نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الإقرار
باب الإقرار بالحقوق والمواهب والعارية
4388 - الإقرار إخبار عن وجوب حق بسبب سابق، وهو حجةٌ بالإجماع، ويصح من كل حرٍّ بالغ رشيد، ولا ينفذ ممن لا يميز كالمجانين، والأطفال، ولا يصح من الصبي المميز بالعقوبات والأموال، وفي إقراره بالتدبير والوصية قولان (1).
فصل
في إقرار العبيد
4389 - ويصح إقرار العبد بالحدود والقصاص في النفس والأطراف وفي ثبوت المال المسروق تبعاًً للقطع قولان (2)، يجريان في إقرار السفيه، والمفلس بالسرقة، إذا رددنا إقرارهما بالإتلاف من غير سرقة، فإن لم نوجب المال المسروق، فقد أطلقوا
__________
(1) توجيه القولين في إقرار الصبي المميز بالتدبير والوصية، أن ذلك لا يترتب عليه حقوق ناجزة، فالتدبير أن يقول لعبده: "إذا متُّ، فأنت حرّ"، فلا يترتب على ذلك تصرف ناجز، وكذلك الوصية، فهي تصرّفٌ مضاف لما بعد الموت، وهما عقدان غير لازمين، ومن هنا جاء قولٌ بصحة التدبير والوصية من الصبي المميز؛ لأنه إن عاش حتى بلغ رشيداً، فله الإمضاء والرجوع، وإن مات فلا يحتاج إلا الثواب وقد حصّله.
(2) إذا أقر العبد بسرقة مالٍ، نُظر: فإن كان المال تالفاً، فقولان: أحدهما - يقبل، ويتعلق الضمان برقبته، وأظهرهما - لا يقبل، إلا أن يصدقه السيد، فيقبل، ويتعلق الضمان بذمته، وإن كان المال باقياً، نظر: إن كان في يد السيد، لم ينتزع منه إلا بتصديقه، وإن كان في يد العبد، فطريقان: إحداهما - أن في انتزاعه القولين في التالف، فإن قلنا: لا ينتزع، ثبت بدله في ذمته، والطريق الثانية - لا ينتزع قطعاً؛ لأن يده كيد سيده. (ر. الروضة: 4/ 351).

(7/57)


وجوب القطع، ورأى الإمام تخريج القطع على الوجهين، فيما إذا أقرّ الحرّ بسرقة مالٍ من غائب، ولعلّ أصحهما أنه لا يقطع (1).
ولو عُفي عن العبد في قصاص الجناية المقر بها، ففي وجوب الدية قولان مرتبان على قولي الغرم في السرقة، وأولى بالوجوب؛ لأنها ثبتت ضمناً للقتل، وسبب قطع السارق مميز عن وجوب الضمان؛ ولذلك يضمن في الحرز، ولا يقطع ما لم يخرج المال، وإن أوجبنا القود المحض، ففي الدية قولان مرتبان على إيجاب أحد الأمرين، وأوْلى بالإيجاب؛ لأنها وجبت بالعفو دون القتل، وإن أقر، أو قامت عليه البينة بدين معاملة لم يأذن فيها السيد، لم يتعلق إلا بذمته.
وإن أقر بجناية خطأ، أو إتلاف مالٍ، لم يتعلق برقبته إلا بالبينة، أو تصديق المالك (2)، فإن ثبت ذلك، فداه المالك بأقل الأمرين على الأصح، فإن فضل شيء، تعلق بذمته، على الأصح. وإن كذبه السيد، ففي تعلق الأرش بذمته طريقان: إحداهما -وعليها الجمهور- يتعلق وجهاًً واحداً. والثانية - فيه الوجهان.
فصل
في إقرار السفيه
4390 - وينفذ إقراره بأسباب العقوبات، ولا ينفذ بما يستبد به من المعاملات، فإن اشترى شيئاًً، وسلمه البائع إليه، فأتلفه، وقامت اليبنة بذلك، لم يطالب ببدله في الحال، ولا بعد الإطلاق (3)، وإن ثبت عليه إتلافٌ من غير معاملة، وجب الضمان، وإن أقر به، فقولان، وإن ادُّعي عليه بإتلافٍ، فإن نفذنا إقراره، سمعت الدعوى، وعرضت اليمين، فإن حلف، انقطع الخصام، وإن نكل، عُرضت اليمين
_________
(1) من أقر بسرقة مال من غائب، المذهب أنه لا يقطع في الحال؛ لاحتمال أن يأتي صاحب المال، فيقر بأنه كان أباحه له. (ر. قليوبي وعميرة: 4/ 97).
(2) المالك: أي السيد: مالك العبد.
(3) لأن البائع هو الذي سلّطه عليه، وقصّر ببيعه منه، وتسليمه إليه.

(7/58)


على المدعي، فإن حلف، استحق، وإن أبطلنا إقراره، لم تسمع الدعوى إلا إذا جعلنا يمين الرد كبينة تقام.
وإن أقرت الرشيدة أو السفيهة بالنكاح، نفذ، على المذهب (1). ولو أقر به سفيه، فينبغي ألا ينفذ، لعجزه عن الإنشاء، ولتعلق الحقوق المالية به.
فصل
في إقرار المفلس
4391 - ويصح إقراره بالعقوبات.
وإن باع ما تعلق به الحجر، ففي وقوفه على الإطلاق قولان في الجديد، بخلاف بيع الفضولي، فإنه ممنوع في الجديد، إذ لم يصادف ملكَ البائع. وإن باع الراهن الرهن، بطل في الجديد، وإن كان ملكاًً له؛ لأنه أدخل الحجر على نفسه (2)، بخلاف المفلس (3).
وإن أقر بعينٍ تعلّق بها الحجر، فإن وقفنا البيع، فالإقرار أولى، وإن رددنا البيع، فالأصح وقف الإقرار.
ولو عامل بعد الحجر، فلا مضاربة (4) بدين المعاملة اتفاقاً. وإن أقر بمعاملة سابقة على الحجر، فقولان.
وإن ثبت عليه إتلافٌ بعد الحجر، ببينة، أو اتفاق منه ومن الغرماء، فلا مضاربة على المذهب، وفيه وجه. وإن أقر بذلك، فإن لم تثبت المضاربة عند قيام البينة، فهاهنا أوْلى، وإن أثبتناها ثَمَّ، فهاهنا قولان مرتبان على قولي إقرار السفيه بالإتلاف،
__________
(1) لأن إقرارها بالنكاح لا يُلزمها مالاً، بل تستحق بسببه مالاً.
(2) أدخل الحجر على نفسه: أي برهنه لملكه حُجر عليه في بيعه.
(3) بخلاف المفلس؛ فقد حُجر عليه لحق الغير، فاحتمل أن يوقف بيعُه على الإطلاق من الحجر، فإن استوفى الغرماء حقوقهم، وسلمت هذه العين، موضوع عقد البيع، مضى العقد.
(4) أي لا يضارب الدائن، صاحب دين المعاملة التي تمت بعد الحجر، مع الغرماء أصحاب الديون قبل الحجر.

(7/59)


وإقرار المفلس أوْلى بالنفوذ؛ لأن السفه خبلٌ في العقل؛ فأشبه الصبا، بخلاف الإفلاس.
وإن أقر بإتلافٍ سابق على الحجر، فقولان. وإن أقر بسرقة أنشأها بعد الحجر، لم تثبت المضاربة، إلا إذا أثبتنا المضاربة عند ثبوت الإتلاف، ففي نفوذ إقراره للمضاربة قولان، مرتبان على القولين في الإقرار بمطلق الإتلاف، وصورة السرقة أولى بالنفوذ؛ لبُعد التهمة.
فصل
في الإقرار بالمبهات
4392 - إذا ادعى بمجهولٍ، لم يُسمع إلا في الوصية (1)، وخالف القاضي في الوصية، وإن أقرّ بمجهولٍ، صح، إجماعاً، ورجع إليه في البيان، فإن امتنع منه بعد الطلب، فثلاثة أوجه: أحدها -وعليه الجمهور- أنه يحبس إلى البيان، والثاني - لا يحبس، ويقال لخصمه: ادّع عليه بمعلوم، فإن أقر، أُخذ به، وإن أنكر، وأصر على الامتناع، حلف خصمه، وقضى له. والثالث - إن قال: غصبت منه شيئاًً، حُبس، إن امتنع من الرد والبيان، وإن أقر بدين، فحكمه ما ذكرناه في الوجه الثاني.
ومن أسلم على عشر نسوة، وامتنع من اختيار أربع، حبس اتفاقاًً؛ لقدرته على إنشاء الاختيار، بخلاف معرفة قدر المقرّ به؛ فإنه قد يجهله.
فصل
فيما يقبل في تفسير الشيء
4393 - إذا قال له: علي شيء، قبل في تفسيره أقل ما يتموّل، فإن فسره بسمسمة أو حبة حنطة، قُبل، على النص؛ لأنها شيء يحرم أخذه، ويجب ردّه، وأبعد من قال: لا يُقبل، وإن ادعى بها، لم تسمع عند القاضي (2)، وقطع الأمام بالسماع؛ إذ
__________
(1) لأن الوصية تصح بالمجهول كحملٍ وثمرة سيحدثان، على الأصح. (قليوبي وعميرة: 3/ 160).
(2) المراد هنا القاضي حسين.

(7/60)


لا يمتنع طلب ما يحرم أخذه، ويجب ردّه. وإن فسَّر بتمرة أو زبيبة، فإن كان في موضع يعزان فيه، قبل، وإن لم يعزا، كالتمرة بالبصرة، فإن لم نقبل التفسير بالسمسمة، ففي التمرة والزبيبة تردد، وقطع الإمام بالقبول.
وإن فسر بما لا يتمول جنسه، فإن لم يتعلق به اختصاص، كالخنزير والخمرة غير المحترمة، لم يقبل؛ لأن قوله: "عليّ" التزام، ولا حق في الخنزير والخمرة المراقة لأحد، وإن تعلق به الاختصاص، كخمر الخل، وكلب الصيد، والجلد القابل للدبغ، قُبل، على أَقْيس الوجهين، والأظهر أن الكلب القابل للتعليم، كالجلد القابل للدباغ، ويجوز أن يفارقه بأنه لا يصير إلى المالية بخلاف الجلد.
وفي التفسير بالخمرة المحترمة شيءٌ؛ من جهة أن من أظهر الخمر، وزعم أنها خمر خل، فقد ذهب طوائف إلى أنها تراق، ولا يقبل قوله، وإنما لا نتعرض باتفاق المحققين لما تطهر (1)، فلو اطلعنا عليها مع مخايل شاهدة بالاحترام، لم نتعرض لها على المذهب، ولو أبرزها، ظهر التسارع إلى إراقتها.
وإن فسر بردّ سلام، أو حق عيادة، لم يقبل عند الأصحاب؛ لبعده عن فهم أهل الخطاب.
فصل
فيما يقبل في تفسير غصب الشيء
4394 - قال الشافعي: "إذا قال: غصبته على شيء، ثم فسر بخمرٍ أو خنزير، قبلتُه، وأرقت الخمر، وقتلت الخنزير" (2) ولم يخالفه أحد من الأصحاب، وقالوا: لو قال: له عندي شيء، فهو كقوله: غصبته على شيء، وخالفهم أبومحمد والإمام؛ لأن اللام ظاهرة في، الملك، وإن فسر الغصب بما يتعلق به الاختصاص، ولا يتموّل، وجب القطع بالقبول.
__________
(1) في الأصل: لما لا تطهر.
(2) ر. الأم: 3/ 215.

(7/61)


فرع للقاضي:
4395 - إذا كان بيد المضطر ميتة، لم يكن أولى بها من مضطر آخر؛ إذ اليد لا تثبت على الميتة. والوجه خلاف ما قال؛ إذ الميتة بالنسبة للمضطر كالمباح بالنسبة إلى المختار.
فصل
في تكذيب المقر في التفسير
4396 - إذا أقر بمبهم، ثم فسره بما يُقبل، فأكذبه المقَرُّ له، وقال: "أدعي عليك عشرة (مثلاً)، وأنك أردتها بالإقرار، ثم فسرته بدرهم"، سُمعت الدعوى، وحلف المقِر على نفي الزيادة، وأنه لم يردها بالإقرار، وإن ادعى بالإرادة لا غير، أو ادعى على إنسان بإقرار، فالأصح أنها لا تسمع، وإن قال المقر: أردت العشرة بالإقرار، ولا تلزمني الزيادة، أو قال: العشرة لك، ولم أرد بالإقرار إلا الدرهم، لزمته العشرة، ولا تحليف.
فصل
فيما يقبل في تفسير المال
4397 - إذا قال: له عليّ مال، ثم فسره بما لا يتموّل جنسه، كالخمرة المحترمة، أم بما لا يتمول لقلته، كالخردلة، لم يقبل، وفي التمرة والزبيبة حيث تكثران تردد، والظاهر القبول، وتردد أبو محمد في المستولدة (1) ومال إلى أنها مال، وإن فسر بأقل ما يتمول، قبل. وضابط أقل ما يتمول: "كل ما يظهر أثره -وإن قل- في جلب نفع أو دفع ضرار".
وإن قال: له عليّ مال عظيم أو كثير، لزمه أقل ما يتمول، على المذهب. وأبعد من قال: لا بد من زيادة وإن قلّت، ومن قال: لا بد من التفسير بما يزيد، ولو بعِظَم الجِرْم والذات، وكلاهما لا يصح؛ إذ العظيم والكثير قد يراد بهما الجلال، قال
__________
(1) سبب التردد في المستولدة أنها تصير إلى العتق.

(7/62)


الشافعي: "أصل ما أبني عليه الإقرار اتباع اليقين، واطّراح الشك والغلبة، إذ الأصل براءة الذمة".
ولو قال: له عليّ أكثر من مال فلان، قبل فيه أقل ما يتموّل؛ لأن الكثير يطلق على الحلال، وعلى الدين الذي لا يتعرض للهلاك.
وإن قال: له علي أكثر من الدراهم التي بيد فلان، فكانت ثلاثة، واعترف أنه عرف عددها، لزمه ثلاثة، على المشهور وقول الجمهور، وقبل منه أبو محمد أقل من ذلك؛ إذ يجوز أن يقال: درهم خير من دراهم وأكثر بركة، وإن كان في يده عشرة، فقال: ظننتها ثلاثة، أو عرفت أنها عشرة، ونسيت عند الإقرار، فإن حلف على ذلك، لزمه ثلاثة على المشهور.
وإن قال: له علي مثل ما في يد فلان، لزمه مثل ما في يده؛ لتعدد الحمل على المرتبة والفضل.
وإن قال: له علي أكثر مما في يد فلان من الدراهم عدداً، ثم فسر [بجنس] (1) يزيد عدده على تلك الدراهم، قُبل؛ لأن التفضيل وقع في العدد دون الجنس.
وإن شهد اثنان على رجل بمالٍ، فقال: له علي أكثر مما شهدا به، لزمه أقل ما يتمول، لاحتمال أن يريد أنهما شهدا بزور، وأن قليل الحلال أكثر من كثير الحرام، فإن حكم بشهادتهما، فقال: له عليّ أكثر مما حكم به الحاكم، فوجهان.
فصل
في تمييز الأعداد وعطف المعلوم على المجهول
4398 - إذا أقر بعدد مبهم، وعطف عليه معيناً، لزمه المعين، وأخذ بتفسير المبهم، سواء كان المعين مكيلاً، أو موزوناً، أو غير ذلك. وإن أقر بعدد مبهم، ثم جاء بعده بمفسَّر، فإن خلا العدد عن العطف، كان المبهم من جنس المفسر، بخلاف
__________
(1) في الأصل: بجوزٍ، وهو تصحيف واضح، وعبر النووي عن المسألة بعينها في الروضة قائلاً: "ولو قال: له علي أكثر مما في يد فلان من الدراهم، لم يلزمه التفسير بجنس الدراهم، لكن يلزم بذلك العدد من أي جنس فسّر، وزيادة أقل متموّل" (ر. الروضة: 4/ 376).

(7/63)


العطف على المبهم؛ فإن المعطوف إنما ذكر ليُثبت، والمفسر إنما ذكر ليُبيّن.
وإن اشتمل العدد على حرفٍ عاطف، فالجميع من جنس المفسر، خلافاًً للإصطخري. فإذا قال: ألف ودرهم، أو ألف وثوب، أو ألف وقفيز حنطة، لزمه ما عيّن، ورجع في الألف إليه.
وإن قال: عشرون درهماً، أو خمسة عشر درهماً، أو مائة درهم، أو ألف درهم، فالكل دراهم.
وإن قال: خمسة وعشرون درهماً، أو مائة وخمسة وعشرون درهماً، أو ألف وثلاثة دراهم، فالكل دراهم، وقال الإصطخري: يلزمه العدد الأخير دراهم، ويرجع فيما قبله إلى تفسيره.
وإن قال: درهم ونصف، فالأكثرون على أنه نصف درهم، وقيل: إنه (1) مبهم.
فصل
في الاستثناء
4399 - يصح الاستثناء في كل معدود، بشرط أن يتصل، ولا يستغرق، سواء ساوى المستثنى منه، أو نقص عنه، أو زاد. فإذا قال: له علي عشرة إلا تسعة، لزمه درهم.
وإن أقر بشيء ثم كرر الاستثناءات بعده، فإن عطف بعضها على بعض، فحكمها واحد، وإن لم يعطف، كان الاستثناء من الإثبات نفياً، ومن النفي إثباتاً، فإذا قال: له علي عشرة إلا خمسة، وخمسة إلا أربعة، أو عشرة إلا خمسة، وإلا أربعة، لزمه درهم.
وإن قال: عشرة إلا تسعة إلا ثمانية، وكذلك إلى آخر العدد، لزمه خمسة، وطريقه أن تجمع أعداد الاستثناءات المثبتة بيمينك، والنافية بيسارك، ثم تسقط النفي من الإثبات، وتوجب ما بقي بعد الإسقاط، والإثبات فيما ذكرته ثلاثون، والنفي
__________
(1) إنه مبهم: أي النصف المعطوف.

(7/64)


خمسة وعشرون، فنسقطها من الثلاثين، فتبقى خمسة.
وإن أردت تمييز النفي عن الإثبات، فانظر إلى العدد الأول، فإن كان شفعاً، فالأوتار نفي، وإن كان وتراً، فالأشفاع إثبات.
وإن قال: ليس علي شيء إلا درهماً، لزمه درهم، وإن قال: ليس له عليّ عشرة إلا خمسة، لم يلزمه شيء عند الأكثرين، ويلزمه خمسة عند بعض القيَّاسين. وإن قال: عشرة إلا عشرة، بطل الاستثناء، ولزمت العشرة، وإن قال: عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة، فهل يبطل الاستثناءان، ويلزمه عشرة، أو يصحان، ويلزمه ثلاثة، أو يختص البطلان بالأول؛ فيلزمه سبعة؟ فيه ثلاثة أوجه تجري في نظائره.
وإن وقع العطف في المستثنى أو المستثنى منه، فهل يجمع أو يبقى على تفريقه؟ فيه وجهان. فإذا قال: له عليّ درهم ودرهم، ودرهم إلا درهماً، ففي صحة الاستثناء الوجهان، إن جمعنا، صح، وإلا، فلا. ولو قال: ثلاثة إلا واحداً، وواحداً، وواحداً، أو إلا اثنين وواحداً، فإن جمعنا، بطل الاستثناء، وإن لم نجمع، بطل آخر المعطوفات. وإن قال: ثلاثة إلا واحداً واثنين، فإن جمعنا، وجبت الثلاثة، وإن فرقنا، وجب درهمان.
وإن قال: عشرة إلا خمسة، وإلا خمسة، فإن جمعنا، لزمه عشرة، وإن فرقنا،
لزمه خمسة.
فصل
في الاستثناء من غيرالجنس
4400 - يصح الاستثناء من غير الجنس في المكيل، والموزون، وغيرهما، ويجوز استثناء المعلوم من المجهول، والمجهول من المجهول، ومن المعلوم، فإن قال: له علي حمار إلا ديناراً، ثم فسر الحمار بما يزيد على الدينار، قُبل، وإن فسره بما يساويه، أو يزيد، لزمه الدينار؛ لاستغراق استثنائه، وقيل: لا يلزمه الدينار، ويؤخذ بالبيان.

(7/65)


وإن قال: له عليّ مائة دينار إلا حماراً، ثم فسر الحمار بما ينقص عن المائة، قُبل.
وفيما [زاد] (1) أو ساوى الوجهان، وظاهر النص يشهد للوجه البعيد. وإن قال: له عليّ حمار إلا ثوباً، ثم فسرهما بما لا يستغرق، قُبل، وفي المستغرق الوجهان.
وإن اتفق اللفظان، فقال: له علي مال إلا مالاً، أو شيء، إلا شيئاًَ، ففي صحة الاستثناء وجهان ذكرهما القاضي، ولا وجه للخلاف؛ إذ لا يلزمه الزيادة على أقل ما ينطلق عليه الاسم.
فصل
في الإقرار بالظرف والمظروف
4401 - إذا أقر بظرف أو مظروف، لم يكن إقراره بأحدهما إقراراً بالآخر، فإذا قال: علي تمر في جراب، أو فص في خاتم، أو سمن في بُستُوقة، أو دابة في إصطبل، لم تلزمه الظروف.
وإن قال: عمامة على عبد، أو سرج، أو إكاف على فرسٍ، لزمه العمامة، والسرج، والإكاف، دون الدابة والعبد.
ولو قال: دابة عليها سرج أو إكاف، أو عبد عليه عمامة، أو قميص، أو شيء من اللباس، لم يلزمه إلا الدابة والعبد.
وقال في التلخيص (2): يلزمه لباس العبد، لأجل يده، فعده بعضهم وجهاًً، وغلطه الأكثرون، لأن العبد ولباسه في يد المقر (3).
__________
(1) في الأصل: نقص. وهو سبق قلم.
(2) ر. التلخيص: 386.
(3) إذا أقر بفرس عليه سرج، أو بعبدٍ عليه عمامة، فالإقرار بالفرس والعبد دون السرج والعمامة، فلا يلزمه إلا الفرس والعبد. وخرّج صاحب التلخيص وجهاًً بلزوم العمامة مع العبد، والفرق بين الفرس والعبد، أن للعبد يداً على ثيابه، ثم هي بعد ذلك يد مولاه، فكل ما في يد العبد لسيده، فإذا أقرّ به، فإن العمامة يجب أن تكون في يد مولاه الذي أقرّ له به، فلا تسمع =

(7/66)


وإن أقر بخاتم فيه فص، لزمه فصه، على أظهر الوجهين، لدخوله تحت اسمه، ومخالفته للخاتم، كمخالفة السقف للدار، وإن أشار إلى الفص، فقد قطع الأمام بلزوم الفص.
وإن أقر بحملٍ في بطن أَمةٍ، أو حيوان، لزمه الحمل، دون الأم.
وإن قال: علي جارية في بطنها حمل، ففي لزوم الحمل وجهان.
وإن قال: له هذه الجارية، ثم زعم أنه أرادها دون حملها، فوجهان. وإن قال: له هذه الجارية إلا حملها، لم يلزمه الحمل على ظاهر المذهب.
وإن أقر بشجرة، لزمته بعروقها وأغصانها، وفي طلعها وجهان، وتدخل الأشجار في اسم البستان.
والضابط أن ما يدخل تحت الاسم، فهو لازم، وما يتصل ولا يدخل في الاسم، فإن لم يندرج في البيع، لم يدخل في الإقرار، وإن اندرج فيه، كالحمل والطلع، فوجهان.
فصل
في الاستثناء من المعينات
4402 - الاستثناء من المعين باطل على الأصح، وقال في التلخيص: الأصح صحته، فإذا قال: له هذه الدراهم إلا هذا، بطل الاستثناء، على الأصح، ولو قال: له هذا، وهذا إلا هذا، فلا خلاف في البطلان.
ولو قال: هذا الخاتم لفلان، وفصه لي، أو هذه الدار لفلان، وهذا البيت
__________
= دعوى المقر أن العمامة له إلا ببينة، وهذا بخلاف الفرس -كما أشرنا- لأن الفرس لا يد له، وإنما الذي عليه من السرج يكون في يد من هو في يده. هذا توجيه (الروياني) في (البحر) لكلام صاحب التلخيص، ثم قال: "ومن الأصحاب من خالفه في ذلك، وقال: هذا لا يصح على أصل الشافعي، وإنما يجب عليه تسليم العبد فقط، وتكون العمامة للمقِرّ كالسرج، وهو اختيار القفال وجماعة؛ لأن العبد -في الحقيقة- لا يد له على نفسه، ولا على ما هو لابسه وممسكه، ولهذا لا يقبل قوله: إني عبدٌ لغير من هو في يده" ثم قال الروياني: "وهو الصحيح عندي" (ر. بحر المذهب: 8/ 244، 245).

