نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الصيام
2265 - الأصل في وجوب الصوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] قيل: أراد بها أيامَ رمضان، فذكرها على صفةِ التقليل، تهويناً، وتقريباً، وجرى قوله شهر رمضان تفسيراً لها وبياناً، وقيل: المراد بالمعدودات أيامٌ من كل شهر، وعن معاذٍ رضي الله عنه، أنه قال: " فُرض صوم يوم عاشوراء، ثم نسخ وجوبه، وفُرض صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر، وهي الأيام البيض، ثم نسخت فرضيتُها بصوم رمضان " (1). فعلى هذا الأيام المعدودات هي الأيام الثلاثة، وصوم رمضان ناسخٌ لها.
فصل
قال: " ولا يجزئ لأحدٍ صيامُ فرضٍ ... الفصل " (2).
2266 - الصومُ قُربةٌ مفتقرةٌ إلى النية، ولا فرق بين نوعٍ ونوعٍ، فصوم رمضان إذاً لا يصح إلا بالنية، خلافاً لزفر (3). وكل صومٍ في يومٍ عبادةٌ على حيالها، مفتقرةٌ إلى النية. والنية الواحدة في أول الشهر لا اكتفاء بها، خلافاً لمالك (4). ثم لو نوى صوم
__________
(1) حديث معاذ لم أجده إلا عند البيهقي: 4/ 200، باب ما قيل في بدء الصوم.
(2) ر. المختصر: 2/ 2. واللفظ في المختصر: " ولا يجوز ".
(3) زفر بن الهذيل بن قيس العنبري. من كبار أصحاب أبي حنيفة، وأحد العباد، والمحدِّثين، غلب عليه الرأي. توفي: 158 هـ. (شذرات الذهب: 1/ 243، الأعلام) وعن رأي زفر في عدم اشتراط النية انظر مختصر اختلاف العلماء: 2/ 9 مسالة: 488.
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 424 مسألة: 623، جواهر الإكليل: 1/ 148.

(4/5)


أيام الشهر، فهل يحصل له صوم اليوم؟ كان شيخي يتردد فيه. وفيه إشكال واحتمال.
ومحل النية القلب، ولا أثر للنطق فيها وفاقاً، وإنما التردد في نية الصلاة والحج.
وفي الزكاة خوضٌ أيضاً، فأما الصوم، فعماد النية فيه الضمير، وقد قدمت في كتاب الصلاة ماهية النية، فلا حاجة إلى إعادتها.
والكلام وراء ذلك يتعلق بفصلين: أحدهما - في كيفية النية، والثاني - في وقتها.
[فصل] (1)
2267 - فأما كيفية النية، فالتعيين لا بد منه [عندنا] (2) ولو أطلق الصومَ، لم ينعقد صومُه، ولم يحصل فرض رمضان، وإذا أصبح كذلك، كان مفطراً يتعين عليه الإمساك. وقال أبو حنيفة (3) أداء صوم رمضان لا يفتقر إلى تعيين النية؛ لأنه متعين شرعاً، والقضاء يفتقر إليه، وكذلك المنذور المطلق، والنذر المعيّن عنده كأداء رمضان.
ومعتمدنا في المذهب أن تعيّن الشيء شرعاً غيرُ كافٍ، بل العبد متعبد بتجريد القصد إلى ما عيّنه التكليف عليه، ولو كفى تعيين التكليف، لسقط أصل النية، كما ذهب إليه زفر.
وفي [التعرض] (4) للفرضية وجهان، سبق نظيرهما في كتاب الصلاة، ولا بد من التعرض للأداء، ومن ضرورة التعرض لحقيقة الأداء إخطار فرض هذا الوقت بالقلب، وتكلف بعض المتأخرين، وقال: يجب أن ينوي أداء رمضان هذه السنة،
__________
(1) من عمل المحقق.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ر. المبسوط: 3/ 59، تحفة الفقهاء: 532، رؤوس المسائل: ص 225، مسألة: 122
(4) في الأصل: التعريض.

(4/6)


وهذا عندي غير محتفل به، فإنما هو [تحريف] (1) في الفهم؛ فإن معنى الأداء هو المقصود، ومن ضرورته التعرض للوقت المعين، ولو أجرى الإنسان هذه الألفاظ في ضميره، ولم يلح (2) في فكره معانيها، لم يكن ناوياً؛ فإن النية قصدٌ إلى معنىً، لا إلى كيفية لفظٍ [عنه] (3).
[فصل] (4)
2268 - فأما وقت النية، فلا يصح عندنا صومٌ مفروض أداء كان، أو قضاء، أو نذراً، أو مفروضاً شرعياً، بنيةٍ تنشأ نهاراً، بعد سبق جزء منه.
ثم المذهب أن وقت نية صوم الغد من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر بعيداً: أنه يجب إيقاعها في النصف الأخير من الليل، أخذاً من وجهٍ يوافق هذا في الأذان لصلاة الصبح. وهذا لا أعده من المذهب.
ولو قرن النية بأوّل جزءٍ من النهار، فأتى به مع أول الفجر، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الصوم يصح؛ فإن النية اقترنت بأول العبادة، وهو محلها في العبادات جُمَع. والثاني - لا يصح، لقوله صلى الله عليه وسلم: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " (5) والتبييت قصدٌ يُنشأ ليلاً، وأيضاً فليس في القوة البشرية إدراك أول الفجر. وسيكون لنا إلى ذلك عودة، بعد هذا.
__________
(1) في الأصل: تحرّزن.
(2) في (ط): يكن.
(3) في الأصل: عينه.
(4) من عمل المحقق.
(5) حديث: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام ... " بهذا المعنى رواه أحمد: 6/ 287، وأبو داود: الصوم، باب النية في الصيام، ح 2454، والنسائي: الصيام، باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك، ح 2333، والترمذي: الصوم، باب ما جاء لا صيام لمن لم يعزم من الليل، ح730، وابن ماجة: الصيام، باب ما جاء في فرض الصوم من الليل، ح 1700، والدارقطني: 2/ 172.

(4/7)


فرع:
2269 - إذا نوى في أول الليل، ثم أقدم على مفطرٍ بعد النية في الليل، لم يقدح ذلك في النية على ظاهر المذهب؛ لأن ما أتى به غيرُ مناقضٍ للنية؛ فإنه نوى صوم غده، ولو وجب الانكفاف عن المفطرات بعد النية، لصار جزء من الليل ملتحقاً بالصوم.
وذهب أبو إسحاق المروزي إلى أن النية تفسد بمفطر بعدها، والسبب فيه أن النية تنفصل عن العبادة بمناقضٍ، وليس ذلك صوماً، فإنه لو جدد نيةً بعد ذلك، أجزأه الصوم نهاراً، إنما المحذور انفصال النية عن أول العبادة.
فإن قيل: نفس الليل فاصلٌ، قلنا: الضرورة سوغت احتمالَ هذا الفصل؛ فإن تكليفه قرْنَ النية بأول الصوم عسر، فاحتمل. فأما الإقدام على مفطر بعد النية، فمما لا ضرورة (1) فيه. وقيل رجع أبو إسحاق عن هذا عامَ حجِّه، وأشهد على نفسه.
وذكر العراقيون أمراً آخر، قريباً مما ذكرناه، فقالوا: من أصحابنا من قال: من نوى في الليل، ثم نام كما (2) نوى، ولم ينتبه إلى طلوع الفجر، صح صومه، ولو تنبه، لزمه تجديد النية قبل الصبح، وكأن هذا القائل يبغي تقريبَ النية من أول العبادة جهده، ولكنه يعذر النائم، فإن المنع من النوم وتكليفَ السهر إلى آخر الليل، يجر ضرراً بيناً. نعم إذا تنبه وتذكر، فلا عذر في تركه تجديدَ النية.
وهذا بعيدٌ، لا أصل له، ولكنهم نقلوه وزيفوه. وفي كلامهم تردّدٌ في أن الغفلة هل تتنزل منزلة النوم.
والمذهب اطراح هذا الأصل بالكلية.
وكل ما ذكرناه من اشتراط التبييت، فهو في الصوم المفروض.
2270 - فأما صوم التطوع، فيصح بنية تنشأ نهاراً قبل الزوال، ومعتمد المذهب الأحاديث، منها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف الغدوات على حُجر نسائه، فإن
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: " فمما لا ضرر فيه".
(2) أي عندما نوى.

(4/8)


وجد طعاماً أكله، وإن لم يجد، قال: إني إذن أصوم (1). والذي يقتضيه القياس تنزيلُ النفل منزلة الفرض، في وقت النية، ولكنا صرنا إلى ما صرنا إليه للخبر.
ولو جرت النية بعد الزوال، ففي المسألة قولان: أحدهما - لا يصح الصوم؛ لمضي معظم النهار خلياً عن النية، وللمعظم أثر في العبادات، على حال.
والقول الثاني- أن الصوم يصح؛ فإنه متطوَّع به، والمتطوِّع بالخيار إن شاء أقل، وإن شاء أكثر.
فإن شرطنا بقاء المعظم، فالذي أطلقه الأصحاب في ذلك الزوالُ، ولا شك أن الزوال منتصفٌ إذا حسب الأول من شروق الشمس، فإذا حسب النهار الشرعي من طلوع الفجر، فالمنتصف يقع ضحوة.
وكان شيخي يتردد في هذا، وقد تردد فيه أصحاب أبي حنيفة (2) إذ اشترطوا إيقاع النية قبل الزوال، ولعل من اعتبر الزوال، اعتبره لأنه بيّن، وضبطُ وسط الوقت مع الاحتساب من طلوع الفجر عسر. ولا خلاف أن النهي عن السواك منوط بما بعد الزوال؛ فإن المرعي [فيه] (3) ظهور الخُلوف، وهذا في الغالب يختص بما بعد الزوال.
2271 - ثم إذا صححنا صومَ التطوع بنيةٍ تنشا نهاراً، فقد اختلف أصحابنا في أن المتطوع صائمٌ من وقت نيته، أو ينعطف حكم الصوم إلى أول النهار؟ فالذي ذهب إليه القياسون أنه صائم من وقت نيته؛ فإن النية قصدٌ وعزم، ولا انعطاف لواحدٍ منهما، والمنقضي على حكمٍ لا يُتصور تقديرُ انقلابه عنه، بسبب قصدٍ لا أثر له فيه (4).
__________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يطوف على حجر أزواجه .. رواه مسلم: الصيام، باب جواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر، ح 1154 وأبو داود: الصوم، باب الرخصة في ذلك، ح 2455، وابن حبان: ح 3620، والدارقطني: 2/ 175، 176.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 53، طريقة الخلاف للأسمندي: 31، مسألة 13.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ساقطة من (ط).

(4/9)


وذهب طوائف إلى أنه صائمٌ من أول النهار؛ فإن الصوم لا يتبعض في اليوم، وهو في حكم الخصلة الواحدة.
فإن قلنا: إنه صائم من وقت النية، فلو أكل في أول النهار، ثم رام أن ينوي الصومَ بعده، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن ذلك غير سائغ، ومن اعتقد أن من أكل غداءه يومَه صائمٌ بعد فراغه عن الأكل، فهو مقتحم على الإجماع.
وفي المسألة وجهٌ بعيد، أن ذلك غير ممتنع، وقد عزاه بعضُ المصنفين إلى ابن سريج وأبي زيد المروزي. والله أعلم.
وكان شيخي يقول: الأكل في أول النهار يمنع إمكان الصوم بعده.
وإن قلنا: الناوي نهاراً صائم من وقت نيته، لأن معنى الصوم الخَوَى والطَّوَى (1)، وإن أكل المرء في نهاره، لم يكن للصوم بعده معنى، فالخوى في أول النهار شرط (2) وقوع الصوم الشرعي بعده.
وكان يذكر وجهين في أن الحيض والكفر في أول النهار إذا زالا، ووقعت النية ضحوة بعدهما، فالصوم هل يصح؛ تفريعاً على أنه صائم من وقت النية؟ وهو لعمري يقرب بعضَ القرب. فأما تصوير الصوم بعد الأكل في النهار، فهو في حكم الهزء عندنا.
فرع:
2272 - إذا انعقد الصوم، ثم نوى الشارع في الصوم الخروج منه، ففي بطلان الصوم وجهان، ذكرناهما في كتاب الصلاة، وفرقنا بين الصوم والصلاة؛ فإن المصلي لو نوى الخروج على (3) جزم، بطلت صلاته، وجهاً واحداً. ثم إن قلنا: لا يفسد الصوم، فلو نوى الشارع في صوم القضاء مثلاً، قلبَ الصوم إلى النذر، فلا ينقلب إلى النذر، لا شك فيه.
ولكن إن حكمنا بأن نية الخروج لا تُبطل الصومَ، فهو في الصوم الذي شرع فيه، وقَصْدُ النفل لا أثر له.
__________
(1) الخوى والطوى: الجوع. (المعجم).
(2) عبارة (ط): هو شرع وقوع الصوم ...
(3) في (ط): عن. والحرفان يترادفان.

(4/10)


وإن حكمنا بأن نية الخروج تُبطل الصوم، فقَصْد الانتقال يتضمن الخروجَ عما كان فيه، فيبطل ذلك الصومَ المفروضَ، وهل يبقى الصوم نفلاً أم لا؟ فعلى وجهين، وقد سبق لهما نظائر في كتاب الصلاة، منها: أن القادر على القيام إذا تحرم بالصلاة المفروضة قاعداً، فصلاته لا تنعقد فرضاً، وهل تبطل [أم] (1) تنعقد نفلاً؟ فعلى قولين (2). وبين ما ذكرناه الآن في الصوم، وبين ما استشهدنا به تخيل فرق؛ فإن الذي تحرم بالصلاة قاعداً ليس في نيته ما يتضمن رفع النفل، والذي يقصد الانتقالَ تُشعر نيتُه بالخروج عن جميع ما اشتملت عليه النية الأولى. ولكن يجوز أن يقال: الصوم يشتمل المنتقَل إليه والمنتقَل عنه، فالتبديل على الصفات، لا على أصل الصوم.
فصل
قال: " ولا يجب [عليه] (3) صوم شهر رمضان حتى يستيقن [أن الهلال قد كان ... إلى آخره " (4).
2273 - اعترض على المزني في قوله: " حتى يستيقن "؛ فإن] (5) درك اليقين ليس شرطاً (6)، مع القطع بوجوب الحكم بشهادة شاهدين على رؤية الهلال.
ولفظ الشافعي: " حتى يعلم أن الهلال كان " والعلم يطلق [ويراد] (7) به الظن، والمعتمد في الفصل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين " (8) وروي أنه قال
__________
(1) في الأصل: أو.
(2) في (ط): فيه قولان.
(3) زيادة من نص المختصر.
(4) ر. المختصر: 2/ 2.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(6) أي اعتُرِض على المزني في نقله هذا اللفظ " يستيقن " عن الشافعي.
(7) في الأصل: والمراد.
(8) حديث: " صوموا لرؤيته ... " رواه مسلم بلفظ: فإن أغمي عليكم، فاقدروا له ثلاثين " من حديث ابن عمر: الصيام: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، ح 1080، ورواه النسائي=

(4/11)


صلى الله عليه وسلم: " لا تصوموا حتى تروه ".
فإن شهد على رؤية هلال رمضان ليلةَ الثلاثين من تاريخ شعبان، شاهدان عدلان، وجب القضاءُ بدخول رمضان، ولا فرق بين أن يتفق ذلك والسماء مصحية، أو يتفقَ وفي موضع الهلال علّة من سحاب، أو ضبابٍ، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه اعتبر فيما ذكره أصحابه في الإصحاء عددَ الاستفاضة (1). صائراً إلى أن انفراد معدودين، وقد تراءى الناسُ الهلال محال. وهذا غير سديد؛ فإن الهلال خفيٌّ على حال، وقد تَبْهَرُه (2) الأشعة، فهلاَّ قدّر ذلك علّةً.
وإن شهد على رؤية هلال رمضان شاهدٌ واحد، ففي ثبوت الهلال بشهادته قولان: أحدهما - الثبوت، لما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: " تراءى الناس الهلالَ، فرأيته وحدي، فشهدت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس بالصيام " (3) وهذا (4) القولُ معتضد بقياس جلي -لو اطرد- وهو أن التعرض لهلال رمضان يتعلق بأوقات العبادات، وقولُ العدل الواحد إذا استند إلى المشاهدة مقبولٌ في العبادات؛ اعتباراً بأوقات الصلوات.
وهذا مع ظهوره يخرمه اشتراطُ العدد في رؤية هلال شوال، والأصحاب في طرقهم متفقون على اشتراط العدد في هلال شوال، إلا شيئاً ذكره صاحب التقريب، فإنه حكى عن أبي ثور مصيرَه إلى أن هلال شوال يثبت بقول العدل الواحد، ثم قال:
__________
=بلفظ إمام الحرمين: الصيام، باب قبول شهادة الرجل الواحد، ح 2116، وبنحوه أبو داود: الصوم، باب شهادة رجلين على رؤية هلال شوال، ح 2338، وأحمد: 4/ 321، والدارقطني: 2/ 167.
(1) ر. رؤوس المسائل: 229 مسألة: 125، بدائع الصنائع: 2/ 80.
(2) " تبهره الأشعة ": أي تغمره، يقال: بهر القمر النجومَ إذا غمرها بضوئه. (المعجم).
(3) حديث ابن عمر: " تراءَى الناسُ الهلال ... " رواه أبو داود: الصيام، باب في شهادة الواحد على رؤيا هلال رمضان، ح 2342، والدارمي: (2/ 9 ح 1691)، والدارقطني: 2/ 156، وابن حبان: 5/ 187 ح 3438، والحاكم: 1/ 423، والبيهقي: 4/ 212 (ر. التلخيص: 2/ 359 ح 880).
(4) في الأصل: فهذا.

(4/12)


وهذا لو قلت به، لم يكن بعيداً. وما ذكروه وإن كان غريباً، فهو متجه جداً في القياس، لما ذكرناه من أن الأخبار عن الهلال تعرض لوقت العبادة، فهلال رمضان به يُستبان دخول وقت العبادة، وهلال شوال به يُستبان خروج وقت العبادة. فإن اعتقد معتقدٌ ذلك، جرى المعنى سديداً.
وإن جرينا على ظاهر المذهب، فلا يجري توجيه قول الاكتفاء بالشاهد الواحد من طريق المعنى، وإنما مستنده الأثر والخبر، مع التمسك بطرفٍ من الاحتياط للعبادة، وهذا يوجب الفرق بين [الهلالين] (1)، وإليه أشار عليٌّ رضوان الله عليه، إذ قال: " لأن أصوم يوماً من شعبان أحبُّ إليّ من أن أفطر يوماً من رمضان " (2). وإنما قال ذلك لأنه كان يبالغ في الاحتياط في الشهادة، حتى نقل عنه تحليفُ الشهود، وكان لا يحتاط [في هذا لرمضان] (3) ويقول ما روينا عنه.
والشهادة شهادة حِسبة، لا ارتباط لها بالدعاوى.
2274 - وإن قلنا: لا يشترط العدد، فقد اختلف أئمتنا في أنه يُنحى به مع الاكتفاء بالواحد نحو الشهادات، أو ينحى به نحو الروايات: فقال بعضهم: هو رواية على هذا القول، بدليل الاكتفاء بالواحد، وقال آخرون: هو شهادة، والمعتمد في الاكتفاء بالواحد ما قدمناه من الأثر والخبر، وهذا القائل يقول: مراتب الشهادات في العدد، والصفة، متباينة، فقبول الواحد على شرط الشهادة أدنى المراتب، واشتراط الأربعة أعلاها، فإن جعلناه شهادةً، اشترطنا الذكورة، والحرية، ولفظَ الشهادة، والإقامة في مجلس القضاء، وإن جعلناها روايةً [قبلناها] (4) من الأَمَة مع ظهور الثقة، ولم نشترط لفظَ الشهادة، وقلنا: لو أخبر واحدٌ الناسَ بالرؤية، لزم
__________
(1) في الأصل: الهلال.
(2) أثر علي رضي الله عنه رواه الشافعي في الأم: 2/ 94، والدارقطني: 2/ 170، والبيهقي: 4/ 212 (ر. التلخيص:2/ 402).
(3) بياض في الأصل.
(4) في الأصل: قبلنا، و (ط): قبلناه.

(4/13)


اتباع قوله، وإن لم يذكره بين يدي قاضٍ، وهذا وإن كان يعضده المعنى فنراه بعيداً عما جرى عليه الأولون في ذلك.
ثم في قبول الصبي المميز الموثوق به على وجه الرواية وجهان، مبنيان على قبول رواية الصبيان.
2275 - وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع تردّداً للأصحاب، في أن الهلال هل يثبت بالشهادة على الشهادة؟ وقال: الأصح القطعُ بثبوته، ومن الأصحاب من خرّجه على الخلاف المشهور في ثبوت حقوق الله بالشهادة على الشهادة؛ من جهة أن أمر الهلال يتعلق بمحضِ حق الله تعالى.
وهذا بعيدٌ؛ فإن سبب الاختلاف في الحدود كونُ المشهود به عقوبةً لله تعالى، معرضة للسقوط بالشبهات، والأمر في هلال رمضان على نقيض ذلك.
ومما أجراه في هذا أنا إذا قلنا: يُسلك به مسلك الرواية، وحكمنا بأنه يثبت بقول الفرع، مستنداً إلى الأصل، فهل يُشترط في الفرع عددٌ؟ فقال: المذهب أنه لا يشترط؛ جرياً على حكم الرواية، وقياسِها.
وحُكي عن بعض الأصحاب اشتراطُ العدد في الفرع، وزعم هؤلاء أن قولَ الفروع شهادةٌ، وإن لم نجعل قولَ الأصل شهادة، وهذا بعيد، لا اتجاه له.
ثم قال: إذا شرطنا العددَ في [الفرع] (1)؛ فهل نشترط صفة الشهود، حتى لا تقبل من العَبْدَيْن؟ ذكر في ذلك وجهين.
وكل ذلك تخليطٌ عندنا.
ثم قال: إذا لم نشترط [العددَ في الفرع، نشترط] (2) لفظَ الشهادة، وإن لم نشترطه في الأصل. وصار إلى أن قول القائل: حدّثني فلان أن فلاناً قال: رأيت الهلال، فهذا مردود إجماعاً، ولا شك أن القياس قبولُ ذلك، إذا كان التفريع في الفرع والأصل على الاكتفاء بالواحد.
__________
(1) في الأصل: الفروع.
(2) ساقط من الأصل.

(4/14)


وبالجملة في هذا الأصل اختباطٌ، من جهة أنه لم يَسْلَم المعنى الذي ذكرناه (1) من الإخبار عن أوقات العبادات، لمكان اشتراط العدد في الشهادة على هلال شوال، ولم يستمر إلحاق الخبر عن هلال رمضان بالشهادات للخبر والأثر، فجرّ ذلك اختلاطاً، وتردداً.
وعندنا أن دعوى الإجماع فيما ذكره الشيخ آخراً لا تسلم عن النزاعِ، والاحتمالِ الظاهر (2).
فرع:
2276 - إذا شهد عدلان على رؤية هلال رمضان، وجرى القضاء بشهادتهما، وصام الناس ثلاثين يوماً، ثم لم يَرَوْا الهلال ليلةَ الحادي والثلاثين من تاريخ الشهادة، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنا نُعَيِّد، ونحكم بانقضاء الشهر، بناء على الشهادة في أوله.
وذكر ابنُ الحداد أنا نصوم يوم الأحد والثلاثين، وهذا فيه إذا لم يكن في موضع الهلال علة.
والذي ذكره مزيّف، غيرُ معدودٍ من المذهب، وهو مذهب أبي حنيفة (3).
وإذا شهد على رؤية الهلال شاهد واحد، والتفريع على ثبوت الهلال بقول الواحد، [فإذا بنينا] (4) على ذلك، وصمنا ثلاثين يوماً، وتراءى الناسُ -ولا علة- فلم يرَوْه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في هذه الصورة، فقال بعضهم: لا يثبت هلالُ شوال بناءً على ما تقدم؛ فإن الذي شهد على هلال رمضان لو أنشأ الشهادة على هلال [شوال] (5)، لم تُقبل شهادته وحده؛ إذا لم تتقدم منه الشهادة على هلال رمضان، فإذا لم يثبت هلالُ شوال بقوله ابتداء، فلا يثبت أيضاً بناءً.
ومن أصحابنا من قال: يثبت هلال شوال؛ فإن الشيء يثبت مبنياً، وإن كان لا يثبت مبتدأ مقصوداً، والدليل عليه أنه لو شهد على الولادة في الفراش أربع نسوة،
__________
(1) في (ط): ذكره.
(2) لم يتعرض الإمام للقول القائل بأنه لا يثبت بالواحد.
(3) ر. رؤوس المسائل ص 229 مسألة: 125، البدائع: 2/ 80.
(4) في الأصل: فأثبتنا.
(5) ساقطة من الأصل.

(4/15)


ثبتت الولادة، ويترتب (1) عليها ثبوت النسب، ولو شهدن على النسب، لم يثبت بشهادتهن. وهذا فيه نظر؛ فإن الولادة إذا ثبتت يلحق النسب الفراشَ (2)، [وهو قائم] (3)، لا نزاع فيه، ولم يتحقق مثل ذلك فيما نحن فيه.
فرع:
2277 - إذا شرطنا العددَ في هلال رمضان، فالوجه اشتراط العدالة الباطنة، والمعنيّ بها البحث الذي يعتاده القضاةُ بالمباحثة، والرجوعِ إلى أقوال المزكِّين، وإن اكتفينا بقول الواحد، فالعدالة الظاهرة، لا بد منها، فلا يقبل قول فاسقٍ، ولا مريب. وهل يشترط العدالة الباطنة، فعلى وجهين، مبنيين على أن رواية المستور هل يعمل بها؟ وفيه اختلاف ذكرناه في فن الأصول (4).
وفي بعض التصانيف: يُكتفى (5) بالعدالة الظاهرة، وليس فيما ذكره فصلٌ بين [قبول] (6) الشهادة [وقبول] (7) الرواية، وهذا بعيدٌ، لا اتجاه له.
نعم، قد نقول: ينبغي للقاضي أن يأمر الناس بالصيام لظاهر العدالة؛ فإن الأمر يفوت، ثم يبحث بعد ذلك، ولا يبعد أن يقال: إذا أمر استمروا، ولم يبحث.
نعم، إذا استكملنا العدة ثلاثين، فلم يُر هلالُ شوال، فلا بد الآن من البحث عن العدالة الباطنة. فتأملوا ترشُدوا.
فصل
2278 - إذا رئي الهلال من بلدةٍ، ولم يُرَ في أخرى، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن حكم الهلال يثبت في خِطة الإسلام؛ فإنه إذا رُئي، لم
__________
(1) في الأصل: وقد يترتب.
(2) في (ط): بالفراش.
(3) في الأصل: وهذا لا نزاع فيه.
(4) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة: 553.
(5) في (ط): أنا نكتفي.
(6) في الأصل: قول.
(7) في الأصل: قول.

(4/16)


يتبعض، والناس مجتمعون في المخاطبة بالصيام، والهلال واحدٌ.
ومن أصحابنا من قال: إذا بعدت المسافة، لم يعمّ الحكمُ، وللرائين حكمهم، وللذين لم يَرَوْا حكمُهم؛ فإن المناظر في الأهلة تختلف باختلاف البقاع اختلافاً بيناً، فقد يبدو الهلال في ناحية، ولا يتصور أن يرى في ناحيةٍ أُخرى، لاختلافِ (1) العروض (2)، والأهلةِ فيها، ولا خلاف في اختلاف البقاع في طلوع الصبح، وغروب الشمس، وطول الليل، وقصره، فقد يطلع الفجر في إقليم ونحن في ذلك الوقت في بقية صالحةٍ من الليل.
التفريع على الوجهين:
2279 - إن عممنا الحكمَ، فلا كلام.
وإن لم نعمم، فلا خلافَ في انبساط حكم الهلال على الذين يقعون دون مسافة القصر، من محل الرؤية، وذكر الأصحاب أن البعد الذي ذكرناه، هو (3) مسافة القصر، ولو [اعتبروا] (4) مسافةً يظهر في مثلها تفاوتُ المناظر في الاستهلال، لكان متجهاً في المعنى، ولكن لا قائل به، فإن درك هذا يتعلق بالأرصاد والنموذارات (5) الخفية، وقد تختلف المناظر في المسافة القاصرة عن مسافة القصر؛ للارتفاع والانخفاض، والشرع لم يُبنَ على التزام أمثال هذا، ولا ضبط عندنا وراء مسافة القصر للبعد.
2280 - ومما يتفرع على ذلك أن الإنسان إذا رأى الهلال ليلة الجمعة، وسافر في رمضانَ إلى بلدة بعيدة، وكانوا رأوا الهلال ليلة السبت، فصام المسافر ثلاثين يوماً، من تاريخ الجمعة، فلم ير الناس الهلالَ في المكان الذي انتقل إليه، ليلة الثلاثين من
__________
(1) (ط) لاختلافٍ في العروض.
(2) جمع عُرْض، وهي الناحية والجهة.
(3) في (ط): وهو.
(4) في الأصل: اعتُبر.
(5) النموذارات: ولعلها من أسماء البروج، أو نحوها مما يؤثر في اختلاف المطالع، وواضح أنها بغير العربية.

(4/17)


تاريخ السبت، وأكملوا العدة، فإن قلنا: لكل بقعة حكمُها، فيجب على هذا المسافر المنتقل أن يتابع أهلَ هذه البقعة، ويصومَ أحداً وثلاثين يوماً؛ فإنه صار من أهل هذه البقعة في آخر الشهر. ولا يخفى على الفقيه أن الحكم لا يختلف في ذلك بقصد الإقامة والسفر.
وإن قلنا: حكم الهلال إذا ثبت في موضعٍ عم جميعَ البلاد، فأهل البلدة الثانية متعبدون بحكم ذلك الهلال، إن ثبت عندهم. فإن قيل: [التفريع على هذا الوجه الأخير متجهٌ، لا شك فيه، والتفريع على الأول] (1) [هل يتطرق] (2) إليه احتمال؛ من جهة أنه التزم حكمَ البقعة الأولى، فينبغي أن يستمر ذلك الحكمُ عليه. قلنا: الاحتمال قائم، ولكن ما ذكرناه في التفريع قطع به الأصحاب، لأثرٍ وَرَدَ، اتخذوه متبوعَهم، وهو ما روي أن كُرَيْباً (3) مولى ابن عباس، قال: " بعثتني أم الفضل بنتُ الحارث إلى الشام في حاجة عرضت لها عند معاوية، فرأى الناسُ الهلالَ ليلةَ الجمعة، فصاموا، وصمتُ، فرجعت إلى المدينة، فسألني ابنُ عباس متى رأيت الهلال؟ فقلت: ليلة الجمعة، فقال: أما نحن فرأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم، حتى نرى الهلال، أو نستكمل العدة ثلاثين، فقلت: أوما يكفيك رؤية أمير المؤمنين والناس؟ قال: لا. هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ابنُ عباس أن لا يفطر، ويقتدي بأهل المدينة " (4). هكذا وجدته في بعض التصانيف، فهذا ما بلغنا في ذلك. والمذهب نقلٌ.
وقال شيخي أبو محمد: من رأى هلال شوال، وأصبح معيّداً، وجرت به السفينة، فانتهى إلى بلدة على حدّ البعد، وما كانوا رأَوْا الهلالَ، وصادفهم صائمين، يلزمه أن يمسك عن المفطرات، إذا أثبتنا لكل بقعة حكمَها، وهذا فيه نظر
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: يحتمل أن يتطرق.
(3) كريب: تصغير كرب.
(4) حديث كريب رواه مسلم وأبو داود والترمذي (مسلم: الصيام، باب اختلاف أهل الآفاق في الرؤية، ح2111، أبو داود: الصيام، باب إذا رؤي الهلال في بلد قبل الآخرين بليلة، ح 2332، الترمذي: الصوم، باب ما جاء لكل أهل بلد رؤيتهم، ح 693).

(4/18)


عندي؛ فإنه ليس فيه أثر، واليوم الواحد يبعد أن يتبعض حكمه. وقد عاين الهلالَ في ليلته في البقعة الأولى.
فصل
2281 - إذا رأى الناسُ الهلالَ نهاراً، يوم الثلاثين من شعبان، فهو عندنا لليلة المستقبلة، ولا حكم للهلال في ذلك النهار، ولا فرق بين أن يُرى قبل الزوال أو بعده، خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه (1).
2282 - ومما يتعلق برؤية الهلال أن من رآه وحده، فشهد ورُدّت شهادته، لزمه أن يصوم من غده بناء على مشاهدته، ولو (2) أفطر بالوقاع، لزمته الكفارة العظمى، خلافاً لأبي حنيفة (3).
ولو رأى هلال شوال وحده، فردت شهادته، أفطر سراً؛ حتى لا تسوء الظنون به.
فصل
قال: " ومن أصبح جنباً من جماع، أو احتلامٍ ... إلى آخره " (4).
2282/م- من أصبح وعليه الغسل عن جنابة تقدم سببُها على الفجر، اغتسل، ولا أثر لتأخر الغسل في صومه، وكذلك إذا طهرت المرأة عن الحيض، فنوت الصوم، وأصبحت، واغتسلت، صح صومها. روت عائشةُ: " أن رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) الذي رأيناه عند الأحناف أن المخالف هنا هو أبو يوسف، وليس أبا حنيفة. وقد أورد صاحب مختصر خلافيات البيهقي المسألة، ونص على أن الخلاف مع أبي يوسف، كما رأيناه في مراجع الحنفية (ر. مختصر الطحاوي: 56، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 7 مسألة 485، البدائع: 2/ 82، مختصر خلافيات البيهقي: 2/ 44).
(2) في (ط): فلو.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 9 مسألة 487، رؤوس المسائل: 234 مسألة 130، المبسوط: 3/ 64، بدائع الصنائع: 2/ 80.
(4) ر. المختصر: 2/ 4.

(4/19)


وسلم كان يصبح جنباً من جماع أهله، ثم يتم الصومَ " (1) والمعنى أن الصوم لا يشترط فيه الطهر. ولو فرض احتلامٌ في أثناء اليوم، لم يُفسد الصومَ، وقد روى أبو هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من أصبح جنباً، أفطر "، فلما روت عائشةُ الحديثَ قال أبو هريرة: " سمعته من الفضل (2) بن العباس " (3)، قال العلماء: الوجه حمل ما رواه على أن الحكم كذلك كان، ثم نسخ (4)، واستقر الأمر على ما روته عائشة.
فصل
قال الشافعي: "وإن كان يرى الفجر لم يجب، وقد وجب ... إلى آخره" (5).
2283 - من أقدم على مفطرٍ في آخر النهار؛ ظاناً أن الشمس قد غربت، ثم تبين أنها لم تغرب، لزم القضاء، نص عليه الشافعي.
والسبب فيه أنه ظن انقضاء اليوم، ثم تحقق خلافُ ظنه، واليقين مقدم على الظن، ونقل المزني عن الشافعي مثلَ ذلك إذا فرض الغلط في أول النهار، فأكل ظاناً أنه في بقيةٍ من الليل، ثم استبان أنه صادف أكلُه النهارَ، قال: يلزمه القضاء.
واختلف أئمتنا في المسألة: منهم من قال: هذا الذي ذكره غلطٌ على الشافعي.
__________
(1) حديث عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً ... " متفق عليه (البخاري: الصوم، باب الصائم يصبح جنباً، ح 1925، 1926، ومسلم: الصيام، باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، ح 1109.
(2) في الأصل: أم الفضل بنت العباس. والتصويب من البخاري ومسلم.
(3) حديث أبي هريرة متفق عليه، وفيه قصة رجوعه عنه، لما بلغه حديث عائشة، إذ قال: " سمعته من الفضل بن العباس، ولم أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ". وهو عند البخاري ومسلم في نفس حديث عائشة السابق.
(4) قال ابن المنذر: أحسن ما سمعت في هذا الحديث أنه منسوخ. (ر. التلخيص: 2/ 388).
(5) ر. المختصر: 2/ 4.

(4/20)


ومذهبُه أن الغلط إذا فرض في أول النهار، لم يُفسد الصومَ، ولا قضاء، بخلاف ما لو جرى ذلك في آخر النهار. والفارق أنه إذا أكل في آخر النهار، فالأمر مبنيٌّ على بقاء النهار، فلزم الفطر لذلك، ولم يعذر المخطىء، والأمر في أول النهار مبني على بقاء الليل، فعُذِر المخطىء.
وذهب داود (1) إلى أنه (2) في آخر النهار معذورٌ أيضاً.
2284 - وهذا أوان التنبه لحقيقةٍ وهي أن من نسي الصومَ، فأكل، لم يفطر، وسنعقد في ذلك فصلاً، فالأكل في آخر النهار في معنى أكل الناسي، من حيث إنه جرى خطأً، ولا إثم على صاحبه، ولكنه يفارق الناسي من جهة أن الصوم مذكورٌ [للآكل] (3).
فإن قيل: هلا خرج ذلك على قولين في خطأ القِبلة؟ قلنا: المخطئ آخراً لا يكاد يصادف أمارةً ظاهرةً في هجوم الليل، ثم استصحاب النهار في معارضة ما يعنّ له، وكان مع ذلك متمكناً من المكث إلى درك (4) اليقين، فاقتضى اجتماع ما ذكرناه -من ذكر الصوم، وضعف الفطر، ووقوعِه على معارضة استصحاب النهار، والقدرة على دَرك اليقين- الفرقَ (5) بين المخطئ في آخر النهار والناسي.
فأما إذا جرى ذلك في أول النهار، فالمسألة محتملة، وليس ما ذكره المزني بعيداً، ولكنها تتميز عن الأخرى بالاستصحاب، فقد نقول: الاجتهاد أقوى في الأول من حيث لا يناقضه الاستصحاب.
هذا حقيقة القول.
2285 - وتمام البيان في الفصل أن الفطر بالاجتهاد في آخر النهار جائزٌ، وإن كان المصير إلى درك اليقين ممكناً، ويشهد له ما روي: " أن عمر أفطر يوماً، وطائفةٌ
__________
(1) في (ط): أبو داود، وهو خطأ. والمراد داود الظاهري.
(2) في (ط): أنه المخطىء.
(3) في الأصل: الأكل.
(4) درك بسكون الراء وفتحها: اسم مصدر من الإدراك. (المعجم).
(5) مفعول اقتضى.

(4/21)


معه، فناداه صاحبُ المواقيت: بأن الشمس لم تغب، فقال رضي الله عنه: بعثناك داعياً، وما بعثناك راعياً " (1). وهذا دليلٌ أولاً على أنه لا يجب التوقفُ في الفطر إلى درك اليقين.
وفي الأثر إشكالٌ، من جهة أن ظاهرَه مشعرٌ بالإنكار على ذلك المخبر، وما نرى الأمرَ كذلك، بل كان حقاً عليه أن يخبر، فلا محمل لكلام عمر إلا شيئان: أحدهما - النهي عن أصل المراعاة، وهذا فيه نظر أيضاً؛ فإنه ليس يتجه منعٌ عن هذا، فالوجه حمل ما كان منه على (2) بادرة اقتضتها قوةٌ غضبية (3).
وكان شيخي يحكي عن شيخه أبي إسحاق الإسفرائيني النهيَ عن الاجتهادِ والاعتمادِ عليه في هذا، وفي وقت الصلاة، إذا أمكن الوصولُ إلى درك اليقين.
ولو أفطر الإنسان في آخر النهار مجتهداً، فعليه القضاء، وإن لم يَبِن الخطأ على رأي الأستاذ (4). وعند غيره لا قضاء إذا لم يتحقق الخطأ. ولو أفطر في آخر النهار، من غير اجتهاد، ولا تحقق، ثم لم يتبين [أنه] (5) كان في نهار أو ليل، فالذي قطع به الأصحاب أنه يلزمه القضاء، فإن وجوب الصوم واستصحاب النهار تجرَّدَا، ولم يعارضهما تعلقٌ باجتهاد، ولا [يقين] (6). ولو فُرض في أول النهار اجتهادٌ، ولم يتبين الخطأ، فالوجه القطع بأن لا قضاء [ولو فرض أكلٌ من غير اجتهاد، ولم يتبين أمرٌ، فالوجه القطع بأن لا قضاء] (7) أيضاً اكتفاء باستصحاب الحال.
__________
(1) أثر عمر رضي الله عنه رواه البيهقي -بلفظ إمام الحرمين-: 4/ 217، وبلفظ آخر رواه الشافعي في الأم: 2/ 96 (ر. التلخيص: 2/ 403).
(2) هذا هو الشيء الثاني لمحملي كلام عمر.
(3) وفي هامش الأصل ما نصه: قيل: يجوز أن يقال: إن الإنكار كان في موضعه؛ فإن عمر أفطر
بالاجتهاد، وصاحب المواقيت أخبر عن اجتهاد، لا عن مشاهدة، وليس للمجتهد الإنكار
على المجتهد. ا. هـ.
(4) الأستاذ: أي أبو إسحاق الإسفراييني فهذا لقبه في لسان الإمام.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: تعين.
(7) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(4/22)


فهذا منتهى الغرض في الفصل.
2286 - وقد قال الأئمة: لو شك الناس يوم الجمعة في خروج الوقت، لم يبتدوا عقدَ الجمعة. قال الصيدلاني: السبب فيه أنهم إذا كانوا كذلك، فسيخرج (1) الوقت وهم في أثناء [الصلاة] (2) غالباً، فلو افتتحوا الصلاةَ، ثم طرأ ذلك في الأثناء، ولم يقطعوا بخروج الوقت، قال: نصَّ الشافعيُّ على صحة الجمعة، مع التردد. وهذا غريب.
وقد ذكر صاحب التلخيص في مسائله التي استثناها في ترك اليقين بالشك هذه المسألة، والوجه عندي: أنا إن قلنا: الجمعة صلاةٌ على حيالها، فيتجه ما ذكره الصيدلاني، وإن جعلناها ظهراً مقصورة، فالأصل الظهر، فمهما طرأ شك، لم تصح الجمعة؛ رجوعاً إلى الأصل.
فصل
قال: " إذا أصبح الرجلُ وفي فيه طعامٌ ... إلى آخره " (3).
2287 - من طلع الفجر عليه وفي فيه طعام، فلفظه، فهو صائم إن كان بيّت النية، ولو أصبح كذلك مخالطاً أهله، نُظر، فإن نزع كما (4) بدا الفجر، وطلع، فصومه صحيح عند الشافعي.
وذهب المزني وزفر إلى فساد الصوم، ووجه قولهما أن النهار صادفه، وهو مخالط أهله، والنزع يقع لا محالة مسبوقاً بأول النهار.
ووجه قول الشافعي أنه لما طلع الفجر قَرَن بأوله النزعَ، وهو تركٌ، وفساد الصوم معلق بالجماع، أو إدامته، فأما التركُ، فلا يقتضي ذلك.
__________
(1) في (ط) فيخرج.
(2) بياض في الأصل.
(3) ر. المختصر: 2/ 4.
(4) كما: أي عندما.

(4/23)


وهذا يتعلق بمسألة في الأصول، لا ينتظم ذكرها هاهنا.
2288 - ولو طلع الفجرُ فاستدام، ولم ينزع، فلا شك في فساد الصوم، وأوجب الشافعيُّ الكفارة.
واختلف الأئمةُ في أنا نحكم بانعقاد الصوم، ثم نحكم بعده بالإفساد، أم نحكم بأن الصوم لم ينعقد.
فالذي ذهب إليه معظم الأئمة في المذهب أن الصوم لم ينعقد، وسبب وجوب الكفارة منعُ عقد الصوم بالجماع، والمنع في معنى القطع.
وذهب شرذمة إلى أنا نحكم بالانعقاد، ثم نقضي بالفساد. والذي تخيله هؤلاء أنه لو نزع، لانعقد صومه، فنفرض الانعقاد في مثل زمان ابتداء النزع، ثم نحكم بالفساد. وهذا خيالٌ؛ فإن النزع، لم ينافِ الصومَ، من جهة قصد الترك، فإذا لم يكن قصدٌ في الترك، وجملة الأحوال جاريةٌ على قصد إيقاع الوقاع وإدامته، فتقديرُ موجَب قصد الترك، مع عدمه، محالٌ.
ولو خالط الرجل أهله، ثم لبّى، وأحرم، وقرن تلبيته بالنزع، كما سبق تصويره في الصوم، ففي انعقاد الحج على الصحة وجهان: أحدهما - الصحة، قياساً على الصوم. والثاني - لا ينعقد الحج صحيحاً؛ من جهة أنه كان قادراً على أن ينكف عن التمام، ثم يبتدئ الإحرام، فلا يثبت له التخفيف المنوط بقصد الترك، وليس كذلك الصائم؛ فإنه في ابتداء مخالطته معذور، ولما ابتدأ الانكفافَ، كان معذوراً في انكفافه، مأموراً به، فعُذر، وإن كان على صورة المخالطين إلى تمام النزع.
وكل ما ذكرناه مفروضٌ فيه إذا جامع، وكان يُطالع الفجرَ، فجرى الأمرُ على بصيرةٍ منه، نزعاً وإدامة.
2289 - ثم وراء ذلك نظرٌ [للفطن] (1)، فإن أول الفجر ما أراه مدركاً بالحس، وإذا لاح للمراقب، فالطلوع الحقيقي متقدِّمٌ عليه.
__________
(1) في الأصل: الفطن.

(4/24)


وكان شيخي يذكر في مجالس الإفادة مسلكين في ذلك: أحدهما - أن هذه المسألة موضوعة على التقدير، كدأب الفقهاء في أمثالها، وإلا فلو اطلع على الصبح، والعادات على اطرادها، فلا ينفع النزعُ؛ فإن الصبح سابق على حالته. هذا مسلك.
والثاني - أنا إنما نتعبد بما نطَّلِع عليه، ولا معنى [للصبح] (1) إلا ظهورُ ضوءٍ [للناظر] (2) المعتدل في حاله، [و] (3) الذي يقدر وراء ذلك لا حكم له. وهذا بمثابة علمنا [أن] (4) [الفيء] (5) إذا ظهر للحس؛ فالزوال سابق عليه، ثم لا حكم له. وقد ذكرنا في ذلك كلاماً جامعاً في مواقيت الصلوات.
2290 - ولو خالط أهله، جاهلاً بحقيقة الحال، ثم تبين له أن الصبح كان طلع، فهذا هو الذي تقدم ذكره، في تصوير الأكل على ظن أنه في بقية الليل، ثم يتحقق وقوعه في الصبح، ففي الفطر الخلافُ المقدّم. ثم إذا لم يحكم بالفطر، فلا كلام، وإذا حكمنا بالفطر، ففي الكفارة كلامٌ، سأذكره في فصل عند ذكر جماع الناسي.
فصل
قال: " وإن كان بين أسنانه ما يجري به الريق ... إلى آخره " (6).
2291 - هذا الفصل يشتمل على أطرافِ الكلام في وصول واصلٍ إلى الجوف، مع سقوط الاختيار.
فنقول: إذا وصل إلى داخل حلق الصائم غبارُ الطريق، أو غربلةُ الدقيق، أو طارت ذبابةٌ إلى حلقه، فلا فطر في هذه المواضع وفاقاً، مع ذكر الصوم، وإن كان
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: تداخلت كلمتان، وكأن العبارة: ضوء النهار للناظر المعتدل.
(3) في الأصل: فالذي.
(4) الأصل: بأن.
(5) الأصل: الفجر.
(6) ر. المختصر: 1/ 4.

(4/25)


من الممكن التحرزُ عن اطّراق الطرق، وعن [القرب من] (1) الموضع الذي يُغربل الدقيق فيه، ولو أطبق الصائم شفتيه، لأَمِن وصولَ الذباب إلى حلقه.
والضابط للمذهب في هذا الفن أن الشرع لم يكلف الصائمَ الامتناعَ من أفعالٍ في العادة يغلب مسيسُ الحاجة إليها، إذا كان الغالب أنه لا يصل الواصل بسببه إلى الجوف. وما ذكرناه من هذا القبيل، فإنّ (2) وصول واصل على ندور، وليس للصائم فيه قصد، وإنما قصدُه في السبب العام الذي يغلب عدمُ الوصول معه، فليُعتقد
أن هذا محطوطٌ وفاقاً.
ولو تمضمض الصائم، فوصل شيء من الماء إلى جوفه، [ففيه] (3) قولان، سيأتي شرحُهما. وهذا يتميز عما عددناه في محل الوفاق؛ فإن فتح الفم لا يُعدّ مبتدأَ سبب على الاتصال إلى تمام الوصول، والمضمضة سببٌ متواصل، وإن كان يغلب أنه لا يصل.
2292 - فإذاً يتخلص ما نحاوله بذكر ثلاث مراتب: إحداها - أن يغلب عدمُ الوصول، ولا (4) يعد سببُ ما يتفق منه من الأسباب المتواصلة في الإيصال، هذه مرتبة الاتفاق (5) في نفي الفطر.
المرتبة الثانية - أن يكون السبب بحيث لا يغلب منه الوصول، وهو الاقتصاد في المضمضة من غير مبالغة، هذه [مرتبة] (6) القولين. والمرتبة الثالثة - التسبب إلى سبب يغلب منه وصول الواصل إلى الجوف، مع وقوع الوصول، من غير قصدٍ إلى عينه، كالمبالغة في المضمضة. وإذا اتفق الوصول مرتباً على مثل هذا السبب، فالأصح حصول الفطر، وأبعد بعضُ أصحابنا، فخرّجه على قولين؛ من حيث لم يكن
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) عبارة (ط): فن وقع وصول واصل ...
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: فلا.
(5) في (ط): " الوفاق ".
(6) الأصل: رتبة.

(4/26)


الوصول مقصوداً في عينه، وهذا بعيد.
فأما ما يوصل الشيء إلى الجوف لا محالة، فهو مفطر، وإن لم يوجد قصدٌ إلى غير الوصول كفتح الفم في الماء وما في معناه.
2293 - ثم ذكر الشافعي أنه لو بقي شيء في خلَل الأسنان، فجرى به الريق من حيث لم يشعر الصائم، وهذا يخرج على التفصيل المتقدّم.
فإن أكل الصائم، ولم يتعهد تنقيةَ الأسنان، [وكان الغالب] (1) في مثله الوصولُ، فإذا اتفق، فهو ملتحق بقسم المبالغة في المضمضة. وإن جرى على الاعتياد في تنقية الأسنان، فبقيت بقيةٌ، فهذا يلتحق بغبار الطريق، ولا نكلفه مجاوزةَ الاقتصاد والاعتيادِ في التنقية، كما لا نكلفه تطبيق الفم حذاراً من الغبار والذباب، ولا نفرق بين قدر السمسمة والزائد عليها.
وإن صور مصور قدراً صالحاً، قيل له: اتّئد (2) في التصوير؛ فإن الإفراط فيه يوقع في قسم التفريط في ترك التنقية.
2294 - ولم يختلف المذهب في أن من نسيَ صومه وأكل، لم يُفطر، سواء استقل، أو استكثر، وسواء وُجد ذلك مرة واحدةً، أو تكرر مراراً، وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من أكل ناسياً، لم يفطر " (3) وروي في مأثور الأخبار أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه أكل ناسياً، فلم يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بفطره، فعاد مرة أخرى، أو مرتين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يحكم بفطره. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنك بعيد العهد بالصوم " (4)
__________
(1) في الأصل: وكذلك الغالب.
(2) في (ط): ابتدىء.
(3) حديث أبي هريرة متفق عليه بلفظ: " إذا نسي فأكل وشرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 20 ح 710 أما باللفظ الذي ذكره الإمام فقريب منه ما رواه الترمذي: الصوم، باب ما جاء في الصائم يأكل أو يشرب ناسياً، ح 721، والدارقطني: 2/ 180).
(4) حديث " إنك بعيد العهد بالصوم " لم نصل إليه مرفوعاً، ولا بهذا اللفظ، وإنما وجدناه=

(4/27)


2295 - ولو أُوجر (1) الصائم وهو مضبوط، لم يفطر، وكذلك إذا ضبطت (2) امرأة صائمة، ووطئت، ولو أكره الرجل بالسيف حتى أكل بنفسه، ففي المسألة قولان: أحدهما - لا يفطر، لسقوط حكم اختياره، ولكونه مأموراً شرعاً بالأكل، فليس أكله منهياً عنه، فشابه أكلَ الناسي. والثاني - يفطر، لأنه أتى بما هو ضد الصوم، مع ذكره، وليس فيه خبر من جهة الشارع.
2296 - ومن لطيف الكلام في المذهب: أن الناسي، والمكره، إذا صدر منهما صورةُ الحِنث في يمينهما، ففي تحنيثهما قولان، والناسي مقطوع به في الصوم، وفي المكره القولان، والسبب فيه أن الحالف على الامتناع من الشيء ملتزمٌ للتحفظ عنه، مُتخذ (3) يمينَه سبباً مؤكِّداً للوفاء بالتحفظ، فإذا وقع المحلوفُ عليه، جرى القولان، [و] (4) لا يتحقق في الصوم إلا اتباع ذكر العبادة فإن (5) ذاكرها موردٌ فعلَه طوع أو كرهاً على عبادته، والصوم المنسيّ مُزاحٌ (6) عن ذكر الناسي، وأكلُه في حكم الواقع وراءها (7)، على أن الاعتماد في أكل الناسي على الخبر، ولا حاجة إلى هذا [التكلف] (8) بعده.
__________
=موقوفاً على أبي هريرة عند عبد الرزاق في مصنفه: " أن إنساناً جاء أبا هريرة قال: أصبحت صائماً فنسيت فطعمت وشربت، فقال: لا بأس، الله أطعمك وسقاك، قال: ثم دخلت على إنسان آخر، فنسيتُ، فطعمتُ وشربت، قال: لا بأس، الله أطعمك وسقاك، قال: ثم دخلت على إنسان آخر، فنسيت وطعمت وشربت، قال أبو هريرة: أنت إنسان لم تعاود الصيام " (ر. مصنف عبد الرزاق: 4/ 174، ح 7378).
(1) أوجرتُ المريض صببت الدواء في حلقه، من باب وعد. (المصباح).
(2) ضبطه: حفظه حفظاً شديداً، ومنه ضبط البلاد. والمراد هنا قيّدَه وأعجزه عن الحركة، ومنعه منها. (المعجم والمصباح).
(3) في (ط) يتخذ.
(4) في الأصل: فلا.
(5) في (ط) بأن.
(6) (ط) منزاح.
(7) كذا بعود الضمير مؤنثاً على معنى العبادة.
(8) في الأصل: التكليف.

(4/28)


ولو أغمي على الصائم، فأوجر شيئاً، لا على قصد المعالجة، لم يُفطر، ولو أوجر على قصد المعالجة، ففي حصول الفطر قولان، وإن لم يشعر، وإنما (1) روعي فيه مصلحته، فلحق بما يرعاه من نفسه.
والمغمى عليه المُحرم إذا عولج بدواء فيه طيبٌ خارجٌ على هذا الخلاف، على ما سيأتي مشروحاً في موضعه -إن شاء الله تعالى-
فصل
قال: " فإن تقيأ عامداً ... إلى آخره " (2).
2297 - رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قاء أفطر، ومن ذرعه القيء، لم يفطر " (3) وأراد بقوله صلى الله عليه وسلم: " من قاء " المتعمِّدَ، الذي يستقيء، وعن ابن عمر نفسه: "من قاء، فلا قضاء عليه، ومن استقاء، فعليه القضاء " (4)، وأراد بقوله: (من قاء)، من ذرعه القيء، وقال أبو الدرداء: " قاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأفطر ". أراد استقاء، قال ثوبان: " صدق، وأنا صببت له الوضوء " (5).
__________
(1) في الأصل: فإنما.
(2) ر. المختصر: 2/ 5.
(3) حديث: من قاء أفطر، رواه أصحاب السنن، والدارمي، والدارقطني، وابن حبان، والبيهقي، والحاكم، كلهم من حديث أبي هريرة مرفوعاً بألفاظ متقاربة وأقربها للفظ الإمام ما عند الحاكم في المستدرك- أما الموقوف على ابن عمر، فسيأتي بعد هذا. (أبو داود: الصوم، باب الصائم يستقيء عامداً، ح 2380، الترمذي: الصوم باب ما جاء في الصائم يذرعه القيء، ح 720، النسائي في الكبرى: 2/ 215 ح 3130، ابن ماجة: الصيام، باب ما جاء في الصائم يقيء، ح 1676، الدارمي: ح 1729، الدارقطني: 2/ 184، ابن حبان: ح 3518، الحاكم: 1/ 426، البيهقي: 4/ 219).
(4) حديث ابن عمر -موقوفاً عليه- رواه مالك في الموطأ: (1/ 304)، والشافعي في الأم: (2/ 100)، والبيهقي في الكبرى: (4/ 219).
(5) حديث أبي الدرداء، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم (مسند أحمد: 5/ 195، أبو داود: الصوم، باب الصائم يستقيء عامداً، ح 2381،=

(4/29)


فمن (1) استقاء عامداً، لم يخلُ من ثلاثة أحوال، إما أن يزدرد قصداً شيئاً مما ردَّه، فلا شك في الإفطار، إذا كان كذلك.
2298 - والحالة الثانية أن يستقيء قصداً، ثم يتحفظ، ويعلم أنه لم يرجع شيء إلى جوفه، فإن كان كذلك، ففي الإفطار وجهان: أحدهما - لا يفطر؛ فإن الفطر في هذا القبيل مما يدخل، لا مما يخرج، وإخراج شيء من هذا المسلك يضاهي إخراجَه من السبيلين. والوجه الثاني - أنه يفطر لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " من استقاء عامداً أفطر "، ولم يفصّل بين أن يرجع شيء أو لا يرجع.
والحالة الثالثة - أن يستقيء ويتحفظ جهده، فيغلبه الأمر ويرجع (2) شيء إلى حلقه. فإن قضينا بأنه يُفطر إذا استقاء، ولم يرجع شيء، فلا شك أنا نحكم بالإفطار هاهنا. وإن حكمنا بأنه لا يفطر إذا استقاء، ولم يرجع شيء، فهاهنا إذا رجع شيء من غير قصد في الازدراد، خرج المذهب على ما أشرنا إليه في وصول الواصل عند المبالغة.
فإن قيل: الغالب أنه لا يرجع شيء إذا استقاء [المرء] (3) فالرجوع نادر. قلنا: ليس كذلك، فإنه يمتزج منه بالريق ما يمتزج، ثم يتفق الازدراد، ولعل سبب النهي عن الاستقاء هذا. فالحكم بالإفطار عند بعض الأصحاب محمول على أن الاستقاء لا يخلو من رجوع شيء.
فإن قيل: الماء المستعمل بالمضمضة يمتزج بالريق أيضاًً، فهلا عددتم نفسَ المضمضة من غير مبالغة من الأسباب التي توصل الشيء إلى الجوف؟ قلنا: الكلام على هذا من وجهين: أحدهما - أن الريق في طباعه لا يمازج الماء، ويمتاز عنه بغلظ ولزوجهَ، والذي يمج الماء من فيه لا يجد للماء أثراً إلا البرد، والذي تردّه الطبيعة
__________
=النسائي في الكبرى: ح 3123، الدارقطني: 2/ 181، البيهقي: 4/ 220، الحاكم: 1/ 426، التلخيص: 2/ 364 ح 885).
(1) (ط) ومن.
(2) في (ط): فغلبه الأمر ورجع.
(3) ساقطة من الأصل.

(4/30)


[يمازج] (1) الريق، للمجانسة في الغلظ واللزوجة، وشتان ما بين وارد على الفم يُمَجّ، وبين خارج من الحلق يتحفظ عن رجوع ما يقل منه. وإذا قلنا: من استقاء عامداً، أفطر، وإن لم يرجع شيء إلى باطنه، فلو اقتلع نخامة، ولفظها، ففيه وجهان: أحدهما - أنه يفطر، كما لو استقاء. والثاني - لا يفطر، فإن الحكم بالإفطار بالاستقاءة مأخوذ من الخبر، فلا يتعداه.
فصل
قال الشافعي: " فإن أصبح لا يرى أن يومه من رمضان ... الفصل " (2).
2299 - مضمون الفصل الكلامُ في صوم يوم الشك. وفي النهي عنه بابٌ في آخر الكتاب (3).
ولكنا نذكر الآن حظَّ الفقه منه، فنقول:
الوجه البداية بتصوير يوم الشك، فلو طبق الغيم موضع الهلال، ليلةَ الثلاثين من شعبان، فنتبَيَّن أن الهلال لم يُر، وأن الغد من شعبان. فلا (4) أثر لعلمنا، أو ظننا أن الهلال كان يُرى لولا السحاب، لكونه على بُعد من الفرصة (5)؛ فإن الذي تُعبّدنا به الاستكمالُ في هذه الحالة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فإن غم عليكم، فأكملوا العدة ثلاثين ".
قال الأئمة: إذا كانت السماء مُصْحيةً، ولم يكن في موضع الهلال مانع، وتراءى الناس الهلالَ، فلم ير أحدٌ، فالغد من شعبان، وليس يومَ الشك. وهذا أقرب إلى أن الغدَ من شعبان من الصورة الأولى.
__________
(1) غير مقروءة بالأصل.
(2) ر. المختصر: 2/ 6.
(3) المراد كتاب الصوم.
(4) (ط): ولا.
(5) كذا، والفرصة معناها النَّوبة، فهل هو المراد هنا؟ وكلمة (من) مزيدة من (ط) فعبارة الأصل: " على بعد الفرصة ".

(4/31)


ولو كانت الرؤية ممكنةً، وقد تحدث الناس بها، [ولم يُسمع] (1) من يثبت الهلال بشهادته أني رأيت الهلال، أو شهد عدل واحدٌ بالرؤية، وقلنا: لا يثبت الهلال بالواحد، أو لهج برؤية الهلال صِبْيةٌ، أو فَسقة، وغلب على الظن صدقُهم، فهذا يوم شك.
وإن كان في محل الهلال قِطعُ سحاب، فكان من الممكن أن يُرى، وأن يَخْفى، ولكن لم يتحدث أحد بالرؤية، فقد قال شيخي: اليومُ يومُ شك، ولم يشترط في تصوير الشك التحدثَ بالرؤية. وقال غيره: شرط تصوير الشك التحدثُ بالرؤية.
ولا يبعد عندي أن يُفصَّل الأمرُ في ذلك، فيقال: إن كانت الواقعة في بلدة يشتغل أهلها بطلب الهلال، فإذا لم يتحدثوا به، فالوجه أن يكون الغدُ يوم شك. وفيه احتمالٌ على حال.
وإن كان الإنسان في سفر وجرى ما صوره شيخي، ولم يبعد أن يكون رأى أهلُ القرى الهلال، فيحتمل أن يكون الغدُ يومَ شك.
هذا في التصوير، والغرض وراء ذلك.
2300 - فإذا نوى [الرجل في الليلة [التي] (2) لم يثبت فيها رؤية الهلال أن يصوم غداً، فهذا يتصور] (3) على أوجه: فإن لم يكن معه مستند يثير ظناً، [وردّدَ] (4) النية مع ذلك، وقال: إن كان الغدُ من رمضان، نويت صومَه، فإذا اتفق كونُه من رمضان، وشهدت عليه البينة، فلا يقع صومُه عن رمضان؛ [لأنه لم] (5) يجزم النية، ولم تستند نيتُه إلى أصلٍ، فلم يحصل له العبادة، مع حقيقة التردد في القصد.
ولو جزم النية وعقدها، ونوى أن يصوم غداً من رمضان، ولم تستند نيتُه
__________
(1) في الأصل: وسمع.
(2) كلمة (التي) زيادة من المحقق، رعاية للسياق؛ حيث سقطت من (ط) والعبارة كلها ساقطة من الأصل، كما يظهر من المعقفين.
(3) ما بين المعقفين زيادة من (ط): حيث سقط من الأصل.
(4) في الأصل: وردّدت.
(5) الأصل: فإنه لا.

(4/32)


[المجزومة] (1) إلى أصلٍ يثير ظنّاً، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين في المسألة: أحدهما - أنه إذا وافق صومُه رمضانَ، صح واعتدَّ به، لجزمه النيةَ.
والثاني - لا يعتد به، كما لو ردّد النية.
والتحقيق فيه أن الجزم غير ممكن مع التردّد، فإن صوّر مصورٌ جزماً، فذاك [إجراءُ] (2) حديث نفس، وليست النية حديثاً، وإنما هي قصدٌ واقع، ولا يتصور تجرّده مع التردد في المقصود.
ولو ثبت عنده أصلٌ يثير غلبة الظن، كشهادة عدلٍ [أو] (3) صِبيةٍ ذوي رشد، فإذا نوى والحالة هذه أن يصوم غداً إن كان من رمضان، وإلا، فهو تطوع، فظاهر النص أنه إذا بان ذلك اليوم من الشهر، لم (4) يعتد بصومه، لمكان التردد. وذكر طوائف من الأصحاب وجهاً آخر: أن الصوم يصح؛ لاستناده إلى أصل، وهذا لعمري موافقٌ لمذهب المزني.
ولو كان معه أصل، وجزم النية، ثم بان أن اليوم من الشهر، فقد كان شيخي يقطع بالاعتداد، ويقول: إن اجتمع التردد، وانتفاء ما يعتمد [فلا اعتداد، وإن اجتمع ما يعتمد] (5) مع جزم النية، اعتد بالصوم. وإن وجد الجزم، ولا مستند، أو جرى التردد مع ثبوت المستند (6) فوجهان.
وهذا وإن كان مهذباً، فالذي يقتضيه الفقه في ذلك أنه إن لم يكن أصلُ، لم يعتدّ بالصوم، ردَّدَ أو جزم. وإن كان أصلٌ، ففي الاعتداد بالصوم الخلاف، ردَّدَ، أو جزم؛ فإن الجزم غيرُ متصوّر، ومصوره يقيم حديث النفس قصداً، وليس الأمر كذلك.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) في الأصل: آخر.
(3) في الأصل: وصِبية.
(4) في (ط) ولم.
(5) ساقط من (ط).
(6) في (ط): مستند.

(4/33)


2301 - والمطلوب وراء ذلك كله، فنقول: إن نوى المكلف ليلة الثلاثين من رمضان، أن يصوم غداً إن كان من رمضان، وإن كان عيداً أفطر، فكان من رمضان، صحّ الصوم وفاقاً، نصَّ عليه الشافعي، وقطع به الأصحاب، وبنَوْا ما ذكروه على الاستصحاب. ولا متعلق من هذه الجهة في أول الشهر؛ فإن المستصحبَ شهر شعبان، فإن لم يكن مع [انتفاء] (1) الاستصحاب متعلَّق، فلا اعتداد بالصوم على قياس المذهب، خلافاً للمزني. وإن كانت علامةٌ، فهل تقوم مقام الاستصحاب؟ فعلى وجهين، والعلامات في مجال النظر ومسائل الاجتهاد مقدمةٌ على الاستصحاب، غير أنها ضعيفة في هذا المقام، حتى كأنها مفقودة.
فإن قيل: فشهادة العدل الواحد ظاهرةٌ في إثارة الظن، قلنا: ولكن لا متعلق فيها مع حكم الشرع بأنه لا يُعمل بها، والظنون في مسائل الاجتهاد [لها] (2) متعلقات معمول بها إجماعاً، كخبر الواحد، والقياس الفقيه (3)، ووجوه التشبيه، والظن في الاجتهاد لا يُغني بعينه (4)، ما لم يثبت قاطع في العمل به.
نعم المحبوس في المطامير (5) إذا التبس عليه شهرُ رمضان، يتحرى جهده، فإذا صام ووافق صومُه شهرَ رمضان، اعتُدّ به وفاقاً، للضرورة الداعية إلى ذلك، فوجب العمل بموجب التحرّي، لمكان الضرورة.
وليس على الإنسان في أول الشهر أن ينوي الصومَ، وإن ثبت مستندٌ. وقد ثبت في الشرع ظنُّ المحبوس معمولاً به لضرورته، فصار ظنه كالأقيسة في ازدحام الوقائع؛ فإنا نضطر إلى العمل، ولا متعلق غيرُ القياس.
2302 - ثم قال الأصحاب إذا سقطت العلامات، أو لم يثبت في الشرع [العمل] (6)
__________
(1) في الأصل: الانتفاء.
(2) في الأصل: بها.
(3) كذا. وهي صحيحة، ولا تحتاج إلى توجيه.
(4) في (ط): لا يُعنى لعينه.
(5) المطامير: طمرت الشيء: سترته، وبنى فلانٌ مطمورة: أي بنى بيتاً في الأرض، وصار علماً على السجن. (المصباح والمعجم).
(6) زيادة من المحقق.

(4/34)


بها، فالاستصحاب قانونٌ في الشريعة، كما ذكرناه في آخر الشهر، وله أمثلة نذكر ما يحضرنا منها:
فمن استيقن الحدث، وشك في الطهارة بعده، فتطهر على هذا التردد، ثم بان له أنه ما كان تطهر، صح وضوؤُه، بناء على استصحاب الحدث، ولو استيقن الطهرَ وشك في الحدث، فتطهر على التردد، فبان أنه كان محدثاً، لم يصح وضوؤُه؛ بناء على استصحاب الطهر.
وقياس مذهب المزني الصحة.
ومن أخرج زكاة ماله الغائب، وهو على التردد في بقائه، ثم بان بقاؤه أجزأه المخرَج. ومن أخرج زكاة مال أبيه على تقدير موته، ثم بان موتُه، كما قدّر، لم يعتد بما أخرجه بناءً على بقاء الأب. فهذا وجه ربط النية بالاستصحاب نفياً وإثباتاً.
قال الأصحاب: لو نوى أن يصوم غداً من شهر رمضان، أو تطوعاً، لم [تصح] (1) نيتُه من غير تنويعٍ، وتقدير حالٍ بدل حال، ففسدت النية. وليس كما إذا نوى أن يصوم غداً عن رمضان إن كان منه، أو تطوعاً إن لم يكن.
والعجب اشتغال المصنفين بأمثال هذه الترهات مع الذهول عن مقصود الكلام.
فصل
قال: " وإن وطئ امرأته، فأولج عامداً، فعليه القضاء والكفارة ... الفصل " (2).
2303 - من أفطر عامداً في نهار رمضان، بجماع تام، لا شبهة [فيه] (3)، التزم الكفارةَ العظمى، على ما سنصفها.
فنستقصي في صدر هذا الفصل ما يوجب الكفارة العظمى، ثم نصفها، وننظر ما يقتضيه الترتيب بعدهما.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ر. المختصر: 2/ 6.
(3) ساقطة من الأصل.

(4/35)


فموجِب الكفارة الجماعُ [التام] (1) وهو تغييب الحشفة في الفرج، والمذهب أن الكفارة تثبت بالإيلاج في أي فرج كان، فلو أتى امرأةًُ، أو تلوّط، أو أتى بهيمةً، التزم الكفارة.
وذهب بعضُ أصحابنا فيما ذكره بعض المصنفين، وصاحب التقريب إلى إتباع الكفارة الحدَّ، فكل وطء يتعلق الحد بجنسه، تتعلق الكفارة به، وكل وطءٍ اختلف القول في تعلق الحد به، كإتيان البهيمة، ففي وجوب الكفارة به ذلك الخلاف.
وهذا رديء مزيف، ولا خلاف في حصول الفطر بإيلاج الحشفة في أي فرج قُدّر.
ثم لا تجب الكفارة العظمى بجهةٍ من جهات الفطر خلا الوطءَ، وعلّق مالك وجوب الكفارة بكل فطرٍ يأثم المفطر به (2). ولأبي حنيفة تفصيل (3) متناقض، ليس من شرطنا ذكرُه.
2304 - وإذا بان المذهب في الجنس الموجب للكفارة، فالكلام بعد ذلك في الحال المعتبر، فالعامد الذي لا عذر به، هو الملتزم للكفارة، فأما من وطئ ناسياً للصوم، فظاهر ما نقله المزني أنه لا يفطر، كما لو أكل ناسياً.
وذهب بعض أصحابنا إلى تخريج جماع الناسي على قولين: أحدهما - أنه يتضمن الفطر، والثاني - لا يتضمنه. وأخذ هؤلاء القولين من اختلاف قول الشافعي في المحرم إذا جامع ناسياً.
وهذا غير مرضي؛ فإن محظورات الحج تنقسم إلى استمتاعٍ واستهلاكٍ، فالاستمتاع كالطيب ولُبس المخيط، يفصل فيه بين الناسي والعامد، على الأصح، والجماع متردد في نص الشافعي بين الاستمتاع والاستهلاك، ولا انقسام في محظورات
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 433 مسألهَ 644، تهذيب المسالك للفندلاوي: 2/ 319 مسألة 65.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 29 مسألة 512، البدائع: 2/ 97 وما بعدها، فتح القدير: 2/ 263 وما بعدها.

(4/36)


الصوم، فالوجه إجراؤهما على قضيةٍ واحدة في حكم النسيان. فإن حكمنا بأن المجامع ناسياً لا يفطر، فلا كلام. وإن حكمنا بأنه يُفطر، ففي وجوب الكفارة وجهان في بعض التصانيف.
فإذا أوجبنا الكفارة على الناسي حيث انتهى الترتيب إليه، توجه إيجاب الكفارة على من يخالط امرأته ظاناً أنه في بقية من الليل، ثم تبين له مصادفة الوقاع النهارَ، فالمذهب حصول الفطر ثمَّ.
والأصح أن الناسي لا يفطر بالوطء، ثم إذا ألزمنا الناسيَ الكفارةَ عند الحكم بإفطاره، فتلك الصورة بالكفارة أولى. وهذا لم أقله احتمالاً، بل ذهب إليه طوائف من أصحابنا، فيما عثرت عليه.
2305 - ومما يتعلق بهذا الفصل القولُ في أن المرأة إذا طاوعت، ومكنت، فلا شك أنها تُفطر، وفي وجوب الكفارة عليها ما نُبيّنه.
ظاهر النصوص للشافعي أن الزوج يختص بالتزام الكفارة، وقال أبو حنيفة: تلزمها الكفارة، كما تلزمه (1)، ولا تداخل، بل كل واحد يختص بالتزام الكفارة، وهذا قولٌ للشافعي، نص عليه في الإملاء، والقولان يوجّهان في الخلاف.
فإن أوجبنا على كل واحد منهما كفارة، من غير تداخل، ولا تحمّل، فلا كلام. وإن أوجبنا الكفارة عليه دونها، ففي تنزيل القول في ذلك مسلكان مأخوذان من نصوص الشافعي. وإن أوجبنا، فَلَنا قولان: أحدهما - أن الوجوب لا يلاقيها، وليس ما يصدر منها من موجبات الكفارة أصلاً.
والقول الثاني - أن الوجوب يلقاها، والزوج يتحمل عنها، ثم نقدِّر اجتماع كفارتين في حقه، ونقضي بالتداخل، قضاءنا [به] (2) في الحدود. وهذا بعيد عن القياس، وإن كان ظاهرَ المذهب. ومعتمد الشافعي حديثُ الأعرابي، وسنذكره
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 28 مسألة 511، رؤوس المسائل: 228 مسألة 124، المبسوط: 3/ 72، بدائع الصنائع: 2/ 98.
(2) ساقطة من الأصل.

(4/37)


لغرضٍ فقهي فيه، على أثر هذه الفصول.
2306 - ثم يتفرع على ما ذكرنا فروعٌ بها تتبين حقيقةُ القولين. فإن قلنا: لا يلقاها الوجوب قط، فلا إشكال، وإن أثبتنا ملاقاةَ الوجوب، وحكمنا بالتحمل، فلو زنى بامرأة، لزمتها الكفارة؛ إذ ليس بينهما ما يوجب التحمل عنها، ولو كان الواطىء مجنوناً زوجاً، فعليها الكفارة، فإن المجنون ليس من أهل التحمل، ولو كانت المرأة من أهل التكفير بالصوم، أمرناها بصوم الشهرين، فإن التحمل لا يتطرق إلى عبادات الأبدان، وإن كان الزوج من أهل الإعتاق، والمرأة من أهل الإطعام، ففي المسألة وجهان في بعض التصانيف: أحدهما - لا تحمل، ولا تداخل لاختلاف الجنس.
والثاني - يتحمل عنها، ثم يندرج الإطعام تحت العتق للاجتماع في المالية.
والسيد إذا وطئ أمته، فالملك يقتضي من التحمل ما تقتضيه الزوجية، ولكن كفارة الأمة بالصوم، فيمتنع التحمل من هذه الجهة.
فهذا مجموع ما أردناه في ذكر موجِب الكفارة.
2307 - وإذا حصل الإفطار بغير الوقاع، فلا شك أن الكفارةَ العظمى لا تجب عندنا، وهل نوجب مع القضاء مُدّاً على القاضي في الإفطار بالأكل وغيره؟ في المسألة وجهان: أصحهما - أنا لا نوجب؛ فإنه لا ثبت، ولا توقيف فيه، وليس معنا قياسٌ يقتضيه.
2308 - فأما الكلام في صفة الكفارة، فهي مرتبة: عتقٌ، وبعد العجز عنه صيامُ شهرين، فإذا فُرض العجز عنه، فإطعام ستين مسكيناً، وتفصيلها يأتي في كفارة الظهار.
2309 - وهل يجب القضاء مع الكفارة؟ محصول ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه:
أحدها - يجب قضاء الإفطار [الحاصل، فإن] (1) الكفارة لا تجبر فساد العبادة.
__________
(1) ساقط من الأصل. وعبارتها: يجب الإفطار، والكفارة لا .....

(4/38)


والثاني - لا يجب القضاء مع الكفارة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر الأعرابي بالقضاء، لما أمره بالكفارة.
والوجه الثالث - أن التكفير إن كان بالإعتاق أو الإطعام، وجب القضاء، وإن كان التكفير بالصيام، لم يجب القضاء والأصح وجوب القضاء (1). فإن قيل: أليس روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: " اقضيا يوماً مكانه "؟ (2) قلنا: هذا لم يصححه أهل الحديث.
__________
(1) الوجه المعتمد في المذهب هو وجوب القضاء كما اختار الإمام (ر. المجموع: 6/ 331) حيث قال النووي: " الأصح وجوب القضاء ".
هذا، وقد استدل النووي بقصة الأعرابي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه. وهي في الصحيحين بدون " صم يوماً " وهذا اللفظ عند أبي داود " قال: كُلْه أنت وأهلُ بيتك، وصم يوماً، واستغفر الله " قال النووي: وإسناد رواية أبي داود جيد إلا أن فيه رجلاً ضعفه، وقد روى له مسلم في صحيحه، ولم يضعف أبو داود هذه الرواية.
(2) سياقة إمام الحرمين لهذا الجزء من الحديث بهذه الصورة، ثم ردّه والحكم عليه بعدم الصحة، قد يشكل في السياق، حيث يوحي بأن المعترض يقول بوجوب القضاء، مستدلاً بالحديث، وإمام الحرمين لا يقول بالوجوب، ويردّ استدلاله.
ولكن عند التأمل ندرك أن المعترض الذي يستشهد بهذا الجزء من الحديث، لا يعترض على اختيار الوجه القائل بالوجوب، وجعله الأصح، وإنما يعترض على جعل المسألة على ثلاثة أوجه، فكأن إمام الحرمين يقول: لو صح هذا من الحديث، لما كان هناك أوجه، وإنما كان مبتوتاً بوجوب القضاء.
وقد تكرر كثيراً في هذا الكتاب قول الإمام: لو صح هذا الحديث، لما قال قائل بخلافه؛ فمذهب الإمام هو الحديث، واصطلاح الخراسانيين أنهم إذا قالوا: " مذهب أهل الحديث "، فهم يعنون مذهب الشافعي.
هذا، وزيادة " اقضيا يوماً مكانه " رواها أبو داوود، وابن ماجة، والدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة. ورواها أحمد في المسند من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورويت مرسلة عن سعيد بن المسيب، ونافع بن جبير، ومحمد بن كعب القُرظي.
(ر. أبو داود: الصوم، باب كفارة من أتى أهله في رمضان، ح 2393، ابن ماجة: الصيام، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوماً من رمضان، ح 1671، الدارقطني: 2/ 190 - 191، البيهقي 4/ 226، 227. انظر كلام الحافظ على الزيادة في التلخيص: 4/ 90 - 93).

(4/39)


ولم يختلف الأصحاب أن المرأة يلزمها القضاء، إذا لم بلزمها الكفارة. ولا نقول يتحمل الزوج؛ فإن الكفارة إذا كانت صوماً، لم يتحمل، فما الظن بالقضاء؟ وهذا لا شك فيه.
2310 - ولو جامع في يوم، فالتزم الكفارة، ثم جامع في يومٍ آخر، قبل التكفير، لزمه كفارة أخرى، ولا تداخل، خلافاً لأبي حنيفة (1).
2311 - والمنفرد برؤية الهلال إذا شهد، فردت شهادته، وألزمناه الصومَ، [فلو] (2) جامع، لزمته الكفارة خلافاً لأبي حنيفة (3).
فهذا نجاز القول في موجب الكفارة [وفي تفصيل الكفارة] (4) على قدر غرضنا.
2312 - ومما يتعلق بالفصل حديثُ الأعرابي والكلامُ عليه: روي: أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يضرب نحره، وينتف شعره، ويقول: هلكتُ وأهلكت يا رسول الله، فقال: ماذا صنعت؟ فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال صلى الله عليه وسلم: " أعتق رقبة ". فضرب يده على سالفته (5)، وقال: لا أملك رقبة غير هذه فقال: " صم شهرين " فقال: هل اُتيت إلاّ من الصوم، فقال: " أطعم ستين مسكيناً "، فقال: والله ما بين لابتيها أفقر مني، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَرَقٍ (6) من طعام يسع خمسةَ عشرَ صاعاً، وكال على قَدْره (7)، فقال
__________
(1) ر. الأصل: 2/ 177، المبسوط: 3/ 74، البدائع: 2/ 101، البحر الرائق: 2/ 298، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 35 مسألة 513، رؤوس المسائل: 232 مسألة 128.
(2) في الأصل: ولو.
(3) ر. الأصل: 2/ 199، مختصر الطحاوي: 55، المبسوط: 3/ 64، البدائع: 2/ 80، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 9 مسألة 487، رؤوس المسائل: 234 مسألة: 130.
(4) ساقط من الأصل.
(5) السالفة: جانب العنق.
(6) وعاءٌ يصنع من خوصِ النخيل المضفور، وهو المِكْتل، والزَّنبيل. وهو بفتح العين والراء.
(المصباح).
(7) (ط) وكان على قدر.

(4/40)


صلى الله عليه وسلم: " تصدق به "، فقال: على أهل بيتٍ أفقر من أهل بيتي؟ فاحتضن الأعرابي الطعامَ وولى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم " (1). وقد ربط الأئمة أحكاماً بهذه القصة، ونحن نذكرها مرسلة، ثم نتعلق [بالقصة] (2) عند مسيس الحاجة.
2313 - ذكر العراقيون ترتيباً جامعاً حسناً، قد مضى لنا أصله، ولكنا نُعيده لزوائدَ، قالوا: الحق المالي الذي يجب لله تعالى من غير سبب، إذا دخل وقتُ وجوبه، ولم يصادف قدرةً عليه، ولا استمكاناً، فلا يجب الحق، وزوال العجز بعده لا أثر له، وهذا كصدقة الفطر.
وما يجب بسببٍ ينقسم إلى ما يحل محل الأبدال، [وإلى ما لا يحل محله: فأما ما يحل محل الأبدال] (3)، فإذا تحقق سببه، وصادف عجزَ صاحب السبب، فيستقر في الذمة، إلى اتفاق اليسار والتمكن، وهو بدل الصيد؛ فإنه يجب بدلاً عن الصيد، والغالب عليه مَشَابِه [الغرم] (4).
وأما ما يجب بأسبابٍ، ولا يثبت بدلاً، ولا مشابهاً لبدل، كالكفارات جُمَع، سوى ما ذكرناه، فإذا صادف سببُه العجزَ عن البدل والمبدل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها لا تجب، وإن طرأ الاقتدار من بعدُ، قياساً على زكاة الفطر.
والثاني - أنها تثبت في الذمة، ثم الاختلاف في النظر إلى وقت الوجوب والأداء مشهور.
وذكر صاحب التقريب ما ذكروه، ولم يستثن جزاء الصيد، ولا ينبغي أن يعتقد في
__________
(1) حديث الأعرابي متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (البخاري: الصوم، باب إذا جامع في رمضان، ولم يكن له شيء فتُصدَّق عليه فليكفر، ح 1936، مسلم: الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان، على الصائم، ح 1111)، وهذا بدون زيادة " اقض يوماً مكانه " ففي هذه الزيادة مقال كما مرّ آنفاً.
(2) في الأصل: القضية.
(3) ساقط من الأصل.
(4) في الأصل: العزم.

(4/41)


جزاء الصيد خلاف، وتَرْكُ استثنائه من صاحب التقريب غفلة.
وذكر الشيخ في شرح التلخيص ما ذكره هؤلاء، وحكى عن صاحب التلخيص أنه استثنى كفارة الظهار، وقال لا يستحل المظاهر الإقدامَ على الوطء، ما لم يكفر. قال الشيخ أبو علي كفارة الظهار خارجةٌ على الخلاف، ولا معنى لاستثنائها، ثم قصة الأعرابي تعضد إسقاط الكفارة.
2314 - [ومما] (1) تلقاه الأئمة من الحديث التردُّدُ في أن الغُلمة إذا أفرطت هل تكون عُذراً في ترك الصيام؟ أي صيام الكفارة، وسبب هذا -على بعده- قصةُ الأعرابي؛ حيث قال: وهل أُتيت إلاّ من الصوم؟ وترددوا أيضاًً في أن ملتزم الكفارة إذا اتصف بكثرة العيال، وقلة المال، فهل له أن يصرف الطعام إلى أهله؟ وسبب ذلك تلك القصة أيضاً.
2315 - والرأي عندنا إلحاق قصة الأعرابي برخصةٍ خص الشارع بها مُعَيَّناً، وكثيراًً ما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وهذا نحو قوله صلى الله عليه وسلم في قصة الأضاحي: " تَجْزِي عنك، ولا تَجْزِي عن أحدٍ بعدك " (2). وجرى مثل ذلك في إرضاع الكبير (3). وهذا وإن كان على بعدٍ، فهو أهون من تشويش أصول الشريعة، لقصةٍ ينقلها آحاد وأفراد.
__________
(1) في الأصل: وما.
(2) حديث: " تجزئ عنك .. " قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة ابن نيار خال البراء بن عازب، وهو متفق عليه. البخاري: العيدين، باب الأكل يوم النحر، ح 955، مسلم: الأضاحي، باب: وقتها، ح 1961.
(3) يشير إلى قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه، وهي في صحيح مسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما (ر. مسلم: الرضاع، باب رضاعة الكبير، ح 1453، 1454) أي أن الإمام يراها رخصة خصَّ بها الشارع معيناً، فلا تتعداه إلى غيره.

(4/42)


فصل
قال: " والحامل أو المرضع إذا خافتا على ولديهما ... الفصل " (1).
2316 - من أفطر بعذر يخصه، فلا يلزمه إلا القضاء، كالمسافر والمريض، ومن أفطر عاصياً بغير وقاعٍ، لزمه القضاء، وفي لزوم الفدية الخلاف المقدم، والحامل إذا كانت تخاف على جنينها لو صامت، فإنها تفطر، وعليها القضاء، وفي لزوم الفدية، وهو مدٌّ مع كل يوم، قولان: أحدهما - أنها تجب، لما روي عن ابن عباس " أنه قال في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]: إنه منسوخ الحكم إلا في الحامل والمرضع " (2).
والقول الثاني - لا يلزمها الفدية؛ لأنها وإن كانت تخاف على ولدها، فالخوف يرجع إليها أيضاًً لو أجهضت، فهي كالمريض. ومن قال بالأول كفاه التعلقُ بالتفسير، وقد روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه قال في الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على ولديهما، قضتا، وافتدتا بمدّين من طعام " (3).
وله أن يقول أيضاًً: الحامل وإن لم تُجْهِض، فلا بد وأن تلد، فلم يتجدد عليها بالإجهاض مزيد خوف، والأمر راجع إلى الولد.
و [المرضع] (4) إذا خافت على ولدها إن صامت، ففيها طريقان: أصحهما القطع بإيجاب الفدية مع القضاء؛ فإنها صحيحة البدن لا عذر بها في نفسها، فهي
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 9.
(2) أثر ابن عباس رواه أبو داود: الصيام، باب من قال: هي مثبتة للشيخ والحُبلى، ح 2317، 2318، (ر. التلخيص: 2/ 400 ح 925).
(3) حديث أنس بن مالك الكعبي -المرفوع- رواه أصحاب السنن (أبو داود: الصوم، باب اختيار الفطر، ح 2408، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في الرخصة في الإفطار للحبلى والمرضع، ح 715، النسائي: الصيام، باب ذكر وضع الصيام عن المسافر، ح 2277 وما بعدها، ابن ماجة: الصيام، باب ما جاء في الإفطار للحامل والمرضع، ح 1667، 1668).
(4) في الأصل: المرأة.

(4/43)


[المطيقة] (1) تحقيقاً، والمفطرة بسبب الغير.
وكان شيخي يحكي عن شيخه القفال أن من كان صائماً، فوجد مشرفاً على الهلاك، وتعيّن عليه إنقاذه، وكان لا يتأتى ذلك منه إلا بالإفطار، فإذا أفطر، قضى، وفي التزام الفدية وجهان، فإن هذا إفطارٌ بسبب الغير، وهذا بعيد؛ فإن التعويل في المرضع والحامل على الخبر، ولا مجال للقياس.
فإن قيل: لم ضعَّفتم إيجاب الفدية على العاصي بالأكل؟ قلنا: لأن الفدية جابرة حيث [ثبتت] (2)، وما نراها تجبر ما صدر عن العاصي بالفطر، وإن كانت تغليظاً، فليست على قدر ما صدر منه، فالإثم العظيم أليق به. وهذا يضاهي اختلافَ الأصحاب أن من تعمد ترك التشهد هل يسجد؟ ووجه التقريب أن الساهي بالترك أثبت له الشرع مستدركاً وجابراً، والمتعمد لا يستحق ذلك، [فاسْتَدَّ] (3) نقضُ الصلاة عليه.
فصل
[قال] (4) " ومن حركت القُبْلة شهوته ... إلى آخره " (5).
2317 - لا خلاف أن الاستمناء يفطر، ولا تتعلق الكفارة به عندنا، وعند أبي حنيفة.
وإذا قبل الصائم، أو وُجد بينه وبين امرأته التقاء البشرتين، وترتب الإنزال عليه، تعلق الإفطار به.
ولو نظر أو ذكر، وأنزل، لم يُفطر.
__________
(1) في الأصل: كالمطيعة.
(2) في الأصل: بقيت.
(3) في الأصل، وفي (ط): " فاستمرّ " والمثبت تقديرٌ من المحقق، رعاية لأسلوب الإمام، واستعماله هذا اللفظ، وهو هنا أوفق للسياق، فالمعنى: المتعمد لا يستحق الجبران، فاستدّ (أي استقام) إبطال صلاته، ونقضها عليه.
(4) زيادة من عمل المحقق اتباعاً لصنيع الإمام في أول الفصول.
(5) ر. المختصر: 2/ 10.

(4/44)


ولو ضم امرأته إلى نفسه، وبينهما حائل، [فأنزل] (1)، ففي المسألة وجهان ذكرهما شيخي.
وهذه [الصور] (2) عندي تدار على القاعدة التي مهدتها في وصول الواصل إلى الجوف مع التسبب إليه، فالاستمناء يُخرج مادة الزرع لا محالة، فكان كاعتماد الأكل والشرب، والنظر والفكر كالأسباب العامة التي لا يغلب وصول الواصل بها إلى الجوف، والضم والالتزام، مع الحائل، في مرتبة المضمضة، والتقاء البشرتين عندي قريب من المبالغة، فيتجه فيه تخريج خلاف لا محالة، وقد وجدت رمزاً إليه للشيخ أبي علي في الشرح.
ثم قال الأئمة: إن كانت القبلة تحرك الشهوة، كرهناها للصائم، وإن كانت لا تحركها تحريكاً يخاف منه الخروج عن الضبط، فلا بأس بها؛ قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل إحدانا، وهو صائم، وكان أملككم لإرْبه، بأبي هو وأمي " (3) وقيل: سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة في الصوم فأباحها له، [فسأله آخر فنهاه] (4) فروجع في جوابه صلى الله عليه وسلم، فقال: كان الأول شيخاً، والثاني شاباً (5). وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن قبلة الصائم، فقال: " أرأيت لو تمضمضت " (6) وهذا منه قياس حسن، وفيه إشارة إلى تنزيله القبلة على المضمضة والمبالغة.
__________
(1) ساقطة من (ط).
(2) في الأصل: الصورة.
(3) حديث عائشة: متفق عليه، وله عندهما ألفاظ، البخاري: الصيام، باب المباشرة للصائم، ح 1927 وطرفه: 1928، مسلم: الصيام، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، ح 1106 (ر. التلخيص: 2/ 372 ح 890).
(4) بياض بالأصل.
(5) حديث سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم، رواه أبو داود والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعاً، ورواه الشافعي وابن ماجة موقوفاً على ابن عباس (أبو داود: الصوم، باب كراهيته للشاب، ح 2387، البيهقي: 4/ 232، الأم للشافعي 2/ 98، ابن ماجة: الصيام، باب ما جاء في المباشرة للصائم، ح 1688).
(6) حديث عمر " أرأيت لو تمضمضت " رواه إمام الحرمين هنا أثراً عن عمر رضي الله عنه، وجعل=

(4/45)


فصل
[قال:] (1) " وإن أغمي على رجلٍ ... الفصل إلى آخره " (2).
2318 - إذا نوى الرجل الصوم من الليل، فأغمي عليه نهاراً، فقد اختلفت النصوص: قال هاهنا: إذا [أفاق] (3) في شيء من النهار، صح صومُه. وإن دام الإغماء جميعَ النهار، فلا.
وقال في كتاب الظهار: إن دخل في الصوم وهو يعقل، ثم أغمي عليه أجزأه، فاشترط الإفاقة في أول النهار.
وقال في كتاب اختلاف العراقيين: إن حاضت المرأة، أو أغمي عليها، قضت، فجمع بين الإغماء والحيض، فظاهره أن حدوث الإغماء في شيء من النهار يفسد الصومَ.
والمزني جعل الإغماء كالنوم، وقال: لا يضر أن يستغرق الإغماء جميعَ النهار، بعد تقدم النية ليلاً، فجعل كثيرٌ من أصحابنا ذلك القولَ مُخرَّجاً.
وذكر بعض الأصحاب اشتراط الإفاقة في طرفي النهار.
__________
=هذا قياساً حسناً من عمر، وهو حديث مرفوع يُروى عن عمر رضي الله عنه، وقد رواه إمام الحرمين مرفوعاً في البرهان: فقرة 717، و1544. فهل رُوي هذا الحديث موقوفاً عن عمر؟ لم نصل إليه بهذا اللفظ موقوفاً، ولكن رووا عن عمر أن زوجته عاتكة قبلته وهو صائم فلم ينهها، ابن أبي شيبة: (3/ 61)، عبد الرزاق: (4/ 187 ح 8429) فلعل إمام الحرمين أخذ الأثر عن عمر من هذا وأخذ القياس على المضمضة من الحديث المرفوع.
والحديث المرفوع مروي من حديث جابر عن عمر، رواه أحمد: (1/ 21) وأبو داود: الصيام، باب القبلة للصائم، ح 2385، وابن أبي شيبة: (3/ 61)، والدارمي: (1724)، وابن حبان: (3544)، والبيهقي: (4/ 218)، والحاكم: (1/ 431)، وصححه ووافقه الذهبي.
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 2/ 12.
(3) في الأصل: أقام.

(4/46)


ثم من الأصحاب من جعل المسألةَ على خمسة أقوال: ثلاثةٌ منصوصة، وقولان مخرجان.
2319 - التوجيه: من قال: إن استغراق الإغماء يبطل، والإفاقة في لحظة من النهار لا بد منها -وهذا ما نقله المزني- فوجهه أنا لو رددنا إلى قياس النيات وآثارها، اقتضى أن يُشترطَ ذكرُها، وانبساطُها على جميع أجزاء العبادة؛ (1 فإن النية قصد، والقصد الحقيقي هو المقترن بالمقصود، ولكن استصحاب ذكر النية 1) عَسرٌ غيرُ يسير، والغفلات [لا دفْعَ لها] (2)، فاكتفى الشرع رخصةً بتقديم العزم. وإذا لاح ذلك، فلا أقل من [أن] (3) يقع المعزوم عليه بحيث يُتصور القصد إليه، حتى ينزل منزلة ما يقترن القصد به، والمغمى عليه لم يقع إمساكه مقصوداً، حتى يصرف إلى المعزوم عليه، وينزل منزلة المقصود، فإذا استغرق [الإغماء] (4)، فقد عم ما ذكرناه، فإذا وجدت الإفاقةُ في لحظة -والعبادة لا تنقسم- أتبعنا زمان الإغماء زمانَ الإفاقة.
2320 - ثم ينقدح للناظر مراتب: إحداها - الجنون، وهو يسلب حكم الاختيار بالكلية، ويستأصل قاعدةَ التكليف؛ فيعظم أثره، حتى يصير طريان القليل منه مفسداً للعبادة؛ فإنه يكاد يقلب الإنسان عن خاصية الإنسان، ويلحقه بالأحكام البهيمية.
والمرتبة الثانية - الإغماء (5)، وهو تغشية العقل على وجهٍ لا يبقى اختيارٌ في دفعه، ما لم يندفع بنفسه، وليس كالجنون، فاتجه أن نتُبعَ زمانَ الإغماء زمانَ الإفاقة، ونجعلَ مستغرِقه مفسداً.
والمرتبة الثالثة - النوم، وهو مزيلٌ للتمييز، ولكنه معرض للإزالة على قصدٍ فَخفَّ (6) أمرُه.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(2) في الأصل: لا تدفع.
(3) زيادة من (ط).
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في الأصل: في الإغماء.
(6) في (ط): يخف.

(4/47)


والمرتبة الرابعة - اطراد الغفلة، وهي محطوطة بالكلية.
هذا الذي ذكرناه هو الأصل، أما الغفلة، فلا خلاف فيها. وأما النوم، فالمذهب فيه ما قدمناه، ومن أصحابنا من جعل مستغرِقَه كمستغرِقِ الإغماء، ويعزى هذا إلى أبي الطيب بن سلمة (1). وألحق بعضُ أصحابنا طارئ الجنون بالإغماء، وهذا في نهاية البعد. فأما نص الظهار، فموجَّهٌ بأن الإفاقة إذا ثبت شرطُها، حلّت في وضعها محل القصد الحقيقي، وهو النية، والنيات محالّها أول (2) العبادات. ومن قال: طريان الإغماء كطريان الحيض، فوجه قوله (3) التشبيهُ، والإغماءُ كالحيض وجوداً؛ من جهة أن [واقعه] (4) لا يُدفع، ثم هو لا يدوم دوام الجنون، فكان كالحيض، ولهذا شابَهه في إسقاط (5) قضاء الصلوات دون قضاء الصوم، وإذا ثبت الشبه وجوداً وحكماً، ألحق به.
وأما وجه القول المخرج الموافق لمذهب المزني، فظاهرٌ (6)، ومستنده الاكتفاء بالنية السابقة، وحصول الإمساك. وإذا لم يكن ذكرُ النية شرطاً، فلا يظهر بعد ذلك اشتراطُ الإفاقة.
ومن اعتبر الطرفين وهو أضعف الأقوال، اعتقد ما بينهما محتوشاً بهما وحكم بمقتضاهما على ما بينهما.
فهذه طريقة الأصحاب (7).
__________
(1) أبو الطيب بن سلمة: الإمام محمد بن الفضل بن سلمة بن عاصم البغدادي، اشتهر بأبي الطيب بن سلمة، نسبة إلى جده، من متقدمي الأصحاب، أصحاب الوجوه، تكرر في المهذب والوسيط، والروضة، تتلمذ على ابن سريج، له مصنفات عدة. ت 308 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 246).
(2) في (ط): أوائل.
(3) في (ط): قول التشبيه.
(4) الأصل: دافعه.
(5) في (ط) إثبات.
(6) في الأصل: فظاهره. وفي (ط) ظاهرٌ (بدون فاء، وبدون هاء الضمير كما أثبتناه).
(7) في (ط): للأصحاب.

(4/48)


ومنهم من رأى القطع بما نقله المزني من اشتراط الإفاقة في لحظة -وقد وجهناه- واطَّرح القولين (1) المخرجين، وحمل نصّ الظهار على الإفاقة في اللحظة الأولى على التنصيص على لحظةٍ وفاقاً، من غير اعتناء بتعيينها، وقد يعتاد أمثال ذلك في مجاري الكلام.
2321 - وأما نصه في اختلاف العراقيين، حيث جمع بين الحيض والإغماء، فقد قال بعض الأصحاب: يصرف (2) جوابه إلى الحيض. وهذا سخف في (3) طريق التأويل؛ فإن من ذكر شيئين وعقبهما بحكمٍ، استحال أن يُعتقد ذكر أحدهما، فالوجه حمل ذكر الإغماء على المستغرِق، وهذا أمثل، وإن كان بعيداً.
وقد نجز غرض الفصل.
2321/م- ثم ذكر الشافعي بعد هذا: أن الحائض منهيّةٌ عن الصوم، ولو قصدته وأوقعت الإمساك منوياً عَصَت ربَّها، ثم تَقضي الحائض ما امتنع من الصوم بسبب حيضها، ولا تقضي الصلاةَ. وقد ذكرنا ذلك في كتاب الحيض.
فصل
قال: " وأحب تعجيل الفطر، وتأخير السحور ... إلى آخره " (4).
2322 - والمتبع في ذلك الخبر، قال صلى الله عليه وسلم: " عجلوا الفطر، وأخروا السحور " (5) وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم السحورَ غداء، فروي أنه
__________
(1) في (ط): الوجهين.
(2) في الأصل: تصرّف.
(3) في (ط): من.
(4) ر. المختصر: 2/ 13.
(5) حديث: " عجلوا الفطر "، رواه الطبراني في الكبير من حديث حبابة بنت عجلان عن أمها بهذا اللفظ، وعن ابن عباس بلفظ: إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سحورنا ونعجل إفطارنا. ورواه أيضاًً ابن حبان وصححه، والطيالسي، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة: 1773 (ر. الطبراني في الكبير: 11485، ابن حبان: 1770، الهيثمي في المجمع: 3/ 155).

(4/49)


كان يتسحر، فقال لطائفةٍ من أصحابه: " هلموا إلى الغَدَاء المبارك " (1).
وقال زيد بن ثابت: " كان بين تسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاة الصبح قدرُ خمسين آية " (2). وفي الحث على تعجيل الفطر أخبارٌ.
ولا ينبغي لمؤخر السحور ومعجِّل الفطر أن يوقع فعلَه في مظنة التشكك، ودركُ اليقين في الطرفين أهمُّ من كل شيء، وإن جرى الأمر على ظن أو اجتهاد، فقد تفصل هذا فيما مضى.
فصل
قال الشافعي: " وإذا سافر الرجل ... إلى آخره " (3).
2323 - السفر الطويل يبيح الفطرَ، ولا يبيحه القصير، فالفطر من الرخص المختصة بالسفر الطويل، وقد ذكرنا السفرَ الطويلَ والقصيرَ.
ثم الفطر رخصة، والصوم صحيحٌ مجزىء، خلافاً لداود. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام في سفره، وأفطر. وعن أنس قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمنا الصائم، ومنا المفطر، ومنا القاصر، ومنا المتم، ولم يعب بعضنا على بعض " (4) وعن عائشة أنها لما انقلبت عن سفرة حجة الوداع، قال لها
__________
(1) حديث: " هلموا إلى الغداء المبارك "، رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والبيهقي من حديث العرباض بن سارية (أحمد: 4/ 126، 127، أبو داود: الصوم، باب من سمى السحور الغداء، ح 2344، النسائي: الصيام، باب دعوة السحور، ح 2163، ابن حبان: 3465، البيهقي: 4/ 236).
(2) أثر زيد بن ثابت رضي الله عنه متفق عليه من حديث قتادة عن أنس عن زيد (ر. البخاري: الصوم، باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر، ح 1921، ومسلم: الصيام، باب فضل السحور وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره، ح 1097).
(3) ر. المختصر: 2/ 13.
(4) حديث أنس في الصحيحين دون قوله (ومنا القاصر ومنا المتم) (البخاري: الصوم، باب لم يعب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضاً في الإفطار، ح 1947، مسلم: الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر، ح 1118، ولمسلم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري وجابر، ح 1116، 1117).

(4/50)


رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا صنعت؟ فقالت: " صمت ما أفطرت، وأتممت ما قَصَرت ". فقال: " أحسنت " (1). وقوله صلى الله عليه وسلم: " الصوم في السفر كالفطر في الحضر " (2). (3) محمول على مكابدة الصوم، مع ظهور الضرر.
وروي: " أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في السفر، يُظَلّلُ، وينضح بالماء ويهادَى بين رجلين، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنه صائم، فقال عليه السلام: إن الله عز وجل عن تعذيب هذا نفسَه، لغني " (4). وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: " ليس من البر الصيامُ في السفر " (5) وينزل قوله العام على السبب، ولا يبعد ذلك.
فإذا ثبت الأصل، فالمسافر بالخيار بين الصوم والإفطار، والصوم أفضل من الفطر، إذا لم يظهر ضررٌ ظاهرٌ، والقول فيه أنه إن كان يخاف إفضاءه إلى مرض، فهو
__________
(1) حديث عائشة رواه النسائي، والدارقطني، والبيهقي، وإسناده صحيح (النسائي: كتاب تقصير الصلاة في السفر، باب المقام الذي يقصر بمثله الصلاة، ح 1456، الدارقطني: 2/ 188، البيهقي: 3/ 142، خلاصة البدر المنير: 1/ 20 ح 696، التلخيص: 2/ 92 ح 604).
(2) حديث: " الصوم في السفر كالفطر في الحضر ". رواه ابن ماجه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مرفوعاً، وقال: قال أبو إسحاق: هذا الحديث ليس بشيء (الصيام، باب ما جاء في الإفطار في السفر، ح 1666) ورواه النسائي موقوفاً على عبد الرحمن بن عوف (الصيام، باب ذكر قوله: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، ح 2286، 2287، 2288) (ر. التلخيص: 2/ 394 ح 919).
(3) في هامش الأصل: حاشية: تأويل الحديث: أن الفطر جائز في الحضر خارج رمضان، والصوم أفضل منه، كذلك الصوم في رمضان جائز للمسافر، والفطر لمن يتضرر أفضل منه، من المكابدة.
(4) حديث: " إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني " هذا اللفظ ورد فيمن نذر أن يحج ماشياً، وهو متفق عليه، وأما ما جاء في الصوم فهو الحديث التالي لهذا السطر.
(5) حديث " ليس من البر الصيام في السفر " متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، واللفظ للبخاري (ر. البخاري: الصوم، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصيام في السفر، ح 1946، ومسلم: الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافر في غير معصية، ح 1115).

(4/51)


الذي نعنيه، وعنده يُستحث (1) على الفطر، وإن كان ضررٌ لا يغلب إفضاؤه إلى المرض، فهو من التعب (2) الذي يكثر به الأجر. والمفضي إلى المرض في حكم تعجيل عبادة تُفضي إلى تعطيل أمثالها.
وحيث قطعنا بأستحباب الصوم، اختلف القول في القصر والإتمام، وقد قيل: السبب في الفصل عدمُ الاعتداد بخلاف داود، وقيل: " الفاصل أن القاصر ليس مخلياً وقتَ العبادة، بخلاف المفطر "، وترقب القضاء تعويلٌ على أمرٍ مُغَيَّب.
2324 - ثم يتصل بالقول في السفر: أن من أصبح صائماً، ثم أنشأ السفر، لم يجز له أن يفطر، لأن الصوم تأكد بالإقامة، وإتمامه ممكن، من غير ضرار، كما وصفناه.
ولو أصبح المسافر صائماً، وقدم الوطنَ، لم يفطر. ومهما اشترك في الصوم الحضرُ والسفرُ، فالتغليب للإيجاب [و] (3) حكم الحضر.
ولو أصبح صائماً مسافراً، ثم بدا له أن يترخص بالفطر في دوام السفر، فالذي سمعته من شيخي، ووجدته في فحوى الطُّرُق جوازُ ذلك. وكان من الممكن أن يقال: إذا خاض فيه، التزمه، كما لو نوى الإتمام؛ فإنه لا يقصر. ولو نوى الإتمامَ، ثم فسدت تلك الصلاة، والوقت باقٍ، فيلزمه الإتمام، ويمتنع عليه القصر.
ويظهر مما أبديناه من الإشكال: أنا لو قدرنا دوامَ السفر، كدوام المرض، والمريض إذا أصبح صائماً، فله أن يفطر، فلو صح هذا التشبيه، للزم أن يقال: من أصبح صائماً مقيماً، ثم سافر، جاز له أن يفطر، كما لو كان صحيحاً في أول النهار، ثم مرض. وهذا مذهب أحمد (4) والمزني (5) فكأن السفر على رأي الشافعي بين
__________
(1) في (ط) مستحث.
(2) في (ط) السبب الأنصب.
(3) زيادة من (ط).
(4) ر. الفروع: 3/ 32، كشاف القناع: 2/ 312.
(5) ر. المختصر: 2/ 14، 15.

(4/52)


المرض والترخّص بالقصر، وتواصله يلحقه [بالمرض] (1)، وطارئه لا يجرُّ من (2) المشقة والعسر ما يجره طارئ المرض؛ فإن المرض في عينه يورث العسر.
فافهموا مواقع المذهب.
وقد احتج المزني في طريان السفر، وجواز الفطر، بسببه بما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم، صام حتى بلغ كراع الغميم (3)، ثم أفطر " فظن المزني أن ذلك كان في يوم واحد، واعتقد أنه صلى الله عليه وسلم، كان مقيماً في أوله مسافراً في أثنائه، وما ذكره وهمٌ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة، وبينه وبين كراع الغميم مسيرة ثمانية أيام، فالمراد بالحديث أنه صام أياماً في سفره، ثم ابتدأ الترخّص (4) بالإفطار لما انتهى إلى كُراع الغميم، و [قد] (5) قيل: تبين هذا للمزني بعد الاحتجاج، فقال للكتبة: خُطّوا عليه، وقد [يُلفى] (6) في [بعض] (7) النسخ استدلاله بالحديث مخطوطاً عليه.
فصل
قال الشافعي: " ولو قدم من سفره نهاراً مفطراً ... الفصل " (8).
2325 - مقصود هذا الفصل القول (9) في الإمساك عن المفطرات، بعد جريان الفطر في أول النهار.
__________
(1) في الأصل: المرض.
(2) انتهى الخرم الذي كان في نسخة (ك). وبذا صارت النسخ من هنا ثلاثاً. والله المعين، والهادي إلى الصواب.
(3) كُراع الغميم: موضع بالحجاز بين مكة والمدينة، وهو وادٍ أمام عُسفان بثمانية أميال. (معجم البلدان).
(4) في (ط) الترخيص.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في النسخ الثلاث بالقاف وهو تصحيف.
(7) ساقطة من الأصل، (ك).
(8) ر. المختصر: 2/ 14.
(9) ساقطة من (ك).

(4/53)


وأصل [الفصل] (1) أن من أفطر عاصياً عامداً، فالشرع يُلزمه الإمساكَ عن المفطرات في بقية النهار. وهذا يختص بأيام رمضان، فليس على العاصي بالفطر في صوم القضاء، والنذر إمساكٌ. ثم الأمر (2) بالإمساك مشبه بالتغليظ، وطرفٌ من العقوبة، ومضادّةُ القصد، ثم الممسك متشبه، وليس في عبادة، وليس كالمحرم إذا أفسد إحرامه؛ فإنه بعد الفساد في عبادةٍ فاسدة. ويظهر أثر ذلك بأن المفسد للإحرام لو ارتكب محظوراً في إحرامه بعد الفساد، التزم الفدية، والمأمور بالإمساك لا يلتزم بالإقدام على المفطر شيئاً، وإنما يناله المأثم بتركه الأمرَ الجازم، وارتكابه النهي (3) المحرم.
وقد ذكر العراقيون وجهين في أن الإمساك المأمور به بعد الإفساد هل يسمى صوماً؟ ولست أرى في الاختلاف فائدة.
ويقرب من ذلك أن من أصبح في يومٍ من رمضانَ غيرَ ناوٍ، فلا نجعله صائماً، ويلزمه الإمساك، فلو نوى التطوع بالصوم، وكان ذلك قبل الزوال، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الصومَ لا يصح، وذهب أبو إسحاق إلى صحة الصوم، ووجه الرد عليه ينقسم: فيجوز أن يقال: إن كان الإمساك واجب، ومن نعت التطوع التخير، فلو صح تطوّعه بالصوم، والصوم إمساك منوي، لوقع الإمساك واجباً عن جهة الوجوب، متطوَّعاً به عن جهة التطوع، وهذا متناقض.
فهذا وجه.
والمسافر عندنا لا يتطوع بالصوم في سفره، وإن كان يسوغ له الإفطار، فليس الصوم مستحَقاً عليه، والتطوع ممتنع، [وسببه أن الذي] (4) حط عنه وجوبَ الصوم الترخيصُ بالفطر، فإن لم يُفطر، فقد (5) ترك الترخص، وليس بين إقامة (6) الصوم
__________
(1) في الأصل، (ك): الفطر.
(2) في (ط) ثم الإمساك.
(3) في (ك): المنهي.
(4) في الأصل، (ك): وشبه الذي.
(5) في (ط) وقد.
(6) في (ط) الإقامة.

(4/54)


وبين الترخص بالفطر مرتبة، والشرع لم يجعل شهر رمضان في حق المسافر كسائر الشهور، حتى يضع فيه أيَّ صومٍ شاء، وأبو إسحاق المروزي لما جوز للمقيم الذي أصبح غير ناوٍ أن يتطوع بالصوم، فإنه على قياسه يجوز للمسافر أن يتطوع، وهذا [حَيْدٌ عن] (1) مذهب الشافعي وقياسِه.
2326 - فإذا ثبت [أن العاصي] (2) بفطره يلزمه الإمساكُ، وتبين أصلُ المذهب فيه، وتعليلُه ومأخذُه، فلو أصبح الرجل في يوم الشك مفطراً، ثم ثبت بالشهادة أنه من رمضان، فظاهر المذهب وجوبُ الإمساك عن المفطرات، ووجه تخريج هذا على القاعدة التي مهدناها في الإمساك إذا (3) قلنا: إنه على مضاهاة العقوبة -والمفطر في يوم الشك ليس يستوجب (4) عقوبة- أنا (5) وجدنا في الشرع تنزيل المخطئ في الشيء الذي يأثم العامدُ فيه منزلة العامد، في بعض الأحكام، لانتسابه إلى ترك التحفظ.
وعلى قريب منه يخرج حرمانُ القاتل خطأ الميراثَ. هذا وجهُ ظاهر المذهب.
وحكى [البويطي وحرملة فيما نقله] (6) العراقيون قولاً عن الشافعي أن المعذور بالفطر في يوم الشك لا يلزمه الإمساك عن المفطرات، وهذا خارجٌ على القاعدة التي مهدناها خروجاً [ظاهراً] (7).
2327 - فلو أفطر المسافر في سفره، ثم أقام في أثناء اليوم، أو أفطر المريض، ثم زال ما به، فلا يجب عليهما الإمساك، وإن تغيرا إلى الإقامة والسلامة، خلافاً لأبي حنيفة (8).
ولو أصبحا مع العذر صائمين، ثم أقام هذا، وصحّ ذلك، تحتم إتمام الصوم.
__________
(1) الأصل، (ك): حيّد على.
(2) في الأصل، (ك): للعاصي.
(3) في (ط): إذ.
(4) في (ط): يستلزم.
(5) في (ك): لأنا.
(6) ساقط من الأصل، (ك).
(7) ساقطة من الأصل، (ك).
(8) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 42 مسألة 507، اللباب: 1/ 173، الاختيار: 1/ 135.

(4/55)


ولو أصبحا ممسكين غيرَ ناويين، ثم انتهينا إلى الإقامة والسلامة، ففي بعض التصانيف وجهان في وجوب الإمساك، ولست أرى لإيجاب الإمساك وجهاً.
2328 - [و] (1) مَنْ ترك النية وأصبح وهو (2) مفطرٌ، فإذا لم يختلف المذهبُ في نفي وجوب الإمساك إذا كان أكل المريضُ والمسافر، فإذا أصبحا غير صائمين، فهو كما لو أكلا.
2329 - ولو أسلم الكافرُ في أثناء يومٍ، وبلغ الصبي، وأفاق المجنون، فهل يلزمهم الإمساكُ في بقية النهار؟ فعلى أربعة أوجهٍ مجموعةٍ في بعض التصانيف، وهي مفرقة في الطرق: أحدها - أنه يجب الإمساك عليهم؛ لأنهم إن لم يدركوا وقتَ العبادة، أدركوا وقتَ الإمساك، وليسوا كالمسافر يفطر مسافراً، ثم يقيم، فإنه خوطب بالترخص، وهؤلاء كانوا مستأخرين (3) عن التكليف، و [الآن] (4) كلفوا.
والوجه الثاني - أنه لا يجب عليهم الإمساك، وهو الأصح؛ فإن وجوب الإمساك تَبِعَ لزومَ الصوم، وهؤلاء لم يلتزموا الصومَ؛ فإنهم لم يدركوا وقتاً يسع الصومَ الشرعي، وشرط التكليف الإمكان.
والوجه الثالث - أن الكافر إذا أسلم مأمورٌ بالتشبه؛ فإنه كان متمكناً من تَرْك الكفر، والتوصل إلى الصوم، فإذا لم يفعل، كان في حكم تاركٍ لفريضة الصوم في أول النهار، وهو يلتفت على مخاطبة الكفار بالفروع.
والوجه الرابع: أنه يلزم الكافر كما ذكرناه، والصبي أيضاًً، فإنه كان مأموراً بالصوم [أمر] (5) تدريب حسب ما يؤمر بالصلاة. أما المجنون فلا سبيل إلى أمره بالإمساك؛ فإنه لم ينتسب في جنونه إلى تقصير الكافر، ولم يتجه في حقه أمرٌ بالصوم حسب ما تحقق في الصبي.
__________
(1) الواو مزيدة من (ط).
(2) في (ط) فهو.
(3) ي (ط) مستخرجين.
(4) في الأصل، (ك): وإلا.
(5) في الأصل، (ك): أم تدريب. (وهو سبق قلم).

(4/56)


2330 - ثم قال الأصحاب: الأمر بالقضاء في هذا اليوم فرعُ الأمرِ بالإمساك، فمن أمرناه بالإمساك نأمره بالقضاء. وقال الشيخ أبو بكر: من يوجب التشبه يكتفي به، ولا يوجب القضاء، ومن أوجب القضاء، لم يوجب التشبه. وهذا ليس خلياً عن الفقه، والظاهر (1) عندنا إسقاطُ القضاء، والتشبهِ جميعاً. أما إسقاط القضاء، فلأنه بسبب إدراك الوقت للأداء، وهؤلاء لم يدركوا وقت إمكان الأداء، وكانوا على صفاتٍ في أول النهار لو استمروا عليها تمامَ النهار، لم يُلزموا القضاء.
2331 - وأما الحيض، فإنه خارجٌ عن القانون؛ فإنه منافٍ لإمكان الأداء، ولا ينقدح عندي في أمر الحائض بالقضاء إلا الحملُ على أنه [بأمرٍ] (2) مجدد. ولو أصبحت المرأة حائضاً، ثم طهرت، فلا يلزمها الإمساك بلا خلافٍ (3)، على المذهب. ولا فرق بين أن تصبح ممسكةً أو مفطرة. ومن ذكر وجهين في المسافر إذا أصبح ممسكاً غيرَ ناوٍ، ثم أقام، قطع في الحائض بما ذكرناه؛ لأن الحيض ينافي الصومَ منافاة الأكل، بخلاف السفر، والمرض. فهذا منتهى الغرض في الإمساك، وما يتعلق به في محل الوفاق والخلاف.
فصل
قال: " إذا أفطر في أول النهار، ثم مرض ... الفصل " (4).
2332 - مقصود هذا الفصل متصلٌ بما تقدم، فإذا أصبح الرجل صائماً، وجامع من غير عذر، ثم مرض في آخر النهار مرضاً يبيح مثلُه الفطرَ، أو جُنّ في آخر النهار، أو أصبحت المرأة صائمةً ومكّنت، وقلنا: عليها الكفارة، ثم حاضت في بقية
__________
(1) في (ط)، (ك): وللناظر.
(2) في الأصل: أنه مجدد، وفي (ك): محرّداً، وفي (ط): أنه أمر مجدد. (وزيادة الباء تقديرٌ منا).
(3) في هامش الأصل، (ك): حاشية: ذكر الشاشي في المستظهري وجهاً: أن الحائض يلزمها إمساك بقية النهار إذا طهرت.
(4) لم أصل إلى هذه الجملة في المختصر.

(4/57)


النهار، فهذه أسباب طرأت، لو [اقترنت] (1) بالوقاع، لتضمنت إسقاطَ الكفارة، وانتهضت معاذيرَ في الفطر و (2) منافيةً للصوم، كالجنون، والحيض، ففي سقوط الكفارة في هذه الصورة أقوالٌ ثلاثة: أحدها - أنها لا تسقط، فإنّ الجماع جرى مفسداً؛ فلا أثر لطريان ما طرأ بعده، وكأن هذه الأسباب كانت (3) تنتهض مقتضياتٍ للترخص بالفطر، لو دام الصوم، فإذا تقدم الجماعُ المفسد، فكأن المجامع كما (4) أفسد الصومَ سد على نفسه باب الترخص.
والقول الثاني - أن الكفارة تسقط [للشبهة] (5) وتوجيه ذلك لائح.
والقول الثالث - أنا نفصل بين طريان ما ينافي الصوم كالجنون والحيض، وما لا ينافي، بل يُثبت رخصةَ الفطر، كالمرض، فتسقط الكفارة بما ينافي؛ إذ تبينا أن الصوم كان لا يتصوّر تمامه، ووضح أنه بالجماع لم يعترض على صوم كان يتم، والمرض [من] (6) أسباب الرخص، وقد تختص [الرخصة] (7) بمن [لم] (8) يفسدها على نفسه.
2333 - ولو أصبح مقيماً صائماً، [وجامع] (9) عاصياً، ثم سافر، لم يختلف قولنا في أن الكفارة لا تسقط؛ فإن طريان السفر لا يرخّص في الإفطار بخلاف، طريان المرض. ولم يجعل أئمتنا مذهبَ أحمد، والمزني -حيث صارا إلى جواز الإفطار في هذا الموضع- شبهةً (10)، فإن ما صارا إليه في مناقضة أصلٍ متمهدٍ ظاهر، وهو
__________
(1) غير مقروء في الأصل. و (ك): تقرنت.
(2) في (ط): أو.
(3) ساقطة من (ط).
(4) بمعنى: عندما.
(5) الأصل، (ك): للتشبه.
(6) مزيدة من (ط).
(7) زيادة من (ط).
(8) في الأصل: لا.
(9) مزيدة من (ط) وحدها.
(10) مفعول: يجعل.

(4/58)


تغليبُ حكم الحضر في العبادة، التي يشترك فيها السفر، والحضر.
وذكر صاحب التقريب: أن من أصحابنا من خرّج سقوط الكفارة، عند طريان السفر على قولين أيضاًً كالمرض، وهذا بعيد، ولكنه ذكره على ثبت. واختلفت الرواية [في السفر] (1) عن أبي حنيفة (2) وموجَب هذه الطريقة: أنه لو سافر، ثم جامع لم تلزمه الكفارة؛ بناء على درئها بمذهب من لا يوجب (3) الصوم، وهذا تخليط، والأصل القطع بأن طريان السفر لا يؤثر.
فصل
2334 - إذا طبق الجنون أياماً من رمضانَ، ثم كانت الإفاقة في بقيةٍ من الشهر، فلا يجب عندنا قضاء الأيام التي مرت في زمن الجنون. وكذلك إذا مضت أيامٌ في الصبا، ثم طرأ البلوغ في أثناء الشهر، أو أسلم الكافر الأصلي. وإنما التردد في اليوم الذي تزول فيه هذه المعاني، كما تقدم ذكرنا له في الإمساك، والقضاء. ووافق أبو حنيفة (4) في الصِّبا والكفر، وخالف في الجنون.
وذكر العراقيون عن ابن سريج مثلَ مذهب أبي حنيفة [في الجنون] (5) ثم زيفوا هذا الذي حكَوْه، وقالوا: هو غلط عليه، ولعله لا يصح نقله عنه أصلاً.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) قد كان إمام الحرمين في منتهى الدقة في عبارته عن الخلاف في هذه المسألة، فقد اختلفت الرواية فعلاً عن أبي حنيفة، فمع أن كافة كتب الأحناف لا تشير إلى خلاف، إلا أن الزمخشري روى هذا الخلاف في رؤوس المسائل الخلافية (ر. المبسوط: 3/ 75، 76، البدائع: 2/ 100، 101، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 30 مسألة 514، البحر الرائق: 2/ 298، فتح القدير: 2/ 337، الاختيار: 1/ 131، رؤوس المسائل: 230 مسألة 126).
(3) (ط): يجيز.
(4) ر. الأصل: 2/ 183، 200، 201، 202، المبسوط: 3/ 80، 88، 93، مختصر الطحاوي: 55، البدائع: 2/ 87، 88، اللباب: 1/ 172، 173، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 15 مسألة 498، 2/ 16 مسألة 499.
(5) ساقطة من الأصل وحدها.

