ عن البيعِ باللزوم.
ومن أصحابنا من قالَ: لا يصيرُ السيدُ بالبيع ملتزماً للفداء، ولا يتوجَّه عليه الطَّلِبَةُ، بخلاف ما لو أعتقَ العبدَ ونفذنا إعتاقه؛ فإن (2) الطلبة بالفداء تحق عليه.
وهؤلاء يقولون: البيعُ الذي عَقَدَه على الجواز، فإن فدى، فقد وفَّى بحق العقد، فيلزمُ إذْ ذاك. وإن لم يَفْدِ، [انفسخ] (3) البيعُ، وبِيعَ العبدُ.
__________
(1) أي ليباع في جنايته.
(2) في (ص): فلا نطلبه بالفداء بحقٍ عليه.
(3) الأصل، (هـ 2): يفسخ.

(5/270)


وفيما ذكرناه أولاً من لزوم العقدِ فضلُ نظر؛ فإن البائع لو أعسر بالأرش، أو امتنع منه، ولم يقدر عليه، فُسخ بيعُه، والذي يقتضيه قياسُ قول الأصحاب أنه لو تعذر الوصولُ إلى الأرشِ بغيبةِ السيد البائع، أو باستقراره في المحبس (1) وتوطينه النفسَ على طول (2) الحبس، فالبيع ينفسخ (3).
فإذا يرجع حاصل الخلافِ إلى أنَّا في الوجه الأول لا نجوّزُ للبائع أن يفسخَ البيعَ بنفسه، ولو رضي المجني عليه بمطالبته والاستمرارِ عليها، كان له ذلك.
وفي الوجه الثاني لا تتوجه الطَّلِبةُ على اللزوم. ولو أراد البائع بنفسه فسخَ العقد ليعرضَ العبدَ الجاني على البيع، كان له ذلك.
فهذا معنى تردد الأصحاب، ولا صائر يصير منهم إلى أن البيع ينفدُ نُفوذاً لا يَستدركهُ المجني عليه إذا تعذر عليه استيفاءُ أرشه.
ولا خلاف أن السيد لو قال: أفدي هذَا العبدَ، فلا يلزمه الفداء بهذا القول؛ فإنه وعدٌ مُجرَّدٌ. ولو قال: ضمنتُ الأرشَ، فهذا مبني على أن العبدَ هل له ذمةٌ في الجنايات؟ وفيه اختلاف سنذكرهُ في الديات: فإن قلنا: له ذمَّة، فالضمان لازم ملزِم، وإن قلنا: لا ذمَّة له، ففي لزوم الضمان وجهان، سنذكرهما في كتاب الضمان، أو في كتاب الديات.
ولو أعتق المولى العبدَ الجاني، فالقول في عتقه مرتَّبٌ على القول في بيعهِ، فإن نفذنا بيعَهُ (4)، فالعتق أولى بالنفوذ.
ثم كان شيخي يقولُ: ينفذ العتق، وإن قلنا لا يلزم البيع، إذا كنا نحكم بصحّتهِ؛ لأن العتقَ هكذا سبيل نفوذه. وإن قلنا: لا ينفذ البيعُ كما لا ينفذ في المرهون، فالقولُ في عتقه كالقول في عتق الراهِن في العبد المرهون. وسيأتي شرح المذهب فيه إن شاء اللهُ تعالى.
__________
(1) في (هـ 2): المجلس، (ص): الحبس.
(2) في (هـ 2): تطويل.
(3) الأصل، (ص): يفسخ.
(4) في (ص): عتقه، فالبيع أولى.

(5/271)


ثم إذا أعتق، أو باع، وجعلنا البيعَ لازماً، فالوجه القَطع بأنه يغرَم أقلَّ الأمرين من الأرش والقيمة، بخلاف ما إذا أراد الفداء على الابتداء.
وإذا قُلنا: البيعُ غيرُ لازم، فالأمرُ موقوفٌ على الفداء [وفي الفداء] (1) قولان سيأتي شرحُهما إن شاء اللهُ عز وجل.
3187 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الجنايةُ خطأً، فإن كانت عمداً موجبة للقصاص، فإن لأصحابنا طرقاً.
منهم من قال: إذا قلنا: موجَبُ العمدِ القَودُ، فيجوز البيعُ قولاً واحداً. وإذا قلنا: موجَبُه أحدُهما، ففي صحَّة العقد طريقان: أحدُهما- القطعُ بالصحَّة؛ نظراً إلى ثبوتِ القصاص. والشاهد فيه أن القتل على هذا القول لا يثبت إلا بعدلين، كما لا يثبت على قَولنا: موجَبُه القود إلا بعدلين.
ومن أصحابنا من خرَّج جواز البيع على قولين، لثبوت المال على هذا القول، فكان كالجناية التي مُوجَبُها المالُ. وقد ذكرنا في الجاني خطأ قولين.
وشبَّب بعضُ أصحابنا بتخريج القولين على قولنا: موجَبُ العمد القَود؛ وذلك أن الماليّةَ ثابتةٌ ضمناً، ولهذا قُلنا: مستحِق القصاص يرجع إلى المال دونَ رضا من عليه القصاص، ويثبتُ المالُ بفوات مَحلِّ القصاص.
وبَعْدُ
3188 - الترتيب الجامع للطُّرق أن يقال: في الجاني خطأ قولان، وفي الجاني عمداً على قولنا: الموجَب أحدُهما، لا بعينهِ قولان مرتبان، فالأولى الجواز؛ لأن المال غيرُ متجرِّد، ولا متعيَّن. وإن قُلنا: موجَب العمد القودُ المحضُ، ففي البيع قولان مرتبان على الصورة المتقدِّمة.
والغرضُ مما ذكرناه تبيين المراتب، وإلا فلا ينتظم بناءُ القولين في التفريع على قولٍ، على قولين في التفريع على القول الآخر.
__________
(1) ساقط من الأصل.

(5/272)


فصل
قال الشافعي: " ومن اشترى عبداً، وله مالٌ ... إلى آخره " (1).
3189 - العبد القِنُّ لا ينفرد بتثبيت ملك لنفسه دونَ مولاه، ولو احتشَّ أو احتطبَ، أو اصْطادَ، ثبتَ الملك فيما تثبتُ يده عليه لمولاه، و [إن] (2) لم يَجر شيء من الأسباب إلا بإذن السيّد.
ولو اتَّهبَ العبدُ شيئاً، أو أُوصيَ له، فقبل، فإن كان بإذن السيد، صح، ووقع الملكُ في الموهوب، والموصَى به للسيد.
وإن قبلَ العبدُ الهبةَ والوصيةَ بغير إذن السيد، ففي صحَّة القبول وجهان: أحدهما - أنه يصح؛ فإن ما جاء العبدُ به ليس عقدَ عُهدة، فكان قبولُه كالاحتشاش، والاحتطاب.
والوجه الثاني - أن القبولَ مردودٌ؛ فإنهُ عقدٌ يُحكم تارة بصحته، وأخرى بفسادِه، فلم يبعد اشتراطُ إذنِ من يقع الملكُ له. وسنذكر كلاماً للأصحاب في شراء العبد شيئاً في ذمته.
وإذا خالع العبدُ زوجتَه على مالٍ، ثبت المَالُ للسيّدِ؛ فإن الخُلعَ لا مردَّ له، فالتحق بالاحتطاب وإن كان عقداً.
ولو أراد إنسانٌ أن يُملّكَ عبدَ غيره شيئاً ويقيمَه مالكاً فيه، لم يجد إليه سبيلاً.
3190 - والسيد لو ملّكَ بنفسه عبدَه القِنَّ شيئاً، ففي ثبوت الملكِ له، ومملّكُه مولاه قولان: أحدهما -وهو المنصوص عليه في الجديد- أنه لا يملِكُ بالتمليكِ، والملْك التام فيه يُخرجُه عن رتبة المالكين.
والقول الثاني - أنه يملكُ كما يملك حق النكاحِ بالنكاح، وقد يَستَشهد هذا القائلُ
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 194.
(2) ساقطة من الأصل.

(5/273)


بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من باع عبداً، وله مالٌ فماله للبائع" (1).
فإضافة المال إلى العبد شاهدة لثبوت المِلكِ. وللتأويل توجّه ظاهر على اللفظ.
التفريع على القولين:
إن قلنا: لا يُتصوّرُ أن يملك القِنُّ، فلا كلام، والتمليك لاغٍ من السيد.
وإن قلنا: تمليك العبد القِنِّ صحيحٌ، فمِلْكُه جائزٌ معرض لاسترجاع المولى متى شاء، ولا يملكُ العبدُ شيئاً من التصرفات بحق الملكِ الذي ثبت له، حتى يأذَنَ السيد فيه. وهذا وفاقٌ.
وهل يتسرَّى العبدُ الجاريةَ (2) التي ملّكه السيدُ إيّاها؟ نُظر: فإن أَذِن له في التسريّ، فالذي ذهب إليه الجمهورُ من الأصحاب أن له أن يتسرى بالإذن. وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أنه لا يتسرّى مع الإذن؛ فإن الوطءَ يستدعي ملكاً كاملاً، وملكُ العبد غيرُ كاملٍ. وإن لم يأذن السيد للعبد في التسري، فمُطلَقُ التمليك لا يُسلّطه على التسرّي عند معظم الأصحاب.
وذكر بعضهم وجهاً آخر أن مطلَقَ التمليك يفيد جواز التسرِّي وإن لم يجرِ فيه إذنٌ. وهذا ضعيفٌ مع اتفاق الأصحاب على أن مطلَقَ التمليكِ لا يُسلّط العبد على التصرفات؛ والتسري تصرفٌ من التصرفاتِ، ولعل صاحبَ المذهبِ يطرد مذهبَه في أكل الطعام المملّكِ وشُرب الشراب. وإنما يسلِّمُ افتقارَ العقود إلى الإذن. فإن طرد إذنَه في التصرفات جُمَع قياساً على المتّهبِ الذي يَثبت للواهب حق الرجوع فيما وهبَهُ منه، فهو بعيدٌ لم أره لأحدٍ.
وأكْثَرَ الأصحابُ في تفريع أحكام المِلكِ، ولا معنى لها، والشرط التعرض لما يختصُّ بملك العبد القِنّ.
__________
(1) حديث من باع عبداً وله مال. متفق عليه من حديث ابن عمر، البخاري: كتاب الشرب والمساقاة، باب الرجل يكون له ممرّ أو شرب، ح 2379، ومسلم: البيوع، باب من باع نخلاً عليها تمر، ح 1543، الرقم الخاص (80)، وانظر (تلخيص الحبير: 3/ 72 ح 1224).
(2) الجارية مفعول يتسرّى، فالفعل يتعدى بغير الباء: تسرّى الشيءَ: اختاره (معجم).

(5/274)


نعم كلُّ ما يقتضيه زوالُ الملكِ، فهو متعلَّقٌ بتمليك السيّدِ عبدَه من انقطاع الحول (1) وما في معناه. ويتعلق وجوب الاستبراء (2) به إذا رجع، وما يتعلق بصورة الملكِ، فهو يحصل بملكِ العبدِ، كانفساخ النكاح إذا ملّكه سيّدُهُ زوجتَه.
وما يستدعي كمالاً في الملكِ والمالك، فلا يحصل في مِلكِ العبدِ كوجوب الزكاة، وكتقدير العتق إذا ملّكه سيّدُه أباه أو ابنَه، وكيف يعتِق عليه قريبه وهو رقيق! وإذا ملّكه مولاه مالاً، ففي تكفيره به كلامٌ سأذكرُه في كفّارة الظهار، إن شاء الله تعالى.
فرع:
3191 - إذا ملك الرجل عبدَينِ: سالماً وغانماً، فملّكَ كلَّ واحدٍ منهما الآخرَ، فقد اتفق الأصحاب على أن الملكَ لهما علَيهما لا يجتمع، ويستحيل أن يكون السيد مملوكاً لمملوكه، فإذا كنا نحكم بانفساخ النكاح بملكِ زوجته، فكيف نستجيز تقديرَ شخص مالكاً لمن هو مالِكُه. نعم [المستأخر] (3) ممّا وصفناه ناقضٌ للملكِ المتقدّم، ومثبتٌ حقَّ التمليكِ الجديدِ على قولنا بتمليك العبد. وإن وكَّل السيدُ وكيلين حتى يهبَا سالماً من غانم وغانماً من سالمٍ، ثم جرَى ذلكَ من الوكيلين معاً، لم يَنفذ واحدٌ منهما؛ إذ لا سبيل إلى الجمع، وليس أحدهما أولى بالرد من الثاني.
فصل
3192 - إذا فرّعنا على القديم وقُلنا: يملك العبدُ ما ملّكه سيدُه، فإذا ملّكه، ثم أعتقه، أو باعه، ولم يتعرّض لما ملَّكه إئاه، فيكون العتقُ والبيعُ استرجاعاً منه فيما ملّكه، ويتخلَّف ذلك الذي جَرَى التمليك فيه على البائعِ والمعتقِ، ولا استتباع أصلاً، وليس كالمكاتب يُعتَق؛ فإنه يستتبع أَكْسابَه وأولادَه، كما سيأتي شرح ذلك في مَوضِعه، إن شاء اللهُ تعالى. والمكاتب على الجُملة أثبت الشرع له استقلالاً، حتى
__________
(1) أي حول الزكاة.
(2) أي استبراء الرحم، إذا زال ملكه برجوع السيد عن إذنه.
(3) في الأصل: المستأجر.

(5/275)


انتهى الأمرُ إلى تصحيح مُعامَلته سيدَه. والعبدُ المملَّك لا يعامل سيّدَه المملِّك، حتى لو ابتاع سيدُه منه شيئاً مما كان ملّكه، فالذي جرى ليس بابتياعٍ، ولكنّهُ رجوعٌ فيما استردَّهُ.
وهل يكون ما جرى تمليكاً فيما بذله عوضاً (1)، فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يكون تمليكاً؛ فإنه ذكر جهةً فاسدةً. والثاني - أنه تمليك على صيغةٍ (2). وهذا غيرُ سديدٍ.
ولو باعَ العبدَ مُطلقاً، فقد ذكرنا أنه لا يدخل شيء مما كان ملّكَه عبدَه في ملك المشتري، ولا يبقى شيءٌ في ملك العبد.
3193 - واختلف أصحابُنا في الثياب التي تكون على العبدِ والأمةِ حالةَ العقد، فالذي ذهب إليه القيّاسون أنه لا يدخل سلكُ (3) منها في العقدِ، وهي بجملتها ملك البائع، إلا أن تُشترطَ في العَقد.
ومن أصحابنا من أدخلَ الثيابَ في العقد للعُرف الغالب، حتى كأن اللفظَ [مشعرٌ] (4) به.
وهذا الخلاف يقرب من تردّدٍ ذكرناه في دخولِ جمَّةِ ماءِ البئر في البيع المشتمل على تسمية الدار.
ثم الذين حكموا بدخول الثياب في العقد اضطربوا: فذهب ذاهبون إلى أن الداخل ما سترَ العورةَ، وذهب آخرون إلى أنه يدخل جميع [ما العبدُ والأمةُ لابسُه] (5) حالةَ العقد. هذا إذا لم يسمّ في العقدِ إلا العبدُ، فأما إذا سُمّي مع العبد
__________
(1) أي لو اشترى السيد من عبده ما ملّكه إياه، فهل يكون الثمن الذي بذله عوضاً تمليكاً جديداً لهذا العوض؟.
(2) في (هـ 2): صفة.
(3) سلكٌ: خيطٌ، وهو هنا كناية عن منتهى القلّة، ومبالغة في نفي دخول أي شيء من الثياب في البيع.
(4) في الأصل: مشعراً. (حيث اشتبه عليه "كأن" بـ "كان").
(5) في الأصل: مال العبد والأمة لأنه.

(5/276)


[الأموالُ] (1) التي كان ملَّكه إياها، فإن قلنا: العبدُ لا يملك بالتمليكِ، فسبيل ما سمَّاه معَهُ سبيلُ مالٍ مقصودٍ بالبيع ليس فيه تخيّل التبعيَّة، ويُرعى فيه شرائطُ العقد وتعبّداته في اجتناب ما يحرم في الربويّات، واشتراطِ القبض فيما يشترطُ فيه التقابض إلى غير ذلك.
وإن قلنا: العبدُ يملك بالتمليك، فإذا ذكر البائعُ في بيعهِ ما كان ملّكه، فيتعلق البيع به. ثم للشافعي في القديم قولان:
أحدهما - أنا لا نشترط فيما كان ملكاً للعبد ما نشترطهُ في الأموال المقصودة بالبيع، فلا نراعي الإعلامَ، ولا نلتفت إلى قواعد الربا.
والقول الثاني - أنه لا بدّ من رعايةِ شرائطِ العقدِ فيها.
3194 - التوجيه على القديم: من قالَ لا بُدَّ من الإعلام جرَى على القياس، ومن لم يشترط، أثبتَ الأموال في مقتضى العقد تبعاً، وقد يدخل في العقد الشيءُ تبعاً على وجهٍ، لا يصح ثبوته فيه متبوعاً كمجرَى الماء، والحقوقِ، والثمرةِ قبل بدوّ الصلاح؛ فإنها تدخل في العقدِ، وإن كنا لا نرى إفرادَها بالبيع.
وحقيقةُ التوجيهِ يبين بالتفريع: فإذا تعلق حكمُ العقد بمالِ العبد، فأول تأثيره أن العقدَ لو كان مُطلقاً، لَزال ملكُ العبد عما كان له، وتخلَّف على السيد المملِّك، وإذا ضم إلى العبدِ، انقطعَ عنه حق (2) البائع.
ثم اختلفَ أصحابُنا في أن ذلكَ المال يكون ملكاً للمشتري أم هو مبقًّى على ملك العبدِ، والتردد لابن سُريج فيما حكاهُ صاحبُ التقريب.
وعندي أن أصلَ القولين [في] (3) اشتراطِ الإعلام والتزامِ أحكام الرِّبا يرجع إلى الخلاف الذي ذكرناه الآن. فإن حكمنا بأن المِلكَ يحصل للمشتري، فالذي جَرى ضمُّ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص): حكم.
(3) ساقطة من الأصل.

(5/277)


مالٍ إلى العبد، فلاَ بُدّ من رعايَةِ شرائط العقد. وإن قلنا: إنه يبقَى ملكاً للعبد، فلا حاجة إلى الإعلام.
ثم إذا بَقَيْناه ملكاً للعبدِ، فهذا فيه إذا قال: بعتُك هذا العبدَ بماله، فأما إذا قالَ: بعتُك هذا العبدَ ومالَه، فهذا يتضمّنُ قطعَ مِلكِ العبدِ وتثبيتَ ملك المشتري، ثم قد قدمتُ أن هذا يتضمّنُ التزامَ شرائط العقد.
3195 - ومما يتفرعُ على هذا أنَّ العبدَ لو كان مأذوناً من جهَةِ السيّدِ الأوّل في التصرف والتسرِّي، فهل يحتاجُ إلى إذنٍ جديدٍ من المشتري، أم يستمر على ما كان عليه؟ فعلى وجهين: أظهرهُما - أنّه يستمرُّ على ما كان عليه إلا أن ينهاه المشتري، فإن نهاه، انتهى.
ولا خلافَ أن المشتري لو أرادَ أخْذَ تلك الأموال منه، جاز له ذلكَ، وهو على الجملة حالٌّ محلَّ البائع، ونازلٌ منزلتَه.
ولو أراد البائعُ أن يسترجعَ ما كان للعبدِ، لم يكن له ذلكَ؛ فإنهُ قطعَ سلطانَ نفسهِ، ونقل ما كان له من حتي إلى المشتري.
والوجهُ الثاني - أنه لا بد من أخذ إذنٍ جديدٍ من المشتري؛ فإنه ذو الحق وله الرجوع والاسترجاع، ولم يسبق منه إذنٌ. وهذا وإن كان يميل إلى وجهٍ، فالأشهرُ والأصح الأول.
ومما يتعلق بتفريع ذلك أن المشتري إذا اطلع على عيب بالعبدِ ذي المال، والتفريعُ على [أن] (1) ملكَه مستمرٌّ في الشراء، فإذا أراد ردَّهُ، ردَّه مع مالهِ، ولا خِيرَةَ له في تخليفِ مالهِ وقطعِه عنه، فليردّهُ كما اشتراه. ولو اقتضى الحالُ رجوعاً إلى الأرشِ بعيب قديم، فنقول: كم قيمة عبدٍ سليمٍ ذي مالٍ، وكم قيمةُ عبدٍ معيب ذي مالٍ، ولا بد فيما ذكرناه من التعرّض لقدرِ المال؛ فإن القيَم تختلف بذلك اختلافاً بَيَّناً.
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(5/278)


فصل
قال: " وحرامٌ التدليسُ ... إلى آخره " (1).
3196 - التدليس محرَّمٌ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كشنا فليس منا " (2) ومن التدليس في مقصودِنا أن يبيعَ شيئاً يعلمُ به عيباً، ولا يُطلع المشتري على عيبه، وإذا كان هذا من التدليس، فإذا جرَّد قصده وفعَل فعلاً يقتضي التلبيسَ، فهو ارتكاب محرّم، ثم البيع يصح مع ذلكَ. والشاهدُ فيه تصحيحُ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعَ المصراة، مع ما فيه من التلبيس.
والضابطُ فيما يحرم من ذلك أن من علم سبباً يثبت الخيار، فأخفاه، أو سَعَى في تدليسٍ فيه، فقد فعل مُحرَّماً.
وإن لم يكن السببُ مثبتاً للخيار، فترْكُ التعرضِ له لا يكون من التدليس المحرم.
ومما لا يجب عليه التعرُّض له ذكرُ القيمة؛ فليس البائعُ متعبداً في الشرع بأن يبيع الشيءَ بثمن مثله. وهذا يبتني أيضاًً على ما ذكرناه من أمرِ الخيار؛ فإن الغبنَ بمجرَّدِه إذا اطّلعَ المشتري عليه لا يتضمّنُ خياراً.
فصل
قال: " وأكرهُ بيعَ العصير ممن يعصر الخمرَ ... إلى آخره " (3).
3197 - بيعُ ما يتخذ منه الخمرُ ممن يعلم أنه سيتخذ منه الخمرَ صحيح، ولكن البائعٍ متعرضٌ لارتكاب محرّم، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 196.
(2) حديث " من غشنا ... " رواه مسلم: الإيمان، باب من غشنا، فليس منا، ح 101، 102، ورواه أبو داود: البيوع، باب في النهي عن الفحش، ح 3452. وانظر: التلخيص: (3/ 51 ح 1192).
(3) ر. المختصر: 2/ 197.

(5/279)


وبالجملة الإعانةُ على المعصيَة محرَّمة.
وإن لم يظهر العلمُ، وظن البائعُ ذلكَ ظنّاً، كرهنا ما جاء به.
وبيعُ السلاحِ من قطّاعِ الطريق من المسلمين، وأهل العرامَة صحيحٌ، والقول في التحريم والكراهة كما ذكرناه.
وأطلق الأئمةُ أقوالَهم بأن بيع السلاح من أهلِ الحربِ لا ينعقد؛ لأنهم لا يَقتنونها إلا لمقاتلة المسلمين. هذا هو الظاهر.
ومن أصحابنا من جرى على القياس وصحّحه، على ما سأذكرهُ في كتاب السِّيَر، إن شاء الله عز وجل.
وبيع السلاح من أهل الذمةِ صحيح، وبيع الحديد من أهل الحرب صحيح؛ لأنه لا يتعيَّن للأسلحة، وقد تتخذ منها المساحِي وآلات المهنة.
فرع:
3198 - إذا أتلف رجلٌ على رجلٍ ديكاً مِهراشاً، أو كبشاً نطاحاً، فقد تقدّرُ القيمةُ أكثرَ لمكانِ الهراش والنطح، ولكن لا مُعتبرَ بتلكَ الزيادَة؛ فإن السّعيَ في إيقاع الهراش والنطح معصية، والتهيؤ لها، لا قيمةَ له شَرعاً.
* * *

(5/280)


بابُ بَيع البَرَاءةِ
قال الشافعي: "وإذا باع الرجل شيئاً من الحيوانِ بالبراءة، فالذي ذهبَ إليهِ قضاءُ عُثمانَ أنه بريءٌ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من عيبٍ علمهُ ... إلى آخره" (1).
3199 - نذكر في الباب تفصيلَ القول في بيع الحيوان بشرط البراءة، ثم نذكر شرطَ البَراءةِ في غير الحيوانِ.
فأما شرط البراءةِ في الحيوان، فظاهرُ نصِّ الشافعي في صدر البابِ اتباعُ قضاءِ عثمانَ رضي الله عنه، وقد قضى بان البائع مبرَّأٌ من كل عيبٍ، لم يعلمه، ولا يبرأ من عيبٍ علمه، ولم يُطلِع المشتري عليه. وقالَ في آخر الباب (2): "القياسُ لولا ما وصفناه -يعني قضاءَ عثمانَ- أنه لا يبرأ عن العيب الذي لم يره المشتري، أو يبرأ عن الجميع".
3200 - وقد اختلف أصحابُنا على طريقين: فمنهم من قال: ما ذكرهُ الشافعيُ في أول الباب وآخرِه ترديد للأقوال، ففي المسألة ثلاثةُ أقوال: أحدها - أن البراءة باطلةٌ والمشتري على خياره، مهما اطلع [ولا فرقَ] (3) بين ما علمه البائعُ وكتمهُ، وبين ما لم يعلمه.
والقول الثاني - أن البراءةَ صحيحةٌ عن جميع العيوب، من غير تفصيل.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 198.
(2) نص عبارة الشافعي في المختصر، هكذا: "وإنّ أصح في القياس لولا ما وصفنا من افتراق الحيوان، وغيره أن لا يبرأ من عيوب تخفى له لم يرها، ولو سماها لاختلافها، أو يبرأ من كل عيب. والأول أصح" المختصر: 2/ 198، 199.
(3) في الأصل: والفرق.

(5/281)


والقول الثالث - الفصلُ بين ما علمه، وبين ما لم يعلمه. فما علمه لم يصحّ البراءةُ فيه؛ لأنه بكتمانِه، وتركِ ذِكره منتسِبٌ إلى التدليس، والتدليسُ محرَّمٌ، فلا يستحق صاحبُه حطَّ الخيارِ عنه.
والتوجيه مستقصى في الخلاف. ونحن نذكرُ منه ما يتعلّقُ بترتيبِ المذهب.
فأما من قال: إنّ البراءة لا تصح، فمعتمده شيئان: أحدُهما - أن خيارَ الردّ بالعيب يثبت شرعاً في مقتضى العقد، فشرطُ نفيهِ تغييرٌ لموجَب الشرع، والثاني - أن العيوبَ الممكنةَ مجهولة، فلئن كانت البراءة من المرافق، فلتكن معلومةً كخيار الشرط، والأجَل، والرهن، والكفيل.
ومن قالَ بصحة البراءة على العموم، فوجهه أن الشرط يتضمن إسقاطَ حقٍّ، وفي إسقاطه استفادةُ لزومِ العقد.
ومن فصَّل، استدَلَّ بمذهب عثمانَ، أولاً، وأشار إلى ما ذكرناه من الانتساب إلى التدليس في صورة العلم.
ثم من يسلك طريقةَ الأقوال يستدل بأن الشافعي أشار إلى الأثر والقياس، ومذهبُه في القديم اتباعُ الأثرِ، وتركُ القياس له. وهذا يخالف رأيَه في الجديد.
فإن قال قائل: لم يبد [نكيراً] (1) على عثمانَ، فمذهبه في الجديدِ أنه لا يُنْسَب إلى ساكت قول.
ومن أصحابنا من قالَ: مذهب الشافعي هو التفصيل الموافق لمذهبِ عثمانَ، وقد صَرَّح بذلك في صدر الباب. وما ذكرهُ في آخر الباب إشارةٌ إلى وجهِ القياس، وليس مذهباً له.
__________
(1) في النسخ الثلاث (نكير) بالرفع. ولم أصل إلى العبارة محكية عن الإمام في مظانها من شرح المهذب، ولا في فتح العزيز، ولا في روضة الطالبين، مع طول بحثي.
ولأن النسخ الثلاث اتفقت على (نكير) بالرفع، حاولت أن أجد لها توجيهاً فلم يظهر لي شيء. ولكن الأقربَ، والأوفق للسياق، أن "نكيراً" مفعول به، والمعنى أن الشافعي لم يبدِ اعتراضاً على قضاء عثمان، وهذا معناه إقرار هذا الفضاء، واتخاذه مذهباً. فكيف ينسب إلى الشافعي قولٌ آخر!! وأجيب بأن الساكت لا ينسب إليه قول، فلا يلزم من سكوته أن ينسب إليه قولاً يوافق قضاء عثمان، والله أعلم بالصواب.

(5/282)


والأشهرُ طريقة الأقوال. والأليقُ بكلام الشافعي القطعُ [بما] (1) ذكرناه.
3201 - ثم إنا نُلحقُ بما تقدم شيئين: أحدُهما - أنا علَّلنا القَولَ بفساد الشرط بشيئين: أحدُهما - أن البراءة تغييرُ وضعِ الشرع. والثاني (2) - أنها تقتضي جهالةً.
3202 - ثم الأصحاب فرضوا صورةً على هذا القول، وذكروا فيها اختلافاً مخرّجاً على المعنيين: وهي أنه لو شرط البراءةَ عن عيوبٍ معدودةٍ، وأعلم بالوصف أصنافَها، فإن علَّلنا شرطَ البراءةِ بتغييرِ مقتضى العقدِ، فالشرط فاسدٌ مع الإعلام، وإن علَّلنا فسادَ الشرط بالجهالة، فلا جهالةَ في الصورة التي ذكَرناها، فليصح الشرطُ.
وليس المعني بالإعلام أن يطّلع المشتري على العيوب، أو يرى من نفسه العلمَ بها، وإنما المراد البراءةُ من صفاتٍ لا يقطع الشارط بكونها، وإنما تقدَّرُ البراءة لو كانت، ولو حصل الاطلاع على العيب، فلا حاجة إلى شرطِ البراءة، فإن الخيار لا يثبت مع الاطلاع، وإن لم تجر البراءةُ.
ومن الاطلاع أن يقول البائع: هذه العيوب به فأبرئني منها، فاعتراف البائع بها بمثابة معاينةِ المشتري العيوبَ؛ فإن العقد مستند إلى قولِ العاقد، وعليه التعويلُ في الملكِ، وإن كان المشتَرى لحماً، فالاعتماد على قول البائع في كونهِ لحمَ ذكيّة.
فهذا أحد الأمرين.
والثاني - أن الأئمة في قول التفصيل قالوا: لا تصح البراءةُ عمَّا عَلِمه البائع وكتمه، وتصح البراءةُ عما لم يعلمه، وألحق أربابُ التحقيق بهذه العيوبَ الظاهرةَ والباطنةَ، فقالوا: البراءةُ في العيوب الظاهرة باطلة وإن لم يكن البائع مطلعاً عليها، وجَعلوا التمكنَ من الاطلاع مع ترك البحث بمثابة الاطلاع على الخفيّات مع الكتمانِ، وقال هؤلاء في الترتيب: البراءةُ عن العيوب الباطنة منقسمةٌ، فما علمه البائع، لم تصح البراءة عنه، وما جهِله، فتصح البراءةُ عنه.
ومن أصحابنا من قال: لا ننظر إلى الظاهر والباطن، وإنما ننظر إلى العلمِ مع
__________
(1) في الأصل: كما.
(2) في (هـ 2)، (ص): والآخر.

(5/283)


الكتمان، وإلى الجهل؛ فإن المبطلَ للشرط انتسابُه إلى التدليس، وهذا المعنى لا يتحقق في العيوب الظاهرة التي لم يعلمها البائع.
وقد نجز الكلامُ في الحيوان.
3203 - فأمّا ما عداه، فقد اختلف أصحابنا فيه على طريقين: منهم من قال: شرط البراءة فيما عدا الحيوان باطلٌ كيف فُرض، وإنما تصح البراءةُ في الحيوان للضرورة لأنه يغتدي بالصحة والسقَمِ، وهو عرضةُ التغايير. ولو قيل لا يخلو حيوان عن آفةٍ باطنةٍ، لم يكن هذا الكلام مجازفةً، فلو لم يصح بيعُ الحيوان بشرط البراءة، لما استقرَّ على حيوانٍ بيعٌ. وهذا لا يتحقق في غير الحيوان. هذا مسلك.
ومن أصحابنا من قال: يجري في غير الحيوان الأقوالُ الثلاثة، وقال قائلون: لا يجري في غير الحيوان الفرق (1) بين الظاهرِ والباطن؛ فإن ما سِوى الحيوانات عيوبُها ظاهرةٌ إن كانت، فجملةُ عيوبِها بمثابة العُيوب الظاهرة من الحيوان.
(2 وقد ذكرنا التفصيلَ في العيوب الظاهرة من الحيوان 2).
فهذا هو التفصيل في شرط البراءة.
3204 - فإذا جمع جامعٌ الحيوانَ إلى غيرهِ انتظم له أقوال: أحدها - الصحةُ في الجميع. والثاني - الفسادُ كذلك، والثالث - الفرق بين الحيوان وبين غيره. والرابع - الفرق بين ما علمه البائع وكتمه، وبين ما لم يعلمه.
وقد ذكرنا التعرضَ للظاهر والباطن، فقد يجري من خلاف الأصحاب فيه قولٌ خامس.
فإن حكمنا بصحَّة الشرط، فلا كلام، وإن حكمنا بفساده، فهل يصح العقدُ؟ فعلى قولين: أظهرهما - أنهُ يصح، ويلغو الشرط؛ لأنَّ [الشرط] (3) في وضعه ليس مخالفاًً لمقصود العقد ومقتضاه؛ من جهة أن الغرض من العقد النفوذ، والشرط في
__________
(1) في الأصل، (ص): والفرق.
(2) ما بين القوسين سقط من (ص).
(3) ساقطة من الأصل.

(5/284)


نفي الفسخ يتضمن تأكيدَ لزومه، والظاهر السلامةُ أيضاًً.
والقول الثاني - أن العقد يفسد لفساد الشرط المتعرض لمقصوده، ولو صح ما تمسك به القائل الأول، لوجب القضاء بصحة الشرطِ؛ من جهة موافقةِ مقصود العقد، فإذا فسد الشرطُ، وجب الحكم بفسادِ العقد.
ثم جمع المرتِّبون صحَّةَ الشرط وفسادَه، وصحةَ العقد وفسادَه، وقالوا: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدُها - أن الشرط والعقد يفسدان. والثاني - أنهما يصحان.
والثالث - أنه يصح العقد، ويفسد الشرط.
وهذا كاختلاف الأقوال في شرط نفي خيار المجلس والرؤية إذا جوّزنا بيعَ الغائب، وفيهما الأقوال الثلاثة، كما وصفناهَا، وخيار الرد بالعيب خيارٌ شرعي يتضمنه مطلقُ العقد كخيار المجلس وخيار الرؤية.
3205 - وممّا يتفرع في الباب أنا إذا صحَّحنا شرطَ البراءةِ؛ فلو قال: أنا بَريء من (1 العيوب الكائنة، والعيوب التي ستحدث في يدي، فهل يصح شرط البراءةِ عما سيحدث، إذا ضَمَّ الشرطَ إلى ذِكر العيوب الكائنة 1)؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن ذلك لا يصح؛ فإن البراءة عن العيوب الكائنة في حكم إسقاط حق ثابت، وأما البراءة عما سيحدث، فتغيير لموجَب ضمان العقد وربط الشرط بما سيكون. وهذا يبعد احتماله.
والثاني - يصح تبعاً للعيوب الكائنة.
ولو خصّص الشرطَ بالبراءة عمّا سيحدث، ولم يتعرض للعيوب الكائنة، فالمذهب أن الشرط يبطل بخلاف ما ذكرناه في المسألة الأولى؛ فإن ما سيحدث ذُكر تابعاً للعيب الكائن القديم، فإن ثبتت البراءة، فسبيلها التبعيّةُ. وهذا لا يتحقق إذا أُفرد ما سيَحدث بالذكر والقصد.
وإذا ضممنا ما قدَّمناه تابعاً إلى ما أخّرناه مقصوداً، انتظمت أوجهٌ في العيوب التي ستحدث، على قولنا بصحةِ البراءةِ عن العيوب القديمة: أحدها - الصحةُ. والثاني -
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).

(5/285)


الفساد. والثالث- الفرق بين أن يذكر تابعاً أو مقصوداً.
فرع:
3206 - إذا منعنا شرطَ البراءةِ، وقلنا: لابد من الاطلاع؛ فإن كان العيبُ مما لا يعايَن، فيكفي فيه اعترافُ البائع به، كاعتيادِ السرقة، والإباق، وغيرهما.
وإن كان مما يُعايَن كالبَرص وغيره، فإن اطلع المشتري عليهِ، كفى. وإن ذكرهُ البائع [لم يكفِ] (1)؛ فإن المقصود يختلف بمقدار البرص وموضعه، فإن ذكر مقدارَه، ومحلّه، وصفتَهُ، كفى حينئذٍ.
* * *
__________
(1) ساقط من الأصل.

(5/286)


باب الاستبراء في البيوع
3207 - الاستبراءُ بأصولهِ وفصُولهِ يأتي بعد كتاب العدّةِ إن شاء الله عز وجل، فلا خَوْضَ فيه، بل نقتصرُ على غرض الشافعي من مضمون الباب، وهو مسألتان: إحداهما - أن المشتري لو وفَّر الثمنَ على البائع، فامتنع البائع من تَسليمِها (1) حتى يستبرىء، زاعماً أنه يحتاط بذلك لصون مائهِ، فليس له ذلك عندَنا. وقالَ مالكٌ (2): له منعُها من المشتري، ثم يعدَّلُ على يدِ امرأةٍ مؤتمنةٍ. فهذا غَرضُه من هذهِ المسألة.
ثم الذي يتصل بهذا الباب في هذا الغرض اختلافُ الأصحاب في أن الجارية لو حاضت في يد البائع، فهل يعتدّ بذلكَ استبراءً أم نقول: ينبغي أن يجري الاستبراءُ بعدَ انتقال الضمان إلى المشتري؟ فمنهم من قال: يعتدّ بما جرى في يد البائع؛ فإنها وإن كانت من ضمان البائع، فهي في ملكِ المشتري.
ومنهم من قال: لا يعتدُّ بما جرى استبراءً؛ فإن الملك ضعيفٌ قبل القبض متعرّض للارتداد إلى البائع.
فهذا [أحدُ] (3) مقصودَي الباب.
3208 - [والمقصود الثاني] (4) - أن من اشترى متاعاً من رجل غريبٍ، فليس لهُ
__________
(1) أي تسليم الجارية المشتراة، وعاد الضمير إليها، ولم يسبق لها ذكرٌ في الكلام؛ لأن المسألة في الاستبراء، ولا يكون ذلك إلا في بيع الجارية.
(2) ر. عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/ 1477، القوانين الفقهية: 239.
(3) في الأصل: آخر.
(4) ساقط من الأصل.

(5/287)


عندنا أن يطالبَه بمن يَعرفُه، (1 ويتحملُ عنه ضمانَ الدَّرَك. وقالَ مالكٌ (2): له مطالبتُه بذلك. وعندنا لا يلزم ذلك إلا أن يشترط 1) الضمان في العقد، فيكون كاشتراط الرهن، كما سيأتي إن شاء الله عز وجل.
* * *
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ص).
(2) لما نصل بعد إلى قول الإمام مالك فيما رجعنا إليه من مصادر السادة المالكية.

(5/288)


بابُ المُرابحةِ
3209 - صورة المرابحةِ أن يقول لمن يُخاطبُه: اشتريتُ هذا بكذا، وقد بعتكَهُ إياه بربح الواحد على كل عشرة، أو على العَشرة نصفُ درهم، على ما يقعُ الاتفاق عليه.
وحقيقةُ العقد بناؤه على العقد الأول، مع شرط مزيدِ الربح، أو حطيطةٍ مع التعويل على أمانةِ البائع، فإذا قال: بعتُك هذا بما اشتريتُ -وهو كذا- مرابحةً على كل عشرةٍ واحداً، أو اثنين، أو أقلَّ، أو أكثرَ على حسب التوافق، فالعقد يصح على هذا الوجه، ويثبتُ المزيد الذي أُثبتَ على صيغةِ الربح.
فإن ذكرا مبلغ الثمن والربح عليه، فالبيع صحيح.
وإن كان المشترِي جاهلاً بالمقدار، فقال البائع: بعتُك هذا العبدَ بما اشتريتُ، فالبيع فاسدٌ على الصحيح.
وحكى بعض الأئمة عن صاحب التقريب أنه قال: لو جرى هذا العقدُ، فلم يفترقا عن المجلس، حتى أعلم البائعُ المشتريَ مقدارَ الثمن، فالمذهب أن البيع فاسدٌ.
وفيه وجهٌ أن العقد ينقلب صحيحاً. وهذا ليس بشيءٍ؛ فإنَّ المجلسَ فرعُ انعقادِ البيع، فإذا لم ينعقد البيعُ، فلا مجلس له.
وأبو حنيفة (1) نفى خيار المجلس، وأثبتَ للمجلس أثراً في صحة العقد، بعد جريان الإيجاب والقبول على الفساد.
ومن أصحابنا من قال: يصح البيعُ في الأصل وإن كان المشتري جاهلاً برأس المال؛ فإن الإحاطةَ به ممكنة، والعقد الثاني مبنيٌّ على العقد الأول، وهو كالشفيع يطلب الشُّفعةَ قبل الإحاطة بمبلغِ الثمنِ. وليس هذا كما لو قال: بعتُك عبدي بما باع
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 406 مسألة 1125، إيثار الإنصاف: 311، الاختيار: 2/ 5.

(5/289)


به فلانٌ عبدَه، وكانا جاهلين، أو أحدَهما بما وقع عليه بيعُ فلان، فالبيع باطلٌ؛ فإنه (1) لا تعلق لذلك الثمن بعقدِهما. وهذا ضعيفٌ، والأصح الحكم بالفسادِ.
ثم إذا حكمنا بصحة هذا العقدِ، فقد اختلف أصحابُنا في أنه هل يشترط إعلامُه في مجلس العقد؟ فمنهم من قال: لا يُشترط هذا؛ لأن العقدَ إذا انعقد على الصحةِ تعويلاً على إمكان الإعلام، فهذا الإمكان يَطَّرد، وإنما تمسُّ الحاجةُ إلى الإعلام عند المطالبة بالثمنِ.
ومن أصحابنا من قال: وإن حكمنا بصحة العقد، فلا بدّ من الإعلام في المجلسِ، حتى لا يتفرقا إلا على ثَبَتٍ، وهذا يناظر اشتراطَ التَّقابُضِ في عقود الربا.
ثم قال الأصحابُ: عقدُ المشتري مرابحة وإن ابتنى على عقدِ البائع، فلا حرج على البائع أن يزيد شيئاً من الثمن، ويقدّرَه من الأصلِ، ثم يذكرُ على صيغة المرابحة ما يقع التوافق عليه، وذلك بأن يقول: قد اشتريت هذا بعشرة وقد بعتكَه بعشرين، ورِبح ده يازده (2)، فيصح العقد على هذا الوجه، وإن ضمَّ إلى رأس المال شيئاً، ثم قدّر الربحَ بعدهما.
وهذا عندي تكلُّفٌ، فإن ذلك المضمومَ مع المذكور ربحاً ربحٌ في المعنى، ولا نرى في الباب لما يثبت بصيغة الربح مزيّةً وخاصّية على ما يقدَّر أصلاً [مضموماً] (3) إلى رأس المال.
3210 - ثم المرابحة تُفرض على وجهين: أحدهما - أن يقع البيعُ بما اشتراه البائع مع ربحٍ يذكرانه.
والآخر - أن يقع البيعُ بما قام على البائع مع مزيدِ ربحٍ.
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): لأنه.
(2) في (ص): درهم زايد. وده يازدة كلمة، بل مصطلح فارسي مكون من مقطعين: دِه = عشرة، يازده = أحد عشر، ومعناها كما هو مفهوم من سياق كلام إمام الحرمين (الآتي قريباًً آخر هذا الفصل) أنها عشر الأحد عشر (10/ 11) وانظر لمزيدٍ من التوضيح والتمثيل (فتح العزيز: 9/ 5، 6، والوجيز: 147).
(3) ساقطة من الأصل.

(5/290)


فإن قال: بعتُك بما اشتريت [به] (1) وهو كذا بربح كذا. فالأصل هو الثمن، ولا تحسب أجرة الدلالِ والكيالِ، وغيرِهما من مؤن العقد؛ فإن التعويل على موجَب لفظهِ. فإذا قال: بعتك بما اشتريت أبه، (2)، فالذي به الشراءُ هو الثمن.
فأما إذا أراد العقدَ بلفظةٍ (3) تشتمل، فسبيله أن يَضُم مؤنةَ الدلالِ والكيالِ، والحمالِ، وأجرةَ البيت الذي جرى التربص فيهِ -إن كان البيت بكراءٍ- فيضُمُّ هذه المبالغَ (4) إلى الثمن، ويَقُول: بعتُك بما قامَ علَيَّ، وهو كذا، مُرابحة على كذا. فإذا وقع العقد على هذه الصيغة، فالمؤن التي تُعدُّ من توابع التجارة تدخُل تحت قول البائع "بما قام علَيَّ".
3211 - ثم قال الأصحاب: إذا اشترى دابَّه، وعلفها مدَّة، ثم باعها بما قامت عليه، فمؤنةُ العلفِ، لا تدخل تحت اللفظ.
وهذا [محلُّ] (5) النظرِ؛ فإن العلفَ لاستبقاءِ الملكِ بعد ثبوته، والبيتُ الذي يحفظ فيه المتاع، في معنى العلف؛ فإنه ليس من توابع التجارةِ، بخلاف مؤنةِ الدلال وغيرهما، فمؤنةُ السكنى والنفقةُ متساويتان في تعلقهما بحاجة الاستبقاءِ والاستدامةِ إلى اتفاق البيع. ولكن (6) أجمع الأصحابُ على أن النفقةَ غيرُ معتبرة، وكراء البيتِ المكترى محسوبٌ من جملة المؤن الداخلة تحت قول البائع "بما قام عليَّ".
وفي الفرق نوع عُسْر على الناظر.
وقد قال بعض الحُذَّاق: لو اشترى دابة وزَادَ على علفِها المعتاد زيادة [يُبغى] (7)
__________
(1) زيادة لإيضاح الكلام. وفي (هـ 2)، (ص): اشتريته.
(2) زيادة لإيضاح الكلام. وفي (هـ 2)، (ص): اشتريته.
(3) في الأصل: وبلفظه. وفي الكلام إيجازٌ بالحذف، فالمعنى: إذا أراد العقد بلفظ يشتمل على جميع ما تكلفه في سبيل الشراء.
(4) في (هـ 2)، (ص): المنافع.
(5) في الأصل: مجمل.
(6) في (هـ 2)، (ص): لكن (بدون واو).
(7) في الأصل، (ص): تبقى.

(5/291)


بمثلها السِّمَنُ، والازديادُ، فهذه الزيادة داخلة تحت لفظة القيام؛ فيرجع حاصلُ الجواب إلى [أن] (1) الداخل تحت الصيغةِ التي فيها الكلام ما يُعدُّ من مُؤن التجارة أو يُبغَى به الاستنماء لطلب الربح.
3212 - والآن سبيلُ الكلام على الكراء أن نقول: هذا الباب مسائلُه غيرُ موضوعةٍ على أمرٍ فقهيّ، وإنما مقصودُه في اتِّباعِ اللفظ: فإذا قال: بعتُ بما اشتريتُ، اقتضى ذلك التعرُّضُ (2 للثمن؛ إذ به الشراءُ. وإذا قالَ: بعتُك بما قام عليَّ، فصيغة اللفظ شاملةٌ 2) للمؤن. وإذا كان كذلك، فالوجه اتباع اللفظ.
ثم العرفُ في المعاملات غالبٌ جداً، محكَّمٌ على العقودِ. والعباراتُ منزَّلةٌ عليه نزولَ عباراتِ الحالفين على عُرف المتفاوضين. ويمكن أن يقال: حفظُ المتاع في البيت تربُّصٌ، وهو ركن في التجاير وانتظار الأسعار. هذا حكم العُرف.
وأما العلف، فهو قوامُ البقاءِ، وليس هو للاتجار، وهذا مع التكلّفِ مشكلٌ، والقياسُ إدخال الكراء والعلف، لا [إخراجهما] (3)، لكن المذهب نقل.
ولا خلاف أنه لو ضم النفقةَ إلى مبلغ الثمنِ والمؤنِ، فقال: بعتُكَ بما قام عليّ، وبما أنفقتُهُ، وهو كذا، صحّ.
ولو كالَ بنفسه، كما جرى في باب المكايلة، وحمل بنفسه، وأراد أن يَعُدَّ أجرة نفسه من المؤن، وقد جَرى العقدُ بصيغَةِ القيام، لم يكن له ذلك وفاقاً.
وكذلكَ لو كان البيتُ الذي يحفظ المتاع فيه ملكَه، فأراد حَسْبَ أجرته من المؤن، لم يكن له ذلكَ. نعم لو صرّح بذكر هذه المقالةِ، وقالَ: بعتُك بما اشتريتُ وبأجرتي كذا، وأجرة البيت، والمبلغ كذا، صحَّ.
فالكلام يدور إذاً على اللَّفظِ، ومُستندُ اللفظ العرفُ.
ولا يفهم من لفظِ القيام تقديرُ أُجرةِ البائع، وتقديرُ أجرةِ بيته المملوكِ.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقط ما بين القوسين من (ص).
(3) في الأصل: أو إدخالهما.

(5/292)


فقد لاح الغرض، ولم يبق استكمالٌ فقهي.
والذي ذكرناه من الفرقِ بين العلف وكراء البيت إشكالٌ يؤول إلى مقتضى لفظٍ.
ومؤنةُ السائس فيها تردُّدٌ عندي، والأظهر إلحاقُها بالعلف، ولها شبهٌ بكراء البيت؛ فإن السياسةَ تؤثر في الحفظ أثرَ البيت [ولها] (1) اتصالٌ بالعلف؛ من جهة أن السائسَ، هو الذي يرتِّب العلف والسقي في مظانهما.
فرع:
3213 - إذا اشترى شيئاً بعشرةٍ، وباعه بخمسةَ عشرَ، ثم اشتراه بعشرةٍ، ثم أراد أن يبيعه مرابحةً، فإن عقدَ العقدَ بقولهِ: بعت بما اشتريتُ، فالاعتبارُ بثمنِ العقدِ الأخير، بلا خلافٍ على المذهب؛ فإنَّ قوله " بما اشتريتُ " لا يُحمل على العقود السابقة، وإنما يُحمل على العقدِ الذي يلي المرابحةَ.
ولو أرادَ العقدَ بقوله: بما قامَت عليَّ، فهل يُحسب [ما] (2) استفاد قبل هذا العقدِ من ربحٍ؟ حتى يُقالَ: لما [اشترى] (3) أول مرة بعَشرةٍ، ثم باع بخمسةَ عشرَ؛ فقد استفاد خمسةً، فإذا اشترى بعشرةٍ، فالسلعةُ قامت عليه بخمسة؟
اختلف أصحابنا في المسألةِ، فذهب ابن سُريجٍ إلى أنه إذا أراد العقدَ بصيغةِ القيام، فلا ينبغي أن يذكر إلا خمسةً. وهذا مذهبُ أبي حنيفة (4)، ووَجهُه أن أهل العُرفِ يقولون في مثل هذه الصورة: هذه السلعةُ قائمةٌ على فلانٍ بالخمسة.
والأصح أنه يعتبر بثمن العقد الأخير، وهو العشرة، ولا التفات إلى ما تقدَّمَ من عقدٍ، واستفادةِ ربح، وإنما تبتني (5) المرابحةُ على العقد الذي يليها، فإن عُقدت بصيغة القيام، فالمرادُ قيامُ السلعةِ بما بُذلَ في العقد الأخير. فأما الالتفاتُ على العقود السابقةِ، فمقتضاه تنزيلُ المرابحة على عقودٍ قبلَها. وهذا لا سبيل إليه.
ولو اشترى سلعةً بعشرةٍ، وباعها بخمسةٍ، ثم اشتراهَا بعشَرةٍ، فليس له أن يحسبَ
__________
(1) في الأصل: ولهذا.
(2) في الأصل: بما.
(3) في الأصل: اشتريت.
(4) ر. المبسوط: 13/ 82، بدائع الصنائع: 5/ 224.
(5) في (ص): ينشىء.

(5/293)


الخُسرانَ ويَضم مبلغَه إلى ثمن العقد الأخير، ويقُول: بعتُك السلعةَ مرابحة بخمسة عشرَ التي قامت السلعة (1) علىَّ بها.
هذا متَّفق عليه في الخُسران، فليكن الربحُ في معناه، وليقتصر على ما يجري في العقد الأخير من ثمنٍ ومؤنٍ، كما فصَّلناها.
فرع:
3214 - يجوزُ بناءُ العقد الثاني (2) على الأوّل محاطَّةً، كما يجوز بناؤه عليه مرابحةً.
وذلك بأن يقول: بعتُكَ السلعةَ بما اشتريتُها به، وهو مائة محاطَةً [بوضيعة] (3) درهمٍ من كل عشرة، [ينعقدُ البيع] (4)، ويُحَطّ على حسب ما اقتضاه اللفظُ.
ثم المحاطّة تعقد بالعبارتين المعهودتين في الباب: إحداهما أن يقول: بما اشتريتُ، والأخرى أن يقول: بما قامت علي.
ثم إن قال: بعتُكَ بما اشتَرَيْتُ، وهو مائةٌ بحطّ " دِهْ يَازْدِه "، فقد اختلف أصحابنا في المقدار المحطوط، فمنهم من قالَ: يُحط من كل عشرةٍ واحدٌ، كما يزاد في المرابحة بهذه اللفظة على كل عشرةٍ واحدٌ، لتكون المحاطَّةُ على مناقضةِ المرابحة، وهذا مذهب أبي حنيفة (5) ومحمدٍ.
ومنهم من قالَ: نَجعل [كلَّ] (6) عشرة أحدَ عشَرَ جزءاً، ثم نحطُّ من هذه الأجزاء جزءاً، وهذا هو الصحيح؛ فإنا إذا حطَطْنا عن كل عشرة واحداً، فليس في هذا اعتبارُ نسبةٍ (الده يازده).
وذكر شيخي أبو محمد: أنا نحط من كل أحدَ عشرَ درهماً، درهماً. وهذا بيان الوجه الثاني.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص)، الأول على الثاني.
(3) في الأصل: وضيعة (بدون باء).
(4) ساقط من الأصل.
(5) ر. المبسوط: 13/ 91.
(6) ساقطة من الأصل.

(5/294)


والعبارة الأولى، والتي ذكرَها الشيخُ تؤدِّيان معنى واحداً. والغرض أن يكون كلُّ جزءٍ من المال مجزأً، بأحد عشر جزءاً، ثم يُحط منه جزءٌ من أحدَ عشر.
وهذا مذهبُ أبي يوسف وابنِ أبي ليلى.
وغَلِط العراقيون في تصوير المسألةِ، فوضعُوها في صُورةِ الوفاق، وحكَوْا الخلافَ فيها؛ فقالوا: إذا قالَ بعتُ منك هذا العبدَ بوضيعةِ درهم في كلِّ عشرة، فالمَوضُوعُ كم؟ فعلى وجهين. وهذا غلط؛ فإنّ الصيغَةَ مصرّحة بأنا نحط من كل عشرةٍ واحداً.
وإنما التردُّد في لفظ (ده يازده) ولست أرى في العربيّةِ صيغةً تنطبق على هذه اللفظة العجمية.
فصل
قال: " وإذا باع مرابحة على العشرة واحداً ... إلى آخره " (1).
3215 - إذا قال بعتُك بما اشتريتُ وهو مائة، أو بما قامت عليّ السّلعةُ به، وهو مائة مرابحةً على العشرة واحداً، فحَكَمنا بالانعقاد على الظاهر، ثم بان أنَّ رأس المالِ كانِ تسعين، فنذكر التفصيل فيه إذا خان، واعتمدَ الكذبَ، ثم نذكرُ التفصيل إذا غلط.
فأما إذا خان، فالذي قطع به الأئمةُ أن البيع منعقدٌ، والكلام وراء ذلك في الحط والخيارِ.
وذكر صاحب التقريب قولاً غريباً: أن البيع لا ينعقد، وهذا يبتني على أن الحطَّ مستحَقٌ لو قُدرت الصحّةُ. فيؤدِّي مجموعُ الكلام إلى ورود العقد على جهالةٍ.
وهذا بعيد، ما أراه معتداً به، فلا عودَ إليه.
فإذا ثبتَ انعقادُ العقد، فهل يُحطُّ عن المشتري ما زداه البائعُ وحصتُه من الربح؟ فعلى قولين: أحدُهما - أنه لا يُحط؛ فإنه جزم العقدَ بالمائة، وكذبَ في قولهِ اشتريتُ بها، وثمن هذا العقدِ ما عَقَد به.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 200.

(5/295)


والقول الثاني - أنه يُحط؛ لأنه لم يقتصر على العقدِ بالمائةِ، بل ربطَه بثمنِ العقد الأول، أو بما قام الثوب به في العقد الأول. فإذا بان الخُلْف، لم يستقر العقد على المائة المذكورة.
فأحد القولين يعتمد المائةَ المذكورةَ. والقول الثاني يعتمد ذكرَ ما جرى في العقد الأول.
وذكر العراقيون في طريقهم أنا إذا فرَّعنا على الحَطّ، فمعناه أنه ينحط عن العقد، لا (1) أنه ينشأ حطُّه.
3216 - وإذا قلنا: نحط، معناه نحكم بالانحطاط، فيرجع حاصل القولين إلى أنا في قولٍ نحكم بأن المائة تثبت والعقد ينعقد (2) عليها. وفي قولٍ نقول: لم ينعقد العقد إلا على تسعين، وليس هذا الحط بمثابة استرجاع أصل (3) أرش العيب القديم؛ فإنَّ الأرشَ المسترجَع، وإن كان جزءاً من الثمن، فاسترجاعه نقصٌ في جُزءٍ من الثمن.
والدليل عليه أن البيعَ إذا ورد على معيب، فموجَبُ العيب الردّ، ولا نجوِّز الرجوعَ إلى الأرش مع القدرة على الرد، فكأنَّ الأرشَ بدلٌ عن الرد، إذا تعذر.
ولا ينتظم عندنا إلا هذا؛ فإنّ حملَ الحط على إنشاءِ إسقاطٍ على حكمِ التخيّر، لا معنى له، وما استحق حطُّه محطوطٌ؛ إذ معتمدُ قولِ الحط حَمْلُ العقدِ الثاني على ثمنِ العقدِ الأول. فإن رأى طالبٌ لبعض الأصحاب لفظةً تُشعر بإنشاء الحطِّ، فمعناها الحكمُ بالانحطاط. وهو كقول الفقيهِ في البيع الباطل: "إذا اشتمل البيعُ على الشرط الفاسد، أبطلناه".
فإن قيل: فالعقدُ إذاً منعقدٌ على ثمنٍ مجهول؛ فإن المشتري غيرُ عَالم حالةَ العقد بما انعقد عليه العقدُ في حكم الله تعالى. قلنا: هذا كلام واقعٌ في موقعه. وعلى هذا منشأُ القول الذي حكاه صاحب التقريب في بطلان العقد.
__________
(1) ساقطة من (ص).
(2) في (هـ 2)، (ص): انعقد.
(3) ساقطة من: (هـ 2)، (ص).

(5/296)


وسبيل الجواب أن العقدَ عقد على ظن العلم بالثمن، فاكتفَى الانعقاد بذلك، فإذا أُخلف، فطريقُ الاستدراك بالخيار، لا الحكمُ بالفساد. وهذا يناظر قولَنا: لا يزوجُ السيد أمتَه من مجبوب على علمٍ، ولو فعل، لم يصحّ. ولو زوّجها على ظن (1) السلامة، انعقد العقدُ. وتخيَّرت الأمةُ.
3217 - هذا منتهى النظرِ في ذلك التفريعِ على قولَي الحط، إن قلنا: لا يُحطّ عن المشتري شيء، فله الخيارُ؛ من جهة أنه خاض في العقد على شرط أنه ينزل على عوض العقد المتقدّم، فإذا لم يتفق ذلك، تخيَّر.
وإن قُلنا: يُحط الزيادةُ عنه، ففي ثبوت الخيار للمشتري مع انحطاطِ الزيادة قولان: أحدُهما - لا خيار له؛ فإن مقصوده قد حصل. والقول الثاني - له الخيار، وهو موجَّهٌ في ترتيب المذهب بمعنيين: أحدهما - أنه إذا خانه مرةً، لم نثق به، ولم نأمن أنه خانه في مقدارٍ آخر. وإن الثمن كان ثمنين، أو أقلَّ، فهذا وجه.
والوجه الثاني [أنه] (2) قد يُفرَضُ للمشتري غرضٌ في الابتياع بالمائة في تنفيذِ وصيَّة، أو وفاءٍ بنذر، أو تحلّةِ قسَمٍ. هذا إذا حكمنا بالانحطاط شرعاً. وإن قلنا: لا انحطاطَ والعقدُ ثابتٌ بالمائة، فقد ذكرنا أن المشتري يتخيّر؛ لمكان التلبيس. فلو قال البائع: لا تفسخ؛ فإني أحط عنك الزيادةَ، فإذا حطها هل يتخيّر المشتري؟ فعلَى وجهين.
وهذه الصورةُ في مقتضى الخيار أيضاًً تُضاهي التفريعَ على قولنا: إن الزيادة تنحط، غير أن الصورة الأخيرةَ أولى بالخيار؛ من جهة أن الخيارَ ثبت لصفةِ العقدِ؛ فإنه انعقد على التلبيس. فإذا أراد البائعُ الحطَّ، فهذا إبراءٌ، والعقد في وضعهِ انعقد على موجَب التلبيس. وإذا حكمنا بالانحطاطِ، فالعقد، لم ينعقد على موجَب التلبيس، ولكن بان كذب البائع.
وقد ذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً مخرَّجاً في خيار المشتري، وذلك أنه قال: من
__________
(1) في (ص): شرط.
(2) ساقطة من الأصل.

(5/297)


أصحابنا من قال: إن ظهرت الخيانةُ بإقرار البائع، فلا خيارَ للمشتري، وإن ظهرت الخيانةُ ببيّنةٍ، فله الخيار؛ فإن الإقرارَ يبيّن تندُّمَه على ما تقدَّم منه، ويثبت ثقة بقوله، بخلاف البيّنة.
وهذا لا حاصل له.
والفقهُ المطلوب في هذا أنَ توقع خيانةٍ أخرى يجري في الإقرار وقيام البيّنة.
ولكن [إن] (1) تحقق المشتري مبلغَ الثمن، وأمِنَ من تقدير خيانةٍ، وذلكَ بأن يتذكَّر بنفسه ما وقع ذلك العقدُ الأول عليه، وكان شهدهُ وشاهَدهُ، ثم نسيَهُ. فإن كان كذلكَ، فالخيارُ مع الحطِّ لا متعلَّق له إلا الأغراضُ البعيدة التي أشرنا إليها، في الأَيْمان والوصايا، ولا اختصاص لها بغرض العقد، ويتعذر إثبات الخيار لها، وإن لم يتيقن المشتري زوالَ إمكان خيانةٍ أخرى، فيتعلَّق الخيار بالمعنيين المذكورين.
3218 - وتمامُ الكلام في ذلكَ أنا إن حططنا من المشتري، ولم نخيّره أو خيَّرناه، فما اختار الفسخَ، بل أجازَ العقدَ، فهل يثبت للبائع الخيارُ؛ من جهة أنه طمِعَ في المبلغ الذي سقاه ثمناً ثم أخلف ظنُّه؟ في المسألة وجهان: أحدُهما - أنهُ لا خيار له؛ لأنهُ لم يفُتْه حق مستحق بالعقد، ويبعد أن يصير تلبيسُه أو غلطُه سبباً لثبوت الخيار له.
والوجه الثاني - أنه يثبت الخيار له؛ لأن ذلك أمّلَه بأن يسقم له ما سمَّاه، ثم خاب ظنُّه. وهذا يقرب من الخيار الذي ذكرناه في بَيع الصُّبرة بالصُّبرةِ مُكايلة، حيث قال الشافعي: وللمنتقَص صُبرتُه الخيارُ؛ فإنه على ظنّه باستحقاق الصُبرة، ثم اقتضت المكايلةُ خروج بعضها عن الاستحقاق.
وهذا نجاز الكلام في الخيانة.
3219 - فأمّا إذا باع الشيءَ مرابحةً، ثم بان أن ثمنَ العقدِ الأولِ كان أقلَّ، ولكن لم يعتمد البائعُ ذلك خائناً، بل أخطأ، فترتيبُ الكلامِ في قواعدِ الخلافِ والوفاقِ في الحطِّ والخيارِ كما تقدَّم في الخيانةِ، غيرَ أن الخَطأ قد يترتبُ على الخيانةِ، كما سنصفُ ذلك.
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(5/298)


ففي الحَط أولاً قولان كالقولين في الخيانَةِ، ولا فرق. فإن حَططنا، ففي ثبوتِ الخيارِ للمشتري قولان مرتبان على القولين في نظير ذلك في الخيانة. وهذه الصورة -يعني صورةَ الغلط- أولى بألا يثبتَ الخيار فيها.
وكيفيّةُ الترتيب أنا إن لم نثبت الخيارَ في الخيانةِ بعد الحط، فلأن لا يثبتَ في صورةِ الغلطِ أولى. وإن قُلنا: يثبتُ الخيارُ بالخيانةِ، ففي صورةِ الغَلط قولان مبنيان على المعنيين؛ فإن ربطنا الخيارَ في الخيانة بزوال الأمن وتوقُّعِ مثلِ ما وقعَ، فلا خيار في الغلط. وإن ربطنا الخيار ثَمَّ بالأغراض التي ذكرناها، فهذا يتحقق في الغَلط أيضاً.
ولا نص للشافعي في صورة الخيانة، فإنه فرضَ كلامَه في الخطأ، ونصَّ على القولين [في الحط] (1). ثم ذكر النقَلةُ عنه قولين في ثبوت الخيار للمُشتري، فروى حرملَةُ أن الخيار لا يثبت. ورَوى المزني ثبوت الخيار، فذكر الأصحاب وجهين في الخيانة لمَّا لم يجدوا في تلك الصورةِ نصوص صاحب المذهب، واعتقدوا أن صورةَ الخيانة أولى بالخيار.
فإن قيل: كما يتوقع خيانةٌ بعد الخيانة الأولى، فكذلك يُتوقَّع غلطٌ بعد ظهور الغلط الأوّل، فما وجه البناء على المعنيين؟ قلنا: لا سواء، فالخيانةُ إذا ظهرت حطَّت الثقةَ، وسلبت الأمنَ، والغلط لا يُثبت مزيداً في توقع الغلط مرةً أخرى، بل توقُّعُه ثانياً على حسب توقعه أول مرَّة، وتوقُّع الخطأ أوّلَ مرةِ لا يُثبت الخيارَ.
وكلُّ ما ذكرناه فيه إذا فُرض كون الثمنِ المذكورِ في عقد المرابحة أقل مما كان في العقد الذي عليه البناءُ.
3220 - فأما إذا قال البائع: قد غلطتُ إذ ذكرتُ المائةَ؛ فإني كنتُ اشتريتُ السلعةَ بمائةٍ وخمسين، فإن صدَّقه المشتري في ذلك، وثبت الغَلطُ بتوافُقِهما، فالذي ذكرهُ الجمهور من (2) الأصحاب أنا نتبيّنُ فسخَ العقد من أصله. قالوا: وهذا يخالف بيانَ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص): من فقهاء الأصحاب.

(5/299)


الغلط بالزيادة في الصورة المقدّمَة؛ فإن المذهب في تلك الصورة صحّةُ العقد، ولم يصر إلى فساده أحدٌ إلا صاحبُ التقريب؛ فإنه حكى قولاً غريبا كما مضى.
وكان شيخي يُنزل الغلطَ بالزيادةِ منزلةَ الغلط بالنقصان ويقول: [كما] (1) أنَّ المائةَ ليست عبارةً عن تسعين، فليست عبارةً عن مائةٍ وخمسين، فإن كان التعويل على المسمَّى، فليصح في الموضعين. وإن كان التعويلُ على ما وقع عليه العقدُ الأول، فلا فرقَ بين الزيادة والنقصان.
وهذا قياسٌ متَّجهٌ. ولكن الذي ذكرهُ الأصحاب واتفق النقل فيهِ ما قدّمته.
والذي يمكن أن يقال في الفرق: أن الحطَّ من الثمن قد يُستَحق في بعض العقود إذا حُط الأرش، ولا يُتصوّرُ استحقاق زيادةٍ ملتحقةٍ بالعقدِ لم يجر لها ذكرٌ. نعم قد تفسد الأعواض في العقود التي لا تفسد بفساد أعواضها، فنحيدُ عن المسمّى رأساً، ونُثبتُ مهرَ المثل، وقيمةَ المثل. ثم [قد] (2) يتفق ذلك زائداً أو ناقصاً.
وهذا فيه إذا اتفقا على الغلط بالنقصان.
3221 - فأما إذا لم يعترف المشتري بما ادّعاه البائع، فقال البائع: قد كنت اشتريتُ بمائةٍ وخمسين، وغلطت بذكر المائة، فلا يُرجع إلى قول (3) البائع. ولو أراد إقامَةَ البيّنةِ، لم تُسمَع بينتُه؛ فإن سماعَ البينةِ يترتبُ على صحة الدعوى. وقد ذكرنا أن دعواه مناقضةٌ لدعواه، فلا سبيل إلى تصحيحها. وإذا لم تصح، فسماع البينةِ يترتَّبُ على سماع الدعوى. فلو قال للمشتري: أنت تعلمُ أني غلطتُ، ونقصتُ الثمن، فاحلف أنك لا تعلم، فهل يحلف [المشتري] (4) إذا استدعى ذلك البائعُ؟
ذكر صاحب التقريب وغيره وجهين مبنيّين على أصلٍ مشهورٍ في الدعاوى، وهو أن يمين الردِّ بمنزلةِ إقرار المدعى عليه، أو تنزل منزلةَ البيّنة المقامة. وفيه قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي سيأتي ذكرُهما في كتاب الدعاوى.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في (هـ 2)، (ص): قوله.
(4) مزيدة من (هـ 2)، (ص).