(7/67)


منها لي، أو هؤلاء العبيد لفلان، وهذا لي، فهذا عند صاحب التلخيص، كالاستثناء من الأعيان، وإن قال: له هؤلاء العبيد إلا واحداً، أخذ بالبيان، فإن ماتوا إلا واحداً، فزعم أنه المستثنى، فالمذهب أن القول قوله مع يمينه.
فرع:
4403 - إذا قال: له علي ألفٌ في هذا الكيس، فلم يكن فيه شيء، لزمه ألف، وإن نقص ما فيه عن ألف، ففي وجوب الإكمال وجهان.
وإن قال: له علي الألف الذي في هذا الكيس، فنقص عن الألف، لم يجب الإكمال، إلا على وجه مزيف، وإن لم يكن فيه شيء، ففي وجوب الألف قولان.
فصل
فيما يقبل من التفسير لكذا وكذا
4404 - إذا قال: له علي كذا، أو كذا كذا، فهو كقوله: علي شيء، وإن قال: كذا وكذا، لزمه شيئان، وإن قال: كذا درهماً، أو كذا كذا درهماً، لزمه فى رهم، وإن قال: كذا وكذا درهمٌ (بالرفع)، لزمه درهم اتفاقاً. وإن نصب الدرهمَ، ففيه -لاختلاف النص- طريقان: أظهرهما - أنه يلزمه درهمان. والثانية -ثلاثة أقوال- أحدها - درهم. والثاني - درهم وشيء، والثالث - درهمان.
وقال أبو حنيفة (1): إن قال: كذا درهماً، لزمه عشرون، لأنه أول اسم مفرد ينتصب بعده الدرهم، وإن قال: كذا كذا درهماً، لزمه أحد عشر، لأنها أول اسم مركب ينتصب بعده الدرهم، وإن قال: كذا وكذا درهماً، لزمه أحد وعشرون؛ لأنه أول عدد يعطف عليه، وينتصب بعده الدرهم.
وقال أبو إسحاق: يؤخذ الجاهل بما ذكره الشافعي، والعالم بالعربية بما قاله أبو حنيفة، وهذا لا يصح؛ لأن اللغة لا تقتضي تنزيل التمييز على المبهم، ولأن البصير بالعربية قد يخطىء. ولا نعرف خلافاًً أنه لو قال: له علي كذا درهمٍ صحيح، فلا يلزمه مائة، وإن كانت أول عدد ينخفض بعده الدرهم.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 221 مسالة: 1925.

(7/68)


فصل
في الجواب ببلى ونعم
4405 - إذا قال: أليس لي عليك ألف، فأجاب بنعم، لم يلزمه، وإن أجاب ببلى، لزمه، خلافاًً لأبي محمد والإمام، فإنهما جعلاه مقرّاً في الصورتين، وعللا بأن اللفظين قد يستعملان في التصديق، وإن كان على خلاف الأفصح، والإقرار محمول على ما تبتدره الأفهام، دون دقائق اللغة.
قال أصحابنا: إذا قال: لي عليك ألف، فقال: نعم، لزمه، ولو قال: بعتك عبدي بألف، فقال: نعم، لم يصح القبول؛ لأنه إنشاء لا يدخله صدق ولا كذب، ونَعَم وعد أو تصديق يدخلها الصدق والكذب.
ولو قال الدلاّل للمالك، أو للولي: بعت متاعك من فلان، أو زوجت ابنتك منه، فقال: نعم، أو قال: بعتُ أو زوجتُ، لم يصح الإيجاب، ولو قال: بعته من هذا، فقال: بعته، لم يصح الإيجاب.
فصل
في إقرار المريض والوارث
4406 - من أقر في صحته وفي مرض موته بديون، لم يقدم إقرار الصحة على إقرار المرض، وإن أقر المريض بدين وعين، فلم يترك غيرها، فإن سبق الإقرار بالعين، قدمت، وإن سبق الإقرار بالدين، فهل يقدم الإقرار بالعين، أو يستويان؟ فيه وجهان.
وإن أقر في الصحة أو المرض يدين، ثم أقر عليه الوارث بدين أسنده إلى الحياة، فهل يقدم إقرار الميت أو يستويان؟ فيه وجهان يقربان من القولين في إقرار المفلس.
فرع:
4407 - إذا تعدّى بحفر بئر، فهلك بها حيوان بعد موته، فلا خلاف في تعلق القيمة بالتركة، وتقديمها على الميراث، فإن لزمه دين في الحياة، فهل يقدم

(7/69)


على هذه القيمة، أو يتساويان؟ فيه وجهان. وإن مات وعليه دين، فأقر الوارث بتردِّي الحيوان، فهل يقدم دين الحياة أو يتساويان؟ فيه الوجهان.
وإن مات ولا دين عليه، فأقر الوارث عليه بدين، نفذ، وتعلق بالتركة، فإن أقر بدين آخر، فهل يزدحمان، أو يقدم الأول؟ فيه وجهان. والأكثرون على الازدحام.
ولو مات عن ألف، فادعى رجل أنه أوصى له بثلث المال، وادعى آخر أنه له عليه ألفاً. فإن بدأ الوارث بتصديق الموصى له، دفع إليه ثلث الألف، وصرف الباقي في الدين، وأشاروا إلى وجهٍ أنه يقدم الدين، مأخوذٍ من الوجه في تزاحم الدينين المتعاقبين، وهو متجه منقاس، وإن صدقهما معاً، قسم الألف بينهما أرباعاً؛ لأنه ازدحم عليه ألف وثلث، فعاد الثلث ربعاً بالعَوْل، وقياس الوجه الآخر سقوط الوصية، واختاره الصيدلاني، واستبعد القسمة بالأرباع، وقال: لو ادعى رجل أنه أوصى له بالثلث، وآخر أنه أوصى له بالجميع، فصدقهما الوارث، لاقتسما الألف أرباعاً، فكيف نجعل الدين مع الوصية كالوصية مع الوصية، وقد قدمه الله عليها.
فصل
في إقرار المريض للوارث
4408 - إذا أقر لوارث في مرض الموت بدين، فطريقان: إحداهما -القطع بالقبول، وأشهرهما طرد قولين- أصحهما - القبول، هذا فيمن يرث عند الموت والإقرار، فإن كان وارثاً في إحدى الحالين دون الأخرى، فبأيهما نعتبر؟ فيه قولان، الجديد أن الاعتبار بحال الموت.
4409 - إذا نفذنا الإقرار، فأقر في المرض أنه وهبه في الصحة هبة لازمة، وأنه أتلفها عليه في المرض، ففي البطلان لعجزه عن الإفشاء وجهان.

(7/70)


فصل
في إقرار المريض بالاستيلاد
4410 - إذا كان لأمته ابن، فقال: هذا ولدي منها، علقت به في ملكي، وولدته في ملكي، فالولد حر نسيب، لا ولاء عليه، وأمه أم ولد تعتِق من رأس المال؛ لأن إيلاد المريض كإيلاد الصحيح، إذ لا يحسب عليه ما صرفه في أغراضه من الثلث، وإن قال: هذا ولدي منها، ففي ثبوت الاستيلاد وجهان (1)، وظاهر النص الثبوت.
وإن قال: هذا ولدي منها ولدته في ملكي، فوجهان (2) مرتبان، وأولى بالنفوذ، وإن كان عمر الولد سنة، فقال هذا ولدي منها، وملكي مستمر عليها من عشر سنين، ثبت الاستيلاد.
فصل
في الإقرار للحمل
4411 - ويصح الإقرار [للحمل] (3) اتفاقاًً، ولو أقر لحمل، نفذ، إن أسنده إلى سبب صحيح، كالوصية، والميراث (4)، وإن أطلق، فقولان: أوجههما - الصحة، وظاهر النص البطلان، وإن أسنده إلى جهة مستحيلة، كمعاملةٍ مع الجنين، فهل يبطل أو يخرج على قولي تبعيض الإقرار، إذا قال: له عليّ ألف من ثمن خمر؟ فيه طريقان.
والفرق أن بيع الخمر معتاد بخلاف معاملة الأجنة، فإن صححنا الإقرار، فانفصل ميتاً، فإن كان عن وصية، صرفت إلى ورثة الموصي، وإن كان عن إرث، صرف إلى
__________
(1) لاحتمال أنه أولدها في نكاحٍ، ثم ملكها. والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها، أنه هناك عين أن الولادة كانت في ملكه.
(2) لأنه لم يعين أن العلوق كان في ملكه، وهذا هو الفرق بينها وبين الأولى.
(3) في الأصل: "بالحمل".
(4) كأن يقول: ورثه من أبيه، أو وصّى له به فلان.

(7/71)


بقية الورثة، فإن وضعت حياً وميتاً، قدّر الميت كأنه لم يكن، وإن نفذنا الإقرار المطلق، أو المضاف إلى جهة مستحيلة، أُخذ المقر بالبيان، وفيه إشكال؛ إذ لا طالب له إلا السلطان.
ولو وضعته حياً لدون ستة أشهر من حين الإقرار، صُرف المال إليه، على ما تقتضيه الوصية، أو الميراث من التسوية، أو التفضيل، بين الذكور والإناث، فإن كانا اثنين، صرف إليهما ما يقتضيه التوريث، ودفع الباقي إلى سائر الورّاث (1). وإن وضعته لأكثر من أربع سنين، بطل الإقرار، وصرف المال إلى ورثة الموصي، أو المورث، وإن وضعته لما بين الأربع [سنوات] (2) وستة الأشهر (3)، فإن كانت فراشاً، بطل الإقرار (4)، وإن لم تكن فراشاً، لم يبطل على أظهر القولين (5).
__________
(1) كذا. وهو صحيح مطرد في جمع كل وصف على وزن (فاعل) كقارىء وقرّاء، وصانع وصناع.
(2) زيادة من المحقق.
(3) الأربع سنوات وستة الأشهر: هي أقصى مدة الحمل، وأقل مدته.
(4) كانت فراشاً، أي كانت تحت زوجٍ في زوجية قائمة، ويبطل الإقرار إذا وضعت الحمل المقرّ له ْبعد ستة أشهر؛ لاحتمال أن تكون علقت به بعد الإقرار، فيكون غير موجودٍ وقت الإقرار، فيبطل الإقرار لهذا الاحتمال؛ لأننا لم نتيقن وجوده عند الإقرار.
(5) وإن لم تكن فراشاً: أي لم تكن ذات زوج، بأن كانت متوفى عنها مثلاً، فقال المقرّ: عليَّ لهذا الحمل الذي في بطن فلانة ألف درهم، فلو أتت به لأقل من ستة أشهر، أو أكثر، إلى أربع سنوات، لم يبطل الإقرار؛ لاحتمال أن يستمر حملها لأقصى مدة الحمل (أربع سنوات)، وهذا الاحتمال -على بعده وندرته- يجعلنا نصحح الإقرار.
تنبيه:
وهنا لا بدّ أن ننبه إلى عظمة أئمتنا، وعمق نظرتهم الإنسانية؛ حيث طلبوا أتم اليقين وغايته عندما تكون الحامل فراشاً، فقالوا: تأتي به لستة أشهر فأقل، حثى نصحح الإقرار، ولا نبطله.
أما في حالة ما إذا كانت الحامل غير فراشٍ، فقد صححوا الإقرار لأدنى احتمال، فلو جاءت به بعد ستة أشهر إلى أربع سنوات، فهناك احتمال أن تكون هذه الحالة من النوادر التي يبلغ فيها الحمل أقصى مدته.
وسرّ هذه التفرقة أننا في حالة ما إذا كانت فراشاً، لا نطمئن إلى أن نُؤكل الحمل المال الذي يرتبه له الإقرار إلا بيقين، وليس عندنا ما يدعونا لأن نؤكله هذا المال مع الاحتمال.
ْأما في حال ما إذا كانت غير فراش، فنحن في حاجة إلى إثبات نسب هذا الحمل، وفي =

(7/72)


فرع:
4412 - إذا فسر الإقرار المطلق بجهة الإرث، نزل الإرث على ما فسر، فإن فضل شيء، رُدّ على الورثة، وإن كان قد أقر بأن الجميع للحمل (1)؛ إذ لا معرفة له بذلك، ولا تصح القسمة قبل الوضع، فيحمل إقراره على الإشاعة في جميع الميراث، ولا يمتنع أن يطلب الورثة القسمة (2)؛ فينصب القاضي نائباً عن الحمل، ويأخذ بالأسوأ (3) في حقوق بقية الورثة.
فصل
ْفيمن أقر لواحد بعد واحد
4413 - الحيلولة الفعلية موجبة للضمان، وكذا القولية فيما لا يُستدرك، كالطلاق والعتاق، وفيما يمكن تداركه بالتصادق قولان: أقيسهما - وجوب الضمان، فإذا رجع الشاهدان بعد الحكم، فإن كانت الشهادة بطلاق أو عتاق، ضمنا؛ إذ لا يستدركان، بالتصادق، وإن كانت في الأموال، فقولان يجريان فيما لو قال: هذه الدار لزيد، لا، بل لعمرو، أو غصبتها من زيد، لا بل من عمرو؛ فإنها تسلم إلى الأول، فإن سلمها الحاكم، ففي التغريم للثاني القولان، وإن سلمها المقر، فطريقان: إحداهما - التغريم، والثانية - فيه القولان.
__________
= حاجة إلى نفي تهمة الزنا عمن أتت به؛ فهان أمر المال بجانب هذا، فصححنا الإقرار، وأعطيناه المال لأدنى احتمال، إثباتاً للنسب، ونفياً للتهمة، تأمّل روعة هذا الفقه والفهم ومقايسة الأمور!! حينما تعلق الأمر بالمال واستحقاقه، طلبنا اليقين الكامل، وحينما تعلق الأمر بإثبات النسب ونفي التهمة، تعلقنا بأدنى احتمال، وهان أن يأكل المال تبعاً. رحم الله أئمتنا ورضي عنهم.
(1) صورة المسألة: أن يقول: عليّ لهذا الحمل عشرة آلاف، فهذا إقرار مطلق، فإذا طولب بتفسيره، ففسره بجهةٍ ممكنة كالإرث، صح الإقرار، فإذا فسره قائلاً: استحقه إرثاً عن أبيه، أو عن عمه، أو عن أخيه ... ، نزل الإرث على ما فسّره، بمعنى أن هذا الحمل -إن انفصل حياً- استحق بجهة الإرث المذكورة مع باقي الورثة.
(2) أي لا مانع من أن يطلب الورثة القسمة قبل وضع الحمل.
(3) بالأسوأ: أي من حيث حجب النقصان، وحجب الحرمان، وذكورة الحمل، وأنوثته، وتعدّده.

(7/73)


ولو قال: العبد الذي خلفه أبي لفلان، لا بل لفلان، فقولان مرتبان على قوله: هذا العبد لزيد، لا بل لعمرو، وأولى بنفي الضمان، لأنه أضاف أول الإقرار، وآخره إلى غيره. وإن قال: غصبته من زيد، وملكه لعمرو، لزم التسليم إلى زيد، ولا يضمن لعمرو على المذهب؛ إذ لا منافاة بين أن تكون الدار لزيد، واليد لعمرو، بإجارة أو رهن، وقيل: في التغريم القولان.
ولو قال: هذه الدار لزيد، وقد غصبتها من عمرو، فالجمهور على أنها كالمسألة السابقة، فتسلم إلى عمرو، ولا غرم لزيد، على المذهب، وقيل: بل تسلم إلى زيد لتقديمه، وفي الغرم لعمرو القولان.
وإذا قال: غصبت من زيد، لزمه الرد اتفاقاًً، وإن جاز أن تكون يده عن إعارة أو إيداع؛ إذ يجب إعادة الأيدي إلى ما كانت عليه من الإبهام.
فصل
فيما يتعلق برقبة العبد وما لا يتعلق
4414 - يتعلق برقبة العبد كل ما وجب بغير رضا المستحِق، كأبدال المتلفات، وكل ما لزم بغير رضا السيد، كبدل المبيع، والقرض إذا أتلفهما؛ فإنه يتعلق بذمته دون كسبه ورقبته.
ولو أتلف شيئاً بإذن السيد، لم يتعلق بكسبه، على الأصح، وما لزم برضا السيد والمستحِق، فإن لم يكن من التجارة: كالنكاح، والضمان، والشراء لغير التجارة، فلا خلاف في تعلقه بجميع الأكساب. وإن كان من التجارة، تعلق برأس المال وربحه، وفي سائر الأكساب خلاف، وهل يعد الاقتراض من التجارة؟ فيه احتمالان؛ لأن التاجر يحتاج إليه في بعض الأحوال.
وإذا أقر بإتلاف، فلم يصدقه السيد، لم يتعلق إلا بذمته، وعليه بدله بالغاً ما بلغ، وأَبْعد من أوجب الأقل من قيمة الرقبة أو الأرش.
وإن أقر بدين معاملة غير مأذونة، لم يتعلق إلا بالذمة، وإن أقر المأذون بدين معاملة، فإن كان الإذن باقياً، تعلق برأس المال والربح، وفي بقية الأكساب الخلاف.

(7/74)


وإن حجر عليه، لم يقبل على الأصح، لعجزه عن الإنشاء؛ إذ كل من ملك الإنشاء، ملك الإقرار، ومن لا يملك الإنشاء لا يملك الإقرار إلا الإقرار بالرق، وإقرار المرأة بالنكاح.
4415 - إذا أقر المأذون بدين مطلق، ثم فسره بدين معاملة، قُبل، وإن فسره ببدل إتلاف، لم يقبل، وإن مات قبل البيان، لم يحمل على دين المعاملة، على الأصح، لاحتمال أنه من إتلاف.
فصل
فيمن أقر بشيء ثم فسره بوديعة
4416 - إذا قال: له علي عشرة، ثم أحضر عشرة، ذكر أنها وديعة، وفسر بها، ففيما يلزمه طريقان: أصحهما - أنه لا يلزمه إلا عشرة.
فإن انفصل تفسيره، ضمنها، فلم يقبل قوله في ردّها وتلفها، وإن اتصل تفسيره، ففي الضمان قولان، يقربان من قولي ذكر الأجل في الاتصال.
والطريقة الثانية - إن انفصل التفسير، لزمه العشرة المحضرة، ولا يلزمه عشرة
أخرى، في أصح القولين.
وإن اتصل التفسير، فقال: له علي عشرة وديعة، أو عشرة أودعنيها، فإن أوجبنا العشرين في الانفصال، ففي الاتصال قولان، والتفريع على الطريقة الأولى إذا قبلنا قوله في الانفصال، فقال: له في ذمتي عشرة، ثم جاء بوديعة، وفسره بها، فإن لم يتأول إقراره، لزمه عشرون، على المذهب، وإن تأوله بأنه اعتدى فيها، فلزمه ضمانها، ففي لزوم العشرين وجهان.
وإن قال: له علي عشرة ديناً، ثم فسر بالوديعة، فإن تأول كلامه، فعلى وجهين، وإن لم يتأوله، لزمه عشرون، وأبعد من ألحقه بما لو قال: له في ذمتي عشرة.
فرع:
4417 - إذا قال: له علي عشرة، ثم ادعى أنها من ثمن خمرٍ، أو فسرها بوديعة، وزعم أن المالك شرط عليه ضمانها وأنه ظن وجوب الضمان، لم يقبل قوله

(7/75)


في ذلك، وفي سماع دعواه للتحليف وجهان. هذا إذا فسر منفصلاً.
وإن وصل الإقرار بتفسير ينافيه، فإن لم يشعر بواقعة، كقوله: له علي عشرة إلا عشرة، لم يقبل، وتلزمه العشرة.
وإن أشعر بواقعة، فإن عُدَّ الكلام مع المفسر منتظماً، كقوله: علي ألفٌ وديعة، أو ألف من ثمن خمر، فقولان، وإن لم يعدّ الكلام منتظماً، كقوله: علي ألفٌ قضيتها، أو له في ذمتي ألفٌ وديعة، فالمذهب أنه لا يقبل، وأبعد من قال: فيه القولان.
4418 - إذا قال: له عندي، أو معي، أو في يدي ألف، ثم فسر بالوديعة، قبل.
وإن قال: له عندي ألف درهم، ثم فسر بالعارية، لزمه الضمان، سواء صححنا إعارة الدراهم، أو منعناها؛ لأن ما يضمن إذا صح مضمون إذا فسد، وما لا يضمن صحيحه، لم يضمن فاسده.
فصل
فيمن قال: له في هذا العبد ألف
4419 - الألفاظ ثلاثة: نص، وظاهر، [ومجمل] (1)، فيعمل بموجب النص والظاهر، ويرجع في [المجمل] (1) إلى البيان.
فإذا قال: له في هذا العبد ألف درهم، سئل عن مراده، فإن فسره بأرش جناية، قُبل، وتخير بين أن يفديه أو يسلمه ليباع.
وإن فسر بأنه رهن بألف عليه، لزمه الألف، وفي قبول تفسيره وجهان: فإن قلنا: لا يقبل، فامتنع من التفسير، ففي حبسه (2) الأوجه الثلاثة (3)، ولا يطالب بمجرد
__________
(1) في الأصل: "محتمل" والمثبت من تقسيم الإمام للألفاظ في البرهان، وهو الشائع في ألسنة الفقهاء. (ر. البرهان: 1/ فقرة: 236، والروضة: 4/ 371).
(2) حَبْسه: أي حبسه حتى يفسِّر إقراره.
(3) والأوجه الثلاثة هي: "أولها -وهو أظهرها- أنا نحبسه حَبْسَنا إياه إذا امتنع من أداء الحق؛ لأن التفسير والبيان حقٌّ واجب. وثانيها - أنه لا يحبس، بل ينظر: إذا وقع الإقرار المبهم في جواب دعوى، وامتنع عن التفسير، جُعل ذلك إنكاراً منه، وتعرض عليه اليمين، فإن أصر، =

(7/76)


التفسير، بل يدعي عليه بجهة ينبني عليها الطلب.
وإن فَسَّر بأنه وصَّى له من ثمنه بألف، بيع، وصرف إليه ألف، فإن فضل شيء، فهو للمقر، وإن بيع بالألف أو بدونه، صرف الثمن إلى المقر له، ولا حق للمقر في الثمن.
وإن فَسَّر بأنه وزن في ثمنه ألفاً، سئل عما وزن هو في الثمن، فإن قال: وزنت ألفاً، كان بينهما نصفين، وإن قال: وزنت ألفين، قضي له بالثلثين، سواء نقصت قيمة العبد أو زادت؛ لأنهما قد يَغْبنان ويُغبَنان.
فصل
في إضافة الإقرار إلى مال المقر
4420 - إذا قال: له في مالي ألف درهم، لزمه.
وإن قال: من مالي، فهو وعد بالهبة، على النص فيهما، ولهم في النصين طريقان: إحداهما - أنه وعد بالهبة في الصورتين، والثانية - إن قال: من مالي، فهو واعد، وإن قال: في مالي، ففي كونه مقراً، قولان؛ لأن كلمة من للتبعيض، وكلمة في للظرف والمكان.
__________
= جعل ناكلاً عن اليمين، وحلف المدعي.
وإن أقر ابتداء، قلنا للمقر له: ادّع عليه حقك، فإذا ادعاه، وأقر بما ادعاه أو أنكر، فذاك، وأجرينا عليه الحكم، وإن قال: لا أدري، جعلناه منكراً، فإن أصر، جعلناه ناكلاً، وذلك أنه إن أمكن تحصيل الغرض من غير حبس لا يحبس.
والثالث - أنه: إن أقرّ بغصب، وامتنع من بيان المغصوب، حبس، وإن أقر بدين مبهم، فالحكم كما ذكرنا في الوجه الثاني" انتهى بتصرفٍ يسير جداً بألفاظ الرافعي حاكياً إياه عن إمام الحرمين (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 11/ 120، 121).
وزاد النووي في الروضة وجهاً رابعاً هو - "إن قال: عليّ شيء، وامتنع من التفسير، لم يحبس، وإن قال: عليّ ثوب أو فضة، ولم يبين، حبس، قاله أبو عاصم العبادي، وأشار في شرح كلامه إلى أن الفرق مبني على قبول تفسير الشيء بالخمر ونحوه؛ فإنه لا يتوجه بذلك مطالبة وحبس". انتهى بنصه (ر. الروضة: 4/ 373).

