نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الغصب
4538 - الأصل في أحكام الغصوب الكتاب، والسنة، والإجماع، فأما الكتابُ، فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] اشتملت الآية على تحريم التسالب والتناهب، وإنما التجارة الصادرة عن تراضٍ. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد" (1) وقال "من ظلم شبراً من الأرض طُوّقه من سبع أرَضين يوم القيامة" (2). وأجمعوا على تحريم الغصب.
ومعظم قواعده في الضمان.
4539 - والغصب هو: "الاستيلاء على ملك الغير بغير حق" (3). وإنما يحصل الاستيلاء بإزالة يد المستحق، واستحداث يدِ الضمان، ولا حاجة إلى التقييد بالعدوان، فقد ثبت الغصب وحكمُه من غير انتسابٍ إلى عدوان؛ فإن من أودع ثوباً عند إنسانٍ، ثم جاء وأخذ ثوباً للمودَع على تقدير أنه الثوب الذي أودعه؛ فإنه يضمنه
__________
(1) حديث: "على اليد ما أخذت ... " رواه أحمد: 5/ 8، 12، 13، وأبو داود: البيوع، باب ما جاء في تضمين العارية، ح 3561، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في أن العارية مؤداة، ح 1266، وابن ماجة: الصدقات، باب العارية، ح 2400، والحاكم: 2/ 47، وانظر التلخيص: 17/ 13 ح 1287.
(2) حديث: "من ظلم شبراً من الأرض ... " متفق عليه من حديث عائشة. البخاري: بدء الخلق، باب ما جاء في سبع أرضين، ح 3195، ومسلم: المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها، ح 1612، وانظر التلخيص: 3/ 118 ح 1291.
(3) في هامش (ت 2): حاشية. قال النووي رحمه الله تعالى: الأصح في حد الغصب: إنه الاستيلاء على حق الغير بغير حق. ليدخل فيه من غَصَبَ الكلبَ وجلدَ الميتة، فإنه يطالب بالرد، وما استولى عليه ليس مال الغير، حق الغير.
(هذا ما أمكن فهمه من هذه الحاشية. وانظر: الروضة: 5/ 3).

(7/169)


ضمان الغَصبِ، والمودَع لو استعمل الثوبَ الموضوع عنده على تقدير أنه ثوبه المملوك، ضمنه ضمان الغصب،؛ فلا حاجة في تصوير الغصب إلى ذكر العدوان.
ولو حال بين المالك وبين ملكه، وكان ذلك سببَ ضياع ملكه، لم يلزمه الضمان. مثل إن كان رجل يسوق بهيمة له، فمنعه ظالم من اتباعها، وحبسه، فضاعت البهيمة، لم يلزمه الضمان. ولو أمر إنساناً بالغصب، فالغاصب ذلك المأمور-إذا استولى- دون الآمر ولو دلّ الظلمة والسرّاقَ على أموال خفيةٍ عنهم كانوا لا يهتدون إليها دون دَلالةِ مَنْ دلهم، فلا ضمان على الدال.
فتبين أن الغصب هو الاستيلاء على مال الغير بغير حقٍ.
فإن قيل: إذا صادف رجل عيناً مغصوبة في يد غاصبها، فانتزعها من يده ليردها على مالكها فما ترون في ذلك؟ قُلنا: فيه اختلافٌ مشهور بين الأصحاب، ذهب بعضهم إلى أنه لا يضمن؛ لأنه محتسب، وذهب آخرون إلى أنه يضمن؛ لأنه ليس له ولاية وتسليط على إزالة أيدي الغصاب، والتعرض لأمثال ذلك من شأن الولاة، ثم جواز الأخذ مبني على الضمان، فمن ضمَّنه، لم يُجِز له أن يأخذ، ومن لم يضمّنه سوّغ له أن يأخذ. والملتقط مثبت يدَه على مال الغير، ولكنه متسلط شرعاً على أخذه، كما سيأتي تفسير [اللقطة] (1) في كتابها، إن شاء الله تعالى.
وقد نص الشافعي على أن من صادف عين مال المسلم في يد حربي، فله أن ينتزعه، ولو تلف في يده، لم يضمن، فقال الأئمة: ما نص عليه مقطوع به، وليس على الخلاف الذي ذكرناه في إزالة يد الغاصب. والسبب فيه أن الحربي ليست يده يدَ ضمان، فالأخذ منه ليس مترتباً على يد ضامنةٍ، وليس كذلك الأخذ من الغصّاب.
ثم إن الشافعي ذكر في صدر الكتاب جملاً من أحكام الجنايات، فاعترض
المعترضون، وقالوا: كان الترتيب يقتضي أن يذكر صدراً من أحكام الغصب في أول الكتاب، فقيل لهم: الغصب سبب من أسباب الضمان، وليس هو في نفسه مضمناً، فأراد الشافعي أن يستفتح الكتاب بأحكام الجنايات والإتلافات، ثم رتب عليها اليدَ
__________
(1) في الأصل: اللفظ.

(7/170)


الغاصبة المتسببة (1) إلى الضّمان.
4540 - ثم الوجه أن نذكر تقسيماً يحوي قواعد الضّمان ويجري من الكتاب مجرى الجُمل الدالة على التفاصيل، فنقول: جملة المضمونات قسمان: مال، وغير مالٍ.
فغير المال الأحرارُ. وهم يضمنون بالجناية، وهي تنقسم إلى المباشرة، والتسبب. ومحلها النفس، والطرف. وضمان النفس بيّن، وبدله مقدّر، وأروش الأطراف تنقسم إلى ما يتقدّر، وإلى ما لا يتقدر. ومواضع استقصاء هذه الأصول الجراح والديات، ولا يتطرق إلى الأحرار سبيل الضمان باليد. ولا فرق بين أن يكون صغيراً أو كبيراً.
قال الشافعي: إذا غصب الرجل حراً صغيراً، وحمله إلى أرض مَسْبَعَة، فافترسه سبع، أو إلى أرض مَحْواة (2)، فنهشته حيّة، فلا ضمان.
فإن قيل: هل يجب على من فعل هذا مؤونة (3) رده إلى موضعه؟ قلنا: القول في ذلك لا يجري على قاعدة رد الغصوب، ولكن كل من صادف (4) مثلَ هذا الشخص في مضيعة، واستمكن من رده، لزمه ذلك، ولا يختص وجوبُ ما ذكرناه بمن اعتدى بحمله إلى المضيعة، بل هو جار في حق كل متمكن من الإنقاذ. ثم يكفي أن يُرَدَّ إلى مأمن، وإن لم يكن موضعه الذي أخذ منه، وما يبذله الباذل في إنقاذه ينزل منزلة الطعام يوجَرُه المضطرَّ. وإذا أوجر رجلٌ مضطراً طعاماً، ففي ثبوت الرجوع على الموجَر بقيمة الطعام خلاف، سيأتي، إن شاء الله. ولا فرق في ذلك بين من اعتدى أولاً وبين [من] (5) ينتهى إليه، ويسعى في إنقاذه.
وهذا رمز إلى هذا القسم، ذكرناه لإقامة رسم التقسيم.
__________
(1) (ت 2): المنتسبة.
(2) مَحْواة: كثيرة الحيات. (معجم).
(3) في هامش (ت 2) ورقة 60: حاشية: قال في الروضة: قال المتولي: يجب عليه ردّ الحر الصغير والكبير إذا كان غرض في الرد إلى موضعهم، ومؤنة الرد على الناقل لتعديه، والله أعلم. (وانظر الروضة: 5/ 15).
(4) (ت 2): صادق.
(5) في الأصل: أن.

(7/171)


4541 - وأما المال، فإنه قسمان: حيوان، وغير حيوان. فالحيوان قسمان: آدمي، وغيرُ آدمي، فأما الآدمي، فإنه يضمن بالجناية، وباليد. والجناية تنقسم إلى المباشرة والسبب، ومحلها النفس والطرف.
فأما الجناية على النفس، فموجبها بعد تفصيل القصاص القيمةُ بالغةً ما بلغت.
وأما الطرف، فما لا يتقدر أرشه من الحر لا يتقدر أرشه من العبد، وما يتقدر أرشه من الحر ففي تقديره من العبد قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن ما يتقدر من الحر يتقدر من العبد: قال الشافعي: "جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته" ففي يد العبد نصف قيمته. وإن كان النقصان أقل من ذلك أو أكثر منه، فلا اعتبار بالنقصان، وإنما الواجب المقدر الذي ذكرناه.
والقول الثاني - نصّ عليه في القديم، وهو مذهب مالكٍ (1) أنه يجب في الجناية على أطراف العبد ما ينقُص من قيمته.
فلو قطع يدي عبدٍ قيمتُه ألف دينار، فعاد إلى مائةٍ، فجاء آخر، فقطع رجليه، وعاد إلى عشرة، فجاء آخر، وفقأ عينيه، فعاد إلى دينار، فجاء آخر فقتله. فعلى الجديد: على الأول ألف. وعلى الثاني مائة، وعلى الثالث عشرة.
وعلى القديم: على الأول تسعمائة، وعلى الثاني تسعون، وعلى الثالث تسعة، وعلى الرابع دينار.
والقول القديم موجَّه بتغليب المالية في ضمان العبد؛ ولذلك لا تتقدر قيمته، والرجوع في مبلغها إلى تقويم السوق.
والقول الجديد موجّه بالشبه البالغ عند الشافعي المبلغَ الأعلى، وذلك أن العبد في منافعه وأعضائه كالحر، وإنما يفترقان في حُكم الرق والحرية، فإذا كانت يد الحر بمثابة نصفِه، وغناءُ يدِ العبد من العبد كغناء يد الحر من الحر، كان بمثابة نصفه أيضاً.
واختار ابن سريج القولَ القديم، ثم قال: مفرعاً على الجديد يجب في يدي
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 821 مسالة: 1568، جواهر الإكليل: 2/ 153.

(7/172)


العبد كمالُ قيمته؛ تفريعاً على الجديد، إلا في حكم واحد، وهو إذا اشترى الرّجل عبداً، ثم إنه قَطعَ يديه في يد البائع، فلا نجعله قابضاً للعبد، ويعتبر في التفريع على الجديد في هذا الحكم ما ينقصُ من القيمة؛ فإنا لو لم نقل ذلك، للزمنا أن نجعل المشتري قابضاً للعبد، والعبد المقطوع في يد البائع بعدُ.
وهذا مستحسن من تفريعات ابن سريج.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنا نجعل المشتري قابضاً حكماً، لتمام العبد، ويسقط ضمان العقد في العبد الباقي في يد البائع. وهذا ضعيف جداً.
فهذا إشارة إلى أصول الضّمان في الجنايات على العبيد.
4542 - والعبد يضمن باليد، كسائر الأموال.
وضمان اليد يجري عندنا في أم الولد، والمكاتب، فلو استولى غاصب على مكاتب، وأمّ ولد وماتا في يده، ضمنهما، فالعبيد في حكم اليد ملتحقون بأصناف الأموال.
ولو غصب غاصب عبداً، وقطع يده، ونقص من قيمته ثلثاها، فأما القديم، فلا يخفى التفريع عليه. وإن فرعنا على الجديد، ضمّناه نصفَ القيمة، لمكان الجناية وسدساً آخر، لمكان اليد العادية.
ولو غصب عبداً، فسقطت إحدى يديه بأَكَلة [و] (1) نقص من قيمته ثلثها فإذا فرعنا على القديم، لم يخف الحكم. وإذا فرعنا على الجديد، فالأصح أنا لا نوجب إلا الثلث؛ فإن اليد إنما تقابل بنصف القيمة في الجناية، وليست المسألة مفروضة في الجناية.
4543 - ثم مما يلتحق بهذا القسم أن المملوك، يضمن عينه وأجزاؤه، ويضمن منفعته، واليد تثبت من منافع المملوك على كل منفعةٍ يجوز الاستئجار على قبيلها (2).
ويجوز أن يقال: في تقسيم المنفعة: إنها تنقسم إلى منفعة الحر، وإلى منفعة
__________
(1) مزية من (ت 2).
(2) (ت 2): مثلها.

(7/173)


العبد: فأمَّا منفعة الحر، فهي مضمونة بالإتلاف، لا خلاف على المذهب فيه. فلو قهر حراً، واستسخره، ضمن أجر مثل منافعه.
وإن حبسه في بيتٍ، وعطل منافعه، فوجهان: أحدهما: أنه يضمن أجر المثل.
والثاني - لا يضمن؛ لأن الحر لا تحتوي اليد عليه. ولو استأجر الرجل حراً، فجاء، ومكن المستأجر من استيفاء المنفعة، فمضى زمانٌ يسع إمكانَ الانتفاع المستَحق، ففي تقرير الأجرة الوجهان المذكوران في وجوب أجر المثل بحبس الحر. هكذا قال القاضي وغيرُه.
ثم قال القاضي: لو استأجر حراً، أو أراد أن يؤاجره، فالقول في تصحيح إجارته يخرّج (1) على ما ذكرناه: فإن جعلنا منفعة الحر في الحبس بالعدوان وفي تقرير الأجرة المسماة من عقد الإجارة كمنفعة العبد، فإجارة الحر المستأجَر كإجارة العبد المستأجر.
وإن قلنا: لا تثبت اليد على منافع الحر في الأصول التي ذكرناها، فلا تصح إجارة الحر المستأجَر؛ فإنّ منفعته لا تدخل في ضمان المستأجَر، إلا عند وجودها، وتسليمها الحقيقي، ولا يصح إيراد العقد على المنفعة التي لم نقدر حكماً دخولها في يد المستأجر وضمانه. هذا في منفعة الحر.
فأما منفعة المملوك، فإنها تضمن بالإتلاف واليد. فلو حبس عبداً، ضمن أجرة مثله في مدة الحبس.
ومنفعةُ البضع مستثناة من المعاقد التي نجمعها.
4544 - فأما غير الآدمي من الحيوانات، فيُضمن بالجناية واليد. فإن أتلفت، فالقيمة. وإن جنى على أطرافها، فما نقَص من قيمتها. وسئل القفال عمَّن جنى على بهيمة، (2 وكانت قيمة مثلها يوم الجناية مائة، فسرت الجراحة، وأهلكتها، وقد انحطت القيمة بالسوق 2)، فكانت قيمة مثلها، يوم الهلاك خمسين، فما المعتبر؟ فقال: يعتبر أقصى القيم من الجراح إلى يوم الهلاك؛ فإنا إذا كنا نعتبر الأقصى في اليد
__________
(1) (ت 2): تخريج.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(7/174)


وليست اليد سببَ الهلاك في المغصوب، فاعتبار الأكثر في [الجروح] (1) أوْلى.
فهذا ما أردناه في الحيوان.
4545 - وأمّا غيرُ الحيوان ينقسم (2) إلى النقد، وإلى غيره، فأمّا ما ليس نقداً ينقسم إلى المثلي والمتقوم، فالمثلي يُضمن بالمثل في الجناية واليد إن كان المثلُ موجوداً (3)، وإلا، فالقيمة، إن عدمنا المثل.
فالأصل على الغاصب ردُّ العين، فلو فاتت، وكانت من ذوات الأمثال، فالمثل أقرب ما دمنا نجده.
وإن لم تكن العين من ذوات الأمثال، فالواجب القيمة.
4546 - ونحن الآن نذكر أصولاً ضابطة في ذوات الأمثال، ولتقع البداية بحدِّ ذوات الأمثال. قال القفال: ما كان مكيلاً، أو موزوناً، وصح السلم فيه، وجاز بيع بعضه بالبعض، فهو من ذوات الأمثال (4). أمّا الكيل والوزن؛ فلأن غير المقدرات لا تتقارب أجزاؤه في القيمة والمنفعة، وأما اشتراط السلم؛ فلأن المسلم فيه يثبت في الذمة موصوفاً، فليكن المثل الواجب ممّا يصح وجوبه في الذمة. وأمّا اشتراط بيع البعض بالبعض، فسببه أن مايجوز بيع بعضه ببعضٍ داخل تحت ما يتقابل على التبادل، ونحن نريد في المثليات أن نُقيم المثل بدلاً عن المتلف.
وحذف بعض أصحابنا الشرطَ الأخير، وهو جواز بيع البعض بالبعض. وينشأ من إثبات ذلك وحذفه خلافٌ بين الأصحاب في أن الرطب والعنب وما في معناهما مما يتماثل أجزاؤه، ويمتنع بيع بعضه بالبعض. هل هو من ذوات الأمثال؟ حتى يجبَ على متلِف الرطب والعنب مثلُ ما يتلف؟
__________
(1) في النسختين: الخروج.
(2) نذكر بمذهب المؤلف في ترك الفاء في جواب (أما).
(3) (ت 2): مرجواً.
(4) في هامش (ت 2): حاشية: قال النووي في الروضة: الأصح في حده أنه ما يحصره كيل أو وزن، ويجوز السلم فيه. والله أعلم. (ر. الروضة: 5/ 19).

(7/175)


قال القاضي: يرد على الحد الذي ذكره القفال القماقم الموزونة والملاعق والمغارِف؛ فإنها موزونة ويجوز السلم فيها، ولا يمتنع بيع بعضها بالبعض، وليست من ذوات الأمثال. والسبب فيها أنها مختلفة الأجزاء، ويندر اتفاق اثنين منها في الصفات.
والفقه المرعي عندنا في حدّ ذوات الأمثال أن تكون متساويةَ الأجزاء في المنفعة والقيمة، فهذا حقيقة التماثل. وإلى هذا مال العراقيون، ولم يتعرضوا للسلم، وقضَوْا بأن الرطب، والعنب، من ذوات الأمثال. وكذلك الدقيق وما في معناها.
فهذا مأخذ التماثل. ثم ما كان كذلك يحصره الكيل والوزن، ويصح السَّلم فيه؛ فإنه يكون مضبوطَ الوصف. وأمَّا إخراج الرطب والعنب عن المكيلات، فلا معنى له؛ فإنه إنما امتنع بيعُ بعضه بالبعضِ تعبّداً من الشارع، يشير إلى تفاوتٍ عند كمال الادخار. وما لهذا وما نحن فيه من التماثل ومقابلة الشيء بما يماثله في الصفات.
وذكر شيخي وجهاً أن المقدَّرات متماثلةٌ، وهي الموزونات والمكيلات. وهذا بعيد، ولكن للشافعي نصٌّ -قبل فصل صبغ الثوب- يدل على هذا.
4547 - هذا قولنا فيما هو من ذوات الأمثال، ونقول بعده:
إذا أعوز المثل، فالرجوع إلى القيمة، والقول في ذلك ينبسط، ولنقلة المذهب فيه خبط خارج عن ضبط معظم علمائنا، وقد جمعت طرقَ الأصحاب على بحث وتثبت، ونحن نذكر الطرق: طريقة، طريقة، ثم نذكر مأخذ كل فريق، وما حملهم، على تشبث الرأي وافتراق المذاهب، ثم نذكر ما يخرج من جميع الطرق.
4548 - ونبدأ بطريقة الشيخ أبي علي، فهو أحسن الأصحاب سياقةً لغرض هذا الفصل: فإذا غصب الرجل شيئاً من ذوات الأمثال، وأقام في يده ما أقام، ثم تلف والمثْلُ موجود، وتمادى الزمن، ثم أعوز المثل، وكان الرجوع إلى القيمة. فالقيمة بأية حالةٍ تعتبر؟

(7/176)


ذكر الشيخ أبو علي ثلاثة أوجهٍ: أحدها (1) - أنا نوجب أعلى قيمة وأكثرها، من يوم الغصب إلى يوم إعواز المثل. وهذا منقاس حسن، ووجهه أن من غصب عيناً من ذوات القيم، وأقامت في يده، ثم تلفت، فإنا نوجب أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
وسبب إيجاب الأقصى أنا نقول: ما من حالة تُفرضُ (2) فيها قيمة إلا والغاصب كان مخاطباً فيها برد العين المغصوبة، فإذا لم يردّ، فقد فوّت الرد؛ فلزمه بدلُه. وهذا المعنى يتحقق في وجود المثلي؛ فإنه كان الغاصب مخاطباً بالرد في كل حالٍ. ولما تلف المغصوب المثلي، وكان المثل موجوداً، كان مخاطباً [ببذل] (3) المثل في كل حالٍ فلما قصّر، اعتبرنا في حقه الأقصى من يوم الغصب، إلى يوم الإعواز. ولا نظر إلى تفاوت القيمة بعد الإعواز، كما لا نظر إلى ارتفاع القيمة بعد تلف العين المغصوبة. هذا وجه.
والوجه الثاني - أنا نقول: يعتبر أقصى القيم للمثلي من يوم الغصب، إلى تلف العين، ولا يعتبر ارتفاع القيم في زمان وجود المثل؛ فإنَّا إنما نعتبر قيمة المغصوب، والمغصوب هو العين التي تلفت في يد الغاصب، فلا معنى لاعتبار القيمة بعد تلفها.
وإن كان وجود المثل مطرداً.
والوجه الثالث - الذي ذكره الشيخ أنا نعتبر القيمة في وقت بقاء المثلي المغصوب في يد الغاصب، ولا نعتبر القيمة أيضاً بعد تلفه في وقت بقاء المثلي (4)، وإنما نعتبر قيمة يوم المطالبة. أما عدم اعتبار القيمة يوم وجود المثلي المغصوب، فسببه أن المثلي يعتبر مثله ما وجد المثل، ولا تعتبر قيمته، وكذلك إذا اطرد وجود المثل، فلا معنى للنظر في القيمة، ولما أعوز المثل، فاعتبار القيمة بذلك الوقت (5) لا ينضبط؛ فإنا لا نتحقق الإعواز إلا عند الطلب، والبحث عن المطلوب الواجب؛ فقد انسد
__________
(1) في النسختين: أوّلاً أحدها.
(2) (ت 2): تعرض.
(3) في النسختين: ببدل. بالدال المهملة.
(4) (ت 2): وجود المثل.
(5) ساقطة من (ت 2).

(7/177)


اعتبار القيمة في وجود المغصوب، وفي اطراد المثل؛ لامتناع اعتبار القيمة مع المثل، ولم نعتبر أيضاً ما بعد الإعواز، لاستبهام الأمر، وردَدْنا النظر إلى اعتبار يوم الطلب، حتى قال رحمه الله في بيان ذلك: لو طلبَ يومَ السبت فلم ينتجز توفير حقه، فعاد بعد أيام، وقد اختلفت القيمة، فالاعتبار بقيمة الوقت الذي يتفق فيه توفيةُ الحق.
وهذا الوجه مضاد للوجهين المتقدمين عليه؛ فإن صاحب الوجه الأول يعتبر [القيمة] (1) حالَ بقاء المغصوب، وحال اطراد وجود المثل. ويجعل هاتين الحالتين بمثابة حالة بقاء العين المتقوّمة المغصوبة.
وصاحب الوجه الثاني يعتبر حالة بقاء المثلي (2) في يد الغاصب، ولا يعتبر ما بعد تلفه. وكل واحد من القائلين يعتبر بقاء شيء.
وصاحب الوجه الثالث يرى اعتبار القيمة مضاداً لوجود (3 المثلي ثم لوجود 3) المثل بعد تلفه، ويحيل تقدير القيمة مع وجود أحدهما، فيقع هذا ضد المسلكين. ولئن كان يبعد اعتبار القيمة لإمكان المثل، فلأن يبعد اعتبار القيمة مع وجود العين المتقومة أولى، وللمثل قيمة في السوق، كما للمتقوم قيمة، فلاح أن الوجه الثالث مزيف.
4549 - وحكى الشيخ أبو علي (4) عن أبي الطيب بن سلمة عبارة عن الخلاف حسنة، نذكرها، ثم نستخرج ما فيها، قال أبو الطيب: إذا عدلنا إلى القيمة عند إعواز المثل، فهذا الواجب قيمةُ العين المغصوبة، أو قيمةُ مثلها بعد تلفها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الواجب قيمة المغصوب، فعلى هذا نعتبر أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم تلف المغصوب. والوجه الثاني - أن الواجب قيمةُ المثل لا قيمةُ عين المغصوب؛ فإن المغصوب لما تلف، ثبت في الذمة وجوبُ مثله، ووقع التحول من العين إليه، فلما أعوز المثل، كان إيجاب القيمة بسبب إعواز المثل، فالواجب إذن
__________
(1) في النسختين: قيمة.
(2) (ت 2): المثل.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(4) (ت 2): الشيخ أبو علي، عن أبي علي، عن أبي الطيب بن سلمة. وفي الأصل ضربٌ واضح على (عن أبي علي).

(7/178)


قيمة المثل؛ فعلى هذا يعتبر أقصى القيم، من تلف المغصوب إلى انقطاع المثل وإعوازه.
وإذا نظرنا إلى هذين الوجهين المنسوبين إلى أبي الطيب وإلى الأوجه الثلاثة التي ذكرها الشيخ (1) وجدنا أحدهما مندرجاً تحت الوجوه الثلاثة، وهي إيجابُ أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم تلف المغصوب، ولم نجد للوجه الثاني ذكراً (2)، وهو إيجاب أقصى القيم من يوم التلف إلى يوم الإعواز، فينضم هذا إلى تلك الأوجه، فتصير أربعة.
وزاد القاضي وجهاًً خامساً، فقال: الاعتبار بقيمته يوم انقطاع المثل. فلم يعتبر القيمة مع وجود المغصوب، ولا مع وجود مثله، واعتبر قيمة الانقطاع، ولم يحك اعتبارَ قيمةِ وقت المطالبة والتوفير، بل وافق هذا الوجه في ترك (3) اعتبار القيمة مع بقاء المغصوب، ومع وجود المثل بعد تلفه، غير أنّه اعتبر قيمة الانقطاع في هذا الوجه، بدلاً عما حكاه الشيخ من اعتبار قيمة وقت المطالبة، وهذا أوجه من اعتبار وقت المطالبة، وأصل الوجه ضعيف. وإذا ضممنا هذا إلى الأوجه الأربعة، انتظمت خمسةُ أوجه.
وذكر بعض الأصحاب وجهاًً سادساً: أنا نعتبر قيمةَ وقت تلف المغصوب. وهذا يناظر اعتبار قيمة الانقطاع، فكأن ذلك القائل اعتبر قيمة المثل عند انقطاعه. وهذا القائل يعتبر قيمة المغصوب عند تلفه، ولهذين الوجهين التفات إلى طريق أبي الطيب في أن المضمون المغصوبُ أو قيمةُ مثله؟ غير أن أبا الطيب قرب من القياس، فاعتبر أقصى القيم من يوم الغصب إلى التلف؛ إذ قال: المضمون قيمةُ المغصوب، أو أقصى القيمة من التلف إلى الانقطاع إذا كان المضمون قيمة المثل. وصاحب الوجه الخامس كان يعتبر قيمة المثل، ولكن يعتبرها عند طرف الانقطاع. وصاحب الوجه السادس يعتبر قيمة المغصوب، ولكن عند تلف المغصوب. فقد تحصلت ستة أوجه.
__________
(1) المراد: أبو علي السنجي.
(2) في النسختين: ذكر.
(3) ساقطة من (ت 2).

(7/179)


4555 - وذكر شيخي أبو محمد ثلاثة أوجه على نسق آخر مخالفٍ للأوجه الستة التي حصَّلناها على أبلغ وجه في التثبت، فقال: في المسألة أوجه: أحدها - أنا نعتبر أقصى القيم من يوم انقطاع المثل إلى يوم الطلب، وهذا القائل يُبعِد تقدير القيمة مع بقاء المغصوب، ومع بقاء مثله. وهذا يناظر من هذا الوجه بعض الأوجه الستة.
والذي أحدثه اعتبار الأقصى بين انقطاع المثل والطلب. ونحن ذكرنا من قبل فيما يقاربه هذا وجهين: أحدهما - حكاه الشيخ أبو علي وهو اعتبار وقت الطلب.
والثاني - حكاه القاضي، وهو اعتبار وقت انقطاع المثل، فأما اعتبار الأقصى بين الانقطاع والطلب، فلم يجر له ذكر.
وهو عندي غلط؛ فإن اعتبار مزيد القيمة بعد تلف العين المغصوبة المتقوّمة محال، واعتبار الأقصى بعد الانقطاع في معنى اعتبار ارتفاع القيمة بعد تلف العين المغصوبة المتقوّمة. فإن صح محاذرة القيمة مع وجود المثل، فالذي يقرب اعتباره قيمةُ يوم الانقطاع. والذي اعتبره الشيخ أبو علي في هذا الوجه يوم الطلب، وحمله على ذلك استبهام الأمر في الانقطاع، ومصيره إلى أَنَّ الحكمَ بتفصيل يوم التوفية.
والوجه الثاني - الذي حكاه شيخي أنا نعتبر أقصى قيمة المثل، من وقت ما تلف المغصوب إلى الوقت الذي نُقدّر التغريم فيه. وهذا الوجه يجمع أحد مذهبي أبي الطيب؛ حيث اعتبر أقصى القيم من تلف المغصوب إلى إعواز المثل، إلى مزيدٍ لا يصير إليه أبو الطيب، وهو اعتبار الأقصى بعد انقطاع المثل، وهذا المزيد خطأ لا شك فيه.
والوجه الثالث - الذي حكاه شيخي: أنا نعتبر الأقصى من يوم الغصب إلى يوم التغريم، فهذا الوجه يجمع مضمون أصح الوجوه، وهو اعتبار الأقصى من الغصب إلى انقطاع المثل إلى مزيد، وهو اعتبار الأقصى بعد الانقطاع إلى التغريم، وهذا المزيد خطأ، ذكرناه في الوجه الثاني؛ فإذن لم يسلم وجهٌ من ذلك. أما الوجه الأول، فخطأ محضٌ، لا يشوبه صواب، وهو اعتبار الأقصى من الانقطاع إلى التغريم. والوجهان الباقيان يتضمنان ضَمَّ خطأ إلى مسلكٍ من الصواب، كما نبهنا عليه.