(5/300)


قال: فإن قلنا يمين الرد ينزل منزلةَ البينة، فلا يحلف المشتري في الصورة التي ذكرناها؛ فإن غرضَهُ لا يتضح في تحليفه إلا بتقدير نكوله مع رد اليمين على البائع المستحلِف، وإلا فلا فائدةَ في تحليفه، فعلى هذا لا يحلف؛ لأنا جعلنا يمين الرد كالبيّنة، وقد ذكرنا أن بينته لا تسمع، فلا تحليفَ إذن.
وإن قلنا: يمينُ الرد بمنزلةِ إقرار المدعى عليه، فاليمين معروضةٌ على المدعى عليه؛ فإن يمين الرد في عقباه كإقرار المدعَى عليه، ولو أقرّ المدعَى عليه، لثبت موجَبُ الغلط.
وذكر بعض (1) أصحابنا وجهاً ثالثاً فقال: إن باع بالمائة، ثم ادعى المائة والخمسين، وذكر الغلطَ مطلقاًً من غير ذكر سبب يقتضي الغلطَ، فدعواه مردودةٌ والمدعَى عليهِ لا يحلف. وإن ذكر سبباً لا يمتنع وقوعُ مثلهِ، مثل أن يقول: طالعتُ جريدتي، فغلطتُ من ثمنِ متاعٍ إلى ثمنِ آخر، وأخبرني من أثق به، فعوّلتُ على قوله، ثم تبينت خطأه، فما يقوله من هذه الأجناس ممكنٌ. وإن ذكر شيئاً منها، كان له تحليفَ المشتري، بخلاف ما إذا أطلقَ؛ فإن مطلقَ الدعوى مضادٌّ لصيغة البيع.
وإذا تَواردا على التضادّ، لم يُقبل أحدهما. وإذا ذكر عُذراً قَرُبَ قبولُ القولِ.
ثم لا خلاف أنا لا نقبل قول المدعي، بل فائدة ما ذكرناه تمكينُه من تحليف المشتري، وهذا الفصلُ اختيارُ أبي إسحاقَ المروزي.
وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من قطع القول بجواز تحليفه المشتري إذا ذكر السبب، وردَّ الوجهين إلى الإطلاق.
وهذا الآنَ فيه مزيدُ نظرٍ؛ فإنا إذا قطعنا القولَ بالتحليف، لزم أن تُسمع بيّنةُ المدعِي، فإنّ القطعَ بالتحليف يُثبت يمينَ الردَّ، ولا تثبتُ يمينُ الرد -مقطوعاً بها من غير خلاف- إلا حيث تُسمع البينةُ. وحيث ذكرنا خلافاً بنيناه على أن يمينَ الرَّدِّ كالبيِّنةِ أم هي كالإقرار. وفيه الخلافُ المقدَّم. وهذا بيّنٌ لمن تأَمَّله.
__________
(1) ساقطة من (ص).

(5/301)


فصل
فيما يجبُ الإخبارُ به في بيع المرابحة وما لا يجب
3222 - فنقول: إذا اشترى شيئاً وقبضه، ثم عاب في يدهِ عيباً يُثبتُ مثلُه الردَّ [فإذا] (1) أراد أن يبيع مرابحةً بالثمن، أو بما قام عليهِ، فيتعيَّن عليه ذكرُ ما تجدد في يدهِ من العيب، حتى لا يكون ملبّساً على مُعاملِه؛ فإن من خاصيّه هذه المعاملة تنزيلُ العقد الثاني على الأول، حالةَ ورود العقد، والمشتري يعتقد أنه حالّ محلَّ البائعِ في جميع الحقوق إلا في مزيد الربح، فوجب لذلك أن يذكر ما يجري من العيب، ولا فرق بين أن يطرأ العيبُ بآفةٍ سماويَّةٍ أو بجناية [جانٍ، أو بجنايةٍ] (2) من هذا البائع.
فأما ما لا يوجب تغيير المبيع في صفته: لا في عينه، ولا في ماليّته، فلا حاجة إلى ذكره. فلو اكتسب العبد أو أثمرت الشجرة المشتراةُ، فاز البائعُ بالزيادات المنفصلة، وكان له إجراءُ العقد بالثمن، أو بما قام عليه، من غير تعرضٍ لذكر الزوائد. ولو جنى العبد في يدهِ وفداه، ثم أراد بيعه مرابحةَ بما اشتراه أو بما قام عليه، فليس له أن يذكر مما فداه به -مطلقاًً [مع] (3) رأس المال- ذِكْرَه مؤنَ التجارة؛ فإنا ذكرنا فيما سبق أن ما لا يكون من مؤن التجارة، ولا يقتضي استنماءً واسترباحاً، فلا يجوز ضمه إلى رأس المال مطلقاًً، من غير تنصيصٍ عليه، وإذَا كنا لا نرى ضم مؤنة العلف إلى رأس المال على ظهورها، فالفداءُ الواقعُ نادراً أوْلى، وهو يناظر مؤن المعالجة إذا فُرِض مرضٌ، ولا شك أنها لا تُضم.
وما ذكرناه معناه إطلاق الضم من غير تنصيص على الجهة، فأمّا إذا قال: بعتك هذا العبد بما قام عليَّ وهو كذا، وبما فديتُه به لما جنى مُرابحةً على كذا وكذا، فهذا لا منعَ فيهِ، وهو مطَّردٌ فيما يريد البائعُ ضمَّه إلى رأس المال مع التصريح.
__________
(1) في الأصل: إذا (بدون فاء).
(2) ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: "من".

(5/302)


3223 - فأما إذا جُني على العبد وغرِمَ الجاني أرش جنايته، فسبيلُ ضبط المذهب أن أثر الجناية عيبٌ طارىء، فلا بدَّ من ذكره، فلو أراد ألا يذكر العيبَ ولا يَحطَّ الأرشَ الذي أخذهُ عن (1) الجاني، بل يذكرَ جميعَ الثمن، أو جميعَ ما قام عليه به، لم يكن له ذلك، وكان مدلّساً.
ولو جرت جناية وزال أثرُها بالكلية، ولكنا كنا نرى في وجهٍ تغريمَ الجاني شيئاً على مقابلة جنايته، فالظاهرُ في هذه الحالة أنه لا يجب عليه ذكرُ ما جرى، والمأخوذ من الجاني في حكم زيادةٍ مستفادةٍ من المبيع، والسبب فيه أن المبيعَ غيرُ مُنتقَصٍ.
ومن أصحابنا من أوجب ذكر ذلك، وهو بعيدٌ، لا أصل له.
وإذا جرينا على الأصح وقلنا: جراحُ العبدِ من قيمته، كجراح الحر من ديته، ثم جرت جناية مُوجَبها من طريق التقدير نصفُ القيمة، وما نقصت من الجنايةِ إلا ثُلثها.
فإذا باع العبدَ بما قام عليهِ، وحَط مقدارَ النقصان من القيمة، ولم يحط ما غرِمه الجاني له وراء النقصان، ففي المسألةِ وجهان، والأصح أن ذلك جائز؛ فإن الزائد على النقصان غرِمه الجاني لحقّ الدية، والمعتبر في المرابحة القضايا الماليّةُ.
ومن أصحابنا من اعتبر جملة الأرش الذي غرِمه الجاني وإن زاد على مقدار النقصان؛ طرداً للباب؛ ومصيراً إلى أن تقدير الشرع أولى بالاعتبار من تقويم المقوّمين في السوق؛ فنجعل كان الناقصَ النصفُ الذي حكم الشرعُ به.
وقد يرى الناظرُ في كتب العراق وجهين مطلقين في أنه هل يجب على البائع ذكرُ الجناية أصلاً.
وهذا غيرُ معقولٍ إلا في أرشٍ لا يقابِل تنقيصاً من القيمة، كما ذكرته [الآن] (2) في الصورتين: إحداهما - في أرش يقابل جنايةً لم يبقَ أثرُها، والأخرى - أن يكون الأرش وراء النقص مأخوذاً من تقدير الشرع (3).
__________
(1) "عن" مرادفة لـ (مِن).
(2) في الأصل: إلا.
(3) ساقطة من (هـ 2).

(5/303)


3224 - ثم تمام البيان في ذلك أنه لا يختلف الأمر بأن يبيع بما اشترى، أو بما قام في العيوب الطارئة؛ فإنا وإن كنا نتبع المسمى [ثمناً] (1)، فنشترطُ بقاءَ المثمَّن على ما كان عليه حالةَ العقد.
ثم حيث قلنا: يجب ذكرُ العيب الطارىء، فلو لم يذكره وأطلق العقدَ، فمقدار الأرش إذ لم يتعزض له، بمثابة ما لو زاد في الثمن، بأن كان اشترى بتسعين فذكر المائة.
هذا حكمُ تركِ ذكرِ العيب.
فيعود الكلام في الحط والخيار كما مضى حرفاً حرفاً.
ولو علم المشتري بطريانِ العيب، ثم اشترى بالثمن الأول. المذهبُ (2) أن العلمَ كافٍ، والبيعُ ينعقد بالثمن الأول المذكور.
ومن أصحابنا من قالَ: لا أثر للعلِم، والزيادةُ محطوطةٌ -وهي مقدار الأرش- في قولٍ، وليست محطوطةً في قول. نعم لا خيار للمشتري؛ لمكان علمه.
ولو قالَ: بعتُك بمائةٍ، وهي ما اشتريتُ به، فقبل المشتري على ما علم بكذبه، فالمذهب إجراءُ القولين في الحط، مع نفي الخيارِ. ولو قلنا: لا يُحط، فقال المشتري: خضتُ في العقد على تقدير أن يُحطَّ عني، فإن لم تحُطوا، فخيّروني، ففي الخيار خلافٌ، والمذهبُ أنه لا يثبت.
فلو اشترى عبداً وخصاه، فازدادت قيمتُه، فهذا مما يجب ذكرُه، فإنه من العيوب، وقد ذكرنا أن كل ما يُثبت الردَّ يجب ذِكرُه، فلو لم يذكُرْه، فلا حَطَّ؛ فإن الخِصاء لا يَنقُصُ شيئاً من المالية، ولكن لا أثر لما جرى إلاّ تَعْصيةُ البائع لانتسابه إلى التلبيس في معاملةٍ مبناها على الأمانة. ولا شك أن المشتري لهُ الخيار، لاطلاعهِ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) هذا جواب (لو) بدون (الفاء)، وهو سائغٌ، وقد أشرنا إلى وجهه في تعليق سابق. ويجوز هنا أن يكون الكلام مستأنفاً، والجواب مفهوم تقديره مثلاً: "فما الحكم"؟

(5/304)


على عيبٍ بما اشتراه، فليس هذا من خاصيّة المرابحةِ.
ولو اشترى عبداً بثمنٍ غالٍ وغُبنَ في ثمنه، فقد ذكر طوائف من محققينا أنه يجب ذكرُ ذلك، فيكون المشتري على بصيرةٍ من أمره.
وقد قطع شيخي وصاحبُ التقريب أن ذلك لا يجب؛ فإنه باع ما اشترى كما اشترى، ومن باع شيئاً وغَبَن مشتريَه لم يكن مدلِّساً، ولو كتم عيباً يعلمه به، كان غاشّاً مدلِّساً.
ثم الذين قالوا لا بد من ذكر الغبن، بَنَوْا عليه أنه لو اشترى من ولده الطفلِ، فيجب عليه ذكرُ ذلك، وإن كان اشترى بثمنِ المثلِ من غير مزيدٍ؛ لأن شراءه من ولده يوهم نظرَه له وتركَ النظرِ لنفسه.
وهذا خَبْط عظيم، وهو بناءٌ على وجوب ذكرِ الغبن، وقد ذكرنا أن الأصح أنه لا يجب ذكرُه، حتى قال المفرّعون على ذكر الغبن: لو اشتراه من ابنه البالغ، أو أبيه، فهل يجب ذكر ذلك؟ فيه تردُّدٌ مبنيٌّ على أن الوكيلَ بالبيع مطلقاًً هل يبيع من أبيه أو ابنه بثمن المثل؟ وفيه تردُّدٌ. والمذهب القطعُ بجواز بيع الوكيل من ابنه وأبيه بثمن المثل. ووجهُ المنعِ بعيدٌ. وهو مذهبُ أبي حنيفة (1). ثم نحن إن أبعدنا فمنعنا، حَمَلْنَا ذلكَ على تطرق التهمة، ومحاذرةِ الغبن الخفيّ. والعجبُ أن أبا حنيفة (2) جوّز البيعَ بالغبن الفاحش ومنع البيعَ من الابن (3).
وبالجُملةِ هذه التفريعاتُ في المرابحة مائلةٌ عن سَنَنِ التحقيق عندنا. والوجهُ: القطع بحسم هذه المادّةِ وإسقاطُ وجوبِ ذكرِ الغَبْن.
3225 - وممَّا أجراهُ المفرعون على ذكر الغَبْنِ أن من اشترى شيئاً بثمنٍ [آجلٍ] (4)،
__________
(1) ر. المبسوط: 4/ 124، تبيين الحقائق: 4/ 270.
(2) ر. المبسوط: 4/ 124، إيثار الإنصاف: 316، تبيين الحقائق: 4/ 271.
(3) في (هـ 2): الأب.
(4) في الأصل، (هـ 2): حالّ. والمثبت تقديرٌ منا رعايةَ للسياق، فالحال هو النقد بعينه، وانظر فتح العزيز (بهامش المجموع: 9/ 11) حيث ذكر هذه الصورة، وصرح بأنه اشترى (بدَيْن). وانظر الروضة: 3/ 531، وأما نسخة (ص)، فقد قلبت الصورة هكذا: اشترى =

(5/305)


ثم أراد بيعَه مرابحةً بنقدٍ. قيل: إن كان هذا البائع ملياً وفياً، فلا تفاوت، ولا (1) يجب ذكرُ كونِ الثمن ديناً، وإن كان هذا البائع مسوِّفاً مطوِّلاً (2)، أو مُعسراً فبالحريّ أن لا (3) يقنع [منه] (4) بثمن المثل، فهو مغبون أو يمكن ذلك فيه، فلا بد من ذكر حقيقة الحالِ.
وكل ذلك خبطٌ. نعم، إذا اشترى بثمن مؤجل ثم أراد بيعَه بمثله حالاً، فهذا تلبيسٌ؛ فإن الماليّةَ تختلف بهذا.
فإن اشترى بثمن حال، فباع بمثله مؤجَّلاً، فلا بأس به؛ فإنه لم ينقُص المشتري شيئاً، بل زاده، ولا خُلفَ أيضاًً في صيغة لفظه.
ولو اشترى عبداً بعَرْض، فليذكر قيمته حالة العقد، حتى لو ارتفعت قيمةُ ذلك الجنس بعد البيع، فلا ينبغي أن يعوّل على تلك القيمة؛ فإن المعتبر ماليّةُ العبد حالةَ العقد.
ولو اشترى عبدين، وباع أحدَهما مرابحة بحصّته من الثمن على التقسيط العدل، فهو صحيح عندنا؟ خلافاً لأبي حنيفة (5).
3226 - فإذا انضبط ما يجبُ ذكره وما لا يجب، فالعبارةُ الجامعةُ على الطريقة المرضية عندنا أنه يجب ذكر ما طرأ مما ينقص القيمةَ أو العينَ. وقال آخرون: يجب ذلك، ويجب معه التعرض للغبن إن كان، وذكرُ ما يوهم الغبنَ.
__________
= بثمن حالٍ، ثم أراد بيعه مرابحة بعقد نسيئة، قيل: إن كان هذا البائع ملياً وفياً ... إلخ. وهذا فيما أقدر تصرفٌ من الناسخ، لا يتفق مع السياق، وفحوى الصورة.
(1) في (ص): وإنما يجب.
(2) في (هـ 2): مطَّالاً.
(3) في (ص): أن يقنع.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) ر. المبسوط: 13/ 81.

(5/306)


فصل
معقود في التولية [والإشراك] (1) وبقية من حكم المرابحة.
3227 - فإذا اشترى الرجل شيئاً وقبضهُ، ثم قال لإنسانٍ: ولَّيتُك بيعَه، فقال المخاطَبُ: قبلتُ، انعقد البيعُ بلفظةِ التوليةِ، وابتنى حكمُ العقدِ المنعقدِ بها على العقد الأول.
هذا قاعدةُ المذهب.
فإذا (2) حُطّ عن المشتري البائعِ المولِّي شيءٌ (3) من الثمن، فهو محطوط عن المشترِي (4) منه. ولو حُط عنه جميعُ الثمن، فهو محطوط عن المشتري منه. وحقيقةُ التولية إحلال المولَّى محل المولّي؛ حتى كان المولِّي مرفوعٌ من البين (5).
هذا ما أطلقهُ الأئمةُ في طُرقهم.
وقالوا: لو اشترى شيئاً واستفاد منه زوائدَ منفصلةً، ثم ولّى عقدَ البيع بالتوليةِ، فتلك الزوائد تسلم للبائع المولِّي لا حق فيها للمشتري المولَّى. ولو كان المشترَى شقصاً، وفيه الشفعة، فأسقَط الشفيع حقَّه، ثم جرت التوليةُ، فالذي ذكره الأصحاب أن التوليةَ تقتضي تجديدَ الحق للشفيع (6).
فحاصل المذهب أن التوليةَ تبتني على العقد السابق في حَط البعضِ والجميع، ولا ابتناء لَها في الزوائد المتخللة، وليست على حكم الاستمرار في حكم الشُفعةِ، حتى يقال: لا تقتضي شفعةً جديدة.
__________
(1) في الأصل: الاشتراك.
(2) بيان وتصوير لابتناءِ عقدِ التوليةِ على العقد الأول.
(3) في (هـ 2): شيئاً.
(4) أي المولَّى (بفتح اللام).
(5) البين: هذه اللفظة استخدمها الإمام أكثر من مرّة في النهاية. ووردت مرة في البرهان. وهي مفهومة في ضوء السياق. وإن لم نصل إلى حقيقة اشتقاقها ومعناها.
(6) عبر عن هذا العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية قائلاً: " ... ويبنَى حكمُ العقد الثاني على الأول، في الحط دون الشفعةِ والزوائد".

(5/307)


وقال القاضي: الوجه التردد في جميع ذلك، فكأنا نقول: في وجه (1) خلفَ المولَّى المولِّي، حتى كأن الملك مستمرٌ على الأخير، فعلى هذا يلحقه الحطُّ.
والزوائدُ التي جرت قبل التولية مصروفة إليه، ولا تتجدد الشفعةُ بها، فإنها على هذا الوجه بمثابة استمرار الملك.
والوجه الثاني - أن المولَّى لا يَخلفُ المولِّي في شيء مما ذكرناه، فالزوائد للبائع، وإذا حُطّ عن البائع شيءٌ لم يُحَط عن المشتري منه بلفظ التولية، والشفعةُ تتجدد بوقوع [التولية] (2)، وهي في حكم بيع جديدٍ، إلا أن لفظ التولية يتضمن نزولَ العقد على ثمنِ العقد الأول، لا فائدة إلا هذا.
والذي ذكره -رحمهُ الله- من التردد في الحط منقاس حسن؛ فإنه لم يثبت عندنا توقيفٌ في إحلال الثاني محل الأول في الحط، وإنما يُتلقَّى ذلك من اللفظ، وليس في اللفظ ما يُشعرُ [بهذا] (3) تصريحاً.
ومِلك الشفيع مبني على مِلك المشتري، ثم الحط من المشتري لا يوجب الحطَّ من الشفيع عندنا. وهذا ابتناء شرعي، فإذا كنا لا نحط عن الشفيع ما حُط عن المشتري، فالمولَّي والمولَّى بهذا أولى.
وأما ما ذكرهُ من التردد في الزوائد فبعيدٌ لا يليق بمنصبه.
وكذلك يجب القطعُ بأن الشفعة تتجدد للضرورة إلى تقديرٍ يخالف الحقيقة (4).
وبالجملة ليس الحط في معنى الزوائد، ولا في معنى تجدد الشفعة؛ فإنه يجوز أن يقال: معنى التولية أن المولِّي يقول للمولَّى: لا أطالبك إلا بما أُطلب به.
هذا على ما فيه من الإشكال معقول، فأما تمليكه الزوائد السابقة، فبعيد، وكذلك دفعُ حق الشفيع وقد تجدد التمليك بالمعاوضة غيرُ متخيّل.
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): فكأنا في وجهٍ نقول ...
(2) ساقطة من الأصل.
(3) مزيدة من (هـ 2)، (ص).
(4) عبارة العز بن عبد السلام في مختصره: "ولا وجه لتردده (القاضي) في الزوائد .. ولا في الشفعة، لما في ذلك من التقدير المخالف للتحقيق".

(5/308)


ومما يجب التنبه له أنا إذا جرينا على ظاهر المذهب، وحططنا عن المولَّى ما يُحط عن المولَي، فينقدح على [هذا] (1) ألا يطالِب البائعُ المولَي المشتري المولَّى، حتى يطالبَ البائعُ الأولُ البائعَ الثاني.
فلينظر الناظر في ذلك، وليت شعري هل يثبت للبائع الأول مُطالبة المولَّى المشتري الأخير بناءً على الاستمرار؟ ولا ينبغي أن يُظن أن مطالبة البائع الأول تنقطع عن البائع الثاني المولَّى، فهذا منتهى القول فيما أردناه.
3228 - ومما فرعه الشيخ أبو علي على التولية أن قالَ: ليس للمشتري أن يبيع ما اشتراه قبل القبض من أجنبي، وقد اختلفَ أصحابنا في جواز بيع المبيع من البائع قبل القبض منه، فمنهم من منع، وهو القياس وظاهر المذهب. ومنهم من أجاز؛ فإن مقتضاه انقلابُ المبيع إلى من هو في يدهِ وضمانه، فإذا ثبت هذا، فلو ولى المشتري [البيع قبل قبض المبيع أجنبياً، ففي المسألة وجهان ذكرهما الشيخُ] (2) أحدهما - المنع وهو القياس. والثاني - الصحّة، ولا وجه له إلا حملُ الأمر على تقدير الاستمرار والبناء، وعلى هذا بنى القاضي عدمَ تجدد الشفعة، وأمرَ الزوائد.
ولو ولّى المشتري البائعَ البيعَ، فوجهان مرتبان على البيع منه من غير لفظ التولية، أو على التولية مع الأجنبيّ.
3229 - وهذا منتهى الكلام في التولية.
وفي معناهَا الإشراك، غيرَ أن (3 الإشراك يتضمن 3) البناءَ على العقدِ الأول في بعض المبيع، فإن جرى التصريحُ بمقدارٍ فيه نزل البيع عليه، مثل أن يقول: أشركتك في ثلث ما اشتريت، أو نصفِه. وإن أطلق الإشراك، ففي المسألة وجهان: أحدُهما - أنه محمول على النصف. والثاني - أنه مجهول لا ينعقد البيعُ به، ثم لا بد من ذكر البيع، ولا يكفي أن يقول: " أشركتك " حتى يقول: أشركتك في عقدِ هذا.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل ومن (هـ 2).
(3) ما بين القوسين ساقط من (هـ 2).

(5/309)


ثم القدر الذي ينعقد البيع عليهِ بلفظ (1) الإشراك حكمه حكم التولية في كل تفصيل قدَّمناه.
فأمّا المرابحةُ إذا جرت، ثم حُط عن البائع المرابح شيء من الثمن بعد لزوم العقد، فالذي ذهب إليه الأصحابُ أنه لا يَحُط ما حُطّ عنه عن المشتري، بخلاف التولية [والإشراك، والسبب فيه أن التولية] (2) مقتضاها حلولُ المولَّى محل المولِّي، وهذا يُشعر بمشابهته إياه في موجَب الحط، وليس في البيع بالثمن أو بما قام إشعارٌ بهذا فيما يجري في المستقبل [من حط] (3).
وذكر شيخي وجهاً آخر أن الحط يلحق المشتري مرابحة. وهذا بعيدٌ، ولست أذكره في مسموعاتي عنه، ولكني رأيتُه في تعليقة بخطه.
فإن قيل: إذا جرى الحطُّ قبل المرابحة، ثم جرت المعاملة، فما رأيكم؟ قلنا: التفريع على المذهب. والذي رأيته للشيخ لست أعتدُّ به. فليُنظر بعد ذلك إلى اللفظ، فإن قال: بعتُكَ بما اشتريتُ، فلا نظر إلى الحطِّ، والمرابحةُ تنزل على البيع الأول وثمنه، وإن قال بعد جريان الحطِّ: بعتك بما قام عليَّ، فالظاهر أن المحطوط لا يجوز ذكره.
وممّا يتعلق بهذا الفصل أنا إذا لم نحط عن المشتري مرابحةً ما حُط عن معامله بعد لزوم العقد، فهل نحط عنه ما كان حُط عنه في مجلس الخيارِ، أو في زمان الخيار؟
فعلى وجهين مشهورين، وهما يجريان في حق الشفيع مع المشتري.
وسيأتي ذلك في تفصيل إلحاق الزوائد بالعقود.
* * *
__________
(1) في (ص): عند.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ساقط من الأصل.

(5/310)


باب الرَّجُل يَبيعُ الشَّيءَ بأجَلٍ ثم يَشْتَريهِ بأقلَّ مِنَ الثَّمَنِ
3230 - إذا اشترى شيئاً وقبضه، ثم باعه من البائع بمثل ذلك الثمن، أو أقلَّ، أو أكثر، صح العقدُ عندنا، سواء جرى العقد الثاني بعد نقد الثمن الأوّل أو قبله.
وبالجُملة لا تعلُّق لأحد العقدين بالثاني خلافاً لأبي حنيفة (1)، وتفصيلُه مذكورٌ في الخِلافِ.
والمسألة مبناها بعد أثر عائشة على الذريعة.
ونحن لا نرى عقداً ذريعةً إلى عقدٍ إذا تميَّز أحد العقدينِ عن الثاني. وقد يضطرب فيهِ إذا عم العُرف بشيءٍ، فهل نجعل عمومَ العرف في حكم الشرط؟ مثل أن يعمَّ العرف بإباحة منافع الرهن، فهل نجعل الرهنَ المطلقَ مع اقتران العُرف به بمثابة ما لو شرط في الرهن إباحةَ المنافع للمرتهن؟ هذا فيهِ تردُّد للأصحابِ. وقد ذكرتُه مفصلاً في باب الربا.
* * *
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 113 مسألة 1195، طريقة الخلاف: 312 مسألة 130، المبسوط: 13/ 125.

(5/311)


بَابْ تَفْريق الصَّفقَة
3231 - جمعَ المزني أقاويلَ الشافعيّ في تفريق الصفقة في الكبير (1)، ثم طال عليه ذكرُها في المختصر، فقالَ لمن كان يُملي عليه: بيِّض موضعاً نكتب فيه شرحَ أَوْلى [قَوْليه] (2) في تفريق الصفقةِ، ثم لم يتفرغ إليه، فماتَ -رحمه اللهُ- وفي بعض النسخ ترك ورقة أو ورقتين على البياض.
وهذا الباب عظيم الوقعِ ومسائلُه كثيرةُ التولّج في الأصول. ونحن بعون الله تعالى نأتي بمسائلِ الباب على أبلغ وجه، وأقرب مسلك في الضبط، لا نغادر حكماً يتعلّقُ بالتفريق إلا نوفيه حقّه والله المستعان.
فنقول: القول في التفريق يتعلق بما يقعُ في الابتداء، وبما يقعُ في الانتهاء.
فأما تقسيم القول فيما يقع في الابتداء، فالصفقةُ لا تخلو: إما أن تشتمل على شيئين فصاعداً، يجوز تقديرُ صحةِ العقد في كل واحد.
وإما أن تشتمل على شيئين فصاعداً يجوز [تقديرُ] (3) صحةِ العقدِ في البعض منها دون البعضِ.
3232 - فأما إذا اشتملت الصفقةُ على عدَد يجوز تقديرُ الصحةِ في آحادها عند إفرادها، فالذي يتعلق بغرض الباب منها اشتمالُ العقد على مختلفين يتباين أثرُ العقد فيهما فسخاً وإجازةً وقرباً من الغرر وبعداً منه، كالصفقة تشتمل منافع وعيناً يقابلان عوضاً أو عوضين فصاعداً، ففي صحَّة الصفقة قولان: أحدُهما - وهو الأصح أنها
__________
(1) "الكبير" جمع فيه المزني أقوال الشافعي بصورة مطوّلة، ويذكر بهذا الاسم في مقابلة المختصر المشهور.
(2) في الأصل: أوليه.
(3) ساقطة من الأصل.

(5/312)


تصح؛ لأنها ما اشتملت على ما يمتنع إفرادُه بالعقدِ والصفقة متَحدة في نفسها، ولا حاجة إلى تقدير توزيع حتى يُفضي إلى جهالة، فأشبه ذلك ما لو اشترى عبداً وثوباً، وقد قدَّمنا في الربويات أن التوزيع ليس من مقتضى العقد، وإنما ينشأ للضرورة عند مسيس الحاجة.
والقول الثاني - أن الصفقةَ باطلة؛ لأن حكمَ الإجارة والبيعِ يختلف فيما يتعلّقُ بالفسخ ونقيضه (1). أما المنافع، فلا تحويها اليدُ، وتثبتُ التصرفات فيها مع تعرض العقد للانفساخ عند تقدير التلف؛ فإن من استأجر داراً وقبضَها، تصرف فيها بسبب القبض، ولو تلفت الدار في يدي المستأجر، انفسخت الإجارةُ.
والغرض مما ذكرناه أن العقد إذا اختلف وقعُه وأثره بسبب اختلاف المعقودِ عليه، فالنفوس تتشَّوف لا محالة إلى تقدير التوزيع، وإيراد العقد على قصدهِ، وليس كذلك أجناس المبيعات؛ فإن آثار العقد لا تختلف فيها، فلا تتشوَّف إلى تقدير بقاء العقد في بعضِها وانفساخِه عن بعضها. فرجع ما ذكرناهُ [إلى] تنزيل (2) العقدِ على مقتضى التوزيع، وهذا يجُرّ جهالةً؛ فإن التوزيع اجتهادٌ بعد ورود العقدِ، فهذا سبيلُ التوجيه.
3233 - ثم نذكر ما يتعلق بهذا القسم وما يخرج منه: فالجمع بين بيعِ عينٍ وسلمٍ من صُور القولين؛ فإنه يتطرق إلى السّلَم ما لا يتطرق إلى بيع العين في حكم الفسخ ونقيضه.
ولو جمع بين بيع عين وتزويجِ امرأة أو أمةٍ وقابلهما بعوضٍ ينقسم عليهما، ففي صحة البيع والصداق قولان، كما قدّمناهما، والنكاح صحيح لا شك فيه، فإن المحذور فيهِ جهالةُ العوض، وهذا غير مؤثر في النكاح، فإن أفسدنا الصفقة، لم يخف حكمُ فسادِ البيع وحكم فساد الصداق. وفي هذه الصورة الرجوعُ إلى مهر المثل، كما سيأتي شرحه في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في (ص): ويقتضيه.
(2) في الأصل، (ص) من تنزيل.

(5/313)


ومن صور القولين السلمُ في أجناسٍ إلى أجل واحد بعوض واحد، والسلم في جنس واحد إلى آجال. ووجهُ إلحاق هاتين الصورتين بصُوَر القولين أن الأجناس تختلف وجوداً وعدماً، ويختلف الحكم بحسب ذلك في بقاء العقد وانفساخه، فجرى القولان فيهما.
ومن أصحابنا من لم يُلحق هاتين الصورتين بصور القولين، وقطع القول فيهما بالصحة؛ لاتحاد العقد في حكمه وخفاءِ أثر الاختلاف، والأظهر (1) الطريقةُ الأولى.
ولو قال بعتك صاعاً من حنطةٍ ودرهماً بصاعٍ من شعيرٍ ودينارٍ، فهذا يلتحق بصور القولين لاشتمال الصفقة على التفاوت في شرط التقابض.
فإن قيل: كيف يختلف مضمون العقد فيما ذكرتم من التقابض والطعام بالطعام يُشترط فيهِ التقابض، وكذلك النقد بالنقد، ومضمون الصفقة من الجانبين طعامٌ ونقد؟ قلنا: وجه الاختلافِ أنّ الدرهم يقعُ في مقابلة شيءٍ من الطعام في الجانب الثاني، وكذلك الدينار يقع شيء منه في مقابلة شيءٍ من الطعام في الجانب الثاني، والتقابض ليس مشروطاً في بيع الطعام بالنقد؛ فمن هذا الوجه اختلف مضمونُ الصفقة في التقابض.
ولو باع ثوباً وديناراً بثوبٍ ودراهم، فالتحاقُ ذلك بصُور القولين بيّن. وإنما خُصَّ مسألةُ الطعام والنقد بالذكرِ للدقيقة التي نبهنا عليها.
فإن قيل: إذا اشتملت الصفقة على شقصٍ وسيفٍ، فحكم الصفقة مختلف؛ فإن الشفعة تتعلق بالشقص دون السيف، وهذا تباين بيّن في مورد العقدِ. قلنا: الصفقة صحيحة قولاً واحداً؛ فإن مقصود العقد في الشقص والسيف لا يختلف فيما يتعلق بالفسخ والتنفيذ، وصورة القولين تُتلقَّى من اختلافٍ يتعلق بالفسخ والإجازة، بسبب أنه، إذا قُدّر سبْقُ الفسخ إلى شيء، اعتاضَ ما يبقى في مقابلة الباقي، ورجع هذا الإشكال إلى وضع العقد. والشفيعُ إذا أخذ الشقص، فهو مقرر للعقد، وإن كان ينشأ بينه وبين المشتري توزيعٌ، فهذا لا ينعطف إلى العقد فسخاٌ في البعض وإبقاء في
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): والأشهر.

(5/314)


البعض. نعم من اشترى شقصاً مشفوعاً وسيفاً، ثم إن المشتري باعهُما، فهل يلتحق بصورة القولين؛ من جهة أن الشفيع يملك فسخ بيعهِ في الشقص ولا يملك ذلك في السيف؟ فقد اختلفت الصفقة فسخاً وإبقاءً، على الحد الذي ذكرناه، فاختلف القول.
هذا منتهى الكلام في نوع من تفريق الصفقة ابتداء.
3234 - والقسم الثاني في الابتداء أن تشتمل الصفقةُ على عدد يجوز إفرادُ بعضها بالعقد، ولا يقبل بعضُها العقدَ على الوجه الذي أورده العاقد.
وهذا القسم ينقسم قسمين: أحدهما - أن يشتمل العقدُ على ما يقبل العقدَ وعلى ما لا يقبله، ولكنه يقبل التقوُّم تحقيقاً.
والقسم الثاني - ألا يكون ما يَفسد العقدُ فيه قابلاً للتقويم.
فأما إذا كان قابلاً للتقويم تحقيقاً، فهو كما لو باع الرجل عبداً مملوكاً له، وعبداً مغصوباً عنده، أو باع عبداً وأم ولد، أو عبداً ومكاتباً.
أما المغصوب، فلا شك في تقويمهِ، والمستولدةُ متقوَّمةٌ باليد والإتلاف، والمكَاتَبُ متَقوَّمٌ بالإتلاف. فإذا جرت الصفقةُ شاملةً لفظاً لما يصح ولما لا يصح، وجرى الحكم بالفساد فيما لا يصح؛ فهل تصح الصفقةُ فيما يصح إفرادُه بالعقدِ؟ فعلى قولين هما (1) من أمهات الباب: أحدُهما - أن البيع صحيحٌ؛ من جهة أن الصفقة اشتملت على ما يصح ويفسد، فمقتضى الإنصاف حذفُ الفساد وتقريرُ العقدِ في جهة الصحة. وهذا من طريق التمثيل يُضاهي قولَ القائل: قدم زيدٌ وعمرو، وكان قدم أحدُهما دون الثاني، فلا نقضي على القول بالخُلفِ فيهما ولا بالصِّدقِ، ولكنهُ خلفٌ في محل الخلف صدقٌ في محله.
والقول الثاني - أن البيع باطل لعلتين: إحداهما - أن ما يقابِل العبدَ المملوك من الثمن مجهول عند المتعاقدين حال العقد؛ فإنه إنما يعرفُ قسطُه من الثمن بتوزيعه على القيمتين، وهذا يستدعي ضبطَ القيمتين، ولا يُتوصل إليه إلا بالاجتهاد.
__________
(1) عبارة (ص): فعلى قولين: أحدهما أن البيع من أمهات الباب من جهة ...

(5/315)


ولو قال: بعتُك عبدي هذا بما يقابله من الألف، لو وزع عليهِ، وعلى عبد فلان، فالبيع باطل إجماعاً. ومآل الأمر في بيع العبدِ المملوك والمغصوب هذا. فليكن ما تبيّن آخراً بمثابة ما لو وَرَدَ (1) العقدُ كذلك أوّلاً.
فهذا أحد المعنيين.
والمعنى الثاني - أن العقد متَّحد في نفسه، فإذا تطرق الفساد إليه، وجب أن لا ينقسم إذا لم يبن على الغلبة والسريان، وكان مما يفسده الشرط، احترازاً من العتق والطلاق وما في معناهما؛ فإن العتق لا يرتدّ بالشرط الفاسد، بل ينفذ ويلغو الشرط، بخلاف البيع.
3235 - فهذا أصلٌ.
ونحن نفرع عليه مسائلَ [في الباب] (2) فنقولَ: لو باع صاعين من حنطة متماثلين في الصفات، وكان أحدُهما مملوكاً، والثاني مغصوباً، أو باع عبداً نصفُه له ونصفه لغيره، ولم يأذن الشريك في البيع، ففي صحة البيع في المقدار المملوك للبائع قولان مرتبان على القولين في الصورة الأولى. فإن حكمنا بالصحَّة ثَمَّ، فلأن نحكم هاهُنا أوْلى. وإن حكمنا بالفسادِ ثَمّ، فهاهُنا قولان مبنيَّان على المعنيين الذين وجهنا بهما قولَ الفسادِ في الصورة الأولى. فإن قلنا: علةُ الفسادِ في تلك الصورة جهالةُ الثمن، فالبيع يصح فيما أخرناه؛ فإنه لا حاجةَ إلى تقدير التقويم وردِّ الأمر إلى الاجتهاد، بل إذا وزَّعنا، فالواجب نصفُ الثمن مثلاً على ما تقتضيه الجزئيَّة. وإن عللنا الفسادَ في تلك الصورة باتحاد الصفقةِ، وتطرق الفساد إليها، فنحكم بالفساد في العبدِ المشترك، أو الحِنطةِ المشتركةِ لتحقق الاتحاد، وتَطرُّق الفساد.
ومما يلتحق بهذه المرتبة الجمعُ بين مملوكٍ ومغصوبٍ في هبةٍ أو (3) رهنٍ. ووجهُ الالتحاقِ أنه لا عِوضَ في الهبةِ والرهن حتى يتخيلَ الفساد بجهةِ جهالة العوض.
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): أورد.
(2) زيادة من (هـ 2)، (ص).
(3) في (هـ 2)، (ص): ورهن.

(5/316)


وهذا فيه فضلُ نظر؛ فإن الدَّيْن وإن لم يكن عوضاً (1) عن الرهن، فرهن الشيء بالدَّينِ المجهول لا يصحّ على الأصح، كما سيأتي في كتاب الرهون. نعَم ما ذكرناه جارٍ في الهبَةِ، بل الهبَةُ تَقبلُ وجوهاً لا يقبلها البيع، كما سيأتي، إن شاء الله.
3236 - فينبغي أن نتخيل مراتب: أَوْلاها بالفسادِ الجمعُ بين عبدين في البيع، وحيث تمس الحاجةُ في التوزيع إلى التقويم لتبيين العوض. ويلي ذلك [في] (2) الترتيب الظاهر الجمعُ بين عبدين أحدهما مغصوب في الرهن، والفرق ما نبهنا عليهِ من خروج الديْنِ عن كونه عوضاً. ويلي الرهنَ بيعُ العبد المشترك، وبيع الحنطَةِ المشتركة المتساوية الأجزاء في الصفات. ويلي هذه الصورةَ الهبةُ؛ من حيث إنها قد تقبلُ ما لا يقبله أصلُ البيع.
ومما يدنو من هذه المرتبة نكاحُ المسلمةِ والمجوسيّة في عقدة (3) واحدة، فإذا وقع القطع بفساد نكاح المجوسية، ففي نكاح المسلمةِ قولان: أصَحُّهما - الصِّحةُ. والقول الثاني - أن النكاح يفسد في المسلمة. ورتّب الأئمة هذا على القولين في بيع العبد المملوك والمغصوب، وسلكوا السبيل المقدَّم في البناء على المعنيين بعد الترتيب.
فإن قلنا: علةُ الفساد في بيع العبدين جهالةُ العوض، فهذا لا يضر في النكاحِ، فيجب القضاءُ بالصحة. وإن قلنا: علةُ الفساد الاتحادُ وتطرّقُ الفسادِ، فهذا قد يُعتَقَد في النكاح أيضاًً.
والذي أراه أن النكاح أولى بالصحة من جميع ما وقع في هذه المرتبة، والسببُ فيه أن الصورةَ التي ذكرناها في الهبَةِ والرهنِ والبيعِ في المشترك يفسدُ العقدُ فيها بالشرائطِ المفسدةِ، والنكاح لا يُفسده الشرطُ الفاسد إذا لم يتضمن الاعتراضَ على مقصوده، فانضمام المجوسية إلى المسلمة ينبغي ألا يزيد تأثيره على شرط نكاح المجوسيَّةِ في نكاحِ المسلمة. ولو جرى ذلك، لم يفسد النكاح.
__________
(1) ساقطة من (هـ 2)، (ص).
(2) في الأصل: مع.
(3) في (ص): عقد واحد.

(5/317)


فهذا هو المنتهى في غرضِ الصحة والفسادِ، في هذه المراتب، ولا نَعدُوها إلى القسم الآخر، حتى نذكر حكم العِوض فيها.
3237 - فإذا باع الرجل عبداً مملوكاً، وعبداً مغصوباً، أو مملوكاً ومستولدة، فإن حكمنا بفساد العقد، فلا كلام. وإن حكمنا بالصحَّة فيما يقبل العقد، فالعقد يثبت فيه بجملة (1) الثمن المسمى، أم يُقَسَّط منه؟ فعلى قولين: أصحهما - أن العقد يثبت فيه بقسطٍ من الثمن، كما يقتضيه التوزيع؛ فإن صيغة العقد تقتضي مقابلةَ العبدين بالألف، فردُّ الألف إلى أحدهما مخالفةٌ لمعنى اللفظ. ويستحيل ثبوت الثمن على خلاف مقتضى اللفظ.
والقولُ الثاني - أن الثمن يثبت بكماله في مقابلة ما صح العقد فيه؛ لأن المضموم إليه ليس قابلاً للمقابلة، فليحذف من العقد، كأنه لم يذكر.
وهذا ضعيفٌ لا ثباتَ له عند القيَّاسين، ولكنه مشهور وسيظهر أثره في التفريع.
فإن قلنا: العقد يصح في المملوك بتمام الثمن، فلا شك أن المشتري بالخيارِ، فإنه بذل الألف على مقابلة عبدين ثم لم يسلّم له إلاَّ أحدهما، واستمر عليه بذلُ الألف.
وإن قلنا: لا يلزم في مقابلة العبد المملوك إلا قسطٌ من الثمن، فالخيار يثبت أيضاًً للمشتري، فإنه وإن كان لا يخسر في الماليَّة، فقد خاض في العقد على أن يسلَّم له العبدان فأخلف ظنُّه، فاقتضى ذلك ثبوتَ الخيارِ له. فإن أجاز المشتري العقدَ على مقتضاه، نُظر: فإن قلنا: إنه يجيزه بتمام الثمن، فلا خيار للبائع؟ فإنه رضي بألفٍ في مقابلة العبدين، فإذا سلَّم الألَف في مقابلة أحدهما، فلا معنى للخيار.
وإن قُلنا: يُجيز المشتري العقدَ في المملوك بقِسطه من الثمن، فهل يثبت للبائع الخيار؟ فعلى وجهين: أصحهما أنه لا خيار له؛ فإنه سُلّم له ثمنُ ما ملك عليه.
ومن أصحابنا من قال: له الخيار؛ من جهة أنه علّق استحقاقه بالألف الكامل؛ فلم يسلّم له.
__________
(1) في (هـ 2): بجهله.

(5/318)


وهذا رديء لا أصل له، وله التفات على بيع التجزي (1) إذا باع الرجل صُبرَةً بصُبرةٍ مكايلةً، حيث قال الشافعي: وللمشقَّصِ صُبرته الخيارُ.
وكل ما ذكرناهُ فيه إذا كان التوزيع يقتضي جهالةَ العوض، فأما إذا كان التوزيع لا يقتضي جهالة العوض، كالصُور المقدَّمةِ في العبد المشترك وغيره، فالمشتري بكم يجيزُ العقدَ؟ في المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: نقطع القولَ بأنه يجيز بالقسط. وإنما القولان فيه إذا كان التوزيعُ يجرُّ جهالة.
ومن أصحابنا من قال: نطرد القولين في هذه الصُّورة أيضاًً.
والفرق بين المرتبتين أن التوزيع إذا كان يَجرُّ جهالة، فقد يمكن أن يقال: سببُ الإجازة بالجميع أنا لو قسّطنا، لاقتضى التوزيعُ جهالةً، والجهالةُ مفسدةٌ للعقد، وهذا لا يتحقق حيث لا يقتضي التوزيع جهالة.
وإذا ضممنا صُورة الجهالة إلى هذه الصُورة، انتظم في غرضِنا ثلاثةُ أقوال: أحدُها - أن الإجازةَ بالبعض في جميع هذه المسائل. وهذا لا يسوغ في القياس غيرُه.
والثاني - أن الإجازة بكل الثمن في جميع المسائل.
والثالث - أنا نفصّل بين صُورةٍ يجرّ التوزيعُ فيها جهالةً، فيثبت جميعُ الثمن، وبين صورة لا يقتضي التوزيعُ فيها جهالة، فيثبت فيها بعضُ الثمن على ما يقتضيه التوزيع.
3238 - ومن تمام القول في ذلك أن من نكح مسلمةً ومجوسيّةً، فصححنا نكاح المسلمة، فالذي قطعَ به المحققون أنا لا نثبت جميعَ الصداق المسمّى في مقابلة نكاح المسلمة، ولا يُخرّج هذا القول. والسبب فيه أنا لو قلنا بهذا كنا مجحفين بالزوج على وجهٍ، لا نجد له دفعاً، من قِبلَ أنه لا يثبت للزوج حقُّ الخيار، وليس كذلك البيعُ؛ فإنا إن قُلنا: الإجازة تقعُ بجميع الثمن، فللمشتري دفعُ ذلك بأن يفسخ [العقدَ] (2).
__________
(1) في (هـ 2)، و (ص): " التحري " بالمهملة.
(2) ساقطة من الأصل.

(5/319)


وعلى هذا القياس نقول: إذا اكترى داراً سنةً، ومضت ستةُ أشهرِ من المدة وهو ينتفع فيها، ثم انهدمت الدار، وانفسخت الإجارة في بقيَّة المدَّة، وفرَّعنا على الأصح وهو أنهُ لا نجد سبيلاً إلى فسخِ الإجارة في المدّة المنقضية، عَلى ما سيأتي في القسم الآخر، إن شاء الله تعالى، وهو التفرق في أثناء العقد، فلا جرم لا نقول: جملةُ الأجرة تلزم في مقابلة ما انقضى من المدَّة؛ لأنا لو قلنا ذلك، كنا كلفناه تمامَ العِوض في مقابلة بعضِ المعوَّض، على وجهٍ لا نجد لدفعه سبيلاً.
وذكر الشيخ أبو علي في نكاح المسلمة والمجوسيّه [أو] (1) الحرة والأمَةِ في حق الناكح الحر القولين في أصل النكاحِ. ثم قال: إذا صح النكاح في محل الصحَّة، ففي المهر ثلاثةُ أقوال: أحدُها - أنه يبطل المهرُ المسمى، والرجوع إلى مهر المثل.
والثاني - أنه يجب للحرة قسطٌ من المهرِ المسمَّى، فيقسّط على مهر مثلها، ومهر مثل الأمة، أو على مهر مثل المسلمة ومهر مثل المجوسيّة.
والقول الثالث - أنه يجب للتي صح النكاحُ عليها تمامُ المسمى. وهذا لم أره إلا للشيخ أبي علي، وهو ضعيف جداً. أما الرجوع إلى مهر المثل، فله خروج، والتوزيع وإيجاب القسط ظاهر، وأما إثبات تمام المسمى، فبعيد.
ثم قال الشيخ: إذا قلنا جميعُ المهر المسمى يثبتُ في مقابلة الحُرة التي صح النكاح عليها، فلا شك أنا لا نقول: للزوج فَسْخُ النكاح، ولكن نقول: لهُ الخيار في ردَّ المسمى والرجوعِ إلى مَهْر المثل. وهذا الذي ذكرهُ لا يخلِّصُ مما ذكرناه؛ فإن مهر المثل قد يكون مثلَ المسمى، أو أكثرَ منه.
وقد نجز غرضُنا في قسم واحدِ من القسمين المتأخرين، حيث قلنا: المنضمُّ إلى ما يصح العقدُ فيه ينقسم (2) إلى ما يتقوَّم وإلى ما لا يُتقوَّمُ. وقد انتهَى القول فيما يُتقوّمُ.
3239 - فأمّا إذا كان المضمومُ إلى ما يصح العقد فيه -لو أُفرد- غيرَ متقوَّم، فهذا
__________
(1) في الأصل: والحرة.
(2) في الأصل: وينقسم (بزيادة واو).

(5/320)


ينقسم إلى ما يقبل [تقديرَ] (1) القيمةِ حكماً، من غير تقدير تغيير صفةٍ في الخلقة، وإلى ما لا يقبل التقدير إلا بفرض تغييبر في الخلقة.
فأمَّا ما لا (2) يقبل التقويم تقديراً حكماً، فهو كالحر يضم إلى العبد، فالحرُّ لا يُتقوَّمُ شرعاً. ولكن تقديره رقيقاً، وتقويمه على حسب هذا ليسَ مستحيلاً. وقد يُقدَّر في الحكوماتِ الحُرّ رقيقاً، ويُبنَى عليه مبلغُ الحكومة.
فإذا باع الرجل حراً وعبداً، ففي صحة البيع في العبد طريقان: من أصحابنا من قال: قولان، كما لو جمع بين مملوكٍ له، ومغصوب.
ومنهم من قطع بالبطلان، من جهة أن قَرِين العبدِ خارجٌ عن جنس المبيعاتِ، فكان هذا مقتضياً مزيد فَسادٍ، ولو قلنا: في صحة البيع قولان مرتبان على ما إذا باع عبداً مملوكاً، وآخر مغصوباً، لأفاد ذلك ما ذكرنا من نقل الطريقين. وهكذا كل ترتيبٍ.
فهذا فيما يقبل تقدير القيمَةِ.
فأما ما لا يقبل تقدير القيمةِ إلا بتغيير الخلقة، فهو كالخمر والخنزير والميتَة، فإذا جُمع في عقدٍ بين الخمر والخل، وبين شاة وخنزير، وبين لحم المذكّى ولحم الميتة، فكيف الترتيب فيه؟ قال الأئمةُ: هذه الصورةُ أولى بالبطلان من مسألَةِ الحرّ والعبد؛ فإن تقدير القيمة غيرُ ممكنٍ في هذه المسائل. وإن فرضنا تغير صفاتها خلقةً لم يكن ما نُقَدِّر قيمتَه هو المذكور في العقد، فظهر الحكم بالفساد، والكلام بآخره.
3240 - وهذه المسائل أصولها ملتفَّةٌ بفروعِها، حتى يجري في أثناء الكلام أخذُ الأصلِ من فرعهِ.
فنقول: أولاً من أصحابنا من يقدِّر الخمرَ خلاً، ولحم الميتة لحم مذكاة، والخنزيرَ نعجةً، أو ما يقرب على ما يقتضيه الحال.
وهذا ذكره طوائف من أصحابنا من أصحاب القفال. وهو بعيد، وإن كان ينقدح
__________
(1) في الأصل: تقديم.
(2) ساقطة من (هـ 2)، (ص).

(5/321)


القياسُ على تقدير الرق في [الحر] (1)، ثم يتطرق من طريق الاحتمال لو فُتح هذا الباب أمران: أحدهما - أن يُقدَّر الخمر عصيراً، فنكون اعتبرناه بحالة إذا كان عصيراً وكان الخمرية لم تطرأ، وهذا أمثل من تقديرها خلاً، وقد ذكرهُ بعض الأصحاب.
ومما يجري في ذلك تقدير قيمة الخمر خمراً عند من يرى للخمر قيمةً، وكذلك القولُ في الخنزير، وقد نصير إلى هذا الاعتبار في بعض مسائل الوصايا، على ما سيأتي إن شاء اللهُ عز وجل. وسنُجري مثل ذلك في فروع نكاح المشركات.
وكل ذلك خبطٌ، فإن قدَّرنا هذه التغاييرَ، فلا كلام. وإن لم نقدّرْها، فلا خروج للحكم بصحَة البيع فيما يصح إفرادُه به إلا على رأي من يُثبت العقدَ فيما يصح العقدُ فيه بتمام الثمن؛ فإن التوزيع قد يتعذّر (2).
وهذا أوان تمام البيان فيما نحن فيه.
3241 - وذهب المحققون إلى أن صحةَ البيع وفسادَه يُتلقى من أن العقدَ حيث يمكن التوزيع يجازُ في مورد صحيح (3) بتمام الثمن أو بقسطٍ منه. فإن رأينا الإجازة بالتمام، لم نبعد أن نصحح العقدَ في مسألة الخمر والخنزير والميتة، فإنا إذا كُنا لا نوزع، لم (4) يختلف الأمر بأن يكون التوزيعُ ممكناً أو غيرَ ممكن.
وإن رأينا إجازة العقد في مورده بقسطٍ من الثمنِ، فإذا تعذّرَ التقسيطُ، فلا وجه لتصحيح العقد.
وتمام القول في هذا بذكر مسألةٍ، وهي أن البائع إذا ضَمّ إلى المبيع القابلِ للعقد مجهولاً لا يُحاط به، فلا مطمع في تقدير التوزيع أصلاً، ولا خُروج للصحَّة في المعلوم إلا على إجازة العقد بتمام الثمن.
فليفهم الناظر المراتبَ.
__________
(1) في الأصل، (هـ 2): الحرية. والمثبت من (ص).
(2) في (هـ 2)، (ص): يقدّر.
(3) في (هـ 2)، (ص): في مورده الصحيح.
(4) ساقطة من (ص).

(5/322)


وهذه المراتب أولاها - فيما يتقوّم. وثانيتها - فيما يمكن تقدير القيمة فيهِ حكماً من غيرِ تغييرٍ. وثالثتُها - فيما لا يتأتى ذلك إلا بتقدير تغيير الخلقة. ورابعتُها - فيما لا يتأتى فيه التقويم أصلاً.
وهذا آخر القول في تفريق العقد من ابتدائهِ.
3242 - فأمّا إذا جرى التفريق (1) في الأثناء، فالقول ينحصر فيما يتعلق بالانفساخ من غير اختيارٍ، وفيما يتعلق بالفسخ المختار بسبب يقتضيه.
فأما القول في الانفساخ، فنقول: إذا اشترى رجل عبدين، وتلف أحدُهما قبل قبض المشتري، فالعقد ينفسخ فيهِ، وهل ينفسخ في العبد القائم الباقي؟ لم يخلُ من أحوال: إما أن يكون العبد القائمُ بعدُ في يد البائع، وإما أن يقبضه المشتري، وهو باقٍ في يده. وإما أن يقبضه المشتري ويتلفَ في يده، ثم يتلف العبد الآخر في يد البائع.
فإن كان العبد الباقي في يد البائع بعدُ، فإذا انفسخ العقدُ في الذي تلف في يده، فهل ينفسخ في الثاني؟ فعلى قولين: أحدُهما - أنه لا ينفسخ لبقائه، وسببُ انفساخِ العقد في التالفِ تلفُه وهو في ضمان البائع. وهذا المعنَى مفقود في القائم.
والقول الثاني - أن العقدَ ينفسخ فيه، حتى لا تتبعَّضَ الصفقةُ، وهي مُتَّحدة.
قال المحققون: مأخذ التفريق في [البقاء] (2) والانفساخ آخراً، هو مأخذ التفريق في الابتداء صحَّةً وفساداً. ولكن الوجه ترتيبُ الآخِر على الأول.
فإن قلنا: إذا جَمَعت الصفقةُ ما يجوز بيعُه وما لا يجوز بيعُه، فالعقدُ صحيحٌ فيما يجوز، فلأن نحكم ببقاء العقدِ فيما بقي أولى.
وإن قُلنا: يفسُد العقد ابتداء فيما يصح إفراده بالعقد؛ نظراً إلى تطرُّق الفسادِ وتغليباً له، فهل نحكم بالانفساخ في العبدِ القائمِ، فعلى قولين.
والفرق أن الصفقةَ إذا انقسمَتْ في ابتداءِ عقدها، اختَلَّ لفظُها. وإذا صحت
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): التفرّق.
(2) في الأصل: الباقي.

(5/323)


الصفقةُ، فالوجه اتباعُ البقاء والهلاك، والحكمُ باستمرار العقد على ما بقي، وانفساخِهِ فيما تلف.
فإن قلنا: العقدُ ينفسخ في العبدِ الباقي، فلا كلام، والثمن مردود على المشتري، وإن قلنا: لا ينفسخ العقدُ في العبدِ الباقي، فللمشتري الخيارُ في فسخِ العقد، فإن فسخ، عاد الكلامُ إلى ما ذكرناه في قول الانفساخ. وإن أجاز العقدَ فيجيزه في الباقي بتمام الثمن أو بقسطهِ؟ فعلى قولين: أحدُهما - وهو الصحيح الذي لا ينساغ غيرُه أنه يجيز العقدَ فيه بقسطه. والثاني - أنه يجيز العقدَ في العبد الباقي بتمام الثمن. وهذا لا اتّجاه له ولو [لا] (1) اشتهارُه في النقل، لما ذكرناه.
3243 - ثم قال الأئمة: القولان فيما ذكرناه في الآخِر مرتبان على القولين المذكورين في هذا الحكم في أول تفريق الصفقة.
فإن قُلنا: المشتري يجيز الصفقةَ فيما يصح العقدُ فيه ابتداء بقسطه من الثمن، فهذا في الانتهاء أَوْلى.
وإن قُلنا: المشتري يجيز العقد فيما يصح فيه ابتداء بتمام الثمن، ففي الدوامِ قولانِ.
والفرق أنا إن قلنا: يقف الثمن ابتداء فيما يقبل المقابلة بالثمن، فهذا فن من الكلام. فأما المصيرُ إلى أن الثمن الواقعَ في مقابلة العبدين ينصرفُ إلى مقابلة الباقي منهما، فهذا لا وجه له.
وكل ما ذكرناه فيه إذا تلف أحداً [العبدين] (2) والثاني قائم في يد البائع.
فأما إذا قبض المشتري أحدَ العبدين، وتلف الثاني في يد البائع [و] (3) انفسخ العقدُ في التالف، فهل ينفسخ في العبدِ المقبوضِ القائمِ في يد المشتري؟ فعلى قولين مرتبين على ما إذا كان العبدُ الباقي قائماً في يد البائع، وهذه الصورة الأخيرةُ أوْلى بألا ينفسخ
__________
(1) في الأصل: ولو ثبت اشتهاره.
(2) غير مقروءة بالأصل.
(3) في الأصل: انفسخ (بدون واو).

(5/324)


العقدُ فيها في العبد الباقي. والسبب فيه أن العقدَ تأكَّد في العبد المقبوض (1 بانتقال الضمانِ فيه إلى المشتري.
فأما إذا قبض المشتري أحدَهما، وتلف في يدهِ، ثم تلف العبدُ الآخرُ في يد البائع، وانفسخ العقد عليه، فهل ينفسخُ فيما قبَضَ المشتري وتلف في يده؟ فعلى قولين مبنيين على القولينِ فيه إذا كان العبد المقبوض 1) قائماً بعدُ في يد المشتري.
والفرق أن الفواتَ إذا لم يقتض انفساخاً، فإنه يبعد فيه تقديرُ الانفساخ بعده، فقد تأكَّد العقدُ بالقبض، والتلفُ في المقبوض. فاقتضى ذلكَ فيها ترتيباً.
وقالَ الأصحاب تخريجاً على هذه الصورة الأخيرة إذا اكترَى رجل داراً، وقبضها وانتفع بها ستة أشهر، ثم انهدمت الدار، فلا شك في انفساخ الإجارة في بقية المُدَّة، وهل تنفسخ في المدة الماضية؟ هذا يُخرّجُ على ما ذَكرناه في العبد المقبوض التالف في يدِ المشتري. فإن قلنا: ينفسخ العقدُ فيه، فتنفسخ الإجارةُ في المدة الماضية، وإن تلفت المنافع فيها في يد المستأجر. وإن منعنا الانفساخَ في المقبوض التالف فيمتنع الانفساخُ في المدةِ الماضية في الإجارة.
هذا تمامُ القول في التبعيض الواقع انتهاءً بطريق الانفساخ.
3244 - فأما القول في التبعيضِ المتعلق بالفسخ الاختياري فإذا اشترى رجل عبدين وقبضهما، ثم وجد بأحدهما عيباً، فهل له أن يُفرد العبدَ المعيب بالرد ويستردَّ (2) قسطه من الثمن؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - له ذلك. والثاني - لا سبيل له إلى التفريق. وهذا يقرب مما تقدم الآن.
فإن قُلنا: له ردُّ المعيب: فإذا ردَّ، استردَّ قسطاً من الثمن على ما يقتضيهِ التوزيع، لا خلاف فيه؛ إذ لو قُلنا: يسترد جميع الثمن والعبد الآخر باقٍ في يده، لكان ذلك محالاً، خارجاً عن الضبط، مفضياً إلى إثبات شيءٍ من المبيع في يد المشتري من غير أن يكون له مقابل.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (هـ 2).
(2) (ص): ويشترط بقسطه.

(5/325)


وإن قلنا: لا يرد العبدَ المعيبَ، فله ردُّهما جميعاً، لم يختلف العُلماءُ فيه؛ وذلكَ لاتحاد الصفقة.
3245 - ومن تمام التفريع: أنا إذا جوزنا له ردَّ المعيب وحدَه، فلو قال: أردّهما: المعيبَ والسليمَ، فالمذهبُ أن له ذلك.
ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يرد إلا المعيبَ منهُما على هذا القول.
وفرَّع الشيخ أبو علي، فقال: إذا قلنا: لا سبيل إلى التبعيض، فلَو قالَ المشتري: رددتُ المعيبَ، هل يكون هذا رداً لهُما؟ ذكر وجهين: أحدُهما - أنه ردٌّ لهما جميعاً. وهذا في نهايةِ الضعفِ. والثاني - وهو الذي لا يصح غيره أنه لا يكون ما جاء به رداً فيهما، ولكنه يلغو، فكأنه لم يردّ.
ومما فرَّعه حيث انتهى الكلامُ: أنا إذا منعنا التفريقَ، فلو رضي البائع بردِّ العبد وحده، وردّ قسطٍ من الثمن، فهل يصح ذلك مع رضاه؟ فعلى وجهين. وفيهما احتمالٌ على حال؛ فإن الرد على الجملةِ متعلقٌ بالاختيار (1 وليس كالانفساخ وكالحكم بفسادِ العقد ابتداءً؛ فإنه غير متعلق بالاختيار 1)، فينفذ الحكم [المنعقد] (2) ولا يؤثر الرضى بعده.
ولو اشترى الرجل عبدين وقبضهما، وعَثَر منهما جميعاً على عيب، فأراد ردَّ أحدهما دون الثاني، ففي المسألة قولان. ومنْعُ التفريق هاهنا أولى؛ بسبب ثبوت العيب الموجب للخيار في كل واحدٍ منهما.
وكل ما ذكرناه فيهِ إذا قبض العبدين، فأراد ردَّ أحدهما مع قيام الثاني.
3246 - فلو قبضهما، وتلف أحدُهما في يده، ووجد بالثاني عيباً، فهل له رده مفرداً؟ فعلى قولين مُرتَّبَيْن على القولين فيه إذا كان العبدان باقيين. وهذه الصورةُ الأخيرةُ أوْلى بجواز ردَّ أحد العبدين؛ فإن العبدين إذا كانا باقيين، أمكن ردُّهما وفسخُ
__________
(1) ما بين الفوسين سقط من (هـ 2).
(2) في الأصل، (ص): المعتقد.

(5/326)


العقد من [غير] (1) تفريق، وإذا تلفَ أحدهما فيعسُر الرد في التالف ويعذَر المشتري بأفراد العبدِ الباقي بالرد.
فإن قلنا بردِّه، فلا كلام. وإن قلنا: لا يردُّه، فلو قال: أُخرج قيمةَ العبد التالفِ، وأضمُّها إلى العبد القائم وأردُّهما وأسترد جملةَ الثمن، فهل له ذلك؟ فعلى قولين: أحدُهما - له ذلك؛ فإن فيه استدراكُه للظُّلامةِ التي لحقته، وإقامةُ القيمةِ مقام الفائت في حق المردود عليه، مع ترك تفريق الصفقة.
والقول الثاني - ليس له ذلك؛ فإن القيمة ليست موردَ العقد، وسبيل الفسخ أن يَرِدَ على ما وردَ عليهِ العقد. ولا خلاف أن من اشترى عبداً، وقبضه وتلف في يدهِ، ثم اطلع على عيب بهِ، فأراد بذلَ قيمتِه وإيرادَ الفسخ عليها، لم يكن له ذلك، فليكن الأمر كذلك في أحد العبدين.
وقد تقدم في تفصيلِ المذهب في العيب الحادث في يد المشتري مع الاطلاع على العيب القديم أنه لو أراد ضمَّ أرش العيب الحادث إلى المبيع وردَّهما، فهل يجبر البائع على قبول ذلك وردِّ الثمن. وقد قال [الأئمة] (2) ردُّ قيمةِ أحدِ العبدين مع العبد القائم أبعدُ عن الجَوازِ؛ من جهة أن العبدَ التالفَ مبيعٌ مقصودٌ، وينفسخ العقد بتلفهِ في يد البائع، فردُّ قيمةِ (3) مقصود أبعدُ من ردَّ أرش نقصانٍ لا يتأصل.
ولا خلاف أن العبدَ إذا عابَ في يد البائع، لم يُقضَ بانفساخ العقد في شيء، وليس للمشتري إلا الخيارُ في الفسخ والإجازة، كما تقدَّم.
فإن قُلنا: للمشتري ردُّ العبدِ والقيمةِ، فلا كلام. وإن قلنا: ليس له ذلك، فيرجع بأرش العيب القديمِ.
ومن تمام تفريع هذا أنه لو طلب أرشَ العيب القديم، فقال البائع: اغرم لي قيمةَ العبد التالف وارددها مع العبد القائم، فهل يجبر المشتري على هذا الحكم إن أراد استدراك الظُّلامة؟ فعلى قولين.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (هـ 2)، (ص).
(3) في (هـ 2): قيمته مقصوداً.

(5/327)


وقد أجرينا مثل هذا في أرش العيب الحادث، وذكرنا الخلاف في مُطالبة البائع المشتري، ومطالبةِ المشتري البائعَ.
وهذا آخر القول في أصول تفريق الصفقة، أتينا به على أكمل وجه وأشمله.
ونحن نرسم وراءها فروعاً.
فرع:
3247 - إذا قال: بعتُك هذين الصاعين بدرهمٍ، فقال المخاطب: اشتريت أحدهما بنصف درهم، فالبيع مردود؛ فإن الصفقة متحدة؛ فلا سبيل إلى تبعيضِها في الجوابِ. وهذا متَّفَقٌ عليهِ، وإن حكمنا بأن الفسادَ في بعض مضمون العقد لا يتَداعَى إلى فساد باقيه وإن (1) كان يصح إفرادُه بالعقدِ.
ولو زوج الرجل أمتيه من عبدٍ، فقال العبد: قبلت نكاح إحداهما، فقد قطع الشيخ أبو علي بصحة النكاح، وفرق بين النكاح والبيع، وهذا محتمل. ولو قيل: يجب تخريج ذلك على ما قدمناه في أحكام التفريق من أن الرجل إذا نكح مسلمةً ومجوسيةً في عقد واحدٍ، فهل يخرج فسادُ نكاح المسلمة على تفريق الصفقة أم يقطع بصحة النكاح فيها؟ لكان حسناً. فإن أفسدنا النكاحَ في المسلمةِ بسبب التفريق، وجب القطع بأن تفريقَ القبولِ يمنع صحةَ النكاح. وإن صححنا النكاح في المسلمة، وفرقنا بين النكاح (2) وبين البيع في الترتيبات المقدمة، لم يبعد على ذلك الحكمُ بصحة النكاح في الصورة التي ذكرناها.
فرع:
3248 - إذا اشترى عشرين درهماً بدينارٍ، وأقبض الدينارَ، وقبض من الدراهم تِسعةَ عشرَ، وتفرقا قبل قبض الدرهم، انفسخ العقد في الدرهم، وما يقابله من الدينار. وهل ينفسخ في الباقي؟ فعَلى قولين، كما تمهَّد في أصول التفريق. فإن قلنا: لا ينفسخ في الباقي، فهل يثبت الخيارُ للمشتري الذي (3) لم يقبض تمام حقه؟ فعلى أوجهٍ: أحدُها - له الخيار؛ طرداً لقاعدة الخيار عند تبغض مقصودِ [العقد] (4).
__________
(1) في (هـ 2): إن (بدون واو).
(2) في الأصل: بين النكاح في البيع والترتيبات.
(3) في (ص): إذا لم يقبض.
(4) ساقطة من الأصل.

(5/328)


والثاني - لا خيار له؛ فإنه هو الذي سعى في هذا التبعيضِ. والمسألةُ مفروضة فيه إذا تفرقا عن اختيارٍ.
والوجه الثالث - أنهما إن علما أن العقد ينفسخ في الباقي، وتفرقا على قصدٍ، فلا خيار فيما [جرى] (1) التقابض فيه. وإن لم يعلما ذلكَ، ثبت الخيار للمشتري.
فرع:
3249 - إذا نكح امرأتين وأصدقهما عبداً، وقُلنا يصح الصداقُ مُوزَّعاً على مهريهما، على ما سيأتي تمهيدُ هذا الأصل في الصداق. فلو بان فساد نكاحِ إحداهما، وارتد ما ثبت في العبد صداقاً [لها، وثبت قسط] (2) من العبد صداقاً للتي صحّ نكاحُها، قال الشيخُ (3): للزوج الخيارُ في حق هذه التي صح نكاحُها في رَدّ المسمى صداقاً لها، والرجوعُ إلى مهر المثل. والسبب فيه أن العقدَ تبعّض عليه لمَّا بان فسادُ نكاح إحداهما. والتبعيض عيبٌ، فليتخير لذلك.
هكذا. قال: وقد عرضتُ (4) هذا على الشيخ يعني القفالَ، فرآه صواباً ورضيه.
وهذا مشكِل عندي، فإن التبعيض لم يأت من قِبل هذه التي صح نكاحها، فاسترجاع ما صح صداقاً لها بعيدٌ، ولا يبعد أن ينتسب الزوج في هذا إلى قلّة التحفظ، وتركِ البحث عن حال التي فسدَ نكاحها.
فرع:
3250 - ذكرنا اختلافَ القول فيه إذا اشترى الرجل عبدين فأرادَ رَدّ أحدِهما بالعيب، فلو اشترى عبداً فوجد به عيباً، فأرادَ رَدَّ نصفه، فالذي قطع به الأصحاب امتناعُ ذلك؛ من جهة أن التبعيضَ عيبٌ، فلو أثبتنا له ردَّ نصفِه، لكان قابضاً بعيبٍ رادّاً بعيبين. وقال الشيخُ رأيت لبعض أصحابنا أن المسألة تخرج على قولين فيها. وقد رأيتُ هذا لصاحب التقريب.
وهو خطأ عندي غيرُ معتد به.
__________
(1) في الأصل: يجري.
(2) في الأصل: " ... لها وثبت قسطاً".
(3) الشيخ: يعني والده.
(4) قال: وقد عرضتُ ... إلخ القائل والده.