(7/77)


وإن قال: له ألف في ميراث أبي، فقد أقر على أبيه بالدين، وإن قال: له في ميراثي من أبي، أو من ميراثي من أبي ألف، فهو وعد بالهبة، في الصورتين، وخرجه القاضي، وصاحب التقريب على الطريقين.
وإن قال: له في داري نصفها، لم يكن مقراً، وأجراه بعضهم على القولين، وغلطه الإمام؛ إذ لو قال: داري لفلان، لم يكن مقراً بلا خلاف.
وإنما يمكن تخريج تقدير الإقرار إذا قال: له في داري ألف درهم، وكذلك لو قال: له في عبدي، بخلاف ما لو قال: له في هذا العبد، فإنه لم يضفه إلى نفسه، فلذلك يؤخذ بالتفسير.
ولو أتى بكلمةِ (عليَّ) وأضاف المال أو الميراث إلى نفسه، أو إلى أبيه بكلمة (من) أو (في)، لزمه ذلك؛ لإتيانه بصيغة الالتزام.
وإن قال: له عليّ في داري نصفها، لم يكن مقراً؛ إذ لا يصح التزام الأعيان.
قلت (1): قد يصح التزامها بالنذر للمقر له، فينزّل الإقرار عليه؛ لإمكانه، أو يخرج على القولين في الإقرار المطلق للحمل.
فصل
في قبول الإقرار
4421 - من التصرف ما يشترط فيه القبول، كعقود المعاوضة.
ومنه ما لا يشترط قبوله، ولكنه يبطل بالرد، فلا يعود إلا بإنشاء جديد، كالوكالة إذا لم نشترط قبولها، على الأصح.
ومنه ما لا يشترط قبوله، ولا يُبطله الرد على التأبيد، بل إن رجع فيه بعد الرد، لم يفتقر إلى إنشاء جديد، مثاله: لو أقر لرجل بثوب، فكذبه، ثم صدقه، وقال: تذكرت، فظهر لي صدقه، قُضي له بالثوب، وإن لم يجدد المقر الإقرار، وإن أصر على التكذيب، لم يحكم له بالملك في الحال، والمذهب أنه يترك في يد المقر، ليحفظه، وقيل: بل ينزعه الحاكم ليحفظه بنفسه، أو نائبه، أو يستحفظه المقر إن رآه أهلاً لذلك.
__________
(1) القائل هو العز بن عبد السلام.

(7/78)


ولو أقر بأن بيده مالاً، لا يعرف مالكه، فالوجه القطع بالانتزاع، وأبعد من خرجه على الخلاف.
فرع:
4422 - إذا أصر المقر له على التكذيب، فرجع المقِرُّ عن الإقرار، وزعم أن المقر به ملك له، وأنه اشتبه عليه، أو غلط في الإقرار، فإن أوجبنا الانتزاع، لم يقبل رجوعه، وكذلك إن لم نوجبه على المذهب، لأن المقر له لو رجع إلى التصديق، لقُبل اتفاقاًً.
وأبعد من نفذ رجوعه وتصرفه بشرط إصرار المقر له على الإنكار، وعلى هذا الوجه لو رجع المقر له إلى التصديق بعد تصرفٍ لازم، اتجه ألا ينقض لتعلقه بثالث.
فرع:
4423 - إذا أقر بعبدٍ قد ثبت أنه يملكه، فإن صدقه المقر له، فأقر العبد لثالث، لم يقبل إقراره، لثبوت الملك عليه، وإن كذبه المقر له، ففي القضاء بحرية العبد وجهان؛ لأنه قد عاد إلى يد نفسه، فإن قلنا: يَعتِق، لم ينقض العتق برجوع المقر له إلى التصديق، وإن قلنا: لا يعتِق، ففي انتزاعه الوجهان.
فرع:
4424 - إذا ثبتت اليد على إنسان، فادعى حرية أصلية، فالقول قوله، إذ الأصل حرية الإنسان، ولو كان بيده طفل يظهر أنه ملكه، ويتصرف فيه تصرف الملاك، فادعى بعد البلوغ حرية أصلية، فالقول قوله، على الأصح. وقد قال الفقهاء: الحزم للمالك أن يأخذ إقرار الرقيق بالرق، حذراً من الإنكار.
فصل
فيمن شهد بإعتاق عبد ثم اشتراه
4425 - إذا شهد على رجل أنه أعتق عبده، فردت شهادته، بسببٍ من الأسباب، ثم اشتراه، صح الشراء، وعَتَق اتفاقاً، وولاؤه موقوف.
فإن مات عن كسبٍ، فله أن يأخذ منه قدر الثمن، على الأصبح، وأبعد من منع من أخذ الثمن للاختلاف في جهته.
وهذه المعاملة: شراء، أو فداء، أو بيع من جهة البائع، فداء من جانب

(7/79)


المشتري؟ فيه ثلاثة أوجه: فإن جعلت فداء، فلا خيار لواحد منهما، وإن جعلت بيعاً من الجانبين، أو من أحدهما، فلا خيار للمشتري اتفاقاًً؛ إذ لا ملك له، وهل يثبت خيار المجلس للبائع؟ فيه وجهان، ولا يبعد أن يثبت له خيار الشرط، لأنه يقبل الإثبات من أحد الجانبين.
فرع:
4426 - إذا اشترى لنفسه عبداً [ممن] (1) أقرّ بغصبه، صح عند الجمهور، ولزم دفعه إلى المغصوب منه، وقيل: لا يصح أن يشتري لغيره بمال نفسه، بخلاف ما ذكرناه في العتق، فإنه افتداء.
فصل
فيمن أقر بدراهم، ثم فسرها بناقصة أو مغشوشة
4427 - الدرهم صريح في الخالص الذي زنة كل عشرة منه سبعة مثاقيل، فإذا أُطلق، حمل على الخالص الوازن، لأن لفظ الأقارير، والمعاملات صريح وكناية، فيحمل الصريح على ظاهره، ويرجع في الكناية إلى اللافظ، والصريح ما شاع تكرره في عرف الشرع، أو اللغة، فلفظ المال صريح في الأقل محتمل فيما زاد، فيرجع فيه إلى البيان.
فإن أطلق الإقرار بالدراهم، ثم فسرها بالنقص، فإن انفصل التفسير، وكانت دراهم بلد الإقرار وازنة، لم يقبل، وإن كانت ناقصة، قبل، على الأصح، وإن اتصل التفسير، فإن كانت أوزان البلد ناقصة، قبل، وكذا إن كانت وازنة على الأصح، وقيل: فيه قولان.
فإن حملنا الإقرار على الناقصة، فالمعاملة بذلك أولى، وإن حملناه على الوازنة، ففي المعاملة وجهان.
وإذا اختلفت الدراهم في طبعها، وسكتها، حملت المعاملة على أغلبها في موضع المعاملة، اتفاقاً، والفرق أن العرف لا يؤثر في تغيير الصريح، وإنما يؤثر في
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

(7/80)


إزالة الإبهام؛ ولذلك لو عم العرف باستعمال لفظ الطلاق في الخلاص والانطلاق، ثم زعم الزوج أنه أراد ذلك بلفظه، لم يُقبل، ويعتبر في تعليق الطلاق، والخلع، والعتاق من الدراهم ما يعتبر في الإقرار.
فرع:
4428 - التفسير بالمغشوشة كالتفسير بالناقصة؛ لأن الغش موجب
للنقصان.
ولو عمت الفلوس في ناحية، لم يحمل عليها مطلق الدراهم اتفاقاًً.
فرع:
4429 - تصغير الدرهم لا يقتضي النقصان، فإذا قال: له عليّ دريهم، أو دريهمان، لزمه الوازن اتفاقاًً؛ لأن الصغر والكبر إضافيان، فالدرهم الصريح صغير بالنسبة إلى البغلي، كبير بالنسبة إلى الطبري.
فصل
في بيان العطف والتأكيد في الإقرار والطلاق
4430 - إذا قال: له علي درهم في دينار، فهو كما لو قال: له في هذا العبد دينار في جميع الصور إلا في الجناية، وإن فسر بأنه درهم مع دينار، لزمه الدرهم والدينار، وإن قال: له علي درهم درهم، أو: درهم، بل درهم، لزمه درهم واحد. وإن قال: درهم بل درهمان، لزمه درهمان، وإن قال: له هذا الدرهم، بل هذان الدرهمان، لزمه الثلاثة.
وإن قال: درهم ودرهم، لزمه درهمان، وإن قال: درهم، ودرهم، ودرهم، أو قال: أنت طالق وطالق وطالق، فإن أراد باللفظ الأخير التحديد، لزمه ثلاثة دراهم، ووقع ثلاث طلقات، وإن أراد به التأكيد، لزمه درهمان، ووقع طلقتان، وإن أطلق، فقولان عند الأصحاب، وقال الإمام: يتجه تخصيصهما بالطلاق، وأن يُرجع في الإقرار إلى البيان. وإن أراد بالثالث تأكيد الأول، ففي القبول وجهان.
وأبعد من قبل ذلك في الإقرار دون الطلاق.
ولو قال: درهم ثم درهم، ثم درهم، فهو كقوله: درهم، ودرهم، ودرهم.

(7/81)


ولو قال: درهم ثم درهم ودرهم، أو درهم ودرهم ثم درهم، لزمه ثلاثة؛ لاختلاف العاطف. وإن قال: درهم ثم درهم، لزمه درهمان. وإن قال: درهم فدرهم، فإن أراد العطف، لزمه درهمان، وإن أراد فدرهمٌ لازم إذاً، لزمه درهم، على النص، ويقع في نظيره من الطلاق طلقتان، وخرّج ابن خيران المسألتين على قولين، والفرق أصح؛ لأن الإقرار يقبل التكرار وإن طال الزمان، بخلاف الطلاق، ولذلك لو أتى بلفظ الإقرار في يومين، لزمه شيء واحد، ولو أتى بلفظ الطلاق في يومين، وقع طلقتان.
فصل
فيما يختلف فيه الطلاق والإقرار
4431 - إذا قال: له علي درهم فوق درهم، أو فوقه درهم، أو تحت درهم، أو تحته درهم، أو مع درهم، أو معه درهم، فالنص لزوم درهم، ويقع في نظيره من الطلاق طلقتان، وأبعد من خرج ذلك في الإقرار، وأوجب درهمين؛ إذ يحتمل أن يريد بالفوقية والتحتية الجودة والرداءة، أو يريد فوق درهمٍ لي، أو تحت درهم لي، ولا ينتظم مثل هذا في الطلاق.
ولو قال: درهم قبل درهم، أو قبله درهم، أو بعد درهم، أو بعده درهم، فالنص وجوب درهمين، وعلى قولٍ مخرج يجب درهم، وقيل: إن قال: قَبْل درهم أو بعد درهم، وجب درهم، وإن قال: قبله أو بعده، وجب درهمان.
فصل
في الإضراب عن الإقرار
4432 - إذا قال: له علي قفيز، لا بل قفيزان، لزم قفيزان. ولو قال: أنت طالق طلقة، بل طلقتين، فقد نحكم بوقوع الثلاث.
وإن قال: درهم، لا بل قفيزان، لزم درهم وقفيزان. وإن قال: عشرة، لا بل

(7/82)


تسعة؛ وجبت العشرة، وإن قال: دينار وديناران، لا بل قفيز وقفيزان، لزم ثلاثة دنانير وثلاثة من القفزان، وإن قال: دينار فقفيز حنطة، لم يجب إلا الدينار، وإن قال: ما بين درهم إلى عشرة، لزم ثمانية اتفاقاًً. وإن قال: من درهم إلى عشرة، فالواجب ثمانية، أو تسعة، أو عشرة؟ فيه ثلاثة أوجه.
وإن قال: بعتك من الجدار إلى الجدار، لم يدخل الجداران، والفرق أن التحديد إنما يحسن فيما يتعلق به الحسّ والعيان.
فصل
في إعادة الإقرار
4433 - إذا أقر بألفٍ في يومين، أو والى بين الإقرارين، فإن اتفق وصفهما وسببهما، أو أمكن اتفاقهما، لزم ألف واحد، وإن اختلفا أو أحدهما، وجب ألفان.
وإن اختلف قدر المقرّ به، واتفق سببه ووصفه، دخل الأقل في الأكثر، سواء تقدم الأكثر، أو تأخر، فإذا أقر يوم السبت بألف، ويوم الأحد بألفين، وجب ألفإن، وإن أقر يوم الأحد بألف، ويوم الجمعة بألف، أو بخمسمائة، لزمه ألف.
وإن أقر يوم السبت بألف صحاح، أو من ثمن مبيع، ويوم الأحد بألف مكسر، أو من قرض وجب ألفان، وإن أقر يوم السبت بألف مطلق، ويوم الأحد بألف صحيح أو مكسر، لزمه ما يقتضيه التقييد من الصحة أو التكسير، ولو لزمه ألف، فأثبت أن المستحِق أقر بقبض خمسمائة في شعبان، وبثلثمائة في رمضان، وبمائتين في شوال، فإن كانت هذه الأشهر تواريخ [للقبض] (1)، لم يثبت القبض إلا في خمسمائة، وإن كانت تواريخ لما أقرّ به من القبوض، ثبت قبض الألف.
__________
(1) في الأصل: "للإقرار" والمثبت تصرّف من المحقق.

(7/83)


فصل
فيمن أقر بوراثة، أو وصية، أو توكيل، ثم امتنع من التسليم
4434 - إذا أقر للميت بدين، وحصر إرثه في معين، لزمه التسليم إليه، ولو صدق على التوكيل في قبض الدين، لم يلزم التسليم إلى الوكيل، ما لم يثبت التوكيل، على النص في الصورتين.
وللأصحاب في النصين ثلاث طرق: إحداهن - في الصورتين قولان بالنقل والتخريج. والثانية - القطع [بالتسليم] (1). والثالثة - القطع بالتسليم في صورة الإرث، والتردد في صورة التوكيل، والفرق أَمْنه من التكذيب في صورة الإرث، وتوقعه في التوكيل. ولو ادعى أنه وصِيُ الميت على أولاده، فصدّقه من عليه الحق، فهو كالتصديق على التوكيل، إذ لا يأمن تكذيب الأطفال عند الاستقلال.
فصل
فيمن ادعى أنه تزوج أمة وادعى المالك أنه باعها منه
4435 - إذا كان بيد رجل جارية، فقال لمالكها: زوّجتنيها، فقال: بل بعتكها (2)، حلف كل واحد منهما على نفي ما يُدّعى عليه؛ لأنهما اختلفا في عقدين، بخلاف المتبايعين (3).
__________
(1) في الأصل: "بالتقرير"، والمثبت تصرفٌ من المحقق، رعاية للسياق.
(2) من ادّعى البيع يطلب الثمن؛ لأنه سلّم المبيع، ومن ادعى الزواج يقرّ بالمهر، وينكر الثمن. فكل واحد منهما يدّعي الأفضل له، لأن الثمن أكبر من المهر، لا شك.
(3) فإن حلفا، سقطت دعوى الثمن، ودعوى النكاح، ولا مهر، سواء دخل بها صاحب اليد أم لم يدخل؛ لأنه وإن أقر بالمهر لمن ادعاه مالكاً مزوِّجاً، فهو منكر للتزويج مكذب للمقر بالمهر، وشرط صحة الإقرار عدم تكذيب المقرّ له، وتعود الجارية إلى المالك؛ لأن من له اليد عليها مقرّ له بملكها، وتوجيه عودتها سيأتي في كلام المؤلف قريباً. وانظر في بسط هذه المسألة (روضة الطالبين: 4/ 409، 410).

(7/84)


وقال في التقريب: إن جعلنا يمين الرد كالإقرار، فلا يمين على مدعي البيع، لإقراره بزوال ملكه، ومن أقر بزوال ملكه، لم يسمع إقراره بالزوجية (1).
وقال الإمام: إن قبلنا رجوع المقر عن الإقرار (2)، فالحكم ما ذكره الأصحاب، وإن لم نقبل رجوعه، فالحكم ما ذكره صاحب التقريب.
قلت (3): الوجه ما ذكره الأصحاب؛ لأنا إنما رددنا الإقرار بالتزويج بعد زوال الملك لما فيه من الإضرار بالمالك، وهاهنا لا ضرر على مدعي الزوجية في تصديقه عليها، والحق لا يعدوهما.
والتفريع على ما ذكره الأصحاب، فإذا حلف كل منهما على نفي ما ادُّعي به عليه، فإن كان التنازع قبل الوطء، أو بعده وقبل الإحبال، فهل لمدعي البيع أن يفسخه، لتعذر الثمن، كما يفسخ في صورة الإفلاس، أو يخرّج على الظفر بغير الجنس؟ فيه وجهان، وهل ينتزع الحاكم المهر ليحفظه، أو يتركه بيد الواطىء؟ فيه وجهان.
وأيهما نكل عن اليمين، حلف الآخر يميناً للنفي، وأخرى للإثبات، وأبعد القاضي، فاكتفى بيمين تجمع النفي والإثبات.
وإن كان التنازع بعد الاستيلاد، فلا تعلق لمدعي البيع بالجارية، ويعتِق ولدُها، ويثبت لها حكم الاستيلاد، لاعتراف المالك بجميع ذلك، ولمدّعي التزويج أن يطأها في الباطن، وكذا في الظاهر على الأصح، وأبعد من أطلق وجهين، ولم يفرق بين الباطن والظاهر.
__________
(1) هناك خلاف -سيأتي تفصيله في كتاب الدعاوى والبينات- في عدّ يمين الرد بمنزلة البينة، أو بمنزلة الإقرار، وبكل منها تنقطع الخصومة.
فإذا اخترنا جَعْلَ يمين الرد إقراراً، فلا يمين على مدعي البيع؛ لأنه مقر بزوال ملكه، فعلى تقدير النكول، وفصل الخصومة بيمين الرد، نكون جعلناه قد أقرّ بتزويج أمةٍ لا يملكها، ومثل هذا الإقرار لا يسمع. هذا مأخذ كلام صاحب التقريب، وبيان مبناه ومعناه.
(2) علق الإمام (إمام الحرمين) قبول قول صاحب التقريب على حكمنا بأن رجوع المقر عن إقراره لا يقبل، أما إذا قبلنا رجوع المقر عن إقراره، فلا مانع من أن يحلف مدعي البيع - كما ذكره الأصحاب، وتكون يمين الردّ -إذا فصلت بها الخصومة- إقراراً آخر رجع به عن إقراره الأول.
(3) "قلت": القائل هو العز بن عبد السلام.

(7/85)


وإنما غلط في ذلك من غلط، لظنهم أن الاختلاف في الجهة يمنع الحلّ، حتى قال كثير منهم: الاختلاف في الجهة لا يبيح إن كان في الأبضاع، وإن كان في الأموال، فوجهان.
وإنما نشأ هذا الغلط من نص الشافعي أن من اشترى زوجته بشرط الخيار، لم يجز؛ لأنه لا يدري أيطأ زوجته أو مملوكته، وقد تصرف الأصحاب في النص، فقالوا: إن بقَّيْنا ملك البائع، جاز الوطء؛ لأنها زوجته، وإن نقلنا الملك إلى المشتري، فحِلّ الوطء وتحريمه على ما تقدّم في البيع إذا كان الخيار لهما أو لأحدهما. وإن وقفنا الملك، فهذه مسألة النص: من جهة أن النكاح ينفسخ بالملك الضعيف الذي لا يُبيح الوطء، فلو وطئها، لكان وطؤه مردداً بين أن يقع في زوجة يجوز وطؤها، أو في مملوكة لا يجوز وطؤها.
فرع:
4436 - نفقة الأولاد على المستولد عند الجمهور، كما لو قال لإنسان: بعتك أباك، فأنكر، فإنه يعتِق عليه، ويلزمه نفقته.
ونفقةُ المستولدة على المستولد إن أبحناها له، وإن حرّمناها، فلا نفقة عليه؛ لأن تحريمها كنشوزها، وهل تجب في كسبها، أو على مدعي البيع؟
فيه وجهان: أظهرهما - أنها عليه؛ لأنها كانت لازمة له، فلا تسقط عنه بدعواه، فإن أوجبناها في كسبها، فلم تكن وجبت في بيت المال، وإن ماتت في حياة المستولد، كانت مؤونة تجهيزها وتكفينها كنفقتها، فإن تركت كسباً، وُقف، فإن كان الثمن قد استوفي من المستولد، فله أن يأخذ من الكسب بقدره، وإن مات المستولد قبلها، عَتَقَت بموته، فإن ماتت بعده عن كسب، ورثه أقاربها، فإن لم يكن لها قريب، وقف كسبها، ويؤخذ منه قدر الثمن، إن كان قد ثبت بالبينة، وإن كان البائع لم يقبض الثمن، فله أخذه من الكسب؛ لأنه إن كُذِّب، فالكسب له، وإن صُدِّق، فقد ظفر بمال الظالم، وأبعد من منعه من الأخذ.

(7/86)


فصل
في جواب الدعوى
4437 - إذا ادعى عليه بمال، فقال: أنا مقر، لم يلزمه شيء، لاحتمال أن يريد: أنا مقر ببطلان ما ادعيت، وإن قال: صدق، أو بلى، أو نعم، أو أجَل، أو قال: أنا مقر بما ادعيت، أو أقر بما ادعيت، لزمه ذلك، لوجود صرائح الإقرار.
وخالف القاضي في قوله: أنا أقر بما ادعيت، لإمكان حمله على الوعد بالإقرار، وفرق بينه وبين لفظ الشهادة؛ فإنها لا تحمل على الوعد لقرائن الأحوال، وعرف الاستعمال، ولما في لفظها من التعبد، ولذلك لو قال الشاهد: أعلم وأتيقن، لم تقبل على الأصح، وهذا مما انفرد به، والقرائن أيضاً تصرف هذا اللفظ إلى الإقرار، وإن جاز حمله على الوعد، فالقياس أن الوعد بالإقرار إقرار، كما جعل الجمهور التوكيل بالإقرار إقراراً.
فصل
في نكول المدعى عليه
4438 - إذا سكت بعد الدعوى، أو قال: لا أقر، ولا أنكر، كان ذلك كالتصريح بالإنكار، فإن أصر عليه، حكم بنكوله، وردت اليمين على خصمه، ولا يبادر الحاكم إلى ردّ اليمن حتى يغلب على ظنه النكول، ويأخذ في ذلك بقرائن الأحوال؛ لأن سكوته قد يكون عن دهشة أو تأنٍّ، أو هيبة، وقد يكون للنكول والامتناع، وحسنٌ أن يقول له: إن تماديت على السكوت، حكمت بنكولك، وحلَّفت خصمك، والأولى ألا يحكم بنكوله حتى يعرض اليمن عليه ثلاثاً، وتكفي (1) العرضة الواحدة.
__________
(1) لعلها: "وقيل: تكفى العرضة الواحدة".

(7/87)


فإن قال: أنظرني حتى أفكر وأراجع الحساب، لم نمهله.
وإن صرح بالنكول، أو قال: لا أحلف، أو ظهر للحاكم أن سكوته نكول، ثم رغب في اليمين، فإن كان قبل الحكم بنكوله، أجبناه.
وإن كان بعد الحكم، منعناه، إلا أن يرضى المدعي بتحليفه، فلهما ذلك، اتفاقاًً.
وقيل يسقط يمينه بالتصريح بالامتناع، كما يسقط بالحكم بالنكول إذا سكت.
ولو أعرض الحاكم عنه، وأقبل على المدعي ليحلفه، كان كالحكم بنكوله، وقيل: لا يمتنع تحليفه ما لم يعرض اليمين على المدعي.
والحاصل أن يمين المدعى عليه لا تسقط إلا بإقراره، أو الحكم بنكوله، مع رغبة خصمه في يمين الرد.
فصل
في نكول المدعي
4439 - إذا نكل المدعي عن اليمين المردودة، كان كحلف المدعى عليه في انقضاء الخصام، وإن سكت، أو قال: سأفكر وأراجع الحساب، فله أن يحلف متى أراد.
وقيل: إذا ظهر للحاكم نكوله، لم يمهله، وحكم بانقضاء الخصومة؛ اعتباراً بجانب المدعى عليه، بل أولى؛ لأن المدعى عليه قد تفجؤه الدعوى مع التباس الحال، والمدعي لا يُقْدم إلا عن بصيرة؛ لأنه مختار في الدعوى، فيبعد أن يتمكن من إحضار المدعى عليه للتحليف متى أراد.