(7/180)


4551 - فإن قيل: فما الذي تصححون من هذه الوجوه كلها؟ قلنا: أصحها اعتبارُ أقصى القيم من الغصب إلى انقطاع المثل، وتنزيل هذه الأوقات منزلة أوقات بقاء العين المغصوبة المتقوّمة، ولم يذكر الصيدلاني إلا هذا الوجه، وأعرض عما سواه. ويلي هذا الوجه وجهاً أبي الطيب، وما عدا ذلك بعيد عن الصواب. ولكن لكل مسلكٍ وجهٌ إلا ما ذكره شيخي من اعتبار الأقصى بين الانقطاع والتغريم، فهذا لا وجه له أصلاً مفرداً أو مضموماً.
وقد نجز أقصى ما في الوسع في بيان ذلك، تثبتاً في النقل، وتصحيحاً لما يجب تصحيحه.
وما ذكرناه مفروض فيه إذا غصب مثلياً، وأقام في يده مدة، وتلف، ثم انقطع المثل بعده.
4552 - فأما إذا أتلف شيئاًً من ذوات الأمثال على إنسان من غير فرض غصب واحتواء باليد، فقد ذكر القاضي وجهين في هذه الصورة: أحدهما - أنا نعتبر أكثر القيم من يوم التلف إلى يوم الانقطاع. والوجه الثاني - أنا نعتبر قيمة يوم الانقطاع.
وينقدح وجه ثالث ضعيف، وهو اعتبار قيمة يوم التغريم.
وليس يخفى تنزيل كل واحد على أصل من الأصول التي ذكرناها في حق الغاصب.
ولست أعتدّ باعتبار الأقصى بعد الانقطاع إلى التغريم؛ فإنه غلط عندي.
ومن غصب عبداً، وأبق من يده، فإنا نُلزمه القيمة للحيلولة، ولم يختلف المذهب في أنا نعتبر أقصى القيم من يوم الغصب إلى وقت المطالبة. وقيمة الحيلولة مع بقاء العين تناسب قيمةَ المثل عند فرض انقطاعه.
فليفهم الناظر ذلك؛ إذ لا خلاف أن المثل لو انقطع، ولم يتفق من صاحب الحق طلب حتى وُجد المثل، فحقه المثل إذا أراد الطلب الآن. وهو بمثابة ما لو استأخر الطلب من مالك العبد الآبق حتى رجع، فإن حقه في عين العبد.
4553 - ولو انقطع المثل، وغرِم الغاصِب أو المتلِف القيمة، ثم وجد المثل، فهل لصاحب الحق أن يرد القيمة، ويطلب المثل؟ فعلى وجهين: أحدهما - له ذلك؛

(7/181)


فإن حقه في المثل، وإنما جرى تغريم القيمة لتعذر المثل. والآن قد زال التعذر.
والوجه الثاني - ليس له أن يرد القيمة ويطالب بالمثل؛ فإنَّ الأمر قد انفصل ببذل القيمة، وإذا تم البدل، وقام مقام المبدل، وانقضى، فلا رجوع إلى المبدل، كما لو صام المعسر في الكفارة المرتّبة، ثم أيسر.
ويجوز أن يقال: لا مردَّ للبدل في الكفارة فلذلك (1) لا يرجع إلى المبدل. والردُّ والاسترداد ممكنٌ فيما نحن فيه.
ولا خلاف أن الغاصب إذا غرم القيمة لمالك العبد في إباقه، فلو رجع العبد، ردَّ العبدَ، واسترد القيمة. هذا مذهبنا. وأبو حنيفة (2) يزعم أن الغاصب يملك العبد في إباقه ببذل قيمته. والخلاف مشهور معه.
فليتخذ الناظر مسألة الإباق متعلقاً في هذا الفصل، فإنا إذا كنا نعتبر أقصى القيم في المثليات في الغصب، ففي التلف أولى.
4554 - ومما يتعلق بأحكام المثل أن من أتلف شيئاً من ذوات الأمثال في بقعة، وفارقها، وظفر به صاحب الحق في غير مكان الإتلاف، فالذي أطلقه أئمة المذهب أنه لا يطالبه بالمثل مع وجوده، وإنما يطالبه بالقيمة.
وكان شيخي يقول: إذا لم يكن للمثل قيمة حيث ظفر بالمتلِف، فالوجه اعتبار القيمة [بالمكان الذي أتلف فيه] (3) وهذا كما إذا تلف الماء على إنسان في البادية، فظفر صاحب الماء بالمتلف في بغداد، فله أن يطلب منه قيمة البادية، ولا يقنع بالمثل؛ فإن المثل لا قيمة له في مواضع وجود الماء من البلاد والقرى، ولو ألزمناه الرضا بالمثل، لكان ذلك إحباطاً لحقه.
فأما إذا كان المثل متقوّماً مع اختلاف البقاع، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنه
__________
(1) (ت 2): فكذلك.
(2) ر. رؤوس المسائل: 347 مسألة 227، مختصر الطحاوي: 118، طريقة الخلاف في الفقه للأسمندي: 260 مسألة: 108، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 179 مسألة: 1869.
(3) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 2).

(7/182)


لا يطالِب بالمثل، وإنما يطلب القيمة. وأقيسهما أنه يطلب المثل واختلاف الأماكن كاختلاف الزمان.
ولم يختلف أصحابنا أن من أتلف على رجل حنطة في رخاء الأسعار، فله أن يطلب الحنطة في سنة الأَزْم، وإن غلت الأسعار. وكذلك عكس هذا، فاختلاف المكان كاختلاف الزمان.
ثم إذا قلنا: يطلب القيمة، فمن حكم هذا ألا يكلفَ المثل، ومن حكمه ألا يرضى بالمثل لو (1) غرم له.
4555 - وإذا طلب القيمة في غير مكان الإتلاف؛ تفريعاً على الوجه الأوجه الأظهر، فبذلت له، ثم ظفر بالمتلِف في مكان الإتلاف، فهل له أن يرد القيمة، ويسترد المثل؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما فيه إذا غرِم المتلِف القيمةَ عند انقطاع المثل، ثم وجد المثل.
ثم لا يخفى على الفقيه أن الوجهين يجريان في الجانبين، فإن جوزنا لصاحب الحق أن يرد القيمة، جوزنا للغارم أن يسترد القيمة، ويبذل المثل. ولم يختلف الأصحاب أنهما لو تراضيا بما جرى، جاز. ولم يكن ذلك فيما أظن (2) تعاقداً.
والعلم عند الله.
ولو رجع العبد الآبق، فلا ينقدح الرضا بالقيمة إلا بتقدير بيعٍ ينشأ في العبد، وإنما ذلك لأن القيمة في العبد وجبت للحيلولة، وقيمة المثلي تدل على الحقيقة عند انقطاع المثل. فإذا كان المثل موجوداً، فالقيمة [لا تؤخذ] (3) إلا بمعاوضة، وإجراءِ اعتياضٍ عن المثل.
ثم إذا قلنا: تُطلب قيمة المتلَف (4) في غير مكان الإتلاف، فلا خلاف أنه تُطلب
__________
(1) (ت 2): ولو.
(2) ساقطة من (ت 2).
(3) في الأصل: لا توجد.
(4) (ت 2): المثل.

(7/183)


قيمةُ مكانِ الإتلاف. وهذا سببُ ردِّه إلى القيمة. ولو كنا نرعى قيمة مكان المطالبة، لكنّا نوجب المثل في مكان المطالبة، ولكان ذلك أقربَ من إيجاب القيمة. ثم في اعتبار قيمة مكان الإتلاف ما قدمناه من التفصيل.
4556 - وذكر الشيخ أبو علي في اختلاف الأمكنة طريقةً في ذواتِ الأمثال، فقال:
ما ذكره الشافعي والأصحاب من أن المتلف عليه إذا ظفر بمتلِف المثل في غير مكان الإتلاف، لا يغرمه المثل، وإنما يغرمه قيمة مكان الإتلاف، [فذلك مفروض فيما إذا كانت قيمة مكان الإتلاف أكبر، فلنفرض] (1) فيه إذا كانت قيمة المكان الذي ظفر به صاحبُ الحق بالمتلِف فيه (2) أكثر من قيمة مكان الإتلاف، فعند ذلك قال الشافعي ما قال، فأما إذا استوت القيمتان، ولم يتفاوت السعر، أو كانت قيمة المثل في المكان الذي وقع الظفر فيه بالمتلِف أقل، فيلزمه المثل في هذه الصورة. وهذه الطريقة ادعاها الشيخ أبو علي للأصحاب، ولم يردد فيها قولاً.
والذي ذكره الأئمة في الطرق إطلاق القول بأن المثل لا يطلب في غير مكان الإتلاف من غير تعرض للتفصيل، ولو كان الحكم مفصلاً عندهم كما ذكر الشيخ، لفصلوه؛ فإن التفصيل في مثل ذلك ليس ممَّا يعزب عنه نظر الناظر على ظهوره.
وذلك التفصيل هو معتمد الفصل عند الشيخ.
فقد حصلنا على مسلكين، وثالثٍ بعدهما: المسلك الظاهر المنصوص عليه إطلاقُ القول بأن المثل لا يُطلب في غير مكان الإتلاف من غير نظر في التفاصيل.
والمسلك الثاني أنا نفصل كما ذكر الشيخ وقطع به.
ثم ما ذكره الشيخ لا يخلص من إشكال الزمان، وقد ذكرنا أن تفاوت القيمة إذا رجع إلى الزمان، لم يُعتبر وفاقاً، سواء تفاوتت القيمة أو استوت. وحكينا عن شيخنا إيجاب المثل مع اختلاف الأمكنة، من غير تفصيل. وهذا منقاسٌ، لكني لست أثق به؛ فإني لم أره في شيء من الطرق، وسبيلي فيما أنفرد بنقله إذا لم أجده في عين (3)
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2) ألحقها أحد المطالعين بالهامش (لحقاً لا تعليقاً).
(2) كذا في النسختين.
(3) (ت 2): غير.

(7/184)


طريقةٍ أن أتوقف، ولا أخلي الكتاب عن ذكره.
وقد ينقدح على الجملة (1) فرقٌ بين الزمان والمكان؛ فإن التغريم والإتلاف يقعان في زمانين لا محالة. فلو ذهبنا ننظر إلى تفاصيل (2) الأزمنة، لطال المراء في ذلك، وخرج عن الضبط، وجرّ نزاعاً، والغالبُ اطراد القيم في الأوقات، كما أن الغالب اختلافُها في الأمكنة.
فهذا منتهى القول في ذلك.
4557 - ثم قال الشيخ أبو علي: لو كان لرجل على رجل دراهم أو دنانير، فظفر به في غير مكان الالتزام، طالبه بما عليه، واعتبر في ذلك معنىً، فقال: الدراهم لا يعسر نقلها ولا مؤنة في تحويلها من مكانٍ إلى مكان؛ فإنها [خفيفة] (3) المحمل، وليس كذلك ذوات الأمثال.
وهذا الكلام لا يكمل به الغرض. ولعل المعنى أن النقود في الغالب، لا تختلف قيمها -إن قدّرت لها قيم- باختلاف الأماكن، إلا أن يتكلف متكلف تصويراً (4) بعيداً عند إفراط البعد. وهي قيم الأشياء، فيبعد تقدير قيمتها، فهي في الأماكن كالمثليات في الأزمان. فأما ما ليس نقداً من المثليات، فيظهر التفاوت في قيمها، بأدنى تفاوت يفرض في الأماكن.
ولن يحيط بحقيقة هذا الفصل إلا من يعلم أن المضمون من المثلي المالية، وإيجاب المثل [تقريب] (5) من العين المتلفة، فيجب الالتفات على المالية. وعن هذا اختبط الأصحاب في اعتبار قيمة المثل عند فرض الإعواز والانقطاعِ.
4558 - ثم ما ذكرناه من تفصيل القول في التزام المثل بالإتلاف يجري في جميع
__________
(1) (ت 2): الجهة.
(2) (ت 2): التفاصيل اللازمة.
(3) في الأصل: كما في (ت 2): حقيقة.
(4) (ت 2): تصوراً.
(5) في الأصل: غير مقروءة بسبب النقط، فصورتها هكذا: (ـهونت) وفي (ت 2) هكذا (ـقرب). والمثبت اختيار منا.

(7/185)


طرق الالتزام، فلو استقرض من رجلٍ بُرّاً، ثم رأى المقرضُ المستقرضَ في غير مكان الاستقراض، فلا يطالبه بالمثل، كما قدمناه في الإتلاف. وكذلك لو استحق عليه شيئاًً من ذوات الأمثال سَلَماً، فالحكم ما ذكرناه إذا التقى المسلِم والمسلَم إليه في غير مكان الاستحقاق.
قال صاحب التقريب: كما لايطالب المسلِم المسلَم إليه في غير مكان الاستحقاق، كذلك لا يطالبه بقيمته أيضاً؛ فإنه لو طالبه بالقيمة، كان ذلك اعتياضاً منه عن المسلم فيه، وكل ما كان فيه معنى الاعتياض عن السلم، فهو مردود.
وهذا الذي ذكره ظاهر القياس. ولكن فيه إشكالٌ يتعلق بأمر كلي، وذلك أن المسلم إليه لو اعتمد الانتقال إلى موضعٍ، وعليه أموال من جهة السلم، فهذا يؤدي إلى انقطاع الطّلبة عنه، فينقدح في ذلك عندنا وجهان، سوى ما ذكره صاحب التقريب:
أحدهما - أنه إذا فعل ذلك عُدَّ هذا تعذراً في المعقود عليه مُثبتاً حقَّ الفسخ، ثم يعود الطلب عند الفسخ إلى رأس المال، ويجري فيه قياس سائر جهات الضمان، ويقع النظر في كونه نقداً، أو مثليا ليس نقداً، أو متقوماً. هذا وجه.
والثاني - أنا إذا قلنا: مَنْ أخذ القيمةَ، ثم استمكن من طلب المثل، ردّها، واسترد المثل، فالقيمةُ على هذا الرأي ليست عوضاً، وإنما أثبتت للحيلولة، فلا يمتنع إثباتها إذا كنا لا نقدرها عوضاً. وهذا فيه مزيد نظر. والله أعلم.
4559 - ومما ذكره الأصحاب في هذا الفصل أن من غصب حنطة ببلدة، ونقلها إلى بلدة أخرى، وأتلفها بها، فقد وجد منه العدوان في مكانين أحدهما - مكان الغصب، والثاني - مكان الإتلاف. فإذا ظفر صاحبُ الحق به في أحد المكانين، كان له مطالبته بالمثل؛ فإنه تحقق تعدّيه في البلدين، ولا ننظر إلى تفاوت الأسعار في الموضعين، لتعلق التعدي بهما. فلو ظفر مستحق الحق بالمتعدّي في موضع ثالث، طالب أقصى قيمة في البلدين. وهذا مستقيم على القياس. وبه انتجز الغرض في هذه الفصول.

(7/186)


فصل
4560 - قد مهدنا قواعد القول في ذوات الأمثال، ونحن نذكر الآن طرفاً من الكلام في النقود، والتبر، إلحاقاً بالمثليات، فنقول:
في هذا النوع ثلاث صور: إحداها - الكلام في الدراهِم والدنانير المطبوعة، والثانية- الكلام في التبر. والثالثة - الكلام في المصوغات من الأواني والحلي.
فأما الدراهم والدنانير المطبوعة، فهي معتبرة في المثليات، وإذا أتلفت، ضمنت بأمثالها، ولم تختلف بالأماكن والأزمان، كما قدمنا ذكره.
فأما التبر، فإنه من ذوات الأمثال، فيضمن بمثله، ويعتبر التساوي في المثل المضمون. والمتلف.
4561 - وأما القول في المصوغات، فهو مقصود الفصل: فالمصوغ ينقسم إلى ما للصنعة فيه حرمة، وإلى ما لا حرمة للصنعة فيه، فأما ما لا حرمة لصنعته وصيغته، وكان يحرم إيجاده، كصور الأصنام والصلُب، والأواني المتخذة من التبرين على أحد الوجهين، فلا قيمة للصيغة والصنعة. وإذا أتلفت هذه الأشياء، وجب على متلفها التبرُ وزناً بوزن، ولم تجب الدراهم المطبوعة.
4562 - فأمّا إذا كانت الصنعة محترمة، كالحلي المباح، وكالأواني على أحد الوجهين، فإنا نبتدىء الآن الكلام فيها، ونقول: أولاً إذا كان الرجل يتحلى بحلي تليق بالنساء، مثل أن كان يتختم بخاتم الذهب، أو يلبس السوار، فهذا الفعل محرم منه، والحلي في نفسه محترم الصنعة، لا يجوز إتلافه، وإفساد صنعته. وإن كنا قد نقول: تجب الزكاة قولاً واحداً على الرجل في الحلي الذي يستعمله، على وجه التحريم، وإن كان يحل استعماله للنساء؛ فإنّ أمر الزكاة مبني على قاعدة أخرى قررناها في باب زكاة الحلي، والمعتبر في هذا الباب أن تكون الصنعة في نفسها
محترمة ولا نظر، إلى [ما] (1) يستعمل على وجهٍ مباح أو على وجهٍ محظور.
__________
(1) في الأصل: من.

(7/187)


فإذا أتلف الرَّجُل مصوغاً محترمَ الصنعة، من النُّقْرة، وزنه مائة، وقيمته بحسن الصنعة مائة وخمسون، ففيما يلتزمه المتلِف أوجه: أحدها - أنه يضمن الأصل، والصنعة، بغير الجنس. فإن كان من الذهب قوّم بالفضة مصنوعاً، وإن كان من الفضة قوم بالذهب. ونصُّ الشافعي دال على هذا في كتاب الصداق. وهذا القائل يعدل عن جنس المتلف حتى لا يقابل ما وزنه مائة بمائةٍ وزيادة. والتماثل واجبُ الاعتبار في الجنس الواحد من أموال الربا.
والوجه الثاني - أن المتلف يضمن الأصل بالجنس، والصنعة بنقد البلد، حتى إن كان من الذهب، والنقد في البلد الذهب يغرَم الأصلَ، وتقوم الصنعة بالذهب. فإن كان النقد الذهب، والمصنوع من الفضة، غرِم الأصلَ بالفضة، والصنعةَ بالذهب.
وهذا الوجه منقاسٌ حسن، والمعتبر فيه مقابلة الأصل بالمثل، فإنه من ذوات الأمثال، وتقوم الصنعة بنقد البلد.
وهذان قياسان لا سبيل إلى دفعهما؛ فإن من أتلف التبر، ضمن مثله، ومن أفسد الصنعة ولم يفوّت التبر غرِم أرش النقص من نقد البلد، فإذا اجتمع تفويت التبر وإفساد الصنعة، لزم اطّراد القياسين.
ثم إذا قيل لصاحب هذا الوجه: ما قلتَه يؤدي إلى صورة الربا؛ فإن زنة المصنوع مائة، وقد قوبل بمائةٍ وخمسين، إن كان النقد من جنس الأصل، وإن لم يكن من جنسه، فبيع مائةٍ بمائة، ودنانير. فكيف الخلاص والحالة هذه؟ كان من جواب هذا القائل: إن التماثل إنما يُرعى في البيع، وليس ما نحن فيه من البيع بسبيل، والصنعة والأصل متلفان، يقابل كل واحد منهما بالبدل الذي يقتضيه الشرع، وليس هذا (1 من التقابل في شيء؛ فإن غرامة البدلين بعد فوات الأصل، فلشى هذا 1) من التقابل الجاري في البيع، فإن التقابل إنما يتحقق بين موجودين. فإذا زالت صورة التقابل، زال التعبد برعاية التماثل.
والذي يحقق ذلك أنه لو أفسد الصنعة أولاً، وغرم الأرش من نقد البلد، فلو عاد
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(7/188)


وأتلف الأصل، وجب القطع بتضمينه [مثلَ] (1) ما أتلف، ولا يجوز تخيل خلاف في هذا. فأي فرق بين وقوع الإتلافين معاً، وبين ترتب أحدهما على الثاني؟
والوجه الثالث - أنا نقابل الأصل بالجنس تمسكاً بقياس الضمان في إتلاف المثليات، ثم ننظر، فإن لم يكن نقد البلد من جنس الأصل، فهو المطلوب، فنوجب قيمة الصنعة بنقد البلد. وإن اتفق كون نقد البلد من جنس الأصل، أوجبنا في الأصل المثلَ، وملنا في قيمة الصنعة عن النقد الغالب، وأوجبنا جنساً آخر يخالف جنسَ الأصل. فإن كان الأصل من الفضة قابلناها بالفضة، وأثبتنا أرش الصنعة ذهباً، سواء كان نقد البلد ذهباً، أو لم يكن. فإن كان الأصل ذهباً، قابلناه بالذهب وأوجبنا قيمة الصنعة دراهم، سواء كان النقد دراهم أو لم يكن.
4563 - وأنا أذكر حقيقة هذا القول في المباحثة التي أبتديها الآن. فكأن صاحب الوجه الأول الذي هو على ظاهر النص، يجتنب صورة الربا، ويقدر ما يقابل المصنوع ثمناً (2) له، فكل ما يجوز أن يكون ثمناً في البيع لذلك المطبوع، يجوز أن يكون بدلاً له في الإتلاف، وما لا يجوز تقديره ثمناً لا يجوز تقديره بدلاً في الإتلاف. ويخرج من هذا وجوب الحيد عن جنس المتلف في أصله وصنعته، ومضمون هذا الوجه ترك القياس في مقابلة المثليات بأمثالها. والحامل على ذلك اجتناب صورة الربا. وإذا قيل لهذا القائل: الصنعةُ متميزة عن المصنوع، لم يقبل ذلك، وجعل الصنعة بمثابة الجزء من المصنوع، ولم يرها مستقلة بنفسها؛ فإن الإتلاف جرى فيهما معاً.
وأما صاحب الوجه الثاني، فقاعدته طرد القياس كما مضى. وإذا ألزم حكم الربا، قال: ليست قيمة المتلف على قياس عوض البيع، كما سبق تقريره. ومعتمد هذا القائل اعتقاد تميز المصنوع عن الصنعة.
وصاحب الوجه الثالث لا يخفى عليه أن مقابلة ما يزن مائة درهم بمائةٍ ودنانيرَ على صورة الربا، لكنه يبغي (3) أن يفصل بين الصنعة، وبين الأصل. ثم قاعدته: أن الربا
__________
(1) في الأصل: لمثل.
(2) (ت 2): بمثاله.
(3) (ت 2): يتعجل.

(7/189)


[لا يلزم قياساً] (1) في الإتلافات، والذي جاء به من المغايرة ورعاية المخالفة بين بدلي (2) الأصل والصنعة سببه أن نفصل أحدهما عن الثاني، ونقدرهما بمثابة متلفين.
هذا بيان الوجوه. وأصحها عندنا الوجه الثاني، ولا جواب عما أجريناه في توجيهه من فرض ترتب إتلاف الأصل على تفويت الصنعة.
4564 - ومما يجب التنبّه له أنا إذا رأينا مقابلة الأصل بمثله في الوجه الثاني والثالث، فليس مثله دراهم ولا دنانير مسكوكة، وإنما مثله التبر؛ فإنه بعد ما كسر وأفسدت صنعته، فهو تبر متبر. وهذا ظاهر جداً في الوجه الثالث، وفيه نظر في الوجه الثاني؛ فإن صاحب الوجه الثاني إذا كان لا يتحاشى من صورة الربا، وقد وقع إتلاف المصنوع [والصنعة] (3) معاً؛ فإن أوجب قيمة الأصل من جنسه دراهم أو دنانير، لم يكن مستحيلاً عنده؛ فإن في ذلك رعايةَ المثلية، وما عهد المصنوع متبراً.
ثم الإتلاف بعد التكسير. وهذا فيه تكلف. والوجه عندنا في الوجهين مقابلة الأصل بالتبر. والعلم عند الله تعالى.
فصل
4565 - ذكر الشافعي رحمه الله أحكام تغيير الأعيان المغصوبة، وصادف مسائل خالف أبو حنيفة فيها القواعدَ الكلية، فأخذ يرادّه فيها. ويجوز أن يقال: إنّما صدر كتاب الغصب بأحكامٍ في الجنايات؛ لأنه طلب أن يتوصل بذكر تغايير يحدثُها الغاصب في المغصوب إلى مسائل أبي حنيفة، كما سنشير إليها بعد تمهيد أصلنا، فنقول: الأصل في المغصوب وجوب رده إذا لم يتغير. فإن تغير، لم يخل تغيره، إمّا أن يكون بنقصان، أو بزيادةٍ. فأما التغير بالزيادة، فسنذكر حكمه في مساقِ فصلٍ على إثر هذا الفصل، إن شاء الله تعالى.
4566 - وأمَّا التغير بالنقصان، فقاعدة مذهب الشافعي أن يغرَم الغاصب أرش
__________
(1) في الأصل: لا يلتزم قياسها.
(2) (ت 2): يدي.
(3) زيادة اقتضاها السياق، حيث سقطت من النسختين.

(7/190)


النقص، ويلزمه رد المغصوب ناقصاً مجبوراً [بالأرشِ] (1) المغروم، ولا فرق بين أن يتفاحش النقص، وبين أن يقل. وأبو حنيفة لم يرع هذا الأصل، وأعرض عنه في مسائل خلطَها، وتخبط فيها، ونحن نأتي بها، ونخرجها على أصلنا، ونبين مذهب أبي حنيفة فيها، وننبه على مأخذه. والغرضُ بذكر ذلك من مذهبه وضوحُ تميز أصلنا عن أصله.
فإذا غصب الرجل عبداً، وقطع يديه، وفرعنا على أن جراح العبد من قيمته كجراح الحر من ديته، وأوجبنا القيمة الكاملة، فيجب على الغاصب الجاني بذلُ القيمة، وردُّ العبد المجني عليه على مالكه. وأبو حنيفة (2) يزعم أنه إذا غرِم القيمةَ، ملك العبد المجني عليه، وطرد هذا الأصل في كل جنايةٍ أرْشُها كمال القيمة، وادّعى أن الواجب عند قطع اليدين قيمةُ العبد، لا أرشُ اليدين، ثم ادعى استحالةَ اجتماع القيمة والمقوّم المجني عليه في ملك المغصوب منه، ووافق أن الغاصب لو قطع إحدى اليدين، والتزم نصف القيمة، لم يملك من العبد شيئاًً.
ونحن نقول: الواجب في اليدين -وإن بلغ مقدارَ القيمة- أرشُ اليدين لا قيمةُ الرقبة. فهذا نوع من التغايير التي تلحق المغصوب.
ولو غصب رجل ثوباً، وخرَّقه خِرقاً، ومزقه مِزقاً، فأصلنا أنه يغرَم ما نقص، ويرد الخِرق، وإن صارت سلكاً سلكاً. وأبو حنيفة يقول في هذا النوع: إذا أحدث الغاصب تغيراً يبطل به معظمُ منفعة المغصوب؛ فإنّه يغرَم القيمة، ويملك ذلك المغصوب المغيّر (3)، وبنى عليه مسائلَ، منها: أنه لو غصب عمامةً وشقها طولاً، فإنه يغرَم قيمتها صحيحة، ويملك المنديل المشقوق، ولو شقه عرضاً ردّه، وردَّ أرش النقص.
ولو غصب شاة، وذبحها، لم يملكها، ولو شوى اللحمَ، أو طبخه غرِم قيمةَ الشاة، وملك اللحم المشويَّ. وقال: لو غصب ثوباً، وصبغه بصبغٍ (4) يقتل صبغاً
__________
(1) في الأصل: بأرش المغروم.
(2) ر. رؤوس المسائل: 346 مسألة 226، إيثار الإنصاف؛ 256.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 175 مسألة 1863، المبسوط: 11/ 86.
(4) عبارة (ت 2): بصبغ يكفي أن يكون لثوب يقتل.