(5/329)


والذي ذكره الأئمّةُ أنه لو اشترى عبداً، وباع نصفه، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ به، فأراد ردَّ النصفِ الثاني مع ضمه أرشَ عيب التبعيض، فهو يندرج تحت التفاصيل المقدَّمةِ في العيب القديم والعيب الحادث.
فرع:
3251 - إذا باع عبداً وحُرّاً (1) من إنسانٍ، وكان المشتري جاهلاً بحقيقة الحال، فالمسألةُ على قولي تفريق الصفقة، ولا يتغيّر الأمر بعلم البائع.
ولو كانا عالمين بحقيقة الحَالِ، فقد كان شيخي الإمام يقول: الوجه: القطع بالبطلان، وتنزل المسألة (2) منزلة ما لو قال الرجل لمن يخاطبه: بعتُك عبدي هذا بما يخُصّه من ألفٍ لو وزع عليه وعلى قيمة فلان.
وهذا عندي غيرُ سديدٍ. والوجه طردُ القولين في الأصلِ. نعم، يجوز أن يتخيل في صورة العِلم اتجاه قولنا في [وقوع] (3) كل الثمن في مقابلة العبدِ، على أنه خيالٌ أيضاًً؛ فإن تيك المسائل بتفريعاتها مدار على مقتضى الألفاظ. نعم، إن كنا نقول: العقد يُجاز في العبدِ بقسطٍ من الثمن، فلا وجه لاثبات الخيارِ للمشتري؛ فإن العلم بحقيقة الحال ينافي ثبوتَ الخيار.
فرع:
3252 - إذا قبض المشتري العبدين، وتلف أحدُهما، وجعلنا له أن يردَّ العبد القائم وقيمةَ التالف، فلو اختلف البائع والمشتري في مقدار قيمة العبد التالف، فالقولُ قولُ المشتري باتفاق الأصحاب؛ فإنه الغارم، وإذا تنازع الغارم والمغروم له، فالرجوعُ إلى [قول] (4) الغارم؛ لأن الأصل براءةُ ذمَّتهِ.
وكذلك لو باع رجل ثوباً بعبد وجرى التقابضُ، ثم تلف العبدُ في يد قابضهِ، ووجد قابضُ الثوب عيباً بما قبضَه، فإنه يردُّه، وإن كان عِوضه تالفاً؛ فإن الاعتبارَ بوجود المردود، ولو تلف أحدُ العوضين في يد قابضه ومقابلُه باقٍ، فأراد من تلف في
__________
(1) في (ص): أو جزءاً.
(2) في (هـ 2)، (ص): وتنزيل العقد.
(3) في الأصل، (ص): وقوف.
(4) ساقطة من الأصل.

(5/330)


يده ما قبضه أن يغرَم قيمتَه ويردها بناء على وجود المقابل، لم يكن له ذلك، فالتعويل في ثبوت الرد ونفيه على وجود المردود وعدمه. فإذا كان موجوداً فيردّه. وإن كان مقابله تالفاً، فإنه يسترد قيمتَه.
ولو اختلفا في مقدار القيمة، فالقول قولُ غارمِ القيمة؛ بناء على الأصل الذي قدمناه.
ولو مات أحد العبدين في يدِ المشتري، وقلنا: له أن يردَّ العبدَ القائم من [غيرِ] (1) قيمة التالف ويستردَّ قسطاً من الثمن، وكان لا يتأتى الرجوعُ إلى قسطِ الثمنِ إلا بتوزيعهِ على قيمةِ القائم، وقيمةِ التالف، فاختلفا في قيمة التالف، فالقول قول من؟
فعلى قولين: أحدُهما - أن القول قولُ البائع؛ فإنه يسترد منه شيء من الثمن قد تقدَّم استحقاقه فيه، فعلى المشتري أن يبيّن استحقاقَ الاسترداد.
والقول الثاني - أن القول قولُ المشتري؛ فإن البائع يدَّعي استقرارَ ملكه على مقدار، فلا يقبل قولُه مع بدوّ العيب القديمِ. وهذا فيه احتمالٌ على حال. ولعل الأصح الرجوعُ إلى قول البائع ويمينه.
فإن قيل: أطلقتم القيمةَ ولم تذكرُوا تفصيلَها، وأنها تُعتبر بأي وقتٍ؛ قُلنا: هذا سَيُذكَر في باب التحالف. ولعلنا نذكر فيه ما يتعلق بأطراف هذا الفَصل إن شاء الله عز وجل.
* * *
__________
(1) ساقطة من الأصل، (ص).

(5/331)


بَابُ اخْتلاَفِ المُتَبايِعَيْنِ
قواعد الباب يجمعُها فصول، ونحن نذكرُها على ترتيبها، ثم نتعرض لما يشذُّ منها
الفصل الأول
في الاختلاف ومعناه
3253 - فليعتقد المنتهي إلى الباب أن المتبايعين إذا اختلفا في صفةِ العقدِ على ما سنصف اختلافَهما، فإنهما يتحالفانِ، ثم يفسخ العقد بينهما أو ينفسخ.
والذي يقتضيه الترتيبُ وصفُ اختلافِهما، ثم وصفُ أيمانهما، ثم بيان الحكم إذا تحالفَا.
3254 - فأمَّا الاختلاف؛ فإن اتفقا على المبيع، واختلفا في مقدار الثمن، فقالَ البائع: بعتُه بألف. وقال المشتري بل بخمسمائةٍ، أو اختلفا في جنس الثمن، فذكر أحدُهما الدراهم، وذكر الآخر الدنانير، فالاختلاف على هذه الوجوه يتضمن التحالف.
وكذلك لو اتفقا على المبيع، كما ذكرناه، واختلفا في عين الثمن، فقال البائع: بعتك داري هذه بهذا الثوب، وقال المشتري: بل بعتنيها بهذا العبد، فهذا يتضمن التحالف.
ولو قال البائع: بعتك داري هذه بعبدك هذا. و (1) قال صاحبه: بعتَني بستانَك هذا بثوبي [هذا] (2)، فما اجتمعَا على ثمنٍ ولا مُثمّنٍ، فليسَ [هذا] (3) من مقصود
__________
(1) في (هـ 2): أو.
(2) زيادة من (هـ 2)، (ص).
(3) مزيدة من (هـ 2)، (ص).

(5/332)


الباب؛ فإن غرض الباب يستدعي اتحادَ العقد واختلافَهما في الصفة، حتى إذا فرض التحالف ابتنى عليهِ التفاسخ في العقد الواحد بينهما، وإذا ذَكر أحدُهما ثمناً ومثمناً مُعيَّنين، وذكر الآخر ثمناً ومثمناً آخرين، فقولاهما راجعان إلى عقدين، فالوجه فيهِ أن يدعي كل واحدٍ العقدَ الذي يذكرُه وصاحبُه إذا استمرَّ على نفيه، فالبينةُ على المدعي، واليمين على من أنكر.
وكذلك لو ادّعَى مالك الدار أنه باعها بألفٍ من زيد، فقال زيد: بل وهبتنيها، فليس هذا من الباب؛ فإنهما تَدَاعَيا عقدين، فكل واحد منهما منكر لما يدعي صاحبُه.
ولو اختلفا في عين المبيع واتفقا في عَين الثمن، وكان الثمن مُعَيّناً، فهذا موضع التخالف المقصود في الباب؛ فإنهما اتفقَا على أحد العوضين وارتبط العقد به، ورجع الاختلاف بعده إلى تفصيل العقد. وبمثله لو اختلفا في عين المبيع، وذكرا ثمناً في الذمة لم يختلفا فيه مقداراً وجنساً. مثل أن يقول أحدُهما: بعتُك عبدي هذا بألفٍ، ويقول المشتري: بل بعتني جاريتكَ هذه بألف. فكيف السبيل والاختلاف كذلك؟ ذكر العراقيون أن هذا من باب التَّداعِي في عقدين، فإن المبيع مختلَفٌ فيه، والثمن ليس بمتعيَّن حتى يعتقد مرتَبطاً للعقد.
فالطريق على مذهبهم فصلُ الخصومةِ عن الخصومةِ، فبينهما عقدان يتداعيانهما كما تقدَّم نظائر هذا.
وفي طُرق المراوزة ما يدل أن التحالف يجري في هذا؛ فإنَّ الألْفَ متفقٌ عليه.
والكلام في جهة ثبوته والعِوضُ الثابت ديناً مملوك، كالعوض المسمى عيناً.
وللعراقيين أن يقولوا: الألف الذي يدَّعيه أحدُهما غيرُ الألف الذي يعترف به الثاني، ويتصور التزام ألفين من جهتين، [فالتعيين] (1) لا يتحقق في الألف، وليس كالعين يتعين ملكاً.
وهذا الذي ذكَرُوه مع ما ذكرهُ المراوزة بلتفت على أصلٍ سيأتي في الدعاوى، وهو
__________
(1) في الأصل: " لتعيّن ".

(5/333)


أن رجلاً لو اعترفَ بألف لإنسان عن جهةِ ضمان، وأنكر المقَرُّ لهُ الضمانَ، وادَّعى عليه ألفاً عن جهةٍ أخرى أنكرها (1) المقِر، ففي وجوب الألف على المقر خلافٌ مشهورٌ.
ولو اعترف رجل بالملكِ في عَينٍ لإنسانِ عن جهةِ، فأنكر المقَرّ له تلكَ الجهة، وادَّعى الملكَ بجهةٍ أخرى، فلا خلاف في وجوب تسليم العين إلى المقرّ له.
فهذا مضطرب للفريقين. والمسألةُ محتملةٌ، ويظهر فائدةُ ما ذكرناه في الفسخ.
فإن اعتقدنا الألف في حكم العين المتَّحدة، فإذا جرى التحالف، فسخنا العقدَ، وقد نقول ينفذ الفسخُ باطناً، كما سيأتي شرحه، إن شاء اللهُ. فيثبت ما بينهما. وإن لم نر هذا تَحالُفاً في مقصود الباب، فتُفصلُ الخصومتان بطريق فَصلِهما، ولا فسخ ولا انفساخَ، والمبطل منهما في علم الله مطالبٌ بما عليهِ، طرداً لقياس الخصومات.
3255 - وممَّا يتعلق بصفة الاختلافِ أن الزوائد التي تثبت بالشرط (2) إذا فرض النزاع فيها، فالحكمُ التحالف عندنا، مثل أن يدعي البائع شرطَ الرَّهن أو الكفيل، أو شرط البراءة إذا رأينا صحتَه، أو يدعي المشتري شرطَ الأجل في الثمن، أو شرطَ الكتابة وغيرِها في العبد المشترى، فإذا جرى الدعوى والإنكار، فحكم الحال التحالف عندنا، ثم الفسخُ أو الانفساخ بمثابةِ الاختلاف في الثمن والمثمن.
وأبو حنيفة (3) لا يثبت التحالف إلا عند فرضِ الاختلاف في الثمن أو المثمن. فإذا صار إلى أن الأصل عدمُ الشرائط المدّعاة، فليكن القولُ قولَ نافيها مع يمينهِ. قلنا: لا ننكر أن هذا قياس جَليٌّ في وضعه، ولكن هذه الشرائط بمثابة مزيد الثمن إذا ادّعاه البائع على المشتري؛ فإن الأصل عدمُ التزامه وبَراءةُ ذمّةِ المشتري عنه، ثم جرى التحالفُ فيه مع قيام السلعة وفاقاً. فإن كان التعويل على الخبر، فذكر الاختلاف في الخبر مطلقٌ لا تعرض فيه للثمن والمثمن. وإن كنا نتكلف تقريب القول من جهةِ
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): وأنكر.
(2) في (هـ 2)، (ص): بالشروط.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 82، تبيين الحقائق: 4/ 306.

(5/334)


المعنى، فنقول: العقد متفق عليه، والمتعاقدان مختلفان في صفته، فكل واحدٍ منهما يدّعي صفةً وينكر صفةً، وهذا متحقق [والتداعي في الشرائط يحققه] (1) والتداعي في زيادةِ الثمن والمثمن.
3256 - ومما خالف أبو حنيفة رحمه الله فيه الأجلُ، مع العلم بأن التداعي فيه تداعٍ في المالية؛ فإن الألف المؤجل دون الألف الحالّ.
ولو اختلف المتعاقدان، فادعى أحدُهما جريانَ شرطٍ مفسدٍ للعقد، وأنكر الثاني، فاختلف أصحابنا: فمنهم من قالَ: القول قول من ينفي الشرطَ؛ لأن الأصل عدمه، ومنهم من قال: القول قول من يثبته؛ فإن [في] (2) إثباته نفيَ العقدِ.
وبالجملة ليست هذه الصورة من صور التحالف لما ذكرنا الآن من أن التحالف يترتب على الاختلاف في صفةِ العقدِ، مع الاعتراف بأصلهِ، والنزاع في الصورة (3) التي نحن فيها راجع إلى أصل العقد؛ فإن أحدهما يدَّعيه، والثاني ينفيه.
وهذا الاختلاف قريبُ المأخذ من مسألة في الأقارير: وهي أن الرجل إذا أقرَّ بألفٍ من ثمن خمرٍ، فهل نلزمهُ الألف تعلُّقاً بصَدَرِ (4) الإقرار، أم نقول: الكلام بآخرِه، وليس في منتهاه ما يوجب ثبوتَ الألف.
3257 - وذكر القاضي مسألةً، ونحن ننقل جوابَه فيها أولاً، ونذكر وجهَ الرأي: وهو أن البائع لو قال: بعتُك هذا العبدَ بهذَا الثوبِ، وثوبٍ آخر تلف في يدك. وقال المشتري بل اشتريتُه بهذا الثوب لا غير. قال القاضي: هذا يبتني على تفريق الصفقة في الانتهاء، وما يقابل القائمَ من الثمن. فإن قلنا: ينفسخ العقد في القائم أيضاً، فليس يدّعي البائع عقداً في الحال. وإن قلنا: جميع العِوَض يقف في مقابلةِ القائم، فلا معنى للتحالف أيضاً؛ لأن البائع يلزمُه تسليم العبد على هذا القول، فلا يستفيد
__________
(1) مزيدة من (هـ 2)، (ص). والضمير في قوله: "يحققه" يعود على العقد.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في (هـ 2)، (ص): الصفة.
(4) " صَدَر ": أي صدور، كما أشرنا قبلاً، أكثر من مرة.

(5/335)


بما ذكره شيئاً. وإن قلنا: القائم الباقي يقابله قسطٌ من الثمن، فهذا يُفضي إلى الخلاف في القدر المستحق من العبد، فيترتب عليه التحالف حينئذٍ؛ [فإنه] (1) تنازع في مقدار الثمن أوّلاً، مقتضاه دوام النزاع في مقدار البدل آخراً.
وهذا الذي ذكرهُ حسنٌ سديد في أطرافه. ولكن يتطرق الكلام إلى شيء منه: وهو أنا إذا قلنا: البدل في مقابلة الباقي القائم، فهذه الحالةُ لو جرت، تضمّنت خيار البائع، والمشتري ينكره، فقد أدَّى التنازعُ إلى تناكُرٍ في الخيار، وهو مستند إلى نزاع في المعقود عليه. وإذا ظهرت فائدة وقد استند النزاع إلى صفة العقد في الأصل، اتَّجه التحالفُ؛ فإنهما لو تنازعا في شرط الخيار، [تحالفا مع كون الخيار] (2) زائداً مائلاً عن مقصود العقد، فما الظن بخيار يقتضيه النزاع في أصل المقصودِ.
هذا منتهى نظرِنا الآن. والرأي بعد ذلك مشتركٌ بين الفقهاء.
وقد نجز بما ذكرناه القولُ في صفة الاختلاف الذي يبتني عليه التحالف.
ونحن نقول بعد ذلك:
3258 - الاختلاف في العقود المشتملة على الأعواض يتضمن التحالف، فلا اختصاصَ لما ذكرنا بالبيع، فإذا تنازعَ المتكاريان تحالفا، وكذلك المتصالحان والمتكاتبان، وكذلك إذا اختلف الزوج والزوجة في الصداق، تحالفا، ثم يتأثر بتحالفهما الصداق، كما سيأتي في كتابه - إن شاء اللهُ.
وكذلك التحالف جارٍ في [المساقاة] (3)، ومعاملة القراض. والجامع له أن التحالف يجري في كل عقد يشتمل على عوض.
ثم العقود تنقسم: فمنها ما يؤثِّر الفسخ في رفعها، ومنها ما لا يرتفع مقصودُها، ويرجع التأثر إلى العوض، [كالصداق] (4)، والخلع، والمصالحة عن الدم، وعقد
__________
(1) في الأصل: فإنا.
(2) زيادة من (هـ)، (ص).
(3) في الأصل: المسافة.
(4) في الأصل: فالصداق.

(5/336)


العتاقة. وليست الكتابة كذلك؛ فإن العتق لا يتأكد فيها إلا بعد وقوع العتق.
فإن قيل: أي معنىً للتحالف (1) في القِراض، وهو عقد جائز في (2) الجانبين يتمكن كل واحدٍ من المتعاقدَيْن من فسخه؟ قلنا: هذا غفلةٌ عن مقصود الباب؛ فإن التحالف لم يوضع في الباب للفسخ، ولكن الأَيْمان تُعرض على رجاء أن ينكفّ عنها الكاذب، ويستقل العقد بيمين الصادق. والتفاسخ أمرٌ ضروري رآه الشرع بعد جريان التحالف.
ولا شك في جريان التحالف في الكتابة، وإن كانت جائزة من جهةِ المكاتَب.
3259 - ونقل بعض من يوثق به عن القاضِي أن التحالف في البيع لا يجري في زمان الخيارِ ومكانه؛ لأن كل واحدٍ منهما في الفسخ بالخيار، فلا حاجة بهما إلى التحالف في ثبوت الفسخ.
وهذا غير سديدٍ؛ [لما] (3) ذكرته من أن التحالف ليس موضوعاً للتفاسخ. وقد صرح القاضي بثبوت التحالف في القراض مع جوازه، ونصَّ الشافعي في الكتابة على التحالف، مع جواز العقد في جانب المكاتَب.
والذي يتأتى به توجيه كلام القاضي أن توجيه الطلب مع الجواز بعيدٌ، فلو طولب باليمين، وما فيه اليمينُ في أصله ليس [بلازمٍ] (4)، لكان بعيداً. ولو جاز هذا، لجاز أن يقال: يطالب المشتري بالثمن في زمان الخيارِ، ويُحبس فيه، ويقال له: إن أردت الخلاص، فافسخ، وهذا لا قائل به. ويلزم على مساق كلام القاضي أن يقال: من ادعى على إنسانٍ بيعاً بشرط الخيارِ له، فلا يتوجه اليمينُ على المدعَى عليه توجُّهاً محققاً. ولا يلزم على هذا مطالبةُ السيّد مكاتَبَه بالنجم؛ فإنه يستفيد به فسخَ عقدِ الكتابة إذا امتنع المكاتَب، فعاقبةُ مطالبته رفعُ حقٌ واجبٍ.
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): في التحالف.
(2) في (هـ 2)، (ص): من.
(3) في الأصل: بما.
(4) ساقطة من الأصل.

(5/337)


والوجه عندي في زمان الخيار أن القاضي لا يلزمهما أن يتحالفا، لو ادَّعَيا ورأيا أن يتحالفا، عَرَض الأيمانَ عليهما، ونظرنا إلى ما يكون من أمرهما.
وهذا مشكل أيضاًً؛ فلا عهد لنا بيمين يتخيَّر المرءُ فيها. فهذا منتهى الأمر.
وقصاراهُ موافقةُ القاضي.
ولستُ أخلي هذا الكتابَ عن طريق المباحثة -مع التمكن من الاقتصار على نتيجة- حتى يتدرَّب الناظر في مسالك البحث.
ثم الذي يقتضيه مساق هذا الأمر أن تحالف [المتعاملَيْن] (1) في القِراض قبل الخوض في شيءٍ من العمل لا معنى له. ويعن فيه شيء آخر، هو أن نجعل نفس التناكر تفاسخاً. وستأتي نظائر ذلك؛ فإن الشافعي نص على أن دعوى الرجعة من الزوج في مدَّة الرجعة رجعة، وهذا كلام يطول. وسيأتي في موضعه، إن شاء الله.
نعم إذا عمل المقارض، فيعود النزاع إلى مقصود [الأخير في دفعه من أجرِ] (2) مثل أو ربح.
فهذا غايةُ القول في ذلك.
ثم نختتم الفصلَ ونقولُ: جريانُ التحالف في البيع لا يتوقف على قيام المبيع، بل يجري بعد تلفه، فإن معتمدَهُ العقد، والعقد لا يزول بتلف المبيع في يد المشتري، والخلاف مشهور مع أبي حنيفة (3) رحمه الله.
وكما لا يتوقف التحالف على بقاء المبيع، لا يتوقف على بقاء المتعاقدَيْن، فلو ماتا، أو مات أحدُهما، خلف الوارثُ المورُوثَ، وجرى التحالفُ. والتعويل على ما ذكرناه من بقاء العقد؛ فإنه باقي في حقوق الورثة.
__________
(1) في الأصل: للعاملين.
(2) في الأصل، و (هـ 2): لا خير في دفعه من أجر ...
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 126، مسألة رقم 1203.

(5/338)


الفصل الآخر
في كيفية التحالف
3260 - والذي نرى تقديمَه أن تحالفَ المتعاقدَيْن لا يهتدي إليه القياسُ الجلي على الاستقلال في بعض الصور، وقد يجري بعضَ الجريان في بعضِها.
فإن كان المبيع متفقاً عليه، ومقدار الثمن متنازعاً فيه، فقد يظهر أن ملك المبيع لا نزاع فيه، وكذلك المُتَّفقُ من قدر الثمن، والزائد على ذلك يدّعيه البائع وينفيه المشتري، والأصل براءةُ ذمّته عنه. هذا وجه.
ومعتمد (1) الباب إما الخبر على ما قررناه في الخلافِ، وإما مصلحة ناجزة حاقَّة خصيصَةٌ بالباب، هي أولى بالاعتبارِ من الأمر الكلِّي، وهي أن المتعاقدَيْن يعم اختلافُهما، وكل واحدٍ منهما جالبٌ باذلٌ، فلو خصَصنا بالتصديق أحدهما، جرَّ ذلك عُسراً عظيماً، فرعاية مصلحة العقد أولى من النظر إلى عموم القول في براءة الذمَّة.
فإن فرضت بيّنة، فهي متبعة، وإن تعارضت بيّنتان، لم يخفَ حكمُ التَّهاتر (2) والاستعمال. وإن لم تكن بيّنةٌ، فلا وجه إلا التسوية بين المتعاقدَيْن فيما يعم وقوعه.
فهذا أصل الباب.
3261 - ثم الكلام يتعلق بأمرين: أحدهما - فيمن يُبدأ به من المتعاقدين، والآخرُ في عدد اليمين وصيغتِها.
فأما الكلام في البداية، فظاهر نصوص الشافعي أن البدايةَ بالبائع، ومن ينزل منزلتَه في العقود، ونص في البيع نفسِه أن البداية بالبائع. وقالَ في السلم: البدايةُ بالمسلم إليه. وهو في مقام البائع.
ونص في الكتابة أن البداية بالسيِّد، وهو في التقدير في رتبة البائع.
ونصُّه في النكاح يخالف هذه النصوص؛ فإنه قال (3): البدايةُ بالزوج. وهو في
__________
(1) في (ص): وجه معتمد ....
(2) التهاتُر: تساقط البينات وبطلانها. يقال: تهاترت البينات إذا تساقطت وبطلت (مصباح).
(3) في الأصل: في البداية.

(5/339)


التقدير في منزلة المشتري إذا أُضيف إلى المقصود بالعقد، وهو استحقاق حِل البُضعِ، فنظر الأصحاب في النصوص، فرأوها مخالفة لما نص عليه في النكاح، واختلفوا على طرقٍ، فذهب بعضهم إلى إجراء القولين، وضربَ النصوصَ بعضَها ببعض. فينتظم في كل مسألةٍ ذكرناها قولان: أحدُهما - أن البداية بالبائع؛ فإن قولَه يدور على مقصود العقد، وهو المبيع، والشرع يَعتَني بإثباتِ العقدِ إذا ثبت أصلُه، فهذا يقتضي تقديمَ من يتلقَّى مقصودَ العقد من جهتِه.
والقول الثاني - أن البداية بالمشتري وبمن يحل محلَّه؛ فإن القياس الكلي يقتضي تصديقَ المشتري؛ من جهة أن البائعَ معترفٌ له بالملك في المبيع، لكنَّه يدعي عليهِ مزيداً، وهو يُنكره، فالقياس أن القولَ قولُ المشتري؛ فإن الأصل بَراءةُ ذمّتِه عن المزيد الذي ادُّعي عليه، فلئن لم نكتف بقوله، فلا أقل من البداية به.
ثم ما طرَدْناه في البائع يجري في كل من يحل محلَّهُ وهو المسلَمُ إليه في السلم، والمكري في الإجارة، والسيد في الكتابة، والزوجة في النكاحِ. وما أطلقنَاهُ في المشتري يجري في كل من يحل محله في العقود التي ذكرناها.
3262 - ومن أصحابنا من أجرى النصوص على حقائقها في محالّها؛ فقال: البدايةُ بالبائع والمسلَمِ إليه والمكري والسيّد في الكتابة، والبداية بالزوج، وإن كان في مقام المشتري إذا أضيف إلى مقصود النكاح.
والسبب في ذلك كُلِّه تقديمُ من يقوى جنبتُه في المسائل. والزوجُ في مقام الاختلاف أقوى؛ من جهة أن مقصودَ العقد يبقى عليه، وإن بلغ التحالف منتهاه؛ فإن النكاح لا ينفسخ، ولا يُفسخ، وهو مقصودُه، فكان جانبه أقوى لذلك. وجانب البائع ومن يحل محله (1 في المسائل أقوى؛ من جهة أن مقصود العقد ينقلب إليه في نهاية التحالف 1) [فكان جانبه أقوى، والمستحق على الزوجة لا ينقلب إليها في نهاية التحالف] (2).
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ص). كما أن فيها تكراراً لعدة أسطر بسبب رجع بصر الناسخ.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(5/340)


والوجه عندي في تقرير هذه الطريقَةِ أن النكاح في وضع الشرع في حكم المستثنى عن مضطرب الاختلاف، حتى كأنّ الصداقَ ليس في حكم الأعواض المقابلة، وإنما هو مُتعة معجلة للمرأة من جانب الزوج. وهذا المعنَى هو الذي أوجب للزوج [الحكمَ] (1) ببقاء النكاح في نهاية التحالف، فكأنَّ الاختلافَ منحصرٌ (2) في الصداق، فالزوج إذاً هو الذي يُتلقى ملكُ عين الصداق منه، كما أن البائعَ يتلقى ملك المبيع منه، فهذا هو الذي اقتضى البدايةَ بالزوج في الصداق.
3263 - وذكر صاحبُ التقريب طريقين سوى ما ذكرناهما: إحداهما - أن القاضي يبدأ بمن شاء، فلا احتكام عليهِ، والأمر في ذلك مفوّض إليه. وهذا القائل يحمل نصوصَ الشافعيّ على حكم الوفاق في إجراء الكلام، فإنه إذا لم يكن من البداية بأحدِهما بُدُّ، فقد يتفق للخائضِ في الكلام أن يستفتحَ تقديرَ البداية بأحدهما، ثم لا ضَبط للوِفاقِ، فتارةً يَتّّفقُ ذكرُ جانبٍ، وتارة يتفق ذكر جانبٍ آخر.
والطريقة الثانيةُ - وهي تداني هذه في مأخذها، أن القاضي يُقرع بينهما إذا تنازعا البداية، كما يُقرع بين متساوقين إلى مجلسهِ، وكل يبغي أن يقدّم خصومَته.
والطريقتان صادرتان على قياس؛ فإن المتبايعين إذا كانا يتحالفان، ولا يقدم أحدهما بالتصديق مع اليمين، فلا فرقَ. وما يتكلّفه الفقهاء من تقوية جانبٍ على جانبٍ إذا كان لا يفيد التصديقَ، فلا معنى له. وإذا كان كذلك، فلا ينقدح إلا مسلكان: أحدهما - ردُّ الأَمْر إلى خِيَرةِ القاضي، والآخر - الإقراع.
فإن قيل: قطعتم بالإقراع بين المتساوقين إلى مجلس القاضي، ولم تردُّوا الأمرَ إلى اختيار القاضي، فما الفرق؟ قلنا: ذاك مفروض في خصومتين، وللمتقدّم غرضٌ ظاهر في تنجُّزِ مقصوده وانقلابه، والخصومةُ واحدةٌ في مسألتنا لا تنفصل بأحدِ الجانبين، فَذَكَرْنا الخِيَرَة في الاختلاف لهذا.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: فكان الاختلافُ منحصراً.

(5/341)


ونقل بعضُ من يوثقُ به طريقةً أخرى معزيّةً إلى طريقة القاضي، وهي أن القاضي يقدّم منهما من يؤدي اجتهادُهُ إلى تقديمه.
وهذا كلام في ظاهرهِ ركيك، من جهة أن القُضاة في الوقائع كلِّها يقضون باجتهادِهم وإنما الكلام كلّه في ذكر وجوه الاجتهادِ. فإذا تعدّينا تقديمَ جانب، فذكر اجتهاد القاضي لا معنى له. والظن أن المراد بهذا تخيّر القاضي، ولكن المعلِّق عنه لم يرَ التّخيُّرَ (1) في الوقائع، فحمل هذا على الاعتقاد في ردَّ الأمر إلى الاجتهادِ.
فهذا استقصاءُ أقوال الأصحاب في البداية.
3264 - ووراء ذلك نظر وبحثٌ عندنا. فنقول: إذا تبايع رجلان عبداً بجاريةٍ، واشتمل العقدُ على عوضين من الجانبين، فلا ينبغي أن يظن ظانٌّ أن جانباً يقدَّم على جانبٍ، وقد تبادل المتبايعان عوضين، وآلَ النزاعُ إلى زيادةٍ يدَّعِيها كلُّ واحدٍ على صاحبه، والمدعَى عليه ينفيها، ويدعي زيادةً. وإنما الكلام في البداية. وموقعُ النصوص فيه إذا كان الثمنُ في الذمّة، وكان المبيع عيناً أو جنساً مقصوداً، كالمسلَم فيه؛ فإنّ منشأَ الكلامِ في البدايةِ ما (2) قدَّمناه في توجيهِ القولين على طريقةِ من يُجري النصوصَ على قولين.
وإذا فرض الكلام في مبيع مقابَلٍ بثمنٍ في الذمَّة، فميل النص إلى البدايةِ بالبائع.
والتسويةُ بين الجانبين - وإن كان منقاساً، فهو إضرابٌ عن النص بالكليّة، والتخريج على خلاف النص يبعد إلحاقُه بالمذهب، فما الظنُّ (3) بالإعراض عن النص بالكلية.
والذي أراه في ذلك أن التحكم بالتقديم بعيدٌ. وإذا كنا نقرعُ عند التَّساويَ، فالاستمساكُ بمتعلَّقٍ أولى من تحكيم القُرعة.
ثم نص الشافعي يشير إلى تثبيت مقصود العقد، كما قدمناه وهذا النص، ينطبق على ما سنَذكرُه في الفصل الثاني، وهو الاكتفاءُ بيمين واحدة تشتمل على النفي
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): التخيير.
(2) في الأصل: وما قدّمناه.
(3) في الأصل: فما للظن.

(5/342)


والإثبات. هذا نصُّ الشافعي على ما سنذكرُه.
ثم من نفى وأثبت ونَكل صاحبُه، قضينا للحالف. [فإن] (1) سبق إثباتُه في يمينهِ، تبيَّن نكولُ خصمِه عن يمين النفي.
وهذا يخالف قياسَ الخصومات، ولكنْ وَضعُ الشرعِ على الميل إلى إثبات العقدِ. ثم رأى الشافعي صدَرَ العقدِ من البائع، فبنى عليه البدايةَ.
هذا منتَهى النظر في ذلك.
والذي نجز، فهو أهون الفصلين الموعودين. ونحن الآن نتكلم في صفة اليمين واتحادها وتعَدُّدِها، وهو غمرة (2) الباب، وفيه [اختباطُ] (3) الأصحاب على ما سننبّه عليه، ونوضح الحقَّ، إن شاء الله عز وجل.
[فصل في صفة اليمين] (4)
3265 - فنقول: كل واحدٍ من المتعاقدين مُثبتاً نافٍ، وهو متصوّر بصُورة مدّعٍ ومدعىً عليه، فالبائع يقول: بعتُ العبد بألفٍ، وما بعتُه بخمس مائةٍ. والمشتري يقول: اشتريتُه بخمس مائة وما اشتريتُه بألفٍ. وكل واحد في جهة الإثبات مدّعٍ، وفي جهة النفي مدَّعىً عليه.
وإذا كان كذلك، فلتقع البدايةُ بالقولِ في عدد اليمين واتحادِها.
ظاهر نص الشافعي رحمه الله: الاقتصارُ على يمينٍ واحدةٍ تشتمل على النفي
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) في (هـ 2) عمرة بدون نقط كدأبها، و (ص) عمدة. والغُمرةُ الشدة، والغمرةُ الزحمة وزناً ومعنى، (وكلا المعنيين يناسب هنا) وأما العَمرةُ، بالعين المهملة، فهي واسطة العقد، وهو معنى يناسب هنا أيضاًً (معجم، مصباح).
(3) في الأصل: احتياط، و (هـ 2) بدون علامات إهمال وإعجام دائماً. والمثبت من (ص)، وهو المعهود في أسلوب المصنف. رضي الله عنه.
(4) العنوان من عمل المحقق.

(5/343)


والإثبات، كما سنصفها في التفريع. وخرج الأئمة قولاً آخر أن اليمينَ تتعدَّدُ، وزعمُوا أنّهم أخذوا هذا من اختلاف الرجلين في دارٍ تحت أيديهما، كل واحدٍ يدعي أن جميعها له، فالمنصوصُ أنه يتعرَّض كل واحدٍ ليمينين في محالهما؛ إذ يد كل واحدٍ منهما ثابتة على نصف الدارِ، وهو فيه مدعىً عليه، فالقول قولهُ فيه مع يمينه، على نفي دعوى المدَّعي، ولو فُرض نكول من أحدِهما عن اليمين على ما هو مدعىً عليه فيه، رُدّت اليمينُ على صاحبه، فيأتي بيمين الردِّ على صيغة الإثبات، فيدور في الخصومة إمكان يمينين؛ فقال المخرجون: اختلاف المتبايعين بمثابة اختلاف المختلفين في الدار الكائنةِ تحت اليدَينِ؛ من جهة اشتمال الخصومتين في الموضعين على التعرض لمقام المدعي والمدعَى عليهِ.
وهذا مُخرجٌ والنص ما قدَّمناه من الاكتفاء بيمين. ومسألة الدار لا خلاف فيها، وليس هذا مما ينقل فيه الجوابُ من كل جانب إلى الجانب الآخر، حتى نفرضَ جَريان القولين في الجانبين نقلاً وتخريجاً. لكنْ مسألةُ الدار متفق عليها. وخرَّج المخرجون منها قولاً في اختلاف المتعاقدَيْن.
3266 - توجيه القولين: من قال بالقول المخرَّج اعتمد قياس الخصومات، ولا يكاد يخفى أن منصبَ المدعي يخالف منصبَ المدَّعَى عليه مخالفةً بينةً، والجمعُ بين مقامين مختلفين بعيدٌ ناءٍ عن القياس.
والذي نحققه أن الجمع بين الإثبات والنفي يتضمن تحليفَ المدعي ابتداءً في جهةِ دعواه من غير تقدّم نكولٍ من الخصم عن اليمين فيما هو مدعىً عليه. وهذا بعيدٌ جداً. وبيانه أن البائع إذا قال: ما بعتُ العبدَ بألفٍ، ولقد بعتُه بألفين، فقوله: بعتُ بألفَينِ إثباتُ ما يَدَّعيه، ونحن اعترفنا بخروج البداية بالمدعي في أيمان القسامة عن قياس الخصومات، مع ظهور اللوث والتأكّد بالعدد، ومسيس الحاجة إلى رفع غوائل المغتالين في خلواتٍ وأحيانٍ يَبعُد الإشهاد فيها. ولا ضرورة إلى الاقتصار على يمين واحدة هاهنا. هذا وجهُ هذا القول.
وأمَّا وجه القول المنصوص عليه أن البيع بين المتعاقدين في النفي والإثبات في حكم الخَصْلةِ الواحدة.

(5/344)


هذا وضعُ الباب، وهو مضمون الأخبار، وهو اللائق بمصلحة هذا العقد، كما سبق تقريره في صدرِ الفصول؛ فإنَّ الاختلافَ بيْن المتبايعين عامُّ الوقوع، ولا حاجةَ لتخصيص جَانب عن جانبٍ، ولو فصلنا النفيَ عن الإثبات، وأقمنا خصومتين تنفصل إحداهما عن الأخرى، لما انتظمت حكمةُ الشريعة في التسوية بين المتعاقدين، ولما أفضى الأمرُ إلى الفسخ والانفساخ.
ولكنّا نقول: القول قولُ المشتري في نفي المزيد الذي يُدعى عليهِ في الثمن، والقول قول البائع في أنه لا يجب عليهِ تسليمُ المبيع لو كنا نؤاخذه بمطلق إقراره للمشتري بالمِلك في المبيع، ونراه مدَّعياً في الجهة التي نذكرُها؛ فإذاً وضعُ الباب على الاستواء، حتى كأنهما يتنازعان نفياً واحداً، وإثباتاً واحداً، ولكن لما اشتملت الخصومةُ على النفي والإثبات، اشتملَت اليمين الواحدةُ عليهما كما سنصفها، ولا يطلع الناظر على حقيقة التوجيه إلا بالتفريع عليهما.
التفريع على القولين:
3267 - إن رأينا الاقتصارَ على يمين واحدةٍ، فاتفقت البدايةُ بالبائع مثلاً؛ فإنا نقول له: احلف بالله ما بعتُ العبد بألفٍ ولقد بعتُه بألفين. فإن حلف، عرضنا اليمينَ على المشتري، وقلنا له: احلف بالله ما اشتريت بالفين، ولقد اشتريت بألفٍ. فإن حلف كذلك، فقد تحالفَا.
ويقع الكلام وراء ذلك في الفسخ والانفساخ، كما سنصف القولَ فيه، إن شاء الله عز وجل - بعد نجاز صفة التحالف.
ولو حلف البائع وكنا بدأنا به، ونكل المشتري، قضَينا للبائع. وهذا خروج بيِّنٌ عن القياس الكُلِّي، وإن كان لائقاً بمصلحةِ الباب؛ فإنا قضينا له بالإثبات سابقاً على النكول من خصمه.
ولو عرضنا اليمين على البائع أولاً، فنكل، نعرضُ اليمينَ على المشتري، فإن حلف، قضينا له بالعقد على موجب قوله. وهذا منقاسٌ فإن القضاء جرى بعد تقدّم النكول.

(5/345)


ولو حلف البائع على النفي والإثبات، فحلف المشتري على النفي، ولم يتعرض للإثبات، فالذي ذكرهُ الأئمة أنه يُقضى عليه، ويمضي العقدُ على موجب قول البائع.
وهذا في نهاية الإشكال؛ فإنا كنا نُبعد القضاء بالإثبات قبل النكول، وهذا قضاء بالإثبات مع تقدير اليمين على النفي.
وسبيلُ الجواب عنه أن صيغة اليمين على هذا القول التعرض للنفي والإثبات، واليمين تُعرض كذلك، فإذا لم يأت المشتري باليمين المعروضة عليه لا نحلّفُه على النفي، وإنما يتحقق النكول عن يمينِ تُعرض، فيأباها المعروض عليه.
3268 - ومما يتعلق ببيان التفريع على هذا القول أن الأئمةَ قالوا: حق من نحلّفه من المتعاقدَيْن أن يذكر صيغة الإقسام باللهِ ويبتدىء بعد ذكر المقسم به بالنفي، ثم يُعْقِب النفيَ بالإثبات؛ فيقول: باللهِ ما بعتُه بألفٍ، ولقد بعتُه بألفين. والغرضُ من ذلك تأصيل اليمين على النفي وإتباع الإثبات إياه؟ من جهة أن القائل قائلان، فيقع الإثبات تابعاً، والتبعية تقتضي تأخير ذكر التابع، وتقديمَ المتبوع.
والذي رأيتُ طُرقَ الأصحاب متفقةً عليهِ أن هذا الترتيب مستحقٌّ، وليس ترتيباً مستحبّاً. ولو فُرض قلب ذلك، لم يُعتدّ باليمين.
وحكى العراقيون عن الإصطخري أنه قال: ينبغي أن يُقدَّمَ الإثباتُ، ورأى ذلك فيما نُقلَ عنه حتماً. واعتمدَ أن الإثبات هو المقصود وفيهِ يقعُ التناقض المحقق.
وهذا متروك عليه؛ فإنه خالفَ الفقهَ الذي ذكرناه من استتباع النفي الإثباتَ. ثم غلا فرأى استحقاقَ تقديم الأثبات. ولو قال: لا يُستحقُّ ترتيبٌ في المقصودين (1) إذا كنا نقضي بالنكول عند ترك أحدِهما، لكان هذا منسلكاً في الاحتمال بعضَ الانسلاك.
هذا كُلّه تفريع على الحكم باتحاد اليمين.
3269 - فأما إذا فرَّعنا على القول الآخر، وهو أنا لا نجمع بين النفي والإثبات في يمينٍ واحدةٍ، فالتفريع على هذا القول مزِلّةٌ، وفيه الخبطُ الذي وعدناه، ونحن نأتي على ما يفصّل الأمر، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في (ص): المقصود بل.

(5/346)


فنقول أولاً: إذا بدأنا بتحليف أحدهما، فلا نجمع في حقّهِ بين يمينين في العرض الأول، ولكنا نعرض على المبدوء به يمينَ النفي، ثم ننظر إلى ما يُفضي إليه الحال، فنقول للبائع: احلف بالله ما بعت بالألف، فإن حلف، عدنا إلى المشتري. والسبب فيهِ أن المحذورَ في هذا القول التحليفُ على الإثبات، قبل تبيّن النكول من الخصم عن يمين النفي. فإذا حلفَ من بدأنا به [أولاً] (1) على النفي، عرضنا اليمينَ على صاحبهِ.
وكانت اليمينُ المعروضةُ على النفي أيضاً. ثم ننظر فإن حلف المشتري على النفي أيضاً، فهذا [مبتدأ اختباط] (2) الطرق.
ونحن نبدأ بما كان يذكرُه شيخنا في دروسهِ، ونستتمّها، ثم نذكر ما ذكره بعضُ الأصحاب، ثم نحكم بما يحضرنا في التصحيح والتزييف.
قالَ شيخي: إذا حلف الأولُ على النفي، وحلف الثاني على النفي أيضاً، فقد تحالفا؛ فإنَّ يمينيهما تناقضا في المقصود، وليس أحدُهما أولى بالتصديق، فنكتفي بما جرى، ونقضي بالانفساخ، أو يَنْشَأُ الفسخ.
وإن حلف الأول يمين النفي، فعرضنا اليمينَ على الثاني، فنكل، ردَدنا اليمين إلى الأول الحالف، فإن حلف على الإثبات، قضَيْنا له بمُوجَب يمينهِ، وقطعنا الخصومةَ على هذا المقتضى. وقد حلفَ هذا البادىء أولاً وآخراً يمينين، أولاهما على النفي، والثانيةُ على الإثبات.
وإن عرضنا اليمين على الأول، فنكل، نعرض اليمين على الثاني، ونكتفي بيمينٍ واحدةٍ تجمع النفي والإثباتَ، ونقضي له بموجَب يمينه.
فخرج مما ذكرناه أنهما لو حلفا على النفي، كان ذلك كافياً، ولا نعرِض بعده يمين الإثبات.
وإن حلف الأول ونكل الثاني، رددنا اليمين على الحالِف أولاً، فيحلف على الإثبات المجرد؛ فإنه قد حلف على النفي من قبل، ولا يجتمع يمينانِ في حق أحدهما
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: مسمى احتياط، (ص): منتهى اختباط. والمثبت من (هـ 2).

(5/347)


إلا في هذه الصورة في طريقة شيخي؛ فإنهما لو حلفا على النفي ترادَّا، ولو نكل الثاني، حلف الأول، فيجتمع اليمينان. ولو نكل الأول، حلف الثاني يميناً واحدة على النفي والإثبات.
فهذا حاصِلُ الطريقةِ التي تلقيناها من شيخنا، ولم أجد لنكولهما عن اليمينين ذكراً. وإني سأذكره بعد نجاز الطرق، إن شاء الله تعالى.
3270 - وذهبت طائفةٌ من أصحابنا إلى سلوك مسلكٍ آخر في التفريع على قول اليمينين، فنأتي به على وجههِ.
قالُوا: يحلف أحدُهما على النفي، ونعرض اليمينَ على الثاني، فإن حلف على النفي، لم يتم التحالف بهذا؛ فإنهما لم يتعرضا للإثبات بعدُ، وإنما يتمّ التحالفُ إذا تناقضا في يمينيهما في النفي والإثبات جميعاً، فيحلف بعدَ يميني النفي على الإثبات.
ونبدأ بمن بدأنا به أول مرة، فإن حلف على الإثبات، حلّفنا صاحبه، فإن حلف هو أيضاً على الإثبات، فقد تم التحالُف، وحان الحكم بانفساخه أو إنشاء الفسخ، وإن نكل الثاني عن يمين الإثبات، قضينا لمن بدأنا به بموجب يمين الإثبات، وقررنا العقد بينهما على ذلك الموجَب.
ومن تمام هذه الطريقة أن الأولَ إذا حلف على النفي، فلما عرضنا اليمينَ على الثاني نكل، فيحلف الأول على الإثبات، ونكتفي، ونقضي له بموجَب اليمينين.
ولو نكل الأول عن يمين النفي، عرضنا اليمين على الثاني، واكتفينا منه بيميني واحدةٍ، تجمع النفيَ والإثباتَ، ونزَّلنا العقدَ على موجَبها.
[وإنما] (1) اكتفينا بيمين واحدة، لأن المستحلَف في ترتيب الخصومات في مقام يمين الرد، فوقع الاكتفاءُ بيمين واحدة.
ولا ينبغي أن يعتقد الناظر في هذا الفصل الاطلاع على كل ما [انتهينا] (2) إليه؛ فإن تمام البيان في آخِره.
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) في الأصل، (هـ 2): انتهى.

(5/348)


وهذه الطريقةُ تُباين طريقةَ شيخنا مباينةً ظاهرةً في قاعدة التفريع؛ فإن شيخنا كان يحكم بالتحالف إذا حلَفَا يميني النفي، وهؤلاء لم يحكموا بالتحالف بجريان يميني النفي، بل عرضوا يمينَ الإثبات على الجانبين، فلا تحالف عندهم، إلا بيمينين من كل جانبٍ: إحداهما - على النفي، والأخرى على الإثبات. ولكنهما لا يُجمَعانِ في دفعةٍ بشخصٍ، بل يعرَضانِ في دفعتين، فإذا تَمّ يمينا النفي، أعيد يميناً الإثبات.
هذا وإن كان فيه بعضُ البعدِ فلا يَبعُد احتماله على حالٍ.
3271 - وأما إشكال هذا الفصل في (1) شيء: وهو أن هؤلاء يقولون: إذا حلفا يميني النفي، وحلف الأول يمينَ الإثبات، ونكل الثاني عن يمين الإثبات، فقُضي للحالف على الإثبات بمُوجَب إثباته.
وهذا مشكل، فإنَّ الذي حلف على الإثبات يمينه معارِضة يمينَ الأول على النفي على المضادّة المحققة، فالقضاءُ بيمين الإثبات مع جَريان يمينٍ على نفي هذا الإثبات مشكل. ووضعُ الخصومة على أنا إنما نحكم باليمين المثبتة للمدعي إذا نكل خصمُه عن يمين النفي.
ومثلُ هذا التفريع لا يجري في طريقة شيخنا؛ فإنه يجعل التحالفَ على النفي تاماً في اقتضاء الفسخ، أو الانفساخ، فلا يتفرع بعد التحالف على النفي عرضُ يمينِ الإثبات.
فإن قيل: قد ذكرتم الطريقتين، فما الذي يصح على السَّبرِ منهما؟ قُلنا: الأصح طريقةُ شيخنا؛ فإنه لما فزَعَ على اليمينين، ردَّ الأمرَ إلى قياس الخصومات، واكتفى في إثبات التحالف بالتناقضِ والتحالفِ في النفي، فاستدَّ التفريع جارياً على القياس.
ولا يتطرق إلى طريقته إلا شيءٌ واحدٌ، وهو أنهُ قال: إذا نكل البادىء، حلف الثاني يميناً واحدة. وهذا حسنٌ منقاس؛ فإن الثاني واقفٌ في مقام من يحلف يمين الرد.
ولكني كنتُ أحب أن يقول: يقتصر هذا الثاني على الإثبات، ولا يتعرضُ للنفي
__________
(1) جواب (أما) بدون الفاء.

(5/349)


جَرياً على قياس الخصومات؛ فإن من ادّعى شيئاً على إنسان، فأنكره، ثم انتهت الخصومةُ إلى ردَّ اليمين إلى المدّعي. فإنه لا يزيد على إثبات دعواه.
ولكن كان شيخُنا يقول: نجمع في يمين واحدة بين النفي والإثبات.
وأما أصحاب الطريقة الأخرى، فإنهم بنَوْا ما رتَّبوه على أن النفي والإثباتَ لا بدّ منهما، ولا يتتم الأمر دونهما، وزعموا أنا وإن قلنا بتردد اليمين، فلسنا نعدد الخصومةَ، ولكن نقول: التَنازعُ في قضيّةٍ واحدة مشتملةٍ على النفي والإثبات، فاليمين متعددةٌ، والخصومة [متّحدةٌ] (1)، وقالوا على حسب ذلك: إذا حلفا على النفي، ثم عرضنا يمين الإثبات على البادىء، فحلف، فعرضناها على الثاني، فنكل، فنكوله عن يمين الإثبات آخراً رجوعٌ منه عن اليمين على النفي أولاً؛ فإن الخصومة متَّحدة، فيقع القضاءُ للحالف على الإثبات، بعد بطلان يمين الثاني في النفي والإثبات.
ومساقُ كلامهم أن تعدد اليمين كاتحاد اليمين على القول الأول، فلو نكل أحدُهما عن الإثبات، وحلف على النفي، كان نكولُه عن معنى الإثبات نكولاً عن معنى النفي. كذلك القولُ في النفي والإثبات المدرجين في اليمينين.
وهذا الذي ذكرناه لهؤلاء تكلّفٌ؛ فإن اليمينين مشعرتان بمقصودين. فهؤلاء المفرعون على قول اليمينين طَمِعُوا أن يستصحبوا سرَّ قولِ اتّحادِ [اليمين] (2)، فإن ذلك القولَ في اتحاد اليمين مأخوذ من اتحاد الخصومة. فإذا فرضنا غرضينِ ويمينين ونكولاً عن النفي، ويميناً ممحَّضَةً للإثبات، فلا يستدُّ عليه إلا طريقةُ شيخنا.
وقد نجز القولان وتفريعهما، واختلافُ الطرق في مأخذ الكلام.
3272 - فإن قيل: ذكرتم التفصيل فيه إذا تحالفا، وبينتم حلف أحدهما ونكولَ الثاني، فبيّنوا الحكم فيه إذا ارتفعا إلى مجلس القاضِي وتداعَيا على التناقض، وآل الأمرُ إلى اليمين، فنكلا جميعاً. كيف السبيل فيه؟ قلنا: لم يتعرض أئمة المذهب في
__________
(1) في الأصل: متجددة.
(2) في الأصل: اليمينين.

(5/350)


مصنَّفاتهم للتنصيص على هذا. والقول في ذلك بَيْن احتمالين: يجوز أن يقال: نكولهما عن اليمينين بمثابة تحالفهما؛ فإنا نجعل نكولَ كل واحد منهما عن اليمين التي ترتد إليه بمثابة حَلِف صاحبه، وينتظم منه تنزيلُ الأمر منزلة ما لو حلفا. وهذا يعتضد بمعنى فقهي يختص بما نحن فيه، وهو أن سبب إنشاء الفسخ أو الانفساخ تعذُّرُ إمضاءِ العقد في استواء المتداعيين على التناقض. وظُهورُ ذلك في مجلس الحكم، وهذا يتحقق بنكولهما كما يتحقق بتحالفهما. وكان [لا] (1) يبعد أن يقال: إذا تحالفَا، وقفت الخصومةُ، وحُمِلا على الوقف إلى أن يتقارَّا، فإذْ (2) لم نقل هذا، دَلَّ على أنّا [لا] (3) نتركُ الخصومةَ ناشبة، ولا ندعهما على التخاصم.
وقد ذكر شيخي في طريقه صورةً تعضد ما ذكرناه، وهي أنه قال: لو حلف أحدُهما على النفي تفريعاً على قول تعدد اليمين، وعرضنا اليمين على الثاني، فنكل، فرددنا اليمينَ على البادىء ليحلف على الإثبات يمينَ الردّ، فنكل. قال: نجعل هذا بمثابةِ التحالف، فإن نكولَ البادىء عن اليمين بمثابة حَلِف صاحبه. وهذا أصل ممهَّد في الدعاوي عندنا، وهو أن نكول المردود عليه عن يمين الردّ بمثابة حَلِف الناكل أولاً.
فإذا كان ما ذكرنا في طريق شيخنا كالتحالف، فلا يبعد أن نجعل نكولهما كتحالفهما، ولا نعدَم أمثلةَ هذا على بُعدٍ. فالنكاح على قولٍ يرفعه الحكمان إذا أعضل فصلُ الخصومة. وإذا تداعى رجلان مولوداً يحتمل أن يكون من أحدهما أريناه القائف، ولو تناكراه، أريناه القائف كما لو تداعياه.
هذا وجه.
ويجوز أن يُقال: لا فسخ، ولا انفساخ إذا لم تجرِ يمينٌ فإن التعويل في الباب على ألفاظ الرسول عليه السلام، وجُملة ما نقله الرواة مقيَّدٌ بالتحالف، فإذا لم تجر يمين أصلاً، فكأنَّهما تركا الخصومةَ (4 ولم يُنهياها نهايتَها والفسخ منوط بنهايةِ الخصومة 4). وقد رأيتُ ذلك في بعض تصانيف المتقدمين. والعلم عند الله.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (هـ 2)، (ص): إذا.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ص).

(5/351)


فصل
كتاب البيع باب اختلاف المتبايعين
3273 - إذا جرى التحالف على الوصف الذي ذكرناه، فالقول بعده فيما يصير العقد إليه.
فظاهر نص الشافعي أن العقد لا ينفسخ، ولكن يُنشأ فسخه، ووجه ذلك بيّن؛ فإنه لا يتحقق بالتحالف إلا تعَدُّرُ إمضاءِ العقد، لو أصرّا على اختلافهما. ولا بأس من أن يصدّق أحدُهما الثاني، فلا معنى للحكم بالانفساخ. ولكنا نقول لكل واحد منهما: إما أن توافق صاحبك وتصدُقَ إن كنتَ الكاذب. وإما أن تفسخ العقد.
وذكر بعض أصحابنا قولاً اَخر مخرّجاً: أن العقدَ ينفسخ. وهذا القول منسوبٌ إلى أبي بكرٍ الفارسي، وفقهُه عندي أن العقد إذا انتهى إلى التنازع في المعقود عليه، فنجعل كأن العقدَ فُرض إنشاؤه مع الاختلاف في المعقود عليه، ولو كان الأمر كذلك لما انعقد العقد. فإن أفضى الأمر إلى هذا وتأكد بالأيمان، قدَّرنا كأن صيغةَ العقد كانت على الاختلافِ، وصيغةُ هذا المذهب المنسوب إلى الفارسي تُشعر بأنّا نتبيّن أن لا عقد استناداً.
وهذا ضعيفٌ.
ولا خِلافَ أن الزوائد التي حدثت بعد العقدِ وقبل التحالف مقررةٌ على المشتري، وكذلك لا خلاف أن المشتري لو كان تصرف تصرفاً مزيلاً للملك، ثم فرض الاختلاف من بعدُ، فلا نتبيَّن فساد العقد وارتفاعَه.
وذكر الشيخ أبو علي في تفريع مذهب الفارسيّ أنا نتبين فسادَ التصرّفات التي جَرت قبل التحالف. وهذا وفاءٌ بحق التبيُّن والإسناد، ومَصيرٌ إلى أن نجعل كأَنَّ العقد لم يَجْرِ، وهذا يتضمن ارتدادَ الزوائد إلى البائع لا محالةَ. هكذا ذكر الشيخ أبو علي.
ولو قيل: التحالف يوجب الانفساخَ، لأمكن تقريرُ وجهٍ فيه، من غير ردَّ الأمر إلى تقدير وقوع العقد كذلك؛ فإنَّ استحقاق إنشاء الفسخ إن نيط بالتحالُفِ، فغيرُ بدع أن تناط به عين الانفساخ.

(5/352)


وهذا على بعده أمثل مما ذكرناه.
التفريع:
3274 - إن حكمنا بأن الفسخَ يُنشأ، فقد اختلف أصحابنا فيمن يتولاه: فمنهم من قال: يتولاه الحاكم أو من يفوِّض الحاكمُ إليه.
ومنهم من قال: يتولاه المتعاقدان. وهذا الوجه الأخيرُ أفقهُ؛ فإن التحالف تحقق جريانه، وهو المعتبر في إثبات حق الفسخ، ولا يبقى بعد جَريانه مضطرَبٌ لنظر الحاكم، فتعليق الفسخ [بإنشائه] (1) بعيدٌ في المعنى، وإن كان مشهوراً في الحكاية.
ثم حكى أئمتُنا أن البائع إذا كان يفسخ البيعَ بسبب إفلاس المشتري بالثمن ووجود (2) عين المبيع، فهو الذي يفسخ. قطعوا بهذا. وهذا حسن. وإفلاس المشتري إن كان مجتهداً فيه، فالحجر مطَّرِد عليه والتعذر متحقق. وإن لم نتحقق في علم الله الفَلَس.
وقال بعض الأصحاب: القاضي هو الذي يفسخ النكاح عند تحقق العُنَّة وجهاً واحداً، والزوجة تتعاطى الفسخ بالإعسارِ بالنفقة. ولستُ أرى بين العُنَّةِ والإعسار فرقاً؛ فإن الأمرين جميعاً متعلقان بالاجتهادِ، فليخرَّج الأمرُ فيهما على التردد الذي ذكرناه في التحالُفِ، والقياس في الجميع أن الفسخ لا يتوقف على إنشاءِ القاضي.
نعم، لا بد من حكمه بثبوت العُنّة والإعسار. ولا حاجةَ إلى حكمه بعد التحالف.
وأما فسخ البائع بسبب الفلسِ، ففيهِ مزيدُ (3) نظَرٍ، سنذكرهُ في كتاب الحجر، إن شاء الله عز وجل.
3275 - ثم إذا ثبت ما ذكرناه في الفسخ والانفساخ، فالقول بعده في الظاهرِ والباطنِ. فإن حكمنا بالانفساخ، نفذ ذلك ظاهراً وباطناً عُقيبَ التحالف، ولا حاجةَ في هذا القولِ إلى عرض الأمر على المتعاقدَيْن بعد التحالُف.
وإن قُلنا بفسخ العقد، وهو المذهب، فالفسخ ينفذ ظاهراً وباطناً أم ينفذ ظاهراً
__________
(1) في الأصل: ما تشابه.
(2) في الأصل: ووجوده.
(3) ساقطة من (هـ 2).

(5/353)


والكاذب مؤاخذٌ بعُهدة العقد بينه وبين الله تعالى؟ قال الأئمة: إن كان المشتري كاذباً، وكان الثمن ألفين، وهو منكرٌ لألفٍ واحدٍ، فإن جرى الفسخُ، انفسخ العقد ظاهراً وباطناً، ونزل التعذُر المترتب [على التحالف، منزلةَ التعذّرِ المترتب] (1) على الفَلَس؛ فإنّ البائع يقدر على بعض من الثمن، لو رضي بالمضاربة والمخاصَمة، فجعل تخلّفَ بعضِ الثمن عنه مُسلِّطاً على الفسخ والرجوع إلى المبيع ظاهراً وباطناً.
وإن كان البائع كاذباً والتفريع على إنشاء الفسخ، فهل ينفسخ العقد باطناً؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه ينفسخ باطِناً؛ لأن صورة التحالف تقتضي رفعَ العقد إذا أصرَّ المتعاقِدان المتحالفان.
والوجه الثاني - أن الفسخ لا يقع باطناً؛ فإن البائع هو الكاذب، والتعذُّر راجع إلى جهة المشتري، وليس لهذا النوع من التعذّر نظيرٌ يثبت حقَّ الفسخ، كما ذكرنا نظير الفلسِ في جانب المشتري.
وحق الناظر أن يحوي (2) هذه الفصول ويَعيها.
وتمامُ البيان في نجازها.
وذكر شيخي أبو محمد رحمه الله طريقةً أخرى فقال: إذا كان البائع كاذباً، فلا ينفسخ البيعُ باطناً وجهاً واحداً. وإن كان البائع صادقاً والمشتري كاذباً، ففي الانفساخ باطناً وجهَانِ.
والطريقةُ المشهورةُ ما قدَّمناها، والبيان بين أيدينا بعدُ.
3276 - فنقولُ: في هذا الفصلِ مباحثةٌ جليَّةٌ أغفلها الأصحاب. ونحن نأتي عليها بعون الله تعالى فنقول:
أولاً - ذهب ذاهبون إلى أن القاضي هو الذي يتولى الفسخَ، كما تقدّمَ، وسببُه أنه مادام يرجو تصديقَ أحدهما الآخر، فإنه لا يفسخ، فدرْكُ ذلك الوقت إلى نظرهِ، فكان (3) هو المتعاطي للفسخ.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في (ص): يجري.
(3) في (هـ 2)، (ص): وكان.

(5/354)


فلو قالَ المتعاقدان: لا نريد أن نفسخ، ونحن على خصامِنا نتنازع، فالقاضي يفسخ.
وإن قالا: أعرضنا عن الخصومة، ولم يصدّق أحدُهما صاحبَه. ولكن زعم المشتري أنه تَركَ المبيع في يدِ البائع، وقالَ البائع لستُ أطالبُ المشتري بالمزيد الذي ادّعيته، فاتركنا ولا تفسخ العقدَ بيننا. فللأصحاب في هذا لفظٌ ننقله، ثم ننظر.
قالوا: "إذا جَرى التحالفُ، فإن رغب أحدُهما في الأخذ بقول صاحبهِ، فذاك، وإلاَّ فسخ بينهما للتعذر".
وظاهر هذا يدل على أن أحدهما إن صدَّق الآخر، اندفع الفسخ. وإن لم يجرِ من أحدهما تصديقُ الآخر، فالقاضي يفسخ.
ولكن في كلام الأصحاب ذكرُ التعذر، فإنهم قالوا: "فسخ للتعذر" والمسألةُ على الجملة محتملةٌ إذا أعرضا وقطعَا الطَّلِبة، فيجوز أن يقال: يقطع القاضي مادَّة الخصومة بالفسخ؛ فإنّه لا يأمن أن يعودا في مستقبل الزمان. وإنما تنقطع مادةُ الخصام بالتصادق على قولٍ أو بالفسخ.
ويجوز أن يقال: إذا أعرضا، فلا تعذُّرَ، وإنما التعذُّر إذا كانا على التآخذ والمطالبة، وقالا للقاضي: وفِّ حَقَّ كُلِّ واحدٍ منَّا على ما يليق بالحال، أو التَمسا الفسخَ، فيبعدُ (1) أن نحكم بوجوب الفسخ.
فهذا تردد واقع.
ثم نقول: إن كان الفاسخ هو القاضي، فالذي ذكرهُ الأصحابُ في الظاهرِ والباطنِ مفهوم.
وإن قلنا: الفسخ إلى المتعاقدَيْنِ، فإن توافقَا على الفسخ، فلا شك في انفساخ العقد باطناً، ولا يجوز أن نقدِّر في هذا خلافاً؛ فإنهما إذا تفاسخا، فقد جَرى الفسخُ من صَادقٍ محق، فيجب القضاءُ بتنفيذ فسخه، سواء كان ذلك المحق البائع أو المشتري. فإن كان المحق هو البائع، فهو مشبهُ بمسألة الفلس. وإن كان المحق هو
__________
(1) في الأصل: ويبعد.

(5/355)


المشتري، فالمبيع لم يسلم له بالثمن الواقع في علمِ الله تعالى.
وإذا تعذَّر استيفاءُ المبيع على الجهة المستحقَّة في العقد، فثبوت الخيار للمشتري أَوْجَه؛ فإنّ من لم يُثبت الخيارَ للبائع بعذر الفلس، أثبت الخيار للمشتري بتعذّراتٍ تطرأ على المبيع.
3277 - وتمام البيان في هذا أنا إذا قلنا: يثبت حق الفسخ لهما لا نشترط أن يتوافقا؛ فإنهما قد لا يتوافقان. وتبقى الخصومة ناشبة بينهما. ولكن من ابتدرَ إلى الفسخ منهما يحكم به [أولاً] (1) في ظاهرِ الأمرِ.
ولكن إن كان الفاسخ مُحقّاً فالوَجه تنفيذ الفسخ باطناً. وإن كان مبطلاً، فالوجه: القطع بأنه لا ينفذ الفسخ باطِناً. والوجهانِ يختصان بفسخ القاضي؛ فإنّ فسخه يرجع إلى مصلحة، فإن تخيلنا نفاذه باطناً، فمن هذه الجهة. وهذا لا يتحقق فيهِ إذا كان (2) أنشأ المبطِل الفسخ.
وتمام البيان أنا إذا قلنا: لا ينفذ الفسخ باطناً على وجه فيهِ إذا تولَّى القاضي الفسخَ، فهل يثبت للمحق من المتعاقدين أن يفسخ ويوافقَ القاضي؟
هذا فيه احتمال؛ من جهة أنا إذا فوَّضنا إلى القاضي، فلا يمتنع أن لا يثبت للمتعاقدَيْن فيه سلطنة. ولكن الظاهر أنه ينفذ فسخ المحق باطناً، وإن كان لا يستقلّ به في الظاهر. هكذا ذكره شيخي.
والدليل البات فيه أنا إذا لم نثبت هذا المسلكَ، لما كان في الحكم بالفسخ ظاهراً فائدة.
ولكن يُعنَى من الفسخ زجرُ القاضي إياهما عن التآخذ. هذا منتهى [البيان] (3) ولم نخالف الأئمَّةَ، ولكنهُم لم يبحثوا، ونحن بنينا البحث على ما تلقيناه منهم.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من (هـ 2)، (ص).
(3) في الأصل: الباب.

(5/356)


فصل
3278 - إذا اختلف المتبايعان والسلعةُ قائمة، لم يلحقها عيب، تحالفَا وتَرادَّا، على ما سَبق تفصيل الفسخ والانفساخ. وإن لحق السلعةَ عيب نقصَ من القيمة وفُسِخ [العقدُ] (1)، استردَّ البائعُ السلعةَ، وغرِم المشتري أرشَ العيب.
والأصل المعتبرُ في هذا وأمثالِه أن السلعةَ لو كانت تالفة، فالفسخ يجري بسبب التحالُف بعد تلفها عندنا؛ فإن معتمدَ الفَسخ التنازُعُ في العقد، والتنازُع واقع والعقد دائم، فيترادّانِ، ويستردُّ البائعُ قيمةَ المبيع ويردُّ الثمنَ. فإذا [كان] (2) يغرم القيمةَ عند تقدير التلف، يغرم أرش العيب عند ثبوت العيب، وكل يدٍ تضمن القيمةَ عند الفوات، تضمن أرشَ النقصان عند النقصان. وهذا مطَّرد، ولا يجوز أن يُعتقدَ خلافُه. وهو منعكس؛ فإن المبيع إذا عابَ في يد البائع، لم يلتزم البائعُ للمشتري أرشَ العَيبِ؛ لأن المبيع لو تلف في يَده، لم يلتزم قيمتَه، بل الحكم بالانفساخ.
ولا يُمكننا أن نُثبتَ في العَيب الانفساخَ؛ فإن الفائت بسبب العيب جزءٌ ليس مقصوداً مفرداً على حيالهِ، فكان أقربُ الأمور تخييرَ المشتري في الفسخ.
3279 - وذكر الشيخ أبو علي بعد تمهيد ما ذكرناه في الطرد والعكس مسألة، ظاهرها يخالف ما مفَدناه. وهي أن من عَجَّل شاةً عن الزكاة قبل وجوبها، ثم تلف مال المعجِّل قبل حلول الحول؛ فإنه يسترد على تفصيلٍ، سبق ذكره، فيسترد الشاةَ من المسكين، إن كانت قائمة، وإن كانت تالفة، رجع عليه بقيمتها، وإن كانت باقيةً ولكنها عابت في يد المسكين، قال الشافعي: يُخرج الإمامُ من المال العام أرشَ النقص، ويضمُّه إلى الشاة، ولا يكلف المسكين غُرمَ العيب. وهذا بظاهِرِه يخالف ما مهَّدناه من إتباع الأرش القيمةَ.
وذهب بعض أصحابنا إلى القول بظاهر النّص. وهذا خيالٌ لا أصل له. والوجْهُ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: فإذا لم يغرم ...

(5/357)


حملُ نصِّ الشافعي على الاستحباب عند اتساع المالِ. ثم هذا يجري في القيمة لو تلفت الشاة.
فلو كانت الجارية المبيعةُ خليةً عن الزوج حالة العقدِ، فزَوّجها المشتري، ثم فرض التحالف والفسخُ، فالتزويج عيبٌ.
قال الشيخ أبو علي: لو اشترى عبداً، ثم أذن له فزَوَّجه (1)، فتزويجُه عيبٌ؛ فإنه يشغل كسبَه وتنقص الرغبةُ فيه، وهذا بيّن.
ثم إن جرى التفاسُخُ والسلعةُ تالفةٌ، فالرجوع إلى القيمة.
3280 - ثم اضطربَ الأصحاب في الوقت الذي يعتبر فيه قيمة السلعة، فذكر العراقيون قولين: أحدهما - أنا نعتبر قيمة التالف؛ فإن القيمة تخلُفُ العينَ ومورد الفسخ العينُ لو بقيت، فإذا فاتت، فنعتبر القيمةَ من وقت فواتِها.
والقول الثاني - أنا نعتبر أقصى قيمةٍ من يوم القبض إلى يوم التلف؛ فإن البائع يبغي العينَ، وكان تقدير الفسخ ممكناً في كل وقتٍ من القبض إلى التلف، فتعتبر أرفع قيمةٍ.
وذكر شيخي قولاً ثالثاً، وهو أنا نعتبر قيمةَ يوم القبض؛ فإنها أولُ دخول المبيع في ضمان المشتري، فلا ننظر إلى زيادةٍ بعد ذلك أو نقصان؛ فإن الزيادة إن كانت، فهي على ملك المشتري. والنقصان إن كان، فهو من ضمانه.
وذكر بعض الأثْباتِ (2) قولاً رابعاً: وهو أنا نعتبرُ أقل قيمةٍ من يومِ العقدِ إلى يوم القبض. فإن كانت قيمته يوم العقد أقل، فالزيادةُ على ملك المشتري، وإن كانت يوم القبض [أقلَّ] (3)، فهي المعتبرة، فإنها قيمةُ يوم الضمان. وأما ما يكون بعد ذلك من زيادة ونقصان فهما غير مُعتبَرين كما قدَّمناه. وهذا أضعف الطرق؛ فإن إدخالَ يوم العقد في الاعتبار بعيدٌ في هذا المقام.
__________
(1) في (هـ 2): فزوّج. وسقطت من (ص).
(2) في (ص): الأصحاب.
(3) سقطت من الأصل.