(4/59)


والإغماء إذا استمر أياماً أو طبق جميعَ الشهر، فيجب قضاء الصوم في الأيام المارّة فيه، وهو كالحيض في أنه لا يُسقط قضاءَ الصوم، ويسقط قضاء الصلاة.
فصل
قال الشافعي: " ولو كان عليه يومٌ من شهر رمضان ... إلى آخره " (1).
2335 - نجمع في هذا الفصل تفاصيلَ الفدية، ومواضعَها.
ونبدأ بما تعرض له الشافعي الآن، فنقول: من فاته صيام أيامٍ من رمضان، وتمكن من قضائها، فلا يجوز له أن يؤخر قضاءها إلى شهر رمضانَ في السنة القابلة، وليس ما نذكره استحباباً، بل يتحتم ذلك، مع القدرة، وزوال المعاذير.
ولو فرض تأخير القضاء إلى السنة القابلة، من غير عُذرٍ، فيجب مع القضاء لكل يوم مدٌّ من طعام، والمعتمد في أصل التأقيت، وفي الفدية عند الإخلال بالوقت الخبرُ، والأثر، وهما مذكوران في مسائلِ الخلاف، ولا نرى قضاء عبادة يتأقت على الاستحقاق إلا هذا.
ولو أخر القضاء سنتين أو سنين، ففي تضعيف الفدية وجهان: أحدهما - أنها لا تتضعّف، ولا يجب بالتأخير سنين إلا ما [وجب بالتأخير] (2) في السنة الواحدة. ثم يجوز أن يكون هذا قضاءً بالتداخل (3)، كما مهدناه في كفارة الوقاع، على قولٍ.
والأصح تعدد الفدية، وتجدّدها، فيجب على مقابلة التأخير في كل سنة مدٌّ، فإن أخر سنتين، وجب مع قضاء كل يوم مدان. وهكذا زائداً، فصاعداً؛ فهذا مقامٌ في الفدية.
ومما يتعلق بذلك أن التأخير إن كان بعذر، فلا فدية أصلاً، مثل أن يدوم المرض طول السنة، أو يدوم السفر، وكل ما يجوز تأخير أداء الصوم به، يجوز تأخير القضاء به، ثم لا فديةَ.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 17.
(2) في الأصل: يجب في السنة.
(3) في (ط): بالتواصل.

(4/60)


ومن صُور الفدية أن الشيخ إذا بلغ الهَرَم، و (1) عجز عن الصوم لهَرَمه، لا لمرضٍ زائد عليه، فلا شك أنه لا يصوم، ويلزمه أن يُخرج بدلَ كلِّ يوم مُداً، إذا قدر عليه.
وظاهر المذهب: أنه واجبٌ.
وحكى العراقيون قولاً عن الشافعي أن الفدية ليست بواجبةٍ، ونسبوا القولَ إلى رواية البويطي، وحرملة، ووجه هذا في القياس بيّن؛ فإن الهَرِم معذور، وقد قال الأئمة بأجمعهم: لو مرض الرجل مرضاً يبيح له الفطر، ثم دام المرضُ حتى مات، لم تجب الفدية في تركته، ولا أعرف في ذلك خلافاً، فلا يبعد أن يعد الهَرَم عذراً دائماً (2)، ولكن هذا القول، مع اتجاهه في القياس، لا يُعوّل (3) عليه في المذهب.
ومن صور الفدية إفطار الحامل، والمرضع، وقد تفصّل القول فيهما، فيما تقدم، وذكرنا اختلافَ الأصحاب في إيجاب الفدية على من يتعمد الإفطارَ بالأكل عاصياً.
2336 - ومما يتصل بالفدية أن من مات وعليه قضاءُ أيامٍ من رمضان، وكان متمكناً من القضاء، ولا عذر، فالمنصوص عليه في الجديد أنه يُخرَج من تركته في مقابلة كل يوم مد، وهذا فيه إذا لزمه القضاء، وانتفى العذر، ومات في خلال السنة. فأما إذا أخّر القضاءَ مقصِّراً إلى شهر رمضان في القابل، والتزم [لذلك الفدية] (4)، ثم مات قبل القضاء، وإخراجِ الفدية، فالذي ذهب إليه الجماهير إيجاب مُدَّيْن، في مقابلة كل يومٍ: مدٌّ في مقابلة الصوم نفسه، ومد في مقابلة التأخير.
وحكى العراقيون وجهاً عن ابن سريج أنه قال: يتداخل المدان، ويكتفى بواحد.
وهذا بعيدٌ جداً، لا ينقدح له وجه.
هذا تفريعنا على القول الجديد.
__________
(1) في (ط): أو عجز.
(2) في (ط): قائماً.
(3) في (ط): معوّل.
(4) في الأصل، (ك): الفدية كذلك.

(4/61)


2337 - وللشافعي قولٌ في القديم: أن من مات وعليه صومٌ، صام عنه وليُّه، وقيل نُقل في ذلك خبرٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على هذه الصيغة (1)، ولست أدري أن الشافعي ترك العمل بالخبر في الجديد؛ لأنه استبان ضعفَه أو ثبت عنده نسخٌ.
ثم التفريع في هذا مما لم يتعرض له الأصحاب، فلا سبيل إلى [التحكم] (2) به، والذي يصوم عن الميت الولي، كما ورد في الخبر، أو الوارث أو القريب من غير اعتبار وراثة، أو يناط ذلك بالعصوبة؟ لا نقل عندي في تفصيل هذا.
وقد وجدت الأصحاب مضطربين فيمن يرث حدَّ القذف، وذلك بعيد عما نحن فيه. وإن نزلنا هذا القولَ على لفظ الولي، فإنه المنقول، فليس معنا في معناه ثبت نعتمده، والميت في غالب الأمر لا يكون مَوْلياً عليه. وكان شيخي يقول: لا خلاف أنه لا يجب على الولي أن يصوم، وإنما الخلاف في أنه لو صام عن الميت، هل يعتد به. والعلم عند الله تعالى.
2338 - وإذا أردنا جَمْعَ التراجم، قلنا: الفديةُ تتعلق بنفس الصوم تارةً، فتحل محلَّه، وقد تنضم إلى الصوم ولا تبدله، فأما ثبوتها بدلاً عن الصوم [ففي] (3) الشيخ الهِمّ، والذي مات وعليه صومٌ، كان قصر في تأخير قضائه. وأما الفدية [المنضمة] (4) إلى القضاء، فالمتفق عليه منها ما يجب بسبب تأخير القضاء من سنةٍ إلى سنة، والمختلف فيه الفدية في حق الحامل، والمرضع. وفي المتعمد العاصي بالإفطار الخلافُ المقدم.
2339 - ثم جنس الأمداد جنسُ صدقةِ الفطر، والكفارات الواقعة بالإطعام. وكل
__________
(1) حديث صيام الولي عن الميت. متفق عليه من حديث عائشة (البخاري: الصوم، باب من مات وعليه صوم، ح 1952، مسلم: الصوم، باب قضاء الصيام عن الميت، ح 1147).
(2) في (ط)، (ك): الحكم.
(3) الهِمّ بالكسر: الشيخ الفاني، والأنثى: همة (مصباح). هذا وفي نسخة الأصل، (ط): " في الشيخ الهم " وأثبتناها من (ك)، فالعبارة بدونها لا تستقيم هنا.
(4) في الأصل، (ك): المتضمنة.

(4/62)


مدٍّ بمثابة كفارة تامّة، فلو أراد من لزمته أمدادٌ جَمْع عدد منها في مسكين واحد، جاز له ذلك؛ إذ لا يجب تفريق المدّ الواحد، وكل مدٍّ كفارة.
فصل
قال: " فإن بلع حصاةً، أو ما ليس بطعامٍ ... إلى آخره " (1).
2340 - نجمع في هذا الفصل مفسداتِ الصوم، وقد مضى صدرٌ منها، فنرسمها على هيئة الترجمة، ونستقصي ما لم يجرِ ذكره. ونبدأ به.
فنقول: وصول الواصل إلى باطن عضوٍ يعد مجوفاً مفطرٌ، على الاختيار والذكر، كما تفصل ذلك. وإذا جاوز شيءٌ الحلقومَ فطَّر، وكذلك ما يجاوز الخيشومَ في الاستعاط. والحقنةُ مفطرةٌ، وكذلك إيصال الشيء إلى المثانة.
والمذهب أن ما تجاوز ظاهر الإحليل يُفطر، وإن لم ينته إلى فضاء المثانة. وفيه وجهٌ بعيدٌ، لا أصل له.
ولو قطّر شيئاً في أذنه، فانتهى إلى داخل الأذن الباطن، فقد كان شيخي يقطع بأنه مفطر، والذي قطع به الشيخ أبو علي، وطوائفُ من علماء المذهب أنه لا يفطر.
وكان الشيخ يراعي الوصولَ إلى ما يُعدّ باطناً، والآخرون يرعَوْن أن يكون في الباطن الذي إليه الوصول قوةٌ تُحيل الواصلَ إليه غذاء، أو دواءً، وداخل الأذن ليس فيه ذلك، والتردد في داخل الإحليل، فوق المثانة، قريب من هذا التردد.
ولو [وجأ] (2) الإنسان نفسَه بسكين، فإن انتهى طرفُ السكين إلى باطنٍ كما وصفناه، حصل الفطر، وإن كان نصابُه (3) ظاهراً، وكذلك إذا بلع طرفاً من خيط، وطرفٌ منه بارزٌ، فالفطر يحصل بوصول الطرف [الواصل] (4)، وخالف أبو حنيفة (5) في ذلك. ولو أوصل السكينَ إلى داخل لحم الساق، والفخذ، فلا فطر، فإن [ما
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 17.
(2) في الأصل، (ك): وجه.
(3) النصاب مقبض السكين (معجم).
(4) مزيدة من (ط).
(5) ر. بدائع الصنائع: 2/ 93، البحر الرائق: 2/ 300.

(4/63)


وراء] (1) البشرة، وإن كان من الباطن، فليس جوفاً، وكذلك إن انتهى طرفُ السكين إلى مكان المخ، فلا فطر؛ إذ العضو لا يعد مجوفاً.
ولو أوصل الدواء [من شجة آمَّة (2) إلى ما وراء القِحْف (3)، حصل الفطر، ولا يتوقف حصولُه على الوصول إلى ما وراء خريطة (4) الدماغ.
وإن أوصل الدواء] (5) إلى جرح نافذٍ إلى الباطن، فإن وصل إلى داخل البطن، حصل الفطرُ، وإن لم ينته إلى الأمعاء. ولو جاوز الدواءُ سطحَ البَشرة، ولم ينته إلى فضاء البطن، فالوجه القطع بأنه لا يفطِّر، فإن الوصول إلى هذا المكان لو كان يفطِّر، لفطَّر وصولُ السكين إليه في ابتداء الجرح، وفي بعض التصانيف غلطٌ ظاهر في الحكم [بالفطر] (6) بمجاوزة الدواء البشرة، وهذا محمول على [تثبّج (7)] (8) العبارة، وسوء الإيراد، والمراد الوصول إلى الباطن كما وصفناه.
وقد ينفصل وصول اللبن إلى الباطن في حكم الرضاع، عما يحصل [الفطر] (9) به في بعض التفاصيل، حتى جرى في حصول الرضاع بحقنة اللبن قولان، إلى غير ذلك، على ما سيأتي شرحه في موضعه إن شاء الله تعالى.
2341 - وداخل الفم والأنف إلى منتهى الخيشوم والغلصمة (10) في حكم الظاهر.
والريق السائل من داخل الفم، فالواصل إلى الجوف واصلٌ من ظاهرٍ إلى باطن،
__________
(1) في الأصل: فإن جاوز البشرة.
(2) أمّه: شجه، والاسم آمة بالمد اسم فاعل، والجمع: أَوَام، بفتح أوله وثانيه مثل دابة ودواب. وسميت هذه الشجة آمّة، لأنها تصل إلى أم الدماغ. (مصباح).
(3) القِحفُ بالكسر أعلى الدماغ. (مصباح).
(4) الخريطة في الأصل الوعاء، والمراد هنا التجويف العظمي (الجمجمة) التي تحوي المخ.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(6) زيادة من (ط) وحدها.
(7) في الأصل، (ك): تقبح. والمثبت من (ط).
(8) ثبّج الرجلُ الكلام عمّاه، ولم يبينه، فالتثبّج مصدر تثبّج بالتشديد. (المعجم).
(9) في الأصل، (ط): الفطرة.
(10) الغلصمة: صفيحة غضروفية عند أصل اللسان، تنحدر إلى الخلف لتغطية فتحة الحنجرة لإقفالها عند البلع. (المعجم).

(4/64)


ولكن لما عسر التحرز منه، عُفي عنه. ولو انقلع شيء من أسنانه، فازدرده الصائم، أو سال من العُمور (1) دم، فتجرعه على قصدٍ، أفطر. ولو جمع الصائم ريقه، ولم يتركه يجري على الخلقة، ثم ازدرده جملةً، ففي حصول الفطر وجهان: أصحهما أنه لا يفطر، وإنما نشأ الوجهان من لفظ الشافعي، فإنه قال: وأكره العِلْك (2)، فإنه يحلب الفم، فكأنه (3) حاذر اجتماع الريق على خلاف العادة.
وقال الأئمة: لو أخرج الصائم لسانه، وعلى طرفه ريقٌ، ثم ردّه، فلا بأس، وإن فارقت عذَبَة (4) اللسان الشفتين، فإن اللسان معتبر بداخل الفم، كيف تقلّب.
ولو أخرج شيئاً من ريقه، وتركه على طرف الشفة بارزاً، ثم ردّه إلى فيه، فهو بمثابة ما لو ألقاه على كفه، ثم رده، ثم الفطر يحصل به، وهو المذهب في البلل المتصل بالخيط المجرور، إذا رُدّ، فإن [القلة] (5) فيه (6) لا أثر لها في منع الفطر.
وما يقدّر وصوله بالمسام، فلا يتعلق الإفطار به، كالأدهان إذا تطلّى الصائم بها، أو صبها على رأسه.
وإدراك الذوق مع مجّ جِرْم (7) المذوق لا يؤثر في الصوم.
ولا يفطِّر الاكتحالُ والاحتجامُ، خلافاً لبعض السلف. ولا خلاف أن الافتصاد (8) لا يفطِّر.
وما يجري من النخامة من الدماغ إلى الحلقوم، فلا مؤاخذة به. هكذا كان يذكره شيخي، ولو تكلف صرفَه عن سَنَن الخلقة إلى فضاء الفم، ثم ازدرده، فهذا يفطّره.
__________
(1) العَمُر بفتح العين: لحم اللثة، والجمع عُمور. (المعجم).
(2) العِلْك بكسر العين: ضربٌ من صمغ الشجر، كاللبان، يمضغ فلا يذوب. (معجم).
(3) (ط): كأنه، (ك): فكأنهم.
(4) عَذَبةُ اللسان، بفتحتين: طرفه (المعجم).
(5) في الأصل، (ك): العلّة.
(6) ساقطة من (ط) وحدها.
(7) جرم بكسر الجيم: الجسد. (معجم).
(8) افتصد المريضَ: أخرج جزءاً من دم وريده بقصد العلاج. (معجم).

(4/65)


وأنا أقول: إن كانت النخامة لا تظهر في الفم، وكان لها مَسْلك (1) متردد في الباطن، فلا شك أنه لا مؤاخذة بها. وليس الأمر كذلك؛ فإنها تظهر إذا برزت من الثقبة النافذة إلى الدماغ في أقصى الفم، ثم تجري إلى داخل الحلقوم.
فالوجه أن نقول: ما لا يَشعر الصائم به، فهو محطوط عنه، وما يجري منه، وهو على علم وخُبْر، فإن لم يقدر على رده، فلا فطر، وإن قدر على صرفه ومجِّه، ففيه خلافٌ بين الأصحاب: منهم من لم يؤاخِذ به، وحَسَم الباب، ما لم يتكلف صرفَه عن مجراه إلى الفم؛ فإنه إذا فعل ذلك، ثم ردّه، وازدرده، أفطر.
ومنهم من حكم بالفطر إذا تركه في مجراه، مع القدرة على مجِّه، وهذا يلتفت على المراتب التي ذكرناها في غبار الطريق وغيره.
ومما يلتحق بهذا الفن، القولُ في سبق الماء من المضمضة، والاستنشاق، وفيما قدمناه من البيان مقنع تامٌ فيه.
وكان شيخي يحكي عن الأصحاب أن من بلل خيطاً بريقه، وجرّه، ثم ردّه، وغلبه الريق، ولم يمجه بعد حصول ذلك، أفطر. وكان يقول: لست أرى الأمر كذلك؛ فإن ذلك القدر النزر أقلُّ مما يبقى من أجزاء الماء في داخل الفم، بعد المضمضة.
والاحتمال في هذا محال (2).
فهذا بيان هذا النوع من المفطرات، تأصيلاً وتفصيلاً.
2342 - ومن المفطرات الجماعُ، وقد فصلنا، وألحقنا الاستمناء في الإفساد والإفطارِ بالجماع؛ من حيث كان مقصودَ الجماع. والقيءُ على ما فصلناه. والردة تُفسد كلَّ عبادة، والحيض، والجنون، ينافيان العَقْدَ، ويقطعان الدوامَ. وفي الإغماء ما سبق (3). فهذه جوامع المفسدات.
__________
(1) (ط) سلك.
(2) كذا في النسخ الثلاث، ولكن الأشبه بعبارات الإمام أن تكون: " وللاحتمال في هذا مجال "، فهذا التعبير يتكرر كثيراً في كلامه. وكما ترى المعنى ينعكس تماماً.
(3) عبارة الأصل، (ك): " في الإغماء على ما سبق ".

(4/66)


فصل
قال: " وإن اشتبهت الشهور على أسير، تحرَّى ... إلى آخره " (1).
2343 - الأسير المحبوس إذا اشتبه عليه شهر رمضان، تحرى، وراجع التواريخ المنسلكةَ في ظنه، وقرَّب نظرَه جُهدَه، وصام شهراً.
والمسألة مفروضة في استمكانه من معرفة الهلال، فإذا صام شهراً من الهلال إلى الهلال، فإن وافق شهرَ رمضان، فهو المُنى، وإن وافق شهراً بعده، وكانت أيامه قابلةً للصوم، وقع الاعتداد بما جاء به.
2344 - واختلف الأئمة في أن صومه في ذلك الشهر قضاء أم أداء؟ فمن جعله قضاءً، لم يَخْفَ توجيهُ قوله، ومن جعله أداء، تمسك بإجزائه [بنية] (2) الأداء. ثم لا يمتنع أن يفارق حكمُ المضطر [حكمَ] (3) المختار.
وخرّج الأئمةُ على هذا الخلاف أن شهر رمضان في تلك السنة لو كان ثلاثين يوماً، وكان ما صامه تسعةً وعشرين، فهل يكفيه ما جاء به، أم نكلفه بعد التبين (4) قضاء يوم؟ فعلى ما ذكرناه من الخلاف في الأداء والقضاء: فإن [جعلنا صومَه أداء، فكان ذلك الشهر شهرَه، فلا نظر إلى غيره، وإن] (5) جعلناه قضاء، فقد صام تسعةً وعشرين، وبقي عليه يومٌ، فليقضه.
2345 - ولو صادف الشهرُ الذي صامه شهراً متقدِّماً على شهر رمضان، فإن انجلى الإشكالُ وشهر رمضانَ بين يديه، لزمه صومُه، بلا خلاف.
وإن زال الإشكالُ بعد مضي شهر رمضان، ففي إجزاء صوم الشهر المتقدم قولان
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 20.
(2) في الأصل، (ك): بقية.
(3) مزيدة من (ط).
(4) (ك): الثلاثين.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(4/67)


للشافعي: أحدهما - لا يجزىء، فإن العبادة البدنية إذا تقدمت على وقتها، لم يعتد بها. والثاني - أنها تجزئ للضرورة. وكان القفال يبني هذين القولن على أنه لو وافق صومُه شهراً بعد شهر رمضان، فصومه أداءٌ، أم قضاء؟ ووجه البناء أنا إن قدرناه قضاءً، فالقضاء لا يتقدم، وعبادة البدن لا تتقدم على وقتها، وإن قدرنا الصومَ في الشهر المتأخر أداء، بناء على ظنه فتخيُّلُ (1) ذلك في التقدم والتأخر على وتيرة واحدة.
فإن قيل: هل يناظر ما ذكرتموه من صور الخلاف والوفاق القولَ في خطأ الحجيج، فإنهم لو أخطئوا، فوقفوا يوم العاشر أجزأهم الوقوفُ، وإن اتفق غلطٌ في أهلّةٍ وترتب عليه الوقوف في الثامن، ففي إجزائه وجهان، وهذا يناظر تقدمَ شهر الأسير على شهر رمضان؟ قلنا: هذا تشبيهٌ من حيث الصورة؛ فإن الذي أوجبَ الفرقَ بين الثامن والعاشر عمومُ تصوّر الغلط في العاشر، وندور ذلك في الثامن، وأما غلط الأسير، فإنه على وتيرة واحدة في التقدم والتأخر، فلا ينبغي أن يُعتقد اتحاد مأخذ المسألتين.
2346 - ولو انجلى الإشكال، وقد بقي بعضُ شهر رمضان، فيجب صوم البقية، وفي إجزاء ما مضى طريقان: منهم من خرّجه على القولن، وهو (2) الوجه، ومنهم من قطع بأنه يجب استدراكه إذا اتفق إدراك شيء من الشهر.
وكان شيخي أبو محمد يقول: الاجتهاد في وقت الصلاة، في حق المحبوس، على الترتيب الذي ذكرناه في الصوم، في صورة الخلاف والوفاق. فأما المجتهد القادر على أن يَصْبر حتى يستيقن، إذا تقدمت [صلاته، لم يعتد] (3) بها قولاً واحداً.
2347 - ثم ذكر الشافعي: أن من فاته صوم أيامٍ من رمضان، لا يجب عليه رعاية الموالاة في القضاء، وقصد به الردّ على مالك (4)؛ فإنه أوجب المتابعةَ في القضاء
__________
(1) (ط): تتخيل.
(2) (ك): وهذا.
(3) في الأصل: صلاة، لم يعيّد. (بهذا الضبط).
(4) الذي رأيناه عند المالكية أن التتابع لا يجب، بل يستحب (ر. حاشية ابن حمدون: 2/ 520، الإشراف: 1/ 446 مسألة 680).

(4/68)


[ظاناً] (1) أن الأداء متتابع، وهذا غلط؛ فإن ما تخيله من التتابع في الأداء تواصل الأوقات، وليس تتابعاً راجعاً إلى صفة العبادة، بدليل أن من أفطر اليوم الأخير من رمضان، لم يلزمه قضاء ما تقدم عليه، بخلاف الصيام المتتابع في الكفارة شرعاً، أو الصوم الذي نذر الناذر التتابعَ [فيه] (2).
فصل
قال: " وأحب للصائم أن ينزه صيامه ... إلى آخره " (3).
2348 - ظاهر التكليف في الصوم متعلق بالإمساك والنية، ولكن المقصود غضُّ الهوى حتى تقوى النفس على التقوى، ولو كُلِّف الخلق هذا المقصودَ تصريحاً، لما استقل به الأكثرون. وهذا من لطائف الشريعة، وكلّفوا ما يفضي إلى طرفٍ من التقوى في الغالب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصوم جُنّة، وحصن حصين، فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا يفسق، وإن شاتمه رجل، فليقل: إني صائم " (4) ومعنى الحديث أن [يحدّث] (5) نفسه بصومه، حتى يزجره ذلك عن المشاتمة؛ إذ لا معنى لذكر الصوم لمن شاتمه.
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) مزيدة من (ط).
(3) ر. المختصر: 2/ 21.
(4) حديث: " الصوم جنة " جزء من حديث أبي هريرة المشهور والمتفق عليه " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ... " وله في الصحيحين طرق وألفاظ، ليس منها (حصن حصين)، وبهذا اللفظ رواه أحمد في مسنده: 2/ 402، قال الهيثمي في المجمع: إسناده حسن: 3/ 180، وكذا حسنه المنذري في الترغيب والترهيب: 2/ 83، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير: 3881. (البخاري: الصوم، باب فضل الصوم، ح 1894، مسلم: الصيام، باب فضل الصيام، ح 1151 (163)).
(5) في الأصل، (ك): يجرّب.

(4/69)


فصل
قال: " ولا أكره في الصوم السواكَ ... إلى آخره " (1).
2349 - استعمال السواك في النصف الأول من النهار إلى زوال الشمس حسنٌ، على شرط التحفّظ من تجرع حِلابه، وازدراد شَظِيِّه، فإذا زالت الشمس، لم نر استعمالَ السواك استبقاءً للخُلُوف (2)، وفيه الحديث المشهور (3). ولا فرق بين صوم التطوع والفرض.
...
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 24.
(2) خلوف: وزان قعود.
(3) إشارة إلى حديث: " لخلوف فم الصائم ". وهو جزء من حديث أبي هريرة السابق: البخاري: الصوم، باب فضل الصوم، ح 1894، مسلم: الصيام، باب فضل الصيام، ح 1151 (163).

(4/70)


باب صيام التطوع
2350 - لا يلزم صوم التطوع بالشروع عندنا، وكذلك الصلاة، وللشارع فيهما قطعُهما، ثم لا يلزم القضاء. وكان شيخي يقول: الإفطار بالعذر مسوّغ، ومن جملة المعاذير في ذلك أن يعز على من أضافه امتناعُه عن الطعام، فإن لم يكن عذر، فهل يكره قطع الصوم، والصلاة؟ فعلى وجهين كان يذكرهما، ولا بُعد في ذكرهما مع الخلاف في تحريم القطع.
***

(4/71)


باب النهي عن الوصال
2351 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يواصل في العشر الأخير، فواصل عمرُ وغيرُه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: " وددت لو مُدّ لي الشهر مدّاً، ليدع المتعمقون تعمُّقَهم، يقوى أحدكم على ما أقوى عليه؟ إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني " (1).
وغرض الباب أن الوصال كان قُربة في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محرّم على أمته، والوصال يزول بقطرةٍ يتعاطاها كلَّ ليلة، ولا يكفي اعتقادُه أن من جَنَّ عليه الليلُ، فقد أفطر (2).
...
__________
(1) حديث النهي عن الوصال، متفق عليه من حديث أنس (البخاري: التمني، باب ما يجوز من اللَّوْ، ح 7241، مسلم: الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم، ح 1104).
(2) المعنى أن حقيقة الوصال تتحقق بعدم الأكل في الليل، فلو لم يأكل في الليل، سواء نوى الوصال أم لم ينوه، فهو مواصل. وإن كان دخول الليل، وانقضاء النهار، يعتبر منهياً للصوم. (ر. المجموع للنووي: 6/ 357 وما بعدها، ففيها بحث لطيف، وتفصيل بديع).

(4/72)


باب صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء
2352 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صوم يوم عرفة كفارةُ السنة والسنة التي تليها، وصوم يوم عاشوراء كفارةُ السنة " (1). فقوله السنة التي تليها يحتمل معنيين: أحدهما - السنة التي قبلها، فيكون إخباراً أنه كفارةُ سنتين ماضيتين، ولا يمتنع حملُها على السنة المستقبلة، وكل ما يرد في الأخبار من تكفير الذنوب، فهو عندي محمولٌ على الصغائر، دون الموبقات.
وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم التاسوعاء، والعاشوراء، فيحتمل أنه لم يؤثر إفرادَ يومٍ بالصوم، ويحتمل أنه احتاط لمصادفة العاشر.
ثم لا يستحب للحاج أن يصوم يوم عرفة، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم صائماً فيه في حجة الوداع، وتبين ذلك لأصحابه، بتناوله لبناً في قدحٍ وقتَ العصر، ومناولته سَوْدة أم الفضل بنت الحارث (2)، ولعل السبب فيه أن لا يعجز عن الدعاء عشية عرفة، فلا يَعدِلُه فيما نظن دعاءٌ وذكرٌ في غيره.
...
__________
(1) حديث صوم يوم عرفة، رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة والطبراني وابن حبان والبيهقي كلهم من حديث أبي قتادة الأنصاري (مسلم: الصيام، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء، ح 1162، أبو داود: الصوم، باب ما جاء في صوم الدهر تطوعاً، ح 2425، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في الحث على صوم يوم عاشوراء، ح 752، ابن ماجة: الصيام، باب صيام يوم عرفة، ح 1730، باب صيام عاشوراء، ح 1338، الطبراني في الكبير: 19/ 4، 5 ح 6، 8، ابن حبان: ح 3632، البيهقي: 4/ 283، 286).
(2) حديث شرب النبي صلى الله عليه وسلم لبناً يوم عرفة متفق عليه من حديث أم الفضل بنت الحارث، ومن حديث ميمونة (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 14 ح 686، 687).

(4/73)


باب الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها
2353 - أما العيدان، فلا يقبلان الصومَ، ويلغوا نذر صومهما.
2354 - فأما أيام التشريق، فالمنصوص عليه في الجديد أنها لا تقبل صوماً؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها: " إنها أيام أكل وشرب وبِعَال " (1).
وقال في القديم: للمتمتع أن [يوقع] (2) فيها صيامَ الأيام الثلاثة الثابتة في كفارة التمتع.
ثم اختلف أصحابنا في التفريع على القديم، فقال بعضهم: إنها لا تقبل غير صوم التمتع، لضرورةٍ تخصه، وقال آخرون: إنها كيوم الشك، على ما نصف حكمَه.
2355 - أما يوم الشك، فقد سبق تصويره، [واعتماد] (3) صومه من غير سبب منهيٌ (4) عنه، وفي صحته وجهان، كالوجهين في إيقاع الصلوات التي لا أسباب لها في الأوقات المكروهة، ونَذْر صومه يخرج على ذلك، فإن لم نصحح فيه صوماً بلا سبب، لغا نذْر صومه، وإن صححنا صومه مع الكراهية، صح النذر.
__________
(1) حديث أيام التشريق أيام أكل وشرب، روي من طرق صحيحة بدون لفظ (بعال)، (مسلم وأصحاب السنن وغيرهم، وأما بلفظ: بعال، فقد رواه الدارقطني والطبراني وابن ماجة وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي من طرق مختلفة وكلها ضعيفة كما قال الحافظ في التلخيص (ر. مسلم: الصيام، باب تحريم صوم أيام التشريق، ح 1141، الدارقطني: 2/ 212، ابن حبان: 5/ 245، المعجم الكبير للطبراني: 11/ 232 ح 11587، أبو يعلى: ح 5913، 6024، ابن أبي شيبة: (3/ 104)، السنن الكبرى: 4/ 298، تلخيص الحبير: 2/ 375 ح 894، خلاصة البدر المنير: ح 1108).
(2) في الأصل، (ك): يرفع.
(3) في الأصل، (ك): واعتماده.
(4) منهي: خبر لقوله: واعتمادُ، وليست نعتاً لـ" سبب ".

(4/74)


وذكر القاضي حسين مسلكاً يفضي إلى تنزيل يوم العيد، منزلة يومِ الشك. وما نراه قاله عن عَقْدٍ، وإنما ذكره في تقدير كلامٍ تقديراً، لا تحقيقاً. وأصل المذهب لا يُزال بمثل هذا.
ولو أوقع في يوم الشك قضاءً، أو صوماً منذوراً، أو صادف وِرداً له، فلا بأس، ولا كراهية.
ولو أراد أن يصوم شعبان كله، فصام يومَ الشك على قصدِ استكمال شعبان، فلا بأس أيضاًً، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله " (1) والله أعلم.
...
__________
(1) حديث عائشة، متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 20 ح 712).

(4/75)


باب الجود والإفضال في شهر رمضان
2356 - قال ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الخلق، فإذا دخل شهر رمضان كان أجود بالخير من الريح المرسلة " (1) معناه في العموم، أو في التسرع (2). وبالجملة شهر رمضان شهر البركات، والبدار إلى الخيرات، والحسناتُ فيه مضاعفة، فليبتدرها الموفقون. والله وليّ التوفيق.
...
__________
(1) حديث ابن عباس متفق عليه (البخاري: بدء الوحي، ح 6، مسلم: الفضائل، باب جوده صلى الله عليه وسلم، ح 2308).
(2) في (ك): الشرع.

(4/76)


باب (1) الاعتكاف وليلة القدر
2357 - صدّر الشافعي كتابَ الاعتكاف بالقول في ليلة القدر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلتمسها في العشر الأواخر، ويعتكف فيها ليلاً، ونهاراً.
واختلف العلماءُ: هل كانت ليلة القدر في الأمم؟ والمختار عندنا أنها مختصة بهذه الأمة؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس لأْمَتَه (2)، وقاتل في سبيل الله ألف شهر، لا ينزِعها (3)، فاستعظمت الصحابة، [ذلك] (4) وتمنَّوْا أن يكون لهم مثلُ هذا العمر، وهذه القوة؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] إلى قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، فدل هذا على تخصيص هذه الأمة [بها] (5).
2358 - ثم اختلف الناس في وقتها: فذهب بعضُهم إلى أنها في السنة، وعندنا أنها في الشهر، ومذهب أبي حنيفة (6) أنها في الشهر، لا يختص بها عشر، وذهب الشافعي إلى أنها في العشر الأخير، وميله إلى أنها ليلةُ الحادي والعشرين، وفيه الحديث الصحيح، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أريت هذه الليلةَ، فخرجت لأخبركم، فتلاحا فلانٌ وفلان، فأُنسيتها، ولعله خيرٌ لكم، ورأيتني أسجد في صبيحتها إلى ماءٍ وطين " قال راوي الحديث، أبو سعيد الخدري:
__________
(1) في (ط): كتاب.
(2) لأْمَته، بفتح فسكون: أداة الحرب كلُّها: من رمحٍ، وبيضة، ومِغْفَرة، وسيف، ودرع.
(المعجم).
(3) ينزِع: من باب ضرب.
(4) مزيدة من (ط).
(5) زيادة من المحقق؛ رعاية للسياق والسباق.
(6) ر. فتح القدير: 3/ 389.

(4/77)


" أبصرت عيناي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته وأنفه أثرُ الماء والطين، في صبيحة إحدى عشرين " (1).
وفي الحديث: إن المسجد كان على عريش، وأمطرت السماء فوكف (2).
وقال الشافعي -رحمه الله- في بعض المواضع: هي ليلةُ الحادي والعشرين، أو ليلةُ الثالث والعشرين.
وذهب طوائفُ من الناس إلى أنها ليلةُ السابع والعشرين، وإليها صَغْوُ (3) الناس، وهو مذهب ابن عباس. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " اطلبوها في العشر الأواخر، واطلبوها في كل وتر " (4) وروي أنه قال: " اطلبوها لتسع بقين، أو لخمسٍ بقين، أو لثلاثٍ بقين، أو الليلةَ الأخيرة " (5).
وذهب بعض العلماء إلى أنها رُفعت، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أبعد المذاهب.
2359 - فإن قيل: فعلى ماذا التعويل؟ وما المعتبر في هذا؟ قلنا: للشافعي مذهبان: أحدهما - في انحصار ليلة القدر في العشر الأخير، والآخر: تعيينه الحاديَ والعشرين، والثالثَ والعشرين.
وبين مذهبيه فرقٌ، تبينه مسألة، وهي الكاشفة لغائلة الفصل.
[قال الشافعي] (6): لو قال لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، لم تطلق حتى ينفضي
__________
(1) حديث أبي سعيد في ليلة القدر متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 25 ح 725).
(2) وكف البيت بالمطر، من باب وعد: سال قليلاً قليلاً. (المصباح).
(3) صغو: من باب عدا: مَيْلُ. (المختار).
(4) حديث: " اطلبوها في العشر " جزء من حديث أبي سعيد الخدري السابق، وهو متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 20/ 25 ح 725).
(5) حديث: " اطلبوها لتسع بقين " رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي. (أحمد: 5/ 36، 39، الترمذي: الصوم، باب ما جاء في ليلة القدر، ح 794، ابن حبان: 3686، الحاكم: 1/ 438). هذا وقد جاء في الحديث زيادة (، أو لسبع " بين التسع والخمس، وقد سقطت من سياقة الإمام للحديث.
(6) ساقط من الأصل، (ك).

(4/78)


العشر، ولو انقضت، طُلّقت، ولا نحكم بوقوع الطلاق بانقضاء الحادي والعشرين، ولا بانقضاء الثالثة (1) والعشرين؛ فمذهبه ثابتٌ في أنها في العَشر، وهو على تردد في التعيين من العشر، والحديث الذي يتكرر في متن كل مروي قوله: " التمسوها في العشر الأخير " وفي الحديث تأكيدُ الأمر بالألتماس في الأوتار، من غير إغفال الأشفاع.
فإن قيل: الانحصار في العشر مقطوعٌ به؟ قلنا: لا، ولكنه [مذهبٌ] (2) ثابت، والطلاق يناط وقوعه بالمذاهب المظنونة (3).
وذكر صاحب التقريب في كتابه تردداً، في أنه يجوز أن تكون في النصف الأخير من رمضان. وهذا متروك عليه، ولا نعرف له متعلَّقاً.
وفي العلماء من قال: إنها تنتقل.
هذا نجاز القول في ذلك.
2360 - ثم حق من يتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المعتكَف قبل غروب الشمس يومَ العشرين، حتى تغرب عليه الشمس، وهو في معتكفه، ثم يستمر إلى استهلال هلال شوال، ولو أحيا ليلةَ العيد، تعرّض لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا ليلتي العيد، لم يمت قلبُه يوم تموت القلوب " (4).
__________
(1) كذا. على معنى الليلة، وفي (ك): " الثالث ".
(2) مزيدة من (ط) وحدها.
(3) ر. المجموع للنووي: 6/ 453، وراجع موضوع ليلة القدر كاملاً من 446 - 474، ففيه كلام نفيس، وعلم غزير.
(4) حديث: " من أحيا ليلتي العيد ... " رواه ابن ماجه من حديث أبي أمامة مرفوعاًً وسنده ضعيف كما في الزوائد، ونقل الحافظ أن الدارقطني ذكره في العلل من حديث ثور عن مكحول عن أبي أمامة. وقال: والصحيح أنه موقوف على مكحول. وقد رواه الشافعي في الأم: (1/ 231) موقوفاً على أبي الدرداء - (ابن ماجة: الصيام، باب فيمن قام في ليلتي العيد، ح 1782، مجمع الزوائد: 2/ 198، التلخيص: 2/ 160 ح 676، السلسلة الضعيفة للألباني: ح 521).

(4/79)


والاعتكاف كان في الشرائع المتقدمة، قال الله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. وعن عائشة أنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف، فيدني إليّ رأسَه، فأرَجِّله " (1).
فصل
قال: " والاعتكاف سنة حسنة، ويجوز بغير صوم ... إلى آخره " (2).
2361 - المنصوص عليه للشافعي في الجديد أن الاعتكاف يصح بغير صوم، ويصح في الليلة الفردة، والعيد وأيام التشريق.
وقال أبو حنيفة (3): " لا اعتكافَ إلا بصوم "، ثم ناقض، وقال: لو اعتكف يوماً محتوشاً بليلتين، صح اعتكافه في اليوم والليلتين، وإن كانت الليلةُ لا تحتمل الصوم.
وحكى الأئمة قولاً للشافعي في القديم، في اشتراط الصوم في الاعتكاف. ثم قال الأئمة: إذا فرعنا على القول القديم، لم نصحح الاعتكاف في الليل، لا تبعاً، ولا مفرداً.
2362 - فإن قلنا: الصومُ شرطُ الاعتكاف، لم نشترط الإتيانَ بصومٍ لأجل الاعتكاف، بل نصحح الاعتكافَ في رمضان، وإن كان صومُه مستحَقاً شرعاً، مقصوداً.
وإن قلنا: الصوم ليس بشرط في الاعتكاف، فلو نذر أن يعتكف صائماً، فهل يلزمه الجمع بين الصوم والاعتكاف، [أم يجوز له أن يعتكف بلا صوم، ويصومَ
__________
(1) حديث عائشة رضي الله عنها متفق عليه (البخاري: الاعتكاف، باب الحائض ترجل رأس المعتكف، ح 2028، مسلم: الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، ح 297).
(2) ر. المختصر: 2/ 31.
(3) ر. الأصل: 2/ 230، 239، 254، مختصر الطحاوي: 57، المبسوط: 3/ 115، البدائع: 2/ 109، 110، 111، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 47 مسألة 534، و2/ 50 مسألة 539 رؤوس المسائل: 237 مسألة 133.

(4/80)


بلا اعتكاف] (1)، فعلى وجهين، وربما كان يقول: على قولين: أحدهما - لا يجب الجمع؛ فإنهما عبادتان، كلُّ واحدة مقصودةٌ في نفسها، فلا يجب الجمع بينهما بالنذر، كما لو قال: لله عليّ أن أعتكف مصلياً؛ فإنه لا يلزمه الجمع بينهما.
والثاني - يلزمه الجمع، لاستواء العبادتين في المقصود؛ إذ الغرض من كل واحد منهما الإمساك، والانكفاف، وإذا تقاربتا، لم يبعد التزام جمعهما، كما لو نذر أن يُقرن بين الحج والعمرة.
وكان شيخي يقول: لو نذر أن يصوم معتكفاً، لم يلزمه الجمع بينهما، وجهاً واحداً. وهذا لا أرى له وجهاً، فلا فرق بين أن ينذر الاعتكاف صائماً، وبين أن ينذر الصوم معتكفاً، فالوجهان جاريان.
قال القفال: إذا قال: لله عليّ صلاةٌ، أقرأ فيها السورة الفلانية، فهل يجب عليه الوفاء بذلك جمعاً، حتى لو قرأ تلك السورة في غير الصلاة المنذورة، وأقام الصلاة دونها، يجوز؟ قال: هذا يخرّج على الخلاف في أنه هل يجب الجمع بين الاعتكاف والصوم بالنذر.
فصل
قال: " ومن أراد أن يعتكف العشرَ الأواخر ... إلى آخره " (2).
2363 - الأَوْلى فرض هذا الفصل في النذر. فإذا قال الرجل: لله عليّ أن أعتكف العشر الأواخر من الشهر، فإن ابتدأ الاعتكافَ مع (3) انقضاء العشرين من الشهر، ثم خرج الشهر ناقصاً، فقد خرج عن موجَب نذره؛ فإنه وإن نذر العشرَ في لفظه، فالمراد به (4) افتتاحُ الاعتكاف في الوقت الذي ذكرناه، إلى انقضاء الشهر، ثم الشهر قد يكمل، وقد ينقص، فلا حكمَ لذكر العشرِ مع تعيين الآخر من الشهر.
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك).
(2) ر. المختصر: 2/ 32، 33.
(3) (ط): من.
(4) (ط): فيه.

(4/81)


ولو قال: لله عليّ أن أعتكف عشرةَ أيامٍ، ثم افتتح الاعتكاف، في الوقت الذي ذكرناه من الشهر، ثم نقص الشهر، لزمه اعتكافُ يومٍ آخر؛ فإنه اعتبر بالعشر، وجرَّد القصد إليه، فلا بد منه، ووضوح ذلك يغني عن الإطناب فيه.
فصل
2364 - لا بد من ذكر الاعتكاف المتطوّع به، والمنذور، وتمييزِ أحد القسمين عن الثاني، على الجملة.
ثم المسائل الموضوعة في الباب تفصِّل ما نجمله [فيهما] (1).
فالاعتكاف يقع تطوعاً، ومنذوراً، فأما التطوع، فعماده النيّة، وقد اختلف -أولاً- أئمتنا في أن حضور المسجد من غير مُكث: هل يكون اعتكافاً معتداً به؟ فمنهم من قال: لا بد من لُبث، وهو الاعتكاف.
ومنهم من قال: الحضور يقع قُربةً، معدودة من قبيل الاعتكاف، وإن لم يقع لُبث. فهذا (2) بمثابة حضور عرفة، فإنه يُغني ويَكفي في تحصيل الركن، وإن كان قد أُوجب باسم الوقوف، وهو مشعر بالمكث إشعار العكوف (3).
التفريع:
2365 - إن حكمنا بأن الحضور كافٍ، فحضور المسجد اعتكافٌ مع النية، حتى لو نوى من يدخل من بابٍ ويخرج من بابٍ الاعتكافَ، كان ما جاء به قُربةً، من قبيل الاعتكاف.
وإن قلنا: لا بد من لُبث، لم يكفِ فيه ما يكفي في الطمأنينة في الركوع؛ فإنا قد أوضحنا أنه يكفي في إقامة الفرض منها، انفصالُ آخرِ حركةِ الهُويّ عن أولِ حركة الرفع عن الركوع، وكأن الغرض تحصيلُ صورة الركوع، مع فصله عما قبله وبعده. وأما هذه القُربة، فشرط تصويرها عند هذا القائل المُكث، فليكن محسوساً.
__________
(1) في الأصل، (ك): فيها.
(2) (ط): وهذا.
(3) (ط): الوقوف.

(4/82)


ولو كان المعتكف متردّداً (1) في أرجاء المسجد، فهو معتكف، وقد يكون زمان تردد من يصح اعتكافه أقلَّ من زمان من يدخل من بابٍ، ويخرج من باب، والبابان متحاذيان.
2366 - ثم إذا ثبت أن الاعتكافَ المتطوعَ به يعتمدُ النيةَ، فالنيةُ لا يخلو إما أن تثبت مرسلة، من غير ربط بأمدٍ معلوم، وإما أن تتعلق بمدة معلومة. فإن نوى من دخل المسجدَ الاعتكافَ، بقي معتكفاًً ما بقي في المسجد، طال الزمان، أو قصر.
وكان شيخي يتردد في مثل هذه الصورة، في (2) الصلاة ويقول: إذا نوى المتطوع الصلاةَ مطلقةً، ولم يربط قصدَه بأعدادٍ معلومة من الركعات، فالوجه تصحيحُ ركعةٍ؛ إن اقتصر عليها، أو ركعتين، أو أربع (3)، فأما المزيد -ولم يرد فيه ثبتٌ على الاسترسال- ففيه نظر.
ووجدت لغيره القطعَ بأنه لو نوى الصلاةَ وأراد إقامةَ مائةِ ركعة في تسليمةٍ، فلا بأس. وهذا هو القياس.
ولا ينبغي للمحصل إذا هاب شيئاً أن يتخذ هيبته معوَّل نظره.
فإذا كان الاعتكاف كذلك، فمهما اتفق خروجٌ، انقطعَ، ولا بد في العَوْد من تجديد النية، ثم يكون اعتكافاً مبتدأً، والذي مضى اعتكافٌ تام [إن] (4) كان لُبثٌ، وإن لم يكن، فعلى ما قدمناه من الخلاف.
و (5) لا فرق بين أن يخرج لقضاء الحاجة، أو لغيرها فيما ذكرناه.
فلو ربط النيةَ بأمدٍ، ارتبطت به. قال شيخي: إذا خرج، وعاد، فإن قرب الزمان، لم يحتج إلى تجديد النية في المدة المعينة. وإن بعد الزمان، ففي البناء على
__________
(1) (ط): يتردد.
(2) (ط): وفي.
(3) في الأصل، (ط): أربعة. وهو جائزٌ إذا تقدّم المعدود.
(4) ساقطة من الأصل، (ك).
(5) الواو مزيدة من (ط).

(4/83)


النية المتقدمة، والاكتفاءِ [بها] (1) قولان مأخوذان من تفريق الطهارة، وما ذكرناه فيه إذا لم يكن الاعتكافُ منذوراً.
2367 - قال الإمام: لو نذر اعتكافَ أيام، ولم يشترط التتابعَ، فدخل المعتكَف، ونوى إقامة الوفاء بالنذر، فإذا خرج، وعاد، وقرب الزمان، لم يحتج إلى تجديد النية. وإن بعد، فعلى القولين؛ فإن التتابعَ إذا لم يكن مستحَقاً، قامت النية في إقامة الوفاء بالنذر، مقام (2) النية في التطوع بأصل الاعتكاف، ولا يختلف النوعان بالاستحقاق، [والاستحباب] (3)، وإنما المتبع النيةُ، وصفة التتابع غيرُ مرعية. ولم يفصل شيخي (4)، لمّا قال: " إذا قرب الزمان، فلا حاجة إلى تجديد النية "، بين أن يكون الخروج لقضاء [الحاجة] (5)، أو غيرها، وإنما اعتبر قربَ الزمان.
وفي (6) كلام أئمتنا في الطرق: إن الخروج إن (7) كان لقضاء الحاجة، فلا حاجة إلى تجديد النية عند العَوْد، وإن لم يكن لقضاء الحاجة، ففي التجديد عند العود خلافٌ، وإن قرب الزمان؛ لأن الخروج مناقضٌ للاعتكاف، وليس كالتفريق في الزمان اليسير، في الطهارة. وهذا محتملٌ.
2368 - وفي بعض التصانيف أن مَنْ كان يعتاد دخولَ المسجد، لإقامة الجماعة، أو غيرها، وكان لا يظهر ما يخالف عادته في الدخول والخروج، فلو نوى كلما دخل الاعتكافَ، لم يكن اعتكافاً عند بعض الأصحاب، لأنه غيرُ مخالفٍ لعادته، في دخلاته وخرجاته. وهذا معدود من سقطات الكتاب (8)؛ فإن المكث، والحضور،
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) في الأصل، (ك): ومقام.
(3) في الأصل، (ك): والاستحثاث. وفي (ط): فالاستحباب. والمثبت لفظ (ط) مع تغيير الواو بالفاء. مراعاة للسياق.
(4) هذا يؤكد أنه يعني شيخه بقوله: (الإمام).
(5) في الأصل، (ك): حاجة.
(6) (ط): ومن.
(7) (ط): إذا.
(8) المراد كتاب (أبي القاسم الفوراني)، فإمام الحرمين كثير التتبع للفوراني، والحط عليه،=

(4/84)


هو الذي تردّد الأئمة فيه، فأما إذا حصل المكثُ، وانضمّت النيةُ إليه، فليس يتجه إلا القطعُ بتصحيح الاعتكاف.
وحكى الشيخ أبو بكر في آخر الكتاب (1): إن من أصحابنا من لم يصحح الاعتكافَ إلا يوماً، أو ما يدنو من يوم، وزعم هذا القائل أن النصف من اليوم، فما دونه، مما يغلب جريان المكث في مثله لعامة الناس، لحاجاتٍ تعنّ لهم في المساجد، ولا يثبت الاعتكاف إلا بمكثٍ يظهر في (2) مثله أن صاحبه معتكف في المسجد، [وهذا] (3) أبعد.
وما حكيناه من هذا التصنيف، وما قدمنا في ذلك التصنيف، وما حكاه الشيخ واحد. وإنما التردد في الصيغة.
هذا قولينا في التطوع بالاعتكاف.
2369 - فأما الواجب، فهو المنذور، ولا يجب الاعتكاف شرعاً، وهذا يخرم ضبطاً لبعض الأصحاب، فيما يلزم بالنذر؛ فإن طائفةً منهم، صاروا إلى أنه لا يُلتزم بالنذر إلا ما يجب بأصل الشرع، والاعتكاف يَرِد على ذلك، ومحاولة الجواب عنه تكلّفٌ.
وسنذكر حقيقة ذلك وسرّه، في كتاب النذور.
ثم الاعتكاف المنذور ينقسم إلى: مقيد بالتتابع، وإلى مضافٍ إلى الزمان المعين، من غير تتابع، وإلى مضافٍ إلى زمان معين، مع التقييد بالتتابع.
فأما المنذور المطلق الذي لم يتقيد بزمانٍ، ولا تتابع، فقد ذكرنا فيه غرضَنَا في
__________
=وللفوراني كتابان مشهوران، هما: (الإبانة)، و (العمد). ولعل المقصود هنا (الإبانة)، فهو الأكثر شهرة.
(1) واضحٌ أنه يعني (كتاب الاعتكاف)، وإلا، فليس من المعقول أن يكون هذا الكلام عن الاعتكاف في ختام كتابه الذي يحوي الفقهَ كلَّه.
(2) في (ط): (من). وهي مرادفة لـ (في).
(3) في الأصل: وهو.

(4/85)


فرض الاشتغال بالوفاء به، عقداً ونيةً، وأوضحنا أن التتابعَ إذا لم يكن شرطاً، فالقول يؤول إلى النية في إنشاء الوفاء.
ثم الخروج من المعتكَف والعَوْد إليه يستدعي الكلامَ في الاحتياج إلى تجديد النية.
وقد ذكرنا تفصيلَ ذلك؛ فإذاً هذا خارجٌ عن غرضنا.
والقول وراء ذلك في الأقسام الثلاثة، التي ترجمناها، فنقول:
أمّا النذر المقيّد بالتتابع، من غير إضافةٍ إلى [الزمان، فالتتابع مرعيٌّ] (1) فيه وفاءً بالنذر، ولا يخفى أن من حكم التتابع إذا انقطع، بما يتضمّن قطعَه [كما سنصفه] (2)، فأثرُ ذلك بطلان الاعتكاف، فيما مضى.
2370 - ونحن نذكر معاقد المذهب فيما يؤثر في التتابع وفاقاً، وفي مواقع الخلاف، وفيما لا يؤثر، ولا نحوي جملةَ الغرض، بل نبيّن ما يظهر، ويجري مجرى تأسيس القواعد، ونحيل غيره عفى مسائل الكتاب؛ فإنها منصوصة.
فالخروج لقضاء الحاجة لا يقطع التتابعَ، وإن لم يجر له تعرّض؛ فإن هذا في حكم المذكور المستثنى بقرينة الحال، ثم إن قرب زمان الخروج والعَوْد، فلا أثر لما جرى. وإن كان منزله بعيداً وتطاول الفصل لذلك، فوجهان.
وكذلك لو كثرت الخرجات لعارضٍ اقتضى الخروج عن عادة الاعتدال، فهو على الوجهين: فمن أئمتنا من راعى جنس (3) الخروج لقضاء الحاجة، ولم يجعله مؤثراً، من غير تعريج على التفاصيل، ومنهم من خصص عدم التأثير [بقرب] (4) الزمان، وجريان الأمر على عادة الاعتدال.
وما ذكرناه من القرب والبعد، لا توقيف فيه، والرجوع (5) إلى العادة، فكل زمان
__________
(1) في الأصل، (ك): زمانٍ مرعي.
(2) بياض بالأصل.
(3) ساقطة من (ط).
(4) في الأصل، (ك): بفوت.
(5) (ك): فالرجوعُ.

(4/86)


لا يُخرج المرءَ عن هيئة ملازمة المسجد، فهو قريب، وما يخرجه عن هيئة الملازمة، فهو البعيد الذي ذكرناه.
ولو كان له داران قريبة وبعيدة، ولم تكن البعيدة -بحيث لو لم يملك غيرها- لا يُقطع الاعتكافُ بالخروج إليها في وجهٍ [عند] (1) فرض الانفراد، فإذا تُصوّرت المسألة بهذه الصورة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يتعين الخروج إلى المنزل القريب؛ إذ لا حاجة إلى غيره. والثاني - لا بأس بالخروج إلى المنزل البعيد، إذا كان على الحد الذي وصفناه في الانفراد.
وظهر اختلاف أصحابنا في الخروج لأجل الوضوء، من غيرِ بولٍ وتغوّط، فذهب الأكثرون إلى أنه يؤثر؛ فإن الوضوء في المسجد ممكن، ولا شك أن هذا في الوضوء الواجب.
وكذلك اختلف أئمتنا في الخروج لأجل الأكل، والأظهر أنه يؤثر. ومتعلَّق من يقول: إنه لا يؤثر أن الأكل في المسجد قد يقدح في المروءة. ونهايةُ الضرورة ليست مرعية.
ولا خلاف أنا [لا] (2) نشترط غايةَ إرهاق الطبيعة في الحاجة.
2371 - ومما يتعلق بما نبغيه في ذلك: أن المرأة إذا اعتكفت، وحاضت، [و] (3) خرجت عن معتكفها، نظر: فإن كانت نذرت الاعتكاف في زمان متطاول يغلب طريان الحيض عليه، فلا ينقطع التتابع بطريان الحيض؛ فإن ذلك مما لا يتأتى التحرزُ منه.
وكذلك القول في طريان الحيض على الصيام المتتابع في الزمان الممتد.
وإن نذرت الاعتكافَ المتتابعَ، في زمانٍ لا يبعد خلوه عن الحيض، ولكنها قربت افتتاحَ الوفاء من نوبتها، [أو] (4) اتفق تقدم الحيضة على [خلاف] (5) عادتها، ففي
__________
(1) في الأصل: عن.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).
(3) مزيدة من (ط).
(4) في الأصل، (ك): و.
(5) مزيدة من (ط).

(4/87)


انقطاع التتابع في الصورتين وجهان: أحدهما - ينقطع لخروج الحيض عن القبيل الذي يغلب طريانه. والثاني - لا ينقطع؛ نظراً إلى جنس الحيض وتركاً للاشتغال بتفصيله، ونظائر ذلك كثيرة، وقد ذكرنا في هذا الفصل ما يقرب منه، وهو الخروج لقضاء الحاجة على بعد الزمان بسبب بعد المنزل، أو خروج الطبيعة عن عادة الاعتدال.
وسيأتي نظير هذا في صيام الثلاثة الأيام في كفارة اليمين، إذا فرض طريان الحيض عليها، على قولينا باشتراط التتابع.
فإن قيل: إن جرى الخلاف في تقدم الحيضة، فما وجهه إذا قصدت تقريب زمان افتتاح الوفاء من عادتها؟ قلنا: تأخّر الحيضةِ ممكن كما يمكن تقدمها، نعم: أصح الوجهين في هذه الصورة الانقطاعُ.
2372 - ولو خرج المعتكف لعذر المرض المنتهي إلى مبلغٍ يقتضي الخروجَ عن المعتكَف، ففي انقطاع التتابع قولان، وكذلك إذا أفطر الملابس للصوم المتتابع.
فمن قال: لا ينقطع التتابعُ في الموضعين، فمتعلقه ثبوت الضرورة في الفِطر، والخروج من المعتكَف، ومن قال بالقول الثاني، فمتعلقه أن المرض ليس مما يعرض (1) ويطرأ لا محالة، بخلاف الحيض، وهذا تقرر في موضعه. وإن كان المرض بحيث يؤدي إلى تلويث المسجد لو فرض المكث [فيه] (2) كاسترخاء الأَسْر (3)، والاستحاضة، فلأئمتنا طريقان: منهم من ألحقه بالحيض، ليقطع بأنه لا يقطع التتابعَ، ومنهم من أقره على القولين، وهو القياس.
فهذه جملٌ نبهنا عليها. وقد ترد مسائل في الكتاب تلتفت على هذه القواعد، وفاقاً وخلافاً، لم نذكرها الآن، حتى ننتهي إليها.
2373 - فإذا تبين ما يقطع التتابع وما لا يقطعه، فإنا نذكر وراء ذلك التفصيلَ في أن الأزمنةَ التي تمضي في غير المعتكَف هل يعتد بها من الاعتكاف؟
__________
(1) (ط): يفرض.
(2) مزيدة من (ط).
(3) الأَسر بفتح وسكون شدة الخلق، والأسر بضمتين، أو بضم فسكون: احتباس البول. فالمراد هنا باسترخاء الأَسْر، ضعف القدرة على التحكم في البول (معجم ومصباح).

(4/88)


فنقول: أما الخروج لقضاء الحاجة، فقد ذكرنا: أنه لا يؤثر في قطع التتابع، ونقول الآن: إنه معتدٌّ به حتى إذا اعتكف الرجل أياماً، ولو جمعت أوقات خرجاته، لبلغت يوماًً أو بعض يوم، فلا نقول: يجب تداركها. اتفق الأصحاب عليه، حتى قال طوائف من المحققين: إن الخارج لقضاء الحاجة معتكف، وإن لم يكن في المسجد، واستدل هؤلاء بالاعتداد بهذا الزمان، وكان من الممكن أن لا يعتد بها، وإن كان يُحكم بأن التتابع لا ينقطع.
واحتج هؤلاء أيضاًً بأن الخارج لقضاء حاجته [لو] (1) جامع، فسد اعتكافه. وكان من الممكن أن يقال: لا يفسد، ويُعدّ الجماع الواقعُ منه بمثابة الجماع الواقع [منه] (2) ليلاً في الصوم المتتابع.
وقال قائلون: ليس الخارج معتكفاً، ولكن زمان خروجه مستثنىً، وكأن الناذر قال: لله عليّ اعتكاف عشرة أيام، إلا أوقاتَ خروجي لقضاء الحاجة، وأما الجماع، فقد حمله هؤلاء -في كونه مفسداً- على اشتغال الخارج بما لا يتعلق بحاجته، وقد نقول: لو عاد مريضاً، ينقطع تتابعُه. وإن كان خروجه لقضاء الحاجة على ما نفصله، حتى لو فرض الوقاع مع الاشتغال بقضاء الحاجة -على بعدٍ [في] (3) التصوير- لم يفسد الاعتكاف. وهذا بعيدٌ، والصحيح أنه يفسد الاعتكاف- وإن (4) فرعنا على أنه غير معتكف؛ فإنه (5) عظيمُ الوقع في الشريعة، وهو [وإن] (6) قرب زمانه أظهر أثراً من عيادة مريض.
وقد ذكر أئمتنا أن الخارج لقضاء حاجته إن عاد مريضاً في طريقه، فلم يحتج إلى
__________
(1) الأصل، (ك): أو.
(2) مزيدة من (ط).
(3) مزيدة من (ط).
(4) (ط): فإن.
(5) الضمير يعود على الجماع، كما صرح الرافعي في فتح العزيز: 6/ 533 حيث نقل نفس العبارة. والفاء متعلقة بـ (يفسد) تعليلاً.
(6) مزيدة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): وهو أنه قرب زمانه.

(4/89)


الازورار (1)، فلا بأس بذلك، ولو ازورّ، وعاد، انقطع التتابع، وإن قرب الزمان على وجهٍ كان يحتمل مثلُه في الأناة في المشي؛ فإن هذا يقدح في القصد المجرّد إلى قضاء الحاجة.
وذكر الأصحاب أن الخارج لقضاء الحاجة لو أكل لقماً، فلا بأس إذا لم يجرِ أكلٌ مقصودٌ، ولم يظهر طول زمان معتبرٍ، والجماع في مثل هذا الوقت مؤثر بلا خلاف، ومِنْ تَكلُّفِ تصويرهِ، [فرضُ جريانه مع الاشتغال] (2) بقضاء الحاجة.
هذا كلام الأئمة في الخروج لقضاء الحاجة.
فأما الخروج لعذر الحيض، أو عذر المرض، على أحد القولين، فغير معتد به، ولا بد من استدراكه، بخلاف زمان الخروج لقضاء الحاجة. وإن استوى جميع ذلك في أنها لا تقطع التتابع. وهذا ظاهرٌ في الحيض، والمرض، وإنما الغموض في الاعتداد بزمان الخروج لقضاء الحاجة.
ولو خرج والاعتكاف متتابع، لزيارةٍ، أو عيادةٍ، أو غرضٍ آخرَ صحيحٍ، من غير حاجة، فلا شك في انقطاع التتابع.
2374 - ولو استثنى الخروج لأغراضٍ، فقال: لا أخرج عن معتكفي إلا لكذا، وكذا، فالأصح الذي قطع به معظم الأئمة صحةُ (3) الاستثناء، والمصيرُ إلى أن التتابع لا ينقطع بالخروج بالأغراض المستثناة.
وحكى صاحب التقريب والإمامُ قولاً للشافعي في القديم: أن الاستثناء باطلٌ، ويجب الوفاء بالتتابع، وهذا مهجور لا تفريع عليه.
فإذا خرج لما استثناه، وحكمنا بأنه لا ينقطع تتابعُ اعتكافه، فيعود ويبني، ولا يُعتد بزمان خروجه، كزمان المرض والحيض، بخلاف زمان الخروج لقضاء
__________
(1) الازورار: الميل، والمراد هنا الميل عن الطريق إلى طريق آخر بسبب عيادة المريض.
(2) في الأصل: فرضه مع جريانه مع الاشتغال وفي (ط): فرضه في جريانه، وفي (ك): فرضه جريانه.
(3) ساقطة من (ط).

(4/90)


الحاجة؛ فإنه إنما استثنى ما ذكره؛ حتى لا يؤثر في قطع التتابع، ولم يذكره حتى [لا] (1) يحط من زمان اعتكافه.
2375 - وإذ نجز هذا، نعود بعده إلى تفصيل القول في تجديد النية، فنقول: أما إذا خرج لقضاء الحاجة، وعاد على ما ينبغي، فلا يحتاج إلى تجديد، وإن عاد بعد زمانِ المرض، أو زمان الغرض المستثنى، فقد ذكرنا أن التتابع لا ينقطع، وهل يحتاج إلى تجديد النية؟ ذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - أنه لا يجب التجديد؛ فإن التتابع منتظمٌ والمتخلّلُ غيرُ معتد به. وفيه وجهٌ آخر: أنه لا بد من تجديد النية. وذكره شيخي.
وهذا الخلاف مبنيٌّ على نظير له في الطهارة، فإذا فرق المتوضئ وضؤَه، وقلنا: التفريق لا يبطل الوضوء، [فإذا] (2) عاد إلى البناء على بقية الطهارة، ففي اشتراط تجديد النية وجهان مشهوران.
وكل ما ذكرناه [من] (3) كلام في قسمٍ واحد من الأقسام الثلاثة، وهو إذا نذر اعتكافاً متتابعاً، ولم يعين زماناً.
2376 - فأما إذا [نذر] (4) اعتكافاً وأضافه إلى زمانٍ حكمه التواصل، ولكنه لم يتعرض للتتابع، مثل أن يقول: لله عليّ أن أعتكف العشرَ الأواخر، من هذا الشهر، فاعتكافه -إذا وفَّى به- يقع متتابعاً، ولكن ذلك التتابع لتواصل الأوقات، لا لكونه مقصوداً في نفسه، ويظهر أثر ذلك [بفَرْضِ] (5) الكلام [في القضاء] (6) فلو (7) لم يف بإيقاع الاعتكاف في ذلك الوقت المعين، فلا شك أنا نُلزمه القضاءَ، ثم لا نوجب
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) الأصل، (ك): وإذا.
(3) مزيدة من (ط).
(4) في الأصل، (ك): ذكر.
(5) في الأصل: بغرض، (ك): بعرض.
(6) ساقط من الأصل، (ك).
(7) في الأصل، (ك): ولو.

(4/91)


التتابعَ، كما لا نوجب التتابعَ في قضاء صيامٍ عن شهر رمضان.
ولو افتتح الوفاءَ، ثم خرج عن معتكفه لقضاء الحاجة، لم يؤثر خروجُه، ولم يلزمه استدراك زمان الخروج للحاجة، وإذا عاد، لم يلزمه تجديد النية، ولو خرج لا لحاجة -من غير استثناء-، فزمان خروجه لا يعتد به، ولا يبطل ما تقدم من الاعتكاف؛ فإن التتابع ليس مرعياً في هذا النوع، قصداً إليه، والاعتكاف في كل لحظة عبادةٌ على حيالها، فصار تخلل ما ذكرناه بمثابة تخلل الإفطار في أيام رمضان.
وكذلك لو فرض طريانُ مفسدٍ، وهو الجماع المفسد، [فلا] (1) يفسد ما مضى.
ثم كما لا يفسد ما مضى، لا يخرج باقي الزمان عن التهيؤ [لقبول] (2) الاعتكاف الواجب.
وإذا كان كذلك، فإذا فرض عودُه في الصورة التي انتهينا إليها، فالمذهب أنه لا بد من تجديد النية؛ فإن ما مضى عبادةٌ منفصلة، عما يستقبله الآن، وقد تخلل المفسدُ، أو الزمن الذي لا يعتد به. ولو رُددنا إلى القياس، لما اكتفينا بنية واحدةٍ، في أوقات، كما لا يكتفى بنية واحدة في أول شهر رمضان، ولكن تخصيص كل لحظة بنية عسرٌ، فلأجل ذلك انبسطت نيةٌ واحدة على الأوقات المتواصلة، فإذا تخلل ما يقطع التواصل، وجب الرجوعُ إلى الأصل المنقاس الذي مهدناه.
وذكر الشيخ أبو علي في هذه الصورة وجهاً آخر، عن بعض الأصحاب: أن النية الأولى شاملةٌ كافيةٌ، وقد نوى اعتكافَ العشر، فلئن طرأ ما لا يعتد به، فحكم النية باقٍ في البقية.
2377 - ومما يتصل بهذا القسم أنه (3) لو عين الناذر أوقاتاً لاعتكافٍ (4) متواصلة، واستثنى أغراضاً، فإذا خرج لها، على حسب استثنائه، لم يجب عليه تداركها في هذا القسم؛ من جهة أن (5) معنى استثنائه لها يرجع إلى حط أوقاتها عن الأوقات
__________
(1) في الأصل، (ك): ولا.
(2) في الأصل، (ك): والقبول.
(3) ساقطة من (ك).
(4) عبارة (ط): أوقات الاعتكاف.
(5) (ك): أنه.

(4/92)


المعيّنة، فكأنه قال: لله تعالى عليَّ أن أعتكف هذه الأوقات، إلا أوقاتَ خروجي، وليس كما إذا نذر اعتكاف أيامٍ شائعةٍ متتابعة من غير تعيين زمان، ثم افتتح الوفاء، وقد كان استثنى الخروجَ لأغراضٍ، فإذا خرج لها، لم يعتد بزمان خروجه، وإن لم ينقطع التتابع؛ لأن استثناءه في القسم الأول محمول على أن لا ينقطع التتابع، وهو محمول في القسم الذي نحن فيه على الحط عن الزمان. وهذا واضح لا شك فيه.
ولو حاضت المرأة، [و] (1) كانت عينت زماناً في النذر، من غير تعرضٍ للتتابع، أو مرضَ الناذرُ كذلك، فخرج، فزمان الحيض والخروج، لا يعتد به، ويجب تلافيه، وليس كالأوقات التي تمضي في الأغراض المستثناة، والسبب فيه أن استثناءه مُصرِّح باقتضاء حطّ الأوقات، فأما زمان الحيض والمرض، فليس يتعلق به لفظٌ يتضمن الحطَّ، وقد يستوعب الزمانُ [جملةَ] (2) الوقتِ المعيّن، فصار زمان العوارض (3) في حكم ترك الملتزَم، وإن كان الترك بسبب العوارض مسوَّغاَّ.
ومن نذر صوم يوم، ثم تركه من غير عذرٍ، قضاه، ولو تركه لعذر، قضاه.
نعم، الخروجُ لقضاء الحاجة مستثنىً عن هذا القانون، في كل مسلكٍ، ولا يجب تداركُه، ولهذا ذهب ذاهبون إلى أن الخارج في ذلك الوقت معتكفٌ.
وقد نجز غرضُنا في هذا القسم.
2378 - فأما القسم الثالث - وهو إذا جمع بين تعيين الزمان، وبين التعرض للتتابع، فقال: لله عليّ أن أعتكف العشرَ الأخير، من هذا الشهر، متتابعاً، فهل يثبت التتابع مقصوداً؟ حتى يقال: لو طرأ مفسد يبطل ما مضى؟ فعلى وجهين: أحدهما (4) أنه يثبت (5) حكم التتابع؛ فإنه تعرّض له، وجرّد القصد إليه، فلا منافاة بينه، وبين تعيين الزمان.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) مزيدة من (ط).
(3) إشارة إلى الحيض والمرض.
(4) (ط): أصحهما.
(5) (ك): لا يُثبت.

(4/93)


والوجه الثاني - أن التتابع يُلغَى، والغلبة لما عينه من الوقت، وذكر التتابع محمول على تواصل (1) الزمان. ثم ما قدمناه من الأحكام، المتعلقة بالتتابع، وتعيين الوقت لا تخفى إعادته هاهنا.
فهذا منتهى غرضنا في جمل عقد (2) المذهب، في قواعد الاعتكاف.
2379 - وقد قال صاحب التقريب: إذا وقع التفريع على الأصح في تصحيح الاستثناء عن التتابع، فلو قال الناذر: لله عليّ أن أتصدق بعشرة دراهم، إلا أن أحتاج قبل التَّصدُّق (3)، فإذا احتاج، فهل يسقط واجب النذر إعمالاً للاستثناء؟ [قال:] (4) المسألة محتملة. وكذلك لو فُرض في نذر الصوم والصلاة وغيرهما من القرب الملتزمة بالنذر. وطرد هذا فيه، إذا قال: لله عليّ شيء من ذلك، إلا أن يبدوَ لي. زعم أن المسألة محتملة؛ إذا بدا له. ولم يُشر في مجاري كلامه إلى إفساد النذر، لمكان الشرط.
نعم ذكر شيخي أنه لو استثنى في هذه القربات ما يتعلق به غرض، كالافتقار في نذر الصدقة، وكما (5) يناظر هذا في كل قُربة، فالاحتمال لائح.
فأما إذا قال: إلا أن يبدو لي، فالأوجه إبطال هذا الاستثناء؛ فإنه غير متعلق بغرض. وقد يتجه عندنا إفساد النذر، في هذه الصورة؛ فإنه إذا علق بِخيَرة نفسه، فهو مضادٌّ لمعنى الإلتزام، وتعويل الوفاء على التصميم إذاً (6)، والمصمم على التطوع يُمضيه.
2380 - وألحق العراقيون شيئاً بهذا الفصل يدانيه من وجهٍ، [و] (7) الغرض منه
__________
(1) (ط): تتابع.
(2) (ط): في عقد جمل المذهب.
(3) (ط): الصدقة.
(4) في الأصل، (ك): فإن.
(5) (ط): كما. (بدون الواو).
(6) (ط): أداءً.
(7) زيادة من (ط).

(4/94)


غيرُه، فقالوا: إذا كان نَذَر صوماً، ثم شرع فيه، وفاء بالنذر، وشرط أن يتحلل عنه، إن عنّ عارض عيّنه، مما يعد [عَرَضاً] (1) مؤثراً، وإن لم يكن في عينه مبيحاً للخروج، كالمرض التام المؤثر في إثبات رخصة الإفطار، قالوا ينعقد الصوم، ويثبت التحلل [عندنا، على] (2) شرط القضاء؛ لأجل الاستثناء.
ولو شرط التحلل عن الحج لعارض المرض، وهو -كيف قدر- لا يبيح التحلّلَ عندنا لعينه، فهل يثبت التحلل بالشرط؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما في المناسك، -إن شاء الله تعالى- وسبب الفرق أن الحج مباينٌ لسائر العبادات، في مزيد [التأكيد] (3).
هذا ترتيبهم.
وكان شيخي يقلب هذا الأمرَ، ويجعل التحلّلَ في الحج وفاءً بالشرط- أولى بالثبوت؛ لخبرٍ فيه ما سنرويه في موضعه؛ إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهلِّي، واشترطي أن محلي حيث حبستني " (4) ويقول: لو فرض شرطٌ مثلُه في الصوم المنذور، فلا ينقدح إلا بطلان الشرط، [أو] (5) بطلان النية بالشرط، حتى لا ينعقد الصوم كذلك.
2381 - ومن تمام القول في الاستثناء في الاعتكاف [أنا] (6) إذا صححناه، لم يزد على مقتضاه، حتى لو استثنى عيادة المرضى، لم يخرج لأمرٍ هو أهم منها. وقال الأصحاب: لو ذكر عيادةَ زيدٍ، لم يخرج لعيادة عمرو. ولو قال: أخرج لكل شُغل يعنّ لي، فهو صحيح، فليخرج إن أراد، لكل ما يُعد شغلاً، ديناً ودنيا، على شرط
__________
(1) في الأصل، ط: غرضاً.
(2) عبارة الأصل، (ك): ويثبت التحلل عن شرط القضاء.
(3) الأصل، (ك): الناذر.
(4) حديث: " أهلي واشترطي ... " متفق عليه من حديث عائشة في قصة ضُبَاعة بنت الزبير (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 37 ح 754).
(5) الأصل، (ك): و.
(6) الأصل، (ك): أما.

(4/95)


أن يكون مستباحاً في الشرع. وليس من الأشغال الخروجُ للنظر إلى رُفقةٍ، [أو] (1) مجتمعٍ، فإن هذا يعد في العرف هَزلاً، غير محصل. وقد يمكن أن يضبط الشغل بمقصود (2) المسافر في مقصد سفره، على ما تفصّل في موضعه.
ولو قال: أخرج مهما أردتُ، فهذا ضد التتابع، فكأنه التزم التتابعَ، ثم نفاه، وفيه وجهان: أحدهما - أن التتابع يَبْطل التزامُه.
والثاني - أنه يلزمه، ويبطل الاستثناء.
وقد يلتفت هذا على شرائط فاسدة، تُقرَن بالوقوف والحُبُس، فإنا (3) في مسلكٍ لنا نُبطل الشرطَ وننفذ الوقف، وفي مسلكٍ آخر نُبطل الوقفَ، لاقترانه بالشرط المفسد.
2382 - هذا تمام البيان في ذلك.
فصل
قال: " واعتكافه في المسجد الجامع أحب إليّ ... إلى آخره " (4).
2383 - هذا الفصل يستدعي تقديمَ القول في تعيين المساجد في الاعتكاف.
فنقول: أولاً - إذا عين مسجداً في نذرِ صلاةٍ، فقال: لله عليّ أن أصلي في هذا المسجد، فإن كان غيرَ المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد القدس، لم يتعين المسجد للصلاة، وله أن يقيمها في غير ذلك المسجد، ولا حرج عليه في إقامتها في غير المساجد.
ولو عين مسجد القدس، ومسجد المدينة، ففي وجوب الوفاء قولان، فإن عين المسجدَ الحرامَ للصلاة في سياق نذرها، ففي المسألة طريقان: قال قائلون: يجب
__________
(1) في الأصل، (ك): ومجتمع.
(2) في الأصل، (ك): لمقصود.
(3) (ط): فأما.
(4) ر. المختصر: 2/ 33.

(4/96)


الوفاء، قولاً واحداً. وخرّج آخرون المسألة على قولين في المسجدين: مسجد المدينة، ومسجد إيليا (1).
وتفصيل ذلك والتفريع عليه يُستقصى في كتاب النذور -إن شاء الله تعالى-.
فأما إذا عين مسجداً غير المساجد الثلاثة في سياق نذر الاعتكاف، ففي تعيين المسجد وجهان: أحدهما - أنه لا يتعين، كما لا يتعين للصلاة. والثاني - أنه يتعين، وهو ظاهر النص، والسبب فيه أن الاعتكاف في الحقيقة انكفافٌ عن الانتشار في سائر الأماكن والتقلب فيها، كما أن الصوم انكفاف عن [أشياء زمناً] (2) مخصوصاً، فنسبة الاعتكاف إلى المكان، كنسبة الصوم إلى الزمان.
ولو عين الناذر يوماً بعينه [لنذر] (3) صومه، تعين اليوم، على المذهب الأصح، فليتعيّن المسجد بالتعيين أيضاًً، ثم إذا تعين ما سوى المساجد الثلاثة (4)، فتعيّنها أولى. وإن لم يتعين ما سواها، ففي تعيينها القولان المذكوران في الصلاة، وينبغي أن يكون صَغْو الفقيه إلى [كون] (5) التعيين أليق بالاعتكاف منه بالصلاة.
وهذا يقتضي ترتيباً في محل الخلاف: فإذا ثبت ذلك، قلنا بعده: لو عين مسجداً لنذره، فليلتزمه، وإن أقام الاعتكاف في غيره، لم يُعتدّ به. وإن قلنا [إنه] (6) لا يتعين، فلو [خاض] (7) في الاعتكاف في مسجدٍ كان عينه، ثم خرج لقضاء حاجةٍ، وعاد إلى مسجدٍ آخرَ، على مثل مسافة ذلك المسجد، أو أقرب [منه] (8) ثم اعتاد ذلك مثلاً في كل خرجة، فقد اختلف أئمتنا: فقال بعضهم: يجوز، وهو القياس؛ فإنه آتٍ بالاعتكاف، ولا تعيُّنَ، والخرجات لقضاء الحاجات مقتصدةٌ على الضبط
__________
(1) إيليا: اسم مدينة بيت المقدس؛ قيل: معناه: بيت الله. (معجم البلدان).
(2) في الأصل، (ك): انتشارٍ ما.
(3) في الأصل، (ط): كنذر.
(4) في الأصل، (ك): الثلاث. وهو جائز حيث تقدّم المعدود.
(5) مزيدة من (ط).
(6) مزيدة من (ط).
(7) في الأصل، (ك): فاض.
(8) مزيدة من (ط).

(4/97)


المقدّم. وجَبُن (1) بعض الأصحاب، فمنع هذا، صائراً إلى أن [الخوض في] (2) الاعتكاف في مسجدٍ يوجب إتمامه فيه، وإنما الكلام فيما قبل الشروع. وهذا ساقطٌ، لا أصل له، فينبغي ألا يعتد به.
2384 - عاد بنا الكلامُ إلى ما ذكره الشافعي، إذ قال: " الاعتكاف في المسجد الجامع أحب إليّ "، وإنما قال ذلك، لكثرة الجماعة في المسجد الجامع، وقد يزيد أمد اعتكافه المتتابع على أسبوع، فإذا كان في الجامع، لم يحتج إلى الخروج عن معتكَفه. وقد بنى الشافعي قولَه هذا على تعيّن المسجد؛ فإنه عوّل في تعويل الاستحباب، على أنه لا يحتاج إلى الخروج من معتكفه للجمعة، وإذا قلنا: لا يتعين المسجدُ، فلا يمتنع فرضُ خروجٍ لقضاء [الحاجة] (3) مع العود إلى الجامع، كما مهدنا في المقدمة صورَ الوفاق والخلاف.
ثم يتصل بهذا الفصل أنه [إن] (4) عيّن غير الجامع، وزاد أمد اعتكافه على الأسبوع، فيلزمه الخروج إلى الجمعة، فإذا عيّنَّا المسجدَ بالنذر، ثم أوجبنا الخروج، فهل ينقطع (5) التتابع؟ فيه اختلاف [قولٍ] (6) وله نظائر، سأذكرها مجموعةً في فصلٍ، بعد ذلك.
والذي [ننجزه] (7) هاهنا: أن نذره لا ينتهض عذراً في جواز ترك الجمعة؛ فإنه هو الذي أدخل على نفسه هذا التضييق، والعسر (8)، فليتأمل الناظر ذلك.
وإن لم يعين المسجدَ، فلو خرج لحاجةٍ، ثم عاد على قُربٍ، من الزمان
__________
(1) وصف عجيب، ينبئ عن حدّةٍ في طبع إمامنا الجليل، وعن إيمانه بالقواعد والمعاقد التي يضعها، للالتزام بها، والتفريع عليها.
(2) زيادة من (ط).
(3) في الأصل، (ك): حاجة.
(4) مزيدة من (ط).
(5) (ط): يتقاطع.
(6) في الأصل، (ك): قوله.
(7) في الأصل، (ك): ننحوه.
(8) (ط): والعَنْس. (وفيها معنى الاحتباس). (المعجم والمصباح).

(4/98)


والمكان إلى الجامع، فالمذهب أن تتابعه لا ينقطع، ولو خرج إلى الجامع من غير توسط الخروج لقضاء الحاجة، فهذا خروجٌ إلى واجب، ففيه الخلاف المقدّم الذي رمزنا إليه، ووعدنا تقريره مع نظائره.
فصل
قال: " ولا بأس أن يسأل عن المريض ... إلى آخره " (1)
2385 - وقد ذكرنا أن الحائض في الاعتكاف المتتابع، إذا لم تستثن شيئاً، لم تخرج إلا لقضاء الحاجة، وألحقنا بها في التفصيل ما مضى.
فلو خرج لعيادة مريض قصداً، بطل تتابعه، وبطل ببطلانه اعتكافُه، ولو رأى مريضاً على طريقه، في ممره إلى قضاء حاجته، فعاده، ولم يُطل، فلا بأس؛ فإن هذا لا يعد قصداً إلى العيادة، ولو مال عن الطريق، فعاد مريضاًً يبطل التتابع؛ فإنه تجديد قصدٍ، ولو سأل عن المريض غيرَه، ممن يصادفه، على [طريقه] (2) فلا بأس، وإذا لم تؤثر عيادته مريضاً على ممرّه، فلا شك أن السؤال عنه على الممر لا يؤثر، ولو دخل منزلَه، فجلس جلسة حتى يُهيَّأ له موضعُ الحاجة، احتُمل ذلك، وعُدّ اشتغالاً بقضاء الحاجة، فلو أنه في هذه الحالة تعاطى لقماً، فأكلها، فلا بأس، ولو قضى حاجته، ثم خرج وأكل لقماً، ولم يأت بأكلٍ مقصود في نفسه، فهذا القدر لا يؤثر أيضاًً -وإن وقع بعد الفراغ- على الأصح من المذهب، وفيه شيء على بعد.
وقد ذكرت في الانتقال إلى المنزل للوضوء من غير قضاء حاجةِ البلوى خلافاً، ولا خلاف أن من قضى حاجته واستنجى، لم نكلفه نقلَ الوضوء إلى المسجد، فإن هذا يقع تابعاً، وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسأل عن المريض، إلا مارّاً في اعتكافه، لا يعرج على شيء " (3).
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 33.
(2) في الأصل، (ك): طريق.
(3) حديث عائشة رواه أبو داود، وقد ضعَّف الحافظ إسناده، ثم قال: " والصحيح عن عائشة من=

(4/99)


وقد أجمع أصحابنا على أن الوقفة القريبة لا تؤثر إذا لم تصر (1) العيادة مقصودة، ولو ازورّ مسرعاً، وعاد مريضاً، وعاد في زمن يحتمل مثله، بين الرَّيْت والعجل، فالذي جاء به يقطع التتابع لمكان القَصْد، والعيادة (2) على الطريق يعتبر [فيها] (3) طول الزمان وقصره.
ثم الذي إليه الرجوع أن يزيد الأمدُ زيادةً تزيد [على وصف الاقتصاد، بحيث تزيد على الاتئاد] (4)، بحيث يُحسّ به (5) المنتظر المراقب.
وما ذكرناه في الأكل جريانٌ على الأصح في أنه لو خرج للأكل، لم يجز.
فصل
قال: " ولا بأس أن يشتري، ويبيعَ ... إلى آخره " (6).
2386 - إذا اشتغل في معتكفه بالبيع والشراء، لم يبطل اعتكافُه، وكذلك (7) إذا كان يَخيط، أو يحترف بحرفة أخرى، ولا فرق بين أن يقع ذلك، وهو صنعةُ الرجل يتبلغ بها، وبين ألا تكون صنعتَه.
وعن مالك (8): أنه إذا كان يقيم صنعةً يكتسب بها في المسجد، لم يصح
__________
=فعلها وكذلك أخرجه مسلم وغيره، ا. هـ (ر. أبو داود: الصوم، باب المعتكف يعود المريض، ح 2472، مسلم: الحيض، باب جواز غسل الحائض رأس زوجها، ح 297، التلخيص: 2/ 419 ح 952).
(1) (ط): تغير.
(2) (ط): فالعيادة.
(3) مزيدة من (ط).
(4) زيادة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): تزيد على الارتياد على وصف الاقتصاد.
(5) (ط): بحيث تجزئه المنتظر.
(6) ر. المختصر: 2/ 34.
(7) (ط): فكذلك.
(8) ر. تهذيب المدونة: 1/ 389، حاشية العدوي: 1/ 413.

(4/100)


اعتكافه، وهذا باطلٌ [عندنا] (1)؛ فإن انحصاره في المسجد هو الاعتكاف، إذا اقترنت به النية.
وفي بعض التصانيف (2) إضافة مذهب مالك إلى الشافعي على البت (3)، وهذا غلطٌ صريح، ولو جاز أن نعول على ما ذكره مالك، لامتنع الاعتكافُ رأساً، فإن صاحبه اتخذ المسجد بيتَه، ومسكنه، فلا حاصل لهذا، لا نقلاً، ولا تعليلاً.
2387 - ثم قال الشافعي: ولا يُفسده سباب، ولا جدال، والأمر على ما قال.
لا يَفسدُ الاعتكافُ بهذا، كما لا يفسد الصوم بمثله.
قال الصيدلاني: ولكن يذهبُ أجرُه بذلك، وتفوته الفضيلة، وليس الكلامُ في الأجر والفضيلة من شأن الفقهاء، فلا حاصل لما ذكره، والثواب غَيْب لا مطَّلع عليه.
وإن ورد خبر في أن [الغِيبة] (4) تُحبط الأجرَ، فهو تهديد مؤوَّل، وقد يرد مثله في الترغيب.
ثم ذكر الشافعي في أثناء الكلام: أن صاحب الاعتكاف المتتابع لا يخرج لشهود الجِنازة، فإن أدخلت الجنازة رحبةَ المسجد، وهي من المسجد، فلا كلام، وإن خرج لقضاء حاجته، فصادف جنازةً على الطريق، فصلى عليها، فلا بأس؛ فإن الزمان قريب.
فليتخذ الفقيه هذا معتبرَه، وليثق بما ذكرناه في الوقوف للعيادة، ولا يزْوَرُّ (5) للصلاة على الجنازة.
__________
(1) في الأصل، (ك): عندي.
(2) يتأكد هنا أن المراد ببعض التصانيف كتب أبي القاسم الفوراني، حيث يرفض إمامنا إضافته مذهب مالك إلى الشافعي وحكايته على أنه مذهب الشافعي مروي عنه، وقد أكد السبكي أن حملة إمام الحرمين على الفوراني، إنما هي من جهة تضعيفه في النقل (ر. الطبقات: 5/ 110).
(3) (ك): اللبث.
(4) الأصل، (ك): الفتنة.
(5) ط: يرون، ويزورّ: أي يميل عن طريقه.

(4/101)


فصل
قال: " ولا بأس إذا كان مؤذِّئاً أن يصعد المئذنة، فإن كانت خارجةً ... إلى آخره " (1).
2388 - إذا شرع المؤذن في اعتكافٍ، متتابعٍ، ثم كان يصعد المئذنة، ويؤذن، فإن كانت المئذنة من المسجد، فلا إشكال في دوام الاعتكاف؛ فإن المئذنة بمثابةِ بيتٍ في المسجد.
وإن كانت المئذنة خارجةً عن سمت المسجد، متصلةً به، وكان بابُها لافظاً في المسجد نفسِه، فقد قطع الأئمة بأن التتابع لا ينقطع بالخروج إليها، والرقيّ فيها.
2389 - وإذا كانت لا تُعد من المسجد، ولو نذر (2) الاعتكافَ فيها، لم يصح؛ فإنّ حريم المسجد، لا يثبت له حكم المسجد في جواز الاعتكاف فيه، وتحريمِ المكث على الجُنب، والمرورِ على الحائض، ولكن النص قاطع بما ذكرناه. ولم أعثر بعد على خلافٍ [للأصحاب] (3) فيه، مع الاحتمال الظاهر في القياس؛ فإن الخارج إلى هذه المئذنة خارجٌ إلى بقعةٍ غيرِ صالحةٍ للاعتكاف.
ولو كان بابُ المئذنة إلى الشارع، أو إلى الحريم، وكان المؤذّن يخرج إلى موضع الباب، ويرقى، ففي انقطاع تتابعه وجهان مشهوران: أحدهما - الانقطاع وقياسه بيّن، والثاني -[أنه لا ينقطع لمعنيين: أحدهما - كون المئذنة على الحريم، والحريمُ من حقوق المسجد، والثاني] (4) - أن خرجاته للأذان مستثنىً في ظاهر حاله، كخرجات الرجل لقضاء حاجته.
وهذا في المؤذن الراتب، فأما غيره إذا خرج، فإن قلنا: ينقطع تتابع المؤذنِ
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 34.
(2) (ط): قدّر.
(3) في الأصل، (ك): الأصحاب.
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).

(4/102)


الراتب، فلأن ينقطع تتابع هذا أولى، وإلا، فوجهان، على المعنيين، فمن اعتمد استثناء المذهب (1) [لخرجاته] (2) حكم ببطلان تتابع من ليس راتباً، ومن عوّل على الحريم، لم (3) يُبطل اعتكافَ غير الراتب أيضاًً.
فهذا غاية النقل، مع التنبيه على الاحتمال، والإشكال.
2390 - والقول الحاصل: أن الباب إذا كان لافظاً في المسجد، وانضم إليه الرقيّ للأذان من الراتب، فلا خلاف من طريق النقل، وفي الاحتمال ما ذكرناه.
فإن كان في الحريم، والباب خارجٌ، فالخروج للأذان من الراتب على وجهين، ومن غير الراتب للأذان على خلافٍ مرتبٍ، والخروج من الراتب وغيرِه لغير الأذان -والباب خارج- يقطع التتابعَ.
والرقيّ في المئذنة اللافظ بابها في المسجد، لغير الأذان [لا] (4) نقل فيه عندنا، والظاهر الانقطاع؛ فإن المئذنة، وإن كانت لافظةَ الباب في المسجد، فإنها ليست معدودةً من المسجد؛ إذ لا يجوز الاعتكاف فيها.
فهذا تمام المراد في ذلك.
2391 - وفي النفس شيء، يتعلق تمام البيان فيه، بذكر معنى الحريم، وسنجمع (5) قولاً بالغاً في كتاب الصلح -إن شاء الله تعالى- وفيه نبيّن حريمَ المسجد، والمِلْك.
ولا شك أن المؤذن لو دخل حجرةً مُهيَّأة للسكنى بابها لافظ في المسجد، يبطل اعتكافه، وإنما قيل ما قيل في المئذنة، لأنها مبنيةٌ لإقامة شعار المسجد.
__________
(1) (ط): العادة.
(2) في الأصل، (ك): بخرجاته.
(3) (ط): لا.
(4) الأصل، (ك): فلا.
(5) (ط): نجمع.

(4/103)


2392 - ثم قال الشافعي: " وأكره الأذان بالصلاة للولاة " (1). فمن أئمتنا من قال: ليس هذا من مسائل الاعتكاف، بل هو كلام معترض فيها، والمراد أنا نكره للمؤذن أن يأتيَ بابَ الوالي وغيره، فيؤذنَ على بابه، أو (2) يأتي ببعض كلمات الأذان، كالحيعلتين؛ فإن الأذان الراتبَ دعوةٌ عامة، فليكتفِ بها (3) آحاد (4) الناس.
ولو حضر المنبِّه أبوابَ الأعيان ونادى بالصلاة، ولم يذكر شيئاً من كلم (5) الأذان، فقد اختلف أئمتنا في ذلك (6): فمنهم من قال: إنه لا يكره، وهو اختيار القفال، ويشهد له: أن بلالاً كان يأتي بابَ حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا قرب قيامُ الصلاة، وينادي: " الصلاةَ الصلاةَ " (7).
والشاهد في كراهية الأذان، ما روي: " أن المؤذن أتى بابَ عمر، بعد ما أذن للعامة، فأذن له (8)، فأنكر عليه، وقال: أما يكفيني أذان العامة " (9).
فهذا ما يتعلق بالكراهية في ذلك، نفياً وإثباتاً.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 34.
(2) (ط): ويأتي.
(3) (ط): بهذا.
(4) كذا في النسخ الثلاث، ولعلها: كآحاد الناس.
(5) (ط): كلام.
(6) (ط): اختُلِفَ فيه.
(7) خبر نداء بلال ... لم نجده بهذا السياق، وإنما جاء في كنز العمال من حديث ابن عمر: " جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه الصلاة، صلاة الصبح، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله! قالها مرتين أو ثلاثاً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أغفى، فجاء بلال فقال: الصلاة خير من النوم ... " (ر. الكنز: 8/ 357 ح 23253 وعزاه لأبي الشيخ، وللضياء المقدسي في المختارة).
(8) (ط): به.
(9) خبر الأذان بباب عمر لم نجده بهذا اللفظ، وإنما روى الضياء المقدسي في المختارة أن عمر قدم مكة، فأتاه أبو محذورة، فقال: " الصلاة يا أمير المؤمنين، حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال له عمر: حي على الصلاة حي على الفلاح! أما كان في دعائك الذي دعوتنا ما نأتيك، تأتنا ثانياً؟! (ر. كنز العمال: 8/ 341 ح 23168).

(4/104)


وحمل بعضُ الأصحاب هذا على مسائل الاعتكاف، وزعم أن المراد أن المؤذن لا يخرج من معتكفه ليقف على الأبواب، وينادي، ولو فعل ذلك، انقطع تتابع اعتكافه، وهذا يخالف خروجَه للأذان على حريم المسجد، كما سبق (1) التفصيل [فيه] (2).
فصل
قال: " وإن كانت عليه شهادةٌ ... إلى آخره " (3).
2393 - نذكر في هذا الفصل خرجاتٍ، ضروريةٍ، طارئةٍ، على الاعتكاف المتتابع. وأصل جميعها أن المرض إذا ثقل، وعسر احتمالُه في المسجد، فإذا خرج المعتكف لأجله، ففي انقطاع التتابع القولان المقدَّمان.
ويقع في مرتبته ما إذا [أخرج] (4) الإنسان عن معتكفه قَهْراً (5)، والجامع بينهما أن كل واحد منهما عارضٌ ضروري، لا يحكم عليه بغلبة الوقوع، قبل [اتفاقه] (6)، فالمعتكف (7) غير منتسب فيه إلى تفريطٍ سابق.
ومما يتعين التنبه له [أن] (8) الصائم لو أُوجر الطعامَ، لم يفطر وفاقاً، ولو أكره حتى [طعم] (9)، ففي الفطر قولان.
والخروج من المعتكَف، لا فرق فيه بين أن يُكرَه حتى يخرج بنفسه، وبين أن يُحمل، بل نفسُ مفارقةِ المسجد، إذا تحقق، نيط به من الحكم ما يقتضيه الحال.
والذي أراه أن المعتكِف، لو خرج من معتكَفه ناسياً، فيظهر الحكمُ بانقطاع
__________
(1) (ط): تبين.
(2) ساقط من الأصل، (ك).
(3) ر. المختصر: 2/ 34.
(4) في الأصل، (ك): خرج.
(5) (ط): فهذا.
(6) في الأصل، (ك): إيقاعه.
(7) (ط) والمعتكف.
(8) زيادة من (ط).
(9) في الأصل، (ك): يطعم.

(4/105)


تتابعه، بناء على هذا الأصل، الذي مهدناه، والغاية فيه أن يُلحق النسيانُ بالمعاذير، حتى يتردد القولُ، وليس كالأكل على حكم النسيان في الصوم.
2394 - ولو تحمل الرجل شهادة، ثم اعتكف اعتكافاً متتابعاً، وطُلب منه أداء الشهادة؛ فإن لم يتعين عليه أداؤها، فليس له أن يخرج، وإن خرج، انقطع تتابعه.
وإن تعين عليه الخروجُ -وتفصيله (1) في كتاب الشهادة- ففي انقطاع تتابعه قولان، مرتبان على القولين فيه إذا خرج لمرض أو أخرجه مخرج. وهذه الصورة الأخيرة أولى بانقطاع التتابع؛ من جهة أن التحملَ المتقدم على الاعتكاف تسبُّبٌ منه إلى الخروج من المعتكف، ولئن لم تلحقه التهمة (2) في تحمله، فقد كان متمكناً من الاستثناء، فإذا أغفله، وضح من هذه الجهة تقصيرُه.
وقد تردد بعضُ المحققين في أن استئناءَ إخراج السلطان إياه من المسجد، هل ينفع على قولينا: إنه يقطع التتابع؟ فقال بعضهم: ينفع. وقال آخرون: لا أثر للاستثناء (3 فيما يتعلق بالغير، وإنما يؤثر الاستثناء 3) المرء، وهذا لطيفٌ. وهو تفريع على إعمال الاستثناء.
2395 - ولو التزم الرجل حداً، ثم شرع في اعتكافٍ متتابعٍ، فأخرجه السلطان، لإقامة الحد عليه، فقد ذكر الشيخ أبو علي قولين، في انقطاع التتابع، ولا بد من ترتيبها على تقدم تحمل الشهادة، وهذه الصورة الأخيرة أولى بانقطاع التتابع؛ من جهة الانتساب إلى المعصية، الموجبة للحد، والحكمُ ببقاء التتابع، من فن التخفيف، وهو غير لائقٍ بالمتسبب على حكم المعصية.
2396 - ولو اعتكفت المرأةُ اعتكافاً منذوراً، متتابعاً، فمات عنها زوجُها، في أثناء الاعتكاف، أو طلقها، فالغرض من هذا ينبني على تصوير الإذن فيه وعدمه من الزوج.
__________
(1) أي تفصيل التعين.
(2) (ط): لائمة.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ط).

(4/106)


فإن نذرت بإذنه، ودخلت المعتكَف، بإذنه، لم يملك الزوج إخراجها، وإن وُجد أحدهما بإذنه، دون الثاني، ففيه خلافٌ، وموضع استقصائه كتاب النذور والأيمان.
وإن كان الزوج يملك إخراجها من المعتكَف، لو دام النكاح، فمات عنها، أو طلقها، فيلزمها الخروج عن المعتكَف، والعَود إلى مسكن النكاح، للاعتداد، فإذا خرجت، ففي انقطاع التتابع الخلافُ المقدَّم. وهذا يلتحق بالمرتبة الأخيرة، إن عصت بدخول المعتكَف، وإن لم تعصِ، ولكنا كنا جوزنا للزوج الرجوعَ عن الإذن، على أحد الوجهين فيه إذا جرى أحد السببين بإذنه، والآخر بغير إذنه، فهذا يلتحق بمرتبةِ تحمّل الشهادة.
ولو كان الزوج لا يملك إخراجها لو دام النكاح، فإذا طلقها، أو مات عنها، فهل لها أن تُتم اعتكافها للإذن السابق؟ فعلى وجهين، سنذكر أصلهما في كتاب العِدد.
فإن قلنا: لا تخرج، فلو خرجت، بطل اعتكافها. وإن قلنا: يلزمها الخروجُ بطريان العدة، ففي انقطاع التتابع قولان، كما قدّمنا ذكرهما، قبيل هذا في أمر العدة.
فهذا بيان ابتناء هذه الخرجات الواجبة، على الخروج لأجل المرض مع ترتيب المراتب.
فصل
2397 - نجمع في هذا الفصل مفسداتِ الاعتكاف، في قَرَنٍ (1): فمنها الجماع، فكل جماعٍ يُفسد الصومَ مفسدٌ (2) للاعتكاف، منافٍ له.
2398 - فأما المباشرةُ دون الجماع، فقد اضطربت النصوص فيها، فقال في كتاب الصيام: لا يباشر المعتكف، فإن فعل، فسد اعتكافه، وقال في موضع آخر:
__________
(1) القَرَن بفتحتين: الحبل يجمع به البعيران، والمعنى نجمع مفسدات الاعتكاف هنا في سياق واحد متتابعةً.
(2) في الأصل، (ك): فهو مفسد.

(4/107)


لا يفسد الاعتكاف إلا بالوطء الذي يوجب الحد.
واضطربت الأئمة في ترتيب المذهب. ونحن نفرض مباشرةً وهي التقاء البشرتين، من غير إنزالٍ، ثم نفرضها مع الإنزال.
فإن لم يتفق الإنزال، فمن أصحابنا من خرّج قولين في أنها هل تُفسد الاعتكاف؟ أحدهما - لا تفسده، كما لا تفسد الصومَ.
والثاني - تفسده، لظاهر قوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. والغالب على الظن أن المراد المباشرةُ، دون الإنزال، والجماع، فإنهما لا يقعان (1)، ولا يخفى على العامة اجتنابُهما، فتخصيص المباشرة بالنهي عنها في الاعتكاف، يشعر بالمباشرةِ العريّه عن الإنزال، فقد عُدّت خصّيصة (2) بمحظورات الاعتكاف، ثم هي محظورة في الحج، وإن لم تكن مفسدةً له.
فأما المباشرة إذا اتصل بها الإنزال، فالذي يليق بالتحقيق القطعُ بأنها تُفسدُ الاعتكاف، كما تُفسد الصوم، وهي بإفساد الاعتكاف أولى، فإنا قد نُحوَجُ (3) إلى تكلّفٍ في تعليل إفساد الصوم بالإنزال، فإنه ليس جِماعاً، ولا دخول داخلٍ إلى الجوف، وتعليل إفساد الإنزال للاعتكاف لائحٌ، من جهة أن المنزل مُجنب، ويحرم على الجنب المكثُ في المسجد، والاعتكاف مكثٌ في المسجد، ويستحيل أن يكون المكثُ محرماً منهيّاً عنه [نهياً] (4) مقصوداً، ثم يقع قُربة، مأموراً بها، وليس ذلك من قبيل الصلاة في الدار المغصوبة؛ فإن النهي لا يتجرد إلى الصلاة قصداً، كما قررناه في فن الأصول (5).
وذكر بعض أصحابنا قولين في المباشرة مع الإنزال، وزعموا أن الإفساد يختص
__________
(1) كان المعنى لا يقع فيهما -أعني الإنزال والجماع- المعتكف، ويتحاشاهما، لظهور حكمهما، كما هو واضح من السياق.
(2) الخصّيص: الأخص من الخاص (معجم).
(3) (ط): نخرج.
(4) مزيدة من (ط).
(5) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة 208 - 212.

(4/108)


بالجماع، وهذا مشهورٌ في الحكاية، [و] (1) لا اتجاه له أصلاً عندنا، لما نبهنا عليه من خروج الجنب، عن أن يكون أهلاً للكَوْن في المسجد.
ثم [من] (2) خصص الإفساد بالجماع، فيظهر عندنا أنه يَعتبر فيه الجماعَ المفسدَ للصوم، من غير تعريجٍ على إيجاب الكفارة. وفي نص الشافعي ما يدل على اعتبار الجماع التام؛ فإنه قال، فيما نص عليه، في بعض المواضع: " ولا يَفسُد اعتكافه إلا بوطءٍ يوجب الحدَّ "، ومقتضى هذا أن إتيان البهيمة إذا لم يوجب [الحد] (3)، لم يتعلق به إفساد الاعتكاف (4)، والظاهر اعتبارُ (5) فساد الاعتكاف، بفساد الصوم، وقد قدمنا أن الصوم يَفسُد بكل جماع، يوجب الغُسل.
وإذا قلنا: المباشرةُ تفسد الاعتكاف من غير إنزال، فالضبط فيه: أن كل ما يوجب من هذا النوع الفديةَ على المحرم، يُفسد الاعتكاف. وضبط [البابين] (6) جميعاً: ما ينقض الوضوء [نفياً] (7) وإثباتاً، وفاقاً وخلافاً.
__________
(1) مزيدة رعاية للسياق، واستئناساً بما حكاه النووي في المجموع عن إمام الحرمين (المجموع: 6/ 525).
(2) مزيدة من (ط).
(3) مزيدة من (ط).
(4) قال الإمام النووي تعليقاً على هذا الكلام: " وهذا الذي قاله الإمام عجب، فإن المذهب المشهور أن الاعتكاف يفسد بكل وطء ... ومن أظرف العجائب قول إمام الحرمين هذا، مع علو مرتبته وتفذذه في العلوم مطلقاً رحمه الله تعالى ". ا. هـ (المجموع: 6/ 525).
ومع شهادة النووي لإمامنا بعلوّ المرتبة، والتفذذ في العلوم مطلقاً، فنحن نرى في كلامه شيئاً من التحامل، فإمام الحرمين لم يأت بهذا من عند نفسه، بل رآه مدلولاً ومأخوذاً من نص الشافعي، ثم لم يقف عند هذا (العجب) الذي حكاه النووي، بل عقب قائلاً: " والظاهر اعتبار فساد الاعتكاف بفساد الصوم، وقد قدمنا أن الصوم يفسد بكل جماع يوجب الغسل " وهذا النص واضحٌ بين يديك في أعلى الصفحة. وهو لا يختلف عن كلام النووي الذي علق به على قول الشافعي، فإمام الحرمين جعله (الظاهر) والنووي جعله (المذهب المشهور).
وكأني بالفرق قريب. والله أعلم.
(5) اعتبار: أي قياس، كما هو مفهوم.
(6) في الأصل، (ك): الناس.
(7) في الأصل، (ك): جميعاً.

(4/109)


2399 - ولم يختلف العلماء في أن الحيض ينافي الاعتكافَ؛ من جهة أن الحائض ليست من أهل المسجد أصلاً.
2400 - فأما الجنابة، فينبغي أن يتأنَّى الناظرُ فيها: أما القياس، فيقتضي لا محالةَ الحكمَ بمنافاتها الاعتكاف، ولكن قد نقل بعضُ الأئمة أن المباشرة إذا اتصلت بالإنزال، لم يفسد الاعتكاف، ومن ضرورة الإنزال الإجناب، فالوجه عندنا في تخريج ما قيل، على طريق أن نقول: للجنب حضور المسجد [مجتازاً] (1)، بخلاف الحائض، وقد ذكرنا أن من أصحابنا من جعل حضور المسجد اعتكافاً، من غير مُكث، فإن جرينا عليه، وفرضنا إنزالاً، واشتغالاً على أثره بالاغتسال من عينٍ في المسجد، فالجنابة لا تحرّم هذا الكَوْن، واللحظة الواحدة قُربةٌ، فلا يخرج الكَوْن فيها عن وضع الاعتكاف، فأما فرض المُكث في المسجد، مع الجنابة، فلم أرَ محققاً يستجيز الحكمَ بكونه اعتكافاً صحيحاً.
على أنا فيما ذكرناه على تكلُّفٍ فإن عبور الجنب في حكم المسوَّغَات (2)، ولا يجوز أن يقع في رتبة القُربات.
والذي يجب القطع به أن من اعتمد الإنزال وإن تأتى منه الاغتسالُ في المسجد، فيحرم منه، ما جاء به. [وللاحتمال فيه مجال] (3).
ولا وصول إلى ما تكلفناه على [صفوه] (4)؛ فإن الاشتغال بالاغتسال ليس من الخروج (5)، ويرد عليه أن دخول [المسجد] (6) جائزٌ للجنب، على قصد الإطراق.
__________
(1) في الأصل: مختاراً.
(2) المسوّغات: أي المسموحات المترخص بها.
(3) هذه عبارة (ط) أما الأصل، (ك): " والاحتمال فيه مُحالٌ ". وهو عكس المعنى تماماً، ولكن عبارة (ط) هي المعهودة في لسان إمام الحرمين، وقد سبق مثل هذا آنفاً.
(4) في الأصل، وك: صغره. والمثبت من (ط) ولعل المعنى: على صفو المسألة ووضوحها لا وصول إلى القطع فيها. والله أعلم.
(5) أي يعكر على القول بوقوع الاعتكاف من الجنب أن هذا (الكَوْنَ) منه في المسجد، لا يجوز إلا في حالة مروره مجتازاً للمسجد، والاشتغال بالغسل من الجنابة ليس خروجاً.
(6) بياض بالأصل.

(4/110)


فليقف الناظر عند معاصات (1) الكلام.
2401 - واستتمام هذا بما نصفه [قائلين] (2): إذا أجنب الرجل في المسجد، وكان بالقرب منه (3) ماءٌ يتيسر منه الانغماس فيه، على قربٍ من الزمان، ولو حاول الانفصالَ من المسجد، وقطْعَ عرصته الفيحاء (4)، لزاد زمان القطع على زمان الغُسل، فالذي ذهب إليه المحققون أنه يتعين عليه إيثارُ الخروج، ولا نظر إلى الزمان، طال (5) أو قصر.
وأبعد بعض الأصحاب، فقال: يجوز الاغتسال على الصورة التي ذكرناها.
وهذا ساقط، من وجهين: أحدهما - أن الاغتسال على حالٍ حطٌّ للجنابة، واتخاذ المسجد محلاً لمثل هذا غضٌّ من أُبَّهَتِه، وأيضاًً، فإباحة العبور ليست معقولةَ المعنى، وإنما كان يتطرق المعنى إلى ذلك لو خُصّ جواز العبور بالاضطرار، فإذ [ذاك] (6) كنا نقدر الحركاتِ على قصد الانفصال في حكم الخروج (7) من الأرض المغصوبة، وليس الأمر كذلك؛ فإن للجنب دخول المسجد على قصد الاطّراق، وإن وجد مسلكاً غيرَه، فالتعويل على ظاهر لفظ الكتاب العزيز (8). فكل ما لا يعد من قبيل العبور، بل يعد تعريجاً على أمرٍ، فهو نقيض العبور، والاشتغال بالاغتسال من ذلك.
ولم أر أحداً من الأصحاب يوجب إيثار الاغتسال نظراً إلى قرب الزمان.
و [حظُّ] (9) الاعتكاف من هذا الفصل، أنه قد ينقدح للناظر توجيه الاشتغال
__________
(1) عاص الكلامُ يعوص: خفي معناه، وصعب فهمه، فهو عويص، ومعاص اسم مكان من عاص. (المعجم).
(2) مزيدة من (ط).
(3) (ط): منها.
(4) عرصته الفيحاء: أي ساحته الواسعة. وفاحت الدار: اتسعت، فهي فيحاء. (المعجم).
(5) في الأصل، (ك): وإن طال .. (بزيادة وإن).
(6) الأصل، (ك): ذلك.
(7) ساقطة من (ط).
(8) يشير إلى قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43].
(9) في الأصل: حفظ.

(4/111)


بالاغتسال، في حق الجنب المعتكف؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج، وهذا ساقط؛ فإن الخروجَ إذا أمر به، فهو في معنى الخروج لقضاء الحاجة.
والذي يتنخلّ (1) عندنا من تنزيل هذا القول الذي شُهر، أن يقال: الإنزال إذا جرى من غير قصد، فالخروج من المسجد محمول على الخروج لقضاء الحاجة، ثم نفس الخروج مع [مباينته للمسجد] (2) غيرُ مؤثر، فليكن الخروج لأجل الإنزال بهذه المثابة.
وقد طال الكلام بعض الطول وسببه ما في هذا القول من الإشكال.
2402 - ومما نلحقه بمفسدات الاعتكاف شيئان، اختلف النص فيهما، ونحن ننقل النصَّين في موضعهما، ونذكر ترتيب المذهب في كل واحدٍ.
نص الشافعي على أن الردَّة لا تفسد الاعتكافَ، ونص على أن السكر يفسد الاعتكاف.
فأما الردة، فلأصحابنا فيها ثلاث طرق، قال بعضهم: هي مفسدةٌ للاعتكاف؛ فإنها محبطةٌ للأعمال المقترنة بها، فلا يتصور اعتداد بعبادةٍ تساوقها الردة. وهذا القائل يقول: نصُّ الشافعي محمول على اعتكافٍ غيرِ متتابع طرأت الردةُ في خلله، وقوله: " لا تُفسدُ الاعتكاف " معناه لا تُفسد ما مضى، ردّاً على أبي حنيفة (3)، حيث قال: الردة تحبط سوابق الأعمال، وإن اتفقت الموافاة (4) على الإسلام.
وفي هذا التأويل بعضُ البعد؛ فإن الشافعي قال في طارئ الردة: إنها لا تُفسد، ويبني إذا عاد إلى الإسلام، وهذا مشعرٌ بفرض الأمر في اعتكافٍ متتابع، [بفرض] (5) انقطاعه وانتظامه، فهذه طريقة.
__________
(1) (ك): ينتجل.
(2) زيادة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): مع أنه غير مؤثر.
(3) ر. المبسوط: 3/ 125، البدائع: 2/ 116.
(4) أي موافاة الأعمال لحالة الإسلام.
(5) في الأصل، (ك): لغرض.

(4/112)


ومن [أصحابنا مَنْ] (1) قال: الردةُ لا تفسد الاعتكافَ أصلاً؛ جرياً على النّص، وسنشير إلى ما قيل في توجيهه.
ومن أصحابنا من قال: إذا قصر الزمان، وعاد على قربٍ، انتظم الاعتكافُ المتتابع، وإن طال الزمان، انقطع التتابع. وسنبين حقيقة هذا الوجه أيضاًً.
فهذا نقل مقالات الأصحاب، لم نوجه منها إلا القولَ الأول [الظاهر] (2).
فأما السكر، فظاهر النص فيه، أنه يناقض ويُفسد، ولأصحابنا ثلاثُ طرق: منهم من قطع بأنه لا يفسد، كالنوم، واستمرار الغفلة.
ومنهم من قطع بالإفساد، قَلّ زمان السكر أو كثر.
ومنهم من قال: إن قلّ الزمانُ، فلا مبالاة به، وإن كثر، انقطع التتابع.
2403 - فإذاً في الردة والسكر في كل واحد منهما ثلاثُ طرق، غير أن القياسَ يخالف النصَّ في الموضعين، فالقياس [من الطرق الثلاث في الردة، الفسادُ، والمنافاة، والقياس] (3) من الطرق الثلاث في السكر، أن لا منافاة، ولا فساد.
وتكلف بعض أصحابنا، فذكر ما هو طريقة رابعة، والتزم الجريان على النصين، وقال: الردة لا تنافي؛ [فإن] (4) المرتد من أهل المسجد (5)، وخاصية الاعتكاف اختصاص بالمسجد. وأما السكران (6 فليس من أهل المسجد 6)، فإنه لا يبقى فيه.
وهذا تكلّف، لا أصل له.
ثم من قال: الردة لا تُفسد الاعتكاف، فليت شعري ماذا يقول فيه إذا أنشأ
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك).
(2) ساقط من الأصل، (ك).
(3) مزيدة من (ط).
(4) مزيدة من (ط).
(5) من أهل المسجد على معنى أن المسجد من المنافع العامة، وسيأتي بيان هذا الحكم في كتاب السير، حيث ذكر هناك وجهاً أن الذمي له أن يدخل المسجد ولا يمنع من الكَوْن فيه باعتباره ملكاً عامّاً.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(4/113)


الاعتكاف مرتدّاً؟ فإن قال: يصح اعتكافه، فهو أمر عظيم، وإن سلّم الفسادَ عند اقتران (1) الردة، فالفرق بين المقارن والطارئ عسِر، ولم يختلف أصحابنا في أن من ارتد في أثناء الوضوء، وغسل عضواً من أعضائه، في زمن ردته، لم يعتد بما أتى به في زمن الردة، والمكث الذي يقارن الردةَ الطارئة، كان يعتد به لولا الردة، فكيف الاعتداد به مع كَوْن (2) الردة.
فإن روجعنا [في الصحيح] (3) من ذلك، فالوجه الحكمُ بكون الردة مفسدةً، واحتمال بُعدٍ في التأويل للنص.
وأما السُّكْر، فإذا طال، فليس يبعد احتمالٌ في فساد الاعتكاف. على أن القياس أن لا يفسد مع تقدم النية. فإذاً يحمل النص على الإخراج من المسجد لإقامة الحدّ، وتكون فائدة التصوير أنه إذا كان منتسباً إلى التزام الحد، كان إخراجه على القهر، بمثابة خروجه من معتكفَه اختياراً.
وأما من قال بالفصل بين الزمان اليسير والكثير في الردة، فليس له وجه، به مبالاة.
ولكن إن لم يكن من المصير إلى ظاهر النص بُدّ، فقد ينتظم الاستنباط من قول الأصحاب في هذا [فصل] (4) وهو أن من خرج عن معتكفه مختاراً من غير عذر، انقطع تتابعه، وإن قرب الزمان. وإن بقي في معتكفه وطرأ مفسد، كالردة -إذا اعتقدناها مفسدة- فإذا قرب الزمان، فالأصحاب مترددون في انقطاع التتابع، كما نبهنا عليه، ولا وجه أصلاً للاعتداد بالزمان الذي كان مرتداً فيه.
فهذا منتهى الحِيَل (5) بعد النقل، في تنزيل كل قول، على الممكن فيه.
وقد نجز تمام المراد في جميع مفسدات الاعتكاف.
__________
(1) (ط): اعتقاد.
(2) أي وجودها.
(3) في الأصل، (ك): فالصحيح.
(4) في الأصل، (ك): قصد. هذا والمراد بقوله (فصلٌ) أي كلامٌ يسوقه ملخصاً جامعاً مرتَّباً.
(5) الحِيَل: جمع حيلة، وهي الحذق وجودة النظر، والقدرة على دقة التصرف في الأمور.
(المعجم).

(4/114)


فصل
قال: "وإن جعل على نفسه اعتكاف شهر ولم يقل متتابعاً، أحببته متتابعاً ... إلى آخره " (1).
2404 - من نذر اعتكاف شهر أو اعتكاف أيامٍ، ولم يتعرض للتتابع، ذِكراً، وعقداً، ولم يلفظ به، ولم يَنْوه، فلا يلزمه رعايةُ التتابع.
وكذلك القول في نذر صوم شهر، وصوم أيامٍ.
وقال: أبو حنيفة (2) في الصوم ما قلناه، وذهب إلى أن التتابع يجب في الشهر والأيام في الاعتكاف.
وحكى صاحب التقريب عن ابن سريج، أنه صار إلى مذهب أبي حنيفة في الاعتكاف، وهذا بعيد، ولست أدري ماذا يقول ابن سريج في الصوم؟ أيفصل بينه وبين الاعتكاف، كمذهب أبي حنيفة، أو يطرد مذهبه في البابين؟ ولا تفريع على هذا، ولا عودَ.
2405 - ولو قيد نذره بالتتابع، لزم. ولو نوى التتابع بقلبه، فمضمون الطرق أنه يلزم؛ فإن مطلق اللفظ يحتمله، وهذا كتنزيل النيات مع الكنايات منزلة الصريح.
فإذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماًً، والتفريع على ما هو المذهب، من أن التتابع لا يلزم، من غير لفظٍ، أو عقدٍ، فإذا قال: أعتكف يوماً، وأراد أن يعتكف نصفي يومين، أو [أثلاث] (3) ثلاثة أيام، ففي إجزاء ذلك وجهان (4) مشهوران: أحدهما - يجزىء؛ فإن التتابع لم يقع له تعرض، فكانت الساعات بالإضافة إلى اليوم، كالأيام
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 37.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 58، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 54 مسألة 543، المبسوط: 3/ 119، البدائع: 2/ 111.
(3) مزيدة من (ط).
(4) (ط): قولان.

(4/115)


المتفرقة بالإضافة إلى الشهر. والوجه الثاني - لا يجزئه؛ فإن الأيام المتفرقةَ، تسمى عشرةَ أيام، وتسمى عند تقدير الضم، والتلفيق، شهراً. والساعات المتفرقة، لا تسمى يوماً، فاسم اليوم إذاً ينطلق على ساعات متواصلةٍ من طلوع فجر إلى غروب شمس ذلك اليوم.
التفريع على الوجهين:
2406 - إن قلنا: يجزئه تفريق الساعات، فينبغي ألاّ يلزمه إلا ساعات أقصر الأيام؛ فإنه لو اعتكف في أقصر الأيام، كفاه.
وإن قلنا: لا يجزيه تفريقُ ساعاتِ اليوم، فلو بدا الاعتكافَ من وقت الزوال، فلما غربت الشمس، خرج ثم عاد مع الفجر، فاعتكف إلى مثل ذلك الزمان الذي أنشأ الاعتكافَ فيه في نفسه، فلا يجزئه، على منع التفريق. وإن لم يخرج من معتكفه ليلاً، حتى انتهى [إلى] (1) زمان ابتداء أمسه، فالذي ذهب إليه معظمُ الأصحاب جواز ذلك، وإن فرعنا على منع التفريق؛ لأن الأوقات لها حكم التواصل، لمّا لم يخرج من معتكفه.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي وجهاً آخر، اختاره لنفسه، وهو أن ذلك لا يجزيه، فإنه لم يأت بيومٍ متواصلِ الساعات من الطلوع إلى الغروب، واعتكاف تلك الليلةِ، لا مبالاة به، وهو غير محسوب، سواء مكث في المسجد، أو خرج منه فتخلله يجب أن يكون مُفرِّقاً قاطعاً، لما نبغيه، من تواصل ساعات اليوم الواحد.
وهذا الذي ذكره منقاسٌ متّجه.
وعُرض عليه نص الشافعي في تجويز ذلك، مع مصيره إلى أن تفريق الساعات غيرُ مجزىء، فقال: نصه محمول على ما إذا قال: لله عليّ أن أعتكف يوماًً من وقتي هذا، فإذا قال ذلك، فلا وجه إلا المصير، إلى وقتٍ مثله من الغد.
__________
(1) مزيدة من (ط).