(7/191)


آخر، لم يملكه، ولو صبغه أسود غرِم قيمته (1)، وملكه، في فضائح ومخازي لا نعددها. ومعتبره في هذه التغايير يخالف معتبره في الجناية على العبد، فإنه راعى في الجناية وجوبَ تمام القيمة أرْشاً (2)، وراعى في هذه التغايير سقوطَ معظم المنافع. ولست أدري كيف يجري هذا في صبغ الثوب أسود. والشافعي (3) متمسك في جميع هذه المسائل بما يقتضيه وضعُ الشرع، من رد ما بقي على المغصوب منه مجبوراً بأرش النقص.
4567 - وجرى في مذهب الشافعي مسألةٌ واحدة تكاد تكون مستثناة من القاعدة التي مهدناها. ونحن نصورها، ونذكر المذهب فيها:
فإذا غصب رجل حنطة، وتركها في مكانٍ نَدِيّ، حتى استمكن العفن الساري منها، وغرضُنا أنها لو تركت، لتسرع الفساد الكلي إليها. قال الشافعي: المغصوب منه بالخيار بَيْن أن يترك هذه الحنطةَ العفنةَ على الغاصب، ويغرّمه (4 مثل حنطته، وبين أن يسترد منه الحنطة العفنة ويغرّمه 4) أرش عيبٍ سارٍ غيرِ متناهٍ (5).
ثم أرشُ نقصان المثليات من نقد البلد، ولا تقابل صفات المثليات بذوات المثليات. وهذا الذي نقل عن الشافعي في الحنطة العفنة، مشكلٌ جداً مخالف لقانونه في وجوب رد الأعيان الناقصة مجبورةً بأرش النقص.
وقد ذكر الأئمة جواباً آخر من متن المذهب، جارياً على القياس اللائق بقاعدة الشافعي (6 وهو أنه يتعين ردّ الحنطة كما هي مع أرش العفن غير المتناهي 6)، وفي ألفاظ الشافعي ما يشعر بهذا الجواب أيضاً. ثم من رأى التعلق بالجواب الثاني افترقوا فرقتين، فذهب بعضهم إلى حمل نص الشافعي في الجواب الأول على ما إذا انتهى
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 179 مسألة 1870، مختصر الطحاوي: 119، المبسوط: 11/ 86.
(2) (ت 2): إن شاء.
(3) (ت 2): وللشافعي مستمسك.
(4) ما بين القوسين ساقط من الأصل.
(5) في الأصل، كما في (ت 2): ساري غير متناهي.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(7/192)


ظهور العفن إلى سقوط قيمة الحنطة بالكلية، وهذا ترك لفحوى كلام الشافعي وإضرابٌ عن نصه؛ فإن قوله: "يتخير المغصوب منه، فإن شاء وإن شاء" - ناصٌّ على أن المالية قد بقيت منها بقية.
ومن أصحابنا من أقر نص الشافعي قراره، وذكر قولاً آخر معه، ووجه القول الثاني لائح، كما ذكرناه، ووجه النص عسر، والممكن فيه أن أرش العفن الساري لا يمكن ضبطه، ولا يمكن إلحاق الحنطة التي ظهر العفن فيها بالتالف بالكلية. فينتظم من ذلك تخير المالك بين أن يكفي نفسه مؤونة الاطلاع على الأرش، وبين أن يسترد عين ماله.
وهذا تكلف؛ فإن الحنطة العفنة إنما تكون على بقية من المالية إذا كان يتأتى استعمالها على حالٍ، وما كان كذلك ينبغي أن يجعل كطعام رطبٍ، قابل للتغايير على قرب الزمان، فليكن صاحبه أولى به على ما هو عليه، وليتعيّن مسلك الاسترداد.
وقد ذكر العراقيون في مسألة العفونة قولين للشافعي: أحدهما - أن المالك يغرّمه المثل ليس له غيرُ ذلك. والثاني - أنه يأخذ عينَ حنطته، كما وجدها، ويرجع عليه بأرش النقصان. وأما القول الثاني، فهو الجواب الثاني الذي حكيناه. وأما القول الأول، فهو مخالف للجوابين اللذين حكيناهما، وذلك أنهم قالوا: نغزمه المثلَ، ونحسبه تالفاً، ولم يثبتوا خِيرةً أصلاً. وهذا بعيد في النهاية، موافق لمذهب أبي حنيفة، فإذا أثبتنا الخيارَ أشارَ إثباتُه (1) إلى تعلق حق المالك بالعين إن أرادها.
وإذا كان الخِيرةُ إلى المالك، وكان ترك الحنطة العفنة مصلحةً له يراها، كان تحكمه على الغاصب لائقاً بالحال، كما قررناه على حسب الإمكان.
فهذا منتهى القول في ذلك.
4568 - ثم ألحق الأئمة بالحنطة العفنة السارية العفونة ما لو غصب دقيقاً، وحلاوة، وسمناً، واتخذ منها حلاوة؛ فإن هذه الأجناس إذا جمعت، وأقيمت أركاناً لحلاوةٍ أمعن تأثير النار فيها، فالحلاوة المجموعة صائرة إلى الفساد، لو لم يبتدر استعمالها. فهذا ما ذكره الأصحاب في ذلك.
__________
(1) (ت 2): غير مقروءة، صورتها هكذا: لـ ـاتهِ.

(7/193)


4569 - وفي النفس وراء قبول إشكال النص [فكرٌ] (1) في محاولة ضبط هذا التغيير، [فلا] (2) خلاف أن من غصب حنطة، فطحنها دقيقاً، فالدقيق يقرب من أمد فساده بالإضافة إلى الحنطة، ثم إذا اتخذ من الدقيق خبزاً، فالخبز أسرع إلى قبول الفساد من الدقيق، فليت شعري ما المرعي في التغيير المثبَت سبباً (3) سارياً مُفضياً إلى الفساد؟
فنقول: ربّ طعام على كماله يكون أمد بقائه أقصرَ من أمد بقاء الحنطة العفنة، التي صورناها، فلا نظر في ذلك إلى قرب الفساد.
ولكن الممكن عندنا فيه إضافةُ ما تغيّر إلى جنسه، بالطريق الذي نذكره. فالدقيق على حالٍ مما يعتد ويعد دقيقاً، كما أن الحنطة تدخر، والفساد يسبق إلى الحنطة على مر الزمان، كسبقه إلى الدقيق، وإن كان أمد أحدهما أقصرَ من الثاني. فأما الحنطة العفنة الظاهرة العفونة؛ فإنها خارجة عن صفة جنسها؛ فإنها لا تدخر، بل تبتدر، ولا يعد مثلها من المدخرات، وهي من جنسٍ يجري الادخار فيها على أنحاء لها ومناصب. وهذا يضاهي قولَنا: اللبن في حال كمالِ الادخار، مع العلم بأنه على القرب، يحول ويتغير، ولكنه في جنسه كاملٌ. والقدر الممكن من ادخاره ما يعد ادخاراً لائقاً به.
4570 - وكان شيخي يتردد في العبد المغصوب إذا مرض مرضاً سارياً عَسِر العلاج، مثل أن يصير مسلولاً، أو مدقوقاً (4)، أو مستسقياً، مأيوس البرء، فربما كان يلحق ما ذكرناه من الأمراض بالعفن، الذي وصفناه في الحنطة.
وهذا غير مرضي؛ فإن العفن شرطه أن يُفضي إلى التلف، والأمراض لا حكم عليها، ولا وصول إلى درك اليأس منها، وكم عُهد من المرضى (5) المحكوم عليه
__________
(1) في الأصل: فكرة.
(2) في الأصل، كما في (ت 2): ولا.
(3) (ت 2): شيئاً.
(4) أصابته حمى الدِّق، وهي حمى معاودة يومياً تصحب غالباً السل الحاد. (معجم). ومما ينبغي الإشارة إليه أن المعجم أشار إلى أن هذه اللفظة من الألفاظ التي أقرها مجمع اللغة العربية، فهل كانت من ألفاظ اللهجات منذ عهد إمام الحرمين؟
(5) (ت 2): المزمن.

(7/194)


بالموت استقل (1) واستبلّ (2) عما به.
فهذا تمام القول في التغايير التي تلحق المغصوب من جهة النقصان، وسنعيدها على غرض لنا سوى ما ذكرناه في أثناء التقاسيم.
فصل
قال: "ولو غصب جاريةً تساوي مائة، فزادت في يده بتعليمٍ منه ... إلى آخره" (3).
4571 - نقول في مقدمة الفصل: من غصب عيناً، فعليه ردها على مالكها، فإذا أمسكها، كان في كل لحظةٍ على حكم من يبتدىء غصباً، ثم تلك العين لا تخلو: إما أن تتلف في يده، أو تبقى إلى أن يردَّها.
فإن تلفت، وكانت من ذوات القيم، غَرِمها بأكثر ما كانت من يوم الغصب إلى يوم التلف: فلو كانت تساوي يوم الغصب ألفاً، ثم كانت تساوي يوم التلف مائة، لانحطاط الأسعارِ، وركود الرغبات، فالواجب الألف. وكذلك لو كان الأمر على العكس.
ولو كان يوم الغصب تساوي مائة، ويوم التلف تساوي مائتين، واتفق في الأثناء هَيْجُ الأسعار، وكثرةُ الرغبات، فصارت العين تساوي ألفاً، فإنا نُوجب عليه الألفَ.
وما ذكرناه معلل بما صدرنا الفصل به من تقديره غاصباً في كل لحظةٍ؛ فإن الأمر بالرد إذا كان مستمراً، فالدوام والابتداء على وتيرة.
4572 - وإن بقيت العين، فردها على المالك، فلا تخلو إما أن تكون على هيئتها، لم تتغير عنها، بزيادة ولا نقصانٍ، وإما أن تتغير عما كانت عليه.
فإن لم تتغير، وردها، فالكلام في نوعين: أحدهما - أنه لو فرض في أيام الغصب
__________
(1) استقل نهض، وقام.
(2) ت (2): غير مقروءة، صورتها هكذا: واست ـل.
واستبلّ: أي شفي، وعوفي من مرضه، والهمزة والسين والتاء هنا للصيرورة، والتحول. وأصل المادة: بلّ: أي برىء من مرضه.
(3) ر. المختصر: 3/ 36.

(7/195)


ارتفاع قيمه وانخفاضها، فلا مؤاخذة بالقيم، ولا نظر إليها إذا ردت العين في العاقبة؛ فإنها ردت كما أخذت.
وقال أبو ثور: إذا زادت القيمة، ثم انحطت، كان الغاصب مؤاخذاً بتلك الزيادة مع رد العين؛ من حيث إنه انتسب إلى تفويت تلك الزيادة، لإدامة اليد العادية. وهذا عده القياسون منقاساً.
والمعتمد عندنا أن العين إذا رُدَّت كما أخذت، فالقيم المتفاوتة محمولة على رغبات الراغبين، وانكفافهم، وليست هي من صفات العين، وليس كذلك إذا تلفت العين؛ فإنها قد فاتت، فحمل الأمر مع الغاصب على تقدير التفويت في أرفع الأسعار والقيم.
فهذا أحد النوعين.
وأما النوع الثاني - فالكلام فيه في المنفعة. فإن لم تكن العين مما ينتفع به مع بقاء العين، فلا منفعة إذن، ولا ضمان من هذه الجهة.
وإن كانت العين منتفعاً بها، فإن لم يمض في الغصب زمان للمنفعة في مثله قيمة، فلا كلام.
وإن مضى زمان للمنفعة في مثله قيمة غَرِم الغاصبُ مع رد العين أجرةَ المنفعة.
ولا فرق بين أن يستوفيها، وبين أن تضيع وتتلف تحت يده.
فلو كان العبد صنَاعَ اليد أوْجبنا أُجرةَ صنعته. وإن كان يُحسن صناعاتٍ، فلا سبيل إلى إيجاب أجر جميعها، فإن الاشتغال بعملين غيرُ ممكن. فإذا كان العبد يحسن صناعاتٍ، اعتبرنا أغلاها أجرةً، وأرفعَها عِوضاً، وأوجبنا الأجرة باعتبارها.
ولا خلاف أنا لا نوجب على الغاصب عوض منفعة بُضع الجارية المغصوبة إذا لم يطأها؛ فإن اليد لا تثبت على منافع البُضع، على ما قرره المقررون في الخلاف.
هذا إذا لم تتغير العين عن هيئتها.
4573 - فأما إذا تغيرت، فلا تخلو: إمّا أن تتغير بالزيادة أو بالنقصان. فإن تغيرت بزيادة، ردَّها زائدةً، ولا حقَّ له في تلك الزيادة؛ لأنها نماء ملك الغير، والنماء يتبع الملك.
وإن تغيرت العين بالنقصان، فلا تخلو: إما أن ينقص أصل العين، أو صفة من

(7/196)


صفاتها. فإن انتقصَ أصلُ العين، ضمن النقصان بأكثرَ ما كانت قيمُه من يوم الغصب إلى يوم النقصان. مثل أن يغصب ثوباً قيمته ديناران، فاحترق نصفه، ثم انخفض السوق، وارتفع، فعليه دينار ورد النصف الباقي.
4574 - ويليق بهذا المنتهى كلام ابن الحدّاد، قال: إذا غصب ثوباً قيمته عشرة، فأبلاه، ونقص بالبلى، ورجع إلى خمسة. ثم ارتفع سعر السوق، فصار الثوب البالي يساوي عشرة، ولو كان غير بالٍ، لكان يساوي عشرين، قال ابن الحدّاد: يرد الغاصب الثوب ويلزم عشرة. وهذا مأخوذ عليه، ومُغلَّطٌ فيه، وجوابه معدودٌ من هفواته، لم يصححه محقق، وإنما تابعه ضعفةٌ من الأصحاب لا مبالاة بهم.
ووجه الغلط أن البلى نقصان عين، فإذا رجع الثوب بالبلى إلى خمسة والسعر مستقر، فقد تلف نصف الثوب؛ فما يفرض بعد ذلك من ارتفاع سعر السوق، لا يؤثر فيما بلي، وتلف.
ولا خلاف أن من غصب ثوباً ثمنه عشرة، فتلف في يده، والقيمة عشرة، ثم هاج
السعر (1)، فصار مثل ذلك الثوب مساوياً عشرين، فلا يلزم الغاصب إلا عشرة.
كذلك إذا تلف بالبلى أجزاءُ من الثوب، وانسحق، ثم ارتفع السعر، فلا أثر للسعر المرتفع (2) فيما بلي قبل ارتفاع السعر، فالوجه في صورة مسألة ابن الحداد أن يرد الثوب البالي، ويغرم خمسة دراهم. ومن ساعد ابنَ الحدّاد فتمسكه أن ما ينسحق من الثوب بالبلى، لا ينزل منزلةَ جزء من الثوب على التحقيق. بل هو حالّ محلَّ الصفات. وهذا ساقط من الكلام لا أصل له؛ فإنَّ البلى يُزيل من جرم الثوب ما لا سبيل إلى إنكاره.
4575 - ثم لو فرضنا الكلامَ في الصفات، وقلنا: عبد صانع يساوي مائة، فنسيَ الصنعةَ، ثم صار من يحسن مثل تلك الصنعة يساوي مائتين، فلا يلزم الغاصب بسبب ارتفاع السعر، بعد نسيان الصنعة مزيد.
وبيان ذلك أنه إذا كان يساوي مائةً، فنسي الصنعة في يد الغاصِب، وصار يساوي
__________
(1) (ت 2): السوق.
(2) عبارة (ت 2): إن لم يرتفع فيما بلي ارتفاع السعر.

(7/197)


لأجل النسيان خمسين، ثم ارتفع السوق، فصار عند تعرف تلك الصنعة يساوي مائتين، فجوابنا أنه يرد العبد الناسي، ويغرَم خمسين درهماً. على القياس الذي ذكرناه في الثوب البالي.
وهذا ظاهرٌ إذا كان ارتفاع القيمة بعد نسيان الصنعة، ولأن (1) سببه الصناعة لا عين العبد، والله أعلم.
وذكر الشيخ أبو علي لصورة ابن الحدّاد عكساً، فقال: لو غصب ثوباً قيمته عشرة، فنقص بالسوق، ورجعت القيمة إلى خمسة، والثوب بحاله لم يتغير عن هيئته، ثم أبلاه، فرجع بالبلى إلى درهمين، فقد أتلف ثلاثة أخماس الثوب، فيلزمه قيمةُ ثلاثة أخماس الثوب بأقصى ما كان من يوم الغصب. ولقد كان عشرة، فثلاثة أخماسها ستة دراهم.
قال الشيخ: ذكر بعض من شرح الفروع (2) هذه المسألة، وتخبط في جوابها، فقال: إذا رجع الثوب بالسوق إلى خمسة، فأبلاه، فرجع إلى درهمين بالبلى، يلزمه ثلاثة دراهم؛ نظراً إلى حالة البلى. وهذا غلط لا يستراب فيه؛ فإنا نعتبر الأقصى من يوم الغصب إلى يوم التلف. ولقد كانت القيمة عشرة من قبل، فليكن الغرم بحساب العشرة؛ فإنَّه الأقصى.
ومسألة ابن الحدّاد مصورة فيه إذا بلي، ثم ارتفع السوق، وهاهنا كان السّوق مرتفعاً قبل البلى.
فهذا منتهى المراد في ذلك. وما ذكرناه فيه إذا انتقص عينُ (3) الثوب.
4576 - وقد يتصل بهذا تغايير تلحق الصّفات بالزوال والعود، ونحن نستقصيها ونذكر ما فيها.
__________
(1) في (ت 2): "وكان".
(2) الفروع: اسم كتاب لابن الحداد. عني بشرحه كثير من أئمة المذهب وأعلامه قبل السنجي المتوفى سنة 430 هـ وبعده نذكر منهم: القفال المروزي (ت 417 هـ)، أبو إسحاق الإسفراييني (ت 418هـ)، أبو بكر الصيدلاني (نحو 427 هـ)، أبو الطيب الطبري (450 هـ) والقاضي حسين (465هـ)
(3) (ت 2): عن.

(7/198)


فمن الصفات: السّمن، والحسن، والصنعة، فإذا غصب جارية سمينة، فهزلت نقصت قيمتُها، ردّها هزيلة، وضمن النقصان. وكذلك إذا غصب عبداً صانعاً، فنسي الصنعة.
ولو غصب جارية هزيلة، فسمنت في يده، ثم هُزِلَت، وكانت ازدادت بالسمن الطارىء، ثم نقصت بالهزال، فيردها ويغرَم النقصانَ، ولا فرق بين السمن الطارىء، وبين السمن المقارن (1) للغصب.
وكذلك لو غصب عبداً، فتعلم صناعةً في يد الغاصب، ثم نسيها، ردّه مع أرش نقصان الصنعة.
ولو تكرر عَوْدُ السّمن، وتخلل الهزال بأن كانت سمينةً أولاً، ثم هزلت، ثم سمنت، فردها سمينةً كما كان غصبها، فهل يغرم نقصان الهزال المتخلل بين السمنين؟ أم يجبر السمن الهزالَ، وتقدر كأنها بقيت سمينة؟ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن السمن لا يجبر الهزال (2)، ويجب على الغاصب مع رد الجارية أرشُ نقصان الهزال. والسبب فيه أنّ كل سمن مغايرٌ للسمن السابق، فإذا زال السمن الأول، استقر أرش النقصان. والسمنُ الثاني زيادة جديدة. وكذلك القول لو تكرر السّمن مراراً، فيجب في كل هزال أرشُ نقصه.
والوجه الثاني - أن السمن الثاني يجبر الهزال؛ فإنه في عرف الناس يعد بدلاً عن السمن الزائل، حالاً محله، كأنه لم يزُل أول مرة. ومن سلك مسلك الجبران يقول: لو سمنت مراراً كثيرة، ثم عاد السّمن آخراً، وردّها سمينةً، لم يغرم شيئاً، وإن ردها هزيلة، لم يغرم نقصان الهزال إلا مرةً واحدةً، فإن ردّت سمينة، فلا أثر لما مضى، وإن ردّت هزيلة، فالضمان مرة.
والأصح مذهب التكرير: فلو غصب جارية هزيلة قيمتها مائة، فسمنت حتى بلغت قيمتها ألفاً، ثم هُزِلت، فعادت إلى مائة، ثم سمنت حتى بلغت ألفاً، ثم هُزِلت حتى
__________
(1) (ت 2): المقارب.
(2) (ت 2): "السمن" وهو سبق قلم.

(7/199)


عادت إلى مائة، فردها هزيلة، فإنه يرد معها ألفاً وثمانمائةٍ، وإن تلفت غرِم ألفاً وتسعمائة.
ولو فرضنا مثلَ ما ذكرناه في الصنعة وطريان نسيانها وعَوْدها، فقد رتب الأئمة ذلك على عود السمن، وجعلوا عودَ الصنعة أولى بالجبران؛ فإن السمن زيادةٌ في الجسم محسوسة، فإذا تكررت كانت متعددة، والصنعة إذا نسيها العبد، ثم تذكرها عُدَّ ما تخلل كالغفلة، والنوم، والذهول، ولا يعُد أهلُ العرف تذكرَ الصنعة شيئاً متجدداً.
4577 - ثم كل ما ذكرناه من العود والزوال جارٍ في اتحاد الجنس، فلو اختلف الجنس، لم يختلف المذهب في أنه لا جبران، وبيانه أنه لو كان سميناً، وقيمته لأجل السمن ألف، فهُزِل وصار يساوي مائة، فتعلم صنعةً بلَّغت قيمتَه ألفاً، ورده صانعاً هزيلاً؛ فإنه يغرم نقصان الهزال، وهو تسعمائة. وكذلك لو فرضنا صنعتين مختلفتين، فلا تجبر إحداهما الأخرى أصلاً.
4578 - وذكر الأئمة في ذلك صوراً تهذب ما ذكرناه، فقالوا: لو غصب نُقرةً، فصاغ منها حلياً، ثم كسره وصاغه ثانياً، نُظر، فإن صاغه على هيئةٍ أخرى سوى الهيئة الأولى، فلا جبران. وإن أعاده إلى الهيئة الأولى، ففي الجبران وجهان: قال صاحبُ التلخيص: من غصب من جوهر الزجاج ما قيمته درهم، ثم إن الغاصب اتخذ منه قدحاً يساوي عشرة، ثم انكسر في يده، وكان مكسوراً يساوي درهماً، فيرد الزجاج مكسوراً، ويرد تسعةَ دراهم؛ فإن تلك الزيادة قد حدثت في يده، وتعلق الضمان بها، وإن حصلت بفعله. ولو أعاد (1) ذلك الزجاج المكسّر قدحاً، فإن كان على هيئة القدح الأوَّل، فهو على الوجهين، وإن أعاده إناء آخر، فلا جبران.
ومن أحكم هذه الأصول التي مهدناها، لم يخف عليه هذه التفاريع.
فرع:
4579 - إذا غصب عصيراً، فاستحال في يده خمراً، فجاء المغصوب منه مطالباً (2)، غرّمه مثلَ العصير؛ فإن الخمر التي صادفها ليست مالاً. ولو انقلبت الخمر في يد الغاصب خلاً، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يرد الخل على
__________
(1) (ت 2): كان.
(2) (ت 2): يطلب.

(7/200)


المغصوب منه (1)، ويغرم له مثلَ عصيره؛ فإنّ العصير تلف لما انقلب خمراً، فاستقر وجوب (2) مثله، ثم استحالت الخمر خلاً، فهو فرع أصلٍ للمالك، فصرف إليه، وعُد رزقاً جديداً. وهذا يتأيد بما مهدناه من بطلان الجبران عند اختلاف الصفات، فالخل على هذا لا يجبر العصيرَ. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أنه يرد الخل، فإن كانت قيمتُه مثلَ قيمة العصير، فلا ضمان على الغاصب؛ إذ لا أرش، فلو غرّمناه لكنا نغرمه مثلَ العصير، كما قال القائل الأول، وهذا مجاوزة حد، وليس كما إذا بقي (3) الملك في المغصوب وتَعاوَرَتْه الصفات.
وسنذكر لذلك مثلاً في أثناء الكتاب عند مسيس الحاجة على مقتضى ترتيب الفصول، إن شاء الله تعالى.
ولم نذكر في هذا الفصل الجامع تفصيلَ المذهب في الزيادات المنفصلة؛ فإنا أحببنا حصر الكلام في التغايير التي تختص بالعين، ولا تعْدُوها. وسنذكر في الفصل الذي يلي هذا الفصلَ الزوائد المنفصلة، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "وكذلك هذا في البيع الفاسد ... إلى آخره" (4).
4580 - أراد بالبيع الفاسد هاهنا بيعَ الغاصب المغصوبَ. والبيوع الفاسدة قسمان: فبيع من المالك يفسدُ بشرط فاسدٍ، وبإخلالٍ بشرط معتبر، فالمبيع (5) في مثل هذا البيع لا يدخل في ضمان المشتري إلا إذا أُقبض. ثم إذا أُقبض، فالمقبوض مضمون عليه ضمانَ العاريّة على المستعير، وقد فصلنا ذلك، غير أنه ينفصل عن المستعار بشيء، وهو أنا إذا حكمنا بأن العاريّة لا تضمن ضمان الغصوب، ففي
__________
(1) (ت 2): له.
(2) ساقطة من (ت 2).
(3) (ت 2): أبقى.
(4) ر. المختصر: 3/ 37.
(5) (ت 2): فالبيع في مثل البيع.

(7/201)


الوقت المعتبر وجهان: أحدهما - أنه وقت القبض. وهذا مزيف عند المحصّلين في العارية. والثاني - أنه وقت التلف، وهو الصحيح؛ فإنّه في اعتبار وقت القبض إدخال الأجزاء التي تسحق بالبلى تحت الضمان، وإذا اعتبرنا يوم التلف، خرجت الأجزاء عن الاعتبار. ونخرّج في المقبوض على حكم البيع الفاسد الصادر من المالك قولاً في أنه يضمن ضمان الغصُوب، أو يضمن من غير تغليظٍ. فإن قلنا: لا يضمن ضمان الغصوب، فالأصح أنه يعتبر يوم القبض؛ إذ ليس في هذا ما أشرنا إليه في العاريّة من ضمان الأجزاء.
وذكر شيخي في المقبوض عن البيع الفاسد أنه يضمن بقيمته يومَ التلف. ولم أرَ هذا لغيره.
فهذا ما تفترق فيه العاريّة والمقبوض على حكم البيع الفاسد.
ثم لو فرض ولدٌ في يد القابض عن الفاسد، فضمان الولد خارج على القولين، كما ذكرناه في ولد العاريّة. وضمان المنفعة أيضاً يخرّج على القولين، يعني منفعة تلفت (1) تحت اليد. فإن استوفاها المشتري، ضمنها لا محالة. وليس كالمستعير؛ فإنه مأذون له في الانتفاع. والمأخوذ بالسوم في كيفية الضمان كالمأخوذ عن البيع الفاسد من غير تفاوت. فالعاريّة إذا باينت هذه النظائر على قولنا: لا يثبت ضمان الغصب في الوقت المعتبر في القيمة، فلا شكَّ أنها تباين النظائر في المنافع؛ فإن وضعها لإباحة المنافع.
هذا قسم أجريناه، وليس مقصودَ الفصل، ولكن اشتمل التقسيم عليه، فذكرناه.
4581 - فأمَّا المشتري من الغاصب، فالقول فيه يستدعي تقديمَ أحكامٍ في الغاصب نفسه، فنقول: الغاصب إذا وطىء المغصوبة، فلا يخلو إمّا أن يكونا عالمين أو جاهلين، أو أحدهما عالم، والآخر جاهل: فإن كانا جاهلين، فلا حد عليهما للشبهة، وعلى الغاصب المهرُ للمالك: إن كانت ثيباً التزم مهر ثيب، وإن كانت بكراً، فلا شك أن الوطء يتضمن إزالة البكارة والبكارة لو أزيلت بخشبةٍ أو أصبع،
__________
(1) (ت 2): تخلفت.

(7/202)


فعلى المزيل الأرش. ثم لو فرض الوطء بعد ذلك، تعلق به مهر ثيب. فإن أزال الغاصبُ البكارة بالوطء، فقد جنى، ووطىء. فالتفصيل فيه أن يُنظر: فإن كان مهرُ بكرٍ لو ضبط مبلغه، ثم قيس به أرش بكارة ووطء تلك بعد الثيابة، لما اختلف المقدار، فلا فرق بين أن يقول القائل على الواطىء مثلُ مهر بكرٍ، وبين أن يقول: عليه أرش العُذرة ومهرُها بعد الثيابة؛ فالإجمال والتفصيل في هذا سواء. وما عندي أنه يتصور في هذا تفاوت.
فإن فرض فارض تفاوتاً، وكان إفراد المهر عن الأرش أكثر من مهر بكرٍ، فيجب على الغاصب التزامُ تلك الزيادةِ لا محالة. فإنّ باب ضمان الغاصب على التغليظ وإيجابِ الأقصى.
4582 - وإن وطىء الجارية وأحبلها، والمسألة مفروضة في الجهالة، فالولد ينعقد حراً. ثم إن انفصل حياً، فعليه قيمةُ الولد وقت انفصاله، فنقدره رقيقاً ونوجب قيمتَه؛ فإنه باغتراره فوَّت الرق، فكان كما لو فوت الرقيق. هذا إذا انفصل حياً.
فأما إذا انفصل ميتاً، فلا يخلو: إمَّا أن ينفصل بنفسه ميتاً من غير جناية جانٍ، أو ينفصل بتقدم جناية يُحمل الانفصال عليها. فإن انفصل بلا جناية، فلا ضمان أصلاً؛ فإنه لم تتحقق جناية، ويجوز أن الروح لم تنسلك فيه. ولو كان رقيقاً، لكان لنا فيه تفصيل، كما سنذكره في ضمن التقاسيم. وعند ذلك نفصل بين الحر والرقيق إذا انفصل بجناية جانٍ، فيجب على الجاني والجنينُ حر مسلم غرَّةٌ: عبدٌ أو أمة، كما سيأتي في آخر الديات، إن شاء الله تعالى.
ثم يجب الضّمان على الغاصب؛ لأن الجنين انفصل مضموناً، فلم يكن كما إذا انفصل من غير جنايةٍ ميتاً. والعبارة عن غرضنا في ذلك: أن الجنين إن يقوّم له، يقوم عليه؛ فإن الأبدال تحل محل المبدلات، وتخلُفها عند عدمها، فكأن الجنين انفصل حياً إذا استعقب خروجه ضماناً، فإذا ثبت أصل الضمان، فالنظر بعد ذلك في المقدار الذي يضمنه الغاصب للمغصوب منه.
4583 - وقد اختلفت الطرق في ذلك، ونحن نذكر طريقةً مرضية، ونتخذُها

(7/203)


أصلاً، ونزيدُ فيها ما يخالفها من غيرها من الطرق، حتى ينتظم الكلام، مع استغراق مقصود الطرق، فنقول:
ننظر إلى قيمة الغرة، وننظر إلى عشر قيمة الأم؛ فإن الجنين الرقيق يضمن بعشر قيمة الأم، فإن كانا سواء، ضمن الغاصب عشر قيمة الأم.
وإن كانت قيمة الغرة (1 أكثر، ضمن عشر قيمة الأم، والفاضل من قيمة الغرة له 1)؛ فإنه ثبت لحرية الولد المنتسب إليه، ولا حظ للمغصوب منه في الفضل الذي تقتضيه الحرية.
وإن كانت قيمة الغرة أقلّ (2) من عشر قيمة الأم، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنّ الغاصب لا يغرَم إلا مقدارَ قيمة الغرة؛ لأنا لو ألزمناه إكمال العشر، لكان الزائد إلى كمال العشر غير متقوّم للغاصب، وما لا يتقوم له، لا يتقوم عليه، فإذا كان سبب الغرم وجوب الغرم على الجاني؛ فإيجاب ما لم يغرمه الجاني بعيد.
والوجه الثاني - أنه يجب عشر قيمة الأم وإن زاد على قيمة الغرة؛ لأنا أحللنا انفصال الجنين ميتاً مضموناً محل انفصاله حياً، وقضينا بأن بدله حل محله، فليكن ما نحن فيه بمثابة ما لو انفصل حياً في أصل الضّمان. ثم لا يمكن تقدير الحياة في المنفصل ميتاً. هذا بيان الطريقة المرضية. ذكرها القاضي، والعراقيون.
وذكر شيخي أبو محمد هذه الطريقة، غير أنه لم يعتبر عشرَ قيمةِ الأم، بل قدر الحياة في الذي انفصل ميتاً، واعتبر قيمته مقدَّراً رقيقاً، ثم نظر في قيمة الغرة وهذه القيمة، ولم يعتبر عشر قيمة الأم. وهذا غير متجه؛ من جهة أن تقدير الحياة في الذي لم يعهد حياً، لا يلائم مذهب الشافعي. وأبو حنيفة هو الذي اعتبر ذلك في الجنين الرقيق.
وهذا الاختلاف في عشر قيمة الأم، واعتبار حياة الجنين مع تقدير رقّه يلتفت على أصلٍ، قدمناه، وسنعيده بعد ذلك. وهو أن ما يتلف في يد الغاصب من عضوِ (3) بآفةٍ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) (ت 2): أكثر.
(3) (ت 2): غصوب.