(5/358)


وقد قدمنا في باب الخراج بالضمان اختلافاً في قيمته، وذلك الاختلافُ يباين ما نحن فيه. ولا نجد بداً من إعادة تصوير ما مضى، ليتبين الفرقُ بين المقامَيْن للناظر.
ذكرنا أن من اشترى عبدين، وتلف أحدُهما في يدهِ ووجد بالثاني عيباً، وفرَّعنا على أنه يُفرِد العبدَ الموجود بالردّ، ويستردّ قسطاً من الثمن، وسبيلُ التقسيط توزيعُ الثمن على قيمة التالف والباقي، ثم قيمةُ التالف في غرض التوزيع بأيّ يوم تعتبر؟ فيه أقوال: أحدها - أنا ننظر إلى قيمةِ يوم البيع؛ فإنا نحتاج إلى التوزيع ومعناه بيان ما وقع من المقابلةِ (1 والتقسيط ابتداء 1).
والقول الثاني - أنا نعتبر حالة قبض المشتري؛ فإن المبيع عندها يدخل في ضمانهِ.
والقول الثالث - أنا نعتبر الأقلَّ من يوم البيع إلى القبض.
وقد وجَّهنا هذه الأقوالَ. وليست القيمةُ فيها على نسق القيمة التي يغرمها المشتري عند التحالف؛ فإن تلك القيمةَ لم نثبتها ليغرم، وإنما قدرناها ليطلع (2) بها على حقيقةِ التوزيع. وهذا يستدعي لا محالة نظراً إلى يوم العقد.
وقد يَظُن ظان أن الاعتبار بأول حالِ الضمانِ، فعنده قرار (3) الضمان. فأما اعتبار التلفِ، فلا يقتضيه هذا الأصل. والقيمة في مسألَتِنا مغرومة، فاعتبار العقد فيها بعيدٌ، واعتبار التلف قريب. فليفصِل الناظر بين البابين.
وإذا قلنا: لا يرد العبدَ القائمَ إلا مع قيمةِ التالف، فيضم القيمةَ إلى العبدِ القائم (4)، ويسترد جملةَ الثمن، فقيمة العبد التالف مغرومة مبذولة، والتفصيل فيها كالتفصيل في السلعة التالفة، إذا كان المشتري يغرَم قيمتها بعد التحالف.
فهذا تمام ما أردناه في ذلك.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ص).
(2) في (هـ 2)، (ص): حتى يطلع.
(3) في الأصل: قرر.
(4) في (هـ 2)، (ص): الباقي.

(5/359)


3281 - ولو اختلفَ المشتري الغارم في مسألة التحالف والبائعُ المغروم له في مقدار القيمة، فالقولُ قولُ الغارم. وهذا أصلٌ تمهّد، نبهنا عليه فيما تقدَّم.
ولو اشترى عبداً وقبضه وأَبِق من يده، ثم اختلفا وتحالفا، فالفسخ جارٍ؛ فإنه إذا كان لا يمتنع الفسخ بتلف المعقود عليه، فلا يمتنع بإباقه والعجزِ عن تسليمه. ثم إذا نفذ الفسخ، غرِم المشتري قيمةَ العبدِ؛ فإن كل من يغرِم عيناً لو تلفت بقيمتها، يغرِم قيمتَها عند وقوع الحيلولة فيها.
ثم العبد في إباقه ملك من؟ المذهب الأصح أنه ملك البائع، والفسخ نقضَ الملكَ فيه إلى البائع، والقيمةُ التي أوجبناها سببها الحيلولةُ. فعلى هذا إذا عادَ العبد تعين رَدُّه، ثم القيمةُ مسترَدَّةٌ وينْزل (1) إباق العبدِ فيما نحن فيه منزلةَ إباق العبد المغصوب؛ فإن الملك فيه للمغصوب منه، ولكن القيمةَ تلزم الغاصبَ؛ لمكان الحيلولة. وإذا عاد العبدُ ردّه الغاصبُ واستردّ القيمةَ. هذا وجه.
ومن أصحابنا من قال: الملك في العبد الآبق لا يرتد إلى البائع، والفسخ لا يَرِد على الآبق وإنما يرِد على القيمة كما يَرِد عليها إذا كان المبيع تالفاً؛ وذلك لأن الفسخ يستدعي مورداً ناجزاً، والذي تنجز فيه لا يغيّر، ولا يحال.
والأصح الوجه الأول.
ونحن نقول في الوجه الثاني إن الفسخ إذا ألزم المشتري القيمةَ، أبقى عليه ملك العبدِ الآبق.
ولو أعتق المشتري العبد المشترَى، أو كان اشترى جارية واستولدها، فالعتق والاستيلاد بمثابة التلف، وقد تقدم تلف المبيع. ولو كان اشترى عبداً، فرهنه وأقبضه أو كاتبه كتابةً صحيحة، ثم جرى التحالُف فالفسخ، فالمشتري مطالبٌ بالقيمة لا محالة، كما لو أبق العبد.
3282 - ثم اختلفَ الأصحاب في أن الملك هل ينقلب في رقبةِ المرهون والمكاتب إلى البائعِ؟ فمنهم من قال: ينقلب إليه، ولكن على المشتري القيمةُ لمكانِ
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): يتنزل.

(5/360)


الحيلولة. والتفريع عليه كما تقدَّم في العبدِ الآبق.
ومنهم من قال: يَرِدُ الفسخُ على القيمة، ولا معدل عنها، ولا ينقلب الملك في الرقبة إلى البائع.
وكان شيخي يردد جوابه في الآبق على نحو ما سبق، ويقطع بأن الفسخ يَرِد على القيمةِ في المكاتب والمرهون؛ فإن المرهون خارجٌ عن قبول التصرف بجهة الردِّ، والمكاتَب كذلك. ونحن إنما نمنع بيعَ الآبق للعجز عن تسليمه لا لنقصٍ في ملكِ الرقبة. وكان يعضد ذلك، ويقول: إذا باع رجل عبداً وسلمه، ثم أفلسَ المشتري بالثمن والعبدُ آبقٌ، فللبائع الفسخُ، ويرجع إليهِ الملكُ في رقبةِ الآبق. ولو كان رهنه المشتري، أو كاتَبه، فليس للبائع ردُّ الملكِ في المكاتب والمرهون إلى نفسه.
وهذا عندنا حسن بالغ؛ فإن الرهن إذا كان لا ينفك، فيتعين أن يبقى مملوكاً للراهنِ، وكذلك القولُ في الكتابة. وإذا بقي مملوكاً له حالةَ نفوذ الفسخ، فيستحيل أن يتغير هذا بعد الفسخ.
3283 - ولو اشترى عبداً وأجّره، ثم جرى التحالف. فإن قلنا: الإجارةُ لا تمنعُ صحَّة البيع، وَرَدَ الفسخُ على رقبة العبدِ. وإن قلنا: الإجارةُ تمنع صحةَ البيع، فهذا فيه احتمال عندي يجوز أن يقال: يُنْحى بالعبد المستأجَر نحو الآبق؛ فإن البيعَ يمتنع فيه، لا لحقِّ المستأجر في رقبته -[وموردُ] (1) البيعِ الرقبةُ- وإنما امتنعَ البيعُ ليد المستأجر، ومَنع الشرع من إزالتها، وليس كذلك المرهون؛ فإن للمرتهن حقّاً في مَاليَّه الرقبة، وكذلك (2) َ القول في المُكاتَب.
هذا وجهٌ من الاحتمال، وهو الأظهرُ.
ويجوز أن يقال: العبد المستأجَر كالمرهون والمُكاتب.
هذا بيان هذا الفن.
وعَبَّر الشيخ أبو علي عن هذا الغرض بعبارةٍ أُخرى، فقال: لو اختار البائع الفسخَ
__________
(1) في الأصل: وهو رد.
(2) في الأصل: وليس كذلك.

(5/361)


والرجوعَ إلى القيمةِ، فله ذلك، ولو قال: أصبرُ حتى يفك الرهن، فله ذلك.
وهذا عندنا يخرّج على ما ذكرناه، فإن عجَّل الفسخ وأَرادَ القيمة، أُجيب إليها، ثم القول في أن المرهون عند انفكاكِ الرهن هل يعود إليه؟ على ما مضى. وإن لم يُرِد القيمةَ، وقال: أؤخر حقّي إلى انفكاكِ الرهن، فهذا نخرّجه على الخلافِ المقدَّم.
فإن قلنا: الملك في المرهون ينقلب إليه، فله أن يؤخر طلبَ القيمة.
وهذا يبنيه أصل، وهو أن كلَّ ما يجب بدلُه لمكان الحيلولة وكان زَوالُها ممكناً، فإن طلبه ذو الحق، لزم إسعافُه، وإن لم يطلبه، فأراد الضامن أن يجبره على قبوله، لم يكن له ذلك. وليس كما لو أراد من عليه دين مستقر أن يجبر مُستحِقّه على قبولهِ، فإن الأصح أنه يُجبرُ على القبول.
فنقول في مسألتنا: إن قلنا: أصلُ حق البائع القيمةُ، ولا مَعْدِل عنها، فيظهر إجباره على قبولها، على قولٍ؛ قياساً على الديون كلها. وإن قلنا: القيمة تثبت للحيلولة، فلا يُجبر البائع على قبولها.
3284 - فرع لابن الحدَّاد بناه على صورة التحَالف، ولا اختصاص له بمقصود الباب. ونحن نذكر غرضه على الإيجاز [والاختصار] (1) ونتعدَّاه.
فإذا تحالف المتعاقدان، وفرَّعنا على أن العقدَ يُفسخ ولا ينفسخ، فلو قال البائع قبل إنشاء الفسخ: هذا العبد حرٌّ إن صدق المشتري. وقال المشتري: هذا العبد حرٌّ إن صدق البائع. فإذا جرَى هذا [منهما] (2) بعد التحالف، ثم أنشأ القاضي الفسخ، نفذ الفسخُ، وحكمنا بأن العبد حر على البائع في الظاهر. وسبب ذلك أن المشتري قال قولاً لو كان كاذباً فيه، لعتق العبد، والبائع ادّعى كذبه وحلف عليه، فيجتمع من تكذيب البائع إياه، ومن قول المشتري: هو حُرّ إن صدق البائع كونُ الحرّيةِ حاصلةً على موجَب قول البائع، وهو مؤاخذ بإقراره. فهذا إذن عتقٌ محكومٌ به، ونفوذه في الباطن موقوف على موجَب علم الله.
__________
(1) زيادة من (ص).
(2) في الأصل: مبهماً.

(5/362)


فإن كان المشتري كاذباً، فالعتق واقعٌ لا محالةَ، وإن كان صادقاً، لم يقع باطناً، ولكن حُكم به ظاهِراً، من قِبَل أن العبد ارتد إلى البائع، فكان مؤاخذاً بموجَب أقوالهِ السابقة فيه.
وهذا بمثابة لو قال رجل: أعتقَ فلان عبده، فلو اشتراه هذا القائل، نفَّذنا العقدَ، وحكمنا بنفوذ العتق عليه ظاهراً؛ فإنه لم يقبل قولُه في حق البائع؛ فهو مؤاخذ بحكم قول نفسه، وهذا واضح لا يُحتاج فيه إلى تكلّف بيان.
ثم ولاءُ هذا العبدِ مشكل، ليس يدَّعيه البائع لنفسه من قِبَل أنه يقول: عَتَقَ هذا العبدُ على المشتري، فالولاءُ له، والمشتري يأباه؛ فكان الولاءُ موقوفاً. ولهذا نظائر ستأتي في كتاب الولاءِ، إن شاء الله.
ولو لم يفسخ العقد، وقال المشتري بعد جريان التفاوض الذي ذكرناه بينه وبين البائع: قد صدق البائع. فنقول: العقد يقرَّر بينهما، والعتق ينفذ على المشتري تحقيقاً إن صدق في تصديق البائع، والولاء له في ظاهِر الحكم.
ولو قالَ البائع قبل إنشاءِ الفسخ: صدق المشتري فيما ادَّعاه، فالعقد يقرَّر على موجب قول المشتري ولا ينفذ العتق على المشتري، وقول البائع لا يوجب العتقَ في العبد المبيع، فإنه ملكُ المشتري. نعم لو عادَ هذا العبد يوماً إلى البائع، فنحكم إذ ذاك بأنه يعتِق عليه، كما تمهَّد.
ولو قال المشتري بعد ما جرى منهما من تعليق العَتاقة: قد صدق البائع، فينفذ العتقُ على موجَب قوله، وتلزمُه القيمةُ للبائع عند التفاسخ؛ فإنه أعتق العبدَ بتعليقه السابق، وتصديقه اللاحق.
وبالجملة لا إشكال في أطراف المسألة كيف رُدّدت.
فرع:
3285 - إذا اشترى الرجل جارية وقبضها، واختلف المتبايعان، وترافَعا إلى مجلس الحكم، فهل يحل للمشتري وطؤُها بعد التنازع قبل التحالف؟ فعلى وجهين: أحدهما - يحل؛ فإن ملكه قائم بعدُ فيها.
والوجه الثاني - لا يحل له وطؤُها؛ فإن جهةَ الملكِ مختلفٌ فيها وإن كان أصل

(5/363)


الملكِ متفقاً عليه؛ فالمشتري يزعم أنه استفاد ملكها بسبب عقدٍ ثمنُه مائة، والبائع يزعم أنه استفاد الملك بعقد ثمنه مائتان. والقولان معتبران.
وقد قال الشافعي: إذا اشترى الرجل زوجتَه على شرط الخيارِ، لم يملِك وطأها في زمان الخيارِ؛ فإنه لا يدري أيطأ زوجتَه أو مملوكتَه، والأصح تحليل الوطء.
ولو جَرى التحالفُ، فأراد الوطءَ قبل إنشاءِ الفسخ، فوجهانِ مرتَّبان على الأول.
وهذه الصورةُ أولى بالتحريم.
أما نصُّ الشافعي فيه إذا اشترى زوجتَه بشرط الخيار، فمشكلٌ جداً؛ فإنها مستحلة في كل حساب، فلا معنى للتحريم بسبب إشكال الجهةِ، إذا كان الحل يعم الجهتين.
ولو ملك الرجل جارية، وقطع بالملك فيها، وأشكل عليه، فلم يدرِ أنه اتهبها أو ورثها أو اشتراها، فالوطء حلالٌ بلا خلاف.
وسأذكر تأويل النص في كتاب الرهن إن شاء الله عز وجل.
والذي أراه في هذا الموضع أن أوجّه الوجهين بمسلكٍ آخر، فأقول: من أباح الوطءَ فوجهُ قوله بين، ومن حرَّمه فلا ينبغي أن يعتلّ بالاختلافِ في الجهة، ولكن ينبغي أن يقول: صارت الجارية مشرفةً على استحقاق الرد على البائع، فينبغي أن يمتنع على المشتري وطؤُها. وهذا بعدَ التحالف أظهر؛ من قِبلَ أنّه لم يبق إلا إنشاءُ الفسخ.
فهذا سبيل الكلام عندنا.
وسيأتي شرحُ النصّ، إن شاء الله عز وجل.
فصل
3286 - إذا اختلف رجلان في عقدين مضافين إلى عينٍ واحدة، وذلك مثل أن يقول من في يده الجاريةُ: قد وهبتَها منّي وأقبضتنيها. وقال الآخرُ: بل بعتكها بكذا، فاختلافهما يتعلّق بعقدين: صاحب اليد يدّعي الهبةَ على صاحبه، وهو يُنكرها، فالقول قولُه مع يمينه في نفيها. وهو يدعي على صاحب اليد الشراءَ، وعهدتُه وثمنُه،

(5/364)


وهو منكرٌ، فالقول قوله في نفيه. فإذا حلف كل واحد منهما على نفي العقدِ الذي ادُّعي عليه، انتفى العقدان، ولا حاجةَ إلى فسخٍ وقولٍ بانفساخ. هذا حكمُ الظاهر، والثابتُ باطناً ما هو صِدقٌ في علم الله من قوليهما.
ووراء ذلك نظر سيأتي في كتاب الأقارير، وهو أن صاحبَ اليدِ اعترفَ بأن الجارية كانت لصاحبه، وادَّعى انتقالَ الملك فيها إليه بطريق الهبةِ، فانتفت الهبَةُ في ظاهر الحكم بيمين منكرِها، وبقي إقرارُ منكرِ الهبة بالملكِ عن جهةِ البيع. وهذا أصل من أصول الأقارير سيأتي إن شاء اللهُ. والضبط فيه أن من أقرّ باستحقاقٍ، وعزاه إلى جهةٍ، فأنكر المقَرُّ له الجهةَ فهل يثبت له الملك في المقر به؟ وسيأتي هذا مفصلاً إن شاء اللهُ.
فصل
قال: " ولو لم يختلفا وقال كل واحدٍ منهما: لا أدفع حتى أقبض ... إلى آخره " (1).
3287 - إذا باع الرجلُ سلعة معينة [بثمن] (2) في ذمّة المشتري، ثم تنازع البائعُ والمشتري في البداية بالتسليم. فقال البائع: لا أسلّم المبيعَ حتى يتوفّر عليّ الثمنُ، وقال المشتري: لا أسلِّمُ الثمنَ حتى تسلّم إليَّ المبيعَ، فمن الذي يجاب منهما إلى ما يطلبه؟
هذا غرضُ الفصلِ. والشافعي عبَّر عنه، فقال: " ولو لم يختلفا، وقال كل واحدٍ منهما ". ومعلوم أن تنازع البائع والمشترِي في البدايةِ بالتسليم اختلافٌ. فقولُ الشافعي: " ولو لم يختلفا " معناه: لم يختلفا الاختلافَ الذي تقدَّم في مقدار الثمن وجنسهِ، بل اتفقا على صفةِ العقد، وافتتحا نزاعاً في البدايةِ، وقد حكى الشافعي أقوالاً مختلفة عن العُلماء في الكبير، فحكى عن بعضهم أنهم يجبران معاً، وحكى عن
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 203.
(2) ساقطة من الأصل.

(5/365)


بعضهم أنهم لا يجبران، ولكن من تبرع منهما بتسليم ما عليه أُجبر حينئذٍ صاحبُه على تسليم ما عنده. وحكى عن بعض العلماء أنه يُجبَر البائع.
والمزني لم ينقل هذه الأقاويل، ولم يصفها، واختلف أصحابُنا: فمنهم من جعل هذه المذاهب أقوالاً للشافعي.
ومنهم من خرَّج معها قولاً رابعاً، وهو أنه يُجبَر المشتري على التَّسليم ابتداء.
وهذا مخرَّج من نصّ الشافعي في الصداق؛ فإنه أجبر الزوجَ على البدايةِ بتسليم الصداق، وهو في مقام المشتري.
ومن الأئمة من قال: مذهب الشافعي أن البائعَ يجبر على البداية بالتسليم.
والشاهد له ما نقله المزني، حيث قال: الذي أحَبَّ الشافعي من أقاويلَ وصفَها، أن نأمر البائعَ [بدفع السلعةِ إليه] (1)، ونجبر المشتري على دفع الثمن من ساعته.
ومن أصحابنا من قال: ميلُ الشافعي إلى أنهما يُجبران معاً؛ لأن المزني نقل في آخر الفصلِ عن الشافعي أنه قال: " لا ندع الناس يتمانعون الحقوق ونحن نقدر على أخذها منهم ".
3288 - والطريقة المشهورة إجراءُ أربعة أقوال، وعدُّ جميعها من المذهب، ونحن نوجهها.
فمن قال: إنهما يجبران، احتج بأن كلَّ واحدٍ منهما طلب من صاحبه مقصوداً بعوضٍ يبذله له، والإنصاف التسويةُ بينهما، من غير تخصيص أحدٍ بمزيةٍ، ومقتضى ذلك إجبارهما. وهو كما لو كان له دينٌ على إنسانٍ، ولذلك الإنسان عنده عينٌ غصبها.
ومن قال: لا يجبران، احتج بأنهما أنشآ العقدَ على التراضي بينهما، فيجب أن يدوم هذا الحكم؛ فإن أحدهما لم يلتزم شيئاً إلا بعوض، ومراعاةُ التسوية حق، كما ذكرناه، فالوجه أن يقال: من تبرع بالبداية، فقد وفَّى ما عليه، فيصير ماله بعد هذا حقاً متجدداًَ.
__________
(1) في الأصل: " يدفع إليه السلعة ".

(5/366)


ومن قال: يجبر البائعُ على البداية بالتسليم، احتجَّ بأن تصرّفَ البائع نافذٌ في الثمن، وتصرفَ المشترِي غيرُ نافذٍ في المبيع قبل القبض، فينبغي أن يملكَ المشتري إجبار البائع على تمكينه من التصرف، وإنما يحصل هذا بتسليم المبيع.
ومن قال بإجبار المشتري على البدايةِ، احتج بأن حقَّ المشتري متعيّن، وحق البائع مطلقٌ في الذمَّة، حتى كأنّهُ وعدٌ يجب الوفاء به، فله أن يجبر المشتري على تعيين حقَه. وقد يستدلُّ هذا القائلُ بأن الثمن في البيع على مضاهاة رأس المالِ في السلم. ثم يجبُ تقديم رأس المال.
وفيما قدمناه مقنع.
والأقوالُ الأربعةُ إنما تطّرد إذا كان المبيع عيناً، والثمن دَيناً.
فأما إذا باع عبداً بجاريةٍ، فالعوضان في شقي العقد عينان، ولا يجري في هذه الصورةِ إلا قولان: أحدهما - أنهما يُجبران. والثاني - أنهما لا يجبران.
وإذا كان التنازعُ في الصداق وتسليمهِ، وتسليمِ المرأةِ نفسَها، فلا يخرج إلا ثلاثة أقوالٍ: أحدها - أن الزوجَ يجبر على البداية. وهذا إذا رأينا إجبار المشتري على البداية.
والقول الثاني - أنهما يجبران معاً.
والثالث - أنهما لا يجبران، بل من بدأ بتسليم ما عليهِ أجبر صاحبه على تسليم مقابله من ساعته.
ولا يخرّج هاهنا قولٌ في إجبار المرأةِ على البداية؛ فإنها لو سلّمت نفسَها، لفاتَ الأمرُ في جانبها، وتلف منافعُ بُضعها على وجهٍ لا يتوقع لها مستدرك.
فهذا تأسيس الطرق (1) وتوجيه الأقوال.
والآن نفرعّ عليها، ونستعين الله.
3289 - أما قولنا إنهما يجبران [معاً] (2)، فمعناه أنهما محمولان على أن يأتيا
__________
(1) في (هـ 2): الأقوال.
(2) ساقطة من الأصل.

(5/367)


بعوضي العقد ناجزاً. فإن فعلا في مجلسٍ واحدٍ، انفصلَ الأمر، ويسلم المبيعُ إلى المشتري، والثمن إلى البائع. وقد يتأتى تحصيل الغرض بأن يأخذ الحاكم المبيعَ من البائع والثمنَ من المشتري، ويمسكه بنفسه، أو يضعُه على يد عدلٍ، حتى إذا اجتمعَ العِوضانِ في يدي العدل، أو في يد الحاكم، سلّم إلى كُلّ واحدٍ من المتعاقدَيْن حقَّه.
وإنما يجري ما ذكرناه إذا طلب كلُّ واحدٍ من صاحبه حقَّه، فأمَّا إذا أعرضا، فلا يتعرض لهما.
ولو طلب أحدهما حقه. والثاني معرضٌ، قلنا للمعرض منهما: أتؤدي ما عليك وتأخذ مالَكَ؟ فإذا قال: أجل، أجرينا الأمرَ في الجانبين على ما وصفناه.
وإن قال المعرض: أؤدي ما عليَّ، ولا أطلب في الحالِ مالي، فإن رضي صاحبُة بذلك، أجرينا الأمر على هذا النحو. وإن قال صاحبه: أجبروه على قبض حقه كما تأخذون حقي منه، فهذا يخرّج على أن من عليه الحقّ إذا وفَّاه، هل يُجبر صاحبُه على القبول.
وهذا يجري في الثمن، فأمَّا المبيع المعيَّنُ، فيجبر المشتري على قبوله إذا بذله البائع، وذلك أنه في ضمانِ البائع، والعقد بهذا السبب عرضة للانفساخ، فالوجه أن يخلص البائع عن غَرر الضمان.
ولو قال البائع للمشتري: دونك المبيعَ، فاقبضه، ولست أطالبُك بالثمن في الحال، فقال المشتري: لا أقبض المبيعَ حتى أتمكّن من توفية الثمن، فهو مجبر على قبض المبيع، لما ذكرناه من وجوب تخليص البائع عن عهدة العقد، إذا طلب الخلاصَ.
3290 - وإذا قلنا: إنهما لا يُجبران، فمعنى ذلك أن الطلب لا يوجه على واحدٍ منهما ابتداءً، ولكن من بدأ فوفَّى حقَّت الطَّلِبةُ على صَاحبه بتسليم ما عليه.
فأمَّا إذا قلنا: يجبر البائع على التسليم، أو لم نَرَ إجبارَه، ولكنَه تبرع بالبداية، قال الشافعي مفرّعاً على هذا: إذا سلَّم البائعُ المبيعَ، فإن كان الثمن حاضراً في المجلسِ، أُجبر المشتري على التسليم من ساعته. وإن غاب، أَشهدَ على وقف ماله

(5/368)


وعلى وقف السلعة، فإذا سلَّم ما عليه، انطلق عنه الوقف.
وهذا موقفٌ يتعين على الناظر التثبت في فهم الكلام.
أوَّلاً معناه الظاهر ضربُ الحَجْر على المشتري، هذا هو المراد بالوقف، فقد قال: أحجر عليه في سائر أمواله، وفي المبيع الذي سلّم إليه؛ حتى لا يتصرف في شيءٍ، ثم يدوم الحجر إلى أداء الثمن، فإذا أدّاه انطلق.
وهذا حجرٌ بدع لا عهدَ بمثله في القواعد.
وقد اضطرب الأصحاب؛ فذهب بعضهم إلى أن هذا الحجرَ على قياس الحجر على المفلس. ثم أصلُ المذهب فيه أن دَيْن المرء إذا زاد على ماله، وطلبَ مستحقُّ الدين الحجرَ على المديون، أجيب إلى ذلك.
وإن كان الدينُ أقلَّ من المال قليلاً، أو مثلَه، فاستدعى من يستحق الدينَ الحجرَ، ففي المسالةِ أوجهٌ ستأتي مفصلةً، إن شاء الله تعالى في كتاب الحجر.
فما ذكره الشافعيُّ من وقف مالِ المشتري وضَرْب الحجر عليهِ خارج على هذا القياس عند هذا القائل، حتى إن كان في مال المشتري وفاءٌ بالثمن أو أضعافُ الوفاء، فلا حجرَ، ولا وقف. هذا حكاه شيخي عن بعض الأصحابِ. وكان يبالغُ في تضعيف هذه الطَرِيقة ويزيفُها، وينسُب صاحبَها إلى الذهول عن فهم كلام الشافعي بالكليّة.
ونحن نصف وجهَ التزييف، ثم نفتتح معنى كلام الشافعيّ، ونبني عليه تمامَ مقصوده إن شاء اللهُ عز وجل.
3291 - أولاً - ما ذكره هذا القائل يخالفُ صريحَ النص على ما يُنقل لفظُ (1) صاحبِ المذهب. قال رضي الله عنه: " ويجبر المشتري على دفع الثمن من ساعته، فإن غاب مالُه أَشهدَ على وقفِ مالهِ، وأَشهدَ على وقف السلعة. فإذا دفع أطلق عنه الوقفُ، وإن لم يكن له مالٌ، فهذا مفلس، والبائع أحق بسلعته ولا ندع الناس يتمانعون الحقوق ".
__________
(1) ساقطة من (ص).

(5/369)


هذه ألفاظ الشافعي. وقد ذكر الوقفَ أولاً مربوطاً بغيبةِ المال، ثم ذكر المفلسَ بعد نجازِ الغَرض من الوقف الذي أشهد عليه؛ فمن نزَّل ذلك الوقفَ على وقف مال المفلس، فقد خلطَ (1) ما فصله الشافعي، وأبطل التعليلَ بغَيْبة المال. فهذا بيّن.
وأما من طريق المعنى، فإذا رأينا إجبارَ البائع على تسليم المبيع، ولم يكن مالُ المشتري في المجلسِ، فلو سلمنا المبيعَ إليه، وتركناه ينطلق، لم نأمن غوائله، وكنا معرضين حقَّ البائع للضَّياع، ولا سبيلَ إلى حبسه، فالوجه أن يُحجر [عليه، حتى نمنع] (2) عليه التصرّفات في الأموال؛ إذْ لو كان مطلقَ التصرُّفِ، لخيفَ أن يهبَ أمواله، وما قبضه الآن من طفلٍ له، ويتسبَّب إلى إبطال حق البائع؛ (3 فالوجه الأقصدُ الذي يجمع تسليمَ المبيع من غير تعرض حق البائع 3) للضياع ما ذكره.
فهذا نوع من الحجر مختصٌّ بهذا المقام. ولا يمكن تخصيص الحجر بالبعض دون البعض من أمواله.
هذا مسلك المعنى، ويترتب عليه أمران لا بد من فهمهما: أحدهما - أنا لا نعتبر قياس الحجر على المفلس في النظر إلى الأقدار كما ذكرناه.
والآخر - أن الحجر على المفلس يسلّط البائعَ على فسخ البيع، والرجوعِ إلى عين المتاع. وهذا النوع من الحجر لا يقتضي ذلك، فإنا لم نضرب هذا الحجر بسبب ضيق المال، وإنما هو لمقصودٍ آخر. ولو ظن ظانّ أن هذا الحجر يسلط على الفسخ، لكان مُزْوَرّاً (4) عن فهم مقصود المسألة بالكلِّيَّة؛ فإن الغرض تقريرُ المبيع، وإيصالُ كل ذي حق إلى حقه. وإلا فأي معنىً للإجبار على التسليم، وضربِ الحجر، حتى يثبت حق الفسخ والاسترداد.
فإذا تمهَّد ما ذكرناه، حان الآن أن نفصّل المذهبَ بعون اللهِ وتوفيقه.
__________
(1) في (ص): غلط.
(2) زيادة من (ص).
(3) ما بين القوسين سقط من (ص).
(4) مُزورّاً: بواو مفتوحة، وراءِ مثقلة: مائلاً.

(5/370)


3292 - فنقول: إذا سلّم البائعُ المبيعَ أولاً، قلنا للمشتري: عجّل الثمنَ، فإن كان حاضراً أدّاه. ولو قال المشتري مالي غائب، وسأحضره عما قريب، قال الشافعي وقفتُ ماله، كما مضى.
ثم ذكر العراقيون طريقةً نحن نطردُها، فقالوا: إن كان مال المشتري على مسافة القصر، وقد وقفنا ماله، فللبائع فسخُ العقد، والرجُوعُ إلى عين المبيع. وإن كان دون مسافة القصر ولكن كان غائباً عن البلد، فهل يثبت حق الفسخ؟ فعلى وجهين.
وإن كان المال في البلدِ، ولكن كان غائباً عن المجلس، فلا يثبتُ حقُّ الفسخِ في هذه الصورة.
هذا كلامهم.
وقال ابن سُرَيج: إن كان مالُه في البلد، ولكن كان غائباً عن مجلس التسليم، فيمهل المشتري إلى تحصيل الثمن، ويُحجر عليه، ولا يردّ المبيع إلى البائع، فأما إذا كان ماله غائباً عن البلدِ، فليرد المبيعَ إلى البائع إلى أن يتوفَّر عليه الثمن. ولا يثبت حقُّ فسخِ البيع عند ابن سريج أصلاً، بهذا الوقف الذي نص عليه الشافعي، وإنما يثبت الفسخُ إذا انتهى الأمرُ إلى الإعسار، أو إلى امتناع الوصول إلى الثمن بغيبةٍ شاسعة يُعَدّ مثلها امتناعاً.
وبين طريق ابن سُريج والعراقيين بَونٌ بينٌ. وحاصل كلام ابن سريج يؤول إلى أنا إذا عرفنا غيبة المالِ، لم نوجب على البائع البدايةَ بالتسليم؛ إذ لا فائدة في التسليم والاسترداد. ومن ربط من أصحابنا هذا الحجرَ بحد الفَلَس، أثبت للبائع الفسخَ.
فهذا بيان الطرق.
ثم الذين راعَوْا حدَّ الفَلَس، قالوا: إن كان يتأَتَّى تأديةُ الثمنِ من غير بيع المبيع، فَلا حجر، ولا وَقف. وإن كان يتأتى تأدية الثمن ببيع المبيع، أو بِبَيع بعضه ضماً إلى سائر مال المشتري، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحجر عليه؛ إذْ أداء الثمن ممكن. والثاني - يُحجر عليهِ؛ فإن بيعَ المبيع تفويتُ حق الحبس على البائع.
وهذا خبط؛ فإنه بناءٌ على حمل الوقف على حد الفَلَسِ، وليس الأمر كذلك.

(5/371)


وقد نجز الفصلُ بما فيهِ.
فرع:
3293 - إذا سلّم البائع المبيعَ، فامتنع المشتري عن تسلمه وقبضه، فقد ذكرنا في الفصل السابق ما يليق بأصل المذهب.
وقد ذكر صاحب التقريب في جواب ذلك وجوهاً، لم أر ذكرَها في قانون المذهب (1)، فرسمتُ فرعاً حتى أستوفي ما ذكره.
قال: إذا امتنع المشتري عن القبض، فالوجه إجباره، فإن لم يقبضه، قبضه القاضي عنه، أو أناب نائباً ليقبض عنه، وذكرَ وجهاً غريباً أن القاضي يبرئه من ضمان المبيع فتصير يدُه يدَ أمانةٍ؛ حتى لو تلفَ في يده، لم ينفسخ البيعُ بتلفه، وكان من ضمان المشتري.
وهذا بعيدٌ جداً، وهو في التحقيق تغييرُ وضع الشرع في قطع الضمان، لا بالطريق الشرعي. هذا إذا وجدنا قاضياً.
فأما إذا لم نجد قاضياً، وامتنع المشتري عن القبض، فالوجه القطع بأن المبيع يبقى في ضمان البائع، ويأثم المشتري بإدامةِ الضمان عليه، بسبب الامتناع عن القبض.
قال صاحب التقريب: قال بعض أصحابنا: إن البائعَ يقبض بنفسه عن نفسه للضّرورة الداعية إليه.
وهذا كما أنا نقول: إذا ظفر بغير جنس حقِّه، أو بجنسه، وقد تعذَّر عليه استيفاء حقِّه من المستحَق عليه طوعاً، يأخذ ويكون قبضاً منه بحق نفسه، فهو القابض والمقبض، فكذلك البائع يقبض للمشتري، فيكون قابضاً مقبضاً.
وهذا بعيد جداً. وإذا كان على إنسان دين، فجاء به، فامتنع مستحِقُّه من قبضه، ففي المسألة قولان مشهوران. فإن قلنا: لا يجبر مستحِق الحق على قبضه، فالقاضي لا يبرئه عن أصل الدَّيْن، وليس الإبراء عن أصل الديْن بمثابة الإبراء عن ضمان العين؛ فإن إسقاطَ أصل الحق لا وجه له. ولو صحَّ ما ذكره صاحب التقريب من تقديره قابضاً
__________
(1) (ص): الملك.

(5/372)


مُقبضاً، لكان لا يمتنع أن يجعل بنفسه -حيث لا قاضيَ- قابضاً مقبضاً حتى يصيرَ ما جاء به في يده مقبوضاً لمستحقه، ويده فيه يدُ أمانةٍ. ولا أصل لما ذكره.
فصل
قال: " ولو كان الثمن عرْضاً أو ذَهباَّ بَعينهِ ... إلى آخِره " (1).
3294 - المبيع إذا أتلفَه الأجنبي، فالمذهَبُ أن البيعَ لا ينفسخ وعليهِ التفريع.
التفريع في هذا الفصل:
3295 - فإذا فرَّعنا على أن المشتري هو الذي يبدأ بالتسليم، فللبائع حق حبس المبيع، فإذا أتلفه الأجنبي، فقد أفسدَ ملكَ المشتري، وحقُّ البائع في الحبس، فيثبت لكل واحد منهما مطالبته بالقيمة: أما المالك فلملكهِ. والبائعُ لحقه. وهذا يتفرع على أن البائع يحبس قيمةَ المبيع بالثمن، قياساً على قيمة المرهون إذا تلف.
ومن أصحابنا من يقول: ينقطع حقُّ حبس البائع بفوات عين المبيع. وقد قدّمنا هذا فيما سبق.
وإذا أتلف الأجنبيَّ العينَ المرهونةَ والتزمَ قيمتَها، توجَّهت عليه الطَّلِبةُ من الراهن لحق الملك، وتوجهت عليه الطَّلِبَةُ من المرتهن لحق الوثيقة؛ فإنّ القيمةَ إذا حصلت، كانت رهناً.
هذا متفق عليه في الرهن.
وإنما الخلاف في المبيع وحق الحبس.
وإذا أتلف البائعُ المبيعَ وقلنا: ينفسخ العقدُ، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينفسخ، فهل يطالبه المشتري بالقيمة قبل توفير الثمن؟ هذا يخرَّجُ على أن البداية بالتسليم (2) على من؟ فإن قلنا ": البدايةُ على البائع، طالبه المشتري بالقيمة قبل توفير الثمن، ثم
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 203.
(2) ساقطة من (ص).

(5/373)


ينقُد الثمنَ من ساعته، كما مضى. وإن قلنا: البداية على المشتري، فلا يطالبه بالقيمة، ما لم ينقد الثمن.
ولو سلَّم المشتري الثمنَ، والمبيعُ عبدٌ فأبِق العبدُ من يد البائع، ولم يتمكن من تسليمه، فالإباق يُثبت للمشتري حقَّ الخيارِ في فسخ البيع لا محالة. ولو لم يرد الفسخَ، وأبق العبدُ وما كان وفّر الثمن، فلا يلزمه توفيرُ الثمن.
وإن فرعنا على أن البدايةَ تجب على المشتري، فإذا وفّر الثمنَ، ثم أبق العبدُ، فهل يستردُّ الثمنَ بناءً على أنه كان لا يجب عليه التوفير بعد الإباق، فطريان الإباق هل يثبت حق الاسترداد؟
نقل القاضِي عن القفَّال أنه لا يملك استرداد الثمن. فإن أراد استرداده، فليفسخ العقدَ. وهذا محتمل. والأظهرُ ما ذكره القفال؛ فإن الاسترداد بالفسخ إذا أمكن، فهو أولى. وهذا كما أنا لا نُثبت للمشتري الرجوعَ بأرش العيب القديم مع القدرة على الرَّدِّ وفسخ العقد.
فصل
قال: " ولا أحب مبايعةَ مَن أكثرُ ماله حرام ... إلى آخره " (1).
3296 - لا يخفى حكمُ اليقين في الحل والحرمة، وإنما الكلام فيه إذا أشكل الأمرُ، وكان من يعامله المرءُ ممن يظن أنه لا يتحفظ، وقد يغلب ذلك بناء على معاملاته، مع قلّة التحفظ فيها.
أمّا الورع، فلا يخفى على من يُوفّق له، قال النبي عليه السلام: " الحلال بيَّن والحرام بين، وبينهُما أمور متشابهات فمن توقَّاهن، فقد استبرأ لدينه وعرضه "،
وفي روايةٍ: " فمن يدع ما تشابه عليه برىء له دينه، ألا إن لكل ملكٍ حمى، وحمى الله محارمُه فمن رتَع حول الحمى يوشك أن يقعَ فيهِ " (2)، وقال عليه السلام:
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 203.
(2) حديث: " الحلال بين ". متفق عليه من حديث النعمان بن بشير. مع اختلاف يسير في اللفظ =

(5/374)


"دع ما يريبُك إلى ما لا يُريبك" (1) هذا طريق الورع.
فأما الجواز والحكم بالصحة، فمذهبنا أنه وإن غلب على الظن أن ما تحويه يدُ من يعامله حرام، فالشرع يقضي بتقريره على ملكه، ولذلك نجعل القولَ قولَه إذا ادُّعي عليه مع يمينه. فإن قيل: هلا خرّجتم ذلك على قولي غلبة الظن في النجاسة والطهارة؟ قلنا: لأنا صادفنا أصلاً مرجوعاً إليه في الأملاك، وهو اليد، فاعتمدناه، ولم نجد في النجاسة والطهارة أصلاً يعارِض غلبةَ الظنّ في النجاسة إلا استصحابَ الطهارة.
* * *
__________
= (ر. البخاري: الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ح 52، وفي البيوع، باب الحلال بيّن والحرام بيّن، ح 2051، مسلم: المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ح 1599، وانظر شرح السنة للبغوي: 8/ 12 ح 2031).
(1) حديث: " دع ما يريبك ". إسناده صحيح، أخرجه النسائي: 8/ 327، 328 في الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات، ح 5714، والترمذي: صفة القيامة، ح 2518، وأحمد: 1/ 200، وصححه ابن حبان: 512، والحاكم: 2/ 13، ووافقه الذهبي (ر. شرح السنة: 8/ 16، 17 ح 2032).

(5/375)


بَابُ الشَّرْطِ الَّذي يُفْسِدُ البَيعَ
3297 - قال أئمة المذهب: الشرائط المذكورة في صُلب العقد قسمان: قسم يقتضيه إطلاق العقد، وقسم لا يقتضيه الإطلاق. فأما ما يقتضيه مطلقُ العقد، فكالملك ووجوب التسليم والتسلُّم، وجواز التصرُّف، فهذه الأشياءُ وما في معانيها مقتضياتُ العقد، فإذا وقع التعرُّضُ لها على وَفْقِ موضوع العقد، لم يضرّ.
والقسمُ الثاني - ما لا يقتضيه مطلقُ العقد، وهو ينقسم قسمين: أحدهما - لا يتعلق بمصلحة العقد. والثاني - يتعلق بها. فأما ما لا يتعلق بمصلحة العقد، ولم يرد بتسويغه الشرع، فهو ينقسم، فمنه ما يتعلّق بغرض العقدِ، (1 ومنه ما لا يتعلق به، فأما ما لا تَعلُّق له بغرض العقد 1)، فهو مثلُ أن يقول: بعتُك هذا العبدَ بألفٍ، على ألا يلبسَ بعده إلا الحرير، أو ما ضاهى ذلك من الاقتراحاتِ التي لا تعلق لها بمقصود العقد، فهذا فاسد ملغى غيرُ مفسدٍ للعقد، وهو في حكم اللغو.
وأما ما يتعلّق بغرض العقد، فهو مثل أن يقول: بعتك العبد على ألا تبيعه، أو بعتُك الجارية على ألا تطأَها، أو ما أشبه ذلك. فهذه الشرائطُ فاسدةٌ، وإذا ذُكرت في صلبِ العقد أفسدَت العقد.
هذا ما ذكرهُ الأئمّةُ، ودلّت عليه النصوص.
وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً أن الشرائط الفاسدةَ تلغو ويصحُّ العقدُ، وردّد هذا القولَ في مواضعَ من كتابه. وحكاه الشيخ أبو علي أيضاً، وزَعم بعض أصحابنا أن أبا ثور حكى هذا القولَ عن الشافعي في جميع هذه الشرائط الفاسدة التي نحن فيها.
فهذا حكيناه، ولا عَوْدَ إليه.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ص).

(5/376)


3298 - فأما ما يتعلق بمصالح العقد، كالأجل والخيارِ، وشرط الكفيل والرهن، فهذه شرائط تصحُّ إذا وافقت الشرعَ، ولا يتأتى ضبطُها من طريق المعنى؛ فإن مصالح العقود في مقاصد الخلق كثيرة، وإنما يصح منها ما ورَد التوقيف به.
ثم هذه المقاصد إن شُرطت على مقتضى الشرع، صحت وثبتت، وإن شرطت مخالفةً لمقتضى الشرع، مثل أن يثبت الخيار زائداً على الثلاث، أو يُشْرَط على الجهالة، والأجلُ إذا أثبت مجهولاً، أو شرط في عقدٍ لا يقبله.
فسبيل التقسيم فيه أن نقول: ما يذكر على الفسادِ ينقسم: فمنه ما لا يقبل الإفرادَ ولا يثبت قط إلا مشروطاً، ومنه ما يفرد بعقدٍ من غير شرطٍ. فأما ما لا يفرد كالخيار والأجل، فإذا شُرط على الفَساد، فَسدَ وأفسد العقدَ.
وما يفردُ بعقدٍ كالرهنِ والكفيل، فإذا شرط على الفساد فسدَ الشَرط. وهل يفسد العقدُ؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما، إن شاء الله، مع التوجيه والتفريع في كتاب الرهون.
فهذا في حكم التراجم الكليّة لمسائل الباب.
فصل
3299 - وإذا اشترى مملوكاً، وشرط عليه البائع أن يعتقه؛ فالمنصوص عليه للشافعي أن العقد لا يفسُد، والشرط يصح، وإن لم يكن موافقاً لمضمون العقد ومقصودِه. وليس من مصالح العقد أيضاً.
وخرَّج بعضُ أصحابنا قولاً أن البيعَ يفسد بشرط العتق، اعتباراً بسائر الشروط الفاسدة. وهذا مذهب أبي حنيفة (1). وهو القياس.
والمعوّل في نصرة القول المنصوص عليه حديث بريرة، كما سنرويه في أثناء الفصل إن شاء الله.
وذكر بعضُ أصحابنا قولاً آخر: أن البيعَ يصح والشرط يلغو.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 130 مسألة: 1209.

(5/377)


وحكى العراقيون هذا القولَ عن أبي ثور عن الشافعي.
ونقل صاحب التقريب هذا عامّاً في جميع الشرائط الفاسدة، وحكاه هؤلاء في هذا على الخصوص.
فإن ألغينا الشرطَ، فلا كلام. وإن صححناه، فيجب الوفاء به.
ثم العتق المشروط حق الله تعالى أو حقُّ البائع؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه حق الله، وهو كالعتق الملتَزَم بالنذرِ، فعلى هذا يتعين على المشتري أن يعتق، ولو عفا البائع عنه، وأسقط حقَّ العتق، لم يؤثر عفوهُ وإسقاطُه.
ولو أعتق المشتري العبد المشترَى عن كفارته، نفذ العتقُ، ولم ينصرف إلى كفارته؛ فإن من أصلنا أن العتق المستحقَّ في جهة لا ينصرف إلى جهة الكفارة، وعليه بنينا امتناعَ انصراف عتق المكاتب إلى كفّارَة العتق، إلى غيرِ ذلك من المسائل.
ومما نفرعه على هذا القول أن العتق إذا أثبتناه لله، فهل يملك البائع المطالبةَ به أم لا؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يملك ذلك؛ فإن العتق وإن كان لله تعالى، فقد ثبت بشرط البائع، وقد يكون له غرضٌ في تحصيل العتق، وإن كان منسوباً إلى [حق] (1) الله تعالى.
وإن قلنا: العتق حق البائع، فإن وفَّى المشتري به، فلا كلام. وإن امتنع، فهل يجبر المشتري عليه؟ ذكر صاحب التقريب فيه قولين: أحدهما - أنه يُجبر عليه، ويؤمر به قهراً [قياساً] (2) على سائر الحقوق المستحقَّة.
و [القول] الثاني (3) - أنه لا يجبر عليه، ولكن إذا لم يَفِ المشتري، فللبائع خيار فسخ البيع، وهو كما لو شرط في البيع رهناً أو كفيلاً، فلم يف المشتري بما اشترطه، فلا يجبر عليه، ولكن للبائع حق فسخ البيع إذا لم يسلّم له المشروط.
ولم يطرد صاحبُ التقريب القولين في شرط الرهن والكفيل، وكان لا يبعد في
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (هـ 2)، (ص).
(3) سقط من (هـ 2)، (ص) كلمة (القول) وفي الأصل (الوجه). وصوابُها: "والقول". إذ هي تفريع على كلام صاحب التقريب.

(5/378)


القياس طردُ القولين. ولعل العتق اختص بالوجوب والإجبار عليه لتميزه عما سواه بمزيَّة القوة والنفاذ، ولذلك يسري إلى ملك الغير.
التفريع:
3300 - إن حكمنا بأن المشتري يجبر على الإعتاق، فيتَّجه تخريج ذلك على قولين كالقولين في المُولي إذا لم [يفىء] (1) بعد انقضاء المدة. وثَم قولان: أحدهما - أنه يُحبس حتى يُطلِّق. والثاني - أن السلطانَ يطلَِّقُ عليه.
ويجوز أن يُقال: لا يتجه في الإجبار على العتق إلا الحبسُ، وإنما خُصَّ النكاح بتمليك السُّلطان الطلاقَ لما على المرأةِ من دوام الضِّرار. وقد يصابرُ الزوجُ طولَ الحبس نَكَداً (2).
ولو عفا البائع عن حق العِتاق، فظاهرُ المذهب أنه يسقط، وكذلك إذا كان شرط في العقد رهناً أو كفيلاً، ثم أسقط عنه ما استحقه من ذلك بالشرط، يسقُط حقّه. حتى لو أراد الرجوع إلى الطلب، لم يمكنه.
وفي كلام شيخي رمزٌ إلى خلاف هذا؛ فإن هذه الحقوقَ لا تستقل بأنفسها، فلا وجه لتخصيصها بالإسقاط. وهذا كما أن الأجلَ حق المشتري وفُسْحَتُه (3)، لا حقَّ للبائع فيه، ولو أسقط المشتري حق الأجل، لم يسقط.
فإذا جرينا على ظاهِر المذهب، وحكمنا بأن حقَّ البائع يَسقطُ بالإسقاطِ، والعتقُ حقُّه، فلو أعتق المشتري العبدَ عن كفارته، بعد إسقاطِ البائع حقَّه، فهل يقع العتق عن كفارته؟ فعلى وجهين مشهورين: أصحهما - أنه يقع عن كفارة المعتق؛ فإنه لم يبق للبائع حقٌ، والمشتري معتق على الاختيار.
والوجه الثاني - لا يقع عن كفارته؛ من جهة أن العقدَ على شرط العتاقة لا يخلو عن محاباةٍ في الثمن؛ فإن العتقَ في مقابلة تلك الحطيطة، والمشتري في حكم معتقٍ عبدَه بمالٍ عن كفارته.
__________
(1) في النسخ اللاث: لم يفِ.
(2) نكداً: أي معاسرةً، ومعاندة. (المعجم).
(3) في (ص): وفسخه.

(5/379)


وهذا في نهاية الغثاثة، ولولا اشتهار [هذا] (1) الوجه في الطرق، لما حكيته.
3301 - ومما يجب الاعتناءُ به أنا إذا جعلنا العتق لله تعالى، فإذا حققه المشتري، فلا شك أن الولاءَ له؛ فإن العتق صدرَ في ملكه، والأصل أن ولاءَ العتاقة لمن يقع العتق في ملكه.
وإن قلنا: العتق للبائع، فالولاء للمشتري، قطع به صاحب التقريب، وشيخي، والأئمةُ، والسبب فيه أن الولاءَ لو (2) كان للبائع، لاقتضى ذلك تقديرَ انقلاب الملك إليه، ونفوذَ العتق على ملكه؛ هذا لابد منه، ولو كان كذلك، لتجردَ الثمنُ عن مقابِلٍ في عقد المقابلة؛ وهذا محالٌ.
فلو شرط البائع العتقَ، وشرط لنفسه الولاء، ففي فساد العقد قولان: أحدهما - أنه يفسد (3)؛ لأن مقتضاهُ ردَّ الملك في الرقبة إلى بائعها، مع دوام استحقاقه في الثمن.
والقولُ الثاني - أن البيع لا يفسد؛ لقصة بريرة لما جاءت إلى عائشةَ تستعين بها على أداء شيء من النجوم، فقالت: لو باعوكِ، لصببت لهم ثمنَك صبّاً، فأخبرت ساداتِها، قالوا: لا نفعل ذلك إلا بشرط أن يكون ولاؤك لنا، فأخبرت عائشةَ ما قالوه، فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " اشتري واشترطي لهم الولاء، ثم قام خطيباً، وقال: ما بال أقوامٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله ... الحديث " (4)، ووجه الدليل أن النبي عليه السلام إذ أمرها بأن تشتري وتشترط، فقد كان الشراء على هذه الصفةِ مأذوناً فيه من جهة الشارع، والمأذون فيه صحيح.
فإن قيل: ما معنى قوله في خطبته؟ وما وجه إنكارِه؟ قلنا: الممكن فيه أنه نهى
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) عبارة ص: "أن الولاء كان للبائع، فافتضى ذلك .. ".
(3) في الأصل: لا يفسد.
(4) حديث بريرة متفق عليه: البخاري: كتاب البيوع، باب البيع والشراء مع النساء، ح 2155، وباب إذا اشترط شروطاً في البيع لا تحل، ح 2168، ومسلم: كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، ح 1504.

(5/380)


عن الإقدام على أمثال هذه الشرائط، واستحث على اتباع الكتاب والسنة. ولِمَا جرى حُكْمٌ بصحته؟ فإنه عليه السلام مبرأٌ عن التناقض، والأمرِ سرّاً في معرض التقرير، مع النهي عنه جهراً.
فإن قلنا: البيع فاسدٌ، فلا كلام. وإن حكمنا بصحة البيع، ففي الولاء المشروط نظر: ذهب بعضُ الأصحابِ إلى أن الوجهَ فيه إلغاءُ الشرط وتصحيحُ العقد. وهذا فاسد مع أمر النبي عليه السلام بالاشتراط، إذ قال: " اشتري واشترطي لهم الولاء " ومتعلق القول بصحة العقد قصةُ بريرة، فلا ينبغي أن يُعتبَرَ (1) أصلُها ويعطّلَ تفصيلُ القول فيها؛ فإذاً الوجهُ تصحيحُ الشرطِ إذا صححنا العقدَ؛ تعلّقاً بقصَّة بريرة. ويلزمُ من هذا أن يكون الولاءُ للبائع على حسب الشرط.
فإن قيل: يلزم منه انقلابُ الملك إليه.
قلنا: لا وجه في هذا المنتهى [إلا] (2) إثباتُ الولاء للبائع من غير تقدير نقلِ الملك، وقد ثبت الولاءُ بأسبابٍ، من غير تقدم ملك فيمن عليه الولاء، على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى. فمن أمثلة ذلك أن السيد إذا باع عبده من نفسه بمالٍ، فإذا اشترى نفسَه عَتَق، وسبيل العتق أنه ملك نفسَه، فاستحال أن يكون مملوكاً لنفسه ومالكاً. ثم إذا حصل العتق، فالولاء للسيّد.
وفي مأخذ الولاءِ على الجملة تعقيداتٌ لا يستقل هذا الفصل ببيانها.
فإن قلنا: إن الولاء للمشتري، فلا كلامَ. وإن قلنا: إنه للبائع، فلا نقدّرُ انقلابَ الملك إليه قطعاً؛ فإنّ الحكم بتقرير البيع على حقيقة المعاوضة يناقض الحكمَ بانقلاب الملكِ إلى البائع. وسببُ انفساخ البيع بتلفِ المبيع قبلَ القبض أن الملك ينقلبُ إلى البائع قبيل التلف، فامتنع مع هذا إمكان بقاء العقد.
فرع:
3302 - إذا صححنا العقدَ عند شرط العتق على الأصح، فلو تلف هذا العبدُ الذي اشتراه في يدِ المشتري بهذا الشرط قبل الوفاء، فقد تعذر المشروط الذي صار مستحقاً.
__________
(1) عبارة (ص): أن تغيير أصلها أو يعطل تفصيل القول.
(2) في الأصل: إلى.

(5/381)


وفي المسألةِ أوجه ذكرها العراقيون: أحدها - أنه لا يجبُ على المشتري شيء بسبب فوات العتق؛ فإنه تعذَر الوفاء بالمشروط وليس ذلك المتعذِّر مما يتقوّمُ في نفسه، ولو قدَّرنا للمشروط الفائت بدلاً، لكان بدلُه جميعَ القيمةِ، ولو ألزمنا المشتري جميعَ القيمة، وألزمناه الثمن المسمى؛ لكان ذلك خارجاً بالكلية عن ضبطِ القياسِ؛ ولتضمن الجمعَ بين البدل وبين المبدل في حق البائع.
والوجه الثاني - أنا نلزم المشتري تفاوتاً بين القيمتين منسوباً إلى الثمن المسمى.
وبيان ذلك أن نقولَ: هذا العبد لو بيع مطلقاً من غير شرط، فما ثمن المثل؟ فيقال: مائة وخمسون ديناراً، فنقول: وكم قيمة مثله مع هذا الشرط؟ فيقال: مائة. فنعلم أن التفاوتَ بين الثمنين في الإطلاق والشرط بنسبة الثلث، فنعود بعد ضبط هذه النسبة، ونقول: الثمن المسمى تسعون، وقد بان أن ما فات بالنسبةِ إلى الجملة [ثلث الجملة] (1) فكأنه أخذ ثمنَ ثلثي العبد، فإذا كان ثمنُ ثُلثي العبدِ تسعين، فثمن الجملة مائةٌ وخمسة وثلاثون، فيغرم المشتري للبائع على مثل هذه النسبةِ خمسةً وأربعين.
وذكرَ الشيخ أبو علي هذا الوجهَ، وألزمَ المشتري قيمةَ الثُّلث، من غير نظرٍ إلى مبلغ الثمن؛ فإنَّا قدَّرنا القيمةَ في الإطلاق مائة وخمسين، فقيمةُ الثلث خمسون إذاً، فلا حاجة إلى النظر إلى مقدار الثمن المسمى؛ بل نُلزم المشتري قيمةَ ما فات في يده، والفائت الثلثُ تقديراً، وهو خمسون.
وحقيقةُ الجوابين يرجع إلى وجهين آخرين في بيان النسبة: أحدهما - أنا نلزم المشتري القيمةَ المحققةَ في مقابلة الثلث، ولا ننظر إلى المسمى، ولا نبالي بأن تكون هذه القيمةُ مثلَ المسمى، أو أكثر منه. وفي الوجه الثاني نقول: لما باع العبدَ بتسعين، وكان قيمتُه مع الشرط مائة، فقد نزّل العقد على المسامحة والمحاباة بالثمن، فلا نُلزم المشتري إلا على نسبة المحاباة.
هذا بيان الجوابين في ذلك.
وذكر أصحابنا وجهاً ثالثاً في أصل المسألة - وهو أنا نحكم بانفساخ العقد، لتعذّر
__________
(1) ساقط من الأصل.

(5/382)


الإمضاء؛ إذْ لا وجه لإيجاب شيء من غير انتساب المشتري إلى إتلاف شيء، أو ضمان شيء بحكم اليد؛ فإنّ يده ما ثبتت إلا على ملكه؛ ولكن جرى العقدُ في وضعه مائلاً عن القياسِ فقدّر فيه وفاء بالشرط عند الوجود، ثم تعذر الوفاءُ بالموتِ، فلا حاجة (1) لإيجاب شيء على المشتري لم يلتزِمه، ولا وجه لتخليصه مجاناً؛ لأن البائع لم يرض بالقدرِ الذي سمَّاه من الثمن إلا لما شرطه من الحق، فعلى المشتري قيمةُ العبدِ، وَيسْترد الثمنَ المسمى.
هذا موجب الانفساخ.
ويُفتَرض وراء بيان الوجوه نظر في شيء، وهو أنا ذكرنا وجهين في أن العتقَ حقُّ الله تعالى أو حق البائع. فإذا فات الوفاءُ، فالأوجه الثلاثة [في الظاهر] (2) تتفرعُ على أن العتقَ حقُّ البائع، أم تتفرع على الوجهين؟ هذا فيه تدبر للناظر، ويجوز أن يقال: إنما يغرَمُ البائع إذا قدرنا الحقَّ له، ويظهر في القياس أن يطرد هذا على الوجهين؛ فإن البائع يقول: كأني لم أبع ثلث العبد، فإذا فات مشروطي فيه، فاغرَم لي في مقابلته ما يقتضيه التقسيط.
وسبب الإشكال في هذه التفريعات خروج الأصلِ عن قاعدة القياس.
فصل
3303 - إذا فسدَ البيع بفساد الشرط في أحد العوضين، فالبيع الفاسد لا يفيد الملكَ عندنا، سواء اتصل به القبضُ، أو لم يتصل، خلافاً لأبي حنيفة (3)؛ فإنه قال: إذا اتصل البيع الفاسد بالقبض، تضمن الملكَ للمشتري القابض على وجه الفساد.
ثم ما قبضه المشتري مضمونٌ عليه، ولو تلف في يده، لزمته قيمتُه للبائع؛ فإنّا إذا
__________
(1) في (هـ 2): فلا وجه.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 129 مسألة: 1208، رؤوس المسائل: 288 مسألة 176، المبسوط: 3/ 22.

(5/383)


كنا نُضمِّن المستامَ لقبضه على حكم المعاوضةِ المنتظرة، فالقبض على ظن المعاوضَة الواقعة أولى باقتضاءِ الضمان.
ثم إذا ضمناه القيمةَ، فالاعتبارُ بأيّةِ قيمة؟ ذكر الأئمة في طرقهم ثلاثة أقوالٍ، قولان منها ذكرهما العراقيون، فنذكرهما على ما ذكروا: أحدهما - أن الضمانَ على القابض كالضمان على الغاصب، فيغرَم أقصى القيم، من يوم القبض إلى يوم الفواتِ، كما سنقرر ذلكَ في أحكام الغصوب.
والقول الثاني - أنا نعتبر قيمةَ يومِ التلف؛ فإن الأصل فيما يجب رَدّه ردُّ (1) العين، والتحول إلى القيمةِ سببه فواتُ ردَّ العين. وهذا إنما يتحقق بالتلف.
وذكر المراوزَةُ القولين، فوافقوا في ضمان الغصب، وقالوا في القول الثاني الاعتبارُ بقيمته يوم القبض. هكذا ذكره الشيخ والصيدلاني وغيرُهما.
فانتظم من الطرق ثلاثةُ أقوال: أحدها - قيمةُ الغصب. والثاني - قيمةُ يوم التلف.
والثالث - قيمةُ يوم القبض. والقولان أو الأقوال نجريها في كل ضامنٍ غيرِ معتدٍ، ولا متصرفٍ في غصب، فإذا ضَمَّنا المستامَ قيمةَ ما تلف في يدهِ، فالقول في القيمةِ المعتبرةِ كما ذكرناه. وهذا يطرد في اليد المضَمَّنة التي ليست غصباً.
3304 - وفي المستعار فضلُ نظرٍ؛ فإن من استعارَ ثوباً وقبضه، فلو تلف في يَده، لزمه ضمانُه، فلو اعتبرنا أقصى القيم، لضمّناه الأجزاءَ التي أتلفها بالإبلاء، مع العلم بأنه أتلفها بإذن مالك الثوب. وكذلك لو اعتبرنا قيمةَ يوم القبض، ففيه هذا التعذّر، فما الوجه فيه؟ هذا يُبتنى على أن المستعيرَ هل يضمن الأجزاءَ التي أبلاها؟ فإن قضينا بأنه يضمنها، وهو أضعف الطرق، فيقع في عماية أخرى؛ فإن ما يفوت لا تعتبر قيمته بعد فواته. وفيه تتسلسل فروعٌ لابن الحداد في مسائل الغصوب، فلا معنى للخوض فيها الآن.
والوجه التفريعُ على الأصح، وهو أن الفائت بالبلى غيرُ مضمونٍ.
فالوجه أن نقول: إذا انسحق الثوبُ بعضَ الانسحاق، ثم تلف في يده، ففي قولٍ
__________
(1) في (هـ 2): بدل العين.

(5/384)


نقول: تجب قيمة ثوبٍ منسحقٍ بأقصى ما يقدَّر من يومِ القبضِ إلى يوم التلفِ.
وفي قولٍ تجب قيمتُه يومَ التلفِ. وهذا منطبق على الغرض.
وفي قول نقول: تجب قيمة ثوبٍ منسحق يوم القبض.
فهذا منتهى الغرض في القيمة المعتبرة.
3305 - ثم ذكر الشافعي جملاً تتعلَّق بقضايا الضمان في تصرفات صاحب اليدِ المضمنة، وتلك الأحكام تأتي مفرقةً في محالّها، ولكنا نتَّبِع ترتيب " المختصر " فنذكر منها ما يليق بشرح [السواد] (1).
فإذا قبض المشتري الجاريةَ المشتراةَ على الفسادِ ووطئها، فإن كان عالماً بالتحريم وفساد العقد، ففي الحدَّ نظر؛ من جهة خلافِ أبي حنيفة في مِلك المشترى، فيجوز أن يقال: لا حدَّ؛ لهذه الشبهة. ويجوز أن يقال: يلزم الحدَّ، لأن أبا حنيفة لا يبيح الوطء، فخلافه في الملك كخلاف العلماء في وجوب الحدّ وانتفائه، وليس هذا كما لو وطىء في نكاح المتعة، والنكاح بلا شهود وولي؛ فإن المخالف في هذه المسائل يبيح الوطء.
وتحقيق منازل الشبهات في كتاب الحدود.
وإن كان المشتري جاهلاً، فلا حد، ويلزمُ المهرُ إن كانت الأمةُ جاهلة. وإن كانت عالمةً، فينعكس هذا على الأصل، وهو أنَّ علم المشترى هل يُلحقُه بالزناة، أم لا؟ فإن لم يلحقه بالزناة، فلا أثر لعلمِها، وإن ألحقه علمه بالزناة، فإذا كانت عالمة، فهي بمثابة جاريةٍ مغصوبةٍ تطاوعُ الغاصبَ من غير استكراه ولو كان كذلك ففي ثبوت المهرِ وجهان، سيأتيان في كتاب الغصب، إن شاء الله تعالى.
فهذا قولنا في المهرِ والحدّ. فليقع الفرضُ في اطراد الجهل. ثم حكم المهر على ما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: السؤال. ورجحنا (السواد) على ما فيها من إبهام وجهالة، وغموض، لأنها تكررت مرات قبل ذلك، وفي (هـ 2)، (ص): السواد. (ليُعلم أن العمل في هذا الكتاب استغرق أكثر من عشرين عاماً، وكان هذا التعليق قبل أن ينكشف لنا الأمر بيقين جازم أن المراد بالسواد هو مختصر المزني، والله المستعان).

(5/385)


وإن علقت الجارية بمولودٍ، فالولد حرّ لا ولاءَ له (1)؛ فإنه لم يمَسه رِق، ولم ينله عتقٌ، وعليه قيمةُ المولود يوم يسقط حيّاً. وسبب ذلك أن الرق اندفع عن المولود بظنه.
ولو انفصل الولد ميتاً، فلا ضمان بلا خلاف. وهذا جارٍ في الضمان الذي يتعلق بمحالّ الغرور.
ولو غصب الرجل جاريةً، فعلقت بمولود من سفاحٍ، وانفصل المولودُ ميتاً [فالمذهب] (2) أنّه لا ضمان. وفيه شيء بعيد، سنذكره في موضعه، إن شاء الله.
وكذلك ولد الصيد في حق المحرم.
والقياس المتبع في الضمانِ في كل جنين ينفصل ميتاً هذا. إلاّ أن ينفصل بجنايةِ جان، فعلى الجاني الضمانُ. ثم ثبوت الضمان في حقّه يثبت الضمانَ في حق صاحب اليد، وفي حق المغرور.
ولا وفاء ببيان هذه الأُصول؛ فإنها قواعدُ تأتي في محالّها إن شاء الله تعالى.
ثم مما يتصل بهذا الفصل أنّ المغرورَ إذا غرِم قيمةَ الولد يرجع على من غَرّه، وفي الرجوع بالمهرِ على الغارِ قولان. والمشتري على حكم الفساد يُنظر فيه: فإن كان البائع عالماً بالفسادِ، فهو في صورة الغارّ، فلا معنى لإثبات قيمةِ الولد له؛ فإنه لو غرمه لرجع على من غرَّه. والمغروم له في هذا التقدير هو الغارُّ بعينه.
وإن كان البائع لا يدري فسادَ العقد، ففي المسألة احتمالٌ ظاهر؛ من جهة أنه لم يعتمد تغريراً، حتى ينتهض ذلك سبباً لانقلاب الضمان عليه.
وقد رمز المحققون إلى هذا التردد. واستقصاؤه في باب الغرور، إن شاء الله تعالى.
3306 - ومن أهم ما يجب الاعتناءُ به في هذه الفصول أن من ثبتت له يد مضمَّنة من غير فرض تصرّف في مغصوبٍ، فلو حدثت في يده زوائدُ منفصلةٌ وتلفت، فقد خرَّج
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): عليه.
(2) ساقطة من الأصل.

(5/386)


الأئمةُ ضمانها على القاعدةِ التي صدَّرنا الفصل بها، وهي أن العين تضمن ضمان الغصوب أم لا؟ فإن قضينا بأنها تضمن ضمان الغصوب، [فالزوائد مضمونة. وإن حكمنا بأنها لا تضمن ضمان الغصوب] (1)، فالضمان لا يتعداها إلى الزوائد.
وظاهر نص الشافعي يُشعرُ بإثبات ضمان الغصوب في الأيدي المضمَّنة. وذلك أنه قال: " لو غصب جارية، وتلفت في يده، ضمن أكثر ما كانت قيمته من يوم الغصب إلى يوم التلف ". ثم قال: " وكذلك البيع الفاسدُ ". فكان هذا العطف ظاهراً فيما ذكرناه.
فإن قيل: إذا لم توجبوا ضمانَ الأولاد، فلم أوجبتم قيمة الولد إذا انفصل حياً على الحرية؟ قلنا: سببه أن المغرور في تقدير الشرع منتسبٌ إلى تفويت الرق، وهذا يلتحق بباب ضمان القيم على المتلِفين، ولكنا لا نضمنه إذا انفصل ميتاً؛ لأنه لم يخرج وله تقدير قيمة، وليس مفوتَ روحه، بخلاف الجاني الذي تصير جنايتُه سبباً لتفويت الروح أو منعها في الانسلاك.
ومما أجراه الأصحاب في أدراج هذه الأحكام المرسلة أن الجاريةَ لو علقت بالمولود، وماتت في الطَّلْق، وجب ضمانُ قيمتها وإن ماتت بعد الرَّدِّ؛ لأنه المتسبّب إلى الحمل المفضِي إلى الطلق.
ولو وطىء حُرّةً زانياً، واستكرهها وعلقت بمولود، ثم ماتت في الطلق، ففي ضمان الدِّية قولان: أحدهما - أنه يجب قياساً على نظيره في الجارية. والثاني - لا يجب؛ فإن اليدَ لا تثبت على الحرة. وإنما اعتضد الضمان في الأمة باتصالِ اليد المضمنة بها في ابتداءِ السبب.
ثم إذا علقت الجاريةُ بمولودٍ حرٍّ، لم تصر أمَّ ولد في الحال؛ فإن الوطء لم يصادف ملكَ الواطىء. ولو ملك الواطىء الجاريةَ يوماً، فهل تصير عند الملكِ مستولدةً له؟ فعلى [قولين سيأتي] (2) توجيههما في أمهات الأولاد، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) زيادة من (هـ 2)، (ص).