(4/116)


2407 - ومن تمام البيان شيء يدور (1) في النفس، وهو أن الأصحاب قالوا تفريعاً على جواز التفريق: يكفيه ساعات أقصر (2) النهار وتفرقها.
ثم يتجه في النظر أن يعتبر جزءُ كلِّ يوم منسوباً إليه، حتى إن فرّق الساعات على أيامٍ هي أقصر الأيام في السنين، فالأمر كذلك (3).
وإن كان يعتكف في أيامٍ متباينة في الطول والقصر، فينبغي أن ينسب اعتكافه في كل يوم بالجزئية إليه؛ إن كان ثلثاً: فقد خرج عن ثلث ما عليه، وهكذا، إلى النجاز، والذي يحقق ذلك، أنه لو نذَر اعتكاف يومٍ، ثم اعتكف تسعَ ساعاتٍ، [ونصفاً] (4) من أطول الأيام، فلا يكون خارجاً عما عليه قطعاً؛ فدل على أن النظر إلى اليوم الذي يوقع الاعتكافَ فيه. فيتجه وينقدح جوابٌ عن هذا، بأن يقال: إذا كان يواصلُ، فليأت بيومٍ كاملٍ.
ومن نذر اعتكافَ يوم، فاعتكف أطول الأيام، فكل ما جاء به فرضٌ. ولو اعتكف في أقصر النهار، فالذي جاء به كافٍ.
2408 - ومما يتعلق بهذا الفصل القولُ في أن الليالي إذا لم يَتعرض لها الناذرُ، وذكر في نذره الأيام، فهل تندرج تحت مطلق تسمية الأيام؟ قال أصحابنا: إذا نذر اعتكافَ يومٍ، لم يلزمه ضمُّ الليلةِ إليه، وفاقاً، إلا أن ينويها، ثم اتفقوا على أنه إذا نواها، يلزم الاعتكافُ فيها، وإن لم يجر لها ذكرٌ، والنية المجردة لا تلزم.
والوجه فيه أن اليومَ قد يطلق، والمراد به اليوم بليلته. هذا سائغٌ على الجملة، وإن لم يكن ظاهراً، [فعملت] (5) النيةُ لذلك (6).
__________
(1) (ط): يدوّن.
(2) (ط): أكثر.
(3) (ط): ذلك.
(4) مزيدة من: ط.
(5) في الأصل، (ك): فعلمت.
(6) والمعنى أن نية اعتكاف الأيام تشمل لياليها إذا قصدها، وإن لم (يجرّد) لها نية خاصة، فاليوم إذا أطلق قد يُراد به اليوم والليلة، ولذا (عملت) نية اعتكاف اليوم وشملت الليل، وكفت في ذلك.

(4/117)


ولو نذر اعتكافَ شهرٍ، فلا خلاف أنه يلزمه الليالي مع الأيام؛ فإن اسم الشهر يشمل الجميع.
وإن قال: اعتكاف ثلاثة أيام؛ فصاعداً، ففي استحقاق الاعتكاف بالليالي على عدة الأيام وجهان مشهوران في الطرق: أحدهما - أنه يجب الاعتكاف بالليالي على عِدة الأيام. والثاني - لا يجب ما لم ينوها.
وقطع أصحابنا المراوزة بأن اليومين في التفصيل، كاليوم الواحد. فإذا أُطلقا، لم يجب الاعتكاف إلا في اليومين. وجعل العراقيون، في بعض طرقهم اليومين كالأيام الثلاثة فصاعداً.
والقول في هذا مبهم عندنا [بعدُ] (1).
2409 - أما (2) اليومُ، فلا شك أنه لا يستدعي الليلةَ بوجهٍ إلاّ على بُعدٍ، كما تقدم. وما قيل في الشهر، لا شك فيه. وأما الكلامُ في اليومين، فإن لم يثبت فيهما استحقاقُ التتابع، فلا وجه إلا القطعُ بأنه لو اعتكف في يومين متفرقين، ولم يعتكف ليلةً، فقد خرج عما عليه.
فأما إذا نذر اعتكاف يومين، ونوى التتابعَ، أو ذكره، فقد قال العراقيون: ينبغي أن يبتدئ الاعتكافَ مع الفجر في يومٍ، أو قُبَيله، استظهاراً، ثم يعتكف إذا غربت الشمس (3)، ويدومُ في معتكفه إلى غروب الشمس من اليوم الثاني. قالوا: لو خرج من معتكفه ليلاً، كان [ذلك] (4) قطعاً للتتابع.
وكان شيخي يقطع بأن الخروج من المعتكف ليلاً، مع العود مقترناً بالفجر من اليوم الثاني، لا يقطع التتابع؛ فإن الاعتكاف إذا لم يكن مستحقاً ليلاً، فلا معنى لإلزام
__________
(1) في الأصل، (ط): بعيد.
(2) ساقطة من (ط).
(3) كذا في النسخ الثلاث، وليس المعنى أنه يقطع الاعتكاف ثم يستأنفه إذا غربت الشمس، بل المعنى أنه يبدأ اعتكافه قبيل الفجر ثم يتابع إلى غروب الشمس، ثم يدوم إلى غروب الشمس من اليوم الثاني، فيتحقق بذلك الوفاء باليومين.
(4) مزيدة من (ط).

(4/118)


الناذر لزوم المعتكَف في الليل. والليلُ إذا لم يلزم اعتكافه، فتخلله كتخلل الليالي، بين الصوم المتتابع، وما ذكره منقاسٌ حسن.
2410 - ومما ينكشف به الإبهام: أن الأصحاب ذكروا وجهين، في الأيام إذا ذكرت: أن (1) الليالي هل يُستَحق الاعتكافُ فيها؟ وهذا إنما أخذه، مَن أخذه، من ظن الناس أن الأيام إذا أطلقت في التواريخ، على صيغة الجمع، أريد بها الأيام بلياليها، وهذا غير منتظم؛ فإن الإنسان إذا قال: أقمتُ عند فلانٍ أياماًً، وكان يفارقه بالليالي، فما قاله صدقٌ، منتظمٌ، لا تلبيس فيه. نعم إنما يتوقع طلبُ توَلُّج الليل إذا جرى في الكلام إشعارٌ بالتتابع، بحيث يُفهم تواصلُ أزمانِ الإقامة. وإذا كان كذلك، فتتخلَّلُ ليالٍ (2).
ولكن إذا افتتح الإقامة مع أول نهارٍ، وخرج مع غروب الشمس يومَ الثالث، فهو مقيمٌ [ثلاثة] (3) أيام متواصلة، ويكفي في الوفاء بالتواصل ليلتان، فلا وجه لاشتراط الليالي على عدد الأيام، وكذلك يكفي في العشر (4) تسعُ ليالٍ، على نحو ما صورناه؛ فينقص عدد الليالي، التي بها تواصل الأيام، عن عدد الأيام المذكورة بواحدة. هذا لا بد منه، إن كان الرجوع إلى التواريخ.
ئم إذا قال: أعتكف ثلاثةَ أيامٍ، فقد حمل بعض الأصحاب ذلك على التواصل، واعتقد الظهور فيه، وموجَبُ التواصل تولّجُ الليالي، وعلى هذا يظهر تخريجُ ابنِ سريج في أن إطلاق نذرِ اعتكاف الأيام يقتضي التتابعَ.
والأظهر أنه لا يلزم التواصل، لتردد الكلام فيه، وإذا تردد، ولم يكن نصَّاً صريحاً، ولا منوياً، فالإلزام مع التردد، محال.
وإن صور مصور ما يقتضي التواصل، فهو مضطرٌّ إلى تصوير قرينةِ حالٍ في أمرٍ
__________
(1) (ط): وأن.
(2) فاعل (فتتخلل).
(3) في الأصل، (ك): تلزمه. (وهو تصحيف واضح).
(4) المعدود مذكر (الأيام) ولكن جاز في لفظ (العشر) التذكير على اعتبار تقدم المعدود، كما هو معروف.

(4/119)


يذكره، ثم تخيُّلُ التواصل -إذا نُزّل الكلامُ عليه- ممكنٌ في اليومين، إمكانه في الثلاثة، فصاعداً. ويعود في الأيام -إذا لم نوجب الاعتكافَ في لياليها- أنه لو نذر التتابعَ فيها، فهل يجوز الخروج عن المعتكف في الليالي؟ فيه من خلاف المراوزة والعراقيين، ما ذكرناه في اليومين.
فصل
2411 - المرأة إذا اعتكفت في مسجد بيتها، وهو معتزَلٌ في البيت، مهيأٌ للصلاة، وليس مسجداً على الحقيقة، فالمنصوص عليه في الجديد أن ذلك ليس باعتكاف؛ فإن الاعتكاف مخصوص بالمساجد، وليس ذلك الموضع مسجداً، فلا تتعلق به أحكام المساجد.
ونصَّ الشافعي في القديم على أنها لو اعتكفت في ذلك الموضع، أجزأها؛ فإن التحرز (1) أحرى بها، فأفضل بقاعها قَعْر بيتها. ثم في القديم خصص ما قاله بمسجد البيت، فإن لم يكن لهذا القول مستند، من خبرٍ أو أثر، فلا متعلَّق له في المعنى. ثم ذكر أئمتنا في الرجل إذا اعتكف في مسجد بيته قولين، مرتّبين [على المرأة] (2) واعتكافه أولى بالفساد، بل، لا وجهَ لصحته أصلاً.
فصل
قال: " إذا قال: لله عليّ أن أعتكف اليومَ الذي يقدَم فيه فلان ... إلى آخره " (3).
2412 - أما إذا قال لله عليّ أن أصوم اليوم الذي يقدَم فيه فلان، فقدِم نصفَ النهار، فقد فات الصوم في هذا اليوم، وفي وجوب قضاء يومٍ قولان، سنذكرهما في
__________
(1) (ط) التخدر.
(2) زيادة من (ط).
(3) ر. المختصر: 2/ 37.

(4/120)


النذور -إن شاء الله تعالى- وهما مأخوذان من أصلٍ، وهو أنا هل نتبين بقدومه في اليوم أن الصوم كان مستحقاً من أوله؟ أم ننظر إلى ما يستعقبه القدوم، ولا نلتفت إلى سابقٍ في تقدير الوجوب؟ فإن بنينا الأمرَ على التبيُّن، فيلزمه قضاء يوم، وإن نظرنا إلى ما يستعقبه القدوم، فصومُ يومٍ بعد القدوم [محال] (1)، فكان كما لو قدِم ليلاً. وليس من غرضنا تفصيل هذا.
2413 - ولكن. لو قال: لله عليّ أن أعتكف يوم يقدَم (2) فلان، فقدِم نصفَ النهار، فيجب على الناذر اعتكافُ بقية النهار وفاقاً، وهل يجب عليه اعتكافُ نصفِ يومٍ لينضم إلى ما جاء به، فيكمل يوماًً؟ هذا خارج على القولين في وجوب القضاء في الصوم، فإن أوجبنا القضاء ثَمَّ، أوجبنا هاهنا تكملةَ البقيةِ من يوم آخر، وإن لم نوجب القضاء ثَمَّ، اكتفينا بالاعتكاف في بقية النهار، الذي قدم فيه.
ثم إن المزني قال: وأحب أن يستأنف اعتكافَ يومٍ، حتى يكون اعتكافه متصلاً. وقد قال أئمتنا: هذا غلط؛ فإن الاعتدادَ بما جاء به لا بد منه، وإذا اعتُدَّ به، فلا معنى لأمره باعتكافِ يومٍ كاملٍ، بسبب ما قدّمه من لفظه، لا على الاستحباب، ولا على الإيجاب.
وذكر شيخي في دروسٍ: أن من أصحابنا من لم يوجب الاعتكافَ، في بقية النهار أيضاًً؛ تخريجاً على أن النهار لا يتبعض، بتقدير تفريق الساعات، وهو قد ذكرَ اليوم، واعتكافُ يومٍ بعد قدومه غيرُ ممكن، إلاّ على نعت التقطيع.
والفكر لا نهاية له. ولكن الفقيه يقتصر منه على مسلك الحق، ويطّرح ما عداه.
2414 - ثم قال الشافعي: " ولا بأس أن يلبس المعتكف والمعتكفة " (3) ولا خفاء بما ذكره، وغرضه أن الاعتكاف لا يحرم ما يحرمه الإحرام، وعلى هذا لا بأس أن ينكح، ويُنكح.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) بفتح الدال: من باب تعب.
(3) ر. المختصر: 2/ 38.

(4/121)


2415 - قال: " ولا بأس أن توضع المائدة في المسجد، ولا بأس بغسل الأيدي في الطسوس " (1) توقيةً للمسجد من البلل؛ فعساه يمنع مصلياً.
2416 - قال: " والمرأة والعبد، والمسافر يعتكفون " والأمر على ما قال، فالاعتكاف يصح من كل من تصح منه النية، وفي بعض التصانيف ذكر وجهين في أن المكاتَب هل يعتكف؛ وهذا خُرق، وخروج عن الحد، ولا خلاف أنه (2) لو سكن في بيته، ولم يكتسب اليومَ واليومين، فلا معترض عليه، قبل مَحِل النجم (3).
فرع:
2417 - تعيين الزمان للاعتكاف، كتعيين الزمان للصوم، والأصح أن الزمان يتعين للصوم في نذره، حتى لا يجوز التقديمُ عليه، ولا التأخير.
وفي المسألة وجه بعيدٌ -نذكره في النذور- أن الزمان لا يتعين للصوم، كما لا يتعين لنذر الصلاة والصدقة، وذلك الوجه يجري في الاعتكاف، ولا تفريع عليه.
وما ذكرناه من نذر الأيام مفرّعٌ على الأصح؛ فإنه لو نذر اعتكافَ يومٍ، لم يجزه إقامةُ ساعات الليل، مقامَ ساعات النهار. وكذلك لو عيّن الليلَ، لم يجزئه ساعاتُ النهار.
فرع:
2418 - إذا كان نذرَ اعتكافَ أيامٍ، ومات، ولم يف بنذره، مع القدرة، فقد ذكر شيخي قولين: أحدهما - أنا نقابل كلَّ يوم بمدٍّ من طعام، نخرجه من تركته، كدأبنا في الصوم.
والقول الثاني - أنه يَعتكف عنه وليُّه. وذكر أن القولين منصوصان للشافعي.
وهذا عندي مشكلٌ من طريق الاحتمال، فإنَّا (4) تبعنا الأثرَ في مقابلة صوم يوم بمُدٍّ، وليس ينقدح قياس الاعتكاف في ذلك على الصوم، ثم اعتكاف لحظةٍ عبادةٌ
__________
(1) في المختصر: الطشت: 2/ 39.
(2) أي المكاتب.
(3) أي موعد القسط.
(4) (ط): فإذا.

(4/122)


تامة، ثم ليت شعري ماذا يقول في اليوم مع الليلة؟ وقد (1) ذكر رحمه الله صريحاً أن اليوم بليلةٍ يقابِلان مُدّاً، وإذا كان يقول ذلك، فما القول في اليوم الفرد؟ وهو على الجملة مختبطٌ.
وأقصى ما علينا التنبيهُ على الاحتمال، مع الوفاء بما بلغنا من طريق النقل. والله أعلم بالصواب.
...
__________
(1) (ط): قد (بدون واو).

(4/123)


كِتَابُ الحَجِّ
باب بيان فرض الحج
قال الشافعي: "فرض الله تعالى الحجَّ على كل حرٍّ بالغٍ، استطاع إليه سبيلاً ... إلى آخره" (1).
2419 - قيل: " أول من حج البيت آدم عليه السلام ". وقيل: " ما من نبي إلا وقد حج هذا البيت ". وعن محمدِ بنِ إسحاق، أنه قال: " ما من نبي هلك قومُه، إلا انتقل بعدهم إلى مكة، يعبد الله سبحانه وتعالى، عند البيت، إلى أن أتاه أجله " (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مرّ موسى بالروحاء في سبعين نبياً، عليهم العباء، يؤمُّون البيت العتيق، يلبون، وصفائح الروحاء تجاوبهم " (3).
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 39.
(2) لم نجد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق مع طول البحث على قدر طاقتنا، وإنما رواه الأزرقي في تاريخ مكة من طريق عطاء بن السائب عن محمد بن سابط، وذكره القرطبي في تفسيره عن محمد بن سابط أيضاً، أما السيوطي في الدر المنثور، فقد عزاه إلى الجَنَدي (في تاريخ مكة) من طريق عطاء عن محمد بن سابط، وعزاه أيضاً إلى الأزرقي، والجندي من طريق عطاء عن عبد الرحمن بن سابط. هذا ولم نصل في كتب الرجال وطبقات الحفاظ إلى من اسمه محمد بن سابط، وإنما المعروف والمذكور هو عبد الرحمن بن سابط، فلعل محمد بن إسحاق الواردة عند الإمام تصحيف عن محمد بن سابط، ومحمد بن سابط تصحيف عن عبد الرحمن بن سابط، والله أعلم.
(3) حديث: مرّ موسى عليه السلام بالروحاء .. ، رواه الطبراني والعقيلي عن أبي موسى مرفوعاً بسند ضعيف، ولابن ماجة وأحمد عن ابن عباس بألفاظ أخرى، وفي إسنادهما مقال. انتهى ملخصاً من كلام الحافظ. وقال أحمد شاكر: ونقله ابن كثير في تاريخه: (1/ 138) وقال: إسناده حسن (ر. مسند أحمد: 3/ 340 ح 2067 (شاكر)، ابن ماجة: المناسك، باب=

(4/125)


2420 - ثم الحج لا يجب في الشرع إلاّ مرة واحدة؛ لحديث الأقرع بن حابس، قال: " يا رسول الله أحجتنا لعامنا أم للأبد "؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " للأبد، ولو قلتُ لعامنا هذا، لوجب، ولو وجب، لم تطيقوا " (1).
2421 - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحج قبل الهجرة [كل سنة، واختلف أصحابنا هل كان الحج واجباً قبل الهجرة؟ منهم من قال: كان نزل وجوبه قبل الهجرة] (2).
ومنهم من قال: بل بعد الهجرة، ويتصل بذلك حديث ضِمام (3) بن ثعلبة، وكان ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافداً لقومه، فلما دخل المسجد قال: أيكم ابن عبد المطلب، فقالوا ذلك الأبيض المترفّق -وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً على مرفقيه- فأتاه حتى وقف عليه، وقال: أنت ابن عبد المطلب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وجدتَه. فقال: إني سائلك، ومغلظٌ عليك، فلا تَجِدْ عليّ، ثم قال: أنشدك الله: آلله أرسلك رسولاً؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله آلله أمرك أن تأمرنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم. قال أنشدك الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نؤدي الزكاة، من أموالنا؟ قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نحج البيت إن استطعنا إليه سبيلاً؟
__________
=دخول الحرم، ح 2939، الضعفاء الكبير للعقيلي: 1/ 36، التلخيص: 2/ 463 ح 1009). هذا، والروحاء (بفتح الأول، وبالحاء المهملة ممدودة) قرية على بُعد ليلتين من المدينة المنوّرة، قاله البكري (ر. معجم ما استعجم: 2/ 681).
(1) حديث الأقرع بن حابس رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي والدارقطني والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه (أحمد: 1/ 290، 255، 352، 370، أبو داود: المناسك، باب فرض الحج، ح 1721، النسائي: مناسك الحج، باب وجوب الحج، ح 2620، 2621، ابن ماجة: المناسك، باب فرض الحج، ح 2886، الدارمي: ح 1788، الدارقطني: 2/ 279، الحاكم: 1/ 441) ولمسلم من حديث أبي هريرة -دون ذكر الأقرع بن حابس- الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، ح 1337.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(3) ضمام: بكسر ضاد، وخفة ميم.

(4/126)


قال: اللهم نعم. قال: أنشدك الله: آلله أمرك أن تأمرنا أن نصوم شهر رمضان؟ قال: اللهم نعم " (1). ثم أسلم، وحسن إسلامه، وروي أن هذا كان سنة خمسٍ من الهجرة (2).
فصل
2422 - الصفات المرعية في صحة الحج، ووقوعه عن فرض الإسلام، واستقرار فرضيته في الذمة: الإسلامُ، والعقل، والحرية، والبلوغ، والاستطاعة.
فأما شرط تصوّر الحج، فالإسلام المحض؛ فإن الصبي غيرَ المميز، يحج عنه وليه، كما سيأتي. وإن أردنا تصوير الحج من الشخص بأن يتعاطى الإحرامَ، فنضمُّ إلى الإسلام العقلَ، وهو الذي يسميه الفقهاء التمييزَ، في حق الصبي، ثم في استبداده (3)، واشتراط صَدَر (4) إحرامه عن إذن وليّه كلام سيأتي، إن شاء الله، عز وجل.
وأما الحرية والبلوغ، فمضمومان إلى ما قدمناه، في وقوع الحج، عن فرض الإسلام؛ فإن حج الصبي، والعبد، وإن صح، فلا يقع عن حجة الإسلام.
__________
(1) قصة ضمام بن ثعلبة رواها البخاري من حديث أنس: العلم، باب القراءة والعرض على المحدّث، ح 63، ومن حديث أنس أيضاً رواها النسائي: الصيام، باب وجوب الصيام، ح 2093، 2094، وابن ماجة: الصلاة، باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس، ح 1402، والدارمي: ح 650، وأحمد: 3/ 168، والبيهقي: 4/ 325، ورواها أحمد: (2/ 250، 264)، والدارمي: ح 652 من حديث ابن عباس.
(2) في هامش (ك) ما نصه: يعني فرض الحج، لا قصة إسلام ضمام. وهذا القول صححه الفاضي حسين، وبعده الرافعي.
وقيل: بل ذلك كان في سنة ست، وصححه الرافعي والنواوي في السير.
وقيل: بل سنة ثمانٍ. قاله الماوردي. وقيل: سنة تسع، وصححه عياض.
(3) استبداده: أي انفراده بإرادة الإحرام، من غير إذن وليه.
(4) (ك) صدور. وأظنه من تصرّف الناسخ. فإمام الحرمين دائماً يستخدم هذا الوزن لمصدر الفعل (صَدَر) كما يستخدم (حَدَث) مكان حدوث.

(4/127)


وأما الاستطاعة، فهي مضمومةٌ إلى الشرائط المتقدمة، في الحكم باستقرار فرائض (1) الإسلام في الذمة.
2423 - ومقصود الفصل تفصيل القول في الاستطاعة، وهي تنقسم إلى الاستطاعة في تولّي الحج، وتعاطيه بالنفس، وإلى الاستنابة.
فأما الاستطاعة (2) في تعاطي الحج، فهي معتبرةٌ أولاً، بدليل الكتاب، والسنة، والإجماع: أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير الاستطاعة: " زادٌ وراحلة " (3). ولا خلاف في اشتراط الاستطاعة.
ثم المتبع عندنا تفسيرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس على الأيّد (4)، القادرِ على المشي أن يحج ماشياً، إذا بعدت المسافة، ولا نعتمد في ذلك مسلكاً معنوياً؛ فإن الضرر الذي يلحق القويَّ في المشي من خمسين فرسخاً، قد يقلّ، ويقصر عن الضرر الذي ينال الراكب الضعيف، بسبب الركوب، في المسافة الطويلة؛ فلْيقع (5) التعويل على تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستطاعةَ بالزاد والراحلة، في محاولة الرد على مالك في قوله: يجب المشيُ على القادر عليه (6).
وهذا مقامٌ لابد من التنبه له، في وضع (7) الشرع؛ فإنا لا نستريب في
__________
(1) (ط): فرض.
(2) (ط): استطاعة تعاطي.
(3) حديث تفسير الاستطاعة رواه الشافعي، والترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي من حديث أنس وابن عمر وابن عباس وغيرهم، وفي طرقه ضعفٌ أشار إليه الحافظ في التلخيص، وابن الصلاح في مشكل الوسيط. (ر. الأم: 2/ 116، الترمذي: الحج، باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة، ح 813، ابن ماجه: المناسك، باب ما يوجب الحج، ح 2896، الدارقطني: 2/ 216 - 218، الحاكم: 1/ 442، البيهقي: 4/ 330، مشكل الوسيط (بهامش الوسيط): 2/ 582، التلخيص: 2/ 442 ح 955).
(4) الأيّد: القوي الشديد.
(5) (ط) ولْنقل.
(6) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 457 مسألة 706.
(7) (ك): موضع.

(4/128)


[أن] (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر الزاد والراحلة، أراد بما ذكره ألا يُجَشّم الناسَ المشيَ، لما فيه من المشقة.
وهذا لا سبيل إلى إنكاره، ولكن لا استقلال (2) بتقريره في [مسالك] (3) الأقيسة، وإن تخيلناه على الجملة. ونظائر ذلك كثيرة. ولسنا لها الآن.
ويغلب في هذا الفن البناءُ على قاعدة الحسم (4)؛ فإن المشي على الجملة ظاهرُ الضرار، ولا التفات إلى ما يندر ويشذ، بخلاف ضرر الركوب.
قال الأئمة: الزاد نفقةُ السفر في الذهاب، والإياب، فأهبة الذاهب، وأهبة المنقلِب زادُه، ولفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلق في ذكر الزاد، فإن كان للرجل أهل، شرطنا في الاستطاعة نفقةَ الذهاب، والإياب. وأهلُ الرجل: زوجةُ الرجل وأولادُه.
قال الصيدلاني: الأقارب من الأهل، المحارمُ منهم وغيرُ المحارم. وليس في الطرق ما يخالف قولَه والمرعي فيه، أنه يعظُم على الإنسان [مفارقة ذويه وقراباته، كما يعظم عليه] (5) مفارقةُ زوجته، فاشتراط نفقة الإياب لذلك.
وإن لم يكن له أهل، على ما فسرناه، ففي اشتراط نفقة الإياب وجهان: أحدهما - أنها لا تشترط؛ فإن البلاد متساويةٌ، في حق من لا أهل له. والثاني - أنّا نشترط نفقة الإياب؛ لما في النفوس من الحنين إلى الأوطان. ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب، للمعارف والأصدقاء، كانوا، أو لم يكونوا؛ فإن الاستبدال عن الصديق ممكن، بخلاف الأهل؛ فإن الاستبدال فيه قد يعسر، ولا يفرض في القرابات إلاّ على بُعد.
__________
(1) في الأصل، (ك): قول.
(2) (ك): استقرار.
(3) الأصل، (ك): مسائل.
(4) (ط): الجسم.
(5) ساقط من (ك).

(4/129)


2424 - ثم لم يختلف الأئمة في أن قضاء الديون مقدَّمٌ على ما ذكرناه، من النفقة.
والقول [في الفصل] (1) بين المؤجل والمعجل، سيأتي إن شاء الله تعالى.
وحسن الترتيب يقتضي استقصاء كل ما يتعلق بالفصل، ولكنَّا ملتزمون الجريَ على ترتيب السواد (2)، فنكتفي بعقد التراجم، في بعض الأشياء [المؤخرة] (3)، ونستقصي ما يتعلق بالترتيب استقصاؤه.
2425 - ومما يتعلق بالمقصود، وهو [مؤخر] (4) القول في صفة الطرق، في الأمن والخوف، والرخص والغلاء، والبر والبحر وكل ذلك يأتي مفصلاً في باب بعد ذلك.
2426 - ولو كان لا يستمسك على الراحلة، ويستمسك في المحمل، فيشترط أن يجد مؤنة المحمل، ولو لم يجد شِقَّ مَحمِلٍ (5)، بأن عَدِم من يشاركه، فلا استطاعة، وإن وجد مشاركاً، ثبتت الاستطاعة، ولو اتسعت ذاتُ يده لمحملٍ تام، ولكن يكتفى بشق محمل، فالزيادة من باب المؤنة المجحفة. وسنذكر شرح القول فيها، في الرخص والغلاء.
ولو كان استمساكه على الراحلة ممكناً، ولكنه كان يلقى ضرراً بيّناً، فإذا كان لا يجد إلا مؤنة راحلة، فكيف الوجه، فيما صورناه؟ كان شيخي يقول: إن كان بين تقدير ركوب الراحلة والمحمل من الضرر، ما بين أصل الركوب والمشي، فلا نجعله مستطيعاً، ما لم يجد مؤنةَ محمل. وذكر غيرُه -فيما بلغنا- ظهورَ خوف المرض، من تقدير ركوب الراحلة، والأمران قريبان، لا يؤديان إلى خلافٍ، فيما أظن.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) " السواد ": يريد به مختصر المزني، وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل. وكما ترى ألزم الإمام نفسَه بالجري على ترتيبه، فاكتفى (بتراجم) المسائل، أي عناوينها، وترك استقصاءها، إلى حين مكانها في (السواد).
(3) في الأصل، (ك): الموجزة.
(4) في الأصل، (ك): موجز.
(5) المحمل: وزان مجلس، ما يوضع على البعير، ويكون ذا شِقَّين يركب فيه اثنان كل واحد في شِق، فهما عديلان (القاموس).

(4/130)


2427 - ثم ذكر العراقيون: أن مسكن الرجل غيرُ محسوب عليه، في استطاعته، والزاد مقدر بعد المسكن، وكذلك القول في العبد، يملكه الرجل، وهو محتاج إلى خدمته، كما سنذكره في الكفارات، ونزّلوا المسكنَ، والمملوكَ، الذي تمس الحاجةُ إلى خدمته، في الباب، منزلتهما في الكفارات المرتّبة، وسنذكر [فيها] (1) إن شاء الله تعالى أن الخادمَ والمسكنَ غيرُ محسوبين، ولا ذكر لهذا في طرق المراوزة، ولكنه قياسهم.
ثم إذا فرض للرجل مسكنٌ، وقد تركناه عليه، فالوجه القطعُ في هذه الصورة، باشتراط نفقةِ الإياب، وتخصيص الوجهين بما إذا لم يكن له مسكنٌ مملوك. وإنما يجوز (2) تقدير الحنين إلى البلد الذي هو وطنه، وفيما ذكرناه احتمال على بعد؛ فإن بيع الدار، وتقدير ابتياع مثلها، في بلدة أخرى ممكنٌ، والقول في ذلك يتعلق بالحنين إلى الوطن، هذا محتمل. والأظهر ما قدمناه.
2428 - ومما ذكره العراقيون في هذا الفن أن الرجل إذا كان يتصرف في رأس المال، وكان جهةُ اكتسابه التجارةَ، فقد قالوا: نكلفه صرفَ رأس المال، إلى ديونه المحيطة به، ولا نخلّفه عليه، وحكَوْا عن ابن سُريج أنه قال: يُخَلّف عليه رأس ماله، الذي بالتجارة فيه يَتَبلّغ، ويَتَوصل إلى تحصيل قوته، في مستقبل الزمان، إذا كان لا يُحسن الاكتسابَ، إلاّ من هذه الجهة، كما نخلّف له دَسْت ثوبٍ يليق بمنصبه. ثم غلطوه وزيفوا مذهبَه، والأمر على ما ذكروه (3).
وبَنَوْا عليه أن رأس المال مصروفٌ في أهبة الحج، على المذهب [الظاهر، وليس كالمسكن، والخادم، وحكَوْا فيه خلافَ ابن سريج. ولا شك، أن من يُخلِّف رأسَ المال عن ديون الآدميين، يخلِّفه عن أهبة الحج] (4)، ولا خلاف أن المسكنَ والعبدَ مصروفان إلى الديون، وإن لم يصرفا إلى أهبة الحج.
__________
(1) في الأصل، (ك): فيهما.
(2) ط: تجرد.
(3) هذا في الديون عندما تحيط به، ويطلبه الدائنون، ويُضرب الحجر عليه.
(4) ما بين المعقفين ساقط من: الأصل، (ك).

(4/131)


وفيما حكَوْه عن ابن سريج في الحج، من تخليف رأس المال احتمالٌ ظاهر؛ فإن تكليف الرجل الانسلاخَ، عن ذات يده، والألتحاقَ بالمساكين، فيه عُسر. على أن الظاهر أنه مصروف إلى الحج.
ثم القول في اعتبار رأس المال في الكفارات المرتبة، كالقول في الحج، بل الأمر في الكفارات أظهر؛ من جهة أن المبدل فيها إذا لم يتفق، فالبدل القائم مقامه لا يعطل الكفارة.
2429 - وقال العراقيون: إن فضل شيء، ولكن كان الرجل يخاف العنت [لو] (1) لم يتزوج، وكان على حالةٍ قد نبيح فيها للحر التزوج بالأمة، عند فقد طَوْل (2) الحرة، فلا يلزمه أن يحج، بل نُسوِّغ له صرفَ ما يملكه إلى مؤونة التزويج؛ وذلك، لأنا إذا سوَّغنا إيثار تزوج الأمة، مع ما فيه من التسبب إلى إرقاق الولد، أشعر ذلك بأن محاذرة العنت (3) مهم، والكاشف له أنه في حكم ضرورة ناجزةٍ، والحج وإن تحقق وجوبه، فهو على التراخي، وحكم ما يتنجز التقديمُ على ما يتراخى، فإذاً لا استطاعةَ، ولا وجوب.
وهذا الذي ذكروه قاطعين به قياسُ طرقنا، وإن لم نجده منصوصاً فيها.
2430 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا لم نوجب المشيَ في المسافة الطويلة، وقد اعتبر الأئمة في الطُّول مسافة القصر، وقَضَوْا بأن ما ينحط عنها من المسافة يجب المشي فيها على القادر القوي، وإن كان على الماشي في المسافة القصيرة ضررٌ
__________
(1) في الأصل، (ك): أو.
(2) إشارة إلى الآية الكريمة: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] والطول: الغنى واليسار، ومؤنة النكاح، والأصل أن يعدى بـ (إلى) فيقال: وجدَ طَوْلاً إلى الحرّة، ولكن الفقهاء أضافوه تخفيفاً. (المصباح).
(3) العنت في اللغة: المشقة الشديدة، قال المبرد: العنت هاهنا: الهلاك: أي يخاف أن تحمله الشهوة على مواقعة الزنا، فيكون الحد في الدنيا، والإثم العظيم في الآخرة. وقيل: معناه: أن يعشق الأمَةَ، وليس في الآية ذكر العشق، ولكن ذا العشق يلقى عنتاً. وقال الفراء: هو الفجور هاهنا. (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: 311/فقرة: 682).

(4/132)


ظاهر، فالقول فيه كالقول في الراحلة والمَحْمِل، على ما تفصل.
ولو كان لا يتأتى المشي، ولكن قد نفرض الزحف في زمانٍ ممتد، فلا نوجب الزحفَ أصلاً. وهذا خارج على تحقق الضرر.
فهذا منتهى مقصودنا في أحد قسمي الاستطاعة، وهو استطاعة تعاطي الحج، وتولّيه.
2431 - وأما القسم الثاني من الاستطاعة، فهو تحصيل الحج بطريق الاستنابة، فنقول- على الجملة: أولاً- العاجز عن التعاطي -كما سنصف العجز- إذا قدر على الاستنابة، لزمه تحصيل الحج بها، كما يلزم القادرَ على التعاطي تولِّي الحج، خلافاً لأبي حنيفة (1).
ثم شرطُ الاستنابة: صحةً (2)، ثم وجوباً - أن يعجِز الرجل بزمانته (3)، وعضَبه (4)، عن تعاطي الحج بنفسه. فلو استناب قادرٌ على التعاطي، لم تصح الاستنابة، ولتكن الزمانة بحيث لا يرجى بظاهر الظن زوالُها.
ولم يجوّز مالكٌ (5) الاستنابةَ في حالة الحياة؛ فإن أخبار الاستنابة، صادفها بعد الموت، [واعتبر] (6) الشافعيُّ تحقُّقَ العجز في الحياة، بالعجز المترتب (7) على
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 51، المبسوط: 4/ 153، البدائع: 3/ 121، 124، حاشية ابن عابدين: 2/ 238، رؤوس المسائل: 243 مسألة 137.
(2) أي شروط صحة الاستنا بة، وشروط وجوبها.
(3) الزمانة: كل داءٍ ملازمٍ، يُزمن الإنسان، ويدوم به، وزمن من باب تعب. (الزاهر، والمعجم، والمصباح).
(4) عضبه عضباً: من باب ضرب: قطعه، ومنه السيف العضب أي القاطع، والمعضوب زمن، لا حراك به، كأن الزمانة عضبته أي قطعته ومنعته عن الحركة. (مصباح) وفي الزاهر: المعضوب: من عضبته أعضبه: إذا قطعته. والعضب شبيهٌ بالخَبْل (بمعجمة مفتوحة، وباء ساكنة) والخبل: قطع الأيدي والأرجل. (فقرة 339).
(5) ر. تهذيب المدونة: 1/ 584، حاشية الدسوقي: 2/ 17، شرح الحطاب: 3/ 2.
(6) في الأصل، (ك): اختار. و" اعتبر " هنا بمعنى "قاس".
(7) (ط): المرتب.

(4/133)


الموت، وهذا إلى فقهٍ (1)؛ فإن الحيّ هو المخاطب، والنيابة بعد موته في العبادة أبعدُ من النيابة في حياته، والخطابُ مستمر عليه.
ثم المعتبر في الاستنابةِ أحدُ شيئين: إما المالُ يبذله لمن يستأجره، وإما فرضُ بذل الطاعة من الغير، من غير مالٍ.
ونحن نذكر في كل قسمٍ ما يليق به:
2432 - فأما الاستئجار، فإذا ملك أجرةَ أجيرٍ يحج عنه، وفضل ذلك عن ديونه، وعما نخلّفه له، لزم بذلُه، ولا نظر إلى إياب الأجير، وإنما المعتمد أجرتُه. وهذا لا خفاء به.
ولو وجد أجرة أجيرٍ ماشٍ، ولم يجد أجرة أجيرٍ راكب، ففي وجوب استئجار الماشي وجهان: أحدهما - أنه يجب؛ فإن الفرق بين المشي والركوب إنما يتجه في حق الرجل نفسه؛ من جهة أنه لا يكلّف المشي، فأما الأجير إذا تَكَلَّفَه، والتزم تحصيلَ الحج، فاعتبار ضراره في حق مستأجِره بعيد. وهذا ظاهر المذهب.
والوجه الثاني - أنه لا يجب استئجاره، من جهة أن الماشي على غررٍ ظاهرٍ، وبذل المال في أجرته تغريرٌ بالمال، من غير ثقةٍ ظاهرة بتحصيل المقصود.
2433 - ويتصل بهذا الموضوع سرٌّ في المذهب، يتضح به حقيقةُ الفصل، فإن قيل: لو كانت الأجرة مملوكةً، ولكن لو بذلها، كان فقيراً بعد بذلها، لا يجد ما ينفقه، فكيف الوجه في ذلك؟ قلنا: إن جرينا على ما حكاه العراقيون عن ابن سُريج، في تخليف رأس (2) المال في قسم استطاعة مباشرة الحج، فلا شك أنا نرعى أن تكون الأجرةُ المبذولة زائدةً على ما يخلِّفه من بلاغ.
وإن قلنا: لا يُشترط ذلك في حق المباشرة، فلا شك أن نفقة المباشرة ذاهباً وآيباً، وما يتركه على أهله بلاغٌ له في الحال، فإن فرض انقطاعٌ، فهو بعد حصول الحج، فكأنا نقول: لا مبالاة بمسكنته بعد حصول الحج، وهذا الذي نقدره من المسكنة
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، والمعنى: وهذا يُشير إلى الفقه، أو وهذا هو الفقه.
(2) ساقطة من (ط).

(4/134)


لا تحقيق له، فإن أبواب الرزق ليست منحسمة، والأموال تغدو وتروح، [وقد] (1) تحقق في قسم المباشرة أن (2) البلاع ناجزٌ، والمسكنةُ بعد حصول الحج ليست واقعةً لا محالة.
وإذا فرضنا القولَ في بذل الأجرة، فيتنجز ببذلها الفقرُ الناجز، وحصولُ الحج مرقوبٌ، فالحاجة متنجزةٌ، وحصول الحج غيبٌ، فكيف الوجه فيه، والحال كذلك؟
أما نفقة اليوم لابد (3) منها، له ولأهله، فإنا نقدم هذا على ديون الغرماء، يوم صرف المال إليهم، وأما الزائد على نفقة اليوم، فظاهر الاحتمال.
وفيما نقله الصيدلاني، ما يدل على أنا لا نشترط أن يبقى له بلاغٌ، بعد بذل الأجرة. وفي لفظه تردُّدٌ؛ فإنه قال: إنه (4) لا يشترط أن يكون له نفقته، ونفقةُ أهله إلى إياب الأجير، فيحتمل أنه يريد التعرض للنفقة في زمان تقدير انقلاب الأجير، ويحتمل أنه ليس يرعى النفقة أصلاً ما عدا نفقةَ اليوم، [و] (5) المعتبر في الفطرة ما يفضل عن نفقة اليوم، [و] (6) هذا هو المرعي في الكفارات المرتّبة، إن لم يشترط فيها تخليف رأس المال، كما قدمناه، وليست الفطرة والكفارة مشابهةً لما نحن فيه؛ فإن الفطرة تتأدى [و] (7) الكفارة كذلك، والمالُ فيما انتهينا إليه مبذولٌ، والحج مرتقب (8)، ولكن وجوب البذل على الجملة، هو الذي يجر الإشكال [و] (9) هو كوجوب إخراج الفطرة.
__________
(1) في الأصل، (ك): فقد.
(2) في الأصل، (ك): وأن.
(3) بدون الفاء في جواب (أما): على مذهب الكوفيين.
(4) ساقطة من (ط).
(5) مزيدة من (ط).
(6) مزيدة من (ط).
(7) في الأصل، (ك): في.
(8) (ط): مترتب.
(9) مزيدة من (ط).

(4/135)


فانتظم من مجموع ما ذكرناه -بعد النزول عن [رأي] (1) ابن سريج- أنّ ما يحصِّل الغرضَ لا يعتبر فيه إلا نفقةُ اليوم، وما [لا] (2) يحصل الغرض ناجزاً، ولكنه في أصل الشرع واجبٌ، فهو على التردد الظاهر (3).
ثم إن ملنا إلى تخليف نفقةٍ، فهي إلى حصول الحج، ولا شك أنا لا نزيد على هذا المنتهى.
وهذا في إحدى جهتي الاستنابة.
2434 - فأما بذل الطاعة، فالولدُ إذا بذل الطاعةَ لأبيه المعضوب، لزمه استنابته؛ إذا كان ذا زادٍ وراحلة. وإن بذل الطاعة لأبيه على أن يمشي حاجاً عنه، ولم يملك الراحلة، ففي وجوب الاستنابة، والحالة هذه- وجهان: قدمنا نظيره في الأجير الماشي. وكان شيخي يرتب الخلاف في الابن على ما تقدم في الأجير، ويجعل هذه الصورةَ أولى بأن لا تجب الاستنابةُ فيها؛ فإنه قد يعظم على الأب مشيُ ولدِه، ولا يعز عليه مشيُ الأجير.
ولو (4) أوجبنا الاستنابة، والابن ماشٍ، فهو فيه إذا كان يملك الزاد (5)، فإن عوّل على كسبٍ في الطريق متيسر، فالخلاف قائم، مع ترتب، فإن المكاسب قد تنحسم في الأسفار.
وإن لم يكن ذا مالٍ ولا كسوباً، وعوّل على السؤال، فالخلاف قائم، مع الترتب.
وإن كان يحتاج إلى أن يركب مفازةً، لا ينفع في مثلها السؤال، ولا الكسب، فلا
__________
(1) في الأصل، (ك): رأس مال ابن سريج. ثم نقول: المراد برأي ابن سُريج أنه قال: يترك عليه رأس مال تجارته، الذي به قوام عيشه.
(2) مزيدة من (ط).
(3) يوجز الإمام هنا العبارة عن المسألة والخلاف فيها، فيقول: إن ما يحقق الغرض ناجزاً كالفطرة والكفارة، فيعتبر فيه نففة اليوم، أما ما لا يحصل الغرض ناجزاً، كالحج؛ فإنه يبذل الأجرة الآن، ولكن الحج يتحقق بعد زمانِ، فهذا موضع التردّد فيما نُخلِّف بعد بذل الأجرة.
(4) في الأصل، (ك): وأجب.
(5) أي وجوب الاستنابة ماشياً، تكون عند ملكه للزاد.

(4/136)


خلاف أنه لا يجب عليه الاستنابة، والحالة هذه؛ فإنه يحرم التغرير بالنفس على الابن، وإذا حرم عليه هذا، استحال وجوب استنابته، والحالة هذه.
2435 - ولو بذل الابن للأب [المعضوب] (1) مالاً يستأجر به، ففي وجوب قبول المال، وصرفه إلى تحصيل الحج وجهان مشهوران: أحدهما - يجب القبول، كما يجب قبول الطاعة من الابن نفسه، إذا كان يباشر الحجَّ عن أبيه. والثاني - لا يجب؛ فإن المنَة تثقل وتتجنب (2)، في الأموال، وطاعة [البدن] (3) في حكم الخدمة، ولا يثقل على الأب استخدام الابن.
وكان شيخي يتردد في بذل الابن [ثمن الماء] (4) لأبيه، ويذكر من الخلاف في وجوب القبول، ما قدمناه، ولا فرق كما قال بينهما.
ولو بذل الأجنبي للمعضوب مالاً يستأجر به، فلا خلاف أنه لا يلزمه قبولُه، ولو بذل له الطاعةَ في الحج عنه بنفسه، ففي وجوب استنابته وجهان مشهوران، لا يخفى توجيههما، كما لا يخفى الفصل في الترتيب بين الأجنبي والولد.
وكان شيخي يقول: الأب إذا بذل الطاعة لولده، فهو كالأجنبي يبذل الطاعة للمعضوب؛ فإن خدمة الأب تثقل على الابن، فأما إذا بذل [المالَ] (5) لولده، ففيه ترددٌ. يجوز أن يكون (6 كبذل الأجنبي المال، ويجوز أن يكون كبذل 6) الابن المالَ لأبيه، ولعل الأظهر هذا.
فهذا معاقد المذهب في الاستطاعة بالنفس، والاستنابة. وقد شذ عنها نوعان: أحدهما أخرناه لترتيب المختصر (7)، والثاني نضبطه برسم فروع.
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) في (ط) وتخفّ.
(3) في الأصل، (ك): البذل.
(4) في الأصل، (ك): ثم المال.
(5) زيادة من (ط).
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(7) المراد مختصر المزني، فقد وعد إمامنا بأنه " سيجري على ترتيب المختصر جهده ".

(4/137)


فرع:
2436 - قد ذكرنا أن الاستنابة لا تصح إلاّ من معضوبٍ موصوف بزمانة، لا يُرجى زوالُها، في غالب الظن، فلو استأجر والحالة هذه، ثم استمر العضبُ حتى مات، وقع الحج موقعه.
ولو حج الأجير في قيامِ العضب، ثم اتفق زوالُ العضب -على ندورٍ-[و] (1) الاستمكانُ من المباشرة، ففي المسألة قولان: أصحهما - أنا نتبين أن الحج غيرُ منصرفٍ إلى المستأجر. والثاني - أن الحج منصرفٌ إليه، على (2) غالب الظن، في لزوم العَضْب. وشبه الأئمةُ القولين فيما ذكرناه، بالقولين فيما لو رأى الرجل سواداً مقبلاً، حسبه عدواً، لا طاقة له به؛ فصلى صلاة الخوف، ثم تبين أن الذي حسبه، لم يكن، ففي صحة الصلاة قولان.
فإن قيل: كيف وجهُ التشبيه، والعضب هاهنا متحَقَّقٌ، غيرُ مظنون؟ قلنا: العضب المعتبر، هو الدائم إلى الموت، وصحةُ الحج بطريق الاستنابة، لا تعتمد تنجّز العضب في الحال، وإنما يعتمد جواز الاستنابة غلبةَ الظن، بدوام العضب.
فلو لم تكن الزمانة بحيث لا يُرجى زوالها، فقد ذكرنا أن جواز الاستنابة لا يعتمد، [مثل] (3) هذه الزمانة.
فلو استأجر أجيراً، وهو على رجاءٍ ظاهرٍ من زوال الزمانة، فاستمرت الزمانةُ إلى الموت، فقد ذكر الأئمة في ذلك قولين أيضاًً، وخرجوا الاختلاف في الصورتين على أنا نعتبر الحال [أو] (4) نعتبر ما يُفضي إليه الأمر في المآل.
2437 - وتمام الكلام في الفرع: أنا إذا حكمنا بأن الحج ينصرف إلى المستأجِر، فلا شك أن الأجرة مستحَقّةٌ للأجير، وإن حكمنا بأن الحجة غيرَ منصرفةٍ إلى المستأجِر، فقد ذكر شيخي عن شيخه القفال، أن من أئمتنا من يقول: لا يقع الحج
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) " على " هنا بمعنى لام التعليل، وهو منصوصٌ عليه عند أهل اللغة. والمعنى: ينصرف الحج إليه بسبب غلبة الظن في لزوم العضب، وعدم زواله.
(3) في الأصل، (ك): قبل.
(4) في الأصل، (ك): ونعتبر.

(4/138)


عن فرض المستأجِر، ولكنها تقع عنه تطوعاً.
وهذا بعيدٌ؛ فإن تطوع الحج لا يسبق فرضَه، غيرَ أن هذا القائل يجعل العَضْب الناجزَ، بمثابة الرق، والعبدُ إذا حجَّ، ئم عَتَق، فما سبق من الحج -في الرق- تطوّعٌ، [متقدمٌ] (1) على فرض الإسلام.
وهذا بعيدٌ، لا أصل له، فإن حكمنا بأن الحج يقع عن المستأجر تطوعاً، فالأجير يستحق الأجرةَ، وإن قلنا: لا ينصرف الحج إلى المستأجر أصلاً، فهل يستحق الأجير الأجرة، فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه لا يستحقها؛ فإنه كان مستأجَراً على تحصيل الحج لمستأجِره، ثم تبين أنه لم يحصل له.
والوجه الثاني - أنه يستحق الأجرةَ، لأنه عمل في الظاهر ما التمس منه، ولم يقصر فيه.
والأصح استرداد الأجرة؛ من جهة أن الحجَّ وقع عن الأجير، ويبعد أن يقع الحج له، ويستحق الأجرة على غيره، على مقابلة الحج الواقع عنه، وهو في التقدير بمثابة ما لو قال: استأجرتك للحج عن نفسك، ولا فصل إلا العلم والجهل، وجهاتُ الاستحقاق لا تختلف بالجهل، والعلم.
فإن قلنا: لا يستحق الأجرة، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يستحقها، فقد اختلف أصحابنا على ذلك، فقال بعضهنم: يستحق الأجرة المسماة.
وقال آخرون: يستحق أجرة المثل.
وينبني، على هذين الوجهين القولُ في أنا هل نتبين فساد الإجارة؟ فإن أثبتنا المسمّى، فالاستئجار صحيح، وإن أثبتنا أجرةَ المثل، فقد قضينا بتبيّنِ فساد الاستئجار.
وقال شيخي: إذا حكمنا بأن الحَجةَ تقع تطوعاً عن المستأجر، فلا يمتنع (2) تخريج الخلاف في أجرة المثل، والمسمى؛ فإن الواقع ليس هو الذي وقع الاستئجار عليه،
__________
(1) في الأصل، (ك): يتقدّم.
(2) (ط): يتسع.

(4/139)


غيرَ أن ثبوت المسمَّى في التفريع على هذا الوجه أولى.
2438 - وألحق الأئمة بما نحن فيه صورةً من صور الإجارة، فقالوا: إذا صح الاستئجار، وانعقد الحج عن المستأجر، ثم إن الأجير، كما (1) أحرم، بدا له أن يصرفَ الحجَّ إلى نفسه، فظن أن ذلك ممكن، فإذا أنهى الحجَّ، فهل يستحق الأجرة؛ فيه اختلاف مشهورٌ: من أصحابنا من قال: إنه لا (2) يستحق الأجرة؛ نظراً إلى قصده في صرف الحج إلى نفسه.
وإذا ضممنا هذا إلى ما قدمناه، انتظم من المجموع أن من أئمتنا من اعتبر في استحقاق الأجرة حصولَ الحج للمستأجر، وهؤلاء يقولون: إذا [تبينا] (3) أن الحج غيرُ منصرف إليه، في صورة زوال العَضْب، فلا أجرة، وإذا صرف الأجير الحج إلى نفسه بعد الإحرام، استحق الأجرة (4).
ومنهم من اعتبر قصد الأجير، وإقدامه على صورةِ ما التُمس منه، وهؤلاء يقولون: إذا صرف الأجير الحج إلى نفسه، لم يستحق الأجرةَ، وإن لم ينصرف إليه. وإذا زال العَضْب، وقلنا: لا ينصرف الحجُّ إلى المستأجر، فللأجير أجرتُه؛ اعتباراً بقصده.
ومسائل، الإجارة وغوامضُها كثيرة. وإنما نذكر الآن ما يليق بغرضنا؛ فإن باب الإجارة بمسائله بين أيدينا.
فرع:
2439 - الابن إذا بذل الطاعةَ لوالده، فقد ذكرنا أنه يجب عليه استنابته، ولا استئجار؛ إذ لا أجرةَ، فلو رجع الابن عن طاعته، فهل له ذلك؟ أم يلزمه الوفاء بما بذل من الطاعة، [وإتمام ما وعده] (5) ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه لا يلزمه الوفاء، وهو الأصح؛ إذ لا عَقْد، ولا استئجار. والثاني - يلزم الوفاءُ،
__________
(1) أي: عندما أحرم.
(2) سقطت من (ط).
(3) في الأصل، (ك) " أثبتنا ". واعتمدنا مكانها (ط).
(4) لأن صرف الحج إلى نفسه بعد إحرامه عن المستأجر غير ممكن.
(5) في الأصل، (ك): وإتمامها.

(4/140)


وبذل الطاعة فيه بمثابة الضمان، والضمان يُلزم الضامنَ الوفاء بقوله. والأصح الأولُ.
فرع:
2440 - المباشر للحج إذا لم يجد مالاً عتيداً يتخذه زاداً، ولكنه كان كسوباً، وقد ادّخر لأهله ما يكفيهم، فهل يلزمه أن يخرج حاجّاً، معوِّلاً على كسبه؟ قال العراقيون: إن كان السفر طويلاً، لم يلزم التعويلُ على الكسب، وشرطُ وجوب الحج اعتبارُ الزاد؛ فإن الكسب قد يتخلف. وينضم إليه أن مقاساةَ أحوال السفر، إذا انضمت إلى تعب الكسب، عظمت المشقة.
وإن قصرت المسافة، فقد ذكرنا أن الواجب المشيُ على المقتدر عليه، على التفصيل المقدّم. وهل نوجب الخروج، مع قصر المسافة، تعويلاً على الكسب؟ قالوا: إن كان كسبه في يومٍ يكفيه لأيامٍ، فعليه الخروج، وإن كان كسبه في يومٍ لا يفضُل عن اليوم، فلا يلزمه الحج؛ فإنه في أيام الحج ينقطع عن كسبه، فيتضرر به.
هذا ما ذكروه. ولا ذكر له في طريقتنا. وفيه احتمال على حالٍ؛ فإن القدرة على الكسب في يوم الفطرة، لم تُجعل كحصول الصاع في الملك، ولا يبعد أن يقال: الكسب وإن أمكن، فهو كالمشي، وقد ألزمناه في السفر القصير، وإن كنا لا نلزمه في السفر الطويل.
فصل
2441 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيّما صبيّ حج، ولو عشرَ حِجَج، فإذا بلغ، فعليه حَجة الإسلام، وأيما عبد حج، ولو عشر حجج، فإذا عَتَق، فعليه حَجة الأسلام، وأيما أعرابي حج، ولو عشر حجج، فإذا هاجر فعليه حَجَّة الإسلام " (1)، (2). قيل: هذا حين كانت الولايةُ منقطعةً، بين المهاجر وغير
__________
(1) حديث: أيما صبي حج ... رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: ح 15081، وابن خزيمة في صحيحه: 4/ 249 ح 3050. والإسماعيلي في مسند الأعمش، والحاكم: 1/ 481، والبيهقي: 4/ 325، مع اختلافِ اللفظ (ر. التلخيص: 2/ 421 ح 954).
(2) في هامش (ك) ما يمكن أن نقرأ منه ما يلي: هذا الحديث بهذا اللفظ لم أجده، وإنما روى الإمام الشافعي، والبخاري موقوفاً على ابن عباس: " أيما مملوك حج به أهله، فمات قبل أن=

(4/141)


المهاجر، بالتوارث وغيره من الأحكام، فكانت حَجة الأعرابي، الذي لم يهاجر، إذ ذاك نَفْلاً.
وقيل: أراد بالأعرابي الكافر، فأبان أن من وجد منه الحج، على صورته في الكفر، فلا اعتداد به، وعبر عن الكافر بالأعرابي الذي لم يهاجر، لأنهم إذ ذاك، كانوا إذا أسلموا، هاجروا.
ومقصود الفصل: أن الصبا، والرّقَّ [لا] (1) ينافيان صحةَ الحج، ولكنهما ينافيان وجوبَه، وإجزاءه عن الواجب، لو وقع.
والفقير الذي لم نُثبته مستطيعاً، لو تكلف المشقة، وحج، وقع حجه عن فرض (2) الإسلام.
فالفقر كالصبا والرق في منافاة وجوب الحج، وليس بمثابتهما في منافاة إجزاء الحج.
وليس الحج فيما وصفناه كالجمعة؛ فالعبد والمريض المعذور مستويان، في أنه لا يجب على واحدٍ منهما حضور الجامع، وإذا حضراه، وصلَّيَا أجزأت الصلاةُ عنهما، عن فرض الوقت، ويفترقان في أن المريضَ إذا حضر تَقَيَّد، ولزمه إقامة الجمعة؛ فإنّ عذره كان يَحُط عنه تكلّفَ الحضور، وقد حضر، فكأنه ليس معذوراً الآن. وللعبد أن ينصرف بعد الحضور؛ فإن رقه قائم. وهذا ظاهر.
__________
=يعتق، فقد قضى حجه، وإن عتق قبل أن يموت، فليحج، وأيما غلام حج به أهله، فمات قبل أن يدرك، فقد قضت عنه حجته، وإن بلغ، فليحج "، لكن قد رواه محمد بن المنهال الضرير عن يزيد بن زُرَيْع عن شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباسٍ مرفوعاً وزاد فيه، وأيما أعرابي حج، فمات قبل أن يهاجر، أجزأت عنه، فإن هاجر، فعليه الحج.
قلت: وهذه الرواية غريبة جداً. وقد رواه بعدها أيضاً (كلمة غير مقروءة) من حديث محمد بن كعب القُرظي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. والله أعلم ا. هـ بنصه إلا كلمة أو كلمتان.
وهذا الذي ذكره في الهامش انظره في الأم: 2/ 95، والسنن الكبرى: 5/ 179.
(1) زيادة من (ط).
(2) (ط): فقر. (وهو سبق قلم).

(4/142)


2442 - ثم ذكر الشافعي أن حَجة الإسلام إذا وقعت على شرطها، فهي للعمر، وقد تقدم هذا. وغرضه بالإعادة الردُّ على أبي حنيفةَ في مسألةٍ، فمذهبنا أن من حج، ثم ارتد، ثم عاد إلى الإسلام، لم يلزمه إعادةُ الحج. وقال أبو حنيفة (1) يلزمه إعادته، مصيراً إلى أن الردة تُحبط ما سبق، والمسألة مشهورة.
فصل
قال الشافعي: " سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: لبيك عن فلانٍ ... إلى آخره " (2).
2443 - مذهبنا أن حَجةَ الإسلام في حق من يُتصور منه وقوعُها، مقدمةٌ على سائر أنواع الحَج. والحج يقع ركناً، وقضاء واجباً، عن حج لم يكن ركناً لو تم، ومنذوراً، وتطوعاً، والحجة الأولى مصروفةٌ إلى جهة الركن، وفرضِ الإسلام، [و] (3) لا يجب تعيينُ النيةِ في ذلك، فلو تلبس بالحج مطلقاً، من يصح منه حجةُ الإسلام، فمُطلَقُ حجه مصروفٌ (4) إلى ما عليه من فرض الإسلام. وكذلك لو نوى الحجة المنذورةَ، أو حج القضاء، انصرف ما جاء به إلى حجةِ فرض الإسلام.
والقضاء إنما يفرض في حق من كان عبداً، وشرع في الحج، وأفسده، ثم عَتَق، فعليه حجةُ قضاءٍ، لما أفسده، وهذا القضاء لا يكون حجةَ الإسلام؛ فإن القضاء يحكي الأداءَ، فكل أداءٍ لو تم، لم يتأدّ به فرضُ الإسلام، فقضاؤه بمثابته.
ولو فرغ عن حجة الإسلام وعليه حجةٌ منذورة، فلتقع البداية بها، فلو نوى التطوع، [لغا قصدُ التطوع و] (5) انصرف الحج إلى جهة النذر.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 261، رؤوس المسائل: 240 مسألة: 138، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 238 مسألة: 707.
(2) ر. المختصر: 2/ 42.
(3) زيادة من (ط).
(4) (ط) فتطلق حجةً مصروفةً.
(5) زيادة من (ط).

(4/143)


ولو كان عليه قضاءٌ، كما صورناه وحجةٌ منذورة، فقد كان شيخي يقول: يجب تقديمُ القضاء؛ فإنه واجب شرعاً على المنذور، واستمر على هذا في دروسه، ولم يتعرض لهذا الترتيب غيرُه. وفي المسألة احتمالٌ ظاهر؛ فإن هذا القضاءَ فرعُ حجٍّ، لم يكن واجباً، كما أن الإقدام (1) على النذر، لم يكن واجباً.
وبالجملة تعليلُ سقوط أثر التعيين في النية، عسرٌ (2) مشكلٌ في قاعدة المذهب، ولكن الممكن فيه أن قصد التطوع لا يُفسد العقد، ووجوب تقديم حج الإسلام ثابت.
2444 - فينتظم من ذلك صحةُ الحج، على الترتيب المستحق. وكان يمكن أن نقضي بفساد النية، وإنما عِظم وقع الإشكال، لانضمام مشكلٍ إلى مشكلٍ: أحدهما - ما ذكرناه من التعيين. والثاني - استحقاقُ الترتيب، وهذا عوض من الأول (3)، سيما على أصلنا، في أن الحج على التراخي.
ثم في (4) مذهبنا أن المستأجَر على الحج، ينبغي أن يكون بريء الذمة، من حجة الإسلام، فلو كان عليه فرضُ الإسلام، ينصرف حجُّه إلى فرض إسلامه، وإن قصد مستأجِرَه، خلافاً لأبي حنيفة (5).
ومعتمد المذهب في ذلك الحديث الذي رواه الشافعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سمع رجلاً يقول: " لبيك عن شُبرمة فقال له: أحججت عن نفسك، فقال: لا. فقال: هذه عنك، ثم حُج عن شبرمة " (6) وهذا متعلَّق بالغٌ في
__________
(1) (ط): الإحرام.
(2) (ط): غير.
(3) (ط): الأصل.
(4) (ط): ثم مذهبنا (بدون في).
(5) ر. المبسوط: 4/ 151، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 94 مسألة: 570، رؤوس المسائل: 248 مسألة: 142، الاختيار: 1/ 171، حاشية ابن عابدين 2/ 241.
(6) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة ... " رواه الشافعي موقوفاً على ابن عباس، قال ابن الصلاح: " بإسناد جيد ". ورواه مرفوعاً أبو داود وابن ماجه والدارقطني والبيهقي (ر. الأم: 2/ 105، أبو داود: المناسك، باب الرجل=

(4/144)


المسألة، وإذا ثبت مضمون الحديث، في الأجير الصرورة (1)، أمكن بناءُ استحقاق الترتيب في حق الشخص على ذلك.
فنقول: كما يتعين على [الأجير] (2) تقديمُ فرض نفسه على ما استؤجر له، فكذلك يتعين عليه في نفسه، أن يقدّم فرض إسلامه، على ما يتطوّع به؛ فيتسق [على] (3) ذلك استحقاقُ الترتيب، بناء على مسألة الأجير.
2445 - والأجير إذا صح استئجاره، وعيّن له المستأجر سنةً، فإذا انتهى إلى الميقات، ونوى التطوعَ عن نفسه، فقد قال شيخي: ينصرف ما جاء به إلى جهة الإجارة، فإن الحجةَ في هذه السنة مستحقةٌ عليه، والمستحق مقدمٌ في وضع الحج، على المتطوّع به.
وأجمع أصحابنا على خلافه في هذا، فإن استحقاق الحج عليه ليس من حكم وجوبٍ يؤول إلى الحج، وإنما يتقدم واجبُ الحج على تطوّعه إذا رجع الوجوب إلى الحج، فإذا تطوّع الأجيرُ، فقد أساء، والوجه الحكمُ بوقوعِ الحج تطوعاً عنه، ثم الأجرةُ مردودةٌ، والإجارة منفسخة، كما سيأتي شرح أحكام الإجارة.
ولو استأجر الرجل صرورةً، لم يحج عن نفسه، وعين له السنة القابلة، فالإجارةُ فاسدةٌ، لما ذكرناه. وإن ألزم الحجَّ ذمّتَه، ولم يعين الإتيان به سنةً، فالإجارة صحيحةٌ، ثم وجه الوفاء بها أن يحج عن نفسه أولاً، في سنته، ثم يحج عن مستأجِره.
...
__________
=يحج عن غيره، ح 1811، ابن ماجه: المناسك، باب الحج عن الميت، ح 2903، الدارقطني: 2/ 267، البيهقي: 4/ 336، مشكل الوسيط لابن الصلاح، بهامش الوسيط: 2/ 589).
(1) الصرورة: الرجل الذي لم يحج.
(2) ساقطة من الأصل، (ك).
(3) في الأصل، (ك): فعلى.

(4/145)


باب إمكان الحج وأنه من رأس المال
قال الشافعي: " وإن استطاع الرجل، فأمكنه مسيرَ الناس ... إلى آخره " (1).
2446 - إذا ثبتت الاستطاعة على الشرائط المقدمة، ودامت حتى انقضت سنة، والمعنيّ بها انقضاءُ وقتٍ يسع المسير إلى الحرم، وإقامة الحج، فإذا دامت الاستطاعة (2) في المدة التي وصفناها، استقر الحج في الذمة، ومعنى استقراره أنه إذا مات، لزم الإحجاجُ عنه من رأس المال، كما سنذكره.
ولو ثبتت الاستطاعة في جهة المباشرة، أو جهة الاستنابة، ثم زالت قبل مضي الزمن الذي يسع الحجَّ، فلا أثر لما كان، ولا يستقر الحج في الذمة، وإذا مات، لم يكن الإحجاج عنه دَيْناً.
ولو تمكن من مباشرة الحج خُروجَ (3) الناس، فلم يخرج، فلما حجوا، مات ذلك المتخلِّف، قبل انقضاء زمان الرجوع، فالحج مستقر في الذمة؛ فإنه لو خرج، وحج، لكان يموت على هذا التقدير، ويغنيه موتُه عن تكلّف الرجوع؛ فقد جرى إذاً في عمره زمان إمكان الحج، على التصوير والتقدير (4) الذي ذكرناه.
ولو بقي حياً في هذه الصورة، ولكن تلف ماله قبل زمان رجوعهم، حيث يشترط في الاستطاعة نفقةُ الذهاب والإياب، فإذا مات على فقره هذا، فلا يكون الحج مستقراً، مخرَجاً إخراجَ الديون؛ والسبب فيه أنا تبينا (5) عجزَه
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 42.
(2) (ط): الأسباب.
(3) (ط) وخرج.
(4) في الأصل، (ك): التقرير.
(5) (ط) أنا إذاً تبينا.

(4/146)


[بالأَخَرة] (1) عن أهبة الإياب، حيث نشترط نفقة الإياب، كما نشترط نفقةَ الذهاب، ذكره الصيدلاني وهو حسن.
وفيه أدنى احتمال، من جهة أنه كان مالكاً في ابتداء السنة، لنفقة الذهاب والإياب، ولو خرج، لأدَّى الحجَّ، فطريان جائحةٍ على نفقة إيابه -والصورة هذه- ليست بمثابة ما لو لم يملك في الابتداء نفقةَ [الإياب] (2). والظاهر ما ذكره الشيخ أبو بكر (3).
2447 - ومما نُلحقه بهذا الفصل أن قول الشافعي اختلَف في جواز الاستئجار، على [حج] (4) التطوع. وسيأتي ذكر القولين، وتفريعهما، في باب الاستئجار.
فلو مات -ولكن كان حج حجة الإسلام- فأراد وارثه أن يستأجر عنه من يحج عنه تطوعاً، ففيه القولان.
ولو استمر عمرَه على انتفاء الاستطاعة، ولم يستقر الحجُّ في ذمته، فأراد الوارث أن يُحِج أجيراً عنه، ففي جواز ذلك طريقان: أحدهما - القطع بالجواز؛ فإنه لو قُدّر صحتُه، لكان حجةَ الإسلام. والثاني - يخرج جواز الإحجاج عنه على القولين المذكورين في حج التطوع. ولا فرق (5) بين حج التطوع والحج [الذي] (6) يفرض (7) غير مستقر في الذمة، فإن كلَّ واحد منهما لو قدرت الوصية به، فهو من الثلث؛ فإنهما مستويان في [انتفاء] (8) الدَّيْنية (9) عنهما.
ولو شرع الرجل في حج التطوع، وأفسده، ثم قضاه، فلقضائه من الحكم ما لأدائه.
__________
(1) في الأصل، (ك): فالأجرة. والأَخَرَة بفتحتين: أي أخيراً.
(2) في الأصل، (ك): ابتداء.
(3) أبو بكر هنا= الصيدلاني.
(4) مزيدة من (ط).
(5) في (ط): يفرق.
(6) مزيدة من (ط).
(7) في الأصل: يعرض. و (ك): بغرضٍ.
(8) في الأصل، (ك): استواء.
(9) في (ط) الذنبية. والدّينية: أي عدم استقرارهما في الذمة ديناً.

(4/147)


ولو تكلف غيرُ المستطيع وحضر المشاهدَ، وشرع في الحج، فأفسده، فقضاؤه يقع عن فرض الإسلام؛ فإن الأداء لو تم، لكان فرضَ الإسلام.
فليتأمل الناظرُ المنازلَ، في التطوع، وما لم يستقر في الذمة، مما لو وقع، لكان فرضاً.
فصل
قال: "ولو كان يُجَن ويُفيق ... إلى آخره" (1).
2448 - الجنون ينافي توجّه الخطاب بالحج، فإن الاستنابةَ وإن كانت ممكنةً في الحج، فهو عبَادةٌ بدنية، والغرض منه التعبد بأدائه، أو توجيه الخطاب عنه (2) بالاستنابة فيه، فإذا لم يكن المجنون ممن يؤدي بنفسه، ولم يتأت توجّه الخطاب عنه بالاستنابة، فيسقط فرض الحج عنه- بخلاف الزكاة؛ فإن الغرض الأظهر منها الإرفاق.
فلو كان الرجل يجن ويُفيق، فأفاق وامتدت إفاقته مدةً تسعُ الحجَّ، فقد استقر الحج في ذمته، وقد مضى استقرار الحج.
ولو لم تبلغ مدةُ إفاقته مدةً تسع الحجَّ، فليس لوليه أن يحج به من ماله، فلو فعل، فالنفقة الزائدة لأجل السفر مضمونةٌ على الوليّ، ولو خرج الوليّ به، وكان يُجن أياماً، ويُفيق أياماًً، فاتفق أنه أفاق في أيام الحج، وتم منه الحج على الصحة، فما بذله الوليّ من ماله محسوبٌ، غيرُ مضمون؛ فإنه تأدى بسبب بذله فرضُ الإسلام. وإنما يجب الضمان، إذا لم يكن الحج الحاصلُ واقعاً عن فرض الإسلام.
2449 - ومما يتعلق بما نحن فيه، أن المبذر محجورٌ عليه، في ماله، كالمجنون، والصبي، ولكن ليس لولي الصبي والمجنون بذلُ مالهما، في تحصيل الحج لهما، ووليّ المبذّر يبذل مالَه ليحج، ويخرج معه بنفسه، ويُنفق عليه
__________
(1) ر. الأم: 2/ 94. ولم أصل إليها في المختصر.
(2) ساقطة من (ط).

(4/148)


بالمعروف، والاقتصاد، أو يُخرج معه من يراقبه وينفق عليه، فإن [نفس] (1) التبذير لا ينافي وجوبَ الحج، ووقوعَه موقع الاعتداد إذا صح.
فصل
قال: " فإن كان عامَ جدب، أو عطش ... إلى آخره " (2).
2450 - إذا كان الطعام، والعلف، والماء، موجوداً، في الطريق، وكانت البُلْغةُ (3) وافيةً، فالاستطاعة حاصلةٌ، ولا فرق بين أن تكون الأسعار راخيةً، أو غاليةً، إذا كان في المال وفاءٌ.
وقد ذكرنا أن الماء إذا كان يعرض على البيع بثمن غالٍ بالإضافة إلى القُرى ومحال الريف، ولكن كان الثمن في ذلك المكان والزمان، لائقاً بالماء، فيجب ابتياعه للطهارة، وإنما يسقط وجوبُ [ابتياعه] (4)، إذا كان لا يُباع إلا بغبن، [بأن كان] (5) الماء في ذلك المكان يساوي مقداراً، وكان صاحبه يطلب في ثمنه أكثر منه، فلا يجب ابتياعه.
ونظير هذا من الحج ما يُستأدى من الحجيج في المراصد (6) [بباطل] (7)، فإذا كان لا يتأتى دفعُه، ولا يَجد المرءُ مسلكاً، لا راصد عليه، فلا يجب عليه الحج، وإن قلّ قدرُ ذلك المطلوب، كما ذكرناه في الغبن، في ثمن الماء.
وحاصل المقصود أن المؤن، وإن ثقلت بغلاء الكراء، والأسعار، لم يسقط
__________
(1) في الأصل، (ك) نقص، (ط): نقض. بالضاد. والمثبت تقديرٌ منا رعاية للسياق.
(2) ر. المختصر: 2/ 43.
(3) البُلغة: ما يكفي لسد الحاجة، ولا يفضل عنها.
(4) في الأصل، (ك.): إيقاعه.
(5) في الأصل، (ك): فإن الماء.
(6) الرَّصَد هو الذي يقعد على الطريق، ينتظر الناس، ليأخذ شيئاً من أموالهم ظلماً وعدواناً.
والمراصد جمع مرصد، مكان الرصَد. (مصباح).
(7) في الأصل، (ك): باطل.

(4/149)


وجوب الحج، إذا كان في المال وفاء بها. وإذا كان يُطلب مالٌ بغير حق، فيسقط وجوب الحج.
2451 - ولو كان يحتاج المسافر إلى من يُبَذْرِقُه (1)، وإذا استأجره، أمن الغوائل، في غالب الظن، فهل يجب الحج، والحالة هذه؟ اختلف أئمتنا في المسألة، فقال قائلون: يجب، وهو المختار، فإن بذل الأجرة بذلُ مالٍ بحق والمبذرِقُ أهبةٌ، من الأهب، كالدابة، وغيرها.
وقال قائلون: لا يجب ذلك، فإن الاحتياج إليه سببُه خوفُ الطرق، وخروجها عن الاعتدال. وقد ثبت في وضع الشرع، سقوط الحج عند خوف الطارقين، في غالب الأمر، ولو أوجبنا استئجار مبذرِق، لزم أن نوجب استئجار عسكرٍ، عند وفاء المال، وعِظَم الغائلة. وهذا بعيدٌ عما فهمه الأولون، من اشتراط أمن الطريق. ثم ليس الأمن الذي نذكره قطعاً (2)، " فالمسافر ومتاعه على قَلَت (3) إلا ما وقى الله "، وإنما الحكم على غالب الظن، والنفس لا تثق بالخلاص عن الحوادث.
فالذي يجب التفطن له، أنا لا نشترط في السفر [الأمن] (4) الذي يغلب في الحضر، فإن ذلك إنما يحصل لو صار السفر في حكم الحضر، بأن تصير الطرق آهلة، [و] (5) لا سبيل إلى شرط ذلك، فالأمن في كل مكانٍ، على حسب ما يليق به.
__________
(1) يبذرقه: يحرسه. قيل: معرّبة، وقيل: مولّدة. وقيل بالذال، وقيل بالمهملة، وقيل: بهما جميعاً. (المعجم والمصباح).
(2) أي لا قطع، ولا يقين في أمن المسافر.
(3) قَلَت: هلاك. (النهاية في غريب الحديث).
ومما يذكر أن إمام الحرمين لم يروه هنا حديثاً، كما صنع في البرهان. وهو ليس بحديث كما قاله الجوهري في الصحاح، وكما قاله أيضاً النووي في تهذيب الأسماء واللغات، حيث قال: إنه من كلام بعض السلف، قيل: إنه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وذكر ابن السكيت والجوهري وابن منظور أنه لأعرابي (ا. هـ بتصرف) وانظر كشف الخفا ح 781، وانظر ما قاله الحافظ في التلخيص: 3/ 211 ح 1458.
(4) زيادة من (ط).
(5) الأصل، (ك): فلا.

(4/150)


فصل
قال: " ولا يبين لي أن أوجب عليه ركوبَ البحر ... إلى آخره " (1).
2452 - اختلف نص الشافعي في وجوب ركوب البحر لأجل الحج، فقال هاهنا: ولا يبين لي أن أوجبه، وقال في موضع آخر: لا أوجبه إلا أن يكون أكثر عيشِه في البحر، [و] (2) عندي أنه نصَّ في بعض المواضع على وجوب ركوب البحر، إذا كان يعتاد ركوبَه.
فقال بعض أصحابنا: في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يجب ركوبه؛ فإنه مهلكة والخارج منه يُعدّ ناجياً، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
والقول الثاني: إنه يجب؛ فإنه مطروق العقلاء، ويُبعدُ الآفةَ عن سفينة صحيحة شِحْنتُها (3) على قَدْر (4)، وإجراؤها في وقت متَخيَّر، فلا يبقى إلا مهَابةُ النفوس، فلا تعويل عليها.
ثم القولان فيما يعتاد ركوبه، ولا يُنسب صاحبُه إلى اقتحام العَطَب. فإن كان البحر بحيث لا يركبه إلا هجّام، مغرِّر بنفسه، فلا يجب ركوبُه، بل قد نقول: لا يحل ركوبُه. وكذلك إن اغتلم (5) بحرٌ، يُعتاد ركوبه في بعض الأوقات، فالكلام في ذلك الوقت، كالكلام في البحر المغرِق.
ومن أصحابنا من [نزل] (6) المسألةَ على جرأة الراكب، واستشعاره. وفي نص
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 43.
(2) مزيدة من (ط).
(3) الشِّحنة: ما تُملأ به السفينة. وشحن يشحن من باب تعب. (معجم).
(4) قَدْر بفتح وسكون: المقدار المساوي من غير زيادة، ولا نقصان. (معجم).
(5) اغتلم البحر: هاج واضطربت أمواجه. (معجم).
(6) الأصل، (ك): ترك.

(4/151)


الشافعي إشعارٌ به، وسبب التنزيل على [هذا] (1) أن الاستشعار إذا عظم، ظهر أثره، وعظم ضرره، وقد يخلع قلب المستشعر. وإذا وقع التنزيل على ذلك، فمنهم من قال: [المستشعر لا يلزمه الركوب، وفي غير المستشعر قولان، ومنهم من قال:] (2) غير المستشعر يركب، وفي المستشعر قولان.
ومنهم من نزل النصين على الحالين، على قطعٍ، من غير ترديد قول، وقال: المستشعر لا يلزمه الركوب، وغيره يركب. وكل ذلك والبحر مركوب لا يعد مُغْرِقاً (3).
وقال بعض أصحابنا: لا يجب ركوبُ البحر قط، وما ذكره الشافعي غيرُ مصرح به، ولا يمتنع حمله على ما إذا [ركب] (4) البحر وفاقاً، وقرب من الشط الذي يتاخم (5) مكة، فيجب عليه التمادي، ولا محيص، وإلى المقصود أقرب.
2453 - وإذا لم نوجب ركوبَ [البحر] (6) وقد توسطه المرء، واستوى في ظنه ما بين يديه، وما خلفه، فهل يجب التمادي في صوب مكة؟ فعلى وجهين، كالوجهين في المحصر إذا أحاط به العدوّ من الجوانب. وإن قلّ ما في صوب مكة، وكثر البحر في غيره من الجوانب، وجب التمادي. وإن كثر ما في صوب مكة، جاز الرجوع، وإنما الوجهان [في] (7) ظن الاستواء، وهو كالوجهين في المحصر يحيط به العدوّ من جوانبه. على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أنه لا يجب ركوبُ البحر، وصورة الوجهين في الاستواء مخصوصةٌ بما إذا كان يجد في المنصَرَف طريقاً غير البحر، أما إذا كان يضطر في الانصراف إلى ركوب البحر، فالانصراف من شط (8) البحر أقربُ من قطع البحر إلى
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(3) ط (مغرقة).
(4) ساقط من الأصل.
(5) تاخَم الموضع الموضعَ: جاوره، ولاصقه. (المعجم).
(6) ساقط من الأصل، (ك).
(7) ساقطة من الأصل، (ك).
(8) واضح أن المراد جانب البحر القريب من الشط، لا اليابس نفسه.

(4/152)


مكة، مع الاضطرار إلى قطع كله في الانصراف.
ثم قال الأئمة: النسوة أولى بأن لا يجب عليهن ركوبُ البحر، لأنهن عوراتٌ، والبحر هتّاك للأستار؛ فإن جعلنا المسألة على قولين في الرجال، ففي النسوة قولان مرتبان، والفرق ما ذكرناه.
وإن لم نوجب ركوبَ البحر، ولم يكن البحر معروفاً بالإهلاك، فلا يُنكر الأمر بركوبه استحباباً، ولا نرى الأمر ينتهي إلى دفع ذلك.
ولو كان مُخْطِراً (1)، فإن غلب [على] (2) الظن الهلاكُ، حرم الركوب، وفاقاً، وتأسياً بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
وإن استوى الأمران، ولم يقض العقل بتغليب الهلاك، أو السلامة، فقد كان شيخي يقطع بتحريم الركوب أيضاًً. وفيه نظر. وللأصحاب مرامز إلى نفي التحريم في مثل ذلك. أما الكراهيةُ فكائنةٌ، لا شك فيها.
واضطرب الأئمة في ركوب البحر المُخطِر، والمقصودُ الجهاد، فمنهم من استمر على التحريم؛ فإن الخطر المحتمل في الجهاد ما يَلقى الغزاة من جهة القتال.
وقال قائلون: لا يحرم الركوب في جهة الغزو؛ فإن التواصل (3) إلى المقصود يناسبه، فإذا كان المقصود على الغرر، لم يبعد احتماله في التسبب.
فصل
2454 - والمرأة كالرجل في التزام الحج عند ثبوت الاستطاعة، وما ذكرناه في الرجل من الزاد، والراحلة، وغيرهما، فجملته معتبرةٌ في المرأة، وفيها مزيدٌ؛ فإنها عورةٌ. فإن ساعدها زوج [أو ذو رحم، فذاك، وكذلك المحرم، وإن لم يكن ذا رحم، كالأخ من الرضاع.
__________
(1) مُخْطِراً: من أخطره المرض: جعله بين السلامة والهلاك. ويقال بادية مُخطرة. (معجم).
(2) ساقطة من الأصل، (ك).
(3) (ط): التوصل.

(4/153)


وإن لم تجد محرماً، ولم يساعدها زوج] (1)، واتفق جمعٌ من النسوة الثقات، يصطحبن، فذلك يبعدهن من تقدير الطمع فيهن، فمن أصحابنا من أوجب عليهن الخروجَ في رفقةٍ مأمونة. ومنهم من لم يوجب ذلك، حتى يكون مع واحدةٍ فيهن محرم. وهذا اختيار القفال، فإنهن قد ينوبهن أمرٌ، فيستعنّ بالتي لها محرم، ويستظهرن به.
ولم يشترط أحد من أصحابنا أن يكون مع كل واحدة منهن محرم.
وما اختاره القفال حسن بالغ، يعضده حكم الخلوة؛ فإنه كما يحرم على الرجل أن يخلو بامرأة واحدةٍ، فكذلك يحرم عليه أن يخلو بنسوة، ولو خلا رجل بنسوة، كان محرمَ واحدةٍ منهن، فلا بأس.
وكذلك إذا خلت امرأة برجالٍ، واحدهم محرمٌ لها، جاز. ولو خلا عشرون رجلاً
بعشرين امرأةٍ، وإحداهن محرم لأحدهم، أو زوجةٌ، كفى ذلك.
وقد نص الشافعي على أنه لا يجوز للرجل أن يؤم بنساء منفردات، فيصلي بهن، إلا أن تكون إحداهن محرماً له.
2455 - ثم من لطيف القول في هذا الفصل: أنها إذا عدِمت محرماً، أو زوجاً، وباقي الصفات في الاستطاعة ثابتةٌ، فالقول في المنع من الخروج ما ذكرناه، ويبتني عليه أَنْ لا استطاعةَ قطعاً، ولو تمادى الأمر كذلك إلى الموت، فلا نقضي باستقرار الحج في ذمتها. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة (2): يستقر الحج، وإن كان يمتنع الخروجُ. وهذا متناقضٌ لا أصل له.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(2) يختلف الأحناف هل المحرم أو الزوج شرط وجوب أم شرط أداء؟ ومقتضى كونه شرط وجوب أن الحج لا يستقر في ذمتها، ومقتضى كونه شرط أداء أن الحج يستقر في ذمتها. والقائل من الأحناف أنه شرط أداء هو القاضي أبو خازم، أما الإمام أبو حنيفة فيقول: إنه شرط وجوب.
ولا يفوتنا التنبيه إلى دقة عبارة إمامنا حيث نسب القول باستقرار الحج في ذمة المرأة إلى بعض أصحاب أبي حنيفة وليس إلى أبي حنيفة، ولا إلى كل أصحابه (ر. البدائع: 2/ 123، 124، البحر الرائق: 2/ 339، 340، وحاشية ابن عابدين: 2/ 339، تبيين الحقائق: 2/ 4، 6، فتح القدير: 2/ 329، 332).

(4/154)


وإذا تمكنت من استئجار محرم، فالقول في هذا، كالقول في استئجار المُبَذْرِق، والأظهر هاهنا وجوبُ الاستئجار؛ فإن زيادة المؤنة في حقها بمثابة زيادة المؤنة، في حق من يحتاج إلى المحمل، ولا يكتفي بالراحلة. ومن لم يوجب، قال: استئجارُ المحرم ليس من المؤن الغالبة، التي تقع، والنادر لا يلتزَم. والأصح الإلتزام.
فصل
قال الشافعي: " فإن مات قضي عنه ... إلى آخره " (1).
2456 - من استطاع في حياته، واستقر الحج في ذمته ومات، كان الحج ديناً مأخوذاً من رأس التركة مقدماً، على الوصايا، وحقوق الورثة.
هذا هو المنصوص عليه، في معظم الكتب، وهو ظاهرُ المذهب، وذكر هذا القولَ في الحج الكبير (2)، ثم قال (3): قد قيل ذلك، وقيل: إن لم يوصِ به، فلا يُحَج عنه، وإن أوصى به، حُجّ من الثلث من ميقاته.
فحصل قولان: أصحهما - الأول، والثاني مذهب أبي حنيفة (4)، وهو جارٍ في جملة الحقوق التي تثبت لله تعالى.
وفي القول الموافق لمذهب أبي حنيفةَ إشكالُ ظاهر، وهو أن معتمد ذلك القول أن العباداتِ مفتقرةٌ إلى النية، ولا يتطرق إليها استقلالُ الغير بالأداء، من غير توكيلٍ ممن عليه؛ [فإن] (5) من أدى عن غيره مقدار زكاته من غير إذنه، لم يعتد بما أخرجه،
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 42.
(2) الحج الكبير: المراد به كتاب الحج من الأم، وسماه الكبير في مقابلة (كتاب الحج) من
مختصر المزني.
(3) القائل هو الشافعي رضي الله عنه. (ر. الأم: 2/ 107 باب من أين نفقة من مات ولم يحج؟).
(4) ر. مختصر الطحاوي: 59، البدائع: 2/ 221، 222، رؤوس المسائل: 247 مسألة 141، حاشية ابن عابدين: 2/ 242، 243 مختصر اختلاف العلماء: 2/ 91 مسألة: 569.
(5) ساقطة من الأصل، (ك).

(4/155)


وليس كما لو أدى عنه دَيْنَه، وإذا مات، ولم يوصِ بما وجب لله تعالى قُربةً، فلا يقع المخرَج متعلَّقاً بإذنه، وتختل النيةُ بذلك، وهذا على بعده كلامٌ على [حال] (1).
ولكن القياس يقتضي أن يقال: إذا مات، ولم يوصِ، فهو مرتهَنٌ بما وجب عليه، ولكن تعذّر طريقُ التأدية، فبقي الوبال على المتوفَّى، والله حسيبه، فإذا أوصى، فقد زال هذا المعنى، واقتضى القياسُ إذا تيسر طريقُ الأداء أن يكون دَيْناً من رأس المال. هذا هو القياس، ولكن لم يذكره أحد من الأَصحاب، تصريحاً، ولا رمزاً، وإنما نقلوا ذلك القول على وفق مذهب أبي حنيفة، في الحَسْب من الثلث عند الوصية.
ولا عود الآن إلى هذا القول.
والتفريع على الأصح الأظهر.
2457 - فإذا مات، واستقر الحج عليه، فالقدر المستحق، المحكوم بكونه دَيْناً حَجَّةٌ من الميقات، المنسوب إلى صوب جهته، وذلك يمكن تحصيله بمبلغٍ قريب، ولا يجب إحجاج أجير قاصدٍ عنه من بلده (2)، وذلك لو طُلِب قام بمالٍ له قدرٌ، وعلةُ المذهب أن الغرض تحصيلُ الحج، ومبتدأ الحج من الإهلال، وهو من الميقات، والرجل لو حج بنفسه في حياته، لاحتاج إلى [مؤنةٍ] (3) لسفره من بلده، ولكن لا تتأتى المباشرةُ إلا كذلك، والمقصود ما ينشئه من ميقاته، ويتأتى تحصيل الحج بطريق الاستئجار من الميقات، ثم اعتبر ميقاتُ صوبه، والغرضُ يختلف بذلك، فإن المواقيت متباينةٌ، كما سيأتي وصفها في بابٍ.
[ولا خلاف] (4) أنا لا نعتبر الميقات بعينه، وإنما نعتبر مسافةَ ميقات صوبه، وهذا من باب المواقيت.
__________
(1) مزيدة من (ط) وعبارة الأصل، (ك): كلامٌ عليٌّ.
(2) أي أن الأجرة التي يحكم بكونها ديناً، تكون عن المسافة من الميقات إلى المشاعر، ولا تعتبر من البلد، وإن كان الأجير قاصداً أي متوسطاً في الأجرة غير مغالٍ فيها.
(3) في الأصل، (ك): قوته.
(4) في الأصل: فلا اختلاف.

(4/156)


ثم سبيلُ تحصيل حجة ميقاتية (1) أن يلتمس من المارّين إلى مكة، أن يستأجروا ثَمَّ أجيراً من الميقات، فإن لم يجد من يتطوّع بذلك، فاستئجار بعض الواصلين على الاستئجار تَقرُب أجرتُه (2).
2458 - ولو أوصى بأن يستأجر عنه من الميقات أجيراً من ثلثه، والتفريع على الأصح، ففائدة إضافة الحجة التي هي دينٌ إلى الثلث مزاحمةُ الوصايا بها، فإن كانت تحصل مع (3) المضاربة، فذاك وإلا فرضنا المضاربةَ، ونظرنا إلى حصة الحج، ثم أكملنا الحَجة الميقاتية من رأس المال، [ونُحْوَج] (4) في مثل ذلك إلى الحساب الدوري (5)، وكل صوره يشترك فيها حسابُ رأس المال والثلث، ومن ضرورة الأخذ من رأس المال تقليلُ الثلث بعده، فالغرض الحسابي يصفو بالدور، ولعلنا نوفَّق [لجمع] (6) ضوابط حسابية [سيّالة] (7)، وجيزة القدر -إن شاء الله تعالى- في كتاب الوصايا (8).
ولو أوصى بأن يُحج عنه من ميقاته، حجةُ الإسلام، ولم يتعرض للثلث، والتفريع على القول الأظهر، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا معنى لذكره الأمر بالإحجاج عنه إلا التذكيرُ والاستحثاث على إبراء ذمته. والثاني - أن ذلك يحمل
__________
(1) (ط): ميقاته.
(2) المعنى أن دَفْعَ أجرة لبعض من يصل إلى الميقات كي يستأجر له أجيراً يبدأ حجه من الميقات أمر سهل قريب، أي مثل هذه الأجرة تكون زهيدة ميسورة.
(3) ط: من.
(4) في النسخ الثلاث: " نخرج " والمثبت تقدير منا؛ رعايةً للسياق.
(5) الدوري: نسبة إلى الدور، وهو توقف كلٍّ من شيئين على الآخر. وهنا يتوقف معرفة ما تتم به، الحجة على معرفة ثلث الباقي، لتعرف حصة الواجب منه، ويتوقف معرفة ثلث الباقي على معرفة ما تتم به الحجة، ولاستخراجه طرق، منها الجبر والمقابلة. (راجع شرحاً وتمثيلاً لذلك: حاشية قليوبي وعميرة: 3/ 174).
(6) في الأصل، (ك) بجميع.
(7) في الأصل، (ك): مسئلة.
(8) وفى الإمام بما وعد، ووفِّق كما ترجَّى، فقد أفاض وأفاد في شرح النماذج الحسابية في كتاب الوصايا مما استغرق مئات الصفحات، وهي بين أيدينا.

(4/157)


على مزاحمة الوصايا، ليُفيد لفظُه وذكره (1)، وهذا بعيد.
والوجهان يجريان في الأمر بقضاء ديون الآدميين، وكل ما [يخرج] (2) من رأس التركة من غير ذكر (3).
ولست أدري أيخصون هذا الخلافَ بذكر الوصية في لفظها، أم يطردونه في الأمر المطلق؟ ولو خصصوه بذكر الوصية، لكان أقرب، مع اشتهار لفظ الوصية بالتبرعات المنحصرة في الثلث.
وإن قال: يحج عنّي من بلدي، ولم يقل من الثلث، والتفريع على أن مجرد الوصية من غير إضافةٍ إلى الثلث في الحجة الميقاتية لا يتضمن مزاحمةَ الوصايا، فإذا قال: أحجوا عني من (4) بلدي، فقدرُ الحج من الميقات مأخوذٌ من رأس المال، كما لو لم تكن وصية، ثم تقعُ (5) المزاحمة بما بين البلد والميقات للوصايا، فإن وفت الحصةُ، فذاك، وإن لم تف، فما يحصل يضم إلى ما أخذناه من رأس المال، ويُحج عنه، من حيث بلغ.
وقد ذكرنا قولين في الوصية بحَجّة التطوع، ونحن نفرّع على تصحيحها. فلا شك أنها محسوبةٌ من الثلث.
2459 - ولو نذر حجةً في مرض موته، أو نذر صدقة، أو أقدم على ما يوجب كفارة، فهذه الحقوق محسوبةٌ من الثلث [وفاقاً] (6)؛ فإن أسبابها جرت في المرض، ولو جرى النذرُ في الصحة، أو جرت أسبابُ الكفارات في الصحة (7)، ففي محل هذه الحقوق وجهان: أحدهما - أنها من الثلث. والثاني - أنها من رأس المال.
__________
(1) أي حتى لا يكون كلامه لغواً.
(2) في الأصل، (ك): يجري.
(3) (ط): عذر.
(4) مكانها بياض في (ط).
(5) ساقطة من (ط).
(6) مزيدة من (ط).
(7) هنا اضطراب وخرمٌ في (ك) فعبارتها هكذا: " في صحتهم، ولا يطلبون بها، ما بقوا، فإذا ماتوا سقطت حقوق الورثة، وليست كتبرعات البتات ".

(4/158)


[فمن قال، إنها من رأس المال] (1)، فوجه ذلك أنها استقرت حقوقاً في حال كمال التصرف، ومن قال: إنها من الثلث، فوجه قوله أنها لو احتسبت من رأس المال، لاتخذ الناس ذلك ذريعةً في إسقاط حقوق الورثة (2 بأن يأتوا بأسباب الكفارات في صحتهم، ولا يطالبون بها ما بقوا، فإذا ماتوا، سقطت حقوق الورثة 2) وليست كتبرعات البتات في الصحة؛ فإنه لا تهمةَ فيها، مع امتداد الحياة والصحة، وإذا بُتَّت (3) في مرضه، أو صحته، وقلنا بالاحتساب من الثلث، فلا حاجة إلى الوصية بها، تفريعاً على القول الأظهر، في أن الوصيةَ لا حاجة إليها، في أمثال هذه الحقوق؛ فإن جريان النذور بمثابةِ الوصية، وهذا لائحٌ.
2460 - ومما ذكره الأئمة في آخر هذا [الباب] (4) أن الأصحاب اختلفوا في أن الوصية بحج التطوع، والوصيةَ بالعتق هل يقدمان على ما سواهما من الوصايا؟ فيهما قولان مشهوران.
ثم قال صاحب التقريب: إذا قدمنا الحجَّ والعتق على سائر الوصايا، ففي الوصية بالحج، مع العتق المحسوب من الثلث قولان: أحدهما - (5 العتق مقدم على الحج، والثاني 5) الحج مقدّم على العتق. هكذا حكاه.
ويتجه الحكم بأستوائهما، لتقابلهما باختصاص كل واحد منهما بمزية في الفقه.
والأصح أنا لا نقدم الوصيةَ بالعتق، والحج، على سائر الوصايا، ولا حاصل للتقديم، مع الانحصار في الثلث، إلا أن يوصى بتقديم (6 بعضها على بعض 6).
فعلى هذا إذا أوصى بحجة التطوع، وحكمنا بمزاحمتها الوصايا، فإن كانت حصة
__________
(1) ساقط من الأصل. وهو ضمن الخرم المشار إليه من (ك).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(3) ط، (ك): ثبت.
(4) الأصل، (ك): الكتاب.
(5) ساقط ما بين القوسين من (ط).
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط).

(4/159)


حجة التطوع وافيةً بحجةٍ من الميقات، فذاك وإن لم (1) يصب الحج ما يكفي لحجٍّ من الميقات، فتبطل وصية الحج؛ فإنه لا يتبعض، بخلاف الوصية بالعتق، فإن تحصيل بعضه ممكن، على ما سنذكره في الوصايا والعتق. إن شاء الله تعالى.
...
__________
(1) ساقطة من (ط).

(4/160)


باب تأخير الحج
قال الشافعي: " أنزلت فريضةُ الحج بعد الهجرة ... إلى آخره " (1).
2461 - مذهب الشافعي أن وجوب الحج ليس على الفور، وليس على المستطيع البدارُ إليه وعمره فسحته، ومدته؛ فإن الحج عبادةُ العمر، فكان موقعه من العمر، كموقع صلاة الظهر، من زوال الشمس إلى مصير كل شيء مثله. ولو استشعر من نفسه العَضْب، فمن أصحابنا من أوجب عليه البدارَ لهذا الاستشعار، ومنهم من لم يوجبه.
2462 - ثم إذا استطاع، فأخر، فمات، فالمذهب أنه يموت عاصياً؛ فإنا لو لم نعصِّه، لأخرجنا الحجَّ عن حقيقة الوجوب.
وأبعد بعض الفقهاء فقال: لا يموت عاصياً، لأنه أخر، والتأخير مسوَّغ له، وإنما يعصي، من فعل ما ليس له فعله.
وهذا قولٌ عريٌّ عن الإحاطة بأصول الشريعة؛ فإن التأخير إنما يسوغ على خطرٍ (2) يلابسه، في عاقبة أمره، وقد ذكرتُ في فن الأصول (3) في ذلك سرّاً، فقلت: وجه وجوب الحج أن مؤخره متعرض للغرر، وهو مما يؤلم القلب، ولولا هذا، لما تحقق الوجوب. وظهر اختلاف أئمتنا في أن من أخر الصلاة [المؤقتة] (4) إلى وسط الوقت، فاخترمته المنية، فهل نقضي بأنه يلقى الله عاصياً؟ فقال قائلون: إنه يعصي كما يعصي المستطيع إذا مات، ولم يحج، وقال آخرون: لا يعصي؛ فإن التأخير،
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 44.
(2) (ك): على غير خطر.
(3) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/ 168 - 178 فقرة 143 - 161.
(4) مزيدة من (ط).

(4/161)


كان مربوطاً بوقتٍ مضبوطٍ، ومنتهى العمر لا ضبط له.
وهذا وإن ارتضاه طوائفُ من أئمة الفقه، فهو غيرُ صحيحٍ على قاعدة الأصول، ويلزم القائلَ به أن يُخرج الصلاةَ عن حقيقةِ الوجوب في أول الوقت، فالوقت للصلاة، كالعمر للحج، فإذاً ثبت أن من أخر الحج حتى مات، يلقى الله عاصياً. وما حكيناه من نفي التعصية غلطٌ غير معتد به، وقد ذكره شيخي، وبعضُ المصنفين.
[وقد] (1) قال قائلون: إنه يعصي معصيةً منسوبة إلى آخر سنةٍ من سني الإمكان.
وقال قائلون: يعصي معصيةً منبسطةً على جميع وقت الإمكان، والوجهان عندنا [لا حاصل] (2) لهما، فلا تقبض (3) المعصية، ولا تنبسط، والوجه القطع بأنه مات عاصياً، ولقي الله تعالى، على صفة العصيان. ولا معنى لأضافة العصيان إلى زمانٍ، وهذا هو الذي اختاره الصيدلاني في كتابه.
2463 - ومما يجب التنبيه له أن التأخير إلى زمان العَضْب يحقق المعصيةَ في الحياة، وإن كان تحصيل الحج بطريق الاستنابة ممكناً؛ إذ لو قلنا: لا يعصي بالتأخير إلى العَضْب، لوجب أن نقول: لا يعصي بالتأخير إلى الموت، لإمكان تحصيل الحج بعده.
ومن أراد أن يتكلف توجيهاً (4) لنفي المعصية، فليكن صغوُه إلى ما نبهنا عليه (6 من إمكان تحصيل الحج بالموت (5)، ولا ينبغي أن يغتر الفقيه بهذا؛ فإن الاستنابة في حكم بدلٍ والمباشرة 6) في حكم الأصل، ولا يجوز ترك الأصل مع القدرة عليه.
2464 - ومما يتعلق بذلك، أن من أخر الحجَّ إلى العَضْب، وعصَّيناه، فعليه وقد باء بالمعصية، أن يبادر إلى الاستنابة، ولا يؤخرها، وإن كان لا يخرج عما باء به من المعصية.
__________
(1) في الأصل، (ط): فقد.
(2) في الأصل، (ك): تفاصيل.
(3) (ط): تقتصر.
(4) في الأصل، (ك): توجيههما.
(5) أي إمكان أن يُحجَّ عنه من تركته بعد موته.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط).

(4/162)


وفي بعض التصانيف ما يدل على أنه لا يتضيق وقت الاستنابة، حتى يقال: إذا أخرها، انضمت معصيته إلى المعصية التي باء بها بتأخير المباشرة إلى العضب، [فقد] (1) حصلنا إذاً في ذلك على وجهين.
ولا ينبغي أن يقدرَ خلافٌ فيه، إذا لم تجر قدرةٌ على المباشرة، وكان المرء في وقت استجماعه شرائط التكليف معضوباً. والوجه في حق من هذا وصفه أن يقال: الاستنابة في حقه كالمباشرة في حق القادر عليها.
وفي بعض التصانيف أن من طرأت عليه الزمانة، وأخّر الاستنابة، فهل للقاضي أن يجبره عليها، فعلى وجهين.
ثم قال صاحب التقريب (2): الأصح أن يجبره.
وهذا خُرق (3)؛ فإنا وإن حكمنا بتضييق وقت الاستنابة، فليس هذا مما يتعلق بتصرّف (4) الولاة، ويجوز أن يقال: الامتناع عما يتضيق في ذلك، بمثابة الامتناع عن أداء الصلاة، من غير عذر، ثم عن قضائها. وإذا جرى ذلك، فالسلطان يجبر على القضاء، فإن امتنع ضرب رقبتَه، ويجوز أن يفصل بين الصلاة والحج، فيقال: يتعلق بترك الصلاة حدٌّ، والحدود إلى الأئمة، بخلاف الحج. والله أعلم.
...
__________
(1) في الأصل، (ك): وقد.
(2) في (ط): التصنيف.
(3) خرق: أي جهلٌ وحمق. (المعجم).
(4) (ط): بتطرّق.

(4/163)


باب وقت الحج والعمرة
قال الشافعي: " قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ... إلى آخره " (1).
2465 - الإحرام بالحج يتأقت عندنا بشهرين: شوال، وذي القعدة، وتسعٍ من ذي الحجة.
واختلف الأئمة في أن من أنشأ الإحرام بالحج ليلةَ العيد، فهل يصح ذلك؟ فمنهم من قال: يصح؛ فإنه وقت الوقوف، وهذا هو الأصح؛ فوقت الإحرام إذاً: شهران، وتسعة أيام [وليلة] (2).
[ومن أصحابنا] (3) من لم يصحح الإحرام ليلةَ [العيد] (4) ابتداء، وإن جعل المحرمَ قبل غروب الشمس مدركاً للحج، إذا أدرك الوقوف ليلاً، فعلى هذا: الوقتُ شهران، وتسعةُ أيامٍ، بلياليها، من ذي الحجة.
2466 - ولو أحرم بالحج قبل أشهر الحج، لم ينعقد إحرامه بالحج، ولكن يصير محرماً، واختلف النص، فيما هو فيه: فقال الشافعي في موضعٍ: " انعقد إحرامه عمرةً "، وبه أجاب هاهنا. وقال في موضعٍ: " يتحلل بعمل عمرة ".
فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن إحرامه يقع عمرة صحيحة، حتى لو كانت عليه عمرةُ الإسلام، سقطت عنه، إذا طاف وسعى. والثاني
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 46.
(2) في الأصل، (ك): ولياليها من ذي الحجة.
(3) ساقط من الأصل، (ك).
(4) ساقطة من الأصل، (ك).

(4/164)


- أنه ليس بعمرة، وليس إحراماً بحج، فلا يتصف ما هو [فيه] (1) بواحد من النسكين، ولكن يلزمه إتيان مكة، لما التزمه، وتسبب (2) الإحرام به، لتأكده ولزوم حكمه.
وأقرب شيء يُشبَّه حالُه به، حالُ من أحرم بالحج، ثم فاته الوقوف. [على أنه قد يقال: من فاته الوقوف] (3)، فهو في إحرامٍ بحجٍّ فائت، ولا يسوغ إطلاق هذا فيما نحن فيه.
وبنى بعض أصحابنا القولين على ما إذا تحرم الرجلُ بصلاة الظهر، قبل الزوال، فلا شك أن صلاته لا تنعقد ظهراً، وفي انعقادها نفلاً قولان.
وهذا القائل يزعم أن الإحرام المطلق، إذا نُزّل على أقل المراتب، فهو عمرة، فتنزيل الصلاة على النفل، كتنزيل الإحرام المرسل، على العمرة. فلو نوى الرجل الصلاةَ، ولم يتعرض لتطوعٍ، ولا فرضٍ، انعقدت صلاته نفلاً. ولو أحرم مطلقاً، في وقت إمكان الحج، فإحرامه مبهم، وله تفسيره بالحج، وتنزيله على العمرة، فإن الإحرام بالنسك، يقبل الاستبهام، وهذا غيرُ ممكن في الصلاة.
هذا منتهى الطريقة.
2467 - ومن أصحابنا من قطع بأن الإحرام بالحج، قبل أشهر الحج لا ينعقد عمرة، ونصُّ الشافعي حيث [قال] (4): " إنه محمول على العمرة "، يحمل على إطلاق الإحرام، وهذه هي الطريقة السديدة؛ فإن ذكر الخلاف في صلاة الظهر قبل الوقت، متلقًى من اعتقاد كون صلاة الظهر صلاة موصوفة، فإذا سقطت صفتها، بقيت الصلاة المطلقة. وهذا المعنى يبعد تخيله، فيما نحن فيه؛ فإن الإحرام بالحج ليس كذلك، إذ ليس عمرةً موصوفة، بصفة زائدةٍ. [و] (5) لمن سلك طريقة القولين أن يقول: إذا جاز تنزيل الإحرام المطلق على العمرة، فالذي جاء به المحرم بالحج
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك).
(2) (ط) وتشبث.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(4) ساقط من الأصل، (ك).
(5) زيادة من (ط).

(4/165)


إحرامٌ، وصرفٌ إلى جهةٍ، فإذا بطلت الجهة المعيّنة، بقي الإحرام.
وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يقول: المحرم بالحج قبل أشهر الحج بالخيار: إن شاء صرفه إلى العمرة، جرياً على ما ذكرناه في الإحرام المعقود على الإبهام، فإنْ صرفه إلى العمرة، كانت عمرةً صحيحة، وإن لم يصرفه إليها، تحلل بعمل عُمرة. وهذا فيه بعض البعد؛ فإن الإبهام إنما يحسن عند تحقق التردد بين النسكين، ومثار هذا الإشكال من إحرامٍ ليس حجاً، ولا عمرة.
وبالجملة: لا بأس بهذا الوجه الذي حكيناه.
وهذا منتهى قولنا في وقت الحج.
2468 - فأما العمرة، فلا وقت للإحرام بها، وجميع أوقات السنة صالحٌ للإحرام بها. وهي من وجهٍ كالتطوعات التي ينشط المرء لها.
ولكن في اليوم والليلة ساعات يكره إقامة التطوعات فيها، وليس في السنة وقتٌ يكره الإحرام بالعمرة فيه عندنا. فكلُّ (1) [متخلٍّ] (2) عن النسك، يبتدئ الإحرام بالعمرة، إلا الحاج العاكف بمنى، فالمعرّج على الرمي، والمبيت، فإنه يتحلل عن الحج التحللين. والأصحاب مجمعون على أنه لو أحرم بالعمرة في وقته هذا لم ينعقد إحرامه بها، فإن ما يأتي به بعد التحللين من مناسك الحج، فامتنع من الاشتغال بها الإحرامُ (3) بالعمرة، وكان من حق تلك المناسك ألا تقع إلا في زمن التحلل، وأيام التطيب، والبعال، والتحلِّي (4) مستحق في إقامتها، كما يمتنع الصوم فيها، على الأصح.
...
__________
(1) (ط): فهل.
(2) في الأصل، (ك): متحلل. والمعنى واحد: أي خالٍ عن الإحرام بالنسك.
(3) فاعل " امتنع "، والمعنى أن المقيم بمنى، وإن كان خالياً من علائق الإحرام بالتحللين، إلا أنه مقيم على نُسك، مشتغلٌ بإتمامه، وهو الرمي والمبيت، وهما من تمام الحج؛ فلا تنعقد عمرته ما لم يكمل حجه (قاله أبو محمد في كتابه (الفروق) ونقله عنه النووي في المجموع: 7/ 148).
(4) (ط): والتخلي.

(4/166)


باب وجوب العمرة
2469 - المنصوص عليه في الجديد أنه يجب على المرء عمرةٌ واحدةٌ في عمره، كما يجب عليه حَجَّةٌ في عمره. وعلق الشافعي القولَ في وجوب العمرة في القديم؛ فقال في أحد القولين: إنها سنة مستحبة. وهذا قول أبي حنيفة (1). وتوجيه القولين في الأخبار، وقد ذكرناها في مسائل الخلاف (2).
ومن لطيف القول في الباب: أنا إذا أوجبنا العمرةَ [لم تقم حجة مقامها، وإن اشتملت على أعمال العمرة] (3) وزادت. ونقيم الغسل مقام الوضوء.
وهذا من أصدق الأدلة -إذا أردتها- على تغاير الحج والعمرة.
...
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 59، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 98 مسألة: 572، رؤوس المسائل: 251 مسألة: 144، بدائع الصنائع: 1/ 226، حاشية ابن عابدين: 2/ 151.
(2) لم يذكره في الدرّة المضية - فهو يشير إلى كتاب من كتبه الأخرى في الخلاف.
(3) ساقط من الأصل، (ك).

(4/167)


باب ما يجزئ من العمرة إذا جُمعت إلى غيرها
قال الشافعي: " ويجزئه أن يَقرُنَ (1) العمرةَ مع الحج ... إلى آخره " (2).
2470 - الحج والعمرةُ يؤدَّيان على ثلاث جهات: الإفراد، والتمتع، والقِران. فأما الأفراد، فصورته الجارية على الاعتياد في حق الغريب، أن ينتهيَ في أشهر الحج إلى ميقات جهته، فيحرمَ بالحج، ويجريَ فيه إلى انتهائه، ثم يعودَ إلى مكة بعد التحلل، ويخرج إلى أدنى الحل، ويحرم بالعمرة. هذه صورة الإفراد. وسنلحق بالإفراد صوراً، في فصل التمتع [ينخرم] (3) فيها شرائط التمتع، على ما سيأتي مشروحاً -إن شاء الله تعالى-
ولا يتأتى شرح هذه الأقسام بدفعة، فإنما يحصل شفاء الصدر من أغراضها عند نجازها، فليعتن الناظرُ بفهم ما ينتهي إليه، واثقاً بأن ما يدور في خلده بين يديه (4).
2471 - فأما التمتع، فله شرائط.
[الشرط الأول] (5)
منها أن تقع العمرة في أشهر الحج، فلو انتهى الغريب إلى ميقات بلده في رمضان، وأحرم بالعمرة، وتحلل منها، قبل هلال شوال، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، مع أهلها؛ فإنه ليس متمتعاً، وفاقاً.
__________
(1) قرن من باب قتل، وفي لغة من باب ضرب. (مصباح).
(2) ر. المختصر: 2/ 49، 50.
(3) في الأصل، (ك): يتحرم.
(4) أي أمامه، وهذا من منهج إمام الحرمين: أن يبين في أول الباب خطته وطريقته.
(5) زيادة من عمل المحقق.

(4/168)


ومما يتعين الاعتناء بفهمه في صور أحكام التمتع: أن المعتبر فيه أمران: أحدهما - وقوع العمرة في أشهر الحج، وكان ذلك في مرتبة المستنكرات؛ إذ كان الناس يَرَوْن أن أشهر الحج لا تُشغل إلا بالحج، ولا يُزحم الحج بالعمرة، في وقت إمكان الحج، فورد التمتعُ في حكم الرخصة، وجُوِّز للناس إيقاعُ العمرة في أشهر الحج، وكأن السبب في الرخصة أن الغريب كان يرد مكة، قبل عرفةَ بأيام، وكان يعسُر عليه استدامةُ الإحرام بالحج، ولا (1) يجد سبيلاً إلى مجاوزة الميقات، الذي ينتهي إليه في جهته، فجوز له أن يحرم بالعمرة، ويتحلل عنها، على شرط الشرع، ويبقى بمكة متحللاً، ثم يُحرم بالحج، من جوف مكة. هذا أحد الأمرين.
والثاني - أن الغريب لو أحرم بالحج، من ميقاته الذي انتهى إليه، لكان يحرم بالعمرة، بعد نجاز الحج من ميقات العمرة، وهو أَدْنى الحل. وإذا أحرم بالعمرة متمتعاًً، فقد ربح أحدَ الميقاتين في أحد النسكين.
فينبغي أن يكون هذان الأمران على ذُكرٍ من الناظر في هذه المسائل.
فإذا أوقع العمرة بتمامها في شهر رمضان، لم يكن متمتعاًً.
ولو أحرم بها في شهر رمضان، وأوقع جميع أفعالها في شوال، فهل يكون متمتعاًً؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يكون متمتعاًً، لأنه لم يزحَم الحجَّ بإحرامه، والأصل الإحرام، والأعمالُ وفاءٌ به، فكان كما لو أوقع العمرة في شهر رمضان.
والثاني - أنه يكون متمتعاًً؛ لأن المقصود من العمرة أفعالُها، والإحرام رابطةٌ لها، وقد وقعت الأفعال في أشهر الحج.
وحكى الأئمةُ وجهاً ثالثاً، عن ابن سريج: أنه قال: إن عاد، فمرّ على الميقات محرماً، بعد هلال شوال، أو كان مقيماً به، حتى دخل شوال، فهو متمتعٌ؛ نظراً إلى حصوله بالميقات محرماً، في أشهر الحج. وإن كان جاوز الميقات محرماً، في رمضان، واستمر، ولم يعد، لم يكن متمتعاً.
__________
(1) (ط): ولم.

(4/169)


وهذا الخلاف والأفعالُ واقعةٌ في أشهر الحج.
فأما إذا أوقع شيئاً منها في رمضان، فإن قلنا: وقوع الإحرام في رمضان يخرجه عن كونه متمتعاًً، فهذه الصورة أولى بذلك، وإن قلنا: وقوع الإحرام في شهر رمضان (1) لا يخرجه عن التمتع، ففي [هذه] (2) الصورة وجهان: أحدهما - أنه ليس متمتعاًً؛ لأنه جمع بين الإحرام، وهو القصد، وبين إيقاع المقصود، فأوقعهما في رمضان. وهذا القائل يقول: لو أوقع بعضاً من أشواط الطواف في رمضان، لم يكن متمتعاًً.
والوجه الثاني - أنه متمتع؛ لأنه صادف الأشهر، وهو محرم بالعمرة؛ فحصلت المزاحمة، التي أشرنا إليها. وهذا القائل يقول: لو أوقع في الأشهر [وهو محرم] (3) الحلقَ على قولينا: إنه نسك، كفى ذلك، في كونه متمتعاًً.
فهذا بيان هذا الشرط.
2472 - وفي إتمام القول فيه شيءٌ، لا يطلع على حقيقة [الفصل] (4) من لم يعرفه، فنقول: إذا أوقع العمرة بتمامها في رمضان، وقلنا: إنه ليس متمتعاًً، فلا شك أنا نجعله مفرداً، ولا يلزمه دم التمتع؛ إذ لا تمتع، وهل يلزمه دم الإساءة؟ اضطرب الأئمة فيه، فكان شيخي يقطع بوجوب دم الإساءة من جهة أن الغريب ربح ميقاتاً، على ما سبق التنبيه عليه، ودم الإساءة يجب بسبب الإخلال بالميقات.
وذهب المحققون إلى أنه لا يلزم دمُ الإساءة؛ فإن المسيء من ينتهي إلى ميقاتٍ، وهو على قصد النسك، فيجاوزه، وهو غير محرم، وهذا لم يتحقق ممن جاوز الميقات، محرماً بالعمرة، وأما الحج، فقد أتى به من ميقاتٍ انتهى إليه، وهو مكة، فإيجاب دم الإساءة بعيد.
والذي يحقق ذلك أن المسيء منهيٌّ عن صورة فعله، ثم إذا فعله، ففعله مقابل
__________
(1) (ط) في أشهر الحج. (وهو وهمٌ مخالف للسياق).
(2) مزيدة من (ط).
(3) زيادة من (ط).
(4) في الأصل، (ك): القصد.

(4/170)


بكفارة، ومن تحرم بالعمرة في رمضان، ليس مرتكباً نهياً، ولا مخالفاً أمراً، فتقديره مسيئاً، لا وجه له. والمتمتع إذا تجمعت له الشرائط، ليس مسيئاً، ولكنه مُزاحِمٌ للحج، ورابحٌ ميقاتاً، فكان السببان مقتضيين للدم، مع الترخيص في الإقدام على موجِب الدم.
ومن هذا ينشأ اختلاف العلماء في أن دم التمتع دمُ جبران، أو دمُ نسك، فرآه الشافعي دمَ جبران، ومعتمده في تصوير النقصان المحوِج إلى الجبران المزاحمةُ ورِبح ميقات.
وقال أبو حنيفة (1): إنه دم نسك، وإنما حمله على ذلك، أنه لم ير في أعمال التمتع نقصاناً، يقتضي جُبراناً. فليفهم الناظر وقع الكلام. هذا قولينا في شرط واحد من شرائط التمتع.
[الشرط الثاني] (2)
2473 - والثاني أن يقع الحج والعمرة في سنةٍ واحدة، فلو اعتمر الغريب من ميقاته، ولم يحج في تلك السنة أصلاً، وأقام بمكة، وحج في السنة القابلة؛ فإنه ليس متمتعاًً، ولكل سنة حكمُها، وما أجريناه في أثناء الكلام من مزاحمة الحج بالعمرة، فهو مشروط باتفاق الجج في تلك السنة. وهذا كما أن المسيء من يمرّ على الميقات ناوياً نسكاً، مع ترك حق الميقات، فإذا جمعت السَّنةُ العمرةَ والحجَّ، وتقدمت العمرة، كان ذلك خلاف النظم المألوف، في النسكين.
ثم الغريب إذا دخل مكة معتمراً، وحج في السنة القابلة، فهو مفردٌ [غير] (3) مسيء بلا خلاف. ولو أقام بمكة، سنين، وكان يحج كل سنةٍ، من مكة، فلا إساءة، ولا دم؛ فإنه ينشئ الحج، كل سنة، من ميقاتٍ، هو عاكف عليه. وهذا لا خفاء به.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 174، البحر الرائق: 2/ 387، حاشية ابن عابدين: 2/ 193.
(2) زيادة من عمل المحقق.
(3) مزيدة من (ط).

(4/171)


ولكن لا ينبغي، أن [يُتَبَرَّمَ] (1) بذكر الجليات في المناسك، فإنها قُربٌ غيرُ مألوفة، لمعظم الناس، وتركُ الجليّ فيها يَجرّ عَماية.
وحكى العراقيون عن ابن خَيْران (2) أنه كان يشترط أن تقع العمرةُ والحج في شهر واحد، وهذا مزيَّف لا أصل له، من جهة التوقيف، ولا من جهة المعنى.
[الشرط الثالث] (3)
2474 - والثالث من الشرائط: أن لا يكون المتمتع من حاضري المسجد الحرام، ولما ذكر الله تعالى التمتع وحكمَه، قال: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ثم اضطرب العلماء في معنى الحاضر، فقال مالك (4): هو ساكنُ مكة، أو الحرم، وإن لم يكن عمران مكة متصلاً به.
وقال أبو حنيفة (5): الحاضر، من هو على ميقاتٍ من المواقيت، فجعل المقيمَ بذي الحُلَيفةَ من حاضري المسجد الحرام، وبينه وبينه تسعون فرسخاً ونيِّف.
واعتبر الشافعي في ذلك مسافةَ القصر، فقال: من كان على مسافة القصر [من مكةَ، فليس من الحاضرين، ويتأتى منه التمتع، ويلزمه دمُه، ومن كان منزله من مكة على مسافةٍ، تقصر عن مسافة القصر] (6)، فهو من الحاضرين؛ فلا يلزمه دمُ التمتع، إذا أحرم بالعمرة، من مسكنه، ثم أحرم بالحج، من جوف مكة. ثم لا خلاف أنا كما لا (7) نلزمه دمَ التمتع، لا نُلزِمه دماً آخر.
فإن قيل: قد وُجدت منه المزاحمة، وتقديم العمرة. قلنا: كأنا نعتبر في إلزام دم
__________
(1) في الأصل، (ك): يلتزم.
(2) سبقت ترجمة ابن خيران في كتاب الطهارة، فقرة 99.
(3) زيادة من المحقق.
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 465 مسألة 725.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 60، بدائع الصنائع: 2/ 169.
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ك).
(7) سقطت من (ط).

(4/172)


التمتع أن يشغلَ ميقاتاً، بالغاً مسافة القصر، بإحرامِ العمرة، فإذا كان منزله على مسافةٍ قريبةٍ -وحدّ القرب ما ذكرناه- فهو كالمكّي، والمكي إذا قدّم العمرةَ على الحج، ثم أحرم بالحج، من جوف مكة، فالذي جاء به على صورةِ التمتع، ولا يلزمه شيء (1 أصلاً، فكذلك من قربت مسافته، إذا أحرم بالعمرة من وطنه، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، فلا يلزمه شيء 1).
2475 - وقد يرد على من يعتمد مسلك المعنى سؤال، فيقال (2): من كان مسكنه دون ميقاتٍ، وكان من حاضري المسجد الحرام، كما وصفناه، فلو قصد مكةَ ناوياً نسكاً، وجاوز مسكنَه وقريته، غيرَ محرم، فهو مسيء ملتزم دمَ الإساءة، وفاقاً. ولو لم تكن المسافة محتفلاً بها، لقيل: هو من أهل مكة، فلا يلزمه شيء إذا أحرم من مكة. والسبيل في الجواب، أن يقال: مسلك المعنى لا يكاد [يتجرد] (3) في هذه القاعدة، والتعويل على التنزيل، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم ما وجدنا إليهما سبيلاً، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] فرأى الشافعي من قربت المسافة بين وطنه وبين مكة، معدوداً من المتصلين بالحرم، وأدرجه في اسم الحاضرين.
وبالجملة لا يشهد لوجوب دم التمتع معنىً مستقلٌّ صحيحٌ على [السَّبْر] (4)، وقد أحيا كل ميقات بنسك، ولكن ثبت دم التمتع نصَّاً، فاتبعناه، وتكلفنا على بعدٍ معناه، فإذا عدمنا ما تخيلناه من الشرائط، فلا غموض في نفي وجوب الدم.
وأما من يدخل مكة مُحلاً، وهو على قصد النسك [فهذا] (5) تركٌ منه لحق وطنه، وحق الحرم.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(2) في الأصل، (ك): فيقال له (بزيادة " له ") ولا معنى لها، فهو سائل: أي يقال على لسانه، ولا يقال له.
(3) في الأصل، (ك): يتجرى.
(4) في الأصل، (ك): السنن.
(5) ساقطة من الأصل، (ك).