(7/204)


سماويةٍ، أو بجناية جانٍ غير الغاصب، فهل يعتبر في حق الغاصب البدلُ المقدر في حق الجاني؟ فعلى وجهين، سبق ذكرهما، وسيعود تحقيقهما في فصلٍ متصلٍ بهذا الفصل.
فإيجاب العشر من قيمة الأمّ إيجاب المقدار الواجب على الحياة، فهذا من هذا الوجه يشعر بخلافٍ. ولكن يعارضه، أن تقدير الحياة في الجنين لا ينتظم على مذهب الشافعي أصلاً. فهذا تمام الغرض.
وفي بعض التصانيف غلطة فاحشة، وهي أنه حكى أن بعض الأصحاب قال: يغرَم الغاصب للسيد أكثرَ الأمرين، من قيمة الولد، وقيمة الغرة. أما القول في قيمة الولد فقد ذكرناه، وأما إيجاب الأكثر، فخطأ لا نشك فيه، فإن معناه أن قيمة الغرة إن كانت زائدة على بدل الجنين المقدر رقيقاً، وجب تسليمها بكمالها إلى السيد، وهذا محال؛ فإن تلك الزيادة ثبتت بسبب الحرية، وما ثبت بسبب الحرية يستحيل أن يستحقه مالك الرق.
هذا منتهى الكلام في قاعدة الفصل.
4584 - ثم المسألة مفروضة فيه إذا كانت الغرة مصروفةً إلى الغاصب؛ من جهة أنه أبُ (1) الجنين، ولم يكن معه وارث. فلو غصب الجارية وأحبلها، ومات، وخلف أباً، هو جد الجنين، فضرب ضارب بعد موت الأب الغاصب الجاريةَ، وأَجْهَضَتْ جنيناً ميتاً، فالغرة مصروفةٌ إلى الجدّ. قال القاضي: يجب عليه في ضمان الجنين للمالك ما كان يجب على الغاصب لو كان حياً. والسبب فيه أن ضمان الجنين للمالك، إنما يجب بسبب وجوب الغرة، فمن يملك الغرة، يلتزم الضمان. فكأن القدر المطلوب مستحق من الغرة للسيد المغصوبِ منه.
ثم قال القاضي: لو كان مع الأب الغاصب جدة وارثة، وهي أم الأم، ونفرضها حرة لترث، فالسدسُ من الغرة لها. قال: ننظر إلى خمسة أسداس الغرة، وإلى عشر قيمة الأم، ونجعل كأن السدس المصروف إلى الجدة غيرُ ثابت، والخمسة الأسداس نازلةً منزلة الغرة كلها. هذا كلامه.
__________
(1) يجوز في (أب) هذا الاستعمال -على ندور- ومشهورٌ ذائعٌ على الألسنة: "ومن يشابه أبه، فما ظلم".

(7/205)


ولا شك أن إخراج السدس عن الاعتبار يقتضي قياسُه إخراجَ الجد (1) عن الضمان؛ من جهة أنه لم يغصب، ولم يصدر منه سبب يقتضي ضماناً. ومسألة الجد في جميع الغرة، والسدس في حق الجد [محتملان] (2). يجوز أن يقال: لا ضمان على الجد، وقد فاز بالغرة إرثاً، ولا يتعلق الضمان بالسدس المصروف إلى الجدّة. ويجوز أن يقال: يتعلق الضمان بالغرة في مسألة الجد وسدس الغرة المصروف إلى الجدة؛ فيتبع الضّمانُ الغرةَ، وإذا رأينا أن لا يضمن الجد، فهل يحبط الضّمان، أو نعلقه بتركة الغاصب؟ هذا فيه احتمال. والظّاهر إتباع الضمان الغرةَ، وطرْد هذا القياس في السدس المصروف إلى الجدة.
وممَّا يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الغرة إذا وجبت على الجاني، والأبُ الغاصب حي، ولا وارث معه، فلو عسر عليه استيفاء الغرة من الجاني، فهل يجب عليه تعجيل حق المغصوب منه، أو يتوقف على أن يستوفي الغرة؟ هذا محتمل، وهو قريب من الاختلاف الذي ذكرناه في أن قيمة الغرة لو كانت أقل من عشر قيمة الأم، فهل يجب على الغاصب التكميل؟ فإن أوجبنا التكميل، لم يبعد أن نوجب التعجيل، وإن لم نوجب التكميل، لم نوجب التعجيل.
والذي يقتضيه الرأي أن الأمر لا يتوقف على استيفاء الغرة، إذا كان استيفاؤها متيسراً، وإنما التردد فيه إذا تحقق عسر استيفائها.
وممَّا يجب أن لا يغفل عنه إيجاب ما تنقصه الولادة ضماً إلى المهر، وموجب الجنين إن أوجبناه. اتفق المحققون على ذلك في الطرق.
ولكن هذا فيه إذا كان الرجل جاهلاً وكانت الأمة جاهلة، وقد يتصور ثبوت اليد المضمنة ضمان الغصوب من غير علم.
4585 - وإن كانا عالمين بالغصب والتحريم، فوطئها، نظر: إن كانت مستكرهة مضبوطة (3)، وجب المهر على الغاصب المستكرِه، وإن كانت مطاوعة مع العلم
__________
(1) (ت 2): إخراج السيد الجد.
(2) في الأصل: محتمل.
(3) مضبوطة: أي مقهورة. (معجم).

(7/206)


بالتحريم، فظاهر النص أنه لا يثبت المهر؛ فإنها مسافحة تلفت منفعة بُضعها على وجه السفاح منها، فكانت ساقطة الحرمة، مندرجة تحت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي.
وذكر طوائف من أصحابنا وجهاًً آخر أن المهر يجب للسيد؛ فإن سبب سقوط مهر الحرة الزانية بذلُها بضعها، وبذلُ الأمة لا يحبط ملكَ السيد، كما لو أباحت قتلَ نفسها، أو أباحت طرفاً من أطرافها.
4586 - ولو كانت جاهلةً وكان الواطىء عالماً بالتحريم، وجب المهر، كما لو كانت مستكرهةً. ثم إذا أولدها الغاصب العالم بالتحريم، فالولد لا ينتسب إليه؛ فإنه ولد زنا، وإن كان كذلك، لم ينعقد حراً؛ إذ لا حرمة لمائه، فالولد إذاً رقيق، فإن انفصل حياً، كان لمالك الأم، وهو داخل في ضمان الغاصب، يضمنه ضمان الأم، خلافاًً لأبي حنيفة (1).
ولو انفصل ميتاً من غير جناية جانٍ، فظاهر المذهب أن الغاصب لا يضمن شيئاًً للمغصوب، كما لو انفصل الولد حراً ميتاً، فإنه لا ضمان، بخلاف ما إذا انفصل حياً.
وذهب بعض أصحابنا إلى إيجاب الضّمان في الولد الرقيق المنفصل ميتاً، وهذا القائل يطلب فرقاً بين انفصال الجنين الحر ميتاً، وبين انفصال الجنين الرقيق ميتاً، وغايته أنا لم نعلم حياة واحد من الجنينين، واختص الجنين الحر بأنّه لم تثبت اليد عليه، واليد تثبت على الجنين الرقيق تبعاًً للأم، وتعلق الضمان به صفةً وتبعاً، فلئن انفصل ميتاً، لم يبعد إيجابُ الضّمان.
والأصح عندنا أن لا ضمان؛ لأنا لم نتحقق سبب الضمان؛ إذ سببه فوات رقيق تحت يدي الغاصب. والذي لم يتحقق انسلاك (2) الروح فيه، لم يتحقق رقه؛ فإن الرقيق هو الحي.
فإن قلنا: لا ضمان، فلا كلام. وإن قلنا: يجب الضمان، فقد صرح شيخي بأنا نعتبر قيمة الجنين لو قدر حياً. وقد ذكرنا غائلة هذا الفصل؛ فإن إيجاب القيمة باعتبار
__________
(1) ر. المبسوط: 11/ 70، حاشية ابن عابدين: 5/ 130.
(2) في (ت 2): انسلال.

(7/207)


حياةٍ لم تعهد بعيد عن التحصيل. وما يقتضيه قياس طريق القاضي إذا أوجبنا الضمان، فنوجب عشر قيمة الأم؛ فإنّ تقدير الحياة عسر، فالغاصب على وجه الضمان نجعله كالجاني الذي يترتب على جنايته الإجهاض.
هذا تفصيل المذهب فيه إذا كانا عالمين بالتحريم، أو كان الغاصب الواطىء عالماً بالتحريم.
فأمّا إذا كان الغاصب جاهلاً بالتحريم، وكانت الأمة عالمةً بالتحريم، فهي زانية محدودة. وقد ذكرنا وجهين في أنه هل يجب مهر الأمة إذا كانت زانية. فأما إذا علقت بمولودٍ، فهو حر، نظراً إلى قيام الشبهة في حق الواطىء. ثم القول في انفصاله حياً وميتاً من غير جنايةٍ أو بجنايةٍ على التفصيل الذي ذكرناه الآن.
4587 - ولو غصب بهيمةً، فحبلت، وانفصل ولدها حياً، فهو داخل في ضمان الغاصب. وإن انفصل ميتاً، ففي المسألة الخلاف الذي حكيناه؛ فإن لم نوجب الضمان، ولم تنتقص الأم، فلا كلام. وإن أوجبنا الضمان، فلا طريق إلا إيجابُ ما انتقص من قيمتها إذا كانت حاملاً. ويخرج من ذلك أن الخلاف لا يظهر أثره في البهيمة، فإنا إذا كنا نعتبر ما ينقص من قيمتها، [نظرنا] (1): فإن كان ينقص من قيمتها وهي حامل شيء، فيجب القطع بإيجاب ما نقص. وإن كان لا يَنقُص وهي حامل شيء، فلا وجه لإيجاب شيء. و [إنما] (2) انتظم الخلاف في الأمة؛ من قِبل أنا على الطريقة المرضية اعتبرنا مقابلة الجنين بعشر قيمة الأم، ولم نلتفت إلى نقصان الجارية، ولا يتحقق مثل ذلك في جنين [البهيمة. فإن رأينا في جنين] (3) الأمة أن نقدره حياً، ونوجب قيمته بتقدير الحياة، فيتجه مثل هذا في جنين البهيمة، فنقدره حياً عقيب الانفصال. ونوجب قيمته اعتباراً بتلك اللحظة، وهذا بعيد كما ذكرناه.
ثم اعتمد أئمتنا في [اعتبار] (4) ضمان الغصب بولد المغصوبة إذا انفصل حياً حراً،
__________
(1) في الأصل: نُظر.
(2) في الأصل: وإن.
(3) ساقط من الأصل.
(4) في النسختين: اتصال. والمثبت من هامش الأصل.

(7/208)


فقالوا: اليد [تُضَمِّن] (1) كالإتلاف، ثم التلف يقع على وجهين: أحدهما - المباشرة، والثاني - التسبب، فلتنقسم اليد هذا الانقسام، حتى يقال: التسبب إلى اليد بما يعدّ في العرف سبباً إذا أفضى إلى حصول الشيء تحت اليد، ينزل منزلة مباشرة اليد. ثم قالوا: من اقتنى قطيعاً عُد متسبباً إلى إثباتِ اليد على الأولاد، فاُلزِم الأصحاب ما إذا غصب بقرة، فتبعها الفحل، أو غصب هادي القطيع، فتبعه القطيع، فذكر الأئمة وجهين في أن هذا هل يكون تسبباً إلى إثبات اليد على الفحل والقطيع؛ حتى نقضي بأن حركتها في صوب الهادي كحركتها في الصوبِ الذي يريده من استاقها؟ وفي المسألة احتمال. [والوجه] (2) المنع إذا سلكنا هذه الطريقة. وقد ذكرنا في الأساليب (3) طريقةً معتمدة سوى التسبب إلى اليد. وتيك أمثلُ عندنا.
4588 - هذا بيان أحكامٍ أردنا تقديمها في حق الغاصب، ونحن الآن نبني عليها مقصودَ الفصل، وهو الشراء من الغاصب، وما يتعلق به فنقول:
من غصب عبداً وباعه من إنسان، وأقبضه إياه، فلا يخلو المشتري من الغاصب إما أن يكون عالماً بحقيقة الحال، أو جاهلاً.
فإن كان عالماً، فحكمه إذا قبض من الغاصب عن هذه الجهة كحكم الغاصب من الغاصب، غيرَ أنه دفع الثمن إلى الغاصب، فيرجع فيه ويستردّه.
ثم من غصب من الغاصب، ضمن ما غصبه من يوم الاستيلاء إلى الفوات، إن قُدّر الفوات، فيضمنه بأقصى قيمته من يوم غصبه إلى أن تلف في يده، ولا يضمن ما تقدم على غصبه ممّا جرى في يد الغاصب الأول.
وبيان ذلك أن الأول لما غصب العبد، كان قوياً سليماً مساوياً ألفاً، لسلامته عن العيوب، ثم عاب في يد الأول، وعادت قيمته إلى خمسمائةٍ. وغصبه الثاني، فلا يطالب الثاني بالزيادة التي كانت في يد الغاصب الأول فعابت. ولو فرضت زيادة في يد الغاصب الثاني. فلا شك أنه مطالب بها.
__________
(1) في الأصل: (مضمن).
(2) في الأصل: والأوجه.
(3) الأساليب: اسم كتاب لإمام الحرمين.

(7/209)


ثم الغاصب الأول يطالب [بما يطالب] (1) به الغَاصب الثاني؛ فإنَّ غصبه طريقٌ إلى غصب الثاني. والغاصب الثاني لا يطالب بزيادةٍ كانت في يد الأول؛ فإن ضمان الغصب يستحيل أن يسبق الغصب منعطفاً على سابقٍ. ولو تلفت العين في يد الثاني، فقرار الضّمان في التالف عليه، وللمغصوب منه أن يضمن من شاء منهما: فإن ضمّن الثاني، استقر الضمان عليه، وإن ضمّن الأولَ ما دخل في ضمان الثاني، رجع به الأول على الثاني. وإن ضمن الأول ما اختص الأول بضمانه، ولم يدخل في ضمان الثاني، فلا شك أنه لا يجد مرجعاً به على الثاني.
هذا كله إذا كان المشتري من الغاصب عالماً بحقيقة الحال.
4589 - فإن كان جاهلاً، وقد اشترى جاريةً مغصوبة، فإن وطىء، فلا حدّ، ووجب المهر، وإن علقت بولد، فهو حر. والتفصيل في وجوب الضّمان إذا انفصل حياً، ونفيِه إذا انفصل ميتاً من غير جنايةٍ، والعوْد إلى إثبات الضمان إذا انفصل ميتاً بجناية جانٍ، وما فيه من التفصيل، كما مضى حرفاً حرفاً، في الغاصب نفسه إذا جهل التحريم. ويعود تفصيل القول في الجارية ومطاوعتها، وجهلها، وجريان الاستكراه منها (2).
ومما نذكره الآن أن المشتري إذا وطىء على الجهالة مراراً، لم يلزمه إلا مهرّ واحد، وكذلك من نكح امرأةً نكاحاً فاسداً، فوطئها مراراً، لم نُلزمه إلا مهراً واحداً، وكذلك إذا صادف على فراشه امرأةً وظنها زوجتَه، فوطئها. والسبب فيه أن المقتضي للمهر الشبهةُ وهي متحدة، ولو انكشفت الشبهة بعد جريان الوطء فيها، ثم عاد وجرى وطء آخر في الشبهة الثانية، فحينئذٍ يتعدد المهر، لتعدد الشبهة. ولو كان يطأ الغاصب المغصوبة على علم، وكانت مستكرهة، أو مطاوعةً، ورأينا أن نوجب المهر، فلو تعدد الوطء من غير شبهةٍ، فقد كان شيخي يتردد في تعدد المهر، ولا معنى للتردد عندنا، بل الوجه القطع بأن في كل وطأةٍ مهراً؛ فإن موجِب المهر
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) (ت 2): فيها.

(7/210)


إتلافُ منفعة البضع، لا شبهةٌ تطّرد. وهذا المعنى متعدد.
ثم ينشأ مما ذكرناه لطيفةٌ في المذهب يقضي الفقيه العجبَ منها، وهي أن الغاصب، أو المشتري من الغاصب إذا وطىء على شبهةٍ، و [ظنٍّ] (1) في التحليل، فيظهر تعدد المهر، إذا قلنا: المهر يتعدد مع العلم بالتحريم؛ فإن موجِب المهر الإتلافُ، ولا حاجة إلى إحالته على الشبهة، والإتلافُ متعدد. وإنما يظهر اعتماد اتحاد الشبهة، حيث لا يجب المهر لولا الشبهة. وهذا واضحٌ لا خفاء به.
4590 - ثم إذا تلف العين المغصوبة في يد المشتري، استقر عليه الضّمان في قيمتها. والكلام يقع وراء ذلك فيما يرجع به المشتري -إذا ضمنه- على الغاصب البائع، وفيما لا يرجع به. وهذا مقصود فصل الشراء. فنقول:
أما العين إذا تلفت (2) في يد المشتري، وغرم قيمتها، فإنه لا يرجع بما غرِم على البائع، والسبب فيه [أنه] (3) قبض المبيع على اعتقاد أنه قابضه على حكم الضمان؛ فإن البيع عقد ضمانٍ.
وأمّا ما يلتزم من قيمة الولد الذي حصل العلوق به على الحرية، فإنه يرجع به على الغاصب باتفاق الأصحاب.
وإذا غرم المهر لما وطىء، فهل يرجع بالمهر الذي غرِمه على الغاصب، فعلى قولين، ونحن نرسل موضع الوفاق والخلاف، ثم ننعطف، فنحقق كل شيء على حسب ما يليق به.
وإذا غرم المشتري أجرة المنافع، نُظر: فإن غرمها لأجل اليد، وما كان استوفى المنفعة؛ فإنه يرجع بما يغرمه من الأجرة، وإن استوفى المنفعة وغرِم أجرتَها، ففي رجوعه على الغاصب القولان اللذان ذكرناهما في المهرِ.
فهذان بيان قواعد المذهب فيما يرجع به، وفيما لا يرجع به، وفاقاً وخلافاًً، من طريق النقل.
__________
(1) في الأصل: وطء.
(2) في النسختين: (تلف) والذي نعرفه وجوب تأنيث الفعل إذا كان الفاعل ضميراً.
(3) في الأصل: أن.

(7/211)


4591 - وبيان هذه المنازل من طريق التحقيق أن كل ما يقابل العوضَ المبذولَ في الشراء، فالضمان فيه يستقر على المشتري إذا تحقق الفوات، وما لا يقابله عوض الشراء ينقسم إلى ما يستوفيه المشتري، وإلى ما يفوت في يده من غير استيفائه، فأما ما يفوت من غير استيفاء، وليس مقابلاً بالعوض، فإذا غرِمه، رجع به. والسَّبب فيه أنه لم يتلف مضموناً بالعقد لو قُدِّر العقدُ صحيحاً؛ إذ المنافع ليست معقوداً عليها في شراء العين، وكل ما لا يقابله عوض العقد لا يدخل في ضمان العقد.
والذي يحقق ذلك أن من اشترى شيئاً شراء صحيحاً، وانتفع به زمناً، ثم اطلع على عيبٍ ورده؛ فإنه لا يرد لمكان فوات المنافع شيئاً. وكل قبض لا يترتب على جهة ضمانٍ، فلا يكون سبباً لقرار الضّمان؛ فإن الغاصب إذا أودع شيئاًً عند إنسانٍ، فقبله المودَع ظاناً أنه مالك الوديعة، وتلف في يده؛ فإنه إذا ضمن، لم يستقر الضمان عليه. بخلاف ما لو استعار من الغاصب على جهلٍ، أو أخذ منه عيناً على سبيل السوم كذلك؛ فإنه إذا تلف (1) في يده، والجهة جهة ضمانٍ في وضعها، فالضمان يستقر.
وكل ما لا يقابل عوضاًً في الشراء، ولكن أتلفه المشتري، واستوفاه، فتخرّج المسألة على قولين. والسَّبب فيه أن الإتلاف مستَقَر الضمان في وضع الشرع، ولكن البائع غرَّ المشتري، لما سلطه على الانتفاع، وإذا اجتمع الغرور، وإتلاف المغرور، فينتظم قولان: أحدهما - أن القرار على المتلِف، وهو القياس. والثاني - أن القرار على الغارّ. وسيأتي أصل ذلك فيه، إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى إنسان، وسلطه على أكله، فأكله ظاناً أنه ملك المقدِّم، فإذا غرِم قيمته للمالك، ففي رجوعه بما غرم على الغار قولان، سيأتي ذكرهما.
فإن قيل: هلا طردتم هذا الخلاف في قيمة الولد المنفصل حياً حراً؟ قلنا: [إنّ] (2) المغرور ليس ينتسب إلى حقيقة إتلافٍ في الولد، فيقوى وقعُ الغرور فيه؛ فإن سبب الحرية اغترار الواطىء الوالد، ولكن موقع هذا الاغترار الغار.
__________
(1) تلف: أي المأخوذ، أو الشيء. وإلا فالفعل واجب التأنيث إذا عاد الضمير على قوله (عيناً).
(2) في الأصل: لأن.

(7/212)


فهذا بيان القواعد.
4592 - ثم ذكر صاحب التقريب أمراً بدعاً، لم أر ذكره على نسق المذهب، ولم أر الإخلال بما جاء به. قال: إذا اشترى عبداً بألفٍ، وقيمته ألف، وتلف في يده، فلا شك في إقرار الضمان عليه. ولو اشترى عبداً قيمته ألفان بألفٍ، وتلف في يده، وغرم ألفين، فلا يرجع بأحد الألفين، ويرجع بالثاني.
وهذا مما انفرد به من بين الأصحاب كافّة؛ فإن الأصحاب اعتبروا مقابلة العين بالثمن. فإذا تقرر ذلك، فلا نظر إلى قيمة العين بالغةً ما بلغت؛ فإن عُلقة الضّمان متعلقة بالعين.
وما ذكره صاحب التقريب على بعده يمكن أن يوجَّه بأن أحد الألفين في حكم المحاباة الخارجة عن حقيقة المعاوضة. ولهذا يعد تبرعاً في حق المريض، محسوباً من الثلث.
وإذا وهب الغاصب العينَ المغصوبة وسلمها، فتلفت في يد المتهب، ففي قرار الضمان على المتهب قولان، سنذكرهما بعد هذا، على نظم مسائل تقديم الطعام إلى المغرور.
وقال (1): لو اشترى عبداً قيمته ألف بألفٍ، ثم زادت قيمته في يده، فصار يساوي ألفين وتلف في يده، وغرم أقصى القيم، فلا يستقر الضّمان إلا في مقدار الثَّمن من القيمة، ويرجع بالباقي. وهذا أبعد من الأول؛ فإن العقد عري عن انعقاده عن معنى المحاباة، وما جرى من زيادة لا تلحق العقد بالمحاباة التي ذكرناها. ولو اشترى رجل بهيمة، أو جارية من الغاصب، فولدت في يده ولداً جديداً، لم يكن موجوداً حالة العقد حملاً، ثم تلف في يد المشتري، فلا شك أنه يضمن قيمتَه، وإذا ضمنها، رجع بها؛ فإنّ هذا الولد لم يرد عليه العقد، ولم تشتمل عليه عهدتُه، ولهذا قلنا: ينفرد المشتري عن المالك على الصحّة به، ويردّ الأصل بالعيب.
4593 - ومن تمام ما نحن فيه وهو من الطوام الكبار تفصيل القول فيه إذا عابَ
__________
(1) أي صاحب التقريب.

(7/213)


المغصوب في يد المشتري بآفة، وغرِم أرش النقص للمغصوب منه، نظر: فإن عاب بفعل المشتري فإذا غرم أرشه، استقر الضّمان عليه، ولم يرجع به على الغاصب.
وقياس ذلك بيّن؛ فإنّ العين إذا كانت مضمونة عليه، فالأجزاء بمثابتها، فإذا كان يستقر الضمان في قيمة العين لو تلفت، فيستقر في النقصان اعتباراً للأجزاء بالجملة، وهذا ظاهرٌ في العيب الذي يحدثه المشتري.
فأما إذا حدث العيب بآفة سماوية، فقد قال الشافعي: إذا غرِم المشتري نقْصه، رجع به على البائع.
قال المزني: هذا خلاف أصله، لأنه قد قال: لو تلفت الجملة، فغرِم قيمتها، لم يرجع بها على الغاصب، والأجزاء حكمها حكم الجملة. وقد وافق المزني طوائفُ من الأصحاب. وإذا تصرف المزني على قياسِ مذهب الشافعي مخرِّجاً، كان تخريجه أولى بالقبول من تخريج غيره. فاتسق إذاً قولان: أحدهما - منصوص. والثاني - مخرّج، ووجه المخرّج لائح، كما ذكره المزني.
قال ابن سُريج: إن قلنا: يستقر الضّمان ولا يرجع، فالوجه ما ذكره المزني. وإن قلنا: يرجع ولا يستقر الضمان، وهو ظاهر النص، فوجهه أن العاقد يدخل في العقد على أنه يضمن الجملة دون الأجزاء؛ يدل عليه أنَّ المبيع إذا عاب في يد البائع، فليس للمشتري أن يغرّمه أرشَ العيب، بل له الخيار بين الفسخ وبين الرضا بالعيب، من غير استرداد شيء.
وكذلك لو باع رجل عبداً بثوب وأقبض العبدَ، وقبض الثوب، ثم اطلع على عيبٍ قديم بالثوب، والعبد قد عاب في يد من قبضه، فليس لصاحبِ الثوب أن يرد الثوب بالعيب ويسترد العبد، ويطلب أرش العيب الحادث، بل له الخيار بين أن يفسخ العقد بالعيب ويرضى به معيباً. وبين أن يرد الثوب ويرجع بقيمة العبد - هكذا نقله من يوثق به عن القاضي.
وليس الأمر كذلك عندنا، بل الوجه أن يرد الثوب، ويستردَّ العبد مع أرش النقص؛ فإن العبد في هذا المقام ليس مضموناً بالثمن، إنما هو مضمون بالقيمة.
ومعنى هذا الكلام أن العبد لو كان تالفاً، فصاحبُ الثوب يرد قيمة العبد. وإذ كان

(7/214)


يستردّ جملة العبد سليمةً، وقيمتَها تالفة، فيسترد العبدَ معيباً، مع أرش العيب. وليس كالمبيع في يد البائع؛ فإنه مضمون بالثمن. (1 ولو تلف العبد، سقط الثمن بتلفه، ولا يقابل العيب منه بجزء من الثمن 1) بسبب أن رده واسترداد جملة الثمن ممكن.
والذي قاله القاضي ليس بعيداً عن الصواب، أيضاً؛ فإن الرجل إذا أصدق امرأته عبداً، فعاب في يدها، ثم طلقها زوجهاً قبل المسيس، واقتضى الطلاق تنصيفَ العبد، ورجوعَ نصفه إلى المطلِّق، فالزوج بالخيار بين أن يرجع في نصف قيمة العبد سليماً، وبين أن يرضى بنصف العبد معيباً، ولا يكلّفُها ضمَّ أرش النقص إلى نصف العين، فيجوز أن يقال: من يرد الثوب يجري على هذا المنهاج، في استرداد المعيب. وبين المبيع المسترد وبين الصداق فرقٌ، سنذكره في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
فإذاً أفاد ابن سريج مذهباً في مسألة الثوب والعبد، وبنى عليه تعليلَ نص الشافعي في المشتري من الغاصب، فإذا صح ما ذكره ابن سريج في مسألة الثوب والعبد، ابتنى عليه ما أراده من توجيه النصين. ثم قال ابن سريج مدلاً بما أورده: إن هذا معنى يلطف مدركه.
4594 - ومما يتم به تفريع القول في التراجع: أن كل ما لو غرِمه المشتري، لرجع به على الغاصب، فإذا غرمه الغاصب، استقر الضمان عليه، وكل ما لو غرمه المشتري لم يرجع به على الغاصب، فلو وجه المالك الغرم فيه على الغاصب، كان له ذلك.
ثم إنه يرجع به على المشتري؛ فإنه لا يتصور قرار الضمان على شخصين على البدل.
4595 - وممّا يختلج في الصدر أن الغاصب إن طولب بقيمة ما باع أو منفعته،
فقياسه بيّن. فأمّا مُطالبته بالمهر وليس منافع البضع مضمونةً بالغصب، وليس هو متلفاً لمنافع البضع، فإن الواطىء هو المشتري، فهل يطالَب الغاصب بالمهر؟ وكيف السبيل فيه؟ نقدّم عليه أن الجارية المغصوبة لو وطئها واطىء بالشبهة في يد الغاصب، ففي مطالبة الغاصب احتمالٌ، يجوز أن يقال: لا نطالبه لما نبهنا عليه. ويجوز أن
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(7/215)


يقال: إنه يطالَب، لأن الأمر أفضى إلى الغرم، فيبعد فرض غرم في مغصوب لا تتعلق المطالبة فيه بالغاصب.
4596 - فإذا تبين هذا، عدنا إلى غرضنا.
فإن قلنا: المشتري لا يرجع بالمهر على الغاصبِ، فمطالبة الغاصب بالمهر محتمل، وظاهر القياس أنْ لا يُطالب. فإن قلنا: المشتري يرجع على الغاصب بالمهر، إذا غرِمه، فتظهر مطالبة الغاصب حينئذ؛ من جهة أن مقر الضّمان عليه، وليس يبعد أن يقال: لا يطالبه المغصوب منه؛ فإن حكم الغصب لا يقتضي المطالبة بالمهر.
وهذا التردد في المهر ذكره صاحب التقريب على وجهه. وإنما الرجوع بسبب الغرور، وعُلقة الغرور مختصة بالمغرور، فليطالب المشتري الواطىء أولاً، ثم إنه يرجع بسبب الغرور على من غره.
4597 - ومن تمام القول في ذلك أنَّ الغاصب لو أكرى العبدَ المغصوب من إنسان، [فاكتراه ذلك الإنسان] (1) على جهلٍ، فلو تلفت العينُ في يد المكتري، وغرَّمه المغصوب منه، رجع بالقيمة على الغاصب المكري، على طريقة المراوزة؛ من جهة أن العقد لم يتضمن ضماناً في العين المكراة؛ إذ معقود الإجارة [و] (2) مقصودُها المقابلُ بالعوض المنافعُ. وسنذكر للعراقيين في مسألة الإجارة كلاماً بعد هذا، إن شاء الله.
وإذا غرِم أجر مثل المنفعة، لم يرجع بما غرمه على الغَاصِب، سواء استوفاها، أو تلفت تحت يده؛ لأنه دخل في العقد على التزام العوض في مقابلة المنفعة.
فإن زوج الغاصب الجارية المغصوبة، وسلمها إلى الزوج، فلو تلفت تحت يد الزوج، فالقول في قيمتها، كالقول في قيمة العين المكراة.
وإن غرم أجر مثل المنافع، نُظر: فإن لم يستوفها، رجع بما غرم في مقابلتها على الغاصب؛ فإن عقد النكاح لا يرد على منافع البدن، فليست مقابلةً بالعوض. وإن
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) زيادة من (ت 2).