(7/88)


فصل
فيمن أقر بشيء، ثم تأول الإقرار
4440 - إذا أقر بهبة وإقباض، أو رهن وإقباض، ثم قال: لم أقبضه حقيقة، بل ظننت أن القبض يحصل بالقول، أو اعتمدت على كتاب وكيل صدوق، ثم بان أنه مزور، فالنص سماع دعواه لتحليف خصمه، فإن حلف أنه أقبضه حقيقة، انقطع الخصام، وإن نكل، ردت اليمين عليه، فإن حلف، قضي له.
ولو أقر على نفسه أنه اقترض، أو باع وقبض الثمن، ثم ادعى أنه لم يقبض ذلك، وإنما قدم الإشهاد بالقبض على ما جرت به العادة، وطلب يمين الخصم، فالمذهب أنه لا يجاب، لأنه لم يتأول الإقرار، فلا نخالف الصريح لأجل الاعتياد، وفيه وجه أنه يجاب، فعلى هذا لو كان المشتري قد صالح عن الثمن، ففي كيفية يمينه وجهان: أحدهما - يكفيه أن يحلف أنه لا يلزمه تسليم الثمن، والثاني - يحلف على المصالحة، ولا يضره؛ لاعتضاده بالإقرار السابق، وبأن الصلح معتاد.
ولو أشهد على نفسه بإتلاف، ثم ادعى أنه ما أتلف، وإنما أشهد على نفسه بذلك لعزمه على الإتلاف، لم تسمع دعواه؛ إذ لا تأويل، ولا اعتياد.
فصل
فيمن باع عبده من نفسه أو أعتقه على عوض ناجز
4441 - إذا قال لعبده: أنت حرٌّ على ألف، فقبل متصلاً، أو قال: إن ضمنت لي ألفاً، فأنت حر، فضمن متصلاً، عَتَقَ في الحال، ولزمه الألف، وثبت عليه الولاء. وإن قال: إن أعطيتني ألفاً، فأنت حرّ، اختص الإعطاء بالمجلس، فإن أعطاه ألفاً، كان اكتسبه، أو اغتصبه، وقع العتق، على الأظهر، وقيل: لا يقع حتى يعطيه ألفاً من كسبه يحدثه بعد التعليق؛ لأن الغرض من التعليق حثه على الاكتساب.
فعلى هذا إن تُصوّر أن يكتسبه في المجلس، ويدفعه إليه، عتق، وإلا فلا.

(7/89)


وإن قال: بعتك نفسك، فقال: قبلت، فقولان: أحدهما - لا يصح، ولا يعتِق، والثاني - يصح، ويعتق، ونُلزمه الثمن، وثبت الولاء. وأبعد من نفى الولاء. ولا يثبت في هذه المعاملة خيار المجلس، ولا خيار الشرط.
ولو اشترى الرجل أباه، ففي ثبوت خيار المجلس للمشتري وجهان، فإن أثبتناه، ففي خيار الشرط وجهان، فإن أثبتنا الخيار للمشتري، فالبائع بذلك أولى، وإن منعناه، ففي ثبوته للبائع وجهان: والأظهر أنه لا يثبت لواحدٍ منهما؛ لأنه عقد إعتاق.
ولو اشترى من شهد بحريته، فلا خيار له اتفاقاًً.
فصل
فيمن ادعى شيئاًً، فاختلفت الشهادة له بالزيادة والنقصان
4442 - إذا ادعى ألفين، فشهد بهما شاهد، وشهد آخر بألف، أو بخمسمائة، ثبت الألف، أو الخمسمائة، ولو ادعى ألفاً، فشهد به أحدهما، وشهد الآخر بألفين، ردت شهادته بالألف الزائد.
فإن كذبه المدعي فيه، ففي قبول شهادته في الألف المدعى به قولا تبعيض الشهادة.
وإن صدقه، فهل يصير مجروحاً في الألف الزائد على الخصوص؟ فيه وجهان يجريان في كل شهادة تقدمت الدعوى، والقياس أنه لا يصير مجروحاً بذلك، لضعف تهمة المبادرة، فإن أثبتنا الجرح، فلا يتعدى إلى غير تلك الواقعة من الشهادات، وفي تأبده وجهان: أحدهما - التأبد، كالفاسق إذا ردّت شهادته، فأعادها بعد التعديل. والثاني - يستمر الجرح إلى أن يستبرىء، وتزول عنه تهمة المبادرة.
وإن لم يثبت الجرح، ففي قبول شهادته في الألف المدعى به طريقان: إحداهما - التخريج على التبعيض، والثانية - القطع بالقبول؛ لأن تهمة المبادرة ضعيفة، فلا تمنع

(7/90)


القبول في غير محلها كما لو أتى بلفظ الشهادة في غير مجلس الحكم.
فرع:
4443 - لو ادعى بالألفين ثانياً، فأعاد الشهادة بهما، فإن لم نثبت الجرح، قبلت شهادته، وإن أثبتناه، ردت في الألف الزائد، وفي الآخر قولا التبعيض، فإن قلنا بالتبعيض، ثبت الألف، وإن منعنا التبعيض، فلا بد من إعادة الشهادة بالألف المدعى، ولا يشترط إعادة الدعوى على الأصح.
فصل
فيما يلفق من الشهادات وما لا يلفق
4444 - إذا ادعى عليه بألف ثمناً، فأنكر، واعترف بألف قرضاً، ففي ثبوت ألفٍ وجهان، والأكثرون على الإثبات، ولو ادعى بألفٍ ثمناً، فشهد شاهد له، أو أحدهما بألف قرضاً، لم يثبت شيء، وإن شهد أحدهما بطلاق في شعبان، والآخر بطلاق في رمضان، لم تتلفق الشهادتان.
ولو شهد أحدهما أنه أقر في شعبان بغصب مكانٍ معين، وشهد الآخر أنه أقر في رمضان بغصب ذلك المكان، تلفقت الشهادتان، هذا هو النص، وعليه الجمهور، وخرج بعضهم مسألة الغصب والطلاق على قولين، ولا يتجه التخريج في الطلاق، وإن اتجه في الإقرار؛ لأن لفظ الإقرار لو أتى به في يومين، لم يتعدد الحق، ولو أتى بلفظ الطلاق في يومين، لتعدد الطلاق.
والذي نقله المعتبرون أن المشهود به إذا تعدد أو اختلف بالزمان، أو المكان، فإن كان إقراراً، واتحد المقرّ به، تلفقت الشهادتان، وإن كان إنشاء كالبيع والإتلاف والطلاق، فلا تلفيق، فلو شهد أحدهما أنه أقر بألف في شعبان، والآخر أنه أقر بألف في رمضان، أو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية بألف، أو بقذف، وشهد الآخر أنه بالعجمية بألف، أو بقذف، ثبت الألف والقذف، وتلفقت الشهادتان.
ولو شهد أحدهما بألف ثمناً لبيع أنشأه في شعبان، وشهد الآخر بألف ثمناً لبيع أنشاه في رمضان، أو شهد أحدهما أنه قذف بالعربية، والآخر أنه قذف بالعجمية، أو

(7/91)


شهد أحدهما بقذف يوم السبت، والآخر بقذفٍ يوم الأحد، أو شهد أحدهما بقذف بالشام، والآخر بقذف في العراق، لم تتلفق الشهادتان.
فروع:
4445 - الأول - إذا شهد أحدهما على إقراره بقذفٍ عربيٍّ، والآخر على الإقرار بقذفٍ عجمي، ثبت القذف عند الأصحاب، وخالفهم القاضي، وأبو محمد؛ إذ المقر به مختلف (1).
والثاني - لو شهد أحدهما أنه أقر بألف ثمناً، والآخر أنه أقر بألف قرضاً، فقد حكى القاضي ثبوت الألف، وهذه هفوة، قطع الإمام بخلافها لتعدد المقرّ به، ولذلك لو شهد على كل واحدة من هاتين الجهتين شاهدان، أو أقر بذلك عند الحاكم، للزمه ألفان.
الثالث - إذا ادعى بألف مطلق، فشهد به أحدهما، وشهد الآخر بألف من قرض، ففي ثبوت الألف خلاف، والأظهر الإثبات.
الرابع - إذا ادعى الملك، فشهد اثنان على إقرار المدعى عليه بالملك، ثبت الملك وإن لم يتعرض في الدعوى للإقرار. وأبعد من شرط دعوى الإقرار. وإن ادعى الملك، ولم يتعرض للإقرار، فأقر له به عند الحاكم، ثبت الملك اتفاقاًً، وإن ادعى أن حاكماً حكم له بالدار، أو أن عدلين شهدا له بها عند بعض الحكام، فإن أضاف إلى ذلك دعوى الملك، سمعت دعواه، وإلا، فلا، ولو ادعى الملك والإقرار، سمعت دعواه، وإن جرّد الدعوى بالإقرار، لم تسمع على الأظهر.
الخامس - إذا ادعى الملك، فشهد به أحدهما، وشهد الآخر على الإقرار به، فلا تلفيق على الأظهر، وأبعد من لفق؛ لاجتماعهما على المقصود.
__________
(1) المذهب ما اختاره القاضي وأبو محمد، فقد اتفق عليه الشيخان الرافعي والنووي (ر. الشرح الكبير -بهامش المجموع- 11/ 157، والروضة: 4/ 390).

(7/92)


فصل
في تبعيض الإقرار
4446 - إذا أتى بلفظ ملزم بتقدير الاقتصار عليه، ثم عقبه بما ينافيه، فله حالان: إحداهما - أن يتضمن الإسقاط، وفيه صور:
الأولى - أن يستند إلى واقعة يخفى حكمها على بعض الناس، كقوله: له علي ألف من ثمن خمر، أو خنزير، أو ضمان بشرط الخيار، ففي لزوم الألف قولان، ويتجه أن نفرق بين العالم والجاهل (1)، ولم يصر إليه أحد من الأصحاب.
الثانية - أن يستند إلى واقعة لا يخفى حكمها على أحد كقوله: علي ألف قضيته، فهل يلزمه أو يخرج على الخلاف؟ فيه طريقان.
الثالثة - أن يُعدّ مطلقُه هازلاً، كقوله: له علي ألف إلا ألفاً، أو له علي ألف لا شيء له علي، فيلزمه الألفء
الرابعة - أن يقول: لك علي ألف إن شاء الله، أو إن شئت، فلا يلزمه شيء عند الأصحاب، وخرج صاحب التقريب التعليق بمشيئة الله على القولين، وقال الإمام: التعليق بمشيئة العباد أولى بالخلاف؛ لأن التفويض إلى مشيئة الله معتاد بخلاف التفويض إلى مشيئة العباد.
فرع:
4447 - إذا قال: بعتك إن شئت، فقال: قبلت، انعقد البيع على أحد الوجهين، وهو اختيار القاضي؛ إذ البيع مفوض إلى مشيئة القابل. ولو قال: اشتريت ثوبك بدرهم، فقال: بعتكه إن شئت، فإن لم يجدد القبول، لم ينعقد، وكذلك إن جدده على قياس القاضي؛ إذ يبعد حمل المشيئة على طلب القبول مع تقدمه، وإذا تعذر ذلك، صار تعليقاً للبيع.
الخامسة - أن يقول: لك هذه الدار عارية أو هبة عارية، فيحمل على العارية
__________
(1) "نفرق بين العالم والجاهل": بمعنى أن من كان عالماً بأن ثمن الخمر ونحوه لا يلزم، فلا يعذر، ويصح الإقرار، أما من كان جاهلاً بأن ثمن الخمر لا يلزم، فلا يصح إقراره.

(7/93)


والهبة، على النص وقول الأكثرين، وخرجه في التقريب على القولين، فإن ادعى أنه لم يقبض الهبة، فالقول قوله في نفي القبض.
الحال الثانية - ألا يتضمن الإسقاط، وفيه صور:
الأولى - أن يعلقه على تسليم مبيع كقوله: له علي ألف من ثمن هذا العبد، أو من ثمن عبد، فإن سلم العبد، سلمت الألف، فهل يقبل أو يجري على القولين؟ فيه طريقان.
الثانية - أن يقر بمال، ويصفه بوصف، فيلزمه مع الوصف، كقوله: علي ألف مكسرة، فيلزمه المكسرة.
الثالثة - أن يقول: علي ألف مؤجل، فيلزمه الألف، وأما الأجل، فإن لم يذكر سبب الدين، أو ذكر سبباً يقبل الحلول والتأجيل، فهل يثبت الأجل، أو يخرج على القولين؟ فيه طريقان. وإن ذكر سبباً يقبل أحد الأمرين، فإن لم يقبل التأجيل كالقرض، سقط الأجل، وإن لم يقبل الحلول، كدية الخطأ، فإن صدّر الإقرار بالأجل، ثبت، وإن عقبه به،، فهل يثبت أو يخرّج على الطريقين في التأجيل؟ فيه خلاف. والمحققون على الإثبات.
ولو أطلق الإقرار، ثم فسره بالمؤجل، أو أضافه إلى الخمر - بعد طول الفصل لم يقبل.
فصل
في تعليق الإقرار، وفيمن أقر بغير لغته
4448 - إذا علق الإقرار على شرط، لم يصح، فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فلك علي ألف، لم يلزمه اتفاقاً؛ لأن هذا اللفظ، وإن تردد بين التعليق والوصية والتأجيل، فلا يجب شيء بالاحتمال، وإن فسر بأجل، أو وصية، أمر بدفعها عند رأس الشهر، قيل: وإن قال له: علي ألف إذا جاء رأس الشهر، فإن فسره بالتعليق، فعلى قولي تبعيض الإقرار، وإن فسره بالتأجيل، فعلى طريقي الوصف بالتأجيل.
وإن أقر عربي بالعجمية، أو عجمي بالعربية، صح. فإن قال: لقنت كلمة لا أفهمها، قُبل قوله إلا أن يكذبه، وكذلك حكم العقود والحلول والطلاق وأشباهها.

(7/94)


فصل (1)
في الشهادة بالإقرار من غير تعرّض لشروطه
قال الشافعي رضي الله عنه بعد ذكر ضمان الدّرَك: "ولو شهدوا على إقراره، ولم يقولوا صحيح العقل .. إلى آخره" (2).
4449 - ذكر الشافعي ضمان العهدة والدّرك وقد مضى مفصّلاً في كتاب الضمان، ولستُ أرى لإعادته وجهاً، وذكر أيضاً أن العربي إذا أقر بلغة العجم، صحَّ، وكذلك عكس هذا، ولو أقر بغير لغته، ثم قال: لُقِّنتُ، ولم أفهم ما تلفظتُ به، فإن كانت الحالةُ تكذّبه، لم يقبل ذلك منه، وإن لم يبعد صدقه فيما ادعاه، قُبل ذلك منه، ولا اختصاص لهذا بالأقارير، بل هو جارٍ في العقود، والحلول، والطلاق. وما في معناها.
ومما يتعلق بالألفاظ وغرضِ الفصل التعرضُ لصيغة الشهادة على الأقارير.
فإذا شهد عدلان: أن فلاناً أقر لفلانٍ بألف، فظاهر النص أن الإقرار يثبت ملزماَّ، وإن لم يتعرض الشاهدان لذكر الشرائط المرعية في صفات المقر: من البلوغ، والعقل، والصحّه -إن كان الإقرار لوارث على أحد القولين- وكذلك الحريّة، والرشد، والطواعية وعدم الإكراه.
ومطلق الإقرار من (3) شهادة الشهود محمول على الإقرار الصحيح.
وذكر صاحب التقريب قولين في أن المقر لو كان مجهول الحريّة والرق، فهل يشترط تعرض الشهود لذكر حريته أمْ لا؟
__________
(1) نبدأ من هذا الفصل إلى صفحات من كتاب العارية، معتمدين على توفيق الله، وعلى نسخة وحيدة هي (ت 2) ج 12. وهي نسخة سقيمة كثيرة السقط، والخطأ، كما أوضحناه في موضعه من وصف النسخ. ونستعين في هذه المضايق بالشرح الكبير والروضة، وتكملة السبكي للمجموع، ومعها مخطوطة مختصر العز بن عبد السلام، ومخطوطة البسيط، حتى نصل إلى النسخة الأخرى المساعدة. وتوفيق الله من قبل ومن بعد، هو معولي، ومعتمدي.
(2) ر. المختصر: 3/ 7.
(3) "من" مُرادفة لـ (في).

(7/95)


قال: اختلف الأئمة في سائر الصفات المرعيّة: فمنهم من خرّجها على قولي الحريّة. ومنهم من لم يعتبرها، من جهة أنها لا تخفى ولا يُشكل على العامّة اشتراطُها.
والقياسُ التسوية.
فإن جرينا على ما ذكره الأصحاب، ففيه تفصيل لابُدّ من المعرض له: وهو أن الشاهد لو أطلق الشهادة على الإقرار، فللقاضي أن يسأله عن الصفات المعتبرة، فإن فصَّل، فذاك، وإن امتنع، فقال: لا يلزمني التعرض لذكر هذا، ولو كان لازماً، لبينتُ. قال القاضي: إن كان امتناعُه لا يورث القاضي رَيْباً، أمضى القضاءَ بشهادته، وإن ارتاب، توقف في شهادته. فيخرج من ذلك أنه لا ينحسم على القاضي مسلك الاستفصال.
وهذا يبينه شيءٌ: وهو أنّ الشاهد لو شهد مطلقاً؛ ومات، أو غاب، وتعذر الاستفصال، امتنع تنفيذُ القضاء بالشهادة المطلقة.
وإن شهد، واستفصل القاضي، فأبى الشاهد؛ صائراً إلى أنه لا تفصيل عليه، وعلم القاضي [أنه] (1) لا يشهد إلا على بصيرةٍ، فظاهر كلام الأصحاب أن الشاهد لا يلزمه أن يفصّل، كما لا يلزمه أن يذكر مكانَ الإقرار، وزمانَه. ومن القضاة من يرى البحثَ عن المكان والزمان، وغرضُه أن يستبين تثبتَ الشاهد وثقتَه بما يقول. فإن كان الشاهد خبيراً، لم يجب القاضي إلى ذكر المكان والزمان.
4450 - ولا بد من قولٍ ضابطٍ في هذه الفصول، فنبدأ بإطلاق الإقرار [مع] (2) السّكوت عن الصّفات المشروطة المرعية. فالمذهبُ الظّاهر أن الشهادة على الإقرار المطلق مقبولة. وقد ذكرنا قولاً على طريقة صاحب التقريب أنه لا بد من التعرض لذكر الشرائط. فإن فرعنا على ظاهر المذهب، فللقاضي أن يستفصل، وله أن يترك الاسْتفصَال؛ إذ لو كان الاستفصال حقاً عليه، لأفضى إلى تكليف الشاهد ذكرَ الشرائط، وهذا هو القول البعيد الذي ذكره صاحب التقريب وليس
__________
(1) في الأصل: أن.
(2) في الأصل: من.

(7/96)


[ما] (1) ذكرناه من جواز الاستفصال من القاضي مردوداً إلى خِيَرته، ولكنَّه ينظر إلى حال الشاهد، فإن رآه على عدالته خبيراً بشرائط الشهادة، فطناً، مستقلاً، فله ترك الاستفصال حتماً (2). وإن تمارى في أمره، فلابد من الاستفصال.
وقد يقع حالة لا تجب المباحثة فيها حتماً، والاحتياطُ يقتضيها، وهذا من خفايا أحكام القضاء. وستأتي مستقضاة في موضعها.
ثم إذا استفصل القاضي، فهل يتعين على الشاهد التفصيلُ في أن [المسؤول] (3) عنه شرائط الإقرار؟ فعلى وجهين: أحدهما - يتعين عليه ذلك. والثاني - لا يتعين عليه.
ولا خلاف أنه لا يجب على الشاهد تفصيلُ المكان والزمان، وإن استفصل القاضي، والفرق أن الجهل بالمكان والزمان لا يقدح في الشهادة، والجهلُ بالشرائط يقدح. وإنما قبلنا الإقرار المطلقَ للعلم الظاهر باستقلال الشاهد بالإحاطة بالشرائط، والثقةِ بأن الإقرار لو كان عديم الشرط، لما استجاز الشاهدُ -مع العلم والعدالةِ- ذكرَ (4) الإقرار المطلق.
4451 - ومما يتعلق بتمام البيان في هذا، أن الشاهد لو قيد الإقرار المشهودَ به بصحة العقل، فقال المشهود عليه: كنتُ مجنوناً، إذْ لفظت بالإقرار، فلا يقبلُ مجرّدُ قول المشهود عليه.
فإن أطلق الشاهد الشهادةَ على الإقرار، ولم يتعرض للعقل، وعسر الاستفصال، [لبعض] (5) الأسباب، فقال المشهودُ عليه: كنت مجنوناً لما لفظت بالإقرار، نُظر: فإن عُرف له حالة جنون فيما سبق، فالقول قوله مع يمينه، وإن كان ظاهرُ الشهادة مشتملٌ على تقدير اجتماع الشرائط، ومنها العقل. ولكن إذا لم يقع له تعرض،
__________
(1) في الأصل: مما.
(2) كذا. ولعل العبارة: فلا بد من ترك الاستفصال حتماً.
(3) في الأصل: للمسؤول.
(4) في الأصل: ذكرُ. (بالرفع).
(5) في الأصل: فبعض.

(7/97)


وادّعاه المشهود عليه، وعُهد له جنون، فهذا [أعرف] (1) بحال نفسه. ولو لم يعرف له جنون، والغالب أنه لو كان يُعرف (2)، فهو مدّعٍ، والظّاهر مع المشهود له، فيحلف ويثبتُ غرضُه.
فلو قال المشهود عليه والشهادة مُطلقة، وقد عسر الاستفصال بموت الشاهد، أو غيبته: كنت مكرهاً على الإقرار، نُظر: فإن تبينت أماراتُ الإكراه، فإن كان في قهر المقَرِّ له وحَبْسه، فالقول قوله مع يمينه؛ لظهور الأمارة. وهو كما لو ادّعى الجنون، وكان عُهد منه ذلك في الزمان السابق. وإن لم تثبت أمارةٌ على الإكراه، فهو مُدّعٍ، فالقول قول المدّعَى عليه مع يمينه.
ولو كان في قيد زيدٍ وحَبْسه، والإقرار لعمرو، فهو مُدّعٍ، والقول قول عمرٍو، مع يمينه.
والجملة في ذلك أن الشهادة المطلقة، محمولةٌ على الصحّة، إلا أن يدعي المشهودُ عليه أمراً ظاهراً، فإذ ذاك يحلف. وإن ادّعى أمراً ممكناً، من غير ظهورٍ، فالقول قول المشهود له مع يمينه.
4452 - ولو تعرض الشاهدُ لاستجماع الإقرار الشرائطَ المعتبرةَ، فلا يقبل قولُ المشهودِ عليه، وإن ظهرت أمارة على صدقه؛ فإنَّ الشهادة لا تعارضها الأمارات، وهي أبداً مقامةٌ على ضد الأمارات الظاهرة، وذلك يقع في [جَنْبة] (3) المدّعي، والظاهر مع المدعَى عليه.
وإن لم تكن أمارةٌ على الإكراه، فأقام المشهود عليه مُطلقاً بينةً أنه كان مُكرهاً حالة الإقرار، والشهادة على [الإجبار] (4) على (5) تاريخ واحدٍ، قال الأئمة: لا تقبل الشهادة على الإكراه مُطلقاً، حتى يفسر الشاهدان الإكراه، وذلك لاختلاف العلماء في قدرِه
__________
(1) في الأصل: عرف.
(2) كذا. ولعلها: لَعُرِف، فهي في جواب لو.
(3) في الأصل: جنبية. وقد تقرأ بالخاء المعجمة. وجَنْبة المدعي جانبه، وناحيته. (معجم).
(4) في الأصل: الإخبار.
(5) "على" بمعنى "في"، والمعنى أن الشهادة على الإقرار والشهادة على الإجبار تعيّن تاريخاً واحداً.