(5/387)


فصل
قال: " ولو اشترى زرعاً، واشترط على البائع حصادَه ... إلى آخره " (1).
3307 - إذا اشترى زرعاً بدينارٍ، على أن يحصده البائع. هذه صورةُ المسألة. وعلى الناظر أن يعتني في مضمون هذا الفصل بصيغ ألفاظ العاقدين.
والذي نرى في ذلك أن نجدّد العهدَ بأصولٍ سبقت، ونرمز إلى بعض ما يأتي مما تَمَسُّ الحاجةُ إليه، ثم نخوضُ في تفصيل مسائل الفصل:
فممَّا مضى أن من جمع في صفقةٍ واحدةٍ بين إجارة وبيعٍ، فهل يُقضى بصحة العقد؟ وذلك إذا قال: بعتُك عبدي هذا وأجرتك داري بدينارٍ. هذا من قواعد تفريق الصفقة، وقد مضى. ومما سيأتي أن شرط عقدٍ في عقدٍ يُفسد العقدَ المشروطَ فيه، وذلك مثل أن يقول: بعتُك داري هذه بألفٍ على أن تبيعني عبدك. فبيعُ الدارِ يَفسُد بشرط بيع العبد فيه. وعليه حمل " نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة " على ما سيأتي إن شاء الله.
وممَّا يتعين ذكره في مقدمة هذه المسائل أن الرجل إذا قال لعبده: كاتبتُك وبعتُك عبدِي هذا بكذا، فإذا قبل العبد، فقد وقع أحد سْقَّي العقد من العبد المخاطب، قبل انعقادِ الكتابةِ، والظاهرُ الحكمُ ببطلان البيع، لما أشرنا إليه.
فإذا تمهدت الأصول، خُضنا بعدها في المسائل.
3308 - فإذا قال: اشتريت منك هذا الزرعَ، واستأجرتُك على حصاده بدينارٍ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقين: فمنهم من قال: في فساد الإجارة والبيع قولان مأخوذان من الجمع بين الإجارة والبيع في صفقةٍ.
ومنهم من قال: الإجارةُ فاسدةٌ قولاً واحداً؛ لأن أحدَ شِقَّيها وقع قبل ملك الزرع، وإنما يصح الاستئجار على العملِ في مملوكٍ، فإن من استأجر إنساناً على حصاد زرعٍ لم يملكه، ثم استفاد ذلك الزرعَ، فذلك الاستئجار مردود. ثم إذا فسدت
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 203.

(5/388)


الإجارةُ في مسألتنا، ففي فساد البيع قولان ملحقانِ بالقولين في صفقةٍ تشتمل على شيئين، وتفسدُ في أحدهما، هل يُقضى بفسادها في الثاني؟ كالجمع بين عبدٍ مملوكٍ وعبدٍ مغصوبٍ؟
هذا تفصيل القول فيه إذا قال: اشتريت هذا الزرعَ، واستأجرتك على حصَادهِ.
فأما إذا قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ على أن تحصده، فقد اختلف أصحابنا أولاً في قوله على أن تحصدَه، فمنهم من قال: هذا شرط عقدٍ في عقد؛ فتفسدُ الصفقةُ من أصلها، ولا يكون من فروع تفريق الصفقة. ومنهم من قال: قوله على أن تحصده وإن (1) كان على صيغة الشرط، فالملتمَس والمقصودُ من اللفظ تحصيلُ الزرع ومنفعةُ الحاصدِ بدينارٍ، فيكون كما لو قال: اشتريت الزرعَ واستأجرتُك بدينارٍ.
وقد فصلنا هذا على ما ينبغي. والألفاظ تُعنَى لمعانيها.
3309 - ولو قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ، واستأجرتُكَ على حصاده بدرهم، فقد فصل الإجارةَ عن البيع، وذكر لكل واحد من المقصودين عوضاً.
أما الإجارةُ ففي فسادِها وصحتها ما تقدَّم. وأما بيع الزرع، فصحيح قولاً واحداً، ولا يلتحق هذا بتفريق الصفقة؛ فإن التفريق إنما يجري إذا اتحد العوضُ، وجَمَعت الصفقةُ مقصودَين مختلفين. وسبب الاختلاف ما تقدم من مسيس الحاجةِ إلى توزيعِ العوض عند اختلاف المقصودَين فسخاً وإبقاءً.
ولو قال: اشتريتُ منك هذا الزرعَ بدينارٍ على أن تحصده بدرهمٍ، فبيع الزرع باطل، قولاً واحداً؛ فإنه لما أفرد الإجارةَ بعوضٍ، جعلها عقداً على حيالها، وشرطها في عقد البيع؛ فكان هذا تصريحاً بشرط عقدٍ في عقد.
3310 - وجميعُ مقاصدِ الفصل تأتي في تفصيل هذه المسألةِ الواحدةِ. ولكنا نذكر أخرى للتوطئة والتمهيد.
__________
(1) في الأصل: فإن.

(5/389)


فإذا قال: اشتريت منك هذا الصَّرْم (1)، واستأجرتُك لخصفه على هذا الخف، فهذا يناظر ما لو قال: اشتريت منك هذا الزرع واستأجرتُك لحصاده. وإن قال: اشتريت منك هذا الصَّرْم بدرهمٍ على أن تخصفه على هذا الخف، فهو كما لو قال: اشتريت منك هذا الزرعَ على أن تحصده.
والجملة في نظائر هذه المسائل أنه يجري فيها إجارةٌ يقع شقُّها قبل الملك، ويجري فيها إقامةُ لفظ الشرط مقام الاستئجار، ويجري فيها قواعدُ تفريق الصفقة، ويجري أيضاً شرطُ عقدٍ في عقدٍ، على وفاق وعلى خلاف.
فلا يُشكِل بعد هذا الترتيب هذا الفنُّ على الفطن.
فصل
قال: " ولو قال: بعني هذه الصُّبرة كل إردبّ بدرهم ... إلى آخره " (2).
3311 - الإردب مكيال من مكاييل مِصرَ، واللفظ من لغة أهله، وقيل: إنه يسع أربعة وعشرين صاعاً، والقفيز عندهم على النصف من الإردب.
فإذا أشار الرجل إلى صبرةٍ معلومةِ الصّيعانِ أو مجهولةِ الصيعان، وقال: بعتك هذه الصُّبرةَ، كل صاع بدرهم. فالبيع صحيح، سواء كانت الصّبرةُ معلومةَ الصيعان، أو مجهولةَ الصيعان.
فإن قيل: كيف قطعتم بصحة العقد، ولو سئل المتعاقِدان على مبلغ الثمن، لم يُعربا عنه، ولم يعرفاه، وهلاَّ نزلتم هذا منزلة ما لو قال الرجل: بعتك داري هذه بما باع فلان عبده؟ قلنا: الصُّبرةُ مرتبطة بالعِيان، وهو أعلى جهات الإعلام، والثمن مرتبط بها، فالثمن إذن معلوم من نفس مقتضى العقد؛ من جهة إعلام المبيع. وليس ذلك كربط الإعلام بشيءٍ لا تعلّق له بالعقد. والكلام الظاهر فيه أن من اشترى ملء بيت من الحنطة على نسبة معلومةٍ من الثمن، فهو في العرف ليس مغروراً، والرجوع في
__________
(1) الصَّرْمُ: الجلد. والخصف في النعال، كالترقيع في الثياب. (المعجم).
(2) ر. المختصر: 2/ 203.

(5/390)


طريق الإعلام إلى العرف. وإذا قال: بعتُك بما باع به فلانٌ، فهو على غررٍ منه، وبين حالتين في القلّة والكثرة تسوءه إحداهما وتسرّه أخرى.
3312 - ثم صور الشافعي صيغاً في العقد والاستثناءات، ونحن نتبع مسائله.
فمما ذكره أنه لو قال: بعني هذه الصُّبرةَ كل صاع بدرهم، على أن تزيدَني صاعاً، فأجابه صاحبُ الصُّبرة على حسب لفظه. فقوله على أن تزيدني لفظٌ فيه تردد، فإن زعم الشارطُ أنه أراد بقوله على أن تزيدني أن يهب منه صاعاً من غير هذه الصبرة، فهذا شرطُ هبةٍ في البيع، وهو مفسد للعقد لا محالة.
وإن قال عَنَيْت بقولي: " على أن تزيدني صاعاً " أن يعتبر صيعانَ الصبرة بالدراهم، وُيعري عن هذا الحساب صاعاً واحداً، ولم يقصد أن يكون ذلك الصاع موهوباً، ولكن رام إدراج جميع الصُّبرة في العقد، على الحساب الذي قدره (1).
فالذي ذكره الأصحاب في ذلك أن صيعان الصُّبرة إن كانت معلومة، فالبيع صحيح، والتقديرُ فيه أن الصبرةَ إذا كانت عشرة آصُع مثلاً، وعلم المتعاقدان ذلك، فيرجع حاصل ما ذكره المشتري إلى بيع الصبرة كل صاع وتُسعٍ بدرهم. ولو صرح بهذا، صح. فإذا عناه بلفظه، وهو محتمل، صح.
وذكر صاحب التقريب وجهاً، ومال إليه: أن البيع لا يصح في هذه الصبرة؛ فإن ما ذكره من المعنى وهو بيع الصاعِ والتسع بالدرهم وإن كان صحيحاً، فالعبارةُ لا تنبىء عنه إلا على بُعدٍ في المحمل، يضاهي محامل اللُّغز، وينضم إليه أنه ذكرَ مقصودَه بصيغة الشرط. وقد قدمنا في الفصل السابق ما يبطل بصيغ الشروط، وعليه خرَّجنا فسادَ الصفقةِ في وجه إذا قال: اشتريت هذا الزرعَ منك على أن تحصده.
وإن كانت الصُّبرةُ مجهولةَ الصيعان عندهما، أو عند أحدهما، فالبيع باطل؛ فإن الصاع المستثنى يغيِّر مقابلةَ الصاع بالدرهم. ويرجع الأمر إلى مقابلة صاعٍ وشيء بدرهم، وليسا يَدرِيَان (2) أن الزوائد على كل صاعٍ ليقابله درهم كم تقع؛ فالمقصودُ إذاً
__________
(1) عبارة (ص): الحساب الذي ذكره فالأصحاب في ذلك ....
(2) في (هـ 2): يدري أين.

(5/391)


مجهول. ولو أراد أن يعبر عن سعر الحنطة في الصفقة، لم يجد إليهِ سبيلاً، وكأنهما (1) قالا: كلُّ صاع وشيء بدرهم. وهذا باطل.
فهذا بيان مسألةٍ.
3313 - والمسألة الثانية: أن يقول: اشتريتُ هذه الصبرةَ كل صاعٍ بدرهمٍ، على أن أنقص صاعاً، فهذه اللفظةُ مترددةٌ، كما تقدَّم.
فإن عَنَى بذلك أن يهبَ منه صاعاً من الصبرة، ويبيعَ الباقي بحساب الدرهم، فهذا شرطُ هبةٍ في بيعٍ. وإن أراد تغيير الحساب، وقال: يكون الحساب بيننا والصبرة مبيعةٌ على هذا النحو، فهو كما لو قال: على أن تزيدني. وقد مضى التفصيل فيه والفرق بين أن تكون الصيعان معلومة أو مجهولة.
وقد نجز غرضُ الأصحاب.
3314 - ولا يصفو الفصل عن الكدر إلا بالتنبيه لأمرٍ: قال الأئمة رضي الله عنهم: كل لفظ نيط به حكم، وهو مما ينفرد اللاَّفظ به، ولا يحتاج إلى جواب مخاطب، فهو قابل للصَّريح والكناية: كالطلاق والعتاق، والإبراء، والإقرار، وما في معانيها.
فهذه الأشياء يتطرّق إليها الصريح والكناية، ثم الكنايات مفتقرةٌ إلى نية اللاَّفظ، والرجوعُ فيها إليه، كما سيأتي تفصيله في كتاب الطلاق.
وأما ما لا يستقل فيه لفظُ شخصٍ واحدٍ، ويستدعي جواباً: كالعقودِ المفتقرةِ إلى الإيجاب والقبول، فلا شكّ في انعقادِها بالصريح (2).
وأما تقديرُ عقدِها بالكنايات، فالعقود تنقسم إلى ما تفتقر إلى الإشهاد وإلى ما لا تفتقر إليه.
فأما المفتقر إلى الإشهاد: كالنكاح وكبيع الوكيل إذا شرط الموكِّلُ عليه الإشهاد على البيع، فلا ينعقد بالكناية؛ فإن الشهود لا يطلعون على القُصود، ومجردُ الألفاظ إذا كانت كنايات لا تكون عقوداً.
__________
(1) في (هـ 2) كلاهما قالا.
(2) في (هـ 2): بالصرايح.

(5/392)


فأما ما لا يفتقر إلى الإشهادِ، فينقسم إلى ما يتطرق إليه التعليق بالإغرار، وإلى ما لا يقبل ذلك: فأمَّا ما يكون مضمونه قابلاً للإغرار، فيصح العقد فيه بالكنايات مع النياتِ، كالخلع وعقود العتاقة، والصلح عن الدم. وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا قال لامرأته: أنت بائنٌ بألفٍ، فقالت: قبلتُ ونويا، وقع الطلاق مبيناً، وصح الخلع.
وأما العقود التي لا يقبل مقصودُها التعليقَ ولا يشتَرط فيها الإشهاد، ففي انعقادِها بالكنايات وجهان مشهوران: أحدهما - الانعقاد كالخلع وما في معناه، وكالألفاظ الفردةِ التي لا تفتقر إلى جواب.
والوجه الثاني - أنها لا تصح، فإن المخاطَبَ لا يدري بم خُوطب، ولا يتأتى التخاطب بالكناياتِ، كما لا يتأتى تحمّل الشهادة، حيث تُشرط الشهادة في الكنايات.
فهذا عقدُ هذه الجملة.
3315 - والذي أراه فيها أن قرائن الأحوال لا معتبر بها عندنا في التحاق الكنايات بالصرائح. حتى إذا قال الرجل في حال مسألة الطلاق وظهور مخايل إرادة الطلاق: أنتِ بائن. وقال: لم أُردِ الطلاق، صُدِّق مع يمينه. خلافاً لأبي حنيفة (1).
ومجرد القرائن لا تصلح للعقود، ولذلك لا نجعل المعاطاةَ بيعاً، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل.
وإذا فرض في العقد المفتقر إلى الإيجاب والقبول كناياتٌ، وانضمَّت إليها قرائن الأحوال، وترتب عليها التفاهم، فيجب القطع بصحة العقد؛ تعويلاً على التفاهم.
ومَوضع خلاف الأصحابِ في انعدام قرائن الأحوال، والظاهر أن لا عقدَ إذا لم يحصل التفاهم.
فإن قيل: هلاّ انعقد النكاح بالكناية مع قرينة الحال إذا حضر الشهود؟ قلنا: ما يتعلق بالجحود لا ينفع فيها قرينة الحال عندنا، والغرض من حضور الشهود إثباتُ
__________
(1) ر. فتح القدير: 3/ 400، البحر الرائق: 3/ 322.

(5/393)


مجحودِ. ثم مسألة النكاح لم تبن على هذه النكتة فحسب، وإنما مدارها على تعبُّدات رعاها الشافعيُّ (1) كما قرَّرناه في (الأساليب).
فإن قيل: أطلق الشافعي ألفاظاً مجملةَ، وحكم بانعقاد العقد بها. وهذا يخالف ما رتّبتموه. قلنا: لم يقصد الشافعي الكلامَ على المجمل والمفصَّل، والصريح والكناية، وإنما تعرض لتفصيل المعاني التي تصح العقود عليها وتفسد. كما تفصّل الغرض فيه.
ويُمكن فرض الأمر في قرينة كما ذكرتها حتى يردَّ غرض الفصل إلى المعنى. فأما إذا ذكر اللفظ من غير قرينةٍ، وهو كناية، فلا بد من تخريج المسألة على القاعدة التي مهَّدناها في الصرائح والكنايات.
فليتخذ الناظر ما ذكرناه معتبره في نظائر هذه المسألة من الألفاظ المترددة من جهاتِ الاحتمالات.
فصل
قال: " ولو اشترط في بيع السمن أن يزنه بظروفه ... إلى آخره " (2).
3316 - الفصل يشتمل على مسائلَ مرسلة نذكرها، إن شاء الله: منها أنه إذا أشار إلى سمن في وعاء وقد عُهِد الوعاء من قبل، وعُرف غلظه ودِقته، أو كان شيئاً لا يتوقع فيه تفاوت به مبالاة، كالزِّق وما في معناه. فإذا قال والحالةُ هذه: بعتك هذا السمنَ بكذا، وكان وجهه بادياً وأجزاؤه متساوية، فالبيع صحيح لا شكَّ فيه.
ولو كان السمن في ظرف مختلفِ الأجزاء دقةً وغلظاً، وكان بحيث لا يستدل بما يبدو من طرفه على ما يغيب عن البصر من باطنه، وجوَّز المشتري أن يتفاوت الأمرُ تفاوتاً بيِّناً، فقد ذهب بعضُ المحققين إلى أن البيع يبطل في هذه الصورة.
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث. ولعل الصواب: رعاها الشارع.
(2) ر. المختصر: 2/ 203.

(5/394)


والسبب فيه أن التعويل على العِيان في هذا البيع، والعِيان ليس مفيداً إحاطة، فكان كَلاَ عِيان، والجهالة مفسدةٌ للعقد.
وقال شيخي أبو محمد: البيع في مثل هذا مخرَّج على قولي بيعِ الغائب، ولا وجه (1) للقطع بالفساد. وهذا الذي ذكره صحيح لا شك فيه.
ومن أفسد البيع من أصحابنا فرَّع قولَه على منع بيع الغائب. ولا يُظن بمن يرجع إلى تحقيقٍ يخرّج بيعَ الغائب فيه إذا قال البائع: بعتك الثوبَ الذي في كُمّي على قولين، مع القطع ببيع السمن في الظَّرف الذي يُظن اختلاف أجزائه.
والذي يبيّن الغرضَ في هذا الفصل أن العِيان إذا أفاد الإحاطةَ بالجوانب، ولم يُبن خلافَ ذلك، فهو إعلام، وإن كان العيان لا يفيد الإحاطةَ في الحال، كما ذكرناه في الظرف المشكل. فالوجهُ إلحاق ذلك ببيع الغائب.
وإن بني العقدُ على عيانٍ يثير غلبةَ الظن بالإحاطة، ثم يتبين أمر يخالف هذا: كالرجل يشتري صُبرةً، ويظنها على استواءٍ من الأرض، ثم يبينُ في خَلِلها دِكّة (2)، أو كما اشترى فاكهةً متساويةَ الأجزاء في قرطالة (3)، يحسبها ملءَ القِرطالة، فيبين في أسفلها حشوٌ، الصحيح الحكمُ بالصحة في هذه المسائل، مع إثبات الخيار للمشتري؛ فإن العيان أشعر بظنٍّ في الإعلام، فاعتمده العقدُ، ثم لما بان خلافُ المظنون، اقتضى ذلك الخيارَ.
وكان شيخي أبو محمد يُلحق هذا القسمَ ببيع الغائب أيضاً. ويقول: إن ظننا إفادَةَ العيانِ علماً، فقد تبيَّنا بالأَخَرة خلافَ ذلك، فليقع التعويل على المعلوم آخراً، لا على المظنون أولاً.
__________
(1) في (ص): والأوجه القطع بالفساد.
(2) ساقطة من (هـ 2).
(3) القِرطالة: عِدْل حمارٍ، والقِرْطل سلة من العنب. قيل معزبة عن اليونانية، وقيل عن الفارسية (معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة) وعِدْل الحمار هو ما يوضع على ظهره لتوضع فيه البضائع والأمتعة، والعِدْل المثل والمساوي، وسمي ما يوضع على ظهر الحمار بذلك لأن له ظرفين متعادلين؛ حتى يستقر الحمل على ظهره، ولا يميل.

(5/395)


ولو اشترى سمناً في بُستوقةٍ (1) وهو يرى الغِلَظَ والدقة من رأس البستوقة، والغالب على الظن أنها لا تتفاوت، فالذي يقعُ الحكمُ به ظاهراً الصحَّةُ، فإن بان تفاوتٌ في غلظ الداخل على خلاف الاعتياد، التحقت المسألةُ بالصُّبرة التي يبين تحتها دكة. وقد تفصل المذهب فيه.
3317 - فإن قيل: إذا كان العيان لا يفيد إعلامَ المقدار، ولا تغليبَ الظن، فقد ألحقتم القولَ فيه ببيع الغائب، فبم تنكرون على من يقول: إذا كان المبيع متساوي الأجزاء، ولم يختلف ظاهره وباطنه، وإنما بان تفاوتٌ في المقدار، فالبيع صحيح، فإن صحَّةَ البيع تعتمد العلمَ بصفةِ المبيع، لا بمقدارِه؛ فإن المقدارَ إنما يراعى في عقود الربا؟
قلنا: القدر معني من المبيع، كما أن الصفة معنيّهٌ منه، ولعلّ القدرَ أوْلى بالرعايةِ؛ فإن المقدار من المبيع مبيعٌ، والصفةُ لا تستحق إلا تبعاً، وإنما صح بيع الصُّبرة على الاستواءِ من الأرض؛ من حيث إن العِيان يحصرها ويحيط بها.
فإن قيل: العيان لا يقدّر الصبرة إلا خرْصاً وحزْراً، وقد لا يعرف الحَزْر إلاَّ الخواصُّ من الناس، ثم صح البيع، دلَّ أن القدرَ ليس معنِياً، ولما كان القدر معنيّاً معتبراً في الربويات، لم يجز التعويلُ فيها على العيان. واعتقد مالكٌ (2) الاعتناءَ بمعرفة المقدار، فمنع بيع الصُّبرة جزافاً بالدراهم، ومنع بيع السلعة بكف من الدراهم جزافاً.
قلنا: أما الربويات، فالتعويل فيها على التعبد، وما تعبدنا فيه بالكيل لا نقنع فيه بالوزن، وإن كان أَحْصرَ. وأما ما ذكره السائل من الحزر، واختصاص بعض الناسِ به، فصحيح. ولكن العقد يبتنى على إحاطة العيان، لا على إحاطة المقدار؛ فالذي عاين الصُّبرة واشتراها، اعتقدَ أن الصبرةَ إلى استواء الأرض حنطةٌ، وربط العقدَ به، فهذا هو المعتبرُ لا الحزر.
__________
(1) البُستوقة: القلة من الفخار. تعريب (بستو) (معجم الألفاظ الفارسية).
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 573 مسألة 951.

(5/396)


وعلى الجملة لِما بحث السائل عنه وَقْعٌ.
وقد ذهبَ بعض أصحابنا فيما حكاهُ الشيخ أبو علي في مذهبه الكبير (1) أن جهالةَ المقدارِ لا تُلحق البيعَ ببيع الغائب، ولكنه من تفرّداته. وإنما يُفتَى بما يأتي به في شرحه، فلذلك أخرتها. فهذه مسألة.
3318 - ومن مسائل الفصل أنه لو باع السمنَ مع الظرف: كل منّ بكذا، وشَرَطَ طرحَ وزن الظرف، صح البيع. وإن قال بعتُك هذا السمنَ كلَّ مَن بكذا على أن أزنه بظرفه، ولا أحط وزنَ الظرف، فهذا باطل؛ لأنه وجه العقد على السمن، ثم شرط أن يتسلم ما ليس بسمن بدلاً عن السمن. وهذا قولٌ متناقض؛ فلا ينعقد البيع.
وإن قال: بعتُك السمن مع الظرف، كل من بكذا، فمقتضى لفظه لا تناقض فيه، ومقصوده وزن الظرف مع السمن، وبيعه بحسابه، فإن كان الظرف متقوّماً بحيث يصح إفراده بالبيع، فالبيع صحيح وإن اختلفَ جنس السمن والظرف. وقد تختلف القيمة، وهو كبيع الفواكه المختلطة على وزن واحدٍ في الجميع.
وقال بعض أصحابنا: لا يجوز البيع كذلك؛ لأنه لا يعرف قدر السمن والظرف، والمقاصد تختلف في ذلك. وقد قدمنا في الفواكه المختلطة كلاماً فيما مضى، فلو كانا عالمين بمقدار الظرف وجرى العقد كما ذكرناه، صح بلا خلافٍ.
فرع:
3319 - إذا قال بعتك من هذا السمن كلَّ منّ بدرهم، أو بعتك من هذه الصُّبرة كلَّ صاع بدرهم، فلفظه ليس يتضمن استيعاب الجميع؛ فإن من مقتضاه التبعيضُ، فلا يصح العقد بهذا اللفظ في جميع السمن والصبرة. وهل يصح العقد في منّ أو صاع؟
ذكر صاحب التقريب فيه وجهين، وشبَّهها بمسألة في الإجارة: وهي إذا قال:
__________
(1) المذهب الكبير هو شرح الشيخ أبي علي مختصر المزني. ولم يعرف هذا الشرح بهذا الاسم، وربما لم يطلقه عليه إلا إمام الحرمين. يبدو هذا من عبارة السبكي في الطبقات، حيث يقول في ترجمة الشيخ أبي علي: "وصنف شرحَ المختصر، وهو الذي يسميه إمام الحرمين بالمذهب الكبير" (ر. الطبقات: 4/ 344).

(5/397)


آجرتك (1) هذا الحانوتَ، كل شهر بعشرةٍ، فليس للإجارة أمد [بحدود] (2) وإنما هي معقودةٌ على الأبدِ، والمعتمد تبيين حصَّةِ كل شهر، فالإجارةُ فاسدة فيما وراء الشهر الأول، وهل تصح في الشهر الأول بالقِسط [المذكور] (3)؟ فعلى وجهين. قال صاحب التقريب: الصاع من الصبرة بمثابة الشهر في الصورة التي ذكرناها. وما ذكره قريبٌ. ولكن الأصح فساد الإجارة في الشهر الأول. والوجه المذكور فيه ساقط غير معتدِّ به.
فرع:
3320 - إذا قال بعتك السمن مع ظرفهِ هذا، كل من بدرهمٍ، وكان الظرف غير متقوم؛ بحيث لو قدر إفراده بالبيع لم يصح. فقد قطع بعض أصحابنا بفساد البيع في السمن؛ من حيث اشتمل على اشتراط بذل مالٍ في مقابلةِ ما ليس بمال. والوجه عندنا تخريج هذا على تفريق الصفقة: فالزق مع السمن جُمعا في العقد، وقوبلا بالثمن، فكان ذلك كصفقة تجمع حُرّاً وعبداً، أو شاة وخنزيراً.
فصل
قال: " ولو اشترط الخيار في البيع أكثرَ من ثلاث ... إلى آخره " (4).
3321 - قد سبق القول في خيار المجلس وخيار الشرط على أبلغ وجهٍ في الاستقصاءِ، والغرض من ذكر هذا الفصل بيانُ ميل النص إلى وجهٍ ضعيف في القياس، ثم نذكر بعد التنبيه ما رأيناه للأصحاب. فإن كان زائداً على ما قدمناه في صدر الكتاب، فليضمَّه الناظرُ إلى ما تقدَّم، وإن [لم يكن] (5) زائداً، لم تضر الإعادة.
__________
(1) أَجَرْتُك الدارَ، من باب قتل، وفيها لغة ثانية من باب ضرب، والثالثة: آجرتُك (بالمد) وهي من أفعل لا من فاعَل. فآجرتُ: أفعلت فأنا مؤجر، ولا يقال: مؤاجر. (مصباح).
(2) في الأصل: ممدود.
(3) في الأصل: الأول.
(4) ر. المختصر: 2/ 204.
(5) في الأصل: وإن كان.

(5/398)


ظهر اختلاف الأصحاب في أن البيع إذا اشتمل على شرط خيار ثلاثة أيامٍ، فابتداء زمان الخيار يحسب من وقت العقد، أو من وقت التفرق؟ فيه وجهان ذكرناهما: أقيسهما - أنه من وقتِ العقد؛ فإن وقت التفرق مجهول، والمجلس قد يقصر وقد يطول، وإثبات المجهول لا يليق بعقد البيع. هذا هو القياس.
والوجه الثاني - أن ابتداء المدة محسوبٌ من وقت التفرق، وعليه يدلّ نص الشافعي، وقد ذكرنا توجيهَ هذا الوجه في موضعهِ. والغرضُ من إعادته ما ذكرنا من ميل النصّ إليه.
وإذا كان كذلك، فيتعين الاعتناءُ بالجواب عما ذكره صاحبُ الوجهِ الآخر من الجهالةِ، فنقول: لا جهالةَ في الخيارِ المشروط، وإنما الجهالةُ في أمدِ المجلس، وذلك محتمل بلا خلافٍ. والذي ذكره ناصرُ ذلك الوجهِ لا يفضي إلى جهالةٍ في الخيار المشروط، فإن جُهِلَ مبتدؤه، فهو بمثابة الجهل بمبتدأ لزوم الملك. وهذا بالِغٌ في دفع فصل الجهالةِ.
والذي يتوجَّه به النصُّ أن شرط الخيار يشعر بتخير مشروطٍ، لولا الشرطُ، لثبت نقيضُه. ولو أثبتنا خيار الشرط من ابتداء العقد، لما كان في الشرط معنى، والخيارُ ثابتٌ لحق المجلس، والأجلُ المطلق في العقد خارج على الخلاف أيضاً. ولكن الإمام (1) كان يرتّبه على خيار الشرط، ويقول: إن حكمنا بأن ابتداءَ الخيارِ محسوبٌ من وقتِ العقد، فالأجل (2) بذلك أولى. وإن قلنا: ابتداءُ خيار الشرط من وقت التفرق، ففي الأجل وجهان. والفرق أن الخيارَ يجانس الخيارَ، فيبعد اجتماعهما.
والأجل يخالف الخيارَ في مقصوده ووضعه، فلم يبعد أن يثبت في وقت ثبوت الخيار.
فإن قيل: هذا الفرق واضح جداً، فما وجه قول من يقول: الأجلُ يحسب ابتداؤه من وقت التفرق؟ قلنا: وجهه أن المقصود من الأجل تأخير الطلِبة بالثمن، وهذا المقصود يحصل بالخيار؛ فإن البائع لا يملك الطَّلِبةَ بالثمن في زمان الخيار، فالأجل
__________
(1) الإمام يعني به والده أبا محمد.
(2) في الأصل: والأجل.

(5/399)


وإن لم يكن خياراً، فمقصودُه يضاهِي مقصودَ الخيارِ، ولذلك يمتنع شرط الأجل في البيع الذي يمتنع فيه شرط الخيار.
3322 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أنا إذا رأينا حَسْبَ ابتداء الأجل من وقت التفرق، فلو اشتمل العقدُ على شرطِ الخيار ثلاثةَ أيام وأجل الثمن فيه، فابتداء الأجل على الوجه الذي انتهينا إليه يحسب من أي وقت؟ على وجهين: أحدهما - أنه يحسب من انقضاء الخيارِ المشروط حتى لا يجتمع الأجل والخيار، كما أنا لا (1) نجمع بين الأجل وخيارِ المجلسِ.
والثاني - أنه يحسب من وقت التفرق عن المجلس، وكأنَّ الثمنَ يلحقه نوعان من الأجل: أحدهما - يتضمن الخيار. والثاني - يتضمن الفُسحةَ والمهلة.
والوجه عندنا القطعُ بأن ابتداء الأجل من انقضاءِ الخيار المشروط على الوجهِ الذي عليه نفرع؛ فإن الأجل أحق بمجانسة خيارِ الشرط منه بمجانسة خيار المجلس، والمجانسة تؤثر في منع الجمع.
فإن قلنا: الخيار المشروط المطلق محسوبٌ من وقت التفرق، فلو صرح العاقدان بحَسْب ابتدائه من وقت العقد، ففي صحة العقد والشرط وجهان: أحدهما - أنهما إذا صرحا بذلك، وقع الأمر كما شرطاه، وإنما الكلام في الإطلاق.
ومن أصحابنا من قال: يفسد العقد والشرط.
وحقيقةُ هذا الخلاف ترجع إلى أن منع الجمع بين الخيارين من مقتضى اللفظ المطلق، أم هو حكم يجب اتباعه؟ وهذا مختلف فيه: فمن راعى من أصحابنا في صورةِ الإطلاق مقتضى اللفظ، وزعم أن شرط الخيار مشعر بثبوت تخيرٍ لولاه، لكان اللزوم [بدلَه] (2)، فإذا وقع التصريح بجمع الخيارين، لم يمتنع عنده.
ومن اتبع الحكمَ ورأى اجتماعَ الخيارين بعيداً، واعتقد أن خيار الشرط لغوٌ مع
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): لم.
(2) في الأصل: يدله. والمعنى: أنه لولا شرط الخيار لكان لزوم العقد بدلاً عنه.

(5/400)


خيار المجلس، فالتصريحُ بالشرط يفسُد من طريق الحكم، ولا يبعد أن يؤثر في فسادِ العقد.
وهذا فيه نظر عندنا. وإن اتبعنا الحكمَ فَقُصارَاهُ أن يلغوَ خيار، وليس الخيارُ مقصوداً في البيع؛ حتى يؤثِّر كونُه لغواً في إفساد البيع، والشرط المفسد هو الذي يغير مقصوداً من العقد.
فالأظهر إذاً أَنَّ المتعاقدَيْن إذا صرَّحا باحتساب ابتداء الخيارِ من وقتِ العقدِ، جاز ذلك. وقد يتجه لمن يميل إلى الإفساد شيء وهو أن يقول: إذا كان يلغو خيار الشرط في زمان المجلس، فكأَنْ لا خيارَ من جهة الشرط في المجلس، وإنما يثبتُ منه ما يقع بعد التفرق ولا يدرَى كم قدرُه، فهو خيار مجهول المقدار.
وإذا فرعنا على أن خيار الشرط عند الإطلاق محسوب من ابتداء العقد، فلو صرّح المتعاقدان بشرط احتساب أول مدة الخيار من وقت التفرق، فالذي قطع به الأصحاب أن هذا مفسد للعقد على الوجه الذي نفرع عليه. ووجه ذلك ظاهر؛ فإن المعتمد عند هذا القائل ما في ذلك من الجهالةِ، وإذا وقع التصريح بها، فالوجه الحكم بالفساد.
وذكر صاحب التقريب وجهين على هذا الوجه، كالوجهين اللذين فرعناهما على الوجه الأول.
وهذا لا أصل له؛ فإن الوجهين المذكورين المفرَّعين على الوجه الأول مأخوذان من التردد في أن ذلك [الوجه] (1) مبنيٌّ على حكم متَّبع، أم هو متلقًّى من صيغة اللفظِ المطلق، ولا ينقدح في الوجه الثاني هذا؛ فإن المعتمد في الوجهِ الثاني اجتنابُ الجهالة. والتصريحُ بهذا يناقض المقصودَ.
3323 - ومما فرعه الأصحاب في ذلك أن البيع إذا اشتمل على خيار الشرط، فإذا قلنا: ابتداؤه محتسب من وقت العقد، فلو قال المتعاقدان في المجلس: أبطلنا الخيارَ، فهذا يتضمن قطعَ الخيارين؛ فإن الإبطال صادفهما جميعاً. وإذا قلنا: ابتداءُ خيار الشرط محسوب من وقت التفرق، فإذا قالا في المجلس: أبطلنا الخيار،
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(5/401)


وأطلقا ذلك، فينقطع خيار المجلس، وفي بطلان خيار الشرط وجهان: أحدهما - أنه لا يبطل؛ فإن إبطالهما لم يصادفه، فوجب أن يقصر على خيار المجلس.
والثاني - أنه يبطل خيارُ الشرط؛ فإن إطلاقَ إبطالِ الخيار يتضمَّن قصد إلزام العقد؛ وهذا يقتضي قطعاً قطعَ [التأخير] (1) ودفعَ ما سيقع.
* * *
__________
(1) في الأصل، (ص): قطع الناجِز، والمثبت عبارة (هـ 2).

(5/402)


بابُ (1) النهي عَن بيع الغُرورِ وثَمنِ عَسْبِ الفَحْلِ
3324 - ذكر الشافعي (2) نَهْي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن عَسْبِ الفَحلِ، وذلك أن يستأجر فحلاً للضّرابِ بمال يبذله، فهو باطل، لأن المالَ إن بذل على مقابلة الماء، كان باطلاً؛ إذ لا قيمة له، وإن كان مبذولاً على مقابلة الضراب، فهو مجهول، وليس هو مما يقع على وجهٍ واحدٍ، وقد لا يقع، فكان في حكم ما يخرج عن مقدور تحصيله.
واستعارةُ الفحل للضراب مسوَّغةٌ، فإن الضراب والتسبب إليه ليس محرَّماً، والاستعارة لا تقتضي [اجتنابَ] (3) الجهالة.
فصل
3325 - ذكر الشافعي نهي رسول الله عن بيع الغَرر، ثم عدَّ وجوهاً من الغَرر المفسدِ للبيع، ونحن نجري على ترتيبه فيها.
ومعنى الغَررِ ما ينطوي عن الإنسان عاقبتُه. ومنه أغرّ الثوب، فيقال: ردَّ الثوب إلى غَرِّه أي إلى طيّه الأول.
ثم لا يحرم كل غرر؛ إذ ما من عقدٍ إلا ويتطرَّق إليه نوع من الغرر وإن خفي.
وقد نص الشافعيُّ على الوجوه المؤثِّرة، فمما ذكره بيع الجمل الشارد، والعبد الآبق وهو باطل؛ فإن البيع يقتضي تسليمَ المعقود عليه، فينبغي أن يكون
__________
(1) من هنا بدأت المقابلة على نسخة أخرى هي نسخة (ت 2) الجزء التاسع. فصارت النسخ المعتمدة أربعاً.
(2) ر. المختصر: 2/ 204.
(3) في الأصل: اختيار.

(5/403)


التسليم ممكناً، فإذا عُدَّ متعذّراً في العرف، قُضي ببطلان العقدِ، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، وصفات العاقدين؛ فإذا أبقَ العبدُ وخفي مكانُه، فبيعه باطل، لما ذكرناه، ولا يشترط في الحكم بالبطلان اليأسُ من التسليم، بل يكتفَى بظهور التعذُر.
3326 - وإذا باع عبداً مغصوباً، فهذا يختلف، فإن كان البائع يقدر على استرداده من الغاصب وتسليمه، صحّ البيعُ. وإن كان لا يقدر عليه لضعفه، واستظهار الغاصب بفضلِ قوته، فالبيع مردود.
ولو كان المشتري قادراً على أخذه من الغاصب، وكان البائع عاجزاً عنه، ففي صحَّة البيع خلاف بين الأصحاب: منهم من أفسده نظراً إلى عجز البائع؛ فإنه هو الذي يجب عليه التسليم، فإذا عجز عمَّا يجب عليه بحكم العقد، [لم يصح، ومنهم من قال: يصح العقدُ] (1)، نظراً إلى قدرة المشتري على الوصول إلى حقه. وهذا هو الأصح.
ولكن إن علم المشتري حقيقةَ الحال، فلا خيارَ له، وإن جهل وظن أن المبيع في يد البائع، فله الخيار؛ فإن العقد لا يُلزمه تكلّفَ تحصيل المبيع.
ثم إذا شرع في العقد على علمٍ، وتوجَّه على البائع التسليمُ، فإذا عجز عنه، ولم يتمكن من تحصيله بنفسه، فيثبتُ الخيارُ أيضاً للمشتري، وإن شرع في العقد على علم. هذا هو الأصحّ.
فإن قيل: هذا يناقض ما ذكرتموه الآن من الفرق بين العلم والجهل؛ فإنكم أثبتم الخيار مع العلم أخيراً. قلنا: الفرق قائم؛ فإنه إذا كان جاهلاً، فعَلِم، تخيَّر، وإن لم يدخل وقتُ وجوبِ تسليم المبيع على التفصيل المقدم في أقوال البداية، وإذا شرع في العقد على علم، فلا خيارَ له ما لم يدخل وقتُ وجوب التسليم.
ويجوز تزويج الآبقة، وينفذ عتقُها؛ فإن التزويج والعتق لا يفتقران إلى تسليمٍ، حتى يُرعَى فيهما إمكان التسليم.
__________
(1) ساقط من الأصل.

(5/404)


3327 - ومما ذكره الشافعي من أنواع الغرر بيعُ الطائر في الهواء.
والتفصيل فيه أنه إذا لم يكن مملوكاً للبائع، فلا شكّ في فساد العقد، وإن كان مملوكاً للبائع، لكنه أفلت، وكان الوصول إليه متعذراً، فبيعُه فاسدٌ؛ لما قدمناه من فساد بيع ما لا يقدر على تسليمه.
وأما الحماماتُ التي تكون مملوكةً والتي تطير نهاراً وتأوِي إلى أوكارها ليلاً، فالمذهب صحة بيعها نهاراً؛ بناءً على عوْدِها الغالب، وهو كتصحيحنا بيعَ العبدِ الغائب الذي نرجو إيابه. وأبعد بعض أصحابنا، فمنع بيعها قبل أن تأوي؛ فإن عودها على حكم عادة والآفات كثيرةُ الطروق، ولا ثقة بما لا عقل له. والصحيح التصحيح.
ومما يذكر في ذلك، وبه تمام البيان أن الشيء الذي يتوصل إلى تسليمه، ولكن بعد تعذّرٍ وعُسرٍ ظاهرٍ، كالطَّائر في دار فيحاءَ متسعةِ الرقعة إذا لم يكن لها منفذ، فالوصول إليها مع تحمل العسر متصوّر، فإذا بيع ما وصفناه، ففي صحة البيع وجهان: أحدهما - لا يصح، لتحقق التعذّر حالة العقد. والثاني - أن البيع يصح لتحقق الإمكان، وإن كان مع عسرٍ بيّن، وهذا بمثابة تصحيح بيع العبد الآبق (1) الغائب الذي هو على مسافةٍ بعيدةٍ من المشتري.
فرجع حاصل القول إلى أن التعذر إذا تحقق حالةَ العقد، ولم يكن التمكن موثوقاً به، فالبيع فاسد قطعاً، وإن كان التسليم ممكناً مع أدنى عُسر محتمل في العادة، فالبيع صحيح. وإن تحقق التعذر، ولكن كان التمكن موثوقاً به مع معاناة عُسر، ففي المسألة وجهان.
ومما ذكره الأصحاب بيعُ البرجِ وفيه الحمامات المملوكة. أما القول في الحمامات، فعلى ما فصّلناه، وبيع البرج صحيح، والتسليم فيه التخليةُ، وهل يتم التسليم في الحمامات إذا أَوَتْ إلى البرج بالتخليةِ تبعاً للبرج، والتفريع على أن
__________
(1) ساقطة من (هـ 2)، (ص)، (ت 2).

(5/405)


لا يكفي في تسليم المنقولاتِ التخليةُ؟ في المسألة وجهانِ. وقد تقدَّم نظيرُهما في بيع الدار مع أقمشةٍ فيها.
وبيع النحل في الكُوَارَة (1) جائز. وإن كانت خارجةً من الكُوَارَة، ولكنها تَؤوبُ في العادة، فالقول فيها كالقول في الحمامات الهادية.
3328 - ومما [يُذكر] (2) في ذلك بيعُ السمك في الماء. والتفصيل فيه كالتفصيل في الطير في الهواء. فإن لم يكن مملوكاً، فلا خفاءَ بفساد بيعه، ولو كان مملوكاً، فسبيل التفصيل ما مضى من كونه مقدوراً، أو غير مقدور.
وقد يتصل بذلك أن السمكة إن كانت مرئيةً تحت الماء الصافي، فتفصيل القول ما تقدَّم. وإن كانت غير مرئيَّةٍ، فينضم إلى ما ذكرناه القولُ في بيع ما لم يره المشتري.
وذكر أصحابنا طرقاً (3) من الكلام في أن السمكة كيف تملك، وما وجه ثبوت اليد عليها؟ والقول في ذلك يتعلق بكتاب الصيد، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
فرع:
3329 - من اصطاد سمكةَّ فَخرج من بطنها دُرَّةٌ، فإن كانت مثقوبةً، فهي لُقطةٌ؛ لقَطْعِنا بأنه لا يثقب الدرّةَ إلا مالكٌ. وإن كانت غير مثقوبة، فهي للصياد؛ لأنها بمثابة أجزاء السمكة في أنها مصادَفةٌ موجودة (4) وليس عليها علامةُ ملك مالكٍ.
وإن قدِّر فيها ملكٌ، لم يبعُد تقدير الملك في السمكة أيضاً، بأن تفرض مُفلِتةً بعد القبض عليها.
ولو باع واحد تلك السمكة، وفي بطنها الدرَّة، لم يملك المشتري تلك الدرة؛ لأن حكم البيع أن يَرِدَ على أجزاءِ ما قُصدَ بالبيع، وليست الدرة من أجزائها، ولا فضلة [منفوضة] (5) منها بخلاف البيضة في جوف الدجاجة، واللبن في ضرع الشاة.
__________
(1) الكُوَارَة: بالضم والتخفيف بيتُ النحل وخليتها. هذا هو المعنى المراد هنا (المصباح).
(2) في الأصل: نذكره.
(3) كذا في (ص)، (هـ 2)، وفي الأصل. وفي (ت 2): طريقاً. ولعلّ الأليق: طرفاً.
(4) في (هـ 2): مملوكة.
(5) في الأصل: منقوصة، ومثلها (ص)، والمثبت من (هـ 2)، (ت 2).

(5/406)


فصل
قال: "ومما يدخل في هذا المعنى أن يبيع الرجل عبداً لرجل ... إلى آخره" (1).
3330 - ألحق الشافعيُّ بيع الرجل مالَ غيرهِ بالغرر الذي يجب اجتنابه، وغرض الفصل الكلامُ في وقف العقود.
وهو ثلاثة أصنافٍ عندي: أحدها - أن يبيع الرجل مال غيره بغير إذنٍ منه ولا ولايةٍ. والمنصوص عليه للشافعي في الجديد أن البيع باطل. ونص في القديم على أنه منعقدٌ ونفوذه موقوف على إجازة المالك، وهو مذهبُ أبي حنيفة (2).
ثم من مذهبه أن العقدَ إنما يقف إذا كان له مجيزٌ حالة الإنشاء، فلو باع الرجل مالَ طفل، فبلغ الطفل وأجازه، لم ينفذ العقدُ. نعم، يقف بيع مال الطفل على إجازة الوصي والولي والوالي العام، على حسب مراتبهم، والوقوف على إجازة من يملك الإنشاء منهم.
ولو باع الرجل مال غيره، ثم ملكه بعد ذلك العقد، لم ينفذ عند أبي حنيفة (3)؛ فإنه لم يكن حالة العقدِ مالكاً للإجازة.
قال شيخي: إذا فرعنا على القديم، لم نخالف أبا حنيفة في هذه التفاصيل.
ومما نذكره تفريعاً على القديم أن أبا حنيفة (4) قال: من اشترى شيئاً وقصد به شخصاً، لم يقف الشراء على إجازته، بل ينفذ على الذي تعاطى الشراء، وزعم أن الشراء إذا أمكن تنفيذه على الذي قال: اشتريت، فلا حاجة إلى وقفه على إجازة غيرِه.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 204.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 83، فتح القدير: 6/ 188، الاختيار: 2/ 17.
(3) ر. فتح القدير: 6/ 193.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 83.

(5/407)


وذكر بعض المحققين من أصحابنا أنا إذا وقفنا بيعَ مال الغير على إجازته، فيقف الشراء أيضاً على إجازَةِ من قصده المشتري؛ فإن التوكيل يجري في شقي العقد. ومن قُصد بالشراء ممن يصح منه التوكيل في تلك الحالة، فلا فرقَ بين الشراء والبيع.
هذا فيه إذا اشترى في الذمّة شيئاً، فأما إذا اشترى شيئاً بمال غيره، فهو بيعُ مال الغير بغير إذنهِ، فلا نشكُّ أنه يُخرَّج على القولين.
وإن فرَّعنا على الجديد وأبطلنا بيعَ مال الغير، فمن اشترى شيئاً في الذمّةِ، وقصد به غيرَه، فلا شك في نفوذ العقد على الذي باشر الشراء.
وإن قال: اشتَريتُ هذا العبدَ لفلانٍ، والتفريع على الجديد، فلا شك أن الشراء لا يقف على إجازة ذلك المسمَّى. ولكن في نفوذه على هذا المشتري، وقد سمَّى غيرَه وجهان: أحدهما - أنه ينفذ عليه، وتلغو تسميتُه الغيرَ. والوجه الثاني - أنه يفسد العقد، ولا ينفذ على الذي تعاطى، ولا يقف على إجازة الذي سمى.
هذا الذي ذكرناه صنف واحد من الأصناف الثلاثة في الوقف.
والعراقيون لم يعرفوا القول القديم في هذا القسم، وقطعوا بالبطلان.
3331 - فأما الصنف الثاني - فهو كبيع الرجل مالاً يحسبه لأبيه، ثم يَبين أن أباه قد مات وانتقل المال إليه ميراثاً، ففي صحة البيع ولزومِه قولان مشهوران نقلهما العراقيون، كما نقلهما المراوزةُ.
أما وجه قول التصحيح فلائح. وأما وجه قول الإفساد، فهو أن هذا العقدَ وإن كان منجَّزاً في صيغته فمحلّه التعليق، والتقدير فيه: إن مات أبي، فقد بعتك هذا العبدَ. وللشافعي في الجديد مرامزُ إلى القولين في هذا النوع.
3332 - والصنف الثالث - من الوقف يداني الصنف الأول في وضعه، ولكن يمتاز عنه بما نصفه.
فإذا غصب الرجل أموالاً وباعها، وتصرَّف في أثمانها، وأوردَ العقودَ على العقود، وعَسُرَ المستدرَكُ، ولو نفذ المالكُ تلك العقود، لسلمت له تلك الأثمان بأرباحها. ولو كلّف نفسه تتبعَ تلك العقودِ، لشق عليه التدارك، ففي جواز تنفيذها

(5/408)


قولان، نص عليهما في كتاب الغصوب، على ما سيأتي ذكرهما، إن شاء الله.
وإنما تمتاز هذه الحالة على القسم الأول بعسر التدارك، وطلبِ مصلحة المالك.
فهذا جوامع القول في الوقف.
3333 - ثم وقف العقود يطّرد في كل عقد يقبل الاستنابة، كالبياعاتِ، والإجارات، والهبات، والعتق، والطلاق، والنكاح، وغيرها. والضابط ما ذكرناه من قبول الاستنابةِ. ثم إذا صحَّحنا العقدَ في القديم، نجَّزْنا صحّتَه، بَيْدَ أن الملك لا يحصل إلا عند الإجازة.
ولو وهب وأقبضَ، لم يحصل الملك، فإذا أجاز المالك، استعقبت الإجازةُ حصولَ الملك، ولم يتقدم الملك عليها تبيناً واستناداً.
هذا ما أراه وليس يخرج في هذا القول الغريب في أن الهبة إذا تأكّدت بالقبض، فيتبين أن الملك استند إلى حالة العقد. كما سيأتي في الهبات.
فصل
قال: " ولو اشترى مائةَ ذراع من دَارٍ لم يجز ... إلى آخره " (1).
3334 - مضمون الفصل مسائلُ، منها: أن يقول: بعتُك ذراعاً من هذه العَرْصة، فإن كانت معلومةً الدُّرعان، صح البيع، وكان الذراع بالإضافة إلى الدُّرعان بمثابة جزءٍ شائعٍ كالعُشرِ ونحوه، إلا أن يَعني بالذراع معيناً، لا على تأويل الإشاعَةِ، فلا يصح العقد حينئذٍ.
ولو اختلف البائع والمشتري، فقال المشتري: أردت جزءاً شائعاً فيها. وقال البائع: بل أردتَ ذراعاً معيناً، لا على مذهب الإشاعَة، بل نحوتَ بذكر الدار (2) نحو قول القائل: بعتُ شاةً من القطيع.
فهذا فيه احتمال عندنا: يجوز أن يقال: الظاهرُ حملُه على الإشاعة، ولا يقبل
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 204.
(2) في (هـ 2)، (ص)، (ت 2): الذراع.

(5/409)


من البائع العدول عنه. ويجوز أن يقال: يقبلُ قولُه؛ فإن اللفظ الصريح في الإشاعة الجزءُ المنسوبُ إلى الكل، كالنصف والربع، وما في معناهما.
ولو كانت العرصة مجهولة الدُّرعان، فقال: بعتك منها ذرَاعاً، فالبيع مردود.
وليس كما لو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، وكانت الصبرة مجهولة الصيعان؛ فإن البيع صحيح على ظاهر المذهب. والفرق أن الصُّبرةَ متساوية الأجزاء، بخلاف ذرعان الأرض؛ فإنها متفاوتة الأجزاء.
3335 - ولو وقف على طرفِ الأرض وقال: بعتك عشرةَ أذرع من موقف قدمي في جميع العرض (1) إلى حيث ينتهي في الطول. فهذا إعلامٌ. وقد اختلف أصحابنا في صحة البيع تعويلاً عليه: فذهب الأكثرون إلى الصحة، ووجهه بيّن. وقال قائلون: لا يصح البيع؛ فإنه لا يدرى منتهى القدر المبيع حتى يُذرعَ. وهذا ساقطٌ لا أصل له.
ولو وقف في وسط الأرض وقال: بعتك عشرةَ أذرع من موقفي في جميع العرض إلى حيث ينتهي في الطول، ولم يشر إلى الجهة التي يقع المبيع فيها، وكان موقفه محفوفاً بالأرضِ من قدامه، وورائه، فلا شك في فساد العقد.
ولو رسمَ في وسط الأرض مقداراً منها يحيط به خطوط هي أضلاع له. أَوْ رَسَم مقداراً على شكل التدوير، يحتوي عليه محيط الدائرة، وباعه، فإن كان قطرٌ منه ْيُتاخم الشارَع أو يتصل بملك المشتري، فالبيع صحيح.
وإن كان لا يتصل ذلك المقدار المعين بشارعٍ، ولا بملك المشتري نُظر: فإن قال: بعتك هذا المقدارَ بحقوقه، صح، وثبت للمشتري حقُّ الممرِّ. (2 وإن أطلق البيعَ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن مطلقَ البيع يقتضي حقَّ الممرّ في 2) الذي لم يبعه. والثاني - لا يقتضي الإطلاقُ ذلك.
فإن حكمنا بأن الإطلاقَ يقتضي حقَّ الممر، فالبيع صحيح. وإن قلنا: لا يقتضيه، ففي البيع وجهان: أصحهما - البطلان؛ لأنه لا ينتفع ببقعةٍ لا ممرَّ لها.
__________
(1) في (هـ 2): العرصة.
(2) سقط ما بين القوسين من (ت 2).

(5/410)


وكذلك اختلف أصحابنا فيه إذا باع الرجل بيتاً من داره، ولم يتعرض لإدخال حق الممر في العقد، ففي صحة البيع التفصيلُ الذي ذكرناه، بناءً على أن الإطلاق هل يقتضي حقَّ الممر.
ومما يتم به البيان أنه إذا عيّن مقداراً مشكَّلاً من وسط الأرض. وِقلنا: يثبت للمشتري حقُّ المرور، وكان الممرّ يُفرض من الجوانب؛ فالوجه إثباته من جميع الجوانب؛ إذ ليس جانب أولى من جانب. وحقيقة هذا يرجع إلى أنا نُثبت للمشتري في تلك القطعة ما كان ثابتاً للبائع قبل البيع، من حق الممر.
ولو قال بعتك هذه القطعةَ بحقوقها، فحق الممر من الجوانب يدخل في استحقاق المشتري، فكذلك المطلق عند هذا القائل محمول على ما يقتضيه إطلاق شرط الحقوق.
وإن كان الشكل المقدّر متاخماً للشارع، فالذي يقتضيه كلام الأصحاب أنه لا يثبت للمشتري حق طروق الملك بل ممرُّه إلى صوب الشارع؛ والسبب فيه تنزيل العقد على موجب العرف، وليس من موجبه أن يتردد المشتري فيما أبقاه البائع لنفسه إذا كان طرف من المبيع متصلاً بالشارع.
ولو كان يتصل طرف من المبيع بملكِ المشتري، فالظاهِر أنه لا يملك طروقَ ملك البائع، بل ينزل العقدُ على اكتفاء المشتري بأن يوسع بالمبيع رَبْعَه والممر من ملكه القديم إلى ما اشتراه الآن.
فلو قال البائع في هذه الصورة الأخيرة بعتك هذا المقدارَ بحقوقه، فالوجه أن يستحق المشتري طروقَ ملك البائع. وإذا كان مُطلقاً، فالظاهِر ما ذكرته. وفيه احتمال. والعلم عند الله تعالى.
ولو قال بعتك هذه القطعةَ، وكانت محفوفةً بما أبقاه لنفسه، وشرط في البيع ألا يكون له إلا ممرٌ واحد، فإن عيّنه، جاز. وإن أبهمه، فالوجه الحكم ببطلان العقد؛ فإن الجهالة في الحقوق مؤثرةٌ في العرف تأثيرَ الجهالة في المعقود عليه، فإنا لو لم نفعل هذا، وصححنا العقد، لكان بعده نزاعٌ في صوب الممر، وكنا لا ندري من المتبع. والعلم عند الله تعالى.
هذا تفصيل القول في أطرافِ هذا الفصل.

(5/411)


فصل
3336 - إذا أشارَ الرجل إلى قطعةٍ من الأرض وقال: بعتك هذه القطعةَ على أن تكسيرها مائةُ ذراع، فخرجت القطعةُ مائةً وخمسين، أو نقصت فخرجت خمسين، فإذا أخلف المقدار المشروط بالزيادة أو بالنقصان، ففي صحة البيع في الصورتين قولان: أحدهما - أنه يصح تعويلاً على الإشارة، وخُلف الشرط في المقدار يقرب عند هذا القائل من خُلف الشرط في الصفة. ولو قال: بعتك هذا العبدَ على أنه تركي، فإذا هو من جنسٍ آخر، فالبيع صحيح.
والقول الثاني - أن البيع باطل، نظراً إلى لفظ العقد. ومقتضاه أن المبيع مائة، فإذا كان زائداً، لم يكن المقدارُ الزائد معنياً بالبيع، فكأن الصفقة اشتملت -من جهة أن
الإشارة احتوت على جميع الأرض واللفظُ اختص بالبعض- على مبيع وغير مبيع.
3337 - وهذه المسألة تلتفت إلى أصولٍ وتتردّد بين قواعدَ، ونحن ننبه عليها.
فمنها أن من أشار إلى شاة وقال: بعتك هذه البقرة، فاللفظ يتضمن جنساً مخالفاً للمشار إليه، والإشارة مغنيةٌ عن ذكر الجنس؛ فإنه لو قال: بعتك هذا كفى ذلك.
وقد ظهر خلاف الأصحاب في صحة البيع: فمن اعتمد على الإشارة، صحح.
ومن اعتمد العبارة أفسد.
ومن الأصول التي تستند هذه المسألة (1 إليه تفريق الصفقة، ولا يتحقق التحاقُ هذه المسألةِ 1) بقاعدة التفريق إلا بعد تمييزها عن الخُلف في الصفات المشروطة.
فإذا قال: بعتك هذا العبدَ على أنه كاتب، فالكتابة لا تجوز أن تعتقد مورداً للبيع.
والمقدار يجوز أن يفردَ بالبيع ويقدَّرَ مورداً له، كالعبدين أحدهما مملوك للبائع والثاني مغصوب. والصورة التي نحن فيها ممتازةٌ عن قاعدة التفريق؛ من جهة اشتمال الإشارة على استغراق القطعة المعيّنة بالبيع، وليس في صيغة البيع جمع بين موجود ومعدوم؛ فنشأ الخلافُ في صحة البيع من جهة التردد بين هذه الجهات.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(5/412)


وإذا كنا نقول: الخُلف في الصفات في النكاح يوجب تخريج صحته على قولين؛ من جهة أن المقصود من النكاح على الجملة الصفاتُ، كما سيأتي، فالخُلف في المقدار في المبيع أَوْلى بالخلاف، والبيع أقبل للفساد بالشرط، والنكاح أبعد منه.
فالذي يقتضيه الترتيبُ بعد تمهيد ما ذكرناه ترتيبُ مسألتنا في الصحة والفساد على التفريق في الصفقة. وهذه المسألة أولى بالصحة.
وإن رتَّبناها على خُلف الصفاتِ في النكاح، فمسألتنا أولى بالفسادِ.
والذي به الفتوى صحةُّ البيع.
وذكر العراقيون هذه المسألةَ في الزيادة والنقصان، وحكموا بأن الساحة إذا نقصت عن المقدار المذكور، صح البيع قولاً واحداً. وإن زادت، ففي صحة البيع قولان.
ولا يكاد يظهر فرق بين النقصان والزيادة.
وطرد صَاحبُ التقريب وشيخي القولين في الصورتين.
وإذا ثبت أصلُ الكلام في الصّحة والفساد، فنحن نفرع صورة الزيادة، ثم نفرع صورة النقصان.
3338 - فأما تفريع الزيادة: فإذا قال: بعتك هذه الأرضَ على أنها مائةُ ذراع، فخرجت عن المساحة مائةً وخمسين ذراعاً. فإن قلنا: بفسادِ العقد، فلا كلامَ. وإن قلنا: يصح العقدُ، لم يختلف الأصحاب في تخيّر البائع، ثم لا يخلو إما أن يفسخ، وإما أن يُجيز. فإن أجازَ العقدَ، فليس له مع الاختيارِ للإجازة مطالبةُ المشتري بشيء زائدٍ؛ فإنَّ قول التصحيح مأخوذ من اعتماد الإشارة والإشارة محيطةٌ بالأرض ولا سبيلَ إلى إلزام المشتري شيئاً لم يسمّ ثمناً. ولو أراد الفسخ، فله ذلك.
فلو قال المشتري: لا تفسخ العقدَ، حتى أزيدك ثمنَ الخمسين على نسبة الثمن المسمى. والمسألة مفروضة فيه إذا كانت الأرض لا تختلف قيمتها في تلك البقعة.
فلا سبيل إلى هذا. فإن ما يريدُ (1) إثباته ثمناً في حُكم ملحقٍ بالعقد، والزيادة لا تلحق العقد عندنا في الثمن والمثمن.
__________
(1) في (ت 2): فإن لم يرد إثباته.

(5/413)


ولو قال المشتري: لا تفسخ العقد، فإني أقنع من هذه الأرض بمقدار مائة ذراع، فقد ذكر صاحب التقريب قولين في المسألة: أحدهما - أن الخيار يبطل، وينزل العقدُ على ذلك، ويجاب المشتري إلى ما يقول. وهذا هو الذي قطع به شيخي. والقول الثاني - أن البائع يبقى على تخيّره.
ووجه القول الأول زوالُ الغَبينَةِ (1) عن البائع. ووجه القول الثاني أنه يقول: ثبوت حق المشتري على الشيوع يلحقَ ضرراً فيما يبقى لي. هذا ما ذكره صاحب التقريب.
والذي أراه أن تنزيلَ المبيع على مائةٍ شائعةٍ في المائة والخمسين لا وجه له، وهو مخالفٌ لموضوع العقد وصيغةِ اللفظ؛ فإن التعويل في التصحيح على الإشارة وموجبها (2) الاحتواء. فإذا رددنا العقدَ إلى شائعٍ، فهذا في التحقيق تغيير لموجب العقد. ولو ساغ هذا النوع، لساغ أن يزيد المشتري في الثمن على حسب ما ذكرناه قبلُ؛ فلا وجه إذاً لهذا التغيير، وإن فرض الرضا به.
والوجه إفساد العقد، أو تصحيحه وإثبات الخيار للبائع؛ فإن فسخ، فذاك. وإن أجاز سلَّم جميع الأرض.
فإن قيل: هلا حققتم تنزيل العقد على بعض الأرض للمصلحة، [والصفةُ] (3) بمثابة قسمةِ الأملاك المشتركة، مع العلم بأنه إذا أُفرزت حصة كل شريك، فليس ما يسلم [لآحاد] (4) الشركاءِ على قياس الملك الذي كان قبلُ؟ قلنا: لهذا قُدِّرت القسمةُ بيعاً على الأصح. وبالجملة ليس ما نحن فيه من ذاك بسبيل. نعم إن كان يناظر شيئاً، فهو قريبُ الشبه مما مهدناه من غرامات الأروش القديمة والحادثة. ولكن كان يجب أن يجوزَ بذل مزيدٍ من الثمن على مقابلةِ الزيادة، ولم أرَ أحداً من الأصحاب يسوّغ ذلك.
فهذا وجهُ التنبيه على مجاري الكلام في المسألة نقلاً واحتمالاً.
__________
(1) في (هـ 2): الغلبة.
(2) في (ت 2): وموجباً للاحتواء، فإذا ردده.
(3) في الأصل: والنصفة. والمثبت من (ص)، (ت 2) والكلمة غير مقروءة في (هـ 2).
(4) في الأصل: يسلّم الآحاد والشركاء، (ت 2): إلى آحاد الشركاء.

(5/414)


وهذا كله إذا زادت الأرض.
3339 - فأما إذا نقصت الأرضُ عن المقدار المذكور، فإن حكمنا بفساد العقد، فلا كلامَ، وإن حكَمنا بصحته، فلا خيارَ للبائع، وللمشتري الخيارُ في فسخ البيع.
وتعليله بيّن. فلو قال البائع: لا تفسخ البيع، وأنا أحط عنك من الثمن مقدار النقصان، فلا يسقط خيار المشتري بهذا.
والدليل عليه أن الصفقة إذا جمعت عبداً مملوكاً وآخر مغصوباً، وحكمنا بالصحة، وأثبتنا الخيار للمشتري، فخياره ثابت، سواء قلنا: إنه يجيز العقد في المملوك منهما بقسط من الثمن. أو قلنا: إنه يجيز العقد في المملوك بتمام الثمن.
ثم المشتري لا يخلو: إما أن يجيز العقد وإما أن يفسخه. فإن فسخه، فلا كلام. وإن أجازه فبكم يجيزه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يجيزه بتمام الثمن.
والثاني - أنه يجيزه بقسط من الثمن. والقولان في هذا مرتبان على نظيرهما في تفريق الصفقة.
والأوْلى في التفريق الإجازةُ في المملوك بالبعض. وهذه الصورة أوْلى بالإجازة بجميع الثمن؛ من جهةِ احتواء الإشارة، واستناد صحة العقد إليها، كما تقدم. وحق الفرع أن يُلاحَظ أصلُه. وأيضاً يكاد المقدار على قولي التصحيح مع تغليب الإشارة يضاهي صفة المبيع.
فهذا مجموع القول في ذلك تأصيلاً وتفريعاً.
فصل
3340 - إذا باع الرجل ذراعاً من كرباس، فهو كما لو باع ذراعاً من أرضٍ إن أرادَ الإشاعة، والتفصيل في عدد الذُّرعان إذا كانت مجهولة أو معلومة كما مضى في الأرض حرفاً حرفاً. وإن أراد ذراعاً لا على مذهب الإشاعة، فهو على الفساد، كما ذكرناه في الأرض.

(5/415)


وغرض هذا الفصل أنه لو اشترى ذراعاً معيّناً من أحد طرفي الثوب على أن يقطعه ويَفْصله، فالأصل المرجوع إليه في ذلك أن القطعَ إن كان يُحدث نقصاً فيما يبقى للبائع يُحتَفل بمثله، فالذي ذكره الأصحاب بطلان البيع في هذه الصورة، ولم يُشبِّب أحد بالخلاف وإن رضي البائع بالتزام النقص. ثم ذكروا لذلك صوراً:
منها - أن يشتري نصفاً من فصل (1) على التعيين وشَرْطِ الفصلِ (2). ومنها أن يشتريَ ذراعاً من ثوب نفيسٍ يَنقُصه التفصيل والقطع.
وإن كان القطع لا يَنْقُص نقصاً يعتبر مثله أو يؤثر، كالكرباس الصفيق، ففي صحة البيع وجهانِ: أحدهما - الصحة. والثاني - لا يصح؛ لأنه لا يخلو من تأثيرٍ، وتغييرٍ فيما ليس مبيعاً. وقيل: هذا اختيارُ صَاحب التلخيص.
وإذا باع جزءاً معيناً من خشبة على حكم التفصيل، فيختلف ذلك باختلافِ الصور. فإن كانت الخشبة تُعنى لطولها ولو قُطعت، ظهر نقصان القيمة، فهذا يلتحق بصور القطع بفساد البيع. وإن كانت لا تعنى لطولها ولا يظهر بسبب القطع نقصان قيمتها، فهذا يلتحق بصور الوجهين.
وفي القلب من القطع بفساد البيع في صورة التأثير البيّن شي. ولكن الممكن فيه، أنا لو صححنا العقد، وألزمنا البائع القطعَ، كان بعيداً؛ لأن هذا إلزامُ تنقيصٍ فيما ليس مبيعاً. وإن لم نُلزمه، فالحكم بصحة العقد -وليس على البائع الوفاءُ بالتسليم- محالٌ. فهذا تعليل الفساد على حسب الإمكان.
والصور التي لم أذكرها تخرّج على ما ذكرناها، وتنقسم انقسامها.
__________
(1) كذا في الأصل، (ص)، (ت 2) وبها أثر تصويب في (هـ 2) جعلها غير مقروءة. وفي مختصر العز بن عبد السلام (الفضل). والمعنى واضح من السياق على أية حال. ولعلها كانت لفظة من ألفاظ تجار الثياب أو غيرها وفي مختصر العز بن عبد السلام: " نصل " بالنون.
(2) أي يشتري نصفاً معيَّناً من ثوبٍ، ويشترط فَصْلَه.

(5/416)


فصل
قال: " ولا يجوز بيع اللبن في الضرع، لأنه مجهول ... إلى آخره " (1)
3341 - اتفق أئمتنا على منع بيع اللبن في الضرع، والعلّةُ السليمة أنّ اللبن يتزايد على ممر اللحظات، سيّما إذا أُخذ في احتلابه فلا يتأتى تسليم المبيع الكائن حالة العقد.
وتعرّض الشافعي لتعليل منع البيع بكونه مجهولاً، وهذا يهون تقريره؛ فإن الضروع مختلفةٌ: فمنها ضرع سمين مكتنزٌ ضيقُ المنافذ، يقل ما يحويه من اللبن.
ومنه ضرع متسع المنافذ، غير مكتنز، يكثر ما يحويه من اللبن، فَضِمْن (2) الضرع مجهول. والمس من ظاهره لا يفيد علماً بمقدار اللبن وهذا تقريره هيِّن (3). ولكن يرد عليه أن يُخرَّج على بيع الغائب؛ فإنا على قول تجويزه نجوّز بيعَ الشيء في ظرفٍ مع الجهل بصفته وقدره، فالأولى أن تستعمل الجهالة في مقدار المبيع على معنى أنه لا يتأتى التسليم غير ممتزج، فاستعمال الجهالة على هذا منساغ؛ ولا يلزم تخريجُ المسألة على بيع الغائب.
وإن حلب قدراً من اللبن، فأبداه (4) نموذجاً، وقال للطالب: بعتك من هذا اللبن الذي في الضرع، فقد ذكر الأئمةُ وجهين في أن هذا هل يكون سبيلاً يتوصّل به إلى تصحيح البيع.
وهذا يحتاج إلى فضل نظرٍ: فإن باع مقداراً لا يتأتى حلبه إلا [ويتزايد] (5) اللبن مع
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 204.
(2) ضمْن الضرع، بكسر فسكون، باطنه وما يحويه. (معجم).
(3) " تقريره هين ": أي تصوير الجهالة باللبن في الضرع، ولكن يردِ عليه الاستشكال بجواز بيعٍ الغائب في قولٍ. ولكن إذا فسّرنا الجهالة على أنه لا يمكن تسليمه غيرَ ممتزج بما يتجدّد حالاً بعد حال، فعندها لا محلّ للاعتراض فلا يخرّج قول الجواز في بيع الغائب على هذا المعنى.
(4) في (ت 2): فلو بدأه نموذجاً.
(5) ساقط من الأصل.