(7/216)


استوفاها، واستخدم الجارية، فما يغرمه في مقابلة ما استوفاه لا يرجع به على الغاصب قولاً واحداً. وليس كما لو اشترى الجارية المغصوبة، وانتفع بها؛ فإنَّ في الرجوع قولين مأخوذين من قاعدة الغرر. والفرق أن المشتري يتسلط على الانتفاع بالمبيع بتسليط البائع إياه؛ فإن عقد البائع إذا صح، اقتضى ذلك، وعقد النكاح إذا صح، لم يقتض تسليط الزوج على استخدام الزوجة.
وإذا غرِم المتزوجُ من الغاصب (1) المهرَ، لم يرجع به على الغاصب؛ لأنه دخل في العقد، على أن يقابل الوطء بالعوض، والمغرور بحرية زوجته وهي رقيقة إذا غرِم المهرَ، ففي رجوعه على الغار في النكاح الصحيح قولان. والفرق أنه مَلَكَ منافعَ البُضع، وَبذَل المهرَ على أن يتأبد له البضع، فإذا (2) بأن ما يوجب الفسخ، فلا يلزمه الرضا بالعيب، فمقتضى الفسخ استرجاع البدل، فثبت الرجوع على الغارّ على أحد القولين لذلك. والعقد في مسألة الغصب فاسد، لا يقتضي استحقاق البضع، حتى لو غرّ من لا يحل له نكاح الأمة بحرية زوجته، فوطئها، ثم بانت أمة، وبان فساد النكاح، فإنه يلتزم مهر المثل، ولا يرجع به المغرور على الغار لما ذكرناه.
وفي فساد النكاح في مسألة المغرور بحرية زوجته مزيد نظر، نذكره في كتاب النكاح إن شاء الله. وما ذكرناه في الغصب مستقيم لا مراء فيه.
وقد نجز تفصيل القول في الشراء من الغاصب.
فرع:
4598 - قال العراقيون: إذا اشترى من الغاصب -على ظن أنه مالكٌ- جاريةً، وأولدها، وغرِم قيمة الولد للمغصوب منه، وغرم نقصَ الولادة؛ فإنه يرجع بقيمة الولد على الغاصب قولاً واحداً، ويرجع عليه أيضاً بنقص الولادة، وعللوا بأنّه مقتضى الولادةِ وأثرِها، فإذا رجع بقيمة الولد، رجع بأثر انفصاله.
وقطع المرَاوزة بخلاف هذا؛ فإن نقصان الولادة من نقصان العين، والعينُ مضمونة، فليلحق نقصان الولادة بكل نقص يقتضيه آفة سماوية.
__________
(1) أي الذي زوجه الغاصب.
(2) في الأصل: وإذا.

(7/217)


وقد ذكرنا نص الشافعي في العيوب وتخريج المزني وكلام ابن سريج. والغرض من رسم هذا الفرع أن نبين أنه لا فرق بين نقصٍ اقتضته الولادة وبين غيره من النقائص.
فصل
يجمع أحكام الجناية في العبد المغصوب بأصولها وفروعها
4599 - فنذكر التفصيل في جناية العبد المغصوب، ثم نذكر الجناية عليه.
فإن جنى العبد المغصوب، نُظر: فإن كانت جنايته قتلاً موجباً للقصاص، فإذا قُتل قصاصاً، غرِم الغاصب للمالك أقصى القيم من الغصب إلى يوم الاقتصاص.
وإن كانت الجناية على طرفٍ، وكانت موجبة للقصاص، فإذا قطعت يده قصاصاً، وكان قطع يداً، فنجعل ذلك بمثابة ما لو سقطت يده بآفةٍ سماوية. ولو كان كذلك، نظر: فإن كان ما نقص من قيمته نصفُ قيمته، فهو الواجب على الغاصب.
وإن كان أكثرَ من النصف، وجب ما نقص، وإن زاد على أرش اليد. وإن كان
النقصان دون نصف القيمة، فقد ذكرنا اختلاف الأصحاب فيه، والأظهر أنه لا يجب إلا ما نقص؛ فإن أرش الطرف إنما يتقدر على الجاني، والغاصب ليس جانياً.
ومن أصحابنا من ألزمه المقدَّر، وإن زاد على ما نقص من القيمة، وأحله محل الجاني.
ولو كانت جناية العبد موجبة للمال، فالأرش متعلق برقبته، ثم يجب على الغاصب تخليصه بالفداء. ثم ذكر الأئمة فيما يفديه الغاصب به القولين المشهورين: أحدهما - أنه يفديه بأقل الأمرين: من الأرش والقيمة. والثاني - أنه يفديه بالأرش بالغاً ما بلغ. والقولان يجريان في الغاصب جريانهما في المالك إذا أراد أن يفدي عبده الجاني.
فإن قيل: قول الأرش إنما يتجه في حق المالك؛ من جهة امتناعه عن بيع العبد، مع التمكن منه، وكنا نجوز أن يعرض على البيع، فيشترى بمبلغ الأرش، فكان المنع من البيع سبباً في التزام الأرش، والغاصب لا يتمكن من البيع، فكيف يقدر مانعاً؟ قلنا: هو بغصبه مانعٌ مولاه من بيعه، فصار ذلك سبباً في تضمينه، ونُزِّل لأجله منزلة

(7/218)


المالك، ثم إذا ثبت وجوب الفداء عليه، ابتنى عليه توجه الطَّلِبة على الغاصب، من جهة المجني عليه، وسيزداد هذا وضوحاً في تفاصيل المسائل.
هذا بيان قاعدة الحكم في جناية العبد المغصوب.
4600 - فأمّا الجناية عليه، فلا يخلو الجاني إما أن يكون هو الغاصب أو أجنبي، فإن كان هو الغاصب، نُظر: فإن قَتلَ العبدَ المغصوبَ فعليه القيمة، كما تقدم تفصيل قيمة المغصوب.
وإن جنى على طرفه، فقطع يده، والتفريع على أن أرش أطراف العبد تنتسب إلى قيمته، نسبة أروش أطراف الحر إلى ديته، فقد اجتمع موجِبان للضّمان: أحدهما: اليد. والثاني - الجناية؛ فينتظم من اجتماعهما أن نوجب أكثر الأمرين: من النقصان، والأرش المقدر. فإن كانت قيمة العبد ألفاً، وقد قطع الغاصب يده، نُظر، فإن نقص من قيمته أربعمائة، فيلتزم الغاصب خمسمائة، لكونه جانياً. وإن نقص خمسمائة، فقد وافق النقصانُ المقدَّر، فيلزمه خمسمائة. وإن نقص ستمائة، ألزمناه ستمائة، لمكان اليد. وهو ضامنٌ بسببين، فننظر إلى أكثر الموجَبين.
وإن كان الجاني أجنبياًَ، وكانت الجناية نفساً، فعليه القيمة، والمالك بالخيار إن شاء ضمّن الغاصب، وإن شاء ضمّن القاتل، فإن ضمّن القاتل، لم يرجع على الغاصب، واستقر الضمان عليه. وإن ضمن الغاصب، رجع بما ضمنه على الجاني؛ فإن منتهى الغرامات الإتلافُ، واليد سببٌ، فإحالة قرار الضمان على ما يحقق التفويت، وهو الإتلاف.
وإن جنى الأجنبي على طرف العبد، فقطع يده، نظر: فإن كان ما نقص مثلَ المقدَّر، فإن كانت قيمته ألفاً، فنقص بقطع إحدى اليدين خمسمائةٍ، وجبت خمسمائة، والمالك في التضمين بالخيار، كما قدمنا، وقرار الضمان على الجاني.
وإن كان ما نقص أقل، بأن كان أربعمائة، فإن اختار تضمين الجاني غرَّمه خمسمائةٍ، ولا مرجع [له] (1) على الغاصب. وإن أراد تضمين الغاصب، فقد قدمنا
__________
(1) زيادة من (ت 2).

(7/219)


أن يد العبد المغصوب، إذا سقطت بآفةٍ، أو قُطعت قصاصاً، أو في سرقة، وكان النقصان أقلَّ من المقدّر، ففي المسألة وجهان: أشهرهما - أنه لا يجب على الغاصب إلا النقصان. وفيه وجه آخر.
وقال المحققون في المسألة التي نحن فيها، وهي إذا جنى أجنبي على العبد،
فقطع يده، وغرّمناه نصفَ القيمة، خمسمائة: لو (1) أراد المالك تغريمَ الغاصب، غرّمه خمسمائةٍ؛ فإن اليد قُطعت بجهةٍ تُضمن فيها بخمسمائةٍ، وجرى هذا في يد الغاصب، فتوجَّه عليه خمسمائةٍ اعتباراً بما يلتزمه الجاني، وليس كذلك لو قطعت في حدِّ؛ فإنها لم تقابل بمالٍ، وكذلك إذا سقطت بآفةٍ سماوية، وهذا حسن فقيه.
ومن أصحابنا من خرّج وجهاًً مثلَ ما ذكرناه في قطع اليد في السرقة، وقال: ليس الغاصب جانياً حتى يتقدّر عليه الأرش. وإنما [ضمانه] (2) باليد الغاصبة. والأصل في ضمان اليد اعتبارُ النقصان: نَقَص من (3) المقدّر، أو زاد عليه. ولا خلاف أنه لو نقص من القيمة ستمائة، فالغاصب مطالبٌ بها، لمكان يده. ثم إن طالب المغصوبُ منه الغاصبَ، طالبه بستمائة، وهو يرجع على الجاني بخمسمائة، ويستقر الضّمان عليه في المائة الزائدة، فلا نجد بها مرجعاً. وإن طالب الجاني، لم يطالبه إلا بخمسمائةٍ، ويطالب الغاصب بالمائة الزائدة.
4651 - ولو غصب عبداً، وسرق في يده، وقُطِع، غرِم الغاصب للمالك ما نقص في ظاهر المذهب.
وكذا لو سقطت يده بآفةٍ سماوية. وهذا تقدم ذكره. وقيل: يضمن الغاصب أكثر الأمرين من المقدّر وما نقص، تغليظاً للأمر عليه.
ولو غصب عبداً سارقاً، استوجب القطع بالسرقة قبل الغصب، فقُطع في يد الغاصب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يضمن شيئاًً؛ لأن القطع وقع بسببٍ
__________
(1) في النسختين: فلو. وقدرنا أنه لا مكان للفاء، فهذا أول مقول القول.
(2) في الأصل: ضمنه.
(3) كذا في النسختين: "من". وهي صحيحة؛ فمن معانيها أن تأتي مرادفة لـ (عن).

(7/220)


متقدم على الغصب، والثاني - يضمن؛ لأن القطع جرى في يده، فلا نظر إلى ما تقدم.
وهكذا لو غصب مرتداً، فقتل بالردة، وقد سبقت الغصب، ففي وجوب الضّمان وجهان. وهذا ينبني على نظائرِ ذلك في الشراء.
ولو اشترى [عبداً] (1) مرتداً أو سارقاً، فقتل في يده، أو قُطع، فما جرى محسوب على البائع، لتقدم سببه على قبض المشتري، أو هو محسوب على المشتري لوقوع الهلاك أو النقصان في يده؟ فيه الخلاف المشهور.
وهذا الذي ذكرناه قاعدة الجناية على العبد المغصوب.
4602 - وقد ذكر ابنُ الحدّاد فروعاً، وراء تمهيد الأصول، ونحن نأتي بها فرعاً فرعاً، إن شاء الله تعالى.
فمنها: أن قال: إذا غصب الرجل عبداً، فجنى العبدُ في يد الغاصب جنايةً تستغرق قيمتَه، فيتعلق الأرش برقبته، كما قدمناه. فلو مات العبد في يد الغاصب بعد ذلك، فالمالك يطالبه بقيمة العبد، وهو ألف مثلاً، لا يطالبه بأكثرَ منه. ثم إذا أخذ الألفَ، فللمجني عليه أن يتعلق به، ويقول: كان حقي متعلقاً برقبة العبد، وقد مات مضموناً، فيتعلق بقيمته، كما كان متعلقاً برقبته. وهو بمثابة ما لو أتلف متلفٌ العينَ المرهونة، والتزم القيمة، فحق المرتهن يتعلق بها، كما كان متعلقاً بالعين المرهونة.
ثم إذا أخذ المجني عليه من المالك الألفَ، فالمالك يرجع على الغاصب، ويقول: لم تَسْلَم لي القيمة، وأُخذت مني بسبب جناية حدثت في يدك، فيغرَم له الغاصب القيمة مرة أخرى، وتخلص له القيمة هذه المرة.
ولو قال المالكُ للغاصب أولاً: اغرم لي قيمتين؛ فإن إحداهما مستحقة، فليس له ذلك أصلاً، ولكن يطالبه أولاً بقيمته، كما رتبناها، فإن أُخذت منه عن جهة الجناية، رجع على الغاصب بقيمةٍ أخرى. فلو أبرأه الجاني وأسقط حقه بالكلية، فلا مرجع له على الغاصب؛ إذ قد سلمت له القيمة التي أخذها.
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(7/221)


ولو كانت قيمة العبد ألفَ درهم، والجناية خمسمائةٍ، والمسألة بعد ذلك كما صورناها، فيغرم الغاصب ألفاً، ثم إذا أُخذت منه خمسمائة، رجع بخمسمائةٍ، وهو القَدْر الذي لم يسلم للمالك، وهذا بيّن.
ثم ظاهر كلام المشايخ أن المجني عليه لو لم يطالب المالكَ، وفي يده القيمة، وأراد مطالبة الغاصب بأرشِ الجناية، فله ذلك. وهو بالخيار إن شاء طالب الغاصب، ولم يتعرض للمالك، وإن شاء اتّبع القيمة التي أخذها المالكُ من الغاصب، ثم المالك يرجع على الغاصب، كما سبق التفصيل فيه.
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن المجني عليه لا يطالِب المالكَ، وإن قبض
القيمة، فليطالب بحقه الغاصبَ، ولا يتبع القيمة التي أخذها المالك، حتى قال هذا القائل فيما حَكى: لو قبض المالك القيمةَ، وعسر على المجني عليه الرجوعُ على الغاصب لإعساره، أو بسبب آخر، لم يكن له أن يتعلق بالمالك، وإن أخذ القيمة.
وهذا بعيدٌ مزيف؛ فإن القيمة في كونها متعلقاً للأرش، تنزل منزلة العبد، كما لو بقي، كما ذكرناه في قيمة المرهون.
ولا نعرف خلافاًً أن العبد الذي يساوي ألفاً، لو جنى في يد الغاصب جناية أرشُها
ألف درهم، ثم لم يمت العبد واسترده مالكه، فالمجني عليه يتبع العبد إن أراد، ثم إذا رجع إلى حقه، فحينئذٍ يرجع المالك على الغاصب، على الترتيب الذي ذكرناه.
4603 - ومما فرّعه (1) أنه إذا جنى عبدٌ في يد سيده جناية أرشُها ألف، وقيمة العبد ألف، فغصبه غاصب، ثم استرده المالك، فلا شيء على الغاصب بسبب الجناية، فإنها لم تجر في يده، وقد رد العبد كما أخذه.
فإذا جنى العبد في يد السيد، كما صورناه، فلما غصبه الغاصب جنى في يده [أيضاً] (2) جناية أرشُها ألف، ثم استرده المالك من الغاصب، وباعه في الجناية بألفٍ، فإنه يقسم هذا الألفَ بين المجني عليه الأول وبين الثاني نصفين: لكل واحد
__________
(1) أي ابن الحداد.
(2) مزيدة من (ت 2).

(7/222)


منهما خمسمائةٍ، ثم يقول للغاصب: قد سلمتُ إلى المجني عليه في يدك خمسمائة، فاغرمها لي فيغرم له خمسمائة، فإذا أخذها سلمها بكمالها إلى المجني عليه الأوّل، لا يساهم فيها المجني عليه الثاني، وقد انقطعت الطَّلِبَات، فلا طَلِبة للمجني عليه الثاني على أحد، ولا طَلِبة للسيد على الغاصب في هذه الكرّة؛ فإنه سلم هذه الخمسمائة الأخيرة إلى جهة الجناية الأولى، وقد اتفقت تلك الجناية في يده.
هذا ما صار إليه الأصحاب.
فإن قيل: لم خصَّصتم بالخمسمائة الثانية المجني عليه الأوّل، وقسمتم الألفَ الأولَ عليهما؟ وقد أجمع العلماء على أن [الألف] (1) الأوّل مقسومٌ على [الجنايتين] (2): لا يختص الأول منهما بشيء دون الثاني، فهلا قسمتم الخمسمائة الثانية بينهما، كما قسمتم الألفَ؟
قلنا: لا سبيل إلى ذلك: أمّا الألف، فمقسومٌ بينهما؛ فإنه قيمةُ العبد، ولا فرق في القيمة بين المجني عليه الأوّل، وبين المجني عليهِ الثاني؛ فإن التقدم والتأخر لا يوجب تقديماً ولا تأخيراً في الازدحام على القيمة. وإنما اختص المجني عليه أولاً بالخمسمائة الثانية؛ لأن سببَ وجوب هذه الخمسمائة الغصبُ، وهو متقدم على الجناية الثانية، متأخرٌ عن الأولى. فإذا كان سببُ ضمان الخمسمائة بعد بذل القيمة الغصبَ المتقدّم على الجناية الثانية، كان ذلك بمثابة ما لو جنى عبدٌ قيمته ألفٌ جنايةً أرشُها ألفٌ، ثم قطعت يد العبد، ووجب أرشها، ثم جنى العبد، بعد ما قطعت يدُه جنايةً أخرى، أرشها ألف، فيتخصص المجني عليه الأوّل بأرش اليد التي قُطعت من العبد الجاني، فجعل الأصحاب تقدم الغصب على الجناية الثانية، بمثابة تقدم قطع اليد على الجناية الثانية.
هذا ما ذكره الأئمة.
4604 - ونحن نوجّه عليه سؤالاً ونجيب عنه.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: الجانيين.

(7/223)


فإن قيل: ليس (1) الغصبُ المتخلل بين الجنايتين بمثابة قطع يد الجاني المتخلل بين الجنايتين؛ فإن العبد إذا جنى، فقطعت يده، فقد صادف القطعُ متعلَّق الجناية الأولى، ثم إنه بعد قطع يده أقدم على الجناية الثانية، فلم تصادف الجنايةُ الثانيةُ اليدَ من العبد الجاني، فيستحيل أن يكون لها تعلق بأرش اليد، وليس كذلك تخلل الغصب بين الجنايتين.
وربما عضد السائل السؤال بأن قال: جنى العبد الجناية الأولى، وقيمته ألفٌ، وجنى الجناية الثانية، وقيمته ألفٌ، ولا أثر للتقدم والتأخر في ازدحام الجنايات، ثم الألف المقسوم على الجنايتين لم يوفِّر حقَّ الجنايتين بكمالهما، فاختصاصُ المجني عليه الأول بالخمسمائة الأخيرة، كيف يتجه؟
وهذا السؤال فيه إشكال. والوجه الممكن في الانفصال عنه أن يقال: إن المجني عليه الأول يقول: كان حقي مستغرقاً لرقبة العبد، فلمّا غصبه الغاصب تعرض بغصبه لضمان حقي، وهو الألف، فلما جنى جنايةً في يد الغاصب وأُخذ الألفُ، وقُسّم بيننا، فالخمسمائة التي توجهت بها الطَّلِبة، إنما تثبت لأن المجني عليه الثاني أخذ من الألف الأول نصفه، فلم تسلم الألفُ الداخل في ضمان الغاصب، فإذا غرِم الخمسمائة، كانت تتمة الألف الداخل في ضمانه لما غصب، وذلك الألف مستحق للمجني عليه الأول، فليصرف إليه.
هذا منتهى الإمكان في الانفصال.
وفي الإشكال بقية، وذلك أنا نقول: لا مطمع في فضّ الخمسمائة عليهما؛ فإن هذا يجر محالاً لا يستأصل، ولا سبيل إلى قطعه، وذلك أنا لو قسمناها، لرجع المالك بما يخص المجني عليه في حالة الغصب، ثم كان يفضّ ذلك ثالثاً، ويقتضي رجوعاً، ويدور الأمر إلى غير منقطعٍ.
وربّما توجه الإشكال من وجهٍ آخر، وهو أن يقال للمجني عليه الأوّل: كنتَ على استحقاق ألفِ لو انفردتَ، فإذا جرت الجناية الثانية، فقد زوحمتَ في الألف، بناءً على أن المستأخر من الجناية كالمتقدم. وإذا [ازدحمتما] (2) في الألف، فالخمسمائة
__________
(2) في (ت 2): "أليس" بزيادة همزة الاستفهام.
(2) في الأصل: ازدحمتا.

(7/224)


إنما وجبت على الغاصب لمكان الجناية الثانية، الجارية في يد الغاصب، فاكتفيا بالألف، ولتسلم الخمسمائة للمالك.
وهذا له اتجاه من طريق الاحتمال من غير نقل.
والذي نقله الشيخ (1) عن وفاق الأصحاب ما قدمناه. ثم ذكر الشيخ وجهاً آخر هو في التحقيق عَضُدُ (2) المسلك الأول، على مبالغة، وذلك أنه قال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الألف الذي يأخذه أول مرة يصرفه بكماله إلى المجني عليه الأول، لا مساهمةَ فيه للمجني عليه الثاني، ولا طلبة للمجني عليه الثاني على السيد، ولكنه يطالِب الغاصبَ بخمسمائة؛ تحقيقاً لما ذكرناه من أن الغاصب ضمن قيمة العبد بكمالها للمجني عليه الأول.
وهذا بعيد جداً. وقال الشيخ في إتمام حكاية هذا الوجه: لو جرت الجنايتان على الترتيب الذي ذكرناه، ولم يمت العبد، واسترده المالك، وباعه بألفٍ، صرف الألف إلى المجني عليه الأوّل، ولا تعلق للثاني إلا بالغاصب. وهذا لا يُشك في بطلانه؛ فإن رقبة العبد متعلَّقُ الجنايتين، فكيف يخص بثمنه الأولَ. هذا منتهى الكلام.
4605 - صورة أخرى: لو جنى العبدُ في يد الغاصب أولاً، وما كان جنى قبل ذلك، والأرش ألفٌ، فاسترده السيد، وجنى ثانياً جناية أرشها ألف. قال الشيخ: يباع العبد بألفٍ، ويدفع إلى الذي جنى عليه في يد الغاصب خمسمائة، وإلى الثاني الذي جنى عليه في يد السيد بعد الاسترداد خمسمائة. ثم يرجع المالك بخمسمائةٍ على الغاصب؛ فإنه غرِمها بسبب الجناية التي صدرت في يده، ثم يسلم هذه الخمسمائة إلى المجني عليه في يد الغاصب؛ فإنه السابق في هذه الصُورة بالاستحقاق، ثم يقول للغاصب: قد أُخذت مني الخمسمائة الثانية بسبب الجناية التي حصلت في يدك، فيغرِّمه خمسمائة أخرى، ويستبد بهذه الخمسمائة، ولا طَلِبة عليه فيها. هذا ما حكاه.
__________
(1) الشيخ: المراد به هنا الشيخ أبو علي السنجي، كما هو مصطلح إمام الحرمين. وقد تأكد هنا بما صرح به الرافعي في فتح العزيز: 11/ 299، 300 بهامش المجموع.
(2) عضُدُ: معين ومقوّي.

(7/225)


قال (1): وراجعت القفال في هذه المسألة، فقال: إذا استرد العبدَ وباعه في الجنايتين، ودفع إلى كل واحد خمسمائة، فيغرَم الغاصب خمسمائة أخرى، ويستبد بها المالك من غير مشاركة، وقد انقطعت الطَّلِبات. وعلل بأن قال: لما غُصب العبدُ، فقد ثبت للسيد حق القيمة أولاً، ثم لما جنى العبد في يد الغاصب، ثبت له الأرش ثانياً، ثم لما جنى في يد السيد ثبت ذلك ثالثاً، فلما بعنا العبدَ، قسمنا الألف بين المجني عليهما، وما يغرَمه الغاصب ينفرد به المغصوبُ منه؛ لأن حقه أسبق.
قال الشيخ: حق المالك وإن كان أسبق، [فيقدم] (2) حقُّ المجني عليه على حقه، كما يقدم حق المجني عليه على ملك المالك في العبد.
ثم قال: ناظرت فيه القفال، فرجع إلى قولي.
والذي يحقق ما ذكره الشيخ، ويفصل بين هذه الصُّورة وهي إذا سبقت جنايةٌ في يد الغاصب، ولحقت جنايةٌ بعد الاسترداد في يد المالك، فنعلم علماً كلياً أن العبد لمّا غصبه، وكان بريئاً، فجرت جنايةٌ أرشها ألف في يد الغاصب، وطرأت الجنايةُ في يد الغاصب من عبد كان غصبه، ولا جناية في رقبته، فلا بد وأن يغرَم مع العبد ألفاً، ثم الكلام في مصرف الألف، كما فصله الشيخ، والغصب جرى في الصُّورة الأولى في عبد جانٍ مستحَق القيمة، فلا يلزم الغاصبَ بذلُ الألف، لتخلص الرقبة للمالك، والزحمة ثابتة في الجناية. ولا يستريب الناظر على الجملة أن الغاصب في المسألة الأخيرة لا يتخلص ما لم يغرَم ألفاً، ثم تفصيل القسمة وسلامة الخمسمائة كما تقدم.
والإشكال الدائر في المسألتين أن ازدحام الجنايتين يوجب حصرَ حقَّي الجنايتين في ألف واحد. وهذا هو الذي ذكره في المسألة الأولى، وأشار إليه القفال في المسألة الثانية، فإذا انحصر حقاهما في الألف، وجب من ذلك في المسألة الأولى استبدادُ المالك
__________
(1) القائل هو الشيخ أبو علي السنجي، كما صرح بذلك الرافعي في فتح العزيز: 11/ 300 بهامش المجموع، وكذا الروضة: 5/ 36. والقفال هو شيخه، فانظر -رعاك الله- إلى مجد أمتنا، وتأمّل بِدْعَ هذا العصر الرديء الذي تُعلَّم أمتنا فيه (فن الحوار)!!!
(2) في الأصل: "فيتقدّم".