(7/98)


ومحله، فلابد من التعرض للبيان. وهذا بمثابة الشهادة القائمة على [جروحِ] (1) الشهود الذين ظاهرهم العدالة، فإنا لا نقبلها مُطلقة؛ لمكان اختلاف العلماء فيما يُوجب الجرح، وينفي العدالة؛ فقد يرى الشاهد الجرحَ بما لا يراه القاضي. وكذلك المذاهبُ تختلف فيما يقع الإكراه به، وهو على الجملة مُشكل الضّبط في محل الوفاق، لا يستقل بتقريب القول منه إلا الغواصون.
4453 - فإن قيل: قبلتم الإقرار المطلق من الشاهد، ولم تقبلوا الشهادة المطلقة على الإكراه، فإذا شرطتم تفصيل الإكراه، فاشترطوا تفصيل الإقرار. قلنا: لنا متمسكٌ لا بأس به لمن يشترط تفصيل الإقرارِ، ثم الفرق أن الإقرار لا يذكره الشاهد إلا لتقوم به الحجة، والإكراه لفظٌ ملتبس، والفرقُ ليس باليسير.
وقد قال كثير من أصحابِ أبي حنيفة: الشهادة على الإكراهِ المطلق مقبولة.
وهكذا مذهبهم في الجرح أيضاً.
ولو لم يُقِم المشهودُ عليه بينةً على الإكراهِ، ولكن أقام بينة على أمارتهِ، استفاد بثبوتها ظهورَ صدقه، حتى يكتفى بيمينه.
ولو قال المشهود عليه: كنت صبياً إذ لفظتُ بالإقرارِ، والشهادة على الإقرار مُطلقة. وما قال محتملٌ، فقوله مقبول مع يمينه، كما لو ادعى الجنون، وقد عهد منه، كما سبق.
ولو أقام المشهودُ عليه بينة على الإكراه المفصَّلِ الموجبِ لرد الشهادة، وقد تقيدت الشهادة على الإقرار بكونه طائعاً، فقد ذهب أصحاب أبي حنيفة (2) إلى تقديم البينة في الإكراه.
وكان شيخنا أبو محمد يحكي في ذلك خلافاًً على وجهٍ سنصفه، فنقول: الظاهر تقديمُ البينة في الإكراه؛ لأنها تستند إلى علمٍ في الخفايا، ورب مهدَّدٍ متوعد في السر يبدي الطوعَ في تصرفه، وتستند شهادة الشاهد على الطواعية إلى ظاهر حاله، والمطلِعُ على سر الأخبار يعلم ما لم يُحط به الشاهد على الاختيار. وهذا ظاهر.
__________
(1) في الأصل: خروج.
(2) ر. اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: 44.

(7/99)


ومن أصحابنا من قال: تُعارض بينةُ الإكراه بينةَ الطواعية، و [تخرِم] (1) شهادةُ الإكراه شهادةَ الطواعية، فيبقى الطوعُ مشكلاً. وإذا ارتبنا في [اختلال] (2) شرطٍ، لم نقض بالشهادة. ولو جهل راجعان (3) إلى حاصلٍ واحد.
ولو قُيد الرَّجلُ، وحبس، وضيق عليه، وحمل في ظاهر الحال على الإقرار، وقال من [حسبناه] (4) مُكرهاً: لقد أقررتُ كاذباً، ولكن كنتُ أعلم لو لم أقر، لكانُوا يُطلقونني على القرب، فقد قال صاحب التقريب في هذه الصورة: لا يثبت الإقرار؛ فإن الإجبار قائم ظاهر، واعتقاد المقيَّد المحبوس أَنَّ الحبس والتضييق كان يزول، ولا يدوم ظنٌّ منه وحِسبانٌ (5)، لا تعويل عليه. هذا كلامه. وقد قطع الجواب به.
وفيه احتمال ظاهر؛ فإنه أقر بأنه لم يكن مكرهاً، وقوله مقبول عليه، وهو مؤاخذ فيه.
فروع:
4454 - إذا ادّعى الإنسان البلوغ، نظر: فإن ادعى أنه بلغ بالسن، لم يُقبل قوله؛ لأنا يمكننا أن نعرفَ بلوغَه بالسن من جهة غيره. وإن ادعى البلوغَ بالاحتلام في سن احتمال البلوغ، بأن كان ابنَ عشرٍ، أو ادعت الصبيةُ البلوغَ بالحيض، وهي ابنة تسع، فقولهما مقبول؛ فإنه لا يمكن معرفة ذلك إلا من جهتهما.
ثم قال الأصحاب: إن جرت الدعوى في خصومة، وحكمنا بقبول القول، فلا تحليف في زمان الإمكان، فإنا إن صدقنا من يدّعي هذا، فلا معنى للتحليف، مع التصديق. فإن قدّرنا تكذيباً، فمعناه اعتقاد الصبا، ولا سبيل إلى تحليف من يعتقد الصبا فيه. وهذه المسألة تكادُ تلتحق بالدوائر الفقهية، فإن في تحليفه تقديرُ الصبا.
وهذا التقديرُ يُحيل التحليفَ.
وفي هذا للنظر بقية من وجهين اثنين: أحدهما: أنه لو كان الشخص الذي فيه الكلام غريباً فينا، خاملَ الذكر، ولم نعرف لولادته تاريخاً حتى يتعرف منه أمرُ السّن،
__________
(1) في الأصل: وتحرم.
(2) في الأصل: "خلال".
(3) في العبارة خلل. ولكن السياق مفهوم على الجملة.
(4) غير مقروءة في الأصل.
(5) الحسبان بالكسر: الظن والتوقع، وبالضم: العدُّ، والتدبير الدقيق (معجم).

(7/100)


وادّعى البلوغَ بالسّن، ففي هذه الصورة احتمالٌ؛ من جهة أنا لا نتمكن من معرفة ذلك إلا من جهته، فيجوز أن يلتحق بادعاء الاحتلام، ويجوز أن يقال: لا يقبل؛ فإن هذا على الجملة ممَّا يمكن فرضُ الاطلاع عليه من غير جهته. وإذا تمهد هذا في أصلٍ، لم تُعتبر الصّورةُ النادرة، ولا يتبع الإنباتُ في مثل هذه الصّورَة؛ فإن سبب التعلق به في أولاد الكفار عُسرُ الرجوع إلى تواريخ ولادتهم، ولا يُتعلق بالإنبات في دعوى الاحتلام أصلاً.
ومما يتعلق النظر به أنا إذا قبلنا قولَه، وأمضيناه، ولم نر تحليفه لما ذكرناه، فلو ارتفع بالسن، وبلغ مبلغاً نستيقن بلوغَه فيه، فهل يجوز أن نحلفه الآن: أنه كان بالغاً حين ادعائه؟ الظّاهرُ أنا لا نحلّفه؛ فإنا أمضينا حكمَ قوله، ونُطنا به موجَبَه من غير توقف، وهذا يتضمن انفصالَ الخصومة، وانتهاءها نهايتَها. ويستحيل أن نعطف يميناً بعد تطاول الزمن على خصومةٍ منفصلة. هذا ما نراه. والعلم عند الله.
فروع:
4455 - الإقرار بأعيان الأملاك مقبول. وإنَّما يقبل ممّن كان على ظاهر الملك، وكان متمكناً باليد، والمخايل المعتبرة الدالة على الملك. ويستحيل في وضع الإقرار تقديرُ امتدادِ ملك المقر إلى وقت الإقرار؛ فإنه لو كان كذلك، لكان كاذباً في إقراره لغيرهِ بالملك؛ من جهة أن الإقرار في نفسه لا يتضمن إزالة الملك، وإنما هو إخبار عن ثبوت الملك للمقَرّ له، وذلك يتضمن تقدم المخبَر على وقوع المخبِر لا محالة، فلو شهدت بينةٌ على أن فُلاناً أقر بأن الدّار التي في يده لفلانٍ، وكانت ملكَه إلى أن أقر بها، فهذه الشهادة باطلةٌ؛ فإنها متناقضةٌ. ولو صدر الإقرارُ على هذه الصيغة من المقر، نُظر: فإن قال: هذه الدارُ لفلانٍ، وكانت لي إلى إنشاء الإقرار، فإقراره بالملك نافذ، وقوله كانت لي إلى إنشاء الإقرار أمرٌ مُطّرحٌ. وهذا يلتحق بما لو قال: هذه الدار لفلان، وليست له.
ولو قال أولاً: هذه الدار لي، وهي في ملكي، وقد صارت الآن لفلان، فالإقرارُ في نفسِه باطِل، فإنه أنشأه على صيغة البُطلان.
وكذلك لو قال: داري هذه لفلان، أو ثوبي هذا المملوك لفلان، فهذا متناقض. وما ذكرناه في الإقرار بالأعيان.

(7/101)


فأما إذا ثبتت ديونٌ لإنسان (1)، وشهد بذلك ظاهرُ تصرف ومقتضى معاملة، فقال هذه الديون لفلان، نُظر: فإن أمكن وقوع ذلك الدين للمقَر له بتقدير المقر وكيلاً في المعاملة الملزمة، فالإقرار مقبول. وإن ثبت الدين في جهةٍ لا يتصور فيها تقدير النيابة، كالصّداق في حق المرأة، وبدل الخلع في حق الزوج، فلا يتصور الإقرار بثبوت أصل الحق، ليخبر به من ثبت له.
ولو فرض الإقرار في انتقال هذا النوع من الدين، أو في انتقال سائر الدّيون إلى إنسان، فلا محمل لذلك إلا تقدير بيع الدين، وفي صحته قولان، فالإقرارُ إذاً مخرّج عليهما (2).
فرع:
4456 - إذا ادّعى رجل على رجلٍ درهماً، فقال المدّعى عليه: زِنْ. فهذا ليس بإقرار؛ من جهة أنه غيرُ مصرِّحٍ بالالتزام، ولا يمنع حمله على الاستهزاء في مطرد العرف. ولو قال: زِنْه، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنه بمثابة قوله: زِنْ.
وقال صاحب التلخيص: قولُه: "زِنْه" إقرارٌ، بخلاف قوله: زِنْ. وهذا الذي تخيله من الفرق بين قوله: زنه. وقوله: "زِنْ"، لا حاصل له؛ فالوجه القطع بأنه لا يكون مقراً باللفظين؛ فإنَّه ليس في واحد منهما ما يشعر بالالتزام.
وكذلك لو قال: خُذْ، أو خذه.
وممَّا أعُدُّه من الغلطات ما ذكره الشيخ أبو علي (3) عنه (4) في شرح كتابه: فيه: إذا قال المقر: لفلانٍ عليّ درهم أو دينار، قال: فيه وجهان: أحدهما - أنه يلزمه أحدُهما، ويطالب بالتفسير على نحو ما قدمنا سبيل المطالبة في الأقارير المبهمة، في أول الكتاب. والوجه الثاني - أنه لا يلزمه شيء؛ فإن قوله مُردَّدٌ، ليس فيه إقرار
__________
(1) في الأصل: ديون الإنسان.
(2) زاد العز بن عبد السلام صورةً أخرى يقطع فيها بصحة الإقرار في هذا الذي لا تجوز فيه النيابة، وذلك قوله: "قلت: ينبغي أن يحمل على الحوالة، فيصح قولاً واحداً" ا. هـ (ر. الغاية في اختصار النهاية: 2/ 390 مخطوط تحت الطبع).
(3) المراد أبو علي السنجي.
(4) عنه: أي عن صاحب التلخيص، فأبو علي السنجي، هو شارح كتاب التلخيص.

(7/102)


جازمٌ بشيء. وهذا ساقطٌ من الكلام، لا أصل له، ولا يعدّ مثلُه من المذهب. وإنما ذكرته لعُلو قدر الحاكي.
فرع:
4457 - إذا قال: "لفلان علي درهم درهم"، لم يلزمه بلفظه إلا درهم، على مذهب التأكيد بتكرير اللفظ، من غير عطفٍ. ولو قال: "لفلان علي درهم، بل درهمٌ"، لم يلزمه إلا درهم. ولو قال: "علي درهم، بل درهمان"، يلزمه درهمان، بتقدير زيادة درهم آخر على الدرهم الأوّلِ، وضمها في صيغة التثنية.
ولو أشار إلى دراهم مُعينة، وقال: "لفلان هذه الدراهم بل هذان الدّرْهمان"، فأشار أولاً إلى درهم فرد، ثم إلى درهمين مجموعين، كان مقراً بالدراهم الثلاثة، لا شكّ فيه.
فرع:
4458 - ولو أشار إلى العبد الذي في يده، وقال: إنّه لأحد هذين الرجلين، فهو مطالب بالبيان والتعيين، فإذا عين أحدَهما، تعيّن. وهل للثاني أن يُحلّفه؟ هذا يبتني على أنه لو أقر للثاني بعدما أقر للأوّل، فهل يغرَمُ له قيمةَ العبد؟ وفيه قولان تقدم ذكرهما، فإن قلنا: إنه يغرَم للثاني قيمة العبد، فله أن يحلّفه رجاء أن ينكل عن اليمين، فتردَّ اليمين على المدعي، وتنزل يمين الرد منزلة الإقرار.
وإن قلنا: إنّه لا يغرَمُ للثاني قيمة العبد، فالمذهبُ القطعُ بأنّه لا يحلف.
وأبعد بعضُ أصحابنا، فقال: إذا قلنا: يمين الرّد بمثابة البينة، فإنا نحلّفه، ولو نكل رددنا اليمين على الثاني، فإذا حلف، قضينا له بالعبد؛ لأن اليمين نازلة منزلة البينة القائمة.
وهذا زلل وغلط، قد ردده طوائف من الأصحاب في أمثال هذه المواضع.
ووجه الغلط أن يمين الردّ، وإن كانت بمثابة البينة، فإنها كذلك في حق النّاكل.
ويستحيل أن تكون البينة في حق ثالثٍ، لم يتعلق به خصومةُ الحالف.
ثم فرعّ الأصحاب على هذا الوجه الضعيف فرعاً بعيداً، فقالوا: إذَا استرددنا العبدَ
من المعيّن الأوّل، وسلّمناه إلى من حلف يمين الرد، فهل يغرَم الناكل للأوّل، من جهة تسببه بنكوله عن اليمين إلى إيقاع الحيلولة بين الأوّل وبين ملكه؟ فعلى طريقين:

(7/103)


من أصحابنا من قطع بأنه لا يغرم؛ إذ لم يوجد منه إلا النّكول، فلم يتعلق بمجرّده حُكم، وإنّما تعلّق باليمين المردودة، وهي [المقامة] (1) في هذه الطريقة مقام البينة، ومن أصحابنا من قال: في ضمان النَّاكل للأول قولان خارجان على ما لو أقر بعينٍ لفلان، ثم أقر بها لآخر.
وهذا خبطٌ عظيم، وتخليط مجاوز للحدّ. وقد يقتضي قُصاراه إلى إستحالةٍ، وخلطِ قول بقول. وسبب هذا أنّه تفريعٌ على وجهٍ باطل قطعاً، وهو إحلال يمين الرد محلَّ البينة في حق ثالثٍ، لا تعلق للخصومة به. فإن قيل: أليس وقعَ ذلك الوجهُ الضعيفُ مفرعاً على أن الناكل لا يغرَم القيمة لخصمه، الذي رُدت اليمين عليه، فلا يتفرع على هذا تردّدٌ في الغرامة للأوَّل؟ قلنا: ذاك الوجه الضعيف يجريه صاحبه على قول التغريم أيضاً في استرداد العين. وبالجملة لا خير فيه. فالوجه قطع الكلام فيه.
ولو قال المقِر المبهِمُ، لما طولب بالتعيين: "لا أعلم المالك منهما". إن صدقاه، فذاك؛ والعبد موقوف لهما. وإن كذباه، وادّعى كل واحد منهما أنه يعلم أن العبد له، فالقول قولُه مع يمينه: يحلف لكل واحدٍ منهما: "لا يعلمه له".
ولو قال: أحد هذين العبدين لك، طولب بالتعيين، ثم لا يخفى قُصَارَى المُطالبةِ والخصومةِ، فلا معنى للتطويل بذكره.
ولو مات قبل التعيين، قام الوارث مقامه في التعيين، والتهدُّفِ في الخصومة.
وسنذكر تحقيقَ هذا الفنّ على غَاية الإمكان في البيان، من كتاب النكاح، إذا زوج المرأةَ وليّانِ من رجلين، والتبس الحال، إن شاء الله تعالى.
فرع:
4459 - إذا أشار إلى عبد لرجلٍ، وقال: لهذا العبد عليَّ ألفُ درهم. قد جعل الأصحاب هذا إقراراً للسيد، وحملوا إضافة المقرِّ به إلى العبد على تأويل معاملته؛ فإنّه من أهل المعاملة.
ولو قال: لحمار فلان عليَّ ألفٌ، كان ذلك لغواً من الكلام مُطَّرحاً، لا يُلزم أمراً.
__________
(1) في الأصل: المقاملة.

(7/104)


ولو قال: عليَّ بسبب هذا الحمارِ ألفٌ، كان إقراراً لمالكه، ويحمل على أنه استأجره، فلزمه بما ذكره [أجرُه] (1).
وفي هذا للنّظر مجالٌ؛ من جهة أنه لم يعيّن المقرَّ له بالألف، وربَّما كان هذا الحمار ملكاً لغير مالكه الآن، وكان تقدير الاستئجار من ذلك الغير. وهذا ظاهرٌ، وإن حمله الأصحاب على الالتزام لمن هو مالكٌ في الحال.
فرع:
4460 - لو قال: "لفلان علي مائة درهم عدداً"، كان ذلك إقراراً بمائةٍ من الصحاح وازنةً، ولا يحمل ذكر العدد على الاكتفاء به من غير رعاية وزن.
وكذلك لو جرى بيعٌ بهذه الصيغة، [ينصرف] (2) العقدُ على مائةٍ من الصحاح تزن مائةً. ثم قال المحققون: لا يلزمه مائةٌ، كل درهم منها [يزن] (3) درهماً، وإنما المأخوذ عليه أن يأتي بدراهمَ صحاح، تزن مائةً، ولا يضر أن يكون عددها ثمانين، أو خمسين.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاًً في الشرح أنا نُلزمه مائةً عدداً، تزن مائةً. وهذا بعيد.
وكان شيخي على الوجه الأوّل الصحيح يتردد فيه، إذا أتى بدرهم واحدٍ، يزن مائةً، أو درهمين. فخالفَ الدراهمَ التي تسمى مائةً عدداً.
ولا شكّ أن البيع إذا عقد بهذه الصيغةِ يحمل على الصحاح الجارية (4) في العرف.
وإنما التردد الذي ذكرناه في الإقرار؛ فإنا قد لا نلتزم فيه العرفَ في كل مسلك.
ولو قال: عليّ مائةٌ عدداً من الدراهم، قُبل منه مائةٌ عدداً وإن لم تكن وازنة؛ فإن لفظه مصرِّح بهذا المعنى.
فرع:
4461 - ولو قال؛ علي درهمٌ في عشرة: إن أراد الضرب الحسابي، لزمه عشرة، وإن أراد درهماً مع عشرة، لزمه أحدَ عشرَ درهماً. فإن أراد درهماً في عشرةٍ
__________
(1) في الأصل: آخرة.
(2) مزيدة لاستقامة العبارة.
(3) في الأصل: بزنة.
(4) في الأصل: المجارية في العدد.

(7/105)


لي، لزمه درهمٌ واحد. وإن أطلق، فلفظه محمول على الواحد؛ فإنه الأقل، والخصومة جارية وراءه.
فرع:
4462 - قال القاضي: لو قال رجل: لك عليَّ شيء، فقال المخاطب:
ليس [لي عليك] (1) شيء، وإنّما لي عليك ألفُ درهم، فدعواه الألف مردودة؛ لأنّه نفى أولاً أن يكون ألف درهم، فدعواه الألف مردودة، لأنه نفى أولاً أن يكون له عليه شيء، واسم الشيء يعم القليل، والكثير.
وبمثله لو قال المقِر: لك عليَّ درهمٌ، فقال المقَرّ له: ليس لي عليك درهم، ولا دانق، وإنما عليك ألفُ درهم، فتُقبل الدعوى. وإن كان قد نفى الواحدَ والألفُ آحاد مجموعة. ولكن جرت العادة بمثل هذا، فإن الإنسان ينفي الأقلَّ، وهو يبغي إثبات الأكثر، فكأنه يقول: ليس حقي على قدر درهم ودانقٍ، وإنّما حقي ألف درهم.
...
__________
(1) في الأصل: لك علي.

(7/106)


باب إقرارِ الوَارثِ لِلوَارثِ
4463 - مضمون الباب التعرض لإثبات، الأنساب، وما يتعلق بها. ومعظم القولِ في ذلك مذكورٌ في باب القافة، من كتاب الدعاوى، ولكنا نذكر خَاصيّة الباب. وقد [نُحْوَج] (1) إلى ذكر ما سيعودُ في كتاب الدّعاوى.
فنقول: النسب يثبت بالبينة تارةً، وبالإقرار أخرى، فأمَّا البينة، فإذا شهد رجلان عدلان في مجهول النسب بأنّه ابنُ هذا المدّعي، وكان يولد مثله لمثله، يثبت النسب، ولا يثبت برجلٍ وامرأتين.
فأمّا الإقرار، فنتكلم في إقرار الإنسان على نفسه، ثم نوضح إقراره على غيره.
فأمّا إذا أقر على نفسه فاستلحق نسباً وقال: هذا ابني، نُظر: فإن كان المستلحقُ معروفَ النسب لغير المستلحِق، لم يلحقه النسب بالدعوى المجردة. وكذلك إذا كان ذلك المستلحَق لا يولد مثله لمثل المستلحِق، فالاستلحاق باطل وإقرار المستلحِق مردود.
وإن استلحق نسبَ مجهولٍ يولد مثله لمثله، وقال: "هذا ابني"، لا يخلو إمَّا أن يكون صغيراً، أو بالغاً. فإن كان بالغاً، فوافق المستلحَقُ، ثبت النسب. وإن أنكر وقال: لستُ ابنَه، فالقول قوله مع يمينه.
وكذلك لو ادّعى رجل على رجلٍ، وقال: "أنت أبي"، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه.
ولو كان المستلحَق صغيراً، قُبل قول المستلحِق، ونفذ الحكمُ به في الحال، حتى لو مات الصغير في صغرِه، ورثه المستلحِق، ولو مات المستلحِق، ورثه الصغير.
__________
(1) في الأصل: نخرج. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء أسلوب الإمام، ومعهود لفظه.