(5/417)


حلبه، فلا ينفع إبداء النموذج؛ فإن المانع قائم. وذكْرُ الوجهين مطلقاً يشير إلى أن المحذور -حيث لا نموذج- عدمُ الرؤية أو عدمُ الإحاطة بالصفة. ومن سلك هذا المسلك يلزمه التخريج على بيع الغائب.
وكان شيخي يتأنق في التصوير، ويفرضُ بيعَ مقدارٍ إذا ابتدر حلبه واللبن على كمال دِرّته لم يظهر اختلاطُ شيء له قدرٌ به مبالاة. وإن فرض شيء على بُعدٍ، فمثله محتمل، كما إذا باع [جِزةً] (1) من قُرْط.
فإذا قلّ مقدارُ المبيع وتُصوّر بالصورة التي ذكرناها، وفرض إبداءُ النموذج، فينقدح ذكر خلافٍ هاهنا؛ فإن هذا المقدارَ يُمثل ببيع جِزَّةٍ من قُرطٍ يبتدر جزها. وإذا كثر المقدار، كان مشبَّهاً ببيع ما يتزايد على شرط التبقية؛ فإن الحلب وإن ابتُدر إذا كثر القدرُ، ظهر التزايد؛ فإنّ سبيل تزايد اللبن من منافذه كسبيل بيع الماء من عيون البئر.
والجَمةُ (2) إذا كملت لا تزيد، وإذا أخذ في نزحها، فارت (3) العيون.
ومن حقيقة هذا الفصل أن الخلاف إذا رد إلى تعليل المقدار، فلا حاجة إلى ذكر النموذج في التخريج على الخلاف.
وحاصل القول: أنه إذا ظهر الزائد والاختلاطُ، امتنع البيع قولاً واحداً. وامتاز (4) اللبن في الضرع في هذه الصورة عن قاعدة بيع الغائب بما ذكرناه من الاختلاط.
وإن قل المقدار وكان الاختلاط فيه غيرَ معتد به، فمن أصحابنا من يرى إلحاقَ هذا ببيع الغائب، وقد تقدم التفصيل فيه، والنموذج من أطرافِ تفريعه.
ومنهم من حسم الباب ورأى إلحاق القليل بالكثير؛ فإنه لا ضبط للقدر الذي يقال فيه: إنه مبيع (5) خالصٌ غيرُ مختلطٍ؛ فالوجه حسم الباب بالمنع.
هذا تحقيق المذهبِ.
__________
(1) في الأصل: جزءاً.
(2) في (ت 2): والجهة، (هـ): والجملة.
(3) في (ت 2): زادت.
(4) في (ت 2): وصار.
(5) في (هـ 2): مبلغ.

(5/418)


3342 - وذكر بعض أصحابنا لمَّا جرى ذكرُ النموذج فصلاً فيه، لا اختصاص له باللبن. وهو أن من أبدى نموذجاً من لبنٍ، أو حنطة، أو غيرِهما وأراه الطالبَ، وقال: التزمت لك على هذه الصفة كذا رَطلاً (1)، فقبله الطالبُ ونقدَ الثمنَ، فهل يكون هذا سلَماً صحيحاً؟ وهل يجري إبداء النموذج مجرى استقصاءِ الوصف؟ كان شيخي يقطع بأن هذا لا يصح، ويخرّجه على أن التعويلَ فيه على التعيين، والنموذج يُعرَّض [للضياع] (2)، فقد يجرّ التعيينُ عليه خبالاً. وهذا ممتنع في السلم.
وقال طوائفُ من المحققين: لفظُ الأنموذج لا يكفي من غير تدبّر، وإن كان يُكتفَى باللحظ في بيع العِيان؛ فإن الملحوظ إذا كان هو المسلَم، لم يعد مجهولاً. وإن كان الملحوظُ عِبرةً لموصوفٍ في الذمةِ، ثم لم يتأمَّل، عُدَّ الثابتُ في الذمة مجهولاً. وإن تأمّل العاقدُ النموذجَ وضبط أوصافَه على وجهٍ لو فات، لاستقل بتلك الأوصاف.
قالوا: إن كان كذلك، انعقد، وكان ما جاء به وصفاً كافياً. وهذا حسن.
وامتنع شيخي منه، وقال: السلم يعتمد الأوصاف المذكورة، والإحاطةُ بالأوصاف لم يجر ذكرها.
فصل
3343 - منع الأصحاب بيعَ الصوف على ظهر الغنم؛ لأن مطلقَ البيع يتناول الصوفَ إلى الأصل المتصل بظاهِر الجلد. وتسليمُه على هذا الوجه ممتنع؛ فإن فيه إن قصده القاصد تعذيبَ الحيوان، على أنه مع الإيلام غيرُ ممكنٍ، ولا عادةَ في بيعِ الصوفِ على الغنم، حتى ينزل ذلك على المعتادِ في مثله.
فإن قيل: في الجزّ عادةٌ فلُينزَّل عليها البيعُ. قلنا: ليس في الجزِّ عادةٌ مضبوطة، بل الأمر يتفاوت. ومن يجز غنم نفسه لا يبالي بتفاوته. فإذا رُدّ الأمرُ إلى البيع، أثار ذلك تنافياً.
__________
(1) بفتح الراء وكسرها. (معجم).
(2) في النسخ الأربع: " الضياع "، والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق.

(5/419)


ولو أشار إلى كتلة من الصوف، وأعلم على موضعها، وباع ذلك المقدار، لم يمتنع بيعُها، وليس كالقصيل (1) والفث؛ فإن استيعابه ممكن بالقطع.
فصل
قال: " ولا يجوز بيعُ المسك في فأرة ... إلى آخره " (2).
3344 - الفأرة تنفصل عن الظبية خِلقةً، وحشوها المسك. وهذا مخصوصٌ بذلك الجنس، وهي على موضع السرة منها. والرب تعالى يربّي في كل سنة فأرةً وينميها، وتُلفَى ملتحمةً ثم تستشعر أطرافها قشفاً، ويُبْساً، واحتكاكاً فتحتك الظبيةُ بالصرار (3)، والمواضع الخشنة، فتسقط الفارةُ وحشوها المسك. وقد يقطرُ في احتكاكِهَا المسك أيضاً كالدم العبيط، فَيتبَع ويُلْقَط. هذه صورة الفأرة. ولا يكون فيها فتق إلا أن يلحقها خَرق، وقد تُفْتَق الفأرةُ، ويخرج مسكها، ويعاد مع أمثاله ويخاطُ موضع الفتق.
فإن كانت الفأرة على الفطرة الأصلية، فهي في الصورة، كالجوزة وحشوُها اللّب المقصود. وإن فُتقت وأعيد المسك إليها بعد الإخراج منها، فالفأرةُ على صورة الظرف.
هذا بيان الصورة.
وأما الحكمُ، فنذكر المذهبَ في الفأرة التي لم تفتق، ثم نذكر التفصيل في المفتوق.
__________
(1) القصيل: فعيل بمعنى مفعول. من قصلته قصلاً من باب ضرب: قطعتُه فهو قصيل. والقصيل في ألفاظ الفقهاء: الشعير يجر أخضر لعلف الدواب.
والفث: نبت بري، له حب كالحمص يتخذ منه الخبز والسويق. عند شدة الحاجة من قحطٍ ونحوه (مصباح).
(2) ر. المختصر: 2/ 204.
(3) في هامش (هـ 2) " الصرار غير معجمة الأماكن المرتفعة، لا يعلوها الماء " ا. هـ بنصه. ولم يُورِد هذا المعنى (في مادة: ص. ر. ر.) القاموس المحيط، ولا أساس البلاغة، ولا المصباح، ولا المعجم، ولا غريب ألفاظ الشافعي. ولا المختار، مع أنه موجودٌ في (اللسان). وقد أحسن المرتضى الزبيدي عندما استدركه على صاحب القاموس.

(5/420)


3345 - فأمّا التي لم تفتق، فقد ذهب صاحب التقريب إلى أنها كالجوزة، فإذا بيعت مع قشرتها، نفذ البيع قولاً واحداً، نَفاذَ بيع الجوزة؛ فإن الفأرةَ صوانُ المسك، والحاجة إلى صوان المسك ماسة ظاهرة؛ فإن الهواء يخطَفُ ما يلقُط (1) منها ويغيّر رائحتَها. وليس الصوان المخلوقُ كالمفتوق والمخيط. فإن كان في حشو الفأرة جهالة، فهي محتملة عند الحاجة؛ إذ يُفرض مثل ذلك في لب الجوز والرانج (2) وغيرهما.
وقال طوائفُ من أئمتنا: الفأرة غيرُ المفتوقة ليست كالجوزة؛ فإن حشوَ الفأرة يختلف اختلافاً بيناً على نفاسته وعِظم خطره. وإذا أخرج المسكُ من فأرة، أمكن صونُه بالرد، أو بالظروف المصممة. وليس كاللبوب؛ فإنه لا يَسُدّ ظرفٌ في صونها مسدَّ قشورها. وإذا تبيَّن مفارقتُها للجوز وما في معناها. فقد قال بعض أصحابنا على هذه الطريقة: البيع [فاسد] (3) لاستتارِ (4) المبيع بما ليس من صلاحه.
والوجه عندنا تخريج البيع على بيع الغائب؛ فإن بيع المسك في فأرة مع فأرة لا يزيد على بيع الثوب في الكتم. فإن كان ما ذكره الأصحاب جواباً عن منع بيع الغائب، فصحيح. وإن كان قطعاً بفسادِ البيع والتزاماً للفرق بين هذا وبين بيع الغائب، فهذا لا سبيل إليه.
وهذا كله في الفأرة التي لم تفتق.
3346 - وتمام بيان القول فيها يستدعي شرحَ شيءٍ آخر.
وهو أن الأكثرين من الأئمة ذهبوا إلى أن الفأرة طاهرة. وقال قائلون: إنها نجسة؛ فإنها بانت من حيٍّ، وما يبين من الحي، فهو ميت. وهذا وإن كان ظاهِراً، فلا حقيقة له لإطباق الخلق أولاً على خلاف ذلك. ثم ما ذكرناه من تصدير الفصل
__________
(1) في (ت 2): بلطف.
(2) الرانج: الجوز الهندي (مصباح).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في (ص)، (ت 2): لاستناد. وفي الأصل: واستتار.

(5/421)


بالتصوير يبيِّن أن ما ينمو ويسقط يضاهي البيضةَ التي تنفصل من الدجاجة، فهي طاهرةُ العين، وإن كان نموها في الحيوان. وقد يقول من يحكم بنجاسة الفأرة: البيضةُ لا تتصل بالدجاجة قط اتصال التحام، إنما يخلقها الباري مودعة في البطن، والفأرة تكون ملتحمةً، ثم تسقط.
هذا سبب الخلاف.
فكأَنَّ ما يقطع من الحيوان أو يسقط على ندور يحكم بنجاسته. وما يُخلَق مودَعاً، وينفصلُ إذا تكامل خلقُه لا نحكم بنجاسته كالبيض. وما يخلق ملتحماً، وهو إلى السقوط، فليس عضواً أصلياً، فيتردَّدُ وجهُ الرأي فيه.
فإن حكمنا بطهارة الفأرة، فبيعها صحيح، كما يصح بيعُ البيضة.
واختلافُ الأصحاب في نجاسةِ ظاهر البيضة أخذاً من ملاقاتها الرطوبةَ النجسة في داخل المنفذ لا يؤثر في منع البيع؛ فإن المانع من البيع نجاسةُ الأعيان، لا النجاسات المجاورة لها.
فإن حكمنا بطهارة الفأرة، فالأمر في البيع كما مضى. وإن حكمنا بنجاستها، فالمسك في حشوها طاهرٌ وِفاقاً، وكان أحب الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت عائشة: " طيبتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لحُرْمِه (1) حين أحرم، فرأيتُ وبيص (2) المسك في مفارقه بعد ثلاث ".
فإذا باع الفأرة والمسك الذي فيها، فينتظم إلى ما ذكرناه من خبطِ الأصحاب في الجهالة، أن الصفقة جمعت نجساً لا يجوز بيعه وطاهراً، فيتولّج في المسألة تفاريعُ تفريق الصفقة.
3347 - فأما إذا فتقت الفأرة ورُدّ المسكُ إليها، فلا كلام في بيع المسك فيها دونها ومعها، كالإعلام في بيع السمن في البُسْتوقة. وقد مضى ذلك مستقصىً.
__________
(1) حديث " طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ". متفق عليه (وقد تقدم). لحُرْمه: بضم الحاء وكسرها وسكون الراء أي لإحرامه. شرح النووي لصحيح مسلم: 8/ 99.
(2) وبيص: أي بريق ولمعان. وراجع اللؤلؤ: ح 739، 740، 741. ومسلم: ح 1189.

(5/422)


وبيع اللبوب دون قشورها باطل وإن أجزنا بيع الغائب؛ فإنه لا يتوصل إلى تسليمها إلا بكسر القشور، وهو من باب تغيير عيْن المبيع لأجل تسليم المبيع. وقد ذكرنا تمهيد هذا الأصل في اقتضاء الفساد، وقد يخطر من طريق الاحتمال مع القطع في النقل أن صحة القشور ليست مطلوبة واللب للغير. ولكن الأمر على ما ذكرناه.
3348 - وفي بيع بيض ما لا يؤكل لحمُه وجهان مخرجان على الطهارة والنجاسة.
والخلاف في طهارة بيض ما لا يؤكل لحمه يخرّج على الخلاف في منيّ الحيوان الطاهر العين، المحرَّمِ اللحم.
وفي بيع بِزْر دود القز وجهان؛ فإنه من الدود كالبيض من الطائر. و [في] (1) بيع القز وفي أدراجه الدودُ الميتةُ تفصيل. فإنْ بيع جزافاً، جاز؛ تعويلاً على الإشارة.
وإن بيع وزناً، لم يجز؛ فإنّ الدّودَ لا يقصد بالوزن، والقزُّ المقصودُ بالوزن يكون مجهولاً بسبب الدود.
فصل
في تملك الكافر المسلم
3349 - وكفر الكافر لا ينافي ثبوتَ الملك له على العبد المسلم؛ فإنه لو ملك عبداً كافراً، فأسلم، لم ينقطع ملكه بإسلامه، بل هو مقَرٌّ على ملكه إلى أن يتفق بيعُه عليه. والكافر إذا كان في ملكه عبد مسلم على التقدير الذي ذكرناه، فإذا مات، ورثه وارثه الكافر، فلا يمتنع إذاً كونُ المسلمِ مملوكاً للكافر.
وإذا صادفنا ذلك، أمرناه بإزالةِ ملكه بهبةٍ أو ببيع أو عتقٍ، فإن أجاب، وإلا بعناه عليه بثمن المثل، فإن لم نجد راغباً يشتريه بثمنه في الحال، صبرنا إلى الوجود، وحُلنا بينه وبين السيد، ولا نبيعه بالغبن. ثم لا نعطّل منفعته في زمان التربص، بل نستكسبه. ونفقته واجبة على سيده الكافر.
ولو كاتبه كتابةً يصح مثلها، فهل يخرج عن عهدة المطالبة؟ فعلى وجهين:
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(5/423)


أحدهما - أنه لا يخرج عن العهدة، لاستمرار ملكه على رقبة المكاتب، والمحذور دوامُ ملكه مع إمكان الإزالة، لا تسلطهُ بالاستخدام؛ إذْ لو كان المحذور ذلك، لأجبنا السيد الكافرَ إلى إبقاء ملكه عليه، مع إيقاع الحيلولة بينه وبينه.
والوجه الثاني - أنه يخرج بالكتابة عن عهدة المطالبة؛ لأن الكتابة تُثبت للعبد رتبة الاستقلال والانقطاعَ عن تحكم السيد. وهذا هو الغرض.
فإن اكتفينا بالكتابة، حكمنا بصحتها. وإن لم نكتف بالكتابة، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من أفسدها، وباع العبد، ومنهم من صححها وسلط الشرعَ على فسخها.
وكل ذلك إذا منعنا بيعَ المكاتَب. فإن جوزنا بيعَه كما سيأتي بيانُ ذلك، نفذنا الكتابة، وبعناه مكاتَباً. وتفصيل ذلك في الكتابة.
ولا خلاف أن الكافر لا يتخلص بالرهن والتزويج عن المطالبة.
هذا كلام في الملك الدائم للكافر على المسلم مع مطالبتهِ بإزالته.
3350 - فأما إذا أراد الكافر أن يتملك عبداً مسلماً اختياراً بعقد يفيد الملك، مثل أن يشتري أو يتهب عبداً مسلماً، ففي صحة العقد وترتب ثبوت الملك عليه قولان مشهوران موجهان في الخلاف.
وإذا منعنا العقد وأفسدناه، فقد اختلف أصحابنا في مسائلَ نُرسلها، ثم ننظمها في ترتيب.
فإذا اشترى الكافرُ أباه المسلم أو ابنَه، والتفريع على فسادِ الابتياع، ففي ابتياع من يَعتِق عليه وجهان: أحدُهما - المنعُ، لاختيارِ (1) الشراء. والعتق واقع بعد حصول الملك لو صححنا الشراء؛ فالوجه المنع ليطرد امتناع اختيار التملّك.
والثاني - يجوز توصّلاً إلى العتق. ومن صحح ذلك، زعم أن هذا العقدَ عقدُ عتاقة، وليس عقداً ينبغي به التملك والإنشاء، فالملك إذن يثبت ذريعة إلى العتق، لا مقصوداً. والدليل عليه أنه يصح من المسلم ابتياع والده، وإن كان لا يحل له
__________
(1) في (ص)، (ت 2): لاختلاف.

(5/424)


إذلالُه. والردتى أعلى درجات الإذلال. فإذاً جاز على الجملة أن يشتري الولدُ والدَه باعتبار أن الرق غيرُ مقصودٍ فيه.
ومما ذُكر من هذا الجنس أن الكافر إذا قال لمسلم: أعتق عبدك هذا عني، فأعتقه عنه بعوضِ أو بغير عوض، ففي نفوذ العتق عن الكافر المستدعي خلافٌ، على مَنْعنا الكافرَ من شراء العبد المسلم، ووجه التجويز ما ذكرناه من أن العتق عنه وإن كان يفتقر إلى تقدير الملكِ له قبيل نفوذ العتق، فليس ذلك ملكَ قرار، ويتضح أن يقال: الممنوع اختيار الملك. والملك في هذا العقد، وفي الذي تقدم غير مختار، وإنما المقصود المختارُ العتقُ، فلم يكن الملكُ الحاصل في حكم الملكِ الدائم. وقد ذكرنا أنه غير ممتنع مع الكفر.
ومما ذكره الأصحاب أن الكافر لو قال: العبد الذي في يد فلانٍ المسلمِ قد أعتقه، فلو أن الكافر اشترى هذا العبدَ، فلو قدّرنا الصحةَ، لكان يعتِق عليه بحكم الإقرار السابق. فذكر الأصحاب وجهين في تصحيح ابتياعه، كما تقدم.
فهذا بيان المسائل، التي أطلقها الأصحاب. والوجه أن نرتبها.
3351 - فنقول: أما شراؤه أباه المسلم، فعلى وجهين، وفي استدعائه إعتاقَ عبدٍ مسلم عنه وجهان، مرتبان على شراء الأب، وهذا أولى بالنفوذ من شراء الأب؛ فإن الملك لا يجري فيه إلا ضمناً مقدراً، وشراء الأب بيعٌ على حقيقة البياعاتِ، يُبطله التعليق بالإغرار، ويفسد بفساد العوض، حتى إذا فسد، فلا عتقَ. وهذا يشعر بأن الملك مقصودٌ فيه والعتقُ بعده، واستدعاء العتق يقبل التعليق. ولو ذكر عِوضٌ فاسد، نفذ العتق، ورجع إلى بدلٍ آخر، على قياسِ فساد البدلِ في الخلع، فاقتضى ذلك ترتيباً.
وأما مسألة الإقرار وبناء الشراء، فالأوجه فيها المنع؛ فإنه بيعٌ. والعتق إن حكم به فهو ظاهر، وليس كعتق الأب؛ فإنه واقعٌ تحقيقاً.
فهذا بيان هذه المسائل.
3352 - ومما نفرعه على منع اختيار التملّك أن الكافر إذا باع عبداً مسلماً كان أسلم في يده أو ورثه، بثَوْبٍ، فلا شك في صحته. ولو وجد بالثوب الذي أخذه بدلاً عن

(5/425)


العبد المسلم عيباً قديماً، فهل له ردُّه واسترداد العبد المسلم؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك؛ فإن الرد يَرِد على العقد، وارتداد العبد يترتب على انفساخ العقد، وله في رد الثوب غرضٌ سوى اختيار تملّك العبد، فلا يتجرد القصد إلى تملكه.
ومن الدليل على ذلك أن الفسوخ وإن تضمنت ترادّاً في العوضين، فإنها لا تنزل منزلة إنشاء العقود، بدليل أنه لا يترتب على الفسوخ حقُّ الشفعة، ولا يلحق الفسخ فسخٌ؛ إذ المقصود من الفسخ ردُّ الأمرِ إلى ما كان قبل العقد.
ومن أصحابنا من منع ذلك؛ فإنه يقتضي تملك العبد المسلم على سبيل الاختيار، وذلك ممتنعٌ.
هذا إذا أراد الكافر ردَّ عوض العبد المسلم.
فأما إذا وجد مشتري العبدِ المسلمِ به عيباً قديماً، فأراد ردّه، واسترداد الثمن، فقد قطع بعض المحققين بنفوذ الرد في هذا الطرف؛ من جهة أنه لا اختيارَ للكافر فيه، والعبد يرتد عليه من غير قصده.
وكان شيخي يطرد الخلافَ في الطرفين؛ فإنا كما نمنع الكافر من اختيار تملك عبد مسلم نمنع المسلم من اختيار تمليك كافرِ عبداً مسلماً؛ فليمتنع الرد على المسلم. ثم إذا امتنع الرد، فليكن رجوعه إلى أرش العيب القديم.
وما ذكرناه من الاختلاف في الرد في هذا الحكم يبتني على اختلافٍ في نظير ذلك: وهو أن من اشترى بعضاً ممن يعتق عليه، سرى عتقه إلى الباقي إذا كان موسراً. فلو فرض رد عوض واسترداد بعض من يعتق عليه في مقابلته، وهذا يفرض في المواريث بأن يرث الرجل عوض نصف أبيه، ويجد به عيباً، فإذا رده وارتد إليه نصف أبيه وعتق عليهِ، هل يسري العتق؟ فيه خلاف. وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله تعالى.
3353 - ومما نفرعه على قول منع الشراء أن الكافر لو وكَّل مسلماً حتى يشتري له عبداً مسلماً، أو توكل عن مسلم حتى يشتري له عبداً مسلماً. فكيف السبيل؟
أما إذا وكَّل مسلماً حتى يشتري عبداً مسلماً، فلا يقع الملك للموكِّل قطعاً عندنا؛

(5/426)


فإن هذا مسلك لائح في قصد تملك العبد المسلم، وهو ممنوع منه، على القول الذي نفرع عليه. فالشراء ينفذ على الوكيل، ولا يتعداه إلى الموكِّل.
فأما إذا كان الكافرُ وكيلاً لمسلم في شراء عبد مسلم له، فإن سمى موكله، وصححنا البيع بصيغة السفارة، صح ذلك؛ فإن عُهدة العقد لا تتعلق بالسفير. فأما إذا أضاف العقدَ إلى نفسه، ونوى به موكِّلَه، ففي المسألة وجهان مبنيان على (1 أن عهدة العقد تتعلق بالوكيل أم لا؟ على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الوكالة.
3354 - وإذا اشترى الكافر عبداً مرتداً، ففي صحة الشراء على قولنا بمنع شراء المسلم وجهان، مبنيان على 1) أن المرتد لو قتل ذمياً هل يُقتل به؟ وفيه خلاف سيأتي.
وأصل التردّدِ في ذلك مرتب على أن من الأصحاب من يرعى الكفر، ومنهم من يرعى تبقيةَ الإسلام في المرتد. وعليه يخرّج الخلاف في ولد المرتد من مرتدة، أو كافرة أصلية. فإن أثبتنا عُلقَةَ الإسلام في المرتد، حكمنا بإسلام ولده.
وسيأتي ذلك في أحكام المرتدين، إن شاء الله تعالى.
وإذا أسلمت أم ولد الكافر، فظاهر المذهب وهو المنصوص عليه أنه لا يجبر على إعتاقها، بل يحال بينه وبينها، وتستكسبُ، ويؤمر بالإنفاق عليها.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يجبر على إعتاقها. وهذا بعيد، ووجهه على بعده أنها مستحقة للعتاقة، فإذا طرأ الإسلام، أُمر بتحقيقه.
3355 - وإذا اشترى الكافر عبداً كافراً، فأسلم في يد البائع، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: ينفسخ البيع؛ لأن بطريان الإسلام يعسر القبض. وهذا بعيد؛ فإن الانفساخ يترتب على سبب لا يرجى زوالُه، كالتلف والضلال الذي لا يُرتقب بعده وجدان، وأُلحق به اختلاطُ المبيع بغير المبيع في قول، وزوال التعذر ممكن بفرض الإسلام من المشتري.
والوجه الثاني - أن البيع لا ينفسخ، ولكن اختلف أصحابنا على هذا الوجه.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (هـ 2).

(5/427)


فقال بعضهم: يقبضه المشتري، ثم يباع عليه، أو يبيعه بنفسه.
وقال آخرون: لا يقبضه كما لا يشتريه؛ فإن القبض أمر اختياري يؤثر في تأكيد الملك؛ فينبغي أن يمتنع. فالوجه أن يأمر القاضي من يقبضُ المبيعَ عنه، ثم يبيعه عليه.
ولا يخفى على هذا الوجه أن يتخير في فسخ البيع؛ فإن ما جرى من التعذر طارئاً لا ينقص عن إباق العبد قبل القبض. فهذا ما ذكره الأصحاب.
والمسألة تستدعي مزيد تفصيل عندنا: فإن كان البائع مسلماً، فالأمر كما ذكرناه.
وإن كان كافراً، فلو حكمنا بانفساخ العقد، لقلبناه من كافر إلى كافر، فلا ينقدح وجهُ الانفساخ إلا على بعد. وهو أن الانفساخ يقع قهرياً، وقد ثبت للكافر ملكٌ قهري، على المسلم. وهذا كلامٌ مطلق؛ فإنا حيث نثبت الملك القهري على المسلم، فسببه ضروريٌّ؛ فإن العبد إذا أسلم في يد الكافر، فلا سبيل إلى تخيره، والقضاءِ بانبتات مِلكه. وكذلك إذا فرض إرث؛ فقَطْعُ التوريث مستحيل. فأمّا فيما نحن فيه، فالمطلوب من الانفساخ رعايةُ حرمة الإسلام. وهذا المعنى لا يزول بالانفساخ.
3356 - ومما يفرع على قول المنعِ أن الكافر لو ألزم ذمة المسلم بطريق الاستئجار عملاً، جاز ذلك؛ فإن الاستحقاق لا يتعلق بعين المسلم، وله أن يحصله بغيره.
وهل يستأجر الكافر عينَ المسلم على منع الشراء؟ وجهان: أحدهما - لا يجوز ذلك، كما لا يشتري مسلماً. والثاني - يجوز؛ لأن الإجارة لا تفيد ملكاً في الرقبة، ولا يتحقق بها الذِّلة. ولو كان فيها ذلةٌ، لما جاز استئجارُ الحر (1) المسلم. ثم للإجارة منتهى محدود بخلاف الشراء.
فإن قلنا: تصح الإجارة، فهل يؤاجر عليه كما يباع عليه عبده المسلم؟ فعلى وجهين: وتوجيههما يقربان من توجيه الإجارة في الأصل.
وللمسلم أن يعير عبده المسلم من كافرٍ، وله أن يودعه عنده. وذكر الأئمة وجهين
__________
(1) ساقطة من الأصل. وفي (ت 2): استئجار الحر العبد. وفي (ص): استئجار العبد.

(5/428)


في منع ارتهانِ الكافر عبداً مسلماً. وهما قريبان من الخلافِ في الاستئجار الوارد على العين.
3357 - وأجرى الأئمة قولين في شراء الكافر المصحفَ والدفاترَ التي فيها أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فرأَوا ترتيبَ القولين على القولين في شراء العبد المسلم، وزعموا أن شراء المصحف والكتاب المحترم أولى بالفساد من شراء العبد المسلم؛ من قِبَل أن العبدَ لو أهانه مولاه، تمكن [من الاستعانة، ثم تمكُّنُه من هذا يزع مولاه] (1) من الإقدام على الاستهانةِ، والمصحف لو جوّزنا شرَاءه وقبضَه، فقد يستهين به المشتري، ولا يُطلع عليه.
فرع:
3358 - إذا اشترى المسلم عبداً، فخرج كافراً، نُظر: فإن اشتراه في بلاد الإسلام، فله ردّه؛ فإن الكفر في العبيد نادرٌ في هذه الديار.
وإن اشترى عبداً في دار الحرب، فخرج كافراً، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه لا يرده؛ فإن الرد بالعيب يبنى على ظن البراءة منه فإذا أخلفَ الظنُّ، ثبت الخيارُ.
ولا يغلب على الظن إسلامُ العبد في دار الحرب.
وكان شيخي يقول: يثبت الخيار؛ لأن الكفر عيب، فمهما اتفق الاطلاع عليه ثبت الخيار.
فصل
3359 - لو اشترى قطيعاً من الغنم مشار إليه كل رأسِ بدرهم، جاز وإن لم يكن عددُ الرؤوس معلوماً عنده حال العقد إذا أحاطت الإشارة بالقطيع. ومنع أبو حنيفة (2) ذلك.
ولو قال: بعتُك عشرة أرؤس من هذا القطيع، لا يجوز؛ فإنها مختلفة، وإيراد
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ر. تبيين الحقائق: 4/ 6، الاختيار: 2/ 6.

(5/429)


العقد على هذَا الوجه مجهول، وليس كما لو اشترى آصعاً من صُبرة، ففيها التفاصيل المقدمة ولا خفاء بالفرق.
فصل
3360 - إذا وكَّل المسلم ذمياً بشراء خمر له، لم يصح، ولم تصر إذا اشتراها الذمي للمسلم بمثابة الخمرة المحترمة المتخذة لأجل الخل. وجوّز أبو حنيفة (1) ذلك. وإن منعنا شراء الغائب، فوكَّل إنسان وكيلاً حتى يشهد شيئاً ويشتريه بعد المعاينة، صح الشراء للموكل؛ فإنه استعانَ بمعاينة الموكَّل، وأحلَّها محلَّ معاينة نفسه، وأجرى التوكيل فيها، فصح ذلك كما يصح التوكيل بأصل الشراء. وليس ذلك كالتوكيل بشراء الخمر؛ فإن الخمر ليست مالاً في اعتقاد الموكّل. والله أعلم.
* * *
__________
(1) ر. تبيين الحقائق: 4/ 56، 254، حاشية ابن عابدين: 5/ 511.

(5/430)


بَابُ بيع حَبل الحَبَلَةِ والملامسة والمنابذة
3361 - صدر الشافعي رحمة الله عليهِ البابَ (1) بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم " عن بيع حَبَل الحبَلة " (2).
وللحديث تأويلان: أحدهما - أن يبيع الناقة بثمن مؤجل إلى نتاج نتاجها، ولا شك في فسادِ العقد، وسببه جهالة الأجلِ. والتأويل الثاني أن يبيع نتاجَ النتاج قبل أن يخلق. وهذا ممنوع، وهو المعتاد في العرب (3)، وظاهر اللفظ أيضاً.
ومال الشافعي إلى التأويل الأول. واختار أبو عبيد (4) التأويل الثاني. وقيل: فسر الراوي الخبر بمَا ذكره الشافعي وتفسير الراوي عنده مقدم (5).
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملاقيح والمضامين (6). فالملاقيح جمع الملقاح، وهو ما في أرحام الأمهاتِ، والمضامين ما في أصلاب الفحول.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 204.
(2) وحديث النهي عن بيع حبل الحبلة: متفق عليه من حديث ابن عمر (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 968). وحبَل الحَبلة بفتح الباء فيهما.
(3) في (ت 2): العرف.
(4) في الأصل، (هـ 2): أبو عبيدة. وغير واضحة في (ص). والمثبت من (ت 2). وهو الموجود فعلاً في كتاب (غريب الحديث لأبي عبيد): 1/ 208. وأبو عبيدة صحيح أيضاً، فقد فسره كذلك. وأبو عبيد: هو القاسم بن سلاّم الهروي ت 224 هـ. (ر. مقدمة الجزء الأول من كتابه (غريب الحديث).
وأما أبو عبيدة، فهو معمر بن المثنى اللغوي ت 209 هـ. وقد روى عنه هذا التفسير الحافظ في التلخيص: 3/ 25 ح 1146.
(5) تفسير ابن عمر مدرج في الحديث، وهو الذي مال إليه الشافعي.
(6) حديث النهي عن بيع الملاقيح والمضامين عند مالك في الموطأ: 2/ 653، 654 وفي زوائد البزار: 1/ 507 ح 877 (ر. التلخيص: 3/ 25 ح 1147).

(5/431)


3362 - ومما ذكره الشافعي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة " (1) فأما الملامسة، فلها تأويلان: أحدهما - أن يجعلا نفس اللمسِ بيعاً، فيقول صاحب الثوب لطالبه إذا لمست ثوبي، فهو مبيعٌ منك بكذا. هذا أحد التأويلين، ولا شك في فساد البيع عليه.
وقيل: الملامسة معناها أن يتبايعا سلعة في ظلمة الليل، وجعلا لمسها قاطعاً لخيار الرؤية، فيقيما اللمس مقامَ الرؤية. وهذا باطل؛ فإنا إن منعنا بيع مالم يره المشتري، فلا كلام. وإن صححنا بيع الغائب، فتعليق خيار الرؤية باللمسِ باطل. ويتطرق إلى هذا احتمال؛ من جهة أن من اشترى شيئاً على شرط قطع خيار الرؤية، ففي صحة العقد خلاف ذكرناه. فلا يمتنع تركُ هذا القول في الصورة التي ذكرناها.
3362/م- والمنابذة أن تنبذ الشيءَ إلى غيرك وينبذ الغيرُ إليك. ثم ينقدح لها التأويلان المذكوران في الملامسة. قال الأئمة: المنابذة في العوض والمعوّض مع القرينة الدالة على إرادة البيع هي المعاطاة بعينها.
فظاهر المذهب والنص أن المعاطاة لا تكون بيعاً، وإن اقترنت قرائن أحوال بها.
ولا بد من لفظٍ في العقد. وسأصف تفصيلاً في ألفاظ البيع في باب تجارة الوصي.
وقال أبو حنيفة (2): المعاطاة بيع من غير لفظ في المستحقراتِ، وذكر ابنُ سريج قولين في أن المعاطاة مع القرائن في إرادة البيع هل تكون بيعاً، وخرجهما على القولين في أن من ساق هدياً، فعطب في الطريق، فغمس نعله في دمه، وضرب به صفحة سنامه، فمن رأى تلك العلامةَ، هل يحل له الأكل منه؟ فعلى قولين. ولعلنا نعقد في قرائن الأحوال وآثارِها ومواقع الخلاف والوفاق فصلاً جامعاً، في آخر كتاب البيع إن شاء الله تعالى.
__________
(1) حديث النهي عن الملامسة والمنابذة. متفق عليه من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد. (اللؤلؤ والمرجان: ح 965 - 967).
(2) ر. تبيين الحقائق: 4/ 4، الاختيار: 2/ 4.

(5/432)


ومما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " بيع الحصاة " (1). وله تأويلان: أحدهما - أن يجعل رمي الحصاة بيعاً. وهذا فاسد. والآخر - أن يقول: بعتك ما يقع عليه حصاتك من هذه الأمتعة. وهذا فاسد. والثالث - أن يبيع من أرضٍ قدرَ ما يبلغه حصاة يرميها المشتري؛ فيكون المبيع من موقفه إلى منتهى الحصاة، وهذا فاسد أيضاً.
فصل
قال: " ولا يجوز شراء الأعمى ... إلى آخره " (2).
3363 - ما ذهب إليه جماهير الأصحابِ أن شراء الأعمى وبيعَه فاسدان.
وخرَّج بعضُ أصحابنا بيعه وشراءه على بيع ما لم يره البائع، وشراء ما لم يره المشتري. ثم من صحَّحه من الأعمى، فسبيل لزوم العقد عنده أن يوكّل من يرى له العينَ المشتراةَ، ثم إذا امتنع منه البيع والشراء، يجوز له أن يوكل في كل واحدٍ منهما بصيراً.
فإن كان بصيراً ورأى شيئاً، ثم كُفَّ بصره، فاشتراه، جاز ذلك إذا لم يتقادم الزمن، أو تقادم وكان الشيء ممّا يبعد تغيُّره، كالحديد والنحاس، وغيرهما.
وإذا اشترى شيئاً لم يره، ثم كُفَّ بصره قبل أن يراه. فمن أصحابنا من قال: ينفسخ البيع من قِبَل أنا أَيِسْنا من قرار العقد عند الرؤية.
وذكر الشيخ أبو علي ما هو أصلُ الفصل وبه يتبيّن مشكلُه، فقال: البصير إذا اشترى شيئاً لم يره، وصححنا العقد، فلو وكل وكيلاً وفوض الأمر إليه في الفسخ والإجازة عند الرؤية، قال: في صحة الوَكالة وجهان: أحدهما - يصح، كتفويض الأمر في خيار العيب والخُلف. والثاني - لا يصح؛ فإن الخيار ليس مربوطاً بغرضٍ،
__________
(1) حديث النهي عن بيع الحصاة: رواه مسلم: البيوع، باب بطلان بيع الحصاة، ح 1513.
(2) ر. المختصر: 2/ 204.

(5/433)


وإنما هو إلى إرادة من له الخيار، ولا تعقلُ النيابةُ إذا انتفى الغرضُ. قال: وهذا كما إذا أسلم كافر على عشر نسوة، وأسلمن، فإنه يختار أربعاً منهن. ولو وكل في هذا الاختيار، لم يجز.
ثم قال: إن صححنا التوكيلَ في خيار الرؤية فيبتنى عليه قياسُ شراء الأعمى على شراء الغائب من البصير. وإن لم نصحح التوكيلَ في خيار الرؤية من البصير، قطعنا (1) بفساد شراء الأعمى؛ فإنه لو صح، لم يُفضِ إلى قرار.
وهذا الذي ذكره حسن. وفي التوكيل باختيار أربع نسوة أيضاً احتمال. ولكن حكى الوفاق.
وللأعمى أن يؤاجر نفسه، ويشتري نفسه من سيده للخلاص، كما له أن يقبل الكتابة إذا كاتبه مولاه.
3364 - وأمّا عَقْدُ السلم، فقد استثناه الشافعي من شراء العين (2)، وصححه من الأعمى التزاماً وإلزاماً.
قال المزني: ظني بلطف الشافعي أنه [إنما] (3) يصحِّح السلم ممن كان بصيراً، وعاين ما لا تدرك حقيقته إلا بالعِيان كالألوانِ، وما في معانيها. فإذا طرأ العمى صَدَرَ وصفه عن علم.
فأما الأكمه، فلا علم معه بحقائق الأوصاف وإن كان يذكرها.
واختلف أصحابنا في التفصيل الذي ذكره المزني، فمنهم من وافقه ونزَّل نصَّ الشافعي عليه.
ومنهم من لم يفصل بين الأكمه ومن كان بصيراً عاقلاً ثم عمي، وصحح السلم مع العمى التزاماً وإلزاماً؛ فإن الأوصاف إذا كانت تجري من الأكمه على حد الإعلام، والإعلام هو المقصود، فعدم إحاطته بنفسه وقد جرى مسلكٌ في الإعلام غير ضائر.
__________
(1) في (هـ 2): وقطعنا.
(2) في (ت 2)، (ص): العبد.
(3) مزيدة من (هـ 2)، (ص).

(5/434)


وهو بمثابة توكيل الأعمى بصيراً وإقامتِه مقام نفسه.
3365 - ومما يتعلق بحكم الأعمى أنه إذا أسلم وصححنا منه السَّلَم، وحان وقتُ القبض، فهل يصح منه القبض؟ قال معظم أئمتنا: قبضُه بمثابة شرائه عيناً؛ من جهة أنه يتعلق بمعيَّن، وهو لا يحيط به. وقد ذكرنا في شراء الأعمى تفصيلَ الأصحَاب.
ومن أصحابنا من رأى قبضَه بالصحة أولى. وفي المسألة احتمال.
* * *

(5/435)


بَابُ بَيعتين في بَيْعَة
3366 - روى أبو هريرةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيعتين في بيعة " (1). وذكر الشافعي تأويلين: أحدُهما - أن يقول: بعتك هذا العبد بألف نقداً، أو بألفين إلى سنة، فأيهما شئت أنت، أو أنا، وجب البيع به. فهذا باطل بالنص والإجماع. ومعناه ظاهر.
والتأويل الثاني - أن يقول: بعتك عبدي هذا على أن تبيعني فرسَك، فالبيع باطل. يعني البيعَ الذي شرط فيه البيع. وهذا خارج على قياس الشرائط الفاسدة.
وأما البيع الثاني إن اتفق جريانه خلياً عن شرط، فهو صحيح.
3367 - وجمع الشافعي في الباب مناهي عن الشارع، فترك كلَّ خبر على معناه.
فمنها: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النَجَش " (2) وهو ضرب من الخديعة. قال الشافعي: ليس من أخلاق أهل الدين، ومعناه أن يتقدم الرجل إلى سلعةٍ تباع فيمن يزيد، وربما عُرف بالحذاقة في التجاير، فيزيد في ثمنها وهو لا يريدها، ولكنه يبغي أن يغترّ الناس ويحرصوا على شرائها؛ فيعطوا أكثر ممَّا كانوا يعطون لولا تغريره. وهذا حرام منه. وهو اللَّبس المحظور.
ولكن إن جرى العقد على مبلغٍ من الثمن، صح، فإن التلبيس لا يمنع صحة العقد. والتفصيل في الخيار. فإن جرى ذلك من غير مواطأةٍ مع صاحب السلعة، يصح العقد، كما ذكرناه. ولا خيار، والحرج على الناجش.
وإن جرى النَّجَش في مواطأة صاحب السلعة، فالعقد صحيح وفي الخيار وجهان:
__________
(1) حديث: "نهى عن بيعتين" رواه الشافعي، وأحمد: 2/ 71، والترمذي: ح 1231، والنسائي: ح 4632، والموطأ: 2/ 663. وانظر التلخيص: (3/ 27 ح 1150).
(2) حديث النهي عن النجش. متفق عليه من حديث أبي هريرة: (اللؤلؤ والمرجان: ح 970).

(5/436)


أحدهما - يثبت الخيار للتلبيس؛ اعتباراً بالتصرية، وما في معناها.
والوجه الثاني - لا خيار؛ فإن هذا الخداع غيرُ راجع إلى صفة المبيع. ولكنه متعلق بالعين. وليس في قَبيله خيارٌ. والنجش المنهي عنه معناه في اللغة الرفعُ، والناجش الرافع للسعر.
3368 - ثم ذكر الشافعي نَهْيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قال: " لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه ولا يسومن على سوم أخيه " (1).
وصورة البيع على البيع أن يجري العقد ويكون المتعاقدان في مجلس العقد مغتبطين غيرَ نادمين، فيتقدم واحد إلى المشتري ويعرض عليه سلعة خيراً من السلعة التي اشتراها بمثل ثمن سلعته، أو سلعة مثل سلعته بأقلَّ من ثمنها، ويرغّبه في فسخ البيع الأول بهذا السبب. هذا هو البيع على البيع، وهو محرم باتفاق الأصحاب، غيرَ أن البيع يصح؛ فإن التحريم لا يرجع إلى معنى في البيع، وإنما يرجع إلى معنى كلِّي في محاذرة الإضرار بالغير. وكل نهي جرى هذا المجرى، كان في معنى النهي عن البيع في وقت النداء حين يُخشى فواتُ الجمعة.
وأما السوم على السوم، فصورته أن يساوم سلعةَ غيره، ويتفقا على قدر الثمن ويهُما بالعقد، ويرجع أحدهما لإحضار الثمن، فإذا جاء إنسان وساومه السلعةَ بأكثرَ من ذلك الثمن، أو عرض على المشتري سلعة بأقلَّ من ذلك الثمن، وتسبب إلى دفع ما كاد يتفق، فهذا منهي عنه محرّم، وهو المعنى بالسوم.
ولو كانت السلعة معروضة فيمن يزيد، فإذا طلبها طالب بثمن، فللغير أن يطلبَها بأكثر؛ [إذ] (2) لم يتحقق توافقٌ على مقدارٍ. والسلعة إنما تعرض على من يزيد للتزايد. فكان الذي يجري ليس سوماً.
ثم قال أصحابنا لو خطب الرجل امرأة، فرُدَّ، فللغير أن يخطِبها، وإن أجيب،
__________
(1) حديث " لا يبع بعضكم على بيع أخيه، متفق عليه من حديث ابن عمر وأبي هريرة. (اللؤلؤ والمرجان: ح 969، 970).
(2) في الأصل، (هـ 2): إذا.

(5/437)


فيحرم على الغير الخِطبة. ولو خطب إلى الأبِ ابنته، فسكت، ولم يجب، ولم يرد، فهل يحرم الخِطبة؟ فعلى قولين سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى - في النكاحِ.
ولو اتفق السكوت في السوم، فللغير أن يستام قولاً واحداً، عند المراوزة؛ فإن السكوت في باب النكاح قريبٌ من التصريح بالرضا في مقام الخطبة؛ فإن المخطوب يستحي في أول مجلس ولا يصرح.
وذَكر العراقيون في السوم طريقةً أخرى فقالوا: إن سكت من خُطب إليه أو من طلب منه متاع، ولم يقترن بالسكوت ما يدل على الرضا، فلا يحرم بهذا السكوت الخِطبةُ، ولا السوم، والسكوت يقدر على وجوه، وإنما يدل على الرضا بعضُها، ولو اقترن بالسكوت ما يدل على الرضا، ففي الخِطبة والسوم جميعاً قولان.
فلم يفرقوا بين السوم والخِطبة في الطريقة التي رتبوها.
وما ذكروه منقاسٌ. ولكن لا يمكن أن [نُنكر] (1) الفرقَ بين السوم والخِطبة.
فالوجه أن يقال: الدال على الرضا مع السكوت في الخطبة، ربما يخالف الدالَّ على الرضا في السوم، في مجاري العاداتِ، فيقع الفرق في أصناف القرائن. وإطلاق القول بأن السكوت دليل الرضا في الخطبة ليس كذلك.
فهذا تمام الغرض في هذا الفصل.
ثم قال الشافعي: صاحب البيع على البيع والسوم على السوم يَحْرَجُ إذا كان عالماً بالخبر، والناجش يعصِي وإن لم يبلغه الخبر المخصوص في النجش. وسبب ذلك أن تحريم البيع على البيع والسوم على السوم لا يدركه عامةُ الناس، وأما النجش، فخداعٌ، وقد استفاضَ في الناس وشاع تحريمُ الخداع. والقول فيه قريب.
* * *
__________
(1) في النسخ الأربع: (يذكر). ولعل ما قدرناه يكون هو الصواب المناسب للمعنى والسياق، يساعدنا على ذلك الاستدراكُ الذي ذكره تعقيباً على قول العراقيين إنه لا فرق بين السوّم والخطبة.

(5/438)


باب لا يبيع حَاضِرٌ لبَادٍ
3369 - ذكر الشافعي رحمة الله عليه في صدر الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يبيع حاضر لبادٍ " (1).
والحديث وارد في القرويّ أو البدوي يدخل البلد بسلَعٍ وأمتعة، وهو يبغي بيعَها بسعر اليوم خائفاً أن تعظم المؤنةُ عليه لو أقام. فإذا تقدم إليه حضريٌّ والتمس منه أن يترك أمتعته عنده حتى يبيعها على مر الزمن، وقد يتضيق بهذا السبب الأمرُ على أهل البلد. فهذا منهي عنه.
وإن كان البدوي عازماً على الإقامة والتربص بالأمتعة وبيعها على مر الأوقاتِ، فإذا أعانه حضريٌّ على عزمه، والتمس منه أن يفوّض الأمرَ إليه، لم يلحقه بذاك حَرجٌ، وكان ما جاء به من باب التعاون. وكذلك إذا طلب البدوي ذلك ابتداء من الحضري، فأسعفه، فلا بأس ولا حرج.
وكل ما ذكرناه إذا كان يظهر بسبب التربص ضيقٌ على المسلمين.
فإن لم يكن كذلك والأسعار رخيصة، وأمثال تلك السلعةِ موجودة، وكان لا يظهر بالتربص بها أثر محسوس، فهل يَحرَج من يحمل البدويَّ على التربص؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحرَج بمطلق النهي. والثاني - لا يحرَج؛ لأنَّ معنى الضرار مقصود من النهي، فإذا لم يكن، فلا بأس.
ثم إذا باع حاضر لبادٍ، فلا شك في انعقاد العقد؛ فإن النهي ليس يتمكن من مقصود البيع.
__________
(1) حديث: " لا يبيع حاضر لبادِ ". متفق عليه من حديث ابن عباس. (اللؤلؤ والمرجان: ح 973).

(5/439)


3370 - ثم ذكر الشافعي قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تتلقوا الركبان للبيع، فمن تلقاها، فصاحب السلعة بالخيار بعدَ أن يقدَم (1) السوق " (2).
وصورة ذلك: أن يعلم إنسان بقدوم رُفقة تحمل سلعاً وأمتعة، فيستقبلَهم على قصد أن يشتريَ منهم، ويتقدم إليهم، ويَكْذِبَهم في سعر البلدِ، ويشتري منهم شيئاً من سلعهم أو جميعها بغبنٍ. هذا مورد الخبر.
ولا شك أن صنع هذا المتلقي حرام إذا كان عالماً بالحديث. والعقد ينعقد.
وللبائع الخيار لنص الحديثِ. هذا إذا كذب في السعر واسترخص، فأما إذا صدقَ في السعر، واشترى منهم بأقلَّ من ثمن المثل، أو بمثل الثمن، ففي الخيار وجهان: أحدهما - يثبت لظاهر الحديث؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم، أطلق إثباتَ الخيار، ولم يفصّل بين أن يكذبَ أو يصدق.
ومما يتعلق بذلك أنه لو لقي الركبَ وفاقاً، وما قصد تلقِّيَهم على نحو ما وصفناه، ولكن اتفق الالتقاء بهم، فإن صدق في ذكرِ السعر، واشترى، نفذ، ولا خيار. وإن كذب في السعر، ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما - لا خيار؛ فإن الحديث وارد في تلقي الركبان وهذا ليس متلقِّياً والثاني - يثبت الخيار؛ لأن معنى الحديث النهي عن المخادعة، وهذا جار في هذه الصورة؛ فهي في معنى مورِد الحديث.
فصل
في بيع الجارية والبهيمة على شرط الحمل وفي بيعها مع استثناء الحمل
3371 - فإذا باع جارية على أنها حُبلى، أو شاةً على أنها لَبون، أو جُبة وشرط حشوَها؛ ففي المسائل طرق:
من أصحابنا من قطع بفساد البيع في هذه المسائل؛ فإن البيع تضمن شرطَ مجهولٍ لا إحاطةَ به. ومنهم من قال: في جميعها قولان في صحة البيع. ومنهم من قال:
__________
(1) قدِم يقدَم: من باب تعب. (المعجم).
(2) "لا تَلَقَوُا الركبان" جزء من حديث ابن عباس المتفق عليه السابق. أما الزيادة فعند مسلم من حديث أبي هريرة (ح 1519).

(5/440)


يصح البيع في مسألة الجبة وفي الباقيتين قولان.
وقطع بعضُ أصحابنا بصحة البيع في اشتراط كون الشاة لبوناً. وقال: هذا صفةٌ في الشاة، وليست تقتضى ثبوتَ لبني في الضرع، فأما إذا اشترط اللبن في ضرعها حالةَ البيع، فيكون ذلك كاشتراط كونها حاملاً.
فهذه طرق الأصحاب.
قال الشيخ أبو علي: لو قال: بعتك هذه الجاريةَ، وما في بطنها. أو بعتك هذه الشاةَ، وما في ضرعها. أو هذه الجُبةَ وما فيها من الحشو، فيبطل البيع في هذه الصور قولاً واحداً؛ فإنه تعرض لمجهولات وأثبتَها مبيعةً مقصودةً. وليس كما لو قال: بعتُها على أنها حامل؛ فإنه ما جعل الحمل مبيعاً مقصوداً، بل ذكره وصفاً.
والوصف قد يكون وقد لا يكون، فكان كما لو اشترى عبداً على أنه خبازٌ.
وهذا الذي ذكره حسن. وما ذكره الأصحاب -مع ما ذكر الشيخ أبو علي- يلتفتُ على أن المذكور على صيغة الشرط هل يكون كما يذكر على صيغة الضم إلى المبيع.
وقد ذكرنا أمثلة هذا فيه إذا قال: اشتريتُ منك الزرعَ على أن تحصده. فإن جعلنا المفهومَ من الشرط كالمضموم لفظاً، فيقرب الحكمُ بالبطلان.
والظاهر ما قاله الشيخ إلا أنه ضمَّ حشوَ الجبة إلى الحمل، وفيه بعضُ النظر: فلا يبعد أن يُجعل كبيع الغائب.
ثم يتطرق إلى ما قاله نوعٌ آخر من الاحتمال: وهو أن البيع إن بطَل في الحمل واللبن، فالوجه تخريج البيع في الجارية والشاة على قولين في تفريق الصفقة.
وقد تعرض الشيخُ (1) لهذا. ثم قال: الوجه: القطع بالبطلان؛ فإن المضموم مجهولٌ لا يتأتى توزيع الثمن عليه وعلى المبيع. والقياس ما ذكره. لكنَّا أجرينا قولَيْ تفريق الصفقة في صورةٍ لا يتأتى التوزيع فيها، كما في بيع شاةٍ وخنزير. وذلك يُخرّج على القولين في أن العقد إن أجيز بكم يجاز؟ فإن قلنا: يجاز العقدُ في الذي يصح فيه بتمام الثمن، فلا حاجة إلى التوزيع، ولا يضر تعذر التوزيع؛ إذْ لا حاجة إليه.
__________
(1) الشيخ المراد هنا: والده أبو محمد.

(5/441)


3372 - ومما يتعلق بتمام القول في هذا أن من اشترى جاريةً حاملاً، وأطلق العقدَ، فالبيع صحيح، والحمل مستحَق للمشتري، والخلاف في أنه هل يقابله قسط من الثمن. وسيجري تحقيق ذلك في كتاب الرهن، إن شاء الله تعالى.
ولو باع جاريةً إلا حملَها، ففي صحة الاستثناء والبيع وجهان: أحدهما - يصح، كما يصح استثناء الثمار قبل بدو الصلاح؛ فعلى هذا يبقى الحمل للبائع.
والوجه الثاني - يبطل الاستثناء؛ فإن الحمل بمثابة جزءٍ من الجارية في حكم البيع.
هذا في التصريح بالاستثناء.
فأما إذا باع جارية وهي حامل بولد حُر، فالأصح صحةُ العقد، وإن وقع الحمل مستثنىً عن البيع شرعاً.
وأبعد بعضُ أصحابنا؛ فذكر وجهاً في منع بيعها إلى أن تلد.
وكذلك إذا كان الحمل بالوصية لزيد. وكانت الجارية لعمرو. فإذا باع مالك الجارية، فهو كما لو فُرض البيع وهي حامل بولد حُر.
* * *

(5/442)


باب النهي عن بيعٍ وسلفٍ جرّ منفعة
3373 - صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع وسلف " (1)، وصورته أن يشترط في البيع أن يُقرضه مالاً. وهذا يلتحق بشرط عقدٍ في عقد.
ثم لو قال البائع: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن أقرضك ألفاً، وقبل المشتري، فالبيع باطل.
وكذلك لو قال: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن تقرضني ألفاً، فالبيع فاسد.
أما إذا اشترط على المشتري أن يقرضه، فهذا ضمُّ منفعةٍ إلى الثمن، واشتراط ارتفاق، ولا يثبت ما شَرَطَ، فيصير الثمن مجهولاً به. وكأن التقديرَ بعتك هذا العبدَ بألفٍ وارتفاقٍ بشيءٍ آخر غيره.
وإذا قال البائع: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن أقرضك، فكأنه لم يقنع بأن يقابلَ العبدَ بالألف، فقابلَ العبدَ ورفقاً بألف، فلم يصح.
وما ذكره معتضدٌ بنص الرسول صلى الله عليه وسلم.
فصل
3374 - تعرض الشافعي لإفساد القرضِ الذي يجر منفعة.
والوجه عندنا أن نذكر أصلَ القرض ووصفَه، وقواعد الأحكام فيه، ثم نذكر فساده إذا شرط فيه جرَّ منفعةٍ.
__________
(1) حديث النهي عن بيع وسلف: رواه أبو داود البيوع، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، ح 3504، والترمذي: البيوع، ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، ح 1234، والنسائي: البيوع، بيع ما ليس عندك، ح 4611، وباب شرطان في بيع، ح4630، والحاكم: 2/ 17. وانظر التلخيص: (3/ 28 ح 1151).

(5/443)


فالقرض في نفسه متفق عليه. وليس عقداً تاماً على قياس المعاوضات؛ فإنه لو كان مردوداً إلى قياسها، لما صح اقتراضُ مالٍ من أموال الربا لشَرْطِ التقابض في بيع بعضه بالبعض.
ومعلوم أن من أقرض إنساناً دراهمَ فإنما يبذلُها ليأخذ منه مثلَها، وهذا على القطع مقابلةُ عوض بعوض. وقياسُ هذا يقتضي التقابضَ في مجلس العقد؛ فإن كل عوضين جمعتهما علةٌ واحدة في تحريم ربا الفضل إذا اشتمل العقد عليهما، وجب التقابُض فيهما. فليس القرضُ إذاً على قياس العقود، وليس خالياً عن [تقابل] (1) العوضين مقصوداً.
وامتنع الشافعي من إثبات الأجل في القرض؛ من قِبَل أن الأجل إنما يثبت في حقائق العقود المشتملةِ على حقيقة المعاوضة. فإذا لم يكن القرض كذلك، لم يكن في إثبات الأجل معنى، ووافق أبو حنيفةَ على هذا. وكان القرض معروفٌ أثبته الشارع رخصةً مستثنى من قياس المعاوضات، وما فيها من التعبدات؛ فإن القرض لو روعي فيه التقابض، لم يكن فيه معنى. وغرض الشارع بإثبات القرض استثناؤه عن تصنيفات المبيع، وإيصال المقترض إلى القرض من غير أن يُنجز له عوضاً.
وهذا لا خفاء به.
3375 - وينشأ من هذا الأصل خلافٌ عظيمُ الوقع مع مالك (2)، فإنه قال: ليس للمُقرض أن يسترد ما أقرضه على الفور، حتى يقضي المقترضُ وطراً، أو يمضي زمانٌ يسع ذلك. وزعم أنا لو ملكنا المقرضَ استرجاع القرض في الحال، لم يكن للقرض فائدةٌ. وبنى هذا على إثبات الأجل، ولزوم الوفاء به إذا ذُكر، وحمل [هذا] (3) على موافقة مقصودِ القرض.
وهذا الذي ذكره فيه تخييل إذا نظر الناظر إلى مقصود القرض. ولكن لا وجه لما
__________
(1) في الأصل، (ت 2): تقابض.
(2) ر. جواهر الإكليل: 2/ 76، منح الجليل لعليش: 3/ 51.
(3) ساقطة من الأصل.

(5/444)


قاله؛ من جهة أن منعه المقرضَ من مطالبة المقترض تحكّم منه عليه، لا عن أصل ثابت في الشرع. ثم ذِكْرُه قضاءَ الوطر عماية لا يهتدى إليها، وأمرٌ خارج عن الضبط.
والوجه إذا عقلنا غرضَ الشرع مائلاً عن قياس كلِّي (1) أن نقتصر عليه، ولا نُتبعُه هدمَ الأصول. ومقصود الشارع استثناءُ القرض عن التعبّد الثابت في التقابض المشروط. وهذا معترف به، فأما الحجر على المقرض، فلا. والأمر محمول فيه على أنه إن شاء وفَى بامتناعه، فإن لم يفِ، فهو المالك.
وقد طرد مالكٌ أصلَه في إلزام العواري إلى قضاء الأوطار.
وهذا عندي خَرق لما عليه علماءُ الأمة؛ فإنهم ما زالوا يعرفون من وضع الشرع في العواري تخيّر المعير، وأن له الرجوع متى شاء. وقد ثبت في وضع الشرع عقودٌ مقرونةٌ بشرط الرجوع. والواهب المملِّك بالإقباضِ عندنا وبنفسِ الهبةِ عند مالك رحمه الله يرجع فيما وهب. ولم يُنكِر أصلَ الرجوع في الهبة منكر.
فالذي يقتضيه الفقه أن يُعتقَدَ استثناءُ الشارع القرضَ كما ذكرناه، مع أن الأمر فيه مبني على أن المقرض يفي بالامتناع، ولا يخلف الموعدَ. وهذا ما اطّرد العرفُ فيه.
فإن أراد الاسترجاع، فلا مانع منه.
وأما الأجل، فقول مالكٍ في إثباته أَثْبتُ. وسبيل الكلام عليه ما قدّمناه، من أن الأجل من توابع العقود المحققة، ولو أثبتنا الأجل فيه، لألحقناه بالعقود، ولو التحق بها، لامتنع الأجل في مقابلة الدراهم بالدنانير؛ ففي إثباته في الربويات نفيُه.
3376 - ثم إذا تمهد قولُنا في أصل القرض وتنزيله، فنتكلمُ وراء ذلك في شيئين: أحدهما - أنه يقتضي الملك للمقترض وكيف التفصيل فيه. والثاني - فيما يصح إقراضه وفيما لا يصح، ثم نذكر بعدهما القرضَ الذي يجرّ منفعةً.
فأما القول في وقت الملكِ، فقد ذكر أئمتنا قولين من معاني كلام الشافعي في ذلك: أحدهما - أن الملك يحصل بالإقباض. وهذا هو القياس؛ فإن المقترض يتصرف فيما اقترضه وقبضه تصرفاتٍ مفتقرة إلى الملك، كالبيع وغيره. وأيضاً؛ فإن
__________
(1) في (ص)، (ت 2): جلي.

(5/445)


كل عقد مملِّكٍ على الصحة، إذا لم يقترن به مانِع من نقل الملك، فالملك لا يتأخر فيه عن القبض.
والقول الثاني - أن الملك لا يحصل ما لم يتصرف المقترض، كما سنصف تصرّفَه؛ فإن الاقتراضَ ما وقع للتمليك المحض، حتى لا (1) يقتني المقترضُ ما يقترضه. ولو كان المقصود منه ذلك، لرُدَّ إلى قياس العقود، فحكمُ القرض في وضعه يقتضي وقوفَ الملك إلى اتفاق التصرف.
التفريع على القولين:
3377 - إن حكمنا بأن الملك يحصل في القرض بنفس القبض مع جريان لفظٍ مشعر باقتراض، فقد قال صاحبُ التقريب وأئمة العراق: لو أراد المُقرِضُ أن يسترد عينَ ما أقرضه، كان له ذلك. وهو ما قطع به القاضي. وسببه أنه إذا كان يملك تغريمه مثلَ حقه عند فواته، فينبغي أن يملك استردادَ عين ملكه. ولو أبى المقترض، كان حاملاً للقرض على مقصود الاقتناء. وقد أوضحنا خلاف ذلك.
وذكر الشيخ أبو علي في الشرح أن المقرض ليس له أن يسترد عينَ القرض إلا أن يرضى به المقترض، فلو أراد أن يأتي بمثل ما قبضه، فله ذلك.
وهذا الذي ذكره قياس حسن. ولكن جمهور الأصحاب ذهبوا إلى مَا قدمناه.
ولو أراد المقترض ردَّ عين القرض، فلا شك أنَ المقرض محمول على قبوله، وليس له أن يقول: إنما أقرضتك هذه الدراهم بعوضها، فلا أقبل عينها؛ وذلك أن القرض منتزعٌ عن حقائق المعاوضات. ولو باع رجل درهماً في الذمة بدرهم، ثم أقبض أحدُهما صاحبه درهماً، فردّه على صاحبه، وكان مثلاً له، جاز ذلك. فإذا لم يمتنع هذا في المعاوضات المحققة، فلا شك أن المقرض محمول على قبول عينِ حقه.
هذا إذا فرعنا على أن الملك يحصل بالقبض في القرض.
__________
(1) في (هـ 2)، (ص): حتى يقتني.

(5/446)


3378 - فأما إذا فرعنا على القول الآخر. وقلنا: لا يحصل الملك في القرض إلا بتصرفٍ من المقترض. فالكلام أولاً في نفس التصرف:
لا خلاف على هذا القول أنه لو استخدم العبدَ المقترَض أو أعاره، فلا يحصل الملك بهذا القبيل من التصرفات.
ولو باعه بيعَ بتات، أو وهبه وأقبضه، فيحكم بنفوذ تصرفه، ويستبين أن الملك انتقل إليه قُبَيْل التصرف الصادر منه، فإنا بالتصرف نعلم جريانَ المقترض في مقصود القرض. وإذا تبيَّنا ذلك، أسندنا تصرفاته إلى ملكٍ مقدَّرٍ قُبيلَها.
ولو آجر العبدَ المقترَضَ أو رهنه، فكيف القول في التصرف الذي لا يزيل الملك عن الرقبة، ويستدعي نفوذُه ملكَ المتصرف؟
في كلام أصحابنا خبطٌ في هذا. أمّا شيخي فكان يقول: كل تصرف لو صدر من المتّهب، انقطع به حق رجوع الواهبِ منه، ولولاه لرجع، فذلك التصرف يثبت ملكَ المقترض على حكم التبيّن. وكذلك كل تصرفٍ لو صدر من المشتري، ثم أفلس، لامتنع به حق رجوع البائع إلى عين ماله، فإذا صدر من المقترض، تضمّن حصولَ الملك له، فلا فرق بين هذا المعتبَرِ وبين ما ذكرناه في المتهب.
هذا مسلك شيخي.
ومن أئمتنا من قال: التصرف المعتبَر فيما نحن فيه هو الذي يزيل الملكَ عن رقبة المقترض؛ فإن الغرض من الإقراض إخراجُ المقترَض. وهذا القائل لا يجعل الرهن مما يكتفى به وإن تعلّق برقبة المقترَض.
وقال بعض أئمتنا: كل تصرف يتعلق بالمنفعةِ، فإنه لا يثبت حقَّ الملك في المقترَض، كالإجارة. وكل تصرف يتعلق بالرقبة على لزومٍ، فإنه يتضمن ملك المقترض، فالرهن عند هذا القائل يتضمن تحصيل الملك.
وقال بعض أئمتنا: كل تصرف يستدعي ملكاً، فهو من المقترض يتضمن تمليك القرض على مذهب التبيّن.

(5/447)


وصاغ بعض أصحابنا عن هذا عبارةً أخرى، وقال: ما يستباح بالإباحة لا أثر له، وما لا يستفاد إلا بملكٍ، فهو الذي يُثبت الملك.
فهذا تمام طرق الأصحابِ في تفصيل التصرفات المعتبرة في تحصيل الملك في القرض.
ومن قال: لا يحصل الملك إلا بما يزيل الملك، فلا يمنع المقتَرِضَ من استخدام العبدِ المُقْتَرَضِ ويَحْمِلُ الإقراضَ على إباحة ذلك، وعلى تمهيد تحصيل الملك إن أراد المقترض تحصيلَ الملك. فأما الإجارة، فلا نصححها، فإنها تستدعي ملكاً، والملك عند هذا القائل لا يحصل بها.
ولسنا نحوم بعدُ على استقراض الجارية، فإنا سنذكر أمرها في الفصل الثاني، وهو ما يُستقرَض وما لا يستقرَض.
فرع:
3379 - [إذا استقرض] (1) عيناً وباعها على شرط الخيار. فإن قلنا: البيع لا ينقل الملك، والتفريع على أنه لابد من تصرفٍ ناقل للملك، فلا يحصل الملك للمستقرض.
وإن فرعنا على أن المعتبر تصرفٌ يستدعي الملك، فالبيع يُملّك المستقرضَ؛ فإنه يستدعي ملكاً، وإن كان لا ينقل الملك ما لم يَلْزم.
وإن قلنا: البيع ينقل الملك، والتفريع على أنه لابد من ناقل للملك، فهذا نقل على الجواز، لا على اللّزوم. وفيه تردد للأصحاب. وهو محتمل جداً.
وكان شيخي يقول: لا خلاف أن الملك إذا حصل في زمان الخيار لمن اشترى زوجته، فالنكاح ينفسخ.
هذا منتهى التفريع على التصرفاتِ المعتبرة في قولنا: لا يملك المستقرض ما لم يتصرف.
وقد نجز الغرض فيما يملّك المستقرَض.
__________
(1) سقط من نسخة الأصل وحدها.