(7/226)


بالخمسمائة، ووجب في المسألة الثانية ألا يغرَم الغاصب إلا خمسمائة، كما قال القفال، ثم يستبد بها، ولا ننظر إلى سابق ولا حق في الجنايتين؛ فإنهما لو ازدحما على ملك واحد في صورة التقدم والتأخر، وأرش كل جناية قيمةٌ، فليس لهما إلا قيمةٌ واحدة، فطريان الغصبِ لا يكثِّر حقهما؛ بل إنما يرد الغصبَ على حق المالكِ (1) من الرقبة.
وهذا نهاية الكشف في ذلك، فليتأمل الناظر، والله الموفق.
4606 - ومما فرعه (2): أن قال: إذا غصب الرجلُ عبداً، فجاء عبدٌ لإنسان، وقتل ذلك العبدَ المغصُوبَ، قَتْلَ قِصاص، فللسيد طلبُ القصاص، فإذا اقتص من ذلك العبد القاتل، فقد سقطت الطَّلِبة عن الغاصب؛ فإن القصاص نازل منزلة استرداد العبد، ولا ننظر إلى قيمة العبد القاتل المقتصِّ منه، فلو كانت قيمته خمسمائة، وقيمة المغصوب المقتول ألف، فإذا استوفى القصاصَ، فليس له أن يقول للغاصب: قد استوفيتُ ما قيمته خمسمائة، فأرجع عليك بخمسمائةٍ؛ فإن القصاص لا يراعى فيه تفاوت الأبدال، ولذلك تقتل المرأة بالرّجل، ويحسم باب الطَّلبة مع تفاوت الدّيتين. وهذا سديدٌ لا يشك فيه.
قال الشيخ: فلو غصب عبداً قيمته ألف، فنقص في يده بعيب، ورجع إلى خمسمائة؛ فقتله العبد كما صورنا، واقتص منه السَّيد، فللسيد تغريم الغَاصِبِ الخمسمائة الناقصة بالعيب؛ فإن القصاص كاسترداد العبدِ، فلو استرد ذلك العبدَ المغصوبَ، وقد نَقَصه العيبُ، لكان يغرَم الغاصبُ أرش العيب، مع استرداد العبد.
نعم لو غصب عبداً قيمته ألف، فتراجعت قيمته بالسوق إلى خمسمائة من غير عيب، ثم طرأ القتلُ والاقتصاصُ، فلا تتوجه الغرامة على الغاصب، ويجعل الاقتصاص بمثابة ما لو غصب عبداً، فانحطت قيمته، ثم استرده المالك، فإنه لا يغرَم حطيطةَ السوق.
والجملة فيما ذكرناه تنزيلُ الاقتصاص منزلةَ استرداد العبد.
__________
(1) (ت 2): الملك.
(2) الضمير يعود على ابن الحداد.

(7/227)


4607 - ولو غصب عبداً، فقتل العبدُ المغصوبُ حراً، واستوجب القصاصَ، ثم جاء عبد وقتل هذا العبدَ، ولزمه القصاص، فلسيد العبد الاقتصاصُ من قاتل عبده، وليس لأولياء الحر أن يقولوا: لا تقتص من قاتله، ليتعلق حقنا بالأرْش.
ثم إذا اقتص السيد، فقد بطل حقُّ أولياء الحر؛ فإن العبد الذي قَتَل قد فات، ولما قُتل وفات، تبعته المالية، لما اقتص السيد من قاتله، وكان الأرش متعلقاً برقبة قاتل الحر، وقد فات من غير تقصير من السيد، فيبرأ السيد، ويبرأ الغاصب أيضاً؛ لأن الاقتصاص بمثابة الاسترداد، كما قدمناه.
وهذا لا يتضح إلا بسؤال وجواب عنه. فإن قيل: قد قدمتم أن الغاصب في عهدة جناية العبد المغصوب، وذكرتم أنّ العبد إذا جنى في يد الغاصب، فللمجني عليه مطالبةُ الغاصب بفداء العبد في غيبة السيد، فيلزم من هذا المساق أن تقولوا: لما قتل العبد حراً قَتْل قصاص، فالقتل وإن كان موجباً للقصاص، فهو مضمّن بمالية، وتلك المالية تثبت بفوات محل القصاص. فإن قلنا: موجَبُ العمد القودُ المحض، فاجعلوا اقتصاص السَّيد من قاتل العبد القاتل بمثابة فوات محل القصاص، ثم علِّقوا عُهدة المال بالغاصِب؛ بناء على ما تقدم من تعلق عهدة الجناية به؟
قلنا: هذا لا يصفو إلا بتقديم صورة، فنقول: لو قَتل العبدُ في يد السّيد قَتْل قصاصٍ، ثم قُتل هذا العبد قتل قصاص، فاقتص السيد من قاتله، فلا حق لولي مقتول هذا العبد على السيد، والسبب فيه أن عهدة الجناية لا تتعلق بذمة السيد، بل تتعلق بذمة العبد ورقبته.
ثم للسيد تخليص الرقبة بالفداء، إذا كانت الجناية مالية، وليس للمجني عليه إلا التعلّق بالرقبة، وتعلّقه بالرقبة لا يزيد على تعلق حق المرتهن برقبة العبد المرهون، ولو قُتِل العبد المرهون قَتْل قصاص، فللراهن أن يقتص من [قاتله] (1). وإذا اقتص، حبط حق المرتهن من التعلق. فاقتصاص السيد من العبد القاتل يُبطل حقَّ أولياء القتيل، وليس في ذمة السيد شيء.
__________
(1) في النسختين: راهنه، والمثبت من هامش (ت 2)، وهو المناسب للسياق.

(7/228)


فإذا ثبت هذا، عدنا إلى الجواب عن السؤال وقلنا: إذا قتل العبدُ المغصوب حراً قَتْل قصاصٍ، فلا يتصور طلب المال مع بقاء القصاص إلا من جهة فوات المحل، والمحلُّ إذا فات بالاقتصاص لم يُعقب تبعةً أصلاً، فانقطعت الطَّلِبة بالكلية من الغاصب، لما مهدناه.
4608 - ولو أتلف العبدُ المغصوبُ مالاً، ثم قُتِل قَتْلَ قصاص، واقتص السيد من قاتله، فالجواب في ذلك يستدعي تقديم صورةٍ، تناظر هذه في المسائل (1)، فنقول: إذا أتلف العبد في يد السيد مالاً، (2 وتعلق قيمتُه برقبته، ثم 2) قتل قتْل قصاص، فاقتص السيد من قاتله، فهل يضمن لصاحب المال المتلَف عليه ما كان تعلق برقبة العبد؟
التفصيل فيه أنه إن سبق من السيد منعٌ (3)، ثم جرى بعد ذلك القتلُ، فيضمن للمنع السَّابق، وإن لم يجر منعٌ قبل قتل العبد، فلا ضمان، وقتله كموته، ثم القول في موته يتفصّل كما ذكرناه.
نعود بعد هذا إلى الغاصب وحكمه، فنقول: نفس الغصب منه يورّطه في العهدة، فإذا أتلف العبدُ المغصوب في يدهِ مالاً، ثم قُتل العبدُ قتْل قصاصٍ، فاقتص السيد من قاتله، أما السّيد، فلا طلبة عليه، وللمتلَف مالُه أن يطالب الغاصب، كما يطالَب السيدُ المانعُ قبل قتل العبد.
ثم نختتم هذا بأن العبد لو قَتَل في يد السيد قتلاً استوجب القصاص به، فطلب وليُّ القتيل القصاصَ، فامتنع السيد من الاقتصاص، ثم مات العبد، فلا تبعة على السيد، ولا طَلِبة؛ فإن القصاص ليس أمراً يُضمن، فلا جرم لو قُتِل العبدُ قتل قصاصٍ بعد استيجابه القصاصَ، وفرضِ الممانعةِ من السيد، فإذا اقتصّ، كان اقتصاصه كموت العبد نفسه بعد المدافعة في الاقتصاص.
__________
(1) (ت 2): المالك.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(3) أي طولب السيد بالمال الذي تعلّق برقبة عبده، فمنعه، ثم حدث القتل.

(7/229)


فنقول على هذا: نجعل الغاصب كأنه مماطل في القصاص، ولا حكم للمطل فيه، فلهذا افترق ما يوجب القصاص، وما يوجب المال.
وقد يخطر للفقيه وراء هذا كله أن السيد لو مطل، ولم يقتص، ونحن نقول: القصاص يتضمن المالية، فيكون بمطله ومدافعته ملتزماً لتبعة فوات المحل. وليس الأمر كذلك؛ فإن عُلقة المال لا تثبت مع طلب القصاص، وفي هذا المنتهى أدنى احتمالٍ، فإن ثبت، انعكس على تثبيت مطالبة الغاصب.
هذا منتهى النظر، والله المستعان.
وقد نجز غرضنا من جنايات العبد المغصوب والجنايات عليه.
فصل
قال: "فإن كان ثوباً، فأبلاه المشتري ... إلى آخره" (1).
4609 - إذا غصب الرجل ثوباً، ولم ينتقص في يده، وأمسكه مدة، فعليه أداء الثوب، وأجرُ مثل المنفعة، استعملَ أو لم يَستعمل؛ فإن المنافع مضمونة باليد العادِيَة (2) عندنا.
وإن انتقص الثوب بآفةٍ، لا بسبب الاستعمال، فعليه أرش ما نقص، وأجر مثل المنفعة، استعملَ أو لم يستعمِل.
وإن انتقص الثوبُ بالاستعمال، وبلي بعضَ البلى، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يضمن أكثر الأمرين من أرش النقص، أو أجر مثل المنفعة؛ لأن النقصَ جاء من جهة الاستعمال، ووقع بسببه، فدخل الأقل من المضمونَيْن تحت الأكثر.
والوجه الثاني - وهو الأصح أنه يضمن أرش النقص على حياله، وأجر المنفعة على حياله؛ فإنه يضمن كل واحدٍ منهما عند الانفراد، فإذا ثبت الموجبان، ثبت الضمانان.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 38.
(2) العادية: من العدوان، أي اليد المعتدية.

(7/230)


4610 - ولو اشترى إنسان من الغاصب الثوبَ المغصوب على جهلٍ بحقيقة الحال، فاستعمله، وأبلاه بالاستعمال، فتوتجُهُ الطَّلِبة عليه من جهة المالك يُخرّج على الخلاف الذي ذكرناه في الغاصب نفسه: فإن فرعنا على الأصح، وهو أنه يُضمّنه أرش النقص على حياله وأجر مثل المنفعة على حياله
فنقول: أما الرجوع بأجر المنفعة، فيخرّج على قولي الغرور؛ فإنه استوفاها مغروراً، وأما أرش النقص، ففي الرجوع به ما ذكرناه في أرش العيوب الحادثة في يد المشتري من الغاصب. وفيها النص، وتخريجُ المزني، وكلام ابن سُريج.
4611 - ثم ذكر الشافعي مسألة ضمان المنافع بالغصب، وقد ذكرناها فيما تقدّم، وأوضحنا أن المنافع تضمن باليد وتضمن بالإتلاف، وأبو حنيفة (1) لا يثبت ضمانها بواحد منهما، وإنما يثبت ضمانها بالعقد الفاسد، أو الصحيح. وقد ذكر الشافعي أن المستكرهة على الوطء يثبت مهرها على المستكرِه الزاني، رداً على أبي حنيفة، فمنفعةُ البضع تضمن بالإتلاف إذا كانت المرأة مستكرهة، ولم تكن بغيّة، ولا مهر للحرة البغية. وفي الأمة المطاوعة البغيةِ الخلافُ الذي ذكرناهُ. ولا تُضمن منافِع البضع باليد، وأبو حنيفة فيما زعم لا يضمّنها (2) إلا في عقدٍ صحيح، أو في شبهة عقد.
فصل
قال: "ولو غصب أرضاً، فغرسها ... إلى آخره" (3).
4612 - الغصب يتصور عندنا في العقار، فإذا ثبت تصوره، ابتنى الضّمانُ عليه.
وأبو حنيفة (4) منع تصور الغصب في العقار، وترددت الرواية عنه في الغُرف المغلقة،
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 351 مسألة 231، وطريقة الخلاف: 259 مسألة: 107، وإيثار الإنصاف: 258.
(2) لا يضمنها: أي المنافع.
(3) ر. مختصر المزني: 3/ 40.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 176 مسألة 1864، ومختصر الطحاوي: 118، رؤوس المسائل: 354 مسألة 234، وطريقة الخلاف: 257 مسألة: 106، وإيثار الإنصاف: 259.

(7/231)


وهذا كتردده في منع بيعها قبل القبض من البائع، مع قطعه بجواز بيع العقار الثابت قبل القبض.
والذي يجب الاعتناء به في هذا الفصل التعرّض لصورٍ يتردد النظر في تصوير الغصب فيها، فنقول أولاً: حقيقةُ الغصب في المنقول والعقار جميعاً استيلاء الغاصب بيده، وإنما يُعرف استيلاؤه بموجب العرف. هذا هو الأصل، والصور تهذبه.
فنقول: من أزعج مالك الدار عنها لم يكن بنفس الإزعاج غاصباً، وكان ذلك كما لو أقطع (1) المالك عن حفظ ملكه، وحال بينه وبينه.
ولو أزعج المالك، ولم يصادفه في الدار، فدخل الدار بصبيته وأهله، وماله، واستولى استيلاء المنتفع، وأغلق الأبواب بأغلاقها، فهذا استيلاء محقق على الدار صورةً، من غير حاجةٍ إلى فرض قصد، وعليه نقول في الجندي (2) إذا نزل داراً كما صورناه وأزعج مالكها، فقد استولى غاصباً، وصارت الدار مضمونة، ثم لا ينقطع الضّمان بأن يرحل عنها إلا أن يعود المالك، ويرد الدار إلى يده، فيكون هذا بمثابة استرداد المغصوب.
ولو دخل داراً ناظراً إليها، لم يصر بذلك غاصباً، فإنه لا يعدّ مستولياً، وكذلك لو اجتاز بأرضٍ مملوكة لإنسانٍ، لم يصر ذا يدٍ في الأرض لاجتيازه؛ فإن ذلك لا يعد في العرف استيلاءً، وقد ذكرنا أن الاستيلاء هو المقصود المطلوب، والرجوع فيه إلى العرف.
ولو دخل داراً خالية، وزعم أنه قصد الاستيلاء، وكان ما ذكره ممكناً، فيصير بقصده غاصباً، ولو زعم أنه لم يقصد الغصبَ والاستيلاءَ، لم يصر غاصباً، فالأمر يختلف بالقصد في هذه الصورة.
4613 - والضابط بعد الإيناس بالصور أنه قد يجري في الدور وما في معانيها أحوالٌ
__________
(1) أقطع: قطع. وقطع فلاناً عن حقه منعه منه. (معجم).
(2) كي تعرف لماذا خص الجندي هنا، اقرأ ما كتبه المؤلف في (الغياثي) عن واجبات الإمام، وأن منها "كف عادية الجند". فيلوح لنا أن هذا كان أمراً شائعاً، يستولي الجند في طريقهم على الدور والأموال يرتفقون بها إلى أن يتفق رحيلهم.

(7/232)


وأفعالٌ هي على صورها غصبٌ، كما ذكرنا في نقل الصبية ودخُول الدُّور. وقد يجري ما لا يكون استيلاءً، وإن زعم صاحب الواقعة أنه قصد استيلاء، وهو كدخول الضعيف دار القوي بنفسه، مع القطع بأنه لا يستمكن من الاستيلاء، وصاحب الدار في الدار، فهذا خارج عن قَبِيل الاستيلاء، غيرُ مختلف بالقصد.
وإذا دخل داراً، وكان لا يمتنع تصوّر الاستيلاء منه، فدخوله متردد بين النظر، وبين الاستيلاء، فيختلف الحكم باختلاف القصد.
فلا بد من تخيل هذه المراتب على وجوهها.
وقد يفرض في المنقول ما يناظر المرتبة الأخيرة، فإذا كان بين يدي الرجل كتابٌ مملوك له، فرفعه رافع، وقصد الغصب، فنجعله غاصباً، فإن قصد النظر فيه وردَّه، لم نجعله غاصباً، على المذهب الظّاهر. وسنضرب لذلك أمثلةً في مرور الدنانير المغصوبة بأيدي النقاد (1). وإنما غرضنا التمهيد الآن.
وقد يعترض في انعقار أمرٌ، وهو أن من دخل داراً، فدخل بيتاً (2)، فقد يختص استيلاؤه بذلك البيت، فيقدّر غاصباً له دون غيره، وهذا يتضح بألاّ يغلق بابَ الدار على نفسه، ويقطع العرصة عابراً.
على هذا الوجه يُفرض الغصب في بيتٍ من خانٍ (3)، ويمكن أن يقال: إن ظهر الانتفاع بالدار، فهو استيلاء عليها، وإن لم يظهر، ولم يكن استيلاءٌ، فالدخول ليس استيلاء. وإن لم يظهر، وحصل الدخول وأمكن الاستيلاء، اختلف الأمر بالقصد.
والرجوع بعد ذلك كله إلى العرف، فإذا ثبت أهلية (4) [الاستيلاء] (5)، ثبت الغصب
__________
(1) النقاد: أي الصيارف الذين يعملون في النقد.
(2) الدار تحوي عدة بيوت، فالبيت جزء من الدار.
(3) الخان: النُزل: الفندق، وهي لفظة فارسية معناها أصلاً: الحانوت، ثم صارت تطلق على ذلك المبنى الذي يقام لأيواء المسافرين الذين يمرون بالمدينة، أو ينزلونها لحاجتهم، ثم يعودون. وهو الفندق تماماً. إلا أنه كان مجاناً وتطوعاً.
(4) (ت 2): أصلية.
(5) في الأصل: استيلاء.

(7/233)


وحكمه. وإن نَفَوْه من كل وجهٍ، فلا غصب. وإن ترددوا، رجعنا إلى قصد صاحب الواقعة.
4614 - ومما نذكره في ذلك أنا إذا قلنا: لا يثبت القبض في المنقولاتِ في أحكام العقود [إلا بنقلها] (1) فإذا فرض الاستيلاء على شيء منها اعتداءً، فظاهر المذهب أنه غصب، لما ذكرناه من تصور الاستيلاء.
وحكى شيخي وجهاًً آخر: أنه لا يثبت حكم الغصب، إلا بما يثبت به قبضُ الرّهن والهبة، والقبض الناقل للضمان في البيع. وهذا غير صحيح، وصورة المسألة أن يزعج رجلاً عن بساطه المملوك، ويجلس عليه، أو يركبَ دابته، ولا يسيرها.
وممّا نذكره في تصوير الاستيلاء: أن من دخل داراً، وفيها ربها، فلم يزعج المالك، ولكنه استولى مع استيلاء المالك، وصارا على صورة ساكِنَيْن للدار، فنجعل المعتدي غاصباً لنصف الدار. ولو دخل رجل ضعيف دار محتشم (2) في حال غيبته عنها، ووُجِد منه فيها صورةُ اليد في الظاهر، فالأصح أنا نجعله غاصباً، وإن كان يُخرَج ويُزعج على قرب؛ فإنه ليس من شرط الغصب انتهاءُ يد الغاصِب إلى حالة تعسر إزالتها.
وذهب بعض الضعفة من أصحابنا إلى أن هذا لا يكون غاصباً؛ فإنه لا يعد في العرف مستولياً، والذي جاء به لا يسمى استيلاءً، بل هو في حكم الهزء والعبث، في مطرد العادة.
وهذا غير سديد لما قدمناه من وجود صورة اليد. وليس كما لو دخل هذا الضّعيف الدارَ، وفيها ربها؛ فإنه لا تظهر له يد، مع استيلاء يد المالك، واستمكانه من إزعاجه بزجره، وأَخْذه، وصعقه (3). والتعويل في الجملة والتفصيل على العرف وما يعلمه أهله في معنى اليد والاستيلاء.
هذا عقد المذهب في تصوير الغصب في العقار.
__________
(1) في الأصل: بألا ينقلها.
(2) محتشم: مهيب، وصاحب حشمٍ يغضبون له. (معجم).
(3) (ت 2): وصفعه.

(7/234)


4615 - ثم وصل الشافعي بتصوير غصب العقار ذكْرَ تصرفاتٍ من الغاصب ونحن نستوعبها ونأتي عليها واحداً واحداً، إن شاء الله تعالى.
فلو غصب الرّجُل أرضاً، واحتفر فيها بئراً، فهو معتدٍ بحفر البئر، ولو تردّى فيها متردٍ، وجب عليه الضّمان، كما لو احتفر بئراً في مضيقٍ من الشارع. فإذا ثبت ذلك، ابتنى عليه، أنه يجب عليه طمُّ البئر وكبسُها (1)، ليخرج عن هذا الضرب من العدوان، فإذا استرد المغصوب منه الأرضَ، وأمر بكبس البئر، فقد تأكد ما ذكرناه من وجوب ذلك، وكان واجباً دون أمره؛ لعلةِ الخروج عن العدوان. وهو الآن واجب لعلتين: إحداهما - ما ذكرناه. والأخرى امتثال أمر المالك، على ما سنوضح في سياق الفصل تحقيقَ الفقه فيه.
ولو قال المالك: أمنعك من الكبس، لم يكن له ذلك؛ فإن في منعه إدامةُ سبب العدوان، وبقاءُ التعرض للضمان. ولو قال: رضيت بالبئر، فاتركها، فهل له أن يطمّ مع الرضا؟ فعلى وجهين مشهورين، ترجع حقيقتهما إلى أن رضا المالك بإدامة البئر هل تنزل منزلة رضاه بحفر البئر ابتداءً؟ ولا شك أن المالك لو رضي بحفر بئر في ملكه، وأذن فيه، أو أمر به، فلو تردّى متردٍّ فيها، لم يضمن المالكُ، ولا الذي تولى حفره. وهذا (2) مختلف فيه: فإن قضينا بأن الرضا بالدوام كالإذن ابتداءً بالحفر، فقد يمنع الغاصِب من الكبس. وإن قلنا: لا يكون الرضا بالدوام بمثابة الإذن بالحفر ابتداء، حتى لو قدر تردي متردٍّ، وجب الضمان، فعلى هذا يطم الغاصب البئر قطعاً لسبب العدوان، وخروجاً عن الضمان.
وهذه الصورة التي ذكرنا الخلاف فيها تمتاز عما قدمناه عليه من أن المالك لو منعه من الطمّ، لم يمتنع؛ فإن ذلك فيه إذا لم يتعرض للإذن، واحتفر على المنع. فأما إذا صرح بالرضا، فهو صورة الخلاف.
وذكر كثير من أئمتنا في الإذن الذي ذكرناه تقييداً، نحن نورده، فقالوا: لو رضي بالدوام، وأبرأه عن ضمان من يتردّى، ففي المسألة الوجهان. وذهب ذاهبون إلى
__________
(1) في هامش (ت 2): الكبس: طمُّ الحفيرة بالتراب.
(2) أي حكم الضمان.

(7/235)


اشتراط التعرض للإبراء عن ضمان العدوان، حتى تخرّجَ المسألة على الخلاف.
وهذا عندي زلل، فليس إلية الإبراء. [فإن] (1) كان الرضا بالدوام قاطعاً سبب الضمان، نازلاً منزلة الإذن في الابتداء، فذاك. وإن كان الرضا بالدوام لا يتضمن انقطاع سبب العدوان، فالإبراء عن الضمان لا معنى له؛ فإن الضمان قد يجب بسبب تردي من ليس من مالك الأرض بسبب، والإبراء عن حق الغير قبل ثبوته محال تخيله؛ فإنه بعد الثبوت لا ينفذ، فما الظن بتصحيح مطلَقه (2) قبل الوقوع.
وهذه المسألة لا تصفو عن شوائب الفكر إلا بذكر تمام الغرض فيه، فنقول: مهما قلنا: يكبس الغاصب، ويطم، فحق عليه أن يطم؛ فإن هذا إزالةُ سبب العدوان، ولا أثر فيه على هذا الوجه للرضا، ولا خِيرةَ في إزالة سبب العدوان. وإن بعد نظر الفقيه عن هذا، فسببه ضعفُ هذا الوجه؛ فإن الظاهر أن دوام الرضا من المالك ينزل منزلة الابتداء.
4616 - ونحن نستتم الآن تفصيل القول في ذلك بذكر مقدمة مقصودة في الفصل، ثم نعود بعدها إلى إكمال البيان، فنقول: لو نقل الغاصب مقداراً من التراب، من الأرض المغصوبة، من غير فرض احتفارٍ، فالتراب مملوك. وإذا كان متشابه الأجزاء، فهو من ذوات الأمثال، فإن بقي عينه، فللمغصوب منه تكليفُه ردَّ عينه إلى المكان الذي أخذ منه.
ولو قال للغاصب الناقل: رضيت بأن تتركه، ولا تعيدَه، نظر: فإن كان الغاصب نقله إلى ملك نفسه، أو نقله إلى ملك غيره متعدياً، أو نقله إلى شارع المسلمين وضيق به على الطارقين، وقد يكون نصبه منضَّداً في الشارع سبباً لضمان من يتعثر به، ففي هذه المواضع ينقل التراب إلى الأرض المغصوبة؛ فإن له أغراضاً صحيحة في النقل، فإنه بين أن يفرّغ ملك نفسه، وبين أن يفرغ الشارع، أو يفرغ ملك غيره، وقد كان اعتدى بالنقل إليه.
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) أي مطلق الإبراء.

(7/236)


فأمّا إذا كان نقل التراب إلى موات، أو إلى الشارع على وجهٍ لا يضر بالمارة، فإذا قال المغصوب منه: لا تنقله إلى الأرض، لم يكن له نقله؛ فإنه لا غرض له في النقل، ومالك التراب راضٍ بتبقيته في المكان الذي هو فيه.
ولا يخفى على الفقيه أنه لو كان نقله إلى الشارع على وجهٍ يفرض لأجله الضمان والعدوان، فإذْن المالك وإبراؤه عن الضّمان لا معنى له؛ فإنه ليس إليه هذا.
ولو أراد المالك [بتبقيته] (1) أن يضيق مسلك المارة، أو يأذن فيه، لكان ممنوعاً منه.
ومن تمام ذلك أنه إذا كان للغَاصب غرض، فلو ردَّ التراب إلى الأرض، وأراد أن يبسطه لتعود إلى هيئتها التي كانت عليها، ويعود التراب إلى المكان الذي أخذه منه، فقال المالك: اتركه على طرف الأرض، ولا تبسط، فحق عليه أن يترك البسط، ويقتصر على ما رسمه المالك؛ فإنه لا غرض له في البسط. والمسألة مفروضة فيه إذا لم يكن لنقل التراب حفيرة يفرض التردي فيها، فلا غرض إذن للغاصب في البسط، ولا معنى لمخالفة المالك.
وهذا الذي ذكرناه مشروط بشرط، وهو أن نقل التراب، ورفعَه عن وجه الأرض إن لم يكن أحدث في الأرض نقصاً -وقد انتهى الكلام إلى المنتهى الذي ذكرناه- فالأمر على ما وصفناه، وإن كان رفعُ التراب أحدث نقصاً في الأرض، فإن أبرأ المالكُ عن أرش النقص، ورسم ألا يبسط التراب، لزم امتثال أمره. وإن كان يطلب أرش النقص، ولو ردّ الغاصبُ التراب إلى المكان الذي أُخذ منه، لكان ذلك جبراً لما وقع، وردّاً للأرض إلى ما عهدت عليه، فإنه يبسط التراب لغرض إبراء الذمة عن ضمان النقصان؛ فإن هذا من الأغراض الظاهرة.
4617 - وما ذكرناه استفتاح أصل آخر، وهو أن من أحدث نقصاً في أرض غيره، بسبب نقل التراب منه، واستمكن من إزالة ذلك النقص برد التراب؛ فإنه يفعل ذلك، ويتحتم عليه إن طلبه المالك. ويجوز له أن يفعله إن لم يطلبه المالك. وإن قال
__________
(1) في الأصل: بنفسه.

(7/237)


المالك: دعه، فلست أطالبك بأرش النقص، لم يكن ذلك إبراء منه عن الضّمان، بل هو عِدةٌ، لا يجب الوفاء بها، فلا يثق الغاصب، ويرد التراب، ويسوي الحفائر.
وهذا يخالف ما لو شق ثوباً لإنسان وطلب أن يرفوَه؛ فإنه لا يجاب إلى ذلك، باتفاق الأصحاب. ولا فرق بين أن يحتاج في الرَّفْو إلى الإتيان بأجزاءَ لم تكن في الثوب، وبين أن يستمكن من الرَّفْو من غير الإتيان بشيء من غير الثوب. والسبب فيه أن الرَّفْو لا يرد الثوب إلى ما كان عليه قبل الشق، وإن تناهى الرافي في المهارة.
والأرض يمكن ردُّها إلى [ما كانت] (1) عليه قبلُ. فهذا هو الفرق.
4618 - ومن تمام البيان في ذلك: أن عين التراب المنقول إن كان باقياً، فالجواب ما ذكرناه، وإن تلف ذلك التراب وانمحق في مدارج الرياح، أو جرفه سيل، غشيه وبدَّده، فقد نقول: التراب مضمون بالمثل، فلو أراد ردّ مثل ذلك التراب إلى المكان لتسوية الحَفِيرة (2)، فقال المغصوب منه: لا أمكنك من رد مثل ذلك التراب إلى الحفر، وألزمك تركَ ما تضمنه على طرف من الأرض، وأطالبك بأرش النقص، الذي أحدثته في الأرض بسبب نقل التراب منها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن للمالك ذلك، بخلاف ما لو كان عينُ التراب باقياً؛ فإنه إذا رده وسوى به الأرض، فقد رد ما أخذه كما أخذ، وإذا ابتغى ردَّ المثل، فليس معيداً لعين ما أخذه. والمسألة محتملة.
ولا خلاف أنه لو كان لا يتمكن من رد الأرض إلى ما كانت عليه إلا بزيادة تراب يأتي به، فلا يمكن من هذا.
4619 - وممَّا يتصل ببيان الكشف، أنه لو كان نقل التراب، وما أحدث في الأرض نقصاً يوجب الضّمان، ولكن نقله إلى ملك نفسه، أو اعتدى بنقله إلى ملك غيره، أو إلى الشارع، على الوجه الذي وصفناه، فقد أوضحنا أنه يرد الترابَ إلى الأرض، فلو كان يستمكن من طرح ذلك الترابِ -الذي يُفرِّغ عنه ملكَه، أو ملكَ غيره، أو الشارع-
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ت 2): تسوية الحفر به.

