نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الشركة
4316 - لا يصح من الشِّرَك إلا شركة العِنان، وأبعد من أجاز شركة الأبدان، وهي الاشتراك في الصنائع والأعمال، وشركةُ الوجوه، كالقراض الفاسد، وهي أن يكون لأحدهما مال، وللآخر خبرة بالتجارة ووجهٌ عند التجار، فيشتركان على أن يكون المال من أحدهما والعمل من الآخر، ولا يسلم إليه المال.
وشركة المفاوضة أن يتشاركا في الغرم والغنم من غير خلط في المال.
وتجوز شركة العنان بالنقدين، وفي غيرهما من العروض وجهان، والفتوى بالصحة.
ولا خلاف أنها لا تتم إلا بخلط المال بشيوعٍ حكمي، أو خلط حسّي، لا يمكن معه التمييز في الحس والعِيان، فلا يتأتى ذلك بين الصحيح والمكسر، والعتيق والحادث، والمختلف النقوش والألوان، وإن تعذر التمييز لكثرة المخالط. فإن اختلف الجنس، فلا شركة، كالسمسم مع الكتان.
وإن اتحد الجنس واختلف النوع: كالبرّ الأصفر مع الأحمر، فوجهان: والأوجه المنع.
وإن استوى عرْضان في الوصف والقيمة، والْتبس أحدهما بالآخر التباساً مأيوس الزوال، فلا شركة (1).
__________
(1) عبارة الرافعي والنووي عن هذه الصورة أكثر وضوحاً؛ حيث قالا: "ولو كان لهما ثوبان اشتبها، والتبسا عليهما، لم يكلف ذلك لعقد الشركة؛ فإن المالين متميزان، لكن أبهم الأمر بينهما". (ر. الشرح الكبير -بحاشية المجموع- 10/ 412، روضة الطالبين: 4/ 278).

(7/23)


فصل
فيما يشترط في شركة العنان
4317 - حقيقة الشركة اختلاط المال، ويشترط الإذن في التصرف من الجانبين، أو من أحدهما، فإن كان الإذن من أحدهما، فللآخر أن يتصرف في نصيب نفسه، وهل يملكان التصرف بقولهما: "اشتركنا"؟ فيه وجهان. ولا يشترط التساوي في قدر المال، خلافاً للأنماطي، وفي اشتراط علمهما بقدر المالين وجهان. وشرط العلماء في الشركة أن تعقد بعد اختلاط المال، فإن تقدم العقد على الخلط، لم يصح إذا وقع الخلط بعده. وفيما قالوه نظر؛ لأن إذنهما توكيل من الطرفين، فإن علقاه على الخلط، خرج على تعليق التوكيل. وإن نجزاه، فالوجه القطع بصحته واستمراره إلى ما بعد الخلط، إلا أن يشترطا إفراد كل واحد من النصيبين بالتصرف.
فرع:
4318 - إذا كان التصرف من الجانبين، لم يشترط انفراد أحدهما باليد، وإن كان من أحدهما، فوجهان، بناهما الإمام على الخلاف في شرط الزيادة (1) للمنفرد بالتصرف، فإن منعناه، لم يشترط انفراده باليد، وإن أجزناه، فإن لم يشترطاه، فلا يشترط الانفراد باليد، وإن شرطاه، ففي الانفراد باليد الوجهان.
فرع:
4319 - إذا باع أحد الشريكين العبد بإذن شريكه، مع جهلهما بقدر ملكهما، ففي صحة البيع وجهان: فإن قلنا: يصح، تعدى الابهام إلى الثمن.
فصل
في توزيع الربح والخسارة على رؤوس الأموال
4320 - وضع الشركة على توكيل بالتصرف مضافٍ إلى التصرف بالملك. ولا تتغير بها القواعد، فيجب توزيع الربح والخسارة على رؤوس الأموال، فإن شرطا تفاوتاً، فإن كان التفاوت في الخسران، بطل الشرط، كأن كان في الربح، فإن استويا في
__________
(1) أي الزيادة في الربح مقابل العمل.