(7/107)


فإن بلغ وادّعى أنه ليس بابن له، ففي قبول قوله وجهان: أحدهما - لا يقبل (1)، لنفوذ الحكم بالنسب في الصغر، فنستديم الحكمَ المتقدم. والثاني - يقبل؛ لأنه لم يكن وقت الاستلحاق ذا قولٍ، وقد صار من أهل القول الآن، فيجب قبولُ قوله (2).
والذي يناظر ذلك أن من ادّعى على بالغٍ أنه رقيقُه، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه؛ فإن كان صغيراً، حكم له بالملك فيه، فإذا بلغ هل يُقبل قوله: إني حر الأصل؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يقبل؛ لتقدم الحكم بالرّق، فيجب استدامة الحكم السابق، والثاني - يقبل قوله مع يمينه، لأنه صار من أهل القول (3). وعلى الوجه الأول تُقبل دعواه، ولكن القول قولُ مولاه، مع يمينه.
وهذه المسائل تلتفت إلى أنّ اللقيط المحكومَ له بالإسلام بحكم الدّار إذا بلغ، وأعرب عن نفسه بالكفر، فنجعله مرتداً، أم يقدر كافراً أصلياً؟ قولان، سيأتي ذكرهما، وتوجيههما، وتفريعهما في كتاب اللقيط، إن شاء الله تعالى.
ولو مات صغيرٌ مجهولُ النسب، فاستلحقه إنسان، لحقه النسب، فإن طريق الاستلحاق لا يختلف بالحياة والموت، ولا التفات إلى قول من يقول: إنه متهم، وغرضه إحرازُ ميراثه؛ فإن مثل هذه التّهمة قد تتحقق في حال الحياة، إذا كان الصغير ذا ثروة ويسار، وكان مستلحقه فقيراً.
ولو كان الميت المجهول الحال بالغاً، فاستلحقه، ففي المسألة وجهان، ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن النسب يلحق قياساً على الصغير الميت. والوجه الثاني - أنه لا يلحق نسبه، وهو الذي اختاره القاضي، ووجهه أنه يُنسب مستلحقه إلى أمرٍ ظاهرٍ يوجب رد قوله، وهو أن يقال له: "لَمْ تستلحقه حياً، مخافة أن ينكر، فيكونَ القولُ
__________
(1) في الهامش: حاشية: الأصح أنه لا يقبل.
(2) في هامش الأصل: حاشية: هذا الموضع يحتاج إلى تأمل في أنه هل يحتاج مع قوله إلى يمين.
(3) في هامش الأصل: حاشية: والأصح أنه لا يقبل قوله بعد البلوغ، وتسمع دعواه على قولهم، بخلاف الصغير المستلحق .... وقلنا: لا يسمع قوله، لا يسمع منه الدعوى قَبل المقر.
والفرق أن المقر المستلحق إذا امتنع من اليمين ... وادعى المستلحَق على ... لم تسمع منه.
وإذا كان كذلك، لم ... للدعو ... (هذا ما أمكن قراءته من هذه الحاشية).

(7/108)


قولَه، وأخرت الاستلحاق إلى ما بعد الممات، حتى ينفذ من غير مراده". وهذا المعنى لا يتحقق في استلحاق الصغير الميّت. وهذا وإن كان [مُخيلاً] (1)، فمنتهاه التعلق بالتهمة. وحق هذه المسائل أن لا تُبنى تفاصيلها على التهم.
ولو استلحق نسبَ مجنون، وقال: إنه ابني. فإن بلغ مجنوناً بعد الاستلحاق، كان كاستلحاق الصغير، وإن بلغ عاقلاً، ثم جُن، فقد تَردد الأئمة في استلحاقه.
وهذا بعينه هو الاختلافُ الذي ذكرناه في استلحاق الميت البالغ؛ فإنه سبق له حالُ استقلال، كان يفرض فيه إنكارُه لو استلحِق، فطريان الجنون كطريان الموت.
ويتعلق بالاستلحاق أصول وقواعد سيأتي ذكرها، إن شاء الله تعالى. في موضعها. وإنما الذي ذكرناه التوطئةُ للتقسيم.
4464 - والغرض القسم الثاني.
وهو إذا أقر الإنسان بنسبِ منسوب إلى غيره، وكان المقر وارثَ ذلك المنسوب إليه، وهو ميت، فلا يخلو المقِر إمّا أن يكون حائزاً لتركته، أو كان لا يحوزها كلَّها، فإن كان لا يحوز التركة: مثل أن يموت رجل ويخلف ابنين، فيقرَّ أحدُهما بابن ثالث للمتوفى، وأنكر الثاني وكذبه، أو خلف ثلاثةً من البنين في ظاهر الحال، فأقر اثنان وكذَّب الثالث. فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن النسب لا يثبت بإقرار من لا يحوز التركة، ثم كما لا يثبت النسب، لا يثبت الإرث، فليس لذلك المقَر له أن يطالب المقر بشيء من التركة، ويقولَ: قد أقررتَ لي بالنسب واستحقاق الإرث، فأشركني فيما تثبت يدُك عليه من التركة؛ فإنك مؤاخذ في حق نفسك بإقرارك. هذا مذهبُ الشافعي.
وقال أبو حنيفة [في المسألة الثانية: إنه يثبت النسب ويرث لوجود الإقرار؛ إذ هو
شرطٌ عنده، وذهب في المسألة الأولى، وهو أن يُقِرَّ أحدُ الاثنين وينكر الثاني إلى أنه] (2) يثبت للمقَر له قسط من الميراث، يُطالب به المقِر. وذهب المتقدّمون من
__________
(1) في الأصل: مختلاً.
(2) ما بين المعقفين لحقٌ في هامش الأصل، بخط مغاير، وهو غير مقروء تماماً. وقد أقمنا عبارته =

(7/109)


أصحاب أبي حنيفة إلى أن النسب لا يثبت، ويثبت استحقاق المال. وذهب المتأخرون إلى أن النسب يثبت في خبطٍ لهم، لست له الآن ذاكراً. وإنما أشرنا إلى مذهب أبي حنيفة لغرضٍ لنا سنجريه في أثناء الكلام، إن شاء الله عز وجلّ.
ثم الذي اعتمده أثمة المذهب في الذب عن المذهب: أن الميراث لا يستحق فيما نحن فيه إلا بالنسب، والنسب غير ثابت؛ فإن المعترف به ليس مستلحِقاً في حق نفسه، وإنما يُلحِق النسبَ بغيره، وليس حالاًّ محله على معنى حيازة ما خلفه، فإذا لم يثبت النسب وهو أصل الميراث، لم يثبت الفرع الذي لا يتخيل ثبوته دون ثبوت الأصل. هذا معتمد قدماء المذهب.
ثم نوجّه عليه أسئلةً من الخصم تتعلق بمسائل مذهبيةٍ. [و] (1) لم أذكر عمدة المذهب إلا [لأفض] (2) عليها الأسئلة، وأذكر المسائل مجموعة.
4465 - فإن قيل: ما ذكره هؤلاء ينقضه ما لو قال المالك: بعت منك هذا الشقص، فأنكر الشراء، فللشفيع الشفعة، وأصل الشفعة الشراء؛ والشفعة في حكم الفرع له، ففيم ثبت الفرع دون ثبوت أصله؟ قلنا: هذا مختلف فيه، سنستقصيه في كتاب الشفعة.
فإن قيل: إذا قال الرجل: لفلان على فلان ألفُ درهم، وأنا به ضمين. فأنكر من قدّره أصيلاً أصلَ الدين، صدقه الشرع مع يمينه. فالمقر بالضّمان مطالَبٌ، وإن كان فرعاً لأصلٍ لم يثبت. وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أن الضّمان لا يثبت بناء على ما ذكرناه من انتفاء الفرع عند انتفاء الأصل. والأصح الذي ذهب إليه الجمهورُ ثبوتُ المالِ على المعترف بالضّمان. وسنذكر بعد إيرادِ المسائل ما فيه أدنى تخيل في إفادة الفصل بين مسائل الإلزام، وبين مسألة النسب والميراث.
__________
= على ضوء ما وجدناه في مصادر الأحناف. وانظر في هذه المسألة للحنفية: القُدوري: 1/ 233 مع الجوهرة، والبدائع: 7/ 229، 230، وتنوير الأبصار: 8/ 187.
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "لأقص" (بالمثناة والمهملة)، والمثبت تصرف منا على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، وأسلوبه.

(7/110)


4466 - ومما أُلزمناه على ما رأيناه عمدةَ المذهب تحريمُ المناكحة؛ فإن أحد الابْنين إذا اعترف بأن هذه بنت أبينا، وأنكر الثاني، فيحرم على المقِر مناكحةُ تلك المرأة. قال القاضي: إن كانت مجهولة النسب، ثبتت الحرمة، وإن كانت مشهورة النسب لغير هذا المتوفى الذي ينسبها المقِر إليه [ففي] (1) ثبوت الحرمة وجهان. وذكْر الخلاف في هذا عظيم، لا خلاص فيه مع تسليم الحرمة، في مجهولة النسب.
وإذا اعترف الزوج بأنه خالع امرأته على مالٍ، فأنكرت المرأة، وانتفى المال بيمينها، ثبتت البينونة بإقرار الزوج، وإن كانت فرعاً لثبوت المال.
وإذا خلف المتوفى مملوكاً في ظاهر الحال والظن، فاعترف أحد الابنين بكونه ابناً للمتوفى، ففي نفوذ العتق فيه بحُكم إقرار المقر وجهان، وسبب الخلاف سلطانُ العتق.
وإذا ادّعت المرأة أنها زوجةُ فلانٍ، فقال الرَّجل: ما نكحتُها قط، ففي حرمة النكاح عليها وجهان، حتى يجوزَ لها في وجه أن تنكح بسبب إنكار الزوج أصلَ النكاحِ.
وإذا قالت المرأة: أصابني زوجي قبل أن طلقني، وأنكر الزوج الإصابة، ففي وجوب العدة عليها وجهان.
فهذه مسائلُ مذهبيةٌ أرَدْنا نقلَ قول الأصحاب فيها. فإن أردنا دفعها على التسليم عن مسألة النّسب والميراث، فلا ينقدح إلاّ وجهان: أحدهما- أَنَّ مقصود الإقرار النسبُ في مسألة الخلاف، والميراثُ متفرعٌ وهو مسكوت عنه. والأحكام التي أثبتناها في المسائل مقصودة في أنفسها، كالمال على الضَّامن، وحرمة النكاح. والدليل عليه أن المقَر له بالنسب لو أنكر، لم يستحق الميراث. ولو أنكرت التي أقر بنسبها أحد الورثة، فالتحريم قائم، [و] (2) هذا مسلك ضعيف لا استقلال فيه. والثاني - أنّ النسب، وإن قُدّر ثبوته، فلا يجبُ القضاء باقتضائه الميراثَ؛ فإنا نجدُ أنساباً لا يتعلق بها استحقاق الميراث، [كنسب الرقيق إذا لم تكن مقتضيةً موالاة] (3)، ونسب المخالفِ
__________
(1) في الأصل: "في" بدون فاء الجواب.
(2) مزيدة رعاية للسياق.
(3) في الأصل: تقديم وتأخيرٌ هكذا: "إذا لم تكن مقتضيةً موالاة، كنسب الرقيق".

(7/111)


في الدين، فلا يمتنع أن يقال: الميراث إنما يثبت بنسب يثبت ظاهراً، ولا حكم لما يبطن منها.
وكل هذا تكَلُّفٌ. ومن لم يعترف بإشكال هذه المسألة، فليس من التحقيق على نصيبٍ.
وسنذكر بعد طرد ظاهر المذهب، وعَدّ ما يتعلق به من المسائل خلافاًً من بعض الأصحاب في أصل المسألة، إن شاء الله تعالى.
4467 - فنعود إلى استتمام المسائل بناء على ما هو مذهبُ الشافعي.
فلو أقر أحد الابنين لامرأةٍ بأنها كانت زوجةً لأبيه، وأنكر الثاني، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنها لا ترث؛ لأن إرثها فرعٌ لثبوت أصل الزوجيّة في الحياة، وذلك لم يثبت بقول أحد الابنين. والوجه الثاني - أنها ترث؛ لأن الإرث لا يثبت إلا بعد زوال الزوجيّة، إذ النكاح ينتهي بالموت، ثم يثبت الإرث.
وهذا كلام ركيك تَوافق نقلةُ المذهب على ذكره.
4468 - ومن المسائل أنه إذا أقر أحد الابنين بثالثٍ، وأنكر الثاني، ثم مات المنكر المكذِّبُ، وخلف ابناً، فأقر ابنه بنسب ذلك المقَر به، وساعد عمه في الإقرار، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن نسب ذلك الإنسان يثبت الآن؛ إذ قد اجتمع على الإقرار به من يستغرق الميراثَ. وقال القاضي: هذا يبتني على مسألةٍ، وهي أن من نفى نسباً، وفَرْضَ الثبوت (1) باللعان، ثم مات، فاستلحق ابنُه المستغرقُ لميراثه مع تقدير النفي [نسبَ] (2) ذلك المنفي، ففي لحوق النسب والحالة هذه وجهان: أحدهما - يلحق، ويكون استلحاق الوارث كاستلحاق الملاعن. والوجه الثاني - لا يثبت نسبُ ذلك المنفي، فإنّ في استلحاقه تكذيبَ الملاعن، وقد صدقه الشرع، إذ لاعن. فإذا ثبت هذا الخلاف، قال القاضي بعده: إذا اعترف أحد الابْنين، وكذّب الثّاني، ومات المكذّب على التكذيب، وخلف ابناً، فأقر كما أقر عمُّه، فهذا يجوز أن يخرّج
__________
(1) تقرأ هكذا بصعوبة.
(2) في الأصل: بسبب.

(7/112)


على الخلاف الذي ذكرناه في استلحاق المنفي باللعان، بعد موت الملاعن؛ فإنّ تكذيب أحدِ الاثنين محكومٌ به، كما أن نفي النسب محكوم به. وهذا الذي ذكره حسنٌ (1). وفيه احتمالٌ؛ من جهة أن من نفاه الأب باللعان، ففي إلحاقه بعد موته إلحاقُ عارٍ بنسبه. وهذا لا يتحقق في موت المكذب من الابنين.
4469 - ومن المسائل إذا أقرّ أحد الابنين، وكذّب الثاني، ثم مات المكذّب، ولم يخلف إلا أخاه المقِر، فهل يحكم الآن بثبوت نسب ذلك المقر به بما سبق من الإقرار؟ في المسألة وجهان: أحدهما - يثبت؛ لأن المكذب خرج من البين (2)، وصار المقر مستغرقاً.
والثاني - لا يثبت؛ لأن تكذيب المكذب، ثبت، فلا يبطل أثره. ثم هذا القائل لا يفصل بين أن يجدد الابن الباقي إقراراً، وبين ألاّ يجدّد؛ فإن التعويل على أن التكذيب الثابت لا يقطعُ أثره بعد ثبوته.
4470 - ولو مات عن ابنين، فمات أحدهما، ثم أقر الآخر بابن لأبيه، قبل، وثبت النسبُ؛ لأنه لما أقر كان مُستغرقاً لميراثِ الأول والثاني، فهو خليفتهما، ولم يتقدم من الأخ الذي مات تكذيبٌ. ولو مات عن ابنين صغيرٍ وكبير، فأقر الكبير بنسبٍ، فقد أطلق بعض المحققين القول بأنا نحكم بثبوت النسب في الحال، ثم فرّع عليه. وقال: لو مات أحدُهما، ورثه الثاني، فلو بلغ ذلك الصبيُّ، ولم يكذب الكبيرَ، فذاك. وإن كذّبه، بان أنه لم يكن ثابتاً بإقراره. وهذا الكلام متناقضٌ؛ فإن ما يتعرض للوقف والتبيين، وللتبيين منتهىً منتظر، فلا معنى لإطلاق القول، [بنفوذ] (3) الحكم، بل الوجه أن نقول: إذا أقر الكبير، لا نحكم بثبوت النسب، بل ننتظر ما تقتضيه العاقبة. ونقول على ذلك: لو مات المقر، أو المقر له قبل بلوغ
__________
(1) في هامش الأصل: "حاشية: الأصح في المسألتين ثبوت النسب؛ لأنه كمل شروط الإقرار، والله أعلم.
وكذا في المسالة الثالثة، وهو كون المكذب لم يخلف غير المصدق".
(2) البين. هذه اللفظة من ألفاظ الإمام التي ذكرها مرات في هذا الكتاب، ويفهم معناها من السياق. وإن لم نجد لها تخريجاً في المعاجم.
(3) في الأصل: "ونفوذ". والمثبت تصرّفٌ من المحقق.

(7/113)


الصبي، فلا توريث، بل نقف إلى التبيين (1). ولا ننُفذ أمراً يقتضي النظرُ رفعَه، ولا يرد على هذا إلا تصرّف المريض في مرض موته؛ فإنه يتبرع بجميع ماله، والمتبرَّع عليه يتصرفُ فيه. ثم إذا مات المريض فقد نتتبّع [ .... ] (2) تصرفَه بحكم النقص. وفي هذا نظر غامضٌ سيأتي في الوصايا، ولكنّا مع تقدير التسليط نفرق بين تصرف المريض، وبين ما نحن فيه، فنقول: المرض وإن اشتد، فحكم الحياة غالبٌ في الحال، وليس الموت أمراً يُنتظر لا محالة، بخلاف بلوغ الصبي؛ فإنه مما ينتظر، ويناط بانتظاره أحكام.
ولو أقرّ الكبير من الابنين، ومات الصغير قبل بلوغه، ولم يُخلّف وارثاً سوى الكبير، فيستقر حينئذ إقرارُ الكبير؛ من جهة أنا أَمِنّا مخالفةَ الذي مات، وصار الكبير مستغرقاً للميراثين، وليس كما لو أقر أحد الابنين وكذب الثاني، ثم مات المكذب [ولم يخلّف إلا المقر، فإنا على رأي لا نثبت نسباً ولا إرثاً؛ لأن التصديق مسبوق بتكذيبٍ، حُكم بموجبه] (3).
4471 - ولو مات الرجل، وخلف بنتاً فحسب، نظر: فإن كانت حائزةً للميراث، بأن ترث بالبنوة، النّصف، وبالولاء (4) الباقي، فإذا أقرت بنسبِ مولودٍ مجهولٍ، ثبت النسب بإقرارها (5). وإن كانت لا ترث إلا بالبنوة، فأقرت بنسب مجهولٍ، لم يثبت بإقرارها النّسب؛ فإنها ليست مستغرِقةً، فإن النصف لها والباقي للمسلمين. فلو أقرت وساعدها الإمام النائب عن المسلمين، فهل يثبت النسب بإقرارهما؟ اختلف
__________
(1) كذا في الأصل، ولعلها: التبين.
(2) قدر كلمة مطموسة.
(3) ما بين المعقفين لحق من هامش الأصل، بخط مغاير. ويقرأ بصعوبة بالغة، فعسى أن نكون موفقين في ذلك.
(4) ذكر الولاء، لأن الشافعية لا يقولون بالرد، مادام بيت المال منتظماً.
(5) في هامش الأصل: "حاشية: والأصح أن المجهول النسب الثابت نسبه بإقرار البنت المستغرقة لا يرث؛ لأنه لو ورث، لحجب البنت عن الميراث بالولاء، وأخرجها عن الاستغراق [فتصير كبنت ومعتق أقرا بابن أبي المتوفى] والأصح أنه يثبت نسبه ولا يرث لما ذكرنا". (وانظر هذه المسألة: فتح العزيز: 11/ 205 بهامش المجموع).

(7/114)


أصحابنا، فذهب بعضهم إلى ثبوت النسب لمكان الإقرارين. وقال آخرون:
لا يثبت، فإن حقيقة الوراثة لا تثبت للمسلمين (1). ونحن نرى استغراق الإرث بطريق خلافة الوراثة. وبنى الأصحاب هذا على أن الإمام لو أراد أن يقتصّ من قاتل من لم يخلّف وارثاً، فهل له ذلك؟ وفيه قولان. فإن أثبتنا الاقتصاص، لم يثبت ذلك إلا على حقيقة التوريث. وإن منعنا إجراء القصاص، احتمل أن نقول: ليست جهة الإسلام جهة توريث، ويتطرق إلى مسألة الإمام نظر، وهو أَنَّ قوله: ينبغي أن لا يُصوَّر حُكماً، فإن حكم الإمام نافذٌ لا مردّ له. ويتجه الغرضُ بأن (2) لا يجوز للإمام أن يقضي بعلمه.
4472 - ومما يتعلق بقاعدة المذهب أن الأئمّة قضَوْا بأن إقرار كافة الورثة بالنسب ينزل منزلة إقرار الموروث به. هذا معتمدهم، وظاهر المذهب أنّه لو كان في الورثة زوج، أو زوجة، فلا بدَّ من اعتبار إقراره، فإنه من الورثة، وخصص بعضُ أصحابنا الأمرَ بإقرار أصحاب القرابة؛ فإنهم المشاركون في النسب والمقَرُّ به نسبٌ. وهذا بعيد. ومال جماهير الأصحاب [إلى اعتبار إقرار المولى، فإن الولاء لحمة كلحمة النسب، وفيه شيء عن بعض الأصحاب] (3).
فأبعدُ سببٍ معتبرٍ في الاستغراق جهة الإسلام بنيابة الإمام، ويليها الزوجيّة، ويلي الزوجية، الولاء.
__________
(1) ر. فتح العزيز: 11/ 198 بهامش المجموع.
(2) هنا سقط ألحقه مطالعٌ للنسخة بخط مخالف بالهامش، وتعذرت قراءته، وخلاصة المسألة ننقلها هنا عن الرافعي في فتح العزيز، بنصها، ليفهم السياق عوضاً عن هذا السقط غير المقروء: "ولو خلف بنتاً واحدة، فإن كانت حائزة بان كانت معتِقةً يثبتُ النسب بإقرارها.
وإن لم تكن حائزة ووافقها الإمام، فوجهان، جاريان فيما إذا مات من لا وارث له، فألحق الإمام به مجهولاً، والخلاف مبني على أن الإمام له حكم الوارث أم لا؟ والذي أجاب به العراقيون أنه يثبت النسب بموافقة الإمام. ثم هذا الكلام (أي الخلاف) فيما إذا ذكر الإمام ذلك لا على وجه الحكم. أما إذا ذكر على وجه الحكم، فإن قلنا: إنه يقضي بعلم نفسه، ثبت النسب، وإلا فلا " فتح العزيز: 11/ 199 بهامش المجموع.
(3) ما بين المعقفين لحق أضافه بعض قراء النسخة بهامشها، بخط مخالف، يقرأ بكل عسر.

(7/115)


ولو صرفنا طائفةً من مال كافر، إلى أهل الفيء، لم يعتبر إقرار الإمام عن أهل الفيء بنسب، بلا خلاف؛ فإن ذاك ليس وِراثةً قطعاً، والمرعيُّ خلافةُ الوراثة. [وأما من له قرابة من المتوفى] (1) ثم هو محجوبٌ بغيره من أهل النسب، فلا عبرة بإقراره، كالأخ مع الابن والأب، وكالعم مع الأخ، وكذلك المحجوب بالأوصاف، كالابن الكافر مع الابن المسلم، والمتوفى مسلم، أو بالعكس والمتوفى كافر.
كما يقبل إقرار الابن على أبيه بالنسب إذا كان مستغرقاً يقبل على جدّه، ولكنه على شرط الاستغراق، كما إذا أقر بعم ولم يخلّف جدُّه إلا أباه، وأبوهُ إلا إياه، أو قد خلف ثانياً سوى المقر ولكنه مات قبل موت أبيه، أو بعد موته.
وقد نجز تمهيد الكتاب.
4473 - ونحن نلحق فروعاً بالأصل، منها:
أن من مات، وخلف ابناً، فأقر لمجهول بالنسب، فقال ذلك المقَر [له] (2)
بالنسب: أنا ابن الميت، وهذا الذي أقر بنسبي ليس ابنَه. فقد ذكر أصحابنا في المسألة وجهين: أحدهما - أن نسب المقَرّ له ثابت، ونسب المقِر -كما كان- ثابت، والإرث قائم، ولا أثر لإنكار هذا المجهول المقَر به (3)، فإن هذه المسألة تُتصوّر إذا كان الابن المقر معروفَ النسب، فإذْ ذاك يُقر، ويبنى الأمر على إقراره، ويقضى بأنه على منصب الاستغراق لولا الإقرار، وإذا كان كذلك، فالنسب المشهور لا ينتفي بإنكار مجهول مقَر به.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: إذا أنكر المقَر له نسبَ المقِر، احتاج إلى أن يقيم البينةَ على نسب نفسه؛ لأنه معترف بنسب هذا المجهول، والمجهول منكر لنسبه، معترفٌ بنسب نفسه. وهذا من ركيك الكلام؛ لما قدمناه من أن المقر نسبُه مشهور.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً وهو أنه لا يثبت نسب هذا المجهول المقر به؛ فإن
سبيل ثبوتِ نسبه إقرارُ الابن المشهور النّسب، لا طريق غيرُه. فإذا زعم أن المقر له
__________
(1) ما بين المعقفين لحق من الهامش.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في هامش الأصل: "حاشية: هذا الوجه الأول الصحيحُ الذي عليه العمل".