(7/238)


في مواتٍ، هو في طريقه التي يقطعها في رد التراب، فقال المالك: اطرحه في الموات، فهو أهون عليك، ولست أبغي أن تشتغل به أرضي، وما أحدثت بنقلك نقصاً، وفعلُك في الطرح في ذلك الموات، كفعلك في الطرح على أرضي، لو رددتَ إليها، والأمر أهون عليك؛ من جهة قِصَر المسافة، فقد يعترض في ذلك أن الغاصب يبغي ردّ التراب إلى يد المغصوب منه؛ فإنه مضمونٌ في نفسه. فإن فرض للمغصوب منه ملكٌ في الطريق، فإذا نقل التراب إليه، كان عائداً إلى حكم يد المالك، فالذي نراه القطعُ بأن الغاصِب يلزمه أن يمتثل أمرَه؛ إذ لا ضرر عليه، ولا غرض له في النقل إلى المكان الذي أخذ التراب منه.
ولو قال المغصوب منه: انقل التراب إلى مواتٍ بالقرب منك، أو إلى ملكٍ لي بالقرب منك، وليس على صوْب مجيئه لو طلب الردّ إلى المكان الذي أخذ منه، ففي هذا تردد، يُشعر به كلام الأئمة، وقد يظهر أنه يلزمه موافقةُ المالك، إذا لم يكن عليه مزيدُ مشقة، على الشرائط التي قدمناها.
ويظهر أنه لا يفعل هذا؛ فإنه استخدامٌ، وليس كما لو طلب منه الطرحَ في الطريق؛ فإنه اختصار على بعض ما كان يفعله.
فانتظم ممَّا ذكرناه فصولٌ في ردِّ التراب، وملكِ الغاصب ذلك، وتفصيلِ القول في رد الأرض إلى ما كانت عليه، إذا حصل فيها نقص، وبان أن الغاصب قد يلزمه ذلك إذا طلبه المالك، وقال: رُد ترابي وسوِّ الحفر، وقد يكون له ذلك وإن لم يطلبه المالك، لأغراضٍ، من جملتها أن يكفي نفسَه ضمان النقصان، ولاح الفرق بين ذلك، وبين رفْو الثوب.
ومما يلتحق بالرفو معالجة العبد الذي جنى عليه الغاصب جنايةً تنقصه، فإنه لو قال: مكِّني من مداواته؛ فإني أعيده بها إلى حالة صحته، فلا يمكَّن من هذا.
والمنع من المداواة أظهرُ من المنع من الرَّفْو، والثقةُ بحصول الغرض بها أقلُّ.
4620 - فإذا تمهدت هذه الأصول فيما على الغاصب وله؛ فنستتم بعدَ بيانِ ذلك القولَ في طم البئر، ونقول: إن لم نجعل الرضا بالدوام مسقطاً للضّمان، فله الطم، بل عليه ذلك. وإن جعلناه مسقطاً للضمان، اعترض فيه جواز رد التراب إلى موضعه

(7/239)


أخذاً [من] (1) الفصول التي قدمناها، فليتنبه الفقيه للقواعد، ولْيبن الأمرَ على مقتضاها.
وممَّا نذكره أن الغاصب لو كان نقل تراباً من أرضٍ مُقلّبة مُكرَّبة (2) مثارةِ التراب، مهيأةٍ للغراس، فردُّ التراب إلى ما عهد سهلٌ. وإن كانت الأرض صلبة، ففُرِض نقلُ التراب، ثم طلب إعادته إلى موضعه، فعلى الراد أن يتكلف تنضيده، وهو سهل أيضاً. وإنما ذكرنا ذلك، فإن الأرض الصلبة قد تصلح للبناء عليها، فلو لم ينضد التراب المنقول، فلا يحصل الغرض الذي كان، وفي التنضيد تُردّ أجزاء التراب إلى مقارها الحقيقية. هذا منتهى ما أردناه في ذلك.
وقد يتعلق بالفصل ما إذا غصب أرضاً، وغرس فيها غراساً أو بنى بناءً، وهذا سنذكره في فصل الصبغ بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو غصب جارية، فهلكت ... إلى آخره" (3).
4621 - مضمون الفصل الكلامُ في طرفٍ من اختلاف الغاصب والمغصوب منه، وهو يتعلق بنوعين: أحدهما: الاختلاف في صفات المغصوب. والثاني: الاختلاف في قيمته بعد تلفه.
فأما الخلاف في صفات المغصوب، فإذا ادّعى المغصوب منه سلامة المغصوب عن العيوب، وطلب بذلك وفور القيمة، والعين فائتة. وقال الغاصب: بل كان مئوفاً (4)، ووقع التعرض لعيبٍ مثلاً، نُظر فإن قال الغاصب: كان العبد المغصوب أَكْمه، أو كان عديم اليد في أصل الفطرة، وادّعى المالك أنّه كان بصيراً سليم اليد، فقد قال الأصحاب: القول قول الغاصب، وعلى المالك إقامة البينة؛ فإن الغاصب
__________
(1) في الأصل: بين.
(2) مكرَّبة: من كَرَبَ يكرُب من باب قتل: كربْتُ الأرض قلَبتُها للحرث (معجم ومصباح) وكرّب مضعف كرب للمبالغة.
(3) ر. المختصر: 3/ 41.
(4) مئوفاً: اسم مفعول، من آفت البلاد إذا أصابتها آفة. (معجم) والمراد هنا أن الغاصب يدعي أن المغصوب كان معيباً، أيّاً كان هذا المغصوب.

(7/240)


أنكر وجودَ عضو، ولا يمتنع (1) أن يقال: الأصل عدمها (2)، وينضم إلى ذلك أن الأصل براءة ذمته عن المقدار الزائد المدعى عليه.
وإن اعترف الغاصب بأن العبد كان كامل الخلقة، وادعى طريان العمى والقطع قبل الغصب، وزعم أن يده صادفته معيباً بالعيب الذي وصفه، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول المالك؛ فإن الأصل دوام سلامة العبد عما ادعى الغاصب طريانَه عليه من قطعٍ، أو عمى.
والقول الثاني - أن القول قول الغاصب؛ فإن الأصل براءةُ ذمته عن المزيد المتنازع فيه، وهذا يلتحق بالأصل الذي يسميه الفقهاء: "تقابل الأصلين".
وذكر بعض أصحابنا أن الغاصب لو ادعى عيباً خِلْقياً، كما قدمنا وصفه، وكان ذلك العيب يفرض نادراً، في آحادٍ من الناس، كما ذكرناه من ادعائه كونَه أَكْمهَ، أو عديمَ اليد، ففيه خلاف؛ من جهة ادعائه نادراً، فقد يغلب على الظن كذبُه فيه، ومحاولتُه الغضَّ مما يلزمه من القيمة، والأصلُ (3) في الناس السلامة، وعليه ابتنى ثبوتُ حق الرد بالعيب؛ فإن المشتري يبني العقدَ المطلقَ على معهود السلامة، فينزل ذلك منزلةَ شرط السلامة.
ثم هذه الطبقة من الأصحاب ذكروا أوجهاًً: أحدها - أن المصدَّقَ المالكُ، بناء على السلامة. والثاني - أن المصدَّقَ الغاصبُ، لما سبق تمهيده قبلُ. والثالث - أنه يفصل بين العيوب النادرة، وبين ما لا يندر.
وكل هذا خبطٌ، لا أعده من المذهب (4). والذي يجب القطع به، أن الغاصب إذا لم يعترف بأصل السلامة، فهو مصدَّق مع يمينه في ادعاء انعدام عضو أو صفةٍ في أصل الخلقة، وإنما محل الخلاف فيه إذا اعترف بأصل السلامة، ثم ادّعى طريان آفة، كما بيناه.
__________
(1) (ت 2): يمكن.
(2) الضمير يعود على اليد، وليس الآفة، فالإمام يقطع بهذا، ولا يرى في المسألة غيرَه.
(3) (ت 2): فإن الأصل.
(4) ما رآه الإمام (خبطاً) هو ما استقر عليه المذهب، يشهد بذلك قول النووي: "فلو قال: كان أكْمهَ أو وُلد أعرج، أو عديم اليد، فالمصدّق الغاصبُ على [الوجه] الصحيح؛ لأن الأصل العدم، ويمكن للمالك البينة، والثاني - يصدّق المالك نظراً إلى غلبة السلامة، والثالث - يفرق بين ما يندر من العيوب وغيره" (ر. الروضة: 5/ 28، 29).

(7/241)


4622 - ومما يلتحق بذلك أن المالك لو ادّعى أن العبد المغصوب الفائت كان يحسن صناعةً من الصناعات، وأنكرها الغاصب، فالذي قطع به المراوزة أن القول قول الغاصب؛ فإن الأصل براءة ذمته، والأصل عدم الصناعة التي يدعيها المالك.
وذكر العراقيون وجهاًً غريباً: أن القول قولُ المالكِ، ووجهوه عندهم بأن صفات العبيد قد لايطلع عليها إلا السَّادة، ويعسر إثباتها من غير تصديقهم، فلو لم نصدقهم، لأدّى إلى تعطيل كثير من الصفات في محل النزاع. ونحن قد نصدق في إثبات شيء والأصل عدمُه إنساناً، إذ (1) كان لا يتلقى ثبوته إلا من جهته، ومنه تصديقنا المرأةَ في الحيض، إذا كان الزوج علّق طلاقَها على أن تحيض، وإن كان الأصل بقاءَ النكاح وعدمَ الطلاق.
وهذا تخليط غيرُ معدودٍ من المذهب، والوجه القطع ببناء الأمر على عدم الصناعات، وعلى من يدّعيها البيّنة.
هذا في اختلاف الغاصب والمغصوب منه في صفةِ المغصوب.
4623 - فأما إذا وقع الاختلاف في مبلغ قيمة العبد مطلقاً، من غير تعرض لصفاته، فإذا قال المالك: كانت قيمة العبد ألفين، وقال الغاصب: كانت ألفاً، فالقول قول الغاصب مع يمينه، لا خلاف فيه؛ بناء على ما قدمناه من براءة ذمته عن المزيد المدَّعى.
ولو ادعى المالك بقاء العين المغصوبة في يد الغاصب، وادعى الغاصب تلفَها، والتزم ضمانَ قيمتها، فقد اختلف الأصحاب في ذلك، فالذي ذهب إليه المحققون، وهو اختيار القفال، فيما حكاه شيخي عنه أن القول قولُ الغاصب، فإنا لو لم نصدقه مع يمينه، لأوجب ذلك تضييقاً عليه، لا نجد عنه مخرجاً، وقد يخلّد حبسه فيه، والتلف يجري بحيث لا يشعر به غيرُ الغاصب، سيما في الجواهر والأعيان الخفية.
ومن أصحابنا من اكتفى بظاهر الحال، وقال: الأصل بقاء العين حتى تقوم البينة على تلفها. وهذا القائل يحلِّف المالك، والصحيح ما اختاره القفال، والثاني مزيف.
__________
(1) كذا في النسختين: "إذا" وهو صواب؛ فوضع (إذْ) مكان (إذا) سائغ كعكسه. (ر. شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: 62).

(7/242)


4624 - ومما يتم به غرض الفصل: أن العبد المغصوب إذا مات فإن كان رآه المقومون، فلا شك أنهم يعتمدون عِيانهم في الشهادة على قيمته، وإن لم يره المقوّمون، فأراد مالك العبد أن يقيم شهوداً على صفاته، وحِلْيته، وصورته، ورام أن يعتمد المقومون تلك الصفات، ويبنوا التقويم عليها، فليس له ذلك، وليس للمقومين اعتمادُ الصفات التي يشهد بها العدول. والسبب فيه أن ما يعتمده التقويم لا يدخل تحت ضبط الواصفين؛ فإن المعتبر الأظهر الذي تختلف القيم به لا يدخل تحت الوصف؛ فإن القيمة تختلف بالملاحة، ولطف الشمائل، وغيرها، ممَّا يدِق مُدركُه.
فإن قيل: ألستم صححتم السلم في الحيوان اعتماداً على الوصف، ثم استقصاء الأوصاف مقصود في السلم؟ قلنا: قد ذكرنا في كتاب السلم أن الإسلام في الحيوان يضاهي أبواب الرخص، ولا يشترط فيه من استقصاء الصّفات، ما يشترط في سائر الأجناس. وقد مهدت في ذلك أصولاً في كتاب السلم، والقدر الذي يقع الاكتفاء به هاهنا أن مبنى السلم على تنزيل المسلم فيه على أقل مراتب الصفات، والاكتفاء بأول المنازل، ولا يتصور بناء التقويم على هذا؛ فإن المقوّم يحتاج إلى الاطلاع على النهايات ليبني ظنه عليها في التقويم. وهذا واضحٌ، لا خفاء به.
وحكى صاحب التقريب قولاً غريباً أن التقويم يقع بأوصافٍ، تنزيلاً على الأقل كالسلم. وهذا بعيدٌ غير معتدٍ به.
وإن ذكر الغاصب في إقراره بالغصب أوصافاً للمغصوب، وقال: كان المغصوب مورّدَ الخدين، أزجَّ الحاجبين، نجلاءَ العينين، أكحلهما، مستدقَّ الأنف، وارد الأَرْنبة (1)، رقيق الشفتين، مديدَ القامة، حسن الهامة، مكلثمَ (2) الوجه، مستطيلَ الجيد (3)، عريض الكتف، [مخصّر] (4) الوسط، نادر الرِّدْفِ (5)،
__________
(1) وارد الأرنبة: يقال: فلان وارد الأرنبة: طويل الأنف. (معجم).
(2) الكلثوم: الممتلىء لحم الخدين والوجه. وكَلْثم وجهه: اجتمع لحمه بلا جهومة (معجم).
(3) في (ت 2): الجسد.
(4) في الأصل: مختصر. والمراد دقيق الوسط.
(5) نادر الرِّدْف: من ندرَ الشيء خرج من غيره وبرز، يقال ندر العظم عن موضعه، برز وخرج،=

(7/243)


[خديجَ] (1) الساقين، غائص الكعبين (2) إلى غير ذلك. فهذه الصفات لا يعتمدها التقويم، ولكنها تفيد من جهة أنه لو ادّعى قيمةً لا تليق بهذه الصفات، مثل أن يذكر شيئاًً نزراً دراهم معدودة، فلا يقبل منه ما ذكره؛ فإنا وإن كنا لا نعتمد الصفاتِ في التقويم، فنستفيد مناقضةَ ما ادّعاه من القيمة، لما اعترف به من الأوصاف. فإذا قال ذلك، قلنا: ارتَقِ، وزِدْ، فإن زاد زيادةً لا تليق أيضاً بالأوصاف، كلفناه الرقي، ولا يزال كذلك حتى ينتهي إلى مبلغٍ، قد يُظن أنه يليق بالأوصاف التي ذكرها.
ولو أقام المالك بينةً على الأوصاف، فقد ذكرنا أن القيمة لا تعتمدها، ولكن المالك يستفيد إبطالَ دعوى الغاصب مقداراً حقيراً، فلا فرق بين أن تثبت الأوصاف بقول الغاصب وبين أن تثبت بتحلية الشهود ووصفهم.
4625 - وإن قال المالك: قيمة العبد ألف، وقال الغاصبُ: بل خمسمائةٍ، فأقام المالك بينة أن القيمة كانت أكثر من خمسمائةٍ، ولم تتعرض البينة لضبطٍ، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن البينة تُسمع على هذا الوجه، وفائدة السماع أن يكلَّف الغاصبُ أن يزيد على الخمسمائة، ويرقَى، كما ذكرناه في الأوصاف، فإن زاد، فقالت البينة: كانت القيمة أكثر من هذا، فنكلفه الزيادة إلى أن ينتهي إلى موقف لا يقطع الشهود أقوالهم بالزيادة عليه.
وقال بعض أصحابنا: لا تقبل البينة على هذا الوجه. وهذا ساقط غيرُ معتد به، وذهولٌ عن الحقيقة؛ فإن الجهالة إنما تقدح إذا كنا نبغي معها إثباتَ مقدّرٍ (3)؛ ولسنا نبغي في هذا المقام إثبات مقدَّرٍ، وإنما نطلب إبطالَ قول الغاصب، وذلك ممّا يمكن التوصل إليه على تحقيقٍ. والعلم بالمشهود به إنما يشترط إذا كان المطلوب معلوماً، فإذاً الغرض يحصل في تكذيب المدعى عليه بالجهة التي ذكرناها؛ فالوجه قبول البينة، مع الإبهام.
__________
= ونادرُ الجبل ما يخرج منه ويبرز. والرِّدف: العجز (معجم، ومصباح).
(1) في النسختين حديج بالحاء المهملة. وخديج الساقين بالمعجمة: أي دقيق الساقين، من خدج الصلاة: نقصها. (معجم، ومصباح).
(2) أي غير شديد البروز والنتوء للكعبين. والعرب تتمدّح بامتلاء موضع الخلخال.
(3) (ت 2): مقدور.

(7/244)


ولا يختص ما صورناه بالغصب. فلو ادّعى رجل على رجل ألف درهم، فاعترف المدعى عليه بخمسمائةٍ، فأقام المدعي بينةً على أن له عليه أكثرَ من خمسمائة، فالأمر فيه على التفصيل الذي ذكرناه.
فصل
قال: "ولو كان ثوباً، فصبغه ... إلى آخره" (1).
4626 - الغاصب إذا غير المغصوب نوعاً من التغيير، وأحدث فيه صِفةً، فلا يخلو إما أن يكون ما أحدثه أثراً، أو عيناً، فإن كان أثراً، مثل أنه كان غصب حِنطةً، فطحنها، أو دقيقاً، فعجنه، وخبزه، أو شاة، فذبحها، أو لحماً، فطبخه، أو قطناً، فغزله، أو غزلاً، فنسجه، أو نُقرةً، فطبعها، أو تراباً، فضربه لَبِناً، أو ثوباً، فقَصَره، فهذه، وما في معانيها آثارٌ؛ فإنها تثبت من غير مزيدِ عين، والقول في جميعها على نسق واحد.
فنقول: إن اقتضت هذه الآثار نقصاناً، فالحكم فيها أنه يجب ردُّ العين على ما هي عليها، مع أرش النقص.
وإن اقتضت الآثار زيادةً، فالعين مردودة على مالكها على ما هي عليها، ولا حق للغاصب في الزيادة التي حدثت بسبب فعله. ولا خلاف أن هذه المعاني لا تلتحق في حق الغصب بالأعيان الزائدة، وقد ذكرنا في كتاب التفليس قولين في أن القِصارة، وما في معناها إذا صدرت من المشتري، ثم أفلس بالثمن، فتيك الزيادة أثرٌ أوْ عين.
وقد مضى القولُ مفصلاً في كتاب التفليس.
وغرضنا الآن الإشارة إلى الفرق بين البابين. فنقول: المفلس أحدث ما أحدث بحقٍّ في محل ملكه وحقه، فيجوز ألا يضيع سعيُه في تحصيل تلك الزيادة. والغاصب المعتدي ظالم بما أحدثه، فلا نقيم لسعيه وزناً، ونخيّب عملَه وظنَّه.
وممَّا ذكرناه في التفليس أن المشتري لو استأجر قصاراً، فقَصَر الثوبَ المشترى،
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 41.

(7/245)


فقد نقول: إذا أفلس المشتري، فللقصار تعلُّقٌ بالثوب، لأجل ما حصّله من القِصارة، ولا سبيل إلى تخيّل مثل ذلك في الغصب، فالآثار التي تضمنت مزيداً انقلبت إلى المالك لا محالة، لا حظ فيها للغاصب، ولا تعلق بها للعامل.
ولو أحدث الغاصب أثراً، واقتضى زيادةً: مثل أن يغصب نُقرة فيطبعها دراهم، وازدادت قيمتُها لذلك، أو غصب تراباً، فضربه لَبِناً، فلو أراد المغصوب منه أن يكلفه ردَّ الدراهم تبراً بالإذابة والسبك، وردَّ اللبن تراباً بالدق، فالذي قطع به الأئمة أن له أن يكلفه ذلك، ولا نظر إلى تتبع (1) الأغراض؛ فإنها على الجملة ممكنة (2). وإذا أمكن غرضٌ، لم تَجْرِ (3) مطالبة المالك بإظهاره. وهذا مقطوع به في الطرق. وفيه تنبيهٌ على أصلٍ، وهو أن من غصب شيئاً على صفةٍ وغير صفتها، فهو على حكم هذه القاعدة مطالبٌ بردّ صفتها إذا كان ردُّها ممكناً. وهذا غائص يتعيّن حفظه.
ويقرب منه ردُّ التراب إلى الحفائر، وتسويتُها به، وهو يستند إلى أصلٍ آخر، وهو رد المغصوب إلى المكان الذي غصبه منه. والذي ذكرناه الآن إعادةُ الصفات لأعيانها.
ولو هدم رجلٌ جدار إنسانٍ، فلا يكلف إعادتَه؛ فإنه لا يتأتى إعادتُه على النعت الذي كان عليه إلا أن يكون منضداً من غير ملاطٍ، (4 فتكليف تنضيد أحجارٍ من غير استعمال ملاط 4) يلتحق برد التراب المنقول إلى موضعه.
ولو رضي المغصوب منه بالدراهم، فقال الغاصب: أردها سبائك، لم يكن له ذلك؛ فإنّه لا غرض له في ذلك، ولا يتوصل إليه إلا بملابسة (5) ملكِ غيره، والتصرفِ فيه، فلا يجاب إلى هذا. وطم البئر إنما ساغ للغاصب على التفصيل المقدَّم بسبب ما فيه من تعرضه للضّمان والعدوان.
__________
(1) كذا في النسختين: "تتبع الأغراض" والمعنى المفهوم بوضوح من السياق: أنه لا نظر في أغراض الملاك، وتتبّعها؛ لنرى هل هي معقولة مقبولة، أو لا معنى لها، مثل دقِّ اللبِن وإعادته تراباً؛ فذلك لا اطلاع عليه، لأن الأغراض في الجملة ممكنة مهما بعد تصورها.
(2) ممكنة: بمعنى محتملة.
(3) في (ت 2): "لم يجز".
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(ت 2): بملك يثبه ملك غيره.

(7/246)


وعند هذا المنتهى سر، وهو أنا لا نجوّز لحافر البئر طمَّها ليبرأ عن الضّمان؛ إذ لو كان المعنى هذا، لما بالينا بتورطه في الضّمان، ولقلنا: أنت الذي ورطت نفسك في هذا الضمان، ولكن المعتبر أن قطع العدوان واجب، فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه من لطيف الكلام.
ولو كان قَصَر الغاصب الثوبَ، فليس من الممكن أن يكلفه المغصوبُ منه رده إلى البت (1)، فلا تكليف في هذا، وما يناظره.
4627 - وذكر الأئمة في قسم الآثار (2) مسائلَ تستفاد ذكرنا بعضها فيما سبق، ونحن نجمعها الآن: لو غصب عصيراً، فانتهى في آخر أمره إلى حموضة الخل؛ فإنه يرد الخلَّ، وهل يضمن العصير؟ فيه وجهان: أحدهما - أنه لا يضمن؛ فإنه ردَّ عين ما غصب، ولكن صفته حائلة، فينظر في نقصان القيمة على التفصيل المقدم.
والثاني - يضمن العصير؛ فإن الذي رده خل، وقد صار العصير خمراً في يده، ثم صارت الخمر خلاً، ولما انقلب العصير خمراً، وجب إذ ذاك مثلُ العصير؛ فإنه باشتداده خرج من أن يكون مالاً، فما أوجبناه من المثل لا يزيله، والخل رزقٌ ساقه الله إلى المغصوب منه.
ومن هذا الجنس ما لو غصب بيضة فأحضنها دجاجة، ففرخت، فيجب ردّ الفرخ على مالك البيضة، وهل يجبُ على الغاصب قيمةُ البيضة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب؛ لأنها تصير مَذِرَة (3)، ثم تنقلب فرخاً، والمذِرة لا قيمة لها كالخمر.
والثاني - لا يجب ضمان البيضة، كما تقدّم في العصير.
ولو غصب بَذراً، فَزَرَعَه فنبت وتَسَنْبل، وأَدْرَك، فلا شك أن الزرع لمالك البذر، وهل يغرَم الغاصب مثلَ البذر للمغصوب منه؟ فعلى وجهين؛ لأن البذر يتعفن، ويخرج عن المالية، ثم يُنبت.
__________
(1) البتّ: كساءٌ غليظ من صوف أو وبر. (معجم) فالمعنى أن البتّ هو الثوب الخام الذي لم تدخله القصارة، وهي دق الثوب وتبييضه (المعجم).
(2) قسم الآثار: أي الآثار التي يحدثها الغاصب فيما غصبه.
(3) مذرة: من مذرت البيضة إذا فسدت (مصباح).

(7/247)


4628 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو غصب خمراً، فصارت في يده خلاً، أو غصب جلد ميتة، فدبغها، فهل يلزم رد المدبوغ والخل؟ حاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها - أنه يجب الرد؛ فإن المملوك آخراً فرعُ المغصوب، وإن لم يكن مالاً لمَّا غُصب، فيجب رد الفرع إلى من كان مختصاً بالأصل. وهذا أصح الوجوه.
والثاني - أنه لا يرد ويفوز بالخل والجلد المدبوغ؛ لأن الملك حصل في يده، وما غصب ملكاًً، فاستبدّ بما جرى الملك فيه، ولو تلفت الخمر خمراً، والجلد قبل الدباغ، لما كان يضمن شيئاً؛ فهذا إذن فائدةٌ مستجدة، حصلت في يد الغاصب.
والوجه الثالث - أنه يمسك الخل، ويفوز به، ويردّ الجلدَ، والفرق أن الخمر لا يحل اقتناؤها لتُعالج، وجلود الميتات تُقتنى للمعالجة.
والأصح الوجه الأول.
ويمكن أن يقال: الخلاف في الخمر مفروض في الخمرة المحترمة حتى تناظرَ الجلدَ قبل الدِّباغ.
ولو أخذ خمراً مستحقة الإراقة، ولم يتفق منه إراقتُها حتى انقلبت في يده خلاً، فالظاهر عندنا القطع بأنه يفوز بالخل؛ فإن تيك الخمر، لم تكن مستحقة، ولم يكن فيها اختصاصٌ، بل كانت مضيّعة في حكم التالفة التي لا حق فيها ولا اختصاص، فمن استفاد منها خلاً، كان ذاك رزقاً مبتدأً في حقه.
وليس تخلو هذه الصورة عن احتمالٍ أيضاً.
وكل ما ذكرناه آثار مجرَّدة، ليس فيها إحداث عين.
4629 - فأما إذا أحدث في العين المغصوبة عينَ مالٍ، مثل: إن غصب ثوباً، فصبغه.
في هذا الفصل (1) اضطراب في الطرق، وتباينٌ بيّن، ونحن نرى أن نسوق ترتيباً هو الأصل عندنا في المذهب، ونُلحق ما يليق به من الوجوه الغريبة، ثم إذا نجز، ذكرنا بعد نجازه ما نراه خارجاً عن قاعدة المذهب، مما نقله الأئمة، فنبتدىء ونقول:
إذا صبغ الغاصب الثوب بصِبغٍ، لم يخلُ إما أن يكون الصِّبغ للغاصب، وإما أن يكون
__________
(1) في (ت 2): "وفي هذا الفصل".

(7/248)


لمالك الثوب، وقد غصبه مع الثوب، وإما أن يكون لأجنبي، وقد كان غصبه منه.
فأمّا إذا كان الصِّبغ ملكَ الغاصب، فيتصور الثوب والصِّبغ على صور، ونحن نأتي عليها، ونذكر في كل صورة ما يليق بها.
ونقول: قد يزداد الثوب بسبب الصبغ، وقد ينقص، وقد يبقى على القيمة الأولى: من غير زيادةٍ ولا نقصانٍ. فإن لم يزدد، ولم ينتقص، وتصويره أن قيمة الثوب لو كانت عشرة، وقيمة الصبغ عشرة، وكان الثوب بعد الصبغ يساوي عشرين، فهذا هو الذي عنيناه. فالثوبُ على قيمته، والصبغ على قيمته.
والقول في ذلك ينقسم، فلا يخلو: إمَّا أن يكون الصبغ معقوداً لا يتأتى فصله، وإمّا أن يكون غير معقود، وكان فصله ممكناً. فإن كان الصبغ معقوداً، فالثوب المصبوغ مشترك بين مالك الثوب والغاصب، وليس ذلك كالقِصارة وما في معناها؛ فإن الصبغ عينٌ قائمة؛ فلا سبيل إلى إحباطها، وإبطالِ ملك مالكها فيها، ولا وجه لتمييز الصبغ عن الثوب؛ فإنا فرضنا الكلام في الصبغ المعقود، الذي لا يتميز (1). ثم لا يملك صاحبُ الثوب إجبارَ الغاصب على البيع، والغاصب لا يُجبر صاحبَ الثوب على البيع، فإن اتفقا على البيع وباعا الثوب المصبوغَ بما يساوي، وهو عشرون، فالثمن مقسوم بينهما، وإن وجدا زبوناً، واشترى الثوب بثلاثين، فالمبلغ مقسوم نصفين بينهما.
وإنّما لم يُجبر أحدُهما على مساعدة صاحبه في البيع؛ تنزيلاً للثوب مع الصبغ منزلةَ ملكٍ مشترك بين شريكين، لا يقبل القسمة؛ فإن واحداً منهما لا يُجبر صاحبه على البيع، وإن كانت القسمة متعذرة، فلكل واحدٍ من الشريكين أن يبيع حصته من الملك المشترك.
وهل يملك كلُّ واحدٍ من صاحب الثوب والصبغ أن يبيع ملكه على حياله؟ القياس أنه يملك اعتباراً بالملك المشترك بين شريكين الذي لا يقبل القسمة.
ويجوز أن يقال: لا ينفذ البيع؛ فإنه لا يتأتى الانتفاع بالثوب وحده، ولا بالصبغ. والبيعُ فيما يعسر الانتفاع به قد يفسد. والملك المشترك يفرض التوصل إلى الانتفاع به بالمهايأة.
وهذا الذي ذكرناه يشبه بيعَ دارٍ لا ممر لها، وقد ذكرنا في صحة بيعها خلافاًً.
__________
(1) لا يتميز: أي لا ينفصل من الثوب.