(7/24)


العمل، وقدر المال، بطل الشرط، وإن استويا في المال، وتفاوتا في العمل، فإن شرطت الزيادة لمن زاد عمله، ففي ثبوتها وجهان: أقيسهما - الثبوت؛ لمقابلتها بالعمل، فإن قلنا: لا تثبت، فانفرد أحدهما بالعمل، أو بزيادة فيه، فإن صرحا بالتوزيع على الأموال، فالعامل متبرع، وإن أطلقا الشركة على أن ينفرد أحدهما بالعمل، أو بزيادة فيه، فهل يلحق بمن استعمل إنساناً، ولم يُسمّ له أجرة؟ فيه وجهان والفرق جريان العادة بتسامح الشركاء في الأعمال.
فصل
في حكم الشرط الفاسد
4321 - إذا فسد اشتراط التفاوت في الربح، ففي فساد الشركة وجهان. والمعظم على نفي الفساد؛ للاتفاق على تنفيذ التصرف وتوزيع الأرباح على رؤوس الأموال.
وقال أبو علي: يظهر أثر الفساد في حكمٍ واحد، وهو إذا استوى المال، وشرطت الزيادة لمن زاد عمله، ثم فسدت الشركة بسبب من الأسباب؛ فإنه يستحق أجرة المثل لما عمل على نصيب شريكه، ولا يستحق الزيادة المشروطة، ولو فسدت الشركة، وقد زاد عمل أحدهما، ولم يشترط له شيء، فالأصح أنه لا أجرة له، فإن أوجبناها، فقد ظهر الفرق بين الشركة الصحيحة والفاسدة. ولو استويا عملاً ومالاً، لم يظهر فائدة الفساد إلا على منع التقاصّ، ولا خلاف أن الشركة لو صحت، لم يطالب أحدهما بأجرة عمله، ولا بزيادة.
وتنتفي الشركة بانتفاء الخلط، لأنه حقيقتها، ولذلك أبطلنا شركة الأبدان.
ولو اشتركا في التصرف، وشرط انفراد أحدهما باليد، فالشرط فاسد، وفي فساد الشركة الوجهان.

(7/25)


فصل
في فسخ الشركلة وانفساخها
الشركة عقد جائز، لأنها توكيل من الجانبين، أو من أحدهما، فأيهما مات أو جن، انفسخت، فإن أراد الوارث تجديدها، فليعقدها مع الشريك الباقي، وينعزلان بقول أحدهما: فسخت الشركة.
ولو عزل أحدهما الآخر، اختص العزل بالمعزول، وبقي العازل، واقتسامهما المال كاقتسام سائر الشركاء، فإن خلطا رديئاً من أموال الربا بجيد، كزيت رديء بجيد، قسم بينهما على ما ذكرناه في باب التفليس (1)، ولو كان لهما دين على رجلين، فأراد أن ينفرد كل واحد منهما بما على أحد الرجلين، فإن جوزنا بيع الدين من غير المدين، فليشتر كل واحد منهما نصيب الآخر من الدين على أحد الرجلين بعين، فيصير مختصاً به.
فصل
في الشركة في المنافع
لا تصح الشركة بالمنافع لامتيازها، فلو كان لرجل بغل ولآخر راوية، فشاركهما من يسقي بالبغل والراوية على أن يكون الماء بينهم، لم تصح الشركة، فإذا استقى ماء مباحاً، فأصح الطريقين أنه إن نوى نفسه، اختص بالماء اتفاقاً، وعليه أجرة البغل والراوية، وكذلك يلزمه الأجرة إن استقى من ماءٍ يملكه.
وإن نوى نفسه وصاحبيه، فهل يشاركانه في الماء؟ فيه وجهان: فإن منعنا المشاركة، لزمته الأجرة، وإن أثبتنا المشاركة، فالماء بينهم أثلاثاً. وقيل:
__________
(1) والطريقةُ أن يباع الجميع، ويأخذ كل شريك قدر نصيبه وقيمته؛ لأن صاحب الأجود لو أخذ الكليل أو الوزن الذي شارك به بغير زيادة، يكون قد نقص نصيبه بدخول الأردأ فيه، وان أخذ زيادة يكون قد أربى.

(7/26)