(4/173)


فهذا منتهى القول في ذلك. وإذا بلغ [طلبُ] (1) الفقيه في فصلٍ منتهاه، لم يكن من مخايل رشده طلب شيء سواه.
فرع:
2476 - الغريب الآفاقي (2) إذا انتهى إلى ميقات فجاوزه، وكان لا يبغي إذ ذاك الإحرام، ودخول الحرم، فلما تعدّاه، وقرب من مكةَ، بدا له أن يحرم بالعمرة، ثم يحرمَ بعدها بالحج، من جوف مكة، على صورة التمتع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يلزمه دم التمتع؛ [لأنه غريب أتى بصورة التمتع] (3) والثاني - لا يلزمه؛ فإنه لم يلتزم الإحرام، وهو على مسافة بعيدة، وإذ خطر له أن يحرم، كان على مسافة أهل تلك البقعة، إذا كان بها ناس يعدون من حاضري المسجد.
والذي يجب إمالة (4) الفتوى إليه إيجاب الدم، فإنه يسمى متمتعاًً، ولا يسمى من حاضري المسجد الحرام. وأسعد المذاهب في هذه المراتب، ما يعتضد بقول الشارع.
فرع:
2477 - إذا كان لرجل مسكنان، أحدهما على مسافة القصر، والثاني دونها، فإن كان أكثر سكناه في القريب، فهو من الحاضرين، وإن كان أكثر سكناه في المسكن البعيد، فهو غريبٌ متمتع.
وإن كان يسكنهما على استواء، وكان أهله بأحدهما، فهو منسوب إليه، وإن استويا في كل وجه، فقد قال صاحب التقريب، وغيره: ينظر إلى الموضع الذي يُحرم منه، ويثبت له حكم ذلك الموضع، قريباً كان، أو بعيداً.
ولعلنا نعود إلى هذه الصورة في باب المواقيت، ونستقصي فيه تمامَ البيان.
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) الآفاقي: نسبة إلى الجمع على غير قياس. قال النووي في تهذيبه: " وأما قول الغزالي، وغيره في كتاب الحج: الحاج الآفاقي، فمنكر؛ فإن الجمع إذا لم يسم به لا ينسب إليه، وإنما ينسب إلى واحده " ا. هـ.
ومن الطريف أن مجمع اللغة العربية في عصرنا هذا (منذ نحو ثلاثين سنة) أجاز النسبة إلور الجمع، فيقال: صحفي، ومراكبي.
(3) ساقطة من الأصل، (ك).
(4) (ط): إحالة.

(4/174)


[الشرط الرابع] (1)
2478 - الشرط الرابع في التمتع أن يحرم الغريب بالحج من جوف مكة، فلو رجع إلى ميقاته، وأحرم بالحج منه، فليس متمتعاًً، ولا يلزمه شيء، وكذلك لو رجع إلى مسافة ميقاته؛ فإن أعيان المواقيت ليست مقصودة، وإنما المقصود منها مسافاتها (2)، التي تُقطع على صفة الإحرام.
ثم كما لا يلزم دم التمتع، لا يلزم دم الإساءة، لا شك فيه. ومجرد تقديم العمرة في أشهر الحج على الحج، لا يوجب دماً.
ولو أحرم الغريب بالحج، من جوف مكةَ، بعد الفراغ من العمرة، ثم رجع إلى ميقات بلده محرماً، ومرّ عليه عابراً إلى الحرم، ففي سقوط دم الإساءة قولان معروفان، سيأتي توجيههما، وتفريعهما، إن شاء الله تعالى.
ولو كان ميقات الغريب القادمِ بعمرةٍ الجُحفةَ، وهي على خمسين فرسخاً من مكة، فلما تحلل عن العمرة، عادَ إلى ذات عرق، أو إلى مرحلتين في جهةٍ، لا ميقات فيها، وأحرم بالحج من تلك المسافة، فقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أن دمَ التمتع لا يسقط عنه بهذا؛ فإنه لم يعد إلى ميقاته، ولا إلى مسافة ميقاته، وكان يُحرم بالحج من الجُحفة، لو أفرد، فليعد إلى مسافتها.
والوجه الثاني - وهو اختيار القفال، فيما حكاه الصيدلاني: أنه يسقط عنه دم التمتع؛ من جهة أنه أحرم من موضعٍ، لا يكون ساكنوه من حاضري المسجد الحرام.
وهذا [يتجه] (3) بأن يجدد الإنسان عهدَه بخروج دم التمتع عن قاعدة القياس؛ فإن إلزام الدم، وقد أحيا الغريبُ كل ميقات بنسكٍ، فيه بُعدٌ، من جهة المعنى. فإذا أحرم بالحج من مسافة القصر، فلا نظر إلى الميقات الطويل الذي أحرم منه معتمراً،
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) (ط): مسافة.
(3) في الأصل، (ك): متجه.

(4/175)


وإنما النظر إلى خروجه (1) عن صفة المتمتعين.
فرع (2):
2479 - الغريب إذا دخل مكة معتمراً على صورة المتمتع [ثم] (3) نوى [في تلك السنة] (4) أن يستوطن مكة، وأحرم من جوف مكة، فلا يسقط دم التمتع عنه وفاقاً، وإن (5) صار في هذه السنة من سكان مكة؛ لأنه لما جاوز ميقات بلده غيرَ محرم بالحج، فقد التزم أحد الأمرين في هذه السنة، إما أن يعود، فيحرم بالحج، وإما أن يلتزم دمَ التمتع، فإذا نوى الاستيطان، لم يسقط ما جرى في هذه السنة التزامُه. ولو استمر، ولم يتفق خروجُه من مكة، لفقدان الرفاق، فأحرم بالحج من جوف مكة، مع أهلها، فلا يلزمه في السنة الثانية شيء؛ فإنه [لم] (6) يمرّ فيها على ميقاتٍ غير مكة.
فهذا وجه [الكشف] (7) في ذلك.
وقد انتهى ما يعوّل عليه من شرائط التمتع.
[الشرط الخامس] (8)
[غيرُ مُسلَّم]
2480 - وذكر الخِضري شرطاً خامساً، عن بعض الأصحاب، فقال: ينبغي أن يقع النسكان عن شخصٍ واحد، حتى [لو] (9) كان أجيراً، استأجره شخص على العمرة،
__________
(1) (ط): الخروج.
(2) في الأصل، (ك): فصلٌ (مكان فرع) ورجحنا (فرع) لأن موضوع الفصل لم يتم بعد.
(3) مزيدة من (ط).
(4) زيادة عن (ط).
(5) (ط): وإذا.
(6) زيادة من (ط).
(7) في الأصل، (ك): الكسب.
(8) زيادة من المحقق.
(9) مزيدة من (ط).

(4/176)


فاعتمر عن مستأجِرِه من ميقات جهته، ثم أحرم بالحج من جوف مكة عن نفسه، فلا يكون متمتعاًً.
وهذا خيال فاسد، مشعرٌ بخلوّ صاحبه عن مدار الباب، وحقيقتِه، فحق مسائل الباب أن تُتلقى مما قدمنا ذكره، من مزاحمة الحج بالعمرة، في الميقات الذي إليه الانتهاء، مع ربح أحد الميقاتين، كما قررناه. ولا أثر [بعد] (1) هذا لوقوع النسكين عن شخصٍ، أو شخصين.
ثم إذا جرينا على الأصح، فهو متمتع.
2481 - وإن لم نجعله متمتعاً، فهل نجعله مسيئاً، حتى نُلزمه دم الإساءة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه مسيءٌ، ملتزمٌ؛ فإنه مُخلّ بالترتيب، مُخْلٍ ميقاتَه البعيد، عن نسك الحج، مع إمكانه. والثاني - إنه ليس بمسيء؛ فإنه لم يُخْلِ ميقاتاً عن نسك، وقد ذكرنا قريباً من هذا: الخلافَ فيه إذا أوقع العمرة في رمضانَ، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، فليس هو متمتعاًً. وهل يلزمه دم الإساءة؟ فعلى خلافٍ قدمناه.
والأصح في الصورة المتقدمة أن لا يلزم الدم؛ فإنه قد أحيا الميقات بعمرة، حين لم يكن الحج والإحرام به ممكناً، فلم ينتسب إلى تقصير. وفي المسألة الأخيرة قد أتى بالعمرة في وقت إمكان الحج، ثم أخل بشرائط التمتع، [فإذا لم يجب دم التمتع] (2) فيبعد أن لا يجب شيء آخر. فإن لم نجعله مسيئاً، فلا كلام، ولا ينقدح من ترك الشرط إلاّ فواتُ فضيلة التمتع، إن جعلناه أفضل -في قول- من الإفراد. وإن جعلناه مسيئاً، فلا يلزمه إلاّ دمٌ.
ويبقى فرقان: أحدهما - أنا لا نلزم المتمتع الرجوعَ إلى الميقات، ونلزم المسيء ذلك؛ فإن لم يفعل جَبَر ما تركه بدم. والآخر- أنه تاركٌ فضيلةَ التمتع، على ما ذكرناه.
وتمام البيان في ذلك: أنه إذا عاد إلى الميقات -على قولينا: إنه مسيء- ففي
__________
(1) في الأصل، (ك): مع.
(2) زيادة من (ك).

(4/177)


سقوط [دم] (1) الإساءة عنه قولان؛ [فإن المسيء إذا تعلق بالحرم، ثم عاد، وأحرم، ففي سقوط الدم عنه قولان] (2)، والمتمتع يسقط عنه دم التمتع، قولاً واحداً، إذا عاد إلى الميقات، كما تقدم ذكره. وإنما ألزمنا هذا الخبطَ، من تفريعنا على وجهٍ ضعيفٍ، لا أصل له، وهو ما حكاه الخِضْري.
[الشرط السادس] (3)
[غير مُسلَّم]
2482 - وذكر بعض الأصحاب شرطاً سادساً فقال من شرائط التمتع والاعتداد به على الصحة النيةُ.
وهذا مع اشتهاره مردود عند كافة المحققين، ولا يصير إليه إلاّ عريٌّ عن تحصيل مقصود الباب؛ فإن مبنى الباب على ما قدمناه من المزاحمة، وربح أحد السَّفْرتين، وعلى اتباع قول الشارع، ولا أثر لنية التمتع، فيما ذكرناه. وسيزداد هذا الوجه ضعفاً، إذا فرعناه، وإنما التفت من اشترط النية إلى الجمع بين الصلاتين؛ فإن النية شرطٌ في جمع التقديم، على ظاهر المذهب. وليس يشبه ما نحن فيه الجمعُ؛ فإن من يقدم صلاة العصر على وقتها، فإنه مغيّر لوضعه المألوف في الشرع، وتقديم العبادات البدنية على أوقاتها بعيدٌ عن قياس موضوع الشرع، وليس يتحقق مثل ذلك في النُّسُكَين.
2483 - فإن لم نشترط النية، فلا كلام وإن شرطناها، فقد ذكر العراقيون، وغيرُهم ثلاثةَ أوجه في وقت النية: أحدها - أن وقتها عند الشروع في العمرة، كوقت نية الجمع من صلاة الظهر، في حق من يجمع بينها وبين صلاة العصر.
والثاني - أن ذلك وقتها، ثم يمتد إلى التحلل، من العمرة. ولهذا نظيرٌ في نية
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) ساقط من الأصل (وحدها).
(3) زيادة من المحقق.

(4/178)


الجمع. الثالث - أن ما قدمناه [وقتها] (1) ويمتد إلى [ما] (2) قبل الشروع في الحج. وهذا يناظر مذهبَ المزني في وقت نية الجمع بين الصلاتين، فإنه قال: ينوي الجامع ما بين الفراغ من الأولى، والشروع في الثانية. و (3 تفريع هذا الخلاف في وقت النية، يُبيّن نهايةَ ضعف الأصل.
نعم، لو 3) قال قائل: لو لم يكن المنتهي إلى الميقات على قصد الحج، أو كان خطر له أن يقتصر في هذه السنة على العمرة، ثم اتفق منه الحج، فلا دم عليه، قياساً على من تجاوز ميقاتَه، وهو لا يقصد النسك.
وإن كان على قصد الحج، فأتى بالعمرة، فقد قدّم أدنى النسكين، وأتى به من أطول الميقاتين، فيلتزم دماً لقصده، فكان هذا قريباً من مأخذ المناسك.
ثم هذا يقتضي القطعَ باعتبار وقت الخوض في العمرة، وليس هو نية قُربة، وإنما هو قصدٌ مخصوص، يناط به حكمٌ، وذِكْر الأصحاب الأوجُهَ في وقت النية، يدل على إضرابهم عما نبهنا عليه.
ثم إن فرعنا على مسلك الأصحاب في النية، فلو ترك النيةَ، فقد قيل: إنه مسيء بتركه شرطَ التمتع، وقد ذكرنا أمثال هذا.
2484 - وإن قال بما ذكرناه قائل: في أن القصد هو المرعي، فالوجه أن نقول: إن قصد التمتعَ، التزم دمَ التمتع، وإن لم يقصد، فلا شيء عليه، فإن قيل: هذا يؤدي إلى إثبات ذريعة في إسقاط دم التمتع، قلنا: [هذا خُرق من قائله] (4)؛ فإن القصود لا تلبيس فيها، وإنما [يبدي] (5) المرء خلاف ما يضمره، فأما قصوده، فلا قدرة على تغييرها.
__________
(1) في النسخ الثلاث: وقت. والمثبت تقديرٌ منا. رعاية للسياق.
(2) مزيدة من (ط).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(4) ساقط من الأصل.
(5) في الأصل: يدري.

(4/179)


فرع:
2485 - الغريب إذا تمتع بالعمرة إلى الحج، على الشرائط التي ذكرناها، فإنه يُحرم بالحج من جوف مكة.
ثم اختلف الأئمة في المكان الذي يستحب له الإحرام منه، فذهب بعضهم إلى أن [الأولى أن] (1) يبتدئ الإحرام من الموضع الذي هو نازله، ثم يدخل المسجدَ محرماً.
ومنهم من قال: الأولى أن يغتسل ويتأهب، ويدخل المسجد، ويحرم، عند البيت.
وقد نُعيد هذا في باب المواقيت.
فلو جاوز مكةَ والحرمَ، ثم أحرم بالحج، فهو متمتع مسيء، فيلزمه دمُ التمتع، لاستجماعه شرائطَه، ويلزمه دم الإساءة لمجاوزته ميقاتَ حجه، قطع بذلك العراقيون.
وتعليلُه تعدُّد السبب الموجب للدم. ولا وجه إلا ما ذكروه.
وهو بمثابة ما لو جاوز ميقات بلده غير محرم، ثم يحرم بالعمرة، ويتمادى على صفة التمتع، فيلزمه دم التمتع، ودم الإساءة جميعاً.
فإن قيل: دمُ التمتع دمُ جبران، والنقصان آيل إلى الميقات، فهلا وقع الاكتفاءُ به؟ قلنا: ما قدمنا ذكره من النقصان، ليس من قبيل الإساءة، ووجوه النقصان في النسك شتَّى، والذي يُحقِّق ما ذكرناه أن دم التمتع، وما يتعلق به من بدل، قد يخالف دمَ الإساءة، فوضح تباينهما.
وقد نجز غرضنا في تصوير التمتع، والإفراد.
2486 - فأما الجهة الثالثة في أداء النسكين، فالقِران.
ولتصويره وجهان: أحدهما - أن يحرم الرجل بهما جميعاً.
ْوالثاني - أن يدخل أحد النسكين في الآخر.
__________
(1) ساقط من الأصل.

(4/180)


فإن أحرم بالعمرة أولاً، ثم أحرم بالحج، نُظر: فإن كان الإحرام بالحج قبل أن يأتي بشيء من أعمال العمرة، صار قارناً، ولا حاجة إلى نية القِران وفاقاً، وهذا يؤكد فسادَ قول من يقول: لابد من النية في التمتع.
وإن اشتغل بشيء من أعمال العمرة [مثل] (1) أن يخوض في الطواف، فقد انسد (2) إمكان القِران، فلو أحرم والحالة هذه بالحج، لم ينعقد إحرامه، ولغا عقده.
فأما إذا أحرم بالحج أولاً، ثم أحرم بالعمرة، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يصح إحرامه بالعمرة، والثاني - يصح.
من قال بالصحة، احتج بإدخال الحج على العمرة، ومن منع (3)، استدل بأن العمرة مستغرَقة في الحج، من جهة الأعمال، فلا يتجدد على الحاج عمل، بتقدير إدخال العمرة، وليس كإدخال الحج على العمرة.
وهذا (4) يرد عليه الإحرام بالنسكين معاً.
فإن جرينا على الأصح، وهو جواز إدخال العمرة على الحج، فإلى متى يجوزِ ذلك؟ فعلى أوجهٍ: أحدها -[أنه] (5) يجوز ما لم ينقرض زمان الوقوف؛ فإن إدراكَ الحج، وفواتَه، منوطان بالوقوف، وهو حالٌّ محلّ المعظم. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة " (6).
__________
(1) في الأصل: " قبل "، والمثبت من (ط)، (ك).
(2) (ط): أفسد.
(3) ساقطة من: (ط).
(4) (ط): فهذا.
(5) مزيدة من (ط).
(6) حديث الحج عرفة رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن يعمر (أبو داود: المناسك، باب من لم يدرك عرفة، ح 1949، الترمذي: الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجَمْع فقد أدرك الحج، ح 889، النسائي: مناسك الحج، باب فيمن لم يُدرك صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة، ح 3044، ابن ماجة: المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، ح 3015، التلخيص 2/ 487 ح 1048).

(4/181)


ومن أصحابنا من يقول: إذا مضى من الحج ركنٌ، امتنع الإحرام بعده بالعمرة، فإذا دخل الحاج مكة، قبل يوم عرفة، وطاف طواف القدوم، وسعى، فالسعي يقع ركناً، فلو أحرم بالعمرة، لم ينعقد، [وان لم يأت بركن أصلاً] (1)، ينعقد إحرامه بالعمرة، ويصير قارناً؛ فعلى هذا لو طاف [طواف] (2) القدوم، وأحرم بالعمرة، قبل الاشتغال بالسعي، صح، وصار قارناً؛ فإن طواف القدوم ليس من الأركان.
ومن أصحابنا من قال: يصح الإحرام بالعمرة، ما لم يأت الحاج، بعملٍ من أعمال الحج، سوى الإحرام، فإن طاف طواف القدوم، ثم أحرم بالعمرة على هذا الوجه، لم ينعقد إحرامه بها. وهذا القائل لا يَعُدّ التلبيةَ من الأعمال المؤثرة.
ومن أصحابنا من قال: ينعقد الإحرام بالعمرة، ما لم يشتغل بشيء من أسباب التحلل، على ما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
2487 - فإن قيل: [قطعتم] (3) القول بأن الإحرام بالحج لا ينعقد، مع الخوض في شيء من أعمال العمرة، وردَّدتُم المذهبَ في إدخال العمرة على الحج.
قلنا: السبب فيه: أن جميع أعمال المعتمر أسبابُ التحلل، ولهذا يتحلل من فاته الحج، بأعمال المعتمر. وكذلك من أحرم بالحج في غير أشهر الحج، وقلنا: إنه ليس معتمراً، فإنه يلقى البيتَ بعملِ معتمرٍ.
2488 - وتمام البيان فيما نحن فيه: [أنا] (4) على الوجه الأخير إذا اعتبرنا التحلّلَ، نقول: إذا اشتغل الحاج صبيحة يوم النحر برمي جمرةِ العقبة، فإذا رمى حصاةً، امتنع الإحرام بالعمرة، وإن كان التحلل الأول لا يحصل برمي حصاةٍ واحدة، ولكن الاشتغال بالتحلل في حكم استفتاح قطع العبادة، فكفى في منع الإحرام افتتاحُ القطع، وإن لم يتم بعدُ، ولهذا قلنا: لا يدخل الحجة على العمرة، إذا اشتغل المعتمر بالطواف، وإن لم يفرغ منه.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).
(3) في الأصل: معظم.
(4) في الأصل: أما.

(4/182)


فهذا بيان تصوير القِران.
2489 - وعلى القارن دمٌ، صفتهُ وصفة بدله، كصفة دم التمتع، كما سنذكره.
ثم إنما يلتزم القارن الدمَ إذا كان غريباً.
فأما إذا قرن المكي، فلا يلزمه شيء، كما لا يلزمه بصورة التمتع شيء، وهذا متفق عليه. والسبب فيه أن المكي إذا أتى بصورة التمتع، فإنه يحرم بالعمرة من أدنى الحل، ويحرم بالحج من جوف مكة، فقد أتى بالنسكين من ميقاتهما، فقيل: لا دَم عليه. وإذا قرن، فالذي لم يأت به في ظاهر الحال العمرةُ من الحل، وهذا لا مبالاة به؛ فإنه سيخرج من الحرم، وينتهي إلى الحل، فيصير جامعاً بين الحل والحرم.
ومن ظن سبب وجوب الدم على القارن الغريب أنه يقتصر (1) على طواف واحد وسعْيٍ واحد، فقد أبعد، فإنا لو قلنا ذلك، لكنا قائلين بأن سقوط الأركان مقابل بجبران، وهذا محالٌ.
فإن قيل: الغريب أيضاًً يجمع بين الحل والحرم، فأسقطوا عنه الدمَ. قلنا: ميقاته الأصلي الحلُّ، ولا أثر للحرم في حقه في حكم الميقات، فقد تعدد نسكه، واتحد ميقاته.
ولو دخل الغريب (2) القارنُ مكةَ، قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى ميقاته لأجل الحج، فهل يكون عوده، وهو قارن بمثابة عود الغريب المتمتع؟ قلنا: نذكر صورة في المتمتع، ثم نعود إلى ذلك.
فإذا تحلل الغريب المتمتع من عمرته، وأحرم بالحج من جوف مكة، ثم عاد محرماً إلى ميقاته، ففي سقوط دم التمتع عنه وجهان، مبنيان على الوجهين فيه إذا جاوز من يريد النسك ميقاتَه، وأحرم مجاوزاً، وعاد إلى الميقات محرماً، ففي سقوط دم الإساءة خلافٌ سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) (ط): مقتصر.
(2) ساقطة من (ك).

(4/183)


2490 - رجعنا (1) إلى القارن في [الصورة] (2) التي ذكرناها، وهي إذا عاد القارن إلى ميقاته، فإن قلنا: المتمتع إذا عاد بعد الإحرام من مكة، لا يسقط الدم عنه، فالقارن العائد (3) بذلك أولى، وإن قلنا: يسقط الدم عن المتمتع في الصورة التي ذكرناها، ففي سقوط الدم عن القارن، إذا عاد وجهان، ذكرهما الصيدلاني وغيرُه: أحدهما - أنه يسقط دم القران، وهو قياسٌ بيّن. والثاني - لا يسقط؛ فإن القارن في حكم متمسك بنسك [واحد] (4)، فلا وقع لعوده، واسم القِران باقٍ لا يزول، والتمتع يزول بالعَوْد إلى الميقات، وهذا كان يحسن وقعُه لو أوجبنا الكفارة على المكّي إذا قرن، وفرقنا بين صورة التمتع منه، وبين صورة القِران، وليس الأمر كذلك؛ فإن انتفاء الكفارة عن المكي في القِران متفق عليه.
وقد قال الشافعي في أثناء كلامه، في هذه المسائل: " والقارن أخف حالاً من المتمتع " واختلف الأئمة في تفسير لفظه: فقيل: أراد به الردَّ على مالك (5)؛ فإنه أوجب على القارن بدنة، وعلى المتمتع شاة، فقال ردّاً عليه: الغريب القارن أتى بنسكيه (6) من ميقات بلده، والمتمتع يأتي بالحج من ميقات غيره، فالقارن أخف حالاً فيما يتعلق بأمر الميقات، فلا ينبغي أن تزيد كفارته على كفارة المتمتع.
وقيل: أراد الشافعي الردّ على داود (7)؛ فإنه قال: لا شيء على القارن، وإنما الكفارة على المتمتع. فقال رداً عليه: القارن أخف حالاً، فإنه لا يتعدد ميقات نسكيه، والمتمتع يتعدد ميقاته، ويتفصَّل (8)، فيجوز أن يؤاخذ القارن الذي أتى
__________
(1) (ط): رجعٌ.
(2) في الأصل: العودة.
(3) (ط): العامد.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 470 مسألة 737.
(6) عبارة (ط): " الغريب القارن إذاً أتى بنسكيه ... ".
(7) ر. المحلى: 7/ 167.
(8) (ط): ينفصل.

(4/184)


بميقاتٍ واحد، بما لا يؤاخذ به من أتى بميقاتين.
فهذا تمام ما أردناه، في تصوير الجهات الثلاث، في أداء النسكين.
2491 - وإذا انتجز التصوير، فالقول في بيان الأفضل من هذه الجهات، ثم في تفصيل الكفارة، وقد أورد الشافعي لذلك باباً، فنجري على ترتيب السواد (1).
فصل
قال: " ولو أفرد الحجَّ، فأراد العمرةَ بعد الحج ... إلى آخره " (2).
2492 - المفرد إذا فرغ من الحج، فإنه يأتي بالعمرة بعد الفراغ من الحج، وسبيله أن يخرج إلى الحل، وُيحرم بالعمرة منه، ويعود، ويأتي بأعمال عمرته.
ثم يكفي أن يخرج إلى أي طرفٍ شاء، فإذا لابس الحلَّ، أحرم، وعاد. وأقربُ المسافات إلى الحل، ما في جهة مسجد عائشة رضي الله عنها، وذلك الموضع هو الذي يسمى التنعيم، ولو كان الحرمُ ينتهي في قطرٍ أقرب من انتهائه في الجهة التي ْذكرناها، لاكتفينا بتلك الجهة. والمرعي على الجملة الانفصالُ من الحرم.
ولو أحرم الرجل بالعمرة في الحرم، وطاف، وسعى، وحلق، فهل يعتد بطوافه، وسعيه؟ في المسألة قولان: أحدهما - يُعتدّ بهما؛ لأن الإحرام قد انعقد، وأتى بصورة الأعمال على شرطها، وأقصى ما نقدر بعد ذلك، أنه أخل بميقات
__________
(1) مرة ثانية يستخدم لفظ (السواد)، فهل يعني به -كما قدرنا- عامة الأصحاب، رجال المذهب؟ أم يعني به مختصر المزني؛ إذ قال في المقدمة: وسأجري على أبواب المختصر جهدي، فما العلاقة بين لفظ السواد ولفظ المختصر؟
قلتُ (عبد العظيم): كنت كتبت هذا أولاً منذ أعوام، ثم تحقق لدينا أنه يعني بلفظ (السواد) المختصر، فلفظ (السواد) يستعمل بمعنى المتن، والأصل، وهذا المعنى غير موجود بالمعاجم، أفادنا بهذا العِلْم شيخُنا الجليل الشيخ محمود محمد شاكر، برّد الله مضجعه، وقدس روحه، ونور ضريحه.
(2) ر. المختصر: 2/ 50.

(4/185)


العمرة، والإخلال بالميقات لا يمنع الاعتداد بالأعمال.
والقول الثاني - أنه لا يكتفى بتلك الأعمال، ووجّه الصيدلاني هذا القولَ، بأن قال: الجمعُ بين الحل والحرم ركنٌ في الحج، فليكن ركناً في العمرة، غيرَ أن الكون في الحل للوقوف مؤقت يفوت، والخروج إلى الحل في العمرة ليس بمؤقت، فلا يفوت، فإذا أراد المحرم بالعمرة من جوف مكة، أن (1 يعتد بأفعاله، فليخرج 1) إلى الحل، وليعد، ثم ليطف، وليسع، فإن طواف الزيارة هو الركن في الحج، وهو مرتب على الوقوف بعرفة، فينبغي أن يترتب طواف العمرة، على الجمع بين الحرم والحل.
التفريع:
2493 - إذا قلنا: نعتد بالطواف والسعي، فنجعله بترك الخروج إلى الحل مسيئاً، ملتزماً دمَ الإساءة؛ من جهة تركه الميقاتَ المشروع للعمرة.
وإن قلنا: لا يعتد بما جاء به؛ فإحرامه منعقدٌ، لا خلاف فيه. ولكن إن أراد الاعتداد بأعماله، فليخرج إلى الحل، ثم يعود، ويأتي بالطواف، والسعي، فإذا فعل ذلك، فهل نقول: حكمه حكم من جاوز الميقات مسيئاً، وأحرم، ثم عاد إلى الميقات، حتى يخرج سقوطُ الدم على الخلاف؟
اختلف الأئمة في ذلك، فقال بعضهم: لا دم عليه في مسألتنا وجهاً واحداً، وهو من طريق التمثيل بمثابة من يُحرم قبل الميقات، ثم يمر عليه؛ فإن المسيء هو الذي ينتهي إلى ميقاتٍ، ناوياً نسكاً، ثم يجاوزه، ولم يتحقق هذا فيمن أحرم من جوف مكة، ثم خرج إلى الحل.
ومن أصحابنا من خرّج ذلك على الخلاف المذكور في عَوْد المسيء.
والمسألة محتملة جداً.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(4/186)


فصل
قال: " وأحب إليّ أن يعتمر من الجعْرَانة ... إلى آخره " (1).
2494 - لما ذكر الشافعي أن أدنى الحل ميقاتُ العمرة، كما تقدم، ذكر في هذا الفصل أفضلَ البقاع من أطراف الحل، وقال: أفضلها الجِعْرَانة (2)، وبعدها التنعيم [وبعدها الحُدَيبية، والسبب فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اعتمر من الجِعْرَانة، لما عاد] (3) لقضاء العمرة التي صُدّ عنها، عن مكة، عام الحديبية، فدل اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك البقعة، على تفضيلها، ولما التمست عائشةُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعمرَها، أمر أخاها عبد الرحمن، حتى أعمرها من التنعيم، فقدّم الشافعيُّ ما دل عليه فعلُه، صائراً إلى أنه لا يختار لنفسه إلا الأفضل، ثم أتبع ذلك ما أمر به في قصة عائشةَ، ثم جعل ما همّ به، ولم يتفق [منه] (4) إتمامه آخراً، وهو الحديبية.
2495 - فإن قيل: كيف قدم هاهنا فعلَه على همّه؟ وفي تحويل الرداء في الاستسقاء قدّم ما همّ به على ما فعل؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أراد أن يقلب رداءه، فيجعل أسفله أعلاه، فلما ثَقُل عليه قلبه من اليمين إلى الشمال، ولم يجعل الأسفل أعلى، والأفضلُ أن يفعل الإمام وغيرُه ما همّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قيل: لأن ما همّ به مشتمَلٌ في باب التحويل على ما هو فعله؛ فإن الغرض التفاؤل
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 51.
(2) الجِعْرَانة، بسكون العين والتخفيف. على الأصح، قاله الفيومي في المصباح. وقال البكري في معجمه: هي عند العراقيين بكسر الجيم والعين وتشديد الراء (الجعِرَّانة)، والحجازيون يخففون، فيقولون (الجعْرَانة) وقال الأصمعي: هي الجعَرانة، بالتخفيف. (ر. معجم ما استعجم: 1/ 384).
(3) ساقط من الأصل.
(4) مزيدة من (ط)، (ك).

(4/187)


بتحويل الرداء [لتحويل الحال] (1)، وكان حصل بالقلب من اليمين إلى الشمال ذلك، فعسر إتمام ما همّ به من التحويل، فكان صلى الله عليه وسلم مبتدئاً أمراً تعذر عليه إتمامه، والعمرة عن الحديبية لا تشتمل على العمرة عن الجِعْرانة.
والأمر في ذلك قريب.
وإلا كان لقائلٍ أن يقول: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرةَ الحديبية عن اختيارٍ، وإنما صُدّ اضطراراً، فتقديمُ ما أمر به على ما كان خاض فيه، ولم (2) يتم له، عن اضطرارٍ فيه (3) بعضُ النظر.
ولكن توجيه ما ذكره الشافعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعمار عائشةَ من التنعيم، وكان متمكناً من إعمارها من الحديبية، فاقتضى ذلك تقديمَ ما أمر به.
2496 - وقد ذكر الفقهاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعمرة الجِعْرانة عامَ القضاء، ولم أر لهذا التاريخ ذكراً في كتب الحديث (4)، وفيه إشكالٌ؛ من جهة أن ذا
__________
(1) في الأصل: .. الرداء التحويل وكان ....
(2) (ط) لم (بدون واو).
(3) في محل خبر (فتقديمُ).
(4) هذا التعليق من إمام الحرمين على ما قاله الفقهاء، وردّه لقولهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بعمرة الجعرانة عام الفضاء. وتغليطه الفقهاء في ذلك، ورده عليهم بالمنقول والمعقول حيث قال: لم أر لهذا التاريخ ذكراً في كتب الحديث.
كما علل ردَّه لكلام الفقهاء بأن هذا غير معقول، فكيف يجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الحليفة مع نية النسك، ثم يصل إلى طريق الطائف مجاوزاً مكة، ليحرم من الجعرانة؟
هذا التعليق يوحي لنا بعدة أمور:
أولاً- إن إمام الحرمين ليس كما أكثروا القول عنه بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث وقليل العلم بالحديث؛ فها هو يردّ كلام الفقهاء وينص صراحة على أنه راجع كتب الحديث فلم يجد ذكراً لهذا الكلام.
ومعلوم أن الحكم بعدم الوجود لا يقال إلا عن تثبت واستقراء وسعة اطلاع، فمن هو (قليل المراجعة لكتب الحديث) يستحيل أن يرد كلام الأئمة مستنداً إلى عدم الوجود فيها، فذاك يحتاج كما ألمعنا آنفاً إلى إحاطة شاملة واستقراء كامل.
ثانياً- إن الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ردّ كلام الفقهاء هذا في تلخيصه الحبير بنفس ألفاظ=

(4/188)


الحُلَيفة، كان على ممر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قصدُه مكةَ للعمرة، فيبعد منه صلى الله عليه وسلم مجاوزةُ الميقات، مع نية النسك، والأظهر أنه كان أحرم من ذي الحليفة، لتلك العمرة، وعمرة الجِعْرانة، كانت عمرةً أخرى، برز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحرم، واختار من الحل تلك البقعة. والله أعلم بالصواب.
...
__________
=إمام الحرمين تقريباً، ولسنا نزعم بهذه الملاحظة أنه تبع في هذا الرد كلام إمام الحرمين واعتمد عليه، حاشا لله أن نقول ذلك، فابن حجر إمام الحديث لابدّ أنه راجع كتب الحديث قبل أن يقول ذلك. وإن كنا نؤكد أن ابن حجر قرأ النهاية لإمام الحرمين. (ر. تلخيص الحبير: 2/ 439).
ثالثاً - لاحظنا كثيراً أن الحافظ ابن حجر كان إذا نقل عبارة عن الرافعي فيها شيء من الأوهام الحديثية يتخطى الرافعي (غالباً) وينحي باللائمة على إمام الحرمين قائلاً: إن الرافعي تبع الغزالي، والغزالي تبع فيه إمام الحرمين.
ألا يحق لنا أن نتساءل: لماذا لم يقل الحافظ: وقد ردَّ هذا القول (عمرة الجعرانة عام القضاء) إمامُ الحرمين في النهاية. ويَتعجب من الرافعي الذي لم يتبع إمام الحرمين في الرد والتصحيح، جرياً على منهجه الذي يُحمّل فيه إمام الحرمين الأوهام الحديثية في كلام الرافعي.
فهل كان الحافظ على غير ذكرٍ من كلام الإمام في النهاية؟ للاحتمال مجال، والله أعلم.
رابعاً - من موقف الحافظ، من هذه المسألة وغيرها ترجح عندنا أن الحافظ عنده نوع تحامل على إمام الحرمين، لمَّا نعرف له تفسيراً بعد، وإن كان يلوح لنا أنه تبع فيه ابن الصلاح رحمه الله ورضي عنه. ونسأل الله أن يلهمنا الصواب.

(4/189)


باب الاختيار في إفراد الحج
قال: " وأحب إليّ أن يُفرد ... إلى آخره " (1).
2497 - قد ذكرنا إجزاء الجهات الثلاث في النسكين، وقد قيل: الإفراد مأخوذ من قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]، والقِران من قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، والتمتع مصرَّحٌ به في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196].
ثم قال الأئمة: القِران مؤخَّرٌ عن الإفراد والتمتع. وفي الإفراد والتمتع قولان: أظهرهما - أن الإفراد مقدّمٌ على التمتع. نصَّ عليه في مختصر الحج (2). والقول الثاني - أن التمتع أفضل. نص عليه في اختلاف الأحاديث (3).
2498 - توجيه القولين: من قال التمتع أفضل، احتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم، قال، لطوائف من أصحابه، عامَ الوداع: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهديَ، ولجعلتها عمرة " (4)؛ فدل أن تقديم العمرة أفضل.
وشهد له تمنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 53.
(2) ر. الأم: 2/ 173.
(3) هذا النص في آخر باب كتاب اختلاف الحديث (باب المختلفات التي عليها دلالة- بهامش الأم: 7/ 404).
(4) حديث: " لو استقبلت من أمري " متفق عليه من حديث جابر (ر. البخاري: الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف، ح 1785، مسلم: الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح 1216).

(4/190)


وسلم ذلك لما نزل عليه القضاء (1) وهو بين الصفا والمروة، أن كل من معه هدي، فليحج (2)، ومن لا هدي معه، فليطف، وليسع، ثم [ليحل] (3).
وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلحةَ رضي الله عنه الهديُ، ولم يكن مع غيرهما، فلما خالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاً، حيث أمرهم بالعمرة ليتمتعوا، وأقام على حجه، قال (4) ما قال، وكانوا يعتقدون من قبلُ أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وأكبر الكبائر، فشق عليهم ذلك، وقالوا: نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيّاً، معناه على قرب عهدنا بالجماع، ويمكن أن يكون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تمهيداً لعذرهم، وتسكيناً لقلوبهم (5).
2499 - ثم عندنا من ساق الهديَ، ومن لم يسق سواءٌ في الجهات الثلاث، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -على هذا- محمولٌ على أني " سقتُ الهديَ لأتطوَّع "، وهو الهدي في إطلاق الشرع، فلو تمتع، لصار ما ساقه كفارة، ويخرج عن كونه هدياً، متطوَّعاً به، فلم يُرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُبطل قصده في تحقيق التطوع.
__________
(1) يشير إلى ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، أحرم مطلقاً: أي لم يعين حجاً، ولا عمرة، ينتظر القضاء من السماء، فنزل عليه جبريل، والخلاف فيما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، معروف مشهور: قيل: أهل بالحج، ولما دخل مكة بعد الطواف والسعي، فسخه إلى العمرة، وقيل: بل أهل بحج، وعمرة، وقيل أهلّ مطلقاً ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء، وهو فيما بين الصفا والمروة.
وحديث الإحرام مطلقاً، رواه الشافعي مرسلاً عن طاووس، وكذا البيهقي، ورُوي أيضاً عن جابر، وعن ابن عمر، وعائشة، رواها الشافعي، وحديث جابر، وعائشة عند مسلم (ر. مختصر المزني: 2/ 54، ومسلم: الحج، باب 17 (بيان وجوه الإحرام ... ) ح 129، باب 19 (حجة النبي صلى الله عليه وسلم) ح 147، وراجع الدرّة المضية مسألة: 191، وراجع المجموع للنووي: 7/ 166 خاصة. والفصل كله).
(2) في (ط): فليجمع.
(3) في الأصل، ك: ليحج، وفي (ط): ليحجج. والمثبت من لفظ الحديث.
(4) جواب لما.
(5) (ط): لقولهم.

(4/191)


وأبو حنيفة (1) يجعل (2) سوق الهدي إحراماً بالحج، ويتمسك (3) بالحديث.
2500 - ومن قال الإفراد أفضل، تعلق بما صح عند الشافعي، من إفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج، في روايةٍ عن جابر، وحمل ما قدمناه من إظهار التمني، على تمهيد معاذير الصحابة، رضي الله عنهم. والمعنى: إني لو لم أسق، لآثرت موافقتَكم على الإفراد؛ فإن الموافقة أجلب للقلوب، وهي أولى من تحصيل فضيلةٍ، ولهذا يؤثر للمتطوع بالصوم، أن يفطر لمن يبغي منه أن يفطر.
فهذا بيان القولين.
وقد أجمع أصحابنا قاطبة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مفرداً عام الوداع، وقال ابن سُريج: إنه كان متمتعاًً. وهذا مما انفرد به ابن سُريج، فإن من نصر تفضيل التمتع، سلّم وقوعَ الإفراد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلّق بتمنيه، كما روينا.
فهذا ما أردناه في تفضيل الجهات، بعضها على بعض.
وفي بعض التصانيف أن الإفراد مقدَّمٌ على التمتعِ والقران، قولاً واحداً، وإنما اختلف القولُ في أن التمتعَ أفضلُ من القِران، أم القِرانُ أفضلُ من التمتع؟ فعلى قولين. وهذا -إن لم يكن سقطةً من ناسخٍ- غيرُ سديد. وإنما المسلك المشهور في التفضيل ما قدمناه.
2501 - ومما يجب التفطنُ له أن الشافعي اعتمد فيما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، روايةَ جابر بن عبد الله، قال: إنه أحسن الرواة سياقة للحديث، وفي روايته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبهم الإحرام أولاً، ينتظر الوحي، فنزل عليه جبريل: أن اجعله حَجة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 161، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 79 مسألة: 561، حاشية ابن عابدين: 2/ 160، البحر الرائق: 3/ 347.
(2) (ط): بجعل.
(3) (ط): يتمسك.

(4/192)


فقال بعض أئمة العراق: الأفضل أن يُبهم الرجلُ إحرامه تأسِّياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا وَحيَ بعده، ولكن كل إنسان يتفكر بعد إحرامه، ويعلم ما هو الأرفق به والأوفق له، فإن لم يمنع مانعٌ من الإفراد، ابتدره ورآه أفضلَ من غيره.
وهذا عندي هفوةٌ ظاهرةٌ؛ فإن إبهام رسول الله صلى الله عليه وسلم، محمولٌ
على انتظاره الوحي قطعاً، فلا مساغ للاقتداء به في هذه الجهة.
***

(4/193)


باب صوم التمتع بالعمرة إلى الحج
2502 - على المتمتع دمُ شاةٍ، وهو المعنيُّ بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، ثم الدمُ يبدله الصوم، وهذه الكفارة مرتَّبة بدليل نص القران، والإجماع.
ونحن نبدأ بما يتعلق بالدم حتى إذا نجز، خضنا في بيان الصوم.
فنقول: إذا تحلل المتمتع من العمرة، وأحرم بالحج، فقد وجب عليه دمُ شاةٍ، إن وجدها؛ فإن وجوبَ الدم منوطٌ في الكتاب بالتمتع بالعمرة إلى الحج، وإنما يتحقق هذا إذا شرع في الحج، ثم إذا وجب الدمُ، فلا وقتَ له على الخصوص، بعد الوجوب، فله أن يُريق الدمَ قبل العيد، قياساً على سائر دماء الجبرانات.
وخالف أبو حنيفة (1) في ذلك، وقضى بأنه يتأقّت بأيام النحر، وبنى ذلك على مذهبه، في أن دمَ التمتع دمُ نسك، فيتأقت بما يتأقت به القرابين والهدايا.
فإن تحلَّلَ من العمرة، فاراد إراقة الدم، وتفرقةَ اللحم، قبل الشروع في الحج، ففي إجزاء ذلك قولان ذكرهما الأئمة: أحد القولين - أنه يجزىء؛ فإن الكفارة متعلقةٌ بالعمرة والحج، وكل كفارة ماليةٍ نيطت بسببين، فيجوز تقديمُها على السبب الثاني، إذا تقدم الأول، قياساً على كفارة اليمين، فإنها إذا كانت مالية، جاز تقديمها على الحِنث.
والقول الثاني - لا يجزىء، بخلاف كفارة اليمين؛ فإن تلك الكفارة منسوبةٌ في لسان الشرع إلى اليمين، والدم الذي نتكلم فيه ليس متعلقاً بالعمرة، وإنما تعلّقه
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 223 مسألة: 694، رؤوس المسائل: 256 مسألة: 147، البحر: 2/ 386، حاشية ابن عابدين: 1/ 250.

(4/194)


بالتمتع من العمرة إلى الحج، [و] (1) هذه خصلة واحدةٌ، لا انقسام فيها، ولا حصول لها، إلا بالشروع في الحج.
التفريع على القولين:
2503 - إن قلنا: لا يجوز تقديم الإراقة على الشروع في الحج، (2 فلا كلام.
وإن قلنا: يجوز التقديم على الشروع في الحج 2)، فلو لابس العمرةَ، وأراد الإراقةَ قبل التحلل منها، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ فإن العمرة على القول الذي نفرع عليه أحدُ السببين، فينبغي أن يتم، ثم يقع التقديمُ على السبب الثاني، بعد تمام الأول. والدليل عليه: أن من وكل وكيلاً حتى يعتق عن كفارة يمينه عبداً، ورسم له أن يعتقه إذا اشتغل هو بلفظ [اليمين] (3) فإذا ابتدأ الموكِّل الحلف، فأعتق الوكيل العبدَ، قبل أن يتم لفظ الحلف، فالعتق لا يقع الموقعَ، وِفاقاً، فكذلك يجب أن تكون ملابسة العمرة، بهذه المثابة.
والوجه الثاني - أن إراقة الدم مجزئةٌ، في خلال العمرة، والفرق أن انعقاد العمرة حكمٌ واقعٌ، وأمرٌ شرعيٌّ ثابتٌ، والإتيان ببعض لفظ اليمين ليس [بشيء] (4)، فإذا خاض في العمرة، فقد تحقق السببُ، ولا نظر إلى الأعداد (5)، فإن الإنسان قد يحنث بأفعالٍ جمّة، ويجوز تقديم الكفارة على جميعها، بعد ثبوت اليمين.
هذا قولينا في دم التمتع.
وقد مهدنا في المذهب أنه دمُ جبران، فينبني عليه أنه يحرم على المتمتع الأكل منه كما يحرم، الأكل من سائر دماء الجبرانات.
__________
(1) مزيدة من (ط)، (ك).
(2) ساقط ما بين القوسين من (ك).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: كشيء.
(5) أي أعداد الأسباب، كما يفهم مما بعده.

(4/195)


2504 - وقد حان الآن أن نتكلم في بدل الدم، وهو الصوم؛ فنقول: الصوم في بدل التمتع مقدّم في نص القرآن، قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
والكلام في الصوم يتعلق في التقسيم الأول، بذكر الأيام الثلاثة، ثم نتكلم بعدها في الأيام السبعة، ثم ننظر فيما يقتضيه نظمُ الكلام:
فأمّا الأيام الثلاثة، فإن حقها أن تقع في الحج، كما قال الله تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196].
ثم قال الإمام وغيره: لا يجوز تقديمُ هذه الأيام على الشروع في الحج؛ [فإنها عبادة بدنية، وهي لا تجب قبل الشروع في الحج] (1) والعبادات البدنية لا يجوز تقديمها على وقت وجوبها. ونحن لما جوزنا تقديمَ كفارة اليمين، إذا كانت بالمال على الحنْث، لم نجوّز تقديم الصيام على الحنْث، والمعنى في ذلك ظاهر.
والعجب أن أبا حنيفة (2) جوز للمتمتع أن يصوم الأيامَ الثلاثة، قبل الشروع في الحج، والدمُ لا يقدمه على الحج، فإنه هدي، والهدي يتقيد بيوم النحر، وأيامِ التشريق.
والحج يتقدم لا محالةَ عقدُه على يوم العيد، ثم إذا شرع في الحج، دخلَ وقتُ صيام الثلاثة، ولو طالت مدة إحرامه [المتقدمة] (3) على يوم عرفة، فليصم الثلاثةَ متى شاء، وليقدّمها على العيد، والأوْلى أن يقدمها على عرفة؛ فإن صومه، وإن كان صحيحاً من الحاج، فالأوْلى فيه الفطر، كما مضى ذكره، في كتاب الصيام.
ثم قال الأئمة: إذا اتسع الوقت قبل العيد، فهو بالخيار: إن شاء صام الأيامَ الثلاثة متتابعة، وإن شاء، صامها متفرقةً، فالتتابع غيرُ مشروطٍ فيها.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ر. البدائع: 2/ 173، البحر الرائق: 2/ 391، حاشية ابن عابدين: 2/ 196.
(3) ساقطة من الأصل.

(4/196)


2505 - ولو لم يتفق صومُ الثلاثة قبل العيد، فالذي نص عليه في الجديد أن أيام التشريق لا تقبلُ الصيام أصلاً، كيوم العيد، ونص في القديم على أن المتمتع إذا لم يصم قبل النحر، فله أن يوقع صيامَ الأيام الثلاثة، في أيام التشريق.
ثم إذا جوزنا له ذلك، تفريعاً على القديم، فلو أراد غيرُ المتمتع أن يصوم أيامَ التشريق، فهل يصح صومُه، فعلى وجهين - أحدهما - يصح، فإنها إذا قَبِلت صوماً على الاختيار، قبلت كلّ صومٍ. والثاني - أن قبولها يختص بصوم المتمتع رخصةً له، وفُسحة، ثم إذا لم يتفق صومُ الثلاثة في الحج، ولا في أيام التشريق، على القديم.
وبقي على الحاج طوافُ الزيارة، فإنه من جهة الآخر لا يتأقت، فهو في بقية الحج لا محالة، وكيف لا؟ وقد بقي عليه ركنٌ من الحج.
ثم قال الصيدلاني: لو أراد أن يوقع صيامَ الأيام الثلاثة بعد أيام التشريق، وقبل طواف الزيارة، فالذي يأتي به لا يكون أداء، بل يكون قضاء، إن قلنا: الصيامُ في الثلاثة مقضيٌّ، وهو ظاهر المذهب (1)، كما سيأتي الآن شرحُه.
فإن قيل: من عليه الطوافُ في الحج بعدُ، فهلا قلنا: صوم الثلاثة مؤدّى، ما دام عليه طوافُ الزيارة؟ قلنا: الحج المذكور في قوله تعالى {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196]، [هو الحج التام] (2) والأيام الثلاثة واقعةٌ في صلبه. هذا ما ذكره الصيدلاني، وعلى هذا القياس إذا قلنا: للمتمتع أن يصوم أيام التشريق على القديم، فالصوم مؤدَّى، وإن وقع بعد التحللين؛ فإن المفهومَ من القرآن تقييد صوم الثلاثة، بأيام الحج (3)، وهي مضبوطةٌ، وأيام التشريق ملحقةٌ بأيام الحج، على بُعد (4).
فأما النظر إلى البقاء في الإحرام. لامتداد زمان طواف الزيارة، فليس مرادَ الكتاب؛ فإن تأخير الطواف عن أيام التشريق يبعد وقوعه، فليفهم الناظر حقيقةَ ذلك؛
__________
(1) ساقطة من (ط).
(2) ساقط من الأصل.
(3) أيام الحج سبق تحديدها، وأنها تنتهي بنهاية التاسع من ذي الحجة على قولٍ، ويدخل فيها ليلة العاشر على قولٍ. وأما أيام التشريق فليست منها، وإنما هي ملحقة بها -على بُعدٍ- كما قال.
(4) (ك): على بعدٍ ما.

(4/197)


فإني لم أقله رأياً واستنباطاً، وإنما نقلته من فحوى كلام الأئمة.
والذي يوضح ذلك أن الشافعي لما نص في القديم على تخصيص المتمتع بصيام أيام التشريق، عد ذلك رُخصةً في حقه، ولو كان الصيام مقضياً، لما كان لذلك معنَى؛ فإن أيام القضاء لا نهاية لها.
هذا تمام ما أردناه في أداء صيام الأيام الثلاثة، المقيدة في نص القرآن بالحج.
2506 - فأما صومُ الأيام السبعة، فإنه مقيد في القرآن بالرجوع، قال عز من قائل: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]. وقد اختلف العلماء في معنى الرجوع، ونحن نذكر ما جرى من تلك المذاهب: قولاً لصاحب المذهب، أو وجهاً لبعض أئمة المذهب.
قال الشافعي في قولٍ: " الرجوع هو الفراغ من الحج ". وقال في قولٍ: " الرجوع هو الرجوع إلى الوطن "، وفي بعض التصانيف قول ثالث: " إنه الرجوع إلى مكة "، وهذا لا أصل له في مذهب الشافعي. وهو قولُ بعض السلف.
فإن قلنا: الرجوعُ معناه الفراغ من الحج، فلا شك أنه لو أوقع صيامَ السبعة مع الثلاثة في صلب الحج، في اتساع المدة، لم يُعتد بالسبعة؛ فإنها مقدَّمةٌ على وقتها، ولا يجوز تقديمُ العبادة البدنية على وقتها.
وكان يقول شيخي: إذا قلنا: أيامُ التشريق تقبلُ كلّ صوم، فلو أوقع فيها ثلاثةَ أيامٍ من السبعة، والتفريع على أن الرجوع هو الفراغ، فلا يجزئه صومُه؛ فإن العاكفَ بمنى، وإن لم يكن في حج، فهو في أشغال الحج. ولذلك لا يصح منه الإحرام بالعمرة، مادام عاكفاً على مناسك مِنى.
وإذا قلنا: الرجوع معناه الوصول إلى الوطن، فلو فرغ من الحج، واستقبل صوبَ الوطن، فأراد أن يصومَ الأيامَ السبعة، في طريقه، فقد ذكر الصيدلاني وجهين في ذلك: أحدهما - أنه لا يجزئه؛ فإن صيام السبعة مقيَّدٌ بالرجوع مؤَقَّتٌ به.
والثاني - يجوز؛ فإن إمهاله الوصولَ إلى الوطن رخصةٌ، والتأقيتُ الحقيقي بالفراغ من الحج.
وهذا الوجه عندي هو بعينه تفسير الرجوع بالفراغ، ولكن يرجع الخلاف إلى

(4/198)


تفسير القرآن، ولا خلاف في حقيقة المطلب والمذهب من جهة الفقه.
فإذا ثبت ما أردناه في أداء (1) صيام الأيام الثلاثة، وفي [أداء] (2) صيام الأيام السبعة.
فنتكلم بعد هذا في فوات صيام الأيام الثلاثة، بانقضاء الحج، خالياً عنه، ثم نرتب عليه ما ينبغي.
2507 - فنقول: إذا لم يصم المتمتع الأيامَ الثلاثةَ، حتى انقضى الحج، فقد قال أبو حنيفة (3)، فات صيامُ الثلاثة، ولا تقضى.
وظاهر مذهب الشافعي أنه [تُقْضَى] (4) قياساً على كل صوم مؤقت [بوقتٍ] (5) يفوت.
ونسب صاحبُ التقريب -في تصرفاتٍ حكاها عن ابن سُرَيج- قولاً إلى الشافعي، مثلَ مذهب أبي حنيفة، في أنه لا يقضي الصوم في الأيام الثلاثة، ووجهه على بعده أنه في حكم رخصةٍ عُلِّقت بالسفر، وحقه في السفر، فإذا فاتت، لم تُقض. وهذا في نهاية البعد، وهو غيرُ معدودٍ من المذهب.
ومما يتعلق بما نحن فيه أن الحاج المتمتع لو مات في الحج، بعد التمكن من الصيام، ونحن نقول: الصيامُ بعد الفراغ من الحج مقضي، فإذا تَقدَّر الموتُ في الحج، فللشافعي قولان حكاهما طوائف من الأئمة: أحد القولين - أن الصوم يسقط، لا إلى بدل. والثاني - أنه لا يسقط.
التوجيهُ: من قال لا يسقط، احتج بأن الصوم قد وجب، بالشروع في الحج، فلا يصقط من غير تقدير بدلٍ.
__________
(1) ساقطة مَن (ط).
(2) في الأصل: فوات الأيام.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 66، بدائع الصنائع: 2/ 173، حاشية ابن عابدين: 2/ 193، الاختيار: 2/ 158، البحر الرائق: 2/ 388.
(4) في الأصل، (ك): مقضي.
(5) ساقطة من الأصل.

(4/199)


ومن قال: إنه يسقط، احتج بأن قال: هو كفارةٌ في مقابلة تمتع، وإنما ينتفع المتمتع إذا تم له النسكان على رفاهيةٍ، وربْحِ سفرٍ، فإذا مات، لم يتحقق ذلك.
وهذا بعيدٌ، والأصح الأول.
ثم هذان القولان يجريان في الدم، إذا كان واجداً له، ولكنه مات قبل انقضاء الحج، ففي قولٍ: نُخرجُ الشاة من تركته. وفي قولٍ: نتبين أنها لم (1) تجب؛ إذ لم يتم الانتفاع بالتمتع. وإذا قلنا: يسقط الصوم، فمعناه أنه تبين عدمُ وجوبه.
2508 - فأما (2) صوم الأيام السبعة، فلا يتصور فواتُه في الحياة؛ فإنه إذا دخل وقتُ أدائه، فالعمر وقتُ الأداء، ولكن قد [نفرض] (3) فواته بالموت، ونقدر فواته أيضاًً تفريعاً على قولٍ بعيدٍ في الحياة، ونحن إن شاء الله تعالى، نأتي بتمام التفريع في حالة الحياة، ثم نذكر التفصيل في الموت.
فإن فات صيام الأيام الثلاثة في الحج، فظاهر المذهب أنه يقضي، وقال أبو حنيفة: لا يقضي، وقد عُزي هذا إلى الشافعي قولاً.
فإن قلنا: إنه لا يقضي، فالوجه ما قال أبو حنيفة، وهو أنه [يرجع] (4) إلى الدم فإن وجده (5 أخرجه، وإن لم يجده، بقي في ذمته، إلى أن يجد، ثم إذا تحقق الرجوع إلى الدم، يسقط صيام الأيام السبعة 5)؛ [فإنه يستحيل تقدير الدَّم، وهو الأصل مع شيء من البدل، ويتفرع على ذلك أن إمكان] (6) صيامِ الأيام السبعة موقوفٌ، على جريان صيام الأيام الثلاثة في الحج.
ومما يجب التنبه له: أنا لا نوجب على المتمتع أن يصوم في الحج؛ فإنه مسافر،
__________
(1) (ط): لا.
(2) (ك): وأما.
(3) في الأصل: يعرض.
(4) ساقط من الأصل.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(4/200)


ونحن نُسقط أداء صوم رمضانَ، وهو ركن الإسلام بالسفر، فما الظن بصوم الكفارة.
وحاصل القول فيه، يرجع إلى أن [الأصل] (1) الدمُ، على هذا القول. فإن لم يجده، ورام إسقاطه بالكلية عن ذمته، فليصم ثلاثةً في الحج، وإن لم يصم، فلا يقضي، ولكن يستقر الدَّمُ في ذمته على العسر واليسر.
هذا حقيقةُ هذا القول، وهو غير معدودٍ من متن المذهب.
فأما إذا قلنا: صوم الأيام الثلاثة مقضي، فإذا تصرّم الحجُّ ورجع، مثلاً إلى وطنه؛ فعليه قضاءُ الأيام الثلاثة، وأداء الصيام في الأيام السبعة.
2509 - وقد اختلف الأئمة في أنه هل يجب التفريق بين الثلاثة، والسبعة؟ فمنهم من قال: لا يجب التفريق، وإذا كان يقعُ تفريقٌ في تصوير أداء الصيام في الحج، فذاك لحق الوقت، وكل ما يقع لحق الوقت، فلا يجب رعايته في القضاء، والدليل عليه أن الصيام في أيام رمضان متتابعة، من جهة الوقت، ولكن ليس التتابع معيّناً فيها، فلا جرم لا يجب التتابع في القضاء (2).
وإذا كان هذا قولَنا في التتابع، وقد ثبت التعبد برعاية نوع التتابع، وفيه نَصَبٌ بيّن، فالتفريق الواقع في الوقت أولى بأن لا يُعتَقد مستحَقّاً في القضاء. هذا وجهٌ منقاس. فعلى هذا لو صام عشرة أيامٍ وِلاءً أو مفرقة كما شاء، فلا بأس.
ومِن أصحابنا من قال: التفريق يجب مراعاتُه، في القضاء، بين الثلاثة والسبعة. وهذا وإن كان مشهوراً في الحكاية، فلا وجه [له] (3).
والتفريع عليه يستدعي تجديدَ العهد بوقت الأداء، في النوعين من الصيام، وهذا يختلف بقولينا: تقبل أيام التشريق الصيام، وبالتفصيل في معنى الرجوع، وقد مضى ذلك موضحاً.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) أي: أيام قضاء رمضان.
(3) ساقطة من الأصل.

(4/201)


فنعود، ونقول: من ذهب إلى إيجاب التفريق، اختلفوا: فمنهم من قال: [يكفي] (1) أصل التفريق، ولا نلتزم مضاهاة التفريق الذي يقع بين الصومين، في الأداء؛ فعلى هذا يصومُ ثلاثة متتابعة أو متفرقة، ثم يفطر بعد نجاز الثلاثة يوماً، ويصوم السبعةَ. وإن زاد على يوم، فذاك إليه.
والغرض أن ينفصل اليوم الأخير عن اليوم الأول من السبعة بفطرٍ. هذا وجهٌ.
ومن أصحابنا من لم يكتفِ بإيقاع [أصل] (2) التفريق، واشترط أن يكون التفريق مضاهياً لما كان يقع في أداء الصومين. وهذا الوجه أمثل، وإن كان الأصل الذي عليه التفريعُ ضعيفاً، بالغاً في الضعف، وذلك أنا إذا التزمنا التفريقَ في القضاء، لأجل التفريق في الأداء، فينبغي أن نجعل التداركَ في هذا محاكياً للأداء، فعلى هذا يختلف المذهب في المقدار المرعي. فإن قلنا: أيام التشريق لا تقبل الصيامَ، ومعنى الرجوع الفراغُ من الحج، فقد كان يتعين تخلل أربعة أيامٍ بين آخر الثلاثة، وأولِ السبعة. هذا هو الأقل الذي لا بد منه؛ فإنه يضم إلى يوم العيد الأيام الثلاثة بعده،
فالجميع أربعة أيام.
وإن فرعنا على أن أيام التشريق لا تقبل الصيام، والرجوعُ معناه الوصول إلى الوطن، فليقع التفريق في القضاء بأربعة أيامٍ، كما ذكرناها، ومدةِ الرجوع إلى الوطن، على الاقتصاد في السفر.
وإن قلنا: أيام التشريق كانت تقبل الصيام، والرجوعُ هو الوصول إلى الوطن، فليقع التفريق بمدة الرجوع فحسب، فإننا ننزل التفريق المستحَق على أقل الإمكان، فإن زاد، لم يضرّ.
وإن قلنا: أيام التشريق تقبل الصيامَ، والرجوعُ هو الفراغُ، فكان لا يقع التفريق بين النوعين في تصوير الأداء، فعلى هذا ذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - أنه لا يجب التفريق، نظراً إلى الأداء. والثاني - يجب التفريق، فإن الثلاثة كانت تنفصل
__________
(1) في الأصل: يلغى.
(2) زيادة من المحقق، مراعاة للسياق.

(4/202)


عن السبعة، بحالتين متغايرتين، إذ أحدُ النوعين في الحج، والثاني بعد الفراغ منه، فينبغي أن نُقيم مقامَ ذلك [تفريقاً] (1) بين النوعين بفطرٍ في يومٍ.
وهذا في نهاية الضعف.
2510 - ومن بديع الأمر ضراوة الأئمة بتعديد هذه الوجوه الضعيفة، وأصلها استحقاقُ التفريق، ولا مساغ له من جهة المعنى، وليس مع القائل به فرقٌ بين التتابع في قضاء رمضان، وبين التفريق فيما نحن فيه.
ولكن حق هذا المجموع أن يحوي الوجوه المشهورة، والبعيدة، مع التنبيه على حقيقة كل مسلك.
فرع:
2511 - إذا قلنا: التفريق مستحق، فلو صام عشرةَ أيامٍ وِلاء، فالمذهب أنه يجب صومُ يومٍ آخر، إذا اكتفينا بأصل التفريق، ولا يقع الاعتداد باليوم الرابع.
ومن أصحابنا من قال: لا يعتد بشيء من الأيام السبعة، بعد الثلاثة، ذكره بعضُ المصنفين، وأورده صاحبُ التقريب، ولولا إيراده لما حكيته، وكأن هذا القائل يعتقد أن التفريق إذا لم يقع بفطرٍ، لم يعتد بشيء من السبعة. وهذا باطل قطعاً؛ فإنه إن نوى يومَ الرابع التطوعَ، أو قضاءً كان عليه، كفى ذلك في التفريق وِفاقاً، فما لنا نشتغل بما لا خفاء ببطلانه.
وقد نجز تفصيل القول في حال الحياة.
2512 - ونحن الآن نبتدئ القول فيه إذا لم يصم في الحياة حتى مات.
فنقول: إذا انتهى إلى وطنه، ومات، فلا يلزمه شيء، والحالة هذه، وإن حكمنا بأن الرجوع هو الفراغ من الحج، والسبب فيه أن السفر من الأعذار التي يجوز ترك صوم رمضان لأجله، فلو دام السفر إلى الموت، وقد اتفق تركُ صومِ رمضانَ فيه، فلا شيء على الذي مات، ودوام السفر بمثابةِ دوام المرض، وقد مضى تقرير ذلك في موضعه، من كتاب الصوم.
__________
(1) في الأصل: تفريعاً.

(4/203)


فصيام الأيام الثلاثة [في الحج] (1) وإن كان ثابتاً على الغرباء، فلا يَزيد تأكّدُه على تأكّد صوم رمضان، أداءً، واستدراكاً.
وإن أقام صاحب الواقعة أياماً، تسع صيام العشرة، على التفصيل المقدّم، والتفريعُ على ظاهر المذهب، في إيجاب قضاء الأيام الثلاثة، فإذا لم يتفق استدراكُها، وصومُ السبعة، حتى مات، فالشافعي نص على أنه لا يجب شيء: لا الفدية، ولا نيابة الوليّ. حكاه صاحب التقريب، وهو مذكورٌ في بعض التصانيف.
والمذهب المشهور أنه يجب شيء إذا جرى الموت، كما وصفناه. ووجه المذهب بيّن، وهو قياسُ كلِّ صومٍ واجبٍ، اتفق تأخيره، من غير عذرٍ مستمر.
ووجه النص الغريب أن الفدية إنما تثبت في صوم رمضان، كما أن الكفارة إنما وجبت بسبب إفساد الصوم فيه، والفدية هي الكفارة الصغرى، فلا يعدّى بها موضعها، اعتباراً بالكفارة العظمى.
وأما سقوط نيابة الوليّ، فتعليله هيّن.
التفريع:
2513 - إذا لم نوجب شيئاً، فلا كلام، ولا عود إلى هذا القول.
وإن أوجبنا، ففي الواجب أقوالٌ جمعتها من الطرق- أحدها - أن وليّه يصوم عنه، وهذا قولٌ حكيته وأجريته، في صوم رمضان، وهو ضعيفٌ.
والقول الثاني - أنا نقابل الصوم في كل يومٍ بمدٍّ من الطعام، كدأبنا في صيام رمضانَ، على القول الجديد. والقول الثالث - حكاه صاحب التقريب وغيرُه: أنا نرجع إلى الدم، فنوجب دمَ شاةٍ، من تركته، فإنه أولى، وأقرب في هذا الصوم، من الأمداد، فيجب في مقابلة الأيام العشرة دمُ شاةٍ.
وذكر العراقيون قولاً هو راجع إلى هذا، فقالوا: للشافعي قولٌ: " إنه يجب في يومٍ ثلث شاة، وفي يومين ثلثا شاة، وفي ثلاثةٍ فصاعداً إلى تمام العشرة شاة "،
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك).

(4/204)


والأيام تنزل منزلةَ الشعرات التي يأخذها المحرم من نفسه، وكذلك أعداد من الأظفار، وأعدادٌ من الجمرات. وستأتي هذه الأصول موضَّحة في مواضعها -إن شاء الله تعالى-.
ثم لما ذكروا هذا القولَ، ذكروا معه أن كل يوم مقابَلٌ بمد في قولٍ، أو بدرهمٍ في قولٍ، إلى الثلاثة، ثم فيها إلى تمام العشرة دمٌ. وهذه الأقوال تجري في الشعرة (1 والشعرتين ونظائرِها، وهي منشأة من اعتقاد الرجوع إلى الدم إذا 1) فرض ترك ثلاثة أيام، فصاعداً، والتردد فيما دون الثلاثة.
فهذا بيان ما قيل، فيما يلزم المتمتعَ، إذا مات بعد الوصول إلى الوطن، وجريان أيامٍ بعد الوصول، يمكن تقدير الصوم فيها، من غير عذر، وقد انتهى بذكرها أقصى الغرض في أحكام التمتع.
ثم ذكر المزني في آخر الباب طرفاً من القول في طواف الوداع، فلم أرَ ذكره؛ فإن ذكر طواف [الوداع] (2)، قبل بيان أركان الحج بعيدٌ عن الترتيب المطلوب.
...
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(2) ساقطة من الأصل.

(4/205)


باب مواقيت الحج
2514 - المواقيت أمكنةٌ، وظف الشارع على كل من يأتي واحداً منها، يؤمُّ بيتَ الله، ناوياً نسكاً، أن يُحرم منه، ولا يتجاوزه، ثم على ممرّ (1) كل قومٍ يأتون من صوبهم ميقاتٌ.
ونحن نذكر المواقيتَ التي أثبتها الشارع نصاً، أولاً:
فميقات أهل المدينة بنص الشارع، ذو الحليفة، وهو من المدينة على مسيرة فرسخين قريبين.
وميقات أهلِ الشام، وطائفةٍ من [الغرب] (2) الجُحفة، وهي من مكة على خمسين فرسخاً، ومن يأتي مكةَ من جهة المدينة، فإنه يطرقها (3) محرماً. وميقات أهل اليمن يلملم، وهو على مرحلتين من مكة.
وميقات نجدِ اليمن، ونجدِ الحجاز قَرْن، وهو أيضاًً على مرحلتين.
ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توظيفُ ميقاتٍ لأهل الشرق حَسَب صحة سائر المواقيت، وروى محمدُ بن علي بن عبد الله، عن جدِّه عبد الله بن عباس: " أن النبي صلى الله عليه وسلم، وقت لأهل المشرق العقيق " (4)، وهذا مرسل؛ فإن محمداً لم يلق جدَّه.
__________
(1) ساقطة من (ط).
(2) في الأصل، (ك): العرب. (بالمهملة).
(3) الضمير يعود على الجحفة.
(4) حديث: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد، والبيهقي من طريق يزيد بن أبي زياد عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والأمر فيه كما قال إمام الحرمين، فهو مرسل؛ لأن محمداً لم يلق جده.
وأكّد ذلك الحافظ في التلخيص، وردّ النووي تحسين الترمذي قائلاً: " يزيد ضعيف باتفاق المحدثين " فالحديث كما قال الإمام غير صالح للاحتجاج به. وهذا أحد الشواهد على علم الإمام بالحديث. (ر. أبو داود: المناسك، باب في المواقيت، ح 1740، الترمذي: =

(4/206)


والصحيح أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وضع لأهل المشرق ذاتَ عرق قياساً على قَرْن، ويَلملم (1). وقد روي عن عطاء، عن أبيه، أنه قال: " لم يبين النبي صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق ميقاتاً، إذ لم يكن يومئذ مشرق " (2) والمراد به أنه لم يكن في صوب المشرق مؤمنون.
فالذي عليه التعويل أن ميقات أهل المشرق -باجتهاد عمر- ذاتُ عرق، وهي على مرحلتين [من مكة] (3)، فإذا نفذ حكمه من غير نكير، التحق بسائر المواقيت.
والعقيق وادٍ ينتهي المشرق إليه، قبل الانتهاء إلى ذات عرق، وبينهما شوطٌ قريب.
والشافعي قد يرى في بعض نصوصه، أن يُحرم المشرقي من العقيق، احتياطاً؛ للخبر المرسل، الذي رويناه، ولا يرى ذلك حتماً.
فهذا بيان المواقيت.
2515 - ثم قال الشافعي: " المواقيت لأهلها، ولكل من مرّ بها " (4). والمراد أن الاعتبار في المواقيت باتفاقٍ المرورُ بها، ولا نظر إلى وطن الرجل، وانتسابه إلى بعض الأقطار، فلو ازورّ مشرقي إلى صوب المدينة، آمّاً مكةَ، فإذا انتهى إلى ذي
__________
=الحج، باب ما جاء في مواقيت الإحرام لأهل الآفاق، ح 832، أحمد: (1/ 344)، البيهقي: 5/ 21، التلخيص: 2/ 437 ح 972).
(1) أثر توقيت عمر رضي الله عنه ذات عرق، لأهل المشرق رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر قال: " لما فُتح هذان المصران أتَوْا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرناً، وهو جَوْرٌ عن طريقنا وإنا إذا أردنا قَرْناً شقّ علينا، قال: فانظروا حَذْوها من طريقكم، فحدَّ لهم ذات عرق ". والمصران: البصوة والكوفة. (البخاري: الحج، باب ذات عرق لأهل العراق، ح 1531) وقد رواه الشافعي في الأم: 2/ 138، والبيهقي في الكبرى: 5/ 27).
(2) حديث عطاء رواه الشافعي في الأم: 2/ 138، والبيهقي في الكبرى: 5/ 28، وانظر التلخيص: 2/ 436 ح 969.
(3) ساقط من الأصل، (ك).
(4) ر. المختصر: 2/ 60.

(4/207)


الحليفة، تعيّن عليه أن يُحرم، إذا كان يقصد مكةَ على نسك. ولو مال المدني وفاقاً إلى جهة المشرق، فميقاته في صوبه، وهو يؤم مكة، ذاتُ عرق.
والغرض أن ميقات المدني يقصر بطروقه صوبَ المشرق، وميقاتُ المشرقي يطول باطّراقه صوب المدينة.
وإذا كان المكي قد خرج، وتغرّب، ثم عاد من مسافةٍ بعيدةٍ، فلا يجوز له أن يجاوز الميقات؛ ظاناً أن ميقاته مكةُ.
وحاصل الكلام أن المواقيت، لا اختصاص لها، وإنما ميقات كل امرئ ما يمر به، ويصادفه، قصدُ الإحرام، وهو عليه.
2516 - ثم من أمرناه بالإحرام، لو جاوز الميقات، غيرَ محرمٍ، وهو ناوٍ للنسك، عازمٌ عليه، فهذا إساءةٌ منه، ويلزمه بسببها دمٌ، كما سيأتي وصفه.
فلو جاوز، ثم عاد إلى الميقات، فلا يخلو إما أن يُحرم بعد المجاوزة، ويعودَ محرماً، أو لا يحرم، ولكن يعود وينشئ الإحرامَ من الميقات (1 فإن لم يحرم، وعاد، وأنشأ الإحرام من الميقات 1)، نُظر: فإن لم يبلغ المسافة من الميقات، إلى الموضع الذي انتهى إليه مجاوزاً، ثم انقلب منه، مسافةَ القصر، فإذا عاد، وأنشأ الإحرام من الميقات، فيسقط دمُ الإساءة عنه، في هذه الصورة، وفاقاً.
وإن بلغت المسافةُ مسافةَ القصر، وقد جاوز غيرَ محرمٍ [ثم عاد غير محرم] (2) وأنشأ الإحرام من الميقات، ففي سقوط دم الإساءة وجهان- أحدُهما- أنه لا يسقط، فإنه تمادى على الإساءة في مسافةٍ لها حكم البعد، فانقطع أثره من الميقات، وتأكدت الإساءة تأكداً لا يقبل التدارك.
وهذا فيه نظر (3) إذا لم يتعلّق بمكة، فإن دخلها مسيئاً، غيرَ محرمٍ، ثم عاود الميقات، لم يسقط عنه دمُ الإساءة، قولاً واحداً، فإن المحذور، في جميع
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ط).
(2) ساقط من الأصل.
(3) ساقطة من (ط).

(4/208)


ما ذكرناه، أن يدخل مكةَ، غيرَ محرمٍ، مع انطواء عقده، على قصد النسك، وقد حصل ذلك.
وهذا [كله] (1) كلام فيه إذا جاوزَ الميقات ناوياً نسكاً، ولم يحرم، ثم عاد وأحرم من الميقات.
2517 - فأما إذا جاوز، وأحرم، ثم عاد إلى الميقات محرماً، فإن قصرت المسافة، ففي سقوط دم الإساءة وجهان، أو قولان. فإن بعدت المسافة، وأحرم ثم عاد، فقولان مرتبان. وهذه الصورة أولى بأن لا يسقط دمُ اِلإساءة فيها.
والمؤثر فيما نجريه قربُ المسافة، والنظرُ إلى موضع الإحرام (2)، فإن اجتمع البعد، والإحرام من غير الميقات، تأكد دمُ الإساءة، وضعف القولُ بسقوطه، عند العود. وإن قربت المسافة، ولم يجر الإحرام إلاّ بعد العود، فالذي رأيته للأئمة القطعُ بسقوط دم الإساءة.
وإن بعدت [المسافة] (3) ولا إحرامَ (4) إلاّ بعد العود، أو قربت، وجرى الإحرام قبل العود، فالمسألتان قريبتان في الترتيب.
والمتعلق [بمكة لا] (5) ينفعه العود إلى الميقات، سواء أحرم، ثم عاد، أو لم يحرم.
2518 - والمتمتع إذا عاد إلى ميقاته للإحرام بالحج فلا شيء عليه، وإن كان ذلك يجري بعد دخول مكة؛ لأنه ليس مسيئاً؛ إذ قد أحيا الميقاتَ الذي انتهى إليه بإحرامِ العمرة، فبايَن بذلك رتبة المسيء وإنما كنا نلزمه دمَ التمتع لربح أحد السفرين، فإذا عاد، فقد سقط هذا المعنى.
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) ساقطة من (ط).
(3) في الأصل: الإساءة.
(4) (ط): والإحرام.
(5) ساقط من الأصل.

(4/209)


2519 - ومما يتعلق بذلك، أن من انتهى إلى ميقاتٍ، فجاوزه، وكان لا ينوي نسكاً، ثم بدا له أن يقصد النسك، فلا نكلفه العودَ إلى الميقات، الذي مر عليه؛ فإن حكم الميقات إنما يثبت في حق من ينوي النسك، فإذا جاوزه، ثم بدا له أن ينسك، فميقاته الموضعُ الذي انتهى إليه. فإن أحرم منه، لم يلزمه شيء، وقد وفَّى ما عليه، وإن جاوز، فقد أساء الآن. وتفصيله كتفصيل من يجاوز الميقات الموظّف، ناوياً نسكاً. ثم إذا جاوز موضع قصده، وعاد، فالاعتبار بالعود إلى مكانِ نيّته، فهو ميقاتُه، فيعود التفصيل المقدّم في العود إلى الميقات، بعد مجاوزته، على نية النسك.
2520 - ولو كان مسكن الرجل بين ميقاتٍ، وبين مكة، وكان على مرحلةٍ، أو أقلَّ، فميقاته مسكنه، فلا جاوزَنَّه، وهو ينوي نسكاً، فإن جاوز، فالعود، على ما تفصل قبلُ.
وإذا كان يأتي مكة من المدينة، فسيمرّ على ميقاتين، وليس له أن يجاوز ذا الحليفة، ليحرم من الجحفة، وهذا متفق عليه، لا أعرف فيه خلافاً.
2521 - ولو كان يأتي مكة على صوبٍ من التعاسيف (1)، ولم يركب مسلكاً، إلى ميقاتٍ من المواقيت المعيّنة، فقد قال الأئمة: إذا كان مارّاً إلى مكة، ناوياً نسكاً، في برٍّ أو بحرٍ، فمهما (2) حاذى ميقاتاً من المواقيت، لزمه أن يُحرم، ولو جاوز محاذاةَ الميقات، كان كما لو جاوز ميقاتاً انتهى إليه، على ما سبق التفصيل فيه.
2522 - ثم صور الفقهاء صوراً في محاذاة المواقيت ما (3) قد يبعد الوفاء بتصويرها في المواقيت الموظفة، ولا مزيد عليها.
__________
(1) التعاسيف: يقال: يركب التعاسيف: أي يسير على غير هدى، واعتسف، وعسف: سار على غير هدى (معجم).
(2) " مهما ": بمعنى إذا.
(3) في (ط): قد يبعد (بدون ما)، (ك): فلا يبعد.

(4/210)


ولكنا نأتي بمسالكهم، ولا [نعرّج على المشاحة] (1) في التصوير.
فنقول: أولاً - لو حاذى المتعسف ميقاتاً بعيداً، وبين يديه ميقاتٌ آخر، وسيحاذيه في ممره، فليس له أن يؤخر الإحرامَ، عن محاذاة الميقات الأول؛ منتظراً محاذاةَ الميقات الثاني. كما ليس للذي يأتي من صوب المدينةِ، أن يجاوز ذا الحليفة، ليحرم من الجحفة.
وإن توسط في ممره، ووجهته إلى مكة ميقاتين، ووقع أحدهما منه على اليمين، والثاني على اليسار، فإن أمكن ذلك، فليحرم من مكانه؛ فإنه لو حاذى من أحد قُطريه (2) ميقاتاً، لأحرم، وقد حاذى الآن ميقاتين. ولو جاوز مكانه، فهو مسيء.
وإذا أطلقنا المحاذاة في هذه المسائل، فلا شك أنا نعني بها المسامتة (3)، من اليمين، أو الشمال؛ فإن المحاذاة بالظهر، صفةُ المجاوزين، والمحاذاة بالوجه صفة من لم ينته بعدُ إلى الميقات، وهو مارّ إليه.
2523 - ثم قال الأئمة: إذا توسط ميقاتين، وكان أحدُهما أقربَ إلى مكة، من الثاني لو فرض اطّراقهما، فإن كان المتوسِّط أقربَ إلى أحد الميقاتين منه إلى الثاني، فهو يُحرم من مكانه، ولكنه منسوبٌ إلى الميقات القريب منه.
وإن استوت المسافةُ بينه، وبين كل واحدٍ من الميقاتين، قالوا: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه منسوب إلى أبعدهما (4). والثاني - أنه يجوز أن يُنسب إلى أقربهما من مكة.
وهذا فيه فضلُ نظر، فإنا كيف قدّرنا الأمر، فهو مأمور بالإحرام من مكانه الذي حاذى فيه الميقاتين؛ وذلك المكانُ ميقاتُه على الحقيقة، فأي معنى لنسبته إلى أحد الميقاتين، وميقاته الحقيقي مكانُه، ينشئ الإحرام منه. ولو فُرضت مجاوزتُه، لكان
__________
(1) في الأصل: نفرح عن الإباحة، (ك): المساحة.
(2) قطريه: مثنى قطر، وقُطر الرجل: جانبه.
(3) المسامتة: الموازاة، من اليمين أو الشمال.
(4) (ط): أحدهما.

(4/211)


العودُ إليه، فهو المعتبر إذاً في تصوير قضاء حق الميقات، وتصويرِ الإساءة بالمجاوزة.
فالوجه بعد التنبيه على ما ذكرناه، أن نفرض متعسفاً، يمر ناوياً نُسكاً، بين ميقاتين، ولا يشعر بما يجري، (1 ثم ينتهي إلى موضع يُفضي إليه طريقُ الميقات القريب، وطريق الميقات البعيد، ثم يشعر بما جرى 1) و [يعسر] (2) عليه الرجوع على أدراجه إلى مكان المحاذاة، ويتيسر عليه الرجوع إلى كل واحدٍ من الميقاتين، فعليه العود إلى ميقاتٍ، إذا كنا نُخْرجه بالعود عن كونه مسيئاً؛ فان دمَ الجبران نتيجةُ [ترك] (3) مأمورٍ به، أو ارتكاب محظور منهي عنه، فإذا كلفناه العودَ، فيظهر الآن أثرُ النسبة، فإن نسبناه إلى الميقات البعيد، ألزمناه العودَ إليه، وإن نسبناه إلى القريب، كفاه أن يعود [إليه] (4)، ومسلكه (5) في التعاسيف لا يمكن العود إليه.
فإن فرض إمكان العود (6)، من حيث جاء، إلى مكان المحاذاة، فالذي أراه أن يكون المعتبر تلك المسافة، في نفسها، قَرُبَت، أو بعدت؛ فإن كل من جاوز ميقاتاً في عينه، كفاه في العود الرجوعُ إلى مسافته، ولا يلزمه العود إليه في نفسه. وقد تمهد ذلك فيما سبق.
وشرط تصوير الإفادة في النسبة إلى الميقات، أن يفرض مجاوزة (7) مكان المحاذاة، والإفضاء إلى مجتمع الطريقين، في الميقاتين، مع عسر الانقلاب، إلى صوب التعسف، ومع الجهل بمسافة تلك الجهة، وقد وجب الرجوع إلى أحد الميقاتين.
فهذا أقصى الإمكان.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ك).
(2) في الأصل: يعتبر.
(3) ساقطة من الأصل، (ك).
(4) ساقطة من الأصل.
(5) عبارة (ط): هذا. ومسلكه ....
(6) عبارة (ك): إمكان عود حيث ...
(7) (ط): بمجاوزة.

(4/212)


2524 - ولو أتى الغريبُ مكةَ من جهةٍ، لا ميقات فيها، وكان لا يحاذي أيضاًً ميقاتاً في ممره، فالوجه أن يُحرمَ إذا لم يبق بينه وبين مكة، إلا مرحلتان، نزولاً على قضاء عمر في تأقيت ذات عرق، لأهل المشرق، والتفاتاً إلى حد المذهب، في حاضري المسجد الحرام، فإن من يكون مسكنه على [ما] (1) دون مسافة القصر، فهو كأهل مكة فيما قدمناه.
فهذا منتهى ما أردناه في ذلك.
2525 - ثم نقول: المكي يُحرم من مكة. واختلف القول في الأفضل: قال الشافعي في قولٍ: " ينبغي أن يحرم من داره، ويأتي المسجد محرماً ". وقال في قول: " الأفضل أن يتزيى، ويحرم من المسجد الحرام، من موضعٍ قريب من البيت ".
والغريب إذا كان يحرم من مكة، متمتعاً، أو اتفق لُبثه بها سنة، فأراد الإحرام، فسبيله سبيل المكيِّ، فيما ذكرناه.
ومن كان ميقاتُ حجه مكةَ، فلا ينبغي أن يجاوز خِطتَها (2) غيرَ مُحرم، فلو جاوز الخِطة، ولم يجاوز الحرمَ، وأحرم، فهل نجعله مسيئاً؟ فعلى قولين: أحدهما - إنه مسيء، كالذي يجاوز خِطة قريةٍ، هي ميقاتٌ. والثاني - إنه ليس بمسيء، [فإن] (3) الحرمَ أغلبُ، واعتباره فيما يتعلق بالمناسك أوْلى من اعتبار خِطة العمارة.
2526 - وقد ذكرنا فيما مضى أن العود إلى الميقات في حق الغريب لا ينفع بعد التعلق بمكة، فالاعتبار في ذلك بدخول الحرم، أو بملابسته الخِطة، خِطة مكة؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه الآن.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) الخطة بكسر الخاء: المكان المختط لعمارةٍ، والجمع خِطط. والمراد بالخِطة هنا مساحة مكة وحدودها، والخُطة بالضم: الحالة، والخصلة (مصباح).
(3) في الأصل: فإذ.

(4/213)


والدليل [على] (1) اعتبار الحرم، دون خطةِ مكة، في هذا النوع، أن المكي إذا أراد العمرة، لم نكلفه مجاوزةَ خِطة مكة. بل ينبغي أن يتعلق بالحل، كما تقدم القول فيه.
ثم من كان ميقاته قرية، فمجاوزته لها مأخوذةٌ من ثبوت حكم السفر لمن يفارق البقعة، وقد أوضحنا ذلك بما فيه أشفى بيان في كتاب الصلاة.
2527 - وقد اختلف قول الشافعي في أن تقديم الإحرام على الميقات هل يستحب؟ فقال في أحد القولين: " إنه يستحب " لأخبار صحيحة فيه، منها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل الأعمال حجةُ الرجل من دويرة أهله، يؤم هذا البيت العتيق " (2).
والقول الثاني - " لا يستحب " تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فإنهم أحرموا عند الميقات.
وفي تقديم الإحرام تعرض لأغرارٍ، لا استقلال بها، ثم هذا القائل يزعم أن الأوْلى تأخير الإحرام إلى الميقات، وأطلق بعض الأصحاب الكراهيةَ في التقديم.
ولست أرى ذلك.
ومن أصحابنا من قطع بأستحباب التقديم، (3 وحمل نصَّ الشافعي، حيث نهى 3) على النهي عن شيء يعتاده الشيعة، وهو التزيّي بزيّ المحرمين من غير إحرام قبل الميقات.
__________
(1) في الأصل: غلبة.
(2) حديث إحرام الرجل من دويرة أهله، روي مرفوعاًً وموقوفاً، أما المرفوع فقد رواه البيهقي من حديث أبي هريرة، وقال: فيه نظر، وأما الموقوف فعلى علي، رواه البيهقي: (5/ 30) والحاكم: (2/ 276)، وصححه ووافقه الذهبي، قال الحافظ: وإسناده قوي، قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: " هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مروي بإسناد ضعيف، وإنما هو عن عمر وعلي من قوله، رواه الشافعي وغيره عنهما " ا. هـ (ر. التلخيص: 2/ 435 ح 967، مشكل الوسيط بهامش الوسيط: 2/ 611).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ط).

(4/214)


فصل
قال: " وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يُهل، حتى تنبعث به راحلته ... إلى آخره " (1).
2528 - اختلف القول في أن المرء متى يُؤثَر له أن يحرم، فقال في القديم: إذا صلى ركعتي الإحرام، كما سيأتي، وتحلل (2)، أحرم في مصلاه قاعداً. وهذا مذهب أبي حنيفة (3).
وقال في الجديد: يحرم إذا توجهت به راحلتهُ إلى مكةَ. وإن كان ماشياً، فيخرج عن موضعه، ويتوجه إلى مكة، ويُحرم.
ودليل القول الجديد الحديثُ الذي رواه في صدر الفصل، وقد روى ابنُ عباسٍ أنه صلى الله عليه وسلم أحرم من مصلاه (4)، وروي عن ابن عمر أنه لم يكن ليهل حتى تنبعث به راحلته (5) [وروي أنه لما استوت راحلته] (6) على البيداء أهلَّ، والقول في ذلك قريب.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 61.
(2) تحلل: أي من ركعتي الإحرام.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 62، بدائع الصنائع: 2/ 145، حاشية ابن عابدين: 2/ 158، البخر الرائق: 2/ 346، الاختيار: 2/ 143.
(4) حديث ابن عباس رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وأحمد، والحاكم، والبيهقي (ر. أبو داود: المناسك، باب في وقت الإحرام، ح 1770، الترمذي: الحج، باب ما جاء متى أحرم النبي صلى الله عليه وسلم، ح 819، النسائي: مناسك الحج، باب العمل في الإهلال، ح 2754، أحمد: 4/ 105، 106 ح 2358 (شاكر) وقال: حديث صحيح، الحاكم: 1/ 451، البيهقي: 5/ 37).
(5) حديث ابن عمر متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/ 30 ح 738).
(6) حديث: " أنه لما استوت راحلته على البيداء أهل " رواه البخاري عن أنس: الحج، باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح، ح 1546، وباب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال عند الركوب على الدابة، ح 1551، ورواه مسلم من حديث جابر الطويل في الحج، ح 1218، ورواه أبو داود عن سعد: المناسك، باب في وقت الإحرام، ح 1775، ورواه الحاكم عن سعد أيضاًً وعن ابن عباس: 1/ 451، 452).

(4/215)


وذهب بعض الأئمة إلى أخبار (1) الإحرام عند الفراغ من الصلاة، وحمل اختلاف الرواية على إعادة التلبية، وهي مأمور بها في [التغايير] (2)، كما سنشرحها، فلعله أحرم صلى الله عليه وسلم لما سلّم، ثم لبّى لما انبعثت به الراحلة، أي ثارت، ثم لبىّ لما استوت ناقته على البيداء.
ومن رأى ما قدمناه اختلافاً، فمعنى انبعاث الراحلة أن يستوي في صوب مكة، وهذا معنى استواء الراحلة على البيداء، فأما ثورانها وهي تردَّدُ (3) بعدُ على [الرحل] (4)، فلا، والعبرة بتوجهها إلى جهة المقصد، ثم الإحرام مع التوجه.
...
__________
(1) (ط)، (ك): اختيار.
(2) في الأصل، ك: التعايين، وفي (ط): " التغاير ". والمثبت تصرف منا رعاية للمأنوس المألوف من ألفاظ الإمام. هذا. والتغايير: أي التغايير في الطريق، إذا أصعد، أو انحدر، أو مال شرقاً أو غرباً ... هذا معنى التغايير، التي يسن رفع الصوت بالتلبية عندها.
(3) " تُرَدَّدُ " ضبطت في (ك) بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول، وظني أنها تَرَدَّدُ: أي تتردّد (بحذف تاء المضارعة) والمعنى: أن اختيار لحظة " ثوران " الناقة، أي حركتها عندما تضطرب برَحْلها وراكبها عند انبعاثها قائمة، والقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم عندها -عندما ثارت به راحلته- غيرُ مقبول.
(4) في الأصل: " الرجل " بالجيم المعجمة، والمثبت من (ط)، (ك)، و (على) هنا بمعنى (مع). والمعنى واضح، أشرنا إليه في التعليق السابق.

(4/216)


باب الإحرام والتلبية
2529 - إذا دخل وقتُ الهمّ بالإحرام، فالمسنون أن يغتسل. وذكر الأئمة أنا نستحب الغُسل للنفساء، والحائض، وإن كانتا لا تطهران. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت عُميس، وكانت نُفست بولادة محمد بن أبي بكر، " فأمرها عليه السلام بالغسل لدخول مكة " (1)، فطرد الأئمة ذلك، في غُسل الإحرام.
ثم إذا اغتسل من يريد الإحرام، فاستعمال الطيب محثوث عليه قالت عائشة: " طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديّ هاتين لإحرامه، قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت " (2) وفي بعض الأخبار (3) أنها قالت: " طيبتُه بأطيب الطيب، وهو المسك "، وعنها، أنها قالت: " رأيت وبيص (4) المسك في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم " (5).
2530 - ثم التطيب يقع قبل الإحرام، فإن كان في البدن، وليس للطيب عينٌ تشاهد بعد الاستعمال، فلا منع، وإن طيب بدنَه بطيب يبقى عينُه على البدن محسوساً، فلا بأس عندنا به، خلافاً لأبي حنيفة (6). وشاهد مذهبنا حديثُ عائشةَ في المسك، مع
__________
(1) حديث غسل أسماء بنت عميس رواه مسلم من حديث عائشة، ومن حديث جابر الطويل في الحج (ر. مسلم: الحج، باب إحرام النفساء، ح 1209، التلخيص: 2/ 450 ح 994).
(2) حديث عائشة رواه الشيخان بأكثر من لفظ (ر. البخاري: الحج، باب الطيب عند الإحرام، ح 1539، مُسلم: الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، ح 1189).
(3) " وفي بعض الأخبار ": المراد روايات الحديث السابق (حديث عائشة).
(4) الوبيص: مثل البريق، وزْناً، ومعنى.
(5) حديث " رأيت وبيص المسك ... " رواه مسلم: الحج، باب الطيب للمحرم عند الإحرام، ح1190.
(6) الذي وصلنا إليه عند الأحناف أنهم لا يرون به بأساً كالشافعية، وهذا عند أبي حنيفة وأبي=

(4/217)


ذكرها رؤيةَ وبيص المسك بعد الإحرام.
2531 - ولو استعمل طيباً مجسماً، ثم أحرم وعرِق، وتنحى الطيب عن محله، فهل يؤاخذ بذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يؤاخذ به، فإن الجزء الذي انتقل الطيب إليه بعد الإحرام جزءٌ صادفه طيبٌ، بعد تحريم الطيب بسبب الإحرام. ثم هذا القائل يقول: يلزم أن يبتدره المحرم، ويزيلَه ويكون ما جرى بمثابة طيب يصيب بدنَ المحرم، من غير قصد منه، فالذي عليه فيه أن يبتدر إزالته، فإذا فعل ذلك، لم يلزمه شيء.
والوجه الثاني - أنه غير مؤاخذ بما يجري؛ فإن التطيب جرى سائغاً، فلا حكم للانتقال بعده، والطيب كالمستهلَك في حق الإحرام إذا تقدم استعماله عليه، ويشهد لذلك استعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسكَ، في مفارقه صلى الله عليه وسلم. والظاهر في الحجاز تنقل الطيب، وسيلان العرق به.
2532 - ولو طيب المحرم قبل الإحرام إزاره، أو رداءه، وتوشّح أو اتزر، ثم أحرم، فحاصل ما قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها - أن ذلك يسوغ، كما يسوغ تطييب البدن. والثاني - لا يجوز؛ فإن الطيب يبقى على الثوب، ويمّحق على البدن.
والثالث - أنه إن لم يكن عينٌ، فلا بأس به، وإن كان الطيب عيناً، لم يجز، وكان ذلك بمثابة ما لو شدّ مسكاً على طرف إزاره، وكان يستديمه، فهذا ممتنعٌ، وفاقاً.
والأصح أنه لا يمتنع تطييب الثوب، ولا خلافَ أنه لو كان يقصد تطييب بدنه، فتعطر ثوبه تبعاً، فلا حرج.
ولو عطر ثوبه، وجوزنا ذلك على الأصح، ثم نزعه ومحاه، ثم عاد إليه ولبسه، وهو بعدُ عَطِرٌ، ففي المسألة وجهان- أحدهما - المنع؛ فإن اللبس الجديد بعد (1) الإحرام في حكم إنشاء تطيب. والثاني - لا بأس، فإنه استعمل الطيب قبل الإحرام، فصار كالمستهلك، فلا مبالاة به، كيف فرض الأمر. ومحل الوجهين فيه إذا طيب
__________
=يوسف، وكره محمد ذلك، قال الطحاوي في مختصره: " وفول محمدٍ عندنا أجود، وبه نأخذ " (ر. مختصر الطحاوي: 62، البدائع: 2/ 44).
(1) (ط): بهذا الإحرام.

(4/218)


الثوب، فلبسه وأحرم وهو عليه، فأما إذا طيب رداء، وأحرم، وقصد [به تطييب الرداء] (1) للإحرام، فإذا توشح به بعد الإحرام، لم يجز، ولزمه الفداء؛ لأنه استعمل الطيب جديداً بعد الإحرام. والوجهان في تجديد لبس الثوب، يقربان من سيلان الطيب، بعد الإحرام. ووجه التقريب [واضحٌ] (2).
2533 - وتمام البيان في هذا الفصل أن التطيّب عند الإحرام في مرتبة المندوبات، لا في مرتبة المباحات، ويشهد له الخبر، والأثر.
ولعل السبب فيه أنه يلقى شَعَثاً (3) وتَفَلاً (4)، وقد ينتهي إلى التأذي، فكان التطيب تقليلاً من آثار الشعَث، وهو قريب من استحباب السواك قبل أوان الخُلوف، وقد صح في الشرع الندب إلى استعمال الطيب يوم الجمعة. ومما يؤكد ذلك الأمرُ بالغسل، والغرض منه التنزه، ولهذا أُمرت الحائض به، وإن كانت لا تتطهر.
2534 - ثم إذا كان يغتسل فلا نرى للنية في غسله هذا أئراً، وشاهده أمرُ الحائض بالغسل. وفيه أدنى نظر؛ فإن النية مرعيّة في غسل الجمعة، والغرض منه قطع الروائح الكريهة. وبالجملة من قصد إقامة شعار الدين كان مأجوراً على قصده.
ثم يتّزر ويرتدي ويحسِر رأسه، ويصلي ركعتين. ثم مضى القول في أوان إحرامه.
فصل
قال: " ويكفيه أن ينوي حجاً، أو عمرة ... إلى آخره " (5).
2535 - مذهبنا الصحيحُ أن انعقاد الإحرام يعتمد النيةَ، فإذا نوى المرء الشروع في الحج، أو العمرة، أو فيهما قِراناً، أو نوى الإحرام المطلق، صار محرماً، بمجرد النيةِ، من غير تلبية.
__________
(1) عبارة الأصل: وقصد بتطييب الرداء الإحرام.
(2) في الأصل: أوضح.
(3) شعث من باب تعب: والشعث تفرق الشعر، وتلبده، وتغيره، والوسخ أيضاً (مصباح).
(4) من تفلت المرأة تفلاً: من باب تعب: إذا أنتن ريحها. (مصباح).
(5) ر. المختصر: 2/ 61.

(4/219)


وقال أبو حنيفة (1): لا يثبت الإحرام بمجرد النية، من غير قرينة، والقرينةُ الظاهرةُ التلبية. ثم أقام أبو حنيفة سَوْقَ الهَدْي، وإشعاره، وتقليده، مقام التلبية.
وذكر بعض أصحابنا قولاً قديماً للشافعي: " أن الإحرام لا ينعقد بمجرد النية "، وهذا اختيار أبي علي بن أبي هريرة، وأبي علي بن خيران، والشاهد لذلك اتفاقُ الناس، مُذ كانوا على الاعتناء بشعار التلبية، حالة العقد.
وكان شيخي يتردد في التفريع على القديم، في إقامة الإشعار، والتقليد، مقام التلبية. وسبب التردد أن ابن عباس كان يجعل نفسَ الإشعار والتقليدِ إحراماً.
والظاهر تعيين التلبية.
والمذهب الاكتفاء بالنية المجردة. ومن شَرَط التلبيةَ، لم يشترط التنصيص على ما جرى في النية من التعرض للحج أو العمرة، وهذا متفق عليه؛ فتكفي التلبيةُ المطلقة شعاراً، ثم التعويل فيما ينعقد مفصَّلاً، أو مجملاً على النية. وذكر الصيدلاني قولين في أنا هل نكره [ذكر] (2) ما انعقد في التلبية: أحدهما - أنا نكره ذلك، نص عليه، وقال في موضع آخر: لا بأس بذكر ما أحرم به.
2536 - ومما يتم به غرض الفصل: أنه لو لبى بلسانه، ولم ينو بقلبه، فقد نقل المزني أنه يلغو ما صدر منه، ونقل الربيع أن إحرامه ينعقد مجملاً، ثم إنه يصرفه إلى أحد النسكين، أو إليهما.
وقد كثر خبط الأصحاب، ونحن نذكر المقصود.
فنقول: من ذكر التلبيةَ حاكياً، أو معلم، وقصد غرضاً سوى الإحرام، لم يصر محرماًً، خلافا لداود. وكذلك إذا جرى اللسان بالتلبية، فلا حكم له.
فأما إذا جرد قَصْده إلى النطق بالتلبية، ولم يخطر بباله قصدُ الشروع [في الإحرام] (3)، فهذا موضع التردد. وللأصحاب طريقان: منهم من قال: في المسألة
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 161، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 79 مسألة 561، البحر الرائق: 2/ 347، 391، حاشية ابن عابدين: 2/ 160.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) عبارة الأصل: قصد الشروع للإحرام.

(4/220)


قولان: أحدهما - وهو الذي نقله المزني: أنه لا يصير محرماًً، وهو ظاهر مستغنٍ عن التوجيه. والثاني - أنه يصير محرماً، وهو ما نقله الربيع. ولست أعرف له وجهاً.
وإن تكلف متكلف، وقال: من ضرورة تجريد القصد إلى التلبية، مع انتفاء سائر المقاصد سوى الإحرام، أن يجري في الضمير قصد الإحرام. وهذا (1) ليس بشيء، فإن الأمر إن كان كذلك، فهو إحرامٌ بنيةٍ، ولا خلاف إذا ثبتت النية، في انعقاد الإحرام.
فصل
قال الشافعي: " وإن لبى بحج يريد عمرة ... إلى آخره " (2).
2537 - قد ذكرنا أن التعويل في عقد الإحرام على النية، فإن نوى الرجل بقلبه الشروعَ في الحج، ولبى بعمرةٍ لفظاً، فلا حكم للفظ، والتعويل على عقده. ولو نوى إحراماً مطلقا، وعيّن في التلبية، فلا حكم لتعيين اللسان. ثم إذا نوى إحراماً مطلقاً، صار محرماً، وله الخيار، فإن صرفه بعقده إلى حج أو عمرةٍ، انصرف إلى ما قصد. ولا شك أن هذا فيه إذا أبهم الإحرام في وقتٍ يصلح للحج، والعمرة.
ولو صرف إحرامه المبهم إلى الحج والعمرة قِراناً، صار قارناً، وإمكان صرف الإحرام المبهم إلى كل واحدٍ من النسكين أو إليهما جميعاً، دليل ظاهر على مشابهة العمرة الحج.
ولو أحرم إحراماً مبهما في غير أشهر الحج، ثم فسره بالحج، لما دخل شوال، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أن ذلك غيرُ جائز، ولا يثبت الحج؛ فإن الإحرام جرى
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث " وهذا " بدون الفاء، والمعروف المشهور وجوب الفاء هنا في جواب الشرط.
ولكن رأينا ابن هشام في المغني يحكي عن الأخفش أن حذف فاء الجواب في هذه الصورة واردٌ، وليس خاصا بضرورة الشعر، وحمل عليه قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180].
(2) ر. المختصر: 2/ 62.

(4/221)


في وقتٍ، لا يتأتى فيه الحج، [لو] (1) عينه بدل الإبهام، والتعيين آخراً بمثابة التعيين أولاً.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنه ينصرف إحرامه المبهم إلى الحج. وهذا ضعيفٌ في القياس.
ووجهُه على ضعفه أن العبد إذا أحرم بالحج في رقه، ثم عَتَق قبل الوقوف، ووقف حراً، فقد قال الشافعي: يقع الحجُّ عن فرض الإسلام. وهذا ضمُّ إشكالٍ إلى إشكالٍ، وسنذكر أن ما أوردناه في طريان العتق مشكلٌ في طريق القياس، فإن جرينا على الأصح، وهو أن تفسير الإحرام الجاري في غير أشهر الحج بالحج في أشهر الحج غير جائز، فلو أحرم المرء بعمرة في غير أشهر الحج، ولم يشتغل بأعمالها حتى دخل أشهرُ الحج، ثم أراد أن يُدخل حجّه على تلك العمرة، فقد ذكر الشيخ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - أنها تدخل، ويصير قارناً؛ فإنه ابتدأ الإحرام بالحج في وقته، وقد مضى أن الحج يدخل في العمرة.
والوجه الثاني - أنه لا ينعقد إحرامه بالحج، فإنه لو انعقد، لصار قارناً. ومن مذهب الشافعي أن القارن في حكم ملابسٍ إحراماً واحداً، ولهذا لا يجب عليه فديتان عنده إذا أقدم على محظور [الإحرامين] (2)، وإذا كان كذلك، فلو قضينا بانعقاد الحج، والإحرامُ سابقٌ على أشهرِ الحج، لكان هذا في حكم الإحرام بالحج قبل أشهره. والأقيس الوجه الأول.
2538 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك: أنه لو أبهم الإحرام، قبل أشهر الحج، ثم فسره بالعمرة، صح، وكان معتمراً، وإن فسره بالحج قبل وقته، كان كما لو أحرم بالحج. وقد مضى تفصيل المذهب فيه.
وإذا قلنا: المحرم بالحج معتمر، والتفسير بالحج غيرُ ممكن، فإحرامه المبهم قبل أشهر الحج إحرامٌ بالعمرة، ولا حقيقة للإبهام في الإحرام، وهذا بيّن، لا شك فيه.
__________
(1) في الأصل: أو.
(2) في الأصل: الإحرام.

(4/222)


2539 - ولو قال في نفسه: أحرمت كإحرام فلانٍ، فهذا أولاً سائغٌ، وقد روي أن علياً قال عند منصرفه من اليمن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجاً إلى مكة، عام الوداع، فقال عليّ رضي الله عنه: " لبيك بإهلالٍ كلإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1) ثم إذا أحرم بإحرام [كإحرام] (2) زيد، لزمه ما هو فيه، فإن كان معتمراً، فإحرامه عمرة، وإن كان حجاً، فإحرامه حج، وإن كان قارناً، فإحرامه قرانٌ.
وإحالة الإحرام على إحرام الغير، مع الجهل بحقيقة الحال أبعد عن القياس، من جواز صرف الإحرام المبهم إلى ما يريده المحرم؛ فإن الإبهام والتعيين وقعا جميعاً، متعلِّقين بقصده، وإذا أحال على إحرام الغير، فلم يجر منه قصدٌ في التعيين، أولاً وآخراً، ولكن ذلك محتمل، متفق عليه، معتضِد بما رويناه.
وأصل الإبهام منقولٌ على الصحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإحالة الإحرام منقولٌ عن عليٍّ، ثم ذكر علي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جرى منه، فلم ينكر عليه.
فإذا أحرم كإحرام فلان، ثم تبين أن فلاناً ما كان محرماًً، فيصير من أبهم إحرامَه محرماًً إحراماً مبهماً، فليفسره بما بدا له؛ فإن الإحرام لا خلاص منه.
2540 - ولو أحرم بما أحرم به فلان، وهو عالم بأنه غيرُ محرم، فهذا أولاً لا يمكن دعوى العلم فيه، فإنّ معوّل الإحرام على النية، ولا يطلع عليها غيرُ الله سبحانه وتعالى.
ولو قال: أحرمت بإحرامٍ كإحرامٍ فلان، وكان من ذكره ميتاً، وهو عالم بموته، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يصير محرماً؛ فإن الذي أتى به ليس جزماً
__________
(1) حديث إهلال علي رضي الله عنه متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (ر. البخاري: المغازي، باب بعث علي وخالد إلى اليمن، ح 4353، 4354، مسلم: الحج، باب إهلال النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، ح 1250) وللبخاري أيضاً من حديث جابر (الحج، باب من أهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1557).
(2) ساقطة من الأصل.

(4/223)


للإحرام، وليس هو أيضاً على تردُّدٍ؛ فإن فلاناً غير محرم. والثاني - أنه يصير محرماً على الإبهام؛ فإن [الإحرام] (1) إذا جرى، لم يُدفع.
2541 - ولو أحرم كإحرام فلانٍ، وكان ذلك المعيَّن محرماً على الإبهام، فيثبت للذي أحال عليه إحرامٌ مبهم، ثم لو فسر ذلك المعيَّن إحرامَه المبهمَ، بأحد النسكين، أو بهما، فلا يلتزم من أحال عليه ذلك، ولكنه بالخيار في تفسير إحرامه، ومنتهى ما يلتزمه بإحالته أن يكون كالمحال عليه، في حالته، ولقد كان المحال عليه في إحرام مُبهمٍ، لمّا قال هذا: لبيك بإحرام كإحرام فلانَ، فما يحدث بعد ذلك، من تعيين (2) وتفسير، فلا يلتزمُه المحيل؛ باتفاق الأصحاب.
ولو كان ذلك المعيَّن قد أحرم بالعمرة أولاً، ثم أدخل عليها حجة، وصار قارناً، ذكر الشيخُ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يصير قارناً؛ [فإنه] (3) لما أنشأ ربط إحرامه بإحرام ذلك الشخص، كان إذ ذاك قارناً، ولم يجر القِران بعد إحرامِ هذا المبهم. والوجه الثاني - أن إحرامه عمرة؛ نظراً إلى ما كان عليه أولاً، قبل إدخال الحجة، فإن إحالته واقعةٌ على إحرامه الأول.
وهذا الذي ذكره يستدعي نوعَ كشفٍ، فإن خطر (4) للذي أبهم الإحرامَ، التزامَ ما فيه ذلك المعيّن الآن، فلا خلاف أنه يلزمه القِران، إن صار قارناً، كما صورناه.
وإن خصص بعقده حالةَ الإحرام، فلا خلاف أنه لا يلتزم إلا العمرة. ولو جرى ذلك مبهماً، من غير تعرّضٍ للأول، والدوام، ففيه الخلافُ الذي ذكرناه.
ولو أحرم بما أحرم به فلان، وقد أشكل ما أحرم به فلان، وعسر الوصول إلى دركه، فهذا عند المحققين بمثابة ما لو أحرم، ثم نسي ما أحرم به.
وهذا فصل قد انتهينا إليه الآن، ونحن نخوض فيه مستعينين بالله، وهو خير معين.
__________
(1) في الأصل: الإبهام.
(2) (ط): تغيير.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ط): خص الذي.

(4/224)


فصل
قال الشافعي: " فإن لبىّ بأحدهما، فنسيه، فهو قارن ... إلى آخره " (1).
2542 - إذا أحرم في وقت إمكان الحج، ثم نسي ما أحرم به، قال الشافعي: " فهو قارنٌ ". واتفق الأئمة على أنه ليس بقارنٍ في الحال حكماً، ولكنه مأمور بأن يُصيِّر نفسه قارناً، كما سنصفه.
فأول ما نذكره: أنه إذا أشكل عليه ما أحرم به، فالمذهب المشهور أنه يلزمه أن يسعى في تحصيل القطع، [كما نصفه] (2)، ولا يكفيه بناء الأمر على غالب الظن.
وللشافعي قولٌ في القديم، حكاه العراقيون، وغيرُهم: " إنه يجتهد، ويتحرى، فإن غلب على ظنه أمرٌ بنى عليه، ولا يلزمه طلب القطع ".
ثم سبيل التفصيل أن نقول: إن نسي ما أحرم به، لم يخلُ إما أن يطرأ ذلك قبل الإتيان بشيء من أعمال النسك، وإما أن يطرأ الإشكال بعد جريان عمل من الأعمال.
فأما إذا لم يأت بعمل، ولكنه أحرم، ثم نسي ما أحرم به، فالمنصوص عليه، -وهو ظاهر المذهب- أنه يجب السعي في درك اليقين، ووجهه أنه لابَس الإحرامَ قطعاً، فليخرج منه قطعاً. ونظائر [وجوب] (3) استصحاب اليقين كثيرة في الشريعة.
والذي حكاه الأئمة عن القديم، جوازُ بناء الأمر على التحرّي، فليجتهد من أشكل عليه الحال، ويعمل بموجَب ظنه. ووجهُهُ تنزيلُ الظن منزلة العلم، فكيف ومتعلَّق المستصحب ظن أيضاًً، وقد جرى منا في المسائل المتقدمة تنبيهٌ على حقيقة القول في ذلك.
2543 - فإن قلنا: يجب التوصل إلى درك اليقين، فوجهه أن يحرم صاحب الواقعة بحجٍّ، وعمرة، وعبّر الشافعي عن هذا الغرض، بأن قال: " إذا نسي ما أحرم به،
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 62.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ساقطة من الأصل.

(4/225)


فهو قارن "، ولم يُرد أنه قارنٌ [حقا] (1)، ولكن أراد أن الوجه أن يُصيِّر نفسه قارناً، ثم إن كان إحرامه أولاً قِراناً، فلا يضر إعادة العقد، وإن كان إحرامه أولاً بعمرة، فيصير الآن قارناً، مُدخلاً للحج على العمرة، وإن كان محرماً بالحج أولاً، فيصير الآن مدخلاً عمرةً على الحج، وقد مضى اختلاف القول في أن العمرة هل تدخل على الحج، ثم يجري في عمل الحج، فإذا انتهى، فقد تحلّل عن الإحرام، قطعاً، وبرئت ذمته، عن حجة الإسلام؛ فإن حجه يصح على كل قولٍ، في كل تقدير.
وأما العمرة، فإن حكمنا بأنها تدخل على الحج فتبرأ ذمته عن عمرة الإسلام أيضاً - إذا أوجبناها- وإن حكمنا بأنها لا تدخل على الحج، فلا تبرَأ ذمتُه عن العمرة، لجواز أنه كان أحرم أولا بحجة مفردة، فلما نسي ولبى بالقِران، فالعمرة لا تلج على الحج.
2544 - وأما دم القِران، فإن حكمنا بدخول العمرة على الحج، فهو قارن في كل تقدير، فيلزمه دمُ القران.
وإن فرّعنا على أن العمرة لا تدخل على الحج، فلا يمتنع كونه غير قارن، والأصل براءة ذمته عن كفارة القِران، فلا يلزمه الدم إذاً، بناءً على أصل البراءة؛ فإن مبنى هذا القول على استصحاب الأصل في [كل] (2) حكم.
والحاصل إذن أنه إذا أحرم بالقِران بعد النسيان، فالتحلل يحصل، والذمة تبرأ عن الحجة، وفي براءتها عن العمرة الخلاف المقدم، المبني على أن العمرة هل تدخل على الحج، وأمر الدم متلقى من هذا، فإن حكمنا ببراءة الذمة من العمرة، فذلك مفرع على دخول العمرة على الحج؛ فالقران إذاً مقطوع به؛ فيلزمه دم القِران، وإن لم تبرأ ذمتُه من العمرة، لم نقطع بحصول القِران، فلا نوجب الدمَ على تردُّدٍ؛ فإن مبنى المسألة على بناء الأمر على الأصل في جميع أطراف الحكم.
2545 - ومما يتم به الغرض: أنه لو أحرم بالحج، ولم يأت بصورة القِران بعد النسيان، بل اقتصر على إحرام الحج بعد النسيان، فإذا أنهى عملَ الحج، فقد تحلل
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.

(4/226)


عما هو عليه قطعاً، وقد برئت ذمته عن الحج؛ فلم يذكر الشافعي القِران على معنى أنه لابد منه، ولكنه ذكره ليستفيد الآتي به التحللَ القطعي، وتبرأ ذمتُه عن النسكين.
ولو نسي ما أحرم به، ثم لم يجدد إحراماً بالحج أيضاًً، ولكنه أتى بأعمال الحج؛ فإنه يخرج أيضاً عن إحرامه، ويتحلل، غيرَ أنه لا تبرأ ذمتُه، في ظاهر الحكم عن واحدٍ من النسكين.
هذا كله تفريع على الجديد.
2546 - فأما إذا قلنا: إنه يجتهد، فإن أداه اجتهاده إلى أنه حاجٌّ، تمادى فيه، وبنى على ظنه فيه، ولم يُكلَّف إنشاءَ إحرامه، وإن ظن أنه قارِن، فهو كذلك، وإن ظن أنه معتمر، وأراد الاقتصارَ على العمرة، طاف، وسعى، وحلق، وخرج عما عليه.
ثم الصحيح في التفريع على هذا القول: أنه يحكم. بموجَب الظن، فيما له وعليه، حتى إن ظن القِران، وجرى على موجَب ظنه فيه، خرج عن النسكين، وتحلل، ولزمه الدمُ.
وذكر الشيخ أبو علي: أن من أصحابنا من قال في التفريع على اتباع الاجتهاد: إن فائدة الحكم به القضاءُ بالتحلل، والخلاصُ من الإحرام، فأما أن يحكم ببراءة الذمة عن النسكين إذا ظن القِران، فلا. وكذلك لا يلزمُ الدمُ بالظن.
وهذا بعيدٌ؛ فإن الظن إن اتبع في وجهٍ، وجب اتباعُه في كل حكم.
2547 - ومما فرعه العراقيون على هذا القول: أنه لو [كان] (1) قال: لبيك بإحرام كإحرام فلان، ثم أشكل ما أحرم به فلان؛ قالوا: في المسألة وجهان:. أحدهما - أنه يأخذ بما يظنه، كما لو كان إشكاله في إحرام نفسه. والثاني - أنه لا يأخذ بالظن في حق من شبَّه (2) إحرامَ نفسه بإحرامه؛ فإن الاجتهاد لا مساغ له في حق الغير، ولا مطّلع
__________
(1) ساقطة من الأصل، (ك).
(2) عبارة الأصل: .. مَنْ إحرام نفسه كإحرامه.

(4/227)


على نيته، فلا يتحقق غلبة الظن فيما يتعلق بالغير، وقد يثبت الظن فيما يتعلق بنفس الإنسان.
ولو جوزنا له أن يبني الأمر على الظن، فلم يترجح في فكره أمرٌ، ولم يحصل له ظن، فالوجه على ذلك أن يتمسك بمُدرك القطع، كما فرعناه على ظاهر المذهب، فيلتقي القولان في هذه الحالة.
ومما حكاه الشيخ في التفريع على طلب اليقين أنا إذا قلنا: إنه يَقرُن، وحكمنا بأن العمرة لا تدخل على الحج، فقد ذكرنا أنه لا تبرأ ذمتُه عن العمرة. فهذا هو المذهب المقرر.
وقال أبو إسحاق المروزي: يعتد بالعمرة، وتبرأ الذمة منها، [وإن] (1) وقع التفريع على أن العمرة لا تدخل على الحج، وذهب إلى أن السبب الإشكالُ وطريانُ النسيان، وقد يُجرى (2) في حال الإشكال، ما لا يُجرى في غيرها؛ فإن من صلى الظهر خمس ركعات ناسياً، صحت صلاته، ولو زاد ركعةً خامسةً على عمد، بطلت صلاته.
وهذا كلام باطلٌ غيرُ مُعتد به، ولا ينبغي أن يعتقد تشوّش الأصول بأمثال هذه الوجوه.
وكل (3) ما ذكرناه فيه إذا نسي ما أحرم به، وطرد (4) الشك، قبل أن يعمل شيئاً من أعمال النسك.
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) " يُجرى " بضم ياء المضارعة في الموضعين؛ فإن المراد أن حال الإشكال يجري فيها الفقيه أحكاماً لا يجريها في غيرها. والأمر قريب على أية حال.
ثم إن في نسخة الأصل: " وقد يخرّج في حال الإشكال ما لا يُجرى في غيرها " وآثرنا (ط)، (ك) للمشاكلة بين الموضعين.
(3) هذا أحد القسمين اللذين قسمَ موضوعَ النسيان إليهما في أول الموضوع.
(4) (ك): وطرأ. هذا، ومعنى " طرد الشك " أي اطَّرد واستمرّ، واستحضره قبل أن يعمل شيئاً من أعمال النسك.

(4/228)


2548 - فأما إذا أحرم، فطاف، ثم تردّد، فلم يدر أنه محرم بماذا؟ فهذا موضع تفريع ابن الحداد، فنذكر جوابه، ثم نصل به تمام الشرح.
قال ابن الحداد: لو قصد القِرانَ إنشاءً، كما صورناه في القسم الأول، لم ينتفع به؛ فإنه يجوز أنه كان معتمراً، والمعتمر إذا طاف، ثم أراد إدخال الحج على عمرته، لم يمكنه، فإن أراد أن يحسب له حج، فالوجه أن يسعى، ويحلق، ثم يبتدئ إحراماً بالحج؛ والسبب فيه أنه إن كان معتمراً، فما ذكرناه يحلله عن العمرة، ثم يقع حجه على الصحة، بعد تحلله. وإن كان إحرامه في علم الله حجاً، فلا يضرّ ما جرى، وغايته أن ينتسب (1) إلى الحلق في غير زمانه.
وكذلك لو قُدِّر قارناً، [فالحج] (2) يعتد به، والدم واجب بسبب إيقاع الحلق في غير أوانه.
وما ذكره ابن الحداد حسنٌ، لا وجه غيره (3)، ولكن ظاهر كلامه مشعرٌ، بأنه [مأمور بأن] (4) يحلق. وهذا نَقَمَه (5) كافة الأصحاب عليه، فإنه قد يكون حاجاً، فأمره بالحلق من غير بصيرة [ليس] (6) جارياً على اتباع موجَب القطع.
وقال الأئمة: لا يؤمر صاحب الواقعة بالحلق، بل ينهى عنه، لجواز أن يصادِف الحلق إحراماً مستمراً، ولكن إن حلق بعد الطواف، والسعي، ثم راجع المفتي، أجاب بالأمر بالإحرام بالحج، وإلزامِه الدمَ، كما سنصفه -إن شاء الله تعالى-، وضربوا لذلك الدجاجةَ والدُّرّة مثلاً، فقالوا: إذا بلعت دجاجةُ زيدٍ درة ثمينةً لعمرو، فلا نسلط صاحب الدرة على ذبح دجاجة الغير من غير إذنه، ولكن لو ابتدر ذلك، صل إلى درته، والتزم لصاحب الدجاجة ما ينقصه الذبح.
__________
(1) (ك). يتسبب.
(2) في الأصل: بالحج.
(3) (ط): له.
(4) ساقط من الأصل.
(5) نَقَم: من باب ضرب.
(6) ساقط من الأصل.

(4/229)


وحكى الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب أن من نسي ما أحرم به، وقد طاف، فنأمره بأن يسعى، ويحلقَ، فإنه مضطر إلى هذا، وإذا كان من به أذىً من رأسه يؤذن له في الحلق للأذى، فما تورط فيه صاحب النسيان أولى بأن نسلطه على الحلق.
وهذا وإن كان يوجه على بُعْدٍ، فالمذهب ما قدمناه.
ثم المعنيّ بالأمر بالحلق الندبُ، والإباحة، ورفعُ الحرج: ووجه الندب أنه يُتوصل إلى إبراء ذمة نفسه، عن الحج، وإذا لم يفعل ما ذكرناه، تأخر حجُّه، ووقع في غَررِ العاقبةِ.
2549 - فإن قيل: إذا نهيتم عن الحلق، وجريتم على ظاهر المذهب، وهو ما اختاره ابن الحداد، في بيان طريق الخروج عن العهدة، مع استفادة براءة الذمة عن الحج، فإذا جاء صاحب الواقعة التي فرض فيها ابن الحداد كلامَه، واستفتى فبماذا تُفتون؟ قلنا: أما الحلق، فننهى عنه، ونأمره بأن يعمل عمل حاجٍّ، ليتحلل عما هو فيه، ثم لا نحكم له ببراءة ذمته عن واحد من النسكين، وإن حصل أحدهما، هذا مسلك الفتوى.
وطريقُ الخلاص، مع تحصيل الغرض من الحج ما ذكره ابن الحداد فهذا ما أردناه.
2550 - والآن حان أن نتكلم فيما يلزمه من الدم:
إذا فعل ما ذكره ابنُ الحدَّاد، فنقول: إن كان صاحب الواقعة غريباً، بحيث يلتزم بصورة التمتع الدمَ، فإذا جرى [على] (1) مراسم ابن الحداد، فيلزمه دمٌ، لا محالة؛ فإنه إن كان متمتعاً، فعليه دم، وإن كان محرماً بالحج أوّلاً، فالحلق في غير أوانه يلزمه الدم، فالدمُ لازم في كل تقدير، ثم لا يضره أن يجهلَ، ولا يعرفَ السببَ المقتضي لوجوب الدم؛ فإن قياس مذهبنا في الكفارات، أنه لا يجب فيها تعيين النية، على ما سنذكره في الظهار.
وإن لم يجد دماً، وصام عشرة أيامٍ، خرج عما عليه؛ فإن الصيام في التمتع على
__________
(1) ساقط من الأصل.