(5/448)


3380 - فأما القول فيما يصح إقراضه:
قال صاحب التلخيص: " ما يصح السلم فيه، يصح إقراضُه إلا الولائد ": أراد الجواري. فنقول أولاً:
مقتضى كلامه: أن ما يمتنع السلم فيه لأن الوصفَ لا يحيط به لا يصحّ إقراضُه.
وهذا ما ذهب إليه الجماهير المعتبرون من الأصحاب. ووجهه أن القرض مقتضاه إلزامُ ذمة المقترض عوضاً موصوفاً، فينبغي أن يكون الشيء قابلاً للصفة، وكأنَّ العينَ المقرضَة بصفاتها سبيلٌ في وصفِ ما يُلزمه ذمةَ المقترض. وهي نازلةٌ منزلةَ ذكر الأوصاف في السلم.
فيخرج إذاً مما ذكرناه أن اللؤلؤةَ لا يجوز إقراضُها، وكذلك النشابة والقوس، وكل ما يمتنع السلم فيه. وذكر الشيخ أبو علي هذا الوجهَ، ووجهاً آخر: وهو أن الإقراضَ يجوز في هذه الأشياء.
والقول في هذا ينبني على ما سأذكره في آخر الفصل، وأنبه على رد هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
3381 - ومما يتعلق بهذا الفصل الكلامُ في إقراض الجواري. وقد نص الشافعي على قولين فيه: أحدهما - تجويز ذلك قياساً على العبيد والعُرُوض، والنقود. والقول الثاني - لا يجوز إقراضهن.
وقد اتفق أصحابنا على أحد هذين القولين في أن الملك متى يحصل في القرض.
ثم ذهب الأكثرون إلى أنا إن قلنا: يحصل الملك بالقبض، فيصح إقراضُ الجارية، ويملكها المقترض بالقبض، كما يملكها بالاتهاب والقبض.
وإن قلنا: [لا يحصل الملكُ في القرض بالقبض، فلا يصح إقراضُ الجواري] (1)؛ فإن في تصحيحه تسليمَهن إلى المقترض، فتثبت يدُه عليها من غير ملكٍ. وقد يُفضي ذلك إلى الإلمام، فالوجه حسم هذه الجملة بالكلية.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(5/449)


وذكر الشيخ أبو علي مسلكاً آخر في بناء إقراض الجواري على الملك، وهو عكس ما ذكره الأصحاب. فقال: إن قلنا: يحصل الملك في القرض بالقبض، فلا يصح إقراض الجارية؛ فإن المقترض لو ملكها، لاستحلها، ثم مَلكَ ردها في عينها، فيكون ذلك على صورة إعارة الجواري للوطء. وإذا قلنا: لا يملك القرضَ بالقبض، فيصح إقراضُ الجارية؛ فإن مستقرضَها إذا لم يملكها، لا يستحلها، ولا يقع ما صورناه من وطء الجارية وردّها في عينها.
هذا مسلكه. والذي ذكره الأصحاب قريبٌ. ولا بأس بما ذكره الشيخ أيضاً.
والقياسُ جواز الإقراض على القولين. ولكن صح عن السلفِ النهيُ عن إقراض الوَلائدِ. وكأن المسألة اتباعية.
وأجمع أئمتنا أن الجارية إن كانت من محارم المستقرِض بنسب أو رضاع، أو صهرٍ، فيجوزُ إقراضها منه. لم أرَ في هذا خلافاً. وهذا يُنبِّهُ (1) على أن المحذورَ الوطءُ واستحلاله، على التفصيل الذي ذكرناه.
3382 - فإذا ثبت التفصيل فيما يجوزُ إقراضه، فالمقترَض لا يخلو إما أن يكون من ذوات الأمثالِ، وإما أن يكون من ذوات القيم؛ فإن كان من ذوات الأمثال، فلا شك أن المردود مثلُ المستقرَض.
وإن كانَ المُقرَضُ من ذوات القيم، فقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه: فذكروا وجهين أشبههما (2) بظاهر الحديث أنه يرد مثل ما قبض. وإن لم يكن من ذواتِ الأمثالِ. وصح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقرض بكراً من أعرابي فتقاضى عليه وأغلظ عليه في القول ". قال أبو هريرة فهممنا به فقال عليه السلام " دعوه فإن لصاحبِ الحق يداً ولساناً. ثم أمر أبا رافع أن يقضيه، فلم يجد إلا بازلاً (3)، فقال:
__________
(1) في (هـ 2)، (ت 2): تنبيه.
(2) في (هـ 2): أظهرهما.
(3) البازل من الإبل من دخل في التاسعة، وهو تمام قوة الإبل. وهذا تصرف في الرواية: فليس هذا اللفظ في الحديث.

(5/450)


" أعطوهُ إياه، خيركم أحسنكم قضاءً " (1) ويعتضد هذا الوجه أيضاً بأن القرض ليس فيه تعرض لذكر العوض، ولو كان الواجب ردَّ قيمة العين لوجب إعلامها، فوضح أن القرض ينزل على العين، وعلى ما يجانسه.
والوجه الثاني -وهو الأقيس- أن العين إذا كانت من ذوات القيم، فالواجب على المستقرض قيمتُها؛ فإنه لا مثل لها، ولو ضمنت بالمثلِ في القرض، لضمنت في الإتلافِ بالمثلِ. وهذا القائل يقول: القرضُ إذاً في التصرف والاستهلاك مضمَّن بالبدل الذي يثبت عند الإتلاف.
هذا تقديره.
وما قدّمناه من الوجهين في إقراض ما لا يصح السلم فيه مبنيان على هذا الذي ذكرناه الآن.
فإن قلنا: العين المُقرَضةُ مضمونة بالقيمة، إذا لم تكن من ذواتِ الأمثال، فإقراض الدُّرةِ جائز بناءً على قيمتها. وإن أوجبنا ردَّ المثل، لم يجز فيما لا يضبطه الوصف.
3383 - وأمَّا إقراض الخبز وكل ما لا يجوز بيعُ بعضِه ببعضٍ ينبني (2) على أن ما ليس من ذوات الأمثالِ يَضمن المقترض مثلَه أو قيمتَه. فإن ألزمناه القيمةَ، والخبز [ليس من ذواتِ الأمثال، فيجوز إقراضه، فإنه ليس فيه مقابلة الخبز بالخبز. وإن قلنا: يضمن المقترض المثل، فهذا يؤدي إلى مقابلة الخبز بالخبز] (3). وقد اختلف
__________
(1) حديث خيركم أحسنكم قضاءً. رواه البخاري: الاستقراض، باب هل يعطى أكبر من سنه، ح 2391، وباب استقراض الإبل، ح 2390، وفي الوكالة، باب الوكالة في قضاء الديون، ح 2306. ورواه مسلم: المساقاة، باب خيركم أحسنكم قضاءً، ح 1600، وهو من حديث أبي هريرة، وأبي رافع.
هذا، وليس في الحديث لفظ (بازل) وإنما "خياراً رباعياً" والرباعي بفتح الراء، ما له ست سنين. فالحديث مروي بمعناه. وراجع تلخيص الحبير: (3/ 79 ح 1234). وسترى أن الحافظ تحامل على الإمام والغزالي.
(2) جواب (أما). (بدون الفاء على مذهب الكوفيين. وتتكرر كثيراً في لغة إمام الحرمين).
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل. ومكانه عبارة مضطربة مكررة متداخلة. لا معنى لها.

(5/451)


أصحابنا فيه، فمنهم من منع الإقراض لأدائه إلى مقابلة الخبز بالخبز. ومنهم من جوز للحاجةِ الماسة، كما يجوز مقابلة الدراهم بالدراهم من غير تقابضٍ. وإلى هذا مال القاضي.
وقد نجز الكلامُ في أصول القرض.
3384 - وحان أن نُفَصِّل القرضَ الذي يجر منفعة، فنقول: صح أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن قرضٍ جرَّ منفعة " (1) واتفق المسلمون على منع ذلك على الجملة، وإن كان مِنْ تردُّدٍ، ففي التفصيل. والمعنى المعتبر أن القرض معروفٌ أثبته الشارع لمسيس الحاجة. واستثناه عن تعبداتِ البياعاتِ، وإنما يتحقق معروفاً إذا لم يقصد المقرض جرَّ منفعة.
فإذا أقرض رجُل رجلاً دراهمَ مكسّرة وشرط أن يردها صحيحةً، فالقرض فاسد.
ومن هذه الجملة السفاتج (2)، فإذا جرت مشروطة، فأقرض رجل رجلاً مالاً ببلدةٍ، وشرط أن يرده ببلدة أخرى، فهذا الشرط يفسد القرض؛ فإن المقرض يبغي به درْءَ خطر السفر عن ماله. وهو منفعة ظاهرة.
فإن قيل: أتجوزون القرض على شرط الرهن والكفيل؟ قلنا: هو جائز، لا خلاف فيه، وليس هو من القرض الذي يجر منفعة؛ فإن الرهن لا منفعة فيه إلا التوثيق. وكذلك الكفيل، وليس في استيثاقِ المقرض بالرهن جلبُ منفعة زائدة؛ فإنه كان بملكه أوثقَ منه بالرهن الآن.
ولو قال: أقرضتك هذه الدراهمَ الصحاح على أن تردها مكسّرة، فهذا حط من مقدار الحق، وليس جلبَ منفعة، ثم تفصيله أنه إن لم يكن هذا القرض (3) في معرِض
__________
(1) حديث: " نهى عن قرضٍ جرَّ منفعة ". لم يصح مرفوعاً، لكنه صح عن ابن عباس موقوفاً، وهو مروي بهذا اللفظ عن علي كما روي موقوفاً على ابن مسعود، وأبي، وعبد الله بن سلام. (ر. معرفة السنن والآثار: 4/ 391، والكبرى للبيهقي: 5/ 349، 350، وتلخيص الحبير: (3/ 79، 80 ح 1235، والإرواء: ح 1397).
(2) السفاتج: جمع سفتجة، قيل بضم السين، وقيل بفتحها، وأما التاء فمفتوحة، فارسي معرب (المصباح).
(3) كذا في النسخ الأربع. ولعلها: " اللفظ " (مكان القرض).

(5/452)


الشرط، بل ذكره متساهلاً واعداً، فالقرضُ صحيح. وهو بالخيار في الوفاء بالوعد.
وإن ذكر ذلك على صيغة الشرط، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من حمله على المحمل الأول، وصحح القرضَ. وهو الأصح؛ فإن الشرط في الحقيقة مكرمة، وإنما تشعر صيغةُ الشرط بحقيقة وضعه إذا كان يستجلب الشارط حظاً وغرضاً.
ومن أصحابنا من أفسد القرض بصيغة الشرط. وقد تمهد هذا فيما سبق.
قال الشيخ أبو علي: من أقرض رجلاً مائة درهم على أن يقرضه مائةً أخرى، ولم يتعرض المقترض لذلك، فالصحيح أن القرض لا يفسد بهذا؛ فإن ما ذكره المقرض ليس إلزاماً وإنما هو وعد. وهو بالخيار في الوفاء به. وفيه الوجه الضعيف تمسكاً بصيغة الشرط. ولا عود إليه بعد هذا.
وقال الشيخ: لو وهب رجل من رجلٍ شيئاً على أن يهب منه شيئاً آخر، لا تفسد الهبة، كما ذكرناه في القرض، وهذا في الهبة أظهر. كما سنصفه في آخر المسائل.
ولو قال: بعتك هذا العبدَ بألفٍ على أن أهب منك هذا الثوب، فالبيع باطل، والسبب فيه أن المبيع يقابِل عوضاً، فإذا ضمَّ إليه ما لا يلزم، خرج المبيع عن كونه مقابلاً على التجريد بعوضه؛ وهذا يتضمن جهالةَ العوض من غير فرق بين أن يكون الشرط للشارط أو عليه. والهبة لا عوض فيها، فلا حكم لما يأتي به الشارط، إذا كان يلتزم مزيداً ولا يُلزم.
وأما القرض، فهو ملحق بالهبة. وإن كان مقابلاً بالعوض؛ فإن حقائق الأعواض لا تراعى فيها، ولو روعيت، لكان يسمى.
ولو أقرض وشرط الأجل، فالوجه أن يقال: إن لم يكن للمقرِض غرض في الأجل، فالأجل لا يثبت، والقرض لا يفسد. كما ذكرناه. وإن قُدِّر للمقرض غرضٌ في ذكر الأجل بأن يفرض زمانُ نَهْبٍ والمقترضُ مليءٌ وفيٌّ، فالأحْزم إيقاع المال في ذمته؛ حتى لا يتعرض للضياع. فإن كان كذلك، فمن أصحابنا من جعل شرطَ الأجل جرَّ منفعة، وهو اختيار القاضي، ووجهه لائح. ومنهم من حسم الباب، وجعل الأجل حقَّ المقترض؛ فإنه تأخير المطالبة وإسقاط الطلب بالشيء كإسقاط المطلوب، فلا نظر إلى فرض التعرض للآفةِ.

(5/453)


3385 - ثم ما ذكرناه من أن القرض إذا اشتمل على شرط يجرّ منفعة، فهو فاسد، فهو فيه إذا كان المالُ المقترضُ من أموال الربا. فأما إذا لم يكن من أموال الربا، فالشرط الذي يجر المنفعة هل يفسده؟ فعلى وجهين ذكرهما صَاحب التقريب والعراقيون: أحدهما - أن القرضَ يفسد؛ لأنه إذا اشتمل على جرِّ المنفعة، كان المال خارجاً عن وضعه ومقصوده.
والوجه الثاني - أنه لا يفسد؛ فإن المحذور في مال الربا أن يُردَّ إلى قياسِ المعاوضة، ثم إذا رُدّ إليها، فسد من قِبَل ترك التقابض في المجلس. وإذا كان المال خارجاً عن الربا، لم يضرّ ردُّ القرض إلى قياس البيع.
وهذا فيه نظر من قِبَل أنه إذا رُدّ إلى قياس البيع، وجب فيه التزام شرائط البيع، من تسمية العوض ورعاية شقي العقد إيجاباً وقبولاً، ثم يكون هذا خارجاً عن الباب بالكلية، ويرجع بيعاً محضاً.
ومن جوز هذا من أصحابنا لم يشترط ردّه بيعاً محضاً. فليفهمه الناظر. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر عمرو بنَ العاص حتى استسلف بعيراً ببعيرين إلى إبل الصدقة " (1) ثم مهما (2) حكمنا بفساد القرض لم يملك المستقرض ما أخذه على قولنا بحصول الملك بالقبض، ولم يملك التصرف فيه على القول الآخر.
فرع:
3386 - إذا أقرض رجل رجلاً دراهمَ ببلدة، ثم رآه في بلدة أخرى، وأراد مطالبته بالقرض، نُظر في المال: فإن كان مثل النقود التي لا عسر في نقلها، ولا تتفاوت قيمتُها بتفاوت البقاع، فظاهرُ المذهب أن لمستحق الحق مطالبتَه. وإن
__________
(1) حديث: " أمر عمرو بن العاص حتى استسلف بعيراً ". ذكره الحافظ في التلخيص على أنه كان مع عبد الله بن عمرو، لا مع عمرو. والحديث رواه أبو داود: كتاب البيوع، باب في الرخصة، ح 3357. وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود. وانظر كلام الحافظ: التلخيص: 3/ 18 ح 1139، وما قاله الخطابي في المعالم. وقد أخرجه الدارقطني: 3/ 69، والبيهقي: 5/ 287.
(2) "مهما": بمعنى (إذا).

(5/454)


كان الشيء مما يعسر نقله، وتختلف قيمةُ جنسه باختلاف البلادِ، فلا يطالبه في غير بلد الإقراضِ.
وإن غصب عيناً، ثم ظفر المغصوب منه بالغاصبِ في غير محل العدوان والضّمانِ، ولم تكن العين معه، فأراد أن يغرمه مثلَ العين المغصوبة وهي من ذوات الأمثال، ففي المسألةِ وجهان: أحدهما - أنه لا يطالبه بها. ونقلها عسر وقيمتها متفاوتة، كما لا يطالَب المستقرِض.
والوجه الثاني - أنه يطالَب؛ تغليظاً عليه، بخلاف المقترض.
وسيكون لنا إلى هذا عَوْدٌ بأشفى بيانٍ، إن شاء الله تعالى - في كتاب الغصب.
ثم إن قلنا: لا يطالبه بمثل المغصوب، فيطالبه بقيمته اعتباراً ببلد الغصب، وهذا للحيلولة (1). ثم إذا لقيه في بلد الغصب والعين المغصوبةُ قائمة، ردَّ القيمة واستردَّها. وإن كانت تالفةً، فهل يرد القيمة، ويسترد مثلَ المغصوب، وهو من ذوات الأمثال؟ فيه خلافٌ سيأتي إن شاء الله. وإن ظفر المقرض بالمستقرض، فقد ذكرنا أنه لا يلزمه مثل المال إذا كان يثقل نقلُه، ولكن يلزمه القيمة اعتباراً ببلد القرض؛ فإنا لو لم نقل بهذا، لاتخذ المقترضون التغرّبَ ذريعةً في إسقاط الطَّلِبة في الأموال التي وصفناها.
فرع:
3387 - عماد الإقراض اللفظ والإقباض: ثم اللفظ أن يقول: أقرضتك أو لفظٌ هذا معناه. ومن الألفاظ أن يقول له: خذ هذا واصرفه في حوائجك بمثله مهما وجدت (2).
وأمّا قبول المستقرض نطقاً، ففيه خلاف: فمن أصحابنا من لم يشترطه، وهو ظاهر المذهب؛ لأن الإقراض حاصله يرجع إلى الإذن في الإتلاف على شرط الضمان، وهذا لا يستدعي قبولاً.
ومن أصحابنا من قال: لا بد من القبول؛ فإن هذا التصرف لا يقصر عن الهبة،
__________
(1) كذا بدون ذكر متعلّق؛ لأنه مفهوم من السياق.
(2) أي إلى أن تجدَ.

(5/455)


وهي مفتقرة إلى القبول، مع عروّها عن العوض؛ فالقرض المضمَّن بالعوض بذلك أولى.
وهذا الخلاف يقرب من القولين في أن القرض هل يتضمن تمليكاً إذا اتصل به القبض. ولا يكاد يخفى وجه الأخذ منه.
فصل
قال: " لو كان له على رجل حق حَالٌّ من بيع أو غيره، فأخّره به مدةً معلومة ... إلى آخره " (1).
3388 - لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة رحمه الله في أنه إذا أقرض شيئاً، ثم أراد أن يلحق به أجلاً، لم يلتحق؛ فإنه لو ذكر الأجل عند الإقراض لم يثبت. فأما إلحاق الأجل بالثمن بعد لزوم البيع، ففاسدٌ لاغٍ، والزوائد التي تلحق بالثمن أو المثمن بعد لزوم العقد، لا تلتحق. وهي ملغاة إذا ذكرت. خلافاً لأبي حنيفة (2).
والحط من الثمن نافذ، ولكنه تبرع غيرُ ملتحق بالعقد عندنا. وأثر ذلك أن البائع لو أبرأ المشتري عن شيء من الثمن بعد لزوم العقد، لم يحط المحطوطُ عن المشتري عن الشفيع؛ فإنه يأخذ المبيع بما وقع العقدُ عليه، وهذا الإبراء غيرُ منعطفٍ على حكم العقد. وهو بمثابة ما لو قبض الثمن ثم وهبَ بعضَه من المشتري.
وهذا إذا كان الإلحاق بعدَ لزوم البيع.
3389 - فأما إذا فرض إلحاق بالثمن أو بالمثمن في حال جواز العقد بدوام المجلس، أو بسبب خيار الشرط، ففي التحاق الزيادة وجهان مشهوران: أحدهما - أنها تلتحق وتصير كالمذكورة في العقد.
والثاني - أنها لا تلتحق.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 206.
(2) ر. إيثار الإنصاف: 302، طريقة الخلاف: 317 مسألة 132.

(5/456)


وقد بنى الأصحابُ هذا الخلاف على أن البيع في زمان الخيار هل ينقل الملك؟ قالوا: فإن قلنا: إنه ينقله، فلا إلحاق. وإن حكمنا بأن البيع لا ينقل الملك، فذكر الزيادة على التوافق بمثابة ذكرها بين الإيجاب والقبول.
والصحيح عندنا أن الزيادة لا تلحق وإن حكمنا بأن البيع لا ينقل الملك؛ لأن البيع الأول إذا لم يُرفع ولم يشتمل لفظ العقد على هذه الزيادة، فلا معنى لتقدير إلحاق الزيادة من غير فسخ محقَّق وإعادة، فيمتنع لحوق الزيادة لفساد الصيغة.
ثم من رأى إلحاق الزيادة، قال: لو حُط بعض الثمن عن المشتري، فهو محطوط عن الشفيع. وقال: لو حُط جميع الثمن، فسد العقد، وكأنه خلا في أصله عن ذكر الثمن.
ولو توافقا على إلحاق شرط فاسد، فسد العقد به. ولو ألحق أحدهما شرطاً فاسداً، فسد العقد أيضاً، وإن لم يوافقه صاحبه.
ولو انفرد أحدهما بذكر زيادة صحيحةٍ، وامتنع من قبولها الثاني، لم تلحق الزيادة. ولكن إن تمادى الشارط، ولم يفسخ البيعَ، استمر العقد صحيحاً، ولغت الزيادة. وليس كما لو ذكر أحدهما بين الإيجاب والقبول شرطاً ولم يساعده الثاني، فإن العقد لا ينعقد؛ إذ صيغةُ العقد تستدعي توافقاً بين الموجب والقابل. وإذا اختلف القولان، خَرَجا عن مرتبة الجواب والخطاب.
ومن عليه الحق المؤجل إذا أسقط الأجل، لم يسقط الأجل في حق مستحِق الدين، حتى لو أتى به قبل حلول الأجل المذكور، لم يجبر مستحِق الدين على القبول، على القول الصحيح.
وهل يسقط الأجل في حق من عليه الدين المؤجل؟ حتى لو أراد مستحِق الدين مطالبتَه قبل حلول الأجل هل يكون له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط الأجل في حق من عليه الدين؛ لأنه أسقط حقَّه. والثاني - لا يسقط الأجل؛ لأنه صفة، والصفة لا استقلال لها.
وهذا بمثابة ما لو استحق الرجل دراهمَ صحيحةً، فقال: أسقطت حقي في صفة

(5/457)


الصحة، وأنا راضٍ بالمكسّرة، فلا يسقط حقه إجماعاً. فكذلك الأجل.
ومن قال بالأول، انفصل عن الصحة والجودة، وقال: هي صفةُ حق لمستحِق، والأجل حقّ لمن عليه الدين. وليس الموصوف بالأجل حقُّه، فهو إذاً في حقه حقٌّ محض متأصل ليس صفةً.
* * *

(5/458)


بابُ تِجارَة الوَصِيِّ بمَالِ اليتيم
قال: " وأحب أن يتجر الوصي بمال من يلي ... إلى آخره " (1).
3390 - أصول القول في الأوصياء يأتي في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى - ونحن نذكر في هذا الباب ما يليق به وأطرافاً مما نعود إليهِ في كتاب الوصايا تمس الحاجة إليها في نظم مقصود الباب.
فنقول: وصيُّ الأب ومنصوبه يتصرف في مال الأطفال كما كان يتصرف الأب في حياته. والقول في الجد أب الأب ووصيه كالقول في الأب.
فأما وصي الأم، فلا يتصرف في مال أطفالها وأولادها المجانين في ظاهر المذهب؛ لأنها بنفسها لا تتصرف في أموالهم في حياتها، فكيف يتصرف نائبها بعد وفاتها؟
وذهب الإصطخري إلى أن الأم تملك التصرفَ في ولدها وماله، والنكاح مستثنى عن تصرفات النسوة. ثم قال الأصطخري: وصي الأم يلي أطفالها بعد وفاتها، كما أنها بنفسها تتصرف في حياتها.
ثم إن نصب السلطان قيِّماً في أمر الأطفال، فلفظ النصب مع لقب القوام لا يسلِّط المنصوبَ على التصرف في مال الطفل؛ فإنا نجوز أن يكون نصبُه إياه للحفظ فحسب.
فإن صرح بتفويض التصرف مَلَكَه على موجَب الشرع.
فأما الأب إذا قال: نصبتك وصياً على أطفالي أوْ في أموال أطفالي، فلا شك أن الوصي يحفظ عليهم أموالهم. وهل يملك التصرفَ تعويلاً على لفظ الإيصاء من غير تصريح بالإذن في التصرف؟ فعلى وجهين: أظهرهما - يملك ذلك، بخلاف نصب
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 205.

(5/459)


القاضي القيمَ. ومن أصحابنا من قال: لا يملك التصرفَ من غير تصريح، كنصب القيم من جهة السلطان.
فإن قيل: فما الفرق؟ قلنا: القُوَّام ينقسمون إلى حفظةٍ ومتصرّفين، وليس يغلب عرفٌ في التصرف، والأوصياء عمَّ العرفُ في تصرفهم، وانضم إليه قرينةُ مسيس الحاجة عند انقطاع نظر الموصي بالموت.
وظهر اختلاف الأصحاب في اجتماع وصي الأب وجدّ الطفل من قِبل الأب، فمن أصحابنا من قدّم الجدَّ ورآه أولى، ومنهم من قدم وصي الأب، وذلك يأتي على الاستقصاء، إن شاء الله عز وجل.
ومقصود البابِ تفصيل القول في تصرف الموصى، فنقول:
3391 - لا شك أن المأخوذ على الوصي مراعاةُ النظر والغبطةِ والمبالغةِ في الاحتياط، حتى لا يبيع سلعةً له بعشرة، وثم من يطلبها بعشرة وحبة. وللوصي أن يبيع بالنسيئة إذا زاد القدر بسبب الأجل، وارتهن به رهناً وافياً. فإن أراد البيع نسيئةً من غير أخذ رهن، وكان من عليه تقدير الدين مليّاً وفياً، فالأصح الصحةُ.
ومن أصحابنا من منع دون الرهنِ، والكفيلُ لا يسد مسدَّ الاستيثاق بالرهن، فإن متضمن الضمان ضمّ ذمةٍ إلى ذمة، والذمم وإن تَضامَّت لا تسد مسدَّ الاستيثاق بالرهن.
وسنذكر أصلَ هذا الخلاف في سياق الفصل.
والوكيل المطلق والعامل لا يتبايعانِ بالنسيئة؛ فإنهما يتصرفان بالنيابة المحضةِ، والوصي وإن كان نائباً، فتصرفه تصرفُ الولاة؛ فإنه خلفَ الأبَ عند فواته، ثم الأب يبيع نسيئة، على شرط المصلحة.
3392 - ومما يليق بتصرف الوصي الكلامُ في مسافرته بالمال في البر والبحر. أما إن كان في الطريق خوفٌ، فلا سبيل إلى المسافرة بمال الأطفال. وإن غلب الأمن في الطريق، بحيث تغلب السلامةُ، ويندر نقيضها، فهل يملك الوصي المسافرة بمال الأطفال؟

(5/460)


أما السفر في البر، فقد ذكر الأصحابُ فيه وجهين وقالوا: أظهرهما - أنه يملك المسافرة، فإنه جهة في الاكتسابِ، وهو موكول إلى نظر الوصي.
والوجه الثاني - أنه لا يملكه، كما لا يملك المودعَ المسافرةَ بالوديعة. والأول يقول: لم يُجعل إلى المودعَ النظرُ لمالك الوديعةِ، وجُعل إلى الوصي النظر في استنماء مال الطفل. وهذا يُعذ من جهات الاستنماء.
وما ذكرناه من الخلاف في البيع نسيئة من غير رهن قريبُ المأخذ من المسافرة مع غلبة الأمن.
هذا قولنا في البر.
فأما المسافرة بمال اليتيم في البحر فإن كان معطبةَ، فلا سبيل إليه، وإن لم يكن كذلك، وكان يركبه التجار في تجايرهم، وقد يقال: الأمن غالبٌ فيه، فقد قطع معظم الأصحاب بالمنع عن المسافرة فيه بمال اليتيم. بخلاف البر؛ فإن غرر أسلمِ البحار لا ينقص عن خطر البر مع الخوف.
وذهب بعض الأئمة إلى أن هذا يخرّجُ على وجوب ركوب البحر للحج. فإن لم نوجبه، فلا يجوز المسافرةُ بمال الأطفال فيه. وإن أوجبنا ركوبَ البحر للحج، فقد نزلناه منزلة البر. وقد صح: "أن عائشة أبضعت بأموال بني (1) محمد بن أبي بكر في البحر" (2).
ومن منع ذلك، تعب في تأويله، وأقربُ مسلك في ذلك أنها أمرت بذلك والممر على السَّاحل الذي لا يتوقع فيه غررٌ من جهة البحر، فإذا كان كذلك، فهو كالبر لا شك فيه. وقيل: لعلها فعلت ذلك بشرط الضمان، وهذا بعيد؛ فإن ما يضمن، فهو ممنوع.
والأولى أن يقال: رأت ذلك رأياً، والمسألة مظنونة.
3393 - ومما يتعلق بغرض الباب أن أئمة العراقِ والقاضي ذهبوا إلى فرقٍ بين
__________
(1) ساقطة من (ص)، (ت 2).
(2) أثر عائشة رواه الشافعي. ر. مختصر المزني: 2/ 206.

(5/461)


تصرف الأب وبين تصرف الوصيِّ، ونحن نسوقه على وجهه: قالوا: لا ينفذُ القاضي شيئاً من تصرفات الوصي إذا ارتفع إلى مجلسه من غير بينةِ تقوم على أنها موافقةٌ للغبطةِ، وينفّذ تصرفات الأب مطلقاً، وعلى من يدعي خلافَ الغبطةِ البيّنةُ.
ولو بلغ الصبي وادعى على الوصي مخالفةَ الغبطةِ، فالقول قوله، وعلى الوصي البيّنةُ. ولو ادعى على أبيه مخالفةَ الغبطة، فالقول قول الأب. والسبب فيه أنَّ تصرف الأب محمولٌ على فرط شفقته وانتفاءِ التهمة عنه، واستحثاث الأبوة إياه على طلب الغبطةِ. والوصي عدلٌ في ظاهر الأمر، وليس على شفقة تستحث على طلبِ الغبطة.
ولا يكفي في تصرف الأوصياء أن يعرَى عن الغبن.
ولو أنفق الأب شيئاً في مصلحة الصبي، فبلغ الصبي وأنكره، أو زعم: أنك تعديت قدرَ الحاجة، فالقول قولُ الأب. ولو ادعى مثلَ ذلك على الوصي، فهل يقبل قول الوصي؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يقبل، كما لا يقبل منه دعوى الغبطة في البياعاتِ. والثاني - يقبل؛ فإن تكليفه الإشهادَ على كل ما ينفق عليه عسر، والإشهادُ على البياعات من الممكنات.
فصل
قال: " وإذا كنا نأمر الوصيَّ أن يشتري بمال اليتيم عقاراً ... إلى آخره " (1).
3394 - المتصرِّفُ في مال الطفل بالوصاية والولاية إذا رأى من النظر أن يشتري له عقاراً يردّ عليه غلّةً يُقصد مثلُها ببذل ثمن العقار، فليفعل ذلك، والعقار المغلُّ خير من إعدادِ المالِ للتجارة؛ فإن التجاير على غرر من جهةِ الأسعار أوَّلاَ، وإن فرض مسافرة بها يعترضها فنون من الغرر، والعقارُ على إغلاله باقٍ في الأصل، ولو أراد أن يشتري عقاراً نفيساً من جهة القيمة، لا يُغل غَلّة بمبلغها احتفالٌ، بالإضافةِ إلى ما بذل في ثمن العقار، مثل أن يشتريَ داراً عظيمة لا حاجة بالصبي إليها، ولا يوجد من يكتريها،
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 205.

(5/462)


فهذا ليس من النظر. وما خالف النظر، فهو مردودٌ.
وإذا كنا نرى أن يشتري العقار للطفل على الترتيب الذي ذكرناه، فينبغي ألا يبتدر بيعَ العقار إلا على تثبتِ وتبتن ونظرٍ ظاهر.
3395 - وحاصل القول أنه يبيعه لغبطةِ ظاهرة تقدَّم على شرفِ العقارِ وفضيلةِ ثبوته على سائر المال. وذلك بأن يكون للصبي شقصٌ من عقار، وكان يطلبُه الشريكُ بأكثرَ من ثمنه، وظهرت الزيادة على التقريب الذي ذكرناه، وكان الشريك يحتاج إليه لتخليص العقار لنفسه، أو لتسوية رَبْعه، فهذه غبطة.
ومن تمام تصويرها ألا يعجز الناظر للطفل من شراء عقار آخر للطفلِ أكثرَ قيمة وريعاً مما يبيعه، فهاهنا تظهر الغبطة.
ولو كان لا يقدر على تحصيلِ عقارٍ بالثمن الذي يأخذه، فذاك في غالب الحال لعلمِ الناسِ بشرف العقار ومزيته على الثمن الذي حصله؛ فإن الناس تتبع الغبطة، فإن كان لا يقدر على تحصيل العقار، فالغالب أن لا خير في بيع العقار.
فهذا تمهيد معنى الغبطة، وقد لاح أن لا يكتفى فيه بثمن المثل، ولا بزيادةٍ قريبةٍ يستهين بها أربابُ العقول بالإضافة إلى شرف العقار، وينضم إليه الاستمكانُ من تحصيل عقارٍ للطفلِ.
فإذا وقع التنبيه على الأصل، هان اتباعُ الصور. فهذا بيع العقار لأجل الغبطة.
3396 - وأما بيعه لأجل الحاجة، فإن مست حاجة الطفلِ إلى النفقةِ ولم يتأت تحصيلها إلا من جهة العقارِ، فيبيعُ منه بقدر الحاجة؛ إن عجز عن تحصيل النفقةِ بجهة أخرى.
ثم القولُ في تصديق الولي في ادعاء الغبطةِ، أو الحاجة، وفي إجراء الوصي على خلافه، وإحواجه إلى إثبات الغبطة بالبيّنة - كما (1) ذكرناه.
__________
(1) في موضع (خبر) للمبتدأ: ثم (القول).

(5/463)


فصل
يحوي أحْكامَ ألفاظ الطفلِ في المعاملاتِ وغيرهَا
3397 - أما حكمه في العباداتِ، فقد مضى. وأما إسلامه، فسيأتي ذلك في كتاب اللقيط.
وشهاداته مردودة، وفي روايته ولا عرامة (1) به خلافٌ، وفي وصيته -والتدبيرُ من الوصية- قولان.
وإذا انضم إلى قوله قرينة تتضمن تصديقَه، مثل أن يفتح البابَ ويخبر عن إذن صاحبها بالدخول، أو يخبر -في بعثه الهدايا والتحف- عن حقيقتها.
فإن انتفت العرامةُ، وجرى ما ذكرناه مرسلاً، ولا قرينة، فتصديقه فيما يخبر عنه محمولٌ على الخلاف في قبول روايته. وإن انضم قرينة مصدقة، نُظر: فإن بلغ الأمرُ إلى العلم، سقط أثر قوله، وإن لم تنته القرينة إلى العلم، فلأصحابنا طريقان: منهم من خرَّجه على الخلاف في روايته، ومنهم من قطع بالتعويل عليه، واستمسك بعاداتِ الأولين، في اعتماد مثل ذلك.
ولا تصلح عبارته لشيء من العقود خلاَ الوصيةَ والعبادة. فلا تستقل [ولا تصح] (2) عبارته بإذن من يليه. ولا فرق بين أن يكون من يليه عنده يراقبه، وبين أن تقدّر غيبته عنه، وهذا يؤخذ من سقوط عبارته في هذه القواعد عندنا. والخلاف مشهور مع أبي حنيفة (3).
واختلف أصحابنا في بيع الاختبار، وذلك أنا قد نرى للولي أن يخبُرَ الصبي إذا ناهزَ
__________
(1) " العرامة ": من عَرَم فلان يعرُم (من بابي قتل وضرب) اشتدّ، وخَبُث وكان شريراً (المعجم والمصباح).
(2) ساقط من الأصل.
(3) ر. رؤوس المسائل: 293 مسألة: 181، المبسوط: 25/ 21، طريقة الخلاف: 462 مسألة 185.

(5/464)


الحلم؛ حتى يستبينَ رشدَه في الوجوه. فإن رأى أن يفوض إليه عقداً حتى يتعاطاه، وهو يراقبه ليستبين تهدِّيه وكَيْسه، فهل ينفذ ذلك؛ المذهب أنه لا ينفذ. واشتهر عن بعض الأصحاب تنفيذ هذا العقد وهذا لا وجه له. ولا أصل في قاعدة المذهب لهذا.
3398 - والصبي ليس من أهل القبض فيما لا يكون من أهل العقد فيه؛ فإن القبض فيه من الخطر ما يزيد على العقد. وإذا كان القبض مملِّكاً في عقدٍ كالقبض في الهبة، فيدُ الصبي لا تصلح له، كما لا تصلح عبارتُه للفظ الذي يملِّك لو صدر من أهله.
وقال الأئمة: لو قال مالك الوديعة للمودَع: سلِّم الوديعةَ إلى هذا الصبي، فسلمها إليه، برىء؛ فإنه امتثل أمرَه، فيما هو خالصُ حقه.
ولو قال للمودعَ: ألقِ هذه الوديعةَ في النارِ، فألقاها، بَرِىء.
ولو قال مستحق الدين لمن عليه الدين: سلّم حقي عليك إلى هذا الصبي، فإذا فعل، لم يبرأ، حتى لو ضاع من يد الصبي، فحق مستحِق الدين باقٍ في ذمة المديون؛ فإن يد الصبي لا تصلح للقبض، ولم يتعين بعدُ حق ذي الحق حتى يكون قولُه هذا بمثابةِ الرضا بإتلاف حقه.
ولو قال لمن عليه الدين ألْقِ حقي في هذه النار، فإذا ألقى مقداره فيها، لم يبرأ؛ فإن ما يلقيه حقُّ (1) الملقي بعدُ إلى أن يتعيَّن بقبضٍ صحيح، هو المملِّكُ في العين.
وهذا ظاهر.
ثم إذا ضاع ما سلمه إلى الصبي فبقاءُ الحق على ما وصفناه، ولا ضمان على الصبي.
وقد قال الأئمة إذا أودع الرجل شيئاً من ملكه عند صبي، فضاع في يده بسبب ترك الحفظ، فلا ضمان والمضيعُ ربُّ الوديعة؛ إذْ وضعها عند من ليس أهلاً لها.
ولو أتلف الصبي الوديعة ففي وجوب الضمان عليه وجهان سيأتي ذكرهما في كتاب الودائع: أحدهما - لا يجب الضمان؛ فإن المودِع هو المسلِّط على الإتلاف.
__________
(1) أي مازال على ملك الملقي.

(5/465)


ولا خلاف أنه لو باع منه شيئاً وسلمه إليه، فأتلفه، لم يضمن؛ فإن التسليم في البيع تسليط على وجوه التصرّف، بخلاف التسليم في الوديعة.
وقال المحققون: لو دفع الصبي ديناراً إلى صراف لينقده، فإذا أخذه منه، لم يجز أن يرده عليه، وهو مال الغير حصل في يده، فليردّه على مالكه، فإن رده على الصبي دخل في ضمانه، يعني في ضمان الصراف، حتى لو ضاع في يد الصبي، ضمنه الصرّاف.
ولو ظفر الصبي بدرهم، فاشترى به شيئاً فأكله، فما أكله لا ضمان عليه فيه، وما قُبض منه فقابضه مضمون عليه. أما الضمان فبيّن. وإهدار ما أكله معلل بتسليط المالك إياه على الإتلاف (1).
* * *
__________
(1) إلى هنا انتهت نسخة الأصل (ت 1 رقم 319) وجاء في خاتمتها ما نصه:
نجز الجزء الخامس من نهاية المطلب في دراية المذهب بعون الله وحسن توفيقه، ويتلوه في السادس إن شاء الله تعالى باب مداينة العبد.
على يد الفقير إلى رحمة الله تعالى عزّ بن فضائل بن عثمان القرشي الحموي شاكراً لله على نعمه ومصلياً على سيدنا محمد النبي وآله، ومسلّماً تسليماً.
. . . والعشرون من شهر جمادى الآخرة سنة سبع وستمائة.
. . . . . . . ودعا له بالمغفرة وللمسلمين والمؤمنين أجمعين.
. . . حسبنا ونعم الوكيل.

(5/466)


باب مداينة العبد (1)
3399 - نذكر في الباب قاعدتين: إحداهما - في العبد المأذون (2 في التجارة والثانية - في العبد الذي ليس مأذوناً له في التجارة 2).
فأما المأذون، فالأولى تصدير حكمه بحقيقة أمره، فمذهبنا أن السيد إذا أذن لعبده في التجارة، فعقوده فيها واقعة للمولى، والعبدُ مستنابٌ فيها. فإن سَلّم إليه مالاً، وأمره بالتجارة، فالمعنى الذي ذكرناه ظاهر في هذه الصورة؛ فإنه لو سلم هذا المال إلى حرٍّ مطلق، وأمره بأن يتصرف فيه عنه، كان التصرف للآمر؛ من حيث أن ما يباع فهو مالُه، وإذا خرج عن ملكه، انقلب العوضُ إلى مخرج المعوَّض، فإذا كان هذا قولَنا والمأمور حر مطلق، فالعبد بذلك أولى.
وإن لم يسلّم إلى العبد شيئاً، وأمره بأن يشتري ويؤدي الثمنَ من كسبه، فكسبه ملك المولى، ولا يكتسب شيئاً إلا ويصير عينُ المكتسب عينَ مال السيد. ثم يقع تصرفه فيه بمثابة تصرفه في سائر أعيان مال المولى.
وقال أبو حنيفة (3): المأذون له في التجارة يتصرف لنفسه، وهذا نظر زائلٌ عن منهاج الحق. وإنما حمله على هذا ظنٌّ له في أحكام العُهدة، ونحن نختتم بذكرها آخر مسائل المأذون.
__________
(1) ومن هنا عادت النسخ ثلاثاً. ((هـ 2) برقم 2222/ 285)، ((ص) برقم (1500)، ((ت 2) برقم 323) وسنتخذ (هـ 2) أصلاً بدءاً من هذا الباب. وهو يقع في منتصفها الوحة رقم 124/ش). والله المستعان.
(2) ما بين القوسين سقط من (ص).
(3) ر. المبسوط: 25/ 9، 13، تبيين الحقائق: 5/ 205، 207، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 212.

(5/467)


3400 - ونعود الآن فنقول: إذا ركب المأذونَ ديونٌ، فما ركبه من ديون التجارة على حسب الإذن، فهو متعلق بذمته وكسبه، أما معنى التعلّق بالذمة، فيظهر في أنه يطالب بالملتزَم إذا عَتَق، وأما التعلق بالكسب، فمعناه تعيّن الكسب لأداء ما التزمه.
والحقوق المالية ثلاثة أقسام: منها ما يلزم بغير رضا مستحق الحق كأروش الجنايات. ومتعلقها في الحال الرقبةُ، وفي تعلّقها بالذمة خلاف، جرى منا التنبيه عليه، واستقصاؤه في آخر كتاب الديات.
وأثر الخلاف في التعلق بالذمة أنا إن حكمنا بالتعلّق فلو عَتَقَ، اتّبع بالأرش بالغاً ما بلغ، وإن لم نحكم بالتعلّق، انحصر حقُّ المجني عليه في رقبته وماليَّته، فلا يتبع إذا عَتَق بشيء.
هذا بيان هذه الجملة على الإرسال.
والقسم [الثاني] (1) - ما يجب برضا ذي الحق، وبإذن المولى، فيتعلق بالذمةِ لا محالة، ويتعلق بالكسب، ولا يتعلق بالرقبة.
وما يثبت (2) برضا ذي الحق من غير إذن المولى، فهو الذي يتعلق بالذمة على الإطلاق دون الكسب. وعنده يقول الفقيه: لا يطالَب به مادام رقيقاً رعايةً لحق السيد، فيتبع إذا عَتَقَ.
وإن كوتب، فأوْجبت له الكتابةُ الاستقلال، فظاهر المذهب أنه لا يطالَب بديون الذمة، التي تثبت في حالة الرق؛ فإنه بعدُ مملوك، ولا يبعد أن ينقلب قِناً، ولهذا رُدت تبرعاتُه. وسيأتي هذا في الكتابة، إن شاء الله تعالى.
فهذا تقسيم أوّلي.
3401 - والذي نبدأ به الآن تفصيلُ القول فيما يتعلق بالكسب [وهذا ينقسم قسمين: أحدُهما - ما يتعلق بالكسب مع التقييد بالتجارة. والثاني - ما يتعلَّق بالكسب مطلقاً.
__________
(1) في الأصل: الثالث.
(2) هذا هو القسم الثالث.

(5/468)


فأما ما يتعلق بالكسب] (1) والإذنُ متقيد بالتجارة، فنقول فيه: ما يلتزمه من ديون المعاملة وهو مأذون في التجارة، يتعلق بما اكتسبه من رأس المال، وهو الأرباح، ويتعلق برأس المال نفسِه، لا خلاف فيه وإن لم يكن من كسبه؛ فإن الإذن في التجارة يعيّنُه متعلَّقاً لحقوق التجارة. وإذا كان الإذن المطلق في الضمان والشراء والنكاح يتضمن تأديةَ الملتزَم من الكسب، وإن لم يجر له ذكر، فتعيُّن رأس المال لتأدية ديون المعاملات أوْلى.
وإذا فرض للعبد كسب، لا من جهة التجارة: مثل أن يحتشَّ أو يحتطب، ففي تعلق ديون معاملاته المأذونة بما يكتسبه، لا من جهة التجارة وجهان: أحدهما - أنها تتعلق بها؛ فإنها لزمت بإذن المولى، فضاهت مهرَ النكاح ومؤنها الدارّة (2).
والوجه الثاني - أن ديون المعاملة والإذن تتقيد بالتجارة لا تتعلق بهذه الاكساب؛ فإن تخصيصه جهةَ التجارة يتضمن حصرَ التأدية في أموال التجارة. وليس كما لو كان الإذن مطلقاً.
والأظهر تعلُّقُ الديون بجميع أكسابه؛ فإن الإذن في التجارة رضا من المولى في الالتزام، والرضا به مشعرٌ بالإذن في التأدية. وأقرب المجال الكسبُ.
وإذا أحاطت الديون بالعبد المأذون واطرد الحجر عليه باستدعاء الغرماء، وقُسم المال الحاصل على الديون، فما يفضل بعد قسمة تلك الأموال كيف السبيل فيه؟ فعلى وجهين، وهما الوجهان المقدمان. أصحهما - أن فضلات الديون يؤديها من الأكساب التي ستكون حالاً على حال. ولايزال الأمر كذلك إلى ألا يبقى من الديون شيء.
والوجه الثاني - أن الفاضل من أقدار تلك الأموال (3) ينقلب إلى الذمة المحضة.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) أي أن الإذن في النكاح يتضمن الالتزام بالمهر، والالتزام بمؤن النكاح المتجددة. وعاد الضمير مؤنثاً على مذكبر وهو النكاح، وذلك سائغ بتأويل، وعليه شواهد، وله أدلة (ر. شواهد التوضيح: 143) وتأويله هنا على معنى النفقة، ويرشح هذا التأويل لفظ (الدارّة) فهو يأتي دائماً صفةً لنفقة الزوجة.
(3) أي من الديون بعد تلك الأموال.

(5/469)


وهذا وإن كان يستدعي مزيد تفصيل، فهو الخلاف الأول، غير أنا فرضنا ذلك الخلافَ في مال التجارة، وأكسابٍ تحصل لا من جهتها، فجرى الوجهان. وهذه الصورة في معناها؛ فإنه إذا سلَّم طائفةً من المال إلى عبده وأذن له في التجارة وكان أحد القابلين (1) يعتقد الحصر في تلك الأموال، حتى إذا قسمت فلو فرض بعد ذلك كسب باحتطاب، فهو على الوجهين. وإن فرض تسليم مال آخر إليه للتجارة، فهو على الوجهين أيضاً؛ فإنه غير تلك الأموال، كما أن الحاصل بالاحتطاب غيرها.
التفريع على الوجهين:
3402 - إن رددنا فاضل الديون إلى الذمة المحضة، فلا كلام.
وإن رددناه إلى الكسب، فلو باع سيد العبد العبدَ، فالتعلق بالكسب لا ينقطع، وقد صارت الأكساب على هذا الوجه مستحقة التعلق إلى تمام البراءة.
وإذا نكح العبد بإذن مولاه وتعلق المهر والنفقة بكسبه، فإذا باعه سيدُه، لم ينقطع التعلق. ثم لا شك أن المشتري (2) إذا اطلع على ذلك بعد الشراء، ثبت له الخيار في فسخ البيع، وإن رددنا فاضل الديون إلى الذمة، فلا خيار للمشتري؛ إذ لا ضرر عليه في تعلق دينٍ بذمته، إذا كان رقه وكسبه متخلصين له. وخالف أبو حنيفة (3) في هذا.
ولو عَتَقَ العبد قبل أن يتفق أداء فاضل الديون، فلا شك أنه يطالَب به؛ فإنه لا يتصور أن يتعلق دين بالكسب إلاَّ وهو متعلق بالذمة.
ثم إذا أدى ما عليه بعد العتق، فهل يرجع به على مولاه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يرجع به؛ فإنه من آثار تصرف السيد في محلِّ ملكه، ولا تبعة على المتصرف في محل الملك، وما أدى الدينَ منه بعد الحرية بين أن يكون في حكم المستَحَق
__________
(1) القابلين بمعنى الدائنين. أخذاً من (القَبَالة) بفتح القاف .. اسم المكتوب لما يلتزمه الإنسان من دين وغيره. وتقول قبلت به أقبله من بابي ضرب وقتل: إذا كفلتَ (مصباح).
(2) المشتري: أي مشتري العبد الذي تعلقت حقوق بأكسابه.
(3) ر. المبسوط: 25/ 75، تبيين الحقائق: 5/ 209، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 212.

(5/470)


بالتصرف (1) السابق في حالة الرق، وبين أن يقال: ما يرجع إلى الذمة المحضة، فالعبد مختص بالالتزام فيه، فلا نجد مرجعاً لما اختصَّ بالتزامه.
والوجه الثاني - أنه يرجع؛ فإن تصرف السيد جرَّ على العبد هذا الغرم بعد العِتاق وانقطاع علائق استحقاق المولى، فكأنه ورَّطه في هذا الغرم، وهو لا يستحقه بحق ملك الرق.
وعبَّر الأئمة عن هذا النوع وقالوا: اختلف الأصحاب في أن المولى هل يتصرف في عبده تصرفاً يبقَى ضررُه بعد العتق، ويعدُّ ذلك من بقايا الاستحقاق بعد العتاق كالولاء؟ فمنهم من قال: لا يستحق السيد هذا، وإن وقع، فهو بشرط الضمان، وهذا القائل ينظر إلى حالة العَتاقة وانقطاع السلطان.
والثاني - يملك ذلك ويستحقه ولا مرجع. وهذا القائل ينظر إلى حالة الرق.
ومن هذا الأصل إذا أجر السيد عبده، ثم أعتقه في أثناءِ المدة، فإذا حصل الوفاء بالإجارة فهل يرجع بمثل أجرة نفسه في المدة الواقعة بعد العتق على سيده؛ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما في الإجارة. وفي ملك العبد فسخها إذا عَتَق تفصيل يأتي في كتاب الإجارة، إن شاء الله تعالى.
وإذا ضمن العبد عن مولاه دَيْناً كان عليه بإذنه، ثم أدَّاه بعد العتق، فهل يرجع به على المولى؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين.
3403 - هذا قولنا في متعلق ديون العبد المأذون في التجارة، ويخرج مما قدمناه أولاً، وفصلناه آخراً أن ديون التجارة لا تتعلق برقبة العبد؛ فإنها ليست محل التجارة وليس ما يلتزمه على قياس أروش الجنايات؛ ولهذا قال أئمتنا: لا يؤاجر العبد المأذون نفسه؛ فإن رقبته ليست محل تصرفه. وهل يؤاجر الأموال التي يتجر فيها؟ على وجهين: أحدهما - أنه يؤاجرها؛ فإن السيد أذن له في استنمائها وتحصيل الفوائد منها بالجهات التي تعد استنماء.
والوجه الثاني - أنه لا يملك ذلك؛ فإن الإجارة لا تعد من أنواع التجارة، وفيها
__________
(1) في (ص): فالتصرف.

(5/471)


حجر في بعض المذاهب مانع من التجارة الحقيقية؛ فإن المكرَى لا يباع في قولٍ.
وفي المأذون وتصرفاته، وتصرفات المولى فيما في يده أحكام سيأتي ذكرها في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى، ولو جمعنا أحكام المأذون، لطال الباب، ولسنا نلتزم مثل هذا؛ فإنه يُحوج إلى الخروج عن التزام ترتيب السواد.
3404 - فإن قيل: بيّنوا أحكام العُهدة بين السيد والعبد، وبين تعامل العبد وبين السيد.
قلنا: ظن أبو حنيفة (1) وأصحابُه أن عُهدة العقود التي يعقدها المأذون تنحصر عليه، ولا تتعداه إلى مولاه، وبنَوْا على ذلك مصيرهم إلى أن العبد متصرف لنفسه، ونحن نذكر ما ظنوه في معرض الأسئلة (2) والإلزامات، ثم نبيّن المذهبَ في معرض الأجوبة عن تلك الأسئلة.
قالوا: لو اشترى المأذون شيئاً لا يطالَب المولى بثمنه، بل العبد هو المطالب، وإذا اشترى الوكيل شيئاً لموكله، فللبائع مطالبة الموكِّل بالثمن. وقالوا: إذا غرم المأذون بعد العتق دينَ معاملة، لم يرجع على السيد، ولو غرِم الوكيل ثمن العقد (3)، رجع على الموكل. وقالوا: إذا باع المأذون سلعة، وأخذ ثمنها واستُحِقَت السلعة، فالرجوع بالثمن على العبد دون المولى.
فهذه أسئلتُهم.
واعتقدوا أنها مسلمةٌ لهم.
3405 - ونحن نقدِّم على الخوض في الجواب عنها أصلاً، فنقول: إذا دفع المولى ألفَ درهم إلى عبده ليتجر فيه، فاشترى به شيئاً، ثم تلف الألف في يده، نُظر: فإن
__________
(1) ر. المبسوط: 25/ 10، الهداية مع تكملة فتح القدير 8/ 212، 213، الاختيار: 2/ 102.
(2) الأسئلة والإلزامات: من مصطلحات الجدل والمناظرة (ر. الكافية في الجدل لإمام الحرمين: 76). والمعنى مفهوم هنا -على الجملة- من السياق، فلا داعي للإطالة والإثقال بالنقل من الكتب المتاحة.
(3) في (ص)، (ت 2): العبد.

(5/472)


عيّن الألفَ وتلف، انفسخ به (1) العقد، وارتد به المبيع إلى ملك البائع.
وإن كان قد اشترى في الذمة سلعةً بألف، وكان على صرفِ الألف إلى الثمن، فتلف في يده، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العقد باقٍ، وعلى المولى إخراج ألفٍ آخر؛ فإن العقدَ وقع له، ولم يتعين الألف بالتعيّن، فعلى السيد الوفاء بعهدة العقد. هذا هو الصحيح.
والوجه الآخر أن السيد لا يلزمه إخراج ألف آخر.
ثم اختلف الأصحاب: فمنهم من قال: ينفسخ العقد بتلف الألف، كما لو كان معيَّناً في العقد؛ من جهة أن السيد حصر إذنه في التصرف في ذلك الألف، فإذا فات، فقد انقطع محل الإذن، ولم يلتزم السيد على الإطلاق الوفاءَ بعقده، والانفساخُ على هذا الوجه اختيار القاضي.
ومن أصحابنا من قال: للسيد أن يؤدي الألف من سائر ماله؛ فإن العقد صحّ له، فإن فعل، جرى العقدُ ونفذ، وإن أبى، فالبائع يفسخ العقدَ حنيئذٍ.
وكان شيخي يختار هذا الوجه، وهو أمثل من الوجه الأول. والوجهان في الأصل قبل التفريع ينبنيان على ما إذا دفع الرجل ألفاً إلى واحد قِراضاً، فاشترى به شيئاً من غير تعيين، ثم تلفط الألفُ قبل تسليمه، فهل يجب على المالك ألفٌ آخر؟ أم ينقلب العقد إلى المقارِض العامل؟ وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: في مسألة القراض: على ربّ المال توفيةُ الثمن، فعلى السيد ذلك أيضاً. وإن قلنا: العقد ينقلب إلى العامل، وينفذ عليه، فلا يجب على السيد تأديةُ ألف آخر، ثم يعود الكلام إلى الخلاف الذي قدمته في الانفساخ.
ثم إذا قلنا: على السيد أن يأتي بألف آخر، فقد ذكر أئمتنا وجهين في أن العامل هل يتصرّف فيه بحكم الإذن السابق؟ أم لا بدّ من إذن جديد فيه؟ وبنوا هذين الوجهين على ما إذا أوجبنا على مالك رأس المال في القراض أن يأتي بألف آخر، فرأسُ المال ألفٌ أم ألفان؟ فيه وجهان، سيأتي شرحهما، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) به: أي بالتلف.

(5/473)


وإن غمض على الناظر أن يصير الألف الثاني من رأس المال، ولم يكن مذكوراً حالة العقد، قيل له: هو تابع للألف الأول، والعقد عليه، وإذا تبعه، كان ملحقاً به كما يلتحق حطُّ أرش العيب بالعقد حتى يُحَط من الشفيع، وإن كان يأخذ الشقصَ بالثمن المسمَّى في العقد.
ولسنا نلتزم الآن شرح هذه المسألة في أحكام القراض، ولكن لا بد من كشف ما ذكرناه في أحكام المأذون، وكيف تصوير الوجهين، والسيد هو الذي يخرج الألفَ، وإنما يطالبه بائع السلعة، لا العبدُ. فما معنى ترديد الكلام في تصرف العبد فيه؟ وليس للعبد أن يمد يده إلى الألف من مال السيد؟
فالوجه في ذلك أن نقول: إذا أدى الألفَ، ثم فُرض ارتفاع العقد بسببٍ، فالعبد هل يستقل بالتصرف في الألف الراجع؟ فيه الخلاف المقدم. وهو مأخوذ من التحاق الألف برأس المال في القِراض.
وينبني على تحقيق هذا أنا إذا قلنا: لا بد من إذنٍ جديد، فالعبد يصير محجوراً عليه بتلف الألف؛ فيرتدُّ العقد إلى تصرف السيد، حتى إن فُرض فيه فسخ، فهو الفاسخ، وهو المخاطب بأحكام العقد.
وإن ألحقناه برأس المال، فتصرُّفُ العبد قائم في العقد على حسب الغبطة.
ثم إن قلنا: تصرّف العبد باقٍ في العقد، فالمطالبةُ والتعلّق بالذمة على الاستمرار الذي كان. وإن قلنا: يرتدّ العقد إلى السيد، ففي بقاء التعلق بذمة العبد وكسبه تردد، فليتأمله الناظر.
3406 - فهذا أصل قدمناه في الكلام على أحكام العُهدة، وعاد -بعده- بنا الكلامُ إلى الجواب عن أسئلتهم.
فإذا باع المأذون سلعةً، وقبض الثمنَ، واستُحِقَّت السلعةُ، وقد كان تلف الثمن في يد العبد، فالمذهب الصحيح أن المشتري يرجع إلى المولى بالعهدة؛ فإنّ يدَ العبد يدُه، فكأنه البائع والقابضُ للثمن. ولسنا نبرىء العبد عن الضمان؛ فإنه خائضٌ في العقد بإذن المولى.
هذا هو الأصح.

(5/474)


ومن أصحابنا من قال: لا طَلِبةَ على العبد، وعبارته (1) مستعار في الوسط، ويده يدُ سيده. وهذا مزيف، لا أصل له؛ فإن يدَه يدُ ضمان في عقد مضمَّن، وقد جرى ما جرى بإذن المولى.
هذا إذا قلنا: السيد يطالب بما تلف في يد العبد.
ومن أصحابنا من قال: لا مطالبة على السيد. وهذا لا أصل له. ولولا أنَّ في التقريب رَمْزاً إلى هذا، وإلا كنتُ لا أذكره. ولا شك أنه إذا سلّم العبدُ الثمنَ إلى السيد، ثم ثبت الاستحقاق، فالعهدة متعلقة به.
هذا جوابنا عن الاستحقاق.
والحاصل المعتمد فيه أن السيد يطالَب والعبدُ في العهدةِ أيضاً. ثم العهدةُ في حق العبد تتعلق بذمته وكسبه.
وأما قولهم: لو عَتَقَ المأذونُ وغرِم دينَ المعاملة، لم يرجع، فقد تكلمنا على هذا الفصل فيما تقدم.
فإن قلنا: يرجع، فهو على قياس الوكيل. وإن قلنا: لا يرجع، فليس هو لوقوع العقد له وانحصارِه عليه؛ إذ لو وقع العقد له، لكان المبيع في يده، كما أن الثمن عليه. فإذا كان المبيع في يد السيد، دَلَّ أن تغريم العبد بعد العتق -من غير إثبات مرجع له- من أصل آخر، وهو أن السيد تصرّف في حالة الرِّق تصرفاً، لم ينقطع ضراره بالعتق. وقد مهدنا هذا الأصل.
وأما قولهم إذا اشترى المأذونُ شيئاً للتجارة، لم يطالَب السيد بالثمن في الحال.
وهذا فرضوه فيه إذا كان في العبد وفاءٌ، فقد ظهر الخلاف في هذه الصورة: فمن أصحابنا من قال وهم القيّاسون: يطالب السيد بالثمن، كما يطالب الموكَل بثمن العقد الذي عقده الوكيل؛ لأن العقد وقع له، ومِلْكُ الثمن عليه، كما مِلْكُ المثمن على البائع.
ومن أصحابنا من قال: لا يطالَب السيد إذا كانت مطالبة العبد ممكنة، وكان ما في
__________
(1) في (ص): وتجارته.

(5/475)


يده وافياً، وليس هذا لوقوع العقد للعبد، وإنما هو لتنزيل السيد عهدَ عقدِ عبدِه على ما سلمه إليه، فكان كل من يعامله يُنزِل أمره على هذا، ولهذا الفقه (1) تعلّق دينُ المعاملة بما في يده، ولولا ذلك، لما صار رأسُ المال مرتهناً بدين المعاملة.
ثم الدليل على أن سبب انقطاع المطالبة عن السيد هذا - أن العقد لو وقع للعبد، لما تعين له مالُ السيد. وقد ذكر أصحابنا في المقارِض والمقارَض هذا الخلاف بعينه. وإن كان عقد المقارِض لا يقع لنفسه، ولكن معاملة القِراض منزلةٌ على مال معيّن، فنشأ منه الخلاف الذي ذكرناه.
ولو سلم رجل إلى وكيل ألفاً وقال: اشترِ لي عبداً وأد هذا الألفَ في ثمنه، فإذا اشترى الوكيلُ، فلأصحابنا طريقان في مطالبة الموكل: منهم من خرجه على الخلاف المذكور في رب المال والعامل، ومنهم من قال: لا حكم لهذا التعيين مع الوكيل.
والقياسُ طردُ الخلاف في الوكيل.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان ما في يد العبد المأذون وافياً فهل يطالَب السيد؟ فهو على ما تقدم.
3407 - فأمَّا إذا قصر ما في يده عن الدَّيْنِ الذي ركبه، فيفرض هذا في تلف بعض ما في يده، وإذا تلف جميع ما في يده، فقد مضى الكلام في أنه هل يجب على السيد توفيةُ الثمن، من سائر ماله؟ فهذا ذاك بعينه.
وإذا ضممنا صورة الوفاء إلى الصورة التي لا وفاء فيها، انتظم في الصورتين ثلاثةُ أوجه. أحدها - أن السيد لا يطالَب فيهما. والثاني - أنه يطالب فيهما. والثالث - أنه لا يطالَب وفي المال وفاءٌ. ويطالب إذا لم يف ما في يد العبد بالمقدار المعقود (2).
ثم لا خلاف أن العبد مطالب.
واختلف الأصحاب في أن الوكيل بالشراء هل يطالَب بالثمن إذا أضاف الشراء إلى نفسه، ولم يعقد العقد على صيغة السفارة؟ وفي عُهدةِ العقد في حق الوكيل والموكّل كلامُ سيأتي مشروحاً في الوكالة إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في (ص): العقد.
(2) في (ت 2): المذكور.

(5/476)


والقدر الذي نذكره الآن الفرق بين المأذون؛ فإنه مطالبٌ في حال الرق وبعد العتق وبين الوكيل وفيه عسر.
والممكن فيه أن السيد يستخدم عبده في أمره بالشراء، ويُلزمه أن يمتثل أمره.
وليس على الحر أمرٌ من جهة موكَله، فإذا التمس (1) منه التوكيلَ عنه والنيابة، تمحّض معنى النيابة، وعقد العبد يعتمد أكسابَه وهي مملوكة للمولى، ثم لا يتأتى تعلّق الطَّلِبة بأكسابه من غير فرض التعلق بالذمة. ولا يتحقق هذا في الوكيل.
فهذا هو الفرق بين الموقفين.
3408 - ثم ذكر الأصحاب المسائل الخلافية بيننا وبين أبي حنيفة في أحكام المأذون، ونحن نذكر ما نطلب (2) بها بيان مذهبنا وتمييزَ أصلنا عن أصل أبي حنيفة:
فمما أجريناه أن ديون المعاملة لا تتعلق برقبة العبد المأذون، وتتعلق بالمال الذي في يده.
وقال أبو حنيفة (3): تتعلَّق بذلك المال وبالرقبة.
ومن المسائل أن المأذون لا يؤاجر نفسه عندنا، وذكرنا الخلاف في إجارته ما يقبل الإجارة من الأموال التي تحت يده.
ومنها أن السيد إذا أذن لعبده في نوع من التجارة، لم يصر مأذوناً في غيره.
خلافاً لأبي حنيفة (4).
وهذا مبني لنا على أن العبد يتصرف لمولاه.
ولو رأى السيد العبد يتصرف، فسكت، لم يكن سكوته إذناً في التصرف الذي عاينه، ولم يكن إذناً في التجارة.
__________
(1) إمام الحرمين هنا يستعمل فعل " التمس " في معناه المصطلحي الدقيق. فالطلب (الفعل الدالّ على الطلب) من الأعلى (السيد) للأدنى (العبد) أمر. ومن المساوي التماس.
(2) (ت2): فنطلب.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 6/ 163، مجمع الأنهر: 2/ 449، الاختيار: 2/ 102. طريقة الخلاف للاسمندي: 463 مسألة 186.
(4) ر. رؤوس المسائل: 294 مسألة 182، المبسوط: 25/ 6، 9، مختصر الطحاوي: 419، تبيين الحقائق: 5/ 205، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 215.

(5/477)


وأبو حنيفة (1) جعل السكوت إذناً في التجارة، ولم ينفذ به التصرف الذي اتفق السكوت عنده.
ومن المسائل أن المأذون إذا أبق، لم ينعزل بالإباق، ولم ينقطع الإذن.
وقال أبو حنيفة (2): ينقطع، وتصرفه على حكم الإذن نافذ في الإباق إلاَّ أن يكون الإذن يقيد بالتصرف في البلدة التي بها السيد، فلا ينفذ في غيرها.
ومنها أن المأذون لا يأذن لعبده في التجارة، كما أن المقارِض لا يقارِض، وللمقارض أن يُوكِّل. والأصح أن المأذون يملك ذلك في آحاد التصرفات، وإنما يمتنع إقامته غيرَه مقام نفسه.
وأجاز أبو حنيفة (3) أن يأذن المأذون لعبده؛ بناءً على أنه يتصرف لنفسه.
ومنها أنه ليس له اتخاذ الدعوة وجمع المجهزين.
خلافاً لأبي حنيفة (4).
ومنها أنه لو ركبته الديون لم يَزُل ملك السيد عن المال في يده.
وقال أبو حنيفة (5): يزول ملكه عنه ولا يدخل في ملك الغرماء.
ومنها أن المأذون إذا احتطب أو اصطاد، لم ينضم ما حصله من هذه الجهات إلى رأس المال حتى يتصرف فيه تصرّفه في رأس المال. نعم، في تعلق ديون معاملاته بالمكتسب من هذه الجهات وجهان تقدم ذكرهما.
__________
(1) رؤوس المسائل: 94 مسألة 183، مختصر الطحاوي: 419، المبسوط: 25/ 11، تبيين الحقائق: 5/ 204، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 214.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 426، تبيين الحقائق: 5/ 211، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 227، الاختيار: 2/ 103.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 425، الاختيار: 2/ 102.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 427، المبسوط: 26/ 28، تبيين الحقائق: 5/ 208، الاختيار:
(5) ر. تبيين الحقائق: 5/ 213، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 222، الاختيار: 2/ 103.

(5/478)


وقال أبو حنيفة (1): ينضم ما يحصّله إلى رأس المال في نفوذ التصرف.
ومنها أن المأذون لا يعامل سيده وإن ركبته الديون.
وقال أبو حنيفة (2): له معاملته إذا ركبته الديون.
ومنها أنه لا يشتري أبَ سيدِه وابنَه بمطلق الإذن في التجارة؛ فإنّ ذلك لو صح، لألحق ضرراً بالسيد وخسره مالاً، وهو نقيض التجارة.
وقال أبو حنيفة (3): يصح ذلك منه.
ومنها أن العبد إذا ادّعى أن سيده أذن له في التجارة، فليس لأحد معاملتُه ما لم يعلم إذنَ السيد من جهته، أو من بينة تقوم.
وقال أبو حنيفة (4): تصح معاملته.
واختلف أصحابنا فيه إذا شاع الإذن في الناس، ولعل الأصحَّ الصحة؛ فإن إثبات الإذن على كلّ معامل بتسجيل القاضي شديد. ولو عامله إنسان ولم يدْرِ كَوْنَه عبداً، نفذت المعاملة، فليس علم من يعامِل بحقيقة الحال شرطاً.
ثم على من علمه عبداً رقيقاً أن يمتنع من الإقدام على معاملته من غير ثبت. ولو علم من يعامله كوْنه عبداً، فعامله، ثم تبين أنه كان مأذوناً، فهذا يقرب خروجه على قسم من وقف العقود. وهو إذا باع الرجل مالَ أَبيه على اعتقاد حياته، ثم استبان وقوعُ البيع بعد وفاته.
وكان شيخي أبو محمد يقول: لو باع الرجل مالَ أبيه وظنَّه مال نفسه غالطاً، ثم
__________
(1) ر. طريقة الخلاف للأسمندي: 463 مسألة 186.
(2) ر. الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 231، الاختيار: 2/ 104.
(3) لم نصل إلى المسألة منصوصة في كتب الأحناف، لكنهم يقولون: إذا أذن المولى لعبده في التجارة إذناً عاماً جاز تصرفه في سائر التجارات، فيبيع ويشتري ما بدا له؛ لأن التجارة اسم جنس محلى بالألف واللام فكان عاماً يتناول جميع أنواع الأعيان. (ر. الهداية مع تكملة فتح القدير (نتائج الأفكار)، والكفاية، وشرح العناية: 8/ 215).
(4) ر. مختصر الطحاوي: 420، تبيين الحقائق: 5/ 218، الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 238.

(5/479)


تبين أنه كان مالَ أبيه وكان ميتاً حالة العقد. قال: هذا العقد يصح قولاً واحداً؛ فإنه لم يبنه على خلاف الشريعة. وهذا الذي ذكره على حسنه محتمل (1).
ومنها أن العبد المأذون إذا زعم أن سيده حجر عليه، وقال السيد: لم أحجر عليه، لا تجوز معاملته في ظاهر المذهب؛ لأنه يزعم أن التصرّفَ معه غير صحيح، ومبنى التصرّف في ظاهر الأمر على قول العاقد.
ومن أصحابنا من صحح التصرف بناء على قول السيد. وهذا مذهب أبي حنيفة (2).
ومنها أن السيد لو أذن للعبد المأذون أن يأذن للعبدِ الذي في يده للتجارة، صحّ ذلك. ثم لو حجر السيد على المأذون الأول، صح، واستمر الثاني مأذوناً. ولو أراد أن يحجر على العبد الثاني، صح.
وقال أبو حنيفة (3): لا يصح الحجر على العبد الثاني ما لم يرده إلى يده.
ومنها أن إقرار المأذون نافذ بدين المعاملة، وهذا متفق عليه. ولو أقر بشيءٍ منه لأبيه أو (4) ابنه، صح.
وقال أبو حنيفة (5): لا يصح.
ومنها أنه لو كان في يده عين مالٍ، فأقرَّ بأنه مغصوب أو وديعة، لا يصح إقراره؛ فإن إقراره يصح فيما يتعلق به الإذن في التجارة.
وقال أبو حنيفة (6): يصح.
ومنها أنه لو علم رجل أنه مأذون، وعامله، ثم امتنع من التسليم إلى أن يقع الإشهادُ على الإذن، فله ذلك؛ فإنه لو سلم كان على غرر. وقد ينكر السيد أصل
__________
(1) فى (ت 2): مجمل.
(2) ر. المبسوط: 25/ 73، تبيين الحقائق: 5/ 210.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 426، المبسوط: 25/ 36، 39.
(4) في (ص)، (ت2): وابنه.
(5) ر. المبسوط: 25/ 80، 118، تبيين الحقائق: 5/ 207.
(6) ر. مختصر الطحاوي: 424، تبيين الحقائق: 5/ 207، الاختيار: 2/ 101.