يشتركون فيه على قدر الأجور، فإن ثلَّثناه، فلا تراجع، وإن وزعناه على الأجور، فيرجع كل واحد على كل واحد من صاحبيه بثلث أجرة المثل لما بذل. والطريقة الثانية - فيه للشافعي ثلاثة نصوص-: أحدها - اختصاص الماء بالمستقي، والثاني - يتشاركون فيه، ويتراجعون بالأجور ثُلثاً ثُلثاً، والثالث - التقسيط على قدر الأجور.
وهذا تخليط لا يصح.
فرع:
4322 - إذا استأجر رجل بغلاً وراوية ومُسقياً لاستقاء ماء مباح، فإن أفردت كل منفعة بإجارة، صح، ووقع الماء للمستأجر -وإن نوى الأجير نفسه- لاستحقاق منافعه بالإيجار، وكذلك الإيجار لإحياء الموات، وتملك المباحات.
وإن استؤجر الجميع في صفقة واحدة، ففي صحة الإجارة قولان: فإن قلنا: تصح، وزع المسمى على قدر الأجور. وإن قلنا: لا تصح، فالذي ذكره أبو علي: أن الماء للمستأجر -وإن نوى الأجير نفسه- لأن منافعه مضمونة بالأجرة، وقال الإمام: إذا نوى نفسه، فالوجه إيقاع الماء له، وسقوط أجرته، وعليه أجرة البغل والراوية.
ولو كان لأحدهم بغل، وللآخر بيت رحا، ولآخر حجرها، فشاركهم رابع على أن يعمل والحاصل بينهم، لم يصح. فإن استؤجر العامل لطحنٍ في الذمة، فطَحَنه، استحق المسمى، وعليه الأجرة لأصحابه، ولذلك لو غصب البيت والحجر والبغل، أو استأجر ذلك إجارة صحيحة أو فاسدة؛ فإنه يستحق المسمى، وعليه أجرة المثل، في الغصب والإجارة الفاسدة، والمسمى في الإجارة الصحيحة، وإن أوقع الإجارة على عين الطاحن والبيت والرحا، صح إن كان في عقودٍ، وإن كان في عقدٍ، فقولان. فلو ألزم ذمم الأربعة طحن حب معلوم، صح اتفاقاًً. فإن وقع الطحن بالأعيان التي اشتركوا عليها، استحقوا المسمى أرباعاً، ولكل واحد على أصحابه ثلاثة أرباع أجرة المثل.

(7/27)


فصل
في الشركلة بالمنافع والأعيان
4323 - ولو كان لأحدهم أرض، وللآخر بَذْر (1)، وللثالث آلات الحرث، فشاركهم رابع على أن يزرع ويكون الزرع بينهم، لم يصح، والزرع لمالك البذر، وعليه لأصحابه كمال أجور الأمثال.
ولو كان لأحدهم ورق، وللآخر بزر القز (2)، فشاركهما آخر، على أن يعمل ويكون الفَيْلَج (3) بينهم، لم يصح. ولو اشتركوا في البزر، أو باع أحدهم بعض الدود من صاحبيه، اشتركوا في الفَيْلَج، ولا نظر إلى التفاوت فيما يخرج من الدود، كما لا ينظر في البذر المشترك إلى التفاوت فيما يُنبت وما لا ينبت.
فرع:
4324 - إذا استؤجر لتملكِ مباحٍ، كالاحتطاب والاحتشاش، جاز، وحصل الملك للمستأجر، وإن توكل في ذلك، فوجهان، خصهما الإمام بما إذا قصد بذلك موكله، وقطع بأنه إن قصد نفسه، ثبت الملك له، وفي احتطابه بغير إذنه تردّد، والظاهر حصوله للوكيل.
__________
(1) البَذْر: بفتح الباء وبالذال: المبذور، تسمية بالمصدر، أو فَعْل بمعنى مفعول، قيل: البذرُ للحبوب كالحنطة والشعير، والبزر: بفتح الباء وكسرها وبالزاي، للرياحين والبقول، وهذا هو المشهور في الاستعمال. ونقل عن الخليل: كل حب يبذر فهو بذر وبزر، أي التسوية بينهما. (ر. المصباح).
(2) "بزر القز": بيض دودة القز، و"الورق": المراد به ورق التوت الذي هو طعام دود القز.
(3) الفيلج: وزان زينب، ما يتخذ منه القز، وهو معرب، والأصل: فيلق، كما قيل: كوسج، والأصل: كوسق، ومنهم من يورده على الأصل، ويقول: "الفيلق". (ر. المصباح).

(7/28)