(4/230)


الشرط [المقدم] (1) قد أتى به، ويكفي في كفارة الحلق، صيام ثلاثة أيامٍ، وفي صيامِ
العشرة خروجٌ عما عليه.
فإن أطعم، لم يخرج عما عليه؛ لجواز أن يكون الواجبُ كفارةَ التمتع، وليس في كفارة التمتع إطعام.
قال الشيخ: إذا وجبت الكفارة بيقين، فينبغي أن يكون الخروج منها بيقين.
وقد يعترض في ذلك أن قائلاً لو قال: إذا صام ثلاثةَ أيام، فصيام السبعة بعدها مشكوك في وجوبه، فينبغي ألا تشغل الذمة إلاّ على يقين، وكذلك إذا أطعم.
وهذا فيه احتمال ظاهر، وله التفات على تقابل الأصلين، وعلى مسألةٍ تقدمت في الطهارة، وهي أن من شك في الخارج، فلم يدر أمنيٌّ هو أو وَدي، ففي أصحابنا من اكتفى بوضوء (2) منكس، وإن كان ذلك منساغاً عند بعض الأصحاب، لفرط التشوف إلى الأخذ بالأقل، مع العلم بأن الوضوء المنكس ليس موجَب الحدث، ولا موجَبَ الجنابة. فلأن يخرج بصيام الثلاثة عما عليه أولى؛ فإن لإجزائه وجهاً، وهو أن يقدَّر مُفرداً، حالقاً في غير أوانه، بل ما ذكرناه شبيهٌ بالاقتصار على الوضوء؛ من جهة أن الحدث مانع، ثم اكتفى بالوضوء، ونحن لا نقطع بأنه رافعٌ للحدث الواقع.
فهذا ما أردناه نقلاً، واحتمالاً.
والمنقول عن الشيخ ما تقدم، من أنا لا نكتفي بصيام ثلاثة أيامٍ، وقياسُ الاحتمال بيّن.
وكل ذلك فيه إذا كان صاحب الواقعة غريباً، يلتزم بصورة التمتع الدمَ.
2551 - فأما المكي إذا وقعت له هذه الواقعة، فأمرناه بما ذكرناه، فلا نُلزمه دماً، لجواز أن يكون محرمًا بالعمرة، وقد تحلل على الصحة، فلم يكن الحلق موجباً للكفارة، ولا صورة التمتع، فلا سبيل إلى شغل الذمة من غير تحقق.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) المراد أنه هنا في حالة الشك بأحد الأمرين، فإن رجح كونه ودْياً، توضاً. ولا بد في الوضوء من الترتيب عندنا، لكن بعض الأصحاب اكتفى في هذا الوضوء (لأنه وجب على الشك) بغير الترتيب.

(4/231)


ومبنى الكلام في أطراف المسألة على اشتراط اليقين في التحلل، واشتراطِه في شغل الذمة، واشتراطِه في براءة الذمة عما سبق القطع بوجوبه، ولذلك جرى التردد في صيام الأيام الثلاثة؛ فإن اشتغال الذمة بالكفارة معلوم قطعاً، وحصول البراءة بصيام الثلاثة مشكوك فيه.
فهذا تمام ما أردناه في ذلك. والقول الضعيف في اتباع الظن والاجتهاد قائمٌ في صورة مسألةِ ابن الحداد، لم نُعده، واقتصرنا على التفريع على القول الصحيح.
فرع:
2552 - إذا وُجد من الغريب صورةُ التمتع، ثم لما انقضى عملُ النسكين، تذكر أنه كان محدثاً في طواف العمرة، وتعيّن له ذلك، فنقول: بان أن طوافَ العمرة لم يصح؛ ولم يصح السعي، لأن صحتَه تستدعي تقديمَ طوافٍ صحيح، فقد أحرم بالحج قبل مضي شيء معتد به، من أعمال العمرة، فيكون [قارنا] (1) ويُعتدّ بنسكيه، ويلزمه (2 دم، صفته صفة دم التمتع، ويلزمه 2) أيضاً دَمُ الحلق الواقعِ في غير أوانه؛ فإن المسألةَ مصورةٌ فيه إذا حلق، وابتدأ الإحرام بالحج.
وبمثله لو تذكر أنه كان محدثاً في طواف الحج، فالخطب يسير، فنقول له؛ توضأْ، وأعد الطوافَ، والسعيَ، وهذا أقصى ما عليك.
2552/م- وإن تذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يتعين له ذكر واحدٍ منهما، وهذه صورة مسألة ابن الحداد، فنقول: يحصل له النسكان جميعاً، لو توضأ، وطاف، وسعى مرة أخرى، فإنه بين أن يكون متمتعاً، قد طاف في حجه محدثاً، فإن كان كذلك، فقد أعاد الطواف، وبين أن يكون قارِناً، لم يعتد بطوافه في عمرته؛ لأنه كان محدثاً، وقد دخلت الحجة على العمرة، فالواجب إذاً أن يتوضأ، ويطوف، ويسعى، وقد حصل له النسكان، ولا يلزمه في هذه الصورة إلا دمٌ واحد؛ فإنه بين أن يكون قارناً، أو متمتعاً. ولا يلزمه دم الحِلاق؛ لجواز أن يكون حدثه في طواف حجه.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط).

(4/232)


2553 - وقد ذكر الشيخ فرعاً متصلا بما ذكرناه، وذلك أنه قال: المفرد في الحج إذا مضت منه الأفعال، وجامع، ولكنه لم يدر أن جماعه جرى قبل التحلل الأول، فتضمن فسادَ حجه، أو جرى بعد التحلل الأول، فلم يفسد حجُّه، على المذهب، كما سيأتي.
قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أن الحج يُحكم بفساده؛ فإن الأصل أنه لم يتحلل عنه حتى جرى المفسد. والثاني - لا يثبت الفساد؛ فإن الأصل براءةُ الذمة عن وجوب القضاء، والحكمُ بالصحة وانتفاءُ المفسد.
فرع:
2554 - إذا أتى الغريبُ بصورة التمتع، وجامع بعد الفراغ من أعمال العمرة، وقبل الإحرام بالحج، [ثم أحرم بالحج] (1) وأنهى أعماله نهايته، ثم تذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يتعين له الطوافُ الذي كان محدثاً فيه.
فنقول أولاً في مقدمة المسألة: من شرع في العمرة، وأفسدها بجماع [على] (2) عمد، ثم أحرم بالحج قبل التحلل عن العمرة الفاسدة، فللأصحاب ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ: أحدها - أن الإحرام بالحج لا ينعقد أصلاً، لا على الصحة، ولا على الفساد؛ لأنه لو اشتغل في العمرة الصحيحة بأعمالها، ثم أحرم بالحج، لم ينعقد لاشتغاله بأسباب التحلل، [والفساد أقوى في هذا] (3) المعنى، [من] (4) افتتاح أسباب التحلل، فليمتنع انعقاد الحج.
والوجه الثاني - أنه ينعقد الإحرام بالحج؛ فإن الإحرام بالعمرة تامٌّ، على نعت الفساد، لم يتحلل من شيء منه.
ثم إذا حكمنا بانعقاد الإحرام بالحج، فقد ذكر وجهين: أحدهما - أنه ينعقد على الصحة، ويبقى صحيحاً، ويجري صاحب الواقعة في عمرةٍ فاسدة، وحج صحيح.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).
(3) عبارة الأصل: والفساد إذا نوى من هذا المعنى، وعبارة (ك): لا ينعقد أصلاً، لا على الصحة، ولا على الفساد في هذا المعنى ...
(4) في الأصل: في.

(4/233)


وهذا بعيد جداً؛ فإن قياس مذهب الشافعي أن الإحرام واحد في حق القارن، ومضمونه نسكان، كالبيع الواحد، يشتمل على مبيعين؛ وإذا (1) أجرينا البيع في ذلك مثلاً، فقد ينقدح تخريجُ هذا الوجه على تفريق الصفقة، في البيع المشتمل على الفساد والصحة، وهو بعيد؛ فإن إيراد الحج على العمرة الفاسدة، اعتمادٌ لملابسة الفساد، في نفس الإحرام بالحج. فهذا أحد الوجهين. والوجه الثاني - أن الفساد يلحق الحجَّ وينعقد الإحرام به، [ثم] (2) في تقدير فساده وجهان: أحدهما - أنه ينعقد على الصحة، ثم يفسد. والثاني - أنه ينعقد فاسداً. وقد ذكرنا نظير الوجهين فيه، إذا أصبح المرء مجامعاً، فطلع الفجر، واستدام الوقاع.
والأظهر عندنا من هذه الوجوه (3) كلِّها الحكمُ بانعقاد الحج على الفساد، من غير تقدير فسادٍ طارئ على صحةٍ في الحج مُقدَّرَة.
وليست هذه المسألة كمسألة الصوم (4)؛ فإن من تخيل ثَمّ فساداً بعد انعقادٍ، فسببه أنه لو اشتغل بالنزع، لصح صومُه، ومثل ذلك غيرُ متخيّل فيما نحن فيه؛ فإنه أحرم بالحج مُقْدِماً على إدخاله على عمرة فاسدة.
هذا كله فيه إذا أفسد العمرة، ثم أحرم بالحج.
2555 - ومما ظهر فيه الخلاف أنا إذا حكمنا بانعقاد حجه على (5) الفساد، فالرجل قارِنٌ يلتزم بدنةً لإفساد العمرة، وظاهرُ المذهب أنه يلتزم بدنةً أخرى لإفساده حجَّه بإدخاله إياه في عمرة فاسدة.
ومن أصحابنا من قال: لا يلتزم إلا بدنةً واحدة [كما لو قرن على الصحة، ثم
__________
(1) (ط): وإذ.
(2) ساقطة من الأصل وحدها.
(3) لم يذكر من الوجوه الثلاثة التي كان وعد بها إلا اثنين، إذ دخل الثالث في تفريع الثاني، الذي فرعه إلى عدة وجوه، بعضها عن بعض.
(4) هنا خلل آخر في ترتيب صفحات (ك) حيث قفزت من آخر 231 عائدةً إلى أول 103، والله المعين.
(5) ساقطة من (ك).

(4/234)


جامع، وأفسد نسكه؛ فإنه لا يلزمه إلاّ بدنة واحدة] (1) وإن أفسد النسكين، نظراً إلى اتحاد الجماع.
والقائل الأول يقول: قد ترتب [الفساد] (2) في الصورة التي نحن فيها، فحصل الإفساد بدفعتين.
ومن أصحابنا من أوجب بدنةً، لإفساد العمرة، وشاةً لما جرى آخراً، ونزل هذا منزلة ما لو جامع الرجل، فأفسد نسكه، ثم جامع مرة ثانية، على الفساد، فإنا في وجهٍ نُلزمه بالسبب الثاني دمَ شاةٍ، وبالإفساد بدنة، وستأتي هذه التفاصيل في موضعها.
2556 - فإذا وضح ما أردناه في هذه المقدمة، عدنا بعدها إلى تفصيل المذهب في صورة مسألة ابن الحداد:
فإذا (3) أتى بصورة العمرة، وتحلّل، وجامع، ثم أحرم بالحج من جوف مكة، وقضى أفعال [الحج] (4)، ثم قال: تذكرت أني كنت محدثاً في أحد الطوافين: طوافِ العمرة، أو طوافِ الحج، وليس (5) يتعين لي الطوافُ الذي كنت محدثاً فيه.
فنقول: اختلف قول [الشافعي] (6) في أن الجماع إذا صدر من الناسي في النسك، فكيف حكمه؟ أحد القولين - أنه لا أثر له، وحكمه محطوط بالكلية. والثاني - أنه يناط به ما يناط بجماع العامد، إلا المأثم، وسيأتي ذكر ذلك.
فإذا ظن أنه تحلل من العمرة، وجامع، فلو كان محدثاً في طواف عمرته، فجماعه صادفَ عمرته، وقد اختلف أصحابنا في حكمه، لو كان كذلك: فمنهم من نزّله منزلة الناسي لنسكه، إذا جامع؛ حتى نخرج المسألة على القولين اللذين ذكرناهما
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: الإفساد.
(3) (ك): فإنه.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) (ط): ليس (بدون واو).
(6) في الأصل: أئمتنا.

(4/235)


الآن. وهذا هو الذي اختاره الشيخ.
ومنهم من لم يجعله كالناسي، وقد ذكرنا قريباً من ذلك فيه إذا أصبح مخالطاً أهله، ظاناً أنه في بقية من الليل، ثم تبين أنه كان مواقعاً، وكان الصبح في وقت وقاعه طالعا، فمن أصحابنا من قطع بفساد الصوم. وهذا مذهب الأكثرين. ومنهم من لم يحكم بالفساد، كما لو صدر ذلك من الناسي، وكان هذا غريباً عندنا، في كتاب الصوم.
وقد صرح الشيخ به في المسألة التي انتهينا [إليها] (1) من الحج.
والعبارة القويمة عما نحن فيه، أن الغالط هل ينزل منزلة الناسي؟ فعلى وجهين، وبيانه ما قدمناه، فإن من جامع على ظن أنه في بقيةٍ من الليل، فهو ذاكرٌ لصومه، ولكنه غالطٌ في فعله. وكذلك إذا ظن أن عمرته قد تمت، فجامع، فهو ذاكرٌ غيرُ ناسٍ، ولكنه غالطٌ، وسنُجري في مسائل إفساد الحج خلافاً في أن القارن إذا أفسد ما هو فيه، وألزمناه موجَب الإفساد، فهل يلزمه مع موجب الإفساد دمُ القران؟ فعلى وجهين: وهما يجريان في أثناء هذه المسألة، إذا (2) اقتضى الحال الحكمَ بفساد القران، وسنستقصي حقيقة الوجهين، عند ذكرنا بيانَ ما يفسد الحج، وما يستوجبه المفسد.
2557 - وإذا وضح ما ذكرناه، عاد بعده بنا الكلام إلى ذكر صورة مسألة ابن الحد اد:
فإذا جرى الجماع بعد صورة الفراغ من أعمال العمرة، ثم أحرم بالحج، واستمر، وذكر أنه كان محدثاً في أحد الطوافين، ولم يَبِن له عينُ الطواف، الذي كان محدثاً فيه، فالوجهُ -بعد تمهيد ما تقدم- أن نقول:
أما ما يتعلق ببراءة الذمة عن النسكين، فالأخذ فيه بالأسوأ، فنقدر كأنه كان محدثاً في طواف العمرة، لتفسدَ، ويفسدَ الحجُّ على ظاهر المذهب؛ فتبقى ذمتُه مشغولةٌ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ط): إذ.

(4/236)


بالنسكين، إذا كانا عليه من قبل.
وأما ما يتعلق بلزوم الدم، فلا يلزم منه مشكوكاً فيه، فإن الأصل براءة الذمة، فإذاً لا نوجب بسبب الإفساد شيئاً. ونوجب دمَ التمتع، فلا أقل منه، ونوجب لتحقيق التحلل، أن يتوضأ في آخر حجه، ويطوفَ ويسعى، فإن التحلل لابد من طلب اليقين فيه.
فهذا نجاز القول في هذه الفصول. وقد ذكر الشيخ في الشرح مسائلَ، تتعلق بإفساد الحج والعمرة، وسنذكرها -إن شاء الله تعالى- في موضعها.
فصل
قال الشافعي: " ويرفع صوتَه بالتلبية ... إلى آخره " (1).
2558 - فنقول: أفضل صيغ التلبية ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما رواه أبو هريرةَ، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد، والنعمة، لك، والملك، لا شريك لك " (2)، ويستقيم إن وأن بالكسر والفتح، فمن فتح، فعلى تقدير الاتصال بما تقدم، ومن كسر فعلى تقدير الابتداء.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على أثر التلبية: " إن العيش عيشُ الآخرة " (3) قال الشافعي: " قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في أسَرِّ حالة،
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 62.
(2) حديث التلبية الذي يشير إليه لم نجده لأبي هريرة، وإنما هو متفق عليه من حديث ابن عمر (البخاري: الحج، باب التلبية، ح 1549، مسلم: الحج، باب التلبية، ح 1184).
أما حديث أبي هريرة في التلبية فلفظه (لبيك إله الحق لبيك) رواه الشافعي في الأم: 2/ 155، وأحمد: 2/ 341، 476، والنسائي: المناسك، باب كيف التلبية، ح 2753، وابن ماجه: المناسك، باب الإحرام، ح 2920، والدارقطني: 2/ 255 وقال في التعليق المغني: الحديث رواته كلهم ثقات، ابن حبان: ح 3800، الحاكم: 1/ 449، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي: 5/ 45.
(3) حديث "إن العيش عيش الآخرة" روي مرفوعاً، ومرسلاً، أما المرفوع فرواه ابن خزيمة،=

(4/237)


وفي أشد حالة " (1)، أما أسر حالةٍ، فلما وقف بعرفةَ، عامَ الوداع، ورأى جمعَ المسلمين، فسرّه ذلك المنظر، استبشر، ثم استرجع، وقال: " لبيك إن العيش عيشُ الآخرة ". وقال أنس (2): أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذي الحليفة، وهو على ناقةٍ عليها قطيفة، لا تساوي درهمين، ورأى أصحابَه حوله ينتظرون، أمره ونهيه، فتضاءل حتى توارى برحله، تواضعاً لربه، ثم قال. على أثر تلبيته: لبيك، " إن العيش عيشُ الآخرة ".
وأما ما ذكره كذلك في أشد حالة، فهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابهَ رضي الله عنهم، كانوا يحفرون الخندق، وقد نُهِكت (3) أبدانهم، واصفرت ألوانهم، من وباء يثرب وعلى [أَوْساطهم] (4) الأحجارُ تقيم أصلابَهم من شدة الجوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتجزاً:
"اللَّهُمَّ إنَّ العيش عَيشُ الآخره ... فارحم الأنصارَ والمهاجِرَه
فأجابوه:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقِينا أبدا " (5)
__________
=والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط، وحسنه الهيثمي في المجمع، والبيهقي، كلهم من حديث عكرمة عن ابن عباس. وأما المرسل فرواه الشافعي عن مجاهد، قال النووي في المجموع: (7/ 256)، " بإسناد صحيح ". وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط (2/ 37 ب - هامش الوسيط 2/ 637) " هذا مرسل يصلح لأن يعتمد في باب فضائل مثل هذا الذكر ". ورواه البيهقي في السنن والمعرفة: (ر. الأم: 2/ 156، الحاكم: 4/ 465، مجمع الزوائد: 3/ 223، البيهقي في الكبرى: 5/ 45، 7/ 48، والمعرفة: 4/ 5، التلخيص: 2/ 459). (1) يبدو أن هذا الكلام مشهور عن الإمام الشافعي، لكنا لم نصل إليه، وقد أورده البيهقي في
الكبرى: (7/ 48) ولم ينسبه.
(2) حديث أنس رواه الإمام أحمد في المسند بلفظ مقارب: (3/ 216 ح 13281).
(3) نهك: من باب تعب، ونفع، ونُهك وزان عُني، بضم فكسر، دنف، وضني، فهو منهوك. (قاموس، مصباح، ومعجم، ومختار).
(4) في الأصل: أصلابهم.
(5) حديث حفر الخندق متفق عليه من حديث أنس، وسهل بن سعد (ر. البخاري: الجهاد،=

(4/238)


فالغرض أن الأوْلى الاقتصارُ على الكلم المقدّمة، في الملبية، وتكريرُها أولى من الاشتغال بذكرٍ أخر، وصيغةٍ أخرى في التلبية، سوى تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي أن سعدَ بنَ أبي وقاص سمع رجلاً يقول: " لبيك يا ذا المعارج "، فقال: " يا بن أخي. إنه ذو المعارج، ولكن ما هكذا كنا نلبي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (1).
2559 - [ثم ذكر الأصحاب] (2) أنه إذا لبى، فحسنٌ أن يستغفر في نفسه، ويستعيذ به من النار، ولا يرفع صوتَه بذلك، رفعه بالتلبية.
وذكر العراقيون استحسانَ الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك بصوتٍ خفيضِ، بحيث يتميز عن التلبية.
2560 - والتلبيةُ محبوبةٌ في دوام الإحرام، وتمامه، إلى بدء أسباب التحلل، كما سنذكرُهَا، ويتأكد استحباب التلبية، في التغايير التي تطرأ، عند الاستواء على كل نشز وصعودٍ، وعند كل هبوط، وعند اصطدامِ الرفاق.
ثم ليقتصر كلٌّ في رفع الصوت على ما يطيقه ويستديمه ولا ينبهر (3) به.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نزل عليّ جبريلُ فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي، بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية " (4) قالوا، فرفعنا أصواتنا، فما بلغنا
__________
=باب التحريض على القتال، ح 2834، والرقاق، باب الصحة والفراغ ولا عيش إلا عيش الآخرة، ح 6414، مسلم: الجهاد، باب غزوة الأحزاب، ح 1804، 1805).
(1) أثر سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه رواه الشافعي، والبيهقي في سننه الكبرى (ترتيب مسند الشافعي: 1/ 305 ح 793، السنن الكبرى: 5/ 45).
(2) ساقط من الأصل.
(3) ينبهر به: أي يجهده، ويقطعه عن الاستمرار، من بهره: إذا أجهده حتى يتتابع نَفَسُه. (معجم).
(4) حديث أمر جبريل بالتلبية رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي من حديث خلاد بن السائب عن أبيه (مسند الشافعي: ح 571، أبو داود: المناسك، باب كيف التلبية، ح 1814، الترمذي: الحج، باب ما جاء في رفع الصوت بالتلبية، ح 829، النسائي: مناسك الحج، باب رفع الصوت بالإهلال، ح 2753،=

(4/239)


الروحاء (1)، حتى بحت حلوقنا (2). فقال صلى الله عليه وسلم: [أَرْبِعوا] (3) على أنفسكم؛ فإنكم لا تنادون أصمَّ ولا غائباً " (4).
2561 - واختلف قول الشافعي في أنا هل نستحب رفع الصوت بالتلبية في المساجد؟ فقال في أحد القولين: يستحب ذلك، تعميماً للأماكن والأزمنة، وأيضاًً؛ فإنها أفضل البقاع، فهي أولى بشعار الإسلام. وقال في قول: لا يؤثر ذلك؛ لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " جَنّبوا مساجدَكم رفعَ أصواتكم " (5). وهو الذي يليق بتعظيم المساجد.
فإن قلنا: لا يؤثر رفع الصوت في المساجد، فهل نرى الرفعَ في المساجد التي
__________
=ابن ماجة: المناسك، باب رفع الصوت بالتلبية، ح 2922، ابن حبان: 3791، الحاكم: 1/ 450، البيهقي: 5/ 42، التلخيص: 2/ 456 ح 1003).
(1) الروحاء: موضع بين مكة والمدينة، على ثلاثين، أو أربعين ميلاً، من المدينة (القاموس المحيط).
(2) هذا معنى حديث رواه البيهقي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بلغنا الروحاء حتى سمعت عامة الناس قد بُحت أصواتهم من التلبية" وقد ضعفه البيهقي، ثم ذكر طريقاً آخر للحديث عن أنس رضي الله عنه، وضعفه أيضاًً، ومن طريق أنس رواه الطبراني في الأوسط: (2/ 224) (ر. السنن الكبرى: 2/ 184). هذا ولم يأت هذا الحديث في سياق يربطه بحديث خلاد بن السائب السابق على نحو ما صنع الإمام.
(3) في النسخ الثلاث " ارفقوا " والمثبت لفظ الحديث.
(4) حديث " أربعوا على أنفسكم .. " متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري في غزوة خيبر (ر. البخاري: الجهاد، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير، ح 2992، مسلم: الذكر، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، ح 2704).
وقد ربط الإمام بين هذا الحديث وما قبله وجعل سببه ما أصاب حلوقهم من التلبية، ولكنا لم نصل إليه بهذا السياق. وإنما المعروف أنه جاء في قصة غزوة خيبر. وقد تكون القصة قد تكررت ولكننا لم نصل إليها.
(5) حديث: " جنبوا مساجدكم رفع أصواتكم ". رواه ابن ماجه عن واثلة بن الأسقع (المساجد والجماعات، باب ما يكره في المساجد، ح 750). قال في الزوائد: إسناده ضعيف (ر. التلخيص: 4/ 346 ح 2582، خلاصة البدر المنير 2/ 429 ح 2856، إرواء الغليل: 7/ 361).

(4/240)


يتعلق بها المناسك، وهي المسجد الحرام، و (1) مسجد الخيف؟ فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - لا يؤثر ذلك، كسائر المساجد. والثاني - أنا نستحب رفع الصوت فيهما؛ لاختصاصهما بجريان شعار المناسك (2) فيهما.
2562 - واختلف قول الشافعي في أنا هل نستحب التلبيةَ في طواف القدوم، والسعي الواقع على أثره؟ فقال في أحد القولين: يستحب ذلك؛ فإن أحرى الأذكار بالتكرار، على اختلاف الأحوال التلبيةُ، وقال في القول الثاني: لا تستحب التلبيةُ فيهما؛ فإنه قد وردت أذكارٌ في الطواف، والسعي، تستوعب معظم الأوقات فيهما، فالاشتغال بتلك الأذكار أوْلى.
واختلاف القول في ذلك يقرب [من] (3) اختلاف القول في أنا هل نستحب للمصلي أن يجيب المؤذنَ في صلاته.
2563 - ثم المرأة كالرجل في التلبية، غيرَ أنا ننهى المرأة عن رفع الصوت، فتلبي في نفسها، ورعايةُ الستر في حقها أولى الأشياء، ولهذا نهيناها عن الأذان.
فصل
2564 - ذكر الشافعي آخر الباب، ما يجب على الرجل كشفُه في الإحرام، وما يجب على المرأة.
فأما الرجل، فيجب عليه كشف الرأس، ولا يجب عليه كشف الوجه، وعبر الفقهاء عن ذلك بأن قالوا: إحرام الرجل في رأسه، وإحرام المرأة في وجهها، ويجب على المرأة كشف وجهها، على ما نفصل القول فيه.
فأما الرجل، فلو ستر رأسه بما يُعد ستراً، كان مرتكباً محظوراً، فإن لم يكن
__________
(1) في الأصل: أو.
(2) (ط): الإسلام.
(3) ساقطة من الأصل.

(4/241)


معذوراً، عصى، وافتدى. وإن كان معذوراً، لم يعصِ، [وافتدى] (1)، ولو توسد عمامةً مكورةً، ولم تحتو على رأسه، فلا بأس، ولا فدية، ولو ستر ذلك القُطر (2)، بوضع العمامة عليه، افتدى.
فالتعويل على العادة، فالمتوسد حاسر الرأس، عرفاً، بخلاف الواضع عمامته على رأسه، ولو استظلّ المحرم [بمَحْمِلٍ] (3) [مُظَلَّل] (4) أو بظُلَّة يعتادها الكبراء، فلا بأس، ولا فدية. وكذلك [لو استظل] (5) ببناءٍ.
ومنع مالك (6) الاستظلالَ بظِلال المخيمات، والظُّلل، ولم يمنع الاستظلال بالبناء.
ولو وضع المحرم على رأسه حِملاً، أو زَبيلاً (7)، ففي المسألة قولان: أصحهما - أنه لا فدية، لأنه يعد في العادة حاسراً.
وللشافعي قولٌ آخر: " إن الفدية تلزم ". أخذه الأصحاب من نقل الشافعي، عن مذهب عطاء: إن الفدية تلزم بذلك، ثم لم يَردّ الشافعي عليه، ودأبه أن يردّ على كل مذهب، لا يرتضيه؛ فحصل في المسألة قولان.
2565 - وحقيقة هذا الفصل ترجع إلى أمرٍ لابد من العلم به، وهو أن المرعي في كشف الرأس في الإحرام عند الشافعي الخروجُ عن عادة الستر، والتغطيةِ، وليس الغرضُ تكليف المحرم مشقةً من التحسّر، وكشفِ الرأس.
هذا مذهبُ الشافعي، ولذلك لم يمنعه من الاستظلال بمظلة المحمل. وتخيل مالكٌ وطوائفُ من العلماء، أن الغرض من كونه حاسر الرأس أن يفارق الدّعة،
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) " القُطر ": الناحية والجانب.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: بظلّ.
(5) ساقط من الأصل.
(6) ر. حاشية الدسوقي: 2/ 56، 57، حاشية العدوي: 1/ 489، شرح الحطاب: 3/ 143، 144.
(7) الزبيل: مثال كريم: وعاء من خوص النخيل، والزنبيل مثال قنديل لغة فيه. (مصباح).

(4/242)


والاسترواحَ، ولذلك منعه من الاستظلال، على تفصيلٍ له.
فإذاً حاصل مذهبنا منزَّلٌ على [أن] (1) كل ما يعد ستراً للرأسَ أو لبعضه، فهو محظور للإحرام. ثم لا يرعى في الستر، الموجِب للفدية العادةُ المعتادة في الستر، فلا نقول: تجب الفدية بسترٍ يُعتاد مثله، بل نقول: تجب الفديةُ بما يُعد ستراً للرأس. والسبب فيه أن سترَ الرأس لا ينضبط، بشيء من طبقات الخلق: فمن ساترٍ بعمامة، ومن ساترٍ بقلنسوة، ومن ساترٍ بخرقة، والمطلوب من الإحرام الخروج عن قبيل السترِ، بالكلية.
2566 - ثم وجوب الفدية التامة لا يختص باستيعاب الرأس بالستر، كما لا تختص فديةُ الحلق باستيعابه، بل يجب السترُ في بعض الرأس.
قال الأئمة: لو شد على رأسه خيطاً، لم يلزمه الفدية، ولو شدّ عِصابة ذاتَ عرضٍ، افتدى، وليس معنا في ذلك توقيفٌ، نتّبعه. وإذا قلنا: المتبع فيه ما يعد في العرف ستراً للرأس، أو لبعضٍ منه، فهو سديد؛ فإن الأصلَ، والتفصيلَ فيما ورد مطلقاً من غير توقيفٍ متلقيان مما يفهمه أهل العرف؛ ولذلك يقع الاقتصار على الإطلاق، إحالةً على ما تبتدره أفهام الفاهمين، في عادات التخاطب.
2567 - ونحن نتكلف في أمثال ذلك تقريباً، على حسب الإمكان، ينتفع به المبتدي، ويستغني به المنتهي عن إطالة الفكر في التنصيص على الوقائع، إذا اضطر إليها في الفتاوى، وهذا مما ينبغي أن تصرفَ العنايةُ إلى مثله، ولا يحل للمراجَع أن يحيلَ الجوابَ في مثل ذلك على المستفتي، ويردَّه إلى حكم العادة.
ولو قال قائل: ما يلوح ساتراً لبعض الرأس، على البعد، للناظر السليم، فهو ساترٌ، كان قريباً، ولا يحصل به منتهى الغرض، في التقريب.
ولعل الأقرب أن نقول: كل مقدارٍ يُنتحَى بالستر في وجهٍ، فستره (2) يوجب الفدية، وإن لم يكن ذلك الستر في نوعه ووقته معتاداً.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) هنا بدأ خللٌ جديد في نسخة (ك). حيث انقطع السياق في آخر ص106 ثم انتقل إلى ص 144.

(4/243)


2568 - هذا قولينا في المقدار، فأما الكلامُ فيما يقع الستر به، فالضبط فيه: أن كل ما ينافي دوامَ اسم [الكشف] (1)، فهو سترٌ، وإن لم يكن معتاداً، فلو ألصق الإنسان خرقة، على جانبٍ من رأسه، فهذا في نفسه لا [يُعتاد] (2)، ولكنه ينافي اسمَ التكشف، وكل ما يبقى معه اسم التكشف، على التحقيق، فلا بأس به، كالتوسّدِ (3)، ومن جملته الانغماس في الماء؛ فإن المنغمسَ في الماء يسمى حاسر الرأس.
وذهب مالك (4) إلى أن المنغمس في حكم الساتر رأسَه، وهذا زلل، وذهول عما يجب أن يُرعى.
وإذا وضع المحرم زبيلاً على رأسه، فالأمر متردّد في اسم الكشف، فردّد الشافعي قولَه لذلك. واسم الكشف دائمٌ على التحقيق في حق من شد خيطاً على رأسه، وهذا يؤخذ مما قدمناه، من أن ما يأخذه الخيطُ، يبعد أن يُقصدَ بسترٍ.
ومما يليق بذلك أن المحرم، لو طلى رأسه بطينٍ، فهذا فيه تردّدٌ عندنا. وقد قال الأصحاب: طَلْيُ (5) العورة ستر لها، في إقامة الستر الواجب، ويمكن أن يقال: المرعي في ستر العورة إقامةُ حائل بين الناظر، وبين بشرة الوجه، وهذا يحصل بالطَّلْي، ولو لبس من يحاول السترَ ثوباً، يبدو لونُ البشرة من ورائه، لم يكن ذلك ستراً، ومثله في الرأس سترٌ. لكن طلْي الرأس سترٌ له فيما نظن، والمسألة محتملة، ولا بُعد في إلحاقها (6 بوضع الزبيل، والأوجه عندي أنه سَتْرٌ، موجبُ الفدية؛ فإن الزبيل في حكم عارضٍ يزول، والرأس حامله 6) وهو يلقَى الرأسَ من جهة كونه
__________
(1) في الأصل: التكشف.
(2) في الأصل: يعتبر.
(3) ساقطة من (ط)، (ك).
(4) لما نصل إلى هذه المسألة عند المالكية، وإنما رأينا ذكر كراهية الانغماس في الماء خوف قتل قملٍ ونحوه (ر. حاشية الدسوقي: 2/ 59 - 60، شرح الحطاب: 3/ 147 - 155، جواهر الإكليل: 1/ 188).
(5) طَلْي: من باب رمى.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط).

(4/244)


محمولاً، [لا] (1) من جهة كونه ساتراً، وما يطلى على الرأس خِصِّيصٌ به في الستر، ثم لست أرى الطَّلْي في معنى الماء الذي يعلو رأس المنغمس في الماء.
وينتظم فيه عبارة أراها واقعة: فرأس المنغمس يسمى حاسراً تحت الماء بخلاف [رأس] (2) من على رأسه طلاء؛ فإنه لا يسمى حاسراً تحت الطلاء. فهذا ما يحضرنا في ضبط ذلك.
فصل
قال: " وأحب أن تختضبَ للإحرام ... إلى آخره " (3).
2569 - المرأة يؤثر لها الاختضابُ بالحناء في حالاتها، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة على مضمون قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَك} [الممتحنة: 12]، فقال لها: " يد رجلٍ، أو يد امرأة؟ فقالت: يد امرأة. فقال صلى الله عليه وسلم: " أين الحناء " (4). والاستحباب يتأكد في الإحرام؛ فإنا قد نأمرها بنوعٍ من الكشف في اليدين، فإذا كانت اختضبت، ضاهى لونُ الحناء ساتراً، وإن لم يكنه.
ثم لا ينبغي أن تختضب اختضابَ تطريف وتزيين، بل تغمر يديها بالخضاب.
2570 - وردد الشافعي قوله في الرجل إذا خضب لحيته، في أن الفدية هل تلزمه؟ وللأصحاب في سبب التردّد طرقٌ: منهم من أخذه من كون الحناء طيباً، وجعل الأمر متردَّداً فيه، فعلى هذا إذا استعمل المحرم الحناءَ على أي وجه فرض، دخل تحت التردد الذي ذكرناه.
وهذا بعيد؛ فإن الحناء لا يعدّ من قبيل الطيب.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ر. المختصر: 2/ 65.
(4) حديث: أين الحناء. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي عن عائشة رضي الله عنها (أحمد: 6/ 262، أبو داود: الترجل، باب في الخضاب للنساء، ح 4166، النسائي: الزينة، باب الخضاب للنساء، ح 5089).

(4/245)


(1 ومن أصحابنا من أخذ ذلك من تخيّل الترجُّل، وسنذكر أن ترجيل الرأس بالدهن ينزل منزلة الطيب 1) في إيجاب الفدية، فتردد الشافعي في أن (2) استعمال الحناء في اللحية هل (3) يكون بمثابة ترجيلها، فعلى هذا يختص التردد ببعض الشعور، كما سنصف مواقع الترجيل، ولا حكم للحناء على البشرة.
ومن أئمتنا من أخذ ذلك من مأخذٍ آخر، وهو أن من يختضب يتّخذ لموضع الخضاب غلافاً يحيط به، فهل يعد ذلك من استعمال المخيط؛ إذ (4) المخيط فيه تردد فى كما يأتي بيانه في ذكر الملابس.
ثم المرأة إذا اختضبت بعد الإحرام، فلا يجري في يديها جهةُ الترجيل، ويطرد تخيل الطيب، وتشبيه ما تَلُفُّ على يديها، إذا هي اختضبت بالقفازين.
والوجه عندي إبطالُ كلِّ ما ذكر في ذلك، إلاّ خيالَ الترجيل، ولم يذكر الصيدلاني غيره وهو أيضاً بعيد. والله أعلم بالصواب ...
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(2) ساقطة من (ط).
(3) (ط): فلا.
(4) (ط): أو.

(4/246)


باب ما يجتنب المحرم من الطيب والثياب
2571 - الرجل المحرم ممنوعٌ عن لُبس الثوب المخيط، الذي [يحيط بسبب الخياطة، إحاطةً مقصودة] (1). وكذلك إذا كان الثوب [مُحيطاً] (2) مسروداً، كالدرِع، ونحوِه، فلُبسه من المحظورات، في حق الرجل، فلا ينبغي أن يلبسَ (3) قميصاً، ولا قَباءً، ولا مفرَّجاً، ولا سراويلَ ولا خُفاً، وقد مضى في ستر الرأس كلامٌ بالغ، وسنعيده في هذا الفصل، في غرض آخر.
ثم القول في [الملابس] (4) يتعلق بأمرين: أحدهما - الكلام فيما يُلبس. والثاني - الكلام في كيفية اللُّبس، والمتبع فيما يُلبس اجتناب ما يحيط بالخياطة، أو لسبب آخر، والتوشحُ والالتفاقُ (5) غيرُ ضائر، فالمتّزر ملتف بإزاره، والمرتدي متوشح بردائه، والقميص في نوعه مخيط، وكذلك السراويل والقَبَاءُ، والمُفرَّجات.
ولو ارتدى المحرم بقميص أو سراويلَ، فلا بأس عليه؛ فإن الكشف فيما عدا عضو الإحرام -وهو الرأس من الرجل، والوجه من المرأة- غيرُ واجبٍ في المتجرد، وإنما المطلوب من المحرم أن يخرج من عادته في جهة التستر، لا في أصله، وإذا توشح بقميصه، لم يكن على العادة في استعمال القميص، وكذلك إذا ارتدى به، أو اتزر، ولو التحف في اضطجاعه بجُبَّةٍ، فلا بأس، ولو لبس القَباءَ، ولم يُدخل يديه، في كمه، فالذي جاء به محظورٌ، وموجِبٌ للفدية، وإن لم يشدّ القَبَاء، ولم يُدخل يديه في الكمين؛ فإنه قد يُلَبس كذلك.
__________
(1) عبارة الأصل: يخيط لسبب الحياطة، إخاطة مقصودة.
(2) في الأصل: مخيطاً.
(3) من باب تعب.
(4) في الأصل: الملابيس.
(5) في (ط): " والالتفات "، وفي (ك): الالتفاف. والالتفاق: ضم إحدى شقتي الثوب إلى الأخرى.

(4/247)


ولو ألقى على نفسه قباءً، أو فَرَجِيًّا، وهو مضطجعٌ، ففي ذلك فضل نظر: فإن أخذ من بدنه ما إذا قام عُدَّ لابساً، فهو محظور، موجِبٌ للفدية. وإن كان ما أخذه من بدنه على قدر ما يأخذ اللحاف، ولو قام، أو قعد، لم يستمسك عليه، إلا بمزيد أمرٍ، فليس ما جرى لُبساً محظوراً.
ولو ارتدى المحرم برداء، وعقد أحد طرفيه بالآخر، فلا بأس؛ فإن هذا مخالفٌ للتستر المعتاد، والعقد الذي جرى استيثاقٌ في التوشح، وهو بمثابة عقد الإزار، وكذلك لو عقد طرف ردائه بإزاره، فلا منع لما ذكرناه.
قال العراقيون: لو اتخذ إزاراً ذا حُجْزَة وجرّ فيها تِكة، والإزار لم يزايله اسمُه، فلا بأس، وليس هذا لُبسَ مخيطٍ، أو محيط، وإنما هو مزيد استيثاق من الشد.
2572 - فإذا تمهد القولُ في الملبوس، وما يرعى في كيفية اللُّبس، المحظور، والمباح، فإنا نعقد بعد ذلك قولاً جامعاً فنقول (1): على المحرم أن يتوقى أصلَ الستر في عضوِ الإحرام، وعضو الإحرام في الرجل الرأس، وفي المرأة الوجهُ؛ فيجب على المرأة المحرمة أن ترعى في كشف وجهها، ما يرعاه الرجل في كشف رأسه. وقد نص الأئمة على أن المرأة لو أسدلت (2) على وجهها (3) ثوباً، متجافياً، عن وجهها، بأن تُخرج من رأسها شيئاً، وتسدُل (4) منه ثوباً، فلا بأس بذلك. ولم تزل النسوة يعتدن هذا في المواسم. ولهن أن يستترن بالظُّلَل من غير نكير. وهذا ردٌّ ظاهرٌ على مالك (5) رحمه الله، ومعتبرٌ (6) في القاعدة المرعيّة في كشف عضو الإحرام.
فإذا ثبت أن المطلوب الكشف في عضو الإحرام، فإن (7) جرى سترٌ بماءٍ، أو
__________
(1) في الأصل، (ك): ونقول، (ط): نقول. والمثبت تقديرٌ منا.
(2) قال في المصباح: سدَلتُه، ولا يقال: أسدلته. ولكن المعجم مثل له ولم يمنعه (مصباح، ومعجم). (3) ساقط من (ط)، (ك).
(4) سدل: من باب قتل.
(5) سبقت الإشارة إلى هذه المسألة، وموضعها عند المالكية.
(6) في (ط): معتبر (بدون واو).
(7) (ط): بأن.

(4/248)


غيره، فالرجوع إلى دوام اسم الكشف.
وأصلُ الستر غيرُ مرعي فيما عدا عُضو الإحرام، وإنما حجر الشرع في هيئة مخصوصة، في اللُّبس، وقد يتعلق بملبوسٍ مخصوص، وقد وصفنا الملبوس، واللِّبسة المعتبرة في الحظر والإباحة.
2573 - والنسوة لا حجر عليهن فيما يتعلق بالهيئة، والكيفية، في الستر، ولا عليهن لو لبسن القميص، والسراويلات، والخِفاف؛ فإن ذلك أستر لهن، ولا يُحمل استعمالُهن ذلك في غير الإحرام على الزينة، وإيثارِ هيئةٍ مخصوصة في الزي، وإنما يحمل على رعاية الستر.
وما ذكرناه في الرجال محمول على اختيار الزي، والهيئة.
ثم إحرامهن في وجوههن، لا في رؤوسهن، ولعل الشرع خصص ذلك بوجوههن؛ لأنها ليست عورةً منهن في الصلاة.
واختلف قول الشافعي في أن المرأة هل تلبس القفازين؟ ولعل الأظهرَ جواز اللُّبس؛ إذْ لا خلافَ أن اليدَ منهن لا تنزل منزلة الوجه. وللمرأة أن تستر يديها بكميها، ولست أدري لترديد القول في لُبس القفازين وجهاً، إلا ورود الخبر مطلقاً (1) في [نهي] (2) المحرم عن لبس القفازين.
ولو ألحق الملحِق اليدَ منها بالوجه؛ من جهة أن كفيها ليستا بعورةٍ في الصلاة، كالوجه، فلا جريان لهذا، مع جواز ستر الكفين بأطراف الأكمام. وحد الوجه منها مضبوط بما يجب غسله في الوضوء. وحدّ الرأس بيّن.
فرع:
2574 - إذا اتخذ لردائه شرَجاً وعُرىً، وكان يربط الشرَج بالعُرى، ويحتوي الرداءَ بها على البدن، فقد ذكر العراقيون أن هذا محظور بمثابةِ الإحاطة التي تُحصلها الخياطة.
وكان شيخي يتردد في هذا. ولا شك أنه لو فرض على طرفٍ من الرداء، ولم
__________
(1) في (ط): المطلق.
(2) ساقطة من الأصل.

(4/249)


ينتظم انتظاماً قريباً من الخياطة، فلا بأس به، والرجوع في ذلك إلى العَقْد والخياطة، فما حل محل العقد، فلا بأس به، وما ضاهى الخياطة، ففيه التردد، والظاهر المنع.
فرع:
2575 - لو شق إزاره من ورائه، وجعل له ذيلين، وعقد طرفي كل ذيل بأحد الساقين ملفوفاً به. قال العراقيون: لا يجوز ذلك؛ فإنه في صورة سراويل.
وهذا فيه نظر إذا لم يكن خياطة، وشرَجٌ، وعُرى تضاهي الخياطة، واللف والعقد ما أراه مانعاً، وسبب الاحتمال فيما صوروه من الإزار مضاهاة السراويل، فهو كمضاهاة الشرَج للخياطة، واللفُّ على أي وجهٍ فرض على البدن غيرُ محظور إذا لم يكن خياطة [أو] (1) إحاطة بسبب يضاهي الخياطة.
فصل من ذلك
2576 - قد ذكرنا أن المحرم ممنوع عن لُبس الخف، والسراويل، فلو لم يجد إزاراً، وأمكنه فتقُ السراويل وردُّه (2) إلى هيئة إزار، فليفعل. فإن كان لا يتأتى منه ذلك، بأن كان لا [تتسق] (3) مفتوقة إزاراً سابغاً، أو لم يجد وقتاً يتسع لذلك كله، فله لبس السراويل، واعتمد الأئمة فيه الحديث الصحيح؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لم يجد إزاراً، فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين، فليقطع الخفين أسفلَ من الكعبين " (4).
ثم تشوّف الأصحاب إلى طرفٍ من المعنى، في السراويلِ، فقالوا: لُبسه عند فقد الإزار تديّنٌ، لا ترخُّصٌ، وليس محمولاً على الزينة، والهيئة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) كذا، بضمير المذكر على معنى المفرد.
(3) في الأصل، و (ك): ينشق مفتوقه.
(4) حديث: " من لم يجد إزاراً " متفق عليه من حديث ابن عباس (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ح 1843، مسلم: الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة، ح 1178).

(4/250)


والأولى الاقتصار على اتباع الخبر؛ فإن هذا المعنى إنما كان يصح سليماً عن الاعتراض، لو حلَّ ما تحت سرة الرجل، محل بدن المرأة، على عموم الأحوال، حتى يجوز للرجل في عورته لُبس المخيط من غير حَجْرٍ، كما يجوز للمرأة [ذلك] (1) في بدنها. وكذلك ما تحت الركبة ليس بعورة، ونحن لا نكلف المحرم أن يرد ساق السراويل، إلى حد الركبة، كما يقطع الخفّ أسفل من الكعبين؛ فالمتبع الخبر إذاً، ومعنى التعبد، والتديّن فيه نظر.
وفي عقد السراويل فوقَ السرة، إذا زاد على الاستيثاق في حق من [لم] (2) يجد، إزاراً نظرٌ، و [تدبّر] (3). ويظهر عندي تكليف رد عقده إلى حدّ السرة.
2577 - وأما لبس الخف، فالمحرم ممنوعٌ منه، إذا وجد نعلين، فإن لم يجدهما، فليقطع خُفيه أسفل من الكعبين. هكذا ورد الحديث.
أما النعل، فملبوسُ المحرمِ، وإن كان يحتوي شراكه على ظهر القدم، فلا منعَ فيما يسمى نعلاً، وإن عُرّض الشِّسع، والشراك. وقد تمس الحاجة إلى تعريضه في السير المتمادي.
وأما الشُّمُشْك (4) وهو على صورة خف مقطوعٍ أسفل الكعبين، فالذي ذهب إليه معظم [الأصحاب] (5) أنه لا يلبسه من يجد النعلين، وفي بعض التصانيف تجويز لُبسه، وتنزيله منزلة النعل، ووجْه هذا على بعده: أن ما يحتوي من الشُّمُشْك على ظهر القدم، ويحيط بالجوانب، فقد يظن أنه للاستمساك في القدم، لا لستر بعضٍ، إذ ليس البعض (6) أولى برعاية الستر من البعض؛ فاحتمل أن (7) يكون المحتوِي منه
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: وتديّن.
(4) الشُّمُشْك. بشين مضمومة فميم مضمومة أو مكسورة، فشين ساكنة. كذا ضبطها مجمع البحرين (في فقه الإمامية) للطريحي: 5/ 277.
(5) في الأصل: الأئمة.
(6) في الأصل: بعض.
(7) في الأصل: ألا يكون.

(4/251)


على ظهر القدم مشبّهاً بالشراك من النعل.
وأما الخف، فلا شك أنه يتخذ للستر، وهو محُيطٌ.
والظاهر من المذهب نقلاً اختصاصُ [جواز] (1) لُبس الشّمُشْك بفقدان النعل.
وفيه معنىً [يجب التنبه له، وهو أنه إن ظهر في السراويل معنى] (2) التعبد، والتحق الرجل حالة فقدان الإزار في محل السراويل، بالمرأة في بدنها، فهذا غيرُ متحقق في الشُّمُشْك، ثم لا فدية في لُبسه عند فقد النعل، ولم نحمل هذا على لُبسٍ تدعو إليه الحاجة. ومن لبس قميصاً لضرورة، افتدى.
فليتنبه الفقيه لما أشرنا إليه من تنزيل هذه المسائل.
فرع:
2578 - المحرم ممنوع عن لبس القفازين، فإنه ملبوسٌ مقصود مُحيط بالعضو، وإنما تردد القول في المرأة.
ولو اتخذ الرجل لساعده أو لعضوٍ آخر شيئاً مَخيطاً، فقد تردد جواب شيخي فيه، وهو لعمري محتمل؛ فإن الكشف ليس واجباً في غير عضو الإحرام، وإنما (3) القاعدة المعتبرة اجتناب زيٍّ مخصوصٍ، وذاك يختص بالملابس المعتادة، والقفاز ملبوس معتاد، في بعض الأحوال، فأما اتخاذ شيء على هيئة خريطةٍ (4) وسترِ عُضوٍ به، فليس ستراً، على زيٍّ مخصوص، وليس ملبوساً مقصوداً.
والتردد في هذا يستند إلى ما أشرنا إليه من قول بعض الأصحاب في اختضاب اللحية.
والذي أرى القطعَ به أن ذلك التردد في خريطةٍ تُغلّف اللحيةُ بها، وأما اللف، فلا منع منه.
هذا نجاز القول في الملابس وفيما يراعى فيه اجتنابُ الستر كعضو الإحرام، وفيما يراعى فيه اجتناب سترٍ مخصوص.
__________
(1) زيادة من (ط).
(2) ساقط من الأصل.
(3) (ط)، (ك): وأما.
(4) الخريطة: شبه كيسٍ من أديم وخرق. (مصباح).

(4/252)


فصل
يحوي ترتيب المذهب في تكرر المحظورات، على التواصل، والتقطع
2579 - فنقول:
محظورات الحج تنقسم إلى استمتاعٍ، واستهلاكٍ، فأما الاستمتاع، فهو استعمالُ الطيب ولُبس المخيط، وتغطيةُ عضو الإحرام، ونحن نقضي وطرَنا، من القول في تكرر هذه الأشياء، ثم نذكر الاستهلاك، في هذا الغرض، ثم نمزج الاستهلاك بالاستمتاع.
فأما الاستمتاع، فإنه مختلف النوع أوّلاً، فالطيب مخالف اللبس، والستر، واللُّبس وستر عضو الإحرام نوعٌ واحدُ، وإن اختلف وقعهُما، كما مضى، لأن اللُّبس شملهما، فلتقع البدايةُ بما يتعلق بالستر المحظور، فنقول:
2580 - إذا لبس الرجل قميصاً وسراويلَ وعمامةً في مكانٍ واحد، في أزمنةٍ متواصلةٍ، فلا يلزمه إلا فديةٌ واحدة؛ فإن ذلك يُعد في حكم الخُطة (1) الواحدة، والزي الواحد يأخذه المرء، وقد يطول الزمان في محاولة مضاعفة القميص (2)، واستعمالِ الخف، وتكويرِ العمامة، فلا نظر إليه مع التواصل، وهذا معتبر بالرضعة الواحدة؛ فإن لها حكم الاتحاد، وإن طالت.
وإن تعدد اللُّبس، وتعدد المكان. أو اتحد المكان، وتقطع الزمان، وطرأت فترات، ينقطع بأمثالها التواصلُ المألوف في اتخاذ الزي الواحد من اللابس (3)، فلا يخلو: إما أن يتولّج في خللها تكفيرٌ، وإما ألا يتفقَ ذلك. فإن لم يتّفق، ففي تعدد الفدية قولان: أحدهما - التعدد، وهو الأحرى على القياس، فإن كل لُبس ممّا
__________
(1) في (ط)، (ك): " الحطة " بالحاء المهملة. هذا والخطة بضم الخاء المعجمة هي الحالة والأمر، فالمعنى: أن ذلك يعد حالة واحدة وأمراً واحداً، أي خطأ واحداً.
(2) (ط): القمص.
(3) (ط): الملابس.

(4/253)


فرضناه لو قدر على حياله، لأوجب الفديةَ.
وسبب القضاء بالاتحاد عند اتحاد المكان، وتواصل الزمان قضاءُ العرف بعدّ ذلك أمراً واحداً، فإذا زال هذا بالتقطع الزماني، أو التعدد المكاني، فالوجه ردُّ الأمر إلى قياس التعدد.
ومن أوجب كفارة واحدة قال: إنها تجب لله تعالى، ويفرّق في موجِبها بين الناسي والعامد، فيتجه الحكم بتطرّق المساهلة إليها، فلتنزل أعدادها من غير تخلل تكفيرٍ، منزلة تعدد الزنيات والسرقات، هذا والإحرامُ المعترض عليه واحد.
وبهذا ينفصل ما نحن فيه عن وقاعين في يومين من رمضان، فإن كل صوم عبادةٌ متميزة عن الصوم في اليوم الآخر، فرأينا القطع بتعدد الكفارة خلافاً لأبي حنيفة (1).
2581 - ولو جرى تكفيرٌ، مع التقطع في الزمان، أو المكان، حيث نقطع القضاءَ بالتعدد في اللبس، إذا رددنا الأمر إلى العادة، فإذا انضم إلى ذلك تخلل التكفير، فلبس قميصاً، وكفر، ثم طال الزمان، أو تبدّل المكان، ولبس عمامةً، فإن لم يربط نية الكفارة، بما سيفعله في الاستقبال، فلا خلاف أن الكفارة تجب باللبس الثاني؛ فإن المعتبر الأقصى في القضاء بالتداخل الحدودُ، ومن زنى، فحدّ، ثم زنى مرة أخرى [حدّ] (2)، فإذا تجدد الحدُّ، وهو عقوبةٌ محضة لله تعالى، فالتجدد في الكفارات (3) -وهي قرباتٌ، ووضعها التعبد على أنها إرفاق- أولى.
فأما إذا لبس وكفّر، ونوى بما أخرجه من الكفارة أن يوقعه عما مضى، وعما سيكون من لُبسه في المستقبل، فهذا يبتني على أن تقديمَ الكفارة على المحظور في الإحرام هل يجوز؟ على قياس تقديم كفارة اليمين على الحِنْث فيها؟ وهذا فيه اختلافٌ سنذكره في كفارة اليمين.
فإن منعنا تقديم الكفارة فيما نحن فيه، فلا أثر لربط النية بما سيكون، ويتجدد
__________
(1) ر. الأصل: 2/ 177، المبسوط: 3/ 74، البدائع: 2/ 101، البحر: 2/ 198، مختضر اختلاف العلماء: 2/ 30 مسألة 513، رؤوس المسائل: 232 مسألة 128.
(2) في النسخ الثلاث: فحد. والمثبت تقديرٌ منا رعاية للمعنى.
(3) في الأصل: الكفارة أولى وهي ....

(4/254)


وجوب الكفارة، بتجدد اللبس، بعد إخراج الكفارة.
وإن قلنا: يجوز إخراجُ الكفارة عما سيكون، فإذا [نوى] (1) ربطها بالكائن (2)، وما سيكون، ففي تجدد الكفارة قولان، لمكان التعدد، كما سبق.
ولو اتحد المكان في اللبس والزمان، ولكنه خلَّل (3) في أثناء اللبس المتواصل تكفيراً، فهل يجب بما يقع بعد إخراج الكفارة كفارةٌ؟ فيه اختلافٌ للأصحاب، من جهة أن تخلل الموجب يؤثر في التعدد اعتباراً بالحد.
وكل ما ذكرناه فيه، إذا اتحد النوع، في الاستمتاع.
2582 - فأما إذا اختلف النوع، فلبس وتطيب، وفُرض في (4) ذلك اتحادُ المكان، وتواصل الزمان، ففي تعدد الكفارة وجهان: أحدهما - التعدد؛ والسبب فيه تباين الفعلين، بجهة الاختلاف. وصَغْوُ الأئمة إلى أن التعدد بهذه الجهة أولى باقتضاء تعدد الكفارة من التعدد بجهة اختلاف المكان، وانقطاع الزمان. وهذا لعمري كذلك، وهو بيِّن للمتدبر.
فقد أشرنا في هذا القسم الأول إلى محل الوفاق في النفي والإثبات، وأوضحنا أنه إذا اتحد النوع، والمكان، وتواصل الزمان، ولم يتخلل التكفير، فالكفارة متحدةٌ وفاقاً.
وإذا تخلل التكفيرُ من غير فرض ربط النية بالاستقبال، وانضم إلى تخلله ما يوجب التعدد، من جهة الزمان، [أو] (5) المكان، أو النوع، فهذا مقطوعٌ به في نفي التداخل، ولا قطع إلا في هاتين الصورتين.
ووجدنا لاختلاف المكان أثراً في التعديد، على اختلافٍ، وكذلك تقطُّعُ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ط): المكان.
(3) (ط): تخلل.
(4) ساقطة من (ط)، (ك).
(5) في الأصل: لهذا المكان.

(4/255)


الزمان. واختلافُ المكان، إذا قيس بتقطع الزمان، [اعتدل] (1)، واختلافُ النوع أوقعُ منهما، فلا يترتب في نظم المذهب تقطّع الزمان، مع اتحاد المكان، على اختلاف المكان مع تقارب الزمان، وكل صورةٍ جرى فيها معنى واحد [مما] (2) يوجب تعدد الفعل، فهو في تأسيس المذهب على قولين.
فإن فرضت مسألة مشتملةٌ على معنيين، مما يوجب التعدد، ولم تنته إلى صورة القطع، فهي على قولين، مرتبين، على التي هي ذاتُ معنى واحد، وهكذا الترتيب في ازدياد المعاني إلى الإفضاء إلى [طرف] (3) القطع.
2583 - وألحق بعض أصحابنا وقوع الاستمتاع بعذرٍ بما يقتضي الاتحادَ على الاختلاف، حتى نرتب (4) المعذور في صورة (5) الخلاف على غير المعذور، ونجعل (6) المعذور أولى باتحاد الكفارة، من غير المعذور.
وهذا لا أراه كذلك؛ فإن العذر يؤثر في جواز الإقدام، لا في نفي الكفارة، وإن لم يكن من القول بذلك بدّ، فلا شك أن الذين قالوا به أرادوا عذراً واحداً، يشمل أعداداً من اللُّبس، أو الطيب، فنجعل الشامل منها بمنزلة ما يوقعها على نعت الاتحاد. وهذا -مع ما ذكرناه- خيالٌ.
وقد نجز القول في تكرر الاستمتاع، مع اتحاد النوع، واختلافه.
2584 - فأما القول في الاستهلاك، فهو ينقسم في غرض الفصل، إلى ما لا يتعلق (7 ببدن المحرم، وإلى ما يتعلق 7) ببدنه.
فأما ما لا يتعلق ببدنه كقتل الصيود، والجناية عليها، ولايتوقع تداخلٌ فيها، فإن
__________
(1) في الأصل: اعتدال. هذا، و" اعتدل " جواب (إذا) قيس بتقطع الزمان.
(2) ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: طرق.
(4) في (ط): يترتب.
(5) في (ط): صور.
(6) في (ط): جعل.
(7) ساقط من (ط) ما بين القوسين.

(4/256)


الكفارات في الصيود، تحل محل قيم المتلفات، فعلى أي وجه فرضت، فالنظر إلى أقدار المتلفات.
فأما ما يتعلق ببدن المحرم، فكالحلق والقَلْم، فنقول: من حلق ثلاث شعرات، فقد كملت عليه الفدية، وإن استوعب الرأس بالحلق، لم يلتزم إلاّ فديةً واحدة، إذا اتحد المكان، وتواصل الزمان. وهذا متفق عليه.
ْولو حلق غير شعر رأسه مع حلق شعر رأسه، على صورة التواصل، فالذي ذهب إليه الأئمة اتحادُ الكفارة.
وذهب أبو القاسم الأنماطي إلى أنه تجب كفارتان: إحداهما في مقابلة الرأس، والأخرى في مقابلة ما عداه من شعر البدن، وهذا متروكٌ عليه، ولا وجه له.
ولو حلق شعر رأسه في أمكنة [أو] (1) أزمنة، ففي التداخل قولان مرتبان على القولين في تعدد اللبس باختلاف (2) المكان، والكفارة أولى بالتعدد، في الحلق؛ لأنه استهلاك والقياس في قبيل الاستهلاك تعدُّد الكفارة.
ثم يجري في الحلق فرض اجتماع المعاني، واتحادها، والصور كلها على الخلاف إلا الصور التي استثنيناها فيما تقدم.
وإذا تعارضت مسائل الإتلاف، ومسائلُ الاستمتاع، ترتبت كل صورةٍ في الإتلاف على نظيرتها في الاستمتاع، كما نبهنا عليه.
وإذا اشتملت مسألة في الاستمتاع على معينين، واشتملت مسألة الإتلاف على واحدٍ، فقد يعتقد الفقيه اعتدالهما، والقول في ذلك قريب، بعد ظهور الغرض.
وقد انتهى الكلام في الاستهلاك، والاستمتاع، إذا فرض كل واحد منهما وحده.
2585 - ومن صور القطع في قسم الاستهلاك، أن النوع إذا اختلف، تعددت الكفارة، وفاقاً، وذلك بأن يحلق، ويقْلِم، وبهذا يستبين أن اختلاف النوع في الاستمتاع مؤثرٌ، كما تقدم.
__________
(1) في الأصل: و.
(2) في الأصل: في اختلاف.

(4/257)


ومما يتصل بالاستهلاك أن من حلق ثلاث شعرات في أمكنةٍ [أو] (1) أزمنة على صفةِ التفرق، فإن كنا نرى أن في كل شعراتٍ ثُلُثَ دم، فلا [تُفيد] (2) هذه المسألة؛ فإن مفرّقها ومجموعها سواء في ذلك، تفريعاً على هذا الوجه.
وإن قلنا: يجب في الشعرة مدٌّ، وفي الشعرتين مدان، وفي الثلاث دم، فلو فرضنا أخذ ثلاث شعرات، على صفة التفرق، فهذا خارجٌ على الأصل الممهد.
فإن قلنا: من حلق رأسه ثلاث دفعات، تعددت الفدية، حملاً للأفعال على التجدد، والاستقلال؛ فإن -على قياس ذلك- كلَّ شعرة منقطعةٌ عن غيرها، ولا يضم بعضها، [إلى البعض] (3) فيجب في كل شعرة مُدّ.
ومن قضى باتحاد الكفارة في حلق الرأس بدفعات، مَصيراً إلى أنها كالحلق الواحد، قال على قياس ذلك، أخذُ الشعرات مجموعٌ، ولو أخذ ثلاث شعرات، وجب فيها دم.
فهذا تمام القول في الاستمتاع، والاستهلاك.
2586 - وإذا اجتمع استمتاع واستهلاك، قطعنا بتعدد الكفارة، لاختلاف الجنس والنوع.
واختلف أصحابنا في صورة واحدةٍ، وهي إذا اجتمع استمتاعٌ واستهلاكٌ بسبب واحد، مثل أن يصيب رأسَ المحرم شَجّةٌ، وتمس الحاجة إلى حلق الرأس من جوانبها، ووضع ضمادٍ عليها، فيه طيبٌ، فهذا إذا تم، حلقٌ وسترٌ واستعمالُ طيبٍ، ولكن السبب المقتضي لها واحد.
فالذي ذهب إليه الأكثرون تعدد الكفارة، للاختلاف.
وذهب بعض الأصحاب إلى الاتحاد في هذه الصورة.
__________
(1) في الأصل: و.
(2) في الأصل: " نُقيِّد " بهذا الضبط. والمثبت من (ط)، (ك). ولعل المعنى: لا تفيد هذه المسألة في التمثيل والترتيب عليها؛ " لأن مفرّقها ومجموعها سواء ".
(3) ساقط من الأصل.

(4/258)


وهذا يوضح ما نبهنا عليه، في تحقيق معنى العذر، في فصل الاستمتاع.
وأما الوطء، فقد اختلف القول في أنه استمتاعٌ، أو استهلاك، على ما سيأتي: فإن جعلناه استمتاعاً، فهو ملحقٌ في الترتيب، بالاستمتاعات. ولو جعلناه استهلاكاً، فهو ملحق بقسم الاستهلاكات المتعلقة [بالبدن] (1).
والذي يجب التفطن له، أن مَن حلق رأسه بثلاث دفعات، على تقطع، فالفقيه يتخيل ذلك مقصوداً واحداً مقطعاً، ولولا هذا، لما كان لذكر الخلاف في اتحاد الكفارة وجهٌ.
والوطء بعد الوطء بخلاف هذا، فكل وطء في حكم مقصودٍ تام، وهذا يوجب التعديد، ولكنه بالاستمتاع أشبه، فإذا قيس عدد الوطء بالحلق المتقطع، اعتدلت المرتبتان.
ولست أستريب في أن الحلق بعد الحلق، مع تحلل (2) النيات، يعدد الكفارة.
وقد نجز الغرض في هذه الفصول.
فصل
قال: " وما شُمَّ من نبات الأرض ... إلى آخره " (3).
2587 - استعمال الطيب من محظورات الإحرام بالإجماع، والحاجّ أشعثُ أغبرُ تَفِلٌ (4)، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في الأصل: بالبذل.
(2) كذا في الأصل بالحاء المهملة، لا احتمال فيها؛ فقد رَسَمَتْ (حاءً) صغيرة تحتها علامةً على الإهمال، وفي (ك) بدون نقط، ولكن احتمال كونها معجمة وارد، ليس هناك ما يمنع منه، وفي (ط) يوجد ظلٌّ باهتٌ لنقطة فوق الحاء. وأياً كانت معجمة أو مهملة فتوجيهها ممكن، لا يحتاج إلى بيان.
(3) ر. المختصر: 2/ 68.
(4) تفل: من باب تعب، فهو تِفل (بفتح وكسر): إذا تغير ريحه، بسبب ترك التطيب والادّهان (مصباح)

(4/259)


والكلام في الفصل يتعلق بثلاثة أشياء: أحدها - فيما يكون طيباًً. والثاني - في كيفية استعمال الطيب. والثالث - في العامد، والناسي، والجاهل.
2588 - فأما القول فيما يكون طيباً، فالمعتبر فيه ما يكون المقصود الأظهرُ منه التطيب، فما كان كذلك، فهو طيبٌ، ولا نظر إلى الرائحة المستطابة.
وما يكون المقصود الأظهر منه الأكل تفكّهاً أو تداوياً، فليس طيباً في غرضنا، فالتفاح، والسفرجل والأُتْرُجّ، والنارَنج، ليست طيباًً، وكذلك القَرَنْفُل والدارصيني، ويستعملان دواء. وهذا هو المقصود الظاهر منهما، والوردُ طيبٌ.
واختلف نصُّ الشافعي في الضَّيْمران (1)، وهو الريحان الفارسي. والظاهر أنه طِيبٌ؛ فإنه المقصود منه، ونصُّ الشافعي في الوجه الآخر لست أرى له وجهاً، إلا بناءَ الشافعي الأمرَ على الظن في قُطرٍ لم يُعهد فيه هذا النوعُ، وفي نصه ما يدل عليه؛ فإنه قال: المقصود من الضَّيْمَران تزيينُ المجالسِ، والدَّسَاتجُ (2) قد تُحَفُّ بالخُضَر تزييناً، والوردُ -في وسطها- الطِّيبُ.
وهذا ظنٌّ منه، فيما لم يَعْهدْه، والمَيْلُ (3) في مثله لا [يخرم] (4) قاعدة المذهب؛ لأن الشافعي لو استبان من الضيمران، ما عرفناه، لما ردّدَ قولَه.
وهذا عندي بمثابة نصٍّ له يخالف نصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان بلغه الخبرُ، فلا شك أنه لو بلغه، لقبله، وقد قال في مواضعَ: " إذا صح عندكم خبرٌ يخالف مذهبي، فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي ".
وتردد نصُّه في البَنَفْسَج.
وذكر العراقيون فيه وفي دهن البَنَفْسَج ثلاثَ طرق: إحداها - طردُ القولين فيهما،
__________
(1) في (ط): الضّميران. وعند النووي: الضمران. (المجموع: 7/ 276).
(2) جمع دَسْتَجة بمعنى الحُزْمَة (معجم الألفاظ الفارسية) والمراد هنا حُزمة الورد، أي باقة الورد، فهي كما وصفها (تُحفّ بالخضر والورد في وسطها).
(3) في الأصل: والمثل. والمثبث من (ط)، (ك) ولعل الصواب غير هذا وذاك، وهو (والظن).
(4) في الأصل، (ك): يحزم. والمثبت من (ط).

(4/260)


والأخرى - القطعُ بأنهما طيب، وهؤلاء حملوا نص الشافعيِّ على البَنَفْسَج المُرَبَّى (1) الذي سقطت رائحته، على ما سنفصل القول في الطيب الذي تسقط رائحته، ويبقى لونُه. والطريقة الثالثة - الفرقُ بين البَنَفْسَج ودهنه، والبَنَفْسَج طيبٌ، ودهنه ليس بطيب؛ فإن البَنَفْسَج يستعمل طيباً، ودهنُه لا يستعمل طيباًً، والوجه عندنا القطع بأن
البَنَفْسَجَ، ودُهنَه طيباًن؛ فإن التفت [الفقيه] (2) إلى ظهور غرض التداوي بالبَنَفْسَجِ، ودُهنِه، دخل عليه الورد.
وكان شيخي يحكي تردُّداً في دهن البَنَفْسَجِ، والقطعَ بأن دهنَ الورد طيبٌ.
ولست أرى لهذا وجهاً؛ فلا فرق بين الدهنين؛ فإن الغالبَ أنهما لا يستعملان لغرض التطيب، ولكن الظاهر وجوب الفدية؛ لاتصال عين الطيب بهما، كما سأمهّد ذلك في الفصل الثاني عند ذكر أكل المحرم الخبيصَ المُزَعْفَر.
2589 - وذكر العراقيون أن الدهن الذي فيه الكلام [هو] (3) الذي يُغلى فيه جِرْمُ البَنَفْسَجِ، والوردِ. فأما إذا ذُرّ البَنَفْسَجُ على السمسم، ثم اعتُصر السمسم، فذلك الدهن ليس طيباً وفاقاً.
هكذا قالوه.
وكان الشيخ أبو محمد يقول: هو (4) الدهن الذي فيه الكلام، وهو أشرف من الدهن الذي يُغلى فيه البَنَفْسَج.
وهذا يتجه من العلم بأن السمسم يتشرب من مائية البنفسج، وهي الطِّيبَة، فيرجع الأمر إلى امتزاج ما طاب من البنفسج، بالسمسم، وليس اكتسابُ السمسم للطيب، من جهة المجاورةِ المحضة.
والزعفرانُ طيبٌ، وإن تُخيّل تجردُ القصد إليه في التداوي، والصبغ.
__________
(1) المربَّى أي المربب بالسكر، كما في المجموع للنووي: 7/ 274.
(2) مزيدة من (ط).
(3) في الأصل: والذي.
(4) هو: ضمير يعود على دهن البنفسج الذي اعتصر مع السمسم. وكأن الشيخ أبا محمد يخالف ما قالوه من أنه ليس طيباً وفاقاً.

(4/261)


وكذلك القول في الورس، وهو من أشهر الطيب، في بلاد اليمن.
2590 - وقد لاح لي في أثناء المسائل، أن القصدَ في الطيب إذا ظهر، كفى، وإن عارضه قصد آخرُ صحيح، ولذلك ينتظم إلحاق الزعفران بالطيب.
وفي النفس من الأُترج والنارَنج شيء؛ فإنَّ قصدَ الأكل، والتداوي ليس بأغلبَ من قصد التطيب، ولكن ما وجدتُه في الطرق إلحاقُهما بالفواكه، وقد يتجه معنى تزيين المجالس بهما. والعلم عند الله.
واتفق الأئمة (1) على أن الشِّيحَ، والقَيْصُومَ، والأزهارَ الطيبة، في البراري، التي لا تُستنبت، ليس طيباً، وإن كان يُعتاد شمُّها، ولا يظهر فيها مقصودٌ آخر.
والقول في ذلك ينقسم، فيغلب في أكثرها معنى التداوي، حتى يلتحقَ بالقَرَنْفُل، والسنبلِ (2) وإن لم يظهر (3)، فيضعف تصوير الطيب به، ولو كان ذلك مقصوداً فيه، لاتخذ قصداً اتخاذَ الورد وغيرِه مما يستنبت.
ونصَّ الشافعيُّ على [أن] (4) دُهن الْبانِ، والْبانَ نفسَه ليسا بطيبين، والأمر على ما قال، فإن قيل: ذُهن البان من أركان الغوالي (5). قلنا: إنما يراد منه سيلان الغالية، ثم تُخيِّر دُهن لا ريح له أصلاً، وهو أبعد الأدهان عن التغير (6).
فهذا قولينا فيما يكون طيباً.
__________
(1) حكى هذا الاتفاق أيضاً النووي في المجموع: 7/ 278.
(2) السنبل: معطوف على القرنفل، كما يفهم من عبارة النووي في المجموع: 7/ 277. ولم يفسّر النووي معنى السنبل، واكتفى بأن عدّده ضمن ما يطلب للتداوي غالباً، وفي المعجم الوسيط: السنبل: الناردين، وهو نباتٌ يستخرج من جذور بعض أنواعه عطرٌ مشهور.
(وانظر القاموس).
(3) المعنى: وإن لم يظهر معنى التداوي، أو (وإن لم يظهر الإلحاق).
(4) سقطت من الأصل.
(5) الغوالي: جمع غالية، نوع من أجود الطيب، الذي يصنع من أكثر من صنف.
(6) المعنى: أن دهن البان هو المادّة التي تمزج فيها أنواع الطيب التي تُصنع منها (الغالية) واختير لذلك لأمرين: أنه لا ريح له أصلاً؛ فلا يؤثر على الأنواع الأخرى، ثم لأنه أبعد الأدهان عن الفساد والتزنُّخ.

(4/262)


2591 - وقد ذكر بعض المصنفين أن من أصحابنا من يعتبر عادات أهل كل ناحية، فيما يُتَّخذُ طيباً، وهذا فاسدٌ يشوش القاعدة.
ولا خلاف أن ما يُطعم في قطر ملتحق بالمطعومات في الربا.
2592 - وأما الكلام في جهةِ استعمال الطيب (1)، فإنا نسوق فيه ترتيباً جامعاً، فنقول: إذا عَبِقَ (2) عينُ الطيب ببدن المحرم، أو ثوبه، فهذا استعمال طيبٍ، سواء كان معتاداً أو لم يكن معتاداً، فلو وطيء المحرم طيباً رطباً، بعقبه، على عمدٍ، استوجب الفدية، وعليه يُخَرّج إيجاب الفدية على المحرم، إذا أكل خبيصاً مزعفراً؛ فإن عينَ الطيب يعبق، بيده. وتعليل ذلك أن عين الطيب إذا اتصلت، وعبقت على أية جهةٍ فُرضت، فيجب على المحرم إزالتُها، كما يجب إزالة النجاسة، على من يحاول الصلاة، وكل اتصال يجب إزالته فاعتماده يوجب الفدية.
فأما إذا انتهت رائحة الطيب إلى المحرم، فيتعين في ذلك اعتبار غلبة الاعتياد، فإذا [تبخّر] (3) المحرم واحتوى بثيابه على المجمرة، فهذا تطيب معتادٌ، موجب للفدية، ولو جلس عند الكعبة وهي تُجَمّر؛ فناله من الريح الطيب، ما ينال معتمد التبخير، فلا فدية؛ فإنه لا يسمى متطيباً، وكذلك لو جلس عند عطار، فعَبِقت به الروائح.
وألحق الأئمة بما ذكرناه أن يُجَمَّرَ بيت فيه قوم، فهم من وجه مقصودون بالعطر، ولكن إذا لم يحتوِ واحد على المجمرة، فلا يُعد متطيباً، ويعد هذا تطييبَ البيت؛ حتى يستروح إليه ساكنوه.
ْوالسر الجامع في ذلك: أن المحرم فيما نظن لم يُمنع من الطيب اضطراراً له إلى احتمال التَّفَل والأذى، ولذلك لم يمنع من الاغتسال وإزالة الوسخ، وإنما المقصود من منعه من الطيب - قطعُ اعتياد التطيب، المُلهي عما يعنيه، ولا يبعد حمل المنع
__________
(1) هذا هو المقصود الثاني من الفصل.
(2) عبق: من باب تعب: علق، وفاحت رائحته. (معجم).
(3) في الأصل، و (ك) تنجز، والمثبت من (ط).

(4/263)


[من] (1) الاصطياد على ذلك، فإذا لم نجد اعتمادَ التطيب على اعتيادٍ في ذلك، لم يلزمه الفدية.
2593 - ولو مس المحرم طيباً يابساً، نُظر: فإن لم تعبَق الرائحة ببدنه (2)، وثوبه، لم تلزمه الفدية، فإن لم تتصل العين به، ولا الرائحةُ، [فلا] (3) يعد (4) ما جاء به اعتماد تطيب.
ولو عبقت الرائحة به بسبب مسه الطيبَ اليابس، ففي وجوب الفدية قولان: أحدهما - لا تجب؛ لأن ذلك ليس استعمال طيب على [الاعتياد] (5). والثاني - تجب؛ فإن تعلق الريح، مع المسيس، كتعلق العين؛ فإن الطيب يُعنَى لريحه.
2594 - فانتظم مما ذكرناه ثلاثةُ أقسام: أحدها - تعلق العين، وهو على كل حال يقتضي الفدية، ولا نظر إلى العادة. والثاني - اتصالُ الريح، من غير اتصالٍ بعين الطيب، فهذا يشترط فيه غلبةُ الاعتياد، كما تفصّل. والثالث - الاتصال بعين الطيب، والعابقُ ريحه لا عينُه، فإن انضم إليه اعتيادٌ غالبٌ، فلا شك أنه من موجبات الفدية؛ فإنه فوق التسبب إلى الريح المحضة.
وإن لم يثبت اعتيادٌ، وعبقت الرائحة، فعلى قولين. وإن لم تكن رائحةٌ، فلا بأس. ولو احتفَّ بالمحرم أجرَام الطيب، وكان قصدَ جمعَها استرواحاً إلى روائحها، ولا (6) مسيس، فلا فدية، وليس كالتبخر؛ فإنه يكاد أن يكون اتصالاً بعين الطيب، فإن بخار البخور عينُه.
فليفهم الفاهم هذه المراتب.
فرع:
2595 - قال الأصحاب: إذا شدَّ المحرم مسكاً، على طرف ثوبه، فهذا
__________
(1) في الأصل: على. والمثبت من (ط)، (ك).
(2) (ط): بيديه.
(3) في النسخ الثلاث: ولا.
(4) (ك): يعتد.
(5) في الأصل: الاعتماد.
(6) في الأصل: فلا مسيس، ولا فدية.

(4/264)


مسُّ طيب بالثوب، يعبَق منه الريح، وهو معتاد، فتجب الفدية، لاجتماع هذه الأسباب.
ولو شد عوداً، فهذا غيرُ معتاد، فإن كان يعبَق ريحه بالثوب، فهذا على القولين؛ إذ لا [اعتياد] (1)، والريح عابقةٌ.
ولو حمل المحرم [قارورة مسك مصمّمَ (2) الرأس، فلا فدية. ولو حمل] (3) فأرةَ (4) مسك، لم تشق، ففيه تردُّد للأصحاب: منهم من قال: هو كحمل القارورة، فإن جِرْم الفأرة ليس بطيب، وإنما الطيب المسك. وقال قائلون: حملُه استعمال طيب.
وفي المسألة احتمال، والأغلب أن لا فدية، إذا لم يكن في الفأرة شق، وقطع الصيدلاني بوجوب الفدية.
فرع:
2596 - إذا كان على الثوب عينُ طيبٍ، قد زالت رائحته، فإن كانت بحيث لو رشت بالماء، عادت الرائحة، فهي طيبٌ، ولا نظر إلى ركود الريح في الحال.
وإن كانت الريح لا تعود، فقد ذكر الأئمة وجهين، في أن بقاء لون الطيب مع سقوط الرائحة والطعم هل يُبقي حكمَ الطيب؟ وهذا تلقَّوْه من تردّدِ (5) النص في شيء يدل على اعتبار اللون.
والذي أراه القطعُ [بأنه] (6) غير معتبر، فإن صح للشافعي في ذلك نصّ، فلعله استدل ببقاء اللون، على كمون الرائحة، وتوقّع ثورانها، إذا رش بالماء. والطعم المجرد لم يعتبره أحد.
وقال العراقيون: " إذا بقي الطعم، واللون، نقطع بكونه طيباً، وإن سقطت الرائحةُ ". وليس الأمر كذلك عندنا. والطعم مع اللون، كاللون المجرد.
__________
(1) في الأصل: اعتبار.
(2) الصمام: السداد.
(3) ساقط من الأصل ومن (ك).
(4) فأرة المسك: كيسها الذي يتكون فيه المسك، وهو غدة في بعض أنواع الغزلان.
(5) في (ط): ترديد.
(6) في الأصل: فإنه.

(4/265)


2597 - وتمام البيان في ذلك: أن المقدار القليل من الطيب، لو غمره مقدارٌ كثير، مما ليس طيباً، فاستعمل المحرم منه، ما يستيقن أنه يشتمل على جِرم الطيب، فللأصحاب في هذا تردُّدٌ: فاعتبر بعضهم استيقان اتصال الطيب، وهو محقَّقٌ، والرائحةُ غير زائلةٍ، ولكنها مغمورة، والمغمورُ كالكائن الظاهر؛ ولهذا قال الأصحاب: إذا تغيرت رائحة الماء الكثير بالنجاسة، وحكم بنجاسته لذلك، فلو طُرح في الماء كافور، فغمر رائحة النجاسة، فالماءُ محكوم بنجاسته.
وقال بعضهم: لا يثبت حكم التطيب؛ إذ لا رائحة.
والمسألة فيه إذا كانت [الرائحة] (1) لا تثور بعلاجٍ، لقوّة الغَمر، ثم إن هؤلاء قالوا: لو انغمرت الرائحة وبقي الطعم [أو] (2) اللون، فالأمر محتملٌ.
الظاهرُ (3) أن استعماله تطيب، ولهذا قال الشافعي: إن كان الخبيص بحيث يصبغ اللسانَ، تعلّق وجوبُ الفدية بتعاطيه، وإن زالت رائحة الزعفران.
وقال بعض الأصحاب: الرائحة هي المعنية، وحقٌّ على الناظر، أن يميز بين ما يجري بسبب الانغمار، وبين أن يمّحق ريح الطيب مع بقاء جِرمه.
ولم أر أحداً من الأصحاب يفصّل بين القليل من الطيب والكثير، فَصْلَهم في النجاسات، ولعمري لا فَصْلَ؛ فإن المعتمدَ في النجاسات تعذُّر الاحتراز، وتيسره، ولا جريان له في الطيب. وليت شعري ماذا نقول فيما لا يدركه الطرف من الطيب؟ والعلم عند الله تعالى فيه.
2598 - فأما المقصود الثالث - وهو الكلام في العمد، والنسيان: فإذا تطيب المحرم ناسياً إحرامَه، لم يلتزم الفديةَ عندنا، قياساً على أكل الصائم ناسياً، وكلام المصلّي كذلك، خلافاً لأبي حنيفة (4).
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: " و ".
(3) كذا. وهو استعمالٌ صحيح (بدون واو).
(4) ر. بدائع الصنائع: 2/ 192، حاشية ابن عابدين: 2/ 200، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 198 مسألة: 661.

(4/266)


وهذا يطرد في كل ما هو استمتاعٌ من المحظورات.
فأما قتل الصيد، والحلق، والقَلْم، فظاهر المذهب أن صَدَرَ (1) هذه الأشياء من الناسي في إيجاب الفدية كصدَرِها من العامد؛ نظراً إلى الإتلافات. ونصَّ الشافعيُّ في المغمى عليه إذا حلق شعره [أنه] (2) لا تتعلق الفدية بما جرى في حالة الإغماء، وإن كان الحلق ملتحقاً بالإتلافات، فأثبت أصحابنا قولاً في المسألة، في الاستهلاكات.
وحكى شيخي أبو محمد قولين في الصيد أيضاًً.
وخرج من الترتيب أن الاستمتاع المحض يفصّل بين الناسي والعامد، وفي الاستهلاكات قولان: أظهرهما - أن لا فرقَ، وكنت أودّ لو فصل فاصل بين قتل الصيد، وبين الحلق، والقَلْم، فإنا وإن عددنا الحلق، والقَلْم، من الإتلافات، ففرض الاستمتاع فيهما غالب. وأمَّا موجَبُ الصيد قيمةُ (3) متلَف، والذي يؤلف بينهما، أن تلك القيمة شرعية، وإلا فالصيد المباح لا قيمةَ له.
فهذا قولينا في الناسي.
2599 - فأما الجاهل، فأهم ما فيه تصويره، فمن جهل كونَ استعمال الطيب محرماً في الشرع، فهو كالناسي في حكمه، وهذا قولينا في الصوم، والصلاة. ومن علم تحريم الاستعمال، وجهل وجوبَ الفدية، أعلمناه أن الفديةَ تجب عليه، ومن علم تحريمَ الطيب، وجهل كون الشيء طيباً، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من لم يوجب الفدية، ومنهم من أوجبها. ولو علم أن الممسوس طيبٌ، ولكنه حسبه يابساً، لا تعبَق منه رائحة، فإذا هو رطب، فالأصح وجوب الفدية.
فرع:
2600 - إذا اتصلت عينُ الطيب، ببدن المحرم، على وجهٍ لا يلزمه بذلك الاتصال فدية، فيتعين عليه السعي في إزالتها، وقد لا يتأتى له السعي دون ممارسة
__________
(1) سبق التنبيه أكثر من مرة إلى أنها بمعنى (صُدور). وهو استعمال مألوف في كتب الأقدمين، من الفقهاء وغيرهم، فأنت تراه عند الإمام عبد القاهر الجرجاني في (دلائل الإعجاز)، كما تراه عند السرخسي، في (المبسوط)، وعند ابن هُبَيْرة في (الإفصاح). وغيرهم كثير.
(2) في الأصل: أن لا.
(3) كذا في جواب أما بدون الفاء، وهي لغة الكوفيين، وعليها جرى إمام الحرمين كثيراً.

(4/267)


الطيب، فليفعل ذلك؛ فإنه في حكم المزيل التارك، وليقتصر على قدر الحاجة، في الممارسة.
ولو كان محدثاً، ومعه من الماء، ما يكفيه لوضوئه، وعليه طيبٌ، يتعين عليه إزالته، ولو استعمل الماء فيه، لم يبق ما يتوضأ به، فإن أمكنه رفْعُ الطيب من غير غَسْل، فليفعل، وليتوضأ. فإن لم يتمكن من إزالة الطيب، إلا بجهة الغَسل، فغسلُ الطيب مقدم على الوضوء، كما نقدم غسل [النجاسة] (1) عليه؛ لأن الوضوء ذو بدل، وإزالة الطيب لا بدل لها، وكذلك إزالة النجاسة، لا بدل لها.
وإن كان يتأتى منه الوضوء، وجَمْعُ الغُسالة في موضعٍ، فإنه يستعملها في إزالة الطيب، فقد ذكر العراقيون أن هذا هو الوجه. وللفقيه فضلُ نظر في تأخير إزالة الطيب؛ فإن ابتدار إزالته حتمٌ، ولكن قد نظن أن هذا التأخيرَ محتملٌ لتحصيل رفع الحدث.
فرع:
2601 - إذا طيب الرجل فِراشه، وجلس عليه، فلقيه بدنُه، أو ثوبه، فهذا من استعمال الطيب، وهو معتاد للمترفهين في الغِطاء، والوِطاء. وإن فرش فوقَ الفراش المطيّب ثوباً صفيقاً، يحول بينه وبين الريح، جاز، ولا يكون مستعملاً للطيب. ولو كان الثوب رقيقاً لا يحجز رائحة الطيب، قال العراقيون: لا فدية، ويكرَه له ذلك. وما ذكروه ظاهر، وفي وجوب الفدية احتمال بعيد.
فصل
2602 - المحرم ممنوعٌ من ترجيل شعر الرأس واللحية بالدُّهن؛ فإن الترجيل يضادّ الشّعَث، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشعث والتَّفَل في نعت المحرم، في قَرَن؛ إذ قال: " الحاج أشعثُ أغبر تفِل " (2) والتَفَل ضد العطر.
فإن قيل: ذكر الأغبرَ، ولا حرج على المحرم في إزالة الغبار، والأوضار. قلنا:
__________
(1) في الأصل: الجنابة.
(2) حديث: " الحاج أشعث أغبر " رواه الترمذي، وابن ماجة، والبيهقي عن ابن عمر (الترمذي: تفسير القرآن، باب (4) ح 2998، ابن ماجة: المناسك، باب ما يوجب الحج، ح 2896، البيهقي: 4/ 33، 5/ 58).

(4/268)


الغبر، والشعث، من نعت الشعر، والماء لا يزيل -فيما قيل- شعث الشعر وغبرَه، بل قد يزيده في ذلك.
واستعمال الدُّهن في غير شعر اللحية والرأس لا بأس به، إلا أن يكون مطيّباً، فيدخل استعماله في استعمال الطيب إذاً.
وذكر العراقيون: أنه لا يمتنع غسل شعر الرأس واللحية، بالسِّدْر والخِطميّ (1)، وكل غاسول يستعمل في الشعر، وما ذكروه قياساً.
والترجيل المحرَّم الموجب للفدية يختص بالدهن، ولعلّ تزيين الشعر، وتنميتَه بالدهن، في الاعتقاد، واستعمالُ ما عداه من الغاسولات - طردٌ (2) للأوساخ، فكان كاستعمال ما يطرد الصّنان، والأنتان، والترجيلُ كاستعمال الطيب.
ولو دهن رأسه وهو أقرع لا يتوقع له نبات شعر، فلا بأس. فأما إذا كان (3) محلوق الرأس، فاستعمل الدّهن، ففي المسألة وجهان: أظهرهما في القياس- أنه لا يلزمه الفدية؛ فإنه لم يستعمل الدهن في شعر. والثاني - يلزمه الفدية؛ فإنه تنمية للشعور، ومنابتها.
فصل
قال: " وإن حلق شعره، فعليه فديةٌ ... الفصل إلى آخره " (4).
2603 - حَلْقُ الشعر قبل أوان التحلل من محظورات النسك، والفديةُ الكاملة.
تتعلق بالأخذ من ثلاث شعرات؛ فإن لفظ الشارع ورد بحلق الشعر، وهو جمع، والواحد منه شعرة. ثم لو زاد عليها، فاستوعب شعرَ الرأس، أو شعرَ (5) البدن، فقد مضى التفصيل فيه.
__________
(1) الخطمي: بكسر الخاء والياء مشدّدة، ويجوز فتح الخاء (مصباح).
(2) طردٌ: خبر استعمال.
(3) هنا خلل آخر في ترتيب صفحات نسخة (ك)، إذ تقفز عائدة من هنا (آخر ص 155) إلى أول ص (107).
(4) ر. المختصر: 2/ 70.
(5) (ط): وشعر.

(4/269)


وفي بعض التصانيف: في الأخذ من ثلاثة مواضعَ مختلفةٍ، على البدن= وجهان، مع اتحاد المكان، وتواصل الزمان. وهذا بعيد. والوجه القطع بأن الشعرات المأخوذة من عضو واحد [و] (1) من أعضاءَ على وتيرة واحدة، إذا لم يتعدد المكان، ولم يتقطع الزمان.
وإذا أخذ شعرةً واحدةً، ففي الواجب ثلاثةُ أقوال مشهورة: أقيسها - أن الواجب فيها ثُلثُ الدم، وفي الشعرتين الثلثان، وفي الثلاث، فصاعداً دمٌ كاملٌ.
والقول الثاني - أنه يتعلق بالشعرة مدٌّ. وبالشعرتين مدان، وهذا معتضدٌ بآثار السلف، وهو مرجوعٌ إليه، في مواضعَ من الشريعة؛ فإن اليوم الواحد من صوم رمضان مقابَلٌ بمُد، كما تقدم.
والقول الثالث - أنه يجب في الشعرة درهمٌ، وفي الشعرتين درهمان. وحكاه الشافعي عن عطاء مستأنساً بمذهبه. ولست أرى له وجهاً، إلا تحسينَ الاعتقاد في عطاء، وأنه لا يقول مثلَ ذلك إلاّ [عن] (2) ثَبَت، وهو أجل علماء التابعين.
وذكر صاحب التقريب في كتابه قولاً غريباً: إنه يجب في الشعرة دمٌ كامل، وهذا وإن كان ينقدح توجيهه، فلست أعدّه من المذهب.
والقول في الأظفار كالقول في الشعور.
وما ذكرناه من الأقوال قد يجري في الحصاة من الجمرات، والليلةِ تُترك من المبيت، ولكن يقع في تلك الفنون ضروبٌ من الكلام، ستأتي في مواضعها.
والحلق بمثابة القص. والتقصيرُ، والنتفُ، بمثابتهما. وكذلك الإحراق.
فرع:
2604 - إذا نبتت شعرةٌ أو شعراتٌ من داخل الجَفن، وظهر التأذي بها، أو انكسر ظُفرٌ، وكان يتضرر المحرم به، فالذي ذكره الأئمة، أنه لا ضمان على المحرم بأخذها؛ فإنها مؤذيةٌ في عينها، فكانت كالصيد يصول على المحرم.
__________
(1) سافطة من الأصل وحدها.
(2) ساقطة من الأصل.

(4/270)


وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص طريقين: أحدهما - ما [ذكرناه] (1)، والأخرى: تخريج الضمان على وجهين مبنيين على أن الجراد إذا عمّ المسالك، ولم (2) يجد المحرمون خلاصاً من وطئها بالأقدام، فهل يضمنون ما يَتلف منها؟ في المسألة قولان. [و] (3) هذا على قربه في المأخذ، بعيدٌ في الحكاية.
فإن قيل: إذا تأذى المحرم بشعر رأسه، وكثرة الهوام، فالتأذي متعلّق بالشعر، ويجب الضمان، وقد روي أن كعبَ بنَ عُجرة، كان يطبخ شيئاً، والهوائمُّ تنتثر من رأسه، فمرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال، أتؤذيك هوامُّ رأسك؟ فقال: نعم، فقال: " فاحلق وانسُك بدم، أو صم ثلاثةَ أيام، أو تصدق بفَرَقٍ من الطعام، على ستة مساكين " (4).
قلنا: التأذي بالوسخ، لا بالشعر، بخلاف ما نحن فيه.
فليفهم الناظر ثلاثَ مراتب، فيما نحاول إحداها - أن يصول الصيد، فيقتله المحرم، دفعاً، فلا ضمان؛ فإن السبب المسلِّط على القتل صدَر من الصيد.
المرتبة الثانية - في ركوب الجراد قوارعَ الطريق، فلا محيص من إهلاكها، وليس ركوبُها الطريق كصيال الصيد؛ فاختلف القول في ذلك. وفي التحاق الشعرة النابتة من داخل الجفن، والظُّفرة المنكسرة ما قدمناه.
والمرتبة الثالثة - في التأذي بالوسخ، والهوام، والشعرُ من أسبابها، فالفدية تجب بأخذ الشعر، بدليل الخبر، والإجماع.
ولا يخفى انفصال هذه المرتبة عما تقدم.
__________
(1) في الأصل: ذكره.
(2) (ط): لم (بدون واو).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) حديث كعب بن عجرة متفق عليه (ر. البخاري: المحصر، باب قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ح 1814، مسلم: الحج، باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى، ح 1201).

(4/271)


فصلٌ من ذلك
2605 - كفارةُ الحلق، والقَلْم مخيّرةٌ مقدّرةٌ، فيجب على من التزم الفديةَ الكاملةَ دمُ شاةٍ، أو صومُ ثلاثةِ أيام، أو التصدق بفَرَق من طعام، على ستةِ من المساكين، والفرَقُ ثلاثة آصع، فيصرف إلى كل مسكين نصف صاع، وهذا عديم [النظير] (1) في تعديل الكفارات، ومقابلة الصيام بالإطعام؛ فإن اليوم الواحد مقابَلٌ بمد، والمتبع في التقديرات التوقيفُ.
ولما ثبتت هذه الخصال على التخيير، كانت كلُّ خَصْلة مستقلةٍ بنفسها، لا تقدّر مقابلتها بالأخرى، كخلال كفارة اليمين.
ثم صوم الثلاثة الأيام في كفارة اليمين لا يناسب الإطعام؛ من حيث إنها ليست مختصة بمناسبة الطعام.
ثم الكفارة على التخيير عندنا، سواء كان الحالق معذوراً، في حلقه، أو عاصياً.
وأبو حنيفة (2) يرتب الكفارة على العاصي بالحلق، فيقدم الدمَ، ويرتب عليه الإطعام، ويؤخر الصيام. والغرض من هذا أن الصوم لا يناسب الطعام في مذهبٍ من المذاهب.
فصل
2606 - المحرم إذا حلق شعر الحلال، فلا بأس عليه، وأَخْذُه من شعر الحلال، بمثابة أخذه من شعر البهائم.
وأبو حنيفة (3) قدّر شعر الحلال كالصيد، وحكم بأنه يَحْرمُ على المحرم تعاطي
__________
(1) في الأصل: النظر. وقد فسر انعدام النظير بأن اليوم الواحد يقابلُ بمُدٍّ، وهنا مقابل بصاع، والصاع أربعة أمداد عند أهل الحجاز، ومدّان وثلثاً مُد عند أهل العراق. (المصباح).
(2) ر. المبسوط: 4/ 73، البدائع: 2/ 187، 192، حاشية ابن عابدين: 2/ 210، مختصر الطحاوي: 69.
(3) ر. الأصل: 2/ 361، المبسوط: 4/ 72، مختصر الطحاوي: 70، البدائع: 2/ 193، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 200 مسألة 164.

(4/272)


جنسَ الشعر، ثم لم يطرد هذا المذهبَ الفاسدَ، فلم يوجب فديةً كاملة، واكتفى بإيجاب صدقةٍ.
2607 - فأما الحلال إذا حلق شعر الحرام، فإن كان بأمرٍ منه، فالضمان وجوباً، وقراراً على المحرم، المحلوقِ، ولا شك أن الحلال يعصي بالإقدام على حلقه، ولا يقصُر فعله عن الإعانة على معصية.
ولو حلق الحلال رأسَ المحرم، والمحرم مكرَهٌ، أو نائمٌ، أو مجنون، فالفدية تجب.
وقد اضطربت مسالك الأئمة، ونحن نذكر ترتيباً يجمعها، فنقول: في المسألة قولان: أحدهما - أنها تجب على الحلال، ولا يلقى الوجوبُ المحرِمَ. والقول الثاني - أن الوجوب يلقى المحرمَ، وعلى الحلال التحمّلُ عنه.
ولم تختلف الأئمة في إيجاب الفدية، وإن لم يكن الحالق محرماً. وأقربُ مسلكٍ في هذا تشبيهُ شعر المحرم في حق الحلال بصيدِ الحرم، وشجره.
ثم إن قلنا: الوجوب لا يلقى المحرم، وإنما ابتداؤه، وقراره، على المُحل، فقد وجدتُ الطرق متفقةً على هذا القول في أن المحرمَ يطالِب المحلَّ بإخراج الفدية، وهذا مشكلٌ في المعنى، والتعويلُ على النقل.
وإن قلنا: الوجوب على الحلال، فيصوم أو يطعم، أو ينسك بالدم، والخِيَرةُ إليه.
وإن قلنا: يتحمل، فلا يتصور أن يصوم، فإن الصوم لا يدخله التحمل.
ثم في ذلك وقفةٌ عندي؛ فإنه لا يمكننا أن نلزم المحرمَ أن يصوم، والكفارة على التخيير، ويبعد أن يعيّن الدمُ، والطعام، في حق الحلال. والوجه أن نقول: إن صام المحرم برئ الحلال عن العهدة، وإن أطعم، رجع به على الحلال.
وما ذكرناه من الملاقاة، والتحمل في ذلك، ليس على قياس ما ذكرناه في كفارة الوقاع في رمضان؛ فإن ذلك تقديرٌ محض، ولا تراجع، والأمر هاهنا بخلاف ذلك؛ فإن الحالق الحلال ليس خائضاً في إحرام.

(4/273)


2608 - ولو حلق الحلال شعر الحرام، وهو ساكتٌ، لا ينهى، ولا يأمر، مع القدرة، ففي المسألة وجهان - أحدهما - أن التفصيل فيه كالتفصيل في الآذن في الحلاق. والوجه الثاني - أن هذه الصورة ملحقةٌ بصورة المكرَه، والنائم.
فرع:
2609 - لو قطع المحرم من نفسه عضواً عليه شعر، فلا يلتزم الفدية وفاقاً؛ لأنه لم يتعرض للشعر مقصوداً، وكذلك لو قشط جلدة الرأس، وإن قربت من الشعر، فالجواب كما ذكرناه.
فرع:
2610 - إذا امتشط المحرم، فسقطت منه شعرات، فإن علم أنه ناتِفُها، فدَى، وإن علم أنها كانت انتتفت، وانسلّت، فلا ضمان، وإن أشكل عليه الأمر، فقد ذكر شيخي قولين في المسألة: أحدهما - وهو القياس، أنه لا ضمان؛ فإنه لم يستيقن موجَب الفدية. والثاني - يلزمه الفدية، ويضاف الانتتاف إلى الفعل الذي صدر منه، وهو الامتشاط؛ فإن من ضرب بطن امرأة فَأَجْهَضَتْ جنيناً، وجب الضمان، على الجاني، وإن كنا نجوز كون الاجهاض من سبب آخر.
فرع:
2611 - كان شيخي يقول: الأولى للمحرم ألا يفلي رأسه، ولا ينحِّي هوامَّها استدامةً للشعث. وهذا لم يذكره غيرُه، ولكنه اعتضد بنصّ الشافعي، وذلك أنه قال: " لو نحاها، تصدّق بشيء "، ثم قال: " ولا أدري من أين قلتُ ما قلتُ ".
وهذا محسوب على الشافعي في مضاهاة استحسان أبي حنيفة.
وحكى شيخي وجهين في أن التصدق هل يجب؟ ولا يُظن بالشافعي إيجاب الصدقة، وإنما الذي ذكره استحبابٌ، على بعدٍ، مع اعترافه بأنه لا أصل له.
ولست أرى ذلك متهيئاً أيضاًً، فليس في النص منعٌ [من] (1) ذلك.
فرع:
2612 - قال شيخي: اختلف نصّ الشافعي في أنه [هل] (2) يكره للمحرم الاغتسال؟ فالذي نص عليه في الجديد أنه لا يكره، لما رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لعائشة: " اغتسلي، وامتشطي، وافعلي ما يفعل الحاج، غيرَ أن
__________
(1) في الأصل: مع.
(2) ساقطة من الأصل.

(4/274)


لا تطوفي بالبيت " (1) وروي أن ابن عباس والمِشوَرَ بنَ مَخْرَمة، اختلفا في جواز الاغتسال للمحرم، فبعثا إلى أبي أيوبٍ الأنصاري، رضي الله عنهم فوجده الرسول وهو يغتسل محرماً، فأدّى الرسالة، فطأطأ أبو أيوب الثوب الذي هو يتستر به، ثم قال الذي يصب الماء: صبّه، فصبه، فقال: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يغتسل، وهو محرم " (2) ودخل ابنُ عباسٍ حمامَ الجحفة، وقال: " ما يعبأ الله بأوساخكم شيئاً " (3).
وقال (4): نص في القديم أن ذلك يُكره إلا عند حاجةٍ ماسة.
2613 - ثم قال الشافعي: " ولا بأس بالكحل، ما لم يكن فيه طيبٌ " (5). والأمر على ما ذكر، فلا مانع منه.
2614 - وذكرَ امتناعَ النكاح، والإنكاح على المحرم، وسيأتي ذلك في كتاب النكاح.
2615 - ثم قال: " ويلبس المحرم المِنْطقةَ والهِمْيانَ " (6)، والأمر على ما قال، فليست المنطقةُ ملبوساً مخيطاً، ولا ملتحقاً بالملابس المخيطة.
...
__________
(1) حديث: " اغتسلي ... " متفق عليه من حديث عائشة، وله ألفاظ. ومن حديث جابر. (ر. البخاري: الحيض، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ح 305 وله أطراف كثيرة، مسلم: الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح 1211).
(2) أثر اختلاف ابن عباس، والمِسْوَر بن مخرمة متفق عليه من حديث أبي أيوب الأنصاري (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 36 ص 752).
(3) أثر ابن عباس، رواه الشافعي في الأم: (2/ 205) والمختصر: 2/ 73، والبيهقي: (5/ 63)، وانظر التلخيص: 2/ 538.
(4) القائل شيخه الذي يحكي الفرع كله عنه.
(5) ر. المختصر: 2/ 71
(6) ر. مختصر المزني: 2/ 73، والمِنطقة والهِمْيان، المنطقة: سيرٌ يشد على الوسط، كالحزام، ونحوه. والهميان: كيس تجعل فيه النفقة، ويشد على الوسط، فارسي معرّب (مصباح).

(4/275)


باب دخول مكة
قال الشافعي: " وأحب للمحرم أن يغتسل من ذي طِوى ... إلى آخره " (1)
2616 - صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، اغتسل لدخول مكة، [وثبت أنه اغتسل] (2) بذي طِوى، وأمر الناس بالغسل. وعنده أمر أسماء بالاغتسال، وكانت حائضاً.
ثم دخل مكة من ثَنِيَّة كَداء (3) بفتح الكاف، وهي ثَنِيّةٌ في أعلى مكة، وخرج من ثنية كُديّ (4)، بضم الكاف، وهي ثنيةٌ في أسفل مكة، وكان ذلك عامَ الوداع.
ثم دخل صلى الله عليه وسلم المسجد، من باب بني شيبة، وهو في جهة باب الكعبة، في زاوية المسجد، فقال الأصحاب: أما الدخول من باب بني شيبة، فمستحب، لكل قادم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل منه، وتابعه أصحابه، ولم يكن ذلك البابُ على صوب المدينة، ونحوها، فعُلم من عدول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه = قصدُه تخيّرَ ذلك الباب. ولعل السبب فيه أنه من جهة باب الكعبة والركن الأسود.
ثم قال الأئمة: الدخول من ثنية كَدَاء لا نرى فيه نُسكاً، وذكر الصيدلاني أنها على طريق المدينة، فيحمل الدخول منها على ترتيب الممر، وقد قال شيخي: يستحب الدخول من هذه الثنية، فإن كانت على ممر العادة، فذاك، والأحسنُ الميل إليها
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 73.
(2) ساقط من الأصل.
(3) كداء: بالمدّ، وفتح الكاف، الثنية العليا، بأعلى مكة، وتسمّى المَعْلَى (بفتح الميم) (مصباح).
(4) كُديّ: بالتصغير.

(4/276)


تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال (1): هذه الثَّنِيَّة ليست على طريق المدينة، بل هي على طريق المَعْلى، وهو في أعلى مكة، والمرور فيه يُفضي إلى باب (2) بني شيبة، ورأس الرَّدْم (3)، وطريق المدينة يفضي إلى باب إبراهيم، وهما متقابلان (4) قريبان من التسامت في المقابلة. والحقُّ ما ذكره الشيخ.
ولكن الوجه عندي ألا نرى الدخول من هذه الثنية نسكاً؛ فإن الممر، والمسلك، قبل الانتهاء إلى المسجد، لا يتضح تعلُّقُ النسك به، ويمكن أن يحمل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، على غرضٍ، أو على سبب يتعلق بالعبادة، لم يعتن الرواة بنقله، والشاهد فيه توفر الدواعي على اختيار الدخول من باب بني شيبة من الحجيج كافة، ولا يتعرض لهذه (5) الثنية أحد. فما قال شيخي في وضع الثنية صحيح، وقول الصيدلاني خطأ فيه، وما ذكره الإمام (6) من تعلّق النّسك بالدخول من هذه الثنية لا أرى له وجهاً.
2617 - ثم إذا دخل الرجل مكة من أعلاها، فأول ما يقع بصرُه على الكعبة من موضعٍ يقال له رأس الردم، فيؤثر أن يقف عنده، ويقول: " اللهم زد هذا البيت تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً (7 ومهابة، وزد من شرفه، أو عظّمه، ممن حجه أو اعتمره، تشريفاً، وتعظيماً، وتكريماً 7) وبِرّاً " (8) هكذا الرواية.
__________
(1) (ط): فقال.
(2) (ط): ديار.
(3) الردم المراد هنا هو موضع بمكة يقال له (ردم بني جُمح) (معجم البلدان: 3/ 40، ومعجم ما اسثعجم للبكري: 2/ 649) ورأس الردم طرفه، فليس هناك موضع اسمه رأس الردم في الكتابين.
(4) (ط): متعارضان.
(5) خلل آخر في ترتيب نسخة (ك) حيث قفزت من هنا (ص 110) إلى أول (ص 126).
(6) يقصد والده، وهو الذي عبر عنه (شيخي) آنفاً.
(7) ساقطة من (ك) ما بين القوسين.
(8) خبر الدعاء عند رؤية البيت، رواه الشافعي عن ابن جريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معضل، وذكر له البيهقي شاهداً مرسلاً، وقد أعلّه الحافظ، ورواه الطبراني في الكبير، وسعيد بن منصور، ولم يخل حديثهما من علة أيضاً (ر. الأم: 2/ 169، البيهقي: =

(4/277)


والمزني ذكر مكان البر المهابة (1)، والمهابة، في الحديث في ذكر البيت، لا في ذكر زائريه، فما ذكره المزني مأخوذٌ عليه. قال سعيد بنُ المسيب: " سمعت من عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه كلمةً، يقولها لما رأى البيت، لم يسمعها غيري، وذلك أنه قال: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، فَحَيِّنا ربَّنا بالسلام " (2).
ثم يدعوا بما عنّ له من مآرب الدّين والدنيا، في رضا الله تعالى، وأهمها سؤالُ المغفرة. ثم يدخل من باب بني شيبة، ويؤم البيت، والركن الأسود منه، ويبتدىء الطواف.
ونحن نرى أن نعقد فصلاً جامعاً، في الطوافِ، وشرائطِه، وسننِه، وما يتعلق به من آدابه.
فصل
2618 - الطواف بالبيت ركن، من الحج، والعمرة، والوجه أن نصفه على الجملة، ثم نفصّل القول في شرائطه، وما يقع منه موقع الركن، ثم نذكر طرفاً كافياً في آدابه.
فيدخل المحرم من باب بني شيبة كما ذكرنا، ويدنو من الحجر الأسود، وهذا الركن والباب، في صوب المشرق، فليعلمه من لم يره، فيتقدم إلى الَركن الأسود، ويستلمه، كما سنصفه -إن شاء الله تعالى- ويجعل البيت على يساره، فيمر بعد محاذاة الركن الأسود بالباب، ثم ينتهي إلى الحِجْر، وهو محوط على صورة نصف دائرة، فلا يتخطاه، ولا يدخله، ويحوط مستديراً عليه دائراً، حتى ينتهي إلى ركن الحجر الأسود، الذي منه بدأ، وهذا يسمى شوطاً واحداً. ثم يُتبع الشوطَ الشوطَ، حتى يستكمل سبعة أشواط [للطواف] (3).
__________
=5/ 73، الطبراني: 3/ 181 ح 3053، التلخيص: 2/ 461).
(1) ر. المختصر: 2/ 74.
(2) أثر سعيد بن المسيب. رواه البيهقي: (5/ 73) وقد رواه الشافعي عن سعيد من قوله (الأم: 2/ 169). وانظر التلخيص: 2/ 462.
(3) ساقط من الأصل.

(4/278)


2619 - ثم للطواف شرائط، ونحن نصفها شرطاًً، شرطاً، فمنها: طهارةُ الحدث، فلا يصح الطواف، ولا يعتد به إذا كان الطائف محدثاً، خلافاً لأبي حنيفة (1)، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام " (2).
ثم كما نشترط الطهارةَ عن الحدث، نشترط طهارةَ البدن، والثياب. والمدارُ الذي يدور عليه في المطاف، فالطواف في الطهارتين يحل محل الصلاة، باتفاق الأصحاب.
والستر مشروط فيه حسب ما يشترط في الصلاة.
واستقبال القبلة عند التمكن شرطُ الصلاة، والقرب من البيت في الطواف على الهيئة التي سنوضحها يحل محل الاستقبال في الصلاة.
هذا قولينا في الشرائط
2620 - وذكر الأئمة أحكاماً سمَّوها أركان الطواف، ولا معاب على من يسميها شرائطَ، ولكنها من حيث تعلقت بكيفياتٍ في [الطواف] (3)، وقع التعبير عنها بأركان الطواف. ونحن نعدُّها فنقول:
مما يرعى في الطواف، والاعتداد به الترتيبُ، وهذا ينطوى على معنيين: أحدهما - أن البيت يجب أن يكون على يسار الطائف، فلو أوقعه على يمينه في طوافه يسمى
__________
(1) الذي عند الأحناف أنه يصح؛ لكن عليه دم (ر. المبسوط: 4/ 37، البدائع: 2/ 129، مفتقى الأبحر: 1/ 294، اللباب: 1/ 207).
(2) حديث: الطواف بالبيت صلاة، روي عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً. قال ابن الصلاح: " والموقوف أصح "، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي، وبمعناه الترمذي والنسائي (ر. مستدرك الحاكم: 1/ 459، الترمذي: الحج، باب ما جاء في الكلام في الطواف، ح 960، النسائي: مناسك الحج، باب إباحة الكلام في الطواف، ح 2922، 2923، مشكل الوسيط لابن الصلاح (بهامش الوسيط): 2/ 642).
(3) في الأصل: الصلاة.

(4/279)


الطواف منكساً، ولا يُعتد به أصلاً. هذا أحد معنيي الترتيب. والمعنى الآخر - أن البداية تكون بالحجر الأسود، حتى لو وقعت البداية بمكانٍ آخر من البيت، لم يعتد بشيء مما جرى، حتى ينتهي الطائف إلى محاذاة الحجر الأسود، فذاك أول طوافه.
وهو كالمتوضئ يقدِّم غسل رجليه، فلا يعتد به، فإذا غسل وجهه، قيل: هذا أول وضوئه.
ومما يتعلق بهذا الفن أن يكون الطائف خارج البيت، ويكون تَدْوارُه وراء منقطع البيت من الأقطار (1).
2621 - ولا نجد الآن بداً من كلامٍ وجيز في هيئة البيت، وما جرى من هدمه، وإعادته، حتى يتضح الحِجْرُ وأمرُه، وشاذروان الكعبة بين الركن اليماني، وركن الحَجَر، فإذا نحن وصفنا ذلك، بنينا عليه غرضَنا في أمر الطواف.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: " لولا حِدْثانُ (2) قومك بالشرك، لهدمت البيت، ولبنيتُه على قواعدِ إبراهيم، وألصقته بالأرض، وجعلت له بابين: باباً شرقياً، يدخل الناس فيه، وباباً غربياً، يخرج الناس منه. فقالت: وما دعاهم إلى إخراج بعض البيت إلى الحِجْر، فقال: قصّرت بهم النفقة. قالت: فلِمَ رفعوا الكعبةَ عن الأرض؟ قال: ليأذنوا لمن شاؤوا، ويمنعوا من شاءوا " (3) وقوله صلى الله عليه وسلم: قصّرت بهم النفقة، ليس أن مالَ قريش، لم يتسع لبناء البيت، أو بخلوا به، ولكن [كان] (4) للكعبة أموالٌ طيبة من النذور، والهدايا، فقالوا: لا ننفق على البيت من أموالنا، التي جرى فيها الربا، وإنما نُنْفق مالَ البيت، فقصّر ذلك المال.
__________
(1) الأقطار: الجوانب.
(2) حِدْثان: بكسرٍ، فسكون، ابتداء الأمر، وأوله، ويقال: حِدْثان الثباب (معجم) والمعنى قربُ عهدهم بالشرك.
(3) حديث: بناء البيت متفق عليه من حديث عائشة، وله عندهما ألفاظ كثيرة متنوعة (ر. البخاري: الحج، باب فضل مكة وبنيانها ح 1583، مسلم: الحج، باب نقض الكعبة وبنائها، ح 1333، التلخيص: 2/ 465 ح 1014).
(4) ساقطة من الأصل.

(4/280)


وكان جرى هدمُ البيت، قبل المبعث بعشر سنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابنُ ثلاثين سنة، فلما بنَوْه، تنازع بنو عبد منافٍ، وبنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو عبد شمس، وقال كل واحد: " نحن نضع الحجر في موضعه " فكاد شرٌّ يهيج، فتواضعوا على أن يرضَوْا بحكم أولِ من يدخل، من باب بني شيبة، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا في الجاهلية يسمونه محمداً الأمين. قالوا: محمدٌ الأمين!! أتاكم من لا يميل؛ فحكموه، فحكم بأن يَبْسط رداءه، ويوضَعُ الحجَرُ عليه، ثم يأخذ سيد كل رهط بطرف منه، حتى يحملوه إلى موضعه، فبسط رداءه، ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحَجَرَ بيده، فلما وصلوا إلى البيت، أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعه موضعه بيده.
وكان بناؤهم البيت على الصورة التي هي عليها اليوم، وقبل ذلك كان لاصقاً بالأرض، ذا بابين شرقي وغربي.
فلما خرج ابن الزبير إلى مكة، هدمَ البيت، وبناه كما كان قديماً، فلما ظهر عليه الحجاج، وقتله، هدم البيت بالمنجنيق، وبناه هذه البِنْيَة التي هو اليوم عليها (1).
__________
(1) هذه العبارة عن هدم البيت وبنائه -زاده الله تعظيماً وتشريفاً- غيرُ دقيقة، وفيها من الخلل التاريخي ما فيها:
أولاً - ما حاجةُ الحجاج إلى هدم البيت بالمنجنيق، بعد أن " ظهرَ على ابن الزبير وقَتَلَه "، وصار مسيطراً على مكة؟؟ ما حاجته إلى المنجنيق؟ ألا تكفي المعاول والفؤوس.
ثانياً - إن ابن الزبير لم يهدم البيت ليبنيه على نحو ما همَّ به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما بناه ابنُ الزبير بعدما انهدم.
ثالثاً - هناك خلاف في سبب انهدام البيت، فقال بعض الرواة من أشياع ابن الزبير وأعداء بني أمية -وهم طوائف كثر- إن انهدام البيت كان بسبب ضرب الحجاج إياه بالمنجنيق عند حصار ابن الزبير وقتاله إياه، ولي بعد قتل ابن الزبير والقضاء على عصيانه، كما وهم إمام الحرمين، أو سبق قلمه.
رابعاً - لم يهدم الحجاج البيت كاملاً، وإنما هدم جانب الحِجْر، لردّ الزيادة والتغيير الذي أحدثه ابن الزبير.
والقول الذي نرتضيه، وعليه المحققون أن البيت انهدم بسبب حريقٍ كان نتيجة لشرارة طارت من أبي قَيْس -أحد رجال ابن الزبير- فلما تداعى البيت، ووهت جُدرانه، هدمه ابنُ الزبير، وأعاد بناءه على نحو ما تمنى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (قلتُ: رواية الحريق =

(4/281)


ثم لما ضافَ بهم النفقة أخرجوا من جانب الحِجْر ستةَ أذرع من عَرْصة البيت، وضيقوا عَرْض [الجدار] (1) بين الركن اليماني والحَجَر الأسود، وأخرجوا من أساس الجدار على هيئةِ دُكّانٍ (2) لا عرضَ له، وهو الذي يسمى الشَّاذرْوان وهو بيّنٌ للناظر، ولكنه لا أثر له عند الحَجَر، فلعله امّحق، أو رأوا رفعه لتهوين الاستلام، وتيسيره، وسمى المزني الشاذَرْوان [تأزيز] (3) البيث، ومعناه التأسيس، ومنهم من قرأ تأزير البيت، تشبيهاً بالإزار.
2622 - فإذا ثبت ما ذكرناه، عُدنا إلى غرضنا من ذلك في حكم الطواف: فليس للطائف أن يدخل الحِجر، ويتخطى الستةَ الأذرع المتصلة بالبيت، فإنه لو فعل ذلك، لكان والجاً في البيت، والطواف تردُّدٌ بعد تخليف البيت، وكذلك لو صعد إلى جدار الحِجْر -وحوله جدارٌ إلى حيال الصدر- ولو خلّف مقدار الستة الأذرع، واستظهر، ثم
__________
=هذه هي الصحيحة، فلم يذكر السهيلي غيرها، واعتمدها الزركشي في " إعلام الساجد "، ونفى غيرها أشد النفي ابنُ تيمية في " منهاج السنة ").
أما هدْمُ الحجاج، فقد كان بعد القضاء على ابن الزبير، حيث أراد أن يعيد البناء إلى ما كان عليه موروثاً من عصر الرسول والراشدين. المهم لم يكن هناك منجنيق، وقصدٌ للبيت بالإهانة والأذى، فهذا لم يكن من مسلم ولن يكون.
(1) ساقطة من الأصل.
(2) الدكان: الدكة يجلس عليها، والحانوتُ، والأول هو المراد هنا. ومعنى " لا عرض له " أنه وإن كان كالدكان لا يعدو في عرضه بضعة أصابع، فلا جلوس، ولا دكان، ولكن: (هيئة) فقط. ثم هو لفظ معرّب (المصباح).
(3) لم أصل إلى أزّز بمعنى أسس، فيما رأيت من معاجم اللغة ولكن ذكره الرافعي في شرحه الكبير، فقال: وقد يقال؛ التأزيز بمعجمتين، وهو التأسيس. ونقله عنه النووي في تهذيب الأسماء واللغات، وهذا لا يغني شيئاً؛ فإن اللائح أن الرافعي أخذها عن إمام الحرمين، ونحن نبحث عن مصدرها اللغوي الذي أخذها منه إمام الحرمين، والمذكور في مختصر المزني الذي بأيدينا: 2/ 78: (تأزير) بالراء، وفي المصباح: أزّر الجدار تأزيراً، جعل له من أسفله كالإزار (ر. المصباح، والمعجم، والقاموس، والزاهر، والأساس). وفي الأصل، (ك): " تأزير " بالمهملة. هذا. وإنما أثبتنا (تأزيز) لما اتضح لنا أنه مراد الإمام، بدليل قوله: " ومنهم من قرأ: تأزير ".

(4/282)


اقتحم الجدار وراء ذلك، وتخطى الحِجْر، على هذا السمت، اعتدّ بطوافه (1)، وإن كان ما جاءبه مكروهاً.
ولو انتهى الطائف إلى موضع الشَّاذَرْوان، وأقر قدميه عليه، وألصق بدنَه بالجدار في هذه الجهة، فهو في البيت، ولا اعتداد بما يأتي به.
ولو كان يمر وراء الشَّاذَرْوان، وهو يمس الجدار بيده، في ممرّه، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب الأكئرون إلى أنه لا يُعتد بهذا من الطواف؛ فإن الشرط أن يكون جميعُ بدنه منفصلاً عن البيت، وليس الأمر كذلك، فيما صورناه. وذكر بعضُ أصحابنا وجهاً آخر بعيداً، أنه يُعتد بمَمرّه، نظراً إلى جملته، ولا مبالاة بطرفٍ من عضوٍ يلج، أو يخرج، والتعويل في هذا الفن على التسمية المطلقة، وهو يسمى طائفاً بالبيت خارجاً منه.
والأصح الأول.
2623 - ومما يدنو من ذلك، ويقرب منه، أنا ذكرنا أن ابتداء الطواف مستفتح من (2) حيال الحجر الأسود، فإن حاذاه ببدنه في أول (3) الطواف، صح، وإن حاذاه ببعض بدنه، فالأصح أن افتتاح الطوافِ باطلٌ، فإذا لم يصح الافتتاح، لم يصح الشوطُ كلُّه، جرياً على ما مهدناه، من اشتراط الترتيب وبيانه.
ومن أصحابنا من قال: يكفي محاذاة الحَجَر ببعض البدن، وخرّج هذا على خلافٍ في أن المصلي إذا وقف على ركنٍ من أركان البيت، وهو محاذي ببعض بدنه الركنَ، وبعضٌ منه خارجٌ عن مسامتة الكعبة، ففي صحة الصلاة إذا أقيمت كذلك وجهان.
__________
(1) لأن الحِجْر المحوط الآن أكثر من ستة أذرع، ونص الحديث أنهم تركوا ستة أذرع، فلو علا الجدار وقفز طائفاً في آخر الحِجر بعيداً عن الكعبة بستة أذرع، فهو طائف خارج البيت آتياً بالشرط المطلوب، ولكنه تكلّفٌ مكروه.
(2) في (ط): في.
(3) في (ط): أصل.