(7/116)


ليس نسيباً، فقد أنكر صحة إقراره؛ فإن من لا يناسب، ولا يرث، لا حكم لإقراره.
4474 - ومما نفرعه أن من مات وخلف ابناً واحداً في ظاهر ما يظن، فأقر الابن المشهور النسب لمجهولَيْن بالبنوة، فكذب أحدُهما صاحبَه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - يثبت نسبهما ولا عبرة بتكذيب أحدهما الآخر؛ لأن من كان على منصب حيازة التركة أقر بهما، فيثبت نسبهما، ولا أثر بعد الثبوت لتناكرهما.
والوجه الثاني - لا يثبت نسب واحد منهما؛ لأن المشهور مقر بكونهما وارثَيْن، فإذا تناكرا، فلا يجتمع لواحد منهما إقرارُ جميع الورثة.
فإن قيل: إذا أقر الابن الذي كنا لا نحسب غيره وارثاً بنسبِ مجهولٍ، فقد خرج المقِر عن كونه مستغرقاً، فإذا ثبت نسب الثاني، فهذا إذاً يناقضُ اعتبار كون المقر مستغرقاً. قلنا: المعنيُّ بكونه مستغرقاً أن يُقدرَ كذلك لو فرض عدم إقراره؛ فإن الإقرار يُغيِّر حكمَ الظّاهر الذي يستند إليه الإقرار؛ فإن صاحب اليد والتصرف إذا أقر بأن الدار التي في يده لفلان، قضينا لملك المقر له ظاهراً، وأقررنا يده على المقر به، وإن كان إقرار المقر تضمن إخراجه عن استحقاق اليد والتصرف. فأصل الإقرار المفيد أن يصدر عمّن له منصب الاستحقاقِ، ثم مقتضاه خروجه عن حقيقة الاستحقاق.
ثم إذا أقر ابن بابن مجهول، فهما المستغرقان، وقد ثبت في حق المجهولِ إقرارُ المعروف، وتصديق المجهول، فيجتمع له قول من يستغرق الميراث.
4475 - وممّا فرعه الأصحاب أن قالوا: إذا مات رجل، وخلّف من يحكم بكونه وارثاً ظاهراً، فأقر بمن إذا ثبت كونه وارثاً، كان المقِر محجوباً به، مثل أن يخلف أخاً من أبٍ، ولم يعرف غيره، وإذا انفرد الأخ استغرق، فإذا أقرَّ بابنٍ مجهولٍ للمتوفى، فالابن يحجب الأخ.
قال بعض الأصحاب: يثبت نسب ذلك الابن، ولكنّه لا يرث؛ فإنّ في توريثه إسقاطَ توريثه؛ إذ لو ورثناه، لحجب الأخَ المقر، وإذا صار محجوباً، خرج عن أن يكون وارثاً، ومن لا يرث، [لا] (1) يقبل إقراره، وإذا لم يقبل إقراره، لم يثبت
__________
(1) في الأصل: لم.

(7/117)


النسب. وهذا من الدوائر الحُكمية، وسأجمعها على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
4476 - وأنا أذكر حظّ هذه المسألة من الأدوار: أما توريث المقر به، فلا سبيل إليه؛ لأنا لو قدرناه، كان مستندَ إقراره محجوبٌ.
ومن أصحابنا من قال: يرث الابنُ، ويسقط الاخ. وهذا الوجه ذكره صاحب التقريب، واختاره، وذكره العراقيون، وسقوط الأخ -وإن كان قوله حجة- كسقوط حق صاحب اليد إذا أقر بما في يده.
وأمّا نسبه، فالذي ذهب إليه الجمهور أن النسب يثبت؛ إذ لا منافاة بين ثبوته وبين تصحيح إقرار المقِر به، إذا كنَّا لا نُثبت التوريث، وكم من نسبٍ لا يناط التوريث به.
فكأن هؤلاء يُثبتونَ موجَب الإقرار إلى أن ينتهي الأمر إلى انعكاس الحكم وانتفائه، من جهة ثبوته. وهذا متحقق في الإرث وحده.
وذهب طائفة من المحققين إلى أن النسب لا يثبت، لأنَّ في إثباته إيجابَ التوريث، ثم تدور المسألة، فالوجه المصيرُ إلى أن إقرارَ من نقدره وارثاً بنسبِ حاجبهِ مردود أصلاً.
وسنكثر الدوائر الحكميّه في النكاح، ونجري فيها أمثالَ ما ذكرناه الآن، ونقسمها إلى لفظياتٍ تتلقى من صيغ الألفاظ.
وقد انتهى أصل مذهب الشافعيّ في الباب، وبيّنا تفرُّعَه، وصدور المسائل عنه.
4477 - والآن كما (1) انتهينا إلى معضلات الباب وإشكاله، قد ذكرنا في صدر الباب لما حكينا تعليلَ المذهب مما نفرض من إشكالٍ، فإن أحد الابنين إذا أقر بثالث، وأنكر الثاني، فالمقر معترفٌ بأن هذا الثالث يستحق مما في يده شيئاًً، فترْكُ مؤاخذته بموجَب إقراره في خاصيّته بعيدٌ عن الأصول.
وقد ذكر صاحب التقريب مسلكين للأصحاب: أحدهما - أنه لا يثبت للثالث المقَر به مطالبة المقر بشيء ممَّا في يده ظاهراً، ولكن إن لم يكن المقِر على بصيرة في إقراره
__________
(1) بمعنى: عندما.

(7/118)


فلا نُلزمه شيئاًً باطناً لذلك الثالث، كما لا يلزمه ظاهراً. وإن كان على بصيرةٍ في إقراره، وقد يستندُ إقرارُه على مشاهدة لا يُمكنُ التماري فيها، وذلك إذا ماتت امرأةٌ وخلّفت ابنين، وكان شاهَدَ أحدُهما ولداً ثالثاً انفصل منها. قال: إذا كان كذلك، فهل يلزمه أن يدفع ممَّا في يده شيئاًً إلى المقَر له؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه؛ إذ لو لزمه باطناً، للزمه ظاهراً؛ فإنه بإقراره أظهر ما قدرنا ثبوته باطناً، وهو من أهل الإقرار والإظهار.
والثاني - يلزمه في الباطن؛ لأن الطّلبة في الظاهِر تتعلق بثبوت النسب ولم يثبت ظاهراً، ولكنه ثابتٌ في علم الله تعالى، فإذا لم يجر ما يقتضي في الظاهر ثبوت النسب، فلا طلب ظاهراً. وإذا تحققه المرءُ باطناً، لزمه أن يشركه باطناً، لعلة الباطن، لا لقوله الظاهر. هذه طريقة.
والطريقة الثانية - أنه حكى خلافاًً ظاهراً في أنه هل يجب على المقر تشريك المقَر له ظاهراً؟ فعلى وجهين: أحدهما- وهو الذي يوافقُ النصَّ، أنه لا يجب. والثاني - يجب، وهو مذهبُ أبي حنيفة (1)؛ يؤاخذ به ظاهراً وحكم الباطن منوطٌ بالتحقيق والثبوت في علم الله تعالى. وهذا قد يُعزَى إلى ابن سُريج، وهو مخالفٌ للنصّ.
فإن قلنا: لا يشارك المقَرّ له المقِر أصلاً، وهو ظاهر المذهب، فلا كلام. وإن قلنا: يشارك المقَر له المقِر، ففي مداره وجهان: ذكرناهما. والوجهان يوافقان مذهبين لإمامين: أحدُهما- ابنُ أبي ليلى والثاني أبو حنيفة. ونحن نذكر مذهب كل واحدٍ منهما في المقدار الذي يستحقُّه الثالث المقَر به مما في يد المقر، وإذا بان المذهبان، فهما الوجهان المنسوبان إلى أصحابنا.
4478 - أما مذهبُ ابن أبي ليلى، فليقع الفرض في ابنين أقر أحدهما بابنٍ ثالثٍ، وأنكر الثاني، فيقول ابن أبي ليلى: يغرَم المقر للمقر له ما كان يغرمه، لو (2) أقر صاحبه بهِ. وبيان ذلك: أن الابنين لو أقرا بثالثٍ، وتصادقا، لكان ذلك الثالث مستحقَّ ثلثِ التركة، فتصور ابنين يقتسمان التركة ثم يبدو ابنٌ ثالثٌ، ويثبت نسبه ببينةٍ،
__________
(1) ر. البدائع: 7/ 230.
(2) في الأصل: ولو.

(7/119)


أو بإقرارهما، فإنه يستردّ من كل واحدٍ منهما ثلث ما في يده، فيبقى لكل واحد ثلثُ التركة، ويحصل لهذا الثالث ثلثُ التركة.
وحرّر الفقهاء مذهبَ ابن أبي ليلى فذكروا فريضةً في الإنكار منهما، وفريضة في الإقرار منهما، فنقول: لو أنكر الاثنان نسب الثالث فالميراث بينهما نصفان، من سهمين. ولو أقرا بثالثٍ، فالميراث بينهم من ثلاثةِ أسهمٍ. فنضرب فريضة الإقرار في فريضة الإنكارِ، فيرد علينا ستةً، ونقول بعده: لو أنكرا والقسمة من الستة، فلكل واحدٍ منهما ثلاثةٌ، ولو أقرا والقسمة من هذا المبلغ فلكل واحدٍ سهمان. فإذا أقر أحدهما، وأنكر الثاني، فالمنكر يأخذ من فريضة الإنكار، ويفوز بها، والمقر يأخذ من الثلاثة من حسابِ فريضة إقرارهما بالثالث، وهو سهمان، ويُسلم سهماً إلى المقَر له، فيخلصُ له ما بين فريضة الإقرار والإنكار من حصّة المقر، وهذا بيّنٌ.
وأما أبو حنيفة، فإنه يقولُ: يقدر كأَنَّ [المنكِر] (1) وحصتَه مفقودان، ويقسم ما في يد المقِر والمقر له بينهما نصفين؛ فإن المقر له يقول إن ظلمني المنكِر، فأنت معترف، وأنا في كل درهم بمثابتك، فينبغي أن تستوفي ما في يدك.
هذا بيان المذهبين. والوجهان المنسوبان إلى الأصحاب، هما المذهبان اللذان ذكرناهما. وارتضى المحققون مذهب ابنِ أبي ليلى؛ من جهة [أن] (2) تنصيفَ ما في يد المقر قسمةٌ تخالف الإنكار والإقرار جميعاً، والمقر لهُ معترف باستحقاق المنكر من الاثنين.
4479 - ثم قال صاحب التقريب: إذا اخترنا مذهبَ ابن أبي ليلى، فلابدَّ من تفصيلٍ به يتهذب الغرض، فنقول: مذهب ابن أبي ليلى أن المقر لا يغرَم للمقَر له إلا الزيادة التي حصلت في يده على زعمه بسبب الإنكار، ولا يغرَم له ما استبدَّ به صاحبهُ.
قال: وهذا مفروضٌ في صورةٍ مخصوصةٍ، وهي أن يقاسم المقر أعيان التركة قهراً،
__________
(1) في الأصل: المقرّ. وانظر حاشية ابن عابدين:4/ 466، والبدائع: 7/ 229، 230. وفتح العزيز: 11/ 203. بهامش المجموع.
(2) في الأصل: أنه.

(7/120)


والمنكر (1) ممتنع عن القسمة، فإذا كان كذلك، فالجوابُ ما ذكرناه عن ابن أبي ليلى.
فأما إذا جرت القسمة بين المقر والمنكر طوعاً، فقد كانت يدهما ثابتة على الجميع ثبوتاً سائغاً، فلما اقتسما، فقد رفع المقر يده عن نصفِ حصّةِ الثالث، وسلمه، وترك المنكر على المقر مثلَ ذلك، وإذا انتسب المقر إلى تسليم نصف حصّة [الثالث] (2) إلى المنكر، كان معتدياً فيه، فيلزمه أن يغرَم ما حصل في يد صاحبه، كما يغرم ما حصل في يده من الزيادة. وهذا يظهر إذا جرت القسمةُ طوعاً، والمقر عَالمٌ بأن معهما ثالثاً مستحقاً، فيخرج من ذلك أنهما إذا كانا ابنين، فاقتسما التركة طوعاً نصفين، مع علم المقر، فيغرَم للمقَر له من حصّة نفسه. وحصةُ المقَرّ له الئلث، فيغرم له الثلثَ من نصفه، لتفريطه.
هذا إذا طاوع في القسمة، وكان عالماً باستحقاق الثالث.
فأما إذا قاسم أخاه طائعاً، ولكن لم يكن عالماً بعدُ بنسب الثالث، ثم بعد القسمة أحاط علمُه بذلك، قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان في هذه الصورة: أحدهما - أنه يغرَم للمقر له ما كان يغرمه لو كان مجبراً على القسمة، لأنه لم يكن مقصراً عند إقدامه على القسمة، وكان حكم الله في ظاهر الحال ما أجراه. فكان كما لو جرت القسمة قهراً.
والوجه الثاني - أنه يلزمه في هذه الحالة ما كان يلزمه لو أقدم على القسمة مع العلم؛ فإنا لا نفصل بين العلم والجهل فيما يليق (3) بالغُرْم أصلاً. وإنما نفصل بينهما فيما يرجع إلى المأثم.
هذا منتهى نقل صاحب التقريب وتصرفه.
__________
(1) في هامش الأصل: والمقر.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) كذا: ولعلها: يتعلق.

(7/121)


فصل
قال: "ولو قال في المرأة تقدم من أرض العدو، ومعها ولد ... إلى آخره" (1).
4480 - مضمون هذا الفصل ليس يتعلق بهذا الكتاب، فإنه تعرّضٌ للقول في لحوق الأنساب، وما يعتبر فيها من الاحتمال. وهذا يُذكر طرفٌ صالحٌ منه في اللعان، ثم يُستوعب في باب الدعوى والقائف، ولكنّا نذكر حاصل الفصل، للجريان على ترتيب السواد (2)، فنقول:
النسب لا يلحق عندنا إلا مع ظهور الإمكان، ولا يشترط ظهور الإمكان، بل يكفي تصوُّره على بعدٍ، فإذا لم يكن إمكان، لم يلحق أصلاً، فإذا قدمت امرأةٌ من أرض الرُّوم مثلاً، ومعها ولدٌ لها، فادعى واحدٌ (3) من ديارنا أنه ولده، وكان بحيث يولد مثله لمثله، فإن كان غاب المدّعي عن بلده مدة تحتمل وصوله إليها قبلُ، لحقه النسب، وإن لم يخرج هو قط، فكان بمرأى منا مذ نشأ، وكنّا لا نبعد دخول تلك المرأة هذه الديار، على اجتهادٍ أو ظهور، فالاحتمال قائمٌ. وإن تحققنا أنها لم تدخل هذه الديار قط، والرجل لم يخرج عن هذه الديار، ولا احتمالَ، فالدعوى (4) باطلة. ولأبي حنيفة في هذا [خبطٌ] (5) لا حاجة إليه. ثم أجرى كلاماً يتعلق بمناظرة أبي حنيفة، ولا حاجة بنا إلى ذكرها، فإنا إنما نذكرُ ما يتعلق بتمهيدِ المذهبِ، أو ما ينشأ منه مسائل مذهبيَّة.
والقدر الذي ذكرناه من رعاية الإمكان بالاستقلال فيه، فإن هذا أحد ما يعتبر. وأصولُ اللحوق بالقرائن، والدعوى، تستقصى في الكتابين: كتاب اللعان، وكتاب الدعاوى.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 28. ونصُّ عبارته وتمامها: "وقال في المرأة تقدم من أرض الروم، ومعها ولد، فيدّعيه رجلٌ بأرض الإسلام: إنه ابنه، ولم يكن يعرف أنه خرج إلى أرض الروم: فإنه يلحق به".
(2) السواد: المراد به مختصر المزني.
(3) في الأصل: كل واحد.
(4) في الأصل: والدعوى.
(5) في الأصل: حط.

(7/122)


فصل
قال: "وإذا كانت أمتان لا زوج لواحدٍ منهما ... إلى آخره" (1).
4481 - صورة المسألة: أن يملك الرجل أمتين لا زوج لواحدةٍ منهما، ولكل واحدةٍ ولدٌ، فقال المالكُ: أحد هذين ولدي، ثبت النسبُ لأحدهما، لا بعينه ويطالَب بالتعيين، فإذا عيّن أحدَهما، نحكم بعتقه؛ فإن الابن يعتق على الأب.
وأما أمّيّة الولد، فنقول: إن كان قال: قد استولدتُها في ملكي، وصرَّح تصريحاً لا يُبقي للتأويل مساغاً، فهي أم ولدٍ؛ فإنه خلق حراً.
وإن قال: هذا ابني، ولكن استولدتُ الجارية في النكاح، وكنت نكحتُها، ثم اشتريتُها، فهي قِنٌ، والولد خلق رقيقاً، وقد عَتَقَ الابن على أبيه، فعليه الولاء.
وإن قال: استولدتُها بشُبهةٍ، ثم ملكتها ففي [كونها] (2) أم ولد قولان، معروفان، ولا ولاء على الولد؛ فإن الولد الحاصل من وطء الشبهة حُرّ الأصل.
ولو لم يتعرض لهذه التفاصيل، واقتصر على قوله: هذا ولدي من هذه، وأشار إلى مملوكته، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن [الإقرار] (3) المطلَق محمول على الاستيلاد في الملك، ويُثبت أميّة الولد، والولد حر الأصل. والوجه الثاني - أن أمّيّة الولد لا تثبت بالإطلاق، ولا يثبت إلا النسبُ، وحريةُ الولد [بالمطلق] (4). وهذا قدمناه في أوائل الإقرار واستقصيناها فيه.
فإذا عيّن السيد أحد الولدين، وقلنا: تثبت أمّيَّة الولد للجارية، والحرية الأصليّة للولد، فلو جاءت الثانيةُ، وقالت: إنَّ ولدي ابنكَ، عَلِق في الملك منكَ، وأنا أم ولدك، [فلو] (5) كان بلغ الابنُ، فجاء وادعى أنه الابنُ، فلا شكّ أن القول قول السيد
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 28.
(2) زيادة من المحقق.
(3) سقطت من الأصل.
(4) في الأصل: "بالملك".
(5) في الأصل: لو.

(7/123)


في الخصومتين. ولا يخفى حكم حلفه. فلو نكل، حلفت إن كانت هي المدَّعية، وحلف الولد إن كان هو المدّعي، فيثبت نسبُ الولد الأوّل [أو] (1) عتقه بالإقرار، ونسبُ الثاني وعتقُه بيمين الرد بعد النكول.
فإن مات قبل التعيين، فيقوم الوارث مقامه في التعيين، وتعيينه مقبول على التفصيل الذي ذكرناه في تعيين الموروث، وحكم الجارية والولد كما سبق.
فإن مات الموروث، وقال الوارث: لا أعلم، فقد تعذَّر طريق التعيين من الموروث والوارث، فإن أمكننا أن نُرِي الولدين القائفَ إن كان رأى الموروث، فعلنا، ثم نتّبع إلحاقَ (2) القائف على السداد، فإذا ألحق أحدَهما، فهو السَّببُ ويثبت العتق لا محالة في الولد.
ثم قال الأصحاب: لا نفصل معنىً في (3) كيفية الإعلاق. والأمر مشكلٌ، فنجعل [إلحاق] (4) نسب المولود في هذه الصورة بمثابة ما لو أطلق السيّد، وقال: هذا ولدي من هذه، ولم يتعرض لتفصيل وقت العلوق. فهذا أوْلى حالة يعتبر إلحاق القائف بها؛ من جهة أن إلحاق القائف كاستلحاق السيّد.
فإذا جرى اللحوق منها (5)، فالأمرُ على ما فصّلناه.
فإن لم نجد قائفاً، قال الأصحاب: نقرع بين الولدين، فإذا خرجت القرعة لأحدهما، لم نثبت النسب بالقرعة؛ فإن القرعة خارجةٌ عن القياس، فلا نثبتها في غير محل النصّ، وإنما وردت القرعة المؤثرة في العتق (6).
4482 - وممَّا يتم به البيان أنه [إذا] (7) عرفنا أنه مات عن ابن حُر، والتبس علينا
__________
(1) في الأصل: في.
(2) في الأصل: اللحاق.
(3) كذا ولعل الأولى: لا نفصل معنى كيفية الإعلاق.
(4) في الأصل: اللحاق.
(5) يمكن أن تقرأ: بينها. والمراد جرى اللحوق بجهة القيافة.
(6) أي من خرجت له القرعة عَتق، وكفى، ولا نُثبت له النسب.
(7) زيادة لاستقامة العبارة.

(7/124)


عينُه، فهل نقف بينهما ميراث ابنٍ؟ اختلف أصحابنا في المسالة، فذهب الأكثرون إلى أنا نقِف ميراثَ ابنٍ، لقطعنا بأن أحدهما مستلحقٌ، وقد أشكل عينُه، فكان ذلك كما لو طلّق الرجُل إحدى امرأتيه ولم يبيّن، ولم يعيّن، حتى مات؛ فإنا نقفُ لهما ميراث زوجةٍ؛ من جهة أنا عرفنا أن إحداهما زوجة، والجهل بالعين لا يمنع أصل الاستحقاق.
والوجه الثاني - أنا لا نقف لهما من الميراث شيئاًً، لاستبهام النسب، [واليأس من الوصول] (1) إلى البيان، والميراث لا يناطُ إلا بسببٍ ظاهرٍ، ولهذا قلنا في ظاهر المذهب: إذا اعترف أحد الابنين بابنٍ ثالثٍ، لم يلزمه أن يدفع إليه شيئاً من حصته إذا كان صاحبه منكراً.
وهذا تلبيسٌ؛ فإن أصل الاستلحاق قد ثبت في مسألة الابنين، وإذا أقر أحد الابنين بثالثٍ، وأنكر الثاني، لم يثبت أصل النسب؛ فإن إقرار أحد الابنين إقرار منه على الميّت، فلم نر قبوله إلا من أهل الاستغراق.
4483 - والذي يجب ذكره تجديد العهد بجامع القَول في الفصل في معرض الضبط والترجمة، فنقول:
إذا قال السيّد: أحد هذين الولدين منّي، فالقولُ في أميّة الولد، والولاء على أحد الولدين، وربطُ هذين الحكمين بذكر السيّد تفصيلَ الإيلاد وإطلاقَه اللفظ لا شك فيه.
والغرض الآن إيضاح التعيين بعد الإبهام، فالبداية في طلبِ التعيين بالسيّد، فإن
مات قبل التعيين، فالرجوع إلى ورثته، فإن ماتوا، ولم يُعلموا، فإنا [بعد] (2) انسداد البيان من الجهتين نتعلق بالقائف. وإنما تقعُ البدايةُ بالقائفِ، إذا لم يكن في المسألة من يُعتمدُ قوله في التعيين حُكماً، فإن فرض نزاع، فصلت الخصومة بطريقها.
ومن محال القائف أن يتنازع رجلان في مولود، فادعى كل واحدٍ منهما [أنه ابنه] (3) فليس أحدهما أولى بالدعوى من الثاني، فنُري الولد القائف، وفي مسألتنا ما لم نعجز
__________
(1) في الأصل: والقياس من الأصول.
(2) في الأصل: نعُدّ.
(3) زيادة اقتضاها السياق.