فصل
في الاختلاف
4325 - إذا أراد أحدهما ردّ المبيع بالعيب، وأراد الآخر إمساكه، ففي انفراده بالردّ قولان، وإن غبن أحدهما في الشراء، فإن كان الثمن في الذمة، فالعقد له، وإن كان بالعين، لم يصح في نصيب شريكه، وفي نصيبه قولان، ولو تنازعا عيناً في يد أحدهما، فادعى الخارج أنها للشركة، وقال ذو اليد: بل هي لي، فالقول قول ذي اليد، مع يمينه، فإن كان المال عشرين، وفي يد أحدهما عشرة، يدعي أنها حصلت له بالقسمة، وأنه سلم إلى الآخر عشرة، فالقول قول الخارج في نفي القسمة، وقول الداخل في الخمسة التي ادعى ردّها إليه من جملة العشرة، وتقسم العشرة التي في يده بينهما، بعد أن يحلف كل واحد منهما على نفي ما ادعى عليه.
فصل
في أمانة الشركاء
4326 - الشركاء أمناء يقبل قولهم في دعوى الرد والتلف، ومن ادعى منهم خيانة مطلقة، لم تسمع، وإن فصَّل، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.
ولو باع أحدهما عيناً، فادعى المشتري أنه أقبضه الثمن، فصدقه الشريك الآخر، وأنكر البائع، فالقول قول الشريك البائع، فإن حلف، فله طلب حصته دون حصة شريكه؛ لاعتراف الشريك ببراءة المشتري، وليس للشريك أن يساهم البائع فيما يأخذه من الثمن، فإن شهد الشريك على البائع بالقبض، لم تُقبل شهادته فيما يخصه، وفيما يخص البائع قولا تبعيض الشهادة، وإن نكل البائع عن اليمين، عرضت على المشتري، فإن حلف، برىء، وإن نكل، فهو كحلف البائع، هذا إذا تنازع البائع والمشتري.
ولو تنازع البائع والشريك، فالقول قول البائع، فإن نكل، عرضت اليمين على

(7/29)


الشريك، فإن نكل، كان كحلف البائع، وإن حلف، طلب حصته من البائع، وللبائع مطالبة المشتري بحصته من الثمن على قول الكافة، وقيل: لا يطالب؛ لأن نكوله مع اليمين كبينة أو إقرار، وأيهما كان، امتنع به الطلب والخصام، وهذا غريب منقاس، ومقتضاه أن الخصام لو وقع في الابتداء مع المشتري، فحلف المشتري يمين الرد بعد نكول البائع، فينبغي أن يطالب الشريك بحصته من الثمن؛ لأن يمين الرد كبيّنة أو إقرار.
ولو أذن أحدهما للآخر في البيع، وقبض الثمن، ولم يأذن الآخر في ذلك، فادعى المشتري دفع الثمن إلى الآذن، وصدقه المأذون، فالقول قول الآذن، وللمأذون طلب حصته من المشتري بكل حال؛ لأنه لم يأذن لشريكه في القبض، وليس له طلب نصيب الآذن، فإذا قبض المأذون نصيب نفسه، فلشريكه أن يساهمه فيه عند المزني، وقال ابن سُريْج: لا يساهمه؛ لأنه اعترف بانعزاله بالقبض، قال الشيخ (1): وإن انعزل المأذون كما قال ابن سريج، فينبغي أن يخرج ذلك على ما إذا باعا شيئاًً صفقة واحدة، وقبض أحدهما نصيبه من الثمن، فهل يساهمه الآخر؟ فيه وجهان، ولو شهد البائع على الإذن بقبض جميع الثمن، قبلت شهادته؛ إذ لا جَرَّ فيها.
فصل
في بيع الجزء الشائع وغصبه والإقرار به
4327 - إذا قال أحد الشريكين للمشتري: بعتك نصفي، أو حصتي من هذا العبد، صح، وانحصر البيع في نصيب البائع، وإن قال: بعتك نصف العبد، فهل ينحصر أو يشيع في النصفين؟ فيه وجهان: فإن أشعناه، بطل بيع ربع العبد، وفي الربع الآخر قولا تفريق الصفقة.
__________
(1) "الشيخ": هنا هو " الشيخ أبو علي" كما صرح بذلك الرافعي، وإذا قيل الشيخ أبو علي، فهو السِّنجي. (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 10/ 450).

(7/30)


وإن أطلق أحدهما الإقرار بالنصف، فإن أشعنا البيع، فالإقرار أولى، وإن حصرناه، شاع الإقرار في أصح الوجهين، وإن أطلق، فروجع، فحصر الإقرار في نصيب الشريك، قُبل عند أبي محمد، واستبعده الإمام.
وقد نص الشافعي، واتفق أصحابه على تصور غصب الجزء الشائع؛ إذ الغصب إزالة يد محقة، وإحداث يد عادية، فإذا أزال الغاصب يد الشريك، وأحل نفسه محله، ولم يتعرض لنصيب الآخر، فقد غصب النصف، فإن باعه، خرج على الوقف، وإن باع الجميع هو والشريك الآخر من شخص واحد، فقد قطعوا بالنفوذ في حصة الشريك البائع، لاتفاقهم على تعدد الصفقة بتعدد البائع، وقيل: لا يصح لاشتمال القبول على الصحيح والفاسد مع اتحاده، وهذه هفوة.
***

(7/31)