(4/283)


والذي يتم به البيان: أن البدَن الذي أطلقناه إنما [هو] (1) شِقّ الطائف من جهة يساره ولا نعني غيرَه، والمعنيّ بالمحاذاة أن يقع كلُّ هذا الشق، في محاذاة الحَجَر، حتى لو خلّف من الحجر -مثلاً- شيئاً، وهو إلى الباب ما هو، وحاذى بعضَ الحَجَر ببعضٍ من شقه، والبعضُ الآخر [في] (2) محاذاة الكعبةِ والجزءِ المنحدر من الحَجَر إلى الباب، فهذا صورة الخلاف.
2624 - وكان شيخي يتردد في أمرٍ نَصِفُه، فيقول: إذا حاذى من يبتدئ الطوافَ بشقه الحَجَر، ولكنه خلف شيئاً منه، في جهة الركن اليماني، فترك بعضاً منه مثلاً أمامه، وحاذى بشقه وسطه، فكان يقول: يحتمل أن نُصحح افتتاحَ طوافه؛ فإنه حاذى بتمام شقه الحجرَ، ويُحتمل أن نقول: ينبغي أن يحاذي في أولِ الطواف تمامَ الحَجَر [بتمام] (3) الشِّق، وذلك بأن يبتدئ من أول الحَجر فيما يلي الركنَ اليمانيَّ، ويمر عليه على المسامتة.
والأمر كما قال محتمل.
2625 - ثم إذا تخطّى الحَجَر، أو خَطَا على الشاذَرْوان، وقلنا: لا يعتد بممره، فإذا استوى (4) بعد ذلك، فكل ما يأتي به غيرُ محسوب، حتى ينتهي إلى مثل ذلك المكان، الذي تعدى منه، وحاد عما رسمناه له.
فعلى هذا إذا انتهى من ركن الحجَر، إلى الركن [العراقي] (5) فمال إلى الحِجْر، ودخله من فتحةٍ تلي الركنَ، وخرقه إلى الفتحة الأخرى التي تلي الركن الشامي، فحركاته [على هذا الصنع] (6)، غيرُ محسوبة، وإذا [تقدّمَها] (7)، فتدواره إلى الركن
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).
(3) ساقطة من: ك.
(4) (ط): اشتدّ.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: على الضلع. والمثبت من: (ك)، أما (ط) فقد سقط منها ما بين لفظتي الركنين العراقي واليماني، وهو نحو سطرين.
(7) في الأصل، وفي (ك): تقدمتها. والمثبت تقدير منا، والمعنى: فإذا استمرّ متقدماً من =

(4/284)


اليماني، ثم إلى الركن الأسود، ثم إلى مكانه من الركن العراقي، كل ذلك غير محسوب؛ [وفاءً] (1) بالترتيب المكاني.
فهذا تمام ما أردناه فيما يُعدّ من الأركان.
2626 - وكان شيخنا يقول: لو استقبل القبلة بصدره، وكان يستدير على الجهة المرسومة، عرضاً، فالقفال كان يتردد فيه: ربما كان يقول: (2 لا يحسب 2) له طواف؛ فإن المطلوب منه أن يولّي الكعبةَ شقّه الأيسر. وربما كان يقول: إذا دار على الصَّوْب مقابلةً، أو مدابرةً، أو على شق، حُسب طوافه، [وكره] (3).
والأصح عندنا الأوّل (4)؛ فإن المصلي لما أمر بأن يولي القبلةَ وجهه، وصدرَه، فلو أولاها شقه، لم يعتد بصلاته، ولا وجه لغير هذا عندي.
2627 - ومما يتعلق بهذه الفنون - القول في الموالاة: ووضع الأشواط في الشرع على التوالي، فلو فرقها الطائفُ، ففي بطلان الطواف قولان، مبنيان على القول في الطهارة. وربما كان شيخي يجعل الطواف أولى بالموالاة، وليس يتبين فرقٌ به مبالاة. والتفريق اليسير غير ضائر.
وفي التفريق بالعذر طريقان: من أصحابنا من قطع بأنه لا يضر، ومنهم من جعل المسألة على قولين، وقد ذكرتُ حقيقةَ القول في هذا في كتاب الطهارة. والذي يُرجَع إليه في التفريق اليسير والكثير، ما يغلب على الظن في الإضراب عن الطواف، وترك الإضراب عنه، فكل زمان يشعر تخلله بظنٍّ في ترك الطائف طوافَه، أو إنهائه نهايته، فهو المعتبر في التفريق، ولا مبالاة بما دونه.
2628 - والطائف في أثناء الطواف إذا سبقه الحدث، فأمره مرتَّبٌ عند الأئمة على سَبْق الحدث في الصلاة، فإن قلنا: سَبْق الحدث فيها لا يبطلها، فالطَّواف بذلك
__________
=هذه الحركات بانياً عليها، فكل ما يأتي بعدها غيرُ محسوب، حتى يعود إلى موضع انحرافه.
(1) في الأصل: وفاقا.
(2) ما بين القوسين سقط من (ك).
(3) غير واضحة بالأصل.
(4) أي عدم الاعتداد بالطواف على هذه الهيئة.

(4/285)


أولى. وإن قلنا: سبق الحدث يُبطل الصلاة، ففي الطواف قولان. والفارق أن الصلاة في حكم الخَصلة الواحدة، لا يتخللها الكلامُ والأفعالُ الكثيرة، بخلاف الطواف.
وإذا قلنا: ببطلان الطواف، تطهّر الطائف، وابتدأ الطواف من أوله.
وإن قلنا: سَبْق الحدث لا ينقضه؛ فإنه يخرج، ويتطهر، ويعود، ويبني كدأبه في الصلاة.
وهذا النوع من التفريق -ونحن نفرع على القول الذي انتهينا إليه- غيرُ معتبر، وإن [قلنا] (1) في تفريق المعذور قولان، فإنا نسلك في سبق الحدث مسلك البناء على الصلاة، وتفصيل القول في سبق الحدث في الصلاة متلقى من الخبر.
ولو تعمد الطائف الحدث، فإن قلنا: سبقُه ينقضُ الطوافَ، فعمده أولى. وإن قلنا: سبقه لا يبطل الطوافَ، ففي عمده وجهان: أحدهما - أنه يُبطل الطواف، كما يُبطل الصلاة؛ فإنهما مستويان في الافتقار إلى الطهارة. والثاني - أنا لا نقطع القولَ ببطلان ما سبق، بناءً على أن التفريقَ لا يبطل الطوافَ، والطوافُ يتخلله ما ليس منه، فلا يعتد بالمقدار الذي كان محدثاً فيه، ويجعله كأن لم يكن، فيعود البناء إلى التفريق.
ثم إن طال الزمان، فهو تفريقٌ، وإن قصر الزمان، فوجهان: أحدهما - أن الزمان القصير مع الحدث، كالزمان الطويل من غير حدث، فهذا يضاهي تخلُّلَ الرّدة في أثناء الطهارة، مع قصر الزمان؛ فإن من أصحابنا من ألحق ذلك بالتفريق الطويل، ومنهم من قطع رباط الطهارة بها، ومنهم من ألحقها بالتفريق اليسير.
فهذا منتهى القول، فيما يجري من الطواف مجرى الأركان.
2629 - ثم المطاف بيّن، ولو بعُد الطائف من [المطاف] (2) المعتاد، اعتد بطوافه، ما دام في المسجد، حتى لو كان مداره في أخريات الأروقة، أو على مكانها من السطوح، فالطواف صحيحٌ.
__________
(1) في الأصل: كان.
(2) في الأصل: الطواف.

(4/286)


فأما إذا خرج من المسجد، فلا. ولو وُسّعت خِطةُ المسجد، اتسع المطاف، والأمر كذلك في المسجد الحرام، بالإضافة إلى ما كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن العباسيةَ وسّعوا خِطته، وقيل: كثر الحجيج عامَ حجَّ الرشيدُ، حتى امتلأت الأروقة، بالطائفين ورقُوا إلى السطوح، وانتهَوْا إلى الجدران.
وقد نجز القول فيما لابد من مراعاته في الطواف.
2635 - فأما ما يتعلق بالسنن والهيئات، فإذا افتتح الطائفُ الطوافَ من الحَجَر، كما رسمناه، فيما لابد منه، فيستحب له الاستلام، وهو من السَّلام، أو السِّلام (1)، وهو الحجر، فإن زُحِم، ولم يتمكن من تقبيله (2) مسَّه بيده، ثم قَبّل يده، فإن لم يمكنه، أشار بيده.
ولا يستلم الركنَ اليماني، ولكن يمسه، تيمناً، وتبركاً، وقيل: إنه على قواعد إبراهيم. لم يغيره ما لحق البيتَ، من الهدم والبناء، ثم ذكر الأصحاب وجهين في كيفية ذلك: أحدهما - أن يُقبل المحرمُ يده، ويمَس الركن كالذي ينقل خدمة (3) إليه والثاني - أن يمس الركنَ، ثم يقبل يده، كالذي ينقل تيمناً إلى نفسه، وينقدح هذان الوجهان في الحجر، في حق المزحوم عن الاستلام، ولست أرى هذا اختلافاً، وإنما هو في حكم [تخير] (4).
__________
(1) الاستلام: قال الأزهري: يجوز أن يكون " افتعالاً " من السلام، وهو التحية، فأن المستلم اقترأ منه السلام ... ونقل عن القتيبي أنه كان يذهب به إلى (السِّلام): وهي الحجارة، واحدثها (سَلمة) بفتح فكسر. أو سِلْمة، بكسرٍ فسكون، وعلى هذا يكون استلمت الحجر أي لمسته، كما يقال: اكتحلت إذا أخذت من الكحل. (راجع/الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة 346، والمجموع للنووي: 8/ 31).
(2) يفهم من عبارة الإمام أن الاستلام هو التقبيل للحجر (وقد تابعه على ذلك الغزالي)، وليس كذلك، فالاستلام: هو المس باليد. (ر. مجموع النووي: 8/ 31).
(3) كذا في النسخ الثلاث " خدمة " وهي أيضاًً عند الرافعي في شرح العزيز، حاكياً لها عن إمام الحرمين (فتح العزيز: 7/ 320) ولعلها مصحفة عن (قُبلة) ففي عبارة النووي: " يقبل يده، ويستلمه، كأنه ينقل القُبلة إليه " وهو ينقل هذا عن (الفوراني) الذي كان معاصراً لإمام الحرمين (ر. المجموع: 8/ 35)
(4) ساقطة من الأصل.

(4/287)


ولما انتهى عمر إلى الحجر، قال: أما إني أعلم أنك حَجَرٌ، لا تضر، ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك، ما قبلتك "، فقام أبيّ ابن كعب، فقال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحجر الأسود يأتي يوم القيامة، وله لسان ذَلِقُ، يشهد لمن قبّله " (1).
2631 - وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت راكباً، وكان يشير إلى الحجر بمِحجنٍ في يده (2)، وهذا الحديث يدلّ على أن الطوافَ من الراكب مجزيء، ولا نقصان فيه؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يؤثر لنفسه الأفضلَ، سيّما عامَ الوداع.
وفي القلب من إدخال البهيمةِ المسجدَ، ولا يؤمن تلويثُها [شيء] (3)، فإن أمكن الاستيثاق من هذه الجهة، فذاك، وإن لم يمكن، فإدخال البهائم المسجد مكروه.
2632 - ثم إذا دنا من الحَجَر، قال: في ابتداء الطواف: " بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك، واتباعاً لسنة نبيك، عليه السلام " (4) وقد روي ذلك مرفوعاً. وكان شيخي يذكر دعواتٍ في تَرْدَاد الطواف،
__________
(1) حديث عمر عن الحجر الأسود متفق عليه بدون مراجعة أحد لعمر (البخاري: الحج، باب ما ذكر في الحجر الأسود، ح 1597، مسلم: الحج، باب استحباب تقبيل الحجر الأسود في الطواف، ح 1270). أما المراجعة لعمر فلم نجدها عن أبي بن كعب وإنما عن علي رضي الله عنه، أخرجه الحاكم في المستدرك وسكت عنه، وضعفه الذهبي (المستدرك: 1/ 457) وأورده المتقي الهندي في كنز العمال: (ح 12521) وعزاه للهندي في فضائل مكة، وأبي الحسن القطان في الطوالات، والحاكم، وعبد الرزاق.
(2) حديث طوافه صلى الله عليه وسلم راكباً. رواه مسلم وأبو داود من حديث أبي الطفيل (ر. مسلم: الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره، ح 1275، أبو داود: المناسك، باب استلام الأركان، ح 1879، التلخيص: 2/ 471 ح 1026).
(3) في الأصل: " بشيء " والمثبت من (ط)، (ك).
(4) حديث الدعاء عند بدء الطواف، قال عنه الحافظ: " لم أجده هكذا ". والموجود ما رواه الشافعي في الأم عن ابن جريج عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، كيف نقول إذا استلمنا الحجر؟ قال: قولوا: " باسم الله، والله أكبر إيماناً بالله وتصديقاً بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ". ورواه البيهقي والطبراني في الأوسط من ح 5482، التلخيص: 2/ 472).

(4/288)


ويخص كلّ موضعٍ بدعوة، ولم أرَ لها ذكراً، فلم أوردها، وعندي أن الأذكار [فوضى] (1) بعد ابتداء الطواف.
2633 - ومن الهيئات الرمَل، فنؤثر للطائف الرملان في ثلاثة أشواط، من أول الطواف، ونؤثر له السكينة، والمشي على الهِيْنَة (2) في أربعة أشواط، وهي الأشواط الأخيرة، وقال بعض أئمتنا: الرمل فوق سجية المشي، ودون العدْو.
وقال الشيخ أبو بكر: هو شِرعةٌ (3) في المشي، دون الخبب.
وهذا عندي زلل؛ فإن الرمل في فعل الناس كافة ضربٌ من الخبب، يسير (4) إلى قفزان. والرملانُ هذا معناه في اللسان، وكل ما تضطرب الحركات فيه، فمصدره الفَعَلان في غالب الأمر، كالقَفَزان، والنَزَوَان، والضَّرَبان، وعَسَلان الرُّمح (5).
والمشيُ السريع ليس من الرملان في شيء.
ثم يتَّسع (6) القول الآن في الرملان، فأول ما نذكره التفصيل في الطواف الذي يشرع الرمل فيه: [لا شك أنه لا يشرع في كل طواف، واختلف القول في الطواف الذي يُشرع الرمل فيه] (7) فأحد القولين أنه يختص بطواف القدوم؛ فإنه أول العهد بالبيت، فيليق به نشطةٌ واهتزازٌ، والقول الثاني - أنه مشروع في الطواف الذي يستعقب سعياً؛ من جهة أنه يشير إلى تواصل الحركات، وإلى السعي بين الجبلين، ثم القادم قد يسعى على أثر طواف القدوم، وقد يؤخر السعي حتي يأتي به على أثر طواف الزيارة بعد الوقوف، فإن كان يسعى بعد طواف القدوم، فإنه يرمل في الطواف قولاً واحداً،
__________
(1) في الأصل فرض. والأذكار فوضى: أي شائعة، غير مرتبة، ولا يختص شوط منها بذكرٍ دون شوط. (معجم).
(2) الهينة: بكسر فسكون، ففتح. (معجم، ومصباح).
(3) شِرعة: طريقة. وفي (ط)، (ك): سُرعة.
(4) (ط)، (ك): يشير.
(5) عَسَل الرمحُ: اهتز، واضطرب لِلِينه، وعَسَل الفرسُ: عدا، واهتز في عدوه (معجم)
(6) (ط): نُشيع.
(7) ما بين المعقفين ساقطٌ من الأصل، (ك)، ومثبت من (ط) وحدها، ما عدا لفظ (لا) في قوله: لا يشرع، فهي من المحقق.

(4/289)


لاجتماع المعنيين. وإن كان يؤخر السعي إلى بعد طواف الإفاضة، فيجري القولان: فمن راعى القدوم، شرع الرمل في الطواف الأوّل، ومن راعى استعقاب السعي شرعه في طواف الزيارة.
ثم قال أئمة العراق: لا يجتمع الرمل في الطوافين على كل طريق، والأمر على ما قالوه؛ فإن أحداً لم يعلق الرمل بالمعنيين جميعاً.
ويخرج على ما ذكرناه الرمل في طواف العمرة. قال الأئمة: ليس طواف المعتمر طوافَ قدوم؛ فإنه يقع ركناً، وهذا يوُهي ما أشرنا إليه من ابتداء العهد بالبيت، وكان يمكن أن يقال: فيه معنى القدوم. فإن قلنا: الطواف الذي يستعقب السعي يشرع الرمل فيه، شرع الرمل في طواف المعتمر.
[هذا] (1) تفصيل القول في الطواف الذي يشرع الرمل فيه.
2634 - ومما يتعلق بذلك الكلامُ في مكان الرمل: فالأصح أن الطائف في أشواط الرمل، يرمُل في جميع تدواره على [أركان] (2) البيت.
وذكر الأصحاب قولاً آخر: إنه يترك الرمل بين الركن اليماني والحجر الأسود، واستدل هؤلاء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الأصل في إثبات الرمل، وذلك أنه كان واعدَ أهل مكة عامَ الصدِّ، أن يعود لقضاء عمرته في قابل، فعاد، وكان شرط على الكفار أن ينجلوا عن بطحاء مكة، ويلوذوا (3) بقُلل الجبال، فوفَوْا ورقُوا إلى قُعَيْقِعان، وهو جبل في جهة الحِجْر والميزاب، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهَكَتْهم حمى يثرب، فرأى الكفار ذلك منهم؛ فهمّوا بالغدر، فنزل جبريل، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أضمروه، فاضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واضطبعوا، ورمل، ورملوا، فقال الكفار: إن هؤلاء كالغزلان، وكان ذلك سببا في رد كيدهم (4).
__________
(1) في الأصل: هل.
(2) في الأصل: أرجاء.
(3) (ط) ويعوذوا.
(4) أصل حديث الرمل متفق عليه بنحو هذه السيافة، مع اختلاف في بعض الألفاظ، من حديث =

(4/290)


فهذا أصل الرمل، ثم في بعض الروايات: أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابَه رضي الله عنهم، كانوا إذا انتهوا إلى ما بين الركنين اليماني والحَجَر [اتّأدوا] (1)؛ فإن الكعبة كانت تحول بينهم وبين الكفار. فقال هذا القائل: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الأسوة في الرمل، وُيتْرَكُ الرمل حيث كان يتركه، وهو أقوى (2)، لو تجرد نقلُه، وقد نُقل: أنه كان يرمل من الحَجَر إلى الحَجَر، ولا يبعد أنهم كانوا يسكنون قليلاً، من غير مفارقة سجية الرمل.
وروي أن عمر قال: " فيم الرمل، والتكشف، وقد أطّأ (3) الله الإسلام، ونفى الشرك وأهله، ألا إني لا أحب أن أدع شيئاً، كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4) فإن قيل: لم دام الرمَل مع ظهور سببه أولاً، وزواله آخراً؟ قلنا: ما لا يُعقل معناه على التثبت لا يحكّم المعنى (5) فيه.
وقد قيل: إن سبب السعي ما كان من هاجَر أمّ إسماعيل، وابنه (6)، كما سنصفه، ثم أُثبت ركناً في الدين.
__________
=ابن عباس. (ر. البخاري: الحج، باب كيف كان بدء الرمل، ح 1602، وطرفه في 4256، وعند مسلم: الحج، باب استحباب الرمل، ح 1264، وهو عند أبي داود: المناسك، باب في الرمل، ح 1889، وأحمد: 1/ 290 - 295، ومتفق عليه من حديث ابن عمر أيضاً، وعند مسلم من حديث جابر، وانظر التلخيص: 2/ 474 ح 1029 إلى 1033).
(1) في الأصل: تاذوا، وهي محرّفة عن (تباذوا) بالباء الموحدة، والزاي المعجمة وهي في رواية من روايات الحديث، يقال: تبازى في مشيته إذا حرّك عجيزته (ر. تلخيص الحبير: 2/ 476 ح 1033، والمعجم). هذا والمثبت من (ط)، (ك).
(2) (ط)، (ك): وهذا قوي.
(3) أطأ: ثبت، من وطأ، والهمزة أوله بدل الواو. (النهاية في غريب الحديب، وهامش ابن ماجة، وسنن البيهقي).
(4) حديث عمر، رواه ابن ماجة: المناسك، باب الرمل، ح 2952، والحاكم: 1/ 454، والبيهقي: 5/ 79، وانظر التلخيص: 2/ 475 ح 1030).
(5) (ك) لا يحمل المفتي.
(6) كذا في النسخ الثلاث، ولعل الصواب: " وابنها ". وربما كانت وأبيه لما سيأتي في قصة الذبح وتشريع الرجم، فمعنى الجملة: إن ما كان من أم إسماعيل بحثاً عن الماء، وما كان من أبيه زجراً للشيطان أثبت ركناً في الدين. والله أعلم.

(4/291)


وقيل: استعصى الذبح على إبراهيم فذلَّلهُ الله بالأحجار على الجمرات، فصار ذلك شعاراً متبعاً، ومبنى الشرع على التيمّن والتأسي بشعار الصالحين، من غير تتبع المعاني.
2635 - ومِما يتعلق بالرمل: أنا نؤثر الجمعَ بين الدنوّ من الكعبة وبين الرمل، ولا ننظر إلى كثرة الخُطى فيمن يبعد من الكعبة، وهذا متفق عليه.
فإن عسر الرمل في زحمة الناس، في القرب، ولو بَعُدَ إلى الحاشية، لا ستمكن من الرمل، فالرمل في البعد أولى، فإن القرب لا يبلغ مبلغ شعار مستقل.
نعم لو كان يقع في صف النساء، فتركُ الرمل أجدر به؛ فإن الأمر يعظُم في هذا، وينسب الرجل إلى ترك شعارٍ في الدّين كلِّي، ولا يقع منه الشعار الجزئي موقعاً.
2636 - ولو ترك الرمل في الأشواط الأُوَل، فأراد أن يتدارك في الأشواط الباقية، لم يكن له ذلك؛ فإن سجّية المشي في الأشواط الأربعة مسنونة، كالرمل في الأشواط الثلاثة، فلو تدارك الرمل، لكان تاركاً سنةً ناجزة، في تدارك شعارٍ فائت، وليس هذا كإعادة سورة الجمعة في الركعة الثانية على ما سبق ذكرها في الصلاة؛ فإن الجمع بين الجمعة، وسورة المنافقين ممكن، والجمع بين الرمل وسجية المشي غير ممكن.
قال الشافعي: لو زُحم من لم يتمكن من الرمل أصلاً، فحسنٌ لو [أتى] (1) بمحاولة الرمل متشبهاً بالرامل، وهذا أصل ستأتي أمثلتُه في أمرنا مَنْ لا شعر على رأسه بالحلق متشبهاً بالحالق، إلى غير ذلك.
2637 - ومن الشعار المرعي الاضطباع: وهو أن يجعل وسط الرداء تحت إبطه الأيمن، ويعري كتفه الأيمن منه، ويجمع طرفيه على عاتقه الأيسر، كدأب ذوي الشطارة (2). هكذا
__________
(1) في الأصل: ايتى (بهذا الرسم. ولعلها يأتي، وفي (ط): أشار. وهذا معنى كلام الشافعي وليس لفظه، وإلا، لصححناه منه. (ر. المختصر: 2/ 77، والأم: 2/ 149).
(2) الشطارة الاسم من شطر (المعجم). وظني أن المراد بذوي الشطارة هم الفتيان الذين كانوا يخرجون على قبائلهم في الجاهلية، ويرفضون قيود المجتمع، ويتمردون عليه، ويرتبون جماعاتٍ وفرقاً للإغارة والهجوم على من يتهمونهم بالظلم والطغيان.

(4/292)


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم [لا اضطباع] (1) في طوافٍ، لا رمل فيه، ولا يكلف المضطبع أن يغير زيّ الاضطباع إذا ترك الرمل في الأشواط الأربعة. وإلى متى يستديمه؟ ذكر الشافعي لفظةً، واختلف الأصحاب في قراءتها. قال: " ويديم الاضطباع حتى يكمل سعيه " (2) [منهم من قرأ كذلك وزاد في الخط ياء بعد العين، و] (3) منهم من رأى أنه سبعة، فإذا قلنا: حتى يكمل سبعة، معناه حتى يكمل الأشواط السبعة، وإذا قلنا: حتى يكمل سعيَه معناه استدامة الاضطباع حتى يكمل سعيه بعد الطواف.
فهذا فيما أظن حاوٍ لشعار الطواف، وما يتعلق بالركن منه، وما يتعلق بالسنة والهيئة.
2638 - وذكر الشيخُ أبو بكر من جملة ما كنا نحفظه من الأذكار بعد الذكر الذي قدمناه في ابتداء الطواف، أنه كلما حاذى الحجر الأسود كبّر، وقال في رمله: " اللهم اجعله حجاً مبروراً، وذنباً مغفوراً، وسعياً مشكوراً " وقيد هذا الذكر بالرمل عن قصد، وقرنه باستحباب ذكر في حالة السعي، فإنا نؤثر للساعي أن يقول: " اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار " والأمر في ذلك قريب.
ثم كل ما ألحقناه [بالهيئآت] (4)، فلو تركه الطائف عامداً، اعتدّ بطوافه، ولم يلزمه فدية، وسنجمع بعد هذا قولاً ضابطاً فيما يوجب الفدية قطعاً، وفيما يختلف فيه.
__________
(1) في الأصل: الاضطباع.
(2) وهذا هو ما في المختصر المطبوع بين أيدينا: 2/ 76.
(3) سقط ما بين المعفقين من الأصل.
(4) ساقطة من الأصل.

(4/293)


فصل
قال: " إذا فرغ صلى ركعتين، خلف المقام ... إلى آخره " (1).
2639 - الطائف إذا فرغ من أشواط طوافه أمرناه، بأن يصلي ركعتين، فإذا كان الطواف مفروضاً، فللشافعي قولان في وجوب ركعتي الطواف: أحدهما - أنهما لا تجبان، لحديث الأعرابي؛ إذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الخَمْس: " هل عليّ غيرها "؟ قال: لا ".
والقول الثاني - أنهما تجبان وجوبَ الأشواط، وقد يستدل الشافعي على وجوب الشيء بإطباق الناس على العمل، وما يكون مُتطوَّعاً (2) به فالعادة تقتضي تردُّدَ الناس في الإتيان به، ثم إن كان الطواف فرضاً، فالقول مختلف كما ذكرناه، وإن لم يكن فرضاًً، فالأصح أنه لا يستحق على أثره ركعتا الطواف.
ونقل الأصحاب عن ابن الحداد: أنه أوجب ركعتي الطواف على أثر نجاز الأشواط، وهذا بعيدٌ، ردّه أئمة المذهب.
ثم ما أُراه يصيرُ إلى إيجابهما على التحقيق، ولكنه رأى ركعتي الطواف جزءاً من الطواف، ولم ير الحكم بالاعتداد بالطواف المقطوع به دونهما، وقد قال في توجيه ما رآه: لا يبعد أن يشترط في النفل ما يشترط، في الفرض، كالطهارة، وغيرها، وكالركوع، والسجود، من قبيل الأركان.
2640 - وقد تحقق من معاني كلام الأصحاب الاختلافُ في أن ركعتي الطواف معدودتان من الطواف، أو لهما حكم الانفصال عنه.
ومن آثار الاختلاف في ذلك أنا إذا حكمنا بوجوب ركعتي الطواف الواجب، فلو أراد المتيمم أن يجمع بتيممه بين الطواف وبين الركعتين؟ في جواز ذلك وجهان مبنيان
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 79.
(2) (ط) مقطوعاً.

(4/294)


على ما ذكرناه: فمن عد الركعتين من الطواف أحلهما محل شوط، وجوّز الجمع.
ومن فصلهما عن الطواف، لم يجوّز الجمعَ بين الطواف، وبينهما بتيمم واحد.
فمأخذ كلام ابن الحداد هذا، ولا ينقدح غيرُه.
ثم لا يمتنع انفصال ركعتي الطواف عنه بزمانٍ متطاول، وهذا يوضّح انفرادهما عن الطواف، ولا يتعين لإقامتهما المسجدُ والحَرَمُ، وصرح الأئمة بأنهما لو أقيمتا بعد الرجوع إلى الوطن، وتخلل مدة، وقعتا الموقع، ولا ينتهيان إلى القضاء، والفوات. وسنذكر أن ما يجب في الحج ولا يكون ركناً؛ فإنه مجبور بالدم، ولم يتعرض الأئمة لجبران ركعتي الطواف، وإن اختلف القول في وجوبهما، والسبب فيه أنهما لا تفوتان، والجبران إنما يثبت عند تقدير الفوات، ثم إن قُدِّر فواتهما بالموت، فلا يمتنع وجوب جبرانهما بالدم، قياساً على سائر المجبورات.
2641 - ومما يتعين التنبه له أنا وإن حكمنا بوجوب الركعتين، وفرعنا على أنهما معدودتان من الطواف، فلا ينتهي الأمر إلى تنزيلهما منزلة شوط من أشواطه؛ (1 فإن تقدير ذلك يتضمن القضاء بكونهما من الركن، في الطواف الواقع ركناً، ولم يصر إلى هذا صائر، وبهذا يضعف عدهما من الطواف 1).
2642 - ومما يذكر [بدعاً] (2) غريباً في أحكام الصلاة تطرق النيابة إلى ركعتي الطواف، من جهة المستأجَر على النسك، وليس في الشرع صلاةٌ تجري النيابةُ فيها غيرُ هذه.
ثم إن حكمنا بوجوب الركعتين، لم تقم صلاة أخرى مقامهما، وإن قضينا بأنهما لا تجبان، فقد قال الصيدلاني: لو صلى الفارغ من الطواف فريضةَ الوقت، أو قضى فائتةً، وقع الاكتفاءُ بما جاء به، اعتباراً بتحية المسجد. وهذا مما انفرد به.
والأصحاب على مخالفته، فإن الطواف يقتضي صلاة مخصوصة، والمسجد حقُّه ألا يجلس الداخل فيه حتى يصلي.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(2) في الأصل: يدعى.

(4/295)


فصل
في أحكام الطواف
2643 - الطواف في الحج ينقسم ثلاثةَ أقسام: أحدها - الطواف الواقع ركناً، وهو يقع بعد الوقوف، وهو المسمى طواف الإفاضة، والزيارة، ولا سبيل إلى تقدير إيقاعه قبل الوقوف، وسنفصل أول وقته، عند ذكر أسباب التحلل. ثم إذا حكمنا بكونه ركناً، فلا يسد مسدَّه شيء، ولا يتطرق إليه جبران.
2644 - والقسم الثاني طوافٌ يقع بعد التحللين، وبعد الفراغ من [مناسك] (1) منى: رمياً، ومبيتاً، وهو طواف الوداع. وفي وجوبه قو لان: أحدهما - أنه يجب، وعلى تاركه الدم، وإليه ميْل النصوص في الجديد. والقول الثاني - أنه لا يجب، ولا جبران على تاركه، ولكنه سُنّةٌ مؤكدة.
[ثم] (2) حق هذا الطواف أن لا يعرج الراجع إلى مكة بعده على أمرٍ، فإن عرّج على شغل، فسد ما جاء به عن الجهة المطلوبة، وتعيّن الإتيان بطواف الوداع مرةً، أخرى.
والمرأة إذا هي حاضت بعدما أفاضت، وطافت طوافَ الإفاضة، فلتنفر بلا وداع؛ وقد روي أن صفيةَ حاضت في وقت المنصَرَف، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسملم، فقال " عَقْرَى (3) حلْقَى حابِستنا هي؟ فقيل: إنها قد أفاضت قبل أن حاضت، فقال: فلتنفر بلا وداع " (4).
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: لكن.
(3) عقرى، حلقى: بالألف المقصورة: وفي معني اللفظين كلام كثير، خلاصته أنه دعاءٌ عليها، ولكن لا تراد حقيقتُه، على عادة العرب في قولهم: تربت يداك، وقولهم: قاتله الله.
ما أشجعه، وما أشعره، ونحوه (ر. صحيح مسلم: 1/ 878).
(4) حديث صفية: بمعناه عن عائشة في الصحيحين، وله عندهما طرقٌ وألفاظٌ. (ر. البخاري: الحج، باب إذا حاضت المرأة بعد أن أفاضت، ح 1757، ومسلم: الحج، باب وجوب طواف الوداع، ح 1211، وانظر تلخيص الحبير: 2/ 507 ح 1076).

(4/296)


[ثم إذا نفرت بلا وداع] (1)، وتمادى الحيضُ حتى انتهت إلى مسافة القصر، استمرت ذاهبةً، ولا جبران.
وإذا خرج الرجل بلا وداع، وجرينا على قولِ الجبران، وانتهى إلى مسافة القصر، استقر الجبران. ولو آثر العوْدَ، لتداركِ الوَداع، لم يسقط الجبران؛ فإنّ دخول مكة من مثل هذه المسافة في حكم زَوْرة مستفتحةٍ، تقتضي إحراماً جديداً على أحد القولين.
ولو حاضت المرأة، وخرجت، ثم انقطع حيضها، وهي بعدُ في خِطة مكة، رجعت، وطافت. وإن جاوزت الخِطة، وما انتهت إلى مسافة القصر، فالذي نص عليه الشافعي: أنه لا رجوع عليها، ونصَّ أن الرجلَ إذا فارق مكة، ولم ينته إلى مسافة القصر، وأراد الرجوعَ، يسوغُ له ذلك، ويقع الاستدراك بالطواف، ويسقط الجبران.
واختلف أصحابنا في النصين: فمنهم من جعلها على قولين: أحد القولين - أن انقطاع الحيض دون مسافةِ القصر يوجب الرجوعَ، فإن لم ترجع، التزمت الدمَ على قول. والرجوعُ في حق الرجل، والمرأةِ التي لم تكن حائضاً يثبُت لاستدراك صورة الطواف. هذا قولٌ. والمعتبر فيه مسافةُ القصر.
2645 - وذكر الشيخُ أبو علي، وغيرُه قولاً آخر: إنه لو عاد من مسافة القصر، أمكنه أن يتدارك الوَدَاع، فهذا القائل لا يوجب العود، ولكنه يجوّزه، ويحكم بحصول التدارك.
ثم إذا وقع التفريع على هذا القول الغريب؛ فإنه يدخل مكة محرماًً بنسك، فإذا تحلل وودَّع، وخرج يكفيه الودَاع الذي جاء به عن النسك الذي أحدثه الآن، عن التدارك الذي رجع لأجله.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر: أنه يطوف طوافين: أحدهما - يستدرك به
__________
(1) ساقط من الأصل.

(4/297)


ما فاته، والثاني - يأتي به لأجل [النسك] (1) الذي جدده، وهذا ضعيف، ينبغي أن يكون الطواف الأول عن جهة التدارك، والثاني عن جهة هذا النسك. ثم يخرج ولا يحدث أمراً.
2646 - والقول الثاني - أن أمر الوَدَاع يَنْقطع بمفارقة خِطة مكة، ثم يختلف الحكم في الحائض تطهر، والرجل يفارق: فحكم طهرها بعد مفارقة الخِطة أن لا يلزمها العود، ولا الجبران. وحكم الانقطاع في حق غيرها استقرارُ الجبران، وزوالُ إمكان التدارك. ووجه هذا القول أن الوداع متعلق بمكة، فإذا تحققت مفارقتها، فلا معنى لاعتبار مسافةٍ بعد مفارقتها.
2647 - ومن أئمتنا من أقر النصين قرارهما، وفرّق، وقال: المرعيُّ في حق المرأة، مفارقةُ الخِطة، فإذا طهرت عن الحيض، بعد المفارقة، لم يلزمها عودٌ، ولا جبران. والرجل إذا فارق الخِطة، ولم ينته إلى مسافة القصر، أمكنه العود، وذلك لأن الحائض ليست من أهل الوداع شرعاً، فإذا طهرت بعد مفارقة الخِطة، فلا التفات إلى ما مضى من أمرها. والرجل كان من أهل الوداع شرعاً، فلا يبعد بقاءُ المستدرك، إذا لم ينته إلى موضع يقتضي دخولَ الحرم (2) منه.
وكأن المرعيّ في الجانبين التخفيفُ. أما المرأة إذا طهرت بعد المفارقة، فلا وَداع عليها، والرجل لا ينحسم عليه المستدرك.
ثم إذا اعتبرنا مفارقةَ الخِطة. فيعود الوجهان المذكوران في باب المواقيت، في أن مفارقة العمران هي المرعية، أم مفارقة الحرم، وقد تقدم ذكرُ الوجهين، وهما جاريان هاهنا.
ولا خلاف أن المكي إذا خرج مسافراً لم تتوقف استباحةُ الرخص على مجاوزة الحرم [بل المرعيُّ مفارقةُ الخِطة؛ فإن استباحة الرخص لا أثر لها في الحرم] (3)
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) المعنى إذا لم يصل في خروجه إلى الحلّ ومجاوزة الحرم.
(3) ساقط من الأصل.

(4/298)


والحل، وكانت مكة فيها بمثابة سائر البلاد.
فهذا منتهى القولِ في طواف الوداع.
2648 - ولا شك أن الوداع على الغرباء؛ فإن من يؤوب إلى مكةَ قاطناً، لا يعتبر الوداع في حقه. ولو عنّ للمكي أن يسافرَ مع الغرباء، فلا وَداع أيضاً؛ فإن حكم السفر يثبت في حقه إذا خرج.
ولا تعويل على ما يعتاده المكيون في ذلك؛ فإنهم يحرصون على الوداع أكثر من حرص الغرباء.
وفي بعض الطرق رمزٌ إلى أنهم يودّعون إذا نفروا، وخرجوا مع الغرباء.
ولا خلاف أنه إذا عنّ لهم هذا بعد العود إلى مكة، فلا وداع.
والغريب إذا كان بعد قضاء المناسك مزمعاً على أن يعرّج أياماً بمكة، ثم يخرج، فإذا خرج، ودّع على حسب ما ذكرناه، وإن قصد الإقامة، انقطع أثر الوداع، فإذا أراد السفر، ونقض عزيمةَ الإقامة، فلا وداع.
وبالجملة الوداع من مناسك الحج، وإن وقع بعدها. وليس على الخارج من مكةَ وداعٌ بخروجه منها، وليس الخروج في اقتضاء الوداع، كدخول الغرباء مكة في اقتضاء الإحرام.
وقد نجز القول في هذا القسم.
2649 - القسم الثالث: طواف القدوم: وهو من الحج في حق من يرد مكة قبلَ عرفة، فيطوف طواف القدوم؛ كما (1) قدم. والذي ذهب إليه الأئمة أنه سُنّةٌ، لا يجب جبرانُه بالدم، بخلاف طواف الوَدَاع.
وأشار صاحب التقريب إلى احتمالٍ فيه، فرأى أن يلحقه بطواف الوداع. وهذا بعيدٌ.
__________
(1) " كما ": بمعنى عندما.

(4/299)


ثم قال الأئمة: ينبغي ألا يعرج القادمُ على أمرٍ حتى يطوفَ طواف القدوم، (1 فلو أخر طواف القدوم 1)، ففي قول الأئمة تردُّدٌ، وقد قطعوا بأن التعريج بعد طواف الوداع يفسده.
وذكر أبو يعقوب الأبيوَرْدي (2) وجهاً في أنه يصح طواف الوداع من غير طهارة، ثم قال: يُجبر بدم.
وإنما قال هذا، من حيث إنه أُلزم: وقيل: لو جاز جبر [طواف الوداع بالدم، لجاز جبر] الطهارة فيه بالدم، فارتكبه (3)؛ وقال تُجبر. وهذا غلط، لأنه إذا وجب الدم، فهذا جبرُ الطواف؛ لا جبرُ الطهارة.
فهذا آخر قواعد المذهب في الطواف.
وقد شذ عن أصول المذهب مسائلُ قريبة ونحن نرسمها فروعاً.
فرع:
2650 - الصبيّ إذا انعقد عليه الإحرام، فطاف به طائف، فإن لم يكن ذلك الطائف في نسك، أو كان ناسكاً، ولكن طاف عن نفسه أوّلاً، ثم احتمل الصبيَّ، وطاف به، فالطواف يقع عن الصبي في الصورتين، بلا شك.
ولو لم يكن طاف عن نفسه، فإن نوى بالطواف نفسَه، وقع عنه، ولم يحصل الطوافُ للصبي وفاقاً، وإن حصلت فيه صورة التردد.
والسبب فيه أن هذه الحركات الصادرة من الحامل، لا يجوز تقدير صرفها إلى مصرفين؛ فإذا وقعت عن شخصٍ، لم تقع عن غيره؛ وأئمة المذهب مجمعون على هذا؛ فلا نظر مع وفاقهم في وجه الرأي والاحتمال.
__________
(1) ساقط من (ك) ما بين القوسين.
(2) أبو يعقوب: يوسف بن محمد الأبيوَرْدي. أحد الأئمة، من أقران القفال، ومن مشايخ الشيخ أبي محمد الجويني. منسوب إلى (أبيوَرْد). له كتاب المسائل في الفقه، تفزع إليها الفقهاء.
توفي في حدود الأربعمائة، أو بعدها بقليل. (طبقات السبكي: 5/ 362).
(3) ارتكبه: هذا مصطلح من مصطلحات المناظرة والجدل، ولم أصل إلى من عرّفه في المؤلفات الخاصة بهذه المصطلحات، ولكن رأيته أكثر من مرة في كلام إمامنا، كما هو واضح من السياق.
هذا وقد سبق محاولةُ بيانه في بعض التعليقات السابقة. ومعناه هنا واضح من السياق،
وهو أن يُلزَم المناظر أمراً، فلا يعرف الخروج منه، فيسلم بما أُلزمه، وهو خطأ بيّن.

(4/300)


ومن ركب دابة، وطاف عليها، فحركات الدابة مضافةٌ إلى الراكب، ولو ركب دابَّةً رجلان، أو أكثر، حصل الطوافُ لجميعهم بتردُّدِ الدابَّة سبعاً.
وكذلك إذا احتمل غيرُ الناسك صبيين، أو أكثر، فهو بمثابة المركب في التفصيل.
ولو حمل الصبيَّ، ونواه بالطواف، وما كان طاف، فهذا يستدعي مقدمةً، وهي: أن الطائف لا يلزمه تجديدُ النية للطواف، لأنه ركنٌ من أركان الحج، والنية التي هي عقد الحج مشتملةٌ على الأركان، ولكن لو أتى الطائف بنيةٍ تتضمن الصرف عن جهة النسك، وأتى بصورة الطواف، ففي وقوع الطواف موقعَ الإجزاء وجهان: أحدهما - لا يقع الموقع، ولعله الأصح. وربما كان يقطع به شيخي، ووجهه أنا إن لم نشترط [النية] (1)، فوجهه الاكتفاء بالنية العاقدة الشاملة، فأما صرف الطوافِ عن جهة العبادة قصداً، [فمراغمة] (2) لحكم النية المتقدمة، وقد ذكرنا لذلك نظيراً في باب النية في الطهارة، عند ذكرنا عزوبَ النية، والقصد إلى التبرد، أو التنظف ببقية الطهارة.
فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن نوى الحامل -وعليه الطواف- بالطواف الصبيَّ المحمولَ، فالطريقة المرضية تخريجُ ذلك على ما ذكرناه الآن. فإن قلنا: صرف الطواف بالنية يوجب انصرافَه، فلا يقع الطواف عن الطائف، ويقع عن المحمول، وإن قلنا: صرف الطواف بالنية لا يوجب انصرافَه، فيقعُ عن الطائف، فإذا وقع عنه، لم يقع عن الصبي.
وكان شيخي يقول: إذا نوى الصبيَّ، فلا يقع عن الصبيّ.
وهل (3) يقع عن الطائف؟ فعلى قولين.
وهذا فيه خبطٌ. والذي ذكره العراقيون، وغيرُهم ما تقدم.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في (ط)، (ك) العبارة هكذا: "فلا يقع عن الصبي، وعلى الطائف طوافه، وهل يقع عن الطائف؟ ".

(4/301)


ولو نوى الطائف بالطواف نفسَه والصبّي المحمولَ، وقع الطواف عن الطائف، ولم يقع عن الصبي.
فصل
قال الشافعي: " ثم يعود إلى الركن، فيستلم ... إلى آخره " (1).
2651 - مضمون الفصل القولُ في السعي بين الصفا والمروة، وهو ركنٌ في الحج والعمرة عندنا، لا يجبر بالدم، خلافاً لأبي حنيفة (2).
ثم قال الشافعي: إذا فرغ الطائف من الطواف، واستتم الأشواط السبعة، فإنا نستحب له أن يعود إلى الحَجَر، ويستلمَه، ليكون آخر عهده [الاستلام] (3)، وأول طوافه مفتتحاً بالاستلام ". ثم قال: إن تمكن الطائف من الاستلام في كل شوط، فحسن، وإلا فليعتن به في كل وتر (4)، ثم يصلي ركعتي الطواف، ويؤم بابَ الصفا، وهو في محاذاة الضلع الذي بين الركن اليماني وركن الحَجَر، ويخرج من ذلك الباب، فينتهي إلى الصفا، ويلقى درجاً في حضيضة، ويرقى فيها بقدر قامة. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرقي ليس مقصوداً في الحج، ولكن لا يأمن المنتهي، لو لم يرقَ أن يكون ما انتهى إليه من الدرج المستحدثة، وإلا فالانتهاء إلى أصل الجبل كافٍ وفاقاً.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 79.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء 2/ 145 مسألة: 607، بدائع الصنائع: 2/ 133، حاشية ابن عابدين: 2/ 148.
(3) ساقطة من الأصل، وفي (ط) و (ك): " بالاستلام "، والمثبت تصرف من المحقق.
هذا. ولم نصل إلى هذا النص للشافعي، في " المختصر "، وفي " الأم " كلامٌ بمعناه.
قال: " وأحب الاستلام حين أبتدئ بالطواف بكل حال، وأحب أن يستلم الرجل إذا لم يُؤذِ، ولم يؤذَ بالزحام، ويدع إذا أوذي أوآذى بالزحام، ولا أحب الزحام إلا في بدء الطواف، وإن زاحم، ففي الآخرة " الأم: (2/ 146).
(4) في الأم بلفظ: " أحب الاستلام في كل وتر أكثر مما أستحب في كل شفع، فإذا لم يكن زحام أحببت الاستلام في كل طواف " (ر. الأم: 2/ 146).

(4/302)


2652 - ونحن نرسم الآن القول في شرط السعي، وفيما يقع منه موقع الركن، ثم نذكر ما يتعلق بهيئاته، كدأبنا في الطواف:
فأما الشرطُ، فلابد من تقدم طوافٍ معتدٍّ به، ولا يجوز الإتيان بالسعي من غير سبق طواف.
ثم لا يمتنع أن يكون الطواف المتقدمُ نفلاً، والسعي لا يقع إلا ركناً، ولا يتأقت بطواف الإفاضة، بل إذا طاف القادمُ طوافَ القدوم، وسعى، وقع السعي ركناً، ولا يعيده إذا طاف طواف الزيارة، بل لا يؤثر أن يعيدَه، وكان شيخي يقول: تكره إعادته، والأمر على ما ذكر، وليس كالطواف؛ فإن غيرَ الناسك يأتي بما شاء من الطواف؛ فإنه قُربة في نفسه، والسعي تابعٌ، فيقتصر منه على الركن.
ثم إذا تقدم الطوافُ المحسوب، لم نشترط في السعي ما شرطناه في الطواف: من الطهارة والستر، ولا نشترط الموالاة، بين السعي والطواف، بل نقول: إذا تقدم الطوافُ معتداً به، وتخلل بين انقضائه وبين ابتداء السعي فصل طويل، فلا بأس.
قال الشيخ أبو علي: قلت للقفال: ما ترى فيه؟ فقال: لو أتى بالسعي بعد سنةٍ أجزأ، فلا أعرف فيه حداً.
ثم قال الشيخ: ولو طاف طوافَ القدوم، ولم يسْعَ على أثره، ووقف بعرفةَ ثم أراد أن يسعى؛ وصْلاً للسعي بما تقدَّم من طواف القدوم، لم يجُز، وما تخلل من الوقوف فاصلٌ حاجزٌ، وإن كنا لا نشترط الموالاة، فليطف عند الإفاضة، وليسْع.
هكذا قال.
فإن قيل: لو أوقع السعيَ على أثر طواف الوداع، فما قولكم فيه؟ قلنا: هذا مغالطة؛ فإن طواف الوداع، لا يقع إلا بعد الفراغ عن المناسك كلها، فلا اعتداد بطواف الوداع، وعلى الناسك سعيُه. فإذا طاف المُفيض، ولم يسع، وعادَ إلى منى ليرمي، ويبيت على ما سيأتي مناسك منى - فيعتد بتلك المناسك، وإن كان عليه السعي، وقد يؤخر الطوافَ الركنَ إلى انقضاء أيام منى، فلا بأس.
ويخرج منه أنا لا نبعد وقوع تلك المناسك، ممن هو في بقيةٍ من إحرامه.
هكذا ذكره شيخي. وفي قلبي منه شيء والعلم عند الله.

(4/303)


2653 - فأما القول فيما هو أصل السعي، والنازل منه منزلةَ الركن، فالأصل التردد بين الصفا والمروة. ثم أجمع الأصحاب على أنه إذا صدر من الصفا إلى المروة حُسب ذلك مرة في السبع، ثم ينتهي من المروة إلى الصفا، فيحسب ثانيةً، وهكذا إلى تمام السبعة، فيكون الابتداء من الصفا، والختم بالمروة.
وذهب ابن جرير إلى أن الساعي إذا عاد إلى الصفا بعد الانفصال منه، عُد ذلك مرةً واحدة، ثم يفعل كذلك سبعاً، فيتردد بين الميلين أربع عشرة مرة، وذهب إلى هذا أبو بكر الصيرفي (1) من أصحابنا، وعرض تصنيفاً له، فيه ما ذكرناه على أبي إسحاق المروزي، فخطَّ (2) عليه، فرد التصنيفَ إلى أبي بكر، فأعاده (3)، واستقرّ على مذهبه هذا، ولا يعتد به أصلاً.
ومكان السعي معروفٌ [لا] (4) يتعدى.
ومما يجب اعتباره الترتيبُ، فلو بدأ بالمروة، وصار إلى الصفا، فلا يحسب، وابتدأ سعيه في انفصاله عن الصفا.
فهذا ما يتعلق بالشروط، وما يجري مجرى الركن.
2654 - فأما الهيئات، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَقِيَ الصفا بقدر قامة، حتى بدت له الكعبة، ولا يمتنع أنه قصد ذلك الرقي، ثم قال: " الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده " (5). فهذا ما صح عنه.
وحسنٌ لو دعا الإنسان بما بدا له، ثم ينزل ماشياً على هِينَتِه، حتى يبقى بينه وبين ميلٍ يراه معلّقاً على ركن المسجد، مقدارَ ستة أذرع، فيبتدئ السعيَ. وكان ذلك الميل
__________
(1) أبو بكر الصيرفي: محمد بن عبد الله. الإمام الجليل أحد أصحاب الوجوه، تفقه على ابن سريج، ومن كتبه شرح الرسالة، توفي 330 هـ (طبقات السبكي: 3/ 186).
(2) خط عليه أي ألغاه، وبلُغتنا " شَطَبه ".
(3) أي هذا الكلام الذي خَط عليه المروزي، و (شطبه).
(4) ساقطة من الأصل.
(5) حديث دعاء السعي، ورد في حديث جابر الطويل عند مسلم (الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1218).

(4/304)


موضوعاً على المكان الذي منه ابتداء السعي، فكان السيل يهدمه، ويحطمه، فرفعوه إلى أعلى ركن المسجد، ولم يجدوا على السَّنَن أقرب من ذلك الركن، فوقع متأخراً عن مبتدأ السعي سِتةَ أذرع. ثم يأخذ في السعي ويتمادى عليه، حتى يتوسط ميلين أخضرين أحدهما متصلٌ بفناء المسجد، عن يسار الساعي، والثاني متصل بخانٍ، تعرفه العامة بدار العباس، فإذا توسطهما، عاد إلى سجية المشي.
ثم الصحيح من رسول الله صلى الله عليه وسلم شدّةُ السعي " قالت حبيبةُ بنت أبي تجراه (1): " تطلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع نسوةٍ من قريش، لأنظر كيف يسعى، [فرأيته يسعى] (2)، وساقه تدور بإزاره، من شدة السعي، ويقول: أيها الناس: إن الله كتب عليهم السعي، فاسعَوْا " (3).
وذكر بعض أئمتنا لفظ الخبب، وليس ذلك مما يعتد به.
ولكن لا ينبغي أن يبلغ السعي مبلغاً ينبهر به، فإذا كان كذلك، فمن ضرورته طرف من الاقتصاد.
والرقي في المروةِ محبوبٌ كالرقي في الصفا. وكانت الكعبة تبدو في عصر رسول الله عليه وسلم من تلك الجهة أيضاً، ثم أحدث الناس الأبنية، فحالت بين الكعبة وبين الراقين في المروة بالمقدار المشروع، وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سعيه: " اللهم اغفر وارحم، واعف عما تعلم، وأنت الأعز الأكرم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة. وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " (4).
__________
(1) حبيبة بنت أبي تجراه العبدرية، ثم الشيبية، قيل بفتح الأول، وقيل بالتصغير، وتجراه بفتح التاء المثناة من فوق، وفي مسند أحمد (تجزئة) بدل تجراه. وقيل في اسمها حبيّبة.
بالتصغير مع التشديد، روى حديثها هذا. الشافعي، وأحمد، والطحاوي (ر. الإصابة، والاستيعاب، وتجريد أسماء الصحابة).
(2) ساقط من الأصل.
(3) حديث: أيها الناس: إن الله كتب عليكم السعي. رواه أحمد في مسنده: 6/ 421، 422، ورواه ابن حجر في ترجمة حبيبة في الإصابة، وكذلك ابن عبد البر في الاستيعاب.
(4) دعاء اللهم اغفر وارحم ... رواه الطبراني في الدعاء، وفي الأوسط بعضه من حديث ابن مسعود، ورواه البيهقي: 5/ 95، وانظر التلخيص: 2/ 479.

(4/305)


فصل
قال: "وإن كان معتمراً، وكان معه هديٌ، نحر، وحلق ... إلى آخره" (1).
2655 - لم يرع المزني ترتيب مسائل الحج، كما ينبغي، بل أتى بها إتياناً يُشعر بقصد التشويش. ولكنا التزمنا الجريان على ترتيب (المختصر)، والآن ذكر فصلاً طويلاً في الحلق الذي لا يقع محظوراً: وهو من المعتمر يقع بعد السعي، ومن الحاج يوم النحر، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
2656 - وقد اختلف قول الشافعي في أن الحلق في أوانه الذي وصفناه نسكٌ، أو محظورُ نسكٍ أبيح؟ فقال في أحد القولين: " هو محظور أبيح، اعتباراً بالقَلْم واللُّبس، وما عداهما " والقول الثاني: " إنه نسك " ويشهد له ظاهر الكتاب، واستحبابُ الرسول صلى الله عليه وسلم، وإطباق الناس على التشوّف إليه، حتى لا يخلو منقطَعُ نسك عنه.
فإن قلنا: إنه نسك، فلا يحصل التحلل إلاّ به في العمرة، وهو من أسباب التحلل في الحج.
وموضع الحلق الرأس، ولا يتعلق النسك بغيره، كالفدية عند فرض التعرض للشعر قبل التحلل، فإنها تتعلق بكل شعر (2)، وإذا لم يكن على الرأس شعر استحببنا إمرار الموسى عليه؛ تشبيهاً بالحلق، ولا يجب ذلك.
ونقل الصيدلاني عن الشافعي -مع استحباب ما ذكرنا- استحبابَ- الأخذ من الشارب، أو اللحية. ولست أرى لهذا وجهاً، إلا أن يكون أسنده إلى أثرٍ.
ثم لا نقول على قولينا الحِلاق نسك: يتعين أن يصبر حتى ينبت شعرُه ثم يحلقه، بل إذا لم يكن في أوان الحلق شعرٌ، سقط الحلق، والإمرار تشبهٌ مندوب إليه.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 80.
(2) بكل شعرٍ: أي بكل شعر من شعور الجسد.

(4/306)


2657 - ثم الحلق للرجال أفضل، والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بالتحلل، عامَ الحديبية، وتَوانَوا في التحلل والحِلاق، وأمرهم ثانية وثالثة، فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة، فقال: أما تَرَيْن قومك، أمرتهم بالتحلل، فلم يفعلوا!! فقالت: اخرج، ولا تُحدث أمراً، حتى تدعوَ بحالقك، فيحلقَ شعرك، وبجازرك فينحرَ هديك، فخرج، وفعل، فابتدر الناس إلى الحِلاق، والنحر، حتى كادوا يقتتلون، فمنهم من حلق، ومنهم من قصر " (1). وقيل ما أشارت امرأة بالصواب، إلا أم سلمة في هذا الأمر.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله المحلقين ". قيل: يا رسول الله، والمقصرين. قال: " رحم الله المحلقين ". قيل: يا رسول الله، والمقصرين، قال: رحم الله المحلّقين، قيل: يا رسول الله، والمقصرين. قال: والمقصرين " (2).
2658 - ثم قال الأئمة: إذا ثبت أن الحلق أفضل، فلو نذر الحلقَ في أوانه، لزمه الوفاء بالنذر، ولم يُغن التقصير، فحكموا بأنه يلتزمه بعينه بالنذر، وقد نص الشافعي عليه أيضاً.
ولو لبّد المحرم رأسه، وعقصه، فهذا لا يفعله إلا العازم على الحلق، فهل ينزل هذا منزلةَ نذر الحلق؟ فعلى قولين. ونظير ذلك في المناسك التقليدُ والإشعار؛ فإن القول اختلف في أنه هل ينزل ذلك منزلة قول القائل: جعلت هذا ضحية؟ ومما يداني ذلك أن من رأى بهيمةً مذبوحة مشعَرة، قد غُمِس مَنْسِمها (3) في دمها، وضُرب به
__________
(1) حديث مشورة أم سلمة يوم الحديبية رواه البخاري من حديث المِسْوَر بن مَخْرَمةَ، ومروان بن الحكم الطويل في قصة الحديبية (الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، ح 2731، 2732).
(2) حديث رحم الله المحلقين: متفق عليه من حديث ابن عمر: البخاري: الحج، باب الحلق، ح 1727، ومسلم: الحج، باب تفضيل الحلق، ح 1302، ومن حديث أبي هريرة، نفس الموضع عند البخاري ومسلم، ورواه مسلم من حديث أم حصين، في الموضع نفسه، وأحمد عن أبي سعيد، المسند: 3/ 20، 89، وانظر التلخيص: 2/ 499 ح 1062.
(3) المَنسم: بفتح الميم وكسر السين. طرف خف البعير.

(4/307)


صفحتها، فهل له أن يأكل منها، اكتفاء بما رأى من العلامات؟ فيه قولان. وسيأتي كل أصلٍ في موضعه مستقصى إن شاء الله تعالى.
فإن نذر الحلقَ، وألزمناه الوفاء، فقد ذكرنا أن التقصير لا يكفيه، ومعنى التقصير الأخذ من الشعر، مع إبقاء شيء ممّا أخذ، فلو استأصل الشعر بالمقص، فهذا (1) لا يسمى حلقاً، وفيه احتمال؛ من جهة الاستئصال وكذلك لو نتف أو [أحرق] (2).
ولو لم يجر نذرٌ، سقط الفرض -على قول النسك- بالنتف.
ولو نذر الحلقَ، ثم أمرّ الموسى، ولم يستأصل، فالظاهر أنه لا يسقط الفرض؛ فإن هذا من التقصير. ويكفي ما يسمى حلقاً، ولا يشترط الإمعان في الاستئصال، ويقرب الرجوع إلى اعتبار رؤية الشعر.
2659 - والنسوة لا حلق عليهن، بل يقتصرن على التقصير، ولا يلزمهن الحلق بالنذر؛ فإن الحلق ليس قُربة في حقهن.
2660 - ثم الأقل المجزئ نسكاً، هو الذي تكمل [الفدية] (3) فيه إذا جرى محظوراً، وهو ثلاث شعرات. وقد ذكرنا شيئاً بعيداً في الشعرة الواحدة، وأن الفدية هل تكمل بها؟ وهو عائدٌ فيما يقع نسكاً، ولكنه مزيف، غيرُ معدود من المذهب.
وكان شيخي يقول: لو نذر استيعابَ الرأس بالحلق، ففي وجوب الوفاء به تردد للقفال، وهو مظنة الإشكال. ولا اطلاع على حقيقته قبل كتاب النذور.
وحلقُ شعراتٍ في دفعات مقيسٌ بحلقها على الحظر، فإن أكملنا الفدية مع التفرق، [حكمنا] (4) بكمال النسك [بها في أوان النسك] (5). وإن لم نكمل الفدية، لم يسقط حق النسك.
__________
(1) سقطت من (ك).
(2) في الأصل: حلق.
(3) في الأصل: القربة.
(4) في الأصل: حكماً.
(5) ساقط من الأصل.

(4/308)


ولو أخذ المحرم شيئاً من شعرةٍ، ثم عاد إليها بعد زمانٍ وأخذ شيئاً آخر منها، ثم كذلك ثالثة، وكل ذلك في شعرة واحدة، فإن كان الزمان متواصلاً، لم نكمل الفدية، ولم يسقط النسك، وإن تقطّع الزمان، ففي المسألتين خلاف، ووجه الاحتمال بيّن.
2661 - ثم إذا حكمنا بكون الحلق نسكاً، فهو ركنٌ، وليس كالرمي والمبيت، فاعلم ذلك؛ فإنه متفق عليه، وآيته أنه مع الحكم بوجوبه لا يقوم الفداء مقامه، حتى لو فرض اعتلال في الرأس يعسر معه التعرض للشعر، ولكنه كائنٌ، فلابد من التريّث إلى إمكان الحلق، ولا تقوم الفديةُ مقامه. نعم، إذا لم يكن شعرٌ، فلا حلقَ؛ لأن الحلق للنسك (1) هو حلق شعرٍ (2 اشتمل الإحرام عليه، فإذا لم يكن على الرأس شعر 2) في وقت الحلق، لم يتحقق ما ذكرناه.
2662 - ثم وقت الحلق في العمرة يدخل بالفراغ من السعي، ووقت الحلق في الحج يأتي مستقصىً، بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فصل
قال الشافعي: " ويخطب الإمام يوم السابع ... إلى آخره " (3).
2663 - ينبغي للمقدَّم الذي يحج بالناس، أن يخطب أربع خطب، ولا ينبغي للإمام إذا لم يحضر بنفسه أن يُخلي جمعَ الحجيج عن مقدَّمٍ يحِلّ محل الأمير عليهم، والسبب فيه أن الحج يجمع صنوفاً من الخلق، ويُتوقع من ازدحامهم أمور لابد في دفعها من التعلّق برأيٍ مطاع؛ ولهذا يستحب أن يحضر الجامعَ [سلطانٌ] (4). وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميراً على الحج، في السنة التاسعة من
__________
(1) (ط): النسك.
(2) ساقط من (ط).
(3) ر. المختصر: 2/ 81.
(4) ساقطة من الأصل.

(4/309)


الهجرة (1)، وبعث علياً وراءه، حتى يقرأ على الكفار سورة براءة.
ثم الخطبة الأولى تكون في يوم السابع، يحمد الله تعالى فيها، ويصلي على نبيه، ويعلّم الناس ما بين أيديهم من المناسك، ويستحثهم على النُّقْلة يوم التروية، كما سنصفها.
والخطبة الأخرى تقع يوم عرفة [بعرفة] (2).
والثالثة تقع يوم النحر، والرابعة يوم النَّفر الأول.
والخطب كلها أفرادٌ واقعةٌ بعد الفراغ من صلاة الظهر، إلا خطبة يوم عرفة، فإن الإمام يخطب خطبتين، قبل فعل الصلاة، بعد الزوال، وتكون الخطبة الثانيةُ قصيرةً، لا تزيد على مقدار الأذان، والإقامة. فيبتدئ الخطبةَ الثانية ويبتدىء المؤذن الأذان، ويُتبعه الإقامة، ويقرب نجاز الخطبة من فراغ المؤذن من الإقامة. هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت خطبته في مسجد إبراهيم، على ما سنذكر مكانه من عرفة، ومقصود كل خطبةٍ تعليمُ الناس ما هم فيه، وما بين أيديهم من المناسك.
2664 - ثم ذكر (3) بعد ذلك الوقوفَ بعرفة، وهو الركن الأعظم، وبه يتعلق الإدراك، والفوات.
فأول ما نذكره مكانُ الوقوف، وزمانُه، فأما المكان، فمعروف، والذي نحتاج إلى ذكره أن على منقطع عرفة مما يلي منى، وصوب مكة وادٍ، يقال له: وادي عُرَنَة (4)، وليس ذلك الوادي من عرفة. وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجيج بالترقي منه.
ومسجد إبراهيم بعضُه في الوادي وأخرياتُه في عرفة، فمن وقف في صدر
__________
(1) حديث بعث أبي بكر أميراً على الحج، متفق عليه، من حديث أبي هريرة (البخاري: الحج، باب لا يطوف بالبيت عريان، ح 1622، ومسلم: الحج، باب لا يحج البيت مشرك، ح 1347).
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ذكر: أي المزني في المختصر.
(4) عُرَنة: وزان رطبة.

(4/310)


المسجد، فليس واقفاً بعرفة، ويتميز مكانُ [المسجد] (1) من عرفة بصخرات كبار، فرشت في ذلك الموضع.
ويُطيف بعرجَات عرفة جبالٌ، ووجوهها المقبلةُ من عرفة، وفي وسطها جبل يسمى جبلَ الرحمة، ولا نسك في الرقيّ فيه، وإن كان يعتاده الناس، وموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم معروفٌ، وعنده يقف الخطيب.
فهذا ما يتعلق بالمكان.
2665 - فأما الزمان، فيدخل أول (2) وقت الوقوف بزوال الشمس يومَ عرفة، ويمتد إلى طلوع الفجر من يوم النحر؛ فلو لم ينته إلى عرفةَ إلاّ بعد غروب الشمس، ولكنه أدرك الوقوف ليلاً، فقد أدرك الحج.
وفي بعض التصانيف قولان في الإدراك، وهذا غير سديد. والوجه القطع بالإدراك. وكان شيخي يذكر الخلاف فيه، إذا أنشأ الإحرام ليلة النحر، ويصحح الإدراكَ، ويزيف غيره.
ولم تختلف الأئمة [في] (3) أن من أدرك الوقوف نهاراً، وأفاض، ففارق عرفة قبل غروب الشمس، فهو مدرك للحج، وإن لم يجمع بين الليل والنهار، في وقوفه.
وقال مالك (4): " من وقف ليلة النحر، فقد أدرك الحج، وإن وقف نهاراً، ولم تغرب عليه الشمس وهو بعرفة، لم يكن مدركاً للحج "؛ وصار إلى أن الوقت الأطول ليلة النحر، فالاعتبار به.
ثم إذا جعلناه مدركاً للحج، وقد أفاض قبل الغروب، ففي لزوم الدم قولان:
أحدهما - أنه يلزمه، إلا أن يعود إلى عرفة قبل غروب الشمس، ويصبر حتى تغرب، فلا دم حينئذ. والقول الثاني - لا يلزم الدم أصلاً، عاد، أو لم يعد. وإذا اختلف القولان في وجوب الدم، تبيّن من اختلافهما الاختلافُ في وجوب الكون بعرفة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقط من (ك).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 482 مسألة 772.

(4/311)


2666 - والحج يشتمل على ثلاثة أصناف: الأركان - وبها الاعتداد، وإذا فرض الإخلال بها، لم يقم جابر مقامها.
والثاني - الأبعاض وهي تنقسم إلى متفق عليه، وإلى مختلفٍ فيه، على ما سنجمعها بعد ذلك. فكلُّ ما نُوجِبُ الدمَ فيها قطعاً، فهو واجب، وإن لم يكن ركناً، وما تردد القول في وجوب الدم فيه، فالقول مختلف في وجوبه أيضاً. فإن قلنا: يجب الدم إذا أفاض قبل الغروب، فلو عاد بعد الغروب، فهل يسقط الدم بهذا العود؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسقط؛ لأنه جمع بين الليل والنهار. والثاني - لا يسقط؛ فإن المطلوب أن يتصل آخر النهار بأول الليل، وهو كائن بعرفة (1).
فهذا تفصيل المذهب في (2 زمان الوقوف 2).
2667 - ثم نذكر بعد ذلك فصولاً، منها: إن الحصول بعرفة كاف، وإن لم يتفق لبثٌ، حتى لو عبر بطرفٍ من عرفة، كفاه ذلك، ولا يشترط أن يكون حضوره إياها على علمٍ منه بها، ولو لم يعرف حصوله بعرفة، وقد كان حضر (3) بها، كفاه ذلك.
ومما يجب التنبه له أنا إذا ذكرنا خلافاً في الذي يصرف طوافه عن جهة النسك، إلى جهةٍ أخرى، وليس في الطرق تعرُّضٌ لتصوير مثل ذلك في عرفة، فظاهر الطرق يشير إلى القطع بأنه لو صرف حصولَه بعرفة، إلى جهةٍ أخرى، حصل له الوقوف، مثل: أن يتبع غريماً له، أو دابة نادّة (4).
ولعل السبب فيه، أن الوقوف في نفسه، لا يُتَخَيّل قُربة، والطواف قُربة على حياله، والذي يدل على ما ذكرناه أن الأئمة قالوا: لو حضر بطرفٍ من أطراف (5) عرفة [نائماً] (6)، كفاه ذلك.
__________
(1) لم يصرح بالثالث من الأصناف التي يشتمل عليها الحج، وهو السنن التي لا يجب فيها دم.
(2) ما بين القوسين سقط من (ك).
(3) (ط): خطر بها.
(4) ندّ البعير: نفر وشرد. (المعجم).
(5) (ك) أطرافه.
(6) في الأصل، و (ك): فأنما.

(4/312)


ولا يبعد أن يقال: لو اتفق مثلُ هذا من راكب في أشواط [الطواف] (1)، والنوم على هيئة لا تنقض الطهر، فهذا يقرب من الخلاف في صرف الطواف إلى غير جهة النسك؛ فإنه لم يوجد منه فعلٌ أصلاً، وهذا محتمل في الطواف، ويجوز أن يقال: يقطع بوقوع الطواف من النائم، الذي صورناه موقعه؛ من حيث (2) لم يصرف الطوافَ عن النسك، وإن لم يكن ذاكراً له.
وهذا يلتفت على أصلٍ، ذكرتُه في كتاب الطهارة، وهو أن من نوى الطهارة، ولم يصدر منه فعل في الغُسل، لا من جهة الإقدام عليه، ولا من جهة المُكث في الماء، فهل نقضي بصحة الوضوء، والحالة هذه؟ ففي المسألة وجهان، ذكرتهما عن شيخنا أبي علي.
ولا يمتنع طرد الخلاف في [الوقوف] (3) إذا [صرف قصداً] (4) عن جهة النسك.
فهذا بيان القول فيما يسقط الفرض به من الوقوف، وفيما يحصل به التمام، وفي محل الدم، على الاختلاف.
2668 - ومما نذكره في فصول عرفة: الجمعُ بين صلاة الظهر والعصر، وهو مندوب إليه في هذا اليوم؛ حتى يتفرغ الحجيج إلى الدعاء، ويتسع لهم وقت الإفاضة، ثم القول في الجمع مذكور في كتاب الصلاة، ولكن نعيد ما يختص بالنسك: فالغريب يجمع مقدِّماً، على ما يعتاده الحجيج، ولو أخر، فلا عليه؛ فإنه مسافر، يجمع مقدماً، ومؤخراً، ولا شك أن الأوْلى التقديم.
وقد ذكرنا في الصلاة أن إقامة الصلوات في المواقيت أولى من الجمع، إلا في حق الحاج؛ فإن إيثار الفراغ شيةَ عرفة أهم، وأولى من كل شيء، ولهذا اتفق العلماء على أنا لا نؤثر للحاج صومَ يوم عرفة؛ حتى يتمكن من الدعاء عشية عرفة. وصح أن
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) سقطت من (ك).
(3) في الأصل: الوقت.
(4) ساقط من الأصل.

(4/313)


رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1 لم يكن صائما يومئذ.
2669 - ومن فصول عرفة أنا نؤثر إكثار التهليل عشية عرفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 1) " إن أفضل ما دعوتُ ودعا الأنبياء قبلي عشية عرفة: لا إله إلا الله " (2) ومما نؤثر للحجيج في عرفات التلبيةُ، ورفعُ الصوت بها، على الحدّ الذي ذكرناه.
2670 - وقد ذكرنا خلافاً في أن المسافر سفراً قصيراً، هل يجمع؛ واختلف أصحابنا على طريقين في المكي، فقطع بعضهم بأنه يجمع، وإن قَصُر سفره، لمكان النسك. وهؤلاء يرون الجمع من آثار النسك. ومن أصحابنا من خرّج جمع المكي على القولين في جمع المسافر سفراً قصيراً.
والعَرَفيّ (3) إذا أنشأ الإحرام من عرفة، فهل يجمع؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجمع وإن جمع المكي، فإنه جمعٌ في الإقامة من غير مطر. والثاني - يجمع، لمكان النسك.
وقد نجز المقصود في الوقوف.
فرع:
2671 - إذا وقع غلطٌ في الهلال، فوقف الناس يوم العاشر، ثم تبيّنوا الغلطَ، وقع وقوفهم الموقع وفاقاً، والسبب فيه أنهم لو كلّفوا القضاء، لم يأمنوا وقوعَ مثله في القضاء، ثم إن أقاموا، لاقَوْا عسراً، وإن انقلبوا وآبوا، تضاعفت المشقات. وليس في الشرع تكليفُ مثل هذا.
واختلف الأئمة في أنهم لو وقفوا في اليوم الثامن، وهذا يتصور بفرض شهادات زور، على الهلال.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(2) دعاء عرفة بهذا السياق، رواه العقيلي في الضعفاء الكبير من حديث نافع عن ابن عمر: 3/ 462 ترجمة فرج بن فضالة، وله روايات أخرى بألفاظ متقاربة، منها مالك في الموطأ: 1/ 422، 423، والبيهقي: 4/ 284، 5/ 117، وانظر تلخيص الحبير: 2/ 484 ح 1044.
(3) أي الذي من أهل عرفة.

(4/314)


فمن أصحابنا من قال: يقع الوقوف الموقع، كالغلط إلى العاشر، ومنهم من قال: إنه لا يقع الموقعَ؛ فإن هذا النوع من الغلط بديعٌ نادر الوقوع، ووضع الشرع يقتضي الفرق بينهما. ولا شك أن هذا الذي ذكرناه فيه إذا لم يتنبهوا (1)، حتى انقضى التاسع.
2672 - ثم الحجيج إذا رأَوْا الشمس مُتَضَيِّفَةً للغروب، انقلبوا عن الموقف، فيوافون الانفصال - من طرف عرفةَ بعد غروب الشمس، ويوافون مزدلفة، ويؤخرون المغرب إلى العشاء، ويجمعون بينهما بمزدلفة، وتمدّ المطايا أعناقها، حتى إذا وَافَوْا مزدلفةَ باتوا بها، فإذا انتصف الليل، أخذوا في التأهب للرحيل، ثم إذا استقلّت بهم المطايا، وانتهَوْا إلى المشعر الحرام، وهو آخر مزدلفة، وقفوا، ودَعَوْا، ووقوفهم هذا سنةٌ، غيرُ مجبورة بالدم لو تركت.
ويلقاهم بعد مجاوزة المشعر [الحرام] (2) وادي مُحسِّر (3)، وكانت العرب تقف به، وقد أُمرنا بمخالفتهم، فلا وقوف.
وقد نؤثر تحريك الدابة قليلاً، وكان عمر إذا انتهى إلى وادي محسِّر يحرّك دابته، ويقول:
تعدو إليك قَلِقاً وَضينُها ... معترضاً في بطنها جنينُها
مخالفاً دينَ النصارى دينُها (4)
__________
(1) (ك): يتبينوا.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) وهو بين مزدلفة ومنى كما هو واضح من السياق، وسمي بذلك لأن فيل أبرهة كلّ فيه وأعياه (فحسّر) أصحابه بفعله، وأوقعهم في الحسرات (المصباح).
(4) الأبيات في اللسان وعند البيهقي بتغيير في الشطر الأول هكذا: إليك تعدو قلقاً وضينها.
تعدو أي المطايا. قلقاً وضينها: كناية عن السرعة والخفة، لأن الوضين هنا بمعنى
الحزام، الذي يشد به الرحل، وقلق الحزام دليل ضمور بطن المطايا وخفتها، واستعدادها للسير. وأراد دينه لأن الناقة لا دين لها.
وفي اللسان أن الذي أنشدها هو ابن عمر، لا عمر. رضي الله عنهما، أخرجه الهروي والزمخشري. وأما الطبراني، فقد أخرجها عن سالم عن أبيه أن النبي صلى اله عليه وسلم،=

(4/315)


وإذا وقعت الرحلة من مزدلفة في السُّحْرةِ العليا، فإنهم يوافون أطراف منى، وقد
أسفروا وينتهون إلى الجمرات، فيتعدَّوْن الجمرة الأولى التي ينتهون إليها، والجمرةَ الثانية، وهما على قارعة الطريق، ثم يمرون حتى ينتهوا إلى جمرة العقبة، وتلك الجمرة في حضيض الجبل، مترقية عن الجادّة على يمين السائر إلى مكة، ثم إذا انتهَوْا إلى هذا المنتهى، وابتدَوْا (1) رمي هذه الجمرة، تركوا التلبية وأبدلوها بالتكبير.
وكان شيخي يذكر عن شيخه القفال أنهم إذا رحلوا (2) من مزدلفةَ، مزجوا التلبيةَ بالتكبير، في ممرهم، فإذا انتهَوْا إلى الجمرة، وافتتحوا الرمي، محّضوا التكبير، ولم أرَ ذكرَ المزج إلى الرمي لغيره.
2673 - ثم نبتدئ من هذا الموضع القولَ في التحلل.
فنقول: للحج تحللان، وهما متعلقان بأسباب ثلاثة، على قولٍ، وبسببين على الآخر. فإن حكمنا بأن الحلقَ في أوانه نسك، فأسباب التحلل ثلاثة: الحلق، وطواف الزيارة، ورمي جمرة العقبة.
وإن قلنا: الحلق محظورُ نسكٍ يباح إباحة القَلْم، فلا يباح به تحلل، وسبب التحللين طواف الإفاضة، ورمي جمرة العقبة.
ثم إن قلنا: للتحلل سببان، فالإتيان بأحدهما يوجب أحد التحللين.
وإن قلنا: الحلقُ نسك، فأسباب التحلل ثلاثة، والإتيان بالاثنين منها يثبت أحد التحللين، ولا تعيين، وكأنا نبغي التنصيف، ولكن الثلاثة ليس لها نصفٌ صحيح، فاقتضى ذلك تنزيلَ الأمر على اثنين، وهذا كقولينا: بتمليك العبد طلقتين، على محاولة تشطير الثلاث.
ثم عند ذلك قال الشافعي: " لا ترتيب في هذه الأسباب "، فليقدم منها ما شاء،
__________
=هو الذي ثمثل بها، والبيهقي هو الذي أخرجها عن عمر (ر. اللسان، تلخيص الحبير: 2/ 494، والبيهقي: 5/ 126).
(1) بتسهيل الهمزة.
(2) (ط): دخلوا مزدلفة.

(4/316)


وليؤخر ما شاء، وما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عن شيء قدِّم من ذلك أو أُخر، إلا قال: " افعل ولا حرج " (1).
2674 - ومما تمس الحاجة إلى ذكره في رمي جمرة العقبة: أن وقته يدخل بدخول وقت الطواف، [ووقت الحلق] (2) على قول النسك.
ثم مذهبنا أنه كما (3) انتصفت ليلة المبيت بمزدلفة، دخل وقت هذه الأشياء الثلاثة، حتى لو بادر مكة، وأخل بالمبيت، وانتهى إلى مكة قبل طلوع الفجر، وطاف، اعتُدّ بطوافه، ولو انتهى إلى الجمرة، فرمى، وقَع الموقع، وكذلك لو حلق على قول النسك.
غير أن الأولى أن لا يرمي إلاّ بعد طلوع الشمس، والدليل على جواز الإيقاع بالليل، ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدّم ضعفة أهله من المزدلفة بليل، وقال: " رُوَيْدَك بالقوارير يا أنجشة "، وذكر لهم أن يوافوه راجعين إلى منى " (4).
وكان صلى الله عليه وسلم وافى الرمي قبل الطلوع، فلا يتأتى موافاته في وقت وصوله إلا بإيقاع الطواف ليلاً، فإن من منى إلى مكة فرسخين.
ثم وقت رمي العقبة يمتد إلى غروب الشمس يوم النحر، وهل يمتد إلى طلوع الفجر في الليلة المستَقبلة يوم القَرّ (5)؛ فعلى وجهين: ذكرهما الإمام وصاحب التقريب: أظهرهما أنه لا يمتد، ومن قال: يمتد، اعتبره بالوقوف بعرفة، لمّا تعلّق بالنهار، وبالليلة المستقبِلة.
__________
(1) حديث " افعل ولا حرج " متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 65 ح 822).
(2) ساقط من الأصل.
(3) كما: بمعنى عندما.
(4) حديث تقديم الضعفة من المزدلفة، أصله متفق عليه، من حديث ابن عباس (البخاري: الحج، باب من قدم ضعفة أهله بليل، ح 1678، ومسلم: الحج، استحباب تقديم دفع الضعفة، ح 1293).
(5) يوم القرّ: الأول من أيام التشريق، لأن الناس يقرّون فيه بمنى.

(4/317)


فإن فات الرمي على ما سنصف فواته بعد هذا، ولم يثبت قضاؤه، أو ثبت [وانقضى] (1) بانقضاء أيام التشريق، وجب الدم على ما سيأتي.
ثم اختلف أصحابنا في أن التحلل هل يتوقف على الإتيان ببدل الرمي؟ منهم من قال: لا. ومنهم من قال: يتوقف على البدل، توقفه على المبدل. ومنهم من فصّل بين أن يكون البدل دماً، وبين أن يكون صوماً: قال: إن كان دماً توقف التحلل عليه، وإن كان صوماً، لم يتوقف عليه، لطول الزمان.
2675 - وأما طواف الإفاضة، فإنه ركن وإن كان من أسباب التحلل، وإن كان أخَّر السعي، فالطواف والسعيُ يعدان شيئاً واحداً من أسباب التحلل.
[فهذا بيان التحللين بأسبابهما] (2).
وقال صاحب التقريب: إذا لم نجعل الحِلاقَ نسكاً، فمن أصحابنا من قال: [كما] (3) طلع الفجر يومَ النحر، حصل أحدُ التحللين، من غير إقدام على شيء، واعتبر طلوع الفجر، نظراً إلى الدخول في اليوم.
2676 - فإِذا وضح ما ذكرناه، فنذكر بعده الأحكامَ المتعلقةَ بالتحللين، وأحدِهما.
فأما إذا حصل أحد التحللين، فلا خلاف في استباحة لُبسِ المخيط، وسترِ الرأس، وقَلْمِ الظفر، والحلقِ إن لم نجعله نسكاً.
ولا خلاف أن الوطء لا يستباح، بتحلل واحدٍ.
فأما التلذذُ دون الجماع، مع الإنزال ودونه، والاصطيادُ، وعقدُ النكاح، ففي هذه الخصال الثلاث قولان: أحدهما - أنها تستفاد بتحلل واحد كما قدمناه، والثاني لا تستفاد كالجماع. أما المباشرة فشبيهةٌ به، والعقد توصلٌ إليه، والصيد عظيم
__________
(1) في الأصل: وانتفى.
(2) عبارة الأصل مضطربة هكذا: ولو كان التحللين، وأسبابهما.
(3) في الأصل: كلما. و" كما " هنا بمعنى: (عندما).

(4/318)


الوقع؛ من حيث إنه إتلافٌ [محرّم] (1)، فشابه الوقاع، لعظم وقعه.
واختلف أصحابنا على طريقين في استعمال الطيب، فمنهم من قطع بإلحاقه باللُّبس، والقَلْم فأباحه، ومنهم من خرّجه على قولين، كالمباشرة، وغيرها.
والأولى وإن قلنا: لا ترتيب، أن يرمي الجمرةَ، ثم يحلق، ثم يطوف، فأما الرمي، فالرأي تقديمه حذاراً من الخلاف، ثم الحلق يقدّم، ليأتي البيت لابساً [متزيناً] (2).
فصل
2677 - أعمال الحج تقع على وجهين، ولكل واحد ترتيب، نذكره حتى يفهم المبتدئ ترتيب الأعمال.
فإذا أحرم الغريب بالحج، من ميقاته، ووجد متَّسعاً في الزمان، فإنه يدخل مكةَ قادماً، ويطوف طواف القدوم، كما سبق وصفه، ثم هو بالخيار: إن شاء سعى على أثر طواف القدوم، ووقع السعي ركناً، وإن شاء أخر السعي إلى ما بعد طواف الإفاضة.
ثم أهل مكةَ يرحلون يوم التروية، ويسمونه يومَ النُّقْلَة ويمتدّون إلى مِنى، ويبيتون به ليلةَ عرفة، وهذا مبيت منزل، لا مبيتُ نسك أصلاً، ولا يتعلق به غرض نسكي.
ثم يصبحون، ويتوجهون إلى عرفة، فيوافونها قبيل الزوال، على أناتِهم، فإذا قَضَوْا حقّ المكان، أفاضوا -كما وصفناه- إلى مزدلفة، وباتوا بها، وهذا المبيت نسك، على ما سنصفه، ثم يصبحون إلى منى، ويرمون، ويحلقون، كما سبق وصفه، ثم يُفيضون إلى مكة، ويطوفون. وهذا الطواف -هو الركن- يسمى طواف الإفاضة، وطوافَ الزيارة، وطواف الصَّدَر، وقد قيل: طوافُ الصَّدَر طوافُ الوداع. ثم إن كان سعى قبلُ، فلا يسعى. وإن لم يكن سعى، فيسعى الآن.
__________
(1) في الأصل: محترم. وفي (ك): إحرام محترم.
(2) ساقطة من الأصل.

(4/319)


ثم ينقلب إلى منى للمبيت والرمي في أيام التشريق، حتى إذا وَفَّى ما عليه، فإن شاء نفر في النفر الأول، وإن شاء نفر في النفر الثاني، ثم يرجع إلى مكة ويطوف طوافَ الوداع، كما سبق وصفه.
فهذا ترتيب أعمال الحج، في حق من يدخل مكة، قبل يوم عرفة. فأما إذا انتهى الحاج في ضيق الوقت إلى عرفة، فيقفُ، ويجري الترتيبُ الذي رسمناه، وليس في حقه طوافُ قدوم، وباقي الترتيب كما مضى.
فصلٌ
جامعٌ في أحكام الرمي
2678 - الرمي من الأبعاض وفاقاً، وهو مجبور بالدم قولاً واحداً، وهو صنفان: أحدهما - رميُ جمرة العقبة، وقد سبق القول في وقته، وكونِه من أسباب التحلل، وهو رمي سبع حصيات إلى الجمرة الأخيرة، المسمّاة جمرةَ العقبة، تلي مكة، وتقع على يمين من يؤمها من جهة منى.
والثاني - الرمي في أيام التشريق، وهي ثلاثة أيامٍ بعد النحر، يسمى الأولُ منها يومُ القَرّ؛ لأن الحجيج يقرّون فيه بمنى، ويسمى الثاني النفرَ الأول، فإن الحجيج لهم أن ينفروا بعد الرمي، متعجلين. واليوم الثالث يسمى النفرَ الثاني.
ويشرع في كل يوم يقيم فيه الحجيج [الرميُ] (1) إلى الجمرات الثلاث، ويجب البداية بالجمرة الأولى، وهي تلي مسجد الخَيْف، من جهة عرفة، وليست حائدة عن الجادّة، فيرمي إليها الناسك سبعَ حصيات، وبعدها جمرة أخرى في صوب مكة، على سَنَن الجادّة، كما وصفناها (2)، والرمي سبع، كما ذكرناه، وبعدها جمرةُ العقبة، وقد سبق وصفُها، وهي حائدة عن الطريق، مترقيةٌ في الحضيض قليلاً، ولهذا تسمى جمرةَ العقبة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) هنا خلل آخر في ترتيب نسخة (ك). إذ انتقلت من آخر ص 143 إلى 232.

(4/320)


ففي كل يوم من أيام منى، على الكائن بها الرميُ بأحدٍ وعشرين حصاة، ومجموعها إذا لم يتعجل الناسك في النفر الأول ثلاث وستون حصاة، وإذا ضمت حصياتُ العقبة، يومَ العيد إليها، كانت سبعين حصاة.
والحجيج يعتادون أخذ ما يحتاجون إليه من الحصى، من جبال مزدلفة؛ فإنهم يصادفون فيها أحجاراً رِخوة، لم يرد في التزوّد منها ثَبَتٌ وتوقيفٌ في الشرع.
2679 - ثم الكلام في مقاصدَ منها: القول فيما يُرمى: ما جنسه؟ فيجب أن يكون من الأحجار لا يجزئ غيرُها؛ فإنها غيرُ معقولة المعنى، فيلزم الاتباع فيها، وأما ما لا يسمى حجراً، فلا يجزئ الرميُ به، كما يستخرج من المعادن: من الزرنيخ، والإثمد، والجواهر المنطبعة، كالتبرين، وما في معناهما.
وتردد جواب الأئمة كلصاحب التقريب وغيرِه في الجواهر التي تتخذ فصوصاً، مثل: الفيروزج، والعقيق، والياقوت بأصنافه: ما يشف منها، وما لا يشف.
والظاهر أنه لا يجزئ الرميُ بها.
والأحجار التي يستخرج منها جواهر كان يقسمها شيخي، ويقول: منها ما يسمى حجراً مطلقاً، وليس [يبين] (1) المستخرج منه على ظهورٍ، [فما] (2) كان كذلك، فهو حجر، والرمي به مجزىء، وهو كالأحجار البيض الصغار، في رَضْراض (3) الأودية، فإنها حجر الميناء (4)، لكن لا يبين ذلك عليها على ظهور، ولا يعرفها إلا خواصُّ الصَنْعَوِيّين، وحجر النُّورة قبل أن يطبخ أحجارٌ على الحقيقة، وهي كل حجر تشوبه خطوط بيضٌ، فإذا طبخت خرجت عن أن تكون أحجاراً، فلا يجزئ الرمي بها، وهي نُوْرة. ويجزئ الرمي بحجر النُّورة.
وهذا كالخزف بالإضافة إلى التراب في حق المتيمم، فالتيمم بالتراب جائز، ولا يجزئ إقامته بالخزف، يعني سحاقته.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل، (ك): ما.
(3) الرضراض: الحصى الصغار في مجاري الماء (المعجم).
(4) الميناء: مادة الزجاج، وطلاءٌ تغشى به المعادن وغيرها (المعجم).

(4/321)


وأما أحجار الحديد، فقد كان شيخي يتردد فيها، ولا يبعد أن تُلحق بالإثمد.
والمعتبر في هذا أمر قريب عندي، وهو أن الإثمد جوهرٌ متّحدٌ، وليس كامناً في حجره، وإنما الذي يشار إليه إثمدٌ كله، وليس كذلك [حجر] (1) الحديد، فإنه حجرٌ فيه حديد كامنٌ، وليس الإثمد كحجر النُّورة، فإن الأحجار كلَّها -إلا ما شاء الله منها- حجرُ (2) النورة. والإثمد جوهر كله من غير أن يحرق ويشوى، وهو كالمغنيسيا (3)، والمرقشيثا (4)، والطَّلْق (5).
فهذا هو القول فيما يُرمَى.
2680 - ويتصل بذلك القول في الحجر الذي رُمي به مرة، فأريد استعمالُه في رميٍ آخر، فإنْ تعدَّدَ الشخصُ، أو الجمرة، أو الوقت، لم يمتنع وفاقاً. فإذا رمى شخصٌ حصاةً إلى جمرتين، فرماها إلى جمرةٍ، ثم أخذها ورماها إلى الأخرى، أو رماها شخص إلى جمرةٍ، فأخذها شخص آخر من تلك الجمرة، ورماها إلى تلك الجمرة بعينها، في ذلك اليوم، أجزأ ذلك.
وكذلك إذا تعدد الزمان، واتحد الشخص والجمرة، بأن رمى إلى جمرةٍ حصاةً في يوم، ثم رماها في اليوم الثاني إلى تلك الجمرة ذلك الشخص، كل ذلك يجزىء. وإن اتحد اليوم، والجمرةُ، والرامي، ففي المسألة وجهان: أظهرهما المنع؛ لاتحاد الأسباب، والعدد مطلوبٌ معنيّ. وقال قائلون من الأصحاب: يجزىء ذلك، كصور الوفاق؛ فإن الرمي قد تعدد، فلا اعتبار بَعْده باتحادٍ وتعددٍ.
هذا أحد المقاصد في الفصل.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).
(3) المغنيسيا: حجر يستخدم في الصناعات بما يحويه من المعادن، وهو ألوان وأصناف كثيرة (الجامع لابن البيطار).
(4) المرقشيثا: صنف من الحجارة، يستخرج منه النحاس (الجامع لابن البيطار).
(5) الطّلق: حجر برّاق شفاف ذو أطباق، يُطحن فيكون مسحوقاً يذر على الجسد، فيكسبه برداً ونعومة (معرّب)، (المعجم).

(4/322)


2681 - ومنها القول في أوقات الرمي كل يوم. ويتعلق به الكلام في الفوات والقضاء وما يتصل به، فنقول:
أول وقت الرمي في كل يوم من أيام منى يدخل بزوال الشمس، ويدوم إلى غروبها، وهل يمتد في الليلة المستقبلة؟ فعلى وجهين ذكرناها في رمي جمرة العقبة: أصحهما أنه لا يمتد إلى ساعات الليلة المتقبلة، بل ينقضي وقت [إقامة] (1) الرمي -أداءً على الاختيار- بغيبوبة الشمس، فإذاً أواخر أوقات الرمي في أيام التشريق تضاهي آخر وقت الرمي لجمرة العقبة، ولكنها تفارقها في الوقت الأول؛ فأول وقت رمي العقبة يدخل بانتصاف ليلة النحر، وأول وقت الرمي في كل يوم من أيام التشريق يدخل بزوال الشمس.
ولا خلاف أن وقت الرمي في النفر الثاني ينقضي بغروب الشمس؛ إذ لا نسك بعد ذلك.
2682 - ثم إنا بعد ذلك نتكلم في الفوات، والقضاء، فإذا انقضى يومَ القَرِّ وقتُ الرمي على ما فصلناه، فهل يُتدارك في اليوم الثاني، والثالث؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يتدارك، كما لا يتدارك [إذا انقضت] (2) أيام التشريق؛ إذ الغالب فيها التعبد، فكما لا يُعدل عن الجنس المرمي، فكذلك يجب ألا يعدلَ عن الوقت.
والقول الثاني - إنه يُتدارك، اعتباراً بمعظم العبادات المؤقتة.
ثم إن قلنا: لا يتدارك الفائت، فالرجوع إلى الدم، وسنفرده مقصوداً.
وإن قلنا: إنه يُتدارك، فالواقع من الرمي في اليوم الثاني قضاءٌ على الحقيقة، أم أداء تأخَّرَ عن وقت الاختيار؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: هو أداء، وجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد للرمي، ولكن تخيَّر الشرعُ لكل قدرٍ منها وقتاً، فهو كالأوقات المختارة في الصلوات.
وبنى الأئمة على هذا الاختلاف جوازَ تقديم رمي يومٍ إلى يومٍ، وقالوا: إن قلنا: رمي اليوم الأول مقضيٌّ في الثاني، فلا يجوز التقديم، وإن قلنا: إنه مؤدّى وإن أُخّر، فلا يمتنع التقديم أيضاً.
__________
(1) في الأصل: إفاضة.
(2) ساقط من الأصل.

(4/323)


2683 - ومما تردد فيه الأئمة أن قالوا: إذا حكمنا بأن رمي اليوم الأول مقضيٌّ في الثاني، فهل يجوز إيقاعه في النصف الأول من النهار، وقبل الزوال؟ فعلى وجهين: أحدهما - الجواز؛ فإن المقضيَّ لا وقت له على التعيين. والثاني - المنع؛ فإن القضاء قد يتأقت بعضَ التأقت، وما قبل الزوال لم يشرع فيه رمي، لا قضاءً، ولا أداء، فكانت تلك الساعات بمثابة ساعات الليل في تصوير الصوم. والوجهان يجريان في تدارك الرمي ليلاً إذا جرينا على الأصح في أن الوقت لا ينبسط على الليلة.
2684 - هذا إذا قلنا: التدارك قضاء، فإن جعلناه أداءً، ففيما قبل الزوال والليل (1) من التفصيل ما ذكرناه، فيجري الخلاف على بُعدٍ، والوجه القطع بالمنع؛ فإن تعيين الأوقات بحكم الأداء أليق.
2685 - ومما يتعلق بذلك أنا إذا أوجبنا التدارك، فهو حتم، ولا يجوز الانتقال إلى الدم، مع إمكان التدارك. وإن منعناه، تعيّن الدمُ حينئذ.
2686 - ثم إذا جوزنا التدارك، فالكلام في رعاية الترتيب، فنقول: أما رعاية ترتيب المكان في الأداء والتدارك، فحتم، لا خلاف فيه، فلو بدأ الرمي في أيام منى بجمرة العقبة، ثم ارتفع إلى الثانية، ثم إلى الجمرة الأولى، قلنا: (2 رميك إلى الجمرة الأولى 2) هو المحسوب، وما أتيت به قبله غيرُ معتد به. وترتيب المكان أمر مطّرد في المناسك المتعلّقة بالأمكنة، كالطواف والسعي.
وأما رعاية ترتيب الزمان، ففيها قولان: أحدهما - أنها لا تجب. والثاني - تجب. فمن [أوجب] (3)، قاس الزمان على المكان. ومن لم يوجب، اعتبر بالصلوات الفائتة، مع المؤداة في أوقاتها؛ إذ لا ترتيب يُستَحقُّ عندنا، بين الأداء والقضاء. وهذا أظهر (4).
__________
(1) ساقطة من (ط).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ساقطة من (ط).

(4/324)


2687 - وما أطلقناه من القولين يظهر أثرهما في وجهين: أحدهما - أنا إذا أوجبنا ترتيب الزمان، قلنا: ينبغي أن تبرأ الذمة عن رمي أمس، ثم يقع الاشتغال بوظيفة اليوم، فلو رمى أربعَ عشرةَ حصاة، إلى الجمرة الأولى، ثم كذلك إلى كل جمرة، فهو على الخلاف الذي ذكرناه.
[فإن] (1) لم نوجب الترتيب الزماني، حكمنا بإجزاء ذلك، وإن أوجبناه، لم يحتسب من وظيفة اليوم حصاةٌ، ما بقيت حصاةٌ من رمي أمسه. هذا أثرٌ بيّن في تخريج القولين.
2688 - والأثر الآخر يستند إلى القول في أن النيةَ هل تؤثر فيما نحن فيه، وفيه اختلاف قد بينَّاه (2) في الطواف والسعي، فلو رمى الناسك إلى الجمرةِ، وهو يبغي رمي شخصٍ، أو دابة، فقد صرف رميَه عن جهة النسك، فهل يُعتد بما يأتي به؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه، فإن قلنا: يعتد به، ولا أثر للنية، فنقول بحسبه: لو رمى إلى الجمرات الثلاث على قصد يومه، وقع ذلك عن تدارك أمسه، ولا حكم لقصده.
وإن قلنا: تؤثِّر النية فيما ذكرناه، فإذا نوى بالرمي إلى الجمرات وظيفةَ يومه، فيخرج على وجوب رعاية الترتيب في الزمان، فإن لم نوجبها أجزأ عن يومه، وإن أوجبناها، لم يُعتد بما جاء به، لا عن يومه، ولا عن أمسه؛ لفساد نيته، مع الحكم بتأثير النية.
وذكر صاحب التقريب وغيرُه أن القول في استحقاق الترتيب يدنو من قولنا: إن التدارك أداء أم قضاء، فإن جعلناه قضاء، فيبعد استحقاق الترتيب، كما ذكرناه في الصلوات المقضية والمؤداة، وكل ما ذكرناه في جمرات أيام التشريق.
فأما رمي جمرة العقبة ففي إجزَاء التدارك فيه عند الفوات طريقان: أحدهما - التخريج على القولين كما مضى. والأخرى - القطع بأنه لا يُتدارك؛ فإنه يخالف رميَ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ط)، (ك): قدّمناه.

(4/325)


أيام التشريق في أوّلية الوقت، وفي تفرده في يومه عن الجمرتين الأخريين، وفي تعلق التحلل به.
2689 - ومن المقاصد الكلامُ في الرمي نفسِه، ومعناه، فإذا وقف الواقف وراء الجمرة، ورمى إليها، وأوقع الحصاة فيها برميه، فهو الرمي المطلوب، ولو وضع الحجر بيده على الجمرة، فالمذهب أنه لا يجزئه، ولا يُعتد به؛ فإنه ليس برمي.
وذكر صاحب التقريب فيه وجهاً بعيداً في التحصيل، وهو مزيف.
وإن أصاب الحجر الذي رماه محمِلاً، فارتد منه بقوة الصدمة، وأصاب الجمرة، أجزأ ذلك؛ فإن الارتداد كان من آثار الرمي.
ولو أصاب الحجر إنساناً، فقرّ عليه، أو أصاب ثوبَه، فاستقر، فنفضه ذلك الإنسان، وأصاب الحجرُ الجمرةَ بنفضه، فلا يعتد بهذا الرمي؛ فإن رميه انتهى أثره باستقرار الحجر، وكان النفض أمراً جديداً بعده.
ولو انتهى الحجر إلى محمل، ولم يبق فيه أثر من قوة الرمي، غير أنه تدحرج، وانسل إلى الجمرة، ففي إجزاء هذا الرمي وجهان، ذكرهما صاحب التقريب، والصورة مترددة بين صورة الصدمة، وصورة النفضة، فجرى الاختلاف فيها.
ولو وقف الرامي في الجمرة، ورمى إلى الجمرة، فلا بأس، وقد حصل الرمي، ومصادفة الحصاة.
ولو احتوى على حجرين فصاعداً، ورماهما دفعة واحدة، فإن وقعا معاً، لم يعتد إلا بحصاة واحدة؛ فإن الرمي متحد، ولو تفاوتت مساقطهما، فالمذهب أنها رميةٌ واحدة؛ نظراً إلى اتحاد الفعل، ومن أصحابنا من اعتبر ترتب الأحجار في الوقوع.
وهذا ليس بشيء.
وإن أتبع الحجرَ الحجرَ فإن ترتبا في الوقوع، حَسَب ترتبهما في الرمي، فهما رميان محسوبان. وإن وقعا معاً فوجهان: أحدهما - أن الاعتبار بالاجتماع في الوقوع. والثاني - وهو الأصح أن الاعتبار بتعدد الرمي، ولا نظر إلى تفاوت الوقوع واجتماعه. وكذلك القول فيه إذا أصاب الحجرُ الثاني، والأول بعد في الهواء، فمن

(4/326)


نظر إلى الرمي، احتسب رميين، ومن نظر إلى الوقوع، فهو متعدد أيضاًً، ولكن السابق بالرمي مسبوق بالوقوع، ففيه الخلاف. والأصح النظر إلى الرمي، وما عداه خَبْط.
2690 - ومن المقاصد أن الناسك لو عجز عن الرمي بنفسه، فله أن ينيب غيرَه مناب نفسه؛ فإن الاستنابة إذا جرت في أصل الحج، فجريانها في أبعاض المناسك غيرُ ممتنع. ثم قد ذكرنا أن الاستنابةَ إنما تجوز للمعضوب عضباً لا يُرجى زواله. وهذا المعنى معتبر هاهنا، غير أنا نعتبر رجاء الزوال في مدة الرمي، ولا ينفع زواله بعدها.
قال العراقيون: العاجز عن الرمي إذا استناب غيرَه، وصحَّحْنا الاستنابة، فأغمي على المستنيب، قالوا: الاستنابة دائمة، وإن كان حكم الإغماء الطارئ على الآذن انقطاعُ إذنه إذا كان الإذن جائزاً في وضعه، كالوكالة، ولكن الغرض في الاستنابة هاهنا، إقامةُ المستناب مقام العاجز. وهذا الذي ذكروه محتملٌ جداً. ولا يمتنع خلافه.
وقد قالوا: لو استناب المعضوب في حياته في الحج ومات، لم تنقطع الاستنابة.
وهذا ذكره (1 شيخي والأصحاب 1) في الإذن المجرد، وهو بعيدٌ، لعمري، ولو (2) فرض في الإجارة، فالإجارة تبقى، ولا تنقطع؛ فإن الاستئجار بعد الموت -عن الميت- ممكن، فلا منافاة، وقد استحقت منفعة الأجير. والذي ذكروه في إذنٍ جائز، وهو محتمل في (3) الإغماء، بعيدٌ في الموت.
ومن أئمتنا من لم يحكم بانعزال الوكيل بإغماء الموكل؛ من جهة أن الإغماء كالنوم، في أنه لا يثبت ولايةً على المغمى عليه.
2691 - ومن المقاصد: الكلامُ في الفدية الواجبة عند ترك الرمي، وفوات المستدرك.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ط)، (ك).
(2) (ط)، (ك): لو (بدون واو).
(3) ساقطة من الأصل.

(4/327)


فأول ما نراه أن نذكر القول فيما يجب بترك الرمي ليوم واحد، من أيام منى:
لا خلاف أنه إلاّ دمٌ واحد، وإن ترك الرميَ إلى الجمرات الثلاث، ولا مزيد على دمٍ.
ثم الطرق مختلفة في ترك بعض الرمي في اليوم الواحد: والطريقة المشهورة، أن الدم يكمل بترك ثلاث حصيات، قياساً على ثلاث شعرات (1 ثمّ لا يزداد 1) وإن ترك جميع رمي اليوم، كما إذا استوعب الرأس بالحلق.
وفي الحصاة الواحدة على هذه الطريقة أقوال: أحدها - فيها درهم. والثاني فيها مدّ [من الطعام] (2) والثالث - فيها ثلث دم. هذا كالأقوال المشهورة في الشعرة الواحدة والشعرتين.
ومن أصحابنا من قال: الدم إنما يكمل في وظيفة جمرة، وهي سبع حصيات، ثم لا يزيد إلى [تمام] (3) وظيفة اليوم. وفي الحصاة [الواحدة] (4) أقوال: أحدها - فيها مدّ. والثاني - فيها درهم. والثالث - فيها سُبُعُ دم.
وذكر صاحب التقريب طريقة ثالثة، وهي أن الجمرات في اليوم كالشعرات الثلاث، ففي وظيفة اليوم دمٌ، وفي [ترك] (5) وظيفةِ جمرةٍ واحدةٍ الأقوالُ الثلاثة: أحدها - مدّ. والثاني - درهم. والثالث - ثلث دم. فعلى هذا لو ترك حصاة من سبعة، من جمرة، قال: يحتمل أن يقال: يجب فيها في قولٍ مدٌّ كامل، أو درهم، ولا نقصان منه. ويحتمل أن يقال: سبع مدّ، أو سبع درهم. فأما إذا أوجبنا جزءاً من الدم، ففي حصاةٍ جزءٌ من أحدٍ وعشرين جزءاً من دم؛ فإن تبعيض ذلك على ما يقتضيه الحساب، وإنما التردد في تبعيض المد، والدرهم.
فهذا بيان الطرق.
__________
(1) ساقط، ما بين القوسين من (ط)، (ك).
(2) ساقط من الأصل.
(3) مزيدة من (ط).
(4) ساقط من الأصل، (ك).
(5) زيادة من (ط)، (ك).

(4/328)


ولا خلاف أن الدم يكمل في جمرة العقبة؛ فإنها وظيفة يوم.
2692 - ومما يتعلق بتفصيل القول في الفدية أن من ترك الرمي كلّه، و [انحسم التدارك، وكان التزم] (1) رمي النفر الثاني، إذ لم يتعجل في النفر الأول، ففيما يجب عليه أقوال: أحدها - أنه يكفي في الكلِّ دمٌ واحد؛ فإن الرمي جنسٌ واحد.
والثاني - يلزم أربعةُ دماء، في مقابلة وظيفة أربعة أيام.
والثالث - يلزم دمان: دمٌ في مقابلة جمرة العقبة، ودم في مقابلة الأيام الثلاثة.
ثم مَنْ (2) لم يوجب في الأربعة الأيام إلا دماً واحداً، يُكمل الدمَ في وظيفة اليوم.
وهل يكمله بثلاث حصيات، أم لا إكمال إلا بسبع؟ فيه الخلاف المقدم، في فرض الكلام في وظيفة يومٍ. ويجري في مجاري الكلام وجهٌ غريب: إن الدم يُكمَّل بحصاة واحدة. وقد ذكرنا لهذا نظيراً في الشعرة الواحدة، وسنجريه في الليلة الواحدة من المبيت.
وما ذكرناه في الحصاة الواحدة فيه إذا تركها من الجمرة الأخيرة. فأما إذا تركها من الجمرة الأولى، فلا يعتد بالجمرة الثانية، والثالثة، لما قدمناه، من اشتراط الترتيب في المكان، فيكون تاركاً (3) حصاةً من الجمرة الأولى وتاركاً للجمرتين الأخيرتين.
وقد مضى التفصيل في ترك جمرة، وجمرتين.
2693 - ومن بقية القول في ذلك: أنا إذا جوّزنا تدارك الرمي، بعد [انقضاء] (4) الوقت الموظَّف له، فإذا تداركه كما رسمناه، فالمذهب أنه لا يجب مع القضاء فدية.
وحكى صاحب التقريب وجهاً غريباً من تخريجات ابن سريج: أنه يجب مع الدم القضاء، كما يجب على من يؤخر قضاء ما فاته من صوم رمضان، إلى الشهر الآتي في السنة القابلة، القضاءُ والفدية.
__________
(1) عبارة الأصل صحفت هكذا: " وانحتم التدارك، فكان اليوم ".
(2) (ط): إن لم.
(3) عبارة (ط): " فيكون تارك حصاةٍ من الجمرة الأولى تاركاً للجمرتين ... ".
(4) في الأصل: انفصال.

(4/329)


وهذا غريب. وقيل: إنه مذهب أبي حنيفة (1). ومما أجراه صاحب التقريب رمزاً في أثناء كلامه أن قال: إذا جعلنا المستدرَك من الرمي مُقاماً في وقته أداء، ولم نجعله قضاء، وقلنا بحسب ذلك: يجوز التقديم، ويجزىء، فيلزم من ذلك جواز التأخير أيضاًً، حتى لا ينتسب المؤخِّر من غير علة إلى مأثم.
وهذا بعيدٌ؛ فإن جواز ذلك مما خص به أهلُ سقاية العباس، ورعاة الإبل، كما سنعقد فيهم فصلاً، فلئن كان يلزم ما قال قياساً، فالوجه أن يستدل بهذا على فساد المصير إلى أن الرمي المقامَ بعد انقضاء وقته مؤدى.
فصل
في النفر وحكمه
2694 - للناسك إذا رمى في اليوم الثاني [من أيام التشريق] (2) أن ينفر متعجلاً، وإذا فعل ذلك، سقط عنه المبيت في الليلة التي بين يديه، وسقط عنه الرمي في النفر الثاني.
ولو نفر في يوم النفر الأول، ولم يرمِ، فلا يخلو: إما أن يعود، أو لا يعود، فإن لم يعد، استقرت الفديةُ عليه في الرمي الذي تركه في النفر الأول.
وإن عاد، لم يخل: إما أن يعود بعد غروب الشمس، وإما أن يعود قبلها.
فإن عاد بعد غروب الشمس، فقد فات الرمي، فلا استدارك، وانقطع أثره من منى، ولا حكم لمبيته. وإن رمى في النفر الثاني، لم يكن رميه معتداً به، فإنه بنفره تقلّع عن منى ومناسكه، واستقرت الفدية عليه، وكان ذلك بمثابة انقضاء أيام التشريق.
ولو عاد قبل غروب الشمس، فأجمع طريقةٍ في ذلك، ما ذكره صاحب التقريب:
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 138، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 156، 158 مسألة: 616، 618.
(2) ساقط من الأصل، (ك).

(4/330)


إذ قال: حاصل الاختلاف فيه أربعة أقوال: أحدها - أنه إذا نفر، فقد انقطع الرمي، ولا ينفعه العود.
والقول الثاني - يجب عليه أن يعود ويرمي حسبما عليه، ما لم تغرب الشمس، فإذا غربت، تعيّن الدمُ.
والقول الثالث - أنه بالخيار: إن أراد الرجوع والرميَ، فله ذلك، وإذا فعل، سقط عنه الفرض، وإذا أراد ألا يرجع، ويريق الدمَ، جاز له ذلك، ويسقط عنه الفرض بأحدهما. وهذه الأقوال الثلاثة تجري في النفر الأول، والثاني.
وذكر قولاً رابعاً عن ابن سريج: وذلك أنه فصل في تخريجٍ له بين أن يتفق خروجه في النفر الأول، أو في النفر الثاني، فإن خرج في النفر الأول، ثم عاد قبل غروب الشمس ورمى، لم يقع رميه موقعَه. ولو خرج في النفر الثاني، ولم يرم، ثم عاد، ورمى قبل غروب الشمس، وقع الرميُ موقعَه.
والفرق أن الخروج في النفر الثاني لا حكم له؛ فإنه منتهى الوقت. نفرَ أو لم ينفر، فكان خروجه وعدمُ خروجه بمثابةٍ. وللخروج في النفر الأول حكمٌ؛ فإنه لو لم يخرج فيه، بقي إلى النفر الثاني، فيؤثّر خروجُه في قطع علائق منى، وإذا انقطعت العلائق، لم تَعُد. ولا خلاف أن من خرج يوم القَرّ، ثم عاد قبل الغروب، رمى؛ إذ لا حكم للنفر في يوم القرّ. وإن عاد بعد الغروب، فهذا رجلٌ فاته الرمي، وفيه الكلام المقدّم في التدارك.
2695 - وبالجملة لا أثر للخروج في يوم القرّ.
وأما يوم النحر، فالأمر فيه أظهر؛ فإن الناسك يفارق منى مُفيضاً، وقد ذكرنا أنه لا ترتيب في أسباب التحلل في ذلك اليوم، ولو أراد تقديمَ طواف الإفاضة على رمي جمرة العقبة، فلا بأس عليه. ويخرج من ذلك أن الخروج لا أثر له في يوم النحر، ويوم القَرّ، وإنما النظرُ إلى مضيّ الوقتِ وفواتِه. وإنما يؤثر الخروج في التفريق كما قدمنا التفصيلَ فيه.
ثم إذا قلنا: من خرج في النفر الأول، من غير رمي، وعاد قبل غروب الشمس، يرمي. فإذا رمى، وغربت الشمسُ تقيّد، ولزمه المبيت، والرمي من الغد.

(4/331)


وإن قلنا: لا يرمي إذا عاد قبل غروب الشمس، فلا يلزمه المبيت، ولو بات، لم يكن لمبيته حكمٌ.
والسبب فيه أن في هذا الوجه حكمنا بانقطاع علائق منى بخروجه، ثم لم نحكم بعودها لما عاد.
ولو خرج الناسك في النفر الأول قبل زوال الشمس، ثم عاد، وزالت عليه الشمس، وهو بمنى، فالوجه القطع بأن خروجه لا حكم له؛ فإنه لم يخرج في وقت الرمي وإمكانه. ولو خرج في الوقت الذي ذكرناه، ثم لم يعد حتى غابت الشمس، فقد انقطعت العلائق -وإن كان خروجه قبل دخول وقت الرمي- لأن استدامة الخروج إلى غيبوبة الشمس، حلّت محل إنشاء الخروج بعد زوال الشمس.
ولو خرج قبل الزوال وعاد، قبل الغروب، فظاهر المذهب أنه يرمي ويُعتد برميه، بخلاف ما لو خرج بعد الزوال.
ومن أصحابنا من نزل هذه الصورة منزلةَ صورةِ الأقوال؛ فإنه لو خرج قبل الزوال، ولم يعد حتى غابت الشمس، كان كما لوخرج بعد الزوال، ولم يعد حتى غابت الشمس. فإذا تشابها في ذلك، فليتشابها في العود قبيل الغروب.
2696 - ومن تمام البيان في حكم النفر أن الناسك إذا لم ينفر في النفر الأول حتى غربت الشمس، تقيّد، ولا نفرَ، فليبت وليلتزم الرميَ في النفر الثاني (1 ولا يتوقف تقيده لأجل الرمي 1) على طلوع فجر ذلك اليوم. وهذا متفق عليه.
فصل
في المبيت
2697 - قد ذكرنا أن مبيت المنتقلين من مكة إلى منى ليلة عرفة مبيتَ منزل، وليس مبيت نسك، والمبيتُ بمزدلفة ليلةَ النحر نسكٌ، لا شك فيه، وكذلك المبيتُ ليلة [القَرِّ، وليلة النفر الأول. والمبيت ليلة] (2) النفر الثاني، موقوف على ما ذكرناه.
__________
(1) ساقط من (ط).
(2) ساقط من الأصل.

(4/332)


فإن رمى الناسك، ونفر قبل غروب الشمس، سقط عنه ما بين يديه، من المبيت والرمي في اليوم الأخير، وإن لم يفارق خِطةَ منى، حتى غابت الشمس، ثبت المبيت عليه؛ فاذاً المبيت النسك في ثلاث ليالٍ في حق من نفر في النفر الأول، وهو في أربع ليال في حق من مكث حتى غربت عليه الشمس.
2698 - ثم كل ليلة أثبتنا المبيت فيها، فما الحد المعتبر في القدر الذي يجب المبيت فيه؟ ذكر شيخي، وصاحب التقريب قولين، مرسلين: أحدهما - أنا نشترط أن يكون معظمُ الليلة بموضع البيتوتة، لا يفارق منى. والقول الثاني - أنا نشترط أن يطلع عليه الفجر، وهو في موضع البيتوتة، حتى لو غاب معظمَ الليل، ثم حضر قُبيل طلوع الفجر، فطلع الفجر عليه، فقد أدى حقَّ المبيت. والأظهر القول الأول، عند الأصحاب.
وهذا كلام ملتبس، والذي يجب القطع به أن طرد هذين القولين على هذا النسق في ليلةِ مزدلفة محالٌ. والذي يجب أن يقال فيها: إن قول المعظم باطل، في تلك الليلة، مع ما مهدناه في جواز الخروج بعد منتصف الليل، والمُفيض لا ينتهي إلى مزدلفة إلاّ بعد غيبوبة الشفق، وقد يصل بعد هزيع من الليل، ولا يخرج في هذه الليلة أيضاًً اعتبارُ طلوع الفجر، فلا يتجه في تلك الليلة إلا اعتبارُ الكَوْن بمزدلفة في الوقت الذي ينتصف الليل فيه.
هذا هو الذي يجب مراعاته، ويتعين ردُّ القولين المحكِيَّين إلى المبيت ليلةَ القرّ، وليلةَ النفر الأول، وليلةَ النفر الثاني، إن تقيّد الناسك، ولم يتعجل، فيتجه اعتبارُ المعظم؛ فإنه مبيتٌ لا تغليس (1) فيه، فيحسن الأمر بالمبيت في المعظم، ولا مؤاخذةَ، لو اتفقت خَرْجةٌ من منى في بعضٍ من الليل، بعد أن كان المعظم على ما وصفناه.
ومن اعتبر طلوع الفجر، فإنه يجعل المبيت تعريجاً على شعار اليوم الذي بين [يدي] (2) الناسك. فهذا وجه اعتبار طلوع الفجر في محل المبيت.
__________
(1) غلس القوم تغليساً ساروا بغلسٍ، والغلس ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح.
(معجم) والمراد: مبيت منى لا تغليس فيه مثل مبيت المزدلفة.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).

(4/333)


2699 - وإذا ثبت ما ذكرناه، فالكلام بعده في أن المبيت الواقع نسكاً لو تركه الناسك هل يلزمه أن يفديه أم لا؟ وفيه قولان للشافعي: أحدهما [أنه يلزم، كما يلزم الدم بترك الرمي، والمبيتُ شعار ظاهر معتبر في] (1) الشرع كالرمي، فإذا وجبت الفديةُ في ترك الرمي، فلتجب في ترك المبيت. والقول الثاني - لا يجب الدمُ؛ فإن المبيت رَيْثٌ، ولُبْث لانتظار شعار الرمي، فليس مقصوداً في نفسه. وهذا المعنى يجري أيضاً في المبيت بمزدلفة؛ فإن أوقاتَ المناسك المنتظرة يدخل بانتصاف الليل، فُشرع مبيتٌ إلى ذلك الوقت.
وإذا اختلف القول في أن المبيت هل يجبر بالدم، فيترتب عليه لا محالةَ اختلاف القول في أنه هل يجب في نفسه، وهل يجب على الناسك تحصيله، حتى يُقضَى بأن يعصي بتركه؟
2700 - فإذا أردنا أن نجمع محل الوفاق والخلاف في ذلك، قلنا: الفدية تجب بترك الرمي قولاً واحداً، لا خلاف في أصلها، وإنما التردد في التفصيل، وكذلك من ترك حق الميقات، فجاوزه غيرَ محرم، التزم الدم، ولا خلاف في الأصل وهو الدم المسمى دمَ الإساءة، فهذان ثابتان وفاقاً.
واختلف [القول] (2) في ثلاثة مناسك (3): [أحدها - الجمع بين الليل والنهار في الوقوف، والآخر - المبيتُ المحكومُ بكونه نسكاً، والثالث - طوافُ الوداع، فهذه المناسك الثلاثة، فيها قولان، في وجوب الجبران، والمذهب أن طواف القدوم لا يجب جبرانه، وفيه شيء بعيدٌ حكيناه، وذلك في حق من يتسع وقته، فأما من ينتهي إلى المُعَرَّف (4)، فلا قدوم عليه.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).
(3) بدأ من هنا خرمٌ في نسخة الأصل، نحو ورقة، أو يزيد قليلاً، وسننبه عليه عند انتهائه.
(4) عرّف القوم إذا وقفوا بعرفات. والمعنى هنا: أن من يصل مع وقت التّعريف، أي يصل في زمان التعريف ومكانه، فلا قدوم عليه.

(4/334)


2701 - ومما يتعلق بذلك: أن الغريب إذا انتهى إلى عرفةَ ليلةَ النحر، وبقي في شغل الوقوف، حتى فاته المبيت بمزدلفة، فلا خلاف أنه لا يلزمه في مقابلة فوات المبيت شيء، واشتغالُه بالوقوف حطَّ عنه عهدةَ المبيت. وإنما يثبت الخطاب بالمبيت على من يتفرغ إليه. ولما ذكر صاحب التقريب ذلك، على ما وصفناه، قال بانياً عليه: لو وقف بعرفةَ نهاراً مع الواقفين، ولما غابت الشمس أفاض، وانحدر إلى مكةَ ممتداً (1)، واشتغل بطواف الإفاضة بعد نصف الليل، ففاته المبيت لأجل ذلك، فلا يلزمه شيء إذا كان مشتغلاً بالطواف المفروض، وهو بمنزلة اشتغاله بالوقوف ليلاً.
وذكر الإمام هذا على هذا (2) الوجه، وحكاه عن القفال.
وهذا محتمل عندنا؛ من جهة أن من لم ينته إلى عرفةَ إلا ليلاً، فهو مضطر إلى التخلف عن المبيت، والذي يمتد إلى مكة ليطوف ليلاً، لا ضرورة به، فليبت، وليصبح مع الناس.
2702 - ثم إذا قلنا: المبيت النسك مضمون بالدم، فلو ترك المبيت في جميع الليالي التي أمرناه بالمبيت فيها، ففي الواجب عليه قولان في ظاهر المذهب: أحدهما - أنه يلزمه في مقابلة الجميع دمٌ واحد. والثاني - يلزمه دمان: أحدهما في مقابلة ليلة مزدلفة، والثاني في مقابلة ليالي منى؛ فإن ليلةَ مزدلفة مباينةٌ لغيرها من ليالي المبيت، لما نبهنا عليه، فلتفرد بحكمها. وإنما يحسن طرد القولين في حق من يتقيد ليلةَ النفر الثاني؛ بأن تغرب عليه الشمس، وهو بمنى، حتى تتم ليالي منى ثلاثاً، ثم يخرج في الليلة الأخيرة بعد التقيّد.
فأما إذا نفر في النفر الأول، فقد عاد المبيت إلى ليلتين، فإذا تركهما، وترك
المبيتَ ليلة مزدلفة، فإن قلنا في ترك الجميع دم، فلا كلام. وإن قلنا: يفرد المبيت ليلةَ مزدلفة بدمٍ كامل، ففي ليلتي منى وجهان: أحدهما - أنه يكمل (3) فيها
__________
(1) في (ك): مبتدأً، وفي الأصل خرمٌ هنا. والمثبت من (ط).
(2) عبارة (ك): هذا في الوجه.
(3) في (ط)، (ك): " لم يكمل ". وهو مخالف للسياق، وهذا التصرّف تقديرٌ منا، ونسخة الأصل مخرومة هنا. كما نبهنا قريباً.