(7/125)


عن مراجعة السيّد وورثته، لا نتعلق بقول القائف. فإن لم نجد القائف، أو غلط، وعسر التعلق بقوله، فالرجوع إلى القرعة. وفائدتها الحكمُ بالعتق لا بالنسب، كما تقدم، ثم إذا تعيَّن أحدُ الولدين المعتق، فهل تحصل أميّة الولد بخروج القرعة على الولد؟ المذهب الصحيح أنه لا تحصل؛ فإن أميّة الولد تبع النسب، وقد ذكرنا إن النسب لا يثبت بالقرعة. فإذا لم يثبت، لم يثبت الاستيلادُ. ومن أصحابنا من حكم للأم التي تخرج القرعة على ولدها بأمية الولد، وتعلق بأن معنى الحكم بالاستيلاد تحصيلُ الحرمة للأم، وذلك حكمٌ بالعتاقة، ولا يمتنع حصول العتاقة تعييناً بالقرعة.
والمسألة مفروضة فيه إذا جرى الإقرار المبهم من السيد، بحيث يقتضي الاستيلاد، ثم من لم يحصّل الاستيلاد لأم الذي تعيّن للحريّة؛ فإنه يقول: بين الجاريتين كما بين الولدين عتقٌ. [ولكن لا قائل] (1) بتفرد الجاريتين بالقرعة. وإن كان يعسرُ إتباع أمرهما الولدين، فإنا لسنا ننكر حصول الحرية على التعيين بطريق القرعة.
4484 - ومما يتم به الفصل أن الإقرار إذا جرى على وجهٍ يقتضي ثبوتَ النسب
للولد، ولا يقتضي أميّة الولد، ثم يثبت النسب، ويعيّن لأحدهما، فتثبت الحريّة له، إما مع ولاءٍ أو من غير ولاءٍ، ويستحق الإرثَ إذا جرى التعيين من المُبهِم، أو من الورثة.
ثم إذا حكمنا بانتفاء الاستيلاد، فالذي يرث يملك بالإرث قسطاً من [أمه] (2)، فيعتق
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة لمحاولة إقامة العبارة، التي لا تزال قلقة، وإن كانت المسألة مفهومة على الجملة، ونزيدها وضوحاً بذكر خلاصتها في الشرح الكبير للرافعي، جاء فيه: " ... فإن عجزنا عن الاستفادة من القائف، أقرعنا بينهما لنعرف الحرَّ منهما، ولا يُحكم لمن خرجت قرعته بالنسب والميراث، لأن القرعة على خلاف القياس؛ وإنما ورد الخبر بها في العتق، فلا تعمل في النسب والميراث، وهل تحصل أمِّة الولد في أم ذلك الذي خرج بالقرعة؟ حكى إمام الحرمين فيه وجهين. وقال: المذهب أنها لا تحصل؛ لأنها تتبع النسب؛ فإذا لم نجعله ولداً [أي لم نثبت نسبه]، لم نجعلها أم ولد، والذي أورده الاكثرون أنها تحصل؛ لأن المقصود العتق، والقرعة عاملة فيه، فكما تفيد حريته، تفيد حرّيتها. ولا يقرع بينهما مرة أخرى؛ إذ لا يؤمن خروج القرعة على غير التي خرج لولدها" ا. هـ ملخصاً: الشرح الكبير (فتح العزيز: 1/ 193 بهامش المجموع).
وهذا الذي ذكره الرافعي هو خلاصة كلام إمام الحرمين الذي أمامنا.
(2) في الأصل: "من أَمةٍ" بهذا الرسم والنقط والضبط.

(7/126)


عليه ذلك القدر، بحكم الملك، ثم لا يسري العتق؛ فإن الملك الحاصل بالإرث قهري، وإذا ترتب العتق على ذلك [فهو] (1) قهري لا تسبب فيه، فلا سريان بذلك العتق، كما سيأتي مقرراً في كتاب العتق، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال المُزني: سمعته يقول: "لو قال عند وفاته لثلاثة أولادٍ: أحد هؤلاء
ولدي ... إلى آخره" (2).
4485 - صورة هذه المسألة: أن الرجل إذا كانت له أمةٌ، ولها ثلاثة أولادٍ، وأنسابهم مجهولة، وليست ذاتَ زوج، ولم يثبت أن المولى يستفرشها، والأولاد على الملك لرق [الأمّ] (3) فلو قال السيّد: أحد هؤلاء الأولاد ولدي، فيطالب بالتعيين.
ولنفرض المسألةَ فيه إذا ذكر هذا الاستلحاق على صفة تقتضي أميّة الولد؛ فإن مقصود المسألة وراء ذلك، فنقول: الجارية أم ولد، والنظر بعد ذلك في تعيين الولد المستلحق، فنرجع إلى السيد ونطالبه بتعيين المستلحق، فإن عيّن الأصغر حكم بعتقه، والأكبر والأوسط رقيقان. وإن عيّن الأوسط، ثبت نسبه [و] (4) وقع الحُكم بعتقه، وثبت أن الجارية صارت فراشاً به، وجرى فيها الاستيلاد؛ فالولد الأصغر ولد مستولدة؛ فإن لم يدّع الاستبراء، عَتَق الأصغر أيضاً، وثبت نسبه.
وإن ادعى الاستبراء، ففي انتفاء نسب الأصغر تفصيلٌ يأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى - في آخر كتاب الاستبراء، عند ذكرنا أن الإقرار بوطء الجارية يتضمَّن استلحاقَ الولد الذي تأتي به على الجملة إذا لم [يجدد] (5) دعوى الاستبراء بعد الإقرار بالوطء.
__________
(1) مزيدة لاستقامة العبارة.
(2) ر. المختصر: 3/ 29.
(3) في الأصل: الأمر.
(4) مزيدة لإقامة العبارة.
(5) في الأصل: يجرد.

(7/127)


والمسألةُ مختلفٌ فيها في المستولدة إذا ادّعى السيّد استبراءها، ثم أتت بولد لو [كان] (1) يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء. وليس من الممكن الوفاء بشرح هذا.
فإن لم يثبت نسب الولد الصغير لدعوى الاستبراء بعد الأوسط، فهل يعتق هذا الولد الأصغر إذا عَتَقت الأم بموت المولى؛ من جهة أنه وإن كان عن سفاح، فهو ولد مستولدة. والأولاد الذين تأتي بهم المستولدة عن سفاح أو نكاح يثبت لهم من عُلقة الحرية، ما ثبت للأم، ويعتقون بما تعتق به الأم؟ فنقول:
4486 - نقدم صورة مقصودة في نفسها يترتب عليها غرضنا فيما ذكرناه. فإذا رهن الرجل جاريته، وأولدها بعد ذلك، وقلنا: لا يثبت الاستيلاد، فبيعت في الرهن، وأتت بأولادٍ بعد زوال الملك، عن نكاحٍ أو سفاحٍ، فلو ملك الراهن تيك الجارية، فللأصحاب في حصول أميّة الولد لها عند ثبوت الملك عليها طريقان: منهم من خرَّج ذلك على ما إذا وطىء جارية الغيرِ بشبهةٍ وعلقت بولدٍ حرٍ، ثم اشتراها، ففي حصول الاستيلاد في الملك الطارىء قولان، فكذلك إذا ردَدنا الاستيلاد في المرهونة، وبيعت، وعادت ملكاًً للراهن، فالمسألة على قولين.
ومن أصحابنا من قطع بأنها مستولدة، بخلاف ما إذا وطىء الرجل جاريةَ الغير بشبةٍ وأولدها ثم ملكها. والفرق أن وطء الراهن صادف مملوكتَه، ولكن امتنع نفوذُ الاستيلاد، لحق المرتهن، وانبنى عليه (2) في حقه، فمهما (3) عادت، ثبت الاستيلاد في ملك الراهن (4).
فإذا وقع التفريع على هذا -وهو الأصح- فلو ملكها الراهن، وملك أولادها الذين أتت بهم لمَّا زال الملك عنها، فهل يثبت للأولاد عُلقة الاستيلاد؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإنّها أتت بهم وهي مملوكة مطلقة، وإنما يثبت للأولاد حريّة الاستيلاد إذا وجد في الحال أميّة الولد للأُمّ. والثاني - يثبت لهم حريّة الاستيلاد، إذا
__________
(1) في الأصل: بان.
(2) أي على امتناع نفوذ الاستيلاد.
(3) مهما: بمعنى (إذا) وهذا الاستعمال وارد بكثرة في لسان إمام الحرمين وتلميذه الغزالي.
(4) انظر هذه المسألة عند الرافعي أيضاً: الشرح الكبير: 11/ 194، 195. بهامش المجموع.

(7/128)


ملكهم كما (1) ملك الأمّ؛ فإنهم يتبعونها؛ فإذا ثبت لها الاستيلاد عند الملك الطارىء، وكانت مملوكةً قبلُ، لم يمتنع حصول الحرية لأولادها.
ولا شكَّ أن السيّد لو ملك أولادها، ولم يملكها، لم تثبت الحرية لهم؛ فإنهم يتبعون الأُم؛ فإذا كانت هي مملوكة مطْلَقة تحت أيدي المتصرّفين فيها، فيستحيل أن يثبت لأولادها الحريةُ، بطريق التبعيَّة، وهي مملوكة.
4487 - فإذا ثبتت هذه المقدمة عُدنا إلى غرضنا من الكلام في الولد الصَّغير، وقد ثبتت أميّة الولد بالولد الأوسط، فمن الممكن أن يفرض كونها مرهونة، على الترتيب الذي نظمناه، ثم نصوّر إتيانها بالولد الصغير بعدما بيعت، فإن كنّا نرى أنه لو ملك الراهن الأمَّ، وهذا الولد الصغيرَ، تثبت الحرية للولد، فيلزم عند الحكم بأميّة الولد بالولد الأوسط الحكمُ بثبوت الحريّة للولد الأصغر.
وإن كنا نقول: لا تثبت الحرية للولد الذي أتت به ومِلْكُ الراهن زائلٌ عنها، فإن صرَّح السيد المقر بهذا التفصيل، فالولد الأصغر رقيق. وإن لم يتعرض لهذا التفصيل، ولكن أطلق استلحاقَ الولد الأوسط على وجهٍ يقتضي أميّة الولد للجارية، فما حكم إطلاق هذا الإقرار؟
فعلى وجهين: أحدهما - أن الحرية [تثبت للأصغر] (2)؛ حملاً على ما يظهر جريانه من ثبوت الاستيلادِ تَنَجُّزاً بالولد الأوسط. وهذا القائل لا يحمل على الصورة النادرة المذكورة في المرهونة. والوجه الثاني - أنا لا نحكم بالعتق والحريّة في الولد الأصغر عند إطلاق الإقرار؛ فإنا نجد من طريق الإمكان جريانَ تلك الصورة المذكورة في الرهن، وإذا أمكن وجهٌ، فلا طريق إلا مراجعة السيد المقر.
هذا حاصل الكلام فيه. إذا عين الأوسط على وجهٍ تثبتُ أميّة الولد به.
فأمّا إذا عيَّن الولد الأكبر، فهو حر والجارية أم ولدٍ، وفي الولد الأوسط والأصغر
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) في الأصل: بقيت الأصغر.

(7/129)


من الكلام ما ذكرناه في الولد الأصغر في الصورة المتقدمة.
4488 - ومما أجراه الشافعي في المسألة إذا استلحق على الإبهام ولداً، وحكمنا بأميّة الولد، ثم مات قبل البيان، وعسر الرّجوع إلى الورثة أيضاً، قال: نقرع بين الأولاد كما قدمناه، فقال المزني: [الصغير] (1) منهم يجب أن يعتق بكل حساب؛ فإن الاستيلاد إن (2) كان به، فهو حر، وإن كان الاستيلاد بالأوسط أيضاً [عتق] (3) الأصغر؛ لأنه ولد أم ولد، وكذلك إن كان الاستيلاد بالأكبر. ثم قال: الأصغر يعتق بثلاث تقديرات ولا رابع لها في الإمكان: يعتق إذا فُرض الاستيلاد به، والمعنيّ بالعتق الحرية. هذه حالة.
والثانية - أن يقع الاستيلاد بالأوسط. والثالثة - أن يقع الاستيلاد بالأكبر.
وللأوسط (4) حالتا حرية، وحالةُ رقٍّ: إحدى الحالتين أن يحصل الاستيلاد به، والأخرى أن يحصل الاستيلاد بالأكبر. وحالة الرق أن يحصل الاستيلاد بالأصغر.
والأكبر له حالة حرية، وحالتا رق: فحالة الحريّة أن يحصل الاستيلاد به، وحالتا الرق إحداهما - أن يقع الاستيلاد بالأوسط (5)، والأخرى أن يقع الاستيلاد بالأصغر.
وسياق كلامه أن الإقراع لا معنى له بين الأولاد الثلاثة. والصغير [حرٌّ] (6) من كل وجهٍ.
وهذا الذي ذكره يجيب عنه ما قدمناه من التقديرات والاحتمال.
4489 - ثم قال قائلون: وإن وافقنا المزني في أن الأصغر يعتق، فلا بأس بإدخاله في القرعة مع الأكبر والأوسط، وليس أثر إدخاله أن يقدّر رقه، ولكن فائدة إدخاله أن قرعة العتق لو خرجت عليه [رَقَّ] (7) الأوسط والأكبر. ولهذا نظائر من أحكام القرعة ستأتي مستقصاةٌ في كتاب العتق، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: الصغيرة.
(2) في الأصل: وإن.
(3) مزيدة رعاية للسياق.
(4) في الأصل: والأوسط.
(5) في الأصل: الأوسط.
(6) في الأصل: جزء.
(7) في الأصل: في.

(7/130)


فإذن نقول: يقرع بينهم على طريقة الأصحاب في موافقة المزني في عتق الأصغر، فإن خرجت القرعة على الأصغر، رَقَّ الأوسط والأكبر، وإن خرجت قرعة الحرية على الأكبر، عَتَق الأولاد الثلاثة، وإن خرجت قرعة الحريّة للأوسط، عَتَق، وعَتق الأصغر، ورَق الأكبر. وإن خرجت القرعة للأصغر، حكم بحريته ورَق الأكبر والأوسط.
ومن أصحابنا من قال: يخرج الأصغر من القرعة، ويقرع بين الأكبر والأوسط.
وهذا غير صحيح؛ فإنا إنما نقرع بين عدد نستيقن فيهم حراً. وإذا كنّا نجوز حصول الاستيلاد بالأصغر ونُرِق الأوسط والأكبر، فلا وجه للإقراع على هذا الوجه.
وهذا الفصل لا يحتمِلُ تحقيق القول في كيفيّة الإقراع، فالوجه أن نحيل استقصاءه على باب القرعة.
أما نصّ الشافعي، فإنه مصرحٌ بإدخال الثلاثة في القرعة، وظاهر النص أنا لا نعيّن الأصغر للحريّة أيضاً. وهذا هو الذي أحوج الأصحاب إلى فرض الصورة النادرة التي ذكرناها في المرهونة.
ومما يتعيَّن التنبيه له من كلام الشافعي والمزني؛ أن الشافعي لمَّا أقرع بينهم، قال: من خرجت له قرعةُ الحرية عَتَق، ولم يثبت نسبٌ ولا ميراثٌ، وفرض الشافعي مع هؤلاء الثلاثة ابناً معروف النسب للمتوفى، واقتضى كلامه صرفَ الميراث إليه، فقال المزني: يتعين أن نقف شيئاًً من الميراث للأولاد الثلاثة؛ فإن فيهم نسيباً بحكم إقرار المتوفَّى. وقد رأينا كلاماً للأصحاب في أنا هل نقفُ الميراث مع إشكال النسب، والأقيس أن نقف كما ذكرناه في إبهام طلقةٍ بين امرأتين، فنصُّ الشافعي لا يخرج إلا على هذا الوجه الضعيف في أنَّا لا نقف الميراث إذا استبهم النسب، وكان لا يتميز. وهذا مشكل كما ذكره المزني.
4490 - ثم ذكر المزني الصحيح عنده ولم يبده مذهباً لنفسه، بل ألحقه بمذهب الشافعي، فإنه قال: قياس مذهب الشافعي كذا وكذا. وفيما أبداه المزني إشكال أيضاً، فإنه قال: الابن الصغير حر قطعاً، وحكم له بالميراث، ثم قال: يصرف ربع الميراث إلى الابن المعروف، وربعه إلى الأصغر من البنين الثلاثة، ونقف النصفَ بين الأكبر والأوسط، وبين المعروف والأصغر.

(7/131)


أمّا تسليمه الربع إلى المعروف، فبيّن، وفي قطعه بتوريث الأصغر مجالٌ للنّظر، فإنه يجوز أن يقال: حصلت حريته بموت المستولِد تبعاًً للأم وإذا كان هذا من جهات الحرية، فما وجهُ القطع بتوريثه؟ فنقول: إنّما قال المزني ذلك على أصلٍ، وهو أن الاستيلاد إذا كان بالأصغر؛ فإنه يرث، وإن كان بالأكبر والأوسط، فنسب الأصغر يثبت أيضاً لثبوته بعد ثبوت الفراش. والقول مفروض فيه إذا لم يدَّع الاستبراء، [و] (1) قلنا: يلحق النسب مع دعوى الاستبراء، فإنّ في ذلك خلافاً مشهوراً في المستولدة. هذا مخرج كلام المزني.
وأمّا وقف النصف، فهو على قانون التوقف في مواريث الخناثى على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وقد نجز الفصل على نهاية البيان، مع الاعتراف بالإشكال في معنى النص؛ فإنّه اجتمع فيه إدخال الأصغر في إمكان الرق، وقطعُ الميراث، مع القطع بأن في الأولاد نسيباً. أمّا خروج الأصغر على الرق، وعن تعيّن العتق، فلا يخرّج إلا على وجه الصُّورة البديعة التي تكلفها الأصحاب في المرهونة، وأمّا ترك وقف الميراث بين البنين، فلا يخرّج إلا على وجهٍ ضعيفٍ أشرنا إليهِ.
فصل
قال: "ويجوز الشهادة أنهم لا يعرفون له وارثاً ... إلى آخره" (2).
4491 - إذا مات الإنسان، فجاء رجل وادّعى أنه وارثه، ولم يبين جهة استحقاق الميراث، لم تسمع دعواه. ولو أقام بينةً على هذه الصفة، فهي باطلة؛ لأن العلماء مختلفون في أعيان الورثة، وجهات التوريث، فلا بد من التنصيص والتعيين.
ولو جاء إنسان وقال: أنا ابن الميت، وأقام بينةً على ذلك، فلا يكفي هذا أيضاً، حتى يتعرض المدعي والشاهدان لكونه وارثاً؛ فإن الابن قد لا يرث
__________
(1) في الأصل: وقلنا.
(2) ر. المختصر: 3/ 31.

(7/132)


بأسباب، والغرض إثبات استحقاقٍ، فليقع التعرضُ لهُ.
ثم إذا شهد عدلان على أن هذا ابنُ الميتِ ووارثُه، فلا بد من التعرض لنفي من عدا هذا المذكور، ليتبين أنه مستغرِق أو مشارك. فإذا شهد عدلان من أهل الخبرة الباطنة على أن هذا ابنهُ ووارثه، لا نعرف له وارثاً سواه؛ فإذا قامت البينة كذلك، سلم القاضي التركة إلى المشهود له.
وقال الأئمة: لا بد من الخبرة الباطنة في ثلاث شهاداتٍ: هذه إحداها، والثانية - الشهادة على العدالة، والثالثة - الشهادة على الإعدام (1)، وإنما اشترطنا الخبرة الباطنة في هذه الأشياء؛ لأن مستند الشهادة فيها النفيُ على وجهٍ لا يستيقن، ولكن مست الحاجة إلى قبول البينة في هذه المنازل، والاكتفاءِ بغالب الظن، ولولا تجويز ما ذكرناه، لتعطَّل تعديل الشهود، وتسليمُ التركات إلى الورثة، ولتخلَّد الحبس على المعسر.
ثم أهل الخبرة الباطنة فيما نحن فيه مَن عاشر الميت حضراً وسفراً، أو سراً وعلناً، وكان [ممن] (2) يطلع على باطن حاله إذا نكح أو تسرى، فإذا كان كذلك حالُ الشاهد، فيبعد أن يعزب عنه وارثٌ سوى من علم. هذا ظاهر الحال.
4492 - وممَّا يجب التنبيه له أن الشهود لو شهدوا على وارث، وقالوا: لا نعلم له وارثاً سواه، لم (3) يسلم القاضي التركةَ إلى من عيّنوه، حتى يتحقق له أنهم من أهل الخبرة الباطنة. وإنما يتحقق له هذا بأن يخبروه بأننا خبرنا بواطن حاله في عمره، ولا يشترط أن يذكروا ذلك في صيغة الشهادة. ولكن لو أخبروا بها قبل إقامة الشهادة [أو] (4) بعدها، كفى.
ولو اطلع القاضي على ذلك من أحوال الشهود، لا من جهتهم، ثبت الغرض بذلك.
__________
(1) الإعدام: أي الفقر المعدِم، وعدم الملك.
(2) في الأصل: من.
(3) في الأصل: ولم.
(4) في الأصل: وبعدها.

(7/133)


4493 - وممّا يدور في النفس من هذا أن الشهود إذا شهدوا أن هذا ابنُ الميت، لم يكن هذا بمثابة ما لو شهدوا على الإقرار من غير تعرض لذكر شرائطه، بل تثبت البنوة، ثم يبحث القاضي، فإذا لم يظهر وصفٌ حاجبٌ، ورث. وليس يبعد أن يقال: الشهادة بالبنوة تُورِّث عند ظهور الحرية والإسلام؛ فإن الصفات التي تسقط الميراث، اختلافُ الدين، والقتل، فإذا ظهرت الحرية والإسلام إذا كان المتوفى مسلماً، فلا معنى للبحث عن القتل، من غير دعوى فيه.
4494 - ثم إذا شهد الشهود على وراثة شخص ونَفَوْا علمهم بوارث غيره، وهم (1) أهل الخبرة الباطنة، فالتركة تسلم من غير طلب كفيل؛ فإن الاحتياط الممكن قد حصل بشهادة الشهود، فإن ثبت وارثاً، ولم يثبت انتفاء من سواه، ولم يُقم شهادةً من أهل الخبرة، فسبيل القاضي في مثل هذا أن يبحث عن مواضعِ نهضات المتوفَّى، وجهاتِ أسفاره، ويكتبَ إلى ثقاتٍ من تلك الجهات يخبر بموت هذا الرّجل، ويأمر بإشاعة ذلك، حتى إن كان وارثٌ ظهر، فإذا مضى زمن يغلب على الظن -مع السبيل الذي ذكرناه- ظهورُ وارثٍ لو كان، فإذا لم يظهر، نُظر: فإن كان الوارث ممن لا يُحجب حجبَ حرمانٍ، فلا خلاف أنّه يسلم إليه التركة، إذا كان عصبة.
وهل يجب طلب كفيل منه؟ في المسألة وجهان: أحدهما - يجب [للاحتياط] (2) في مظنة الإشكال. والثاني - لا يجب، ويستحب؛ فإنّه إذا بحث، فقد قدّم الممكن في الاحتياط.
وإذا كان ذلك الشخص ممن يتصور أن يحجب حجب حرمانٍ، كالأخ، فهل يدفع القاضي إليه المالَ ولا بيّنة من أهل الخبرة، واحتاط كما رسمنا؟ في المسألة وجهان: أحدهما - لا نسلم إليه، لإمكان وارث يحجبه، وليحرص الأخ على إقامة البينة من أهل الخبرة. والوجه الثاني - أنه يسلم المال إليه، ثم في طلب الكفيل وجهان مرتبان على الوجهين في الابن. ولا شك أن هذه الصورة أولى بطلب كفيل.
__________
(1) في الأصل: ونفوا. وهو تصحيف عجيب.
(2) في الأصل: الاحتياط.

(7/134)


4495 - ولو كان للمتوفى أصحاب فرائض، وكانوا لا يحجبون، فيعطى صاحب الفرض سهمَه عائلاً على أقصى تقديرٍ في العول، ولا وقوف في هذا؛ فإنه مستيقن، فتعطى الأم سدس المال عائلاً من عشرة، إذا كان ذلك ممكناً. والقول في الزائد [عن] (1) السدس الذي يعول، أو الثلث الذي تستحقه الأم في بعض الأحوال، كالقول في التسليم إلى الأخ، مع تقدير كونه محجوباً. ثم ما نستيقنه لا نتوقف فيه ولا نطلب فيه كفيلاً. وهذا إنما يتصور في أصحاب الفرائض الذين لا يحجبون.
والعصبة، وإن كانوا لا يحجبون حجب الحرمان، فلا ضبط لأقل ما يصرف إلى الواحد، فيجري في ابتداء الأمر توقفٌ، وفي انتهائه خلافٌ في طلب الكفيل.
ولو شهد شهود من أهل الخبرة الباطنة على أن هذا هو الوارث، لا وارث للمتوفى غيره، فجزْمُهم القولَ مجازفة منهم. ولكن الشافعي نص على أنا لا نرد شهادتهم في ذلك، وتابعه الأصحابُ عليه، فإن الناس قد يطلقون هذا تعويلاً على غالب الظن عندهم، وإذا روجعوا فسروه بما ذكرناه.
وإذا قال أهل الخبرة: لا نعلم له وارثاً، كفى ذلك مع كونهم من أهل الخبرة؛ فإن عدم علمهم يغلب على الظن أن لا وارث سوى المعين.
...
__________
(1) في الأصل: إلى.

(7/135)