(5/480)


الإذن. وهذا كما لو ادّعى رجل أن فلاناً وكَّلني بقبض حقه منك، فصدقه بذلك مَنْ عليه الحق، فله ألا يسلمَ إليه ما لم يُشْهِد على أنّه وكله. وهذا الأصل فيه تردد واحتمال سيأتي في كتاب الوكالة.
وقد اشتمل ما ذكرناه على معظم أحكام المأذون، لم يشِذ منه إلاَّ تصرّف السيد في المال الذي في يد المأذون قبل أن تركبه الديون، وبعد أن تركبه، وهذا ذكره الشافعي في مسائل النكاح، عند ذكره نكاحَ العبد، ومتعلّق المهر والنفقة.
3409 - وقد نجز ما أردناه من تعلق ديون المأذون. وكنا ذكرنا قسمين: أحدهما - المأذون له في التجارة، وقد نجز.
والثاني - في المأذون له في تصرف يُلزِم الذمةَ عوضاً مطلقاً، من غير أن يتضمن الإذنُ حصراً للتصرف في مالٍ، وهذا بمثابة ما لو أذن السيد لعبده أن ينكح، فهذا إذْنٌ بالتزام المهر والنفقة، وكذلك لو أذن له في أن يشتري مطلقاً، أو أذن له في أن يضمن ديناً.
فهذه جهات في التزامٍ جَرَت عن إذن السيد، ولا تعلق لأدائها بأموالٍ خاصة، بخلاف ديون المعاملة في حق المأذون له في التجارة، فما يكون كذلك، فهو يتعلق بجميع جهات كسب العبد التي منها الاحتطاب والاحتشاش والاحتراف -إن كان محترفاً صَنَاعَ اليد- ثم جميع جهات الكسب بالإذن المطلق تصير مستغرقة بالديون التي تلزم من هذه الجهات؛ حتى لا يجوز للسيد أن يستغلَّها (1) قبل أداء الديون المتعلقة بها إلاَّ على شرط ضمان.
ولو استخدم عبده يوماً أو أياماً، ففيما يلزمه تفصيل مذكور في كتاب النكاح.
ولو التزم ديوناً مطلقةً كما وصفناها بالإذن المطلق، ثم كان مأذوناً له في التجارة في أموالٍ في يده، فالديون المطلقة تتعلق بما يستفيده بالتجارة، اتفق أصحابنا عليه.
وفي تعلق ديون التجارة بسائر جهات الكسب سوى التجارة خلافٌ قدمناه، واختلف
__________
(1) يستغلها: السين والتاء هنا بمعنى اعتقاد صفة الشيء مثل: استحسنت هذا. والمعنى: أنه لا يجوز للسيد أن يعتقد أكسابَ العبد هذه غلَّةَ له.

(5/481)


أصحابنا في تعلق الديون المطلقة بعين رأس المال، ولم يختلفوا في تعلق دين التجارة بها.
فهذا نهاية التفصيل في متعلقات ديون العبد إذا ثبتت عن إذنٍ مطلق أو مقيد بالتجارة.
3410 - وقد انتهينا إلى تفصيل ما يصدر من العبد المحجور من غير إذن السيد، فالوجه أن ننص على مواقع الإشكال، ولا نُطنب بالتقاسيم.
فكل تصرف يتعلق بالرقبة، فلا يملك العبد الانفراد به: من جملتها النكاح، وهو الذي يكاد يغمض تعليله، فلا ينكح العبد دون إذن مولاه، ولو صححنا نكاحه دونه، لزمنا أن نبيح له قضاءَ وطره، وذلك يوهي مِنهُ القُوى، ولا ضبط له، ولا منتهى، ويستحيل تصحيح النكاح ووقف التحليل على مراجعة السيد، فكان النكاحُ متعلقاً بالرقبة من الوجه الذي ذكرناه.
3411 - وأما التصرفات المتعلقة بالذمة، ففيها الكلام، وهي المعنيّة، فإذا اشترى العبدُ المحجور عليه شيئاً بغير إذن سيده، ففي صحة شرائه وجهان ذكرهما العراقيون، والشيخ أبو علي: أحدهما - لا يصح، وهذا الذي قطع به [الإمام] (1) وصاحب التقريب.
والثاني - يصح شراؤه؛ فإنه يعتمد ذمته، والسيد لا يملك ذمةَ عبده.
وذهب هؤلاء إلى بناء الوجهين على قولين في أن المحجور عليه بالفلَس إذا اشترى شيئاً في زمان اطراد الحجر عليه، ففي صحة شرائه قولان سيأتي ذكرهما.
وزعم من ذكرناهم أن العبد محجور عليه لحق غيره كالمفلس، ولا حجر على الذمة، وهذا لا أصل له.
والفرق أن المفلس من أهل التملّك والعبد ليس من أهله، وعماد الشراء إمكان الملك للمشتري.
ثم من صحح الشراء، قال: إنما تترتب صحة الشراء على قولنا القديم في أن
__________
(1) في الأصل: الأئمة. والإمام هنا والده.

(5/482)


العبد يُتصوّر أن يملك، وهذا مشكل على هذا القول أيضاً؛ فإن العبد إن صُوّر له ملك، لم يُصوّر إلا من جهة تمليك السيد إياه، فأما التمليك من جهة غيره، فلا مساغ له، ولا يمكننا أن نقول: المبيع يدخل في ملك السيد قهراً كما يحصله العبد من جهة الاحتطاب والاحتشاش وغيرهما؛ فإن تلك الجهات أفعال تقع لا مردَّ لها، والعقود يتطرق إليها الفساد، والصحة.
ثم الذي ذكره العراقيون في قول الصحة أن الملك في المبيع يقع للعبد، ثم السيد فيه بالخيار: إن شاء أقره عليه، وإن شاء انتزعه من يده؛ فإنه يستحيل أن يثبت للعبد ملكٌ مستقر لا يُزيله سيده.
ثم قال المفرعون على ذلك: إن لم يأخذ السيد المبيع من عبده، فالبائع بالخيار إن أراد فَسَخَ العقد واستردَّ المبيع، كما يفسخ البائع البيعَ عند إفلاس المشتري بالثمن، والتعذر أظهر في العبد؛ فإنه مع دوام الملك لا مضطرَب له في جهات الكسب؛ بخلاف المعسر.
ولا خلاف أن الثمن الذي يلتزمه يتعلق بذمته، لا يؤدي شيئاً منها (1) من كسبه، وإنما يطالب به إذا عَتَق.
هذا إذا لم ينتزع السيد المبيع من يد البائع، فلو نزعه من يده، وتملكه عليه، فأراد البائع أن يسترد من السيد، قالوا: ليس له ذلك؛ فإن سلطان الاسترداد يثبت مادام المبيع في يد العبد وملكه، فإذا زال نزل منزلة ما لو زال ملك المشتري الحرّ عما اشتراه، ثم أفلس بالثمن، فلا رجوع للبائع على من تملك على المفلس المبيع.
وهذا خبط عظيم، وقول مضطرِب، وكان لا يمتنع أن يقال: يَبيع البائعُ العينَ في يد السيد؛ فإنه مملوك بالثمن، فلا وجه لاستبداده به وإبطال حق البائع، وإحالته على الطَّلِبةِ بعد العتق.
ولكن الذي ذكره المفرعون ما نصصت عليه. والتفريع على الفاسد فاسد.
__________
(1) كذا. على تأويل "الأثمان" جمع "الثمن".

(5/483)


3412 - ولو استقرض العبد المحجور عليه شيئاً بغير إذن مولاه، فهو كما لو اشتراه في التفصيل الذي ذكرناه.
ولو ضمن شيئاً بغير إذن سيده، فهذا تصرف منه في الذمة، ولا شك أنه لا يؤدي ما ضمنه من كسبه. ولكن إذا عَتَق هل يطالب بما ضمنه؟
الصحيح أنه يطالب، وليس الالتزام من جهة الضمان كالالتزام من جهة الشراء والاستقراض؛ فإن الشراء والاقتراض يشتملان على تقدير الملك للمقترض وللمشتري، وتصوير ذلك عسرٌ في العبد القن، فظهر الحكم بالفساد، وإذا فسدت الجهة، انقطع اللزوم. والضمان التزام مطلق.
ومن أصحابنا من لم يصحح ضمان العبد، ولم يوجه الطَّلِبَة عليه بالمضمون [بعد العتق، وقال: التصرف في الذمة إنما يتصوّر ممن يُفرض منه إمكان الوفاء بالمضمون] (1) وحقيقة ضمان العبد يرجع إلى تعليق الضمان بما بعد العتق، وتعليق الضمان فاسد.
ولا خلاف أن العبد يخالع زوجته، فيصح ويثبت العوض، وذلك أنه مالكٌ للطلاق بالعوض وغيرِ العوض. غير أنه في حق المعوَّض كالمحتش والمحتطب. ولو احتش العبدُ أو اصطاد بغير إذن مولاه، دخل ما حصله تحت ملك المولى قهراً؛ فيقع الأمر كذلك في العوض المحصَّل. وهذا لا وجه غيرُه إذا قلنا: لا يملك العبد بالتمليك. وإن قلنا: يتصور له ملك، فلا يبعد أن نقول: يحصُل الملك في العوض له، تخريجاً على ما ذكرناه من شرائه شيئاً بغير إذن مولاه، ثم السيد يتسلط على انتزاع ذلك المال من يده وملكه.
وقد نجز غرضنا في تصرف العبد المحجور.
وأما أحكام الجنايات وأرشها، وما يتعلق بها من فداء السيد (2)، فموضعه كتاب الجنايات.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) (ت 2): العبد، وهي أيضاً صحيحة.

(5/484)


فصل
مشتمل على إقرار العبد وإقرار السيد على العبد
3413 - فأما السيد إذا أقر على عبده، نظر فى إقراره: فإن أقر بما يوجب عقوبةً على العبد، لم يقبل إقراره لتمكن التهمة منه، غير أنه إن أقر عليه بما يوجب القصاص، والعبدُ منكر، فرددنا إقراره في العقوبة، فعفا المقَرّ له على مالٍ، ثبت المال؛ فإنّ إقرار السيد وإن رُدَّ فيما يتعلق بالعقوبة لما ذكرناه، فهو مقبول فيما يتعلق بالمال، ومتضمّن الإقرار بالقصاص ثبوتُ المال عند عفو المستحِق على مال، ولكن الأرش الذي يثبت بجناية العبد وفاقاً يتعلق -على المسلك الأصح- بذمته ورقبته، حتى إذا لم تف قيمةُ الرقبة بمبلغه، طولب الجاني إذا عَتَق بالفاضل من قدر القيمة.
وإذا أقر السيد على عبده بالجناية الموجبةِ للقصاص لو ثبتت، وأنكر العبدُ، ثم آل الأمر إلى مالٍ، فلا تعلق لهذا المال بالذمة، وإذا عَتَقَ العبدُ، لم يطالب بشيء منه؛ فإن السيد لا يملك إلزام ذمةِ العبد مالاً. ولم يختلف الأصحاب في أنه لو أجبره على ضمان شيء، لم يصح ذلك مع الإجبار، ولو قبل الضمان عليه.
وكذلك لو أجبر السيد عبده على أن يشتري له متاعاً، فلا يصح الشراء، وإن كان محلُّ الديون التي تلتزم بالإذن الكسبَ، والكسب ملك السيد، ولكن لا استقلال للأكساب في هذا الباب ما لم يتحقق تعلق الدين بأصل الذمة، فلا احتكام للسادة على ذمم العبيد.
ولو أقرَّ السيد بمالٍ تباع الرقبة فيه، فيقبل إقراره في [التعلّق] (1) بالرقبة، ولا يقبل في تقدير [التعلّق] بالذمة.
هذا في إقرار السيد.
3414 - فأما إذا أقر العبد بشيء، فإن كان إقراره بمالٍ، فإقراره في رقِّه ورقبته مردود، وما يتعلق بالذمة منه فإقراره فيه مقبولٌ يُتبع به بعد العتق، صدّقه السيد أو كذّبه.
__________
(1) في الأصل: التعليق.

(5/485)


فأما إذا أقر بما يوجب العقوبة، فالذي ذهب إليه الشافعي وأبو حنيفة ومعظمُ العلماء أن إقراره مقبول، وإن كان تنفيذ المقرّ به يوجب إبطال حق المولى من ماليَّته، فإذا اعترف بما يوجب القصاصَ في النفس، أو القطع في الطرف للآدمي أو لله تعالى، نفذ إقراره، ويحكم به.
وخالف في ذلك المزني، ولم يرَ قبولَ إقرارهِ؛ لاعتراضه على ملك مولاه. وهذا مذهب محمد وزفر وأحمد (1) وداود.
ومعتمد مذهبنا أن الإقرار حجةٌ من الحجج كالبيّنة، فالمقبول منه ما لا تهمةَ فيه، وإقرار العبد كذلك؛ فإن العاقل لا يعرّض نفسه للهلاك حتى يخسِّر غيرَه شيئاً نزراً من المال، والشاهد لذلك أن السيد على أنه المالك إذا أقر بما يوجب العقوبةَ، فإقراره مردود لما ذكرناه من التهمة، وإن كان لو أباح دمه صار هدراً. فالإقرار إذن في الرد والقبول يعتمد ثبوتَ التهمة وانتفاءها.
ولو قدر مقدر تهمةً على بُعدٍ في إقرار العبد، فالتهمة البعيدة غيرُ معمول بها.
3415 - فإذا ثبت هذا، فلو أقر العبد بما يوجب القصاص، ونفذنا إقراره، فإن اقتص المقَرُّ له، فذاك، وإن عفا عن القصاص الثابت على مال، فالأحسن تنزيل ذلك على القولين في أن موجَبَ العمد ماذا؟ فإذا حكمنا بأن موجبه القَوَد المحضُ، فالمال يثبت إذا عفا المقَرُّ له على مالٍ؛ فإن هذا المال، لم يثبت بالإقرار نفسه، وإنما ثبت بالعفو عن العقوبة الثابتة بالإقرار. هذا إذا قلنا: موجَبُ العمد القَودُ.
فأما إذا قلنا: موجبه القود أو المال، أحدهما لا بعينه، فإن اقتصَّ المقَرّ له، نفذ الأمر. وإن أراد الرجوعَ إلى مالِ، فهذا يستدعي مقدمةَ:
وهي أن العبد إذا أقر بسرقةِ مالٍ، وزعم أنه أتلف ما سرق، فإقراره مقبولٌ في وجوب القطع لله تعالى، لما ذكرناه. وهل يقبل إقراره في تعلق قيمةِ ما اعترف بسرقته برقبته؛ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - لا يتعلق؛ فإن ذلك إقرار بإبطال مالية السيد من الرقبة من غير واسطة.
__________
(1) ر. الكافي لابن قدامة: 4/ 570، الفروع: 6/ 611، كشاف القناع: 6/ 458.

(5/486)


والقول الثاني - أن إقراره مقبول؛ فإن التهمة منتفية، ونفس العقوبة تبطل المالية، ولكن قُبل الإقرارُ بها لانتفاء التهمة. وهذا المعنى متحقق فيما ذكرناه. ولا استقلال للسرقة دون مال مسروق، ويستحيل ألا يثبت القول في المسروق ويثبت في السرقة المطلقة.
هذا إذا أقر بإتلاف المسروق، وتضمن إقراره تعلّقَ مبلغٍ برقبته.
فأما إذا أضاف سرقته إلى عينٍ قائمة، نظر: فإن كانت العين التي اعترف بسرقتها في يد مولاه، فإقراره مردود فيها. اتفق الأصحاب عليه؛ والسبب فيه أن ما نصادفه في يد السيد مُقرٌّ على حكم ملكه، فيبعد الحكم على ملكه بإقرار العبد، ولو (1) قدّرنا قبول هذا الإقرار أَوْشَك أن يستغرق العبد جميع ذخائر سيده، وهذا الآن تظهرُ التهمةُ فيه؛ فإن العبد الحنِق على سيده، قد يستهين بقطع يده، في مقابلة تخسير السيد أموالاً لا تنضبط، وليس هذا كما لو ادّعى تلف المسروق؛ فإن غاية ما يتعلّق بالسيد قدرُ قيمةِ الرقبة؛ فإن أروش الإتلافات لا تعدو الرقبة إلى سائر أموال السيد.
ولو أقر العبد بسرقة مال في يد أجنبي، فإقراره مردودٌ في حق ذلك الأجنبي، إذا أضاف إقراره إلى عينٍ قائمة في يده، فإذا رُدّ في حق الأجنبي، فليرد في حق السيد.
وقيل: إنّ أبا حنيفة (2) نَفَّذَ إقراره في الأعيان القائمة في يد السيد. وهذا خبالٌ عظيم.
ولو أقر العبد بسرقة عين وكانت العين في يد العبد، اختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من خرّج قبولَ إقراره فيها على القولين، ومنهم من قطع القولَ بردِّ إقراره في العين الكائنة في يده. وهذا هو الظاهر؛ من جهة أن يده يدُ السيد، ولا استقلال له. ثم ما يتصوّر احتواء يده عليه في محل الإقرار لا ينضبط، كما تقدم وليس كالإقرار بالإتلاف؛ فإن غائلته تنحصر في مقدار قيمة الرقبة، كما تقدم.
وبنى بعضُ الفقهاء القولين في قبول إقراره بالمال عند ذكر الإتلاف على قولين في الحر لو أقر بسرقة مال، وقُبل إقراره.
__________
(1) في (ص)، (ت 2): وقدرنا.
(2) ر. الهداية مع تكملة فتح القدير: 8/ 228.

(5/487)


فلو رجع عن الإقرار، قُبل رجوعُه، فيما يتعلق بالعقوبة، ولم تقطع يده. وفي قبول رجوعه عن ضمان المال قولان. وزعم هؤلاء أن وجه البناء أنا إذا قلنا: لا رجوع في المال، فكأنّا لم نبعّض حكمَ الرجوع. فنقول: على هذا لا نبعّض حكمَ إقرار العبد. فإذا قبلناه في وجوب القطع، قبلناه في تعلّق قيمة ما أقر بسرقته، ثم بإتلافه برقبته.
وإن قلنا: لا يقبل رجوعُ المقِرّ الحرِّ فيما يتعلق بالضمان، فقد بعّضنا حكمَ الرجوع آخراً، فلا يمتنع أن نبعّض حكمَ إقرار العبد أوّلاً، ونقولُ إقراره في العقوبة (1) [مقبول] (2)، وفيما يتعلق بحق المولى مردود.
وعندي أن هذا البناءَ فاسد، وقد عول الباني فيه على اتباع العبارة. أما القول الذي يُقبل فيه الرجوع عن المال وغَرَمه في حق الحر المقِرُّ، فلست أدري له وجهاً أولاً. ثم لا مشابهة في المعنى بين المسألتين؛ فإن الذي حملنا على قبول إقرار العبد في المسروق انتفاءُ التهمة، لا ينقدح في توجيه القبول غيره.
(3 وهذا المعنى أنَّى يتحقق في الرجوع عن الإقرار؟ 3).
3416 - هذا تفصيل المذهب في إقرار العبد بالسرقة أتينا به مقدمةً لإقراره بما يوجب القصاصَ على قولنا: إن موجَبَ العمد القودُ أو المالُ أحدُهما لا بعينه. ثم يعفو المقَر له، وقد عاد بنا الكلام إلى بيان هذا:
وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: في ثبوت المال في هذه الصورة تفريعاً على هذا القول قولان مرتبان على القولين في قبول إقرار العبد في إتلاف المسروق، فإن حكمنا بقبول إقراره ثَمَّ، فلأن نحكم بقبوله في المال في مسألتنا أولى.
وإن حكمنا بأن المال لا يثبت متعلِّقاً بالرقبة في الإقرار بالسرقة، ففي ثبوت المال حيث انتهينا إليه قولان. والفارق أن المقَرَّ به في مسألتنا شيءٌ واحد، وهو القتل، ثم
__________
(1) (ص)، (ت 2): العقود.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ما بين القوسين مضروب عليه في (ص).

(5/488)


ينقسم القول في بدله. والمقَرُّ به في السرقة على حكم المتميز؛ فإنه اعترف بحق مالي وكبيرةٍ موجبةٍ للعقوبة. هذا مسلك.
ورأى بعضُ الأصحاب أن يرتب على العكس، ويجعلَ المال في مسألة السرقة أوْلى بالثبوت؛ من جهة أن المواطأة ممكنة في صورة القصاص مع المقَرّ له. ثم إذا فرض العفوُ، فلا عقوبةَ والسرقة إذا ثبتت موجبةً للقطع، تعين استيفاء القطع لله تعالى. فكأنَّ صورةَ السرقة أبعدُ عن التهمة، وإذا كنا نُدير [قبولَ] (1) الإقرار على انتفاء التهمة، فليقع الترجيح في منازِل (2) الترتيب بما هو معتمد الباب.
هذا تمام البيان في ذلك.
3417 - وكان شيخي أبو محمد لا يُعرِي قولَنا موجَبُه القود المحضُ عن تصرّف، ويقول: إن قلنا: العفو المطلق على هذا القول لا يوجب المال، فلا يتجه إلا القطعُ بثبوت المال، وإن قلنا: العفو المطلق يثبت المال، فكأناْ لا نمحّض القودَ على هذا القول موجَباً، ونجعل للمال مدخلاً. وإذا كان كذلك، تطرق الاحتمال. والعلم عند الله تعالى.
هذا منتهى الكلام في إقرار العبد بالعقوبة.
3418 - فأما إقراره بالمال، ففيما لو ثبت لتعلق بالرقبة، فمردود، لا شك فيه لاعتراضه على ملك المولى، واشتماله على التهمة.
ولو أقر بما لو ثبت، لأوجب مالاً في ذمته، نفذ الإقرار، ولا أثر له في الحال ما اطّرد الرق ولكن إذا عَتَق اتُّبِع، وليس إقراره في هذا كإقرار المبذّر؛ فإنه لو أقر في اطراد الحجر عليه، ورددنا إقراره، فلو انطلق الحجر عنه، لم يؤاخذ بإقراره السابق. والسبب فيه أن العبد محجور عليه لحق مولاه، فإذا أقرّ بممكنٍ، فإن لم ينفذه في الحال، طالبناه به إذا زال حقُّ الموْلى. والمبذّرُ رُدَّ إقراره رعاية لحقه،
__________
(1) في الأصل: قول.
(2) (ص)، (ت 2): مسائل الترتيب.

(5/489)


وحقّه مرعيٌّ بعد انطلاق الحجر عنه. نعم، لو جدّد إقراراً بعد انطلاق الحجر، كان مؤاخذاً به.
وإنما يظهر أثر الفرقِ إذا أنكر العبدُ بعد إعتاقه ما أقرّ به، وأنكر المبذر بعد الرشد ما كان أقرّ به، فإذ ذاك يفرَّق بينهما، فيؤاخذُ العتيق، ولا يؤاخذ الرشيد بعد السفه.
وإن قيل: بينوا ما يلزم ذمةَ العبد. قلنا: كل ما يعترف به من ديون المعاملات ويدّعي فيه إذْنَ المولى، فهو متعلِّق بذمته.
فإن رددنا إقرار العبد في كسبه، فهو مقبول في التعلّق بالذمّة، وقد يقرّ بشيءٍ لا تعلّق له بالكسب أصلاً، وذلك إذا قال: اشتريت شيئاً بغير إذْن السيد، والتفريع على أنه لا يصح شراؤه، فالثمن لا يلزمه مع الحكم بفساد العقد. ولكنه لو قال: أتلفتُ ما اشتريته، فالقيمةُ المعترف بها لا تتعلق برقبته لو ثبت ما قال؛ فإن مالك المال سلّطه على إتلافه، وإنما يتعلق برقبة العبد ما يُتلفه من غير إذن المولى. وهذا من البيّنات التي لا تشكل على الفقيه.
* * *

(5/490)


بَابُ بيع الكِلاب وغيرها
3419 - صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحُلوَان الكاهن " (1). أما مهر البغي، فأجرة الزانية، وحلوان الكاهن ما يأخذه الكاهن على تغريرهِ بالكَهانةِ؛ فمذهبنا أن الكلب ليسَ بمالٍ، ولا يجوز بيعه وليس على متلفه قيمة لصاحبه، ولا يُنكر اختصاص صاحبه به، كما سنفصله الآن.
والوصية بالكلاب جَائزة ومعناهَا تنزيل الموصَى لهُ في الاختصاصِ بالكلب منزلةَ الموصي، وعلى هذه القاعدة يخلُف الورثة [في الكلاب] (2) موروثَهم. وإذا لم يخلف إلا الكلابَ، ففي اعتبار خروج الوصيةِ والنظر إلى الثلث كلامٌ يأتي في كتابِ الوصايا إن شاء الله عز وجل.
وأما هبةُ الكلابِ، فقد ذَكر العراقيون والشيخ أبو علي وجهين فيها أحدهما - أنها تصح صحةَ الوصية. والثاني - لا تصح؛ فإن الهبة مقتضاها التمليك والكلبُ ليس ملكاً؛ وتصح الوصيةُ بالحمل وما سيكون، ولا تصح الهبة على هذا الوجه، واختار الأئمة فسادَ الهبة، وقضى القاضي بصحتها. وهذا زلل.
وإذا أبطلنا الهبة ألغيناها، والواهب على اختصاصه بالكلب.
3420 - واختلف الأصحابُ في إجارة الكلبِ، فصححها بعضهم؛ تعويلاً على منافعها، ومنعها بعضهم؛ تحقيقاً للبعد من التعامل عليها، ولا يتجه عندنا بناء الوجهين على الخلاف في أن المعقود عليه المنفعةُ أم الأعيانُ، حتى نقول: إذا جعلنا المعقود عليه العينَ، منعنا الإجارة. وإن جعلنا المعقود عليه المنفعةَ، أجزناها؛ فإن
__________
(1) حديث النهي عن ثمن الكلب ... متفق عليه، من حديث أبي مسعود الأنصاري بهذا اللفظ عينه. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 383 ح 1010).
(2) ساقطة من الأصل: وفي (ص): "يحلف الورثة أن الكلاب لمورثهم".

(5/491)


هذا يبطل بإجارة (1) الحر. والمعنى فيه أن الممتنع تقدير الملك في عين الكلب. ومن يعتقد أن المعقود عليه في الإجارة العينُ لا يرى أن الملك ينتقل فيها.
ومن غصب كلباً يجوز اقتناؤه، استُرِد منه، ثم إن كان انتفع به، [فهل يلزمه أجرةُ المثل] (2)؟ ذَكر الأصحاب وجهين في ذلك، وهذا ينطبق على الخلاف في إجارة الكلبِ.
والذي أراه تصحيحُ الإجارة. وإن لم نصححها، فالأوجه عندي إثبات أجرة المثل؛ فإنها منافع مقصودة تطلب بأموالٍ. فإن امتنعت الإجارة لتغليظٍ سببه المنع من التعامل على الكلاب، فلا وجه لتعطيلِ منفعته.
3421 - ولو اصطاد الغاصب بالكلب المغصوب، ففي ذلك الصيد وجهان: أحدهما - أنه للغاصبِ الصائد، وهو الأَصح، كما لو غصب شبكة واصطاد بها.
والثاني - أنه لصاحب الكلب؛ فإنَّ الكلبَ له اختيارٌ، وهو كالعبدِ المغصوبِ يحتش أو يحتطب في يد الغاصبِ. وهذا ضعيف؛ فإنَّ التعويل في تحليلِ الصَّيد على اختيارِ المرسل، وإذا ظهر اختيارُ الكلب، حرم الصيد الذي يقتله.
ثم فرع الأئمة على الوجه الضعيف وقصدوا التنبيه على أصول.
فقالوا: إذا قلنا: الصّيد للمغصوب منه، فالغاصب يرد الصيد عليه، ويغرم له أجرةَ مثل الكلب على وجهٍ؛ فإن المنفعةَ وإن صرفها إلى تحصيل فائدة وهي للمغصوب منه، فالغاصب في المنفعة متصرفٌ بعُدوان. وضربوا لذلك مثالين: أحدهما - أن من غصب بذْراً وأرضاً، فزرع الأرض المغصوبة بالبذر المغصوب من صاحب الأرض، فالزرع للمالك؛ لأنه تولّد من عين ماله، وعلى الغاصب مثل ذلك البذر؛ فإن ما تعفن في الأرض كان في حكم الفاسد، وما نبت خلق جديد. ويجب عليه أيضاً أجر مثل الأرض؛ وإن صَرَف منفعتها إلى فائدة مالكها. والثاني - أن من غصب بيضة فأحضنها دجاجةً وخرج الفرخُ، فالفرخ للمالك. وعلى الغاصب قيمة البيضةِ؛ فإنها تفسد
__________
(1) في (ت 2)، (ص): إجارة.
(2) ساقط من الأصل.

(5/492)


وتصير مذرة، والفرخ نشوء جديد. وسنستقصي ذلك في كتاب الغصب، إن شاء الله تعالى.
فصل
3422 - قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من اقتنى كلباً إلا كلبَ مَاشِية أو ضَارياً، نقص من أجره كل يوم قيراطان " (1) وفي بعض الألفاظ " أو كلب زرع " فنهى الرسول عليه السلام عن الاقتناء، وأجمع الأصحاب على أنه نهي تحريم (2)، واستثنى من النهي الكلبَ الضّاريَ وهو الصيود، وكلب الماشية وهي التي تحرس النَّعم، وكلبَ الزرع وهي التي تحرس المزارع في أيام الحصدِ والدياسة والتنقية؛ فمن اقتنى كلباً إعجابا بصورته، فهو مرتكبُ محرّمٍ، وإذا اقتناه وهو منتفع به بالجهات الثلاثة التي استثناها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بأس.
ولو اقتنى كلب الحراسة للدروب والدور، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن إلا ما تقدم ذكره، فيجب الاقتصارُ عليه، وطَرْدُ الحظر فيما سواه. والثاني - يجوز؛ فإن الحراسة في معنى الحراسة، وهذا قريب ممّا يقال فيه: إنه في معنى الأصل.
ومن اقتنى جَرْوَ كلبٍ صَيُودٍ حتى إذا استقل صاد، ففي تحريم اقتنائه جرواً وجهان ذكرهما العراقيون أحدهما - يجوز؛ فإنه كلب صيدٍ، وإذا أبحنا اقتناء كلب الصيد، لم نشترط في الإباحةِ إدامةَ الاصطياد به.
ومن أصحابنا من قال: لا يحل اقتناء الجرو؛ فإنه ليس ضارياً في الحال، والاقتناء في فحوى الحديث مسوغ لحاجةٍ حاقَّةٍ، تقرب من الضرورة، فأما الاقتناء لتوقع منفعة، فبعيد.
__________
(1) حديث: "من اقتنى كلباً ... " متفق عليه من حديث ابن عمر بهذا اللفظ نفسه. (اللؤلؤ والمرجان: 384 ح 1012).
(2) في (ت 2)، (ص): محرّم.

(5/493)


ومن اقتنى كلب صيدٍ، وكان لا يعتاد الاصطياد، ففي تحريم الاقتناء وجهان أيضاً ذكروهما.
والتوجيه بين.
فإن قيل: الاختلاف في هذه الصورة مستند إلى احتمال، إلا ما ذكرتموه في الاقتناء لحراسة الدروب، والحراسة كالحراسة، فما وجه المنع؛ قلنا: وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الكلاب، ولو جاز الاقتناء لحراسة الدروب، لعمّ جوازُ الاقتناء؛ فإن كل كلب نباح في موضعه، وهو معنى حراسة الدروب، وكلبُ الصيد والماشية والزرع يحرس في مضايع، ولا يستقل بهذا إلا كلبٌ له اختصاصٌ عن الكلاب. ويمكن أن يقال: لو اقتنيت في الدروب وكثرت أجراؤها، وأنست، خالطت وانبثت نجاساتُها، وليس كذلك كلاب الصحارى.
3423 - فإن قيل: فما قولكم في قتل الكلاب؟ قلنا: أما ما ينتفع به منها، ولا ضرار من جهتها، فلا يجوز قتلها. وأما العقور؛ فإنه يقتل دفعاً لضراوته، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتل الكلب العقور، وعدّه من الفواسق اللاتي يقتلن في الحل والحرم. وكل كلبٍ عقورٌ إذا اضطر إليه دفعاً عن نفسه. والذي عنيناه الذي يضرى بالشر طبعاً. وأما الكَلِب (1)، فلا يتمهل في قتله؛ فإن شره عظيم.
والكلب الذي لا منفعة له، ولا ضرار منه لا يجوز قتله. وقد ذكرنا طرفاً من ذلك مقنعاً في باب الصيود من المناسِك عند ذكرنا الفواسق، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب مرة، ثم صح أنه نهى عن قتلها، واستقر عليه على التفصيل الذي ذكرناه. وأمر بقتل الكلب الأسود البهيم. وهذا كان في الابتداء، وهو الآن منسوخ.
__________
(1) بدون ضبط في النسخ الثلاث. ولكن يفهم من السياق أنه الكَلِبُ: أي الذي أصابه داءُ الكَلَب.

(5/494)


فصل
يَجْمع تفصيْل القَوْلِ فيمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنَ الحَيَوانَاتِ
3424 - أما الآدمي، فلا يخفى تقسيمه إلى الحر والرقيق.
وما عداه ينقسم إلى ما لا ينتفع به حياً وميتاً، وإلى ما ينتفع به حياً، وإلى ما لا ينتفع به حياً وينتفع ببعض أجزائه إذا مات أو قتل. وينبغي أن يستثنى منها الحيوان النجس العين، وهو الكلب والخنزير والمتولد منهما ومن أحدهما. فكل ما كان نجساً لا يجوز بيعه. والتقسيم وراء ذلك.
فما ينتفع به حيّاً كالفهد والهرّ، فيجوز بيعه وفاقاً، ومنها الطيور الضارية.
وأما ما لا ينتفع به حياً وميتاً، فلا يجوز بيعه. وأخذ المال في بيع شيء منها من أكل المال بالباطل. ومن هذه الجملة حشرات الأرض.
ودودُ القز منتفع به، وكذلك نحل العسل، وتردد القاضي في العَلَق، فألحقها في جوابٍ بالديدان، ومال في جواب إلى جواز بيعها، لما فيها من منفعة مص الدم عند مسيس الحاجة إليه في بعض الأطراف.
وتردد الأئمة في مثل حمار زمِنٍ لا حراك به ولا منفعة له، فحرم بعضهم البيع لسقوط المنفعة، وأجاز آخرون البيعَ نظراً إلى الجنس. وقيل أيضاً: يجوز بيعه لمكان جلده بعد الموت، وهذا المعنى فيه بعض الضعف؛ فإن المنفعة النّاجزة أولى بالاعتبار من توقع أمرٍ سيكون ولو بني [البيع] (1) على التوقع، لصح بيع جلد الميتة قبل الدباغ.
فأما الأسد والذئب والنمر، فلا انتفاع بها وهي حية، ولا نظر إلى اقتناء الملوك إياها لإقامة السياسة والهيبة، فليس ذاك منفعةً معتبرة، ولا تتأتى المقابلة بها، بخلاف الفِيَلة؛ فإنَّ ذلك ممكن، وهي مراكب، فالتحقت بما يُنتفع به. أما الأُسد والنمور والذئاب، فالمذهب أنه لا يجوز بيعُها. وذكر القاضي وجهاً آخر أنه يجوز بيعها، بناء
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(5/495)


على إمكان الانتفاع بجلودها، فهي طاهرة في [الحال] (1)، والانتفاع متوقع ببعض الأجزاء.
ولا يجوز بيع الرَّخَمة، والحدأة، والغراب؛ فإنه لا منفعة فيها، فإن كان في أجنحة بعضها منفعة، التحقت بالأُسد والذئاب. والأصح منع البيع.
3425 - ثم ألحق الأئمة مسائلَ بما ذكرناه في الحيوان: منها بيع المعازف وآلات الملاهي، فإن كانت بحيث لو كسرت الكسْر المأمور به، لم يكن رُضاضها متمولاً، فلا يصح بيعها. وإن كانت بحيث لو كسرت الكسرَ الواجبَ، لكان رُضاضها متمولاً، ففي إيراد البيع عليها قبل الرض وجهان: أحدهما - يبطل البيع؛ نظراً إلى صفاتها في تركبها، ويعتضد هذا بإطباق الناس على استنكار بيع البرابط والطنابير. والثاني - يصح بيعها؛ لأن جِرم الرضاض كائن فيها. وهذا وإن كان قياساً، فالعمل على الأول.
فأمّا إذا باع صوراً وأشباحاً كالأصنام وغيرها، وكانت متخذة من جواهر ذوات قيم، كالصُّفر (2) والنحاس وغيرها، فهي مكسّرة على أربابها، والأصح جواز بيعها قبل التكسير؛ فإن جواهرها مقصودة بخلاف رُضاض المعازف. وذكر القاضي وجهاً آخر في منع بيعها.
فصل
3426 - الأعيان النجسة يمتنع بيعها، وإن كانت منتفعاً بها كالسِّرقين (3) والأخثاء (4)، وأجاز أبو حنيفة (5) بيعها ومنع بيع العَذِرَة. وطرد الشافعي إفساد البيع في كل عين نجسة.
والثوبُ المضمخ بالنجاسة يجوز بيعه، والبيع يرد على جوهرِه الطاهر.
__________
(1) في الأصل: الحياة.
(2) الصفر: النحاس الأصفر. (معجم).
(3) السرقين: الرجين، أعجمي معرّب، معناه الزبل (معجم).
(4) الأخثاء جمع الخِثْيُ، والخثى. وهو ما يرمي به البقر أو الفيل من بطنه. (معجم ومصباح).
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 90 مسألة: 1169.

(5/496)


والدهن إذا أصابته نجاسة، ففي جواز بيعه قولان مبنيان على إمكان غسله، وفي إمكان غسل الدهن قولان، سبق ذكرهما في كتاب الصلاة. فإن قلنا غسله ممكن، فبيعه جائز. وإن قلنا غسله غيرُ ممكن، ففي بيعه قولان مبنيان على جواز الاستصباح بالدهن النجس. والقولان في الاستصباح يجريان في ودَك الميتة، وإن كان لا يجوز بيعه. وإنما استعملنا الخلاف في الاستصباح في دهن طاهر الجوهر (1) لَحِقَتْه نجاسة، فإن ما كان نجس العين، فبيعه ممتنعٌ، وإن كان منتفعاً به. والبيع فيما هو طاهر الجوهر قد يتلقى من الانتفاع.
هذا تنزيل هذه المسائل على قواعدها.
3427 - ثم أطلق الأئمة الخلاف في جواز الاستصباح. وهو مفصل عندي: فلو كان السراج الذي فيه الدهن النجس بعيداً، بحيث لا يَلقى دخانُه المستضيءَ بهِ؛ فلست أرى لتحريم هذا وجهاً؛ فإن الانتفاع بالنجاسات لا ينسدّ، وكيف يمتنع منه مع تجويز تزبيلِ الأرض وتَدْميلها (2) بالعَذِرة، ولعل الخلاف في جواز الاستصباح ناشىء من لحوق الدخان الثائر من ذلك الدهن، وفيه تفصيل نذكره.
[أمّا رماد الأعيان النجسة، فالمذهب أنه نجس، وفيه شيء قدمته في كتاب الصّلاة. و] (3) أمّا دخان الأعيان النجسة إذا احترقت -على قولنا بنجاسة الرماد- فما كان يقطع به شيخي أن الدخان رماد، وهو يتجمع بعد الانبثاث. وذكر القاضي وجهاً أنه طاهر وإن حكمنا بنجاسة الرماد؛ فإنه يُعد بخارَ النار. وهذا ركيك. ومما يعتنى به أن الدهن النجس في عينه في دخانه ما ذكرناه. وأمّا الدهن الذي وقعت فيه نجاسة، فدخانه أجزاء الدهن. وما وقع فيه ونجسه، قد لا (4) يكون مختلطاً، ويظهر في هذا الدخان الحكمُ بالطهارة؛ فإن الذي خالط الدهن يتخلف قطعاً، والذي ثار محضُ
__________
(1) في (ت 2): العين.
(2) دمل الأرضَ أصلحها بالدمال. والدمال: السماد. (معجم).
(3) ساقط من الأصل.
(4) في (ت 2)، (ص): فلا يكون فيه مختلطاً.

(5/497)


أجزاء الدهن، والتردد في الاستصباح يجوز أن يكون مأخوذاً من نجاسة الدخان؛ فإنه يثبت في البيوت ويلحق الثياب، وقد لا يحسّ بأوائل لحوقه حتى يحترزَ منه.
ولا يمتنع على بعدٍ أن يطرد الخلاف في الاستصباح وإن بعد السراج، فإن هذا ممارسةُ نجاسة مع الاستغناء عنها، وليس كذلك التزبيل؛ فإنه لا يسد مسده شيء، فكان ذلك في حكم الضرورة، ويقرب من هذا جواز اقتناء الكلب الضّاري؛ فإن الحاجة ماسّة ولا يسد مسد الكلب في ظهور منفعته (1) وخفة مؤنته شيء.
فصل
3428 - أكثر أئمتنا ذِكْرَ المالية وأجرَوْا في أثناء الكلام ما يتموّل وما لا يتمول، ورأَوْا ذلك قاعدةً متبعة في تصحيح البيع ونفيه. ونحن نفصل القول في هذا على إيجاز وبيانٍ، إن شاء الله تعالى.
فممّا يسميه الفقيه غيرَ متمول ما لا يقبل البيع في جنسهِ، وهو ينقسم إلى نجسٍ وإلى محترم: أما الأعيان النجسة قد (2) سبق القول فيها، وأمّا المحترم الذي لا يتمول كالحرّ وما يحرز بالشرع كبقعة الكعبة، أو حرز كالبقاع التي اتخذت مساجد.
ثم ما لا يتمول لجنسه، وهو الأعيان النجسة لا قيمة لها، ولا تضمن بالإتلافِ، وما لا يتمول لحرمته، فلها أبدال عند الإتلاف.
ومقصودنا من هذا الفصل شيء آخر. فإذا قلنا: هذا لا يتمول لقدره، فليقع الاعتناء به، وإن كان جنسه مالاً. والضّابط فيه أن كل ما ليس للانتفاع به على حياله وقع محسوس، فهو الذي يقال: إنه لا يتمول، كالحبة والحبتين فصاعداً. وليعتبر وقعه منسوباً إلى كل جهة؛ فإن حبات معدودة قد لا يكون لها وقع في الإنسان، وهي تقيم عصفورة، أو تسد منها مسداً.
فكل ما فيه نفع محسوس، فهو مال، وكل ما ليس فيه نفع محسوس، فهو غير
__________
(1) في (ت 1)، (ص): صفته.
(2) جواب (أما) بدون الفاء.

(5/498)


متمولٍ. وكل منتفع به طاهرٌ غير محترم إذا تحقق الاحتواء عليهِ، فهو مال. وإن كان الناس لا يتمولونه لكثرته ورخاءِ السّعر.
فليكن التعويل في الفرق بين ما يتمول وما لا يتموّل على المنفعة في الأجناس الطاهرة غير المحترمة. فلو أجدَّ (1) الرجل صخرة، وكان فيها منفعة ظاهرة، فيجوز أن يبيعها بآلاف ممن يشتريها: وهم في شعاب جبال مفعمة بالصخور. وعليه يخرج تجويز بيع [هذِه] (2) في أمثال هذه البلاد.
فأما الحبة من الحنطة فلا، ولا يختلف هذا بسِنِي الأَزْم والمَجاعة ورخاء الأسعار. ولكن ما يقال فيه: إنّه لا يتمول لقلته فيه حق لصاحبهِ، فلا يجوز أخذ حبة من مال إنسان بناء على أنها لا تتمول. ومن أخذها لزمه ردُّها. قال شيخي: كان القفال يقول: إن تلفت لم يبعد أن أوجب مثلَها. وإنْ منعتُ بيعها. نعم لو كان كذلك القليل من جنس متقوم، فلا قيمة.
فهذا حَاصل القول في ضبط ما يتمول. وما لا يتمول.
فصل
مشْتمل عَلى بَيعْ المَاءِ وحُكمِهِ
نظمه الشيخ أبو علي في الشرح ونحن نأتي به على وجهه فلا مزيد عليه.
3429 - فنقول:
من ينزح ماء من موضع مباع، فالمذهب المشهور أنه يملك ما أحرزه، كما يملك الحطب إذا احتطب، والصيدَ إذا اصطاد.
وفي المسألة وجه بعيد أنه لا يملك قط. ولكن محرزه أولى به، وهذا بعيد لا تفريع عليه.
وإنما التفريع على أن الماء يملكه محرزه.
__________
(1) أجدّ الشيء: قطعه. (معجم).
(2) في الأصل، (ص) هرّة.

(5/499)


فمن أحرز ماء في إداوة وسقايةٍ، فقد ملكه، ويجوز بيعه على شط الدجلة، بما يقع من التراضي عليه.
فأما إذا حفر بئراً أو قناةً، فاجتمع فيها ماء، فهل يملك ذلك الماء؟
هذا يستدعي أولاً تفصيلَ المذهب في أن الآبار كيف تملك، وهذا مما يأتي استقصاؤه في إحياء الموات، والقدر الذي تمس الحاجة إليه الآن أن من حفر بئراً في مواتٍ وقصد باحتفارها تملّكَها، فإذا ظهر مقصودُه، مَلَكَها، ومقصودهُ ظهور الماء، فكما (1) ظهر، مَلَك، ولا يتوقف الملك على أن يطويَ (2) البئر ويعمرَها. هذا ظاهرُ المذهب.
وقيل: ظهور الماء يجعل حافرَ البئر كالمتحجر، وهذا يأتي في الإحياء.
ولو كان يحتفر نهراً إلى نهر عظيم كالفرات، وقصده أخذ شيءٍ من ماء الفرات في نهرهِ، فإذا قصد باحتفار النهر تملكها، وانتهت فوهة النهر إلى النهر الكبير، وجرى فيه الماء، فهذا في ملك النهر نظير إنباط الماء في البئر. هذا إذا قصد التملك.
فأما إذا قصد احتفار البئر ليستقي ماءها لا أن يتملكها. فيكون أولى بماء البئر، فإذا تعداها وجاوزها، فالبئر بمائها مباح.
فإذا بان ذلك، فلو لم [يملك] (3) البئر، ولم يقصد تملكها، فالماء المجتمع فيها لا يكون مملوكاً باتفاق الأصحاب.
هكذا قال الشيخ.
فأمّا إذا ملك البئر، أو كان في ملكهِ الخالص بئرٌ كَدَارِه، فالماء المجتمع في تلك البئر هل يكون ملكاً على الحقيقة لمالك البئر؛ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - وهو اختيار أبي إسحاق أنه لا يملكه، وينزل الماء الحاصِل في ملكه منزلةَ ما لو عشش طائر في ملكه؛ فإنه لا يملكه. وقال ابن أبي هريرة: الماء ملك لصاحب البئر على
__________
(1) فكما: أي عندما.
(2) طوى البئر: بناها بالحجارة ونحوها، أو عَرَشَها. (معجم).
(3) ساقطة من الأصل.

(5/500)


الحقيقة، وهو نازل منزلة الثمرة التي تخرج من أشجاره من غير قصده.
3430 - فإذا ثبت ذلك، فالكلام وراء ذلك في فصلين: أحدهما - إفراد الماء بالبيع.
والثاني - بيعه مع قرارِه.
فأما إفراد الماء بالبيع، فالماء الذي جمعه في إداوة أو حوض، أو أحرزه، فيجوز بيعه؛ فإنه غير متزايد.
فأمّا الماء المجتمع في البئر المملوكة، أو الماء الجاري في النهر المملوك، فإن قلنا: إنه غير مملوك، فإذا أفرده بالبيع، لم يصح؛ لأنه باع ما لم يملكه، فأشبه ما لو باع فرخَ طائر على عش في ملكه. ولم يأخذه بعدُ.
وإن قلنا: إنه مملوك، قال رضي الله عنه (1): لا يصح إفراده بالبيع إذا قال: بعتك ماء هذا البئر؛ لأنه ممّا يتزايد تزايداً كثيراً، وليس كذلك بيع الجِزة من قُرطٍ، فإنه إذا ابتدرَ الجزَّ، لم يتزايد تزايداً محتفلاً به، والماء الجاري أولى بالفساد، فلا يصح إذا بيع الماء على الوجهين لعلّتين (2).
ولو قال: بعتك مائة مَن من ماء هذه البئر، فإن قلنا: إنه مملوك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يصح. والثاني - لا يصح. وهما مبنيان على ما إذا أراه نموذجاً من لبن الضرع، فينبغي أن يكون المقدار المذكور من ماء البئر، ومن لبن الضرع بحيث يعتقد قلةُ التزايد فيه، كما قدمناه في لبن الضرع.
قال الشيخ: لو باع مقداراً من ماء نهرٍ جارٍ، فهو ممنوع؛ فإنه غير واقفٍ ولا يستمكن من تنزيل العقد على معاين فيه تَسلُّم.
وكل ما ذكرناه فيه إذا باع الماء وحده.
3431 - فأما إذا باع ماء البئر مع البئر، فنذكر التفصيل في البئر أولاً، ثم نذكره في النهر.
__________
(1) القائل هو الشيخ أبو علي في الشرح.
(2) في (ص)، (ت 2): بعلتين. والعلتان واضحتان على الوجهين.

(5/501)


فإذا باع البئرَ، فلا يخلو إما أن يشترط معه الماءَ الذي فيه أو لا يشترط: فإن شرط معه الماء الذي فيه، فإن قلنا: إنه غير مملوك، فلا يصح البيع فيه.
وهل يصح في البئر؟ فهو على قولي تفريق الصفقة. وهو كما لو باع ظبية مملوكة، وأخرى في الصحراء لم يصطدها.
فأما إذا قلنا: الماء في البئر مملوك، فإذا باع البئر مع مائه الذي فيهِ، صح؛ فإنه مشاهد. [وليس] (1) كما لو أفرد ماء البئر بالبيع؛ فإن الأصل في تلك الصورة مُبْقَى للبائع. وما نَبَع بعد تقدير البيع، فهو لمالكِ الأصل، فيؤدي إلى اختلاط المبيع، وأما هاهنا مَلَك (2) المشتري [المنابع] (3)، فلا أثر للازدياد، ولا يضر أن يختلط ملكُ المشتري بملكه. هذا إذا شرط مع البئر ماءها.
فأفا إذا باع البئر ولم يتعرض للماء الذي فيه، فإن قلنا: إن الماء ليس بمملوك، فقد ملك المشتري البئر، وصار أحق بالماء، كما كان البائع أحقَّ به.
وإن قلنا: إنه مملوك، فالبئر صارت مملوكة للمشتري، والأصح أنه لا يتبعها الماء؛ فإنه [نماءٌ] (4) ظاهر، فأشبه الثمار الظاهرة المؤبرة لا تدخل في مطلق بيع الشجرة.
ومن أصحابنا من أتبع الماءَ البئرَ وجعله كالثمار التي لم تؤبَّر، ونزل الأمر في هذا على العرف. وهذا قدمته في أثناء مسائل البيع فيما أظنه.
فهذا في البئر.
3432 - فأمّا في النهر، فإن باعه من غير تعرض للماء الذي فيه، فالبيع في النهر صحيح، والقول في إتباع الماء الموجود في النهر على ما تفضل. فأما إذا باع النهرَ مع الماء الجاري، فإن قلنا: إنه غير مملوك، فقد جمع بين مملوك وغيرِ مملوك
__________
(1) في الأصل: "وهو" كما لو أفرد ...
(2) جواب أما بدون (الفاء).
(3) في النسخ الثلاث: "المنافع" وعجب اتفاقها جميعاً على هذا التصحيف.
(4) ساقطة من الأصل.

(5/502)


مجهولٍ، لا سبيل إلى ضبطه. والأصح في مثل ذلك بطلان البيع في الجميع، ما قدمناه في تفريق الصفقة.
وإن قلنا: الماء مملوك وقد ذكره مع النهر، فهو مجهول لا يفرد بالبيع ضُمَّ إلى معلوم، فيخرج على التفريق.
ولو اجتمع في ملك الرجل شيء سوى الماء كالموميا (1) والملح، وكان يتزايد تزايد الماء، فقد قال الشيخ: حكمه مع قراره حكم الماء في كل تفصيل، إلا أنا ذكرنا في صدر الفصل وجهاً بعيداً أن الماء لا يملك أصلاً، وذلك لا يجري هاهنا.
ولماء الأودية والقنوات وموارد البيع منها تفاصيل كثيرة في إحياء الموات، إن شاء الله تعالى.
فصل
في الإقالة
3433 - لا خلاف في جوازها، وارتداد عوضي العقد بها، وأنها تختص بالثمن الأول، ولا حاجة إلى ذكر الثمن والمثمن على التفصيل، بل الإطلاق ينصرف إليه، ولا تختص الإقالة بالمتعاقدين، بل لو ماتا، جرت الإقالة بين الورثة.
3434 - ثم هي فسخ، أو ابتداء عقد؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها عقد، وهو المنصوص عليه في القديم، لتضمنها تمليكَ مال بمالٍ على التراضي، وصيغةِ الإيجاب والقبول.
والمنصوص عليه في الجديد أنها فسخٌ، لاختصاصها بالثمن الأول، ولأن الغرض منها رفع ما كان، ورد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد. ولفظ الإقالة مشعر بهذا.
ومنه إقالة العثرات.
__________
(1) الموم: بالضم الشمع معرّب. والموميا لفظة يونانية، وهو دواء يستعمل شرباً ودهاناً، وضماداً. (المصباح).

(5/503)


ولم أر أحداً من الأصحاب يخرجُ الإقالةَ قبل قبض المبيع على أن الإقالة فسخ أو بيع. حتى إن قلنا: إنها فسخ، نفذت. وإن قلنا: إنها بيع خرجت على الخلاف في أن بيع المبيع من البائع قبل القبض هل يجوز.
وكذلك لم يردد أحد من أصحابنا القولَ في الإقالة في السلم، بل أطلقوا جوازها. وإن كان يمتنع بيع المسلم فيه قبل القبض.
وكان شيخي يقول: الإقالة بعد القبض على القولين، والإقالة قبل القبض تنفذ.
فإن جوزنا بيع المبيع من البائع قبل القبض، [خرجت المسألة على قولين في أن الاقالة فسخ أو بيع، وإن قلنا: لا يصح بيع المبيع من البائع قبل القبض] (1)، فالإقالة نافذة، وهي فسخ قولاً واحداً.
وذكر شيخي في كتاب الخلع في أثناء كلامه فصلاً به تظهر حقيقةُ الإقالة، وهو أنه قال: اختلف أصحابنا في أن البيع هل يقبل الفسخ بالتراضي؟ فمنهم من قال بقطع القول بقبوله الفسخ بالتراضي. والقولان في لفظ الإقالة.
ومنهم من قال: كل ما فرض على التراخي سواء كان بلفظ الفسخ، أو بلفظ الإقالة، فهو خارج على القولين، ولا نظر إلى الألفاظ، فالفسخ لفظٌ ألفه الفقهاء، ومعناه ردَّ شيء واسترداد مقابله. فإن تعلّق متعلّق بلفظ الفسخ، فالإقالة من طريق اللسان صريحة في رفع ما تقدَّم، ورد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد.
فرجع حاصل القول إلى أن من أصحابنا من جعل الخلاف في تصور الفسخ بالتراضي من غير سبب يوجبه.
ثم هؤلاء يقولون: يتصور الفسخ بالتراضي قبل القبض؛ لأن العقد لم يُفض إلى نقل الضمان، فإذاً هو متصور قبل القبض. وفي تصويره بعد القبض الخلاف.
ومن أصحابنا من قطع بتصوّر الفسخ، ورد الخلاف إلى الإقالة ومعناها، ثم هؤلاء قالوا: هي محمولة قبل القبض على الفسخ، والخلافُ في عملها بعد القبض.
__________
(1) ساقط من الأصل.

(5/504)


3435 - ثم يتفرع على القولين في أن الإقالة فسخ أو عقدٌ أمور: منها - تجدد حق الشفعة للشفيع إذا كان قد عفا عنها في البيع: إن جعلناها فسخاً، لم يتجدد حق الشفعة بالإقالة. ضمان جعلناها عقداً، تجدد له حق الشفعة.
وإذا تلف المبيع في يد المشتري بعد الإقالة، فإن قلنا: هي عقد، انفسخت كما ينفسخ البيع بتلف المبيع قبل القبض، وعاد الأمر إلى ما كان عليه قبل الإقالة. وإن قلنا: هي فسخ، لم ترتفع الإقالة، وضمن المشتري قيمة التالفِ في يده.
ومما يتفرع على ذلك أنهما إذا تقايلا، فإن قلنا: الإقالة بيع؛ فلا يتصرف البائع في ملك العين مادامت في يد المشتري.
وإن قلنا: هي فسخ، نفذت تصرفاته كالمفسوخ بالعيب.
3436 - وإذا تلف المبيع، ثم تقايلا، فإن جعلنا الإقالة عقداً، لم يصح؛ فإن البيع لا يرِدُ على تالفٍ. وإن جعلناه فسخاً، فوجهان: أحدهما - أنه ينفذ كالفسخ بالتحالفِ. والثاني - لا ينفذ؛ فإن الفسخ بالتحالف ليس مقصوداً في نفسه، وإذا أنشأ المتحالفان دعوتيهما، فليس غرضهما الفسخ. لكن كل واحدٍ يبغي أن ينكُل صاحبه ويحلف هو فإذا تحالفا، كان الفسخ ضروريّاً، والفسخُ بالإقالة معمودٌ مقصود، فلا ينفذ في التالف، كالفسخ بالعيب بتقدير ردَّ قيمة المعيب التالف واسترداد عوضه. فإذا اشترى عبدين، فتلف أحدهما، فأراد الإقالة في الآخر، إن جوزنا الإقالة، والمبيع تالفٌ بجملته. فهذا أولى بالجواز، فإن منعنا الإقالة عند تلف المبيع، وهو واحد، فهاهنا وجهان؛ إذ القائم يلاقيه الإقالة، ثم يستتبع التالفَ.
3437 - ولو اشترى عبدين فتقايلا في أحدهما مع بقاء العبدين. فإن قلنا: الإقالة بيع، لم تصح الإقالة؛ فإنها لو صحت، لقابل العبدَ قسط من الثمن يبيّنه التقسيط.
وهذا مجهول. فلا يصح تقدير العقد، مع جهالة العوض.
وإن قلنا: الإقالة فسخ، جاز ذلك. ولو كان مكان العبدين قفيزان من الحنطة، فخُصت الإقالة بأحدهما، جاز على القولين. أما قول الفسخ، فلا يخفى. وأمّا قول العقد، فلا جهالة. والثمن يتقسط بالأجزاء.

(5/505)


ولو اشترى عبداً وتقايلا على نصفه، فالإقالة صحيحة على القولين؛ إذ لا جهالة. والفسخ لا شك في نفوذه على قول الفسخ.
فإن قيل: هلا خرّجتم على تفريق الصفقة؛ قلنا: سبب منع التفريق على قولٍ في هذا المقام تنزيلُ العقد على جملةٍ مع تخلفه عن بعضها، فتارة يقول: ارتفع العقد، وتارة يقول: يتخير من تبعض الأمر عليه. وأما الإقالة فَصَدَرُها عن التراضي. والحق لا يعد وهماً. وإنما يمتنع رد أحد العبدين على أحد القولين قهراً. فلو فرض التراضي به، كان إقالة مسوغة. ومن جوز فسخاًً بعد لزوم العقد بلا سبب التراضي، [لم] (1) يغادر متعلقاً في التبعيض.
وذكر بعض المصنفين أنهما إذا تقايلا على أحد العبدين، وجعلنا الإقالة فسخاً، نفذت. وهل ينفسخ العقد في العبد الآخر؟ فعلى قولي تفريق الصفقة. وهذا خبال.
والأصل اتباع الرضا في الفسخ والإبقاء. ولو سلكنا هذا المسلك، لخرَّجنا قولاً في منع الإقالة في أحد العبدين. فإذا اجتمع الأصحابُ على خلافه، بطل هذا المسلك، وانتسب صاحبه إلى عدم الإحاطة بحقيقة الإقالة.
3438 - ومما يتفرع على ذلك أنا إذا جعلنا الإقالة عقداً، فلو قالا: تفاسخنا، اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هو عقد؛ تعويلاً على اشتراط التراضي، ومنهم من قال: هو فسخ. وهذا يستند إلى ما ذكرته من حقيقة الإقالة في صدر الفصل.
وقد نجز الغرض من الإقالة وتفريعها، وانتهت مسائل الأصول من كتاب البيع. ونحن نذكر فروعاً انسلت عن ضبطنا، فليلحقها الناظر بأصولها، وليرتبها على قواعدها.
فرع:
3439 - إذا اشترى الرجل جارية ثم تبين أنها أخته من رضاع أو نسب، فلا خيار للمشتري. وإذا اشترى جارية فإذا هي معتدة من وطء شبهةٍ، فله الخيار.
أمّا نفي الخيار إذا بانت أخته، فسببه أن الأخوّة لم تقدح في المالية. وهي مقصود البيع، ولا التفات إلى ما يتخلف من الأعراض بعد وفور المالية.
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(5/506)


ولو اشترى رجل جارية وسعى في تحريمها على البائع بسبب طارىء في يده، ثم اطلع على عيب قديم بها، ردّها، ولم يكن للبائع أن يقول: بعتُها وهي محلٌّ لحلي، ورددتَها وهي محرّمة، فلا أقبلها؛ فإن التحريم والتحليل لا تعويل عليهما في عقد البيع.
وأمّا ما ذكرناه في المعتدة، فالسبب فيه أنها محرمة على الناس كافة، وهذا يرِّغب الطالبين عنها، وما كان كذلك أثر في المالية. وهو بمثابة ما لو اشترى داراً، ثم تبين أنها مستأجرة، والتفريع على صحة البيع يثبت الخيار.
وعلى هذا القياس لو اشترى جارية وقبضها، فوطئها واطىء بالشبهةِ، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ، كانت العدة بمثابة عيبٍ حادث طرأ في يد المشتري. وقد سبق التفصيل فيه. ثم ذكرنا في مسائلِ العيوب أن العيب الحادث إذا زال وقد كان تعذر الردُّ بسببه، فهل يملك المشتري الردَّ؟ فيه خلاف وتفصيل. والعدة وإن كانت في حكم عيب، فهي مرجوة الزوال.
فلو قال المشتري: أصبر حتى تنقضي العدة ثم أرد. فقال البائع: ضُمّ الأرشَ أو اقبل العيب القديم، وإلا فتأخيرك يبطل حقك من الرد، فكيف الحكم فيه؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يملك التأخير؛ فإن [العُذر] (1) لائح، ورجاء زوال العيب ظاهِر، وإنما يبطل حق الرد بالتأخير إذا لم يكن عذرٌ.
ومن أصحابنا من قال: إذا أخر يبطل حقه؛ فإنه يجد سبيلاً إلى التخلّص من الظلامة دون الرد، فليرض به.
فرع:
3440 - إذا اشترى عبداً معيباً وقبضه، ثم جاء بعبد وقال: هذا العبد المبيع، وهو معيب، وهو الذي قبضتُه. وقال البائع: ليس هذا الذي قبضتَه مني واشتريتَه، وإنما هو عبد آخر، ولا بينة. قال الأصحاب: القول قول البائع مع يمينه؛ فإنه يستبقي العقدَ، والأصل بقاؤه. ولهذا صدقناه إذا ادعى حدوثَ العيب، وأنكر قدمه. فأما إذا أسلم في عبدٍ أو غيره من الموصوفات، وقبض ثم جاء وقال: هذا الذي قبضتُه ليس على الوصف الذي طلبتُه وذكرته في السَّلم، فقال المسلم إليه:
__________
(1) في (ت 2)، (ص): العقد.

(5/507)


ليس هذا ذاك الذي قبضتَه مني، فالقول قول من؛ فعلى وجهين: أحدهما - القولُ قولُ المسلَم إليه؛ فإنه قد سبق قبض وفاقاً، والمسلِم يدَّعي بعد ذلك مرجعاً.
والوجه الثاني أن القول قول المسلِم؛ فإنهما اتفقا على اشتغال ذمة المسْلم إليه، والمسلَم إليه يدعي براءة ذمته، والأصل اشتغالها. وليس كذلك العبد المعيّن؛ فإنهما اتفقا على أن المشتري قبض ما اشتراه، ثم اختلفا في أن العقد هل يفسخ بعد ذلك أم لا. والأصل بقاء العقد.
وما ذكرناه من الوجهين في المسلم إليه يجريان في الثمن الواقع في الذمة.
وذكر ابن سريج في كل عوضٍ ثابت في الذمة ثمناً كان أو مثمناً ما ذكرناه من الوجهين في الحُكم الذي أردناه، وزاد وجهاً ثالثاً ذكره في الثمن. وهو أنه قال: لو قال البائع: الدراهم التي سلمتها أيّها المشتري مبهرجةٌ زيوفٌ، وليست وَرِقاً، فالقول قوله؛ فانه ينكر أصلَ القبض. وإن قال: هي معيبةٌ، فالقول قول المشتري حينئذٍ؛ فإن أصل القبض ثابت؛ بدليل أنه لو رضي القابض به [لعد] (1) ثمناً، وجرى عوضاً.
فرع:
3441 - إذا أوصى إلى رجل أن يبيع عبداً معيباً من تركته، ويشتري بثمنه جاريةً، ويعتقها عنه، فباع الوصي العبد بألف، واشترى بالألف جارية، وأعتقها عن الموصي، ثم وجد مشتري العبد به عيباً ورده، فللوصي أن يبيع ذلك العبد المردود ويؤدي من ثمنه الألفَ الذي كان ثمناً، فإن وفَّى ثمنُ العبد لمَّا باعه بعد الرد، فلا كلام. وإن كان ثمنه تسع مائة، لمكان العيب الذي بدا، فذلك النقصان لا بد من جبره لرد جملة الثمن على المشتري. فذلك النقصان على من؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هو على الوصي؛ فإنَّ الموصي إنما أمره أن يشتري بثمنه جارية، وقد بان أخيراً أن ثمنه تسع مائة؛ فكان من حقه ألا يشتري الجارية إلا بهذا المبلغ؛ فهو بترك البحث مفرّط. ثم هو ضامن بسبب تفريطه.
ومن أصحابنا من قال: لا ضمان على الوصي في تلك الزيادة، ولكنها في ذمة الميت الموصي تؤدَّى من تركته؛ وذلك أن [الوصيّ] (2) بالحاكم والعدل [في
__________
(1) في الأصل، (ت 2): يعدّ. و (ص): " لفذ": والمثبت تقديرٌ منا.
(2) في الأصل، (ت 2): الموصي.

(5/508)


الرهن] (1) أشبه. وقد قال الشافعي: إذا باع الحاكم شيئاً، فلزمت فيه عُهدة، فلا تتعلق الغرامة بالحاكم، وكذلك من عُدّل الرهن على يده.
ولو باع الوصيُّ العبدَ المردودَ عليه، فزاد ثمنُه على الألف، فقد بان لنا فيه أنه فرط في بيعه لما باعه بالألف وكانت قيمته ألفان. والمسألة فيه إذا لم تكن الزيادة عن ارتفاع سِعرٍ، ولا عن قبول زبون، فقد جرى بيعه بغبن وكان باطلاً، ولا حاجة إلى الرد.
وشراءُ الجاريةِ إن كان واقعاً في الذمة، فينصرف إليه، والعتق واقعٌ عنه، وعليه الآن بتمام ثمن العبد جارية، فيعتقها عن الموصي. وإن كان قد اشترى الجارية بعين ما قبضه في ثمن العبدِ، فلا يصح العقد؛ فإن المشار إليه كان مستحقاً ولم ينفذ العتق.
ومما يليق ببقية المسألة أنا قطعنا القول بأن الوصي إذا رُدَّ العبدُ عليه، فله بيعه، لم يحك الشيخُ فيه خلافاً.
3442 - فإن قيل: لو باع الوكيل عبداً فرُدَّ عليه بالعيبِ، فهل له أن يبيعه مرة أخرى؟ قلنا: اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب بعضهم إلى أنه يبيعه؛ فإن الموكل قد أذن له في بيعٍ يلزم وينفذ، فإذا نُقض عليه، فله البيع ثانياً (2 والمذهب الصحيح الذي اختاره القفال أنه لا يصح منه البيع ثانياً 2)؛ لأن المبيع رجع إلى ملك الموكَل رجوعاً جديداً، فلا يستفيد الوكيل التصرف في هذا الملك الجديد.
ولو أذن للوكيل في بيع عبده بشرط الخيار للمشتري، فباعه وشرط الخيارَ، ففسخ المشتري البيع، فهل يجوز للوكيل أن يبيعه ثانياً؛ فعلى وجهين مشهورين قرَّبهما القفال من القولين في أن البيع بشرط الخيار هل يوجب نقلَ الملك. فإن قلنا: انتقل الملك إلى المشتري، فالأشبه أن لا يبيع الوكيل مرة أخرى. وإن قلنا: الملك للموكل، فيجوز أن يبيعه الوكيل ثانياً؛ فإن هذا ذلك الملك بعينه، فلا يبعد أن يدوم الإذن إلى أن يتفق نقل الملك. والمسألة محتملة على القولينِ.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) سقط ما بين القوسين من: (ص)، (ت 2).

(5/509)


فرع:
3443 - إذا اشترى الرجل عبداً، ثم بان له أنه ابنه، صح العقد، ونفذ العتقُ، ولا مردّ له.
وإذا عسر ردُّ العتق، فلو اطلع على عيب قديم به رجع بالأرش.
ولو قال ولا عيب به للبائع: أغرمك شيئاً إذْ خسَّرتني، لم يغرمه؛ فإن العبد لا نقصان به.
فرع:
3444 - إذا باع سمسماً على أن يكون الدهن مبيعاً والكسب للبائع، أو باع قطناً على أن الحليج هو المبيع والحب للبائع، فالبيع باطل؛ فإن المبيع ليس متعيناً على التحقيق ولا جزءاً شائعاً.
فرع:
3445 - إذا قال: بعتك هذا على أن لا ثمن لي عليك، فقال: اشتريتُ وقبضه، فالذي قطع به الأئمة فسادُ البيع. ثم قالوا: لو تلف المقبوض في يد المشتري، ففي وجوب الضمان وجهان: أحدهما - الوجوب؛ لأنه مقبوض على حكم بيع فاسد. والثاني - لا يجب الضمان؛ لأن البائع رضي بحطِّه، وبنى الأمر عليه، فصار القبض قبض وديعة.
وذكر القاضي قولين في أن ما جرى هل يكون هبة صحيحة مملكة: أحدهما - أنه هبة؛ نظراً إلى القصد، ولا اعتبار بالخطأ في اللفظ.
والثاني - أن هذا ليس بهبة؛ فإن البيع ينافي في وضعه معنى الهبة، و [العقود] (1) لا تنعقد بالمقاصد، وإنما تنعقد بالألفاظ.
ولو قال: بعتك هذا، ولم يتعرض لنفي الثمن وإثباتِه، فقال المخاطب: قبلتُه، فلا يكون هذا تمليكاً وفاقاً. والأصح أن القبض المترتب عليهِ قبض ضمان؛ فإنه ليس مشتملاً على نفي الضمان.
ومن أصحابنا من خرّج الضمان في هذه الصورة على الخلاف المقدم، وسنذكر أمثلة لهذا في كتابِ الخلع، إن شاء الله عز وجل.
* * *
__________
(1) في الأصل، (ت 2): والعقد.

(5/510)