(4/335)


دم، وإن لم يتقيد، فإن المبيت بمنى جنس كالمبيت بمزدلفة، وقد ترك أصل المبيت بمنى، فلا يقصر جنس المبيت بمنى عن المبيت ليلة واحدة بمزدلفة. وهذا ظاهرٌ منقاسٌ.
وقال بعض أصحابنا: يجب في ليلة مزدلفة دمٌ. ويجب في (1) حق من لم يتقيد، وتعجل في الليلتين مدَّان، أو درهمان، أو ثلثا دم، وهذا اكتفاءٌ بالظاهر، والفقه الوجه الأول (2).
وذكر صاحب التقريب قولاً يضاهي قولاً غريباً فيما تقدّم، ولكنه ارتضاه هاهنا، وإن زيفه فيما سبق: وذلك أنه قال: للشافعي قول أنه يجب في كل ليلة دم؛ لأن كلَّ ليلة تُنسب (3) إلى يومها، وإذا كان الدم يكمل في وظيفة كلِّ يوم، فليكمل في مبيت ليلةٍ، وهذا يتجه هاهنا اتجاهاً بيناً.
فصل
في أهل سقاية العباس ورعاة الإبل
2703 - رعاة الإبل، وأهل سقاية العباس، يبيتون بمزدلفة مع الناس، ويرمون جمرةَ العقبة، ثم ينزلون، ويتركون المبيت ليلةَ القرّ، وليلة النفر الأول، ويتركون رميَ يوم القَرّ، ثم (4) يعودون في النفر الأول، ويقضون رميَ يومِ القرّ وذلك يسوغ لهم بلا خلاف، وإن اختلف القول في حق غيرهم، في قضاء الرمي. وما تركوه من المبيت ليلة القَرّ، وليلة النفر الأول محطوط عنهم، بلا فدية.
وهذه الرخصة ثابتةٌ لهذين الصنفين: الرعاة، وأهل سقاية العباس، أما رعاة الإبل، فيُخرِجون الإبل إلى المراعي، ويفارقون خِطة منى؛ إذ الحاجة تَمسهم إلى
__________
(1) (ط): من.
(2) ساقطة من (ك).
(3) (ك): ليست تنسب. (وهو خلل ظاهر).
(4) ساقطة من (ك).

(4/336)


ذلك، وإذا بعدوا، لم يمكنهم أن يرجعوا ليلاً، فلا يَرُدُّون الإبل إلا يوم النفر الأول؛ فإن عامةَ الخلق يتعجلون، حتى يقل من يلبث (1)، وأما أهل سقاية العباس (2)، فإنهم كانوا يقومون بتهيئة السقاية، وإعداد الماء، وما يتيسر من الشراب للمُفيضين، فكان ذلك شغلاً شاغلاً قديماً، يُجَوِّز (3) لهم ما جَوَّز لرعاة الإبل.
والمتبع في هذه الرخصة الخبرُ والوفاق، فلو فرض فارض عُذراً مرهقاً، كقيام الإنسان بتعهد منزولٍ [به] (4) قد حضرته الوفاة، أو غيرَ ذلك من الأعذار، فهل يجوز أن ينزَّلوا في الرخصة التي ذكرناها منزلةَ رعاة الإبل؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - تثبت الرخصة لكل معذور (5) يبلغ عُذرُه مبلغَ عذر الرعاة. والثاني - وهو الذي قطع به الأئمة [أن] (6) الرخصة تخص، ولا يُعدّى بها موضعها، كما لا يثبت في حق المريض رخصةُ المسافر.
وأما أهل السقاية، فمذهب الشافعي أنه لو قام بذلك الأمر غيرُ بني العباس، فلهم الرخصةُ. هذا ظاهر المذهب. وذكر العراقيون في ذلك وجهاً آخر: وهو أن الرخصة تختص بأهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم ورَوَوْا في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرخص لأهل السقاية من أهل بيته، فدل ذلك على اختصاصهم (7). وهذا بعيد.
__________
(1) (ك) يبيت.
(2) آخر الخرم الموجود في نسخة الأصل. ثم هي في نسخة (ك): " يبيت ".
(3) (ط) فجوّز.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) (ك) من.
(6) ساقطة من الأصل.
(7) يشير " إلى ما ورد أن العباس استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يبيت بمكة ليالي منى لأجل سقايته، فأذن له " وهو متفق عليه من حديث ابن عمر (البخاري: الحج، باب هل يبيت أصحاب السقاية وغيرهم بمكة، ح 1743 - 1745، ومسلم: الحج، باب وجوب المبيت بمنى، ح 1315 (وليس فيه لأهل بيته)).

(4/337)


قال: " ويُفعل بالصبي في كل أمره، ما يَفعل الكبير ... إلى آخره " (1).
2704 - الصبي إذا كان يعقل، عَقْلَ مثلِه، فيصحُّ إحرامه بالحج، وهل يفتقر انعقادُه إلى إذن الولي؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يفتقر إلى إذنه؛ لأن العقدَ يشتمل على أمور خطرة، وعُهَدٍ مالية، فلا يصح استقلال الصبي به. والثاني - يصح دون الإذن، كما يصح منه عَقْدُ الصلاة.
وإن كان طفلاً لا يميز، فيُحرِم عنه الوليّ.
واختلف الأئمة في أن من يتصرف في مال الطفل، بكونه قيِّماً هل يُحرم عن الطفل؟ والأصح أنه لا (2) يُحرم عنه، وإنما يحرم عنه الأب، أو الجد أبُ الأب.
وأما الأم، فهل تحرم عنه؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من خرَّج إحرامها عن ولدها على وجهين مبنيين على أنها هل تلي مالَ ولدها؟ ومنهم من قطع بأن إحرامها عن ولدها صحيح؛ للحديث المشهور فيه، وهو ما روي أن امرأة رفعت صبيّاً من مَحَفَّتِها، وقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهذا حج؟ قال: " نعم. ولك أجر " (3). والظاهر [يدل] (4) على أنها كانت تحرم عنه.
وإذا كان الصبي مميزاً، وقلنا: إنه يُحرم بنفسه، فلا يُحرم عنه وليه. وإذا قلنا: لا يُحرم دونَ إذن وليه، فهل ينعقد [إحرام الوليّ عنه؟ فعلى وجهين: أحدهما -
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 92، 93.
(2) ساقطة من (ط).
(3) حديث: " ألهذا حج؟ ". رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي من حديث ابن عباس، ورواه الترمذي من حديث جابر (ر. مسلم: الحج، باب صحة حجة الصبي وأجر من حج به، ح 1336، أبو داود: الحج، باب في الصبي يحج، ح 1736، النسائي: مناسك الحج، باب الحج للصغير، ح 2648، 2649، الترمذي: الحج، باب ما جاء في حج الصبي، ح 924).
(4) ساقطة من الأصل.

(4/338)


لا ينعقد، فإن الإحرام إذا كان] (1) ينعقد بعبارته، فلا ينعقد بعبارة غيره. والثاني - ينعقد الإحرام بعبارة الوليّ من غير مراجعة. وهو ظاهر المذهب، فإن الولاية مطردةٌ عليه بدليل أنه لا يستقل، وهو لصباه مولًّى عليه، فيدوم استقلال الوليّ بالتصرف فيما تفيده الولاية.
ثم إذا انعقد الإحرام في حق الصبي، فكل ما يتأتى منه [يُحمل عليه، وكل ما لا يتأتى منه] (2) ينوب الوليّ فيه عنه، كالرمي وغيره، ويُطاف به محمولاً، ويُسعى به كذلك.
2705 - ولو بلغ الصبي في أثناء الحج، نُظر: فإن كان ذلك بعد فوات الوقوف، استمر الحج مسنوناً، ولم يقع عن حجة الإسلام. وإن بلغ قبل الوقوف، ووقف وهو بالغ، فالحج يقع عن فرض الإسلام، باتفاق الأصحاب.
وإذا لم يتفق منه رجوعٌ إلى الميقات بعد البلوغ، فهل يجب دم الإساءة؟ فيه قولان مشهوران: أحدهما - يجب، لأن الإحرام الذي جرى من الميقات كان ناقصاًً، وحجُّ الإسلام يستدعي إحراما كاملاً من الميقات. والقول الثاني - لا يجب دمُ الإساءة؛ فإنه لم يسىء، وفَعَل ما في وسعه.
وكان القفال يقول: القولان مبنيان على أن الكمال إذا طرأ على ما صورناه، ووقع الحج عن فرض الإسلام، فنقول: إن الإحرام انعقد نفلاً أوَّلاً، ثم من وقت الكمال انقلب فرضاًً. قال: يجوز أن يقال: الأمر كذلك، وعليه يبتنى وجوبُ دم الإساءة. ويجوز أن يقال: وقع الإحرام على الوَقْف، فلما طرأ الكمال، تبين لنا أن الإحرام في أصله انعقد فرضاًً، ولو طرأ الكمال بعد الوقوف، لبان أن الإحرام وقع نفلاً، وبقي نفلاً.
ثم إن لم نوجب دمَ الإساءة، فلا كلام. وإن أوجبناه، فلو عاد الصبي بعد بلوغه إلى الميقات، ومرّ عليه، فالمذهب أنه لا يلزمه دمُ الإساءة؛ فإنه فعل ما في وسعه أولاً، ثم استفرغ جهده بالعود آخراً. وذكر القفال هذا، وارتضاه. وحكى وجهاً
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) ساقط من الأصل.

(4/339)


آخر: أن الدم لا يسقط، وهذا (1) بعيد، لا اتجاه له.
2706 - ومما يتعلق بذلك أن الصبيّ لو أحرم، وقَدِم وطاف طواف القدوم، وسعى، ثم بلغ، ووقف بعرفة بالغاً، فالحج يقع عن فرض الإسلام، وإن تقدم ركنٌ، ولكن [هل] (2) يعتد بذلك السعي؟ أم يجب إعادة السعي بعد طواف الزيارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تجب إعادته، والنظر إلى الوقوف. وتقدّمُ السعي في الصبا كتقدُّم الإحرام فيه.
والوجه الثاني - أنه يجب إعادة السعي؛ فإن ذلك ممكن، وإعادة الإحرام لا معنى له، فأقمنا دوام الإحرام بعد البلوغ، مقام ابتداء الإحرام على صفة الكمال، والسعيُ إذا [نقص] (3)، فلا معنى للاستدامة فيه، فالاكتفاء به، وقد جرى في حالة النقص بعيدٌ مع إمكان إعادته.
فرع:
2707 - ذكرنا أن الصبيَّ إذا كان لا يقدر على الرمي بنفسه، فالوليُّ يرمي عنه، وكذلك إذا مرض الكاملُ، وعجز عن الرمي، فينيب غيرَه مَناب نفسه، فلو رمى نائبُ المريض عنه، فَبَرَأ (4) المريض ووقتُ الرمي باق، فهل يلزمه إعادة الرمي؟ فعلى وجهين مبنيين على أن المعضوب إذا استناب نائباً فحج عنه، ثم زال العَضْب على ندور، فهل نقول: تبيَّنَّا (5) أن الحج لم يقع الموقع، إذا زال العضب (6)؟ فعلى قولين. والعُمْر في الحج كزمان الرمي في الرمي.
2708 - ومما يتم به القولُ في الصبيّ: ذِكْرُ إقدامه على المحظورات، بعد انعقاد الإحرام.
فلتقع البداية بوطئه: اختلف القول في أنه إذا وطيء، هل يتعلق بوطئه إفسادُ
__________
(1) (ط) وحكى.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في النسخ الثلاث: انقضى. والمثبت تقدير منا. رعاية للسياق.
(4) برأ: من باب نفع، (وتعب أيضاًً).
(5) (ط): يتبين، (ك) تبين.
(6) ساقطة من الأصل.

(4/340)


الحج؟ وبنى الأئمةُ القولين أولاً على أن الصبي هل له عمدٌ على الحقيقة؟ وفيه قولان: ذكرناهما في أحكام الجنايات، ثم إذا حكمنا بأن له عمداً، فيفسد حجّه، وإن حكمنا بأن لا عمد له، ففي فساد الحج قولان، مبنيان على أن البالغ المكلفَ إذا وطيء ناسياً هل يفسدُ حجُّه؟ فعلى قولين، سنذكرهما إن شاء الله تعالى. والقولان مبنيان على أن الوطء استمتاعٌ [أو] (1) استهلاك.
والأصح عند المحققين القطعُ بأن جماعه يفسد الحج؛ فإنّ عمد الصبي فيما يتعلق بالعبادات، كعمد البالغ، ولهذا يفسد صومه إذا تعمد الأكل، وتفسد صلاته إذا تعمد الكلام.
ثم إن قلنا: يفسد حجه، ففي وجوب القضاء وجهان: أحدهما لا يجب؛ لأنه ليس ممن يُتعبد على الوجوب، بالعبادة البدنية.
فإن قلنا: لا يجب القضاء، فليس إلا المضيُّ في الفاسد والتحلل، ولا تبعة.
وإن قلنا: يجب القضاء، فهل يصح منه القضاء في صباه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يصح؛ فإن في تصحيحه الحكمَ بوقوع واجبٍ من الصبي ابتداءً. وهذا يُفضي إلى تنزيله منزلةَ المكلف في الواجبات التي يتعلق الخطاب بها بالمتعبد فيها.
فإن قضى في صباه، فلا كلام. وإن أخر القضاء قصداً [أو] (2) قلنا: لابد من تأخيره، فما يأتي به بعد البلوغ من القضاء هل يقع موقع فرضِ الإسلام؟ نُظر: إن كان ذلك الحج الذي أفسده بحيث لو تم، لوقع عن حج الإسلام، فقضاؤه يُسقط فرضَ الإسلام؛ وذلك بأن يبلغ قبل الوقوف.
وإن [كان] (3) الحج بحيث لو تم (4)، لم يقع عن فرض الإسلام (5 فقضاؤه لا يقع عن فرض الإسلام، ثم الحجة الأولى بعد الكمال تقع عن فرض الإسلام 5) ويبقى
__________
(1) في الأصل: و.
(2) في الأصل، (ك): و.
(3) من الأصل: وإن حكمنا بأن الحج.
(4) عبارة (ك): بحيث لم يتم، لم يقع.
(5) ما بين القوسين ساقط كله من (ط)، والجملة الأولى منه ساقطة من الأصل.

(4/341)


القضاء في الذمة، ثم يقيمه في عمره.
وإن حكمنا بأن [حج] (1) الصبي يفسد، ولا يلزم القضاء، ففي وجوب الكفارة وجهان: أصحهما - الوجوب. وإن قلنا: يجب القضاء، فتجب الكفارة، ثم حيث أوجبنا الكفارة، فهي في مال الصبي، [أو في مال الوليّ؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنها في مال الصبي] (2) ككفارة القتل إذا لزمت الصبيَّ بالقتل الصادر منه.
والوجه الثاني - أنها في مال الولي؛ فإنه هو الذي ورّطه في الإحرام، وجرّ إليه سببَ لزوم الكفارة، وليس ككفارة القتل؛ فإنه لا سبب فيها من الولي.
2709 - وإذا تطيب الصبي أو لبس المخيط، ففي لزوم الكفارة قولان عند الأصحاب مأخوذان من حكم عَمْد الصبي، وقد ذكرنا أن الأخذ من هذا غيرُ صحيح.
نعم، قد يتأتى التوجيه من غير هذا، فوجه وجوب الكفارة ثبوت سببها، والصبي من أهل التزام الكفارة. ووجه نفي الكفارة أن صحة الإحرام من الصبي محمول على صحة الصلاة والصوم [منه] (3).
فأما تنزيله منزلة المكلف في العُهَد والغرامات بسبب إحرامٍ، هو منشئه أو أنشأه الولي عنه، فهو بعيدٌ.
ثم حيث تثبت الكفارة فهي في ماله، أو في مال الوليّ؟ فعلى الوجهين المقدمين.
ولو طيب الوليُّ الصبيَّ، فقد قال الأصحاب: يُنظر فيه، فإن كان يقصد مداواةَ الوليّ، واستصلاحَه، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قطع بأن الفديةَ على الوليّ، ومنهم من جعل ذلك كتطيّب الصبي بنفسه، وفيه التفصيل المقدم.
وقد ذكر الشافعي لفظةً اختلف الفقهاء في تأديتها، فقال: " وتجب الفدية على المداوَي " فقرأ بعضهم بكسر الواو؛ حملاً على الولي، وقرأ بعضهم بفتح الواو؛ حملاً على الصبي؛ وعلل بأن فائدة المداواة رجعت إليه، فكان كما لو تداوى بنفسه،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ساقطة من الأصل.

(4/342)


ثم النص على هذا يدل على أن الفدية حيث تجب بتطيّب الصبي، تختص بماله، ولا تجب على وليّه.
ولو طيّب الوليُّ الصبيَّ من غير منفعةٍ للصبي، تحصل بذلك، فقد ذكر الأئمة أن الفدية تجب (1 على الوليّ 1)، وهذا فيه ضرب من الإشكال.
ولو قيل لنا: [ما] (2) قولكم في المُحِل يطيّب المحرمَ المكلّفَ؟ لَلَزِم أن نوجب الفدية. وهذا غامضٌ من طريق المعنى، ولكن مأخذه حلق المُحل شعرَ المحرم، والمحرم نائم، أو مكرَه، وقد يُتخيّل في ذلك أن شعر المحرم محترمٌ، وإتلافه محرّمٌ على المُحل والمحرم، كشجر الحرم، وتقدير هذا في استدامة فعل المحرم بعيد.
ولكن الذي رأيناه في المذهب (3) ما نقلناه، وسيعيد الشافعي بعض أحكام الصبيان، في باب معقودٍ، يشتمل على إحرام الصبي، وعلى إحرام المماليك، فرأينا أن نؤخر بعضَ الأحكام، ونذكر في ذلك البابِ حكمَ العبد يُحرم، وحكمَ الكافر يُحرم ثم يسلم.
فصل
قال: " وإذا أصاب المحرمُ امرأتَه المحرمةَ ... إلى آخره " (4).
2710 - الوطء من المحرم المكلفِ إذا صادف إحراماً تاماً، فهو مفسدٌ للإحرام، ولا فرق إذا فُرض في الحج، بين أن يكون الوطء قبل الوقوف، وبين أن يكون بعده إذا لم يثبت تحلّل (5)، خلافاً لأبي (6) حنيفة.
__________
(1) ساقط من (ك).
(2) في الأصل: مع.
(3) عبارة الأصل: في هذا المذهب.
(4) ر. المختصر: 2/ 93.
(5) في الأصل: " تحلُّلاً " بالنصب.
(6) ر. مختصر الطحاوي: 67، بدائع الصنائع: 2/ 217، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 203 مسألة: 667، حاشية ابن عابدين: 2/ 211، 212.

(4/343)


ثم حكم الحج إذا فسد وجوبُ المضي فيه إلى تمامه، ثم وجوب القضاء إذا كان الحج تطوعاً، وفيه يظهرُ أثر وجوب القضاء، وتجب الكفارة العظمى، كما سنصفها.
والمرأة إذا مكَّنت، فسد إحرامُها، كما يفسد إحرامه، ثم القول في الكفارة عليها، كالقول في كفارة الوقاع في رمضان، وقد تفصّل القولان توجيهاً وتفريعاً.
فإن أوجبنا الكفارة على الزوج، ولم نوجبها عليها، فهل على الزوج أن يحصّل الحج [لها بمؤنةٍ] (1) من ماله؟ قال الشافعي فيمن يفسد حجه: " قضى وكفّر، وحج من قابل بامرأته ".
واختلف الأئمة في ذلك: فقال بعضهم: هذا واجب عليه وجوبَ الكفارة، وثمنِ ماء الغسل.
وقال آخرون: لا تجب المؤنة عليه. وعليها أن تتكلف ذلك من مالها، فإنها كانت مختارة في تمكينها، والكفارة خارجة عن القياس، مستندة إلى حديث الأعرابي، فلا ينبغي أن تُتَّخذَ أصلاً في كل ما لا نصّ فيه.
ثم قال الشافعي في القديم: " إذا بلغا في القضاء الموضع الذي أفسدا فيه الحجَّ، فُرِّق بينهما " وظاهر هذا يدل على استحقاق ذلك. والذي ذهب إليه الأكثرون أنه استحباب، وهو الذي قطع به الصيدلاني. ومن أصحابنا من رأى ذلك حَتماً، وظن أن الشافعي قال ما قال [عن أثرٍ عنده] (2) اتبعه.
ومما يتعلق بموجب (3) الإفساد أنه إذا كان قد أحرم من مسافة بعيدةٍ، وراء الميقات الكائن في صوبه، ثم أفسد الحج، فيلزمه أن يقضي من المسافة التي كان أحرم من مثلها ابتداءَ [الأداء] (4)، وخالف أبو حنيفة (5) في ذلك.
__________
(1) بياض بالأصل.
(2) ساقط من الأصل.
(3) (ط) بوجوب الإفساد.
(4) في الأصل، (ط): أداء.
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 68 مسألة 555، والمسألة ذكرها إمام الحرمين في الدرة المضية: مسألة 296.

(4/344)


ثم إذا أفسد الحج، فالإحرام دائم على الفساد، وليس كالصوم يفسد، مع أمرنا بوجوب الإمساك عن المفطرات؛ فإن الصوم يرتفع بالكلّية، والأمر [بالإمساك] (1) تشديد وتغليظ.
2711 - ثم من جامع وأفسد، ثم جامع مرة أخرى، فهل يلزمه بالجماع الثاني شيء أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجب؛ لأنه وقاع عديم التأثير في الإفساد؛ إذ لا أثر له فيه، فلا يتعلق به كفارة. والأصح وجوب الفدية؛ لأنه في إحرامٍ وإن كان فاسداً.
ثم إن قلنا: تجب الكفارة ففي الواجب وجهان: أحدهما - أنها بدنة. والثاني - أنها دم شاة. وهذا الخلاف أقربُ؛ من جهة أن الوقاع الثاني مباشرةٌ لم تفسد الحج، فأشبهت المباشرة دون الوقاع.
2712 - ولو وقع الوطء بين التحللين، فالأصح أن الحج لا يفسد؛ لأنه لم يصادف إحراماً تاماً. ومن أصحابنا من قال: يفسد الحج لمصادفة الوطء للإحرام.
فإن قلنا: لا يفسد الحج، فواجب الوطء بين التحللين ماذا؟ فيه وجهان: أحدهما - أن واجبه البدنة. والثاني - أن واجبه دم شاة. وهذا يقرب من الخلاف في واجب الوطء الثاني. فإن قلنا: إنه يفسد الحج، فواجبه بدنة؛ فإن الإفساد ووجوب القضاء أشد وأغلظ مما بين الشاة والبدنة، ويخرج وجهٌ آخر: أنا إذا قلنا: الوطء لا يفسد الحج إنه (2) لا يتعلق به شيء أصلاً. وهذا بعيد؛ فإن الوطء يجب ألا يقصر عن مباشرة لا وقاع فيها.
وسنذكر الآن أن المباشرة من موجبات الفدية، ويتجه أن نَنْفصل (3) عن هذا،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) كذا في النسخ الثلاث: إنه (بدون فاء)، وقد سبق في بعض تعليقاتنا، أن هذا سائغٌ، وخرّجوا عليه قوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180].
(3) " ننفصل عن هذا " أي: نخرج عنه، ونردّه، ونُجيب عليه، فالانفصال هنا من مصطلحات المناظرة، ومعنى العبارة: أن وجه الانفصال والخروج عن هذا الاعتراض القائل: إن الوطء لا يصح أن يقلّ في إيجاب الفدية عن مباشرةٍ لا وقاع فيها، فالجواب أو الانفصال بأن يقال: المباشرة إنما توجب الفدية إذا صادفت إحراماً تاماًً.

(4/345)


فيقال: المباشرة إنما توجب الفدية إذا صادفت إحراماً تاماًً.
وكان شيخي أبو محمد يقطع القول بأن الحج إذا فسد بالجماع، فلو فرض من المحرم الذي فسد حجه تطيّبٌ، أو لُبسٌ أو ستر، فتجب الفدية في هذه المحظورات. وبهذا يتبين أنه في إحرام، وليس كالجماع، بعد الجماع؛ لأنه في حكم التابع للجماع الماضي، فجعل كحركات المجامع.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً في أن المحظورات بعد الوقاع لا توجب الفديةَ، إذا قلنا: إن الجماع الثاني لا يوجب شيئاً. وهذا بعيد جداً.
2713 - ونحن نذكر بعد هذا تفصيل كفارة الجماع التام المفسد، فنقول: الواجب بدنة، فإن لم يجد، فبقرة، فإن لم يجد فسبعٌ من الغنم؛ فإن لم يكن قوّمت البدنة دراهمَ، والدراهم طعاماً بسعر مكة، فإن لم يكن، صام عن كل مدّ يوماً، ونصفُ المد كالمد في مقابلته بصومِ يوم؛ فإن الصوم لا يتبعض.
ثم اختلف الأئمة في [أن هذه] (1) الكفارة مرتبة، أو مخيرة: فمنهم من جعل في المسألة قولين: أحدهما - أنها مرتبة. والثاني أنها مخيّرة، في جميع ما ذكرناه.
قالوا: والقولان مبنيان على أن الوطء استمتاع أو استهلاك. فإن جعلناه استهلاكاً، فهذا (2) على التخيير، كفدية الحلق، والقَلْم، وقتل الصيد. وإن جعلناه استمتاعاً، فهو على الترتيب كفدية الطّيب، واللّباس؛ فإنها مرتبة كما سنصفها.
فإن قلنا: هي مخيرة، فلا كلام. وإن قلنا: هي مرتبة، فالبدنة، والبقرة، والسبع من الغنم، على الترتيب، أو على التخيير، فعلى وجهين: أحدهما - أنها مرتبة، كالدم، والصوم، والإطعام. ومنهم من قال: هذه الأشياء مخيّرة (3) وإنما الترتيب في الدم، والصوم، والإطعام؛ وذلك لأن هذه الأشياءَ على مرتبة واحدة، في الضحايا والهدايا، فلا معنى لترتيب بعضها على بعض.
__________
(1) مزيدة من (ط).
(2) (ط)، (ك) فهو.
(3) (ط): مرتبة.

(4/346)


2714 - وتمام البيان في المسألة أن من جامع مراراً، وكفَّر عن الجماع الأول، ففي الجماع الثاني من التفصيل ما ذكرناه.
فأما إذا لم يتخلل التكفيرُ، فهذا يندرج تحت الفصل الجامع الذي ذكرناه، في تكرر موجبات الكفارة، وتداخل الكفارات عند التواصل، وعند الانقطاع، وقد مضى ذلك، مع أمثاله في فصلٍ جامع.
ولو جامع مراراً في مكان واحد، وهو يقضي من كل جماع وطره، فقد سبق منا رمزٌ إلى ذلك، في الفصل المشتمل على تداخل الكفارات، وقد ذكر صاحب التقريب في ذلك جوابين: أحدهما - أن المواقعات، وإن تواصلت أزمنتها، فهي بمثابة ما لو تفرقت. وهذا متّجه في المعنى ظاهرٌ. والوجه الثاني - أنها تلحق بأعدادٍ من اللُّبس مع اتحاد المكان والزمان، حتى يقطع باتحاد الموجب.
ولا خلاف أنه لو كان ينزع ويعود، والأفعال متواصلة، وقضاء الوطر حصل آخراً، فالكل وقاع واحد.
فرع (1):
2715 - متصل بما نحن فيه.
المباشرة بين المحرِم والمرأة إذا تحقق فيها التقاء البشرتين، فلا نقضي بفساد الحج بها، أنزل أو لم ينزل، خلافا لمالك (2)؛ فإنه قال: إذا اتصل الإنزال بها أفسدت الحج.
ثم الفدية تجب بالمباشرة، وهي دمُ شاة، ولا فرقَ بين أن يتصل الإنزال بها أو لا يتصل. نصَّ عليه الأصحاب في طرقهم، وضبطوا المباشرة الموجبةَ للفدية، بما يوجب نقض الطهارة، ثم مسائل الملامسة في الطهارة تنقسم إلى وفاق وخلاف، والأمر في الحج ينطبق على قياسها، وفاقاَّ وخلافاً، وأما الصوم، فالمباشرة المحضة لا تؤثر فيه.
فهذه مراتب المباشرة وحكمها. وانتقاضُ الطهارة، ووجوب الفدية في الحج
__________
(1) في الأصل فصلٌ. ولكن الكلام متصل، فرجحنا (فرع) اتباعاً كما في (ط)، (ك).
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 487 مسألة 788، تهذيب المدونة: 1/ 595.

(4/347)


يتجاريان بلا افتراق، والمرعي في الصوم الإنزال، وكأن الغرض من الصوم الانكفافُ عن قضاء الوطر، بالأكل أو الاستمتاع، وهذا لا يحصل بالمباشرة المجردة.
والقياس يقتضي أن يكون الاعتكاف ملحقاً بالصوم في المباشرة، التي لا إنزال معها، ولكن فيها تردد، ذكرناه في الاعتكاف، وذكرنا سببه.
2716 - وأما الاستمناء، فإنه يفسد الصوم، وهل تتعلق به الفدية؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - يتعلق به ما يتعلق بالمباشرة. والثاني - لا شيء فيه؛ فإن الحج ليس في معنى الصوم، في مسالك محظوراته.
فرع:
2717 - الحاج المتطوّع إذا أفسد حجه بالجماع، فقد ذكرنا أن القضاء يلزمه.
ثم ذكر العراقيون [في] (1) أن القضاء على الفور أم على التراخي وجهين: أحدهما - أنه على التراخي، اعتباراً بصفة الوجوب في فرض الإسلام. والثاني - أنه على الفور، لانتساب المفسد إلى التفريط في الإفساد.
وكان القفال يقول: كل كفارة وجبت من غير عدوان ممن لزمته الكفارة، فهي على التراخي، وكل كفارة وجبت بعدوان من الملتزم، ففي ثبوتها على الفور والتراخي تردد.
وهذا يناظر ما ذكره العراقيون في قضاء الحج على المفسد؛ فإن وضع الشرع في واجب الحج [على] (2) التراخي، كما أن الكفارات في وضعها على التراخي.
ومن اعتدى بترك صلاةٍ، لزمه قضاؤها على الفور، بلا خلاف على المذهب.
والسبب فيه أن المصمم على ترك القضاء مقتولٌ عندنا، ولا يتحقق هذا إلا مع توجّه الخطاب بمبادرة القضاء، وأبعد بعض الأصحاب، فقال: إنما يقتل تارك الصلاة إذا لم [يعزم على القضاء] (3) ومثل هذا لا يُعدّ من المذهب.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) عبارة الأصل، (ك): إذا لم يعد القضاء.

(4/348)


ومن اعتدى بترك صوم شهر رمضان، ففي جواز التأخير في القضاء مع الاعتداء في الابتداء وجهان؛ إذ لا يتوجه على التارك المصرّ على الترك في الصيام قتل.
فرع:
2718 - الجماع إذا طرأ على العمرة، أفسدها ويتعلق به من الكفارة ما يتعلق بالجماع المفسد للحج، ولو طاف المعتمر، ولم يَسْع، وجامع، فسدت العمرة، ووجبت الكفارة العظمى. وإن كان الطواف في العمرة من أسباب التحلل، فاتفق الأئمة على أن التحلل من العمرة لا تدريج فيه، ولا تعدد (1)، وليس كالتحلل عن الحج؛ فإنه ينقسم، ويختلف الحكم فيما يقع قبل التحللين، وفيما يقع بينهما.
وقال الأئمة: لو طاف المعتمر، وسعى، ولم يحلق، وقلنا: الحِلاق نسك، فلو جامع قبل الحِلاق، فسدت العمرة، ولزمت الكفارة العظمى، على ما قدمناه.
فرع:
2719 - القارن إذا جامع وأفسد إحرامه، لزمه قضاء النسكين، ولزمته الكفارة العظمى.
وهل يلزمه دمُ القِران؟ فعلى وجهين: أحدهما - يلزمه، ضماً إلى كفارة الجماع.
والثاني - لا يلزمه؛ فإنه لم يتمتع بقِرانه؛ إذ فسد عليه، وذاق وبال الإفساد، فليقع الاكتفاء بموجبه.
ومما يتعلق بذلك أن القارن لو لم يجر منه صورة الطواف، و [السعي] (2) قبل
الوقوف، فوقف، ورمى جمرةَ العقبة، وحلق. فلو جامع، فالأصح أن الحج لا يفسد، كما تقدم. ثم إذا لم يفسد الحج، لم تفسد العمرة، وإن لم يجر بعدُ من أعمالها شيء، فلا خلاف بين الأصحاب أن العمرة تتبع الحج في الفساد في حق القارن.
ولو فات الوقوف، وفات حج القارن بقرانه، ففي فوات العمرة وجهان: أحدهما - أنها تفوت بفوات الحج؛ فإن العمرة في جهة القِران لا تفرد بعمل، ولا حكمٍ، وأيضاًً فإنها تَبِعَتْ الحجَّ في الفساد في حق القارن، فلتتبعه في الفوات.
__________
(1) (ك): لا يندرج فيه، ولا تعبد.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).

(4/349)


والوجه الثاني - أن العمرة لا تفوت؛ فإن من فاته الحج يلقى البيتَ بعملِ معتمر، فإذا كان يعمل عمل معتمر وإحرام العمرة لا يفوت؛ فلا معنى للقضاء بفوات العمرة.
فصل
قال الشافعي: "وهكذا كل واجب عليه، فقس به ما لم يأت فيه نص ... إلى آخره" (1).
2720 - مضمون الفصل القول في معاقد المذهب في الدماء وأبدالها.
وكان شيخي أبو محمد يقسم الدماء على أقصى وجه في التطويل، طالباً بكلامه الاحتواء على الجمل والتفاصيل، وكان يجري مقصودُ الضبط خفيّاً في أدراج الكلام إلاّ على المنتهين.
والذي أراه أن أذكر الضوابط لفظاً ومعنى، وأحيلَ التفصيل الخارج عن مقصود الضبط إلى ما جرى وسيجري مفصلاً، وأُنبّهَ على ما يعدَم (2) الطالب مثلَه في المجموعات (3).
2721 - فأقول: ذكر المراوزة مسلكاً وأنا طارده على وجهه، حتى إذا تم، ذكرت طريقةً أخرى للعراقيين من (4) أول الضبط إلى آخره. ثم أحكم بين الطريقين بما أتخيله.
وأقول في افتتاح طريق المراوزة: الدماء المنصوصة في كتاب الله تعالى أربعة: أحدها - جزاء الصيد، وهو مُعَدَّل في كتاب الله مخيّر (5)، قال عز من قائل: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، فكفارة الصيد مخيرة في نص
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 94.
(2) عدم: من باب تعب.
(3) المجموعات: المؤلفات. وهذا معهودٌ في لفظ إمام الحرمين، يسمي المؤلّف (مجموعاً).
(4) (ط): في.
(5) ساقطة من (ط).

(4/350)


القرآن معدّلة، ومعنى كونها مخيرة، تخير الملتزم بين الدم، والصوم، والإطعام، ومعنى [التعديل] (1) أن نقدر المثل الواجب مقوماً بالدراهم، ثم نصرف الدراهم إلى الطعام المخرَج في الكفارة، ونقدرها أمداداً، ثم نقابل كلَّ مُدٍ بصوم يوم. فهذا معنى التعديل، واللّقب مأخوذٌ من قوله تعالى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]، والاعتبار بالأسعار المقدرة بمكةَ، حرسها الله تعالى، وتفاصيل جزاء الصيد فيه بابٌ، والغرض وصف كل كفارة بالتخيير، والترتيب، والتعديل، والتقدير. فهذا أحد الدماء المنصوصة.
والثاني - دم الحلق، قال الله تعالى {أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وقد وصفنا هذه الكفارة، وبيّنا أنها مخيّرة، مقدّرة، أما التخيير، فمنصوص في الكتاب، والتقدير متلقى من بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عُجرة.
والثالث - دم المتعة، وقد سبق شرحها، فهي مُرَتَّبةٌ مقدرة.
والرابع - دم الإحصار (2 وهو دم شاةٍ، وفي بدله، ثم في صفة بدله كلامٌ يأتي في باب الإحصار، إن شاء الله تعالى. فأما دم الإحصار 2)، فلسنا نبغي أن نلحق يه فرعاً، وإنما الإلحاق بالدماء الثلاثة فنقول:
2722 - جملة الدماء على طريق المراوزة غيرِ المنصوص عليها معدّلةٌ طرداً، وإنما الكلام في الترتيب والتخيير، فكل دمٍ وجب لترك نسك كترك الرمي، والمبيت، والجَمْع في الوقوف بين الليل والنهار، وترك طواف الوداع، وترك حق الميقات، وهو الذي يسمى دمَ الاساءة، فلا يختلف القول أنه مرتبٌ: الشاةُ، ثم الطعامُ، ثم الصوم.
وأما ما يكون استمتاعاً، كاستعمال الطيب، واللباس، وما في معناهما، أما التعديل، فلا شك فيه في موجَب هذه الطريقة، وأما الترتيب فقولان: أحدهما - أنها
__________
(1) في الأصل: التقدير.
(2) ما بين القوسين سقط من (ط).

(4/351)


مرتبةٌ: الدماء، ثم الطعام، ثم الصوم، على التعديل.
والثاني - نص عليه في الإملاء، والمناسك الأوسط - أنها على التخيير، واحتج عليه بقوله تعالى، في فدية الأذى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، الآية، ووجه الدليل أن الآية ليست ناصَّة على الحلق، وإنما هي مشتملة على دفع الأذى، وقد يقع برأس المحرم شَجَّةٌ، فيحتاج في دفع أذاها إلى الستر، والحلق، واستعمال دواء فيه طيب، فليثبت التخيير، غيرَ أنه على التعديل، كما سنصفه في آخر الفصل.
فهذه الدماء على هذا القول ملحقة بجزاء الصيد في الضبط اللفظي. و (1) على القول الأول هي في الترتيب ملحقة بدم التمتع، وفي الكيفية هي ملحقة بجزاء الصيد، ولا حاجة إلى تكلفٍ في إلحاق القَلْم بالحلق، فإنه في معناه، ودم الوقاع ملتحق في التعديل قولاً واحداً، وفي اختلاف القول في الترتيب بدماء الاستمتاعات.
فهذا منتهى الضبط المقصود على طريقة المراوزة.
2723 - (2 فأما العراقيون، فإنهم ذكروا في الدماء ترتيباً يخالف طريق المراوزة 2) من أوجه. ونحن نسرد ما ذكروه على وجهه، فنقول:
الدماء المنصوص عليها أربعة: دم التمتع والقِران، ودم الإحصار، وفدية الأذى، وجزاء الصيد، فكل دم وجب عن ترك نسك كدم الإساءة، ودم الرمي، والمبيت، والوداع، ودمِ الفوات. فكلها كدم التمتع في كل وجه؛ فإن التمتع فيه تركُ الإحرام من الميقات.
وكل دمٍ وجب بسبب ترفُّه: كالطيب، واللبس، والمباشرة دون الفرج، فجميع ذلك كدم الحلق، من كل وجه؛ لأن الترفه يجمعها، إلى دم الحلق، فيجب دم مخيّر، مقدّر، شاةٌ، أو صوم ثلاثة أيام، أو إطعام مقدرٌ معروف في فدية الأذى.
ثم قالوا: دم الإحصار أصلٌ منصوص، لا فرعَ له، يُلحق به.
__________
(1) (ط) على القول (بدون واو).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(4/352)


ودم الجماع فرعٌ غيرُ منصوصٍ، ولا أصل له في نص الكتاب، وطردوا دمَ الجماع على ما ذكرناه مفصَّلاً في فصل الجماع.
وقد وجدت هذا بعينه مذهب مالك (1) حرفاً حرفاً وليس يكاد يخفى تباين الطريقين.
والآن حان أن نذكر مسلكي الفريقين.
2724 - أما العراقيون، فإنهم راعَوْا شبَها في الترفّه، والنسك، ثم حكموا بهذا المقدار من الشبه بالتقديرات التي لا تتلقّى إلاّ من توقيف، والشبه البعيد لا يقتضيه.
وأما المراوزة، فإنهم رأَوْا التعديل منقاساً، إذا عُدم التوقيف، وقد وجدوا للتعديل ثَبَتاً في النص وطردوا التعديل بمسلكٍ معنوي في كل ما ليس منصوصاً [عليه] (2) على التفصيل، وترددوا في الترتيب، فهان عليهم تحكيم الشبه فيه، وغلب عندهم [الشبه] (3) فيما يتعلق بالنسك في الترتيب، وترددوا فيما يتعلق بالاستمتاع.
2725 - ولا يكاد يخفى على من جرى في (4) مساقنا، وأخذ الفقه على مذاقنا، أن ما ذكره المراوزة أفقه وأغوص، ثم هذا على حسنه يعتضد بنصّ الشافعي، فإنه ذكر دمَ الجماع معدَّلاً، كما مضى، ثم قال: " وهكذا كل واجبٍ عليه فقس به "، فكان هذا تصريحاً منه بتعميم التعديل، في كل ما ليس منصوصاً عليه على التفصيل. وقد وفّينا بذكر الطريقين، والحكم بينهما بعد نجازهما.
فصل
2726 - الدماء الواجبة على المحرم من غير نذر كلها [دماء الجبرانات عندنا] (5) ومن جملتها دم التمتع والقِران.
__________
(1) ر. القوانين الففهية 136 وما بعدها.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ط) على.
(5) ساقط من الأصل.

(4/353)


ثم قاعدة المذهب أن جميعَها يتقيد بالجرم، أما لحومها فمفرقة على من يصادف مكة من المستحقين: قاطنين كانوا أو غرباء، وإنما المطلوب أن تقع التفرقة بالحرم.
وأما إراقة الدماء، فالمذهب أنه يتعين إراقتها بالحرم، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع النحر من منى، وقال: "هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر" (1). وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرمَ بذكر مكة، ولا شك أن خِطتها غيرُ معتبرة، وإنما المرعي الحرم (2) نفسه، ومنى ليس من خِطة مكة، ولكنه من الحرم، والحرم متمادٍ إلى قرب عرفة.
ومن أصحابنا من قال: لو وقع الذبحُ والنحر في طرف الحل، ونقل اللحم غضاً طرياً إلى الحرم، جاز، وأجزأ؛ مَصيراً إلى أن المقصود تفريقُ اللحم الغض بالحرم.
وهذا ضعيفٌ؛ فإن الإراقة نسكٌ، ولهذا لا يجزئ اللحم إذا اشتراه [ملتزمُ] (3) الدم وأراد تفريقه.
2727 - هذا أصل المذهب، لا يستثنى منه إلا دمُ الإحصار؛ فإن محِلّه محل الحصر، وسيأتي في باب الإحصار مع طرفٍ من أحكام (4) الدماء التي وجبت قبل الإحصار.
وإذا خالف [ملتزم] (5) الدم فيما رأيناه واجباً، لم يعتد بما جاء به.
والمحل الأفضل في حق الحاج، منى وكذلك القول في هداياه: إن ساقها.
ومحل الإراقة في حق المعتمر المروةُ؛ فإنها محل التحلل عن العمرة. كما أن منى محل التحلل عن الحج.
__________
(1) حديث: كل فجاج مكة منحر، رواه مسلم بمعناه عن جابر، وأتم منه: كتاب الحج، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، ح 1218، ورواه أبو داود بنحو هذا اللفظ: المناسك، باب صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1907، وانظر تلخيص الحبير: 2/ 554 ح 1118.
(2) (ط): بالحرم.
(3) في الأصل: فيلزم الدم.
(4) (ط): الأحكام.
(5) في الأصل: فيلزم.

(4/354)


وذكر شيخي وجهاً غريباً في أن من حلق قبل الانتهاء إلى الحرم، فله أن يفرّق اللحم حيث حلق، واستدل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كعب بن عُجرة، وكان حلقه في محلٍّ بعيدٍ عن مكة، ودل ظاهر كلامه صلى الله عليه وسلم على التسليط على إراقة الدماء، وتفرقة اللحم.
وهذا بعيدٌ؛ فإن ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على إعلامه كعباً ما يجب عليه بسبب الحلق، فأما التعرض [لتنجيز] (1) الإراقة وتعجيل تفرقة اللحم، فلم يتعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2728 - وذكر صاحب التقريب وجهاً غريباً على نسق آخر، فقال: كل ما أقدم عليه المحرم من موجبات الدم، وكان مسوَّغاً له بعذرٍ، أو غيره، فله أن يريق الدم حيث شاء، وكذلك يفرّق اللحنمَ. وكل سبب يحرُم الإقدام عليه، فإذا فرض صَدَره (2) من المحرم، فإراقة الدم الواجب، وتفرقةُ اللحم يتقيدان بالحرم.
وهذا نقله وزيفه. وليس من الرأي تشويش أصل المذهب بمثل هذا، والوجه القطع بأن كل دم وجب على المحرم بسبب يسوغ: كالتمتع، والقِران، والحلق مع الأذى، واللُّبس مع الحاجة. أو بسبب غير مسوغ كالمحظورات، مع انتفاء الأعذار، فتفرقة (3) اللحم في جميعها مقيدةٌ بالحرم. والمذهب تقيّد الإراقة به أيضاً، وفيه الوجه البعيد.
ثم لا فرق بين ما يقع في نفس الإحرام، وبين ما يقع بعد التحللين، أو بينهما؛ فإن الرمي وإن وقع بعدَ (4) التحللين، فهو من توابع الإحرام، فالْتحق به، وكذلك كل ما في معناه.
وأما القول في الزمان، فلا يتقيد شيء (5) من دماء الجبرانات بالزمان، وجميع
__________
(1) في الأصل، (ك): لتخيير
(2) صَدَرُه: صدوره. وقد تكرر هذا مراراً.
(3) (ط): فانتفاء.
(4) (ط): بين.
(5) (ط): بشيء.

(4/355)


الأوقات صالحةٌ لها، وإنما يتقيد بأيام النحر: الهدايا، والضحايا: المتطوّعُ منها، والمنذور.
فصل
يجمع ما يُفسد الحجَّ والعمرة، وما يَقْطع إحرامهما
2729 - فأما القول فيما يفسد، فلا خلاف أن الوطء مفسد للنسكين، وقد تفصل القول فيه، وفي موجَبه.
ومما يلتحق بذلك الردة إذا طرأت، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن الردة كما (1) طرأت، قطعت الإحرام قَطْع الإفساد.
ثم اختلف الأئمة أن المرتد هل يخاطب بالمضي في فاسد الحج أم لا؟ ويظهر تصوير ذلك فيه إذا ارتد، فوقع الحكم بالفساد عند الارتداد، ثم عاد إلى الإسلام، فمن أصحابنا من قال: [إنه] (2) يمضي في الفاسد مضيّ من أفسد الحج بالجماع.
ومنهم من قال: لا مضيّ على من فسدت حجته بالردة؛ فإن طريق إفسادها القطع، والاستئصال، وإحباط الأعمال، وهذا يقتضي أن لا [يقع] (3) الخطاب بعد الردة بفعل.
وذكر بعض (4) أصحابنا وجهاً آخر [أن الردة] (5) لا تفسد الحج أصلاً، طالت مدتها، أو قصرت. ولكن لا يعتد بما يأتي به في زمن الردة. وقد ذكرنا خلافاً للأصحاب في طريان الردة في أثناء الغُسل والوضوء. وهذا وإن حكاه طوائف من الأئمة، مزيّف غير صحيح.
__________
(1) "كما" بمعنى (عندما).
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: يقطع.
(4) ساقطة من (ط).
(5) عبارة الأصل: أنها.

(4/356)


فصل
قال: " ومن فاته ذلك، فقد فاته الحج ... إلى آخره " (1).
2730 - [مضمون الفصل القول في فوات الحج] (2)، فنستقصي ما فيه، وإذا انتهينا إلى بابه، أحلناه. فنقول:
أولاً - العمرةُ المفردة لا يتصّور فواتُها، وإنما يفرض انقطاع إحرامها قبل تأدية أركانها بالإحصار، كما سيأتي، وهل تفوت العمرة في حق القارن، إذا فات الحج؟ فعلى الخلاف المقدم.
2731 - وأما الحج، فإنه يفوت بفوات الوقوف، وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة، فمن وقف بعرفة، من ليل أو نهار، فقد تم حجه " (3) والمعنيُّ بالتمام الأمن من الفوات.
ثم المتطوّع بالحج إذا أحصر، وتحلل، لم يلزمه القضاء، وسيأتي [ذلك] (4) في باب الإحصار. وإذا فاته الوقوف، لزمه القضاء، كما يلزمه القضاء إذا أفسد الإحرام. ولعل السبب فيه انتسابه إلى التقصير، أو إلى ما يدنو منه.
وإذا فرض الفوات مترتباً على سبب الإحصار، ففي وجوب القضاء قولان.
وتصويره أن يؤم مكة محرماًً، من طريق قريبة، فيصدّه العدّو من ممره في الطريق القاصد، فينحرف إلى مسلكٍ فيه بعضُ الطول، وقد قرب الزمان، فإذا فعل ذلك،
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 96.
(2) ساقط من الأصل.
(3) حديث " الحج عرفة ... " بمعناه أحمد: 4/ 309، 310، وأبو داود: كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، ح 1949، والترمذي: الحج، باب فيمن أدرك الإمام بجمع، ح 889، والنسائي: مناسك، باب من أتى عرفة، ح 3044، وابن ماجة: المناسك، باب من أتى عرفة، ح 3015، وابن حبان: ح 3881، والحاكم: 2/ 278، والدارقطني: 2/ 240، والبيهقي: 5/ 116، 173. وانظر التلخيص: 2/ 487 ح 1048.
(4) ساقطة من الأصل.

(4/357)


ففاته الحج المتطوع به، فهذا فواتٌ سببه الإحصار والصدّ، فهل يجب القضاء؟ فعلى قولين: أحدهما - يجب لأجل الفوات. والثاني - لا يجب لترتب الفوات على الصدّ، وكذلك لو صُدّ وحبس، ثم انجلى الحصر، فاندفع، ففاته الحج لضيق الوقت، والأمر على ما ذكرناه من الخلاف.
2732 - ثم إذا ثبت وجوبُ القضاء على من فاته الحج، فيجب مع القضاء دمٌ وفاقاً. ولا خلاف أن صفته صفةُ دم التمتع، اتفقت الطرق عليه.
وإنما لم ندرجه في تقاسيم الدماء، لنفرد ذكره، والسبب (1) فيما ذكرناه ظهور الشبه، وبلوغُه مبلغ الوضوح؛ فإن المتمتع يتحلل من نسك، ويتحرم بآخر، ومن فاته الحج يفعل ذلك، ولكن القضاء يقع لا محالة في السنة الثانية.
2733 - ثم نذكر قبل تفصيل الدم وبدلِه أصلاً آخر في الفوات، فنقول: من فاته الوقوف، فلا بد وأن يلقى البيت، ثم اختلف نص الشافعي، فقال في موضعٍ: " يطوف ويسعى " وقال في موضع: " يطوف ". واختلف أئمتنا، فمنهم من قال في المسألة قولان: أحدهما - أنه يأتي بعمل معتمرٍ، فيطوف، ويسعى، ويحلق، إن جعلنا الحِلاق نسكاً.
والقول الثاني - أنه يقتصر على الطواف؛ فإن الغرض لُقيان البيت، وإلا فما يأتي به غيرُ محسوبٍ عن حج، ولا عمرة. ومن الدليل على ذلك أنه لا يأتي بالمناسك التابعةِ كالرمي، والمبيت، فليقع السعي في معناها.
ومن أئمتنا من قطع بأنه يطوف ويسعى، وحمل نص الشافعي عند ذكره الطواف، على اقتصاره على بعض ما عليه موجِزاً، وذلك معتاد في الكلام.
ثم من جعل المسألة على قولين، أوجب مع الطواف الحلقَ، إذا جعلنا الحلق نسكاً. هكذا ذكره الصيدلاني وغيرُه، وذلك لأنه مختص باقتضاء التحلل إذا قدرناه نسكاً، وسيظهر أثره في باب الصدّ إن شاء الله تعالى.
__________
(1) (ط): والتسبب.

(4/358)


2734 - فإذا ثبت ما ذكرناه، عادَ بنا الكلام بعده إلى تفصيل دم الفوات:
هو دم شاة إن وجده المرء، فإن لم يجده، صام ثلاثة أيامٍ، وسبعةً، على ترتيب صيام العشرة في حق المتمتع.
ثم اضطربت طرق الأئمة (1) فيما يقع صيام الثلاثة فيه، فذكر المراوزة مسلكين: وقد جمعهما العراقيون، وذكروا قولين، ونحن نقتصر على ما ذكروه؛ فإنه يجمع الطرقَ، قالوا: في المسألة قولان في وقت إخراج الدم: أحدهما - أنه يخرجه في الحج الفائت، كما لو أفسد حجَّه، فإنه يخرج دمَ الفساد في ذلك العام.
والثاني: أنه يخرج الدم في الحجة المقضية؛ فإن الحجة المقضية تناظر الحجة من نسكي المتمتع، ودم التمتع إنما يجب بالخوض في الإحرام بالحج، فليكن الأمر كذلك في الفوات والقضاء.
وحقيقة القولين ترجع إلى أن الدم متى يجب؟ قالوا: إن قلنا يخرجه في سنة الفوات، فقد بان أن الوجوب ثابت، وأن الفوات أوجب شيئين: الدمَ، والقضاء.
فله تعجيل أحد الواجبين، وتأخير الثاني إلى وقت الإمكان.
وإن قلنا: يخرج الدم في حجة القضاء، فالوجوب في أي سنة؟ قالوا في المسألة وجهان: أحدهما - أن الوجوب عند التحريم بالقضاء، قياساً على التمتع. والثاني - أن الوجوب بالفوات، ولكنه لا يخرج الدمَ، لنقصان الحج الفائت.
وهذا الذي ذكروه في الدم فيه بعض الخبط؛ فإنا إن قلنا: وجوب الدم بالخوض في القضاء، فالقول في تقديم إراقة الدم على الخوض في القضاء يخرج على الخلاف المذكور في أن المتمتع لو أخرج الدم بعد الفراغ من العمرة، قبل الشروع في الحج، فهل يعتد بما أخرجه؟ والقياس الاعتداد به، اعتباراً بتقديم الكفارة المالية على الحِنث. وإذا أخرج الدم وهو ملابس للعمرة، لم يتخلل منها، ففي الإجزاء خلاف قدمته.
فإذا كان الأمر كذلك حيث نقول: لم يجب الدم بعدُ، فكيف ينقدح المصير إلى أن
__________
(1) (ط)، (ك): الأصحاب.

(4/359)


الفوات يوجب الدم، ثم يتوقف جواز إخراجه في وجهٍ على القضاء المنتظر؟ وإنما يستقيم هذا التردد في الصوم، ونحن ذاكروه الآن.
2735 - فإن قلنا: وجوب الكفارة موقوف على الخوض في القضاء، فصيام الأيام الثلاثة يقع في القضاء لا محالة، فإن الكفارة البدنية لا تقدّم على وقت وجوبها، من غير ثَبَتٍ وترخيصٍ من الشارع، فيصوم في القضاء ثلاثة أيامٍ وسبعةً إذا رجع، على ما مضى تفسير الرجوع.
وإن قلنا: الكفارة تجب بالفوات، فهل يصوم الأيام الثلاثة، وهو ملابس للحجة الفائتة؟ فعلى وجهين: أحدهما أنه يصوم؛ لأن الفوات هو الموجب، وقد تحقق.
والوجه الثاني - لا يصوم؛ فإنه في إحرامٍ ناقص.
وإنما اضطرب الأصحاب في ذلك بسببين: أحدهما - أن الفوات رأوْه موجباً للكفارة، ثم انضم (1) إليه أن من فاتته الحجة في نسك ناقصٍ، وصيامُ الأيام الثلاثة يقع في حج كامل، والجمع بين القضاء والكفارة، وأصل الحج متطوَّع به مشكلٌ في القياس. والأَوْجَه، وهو الذي قطع به الصيدلاني إثبات الصوم في القضاء.
فهذا بيان ما قيل.
2736 - ثم ذكر صاحب التقريب وراء ذلك قولاً بعيداً مخرّجاً فقال: ذهب بعض الأصحاب إلى أن من فاته الحج، يلزمه دمان: أحدهما - في مقابلة الفوات، والثاني - لأنه في قضائه يضاهي المتمتع؛ لأنه تحلل عن الأول، ثم شرع في الثاني، وقد تخلل بين التحلل والشروعِ في القضاء التمكنُ من الاستمتاع، وتحلله لم يكن عن حج، [وإن كان شروعه في حج] (2).
2737 - وقد تردد الأئمة في أن من أحرم بالحج قبل أشهر الحج، فهل يكون إحرامه عمرة؟ ولم يترددوا في أن ما يأتي به من فاتته الحجة ليس بعمرة. وإن قلنا: إنه يطوف ويسعى.
__________
(1) هذا هو السبب الثاني من سببي الاضطراب في كلام الأصحاب.
(2) ساقط من الأصل.

(4/360)


وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً أن أعمال من فاته الحج عمرةٌ على الحقيقة، ولا شك أن هذا يخرج على قولنا: إنه يطوف ويسعى، وغالب ظني أنه قرع مسامعي وجهٌ ضعيف، حكاه [شيخي] (1) في انصراف فعل من فاته الحج إلى عمرة، ولست واثقاً بهذا، فالتعويل على ما قدمته.
فصل
قال: " ولا يدخل مكة إلا بإحرام ... إلى آخره " (2)
2738 - اختلف قول الشافعي في أن الغريب إذا دخل مكة لشغلٍ له، فهل يلزمه أن يدخلها محرماًً؟ قال في أحد القولين: يلزمه ذلك، لإطباق الخلق عليه، والاتفاق العملي [يُعبِّر] (3) عن السُّنن في حكم العادة.
والقول الثاني - إنه لا يجب؛ فإن سبيله سبيل تحية البقعة، والتحية لا أصل لوجوبها.
ثم كل من يدخل مكة من الحل، سواءٌ كان مُنشئاً سفره من ميقاتٍ، أو من مكان دون الميقات، ففيه القولان: إذا لم يكن متردداً إلى مكة في شغلٍ يتعلق بمصالح أهلها، كتردد الحطّابين وأصحاب الروايا (4) ومن في معانيهم.
فأما المترددون على ما وصفناهم، ففيهم طريقان:
من أئمتنا من قطع بأنه لا يلزمهم الإحرام؛ فإن ذلك يشق عليهم، وقد تتداعى ضرورةٌ إلى أهل مكة لانقطاع منافع المترددين عنهم، وإلى هذا ذهب المعظم.
وصار آخرون إلى طرد القولين في الحطّابين. وهذا وإن كان يتجه في المعنى،
__________
(1) في الأصل: الشيخ. وفي هامشها: " أعني شيخي ".
(2) ر. المختصر: 2/ 97.
(3) في الأصل: " يعتد " وفي (ط)، (ك) بعيد، ولا شك في تصحيفها، ومصادمتها للمعنى المفهوم من السياق. ولم نصل إلى هذا اللفظ في (الأم) وانما الموجود كلام بمعناه: 2/ 120، 121. والمثبت بين المعقفين تصرف منّا رعايةً للسياق.
(4) الروايا: جمع راوية: الدواب التي يستقى عليها الماءَ.

(4/361)


حملاً على طرد القياس، فظاهر المذهب القطعُ.
ثم إذا أوجبنا الإحرام على من يدخل مكة، فإن دخلها بنسك مفروضٍ عليه، سقط عنه حق الحرم، كما تسقط تحية المسجد عمن يدخله ويقيم فريضةً فيه.
2739 - ولو دخل مكة محلاً على قولنا بوجوب الإحرام، ففي وجوب القضاء، على هذا القول قولان: أحدهما - لا يجب القضاء؛ فإن القضاء غير ممكن؛ إذ لو خرج ليقضي، فعوده يقتضي إحراماً جديداً، فلا يمكنه تأدية القضاء كذلك.
والقول الثاني - يجب القضاء؛ فإنه ترك إحراماً محتوماً، فيلزمه التدارك.
فإن قلنا: لا يلزمه القضاء، اقتصرنا على التأثيم والتعصية، وإن قلنا: يلزم القضاء، فالذي ذهب إليه المحققون أن سبيل القضاء أن يخرج ويعود بإحرام، فإن قيل: عوده يقتضي إحراماً، [قلنا: قد ذكرنا أن دخول مكة لا يقتضي إحراماً] (1) مقصوداً، ولا يمتنع أن يقع الإحرام عن جهة، ويتأدى به حقُّ الدخول، فليقع إحرامه في العود قضاء، ثم يتأدى به حق هذه الدخلة.
وذهب بعضُ الأصحاب إلى أنا إذا أوجبنا القضاء، فالوجه في الوفاء به أن يتصف بصفة المترددين؛ حتى يصير من الذين لا يلزمهم الإحرام لدخول مكة، فيقع القضاء من داخلٍ لا يلزمه لدخوله الإحرام. وهؤلاء ألزموه ذلك، وهو في نهاية البعد. وقد نسب هذا إلى صاحب التلخيص، وهو في الحقيقة ذهاب عن حقيقة الفصل.
نعم من الأسرار أنا إذا أوجبنا القضاء، فلو خرج، وعاد بعمرة منذورة، لم يقع هذا موقع القضاء، فليقع القضاء مقصوداً، وإن كان ابتداء الدخول لا يقتضي إحراماً مقصوداً. هكذا ذكره شيخي. وهو حسن؛ فإن الدخول من غير إحرام ألزمه إحراماً، كما يُلزم النذر الناذرَ.
2740 - وذكر صاحب التلخيص أن العبيد لا يلزمهم الإحرام لدخول مكة؛ فإنهم مستغرقون بحقوق السادة، ثم لا فرق بين أن يأذن لهم مولاهم في دخولهم مكة، وبين
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(4/362)


أن يدخلوها من غير إذن. فإن الإذن في الدخول لا يتضمن إذناً في الإحرام. اتفق الأصحاب عليه.
وإن أذن السيد للعبد في أن يدخل مكة محرماً، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من ألزمه الإحرام على القول الذي يُلزم الحرّ. ومنهم من لم يلزمه، وهو الأقيس، من جهة أن الإذن لا يطلقه عن أسر الرق، والدليل عليه أن العبد لا يلزمه حضور الجمعة، سواء أذن له السيد في حضورها أو لم يأذن.
وحكى صاحب التقريب وجهاً غريباً في الحطّابين أنه يجب عليهم أن يدخلوا مكة في السنة مرة واحدة محرمين. وهذا لا أصل له. وإذا (1) حكى هو مثلَ هذا بالغ في تزييفه.
...
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث (إذا). وهي بمعنى (إذْ)، وهو استعمالٌ صحيح. قاله ابن مالك في شواهد التوضيح.

(4/363)


باب الصبي يبلغ والمملوك يعتق
2741 - ذكرنا معظم أحكام إحرام الصبيان، وكنا أخرنا إلى هذا الباب مسائلَ، حتى لا نخليه عن غرضٍ.
فإذا خرج الوليّ بالصبي محرماًً، فالنفقة الزائدة بسبب سفرة الحج على من تجب؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنها تجب في مال الوليّ؛ فإنه ورّط الصبيَّ فيها، مع الاستغناء عنها.
والوجه الثاني - أنها تجب من مال الطفل؛ فإن هذا لا ينحطّ عن بعض المصالح القريبة، التي لا تبلغ مبلغ ما لا بد منه، ولو أنْفق الوليّ في تعليم الطفل شيئاً غير محتوم، ساغ له ذلك، فليكن الحج بهذه المثابة.
ومما نذكره في هذا الباب أن الصبي إذا بلغ قبل فوات الوقوف، ووقف بعد البلوغ، فقد ذكرنا أن حجه يقع عن فرض الإسلام، ولو أفاض وهو صبي، وبلغ بمزدلفة، وانقلب إلى عرفةَ، ووقف بها بعد البلوغ، فالجواب كما قدمناه. فالحجة تقع عن فرض الإسلام.
ولو بلغ بمزدلفة، وتمادى، ولم يرجع إلى الموقف، فالمذهب أن حجه لم يقع عن حجة الإسلام.
وحكى العراقيون عن ابن سريج وجهاً: أنه قال: إذا بلغ في وقت الوقوف، (1 وإن لم يعد للوقوف بعد البلوغ، واقتصر على ما سبق منه من الوقوف 1) في صباه، فالحج يقع عن فرض الإسلام. خرّجه على ما ذكرناه من أن الصبيّ إذا سعى في صباه قبل الوقوف، ثم بلغ ووقف، فهل يلزمه إعادة السعي، أم يكتفى بما صدر منه في الصبا؟ وفيه الخلاف المقدم.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(4/364)


ولا خلاف أنه لو بلغ يوم النحر، فلا يقع الحج عن فرض الإسلام؛ لأنه لم يدرك نفسَ الوقوف، ولا وقتَه في البلوغ.
فهذه مسائلُ كنا أخرناها إلى هذا الباب.
2742 - فأما العبد البالغ، فإحرامه ينعقد بعبارته، ولا ينعقد إحرام المولى عنه، والقول في العبد البالغ العاقل. ولو أحرم العبد بإذن السيد، انعقد إحرامه ولزم، ولا يملك السيد تحليله، إذا كان الإحرام صادراً عن إذنه.
وإن أحرم بغير إذنه، انعقد إحرامه وللسيد تحليله.
2743 - وفي الزوجة إذا أحرمت بالإذن وغيرِ الإذن وفي كيفية تحليل العبد تفصيلٌ.
والذي أراه تأخير هذه الفصول إلى آخر باب الحصر، فإنها متعلقةٌ بأحكام الصدّ، ولو رُمنا بيانها، لاحتجنا إلى ذكر طرفٍ صالح من أحكام الحصر. والله أعلم
***

(4/365)


باب من أهل بحجتين أو بعمرتين
2744 - من أهلّ بحجتين، انعقد إحرامه بإحداهما، ولغا الثاني. وقال أبو حنيفة (1): ينعقد الإحرام بهما، ثم إذا اشتغل بأعمال النسك ارتفض ما سوى الحجة الواحدة، ثم يتعلق بالذمة بعد الارتفاض تعلق المنذورات، فيجب إبراء الذمة عنها.
ومما ذكره بعض الحذاق أنا إذا قلنا: الإحرام بالحج في غير أشهر الحج عمرة، فلا يمتنع أن نجعل المحرم بحجتين محرماً بحجة وعمرة، حتى يصير قارناً، وهذا بعيدٌ، وإن كان يتجه بعض الاتجاه.
وإدخال الحجة على الحجة، والعمرة على العمرة لاغٍ، لا يتضمن إلزاماً ولا عقداً كالجمع في ابتداء الإهلال.
...
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 165 مسألة: 628، بدائع الصنائع: 2/ 170، ملتقى الأبحر: 1/ 304.

(4/366)


باب الإجارة على الحج
2745 - الاستئجار على الحج جائز عندنا، ولأصحاب أبي حنيفة (1) خبط في ذلك، لا حاجة بنا إلى ذكره.
ثم الاستئجار إنما يصح عن العاجز عن مباشرة الحج بنفسه، وقد مضى تفصيلُ القول في العجز عن المباشرة في أول الكتاب، عند ذكرنا تفصيل الاستطاعة، فليقع الاعتناء بتفصيل الإجارة، مع الاكتفاء بما تقدم في بيان محلها.
ثم الاستئجار يفرض على وجهين: أحدهما - أن يتعلق بعين الأجير. والثاني: أن يتعلق بذمته إلزاماً، والغرض تحصيله، والملتزِم إن شاء حصله بنفسه، وإن شاء حصله بغيره.
فأما الاستئجار المتعلق بعين الأجير، فصورته أن يقول المستأجر: استأجرتك لتحج عني السنةَ، فهذه إجارة صحيحة، إذا كان خروج الأجير ممكناً. ثم يشتغل الأجير بالتأهب للخروج، فإن أمكنت رفقة، فتوانى عن الخروج معها منتظراً أخرى، أُلزم الخروج، وإن كانت الرفقة في التأهب، لم يكلف الأجير أن يسبقها منفرداً، والرجوعُ في مثل ذلك إلى العادة.
والمُلتَمَسُ من الأجير أن يخرج مبتدراً (2)، مع الاقتصاد بالجريان على موجَب الاعتياد في التشمير، وترك التقصير.
ومما يمتزج بما نحن فيه، وبقواعد الإجارة بعد ذلك: أن طيّ المسافة إلى الميقات ليس مقصوداً في نفسه، وإنما المقصود الحجُّ، ولكن لا وصول إلى تيك المشاعر إلا بقطع الطريق، فهو من عمل الأجير، والتعبُ عليه فيه كالنَّصَب في إقامة
__________
(1) ر. المبسوط: 4/ 158، حاشية ابن عابدين: 2/ 240، اللباب: 2/ 100.
(2) عبارة (ط)، (ك): خروج مبتدر.

(4/367)


الحج، ولكن غرض المستأجر الحجُّ الواقعُ بعد قطع المسافة، فليكن الفقيه على فهمٍ وبصيرة فيما ألقي إليه، وسيكثر انتساب مسائل الإجارة إلى ما نبهنا عليه.
فإذا استأجر أجيراً في بقية السنة لحَجَّة السَّنَة، والزمان يضيق عن إمكان طيّ المسافة، فالإجارة فاسدة، ولو كان الزمان على قدر الإمكان، فالإجارة صحيحة.
وإن كان الزمان بحيث لو قيس بالمسافة، واعتبر الإمكان المقتصد لزاد (1) الزمان، فالاستئجار على حجة السنة جائزٌ، والحالة هذه. اتفق الأصحاب عليه، وهذا يعدّ من التوسع في الإمكان على مهَلٍ بلا عسر، وهذا بيّن في العادة.
2746 - ولو استاجر معيّناً لحجة السنة، والخروج في الحال متعذِّرٌ، فقد ألحق العراقيون هذا بالاستئجار المقترن بالعسر، وذلك فاسد، كاستئجار الدار المغصوبة، ولا نظر إلى ارتقاب زوال العسر توقعاً لا ضبط له.
وقال شيخي: الاستئجار على الخروج في هجمة الشتاء، وازدحام الأنداء (2)، جائز إذا كان الوصول ظاهرَ الإمكان، عند زوال هذه الموانع؛ فإن توقع زوالها مضبوطٌ، وقد رأيت الإشارة إلى منع ذلك في الإجارة الواردة على العين، وفيها تدبُّر الكلام. والسبب فيه أن الاشتغال بالعمل عسر في الحال، وليس كانتظار رفقة ستنشأ على قرب.
فهذا ما أردناه في الإجارة الواردة على العين، مع التقييد بحَجَّة السنة.
2747 - فإن استأجر معيّناً على أن يحج السنةَ القابلة، والحجةُ ممكنة في السنة القريبة، سنةِ الإجارة، فالإجارة فاسدة عند الأئمة، نازلةً منزلة استئجار الدار الشهرَ القابل. وهذا قياسٌ بيّن في إجارة الأعيان عندنا، [فحقها] (3) أن تستعقب الاستحقاقَ من غير استئخار.
ولو كان الاستئجار من مسافةٍ شاسعة، لا يتوقع قطعُها في سنةٍ، فمن ضرورة
__________
(1) ساقطة من (ط).
(2) الأنداء: جمع ندى، وهو من أسماء المطر، وهو المراد هنا. (المعجم).
(3) في الأصل: فحقاً.

(4/368)


تقدير الإجارة من مثل هذه المسافة أن يمر بالأجير زمانُ حجٍّ، وهو في الطريق، فلا منع والإجارة سائغةٌ، وذلك الحج القريب، إذا لم يكن ممكن الحصول، فلا حكم له، والنظر إلى تواصل السير، وهو من عمل الأجير، وإن لم يكن مقصود المستأجِر.
ولو استأجر رجلاً بعينه ليحج عنه، وأطلق الإجارة الواردة على العين، وكان الزمان الباقي من السنة بحيث يسع الحجَّ على يسر، فالإجارة المطلقة صحيحة، وهي محمولةٌ على الإجارة المقيّدة بحجة هذه السنة، فإن اتفق إيقاع الحج، فذاك، وإن أخرها الأجير، ولم يخرج، انفسخت الإجارة، كما لو تقيدت بحجة (1) هذه السنة، فالمطْلَقةُ مُنَزَّلةٌ على حكم المقيدة، وإذا حكمنا بالانفساخ، لم يخْف أن الأجير لو أتى بالحجة في السنة الثانية، لم تقع عن المستأجر.
فهذا تفصيل القول في تصوير الإجارة الواردة على العين.
2748 - فأما الإجارة الواردةُ على الذمة، فتصويرها هيّن، وذلك أن يقول المستأجر لمن يخاطبه: ألزمتُ ذمتك حجةً تُحَصِّلها بكذا، فهذا جائز، وهو مطّردٌ في جملة الأعمال المنتحاة المقصودة بالإجارة.
ثم هذا القسم ينقسم إلى مقيد بالتأخير، وإلى مقيّدٍ بالتعجيل، وإلى مطلق.
فأما المقيد بالتعجيل، فهو سائغ؛ فإنه لا يمتنع ثبوتُ الشيء على حكم الدَّين حالاًّ، والدَّين ينقسم إلى الحالّ، والمؤجل.
ثم إذا كان الأمر كذلك، فإن اتفق الوفاء بتحصيل الحج في الأمد المضروب، فهو المراد.
وإن لم يحصِّل الملتزم ما التزمه في ذلك الوقت المعين، فقد ذكر الأئمة طريقين: أما العراقيون، فقد قطعوا القول بأن الإجارة لا تنفسخ، ولكن المعضوب المستأجِر يتخير في فسخ الإجارة؛ من حيث تعذر حصول مقصوده في الوقت المضروب،
__________
(1) (ط): حجة.

(4/369)


ولا تنفسخ الإجارة بنفسها، فإن الدَّين إذا تعذر في الوقت (1) المضروب، لم يُقْضَ بانقطاعه.
وقال شيخي وغيرهُ من أئمة المراوزة: في المسألة قولان مأخوذان من القولين في السّلَم إذا حل وجنس المسلَم فيه مُنقطعٌ 2) في أوان المَحِلّ، ففي ذلك قولان: أحدهما - أن السلم ينفسخ، والثاني - لا ينفسخ، وللمسلم الخيار: إن شاء فسخَ وإن شاء أَنْظَر إلى وجود الجنس المطلوب في مستقبل الزمان.
فقد حصلنا على طريقين. والمسألة محتملة التشبيه (3) بصورة القولين في السلم، ولا يبعدُ اعتقاد قطعها عن السلم كما ذكره العراقيون؛ فإن الحج كان ممكناً في تلك السنة، ولم يعم العسرُ أصلَه، حتى يُلحَقَ بانقطاع جنس المسلم فيه.
هذا كله في الإجارة الواردة على الذمة، إذا قيدت بالتعجيل (4).
فأما إذا قيّدت بالتأخير، فقال المستأجر ألزمت ذمتك تحصيل الحجة في السنة الآتية الثانية، فهذا جائز وفاقاً.
والإجارة المطلقة الواردة على الذمة بمثابة المقيدة بالتعجيل، وقد سبق القول فيها.
2749 - وذكر (5 الصيدلاني في صورة إجارة الذمة أن المستأجرَ إذا قال: ألزمت ذمتك أن تُحَصِّل لي حَجَّة بنفسك فالإجارة صحيحة، ومتضمّنها أن 5) يكون هو الحاج، ولا ينيبَ غيرَه مَناب نفسه، وهي من قسم إجارة الذمة، ثم مقتضاها أنها لو قيّدت بالحجة المنتظرة في السنة الثانية، صحت الإجارةُ كذلك؛ فإن الدَّيْن يقبل هذا.
وهذا زلل عظيم؛ فإن ربط الشيء بمعيّن، حتى لا يقوم غيره مَقامه، مع اعتقاد
__________
(1) (ط): المحل.
(2) (ط)، (ك): ينقطع.
(3) (ط)، (ك): للتشبيه.
(4) ساقطة من (ك).
(5) ما بين القوسين بياض في (ك).

(4/370)


التحاق ذلك بالديون، متناقضٌ، والإجارة الواردة على الذمة قسمٌ من أقسام السّلم، والسّلَم في ثمرة شجرة معينةٍ باطلٌ، لما بين التعيين والدَّيْنيّة من التناقض، و [هذا] (1) الذي ذكرناه منصوص الطرق في هذه المسائل (2). ولكن ما ذكره الشيخ أبو بكر هو الذي حكيناه، وصار في تعليله إلى أن الناس لهم مقاصدُ في أعيان من يحج، فثبت الأمر على التعيين لذلك. فنقول: عافاك الله، فلنثبت هذا المقصودَ إجارةً واردة على العين؛ إذ لا امتناع في ورود الإجارة على العين. وكل من استؤجر عينُه، فحق عليه الوفاءُ بما التزمه، ففي كل إجارةٍ معنى الإلتزام.
فرع:
2750 - قال العراقيون: إذا وردت الإجارة على الذمة، وتقيدت بالتعجيل، ثم لم يف الملتزم في ذلك الوقت، فالمستأجِر بالخيار في فسخ الإجارة، كما تقدم.
هذا إذا كان المحجوج عنه حياً معضوباً.
فأما إذا كان ميتاً، فقد قال العراقيون: لا خيار في فسخ الإجارة، وفرقوا بأن الحيّ إذا استأجر، ثم تعذر (3) الوفاء بالمطلوب، استفاد المستأجِر بالفسخ استرداد الأجرة، والتبسط فيها، وهذا لا يتحقق في حق الميت، فإن أجرة الأجير مستحقَّةٌ لتحصيل الحج، فلا انتفاع باستردادها.
وهذا الذي ذكروه فيه نظر، ولا يمتنع أن يثبت الخيار للورثة؛ نظراً للميت، ثم يستفيدون باسترداد الأجرة صرفَها إلى جهة هي أحرى بتحصيل المقصود.
فهذا منتهى القول في تصوير الإجارة. فإذا تصوّرت يقع الكلام بعد ذلك في فصول.
__________
(1) في الأصل: وهو.
(2) (ط): المسألة.
(3) (ط): تعدد.

(4/371)


الفصل الأول
في الإعلام وتوقي الجهالة
2751 - أما الحج، فلا حاجة إلى الإعلام [فيه] (1)، فإن أعماله معلومة، فإن جهلها أحد المتعاقدين، أثر ذلك في إفساد الإجارة؛ إذ كون الشيء معلوماً، لغير العاقدين غيرُ كافٍ في تصحيح العقد، ولكن الغالب أن أعمال الحج لا تخفى، فجرت المسألة للشافعي بناء على الغالب.
واختلف نص الشافعي في أنه هل يشترط في صحة الإجارة إعلام الميقات الذي يُحرم الأجير منه؟ واختلف الأصحاب: فقال بعضهم: في وجوب إعلام الميقات قولان: أحدهما - يجب الإعلام؛ فإن المواقيت مختلفة [في] (2) المسافات، والأغراضُ تختلف بذلك، وكلُّ ما يختلفُ ويختلف الغرض باختلافه، فالتعرض له واجبٌ في العقد الذي يجب الإعلام فيه. والقول الثاني - أنه لا يجب إعلام المواقيت؛ فإنه لا وقع لاختلافها في الشرع، والإحرام من الميقات القريب، كالإحرام من أبعد المواقيت.
ومن أصحابنا من نزّل النصين على اختلاف حالين، وقال: إن لم يكن على الصَّوْب الذي يؤمّه الأجيرُ إلا ميقات واحد، فلا حاجة إلى التعرض له. وإن كان الطريق في ممره يتشعب ويزْوَرُّ، ثم تُفضي شُعْبة (3 إلى ميقاتٍ بعيدٍ وتفضي الأخرى 3) إلى ميقات قريب، فلا بد والحالةُ هذه من التعرض للإعلام.
وموجَب هذه الطريقة في تنزيل النصين على الحالين، يقتضي أن يقال: إذا اتحد الميقات في جهةِ ممر الأجير، فليس له أن يميل عنه، إلى جهة أخرى، ميقاتها أقرب من ميقات الممر المعتاد.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل، (ك): والمسافات.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(4/372)


وذكر العراقيون تنزيلاً آخر للنصين، فقالوا: إن كان الاستئجار من حيٍّ، فلا بدّ من التعرض لتعيين الميقات؛ فإن أغراض الأحياء تتفاوت وتختلف، وإن كان الاستئجار عن (1) ميت، فلا حاجة إلى تعيين الميقات؛ فإن الغرض تحصيل الحج للميت.
وهذا غير سديد، ولا يستدّ إلا تخريج المسألة على قولين؛ من جهة أنه اشترك فيها تفاوتُ تعب الأجير بطول المواقيت وقصرها، مع قضاء الشرع باتحاد الحكم في جميعها، فتضمن تعارضُ هذين المعنيين اختلافَ القول. فهذا ما أردناه في فصل الإعلام.
الفصل الثاني
في ارتكاب الأجير شيئاً من المحظورات في الحج، من غير إفساد
2752 - فنذكر منها ما يتعلق بالإساءة في الميقات، ثم يَقيس الناظر ما عداه عليه.
فإذا انتهى الأجير إلى الميقات، فجاوزه مسيئاً، ثم أحرم، ولم يعد إلى الميقات، فيلزمه دم الإساءة، وينصرف الحج إلى المستأجِر، وهل نحط عن أجرة الأجير شيئاً، لتركه بعضَ العمل المستحَق عليه بالإجارة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نحط قسماً من الأجرة، وهو المنصوص عليه هاهنا، وتعليله تركُه بعضَ العمل، والجبرانُ الذي يخرجه ليس عملاً مقابَلاً بالأجرة، وإنما المقابَل بالأجرة صورة (2) الأعمال، والفديةُ، لزمت الأجيرَ حقاً لله تعالى، لتركه حرمةَ الميقات، فلا تعلّق لما يجب لله بما يتعلق بحق الآدمي.
والقول الثاني - أنا لا نحط شيئاً من أَجْرِه على تفصيلٍ، سنذكره. ووجه ذلك أن المجاوزة إن كانت، نقصاناً، فالفدية جبران في الشرع، فإذا ثبت الجبران، فكأَنْ لا نقصان.
__________
(1) (ط): من.
(2) (ط): متصور.

(4/373)


التفريع على القولين:
2753 - إن قلنا: لا نحط لمكان الجبران الحاصل في مقابلة النقصان، فهل ننظر إلى قدر قيمة الدم، حتى نقيسَه بقدر الأجر في مقابلة العمل المتروك؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا نعتبر ذلك، وهو الأقيس على هذا القول؛ لأن التعويل على حصول الجبران، فإذا قضى الشرع به من غير نظر إلى قدر القيمة، فلا ينبغي أن يكون بالقيمة اعتبار: زادت، أو تماثلت، أو نقصت.
ومن أصحابنا من اعتبر المقابلة، بين قيمة الدم وبين أجرة العمل المتروك.
ووجهُ هذا على غرض قائله لائح؛ فلا نتكلفه. فعلى هذا إن تماثلت قيمةُ الدم، أو زادت، فلا حط، وإن نقصت قيمة الدم عن أجر المتروك، جَبَرْنا مقدار القيمة، وحططنا الزائدَ من الأجر.
هذا إذا فرعنا على النظر إلى الجبران.
2754 - وإن قلنا: أجر العمل المتروك محطوط، ولا التفات إلى ما جرى من جبران، فما المعتبر في كيفية التوزيع؟ واختلف أصحابنا في المسألة.
ولا يتأتى الوقوف على حقيقة الاختلاف إلا بتقديم أصلٍ مقصودٍ في نفسه، ومنه يبين الغرضُ، فنقول: إذا استأجر رجلٌ أجيراً ليحج عنه والخَرْجَة من نَيْسابور مثلاً، فإذا انطلق الأجير، وانتهى إلى الميقات المطلوب منه حجُّه عن مستأجِره، فلو أحرم بالعمرة عن نفسه، ودخل مكةَ، وطاف، وسعى، وحلق، ثم حج عن مستأجِره من جوف مكة، فالحجة تنصرف إلى المستأجِر، وفيما يستحقه الأجير قولان: أحدهما - توزع الأجرة المسماة على حجة تُفرض من الميقات، وعلى أخرى تُفرض من جوف مكة، فإذا قيل لنا: حجةٌ من الميقات تساوي عشرة، ومن جوف مكة تساوي تسعة، فقد تبينا أن بين التقديرين العُشرْ، وكان المطلوب من الأجير أن يحج من الميقات، فإذا حج من مكة، فقد ترك عُشر العمل، فنحطُّ عشرَ الأجرة المسماةِ على هذه النسبة، ووجه هذا القول أن المطلوب من الأجير الحجُّ، وابتداؤه من الإحرام، فليقع التوزيعُ من هذا المبتدأ.

(4/374)


والقول الثاني - أنا نُدخل المسافةَ التي قطعها من البلدة التي خرج منها في الاعتبار، ونقول: حجةٌ منشأ سفرها من نيسابور، وإحرامها من ذاتِ عِرْق كم أجرُها؟ فيقال: عشرون. ثم نعود فنقول: حجة منشؤها من مكة، من غير فرض قطع مسافة إليها، كم أجرها؟ فقد يقال: ديناران، فبين التقديرين التسعة الأعشار.
فنقول: إذا صرف الأجير المسافة إلى عمرته، ولو أراد من غير فرض إجارة أن يعتمر عن نفسه، لكان سبيله أن يخرج على هذا الوجه، وإذا أدخلنا المسافة في الاعتبار، ثم صرفناها إلى جهة العمرة، فلا يبقى إلا مقدارُ العُشر على التقدير الذي ذكرناه، فله إذاً من المسمى عُشْرُه. وهذا الاختلاف ينشأ من أصلين: أحدهما - إدخال المسافة قبل الإحرام في الاعتبار، والآخر تقدير صرف السَّفْرة إلى العمرة.
هذا موجب أحد القولين.
وموجَب القول الآخر إخراج السَّفرة من الاعتبار، وردُّ النظر إلى الميقات ومكة.
2755 - ومما يتفرع على هذا الأصل أنه لو اعتمر من الميقات، كما ذكرنا، ثم (1) لما قضى عمرته عاد، وأحرم بالحج عن مستأجره من الميقات، وهذه صورة يسقط فيها دم التمتع. ووجه تخريجها على القولين (2) المقدّمين أنا [إن] (3) اعتبرنا ما بين الميقات إلى انتهاء الحج، فيستحق تمام الأجرة لوفائه بتمام الحجة، وإن أدخلنا السَّفرة في الاعتبار، قلنا: حجة تجرد القصد إليها من نيسابور، وإحرامُها من ذات عِرق كم أجرتها؟ فيقال: عشرون. ثم نقول: حجة أنشئت من ذات عِرق، من غير قطع مسافةٍ إليها، كم أجرتها؟ فقد يقال: خمسة؛ فللأجير ربعُ الأجرة المسماة، ونُسقط ثلاثةَ أرباعها.
__________
(1) ساقطة من (ط).
(2) (ط): الوجهين.
(3) مزيدة من (ط).

(4/375)


2756 - فإذا تمهد ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى صورة الإساءة من الأجير.
فإذا انتهى إلى الميقات، وجاوزه، ثم أحرم من مكة مثلاً، فكيف التوزيع؟ وما المعتبر فيه، لبيان المحطوط من الأجرة؟ اختلف أصحابنا في المسألة، والاختلاف فيها متلقى مما قدمناه، ولكن لا ينطبق الخلاف على الخلاف؛ من جهة أنا تخيلنا في المسألة المقدّمة صرفَ السَّفرة إلى العمرة، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا؛ فإنه بإساءته، لم تخرج سفرته عن كونها ذريعة إلى حجته، ولكن أخل ببعض العمل المطلوب، فرجع منشأ الوجهين إلى إدخال السفرة في الاعتبار وإخراجها، فإذا في المسألة وجهان: أحدهما - أن نقول (1): حجةٌ من الميقات إحرامُها، كم أجرتها؟ فيقال: (2 خمسة، فنقول: حجة من مكة إحرامُها، كم أجرتها؟ فيقال 2): ديناران، فبينهما التفاوت بثلاثة أخماس (3 فيسقط من الأجرة المسماة ثلاثة أخماسها (3). هذا أحد الوجهين، ومبناه على إخراج السفرة من الاعتبار.
والوجه الثاني - أن نقول: حجة قُصدت من نيسابور، والإحرام بها من ذات عرق (4)، كم أجرتها؟ فيقال: عشرون. فنقول: حَجة قصدت من نيسابور، واتفق الإحرام بها من مكة، كم أجرتها، فيقال: تسعةَ عشرَ، والمسافة مندرجة في التقديرين، فبين الإحرام من الميقات، والإحرام من مكة دينارٌ من عشرين، وهو نصف العشر، فيسقط من الأجرة المسماة نصفُ عشرها.
ومما لا يخفى دركه على الفقيه، ولكن يحسن التنبيه عليه: أنا في الأصل المقدّم إذا أدخلنا السّفرة في الاعتبار، عظم مبلغ المحطوط؛ من جهة أن السفرة المعتبرةَ صرفَها الأجير إلى عمرة نفسه. وإذا [أدخلناها] (5) في هذه المسألة التي نحن فيها قلّ المحطوط؛ فإن السفرة محسوبةٌ له.
__________
(1) عبارة الأصل: أنّ من يقول.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(4) (ط) من مكة.
(5) في النسخ الثلاث: أدخلنا. والمثبت منّا؛ زيادة في الإيضاح.

(4/376)


2757 - ومما يتم الفصل به أن المستأجِر لو شرط على الأجير أن يُحرم من الكوفة، فإن وفى بها، فلا كلام، وإن جاوزها، فهل يلتزم دمَ الإساءة؟ (1 اختلف أئمتنا فيه، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجب دم الإساءة 1)؛ إذ الدمُ منوطٌ بميقات محترَمٍ شرعاً، وهو الميقات الموضوع المشروع، وليست الكوفة من المواقيت المشروعة.
وقال بعض أئمتنا: يجب على الأجير دمُ الإساءة، إذا جاوز الميقاتَ الذي عيّنه المستأجِر. وإلى هذا الوجه ميلُ طوائفَ، منهم الصيدلاني، ووجهه أن الميقات صار مستحَقاً، ومستندُ كل استحقاقٍ في العبادة يؤول إلى حكم الله تعالى، وقد قال أئمتنا: لو قال الناذرُ: لله علي أن أحج ماشياً، فحج راكباً، لزم دمٌ، وإن لم يكن (2) المشي مشروعاً قصداً إليه.
التفريع على الوجهين:
2758 - إن حكمنا أنه بمجاوزة الكوفة لا يلتزم دماً، فننقص من أجرته وجهاً واحداً؛ إذ لا جُبران، وقد تحقق نقصان العمل المطلوب.
وإن قلنا: يلتزم الأجير دماً بالمجاوزة، فيعود الكلام إلى ما قدمناه من الاختلاف في الحط، والالتفات إلى الجبران، وقد مضى هذا.
2759 - وتمام الفصل أن ما يلتزم به الأجير دماً ينقسم إلى ارتكاب محظور، أو ترك مأمور، فأما ما كان من ارتكاب المحظور، فلا ينتقص بسببه من أجره شيء، من جهة أنه لم ينقص من العمل، وإنما جنى جنايةً موجَبها الكفارة.
فأما إن ترك مأموراً به، مثل أن يجاوز الميقات، أو يترك الرمي، أو ما أشبه ذلك، فالتزم الدمَ، فهل يحط عن أجره شيء؟ فيه الخلاف المقدم.
وقد نجز ضبط المقصود من هذا الفصل.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(2) (ط): يلزم.

(4/377)


الفصل الثالث
في موت الأجير في الحج وقبله
2760 - الكلام في هذا الفصل يستدعي تقديمَ القول في أصل مقصود، وهو أن الإنسان إذا كان يحج عن نفسه، فمات أثناء الحج، فهل يُتَصَوَّر البناء على حجه؟ حتى يفرضَ استنابةُ نائب يقوم مقامه في بقية الأعمال؟ في المسألة قولان: أحد القولين - أن ذلك لا يسوغ؛ فإن العبادة واحدةٌ، فتعلّقها بشخصين محالٌ، وسيتضح عُسر ذلك في التفريع.
والقول الثاني: إنه جائز؛ فإنه إذا أمكن إنابة شخص في كل العبادة، مَناب شخص، لم يبعد ذلك في البعض.
التفريع على القولين:
2761 - إن قلنا: لا سبيل إلى البناء، فكما (1) مات الخائض في الحج، انقطع العمل، وحَبِط ما قدمه، ويجب تحصيل حجة تامة، من تركته إذا كان قد استقرت الحجة في ذمته.
وإن قلنا: إن البناء مُسوَّغ، فنذكر صورتين: إحداهما - أن يموت قبل الوقوف.
[والثانية - أن يموت بعده.
فإن مات قبل الوقوف] (2) فسبيل الإنابة عنه أن يستأجر من يُحرم ابتداءً، ويقفُ ويتمادى إلى آخر الحج، على ترتيبه، ثم قد يقع هذا الإحرام من قُرب المعرَّف (3)، ولا بأس؛ فإن من ينصرف هذا إليه قد كان أحرم من الميقات قبل الممات، وذلك معتد به.
__________
(1) " كما " بمعنى عندما.
(2) ساقط من الأصل
(3) اسم مكان من (عرَّف) إذا أقام بعرفة، وأدى نسكها.

(4/378)


2762 - فأما إذا مات بعد الوقوف بعرفة، فليتأمل الناظر عند ذلك ما يُلْقَى إليه؛ فإنه مظنة إشكال، وقد اضطربت الطرق لأجله: قال العراقيون: المستناب لا بد وأن يُحرم؛ فإن بقية الأعمال لا تتأتى إلاّ من محرم، والإحرامُ بالحج -وقد انقضى أشهر الحج بطلوع فجر يوم النحر- محالٌ، على مذهب الشافعي.
قالوا: فالوجه أن يحرم المستناب بعمرة، ويطوفَ، ويسعى، وكان بقي على الذي مات الطوافُ والسعي ركنين، فيقع طوافُ المستناب المعتمِر وسعيُه سادّاً مسد الطوافِ والسعي، اللذين كانا بقيا على الميت مع حجه، والمستناب ينويه بالعمرة.
وهذا فيه إشكال ظاهر؛ من جهة أن العمرة يبعد أن تسد مسد الحج.
وذكر المراوزة مسلكاً آخر، فقالوا: المستناب يُحرم بالحج إحراماً ناقصاً، وزعموا أن تجويز الاستنابة لا يطَّرد إلاّ على تجويز ذلك، ثم هؤلاء قالوا: الإحرام بالحج إنما يمتنع في غير أشهر الحج إذا كان إحراماً تامّاً، فأما الإحرام الناقص، فلا امتناع فيه. وهذا كما أن الإحرام الناقص يبقى دائماً مع [انقضاء] (1) أشهر الحج، فتقدير الابتداء على النقصان كتقدير الدوام.
ْثم من سلك مسلك العراقيين، ذهب إلى أن المستناب المعتمرَ، لا يبيت ولا يرمي، ولا يأتي بشيء من مناسك منى؛ فإنها أتباعُ انتهاء الحج. والعمرة لا تقتضي شيئاً من ذلك.
ومن قال من المراوزة: إن المستناب يُحرم إحراماً ناقصاًً ببقية الحج، فالمستناب يأتي بمناسك منى؛ فإنه في الحج. وذكر هؤلاء أنه لو مات الحاج بعد أن تحلل أحدَ التحللين، فالمستناب يأتي بإحرامٍ حُكْمه أن لا يَمنَع اللُّبسَ والقَلْمَ على التفصيل المذكور.
وهذا جارٍ على قياسهم.
2763 - ولو مات الحاج بعد التحللين، فلست أرى على قياسِ المراوزة وجهاً لجواز الاستنابة في المناسك الواقعة وراء التحللين؛ فإن ذلك لا يتأتى إلاّ ممن سبق
__________
(1) ساقط من الأصل، (ك).

(4/379)


منه إحرام، ثم هذه المناسك تتبع الإحرام السابق. فأما الإتيان بها من غير تقدّم إحرامٍ، فبعيد. هذا ما أراه.
فالوجه الرجوع فيها إلى أبدالها، وهذا أولى فيها من اقتحام مُحالٍ، وليس كالطواف والسعي؛ فإنه لا بدل لهما، فاضطررنا إلى تصوير الإنابة.
فهذا منتهى قولنا في البناء على الحج.
2764 - والآن نعود بعد نجازه إلى تفصيل القول في موت الأجير في أثناء الحج، فنقول: إن كانت الإجارة متعلقةً بعين الأجير، ومات الأجير في أثناء الحج، فالغرض مأخوذ من جواز البناء وامتناعه.
فإن قلنا: البناء ممكن، فيُتَصَوّر من المستأجِر أن يستأجر أجيراً ليأتي ببقية أعمال الحج، فإذا كان ذلك ممكناً، فعمل الأجير الأول غيرُ محبَط، فلا شك أنه يستحق قسطاً من الأجرة.
وإن قلنا: البناء غير ممكن، فهل يستحق ورثة الأجير قسطاً من الأجرة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم لا يستحقون، لأنه لم يَحْصُل للمستأجِر أمرٌ معتدٌّ به، وما جاء به الأجير قد حَبِط، وسقط أثره.
والقول الثاني - إنه يستحق قسطاً من الأجرة، لإتيانه ببعض العمل المقصود، وقد فعل الأجير ما في وسعه.
التفريع:
2765 - إن قلنا: لا يستحق شيئاً، فلا كلام، وإن قلنا: يستحق، ففي كيفية التوزيع وجهان: أحدهما - أن التوزيع يقع من الإحرام إلى حيث انتهى، ولا نُدخل السَّفرة في الاعتبار. والوجه الثاني - أنا نُدخلها في الاعتبار؛ فيكثر على هذا التقديرِ المستحقُّ.
هذا والإجارة على العين.
2766 - فأما إذا كانت الإجارة واردةً على ذمة الأجير، فإذا مات في أثناء الحج، فلا تنقطع عُهدة الإجارة عن تركته. فإن قلنا بالبناء، فورثة الأجير يستنيبون من يتمّم الحج، وإذا تم، استحقوا الأجرة المسماة على المستأجِر.

(4/380)


وإن قلنا: لا بناء، فقد حبط عمل الأجير، وعليهم أن يحصّلوا حجةً عن المستأجِر من تركته؛ فإن الحج دينٌ في ذمته، والديون مقدَّمةٌ على الميراث، وحقوق الورثة. وكل ما ذكرناه فيه إذا مات الأجير بعد الشروع في الحج.
وقد ذكر صاحب التقريب أنا لو فرضنا الموت قبل الوقوف، فإذا استأجرنا أجيراً ليحرم، ويقف، فهذا ليس بناءً على إحرام الأجير، ولكنه إحرام على التمام، مبتدأ.
وإن وقع الموت بعد الوقوف؛ فإذ ذاك يتصور البناء.
وهذا وجه مزيف، وهو بالعكس أولى؛ فإن الإحرام قبل الوقوف إحرامٌ في أشهر الحج، وهو صحيح، والإحرام بعد فوات الوقوف واقعٌ في الخبط الذي ذكرناه، بين العراقيين والمراوزة.
2767 - فأما إذا مات الأجير قبل التلبس بالحج، فهل يستحق الأجير شيئاً، على مقابلة نَصَبه في قطع المسافة؟
[إن قلنا في التفاصيل السابقة: لا تُدرج المسافة] (1) في الاعتبار، إذا وقع [الموتُ] (2) بعد الشروع في الحج، فلأن لا تعتبر المسافة قبل الشروع في الحج أولى، ولا يستحق الأجير شيئاً إذا مات قبل الإحرام.
وإن قلنا: المسافة مندرجة في الاعتبار في [حق] (3) الشارع في الحج، فهل تعتبر في حق من مات قبل الشروع في الحج؟ المذهب أنه لا تعتبر، ولا شيء للأجير.
وذكر بعضُ أصحابنا قولاً بعيداً: أنه يستحق الأجرة بقدره (4) حتى لا يحبَطَ عملُه. ثم لا يخفى سبيلُ التوزيع إذا كنا نعتبر المسافة.
وحاصل القول في هذا راجعٌ إلى أن قطعَ المسافة ذريعةٌ (5 إلى الحج، فإن اتصل بالحج، فقد وقعت المسافة ذريعة 5) فاختلف الأصحاب في أن الذريعة هل تعتبر كما
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ساقط من الأصل.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ط): بقدر. (ك): مقدّرة.
(5) ما بين القوسين ساقط من (ط).

(4/381)


تقدم. فأما إذا فُرض الموتُ قبل ملابسة الإحرام، فقد ضعف تقدير المسافة ذريعةً؛ من حيث لم تُفضِ إلى المقصود.
وبالجملة في الاستئجار على الحج نوعُ مضاهاة للجعالة؛ من جهة كون العاقبة مَغيبَةً (1)، والمسافةُ ليست مقصودة، ولا بد منها، وكأنها إذا قطعت، ثم وقع الموت يضاهي قطعُها أعمالَ المقارِض، إذا لم تتصل بربح. وهذا نجاز الفصل.
الفصل الرابع
في أحكام الإجارة
2768 - ومقصوده الكلام في موافقة الأجير المستأجِر في الجهة المعينة لأداء النسك، وفي مخالفته له، فنقول:
إذا استأجر من يقرُن عنه، فقَرَن، فقد وفّى وأدّى ما استؤجر له على الوفاق، فيستحق تمام الأجرة بلا خلاف. واختلف الأصحاب في أن دم القران على من؟ فذهب الأكثرون إلى أنه على المستأجر؛ فإن القِران انصرف إليه بإذنه، فكأنه القارن بنفسه.
ومن أصحابنا من قال: الدم على الأجير؛ فإنه تتمة القِران، وقد التزم، أن يقرُن، فَلْيَفِ بتمامه، ثم سواء قلنا: الدم على المستأجر، أو قلنا: هو على الأجِير، فأجرته ثابتة؛ من جهة امتثاله الأمر.
2769 - ولو استأجره [ليُفرِد] (2)، فقرن، وقع الحج والعمرة عن المستأجر اتفاقاً.
فإن قيل: لِمَ كان كذلك؟ وما روعي في أصله الإذن والأمرُ، روعي في تفصيله
__________
(1) أي غَيب: من غاب الشيء، يغيب، غَيباً، وغيبة، وغِياباً (بالكسر)، وغُيوباً، ومغيباً، فهو غائب. (المصباح).
(2) في الأصل: ليقرُن.

(4/382)


ذلك أيضاً، والذي جاء به الأجير ليس ما أمر به المستأجر؟ قلنا: إذا كان المرء يحج، ويعتمر عن نفسه، فهو منهيّ عن ارتكاب المحظورات، مأمور بإقامة الأبعاض وتأديتِها، من جهة الشارع، فلو خالف (1) النهي والأمر، ولم يأت بمفسد، وقع النسكان موقعهما؛ وبرئت الذمة منهما، ثم الشرع متبع فيما يوجَب ويستحب من جبران، فجرى مخالفةُ الأجير المستأجِر [هذا] (2) المجرى، مع تحصيل أصل النسكين.
وهذا يتم بلطيفةٍ فائقة (3) في الفقه: وهي أن المستأجِر ليس يحصّل الحج لنفسه، وإنما يحصلُه ليقع لله تعالى، فجرت مخالفةُ الأجير مجرى مخالفة الشرع.
فإذا تمهد هذا، قلنا: بين الإفراد والقِران تفاوت بيّن: في الفعل، والميقات، فإذا استأجره ليُفرد، فقرن، فقد ترك مزيداً مستدعى منه، فهل يحط من أجرته؟ القول في ذلك كالقول فيه إذا أساء الأجير وجاوز [الميقات] (4)، وقد تفصّل المذهب في هذا النوع على أحسن مساق.
2770 - ولو أمره بالقِران، فتمتع، ففي القِران نقصان في الأفعال وإتيان بالحج من الميقات الأقصى، وفي التمتع كمالٌ في الأفعال، ونقصان في الميقات، فمن أصحابنا من قال: المأمور بالقِران إذا تمتع، فهو كما لو قرن [لتقارب] (5) الجهتين، فكأنه لم يخالف. ومنهم من جعله مخالفاً، وهو ظاهر القياس.
فإن لم نجعله مخالفاً، فلا كلام، وفي وجوب الدم الخلاف المقدم: ففي وجهٍ هو على (6 المستأجر، وفي وجهٍ هو على 6) الأجير، كما لو استأجره للقِران، فقرن.
فإن جعلناه مخالفاً، فالدم على الأجير وجهاً واحداً، ثم الزيادة التي أتى بها في تمتعه
__________
(1) أي الأجير خالف أمر المستأجِر ونهيه.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) (ط): رائقة.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في الأصل: لتفاوت.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ط).

(4/383)


لا تحسب له في تكميل أجْره؛ فإنه لم يكن مأموراً فيه؛ فنجعل المتمتع كالمسيء، [وقد مضى الخلاف في أنّا هل نحط من أصل أجر المسيء] (1).
فإن قيل: إنما يفرض الحط على القول به إذا كان بين الفعل المطلوب وبين (2) الذي يأتي به الأجير تفاوت، كما قدمناه في المسيء، ولا تفاوت بين فعلي القارن والمتمتع، وقد يكون فعل المتمتع أكمل أجراً، قلنا: نحط ما في جهة التمتع من مزيد في العمل، ثم نعتبر وراء ذلك الحط تقديراً للتفاوت المقدر، فيتفاوت الأمران. فإن قيل: لو لم يظهر تفاوت مع ما ذكرتموه؟ قلنا: فلا حطَّ إذا كان كذلك.
الفصل الخامس
في إفساد الأجير الحجَّ بالجماع، مع ذِكْر ما يتصل بالإفساد في معناه
2771 - فنقول: إذا شرع المستأجر في الحج الذي استؤجر عليه، ثم أفسده بالجماع، انقلب الحج الفاسد إلى الأجير، ولم يكن بعد الفساد مضافاً إلى المستأجر أصلاً؛ فإن الحجة المطلوبة لا تحصل بالحجة الفاسدة، وليس كما إذا ارتكب الأجير محظوراتٍ غيرِ مفسدة؛ فإن الاعتداد يقع بمثل هذا الحج شرعاً، فوقع الاعتداد به في طلب المستأجِر، والحج لله تعالى، وإن اختلفت الإضافات. والحجةُ الفاسدة لا تبرئ ذمةً، ولا تقع موقع الاعتداد. ثم إذا انقلب الحج بالفساد إلى الأجير، فيلزمه قضاؤها.
2772 - والقول بعد ذلك يستدعي الفصلَ بين أن تكون الإجارة واردةً على عين الأجير، وبين أن تكون واردةً على ذمته، وكان قد لابس الحج بنفسه، لتبرأ ذمته.
فإن كانت الإجارة واردةً على عين الأجير، فإذا فسدت الحَجّة، وانقلبت إلى الأجير، انفسخت الإجارة ولا يتصور في إجارة العين إقامةُ مدةٍ مقام مدة، حتى يقال: إن فسدت الحجة في هذه السنة، فالأجير يأتي بحجة في السنة القابلة.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) كذا. بتكرير (بين) مع الاسم الظاهر، وهو خلاف المشهور، ولكنه واردٌ سائغ.

(4/384)


فلا (1) وجه [إلا انبتات] (2) الإجارة (3) وارتداد الأجرة.
فأما إذا كانت الإجارة واردةً على الذمة، ثم فسدت الحجة (4 على الأجير 4) فلا شك أن القضاء يلزمُه، فإذا أتى بالحج في قابلٍ، فهل نقول: هذا القضاء يقع عن المستأجِر؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يقع عنه؛ فإن القضاء عمّن الحجُّ الفاسد عنه، وقد تحقق انصراف الحج الفاسد إلى الأجير، فليكن القضاء عنه (5). ثم في ذمته حَجةٌ عن المستأجر.
ومن أصحابنا من قال: القضاء ينصرف إلى المستأجِر، وكأن الحجة الفاسدة لم تسبق، ولا سبيل إلى إنكار انعقاد أصل الحج الأول عن المستأجِر، فليرتبط القضاء به، حتى نقدِّرَكأن الفساد لم يتخلل.
والأقيس الوجه الأول.
2773 - ومما يجب التنبه له إذا انتهى الكلام إلي هذا المنتهى أن من كان في ذمته حجة واجبة لله تعالى، فلا يتصوّر منه التطوع بالحج، على مذهب الشافعي، ولو فرض قصد التطوع، لانصرف الحج [المنعقد] (6) إلى الجهة المستحَقة.
وكان شيخي يقول: الأجير الذي في ذمته حجة مرسلة، لو نوى التطوع بحج، فالذي جاء به ينصرف إلى ما عليه من الحج لمستأجِره (7).
وهذا مما انفرد به، ولم يساعده عليه أحد، وذلك لأنا نقدم واجب الحج على نَفْله، لأمير يرجع إلى نفس الحج، مع بناء الأمر على تقديم الأوْلى [فالأوْلى] (8) في
__________
(1) في (ط): ولا وجه.
(2) في الأصل: ذهبت عوادي الزمن بنصف الحروف. و (ط): " للانبتات "، و (ك) " إلا إثبات ". والمثبت تقديرٌ منا رعاية للسياق.
(3) في (ط): والإجارة (بزيادة واو).
(4) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(5) عنه: أي عن الأجير، وهذا هو الأصح. قاله النووي (ر. المجموع: 7/ 134).
(6) في الأصل: المتعبّد.
(7) (ط): بمستأجره.
(8) ساقطة من الأصَل. وفي (ك): " والأولى "، والمثبت من (ط).

(4/385)


مراتب الحج. والاستحقاقُ على الأجير ليس من خاصية الحج. ولو ألزم ذمته [ما لا] (1) يلزم مثله، لكان حكم الوجوب فيه، كحكم الوجوب في الحج (2). والذي يوضح ذلك أن الحجة قد تكون تطوّعاً من المستأجِر -إذا جوزنا الاستئجار في حج التطوع- فلاح أن ذلك اللزوم ليس من قضايا الحج.
هذا قولنا في إقدام الأجير على المفسد.
2774 - ومما نذكره متصلاً بذلك: أن الأجير لو صُدّ، وأُحصر؛ فتحلل، فالقول الوجيز فيه أن طريان الإحصار عليه، والإجارةُ واردةٌ على عينه، بمثابة طريان الموت، وقد سبق القول فيه (3) مفصلاً، في البناء وإمكانه، إن تُصوّر البناء، وانجلى الحصر.
ويعود حكم استحقاق شيء من الأجرة، والقول الجامع ما ذكرناه من تنزيل الإحصار، والتحللِ الطارئ بسببه، منزلة طريان الموت.
2775 - ولو لابس الأجير الحجَّ، ففاته الوقوفُ، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن الفوات ينزل منزلة الإفساد، والسبب فيه أنه يوجب القضاء، كما يوجبه الإفساد، ويخرج الحج بالفوات عن حقيقته، وإن كان لا يتصف بالفساد.
__________
(1) في الأصل: " ما يلزم " وفي (ط): " مالاً يلزم " والمثبت من (ك)، بقراءة (ما لا) كلمتين، أي (ما) الموصولة، (لا) النافية، وسوّغ لنا ذلك أنها لم تُنوِّن (مالاً).
(2) هذه العبارة يُكمل بها الإمامُ الردّ على شيخه، ويستدلّ بها على خطأ ما يراه، ومعنى العبارة: أن المستأجر لو ألزم ذمَّةَ الأجير ما ليس يلزمه بغير إلزامه إياه، كأن يُلزمَ ذمتَه استصناع ثوبٍ مثلاً، فليسَ هناك ما يمنع من أن يصرفه إلى نفسه، وتبقى ذمته مشغولة بثوبٍ آخر يصنعه للمستأجر، أي لا أوّلية هنا للوفاء بالملتَزَم، فكذلك لو ألزم ذمته حجةً، فله أن يحج عن نفسه تطوعاً، ثم يحج عن المستأجر، ولا يدخل هنا تقديم الفرض على التطوع؛ فإن ذلك يرجع لمعنى يخص الحج، وإلزام الشرع به المكلف ليس كإلزام المستأجر للأجير.
ثم أكد الإمام هذا المعنى بفرض المسألة في الاستئجار لحج التطوع، فالأجير المستأجر لحجة تطوع إذا أفسدها، فانصرفت له، فإذا قضاها، فهي للمستأجر تطوع، وللأجير تطوع، فبأي وجه نقول: المستأجر بها أولى؟؟
(3) ساقطة من (ك).

(4/386)


فالترتيب إذاً كالترتيب، ولا يستحق الأجير شيئاً من الأجرة على مقابلة عمله قبل الفوات.
وذكر العراقيون وجهاً بعيداً في إجراء الخلاف في إثبات قسطٍ من الأجرة على مقابلة ما جرى من العمل، قبل الفوات. وهذا بعحِد لا أصل له.
وانحصر القول وراء ذلك في محظورٍ لا يوجب القضاء، وقد مضى منقسماً إلى ترك المأمور، وارتكاب المنهي، وإلى محظور يفسد كالوقاع. وقد أجرينا الكلام في الموت وحكمِه، ثم ألحقنا آخراً الإحصارَ بالموتِ، والفواتَ بالإفساد.
الفصل السادس
يجمع مسائل متفرقة شذت عن ربط الأصول
2776 - منها أن من استأجر أجيراً ليحج عنه، فقرن الأجير، ونوى بالعمرة نفسَه، وبالحج مستأجِره.
أما العمرة، فإنها تنصرف إلى الأجير؛ فإنه نوى نفسَه بها، وما استؤجر عليها.
وأما الحج، فالأصح أنه ينصرف إلى المستأجِر.
وذهب بعضُ أصحابنا إلى أنه ينصرف إلى الأجير؛ فإن الإحرام في حق القارن متّحد، لا يقبل الانقسام، فيستحيل أن يتعلق بعضُ حكمه بالأجير، وبعضه بالمستأجر، ويستحيل انصرافُ العمرة إلى المستأجر.
والأصح الوجه الأول؛ فإنه إذا (1) لم يمتنع اشتمال الإحرام على نسكين، لم يمتنع تعدد مَصْرِفهما. ولو استاجره زيد ليحج عنه، واستأجره عمرو ليعتمر عنه، فقرن ونوى بالحج زيداً، وبالعمرة عمراً، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن النسكين مصروفان إلى المستأجرَيْن. والثاني - أن ذلك ممتنع، لاتحاد الإحرام، ثم إذا امتنع انصراف النسكين إلى المستأجرين، فلا وجه إلا انصرافُهما إلى الأجير.
__________
(1) (ك) إنما.

(4/387)


2777 - ومما يتعلق بذلك أنه لو استأجره زيدٌ على أن يحج عنه، فقرن ونوى بالحج والعمرة جميعاً زيداً، فقد زاده نسكاً، لم يستأجره عليه.
واختلف نص الشافعي في ذلك، فمن أصحابنا من قال في المسألة قولان:
أحدهما - أن العمرة تنصرف إلى المستأجِر، ويتنزل ما زاده الأجير منزلةَ ما لو قال الرجل لوكِيله بع عبدي (1) هذا بألف درهم، فباعه بألفين، فالبيع صحيح، والثمن بكماله يدخل في ملك الموكِّل بالبيع.
والقول الثاني - أن العمرة لا تقع للمستأجر؛ فإنه لم يتعرض لها، وليست من جنس الحج أيضاًً على الإطلاق. ومن قال [بالأول] (2) ينفصل عن هذا، ويقول: أعمال القارن لا تزيد على أعمال من يُفرد حجَّه، وكأن العمرة صفةٌ وفضيلة للحج.
والقولان يقربان من القولين فيه إذا سلم الرجل ديناراً إلى وكيله، وأمره أن يشتريَ به شاة وصفها، فاشترى الوكيل شاتين بالدينار، كل واحدة على نعت الموكِّل. وفي ذلك اختلاف قولٍ سيأتي إن شاء الله تعالى، في كتاب الوكالة.
ومن أصحابنا من قال: النصان في العمرة منزلان على حالين: حيث قال: " لا تنصرف العمرة إلى المستأجِر "، أراد بذلك إذا لم يجر منه ما يتضمن رغبةً في العمرة.
وحيث قال: " تنصرف العمرة إليه "، أراد إذا كان رغب فيها، فامتنع الأجير ووقع [التقارّ] (3) على الحج [لإباء الأجير] (4)، لا لانصراف المستأجِر عن إرادة العمرة. فإذا بدا للأجير والحالةُ هذه أن يحصّل العمرة له، فإنها تنصرف إلى المستأجِر.
ثم حيث نقول: تنصرف العمرة [إلى المستأجر] (5)، فلا كلام، وحيث نقول: إنها تنصرف إلى الأجير، فيعود الخلاف في أن نسكي القِران هل يجوز أن يتعدد مصرفاهما؟ وقد مضى هذا.
__________
(1) (ط): عني.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل، (ك): النعتان.
(4) في الأصل، (ك): إلا بالأجير.
(5) ساقط من الأصل.

(4/388)


2778 - ومن المسائل أنا إذا جوزنا الاستئجار على التطوّع، فلو استأجر رجلٌ طائفةً من الأجراء حتى يحصّلوا له حِجَجاً في سنةٍ واحدة، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: تصح الحجج، وتنصرف إلى المستأجِر. ومنهم من قال: لا ينصرف إلى المستأجر أكثرُ من حجة واحدة، فإن سبقت واحدةٌ بالعقد، فهي المنصرفةُ إليه، وإن وقع العقد بجميعها معاً، فليس بعضها أولى من بعض، فلا ينصرف شيء منها إليه.
وقد يختبط [فكر] (1) الفقيه في الإجارات، وليس ذلك من غرضنا؛ فإن الإذن كافٍ في هذا الباب.
ومن منع انصراف حجتين إليه، فصاعداً، اعتل بأن ذلك لا يتصوّر منه، على حكم المباشرة، وهي الأصل، والنيابة في حكم البدل؛ إذ لا مصير إليها [إلا] (2) مع العجز عن الأصل.
والأصح انصراف الحج إليه، وإنما يظهر الخلاف فيه إذا استأجر في سنة (3 واحدة أجيرين بحجتين، وما كان حج حجّ الإسلام، فلو صرفنا 3) الحجتين إليه فإحداهما تطوّع، وحكم التطوع أن يستأخر عن الفرض.
ويجوز أن يقال: حكمه أن لا يتقدم على الفرض، ولا يضر أن يجامعه، إذا تُصوِّر الأمر على ما ذكرناه.
2779 - ومن المسائل مسألة نقلها المزني عن الشافعي في المنثور (4)، فقال: إذا قال المعضوب: من حج عنّي، فله مائة دينار، فإذا حج عنه إنسان، وقع الحج عن القائل، واستحق من حج عليه المائة. ولما نقل المزني هذا، خالفه، وبالغ في تزييفه، وقال: كيف تصح هذه المعاملة، مع إمكان الإجارة، ومعلوم أن الجعالة إنما تثبت للضرورة، في مثل رد الأُبّاق من العبيد، والشرّاد من الدواب؛ فإن الضبط
__________
(1) في الأصل: قلب.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ما بين القوسين بياض في (ك).
(4) المنثور: كتاب للمزني.

(4/389)


غير ممكن في هذه المواضع، فأثبت الشرع الجعالة (1 مع الجهالة 1) على حسب مسيس الحاجة. وما ذكره المزني ظاهرٌ متجه.
وخرّج أصحابنا من نص الشافعي تجويزَ الجعالة في كل موضعٍ تصح الإجارةُ فيه، حتى لو قال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، فمن خاطه استحق الدرهم. وسأذكر هذا مستقصىً في كتاب الإجارة.
ثم وإن مال معظم الأصحاب إلى ما ذكره المزني من فساد هذه المعاملة، قَضَوْا بأن [أثر] (2) فسادها في سقوط المسمى، فأما إذا حج إنسان عنه، وقد ثبت منه هذا القول، فالحج ينصرف إليه، وللحاج أجرُ مثله، وطردوا هذا فيه، إذا قال: من خاط ثوبي هذا، فله درهم، فإذا خاطه إنسان، استحق أجرَ المثل، وهذا يَقْوَى بشيء، وهو أن الإذن المجرد كافٍ في انصراف الحج إلى الآذن، من غير ذكر عِوضٍ على الصحة. والذي ذكره إذنٌ.
وقال شيخي أبو محمد: لو قال وكلت كلَّ من أراد أن يبيع داري هذه، فالتوكيل على هذا الوجه باطل عند القفال، على ما سنذكر أصل ذلك في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى. فلا يمتنع أن يحكم (3) بفساد الإذن إذا قال: من حج عني؛ فإن الإذن على هذا الوجه ليس موجهاً على شخص، ولا يتصور توجّه الإذن على جمع، والمراد واحد منهم (4).
2780 - ولو استأجر رجلٌ رجلاً ليحج عنه بأجرةٍ فاسدة، أو فسدت الإجارة بشرطٍ فيها يتضمن إفساد العوض، فالذي رأيته للأصحاب القطعُ بأن المستأجَر إذا حج عن مستأجِره على حكم هذه الإجارة، انصرف الحج إلى المستأجِر. وهذا حسنٌ متجه، لصحة الإذن، وهو بمثابة التوكيل بالبيع، مع شرط عوض للوكيل، فالإذن صحيح، والعوض فاسد، وهذا يظهر جريانه فيما يكتفى فيه بالإذن المجرد، والحج كذلك.
__________
(1) ساقط من (ط).
(2) مزيدة من (ط).
(3) ساقط من (ط).
(4) ساقطة من (ط).

(4/390)


الفصل السابع
في جريان العقد على خلاف اعتقاد العامل
2781 - وذلك إذا استأجر رجلاً ليحج عنه، فأحرم عن مستأجِره، ثم صرف الإحرام إلى نفسه، على ظن أنه ينصرف إليه، ثم تمادى في الأفعال مستديماً هذا الظن، فالحج ينصرف إلى المستأجِر. وهل يستحق الأجير الأجرة؟ فعلى قولين: أصحهما - أنه يستحق لحصول الحج له، وصحة العقد في الابتداء، فلا يبقى إلا اعتقادٌ فاسد، والاعتقاد الفاسد لا يغير حكمَ العوض.
وبنى أئمتنا هذا على ما إذا دفع ثوباً إلى صبّاغ ليصبغه، فجحد الثوبَ، وصمم عزمه على الاستبداد بالثوب، ثم إنه صبغه لنفسه، ثم بداً له أن يردّه، فهل يستحق الأجرة على المالك؟ فعلى قولين.
وكذلك إذا استأجر رجلاً ليعمل في المعدِن (1)، وجعل أجره ما يستفيد من النَّيْل، وكان عمله لا يُصلح المعدن، وإنما الغرض منه النَّيل فحسب، وليقع الفرض في معدنٍ (2) مملوك، فالنيل لمالك المعدِن. وفي استحقاق العامل الأجرة وجهان: أحدهما - أنه يستحقها، لوقوع العمل لمالكِ المعدن. والثاني - لا يستحقها، لأنه يقصد بالعمل نفسَه، وسيأتي ذلك في موضعه مستقصًى إن شاء الله تعالى.
الفصل الثامن
2782 - مضمونه يتعلق بطرف من الكلام في الوصايا، وهو من أهم ما يجب الاعتناء به، وقد رأيت إيراد المقاصدِ منه في مسائلَ مرسلةٍ، فنقول:
2783 - إذا استقر على الرجل حجةُ [الإسلام] (3)، والجريانُ على القول الأصح في
__________
(1) المعدن: مكان استخراج المعادن بمعنى (المنجم).
(2) (ط) في نيلٍ.
(3) ساقطة من الأصل.

(4/391)


أن الحج دَيْنٌ من رأس المال، أوصى به، أو لم يُوصِ.
فإذا قال: أحجّوا عني فلاناً بمائة -والحج حجُّ الإسلام- فالقول في ذلك ينقسم: فإن كان المائة أجرَ مثله، ولم نجد من يحج عنه بأقلّ من ذلك، واعتقدنا هذا المبلغ أقلَّ أجرة المثل، فتنفذ وصيته؛ فإنا لا ننكر أن يكون له غرضٌ فيمن عيّنه، في تقواه أو ورعِه، ووقوع دعائه موقع الاستجابة في تلك المشاعر المعظمة. هذا غرض بيّن، فَلْتُنَفَّذ الوصية له.
ولو وجد الورثة من يحج عنه بخمسين، وكانت أجرة مثل ذلك الذي يحج [خمسين] (1)، من غير احتياج إلى فرض مسامحة، فالدَّين المقدم على الوصايا الخمسون، لا غير؛ فإن مقدار الدين من الحج أقل ما يجزىء. ولهذا ينزلّ الحج المحكوم [بكونه] (2) ديناً على الميقات، كما قدمنا ذكرَه في أول كتاب الحج.
ولكن إذا كان الثلث يفي بالخمسين الزائدة بعد حَطّ المقدار الذي لا بد منه، فقد اختلف أصحابنا في أن مَن أجرته مائة، إذا كان أجنبياً وطلب أن يحج بالمائة، وقال (3): قدّروا الخمسين وصيةً لي. فهل يجاب إلى ذلك والثلث وافٍ؟ فمنهم من قال: يجاب إليه؛ تحقيقاً لغرض الميت، فربما كان تَوسّمَ فيه مقصوداً. وقد ذكرنا أن مبالغ الأُجَرِ إذا تساوت، يجب تعيين من عيّنه إذا قبل، فقد التحق هذا بما يجب تنفيذه على الجملة، فلينفذ في الصورة التي ذكرناها.
ومن أصحابنا من قال: لا يجاب إلى ذلك؛ إذ لا غرض له فيه، فإن [الخمسين] (4) قدرُ أجرته، فلا نكلف الورثةَ بذلَ مزيد مال. وليس الآخذ متبرَّعاً عليه، وهو بمثابة ما لو قال: بيعوا داري من فلان، فهذا لا يعد من الوصايا. نعم إذا لم يحتج الورثة إلى بذل مال، فيجوز التعويل على غرض الميت، فأما مقابلة غرضه بمالٍ، وليس المعيّن متبرَّعاً عليه، فلا.
__________
(1) في الأصل: بخمسين.
(2) في الأصل: بلزومه.
(3) (ط): وقد.
(4) في جميع النسخ الثلاث: (المائة) والمثبت تقديرٌ منا. يوجبه السياق.

(4/392)


2784 - وعلى هذا خرّج الأئمة أن المعيّن لو كان وارثاً، فكيف السبيل فيه؟ فإن قلنا: لا يجاب الأجنبي إلى ذلك، فلا يجاب الوارث إليه.
وإن قلنا: يجاب الأجنبي إليه، فلا شك أن الخمسين بالإضافة إلى التركة كالوصية؛ فإن الاكتفاء واقعٌ بالخمسين، ولكن هل نجعله وصية في حكم التعيين، أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه وإن كان وصيةً بالإضافة إلى [التركة، فليس وصيةً بالإضافة] (1) إلى هذا المعيّن؛ من جهة أنه لا يستفيد بأخذ المائة مزيداً؛ فإن ما يبذله (2 من منفعة 2) نفسه لا ينقص (3) عما يأخذه، فعلى هذا ينفذ هذا في حق الورثة.
والوجه الثاني - أنه وصية في حكم التعيين؛ فإن الأمر في ذلك لا يتبعض، فإذا كان الشيء وصية، بالإضافة إلى التركة، فليكن وصية في كل حكم.
وذكر العراقيون ما إذا ضُمَّ إلى ما ذكرناه، كان وجهاً ثالثاً، فقالوا: إذا قال: أحجوا عني فلاناً، ولم يذكر المقدار، وكان أجر [مثل] (4) من عيّنه مائة، ونحن نجد من يحج بخمسين، فالخمسون الزائدة في حق المعيّن تبرع. فكأنهم يبغون الفرق بين هذا وبين التنصيص على المائة؛ من جهة أنه لما أطلق إحجاج من عيّنه، يجوز أن يُحْمَل ذلك على اكتفائه بالخمسين التي توجد الحجة بها، فينتظم من هذا الفرقُ بين الإطلاق والتقييد بالمائة. ولا فقه فيما ذكروه.
وهذا (5) إذا ذكر المائةَ وعيّن شخصاً، أو أطلق تعيينه، ونحن نجد مَنْ أجرتُه خمسون.
2785 - فأما إذا كان لا يوجد من أجرتُه أقل من المائة، ولكن وجدنا مسامحاً أجرتُه مائة، وهو يقنع بالخمسين، فهذه الصورة فيها تردّدٌ، من وجه آخر، ففي أصحابنا من يقول: الدَّينيّة في المائة الكاملة، وتحصيلُ غرضِ الميت حتمٌ فيمن
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ساقط من (ك).
(3) (ط): ينتقص.
(4) ساقط من الأصل.
(5) في (ط) و (ك): هذا (بدون واو).

(4/393)


عيّنه؛ وذلك أنه قد كان لا يرضى في حياته بأنْ يُتبرّع عليه (1 وهذا المعنى لا يبعد استدامته بعد وفاته. هذا وجهٌ. وإذا كانت المائة 1) كلُّها ديناً بالإضافة إلى التركة، فلا تكون وصية بالإضافة إلى المعيّن. والوجه الثاني - وهو الأصح (2 أن الدينيّة لا تتحقق إلا في الخمسين 2)؛ فإن الورثة يزعمون أن الغرض تحصيلُ الحج (3) وإبراءُ ذمة الميت [عنه] (4)، [ولئن] (5) كان يستشعر من ثقل المنة شيئاً في حياته، فلا معنى لذلك بعد الموت. فإذا انحصرت الدينية في الخمسين، عاد تفريع القول في المائة إلى ما قدمناه في القسم الأول، وهو إذا وجدنا مَن أجرتُه خمسون.
ولو وجدنا (6) متبرعاً بالحج من غير مال، فالخلاف يعود في المائة كلها.
2786 - وكان الشيخ أبو محمد يُجري في أثناء الكلام مسألة، وهي أن من أوصى إلى إنسان وصيةً (7) ونصَّبه ناظراً في حق أطفالٍ، وذكر له مقداراً في مقابلة عمله، لا يزيد على أجر مثله، فلو وجد الوالي متبرّعاً بالنظر، لم يجز له إقامتُه وصرفُ الوصي بالجُعل.
وهذا لا أراه كذلك. نعم، إذا نصّبَ الأب وصيّاً من غير جُعل، وكان عَدلاً ذا كفاية، فلا استبدال به؛ فإن الشرع أقام الوصيَّ مقام الأب الموصي في نظره، فكما لا يتسلط الوالي على مزاحمة [الأب] (8) في نظره، فكذلك لا يستبدل [بمنصوبه] (9).
هذا إذا لم يكن قدّر له شيئاً، فإن قدّر له مالاً، ووفى الثلثُ به، فلا شك أنه
__________
(1) ما بين القوسين امّحى من (ك).
(2) ما بين القوسين غسل من (ك).
(3) عبارة الأصل: أن الغرض في تحصيل الحج.
(4) ساقط من الأصل.
(5) في الأصل: ولكن.
(6) (ط): ولوجدنا.
(7) ساقطة من (ط)، (ك).
(8) ساقطة من الأصل.
(9) في الأصل: المنصوص به.

(4/394)


لا يردّ؛ فإنه لو تبرع بمقدار الثلث (1) عليه من غير عمل منه، لكان منفذاً. فأما إذا كان المسمى له زائداً على الثلث، ووجد الإمام متبرِّعاً، فالظاهر عندي القطعُ، بصرف ذلك [الغُرم] (2) عن الأطفال. فإن رضي الوصي بالعمل دونه، فلا استبدال. وإن أبى أن يعمل، أقام الوالي ناظراً.
وحقائق هذه الأطراف يوضّحها كتاب الوصايا.
2787 - ومن مسائل الفصل: أنه لو أوصى بحج التطوّع، ففي صحة الوصية قولان، ذكرناهما في أول الكتاب، فإن صححنا الوصية، فلو عيّن في الوصية بحج التطوع شخصاً، وقال: أحجّوا عني فلاناً، ووَفَّى الثلثُ، فيجب رعايةُ تعيينه، ورأيت الطرق متفقةً على أن المال المذكور إذا كان لا يزيد على أجر المثل، لا يكون وصيةً في حق المعيّن، حتى لو كان وارثاً، لزم التنفيذ. وليس يبعد تخريج احتمال الوصية في حق المعيّن، إذا كان بَذْلُ المال في نفسه وصيةً، كما قدمناه في حجة الإسلام، إذا رُبط بمعيّن أجرته مائة، ونحن نجد مَنْ أجرته خمسون.
ولو عيّن في الوصية بحج التطوّع شخصاً، كما صورناه، فأبى ذلك المعيّن أن يحج، فهل يُصرف المال إلى آخر؟ أم نقضي ببطلان الوصية، ورجوع المال إلى التركة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا لا نبطلها؛ فإن الغرض أصلُ الحج، والتعيين في حكم التفصيل له، فينبغي ألا يَبطُلَ [الأصل] (3) بتعذرٍ في التفصيل.
ومن أصحابنا من أبطل الوصية، وقاس على ما لو قال: أعتقوا عني العبد الفلاني، ثم عسر الوصول إليه، فالوصية تبطل، ولا يصرف المال المبذول إلى عبدٍ آخر نشتريه ونعتقه. والقائل الأول ينفصل (4)، فيقول: للعبد غرضٌ ظاهر في العتق، فكان في حكم الموصى له به، ولا غرض للذي يحج من غير مزيد على [أجرة] (5) المثل.
__________
(1) (ط)، (ك) بمقداره.
(2) في الأصل: للعزم.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ينفصل: أي يخرج عن هذا الاعتراض.
(5) ساقطة من الأصل.

(4/395)


2788 - ومن مسائل الفصل أنه لو قال: أحجوا عني بألفٍ، وقيّد بالحجة الواحدة، فلم نجد من أجرة مثله ألف، بل كان أقصى أجرٍ ينحط، عن هذا المبلغ.
في المسألة وجهان ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أن الزيادة مردودةٌ؛ فإنها وصيّة لا لمعين، ولا لجهةٍ، فترد. والثاني - أن الألف تصرف إذا وفى الثلث، إلى شخص يتخيره الوارث، وتُجْعَل الزيادةُ وصيةً له.
2789 - ومن مسائل الفصل: أنه إذا قال: أحجوا عنّي فلاناً بألف، وكان الألف زائداً على أجر مثله، فلا شك أن الزائد وصيةٌ له. فلو قال (1): أحجوا عن المتوفَّى غيري بأجرِ مثله، واصرفوا إليَّ الزيادةَ الفاضلةَ، لم نجبه إلى ذلك؛ فإنه إنما أوصى له بها على شرط أن يحج عنه، فلا استحقاق دون الوفاء بالشروط.
2790 - ومن المسائل مسألة حكاها الصيدلاني في وقائع المفتين بمَرو، وهي أن الرجل إذا قال: اشتروا عشرة آصُع من البرّ بمائة درهم، وتصدقوا بها، وكنا نجد ذلك القدرَ من الطعام بخمسين. قال: اختلف الأئمة: فمنهم من قال: نشتري الآصع بما نجد، ونرد الزيادة إلى الورثة، ومنهم من قال: نشتري بالمائة عشرة آصع، وتكون الزيادة وصية لبائع الحنطة. ومنهم من قال: نشتري بتلك الزيادة حنطة بسعر الوقت، ونتصدق به، والمسألة محتملة.
...
__________
(1) القائل: هو (فلان) الذي أوصى المتوفى بأن يَحُج عنه بألف. فهو يقول للورثة: أحجوا عنه غيري، بأجر المثل (أربعمائة مثلاً) واصرفوا الزيادة إلي.

(4/396)


باب قتل الصيد عمداً كان أو خطأً
2791 - الاصطياد من صيد البر حرام، على المحرم، والأصل فيه قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95]. والعامد يَختصّ بالمأثم، والضمان يعم العامدَ والخاطئ عندنا، وعند معظم العلماء، وخصص داود الضمانَ بالعامد، تعلّقاً بظاهر القرآن، وفيه على مذهب الشافعي -ومذهبُهُ القولُ بالمفهوم- إشكالٌ، ولكن الوجه أن الرب تعالى لما أراد الجمعَ بين الضمانِ، والمأثَمِ، والتعرضِ للعقوبة، خصص سياق الآية بالعامد، أما الضمان، فلائح واستشعار العقاب في قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} [المائدة: 95].
ثم الصيد ينقسم إلى البحري والبري، فأما البحري، فلا حرج على المحرم فيه، وكان شيخي يقول: هذا قولنا في سمكة يصادفها في ماءٍ في الحرم.
وأما الصيد البرّي فينقسم إلى الطائر، وغيره، أما الطائر، ففيه بابٌ يأتي، وأما غيرُه، فينبغي أن يكون مأكولاً، وهو المحرّم بسبب الإحرام [والحرم] (1)، والحيوان المتولد من بين المأكول وغيره محرم تغليباً للحرمة، وفيه الجزاء تغليباً للفدية، فالأمر في الحكمين على التغليظ.
ثم نجمع معاقد المذهب في فصول (2): منها في جهات الضمان، ومنها في صفة الضمان وتفصيلِ الواجب، ومنها في الجنايات.
__________
(1) في الأصل، (ك): المجرى.
(2) لم يَعْنِ الإمام فصولاً ذاتَ عناوين خاصة، وإنما عنى موضوعاتٍ أو مناحٍ للكلام ولذلك تراه لم يضع كلمة (فصل) بين كل موضوع وآخر.

(4/397)


2792 - فأما جهات الضمان، فثلاث: المباشرة بالجناية، والسبب، واليد العادية.
فأما المباشرة فبيّنةٌ.
والسببُ هو كلّ ما يكون المتسبب به متعدياً، كحفر البئر في محل العدوان، ويمكن ضبط هذا بما يُضمَن الآدمي به، فلو حفر المحرم بئراً في ملكه أو في موات، فتردّى فيها صيدٌ، فلا ضمان؛ إذ لا عدوان، ولو حفر في ملكه في الحرم بئراً، فتردى فيها صيدٌ، ففي الضمان وجهان: أشهرهما - الوجوب، لأن السبب في إيجاب الضمان في الصيد الحرميّ حرمةُ الحرم، وهذا المعنى يعم الملكَ وغيرَه. والثاني - لا يجب اعتباراً بالصيد في حق المحرم.
ولو نصب المحرم شبكةً في ملكه، أو في مواتٍ، فقد ردد الصيدلاني جوابه فيها، والذي أظهر نقلَه أنه إذا تعقّد (1) صيد بالشبكة، وجب الضمان، وإن كانت منصوبة في الملك؛ لأن نصب الشبكة مقصودٌ للاصطياد، فكأن ناصبَه مجرِّداً قصدَه إلى الاصطياد، فكان كما لو اصطاد بيده صيداً في ملكه. قال: ويحتمل أن تكون الشبكة في معنى البئر (2)؛ فإن البئر لو احتفرت في محل العدوان، كانت سبب الضمان كالشبكة، وإذا كان من غير عدوان، فلا ضمان. وهذا قياسٌ متجه.
2793 - وأما اليد (3)، فهي سبب الضمان، فإذا أثبت المحرم يدَه على الصيد ابتداءً في الإحرام، فهلك الصيد تحت يده، ضمنه، كما يضمن الغاصب ما تثبت عليه يده، وتمام القول في اليد الدائمة، التي طرأ الإحرام عليها يأتي في فصلٍ معقود بعد هذا.
(4 فهذه قواعد أسباب الضمان.
2794 - فأما الدّلالة على الصيد، فليست 4) مضمِّنةً عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (5)
__________
(1) (ط): تعقل.
(2) هذا هو الجواب الثاني الذي ردّده الصيدلاني.
(3) هذا هو السبب الثالث من أسباب الضمان.
(4) ما بين القوسين مغسول من (ك).
(5) ر. المبسوط: 4/ 79، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 215 مسألة: 684، الاختيار:=

(4/398)


وضبطُ المذهب من جهة المعنى أن الصيد لله تعالى، وهو مالك الأعيان، وقد حجر على المحرم فيه، فيضمنُه المحرم بما يضمن به ملكَ الغير؛ إذ (1) لم يكن مستحقه، ومن دل على ملك غيره، لم يضمن بالدلالة شيئاً، وإنما يضمن ملك الغير بالأسباب التي ذكرناها.
2795 - فأما جُمَل القول (2) في المضمون الواجب، فنص القرآن شاهدٌ على إيجاب المثل قال تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ} [المائدة: 95]، والمراد [به] (3) إيجاب النَّعَم المشابهة في الخلق والصوَر، للمتلفات من الصيود.
ثم كل ما وجدنا فيه نصَّ [خبرٍ أو قضاء] (4) للصحابة، اتبعناه، وما لم نجد فيه نصاً وقضاء، طلبنا مماثلة الخلقة بالاجتهاد، كما سنصفه.
أما مواقع النصوص والأقضية، ففي حمار الوحش بقرةٌ (5)، وفي الضبع كبش.
رواه جابر (6) عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الأرنب عَناقٌ، وفي أم حُبَيْن حُلاّن (7) وهو جدي صغير. وكان شيخي يقول: أم حبين من صغار الضب، [حتى
__________
=1/ 165، اللباب: 1/ 211، حاشية ابن عابدين: 2/ 213.
(1) (ط)، (ك): إذا لم يكن مستحفظاً فيه.
(2) عبارة (ط): " فأما حمل القرَآن في المضمون الواجب ". عبارة (ك): " فأما حَمْل القول في الضمان الواجب ".
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: جزاء وقضاء.
(5) جزاء حمار الوحش رواه من حديث ابن عباس الشافعي في الأم: 2/ 192، والدارقطني: 2/ 247، والبيهقي: 5/ 182.
(6) حديث جابر في جزاء الضبع رواه أصحاب السنن وابن حبان وأحمد والحاكم وغيرهم (أبو داود: الأطعمة، باب في أكل الضبع، ح 3801، الترمذي: الحج، باب ما جاء في الضبع يصيبها المحرم، ح 851، والأطعمة، باب ما جاء في أكل الضبع، ح 1791، النسائي: مناسك الحج، باب ما لا يقتله المحرم، ح 2836، والصيد، باب الضبع، ح 4323، ابن ماجة: المناسك، باب جزاء الصيد يصيبه المحرم، ح 3085، الصيد، باب الضبع، ح 3236، وانظر التلخيص: 2/ 529 ح 1101).
(7) أم حبين ضربٌ من حشرات الأرض تشبه الضب، والحلاّن والحلام: وزان تفاح: الجدي=

(4/399)


يفرضَ مأكولاً. أما الظبي ففيه عنز] (1). وفي طرق العراق في الظبي كبشٌ، وفي الغزال عنز. وهذا وهم؛ فالذي صح القضاء فيه في الظبي العنز، وهو شديد الشبه به؛ فإنه أجرد الشعر، متقلص الذنب، والغزال ولد الظبي، فيجب فيه ما يجب في الصغار من كل جنس على ما سنصفه.
فهذا قولنا في محالّ الأقضية.
2796 - فأما ما لا نص فيه، فالوجه طلب المثلية الخِلقية، بالنظر والاجتهاد، كما قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95].
ثم شرط الأئمة صَدَر الإلحاق الشبهي عن رجلين، كما أشعر به النص، وهذا محتوم، ليس على الاستحباب، وليكن الناظران عدلين خيّرين، من أصحاب الكياسة، فيما يتعلق بهذا الغرض. ولو حكم عدلٌ بالشبه، وحكم به القاتل المحرِم، فحكمه غيرُ مقبول، لخروجه عن نعت العدالة. هذا إذا قتل عمداً.
فإن كان خطأ لم يعصِ بما جرى منه، ففي المسألة وجهان: أقيسهما أنه لا يقبل حكمه؛ لأنه محكوم عليه، فليكن الحاكم غيره. والوجه الثاني - وهو ظاهر المذهب أنه يقبل حكمه، والدليل عليه ما روي: " أن عمر رضي الله عنه، شاور بعضَ الصحابة في صيد كان قتله، فقال المستشار: أرى فيه شاة، فقال عمر: وأنا أرى ذلك " (2).
ثم في الصغار من كل جنس صغار الجنس من النَّعم التي تثبت كبارها في الكبار، والمعيب يقابل المعيب، وتقبل العوراء في العوراء، وهكذا كل عيب، ولا نسلك
__________
=الصغير. يشق بطن أمه ويخرج. وحديث جزاء أم حبين رواه الشافعي عن عثمان بن عفان (الأم: 2/ 194) والبيهقي: 5/ 185.
(1) سقط من الأصل، ما بين المعقفين.
(2) أثر عمر ورد في قصة صحابي يقال له: أربد، والأثر رواه الشافعي في الأم: (4/ 194) بسند صحيح (قاله الحافظ) ورواه عبد الرزاق: (4/ 402)، والبيهقي في الكبرى: 5/ 182، والصغرى: 2/ 163 ح 1572، وانظر التلخيص: 2/ 542.

(4/400)


طريق جبران العيب بعيب آخر، وإن قرب الأمر، فلا تقبل عوراء في جَرِب. وهكذا القول في العيوب المختلفة.
2797 - ومما يتعين (1) الاعتناء به في هذا الفصل: الكلام في الإناث والذكور، والحامل [والحائل] (2): فإذا أتلف المحرم ذكراً من جنسٍ [من] (3) الصيد، فإن قابله بذكبر من النّعم، فذاك، وإن قابله بأنثى، اختلف النص في إجزاء ذلك.
والذي نراه ونقطع به أن الأنثى إن كانت قيمتُها دون قيمة الذكر من النَّعم، فلا تُجزىء. وإن آل الأمر إلى ذبح النَّعم كما سنصفه، وكانت الأنثى خبيثة اللحم؛ لأنها (4 وَلَدَت، فلا تجزئ 4)، لاجتماع المخالفة في الخلقة، والنقصان، في القيمة، والرداءة في اللحم. وإن كانت الأنثى طيبة اللحم لو ذبحت، تامّة القيمة إذا قوّمت للتعديل -كما سنذكره- فهل تجزئ عن الذكر؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قال: قولان: أحدهما - أنها لا تجزئ للاختلاف في الخلقة، والثاني - أنها تجزىء، وهو الأصح؛ فإن هذا القدر محتمل في التفاوت.
ومن أصحابنا من قال: اختلاف النص محمول على ما أشرنا إليه، فحيث مَنَع أراد إذا كانت الأنثى ناقصة، أو معيبةَ اللحم، وحيث جوّز أراد إذا كانت مساويةً للذكر من النَّعم في القيمة، وطيب اللحم، أو كانت أفضل منه.
وأما القول في الزكاة، فمتعلق بطرف صالحٍ من التعبد، وقد مضى تفصيل القول في أخذ الذكور والإناث في الزكاة.
ولو أتلف المحرم ظبية، فإن أخرج الأنثى أجزأت، لمشابهة الخِلقة، وإن أخرج (5 الذكر، فإن كان الذكر 5) دون الأنثى، فلا إجزاء، وإن كان مثلَها، أو أفضلَ
__________
(1) في الأصل: يتعلق.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ما بين القوسين بياض في (ك).
(5) ساقط من (ك).

(4/401)


منها، فعلى ما ذكرنا من اختلاف الطرق (1).
وذكر الشيخ أبو بكر وغيرُه أن مقابلة الأنثى بالأنثى واجبةٌ، والتردد في مقابلة الذكر بالأنثى. وهذا ذهاب عن التحصيل، وهو يبتني على اعتقاد كون الأنثى أفضلَ، والأمر مختلف في ذلك، والمتبع ما ذكرناه من الفضيلة، ورعاية الخلقة، ويستوي فيه مقابلة الذكر بالأنثى، ومقابلة الأنثى بالذكر.
فهذا قولنا في الذكور والإناث.
2798 - فأما إذا قتل المحرم ظبية حاملاً، فهذا مما اختبط فيه الأصحاب، وردوا الأمر إلى اضطرابٍ لا أصل له.
وأنا أذكر ما هو الحق المبتوت: فإذا كانت الظبية المتلَفةُ حاملاً، فلو قابلناها بحائل (2) من النعم، كان ذلك مخالفةً في الخلقة، فالحامل من النعم أفضل في القيمة من الحائل منها، ولكن لا سبيل إلى ذبح الحامل من النَّعم؛ فإن مرتبتها في القيمة تزول بالذبح. ولو أخرج حائلاً نفيسة تبلغ قيمتُها قيمةَ حامل مقتصدة، فالتفاوت في الخلقة لائح، وهذا فوق الذكورة والأنوثة، فلا وجه إلا تقديرُ حامل من النَّعم؛ ثم الرجوع إلى قيمتها، وتعديلُ الطعام بها.
فهذا هو الوجه، وهو الذي اختاره أئمة العراق.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لو أخرج حائلاً نفيسةً، كما صورناها، وذبحها، أجزأت؛ تخريجاً على إخراج الأنثى عن الذكر. وهذا بعيدٌ؛ فإن الحَمْل إذا تحقق زيادةٌ في الخلقة معتبرة.
فهذا بيانُ القول في الحامل والحائل، والذكر والأنثى.
ولو جنى على ظبيةٍ حامل، فألقت جنينَها، فإن بقيت الأم، وألقت الجنين حيّاً، ثم مات، ففي الجنين صغيرٌ من النَّعم، على قدرٌ يقرب منه. وإن ألقته ميتاً، فلا يُضمن الجنين في نفسه، ولكن يجب ما تنقصه الجناية من الأم. وإن ماتت الأم،
__________
(1) (ط)، (ك): الطريق.
(2) (ط): بحالٍ.

(4/402)


ومات الجنين بعد انفصاله، ضمن كلَّ واحدٍ على حياله.
2799 - فأما القول في الجناية على الصيد من غير إهلاك، فقد قال الشافعي، فيما نقله المزني: إن جَرح ظبياً، فنقص من قيمته العشر، فعليه العشر من ثمن شاة. قال المزني: الوجه أن نقول عليه عشرُ شاة، جرياً على رعاية المثلية.
واختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من صوّب المزني، وقال: هو المذهب لا غير، وحمل نص الشافعي على الإرشاد إلى الانتقال من الشاة، إلى تعديل الطعام بالقيمة؛ فإن الكفارة على التخيير، وإخراج قسط من الحيوان عسير، وإلا، فهو الأصل.
ومن أصحابنا من جرى على ظاهر النص، ولم يوجب قسطاً من الحيوان بسبب الجناية على الصيد، وجعل ما يدخل (1 على الصيد من نقصٍ، بمثابة ما يدخل على المثليات من النقص، بسبب الجناية 1) عليها، فإذا جنى رجل على حِنطة إنسان جنايةً تنقُص من قيمتها، فلا يلزمه إلا القيمة، وإن كانت الحنطة في نفسها مضمونةً بالمثل إذا أتلفت، فكذلك القول في الصيد إذا أتلف، فهو مقابَلٌ بالمثل، وإن أثرت الجناية في صفته، لم يجب جزء من المثل.
وهذه الطريقة ضعيفة؛ فإن مقتضاها إيجاب قسط من قيمة الظبية؛ فإن من جنى على حنطة إنسان وعيَّبها، فالمضمون أرش نقص الحنطة المجني عليها.
فرع:
2800 - إذا جنى على صيدٍ، فَأَزْمَنَه، وأذهب امتناعَه، بحيث لا يرجى عودُه، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة أنه يجب بإزالة امتناعه تمامُ الجزاء، كما يجب بقطع يدي العبد تمامُ قيمته.
وذهب بعض أصحابنا إلى وجه غريب، وهو أن الواجب قسطٌ من المثل، أو قيمة المثل. وهذا مزيّف متروكٌ. فلو أتلف الصيدَ المزمَنَ محرم آخر، فيلزمه جزاؤه على ما هو عليه من العيب. وقد قدمنا أن المعيب يضمن بمثله.
__________
(1) ما بين القوسين، ذهب به البلل من (ك).

(4/403)


ولو كان للصيد امتناعان، كالنعامة تمتنع بشدة العدْو، ولها امتناع من الجناح بالطيران، فإذا أبطل المحرم أحد امتناعيه، والتفريع على ظاهر المذهب، وهو أن إزالة الامتناع توجب تمام الجزاء، ففي هذه الصورة، وهي إزالة أحد الامتناعين وجهان: ذكرهما العراقيون.
ولو أزال المحرم امتناع صيدٍ على وجهٍ لا يعود، ثم قتله، فالتفصيل فيه كالتفصيل فيما إذا قطع رجلٌ يدي رجل ورجليه، ثم احتز رقبته قبل اندمال الجرح، المنصوصُ [اتحاد] (1) الدية. وخرّج ابن سريج انفراد أروش الأطراف (2) عن دية النفس، وذلك الترتيب يعود هاهنا. ثم من لم يكمل الأرش في أحد الامتناعين في النعامة، فالغالب على الظن أنه يعتبر ما نقص. وفي الحقيقة الامتناعُ في النعامة واحد ولكنه يتعلق بالرجل والجناح، ولا ضبط. فالوجه في زوال بعض الامتناع إيجاب ما ينقص.
فرع:
2801 - إذا أمسك المحرم صيداً، فقتله مُحِلٌّ في يده، فالضمان كلّه على المحرم؛ فإنَّ فِعْل الحلال في الصيد غيرُ مضمونٍ، فيجعل ما جرى (3) كالتلف بآفة سماوية.
ولو أمسك المحرم الصيد، فقتله محرم آخر في يده، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب تمامُ الضمان على القاتل؛ فإنا إذا كنا (4) نقدم المباشرة على السبب، فلأن نقدم الإتلاف على اليد أولى.
ومن أصحابنا من قال: الضمان بينهما، وهذا بعيد، لا وجه له. نعم الوجه أن يقال: قرار الضمان على المتلِف والطَّلِبَةُ تتوجه على الممسك. وقد ذكرنا قريباً من ذلك في تفاصيل الحلق.
__________
(1) في الأصل: " إيجاب ". والمثبت من (ط)، (ك).
(2) (ط): الأفراد.
(3) (ط): يجرى.
(4) (ط): إذ تركنا.

(4/404)


فصل
2802 - إذا كنا نعتبر المِثْل بالاجتهاد، نظراً إلى الشبه الخِلْقي، فلا تعلق لهذا بمكانٍ، وإن آل الأمر إلى اعتبار القيمة، فكيف السبيل؟ والمرعي أيّةُ قيمة؟ أولاً نذكر صفة الجزاء، ومحلَّه، ثم نرجع إلى ما أشرنا إليه.
فإن كان الجزاء منصوصاً عليه في خبر أو قضاء، فهو متبع، وإلا نقيسه.
2803 - ثم الكفارة على التخيير. ذهب إليه معظم الأصحاب، وأشعر به نص القرآن.
ثم للجزاء ثلاثة أركان: أحدها - الحيوان. والثاني - الإطعام. والثالث - الصوم المعدّل بالإطعام.
أما الحيوان، فالمعتبر فيه اتباع التوقيف، أو النظرُ فيما لا توقيف فيه إلى الشبه الخِلقي.
وأما الإطعام، فهو معتبر بقيمة المثل، لا بقيمةِ الصيد، فيقوّم المثلُ المنصوصُ، أو المجتهَدُ بالدراهم، ولا نرى التصدّق بها، بل نصرفُها إلى الطعام المعتبر في صدقة الفطر، والكفارات، فإن أراد التصدق بها، فذاك. وإن أراد الصومَ، قابل كلَّ مدّ بصوم يوم، فإن وقع كسرٌ في مدّ، قابله بصومِ يومٍ. فإن [التعطيل] (1) غيرُ ممكن، والصومُ لا يتبعّض. ثم المحرم بالخيار بين هذه الخِلال.
وحكى بعض الأصحاب عن أبي ثور أنه نقل عن الشافعي قولاً في الترتيب، وهذا غلط باتفاق الأئمة، مردود على ناقله، مخالفٌ لنص القرآن، ولا يخلِّص منه التعلق بآية المحاربين؛ فإن الظواهر لا تُزال بسبب إزالة ظاهرٍ آخر. نعم، إن انقدح تأويلٌ، واستند إلى دليل، فلا يمنع الاستشهادَ لإبانة إمكان التأويل في اللسان.
2804 - وإن كان الصيد غيرَ مقابَل بالمثل كبعض الطيور، فالوجُه اعتبارُ القيمة، وردُّها إلى الإطعام، ثم تقدير الصيام معدَّلاً بالطعام.
__________
(1) في الأصل: التفصيل.

(4/405)


وإذا كان المتلف مقوَّماً، فالكفارة فيه ذاتُ ركنين: الطعام، والصيام، والرجوع إلى قيمة المتلف، فإنا عجزنا عن تقدير مثلٍ، حتى نفرض اعتبار قيمته.
2805 - فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن كان المحرم الجاني يُخرج الجزاء حيواناً، فمحله الحرم، كما تقدم.
ولا شك أنا لا نشترط فيه صفاتِ الضحايا؛ فإنا (1) إذا كنا نوجب في الصغار صغاراً، وفي المعيبة ما يضاهيها، فلا نلتزم والحالة هذه صفاتِ الضحايا، والشاة لا تجزئ في الضحايا عن شخصين، ولا يتبعض في القرابين غيرُ البُدنِ والبقرِ. وإذا أوجبنا في انجناية على الصيد جزءاً من الحيوان، فسيُخرج الملتزمُ عشرَ شاة، وسبب ذلك كلِّه اتباعُنا المثليةَ، والأشباه الخِلقية. ثم لا يكفي التصدق بالحيوانات المخرجة جزاءً، بل لابد من الذبح. وهذا إذا ضم إلى سقوط اعتبار صفات الضحايا، كان بدْعاً. والأمر كذلك، فالعَنَاق والحُلاّن مذبوحان ذبحَ الكبار، على صفات الهدايا.
وإن أراد المحرم العدولَ إلى الطعام، فالاعتبار بقيمة مكة في المثل؛ فإن المثل لو أخرج، لكان مستحقاً لهم، فالاعتبار عند العدول بقيمة تلك البقعة.
وإن كان الصيد متقوماً في نفسه، لا جزاء له من الحيوانات، فقد قال العراقيون: الاعتبار في قيمته بمكان الإتلاف، نظراً إلى كل متلَف مقوَّم، ثم القيَمة تصرف إلى الطعام، وبعدَه تعديلُ الصيام. وقالوا: ذهب بعض أصحابنا إلى أنا نعتبر قيمة المتلف بسعر مكة، وزعموا أن الصحيح الأول.
وقد قطع المراوزة بأن الاعتبار بقيمة مكة في الصيد المقوّم، ثم كلام العراقيين متردد في التفريع، على ما رواه ظاهر المذهب، فيحتمل عندهم بعد ما عرف مقدار القيمة، نظراً إلى مكان الإتلاف، أن نعتبر سعر الطعام في ذلك المكان أيضاًً، ويحتمل أن يقال: إذا ضبطت القيمة بمكان الإتلاف، فالمعتبر في صرفها إلى الطعام سعرُ مكة. وهذا هو الظاهر من كلامهم فيما أظن.
__________
(1) ساقطة من (ط).

(4/406)


فصل
2806 - المحرم إذا قتل صيداً، فقد اختلف قول الشافعي في أن الصيد الذي ذبحه في مذبحه، أو أثبته بسهم في شروده مَيتةٌ أمْ لا؟ فله قولان: أحدهما - أنه ميتة، وهو مذهب أبي حنيفة (1).
وفائدة ذلك تحريمه على الناس كافة في حال الاختيار، وإلحاقه بالميتات.
والقول الثاني - أنه ليس بميتة، ولغير الذابح استحلاله.
التوجيه:
من قال: إنه ميتة، قال: لأنه ممنوع من هذا الذبح لمعنىً فيه، فأشبه المجوسي، والمرتدَّ. ومن قال: ليست ذبيحتُه ميتةً، قال: إنه من أهل الذبح على الجملة، يعني البهائم، ولكن حالَ مالكُ الأعيان بينه وبين الذبح، حَجْراً عليه، كما حجر الشرع على الإنسان ذبح شاةَ الغير.
فإن قلنا: الصيد الذي ذبحه ميتة، فلا كلام، فليجتنبْها المحرم والمُحِل.
وإن قلنا: ذبيحته ليست بمَيْتة، فهي حلال للحرام (2 والحلالِ، إلا أنها محرّمة على المُحرِم الذابح وفاقاً.
2807 - ثم يتبين الغرض بتفريعٍ فنقول: إن كان 2) الصيد مباحاً غيرَ مملوك، فإن قَضَيْنا بكونه ميتةً، فلا كلام، وإن خصصنا التحريم بالذابح، فلو تحلل عن إحرامه، فالمذهب الذي قطع به المراوزة أن التحريم لا يزول بزوال الإحرام. وحكى العراقيون سوى ذلك وجهاً آخر: أن التحريم يزول بزوال الإحرام، ثم إنهم زيّفوه. فهذا إذا كان الصيد مباحاً.
2808 - فأما إذا كان الصيد مملوكاً، فإن قضينا بأنه يصير ميتة، فالمحرم يضمن قيمته لمالكه، ويلتزم تمام الجزاء، كما يلتزمه في الصيد المباح. وقد ذكرنا أنه لا فرق بين المملوك وبين المباح في الصيد، ولا فرق بين الآنس منه والمتوحش.
__________
(1) ر. المبسوط: 4/ 85، اللباب: 1/ 216، الاختيار: 1/ 168.
(2) ما بين القوسين أصابه البلل من (ك).

(4/407)


وإن قلنا: ذبيحة المحرم ليست ميتة، فعلى المحرم في الصيد المملوك الجزاء لله تعالى، وما ينقصه الذبح للآدمي.
2809 - ثم كما يحرُم على المحرم أن يأكل من الصيد الذي ذبحه، فكذلك يحرم عليه الأكل من كل صيد دلَّ عليه، أو أعان الصائد بوجه على اصطياده. وكذلك لو صاد صائد حلالٌ الصيدَ للمحرم، من غير أمره وإذنه.
والمتبع في ذلك الأخبار: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لطائفةٍ من المحرمين: " لحمُ الصيد حلالٌ لكم، ما لم تصطادوه، أو يصاد لكم " (1). واصطاد أبو قتادة، وهو حلال، فقدم الصيدَ إلى محرمين، فقال للرسول صلى الله عليه وسلم: " ما ترى، فقال: هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ فقالوا: لا فقال: طعامٌ أطعمكم الله " (2). وأهدي إلى عثمانَ لحمُ صيدٍ، وهو محرم، فقال لأصحابه: " كلوا؛ فإنه ما صيد لكم " (3)، ولم يأكل (4). ولا نظن بعثمان رضي الله عنه أن يأمر بالاصطياد، ثم يمتنع عن أكله، فدلت القصة على أن الصائد، كان اصطاد من غير مراجعته.
__________
(1) حديث: لحم الصيد حلال لكم. رواه الشافعي، وأبو داود، والترمذي، والنسائي من حديث جابر (ر. ترتيب المسند: 1/ 322، أبو داود: المناسك، باب لحم الصيد للمحرم، ح 1851، الترمذي: الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، ح 846، النسائي: المناسك، باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، ح 2827، التلخيص: 2/ 525 ح 1097).
(2) خبر صيد أبي قتادة. متفق عليه، وله عندهما ألفاظ كثيرة، واللفظ الذي ذكره الإمام (هل أشرتم ... ) عند مسلم دون البخاري (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد أكله، ح 1821، مسلم: الحج، باب تحريم الصيد للمحرم، ح 1196).
(3) خبر عثمان رضي الله عنه. رواه عبد الرزاق، والبيهقي (ر. مصنف عبد الرزاق: 4/ 433، ح 8345، 8346، 8347، البيهقي في الكبرى: 5/ 191، والصغرى: 2/ 165 ح 1583).
(4) لأنه صيد من أجله، كما جاء في تفصيل الخبر.

(4/408)


2810 - فإذا ثبت ما ذكرناه، فإن قتل المحرم صيداً، والتزم جزاءه بالقتل، فلو أكل منه، كان الأكل حراماً، ولا يلزمه بسبب الأكل جزاءٌ آخر، بل يُكتفى بجزاء القتل.
ولو كان دلّ على صيد أو صِيد له، وحرمنا الأكل عليه، فلو أكله، ففي وجوب الجزاء قولان: أصحهما - أن لا جزاء؛ فإن الجزاء في نص الكتاب يتعلق بالجناية على الصيد. والقول الثاني - يجب الجزاء؛ فإنا لم نوجب على من قتل صيداً، والتزم جزاءه بسبب أكله جزاءً جديداً؛ لأن ضمان القتل كافٍ، ولم يوجد في الأكل من الصيد المدلول عليه جزاءٌ يلتزمه المحرم، بسببٍ غير الأكل، فجاز أن يتعلق الضمان بالآكل، كما يتعلق بقتل (1) الصيد المُزْمَن الذي لا حراك به.
وإذا قتل المُحل [أو] (2) المحرمُ صيداً حرمياً، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من خرّج القولين في أنه إذا ذبح، فهو ميتة أم لا؟ ومنهم من قطع القول بأنه ميتة؛ لأن المانع في الصيد لا في الذابح (3)، فكأنه ملتحق بما لا يحل أكله، مادام متحصِّناً بالحرم.
فصل
جامعٌ في ملك المحرم في الصيد، دواماً، وابتداء، وما يتعلق به
2811 - فنقول: أولاً - إذا اصطاد المحرم صيداً، فقد جنى على إحرامه، ولم يملكه وإن كان الاصطياد من أسباب الاكتساب.
واختلف قول الشافعي في أنه (4 لو أحرم، وفي يده صيدٌ مملوك، فهل 4) يلزمه رفْعُ اليد عنه أم لا؟ فقال في أحد القولين: لا يلزمه إرساله، بل يديم اليدَ عليه، وهذا كما أنه لا ينكِح ابتداء، ولكن النكاح الذي [كان] (5) قبل الإحرام، فهو
__________
(1) (ط): بأكل.
(2) في الأصل: و.
(3) (ط): الذبح.
(4) ما بين القوسين ذهب به بللٌ من نسخة (ك).
(5) ساقط من (ك).

(4/409)


مستدام، لا يؤثر الإحرام في قطعه، وإنما المحرّم على المحرم الاصطيادُ، وقد شهد لذلك أن الأوّلين كانوا يُحرمون، وفي أقفاصهم في منازلهم الطيورُ، فلا يتعرضون لتقديم إرسالها، أو الأمر بذلك بعد الإحرام.
فإن قلنا: اليد مستدامة فالملك دائمٌ، ولو تلف ذلك الصيد تحت يده، لم يضمنه، ولكن ليس له قتله؛ فإنه كما ثبت على قطعٍ المنعُ من الاصطياد، ثبت أيضاً قطعاً المنع من قتل الصيد في الإحرام، فلو قتله، فداه، ولزمه جزاؤه.
وإن قلنا: يجب إرساله، فهل يزول ملكه؟ فعلى قولين: أحدهما - يزول.
والثاني - لا يزول.
ثم اختلف الأصحاب في [ابتداء] (1) التاريخ، فمنهم من قال: يزول بنفس الإحرام، ويلتحق الصيد في يده بالمباحات. ومنهم من قال: الإحرام يوجب عليه الإرسالَ، ثم إذا أرسل، زال ملكه.
ومن قال: الإحرام لا يتضمن زوال الملك، فالملك مستدام مادامت يده ثابتة (2) على العدوان، فإذا ارتسم ما أمرناه به، وأرسله، فهل يزول الملك الآن؟
بنى شيخي هذا على وجهين لأصحابنا في أن من فتح باب قفص لطائرٍ، وحل الرباط عنه -وهو حلال- وحرره، فهل يزول الملك عنه؟ فيه اختلاف سيأتي [في موضعه] (3) إن شاء الله تعالى.
فإذا أوجبنا الإرسالَ جرى في زوال الملك ما [ذكرناه] (4)، وقطع غيره من الأئمة بأن الملك لا يزول إلا أن يقصد التحرير، (5 فيخرج على الوجهين على أن الأصح أن التحرير 5) لا يتضمن إزالة الملك.
__________
(1) في الأصل: في بناء التاريخ. والمثبت تقدير منا، و (ط): اختلف أصحابنا في التاريخ، وفي (ك): اختلف في التاريخ.
(2) (ط) سقط منها: " على العدوان ".
(3) ساقط من الأصل.
(4) في الأصل: قطعناه.
(5) ما بين القوسين سقط من (ك).

(4/410)


2812 - ومما يتعلق بالفصل أن المحرم لو اشترى صيداً، فهل يملكه؟ وهل يصح شراؤه؟ فعلى قولين منصوصين قَرِيبَي المأخذ، من شراء الكافر عبداً مسلماً. ولا شك أن القولين يتفرّعان على أن الإحرام لا يقطع دوام الملك، فإنا إذا كنا نحكم بأن الإحرام يقطع الدوام، فلا شك [أنه] (1) يمنع الجَلْب على سبيل الابتداء. وسنذكر في كتاب البيع أنا وإن لم نصحح شراء الكافر العبدَ المسلمَ، نحكم بأنه لا يُمنع ثبوتُ الملك له من جهة الإرث في العبد المسلم. وكان شيخي يقطع بمثل هذا في الصيد، ويقول: يرث المحرم (2) الصيدَ قولاً واحداًً. وفي شرائه إياه قولان. وهكذا ذكره الصيدلاني.
وقال العراقيون: إذا قلنا: الإحرام يقطع دوامَ الملك، ففي الإرث وجهان: أحدهما - أنه لا يفيد الملك؛ فإن الإرث مشبه بأستمرار الملك على الدوام، فإذا كان الإحرام ينافي الدوام، فكذلك ينافي الملك [المستجد] (3) والمشبه بالدوام. والوجه الثاني - أن الملك يحصل بالإرث، ويزول؛ فإنا نضطر إلى الجريان على قياس التوريث، فليجر (4) ذلك الحكم، ثم نحكم بعده بالزوال.
ولم يختلف أحد من العلماء في أن المحرم لا يملك بالاصطياد أصلاً؛ فإنه المحرّم المقصود بنهي الشارع، فلا يفيد الملكَ.
2813 - ومما يتفرع على هذا الأصل أنا إذا أوجبنا على المحرم إرسال صيده، ورفعَ اليد عنه، فلو أدامها، ودام الصيدُ، حتى تحلّل المحرم، فالأمر بالإرسال (5 قائم بعد التحلل عن الإحرام. ولكن لو قتله وهو محرم، ضمنه، ولو قتله بعد التحلل، فالمذهب أنه يضمنه؛ فإن الضمان والأمرَ بالإرسال 5) مقترنان، والمتحلل
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ك): المسلم.
(3) في الأصل: المتجدد.
(4) في (ط): فليخرج، (ك): فلنجرّد.
(5) ما بين القوسين سقط من (ك).

(4/411)


في الصيد كالمتمسك بالإحرام. وحكى العراقيون وجهاً بعيداً أن الضمان لا يجب، وهذا مزيّف مع القطع بوجوب الإرسال.
فهذا ما أردنا أن نبينه في ملك المحرم الصيدَ دواماً وابتداء.
فرع:
2814 - إذا قلنا: للمحرم أن يشتري الصيدَ، ولو اشتراه ملكه، فله أن يبيعه أيضاًً (1 وإن منعناه من الشراء، ولم نصححه منه، نمنعه من 1) البيع أيضاً. وليس هذا (2) كتصرف الكافر في العبد المسلم، فإنا وإن منعناه من شرائه، لا نمنعه من بيعه من مسلم؛ والسبب فيه أن بيعه من المسلم يُزيل مادّة الاعتراض. وإذا امتنع عن بيع عبده الذي أسلم في يده، فإنّا نبيعه عليه من مسلم، فإذا فعل مانفعله، نفذ.
والمقصود في الصيد الإرسال ورفعُ اليد عنه، والمحرم ببيعه يورّطه في التقييد والضبط، فكان البيعُ في معنى الشراء.
ولا شك أن كل ذلك يتفرع على أن الإحرام لا ينافي الملك في الصيد.
2815 - ثم قال الأئمة: إذا باع المحرم صيداً أمرناه بإطلاقه، فإرساله مستحَق على المشتري، فإن استبعد الفقيه ذلك، فهو بمثابة تصحيحنا من المشتري شراءه، مع أمرنا إياه بالإرسال. ثم إذا أرسله المشتري بعدما قبضه، اتصل هذا بالتفريع في أن من اشترى عبداً مرتداً، وقبضه، ثم قُتل فىِ يده بردّته، فهو في [ضمانِ من؟] (3) وفيه اختلاف. ولعل الأوجهَ القطعُ هاهنا بأن إرساله من ضمان البائع وجهاً واحداًً؛ فإنا قد نقول في المرتد إذا قتل: إنه قتل لردةٍ حالّة، والخطَرَات تتجدد، حالاً على حال.
والسبب الذي نيط به وجوب الإرسال دائم، لا تجدد فيه.
ثم قال الأصحاب: لو تلف الصيد في يد المشتري، أو في يد من اشترى منه، وهكذا، كيف تناسخت الأيدي، فالضمان يجب على المحرم؛ فإنه المتسبب إلى إثبات هذه الأيدي. والسبب فيما يُضمن في اقتضاء الضمان كالمباشرة.
__________
(1) ما بين القوسين ذهب به بلل من (ك). وعبارة الأصل فيها سقط: هكذا: " فله أن يبيعه، وليس هذا كتصرف الكافر .... ".
(2) ساقطة من (ط).
(3) ساقط من الأصل.

(4/412)


فرع:
2816 - إذا قلنا: يجب على المحرم رفعُ اليد عن الصيد الذي كان في يده قبل الإحرام، فليسْع في ذلك، وأجمع الأئمة أنه لا يجب تقديم السعي على الإحرام، حتى نقول: [ليحزِرْ] (1) الوقتَ الذي يوافي الأمرُ بالإرسال فيه أهلَه، ولْيقدِّر الإحرامَ بعده، بل يبتدئ ذلك بعد الإحرام، فلو لم يقصر ولم يؤخر، ولكن اتفق موت ذلك [الصيد] (2) الذي هو تحت حكم يده، قبل اتصال الأمر بإرساله، فالمذهب وجوب الضمان. ومن أصحابنا من لم يضمّنه إذا لم يقصر.
فرع:
2817 - المحرم إذا نفّر صيداً، فتطلّق (3)، فهذا سبب منه قد يجر عليه ضماناً، فلو تطلق الصيد بتنفيره، ثم تعثر، وتكسر، وهلك، وجب الضمان. وقال الأئمة: المحرَّم المنَفَّر في عهدة تنفيره إلى أن يسكن الصيد، ويعود إلى ما كان عليه.
فلو هلك الصيد في نفاره لا بسبب النفار، ولكن بآفة سماوية، ففي الضمان وجهان: أحدهما - لا يجب؛ لأنه لم يهلك بسببٍ من المحرم، ولم يهلك أيضاًً تحت يده. ومن أصحابنا من جعل دوام آثار النِّفار كاليد المضمّنة، وهذا بعيد عن القياس، وإن كان مشهوراً في الحكاية.
فرع:
2818 - إذا أرسل المحرم كلباً ضارياً بالاصطياد، فاصطاد، ضمن المحرم. وكذلك لو أرسل جارحةً من جوارح الطير، ولا يتوقف وجوب الضمان على الإغراء، بل يكفي رفعُ الرباط.
ولو أغرى سبعاً بإنسان في متسع من الأرض، فسنذكر أنه إذا قتل السبعُ ذلك الإنسانَ، فلا ضمان على المغري. والفارق أن السباع لا [تضرَى] (4) بالناس ضراوتها بالصيود، حتى قال أصحابنا: لو فرضت الضراوة بالإنسان في بعض السباع، وجب الضمان.
__________
(1) حزر الشيء: قدّره بالتخمين. من بابي ضرب، وقتل. وفي (ط): ليحرزه (ك) ليحرر، وفي الأصل: ليحرّز.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) تطلّق: انطلق.
(4) في الأصل: تغرى.

(4/413)


ولو أرسل جارحةً، ولا صيد بالحضرة، ثم بدا صيدٌ، فقد ذكر الأئمة وجوبَ الضمان. وترددوا فيه إذا انحل الرباط عنها، حيث ينتسب المحرم إلى التقصير في ضبطها.
والمتبع في هذا الأصلِ أنا لا نقف وجوبَ الضمان على بلوغ الأمر مبلغاً يكون المحرم صائداً فيه؛ فإن الاصطياد لا يتم [إلا بالإغراء والإيساد .... ] (1)، وذلك ليس شرطاًً في الضمان، فرفع الرباط كاف، وفي التقصير ما ذكرناه من التردد.
ولو أفلتت الجارحة من غير تقصير، فالأظهر أن لا ضمان إذا أخذت صيداً.
فرع:
2819 - إذا كان بين رجلين صيد مشترك، فأحرم أحدهما دون الثاني، وقلنا: يجب على المحرم أن يرسل الصيد الذي كان تحت يده قبل الإحرام، فالإرسال غيرُ ممكن والصيد مشترك. فأقصى ما يتكلفه أن يرفع يد نفسه عنه، ولم يوجب الأصحاب عليه السعيَ في تحصيل الملك في نصيب الشريك، حتى إذا حصل أطلقه، ولكن ترددوا في أنه لو تلف هل يجب الضمان في حصته؛ من جهة أنه لم يتأت منه الوفاء بالإطلاق على ما ينبغي.
فصل
2820 - لا يجوز التعرض لصيد الحرم: حرم مكة، وإذا أتلفه المتلف، ضمنه، وإن كان حلالاً. ثم الصيد الحرمي يُضمن بما يَضمن به المحرم، كما تقدم، وللصوم مدخل في جزاء صيد الحرم عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2). ومذهبنا أن سبيل صيد
__________
(1) العبارة في نسخة الأصل هكذا: " الاصطياد يتم بالإغراء (وابساداً) " و (ك): " الاصطياد لا يتم إلا بالإغراء و (الاتساد) ". و (ط): " الاصطياد لا يتم إلا بالإغراء (أو يسار) ". وكلها فيها خلل، على تفاوتٍ في قدر هذا الخلل. والمثبت تصويبٌ منا للتصحيف الذي اعترى النسخ الثلاث، فقد تصحفت كلمة (الإيساد). وهي مصدر (آسَد) تقول: آسَدَ الصائدُ كلبَه بالصيد: إذا أغراه به وهيجه (المعجم).
(2) الذي رأيناه في كتب الأحناف أنهم يفرقون بين المحرم والحلال في جزاء الصيد، فيجعلون للصوم مدخلاً عند جزاء المحرم دون الحلال. (ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 216 مسألة=

(4/414)


الحرم (1) كسبيل الصيد في حق المحرم، في كل تفصيل.
ثم يثبت الحظر و [عهدته] (2) بسببين: أحدهما - بكون الصائد في الحرم، والآخر - بكون الصيد في الحرم. فلو رمى حلالٌ من الحِل صيداً في الحرم، ضمنه، وهذا ظاهر من جهة الصيد بالحرم، ولو وقف في الحرم ورمى صيداً في الحل، وجب الضمان، ولم يختلف الأئمة فيه، فالاصطياد في الحرم، كالاصطياد من الحرم.
ولو رمى سهماً، وكان في الحل، والصيد في الحل، فخرق السهم في مروقه وممره هواءَ طرفٍ من الحرم، ثم أصاب صيداً في الحل، ففي وجوب الضمان وجهان؛ لمكان اتصال السهم بالحرم.
ولو أرسل الحلال كلباً إلى صيدٍ في الحل، فلم يزل الصيد يروغ هارباً، حتى دخل الحرم، واتّبعه الكلب، فقد قال الأئمة: لا ضمان والحالة هذه، لأن موقفه وموقف الصيد كانا في الحل، ثم ما حدث من تحوّل الصيد إلى الحرم أمرٌ، لم يكن حالة وقوع [الفعل] (3)، والكلب حيوان ذو اختيار؛ فإذا دخل الحرم أضيف ذلك إليه.
ولو علم أن الصيد إذا هرب، فلا ممر له إلاّ الحرم، فأرسل الكلبَ والحالةُ هذه، فدخل الصيد الحرمَ، وجرى الأمر كما ذكرناه، وجب الضمان. ولو كان الأمر كذلك، ولم يعلمه الصائد، فالأمر كذلك فيما يتعلق بالضمان، ولكنه لا يأثم.
وأسباب الضمان في المتلفات لا تختلف بالعمد والخطأ. وقد ذكرنا أنا إن فرقنا بين الناسي والعامد في الطيب واللباس، فلا فرق في الإتلافات، وذكرنا فيه قولاً آخر، وقد وجدتُ قولاً محكيّاً عن حَرْملة، عن الشافعي: أنا نعذر متلف الصيد بما نعذر به المتطيّب. وهذا فيما أظنه في حق المحرم.
__________
=685، الأصل: 2/ 367، مختصر الطحاوي: 70، 71، المبسوط: 4/ 84، 97، البدائع: 2/ 207، البحر: 3/ 31، 40، حاشية ابن عابدين: 2/ 220، اللباب: 1/ 212، 217).
(1) عبارة الأصل: أن سبيل الصيد كسبيل الصيد.
(2) في الأصل: وعدته.
(3) سقطت من الأصل.

(4/415)


فأما الصيد الحرميّ، فيجب القطع فيه بوجوب الضمان، فإنه ليس يضمن لعبادة، حتى يُقضَى بأن النسيان (1 يؤثر فيها، فليُضمن الصيد الحرمي ضمان أموال الناس، في الغصوب والعواري 1).
2821 - ونص الشافعي على مسألتين، فقال: لو اصطاد الحلال حمامة في الحل، وكان لها فرخٌ في الحرم، فضاع الفرخ بهذا السبب، وجب الضمان، وهو في حكم الرمي من الحل إلى الحرم. وقال: لو أخذ حمامةً في الحرم، ولها فرخ في الحل، ضمن الحمامة وفرخَها: أما الحمامة، فمأخوذة في الحرم، وأما ضمان الفرخ، فسببه يضاهي الرمي من الحرم إلى الحل.
ولو نفّر صيداً حرمياً، فقد تعرض للعهدة، فلو استمر النفار، حتى خرج من الحرم، وتكسر في الحل، وجب الضمان، بلا خلاف. ثم قال الأئمة: يدومُ التعرض للعُهدة، حتى يسكن نِفاره، كما قدمناه في حق المحرم. قال الصيدلانيّ: حتى يعود إلى الحرم. وهذا أراه زلّة؛ فليس عليه أن يسعى في ردّه إلى الحرم، ولا يتعرض بسبب خروجه للضمان.
ولو قتل المحرم صيداً حرمياً، لم يتضعّف الضمان، وإن تعدد سببه.
ولو أدخل الحرمَ صيداً مملوكاً، لم يتحرم الصيد بالحرم، وكان حكمه في حق مالكه حكمَ بهيمةٍ من النّعم، خلافاً لأبي حنيفة (2). والإحرام في هذه الخصلة آكد من الحرم، (4 فإن طريانَ الإحرام على الصيد المملوك يقْصُِر (3) يدَ المالك عنه، والكلام في وجوب الإرسال، وزوال الملك 4) في الحرم (5) لا يؤثر عندنا كما ذكرنا.
فهذا قولنا في صيد الحرم.
__________
(1) ما بين القوسين مما ذهب به البلل في (ك).
(2) ر. المبسوط: 4/ 98، البدائع: 2/ 206، حاشية ابن عابدين: 2/ 220.
(3) من باب قتل، وضرب.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ك).
(5) " في الحرم " سقط من (ط).

(4/416)


2822 - فأما أشجارها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة عام الفتح: " لا يُعْضَدُ شجرُها، ولا ينفّر صيدُها، ولا يختلى خلاها، ولا تحِل لقطتُها، إلا لمنشد " (1)، فلم يختلف علماؤنا في أن الأشجار الحَرَمية، كما سنصفها يحرمُ عضدُها والتعرضُ لها، بما ينقُصُها.
ثم ظاهر المذهب أن الأشجار الحرمية إذا عُضِدَت ضُمنت.
2823 - والكلام في فصولٍ: أحدها - في صفات الأشجار المضمونة.
فالذي رأيت طرق الأصحاب عليه أن المضمون هي الأشجار البريّة، التي تنبت [بأنفسها] (2) من غير قصد آدمي، فأما الأشجار المثمرة التي ينبتها الناس، فلا ضمان فيها، والبرّيات مشبهة بالصيود، والأشجار المستنبتة مشبهة بالنَّعم. ثم المثمرة منها كالنخيل والكروم وغيرها، وغير المثمرة: كالصنوبر، والعَرْعَرْ، والفِرْصاد (3) والخِلاف. والأشجار البرّية كالعوسج، والطَرفاء، والأراك، والعَضاة. ونحوها.
ثم ما ذهب إليه الأصحاب أن الأشجار البرية إذا استنبتت، فهي مضمونة بجنسها، والأشجار التي تستنبت لو نبتت بأنفسها وفاقاً، لم تضمن لجنسها. وقال صاحب التلخيص: الاعتبار بالقصد، لا بالجنس، فما استنبت، لم يُضمن، وما نبت بنفسه، ضُمن، من غير نظر إلى الجنس.
قال أئمتنا: لا خلاف أن من أدخل نواةً الحرم، أو قضيباً حِلِّياً وغرسه في الحرم، فَعَلِق وبَسَق، لم يصر شجرةً حرمية، (4 وسبيلها سبيلُ الصيد المملوك يدخل الحرم. ولو أخرج قضيباً حرمياً من الحرم، وغرسه في الحل، فهو شجرةٌ حرمية 4) نظراً إلى أصلها.
وهذا فيه تردد عندي ظاهر.
__________
(1) حديث: " لا يعضد شجرها " متفق عليه (ر. البخاري: الجنائز، باب الإذخر والحشيش في القبر، ح 1349، وأطرافه كثيرة، مسلم: الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها، ح 1355،1353).
(2) ساقطة من الأصل.
(3) الفِرصاد في لسان الفقهاء: الشجر الذي يحمل التوت. (المصباح).
(4) ما بين القوسين ساقط من (ك).

(4/417)


وابن القاص (1) إذا كان يعتبر (2) القصدَ، فلا يثبت الحرمة لهذه الشجرة في الحرم؛ من جهة تعلق القصد بها، فما الظن إذا غرست في الحل؟
(3 فهذا قولنا في أجناس الأشجار 3).
2824 - ثم قال الشافعي: في الدوحة الكبيرة الحرمية بقرةٌ، وفي التي تقصر عنها شاةٌ. قال: قلته تقليداً لابن الزبير.
وللشافعي قول في القديم مشهور: إن الأشجار الحرمية لا تُضمن أصلاً، وإنما يُضمن ذو روح، وليس في الأشجار إلا تحريمُ العضدِ، والتنقيصِ، كما ذكرناه.
ثم إذا فرعنا على ظاهر المذهب، فالجريان على مذهب ابن الزبير، ففي الشجرة الكبيرة التي هي من أكبر أشجار الحرم بقرة، ولم يقع التعرض للبدَنة، ولكنا لا نشك أن البدنة في معنى البقرة.
وأما إيجاب الشاة، فليس في الشجرة الصغيرة، التي فيها الشاة ضبط يُهتدى إليه.
ولعل أقربَ قولٍ فيه أن تكون قريبةً من جنس الكبار، والشاةُ من البقرة سُبعها، فليَعتبر المعتبر هذا التقريب، بين الدوحة، وبين شجرة الشاة. وإن كانت صغيرةً جداً، فالقيمةُ مصروفةٌ إلى الطعام. ثم الصيامُ معدَّل بالطعام، كما ذكرناه في الصيد.
وكما لا تعضد أشجار الحرم لا يختلى خلاها. وحشيشها مضمون بالقيمة، إذا اختليت، كما ذكرناه في الأشجار الصغار.
2825 - وأما البهائم، فإنها ترسل حتى ترعى من رعْي الحرم وكلئه. وقال بعضُ علمائنا: سبب المنع من الاحتشاش والاختلاء توفير المراعي للبهائم والصيود الراتعة، واختلف أصحابنا في أن من اختلى واحتش ليعلف بهائمه، فهل يحرم ذلك؟ فمنهم من قال: لا تحريم، ولا ضمان، وإنما يحرم الاختلاء للبيع، وغيره من الأغراض، سوى العلف.
__________
(1) هو صاحب التلخيص، الذي يناقَش قولُه الآن.
(2) (ط): لا يعتبر.
(3) ساقط من (ك) ومن الأصل.

(4/418)


ومن أئمتنا من حرم الاختلاء مطلقاً؛ لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يختلى خلاها " والوجهان ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص.
ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى الإذخر من حشيش الحرم، وجوّز قطعَه، والحديث فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يختلى خلاها " قال العباس: إلا الإذخر، فإنها لقبورنا، وبيوتنا، وقُيُوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر (1).
فلو مست الحاجة إلى شيء من كلأ الحرم في دواء. فهل يجوز قطعه؛ تشبيهاً بالإذخر؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ في شرح التلخيص.
2826 - ثم صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن قطع أشجار [حرم] (2) المدينة، والاصطياد فيه، وقال: " حرمت ما بين لابتيها " (3) فيحرم التعرض لصيد المدينة، وشجرها، ثم إذا وقع التعرض، فمن أصحابنا من قال: لا ضمان أصلاً، وإنما الفاعل عاصٍ. ومنهم من قال: يجب الضمان.
ثم قد ورد أن من تعرض للصيد سُلبت ثيابه، ثم ما حكم سَلَبه؟ اختلف أصحابنا على ثلاثة أوجه: منهم من قال: هو للسالب، لما روي أن سعداً رضي الله عنه سلب ثيابَ إنسان، اصطاد في حرم المدينة، فبعث إليه الوالي في ردّه، فقال: " ما كنت لأرد شيئاً نفّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4).
__________
(1) حديث: "إلا الإذخر" متفق عليه وسبق تخريجه.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) حديث: " حرمت ما بين لابتيها " متفق عليه من حديث أبي هريرة، ومسلم من حديث سعد، وجابر، ورافع بن خديج (ر. البخاري: فضائل المدينة، باب حرم المدينة، ح 1869، مسلم: الحج، باب فضل المدينة، ح 1361، 1362، 1363، 1372).
(4) حديث سلب سعد ثياب من اصطاد في المدينة. رواه مسلم، وأبو داود، والحاكم، والبيهقي (ر. مسلم: الحج، باب فضل المدينة، ح 1364، أبو داود: المناسك، باب في تحريم المدينة، ح 2037، مستدرك الحاكم: 1/ 486، البيهقي: 5/ 199، التلخيص: 2/ 532 ح 1104).

(4/419)


ومن أصحابنا من قال: هو موضوع في بيت المال، وسبيله سبيل السهم المُرْصَدِ للمصالح.
وذكر العراقيون وجهاً آخر: أنه يفرق السلب على محاويج المدينة، قاطنين كانوا أو عابرين، على قياس جزاء صيدِ الحرم.
وذكر بعض أصحابنا أن الواجب في صيد المدينةِ، وشجرِها، كالواجب في حرم مكة.
2827 - ومما يتعلق بذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيد وَجّ الطائف، وعضَدِ شجرِها، والتعرض لكلئها. قال صاحب التلخيص: من فعل شيئاً من ذلك أدبه الحاكم، ولم يلزمه شيء، قلته تخريجاً (1). قال الشيخ (2): التحريم في وَج متردد، فلعله كراهية، فإن ثبت التحريم، فالضمان محتمل، ثم سبيله إن ثبت الضمان، كسبيل المدينة.
(3 والذي اشتهر من قول الأصحاب نفيُ الضمان؛ فإن إثباتَه من غير ثَبَتٍ بعيدٌ، وهذا هو الذي قطع به الأئمة في الطرق 3) وإنما ترددوا في التحريم، والكراهية.
2828 - ثم قال ابن القاص: والنَّقيع (4) حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقصد تحريمَ صيده، ولكن قصد منعَ كلئه من غير الجهات التي عيّنها. وقيل: كان حماه للصدقات. ثم قال: ومن تعرض لحشيش النقيع فهل يضمنه؟ فيه وجهان:
__________
(1) ر. التلخيص لابن القاص: 276.
(2) الشيخ: هو أبو علي السنجي شارح التلخيص، وليس ابن القاص كما قد يتوهّم.
(3) ما بين القوسين سقط من (ك).
(4) في (ك): البقيع، وكذا في التلخيص لابن القاصّ، وهو وهمٌ، فقد ظن ناسخ (ك)، ومن ادعى تحقيق التلخيص، ظنّا أن المراد هو البقيع المشهور، مقبرة أهل المدينة منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مشهور معروف، ومعروف أيضاً أنه ليس به عشب ولا كلأ، فكيف يُحمى؟ ولكن المقصود هنا هو (النقيع) وهو موضع كثير العشب والكلأ على مسافة عشرين فرسخاً من المدينة، حماه الرسول صلى الله عليه وسلم لإبل الصدقة، ومن بعده عمر بن الخطاب. وهو بالنون المشددة المفتوحة (هذا الصواب في ضبطه). انظر معجم البلدان لياقوت: مادة (ن ق ي ع).

(4/420)


أظهرهما الضمان. ثم يضمن (1 بالقيمة، ولا سَلَبَ، كما تقدم في المدينة، ومنهم من قال: لا ضمان أصلاً. وأشجار النقيع هل تحرم كما 1) يحرم الحشيش، فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - أنه لا يحرم كما لا يحرم الصيد؛ فإن النقيع إنما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان كلئه وحشيشه.
فرع:
2829 - إذا أبحنا السَّلَبَ في حرم المدينة، فالمعني بالسَّلَب الثيابُ، ولا ينحو بهذا نحو سلب القتيل في الجهاد.
ولو كان مع المسلوب شيء، من جنس الحلي فهل هو من جملة ما يسلب؟
اختلف أصحابنا فيه. ثم إذا كان يسلب فما عندي أنه يُفْصل بين صيد وصيد، وشجر وشجر، وكأن السلب في حكم المعاقبة للمتعاطي. وغالب ظني أن الذي يهمّ بالصيد لا يسلب حتى يصطاد، ولست أدري أيسلب إذا أرسل الصيدَ، أم ذلك إذا أُتلف؟ كل ذلك محتمل، ولا ثبَت معنا في توقيفٍ، ولا قياس.
...
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ك).

(4/421)


باب جزاء الطائر (1)
2830 - أوجب طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في الحمامة في حق المحرم، والحمامةِ الحرميّة شاةً، روي ذلك عن عمرَ، وعثمانَ، وابنِ عباس، وابنِ عمرَ، وغيرِهم (2).
ثم الطيور تنقسم -بعد الحمام- إلى قسمين: قسم هو أصغر من الحمام، كالعصفور وغيرِه، فالواجب قيمتُه مصروفةً إلى الطعام. والقسم الثاني - ما [هو] (3) مثلُ الحمام في الجثة، أو أكبرُ منه، ففيه قولان: أحدهما - أن الواجب شاةٌ كالحمامة. والثاني - أن الواجب القيمة، كما ذكرناه في العصافير، وغيرِها؛ فإنّ إيجاب الشاة لا يُحمل إلاّ على الاتباع الذي لا مجال للقياس فيه، ثم الحمام صغار وكبار، فكل ما عبّ وهَدَرَ، فهو حمام، منها: اليمام، والفواخت، والقُمريّ، والدُّبْسي والقطا، وغيرُها.
والجرادُ تعتبر قيمته، وهو ملحق بصغار ما يطير، وروي أن عمر سأل كعبَ بنَ عُجْرة عن جرادةٍ قتلها: ما جعلتَ في نفسك قال: درهم. فقال عمر: " بخٍ درهمٌ خيرٌ من مائة جرادة " (4)، وروي عن عمرَ أنه قال: " في جرادة تمرةٌ " (5). وقال ابن
__________
(1) ك: الصيد.
(2) انظر تلك الروايات في الأم: 2/ 195، والكبرى للبيهقي: 5/ 205، 206، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 543، 544.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) أثر عمر رضي الله عنه عندما سأل كعبَ بن عجرة، رواه الشافعي في الأم وفيه (درهمان) بدلاً من (درهم). (ر. الأم: 2/ 196، 197، التلخيص: 2/ 545).
(5) أثر عمر: " في جرادة تمرة ". رواه مالك وعبد الرزاق والبيهقي (ر. الموطأ: 1/ 416 ح 236، مصنف عبد الرزاق: 4/ 410 ح 8246، البيهقي: 5/ 182).

(4/422)


عباس: " تصدق بقبضةِ طعامٍ، إذا أخذتَ قبضةً من جرادات " (1).
وقد روي خبر يدل على إسقاط الضمان في الجراد، قال أبو هريرة: " كلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبلنا سرب من الجراد، فكنا نضربه بالسوط، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو من صيد البحر " (2) وهذا دليل على أنه لا يُضمن.
ولكن لم يصر إلى ظاهر هذا الحديث أحد من أصحابنا.
ولو طمّ الجرادُ المسالكَ، واضطررنا إلى وطئها، فما يتلَف منها هل يُضمن أم لا؟ فعلى وجهين وقد قدمنا ذكرَ هذا، ويمكن حملُ حديث أبي هريرةَ على الوجهين. والأشبه أنه صلى الله عليه وسلم كان يُجري في خلقة الجراد حديثاً، فأنبأهم أن أصل الجراد من صيد البحر، وقيل إنها من (3 خرء السمك.
ولو صال 3) صيد على محرم، فدفعه، وأتى دفعُه عليه، فلا ضمان عليه أصلاً.
فرع:
2831 - (5 المحرم إذا قصده لص على حمار وحش، ولم يتأت له دفعُ اللص إلا بقتل مركوبه، فهل يضمنه؟ ذكر القفال قولين: أحدهما - أن الغرامة تتوجه على اللص، ولا يطالَب بها المحرم. والثاني - أن الطَّلِبَة (4) تتوجه على المحرم 5) ثم إذا غرم يرجع بما غرم؛ فإن الحلال يبعد أن يغرَم صيداً ابتداء.
وكذلك ذكر قولين في أن من ركب دابةً مغصوبة، وقصد إنساناً فقُتلت الدابةُ في ضرورة الدفع، فأحد القولين أن الغرامة تتوجه على راكب الدابة، ولا طَلِبَة على
__________
(1) أثر ابن عباس: " تصدق بقبضةٍ من طعام ". رواه الشافعي بسند صحيح (ر. الأم: 2/ 196، 197، التلخيص: 2/ 545).
(2) حديث أبي هريرة: " استقبلنا سرب من الجراد " رواه أبو داود: المناسك، باب الجراد للمحرم، ح 1854، والترمذي: الحج، باب ما جاء في صيد البحر للمحرم، ح 850، وابن ماجه: الصيد، باب صيد الحيتان والجراد، ح 3222، والبيهقي: 5/ 207 (وضعفه)، وأحمد: (2/ 306، 364، 407) قال في الإرواء: ضعيف (4/ 220 ح 1031).
(3) ما بين القوسين امحى من (ك).
(4) الطَّلبة: وزان كلمة.
(5) ما بين القوسين ذهب من أطراف (ك).

(4/423)


الدافع. والثاني - أن الطَّلِبَة تتوجه على الدافع أيضاً، ثم إذا غَرِم يرجع بما غَرِم، وبين ما ذكره في المحرم، وبين ما ذكره في الغاصب فرقٌ ظاهر في الحكم؛ فإن الحلال على أحد القولين لا يغرَم الصيدَ، ولكن يرجع المحرم عليه إذا غرم. وفي مسألة الغصب تتوجه الطَّلِبةُ على الغاصب قولاً واحداًً. وإنما الكلام في قرار الضمان كما سبق.
فرع:
2832 - إذا نحّى المحرم من هوامّ رأسه شيئاً، فلا يلزمه شيء في ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من قال: يلزمه؛ ولا محمل له إلا إزالة الشعث.
ثم لا مقدار لما يخرجه. وكان شيخي يقول: أقل ما يسمى طعاماً، ولا يجب في إزالته من الثوب شيء، لما ذكرناه من معنى الشعث.
فصل
2833 - إذا كسر المحرمُ بيضةً مأكولة، فلا يلتزم قيمتَها، فإن كانت مَذِرة، فاسدة، فلا قيمة لها، ولا ضمان. ولو كسر بيضةً للنعامة مذِرة، فلا شيء، ولو قدرت قيمة، فهي لنقشر، وليس ذلك مضموناً، كما لا يضمن الرّيش المنفصل من الطائر.
وإن كان قد ظهر فرخٌ ذو روح، ضمنه بطريقه كما يُضمن الفرخ.
ولو نفّر المحرم طائراً عن بيضه الذي كان يحضُنه، ففسد البيض، ضمن البيضَ بما ذكرناه.
***

(4/424)


باب ما للمحرم قتله
2834 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خمس من الفواسق يُقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب، والحدأة، والعقرب، والكلب العقور " (1). ووردت الفأرة بدلاً من العقرب. أما القول فيما يُضمن، وفيما لا يُضمن، فقد مضى، وأوضحنا أن ما كان حراماً في جنسه، لم يضمن بالإحرام، ولا بالحرم، ومقصود هذا الباب بيان ما يجوز قتلُه، وما لا يجوز قتله.
فأما المؤذيات، فهي مقتولة أين صودفت، ومنها السباع، وقال أبو حنيفة (2) لا يحل قتل الأسد والذئب والنَمِر ما [لم] (3) يَصُل، وعنده يجب الجزاء بقتله على المحرم.
وأما ما لا يؤذي من الطيور المحرّمة، فمن أصحابنا من حرّم قتلها، فإن ذا الروح لا يقتل إلا لغرضٍ ظاهر أو (4) دفع أذى. ومن أصحابنا من لم يزد على الكراهية في قتلها.
والحشرات المؤذية مقتولة، وما لا يؤذي منها، فلا تجريم، وأقصى ما يذكر فيها الكراهية. وكان شيخي يقول: لا كراهية في دفعها للتعذر، وإن أدى إلى هلاكها.
والأمر في ذلك قريب.
__________
(1) حديث: " خمس من الفواسق " متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ح 1829، مسلم: الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، ح 1198، التلخيص: 2/ 523 ح 1093).
(2) ر. المبسوط: 4/ 90، البدائع: 2/ 197، حاشية ابن عابدين: 2/ 219، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 121 مسألة: 595.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: و.

(4/425)


2835 - وقد نجز في القول (1 الصيد. وأغفلنا 1) صورتين اختلفنا فيهما وأبو حنيفة:
أحدهما - إذا اشترك جماعة في قتل صيد، فلا تلزم إلا (2 فدية واحدة مفضوضة عليهم 2) خلافاً لأبي حنيفة (3). والغالب عندنا في جزاء الصيد مَشَابِه (4) الغرامات (5 والدليل عليه أنه يجب في 5) بعض الصيد بعضُ الجزاء؛ اعتباراً بالقيمة والأبدال، (6 بخلاف الكفارات، ولو قتل جماعة رجلاً، وجب على كل واحد منهم كفارة. فإن الكفارة (6) لا تتبعض، ولا تتعلق بالأبعاض.
2835/م- المسألة الأخرى- عندنا لا يجب على القارن إذا قتل صيداً إلا دم واحد، خلافاً لأبي حنيفة (7). والخلاف جار بيننا في جميع المحظورات.
...
__________
(1) ما بين القوسين سقط بسبب البلل من (ك).
(2) ما بين القوسين مغسول من (ك).
(3) ر. مختصر الطحاوي: 71، المبسوط: 4/ 81، رؤوس المسائل. مسألة 158، فتح القدير: 2/ 472. البدائع: 2/ 208، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 220 مسألة 689.
(4) في (ط): مثابة. والمشابه: بفتح الميم جمع شَبه على غير قياس. (المعجم).
(5) ما بين القوسين ذهب من أطراف (ك).
(6) بياض في (ك). ما بين القوسين.
(7) ر. مختصر الطحاوي: 71، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 220 مسألة: 689.

(4/426)


باب الإحصار
2836 - المحرم إذا صدّه العدوّ على ما سنصف الصدَّ، تحلل، قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [البقرة: 196].
ومضمون الباب تحويه فصول: أولها - في السبب الذي يثبت التحللَ.
فإذا اعترض للحجيج الأعداء، وصدوهم عن الكعبة، من جميع الجهات، فهذا هو الصدّ المتفق عليه، ثم إذا كان المانعون مسلمين، واقتدر الحجيج على [مكاوحتهم] (1)، فلا يلزمهم ذلك. وإذا كانوا لا يتخلصون إلا بقتالٍ، فهم مصدودون.
وإن كانوا لا يتخلصون إلا ببذل مالٍ، فهم محصورون مصدودون. قال الشافعي: لو احتاج الحجيج إلى بذل درهم، وهو صاحب آلاف، وكان لا ينجلي الحصر إلا ببذل شيء، فلا يجب بذلُه، ويجوز التحلل.
ولو كان الذين لقوا الحجيج مشركين، فقد قال بعض المصنفين: إذا كان المسلمون على الحد الذي لا يجوز الفرار معه، ولم يزد الكفار على الضعف، يجب مصادمة الكفار، ولا يجوز التحلل.
وهذا كلام مختلط، وقد نص الأئمة في الطرق، على جواز التحلل، سواء كان
__________
(1) في الأصل، (ك): مكافحتهم. والمكاوحة هي الأقرب، والمعهود في استعمال إمام الحرمين. ومعناها: المقاتلة والغلبة. فهي أبلغ من المقاتلة والمكافحة.

(4/427)


الأعداء مسلمين أو مشركين؛ فإن الحجيج لا يكونون على أُهَب القتال، في أغلب الأحوال، فلا يجب القتال لذلك، وقد لا يسوغ؛ إذا منعنا الاستقتال، كما سيأتي في كتاب الجهاد إن شاء الله تعالى.
فإن كان الحجيج متأهبين للقتال، وقد صدمهم الكفار، فلا فرار إذاً، إذا تجمعت الشرائط المعتبرة في تحريم الفرار. وإذا تعين الاشتغال بالقتال، فلا معنى للانصراف، ولا سبيل إلى التحلل إذا امتنع الانصراف.
هذا التفصيل لا بد منه.
ولو أحاط الأعداء بالحجيج من الجوانب، فهل يجوز التحلل والحالة هذه، فعلى قولين: أحدهما - لا يجوز، فإنهم لا يستفيدون بالتحلل أمراً، وإذا لم يكن من لُقيان العدوّ بدّ، فمصابرة الإحرام محتومة.
والقول الثاني - يجوز التحلل؛ فإنهم ممنوعون عن صوب الكعبة، والحصر متعلق بالمنع منها، فإن فرضت محنة في جهة أخرى، فلا التفات إليها.
2837 - وأما المرض فليس من أسباب التحلل عند الشافعي. ولو أحرم المرء، وشرط أنه إذا مرض مرضاً ثقيلاً تحلل، ففي جواز التحلل عند المرض قولان: المنصوص عليه في الجديد أنه لا يجوز التحلل؛ فإن ما لا يفيد التحلل بنفسه، فيبعد أن يُفيد الشرط فيه (1 تحللاً، مع اختصاص الحج عن العبادات بمزيد التأكد 1)، والبعد عن التحلل.
ونص في القديم على أنه (2 يجوز التحلل إذا جرى الشرط كذلك، لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضُباعة [الهاشمية] (2)، لما ذكرت ما بها من سقم، ورامت التخلف عام حجة الوداع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهلي واشترطي أن مَحِلّي حيث حبستني " ويتجه حمل الحديث على أمرها بالإهلال،
__________
(1) ما بين القوسين، مما ذهب من أطراف (ك).
(2) في الأصول: الأسلمية. وهو وهم نبّه عليه النووي في " تهذيبه ": 2/ 376، وحديث ضباعة متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (اللؤلؤ والمرجان: ح 754).

(4/428)


وإعلامها أن مَحِلَّها حيث تتوفى، فكأنه قال لها: أهلي فإن حبسك أجلُك، فكل نفس تذوق الموت 1).
ثم إذا جوزنا التحللَ عند المرض بسبب الشرط، فلو جرى هذا الشرطُ في سببٍ آخر، مثل أن يقول: إن ضللت الطريق، أو بلغني أمر مهم، واقتضى الحال تداركَه بالانصراف، تحللت، فالذي كان يقطع به شيخي أن الشرط لاغٍ، ولا يجوز التحلل، والقول القديم مختص بالمرض؛ فإن المتبع فيه الخبر، والأقيسة لا تجول في هذه المضايق.
وقطع العراقيون أقوالهم: [إن الشرط في كل مُهِمٍّ يحل مَحَلَّ المرض الثقيل، يخرّج على القولين] (2) المذكورين في المرض.
ولو قال الذي يُحرم: إذا مرضت، انحل إحرامي، فلم يشترط إنشاء التحلل، بل شرط الانحلال، والتفريع على القول القديم، فقد اختلف أئمتنا في ذلك، فمنهم من ألغى [هذا] (3) الشرط؛ فإنه ليس على مضاهاة التحلل الثابت عند الإحصار.
والإحرامُ بالحج لا يقبل التأقيت.
فإذا كان الحج لا يفسد، فليفسد الشرط، وليسقط أثره.
ومن أصحابنا من قال: يثبت هذا الشرط كما شرط، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " واشترطي أن مَحِلِّي حيث حبستني " هذا مشعر في ظاهره بالانحلال، من غير إنشاء.
2838 - ومما يتعلق بذكر الأسباب أن الحصر إذا كان عامَّاً، فهو الذي يُثبت التحلل، وليس المعنيُّ بالعموم أن يعم الأقطار، وجميعَ الآتين من جميع الجهات، ولكن إذا تحقق الحصر في طائفةٍ ذوي عددٍ، فهذا حصرٌ (4) مثبت للتحلل وفاقاً.
والحصر الخاص هو أن يتعرض ظالمٌ لواحد، أو لشرذمةٍ من جميع الحجيج،
__________
(1) ما بين القوسين ذهب من أطراف (ك) للسبب نفسه.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) مزيدة من (ط)، (ك).
(4) سقطت من (ك).

(4/429)


فيمنعهم، فإذا تُصوّر الحصر الخاص، فالذي ذكره الأئمة من المراوزة أن القول مختلِف في ثبوت حكم التحلل.
وذكر العراقيون طريقة هي أمثل (1) من ذلك، فقالوا: كل حصر يُثبت التحللَ، خاصّاً كان أو عاماً. ولكن إن كان عاماً، سقط القضاء، وإن كان التحلل بسبب خاص، ففي سقوط القضاء قولان.
فإن قيل: كيف يطّرد للمراوزة ذكر القولين في جواز التحلل، مع إجماع الأصحاب على أن العبد إذا أحرم بغير إذن مولاه، فمنعه المولى، فله التحلل. وهذا حصرٌ خاص؟ قلنا: الانفصال من هذا ممكن، وهو أن العبد اقترن بإحرامه ما يسلّط المولى على حَلّه، وهذا المعنى لا يتحقق في منعٍ يطرأ من ظالمٍ على المحرم؛ فإن ذلك مسبوق بتأكد الإحرام، وليس [العام] (2) عام الصد، والآية نزلت في الصد على الحجيج. والأوجه طريقة العراقيين.
2839 - ومما يتعلق بهذا أن من جوز التحلل عند المرض إذا تقدم الشرط، ذكر وجهين في أن الدم هل يلزم عند التحلل؟ أحد الوجهين - يلزم كما يلزم المصدود بالعدوّ. والثاني - لا يلزم؛ فإنَّ تحلل المريض وفاءٌ بالشرط، فلا نوجب الدمَ، وتحلل المصدود بالعدوّ ليس مرتباً على حكم شرط، بل هو طارئ بعد لزوم الإحرام مطلقاً.
فإن قيل: لو شرط المحرم أن يتحلل (3 عن صد العدو، فما القول 3) فيه؟ فهل يؤثر الشرط؟ قلنا: اختلف الأصحاب، فمنهم من قال: يُؤثِّر؛ حتى يُخرَّجَ لزوم الدم
__________
(1) (ك): مثل.
(2) في الأصل: للعلم. والمثبت من (ط)، (ك) وكأن في العبارة شيئاً؛ فالمعنى المقصود بالسياق: إن المحرم لم يكن يتوقع أنه سيلقى الصدّ.
(3) ذهب ما بين القوسين من أطراف (ك).
وفي الورقات الأربع الباقية من نسخة (ك) كثر فيها أثر البلل حتى وصل بالتدريج إلى ربع الصفحة تقريباً. ولذا لن نشير إلى ذلك، وسنحاول طبعاً الاستعانة بكل سطرٍ أو جملة يمكن قراءتها.

(4/430)


على أحد (1) الوجهين. ومنهم من قال: لا يؤثر؛ وهو الأصح، لأن ما ذكره بالشرط ثابت، فلا أثر للشرط. وإذا سقط أثره، لغا.
فإذا لاح أسباب التحلل.
فالفصل الثاني
بعده وهو استفتاح [كلام] (2) وإتمام ما مضى.
2840 - فنتكلم في سقوط القضاء عن المحصر، ونذكر صورَ الوفاق والخلاف.
فإذا أحرم الرجل، ولم يأت بنسك سوى الإحرام، فصُدّ على ما تُصوّر الصدّ، فإن تحلل، فلا قضاء. وإنما يظهر هذا إذا كان الحج تطوعاً، فإنه إن كان فرضاً، عاد إلى ما كان عليه قبل الشروع، ووضوح ذلك مغنٍ عن كشفه.
ولو صُدّ عن طريقٍ، وأمكنه سلوك طريقٍ آخر على الشرط المرعي في الاستطاعة، وكان لا ييئس من إدراك الحج، فليس له التحلل، والحالة هذه؛ فإنه غير مصدود عن الكعبة، وإنما صدّ عن طريق، فإذا مال إلى الطريق الآخر، ولم يأل جهداً، ففاته الحج، والحجّ تطوّع، فقد تقدم أن من فاته الحج، يلزمه أن يلقَى البيتَ؛ فإن ذلك ممكن.
ثم في وجوب القضاء قولان: أحدهما - يجب القضاء لمكان الفوات. والثاني - لا قضاء؛ فإنَّ سبب الفوات ما جرى من الصد عن الطريق القاصد. ولا شك أن هذه المسألةَ مفروضةٌ فيه إذا كان السبيلُ الذي مال إليه أطولَ وأشطَّ، أو أعسرَ وأشقَّ. وإذا كان الطريقان متساويين في كل معنى، فهذا فوات محض، ويجب القضاء فيه لا محالة.
ولو وقف الحاج بعرفة، فصدّ عن البيت، فله التحلل، ولا نقول له: صابر؛ فإن ما بعد الوقوف لا يفوت.
__________
(1) سقطت من (ط).
(2) في الأصل: كلامه.

(4/431)


فإذا تحلل، ذكر صاحب التقريب قولين في وجوب القضاء، وإن لم يتحقق فواتٌ. وقطع العراقيون بأن القضاء لا يجب.
والذي راعاه صاحب التقريب في طرد القولين، وتمييز صور القطع، أن قال: إذا لم يجر قبل الحصر إلا الإحرام المحض، ثم تحلل المحصر، فلا قضاء، وإن جرى مع الإحرام نسك، ثم فرض الصدّ والتحلل، ففي القضاء قولان.
وقال العراقيون: المصدود عن البيت إذا تحلل بعذر الإحصار، لم يقضِ قولاً واحداًً. ومن قدر على لُقيان البيت، وصُدَّ عن عرفة، ولم يُتمّ -لأجل الصد- حجَّه، ففي القضاء قولان. والواقف بعرفة إذا صُدّ عن البيت ممنوع عن لقاء البيت، فإذا تحلل، لم يلزمه [القضاء] (1) لكونه مصدوداً.
2841 - ولا يحصل عندي شفاء الصدر بهذا. والوجه أن نقول:
الفوات في وضعه يوجب القضاء، والإحصار لا يوجب. فإذا تجرد الفوات، ولم يكن الإحصار سبباً فيه، وجب القضاء. وإذا كان التحلل بمحض الإحصار ولم يتقدّمه سبب يوجب القضاء، فلا قضاء.
وبيان ذلك أنه لو أفسد الحج، فأمرناه بالمضي في الفاسد، فلقيه العدو، وصدّه، فله التحلل، وعليه القضاء بالفساد المتقدم.
والمسائل كلها في حج التطوع، حتى يظهر القول في القضاء.
[و] (2) في هذه المسألة يتصور وجوب القضاء، وإقامةُ القضاء في سنةٍ واحدة، فإن من أفسد الحج قبل الوقوف، فصد، فتحلل، وانجلى الحصر، فلو أحرم وقضى أمكن ذلك. ولولا تخلل الحصر، وما ترتب عليه، لما تُصور هذا.
ولو جرى فوات سببه الحصر، فقد اشترك الفوات والحصر، فيختلف القول.
2842 - ومما يتم به الغرض أن المحصرَ لو لم يتحلل، وصابر، ودام الحصر، حتى فات الحج، فلأصحابنا طريقان في هذه المسألة:
__________
(1) في الأصل: دم.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).

(4/432)


منهم من قطع بأن الحج إذا فات بمصابرته، يلزمه القضاء قولاً واحداًً؛ فإنه كان يمكنه ألا يصابر، ولو تحلل، لما تصوّر الفوات، فكأنه قصد التسبب إلى الفوات، وليس كما لو سلك طريقاً بعيداً؛ فإن الصد عن جميع الطرق لم يتحقق في تلك الصورة، والصد في هذه الصورة عمّ الطرقَ، فكانت مصابرتُه سبباً في جلب الفوات.
ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان، فإنه يمكن حمل مصابرته على رجاء انجلاء الحصر، فعُذِر لذلك، والحصر قائم، وصاحب الفوات إنما يلتزم القضاء لانتسابه إلى طرف من التقصير، الذي ينسب إلى مثله كل مخطىء.
فهذا بيان ما أردناه.
2843 - ومما يتصل بذلك أن من وقف بعرفة، ثم صُدّ بعده، فتحلل، ثم انجلى الحصر، ففي البناء وإمكانه ما قدمناه. فإن لم نره، فهذا من المسائل المقدّمة، فالعراقيون يقطعون بنفي القضاء. وصاحب التقريب يجعل المسألة على قولين لتأكد الإحرام بالنسك الأعظم.
وما ذكره العراقيون أمثل؛ فإن هذا تحلل بالحصر المحض. وإن رأينا البناء، [فلْيَبْن، فلو لم يبن] (1)، ولم يعد مع إمكانه، ففي القضاء وجهان: أحدهما - لا قضاء؛ فإن الحج كان تطوعاً، وقد تحلل. والثاني - يلزمه القضاء؛ فإنه في التمكن من البناء (2 إذا قصر 2) منتسبٌ إلى ترك الممكن (3). وقد يتجه أن نقول: هل يجب البناء أم لا؟ أخذاً مما ذكرناه.
2844 - ومما نصوره أن المحرم بالحج إذا فاته الحجة، ثم اعترض له من يصده، فله التحلل بعذر الصدّ، ويستفيد بذلك قطعَ الإحرام في الحال، حتى لا يحتاج إلى لقاء البيت، وقطعِ المسافةِ إليه. ثم القضاء لازم في هذه الحالة؛ من جهة أن الفوات
__________
(1) عبارة الأصل: " فلئن لم يبن ".
(2) ما بين القوسين ساقط من (ط).
(3) (ط): التمكن.

(4/433)


الموجب للقضاء تقدم على الحصر، ولم يقع بسبب الحصر؛ فكان تقدّم الفوات بمثابة تقدم الفساد.
وقد ذكرنا أن من أفسد حجه بالجماع، وألزمناه المضي، فإذا أحصر تحلل، ثم القضاء واجب، كما مضى.
2845 - ثم حكى صاحب التقريب عن ابن سريج أنه قال: إذا فاتت الحجةُ، ثم تحقق الإحصار والتحلل بسببه؛ فيلزمه دمان: أحدهما - دم الفوات، والثاني - دم الإحصار. وهذا الذي ذكره منقاس؛ فإن سببي الدَّمَيْن قد تحققا، أما الفوات، فلا شك فيه، والتحلل بالإحصار وقع، وأفاد الخلاص من ربط الإحرام، وهما مختلفان، وأثرهما يجري على مقتضى التناقض؛ فإن من فاته الحج لا يتخلص من الإحرام ويقضي. ومن أُحصر يتخلص ولا يقضي.
وذكر صاحب التقريب خبطاً في كتابه مشعراً بأنه لم يقف على كلام ابن سريج، فلا معنى لذكره، وقد يحمل [ما] (1) في الكلام من الخبط على خلل النسخة.
2846 - واختلف أئمتنا في أن دم القِران هل يندرج تحت دم الإفساد؟ وسبب ذلك أن القارن لم يستفد من تخفيف القِران أمراً إذا أُفسد عليه، فكان ذلك محمولاً على هذا. على أن الأصح وجوبُ الدمين أيضاً، ولست أرى لمخالفة ابن سريج وجهاً فيما صورته.
فأمّا الفصل الثالث
فمضمونه الكلامُ في صفة دم الإحصار، والقولُ في بدله، وإبداءُ حقيقته ووضعه. وهذا الفصل يتعلق منتهاه ببيان ما تقدم، كما [سَننبّه] (2) عليه.
2847 - فأما دم الإحصار، فدم شاةٍ، قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي} [البقرة: 196]. هذه الصيغة منزلة على دم شاة؛ فإنها أقل مراتب الهدايا. ثم
__________
(1) مزيدة من (ط)، (ك).
(2) في الأصل، وفي (ك): " سنبينه ". والمثبت من (ط).

(4/434)


اختلف قول الشافعي في أن دمَ الإحصار هل له بدل أم لا؟ فقال في أحد القولين: له بدل اعتباراً بجميع دماء الجبرانات. وقال في [القول] (1) الثاني: لا بدل له، فإن الدماء التي جرى لها ذكر في كتاب الله تعالى -وهي ذات أبدال- اشتمل الكتاب على ذكر أبدالها جملة، وتفصيلاً، وهي جزاء الصيد، وفدية الأذى، ودم التمتع. ولما ذكر الله تعالى دم الإحصار، لم يذكر له بدلاً، وسنبين في تفصيل الكلام مخالفةَ دمِ الإحصار لما عداه من الدماء.
التفريع على القولين:
2848 - إن قلنا: لا بدل لدم الإحصار، فلا كلام. وإن قلنا: له بدل، ففيه ثلاثة أقوال:
أحدها - أن بدله كبدل دم الإساءة، فإنه في مقابلة ترك النسك، ودم الإحصار في مقابلة التحلل عن النسك قبل أوانه.
والقول الثاني - أن بدله كبدل دم الحِلاق، من حيث إن الحالق يكفّ الأذى، والمحصر بالتحلل يؤثر الخلاصَ مما هو فيه، إن علم أن الإحرام ليس [يفيده] (2) المقصودَ مع (3) جريان الصد.
والقول الثالث - أن بدله كبدل دم التمتع.
فهذا بيان القول في كيفية الدم وبدلِه.
2849 - ثم نذكر وراء ذلك تحقيقاً مطلوباً، وفيه بيان أصلٍ مستقل، وهو منعطِفٌ على تمام البيان فيما تقدم، فنقول:
المحصر يتحلل، فإن كان يريق الدمَ، فمتى يريقه؟ وبماذا يحصل التحلل؟ للشافعي أولاً قولان: أحد القولين - أنه لا يتحلل قبل الإراقة. والقول الثاني - إنه يتحلل قبل الإراقة إن أراد ذلك.
__________
(1) في الأصل: القديم الثاني.
(2) في الأصل: يقيّده. (وهو تصحيف واضح).
(3) في الأصل: وهو مع (بزيادة: وهو).

(4/435)


والذي يجب التنبه له أن دم الإحصار إذا أجريناه على قياس الدماء، فهو دم جبران، وسببه التحلل عن الإحرام قبل أوانه، فإذا (1) كان كذلك، تعذر ربط (2) التحلل بإراقة الدم؛ فإن الإراقة موجَبُ التحلل، فليتصور تحلّلٌ موجِب لها اعتباراً بكل موجِب وموجَب في الكفارات، ثم لو وفَّيْنا هذا الأصلَ حقَّه، لجعلنا تقديمَ الإراقة على التحلل، بمثابة تقديم فدية الأذى على الحلق. وفي جواز ذلك وجهان، ذكرناهما فيما سبق.
فهذا على تشبيه دم الإحصار بدماء الجبرانات.
ولكن التحلل عن الإحرام من غير سببٍ مشكلٌ، وأسباب [التحلل] (3) كلُّها ممتنعة في حق المحصر، فأُثبت الدمُ في إفادة التحلل حالاًّ محلَّ أسباب التحلل، في حق المستمر على نظم النسك من غير صدّ.
ولا ينبغي أن يُعتقد أن دم الإحصار بدلٌ عما صُدَّ المحصرُ عنه؛ فإنه مصدود عن الأركان في الحج، والأركان لا بدل لها. ولو كان الدم بدلاً، لوجب أن يقال: الشارع في حج الإسلام إذا صدّ، فتحلل، يسقط عنه فرض الإسلام؛ لأنا نحل الدم محل ما تعذر. وليس الأمر كذلك.
فالوجه على هذا القول أن نقول: الدم سبب تحلّل في حق المحصر المضطر، يفيد ما (4) تفيده أسباب التحلل، فإذا وقع التنبه لما ذكرناه، ولأجله غمض القول في بدل الدم، فيجب وراء ذلك تنزيل القولين على ما ذكرناه. فمن ألحق دم الإحصار بدماء الجبرانات، قال بتقدم التحلل عليه، وإنما يجب لسبب التحلل، فعلى هذا التحلُّلُ السابقُ على إراقة الدم لا يحصل بفعلٍ من الأفعال.
2850 - وقد يبتدر فهمُ بعض الناس إلى أن التحلل يقع بالحلق، وليس الأمر كذلك؛ فإن القول وإن اختلف في أن الحلق هل هو نسك أم لا في أوان التحلل في
__________
(1) (ط) وإذا.
(2) (ك) بطء.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ك): ما لا تفيده.

(4/436)


النسك الجاري على النظام، لم يختلف القول في أنه ليس نسكاً في حق المحصر. وإذا كان كذلك، فلا تحلل إلا بالقصد الجازم، شبّب (1) بما ذكرناه أئمتنا، وصرح به العراقيون، فإذا تحلل بالنية أراق الدم.
ولكن مع هذا لم يختلفوا في أن تقديم الإراقة جائز، وخالفوا قياس دماء الجبرانات، حتى لم يذكروا خلافاً في إيجاب تأخير الإراقة على قياس دماء الجبرانات.
وبالجملة إذا أعضل شيء [و] (2) خرج عن قياس الباب، لم يتمحض للمضطربين فيه قول. (3 هذا بيان هذا القول 3).
2851 - ومن لم يحصّل التحلّلَ دون (4) الإراقة، في حق المتمكن منها، جعل إراقة الدم سببَ التحلل في هذا المقام؛ من حيث بَعُدَ عنده التحلل بمجرد القصد من غير فعل، فالدم يفيد من التحلل ما يفيده أسباب التحلل في التخلص من الإحرام في حق المستمر على نظم النسك.
ثم [السَّبْر] (5) التام في هذا القول: أن نفسَ الإراقة لا تكون تحللاً بلا خلاف؛ فإن المحصرَ لو أراق الدمَ، ولم يقصد التحلّلَ، لم يتحلل، فالقصد بمجرده لا يحلّل، والإراقة بمجردها لا تحلّل، فهي إذن مخالفةٌ للتحلل الذي يقع على نظم النسك، في حق من ليس مصدوداً، من جهة أن تيك الأسباب إذا جرت، كان التحلل في حكم انتهاء العبادة نهايتَها، وبلوغها تمامَها. وهذا المعنى لا يتحقق في دم الإحصار؛ فإن التحلل هاهنا قاطعٌ لدوام الإحرام، على خلاف نظام [التمام] (6)، فلا بد من الجمع بين الإراقة والقصد.
__________
(1) شبب: أي نوّهوا به، وبحسنه، وجودته. وهذا اللفظ معهود في لغة إمام الحرمين.
(2) مزيدة من (ط)، (ك).
(3) ما بين القوسين سقط من (ط)، وأما (ك)، فقد ذهب منها نحو نصف صفحة في هذا الموضع.
(4) أي قبل الإراقة.
(5) (ط)، (ك): السرّ.
(6) في الأصل: النظام، و (ك) دوام التمام.

(4/437)


هذا حقيقة القولين.
2852 - ثم نقول وراء ذلك: إن لم يجد المحصر دماً، فكيف التحلل؟ وما الوجه؟ هذا يتفرع على أن دمَ الإحصار هل له بدل أم لا؟ فإن قلنا: لا بدل له، فرّعنا الأمر على أن التحلل في حق واجد الدم، يقع بماذا؟ فإن قلنا: يقع التحلل بالقصد المجرد، والإراقة بعد التحلل تقع، فليتحلل إذا لم يجد بالقصد، ثم لينتظر وجدان الدم.
وإن قلنا: لا يحصل التحلل دون الإراقة في حق واجد الدم، فهل يحصل التحلل بالقصد المجرد في حق الفاقد؟ فعلى قولين: أحدُ القولين - لا يحصل التحلل دون إراقة الدم، فليصابر المحرم إحرامَه إلى أن يجد دماً. والقول الثاني - أنه يتحلل بالقصد المجرد عند فقد الدم.
وإن فرعنا على أنه لابد من الإراقة عند التمكن منها؛ لأن مبنى تحلل الإحصار على التخفيف، وتكليفُه مصابرةَ الإحرام إلى وجدان الدم تكليف عسر، يناقض وضع الشرع في التحلل المرتب على الإحصار.
هذا إذا قلنا: لا بدل لدم الإحصار.
فأما إذا جعلنا له بدلاً، [فما كان مالاً منه على بعض] (1) الأقوال، فترتيب المذهب فيه في الوجود والعدم، كترتيبه في الدم، غيرَ أن المرعي في الدم الإراقة، والمرعيُّ في الصدقات التسليم إلى المستحق.
فإن قدرنا بدل الدم صوماً، فإن قلنا: لا يتوقف [التحلل على الإراقة مع إمكانها، فلأن لا يتوقف] (2) على الصوم مع امتداد الزمان فيه أولى. وإن قلنا: يتوقف التحلل على الإراقة عند الإمكان، فهل يتوقف على الصوم؟ فعلى قولين. والفاصل في نظم
__________
(1) بياضٌ بالأصل.
(2) ساقط من الأصل.

(4/438)


الترتيب أن الإراقة لا يطول زمانها في حق المتمكن منها، والصوم يطول زمانه، ويعسر استصحاب الإحرام معه.
فهذا تمام القول في الحصر وحكمه وما يتعلق به من فدية، وتنزيلُ الفدية منزلتها، وبيان سقوط القضاء عند تمحض الإحصار، وتفصيل القول في امتزاج الفوات بالإحصار. والآن نذكر بعد ذلك تفصيلَ القول في حصر السيد عبدَه المحرم، وحصرِ الزوج زوجتَه. وقد عقد الشافعي باباً فيه.
***

(4/439)


باب حصر العبد يحرم بغير إذن سيده
2853 - العبد إذا أحرم بغير إذن سيده، انعقد إحرامه، وأطلق أصحابنا أن للسيد أن يحلله، وسنذكر شرح ذلك.
ولو أحرم العبد بإذن مولاه، ثم بدا للسيد أن يمنعه عن المضي في إحرامه، لم يكن له ذلك عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1).
2854 - والزوجة المستطيعة إذا أرادت أن تحج [حجة] (2) [الإسلام] (3) من غير إذن زوجها، فهل للزوج منعُها؟ فعلى قولين: أحدهما - له منعها؛ فإن حقه عليها ناجز على الفور، والحج على التراخي، فلا يجوز تقديم ما مبناه على التأخير على حقٍّ مبناه على الفور.
والقول الثاني - ليس للزوج منعُها؛ فإنا إذا سلطناه على ذلك، أفضى إلى خلو عمرها عن الحج؛ فإنها مهما تهم به، منعها الزوج، ولا يجوز إخراج الحج عن العمر (4)، وذكر الأئمة وجهين في أن الزوج لو أراد أن يمنع زوجته، عَن إقامة فريضة [الصلاة] (5) في أول الوقت، فهل له ذلك؟ والحج أولى بأن لا يُمنع منه؛ فإن الصلاة مؤقتة، والقلب يرتبط بوقتها على ثقةٍ في العادة وصدق رجاء، وما يناط بالعمر، فهو على إبهام. وقد ذكرنا هذا في كتاب الصلاة، ولهذا الفرقِ مال الفقهاء إلى أن من أخر الصلاة إلى وسط الوقت ومات، لم يلق الله عاصياً، على ظاهر
المذهب عندهم. ومن مات بعد استمرار الاستطاعة، ولم يحج، لقي الله عاصياً.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 72، بدائع الصنائع: 2/ 176.
(2) زيادة من (ط).
(3) زيادة منّا على ضوء السياق. والعبارة بكاملها تقع ضمن الأسطر التي ذهبت من (ك).
(4) في (ط): العمرة.
(5) ساقطة من الأصل وحدها.

(4/440)


وفي هذا كلامُ يتعلق بالأصول، وليس من غرضنا ذكره الآن.
فإن قلنا: لا يملك الزوج منعَ المرأة من حج الإسلام وحملِها على تأخيره، فإذا أحرمت، لم يحللها.
وإن قلنا: يملك منعَها، فإذا أحرمت ملكَ تحليلَها.
هذا في فرض الإسلام.
2855 - فأما حج التطوع، فليس للمرأة أن تخرج لأجله، وتترك حقوق الزوج الواجبة، بسبب التطوع، والزوجُ يمنعها لا محالة، فإن أحرمت، فهل يملك الزوج تحليلَها؟ قال الأئمة: في المسألة: قولان: [أحدهما - لا يملك،] (1) ووجهه أن الإحرام وإن كان تطوّعاً، فإذا تحقق الشروع فيه، لزم وتأكد، والتحق بالقول بترتيب الواجبات.
[والرأي] (2) عندنا في هذا أن نقول: هي ممنوعة من الخروج، لتُحرم بحجة التطوع من ميقاتها، وإذا نجّزت الإحرام، فقولان، وفي منعها من الخروج لحج الإسلام قولان، فإن نجزت الإحرام بحجة الإسلام، ففي جواز التحليل قولان، مرتبان على المنع، فإن الإقدام على الإحرام على التراخي، فاتجه تقديم حق الزوج عليه لتنجّزه وتعجّله، وإذا لابست الإحرام، بطل معنى إمكان التأخير، وتعارض حق الله سبحانه وتعالى الناجز، وحق الزوج.
فهذا لابد من التنبه له.
ولكن تسليطَنا السيدَ على تحليل عبده المحرم بغير إذنه يقدح فيما أشرنا إليه بعضَ القدح.
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق. (حيث سقطت من النسخ الثلاث. ويترجح عندي أنه ليس هناك سقط، انما هو إيجازٌ بالحذف، وله نماذج مماثلة فيما مرّ علينا، وفيما يستقبلنا، ان لم يبلغ هذا المبلغ.
وكما ترى لم يذكر القول المقابل؛ لأنه مفهوم، والفريع عليه منقطع، وكأنه قال: وإن قلنا: له تحليلها، فلا كلام).
(2) في الأصل: والذي، والمثبت من (ط)، (ك).

(4/441)


2856 - ونحن نذكر تفصيل المذهب في العبد. ثم ننعطف على ذكر الزوجة.
فأما العبد إذا أحرم بغير إذن مولاه، فللسيد أن يمنعه من المضي في إحرامه وفاقاً، وأطلق أئمتنا تحليلَ السيد إياه، وهو مَجَازٌ بلا خلاف فيه؛ فإن التحلل لا يحصل إلاّ من جهة العبد، ولو أراد السيد تحصيله، دون العبد لم يجد إليه سبيلاً عندنا. وقال أبو حنيفة (1): يقع التحليل بفعل من السيد: فإن أحرمت أمةٌ، وطئها السيد قاصداً تحليلها، فينحلّ الإحرام. وإن أحرم عبدٌ، طيَّبَه، أو حلق شعره، أو ألبسه مَخيطاً على قصد التحلل. وهذا سهوٌ عظيم.
واتفق الأئمة على أن التحلل يقع من جهة العبد، وليس للسيد إلا منعُه من المضي، واستخدامُه في الجهات التي كان يستخدمه فيها.
ثم إن أراد العبد التحلّلَ، وهو ممنوع من المضي بمولاه، تفرّع الأمر على تحلل الحرّ، فإن قلنا: إنه يتحلل من غير إراقةٍ، فالعبد بذلك أولى. وإن قلنا: لا يتحلل الحر إلا بإراقة الدم، وإن لم يجد الدم صابرَ إحرامَه إلى أن يجد، ففا حكم العبد؟.
اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأن العبد يتحلل من غير دم، وليقع هذا التفريع على أن دم الإحصار لا بدل له، والعبد لا يملك، وإن ملك، فبهذا التصوير يظهر غرضُنا في تحقيق العسر.
وعنده (2) اختلف الطرق، فالذي قطع به الصيدلاني أنه يتحلل، ولا يصابر الإحرامَ؛ فإن وجدان الدم في حقه يتوقف على العتق، وليس هذا أمراً ينتظر (3)، ويربط الترتيب فيه، فيؤدي إلى عسرٍ لا يحتمل مثله في الشرع.
ومن أصحابنا من قال: يخرّج الأمر فيه على القولين المذكورين في الحر المعسر: فإن قلنا: إنه يصابر إحرامَه، صابر العبد إحرامَه، غيرَ أن المعسرَ ينتظر الغنى، والعبد ينتظر العتقَ. والأصح الطريقةُ الأولى.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 72، بدائع الصنائع: 2/ 176.
(2) أي عند تحقق العسر.
(3) في النسخ الثلاث: " أمر " بالرفع، ولما أعرف له وجهاً.

(4/442)


ومن تمام القول في هذا أنا إذا قلنا: إن العبد يملك بالتمليك، فلو ملكه مولاه شاةً، وأذن له في صرفها إلى دم الإحصار، فليفعل، وليتحلل، على الترتيب المقدّم.
2857 - [و] (1) إذا اتصل الكلام بهذا، فلابد من ذكر جميع ما يتعلق به.
قال الشافعي رضي الله عنه: إذا تمتع العبد بإذن مولاه، وقلنا: إنه لا يملك بالتمليك، فلو مات العبد، وأخرج السيد عنه دماً، قال: وقع الدمُ موقعَه (2).
وهذا مشكلٌ، فإن الدم كان (3) لا يقع الموقع في حياته، إذ التفريع على أنه لا يملك إذا مُلِّك، والموت يزيد في التصرفات عُسراً. ولكن لم أر أحداً من الأصحاب يخالف النصَّ. وإذا لم نجد خلافاً ننقله، فأقصى ما نعوّل عليه احتمالٌ نذكره.
ومن أنكر احتمال خلاف النص، فقد جحد؛ فإن النافذ من الإنسان بعد وفاته على تقدير النفوذ عنه في حياته يقع (4)، حتى كأن بقايا تصرفاته من آثار حياته.
ولكن الممكن في توجيه النص أن الميت يبعُد تمليكه حراً كان أو عبداً، ثم نَفَذَ التصرفُ عن الحر بلا خلاف، فيقع إخراج السيد عن عبده هذا الموقع، وهو من عبده على أخص الأسباب.
وهذا مشكل.
2858 - وكل ما ذكرناه على أن دم الإحصار لا بدل له، فإن أثبتنا للدم بدلاً، فالقول في توقف (5) تحلل العبد على البدل إذا كان صوماً، كالقول في الحر من غير فرق.
فهذا بيان ما أردناه.
__________
(1) الواو زيادة من (ط).
(2) ر. الأم: 2/ 96.
(3) (ط): الذي.
(4) يقع: جملة فعلية خبر (فإن النافذ).
(5) في الأصل، (ك): توقيف.

(4/443)


ثم الكلام في الزوج والزوجة كالكلام في المولى والعبد، غير أن الزوجةَ الحرةَ يحصوّر منها التوصّل إلى الدم فيترتب (1) أمرها على موجَب أمر المحصر الحرّ.
2859 - وختامُ الكلام في ذلك كله، أنا إذا قلنا: الزوجة ممنوعة من المضي، وقد أحرمت، ثم لم نُعلِّق تحليلَها باختيار الزوج، وإنما ملكناه منعها من الخروج، فكيف السبيل في استمتاع الزوج بها؟ وكذلك القول في الأمة، قطج الصيدلاني جوابَه بأنه يستمتع بها، فإن كان مأثمٌ، فعليها.
وهذا فيه نظر، من جهة أن المُحرمة محرّمةٌ لحق الله تعالى. [كالمعتدة] (2) ...
[ .. فيحتمل أن يحرم على الزوج والسيد الاستمتاعُ، والقول في ذلك يطول، وسنذكر في ربع النكاح إن شاء الله تعالى] (3) تقسيمَ القول في الصفات المحرِّمة، وكونَها في المُقْدم أو في المحلّ. وقد نجز بذلك (4) [الكلام في حصر العبد والزوجة] (5)
...
__________
(1) هذا آخر الموجود من نسخة (ط)، وهذا ما جاء في خاتمتها، ما نصه: " قد انتهى نسخ ما وجد من الجزء السادس من نهاية المطلب بقلم الفقير إلى الله تعالى عبده محمود حمدي على ذمة الحسيب النسيب الحبر البحر الفهامة والعالم العلامة حضرة السيد أحمد بيك الحسيني، وكان الفراغ منه موافقاً يوم الخميس المبارك الموافق ثامن عشر شهر شعبان المكرم سنة 1330 ثلاثين وثلاثمائة وألف من هجرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين ".
(2) ساقطة من الأصل، وقدرناه على ضوء المفهوم من مختصر النهاية لابن أبي عصرون. حيث ذهبت من (ك) فيما ذهب.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، والمثبت من (ك) وقد امّحى قبله قدر كلمة هي التي أثبتناها من المختصر. ثم بدأ من هنا سقط في ذيل ص287، ثم من رأس ص 288 من نسخة (ك).
(4) من هنا بدأ خرم في نسخة الأصل. وترتب على هذا اضطراب فيما بقي من كتاب الحج، وسنحاول ستدراك ما يمكن على ضوء ما بقي من نسخة الأصل، ومن أطراف الصفحات من نسخة (ك). ومن مخطوطة مختصر ابن أبي عصرون.
(5) تقديرٌ منا على ضوء السياق والسباق.

(4/444)


[باب] [ما جاء في الأيام المعلومات والمعدودات] (1)
" ........ "
...
__________
(1) عنوان هذا الباب مأخوذ من مختصر النهاية لابن أبي عصرون، ومختصر العز بن عبد السلام وواضح أنه ليس تحته كثير كلام، فهو لا يستغرق أكثر من أربعة أسطر من مسطرة نسخة (ك) وهذا واضح تماماً من المساحة التي أصابها البلل.
وقد اختصره ابن أبي عصرون على هذا النحو:
" ذكر الله تعالى الأيامَ المعلومات في آية، والأيامَ المعدودات في آية أخرى.
فالمعلومات عندنا العشرُ من ذي الحجة، والمعدودات أيام التشريق " ا. هـ بنصه.

(4/445)


[باب] [نذر الهدي] (1)
" ........ " (2)
2860 - [هذا الباب له اختصاص] (3) بأحكام الضحايا، ولو خضنا فيها على شرط هذا الكتاب، لاحتجنا إلى ذكر معظم أحكام [كتابها] (4). وشرطنا في هذا المجموع اجتناب المكررات جهدنا. فالذي نراه ألا نذكر في هذا الباب إلا ما نرى له تعلّقاً بالمناسك.
فأما الهدي مطلقاً، وتبرراً، وملتزَماً، ومعيناً، فلا تعلّق له به. والقول في التطوّع من الضحايا، وما يحل الأكل منه، وما لا يحل، وما يختلف [فيه] (5)، فالتفصيل في تعين الحيوان، وثبوت أحكام التعين. كل ذلك أصول من كتاب الضحايا، فنقتصر على ما نرى له اختصاصاً بالمناسك، وتعلُّقاً به، فنقول:
2861 - من نذر لله هدياً، فالملتزَم بهذا اللفظ فيه قولان: أحدهما - أنه منزل على أقل دم مجزىء، وهو دم شاة على الصفات المرعية فيها.
والثاني - أن الملتزَمَ التصدّقُ بأقل ما يسمى مالاً؛ فإن الهدي من الهدية، وهي عطية، وذلك يبتني على أن مطلق النذر يحمل على أقل موجَبٍ في اللسان، أو على مأخذ الشريعة.
__________
(1) عنوان هذا الباب مأخوذ أيضاً من مختصري النهاية. حيث وقع ضمن الخرم من نسخة الأصل، وضمن أطراف الصفحات التي أصابها البلل من نسخة (ك).
(2) الذي ذهب من أول هذا الباب رؤوس وأطراف الكلمات من السطر الأول، وسنبذل جهدنا في قراءة هذه الكلمات، وتقدير ما لا يمكن قراءته.
(3) تقديرٌ ما على ضوء السياق. وبدأ بعد المعقفين الموجود من نسخة (ك).
(4) تقديرٌ منا.
(5) تقديرٌ منا.

(4/446)


وكان شيخي يقول: يجب تبليغُ الملتزَم مكةَ؛ فإن الهدي مشعر به. ثم قال أئمتنا على قول التبليغ: إن قال: جعلت هذا المال هدياً، فمؤنة تبليغه من عينه، وإن قال: لله عليّ أن أهدي هذا، فيلزمه مؤنةُ التبليغ، ولْيوصِّل ذلك المالَ بجملته إلى مكة، وهذا رمز أيضاًً، وسأعود إليه إن شاء الله تعالى، في كتاب النذور على أبلغ وجهٍ في البيان.
2862 - ثم قال: إن كان الهدي بدنةً أو بقرة، قلّدها نعلين، وأشعرها، فالتقليد والإشعار في البُدن والبقر مشروعان، ولا يتأتى في الشاة إن استاقها إلا التقليد، ثم [نُؤثر له التصدقَ بجِلالها] (1) وما قُلّدت إذا بلغ المحِل. وسيعود هذا.
2863 - ثم قال: يجوز أن يشترك السبعة في البدنة، وهذا من [خصائص أحكام الضحايا] (2)، وذكر القفال فيه كلاماً حسناً يتعلق بما نحن فيه، فقال: السُّبُع من البدنة في القرابين والهدايا يحل محلّ [الشاة إلا في حكم واحد] (3) وهو أنا إذا أوجبنا في الضبع شاةً، لم يقم سُبُع بدنة مقامها؛ فإن المرعي في جزاء الصيد المِثْليّة [الخِلْقية، ولهذا يُجزئ في] (4) ذلك الباب ما يخالف قياس الضحايا؛ فإنا نخرج الصغار، والمعيبة، والعشر من بدنة [والجزء من الشاة] (5).
[وهذه الهدايا ما كان] (6) منها تطوّعاً، أُكل منه.
2864 - والتفصيل فيما يحل الأكل منه وما لا يحل (7) [من الهدايا، والنذور، والضحايا يأتي مفصلاً مستقصىً في كتاب الضحايا، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) تقديرٌ منا بمساعدة مختصر ابن أبي عصرون، وبعض أطراف الحروف التي بقيت من (ك).
هذا. والجلال بالكسر جمعُ (جُلّ) بالضم، وهو للدابة كالثياب للإنسان (المصباح).
(2) من مختصر ابن أبي عصرون. بنصه.
(3) من المختصر بنصه.
(4) من المختصر.
(5) بنص المختصر.
(6) تقدير ما.
(7) هذا ما بقي من (ك) بعد ذهاب البلل بربع الصفحة، مع زيادة عدة كلمات منَّا على ضوء السياق. وبهذا بدأ سقطٌ آخر في (ك).

(4/447)


وغرض هذا الفصل الكلام فيما يتعلق بالناسك.
فإذا ساق هدياً فمحله الحرم، وظاهر المذهب أنه يجوز الأكل منه في مَحِلّه.
فإن عطب في الطريق أراق دمه، وكان هذا مَحِلَّه، وأباحه للمساكين، وقال الشافعي: لا يحلّ لمن ساقه الأكلُ منه، ولا للمختصين به من الرفقة؛ لأنهم متهمون في إعطابه، ويباح للفقراء من الرفقة غير المختصين به، ولكن ظاهر نص الشافعي أنه لا يجوز له، ولا لأحد من الرفقة، أغنياء كانوا أو فقراء؛ لمحل التهمة] (1)
(2) [هذا غرض الفصل، أما أحكام الضحايا وما يؤكل منها، وتقييد] أو إطلاق القدر. ثم تعيين هذا عن تلك الجهة. فالمذهب في ذلك مضطرب، ولكن جميعه ينتظم في الضحية، وقدر الغرض المنع من الأكل قبل المحل، كما ذكرناه.
وليعلم الناظر أن ذلك مفروض في الذي قيل فيه: جعلته هدياً، فإنه لو فرض نذرٌ لوجوب سابق، فيضطرب القول في ذلك.
2865 - ثم دم الجبرانات لا وقت في ذبحها، وإنما التأقيت في الضحايا والهدايا المتطوّع بها، أو المنذورة.
وجملة (3) دماء الجبرانات محلها الحرم كما تفصَّل، إلا في حق المصدود، فإن محِل الدماء محِلّه. وكذلك محِل دم الإحصار، خلافاً لأبي حنيفة.
فهذا ما رأيناه متعلقاً بالنسك، وليُطلب تمام البيان، وشفاء الصدور، من كتاب الضحايا.
2866 - ثم إذا عطبت بهيمة مهداة في الصورة التي ذكرناها، فينبغي أن تذبح أو تنحر، ثم يُلْطَخُ بدمها جنبُها، وذلك علامة يستدل بها المارّ على أنه هدي مأكول.
__________
(1) هذه الأسطر مزاج بين كلمات وأطراف كلمات من مختصر النهاية مع تلخيصٍ للمسألة من المجموع للنووي: 8/ 370.
(2) هذا أول الموجود من نسخة الأصل، بعد الخرم الذي أشرنا إليه آنفاً. وهو صفحة واحدة وجه واحد من الورقة.
(3) عادت هنا نسخة (ك) بعد أن ضاع منها ما ضاع بسبب البلل، وأشرنا إليه في التعليق الذي يسبق هذا برقمٍ واحد.

(4/448)


وهل يجوز الاكتفاء بهذه العلامة في الإقدام على الأكل؟ فيه قولان: أحدهما - يجوز، وعليه يدل سِيَرُ السلف. والثاني - لابدّ من لفظٍ؛ فإن لحم الهدي لا يحل لكل من يجده، وإنما هو لمن يسلمه المهدي إليه. فإن أراد التعميم، فليقل: ليأكله من مرّ به، ويمكن إشاعة هذا في منزلٍ، أو غيره، في المدة التي لا يفسد اللحم فيها.
فهذا منتهى المراد. والله المستعان، وعليه التُّكلان (1)، (2).
...
__________
(1) هذا آخر نسخة الأصل، وخاتمتها، لم تزد على ذلك.
(2) جاء في خاتمة نسخة (ك) ما نصه: " فهذا منتهى المراد والله أعلم والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين.
يتلوه إن شاء الله تعالى في المجلد الثالث بمعونة الله وحسن توفيقه ..
كتاب البيع.
الأصل في البيع الكتاب والسنة والإجماع.
. . . تم نسخه بحمد الله في مساء يوم الخميس سابع شهر رجب المبارك شهر الله. . . . . . رجب الفرد سنة ثمان. . . وستمائة
. . العبد الفقير الراجي رحمة الله الكريم أحمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي. . . بالجامع الأعلى بحماه المحروسة عمره الله تعالى بالإسلام.

(4/449)