(7/249)


هذا تفصيل القول فيه إذا لم تزد قيمةُ الثوب والصبغ، ولم تنقص.
4635 - فأمّا إذا كان الثوب يساوي عشرة، وكان الصبغ يساوي عشرة، فصبغَ الغاصب الثوبَ بصبغه، وعقده، فإذا الثوبُ المغصوب يساوي عشرة، فقد سقطت إحدى القيمتين، واتفق أئمتنا على أن النقصان محسوب من الصِّبغ، فلم يبق إلا قيمةُ الثوب، فالثوب المصبوغ مسلمٌ لصاحب الثوب، لا حظَّ فيه لصاحب الصِّبغ؛ فإن الأصل الثوبُ، والصبغ وإن كان عيناً فهو في حُكم الصفة للثوب، فكأن الصِّبغ قد انمحق، وما ذكرناه في الغاصب وصبغه، ليس بدعاً، إذ قد ذكرنا في كتاب التفليس أن من اشترى ثوباً قيمتُه عشرة، وصبغه بصبغٍ من عنده قيمتُه عشرة، فإذا الثوب المصبوغ يساوي عشرة، فإذا أفلس المشتري بالثمن، وحُجر عليه، فبائع الثوب يرجع في عين الثوب المصبوغ، ويستبدّ به، وإن كان فيه عينُ الصبغ، فإذا كنا نقول ذلك، وقد حصل استعمال الصبغ (1 من المشتري المالك، فالغاصب المعتدي باستعمال الصِّبغ 1) بأن يسقط حقه أولى.
وعلى حسب هذا نقول: إذا طيرت الريح ثوباً لإنسان وألقته في إجّانةِ صباغ، فانصبغ، وما ازدادت قيمةُ الثوب، وتعلق بالثوب من الصِّبغ ما قيمته خمسة، ولم ترتفع قيمةُ الثوب، وكان الصبغُ معقوداً، فقد حبط حق مالك الصِّبغ.
وإن قال قائل: لم يَعْتدِ مالكُ الصبغ، فلِمَ يحبط حقُّه؟ قلنا: لم يظهر للصِّبغ أثر في الثوب، فصار كما لو طيرت الريح جِرمَ الصِّبغ. ومن تعجب من ذلك، رددناه إلى مسألة المفلس؛ فإن المشتري المفلس تصرف في ملك نفسه، واستعمل في الثوب المملوكِ الصِّبغَ المملوكَ، ثم أحبطناه في الصورة التي نحن فيها.
هذا كله إذا سقط مقدار قيمةِ الصِّبغ بالكلية.
4631 - فأمّا إذا لم تسقط، [ولكن نقصت] (2) فكان الثوب يساوي عشرة، والصِّبغ يساوي عشرة، وكان الثوب المصبوغ يساوي خمسةَ عشرَ، فالنقصان محسوبٌ من
__________
(1) سقط من (ت 2) ما بين القوسين.
(2) زيادة من (ت 2).

(7/250)


قيمة الصِّبغ، وقيمةُ الثوب نقدرها عشرة، كما كانت. وإذا بعنا الثوب برضاهما، فالثمن مقسوم بينهما أثلاثاً. ولو زادت قيمة الثوب المصبوغ على قيمة الثوب وحده، وعلى قيمة الصِّبغ وحده (1)، فإذا وفت القيمتان، حسبنا الزيادة منسوبة إليهما على مقدارهما.
وبيان ذلك: أنا قدَّرنا الثوب عشرة والصبغ عشرة، ثم وجدنا الثوب المصبوغ يساوي ثلاثين، فالقيمتان متساويتان، والزيادة مفضوضةٌ عليهما بالسوِيَّة. فإذا بيع الثوب، فلمالك الثوب خمسة عشر، ولصاحب الصِّبغ خمسةَ عشرَ. فهذا قياس الباب.
والضابطُ فيه. من طريق الحساب أنا إذا لم نجد بعد الصِّبغ إلا مقدارَ قيمة الثوب غيرَ مصبوغ، فقد انمحق الصِّبغ، فالمصبوغ لصاحب الثوب. [وإن] (2) وجد الثوب المصبوغ ناقصاً عن القيمتين، احتسب الثوبُ على كمال قيمته قبل الصبغ، واحتسب النقصان كله من الصِّبغ. وإن وفت القيمتان، اعتبرناهما جميعاً. وإن زادت قيمة المصبوغ على قيمة الثوب والصبغ مفردين، فالزيادة على القيمتين مفضوضةٌ عليهما.
ولو وجدنا المصبوغ أقلَّ قيمةً من الثوب قبل الصبغ، فقد انتقص الثوب بذلك المقدار، فعلى الغاصب ردُّ الثوب، وأرشُ ما نقص. وهو كما لو كان الثوب وحده عشرة، والصِّبغ عشرة، والثوب المصبوغ ثمانية، فالغاصب يرد الثوب، ودرهمين.
وقد انمحق الصبغ.
وكل ما ذكرناه في الصبغ المعقود الذي لا يتأتى فصله أصلاً.
4632 - فأمّا إذا كان فصل الصبغ ممكناً، فالذي ذهب إليه المراوزة أن للغاصب أن يفصل الصبغ؛ فإنه عين ماله، ثم لم يفرقوا بين أن يكون للصِّبغ المفصول قيمةً، وبين ألا يكون لها قيمة، وبين أن تكون قيمتها (3) نَزْرةً بالإضافة إلى ما كان الصِّبغ عليه قبل الاستعمال، واعتمدوا فيه أنه عينُ مال الغاصب، (4 فهو أولى به 4) من غير التفاتٍ إلى أصل القيمة ومقدارِها.
__________
(1) (ت 2): بعده.
(2) في الأصل: فإن.
(3) كذا. فإن الصِّبغ يذكر ويؤنث. (معجم).
(4) سقط من (ت 2) ما بين القوسين.

(7/251)


ثم قالوا: لو لم يطلب الغاصبُ فصلَ الصِّبغ، فلصاحب الثوب أن يجبره على الفصل، مَصيراً إلى تفريغ الثوب عنه، ثم لا نظر إلى القيمة، كما ذكرناه.
ثم قالوا: إذا فصل الغاصب الصّبغ، بإرادته واختياره، أو فصله بإجبار مالك الثوب إياه، فإن كانت قيمة الثوب بعد فصل الصبغ كقيمته قبل استعمال الصِّبغ، فلا كلام، والثوب مردود على مالكه، وإن نقصت قيمة الثوب بعد فصل الصِّبغ، عن قيمته قبل استعمال الصبغ، فعلى الغاصب أرشُ النقصان؛ لانتسابه إلى العدوان في استعمال الصبغ ابتداءً. هذا والأمر مفروض في فصل الصبغ.
فإن تراضيا على بيع الثوب مصبوغاً، فالقول في الثمن والحالة هذه، كالقول فيه إذا كان الصبغ معقوداً.
هذا طريق المراوزة.
وقال العراقيون: إن أمكن فصلُ الصبغ من غير نقصانٍ في قيمة الصبغ، فللغاصب الفصل، ولمالك الثوب الإجبارُ عليه.
وإن كان الصبغ المنفصل لا يساوي شيئاًً، أو كان يساوي مقداراً نزراً، بالإضافة إلى قيمة الصبغ قبل الاستعمال، وكان الغاصب الذي هو صاحب الصبغ يبغي أن يُبقي الصبغ، ولا يزيله؛ حتى لا يحبطَ ملكُه، أو لا يخسر خسراناً مبيناً، وليقع التصوير فيه إذا كان الثوبُ المصبوغ يساوي عشرين، فصاعداً، والصبغ لو فصل، لما كانت له قيمة، أو كانت نزرة. فإذا أراد الغاصب ألا يفصل، وأراد صاحب الثوب أن يُلزمه الفصلَ، وإن كان الفصل يؤدي إلى تخسيره، قال العراقيون: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يُجبَر الغاصبُ على إزالته، بل يُجبر مالكُ الثوب على تبقيته، ويكونان شريكين في الثوب. قالوا: وهذا اختيار ابن سريج، ووجهه أن صاحب الثوب متعنت، في تكليف الغاصب إزالة الصبغ؛ وليس يتعلق بهذا غرض صحيح.
والوجه الثاني - أنه يُجبر على الإزالة إذا طلب مالك الثوب. قالوا: وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي، وابنِ خَيْران، وتعليلُه ما ذكرناه في طريق المراوزة.
هذا إذا طلب مالك الثوب فصلَ الصبغ، ولم يرض به الغاصب. فأما إذا رضي

(7/252)


صاحب الثوب بتبقية الصبغ، وأبى الغاصب، وطلب أن يفصل صِبغه، فإن كان لا ينتقص الثوب بفصله، فهو مجابٌ إلى ما يريد من فصل الصبغ؛ فإنه عين ماله، ولا ضرر على صاحب الثوب بفصله، ثم لا نظر إلى قيمة الصبغ، سقطت أو نقصت.
فإن كان فصل الصبغ يؤدي إلى إلحاق نقصٍ بالثوب، بأن كان يرده إلى تسعةٍ، أو ثمانية، ولو ترك الصبغ، اشتري بالعشرين مثلاً، فيعود في هذه الصورة الخلاف الذي حكاه العراقيون: ففي وجهٍ لا يمكَّن الغاصبُ من فصل الصبغ؛ لأنه ليس له في فصله غرض صحيح، وفيه تنقيص الثوب في الحال، إلى أن نفرض جُبران النقصان بالضّمان، وفي وجهٍ يجاب الغاصب إلى ما يريده، ثم إن كان نقصٌ جَبَره. وهذا قياس المراوزة.
ولا يخفى على النّاظر في قياس القواعد أن الوجه ما قطع به المراوزة، وما عداه خبط وتخليط، لا ينضبط فيه رأي، وإنما هو استصلاحٌ محض، لا معوّل عندنا على مثله.
ثم قد أَدَرْنا في تفصيل الكلام تصويرَ نقصان الصبغ إذا فُصل، وتصوير سقوط قيمته على رأي العراقيين في تخريج الوجهين، فالذي يقتضيه فحوى كلامهم أن الخلاف يختص بسقوط قيمة الصبغ، أو سقوط معظمها عند تقدير الفصل. فالذي يقتضيه القياس مع التزام أصلهم أنه إذا كان الصبغ المفصول يسقط من قيمته ما لا يتغابن الناس في مثله بالإضافة والنسبة إلى ترك الصّبغ في الثوب، فيطّرد الخلاف، حتى لو كان الثوب المصبوغ يساوي عشرين، وحصة الصبغ منها عشرة، وكان الصبغ لو فصل يساوي تسعة، فالدرهم الناقص مما لا يتغابن الناس في مثله، فيظهر من فصل الصبغ تخسير معتبر، ويلزم منه طرد الخلاف الذي ذكروه.
4633 - ونحن الآن نُلْحِق بطريق المراوزة وهي اختيار أبي إسحاق المروزي -فيما حكاه العراقيون- تفريعَ حكم آخر، فنقول: إذا كان مالك الثوب يملك إجبار الغاصب على فصل صبغه، وكان الغاصب يتعب بفصله مثلاً، فقد ذكرنا أنه مجبر عليه، فلو قال: تركت الصبغ على مالك الثوب نِحْلة وهبةً، فلا تطالبوني بتكليف فصله، فكيف السبيل في ذلك؟ ذكر الأئمة وجهين: أحدهما - أن صاحب الصبغ يجاب إلى

(7/253)


ملتمسه، فيدخل الصبغ في ملك صاحب الثوب قهراً وإن لم يُرِدْه.
والوجه الثاني - أنّه لا يجاب صاحب الصبغ إلى ذلك، بل يجبر على فصل الصبغ وإن لاقاه من الكلفة ما لاقى (1).
توجيه الوجهين: من قال لا يجاب الغاصب، فهو متمسك بالقياس الكلي؛ فإن (2) إجبارَ مالك الثوب على الملك في الصِّبغ خارج عن القانون، وتكليف الغاصب ما يتعبه محمولٌ على نتيجة عدوانه.
ومن قال: يجاب الغاصب، اعتقد الصِّبغ في حكم الصفة التابعة، وقال للمالك: إذا كنت لا تخسر شيئاًً، وقد صار الصبغ صفةَ ثوبك، فاحتمله.
وظاهرُ المذهب أن من اشترى فرساً وأنعله، لما قبضه، ثم اطلع على عيبٍ قديمٍ به، ولو كلفناه قلعَ النعل، لعاب الفرس عيباً حادثاً، ولامتنع ردُّه بالعيب القديم لمكان العيب الجديد الذي يحدثه قلعُ النعل، فللمشتري رد الفرس منعلاً، ثم النعل يدخل في ملك المردود عليه. هذا ظاهر المذهب، وقد فصلتُه في كتاب البيع، في فصول الرد بالعيب.
وهذا يفارق الخلاف الظّاهر الذي ذكرناه بين الغاصب والمغصوب منه في الصبغ، والفرق أن المشتري ليس متعدِّياً؛ فإنه أنعل الفرس الذي ملكه بالشراء، ثم فُرض الاطلاعُ على العيب، فلم يكن المشتري منتسباً إلى التقصير. وبناءُ أمر الغاصب على العدوان، فهو بألا يجاب إلى ملتمسه أوْلى.
هذا بيان قاعدة الكلام في ذكر الخلاف.
4634 - ثم اختلف (3) أئمتنا في محل الوجهين المذكورين في الغاصب وصِبغه.
وحاصل ما فهمنا من نقل الأئمة وفحوى كلامهم ثلاثُ طرقٍ في محل الوجهين: إحداها للعراقيين، وهي: أنا لا ننظر إلى ضررٍ ينال الغاصب، ولكنّا نطلق
__________
(1) كذا. والمتبادر: ما لاقاه.
(2) (ت 2): قال.
(3) (ت 2): ذكر.

(7/254)


الوجهين، مهما (1) أراد ترك الصبغ على مالك الثوب، والمتبع عندهم اتصال الصبغ بالثوب، وقيامُه فيه مقامَ الصفة، قالوا: سواء كان ينتقص الصبغ لو فصل، أو لا ينتقص، وسواء كان ينتقص الثوب، و [يُلزم] (2) انتقاصُه الغاصبَ الضّمانَ، أو كان لا ينتقص، فمهما ترك الغاصب الصبغ على مالك الثوب، فالوجهان جاريان، ومعتمد جريانهما الاتصال، وقيام الصبغ مقام الصفة. وطرد هؤلاء الوجهين في الصبغ المعقود الذي لا يفرض فصله، فقالوا: لو تركه الغاصب، وأراد أن يُملِّكه صاحبَ الثوب، فالوجهان يجريان.
وهذه طريقة بعيدة.
ومن (3) أصحابنا، من قال: إذا كان على الغاصب تعبٌ في فَصْل الصِّبغ، فإذ ذاك يجري الوجهان: إذا أراد تَرْكَ الصبغِ على مالك الثوب، وكذلك إذا كان لا ينتفع به لو فصله، أو كان يثبت له قيمةٌ نزرة، فيجري الوجهان في هذه الصورة.
فأمّا إذا تيسر الفصلُ وللصبغ المفصول قيمةٌ معتبرة، يطلب مثلُها، أو كان الصبغ معقوداً، فإذا سَمَح صاحب الصبغ في هذه المنازل، فأراد أن يتركه ملكاً على صاحب الثوب، فلا يجاب إلى ملتمسه، بل إذا كان معقوداً، فالشركة قائمة، وإن لم يكن معقوداً، أجبر على فصله إذا لم يكن تعبٌ ولا سقوطُ معظم القيمة. ولعل هذا القائل يقيس التعب بما يبقى من القيمة، فإن كان ما يبقى من القيمة لا يفي بالتعب الذي يلقاه المزيل، فهو من صور الوجهين. وإن كان يفي بالتعب ويزيد، فلا إجبار على التمليك. وإن كان يفي بالتعب، ولا يزيد، فلا فائدة إذاً ويجري الوجهان.
هذا بيان الطريقة الثانية في محل الوجهين.
ومن (4) أصحابنا من قال: الغاصب مجبر على إزالة الصِّبغ إذا كان لا يؤثر فصلُه في تنقيص قيمة الثوب، كيف فُرض الأمر في الصبغ، ولا نظر إلى التعب، ولا إلى
__________
(1) (مهما): بمعنى (إذا).
(2) في الأصل: ونلزمه.
(3) هذه هي الطريقة الثانية.
(4) هذه هي الطريقة الثالثة.

(7/255)


سقوط قيمة الصبغ. وإن كان فصلُ الصبغ ينقُص قيمةَ الثوب، فأراد الغاصب ترك الصبغ؛ حتى لا يحتاج إلى غرامة أرش النقص الذي يلحق الثوبَ، فإذ ذاك يخرّج الوجهان في أنه هل يجاب إلى ملتمسه. وصاحب هذه الطريقة يقابل أرش النقص بقيمة الصِّبغ المفصول، فإن كانت قيمةُ الصبغ تفي بأرش النقص، أُجبر الغاصب على الفصل، وإن كانت قيمةُ الصبغ لا تفي بأرش النقص، فإذ ذاك نُجري الوجهين.
هذا بيان أصل الوجهين. وذُكر الاختلاف في محلها.
ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إجابة الغاصب في الصبغ المعقود، إلا ما ذكرناه من طريقة العراقيين.
4635 - ومما تتم به هذه التفاريع: أنا حيث لا (1) نوافق الغاصبَ، ولا نجيبه إلى ما يبغيه، فإذا أراد هبة الصبغ، فلا بد من رعاية شرائط الهبات: من فرض الهبةِ من صاحب الصِّبغ، وقبوله (2) من صاحب الثوب.
وحيث قلنا: يجاب الغاصبُ إلى ما يلتمسه، فلا حاجة إلى قبول صاحب الثوب، ولا بد من لفظ يصدر من صاحب الصِّبغ، ويجوز أن يقال: يكفي أن يقول: تركت الصبغ على صاحب الثوب، ولا حاجة إلى لفظ الهبة، وما يقوم مقامه؛ فإنا إذا كنا لا نشترط القبولَ، فمجرد لفظ الهبة لا معنى لاشتراطه، ولكن لابد من لفظة تشعر بقطع حق الغاصب، كقوله: أعرضت، أو تركت، أو أبرأت عن حقي، أو أسقطت، ولا شكّ أنه لا يقع الاكتفاء بلفظ متردد بين الإعراض وبين التَّوقف. ويجوز أن يقالَ: لا بد من لفظ يشعر بالتمليك والتبرع، وإن كنا لا نشترط القبول، فينزل لفظ التبرع مع سقوط القبول منزلةَ لفظ الأب إذا وهبَ من طفله شيئاًً، ولم نشترط القبول.
ثم إذا جرى لفظٌ نقنعُ به، والتفريع على أنه يجاب، فلو أراد أن يرجع، فهو رجوع في هبة تامةٍ. والكلامُ مفروض فيه إذا كان الثوب في يد مالكه.
فليتأمّل الناظر ما نلقيه من أعواص الكلام في هذه التفاصيل.
__________
(1) (ت 2): نوافق (بدون لا النافية).
(2) كذا: ولعلها مراعاة للفظ الصبغ.

(7/256)


ومما يبقى علينا بعد هذا الإيضاح فروعٌ نرسمها نستدرك ما يُقَدَّر شذوذه عن ضبط الأصول.
فرع:
4636 - إذا كان الصبغ معقوداً، وأثبتنا صاحبَ الثوب والغاصبَ شريكين، فلو قال صاحب الثوب: أنا آخذ الصِّبغ بقيمته، وهو معقود، أو كان الصبغ بحيث يتصوّر أن يزال على يسر أو عسرٍ، فإذا أراد أن يأخذ الصبغ بقيمته، لم يُجب إلى ذلك. وهكذا إذا غرس الغاصب في الأرض المغصوبة، فقال المالك: أنا آخذ الغراس بالقيمة، لم يكن له ذلك. هكذا ذكره القاضي. وليس كما لو أعار أرضاً، فغرسه (1) المستعير، ثم رجع المعير في العاريّة، وطلب أخذ الغراس بالقيمة، فقد يجاب إلى هذا في تفاصيلَ قدمنا ذكرها، والفرق بين القاعدتين أن المعير لا يتمكن من قلع ملك المستعير أو إجباره على القلع مجّاناً؛ فكان فيه حاجة إلى الأخذ بالقيمة في بعض مجاري الكلام. والمغصوب منهُ متمكن من إلزام الغاصب إزالة ملكه مجاناً، وهذا واضح لا شكّ فيه.
فرع (2):
4637 - إذا كان الثوب يساوي عشرة، وكان الصبغ يساوي عشرة، والثوب المصبوغ يساوي ثلاثين.
وقد ذكرنا أنهما إذا رضيا ببيع الثوب، فالثمن مقسوم بينهما نصفين. فلو كان الصبغ بحيث يمكن إزالته، فإن أراد الغاصبُ فصله، فله ذلك. ولكن إن بقي الثوب بعد فصله مساوياً خمسةَ عشرَ، فذاك. وإن نقص الثوب عن خمسةَ عشرَ، فعلى الغاصب ضمان النقصان. والظاهر أنه ينقص إذا فصل الصبغ، إلا [أن يفرض] (3) في الثوب تغيير سوى استعمالِ الصبغ. والغرض أن الخمسة عشر محسوبة على الغاصب إذا اختار فصلَ الصبغ.
__________
(1) كذا بضمير المذكر، في النسختين، وعود الضمير مذكراً على مؤنث، والعكس سائغٌ بتأويل.
(ر. شواهد التوضيح: 143) ويمكن تأويلها هنا (بالحقل).
(2) يبدأ من هنا اعتماد نسخة 345 (د 2) أصلاً. ونسخة 325 (ت 2) نصاً مساعداً، ويضاف إليها أيضاً نسخة (ي).
(3) في الأصل ألا يفرض، والمثبت من (ت 2)، (ي).

(7/257)


فإن قيل: لم قلتم ذلك؟ وهلا اعتبرتم قيمةَ الثوب في الأصل وهي عشرة، فاعتبروا النقصان منها، ولا تحسبوا على الغاصب غيرها؟ قلنا: الخمسة الزائدة في قيمة الثوب زيادةٌ حصلت في الثوب في يد الغاصب -وإن كانت بفعله- فهي محسوبة عليه، ومحمولةٌ على الزيادة التي تحصل بالآثار التي ليست أعياناً، كالقِصارة وما في معناها، فشابهت الزيادةُ (1) التي ذكرناها ما لو غصب الرجل جوهرَ الزجاج، وقيمتُه درهم، ثم اتخذ منه قدحاً قيمتُه عشرة، فلو انكسر القدح، فكان الزجاج المنكسر يساوِي درهماً، فعلى الغاصب التسعةُ الناقصة بسبب الكسر.
هذا إذا أراد الغاصِب فصْل الصّبغ.
ولو لم يرده، ولكن أجبره مالك الثوب على فصله، فإن رجعت قيمةُ الثوب إلى عشرة، فلا يغرَم الغاصب بسبب نقصانِ الخمسة التي كانت زادت شيئاًً؛ فإن المالك أجبره على الإزالة. وإن نقص من العشرة شيء، فيلزم الغاصب حينئذ ما ينقص من العشرة؛ فإن هذا محمول على عدوان الغاصب باستعمال الصبغ ابتداء. وهذا بمثابة ما لو غصب نُقرةً قيمتها دينار، فصاغ منها حلياً قيمتُه دينار وسدس، فأجبره المغصوب منه على رد الحلي تبراً. فإن كان التبر يساوي ديناراً، فلا شيء على الغاصب. وإن نقص التبر عن الدينار، فعلى الغاصب ذلك النقصان المنسوب إلى الدينار. وهذا بيّنٌ لا إشكال فيه.
فرع:
4638 - إذا كان الثوب المصبوغ يساوي ثلاثين كما صوّرناه، ثم انحط السعر، فصار ذلك الثوب يساوي عشرة، فهذه الحطيطة محمولةٌ على نقصان الثوب والصبغ جميعاً، فيقدر كأن سعر الثوب دون الصبغ خمسة، وقد كان عشرة، وسعر الصبغ دون الثوب خمسة، وقد كان عشرة، وإنما يحسن وقعُ هذا التصوير إذا وجدنا الأمر كذلك في الثوب والصبغ مفردين.
فلو رد الثوب، فهو شريكٌ فيه؛ فإن العين المغصوبة إذا لم تنتقص بآفة (2)، فنقصان السوق غيرُ معتبر مع رده، وقد ردّ الثوبَ، فترتب عليه كونُ مالك الثوب
__________
(1) ت 2: الزيادةَ (بالنصب).
(2) (ت 2) و (ي): صفتها، فنقصان الثوب.

(7/258)


ومالك الصبغ شريكين. [وإن] (1) كانت قيمتهما الآن مثلَ قيمة الثوب وحده لمّا غصب، فإن هذا التفاوت راجع إلى السوق، وقد أوضحنا أنَّ تفاوت السوق غيرُ معتبر مع رد العين.
فإذا تصورت المسألة على هذا الوجه، فلو نزع الغاصب الصبغ بإذن المالك (2) بعد أن عادت القيمة بالسوق إلى عشرة، فصار الثوب يساوي أربعاً، وقيمة ثوبٍ غيرِ مصبوغ الآن خمسة، فإذا انتقص خُمسُ قيمة الثوب، فلا نقول: يلزمه درهم، بل يلزمه النقصان بحساب العشرة؛ فإن ما ينتقص (3) في يد الغاصِب [يحسب] (4) عليه نقصانه من أكثر القيم، وكانت قيمة الثوب دون الصبغ عشرة، فليقع الاحتساب منها؛ فيلزمه خُمسُ العشرة وهو درهمان.
وقد انتهى غرضنا في ترتيب المذهب في قسمٍ واحدٍ من الأقسام الثلاثة التي صدّرنا بها أول فصل الصبغ، وهو إذا كان الصبغُ ملكَ الغاصب.
4639 - والآن نلحق بعد نجاز ترتيب المذهب شيئاًً حكاه صاحب التقريب أخّرناه،
ولم نر ذكره في سياق الترتيب. وذلك أنه قال: إذا غصب ثوباً، وصبغه بصبغ من عنده، وكان الصبغ معقوداً لا يُزالُ، فللشّافعي قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الغاصب يكون شريكاً في الثّوب إذا كانت قيمة الثوب المصبوغ زائدة على قيمة الثوب من غير صبغ، وهذا هو الذي قطعنا به وبنينا عليه ترتيبَ الطرق.
والقول الثاني -حكاه عن القديم- أن الصبغ المعقود لصاحب الثوب، وهو بمثابة سمن العبد المغصوب في يد الغاصب، وهذا غريبٌ جداً، لم أره لغير صاحب التقريب.
وقال أيضاً: لو كان الصبغ بحيث يمكن فصله، ولكن لو فصل، لما كانت له قيمة، فالمنصوص عليه في الجديد أن ذلك الصبغ معتبر في حق الغاصب، ثم
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) (ت 2)، (ي): الصبغ بعد أن عادت ...
(3) عبارة (ت 2) مشوشة هكذا: فإن تم لم ينتقص الغرة في يد الغاصب.
(4) في الأصل: يجب.

(7/259)


يُفصِّله (1) ما ذكره الأصحاب، إذ رتبوا المذهب كما قد بيّناه (2).
والقول الثاني - وهو فيما زعم منصوص عليه في القديم: أن الصبغ بمثابة زيادة متصلة، كالسمن ونحوه، فهو ملك صاحب الثوب وهذا الذي ذكره في الصبغ الذي يمكن إزالته في نهاية البعد؛ فإنه إن تخيل متخيل مشابهة الصبغ المعقود السمن؛ من حيث لا يتعلق فصله بالاختيار (3)، فهو فيما يمكن فصله بعيد؛ فإن صاحب العين أولى بها، وإن كانت ساقطةَ القيمة.
وكلّ هذا في قسمٍ واحدٍ.
4640 - فأمَّا إذا كان الصبغ ملكَ مالك الثوب، وكان غَصَبَ الثوبَ والصبغَ من شخصٍ واحدٍ، ثم استعمل الصبغ في الثوب. فإن كان الثوب عشرة، والصبغ عشرة، فصار الثوب المصبوغ يساوي عشرين، فلا نقصان إذاً؛ فإن كان الصبغ معقوداً، فلا ضمان على الغاصب، وإن كان بحيث يمكن إزالته، فإن رضي المالكُ به، فلا كلام. وإن أراد أن يكلفه إزالة الصبغ، فله ذلك، كما له أن يكلفه إبطال (4) الصَّنعة المجردة التي أثبتها في العين المغصوبة، وهي إذا طبع من النُّقرة دراهمَ، ثم كلف الغاصب ردها نُقرة، فله ذلك.
فلو أزال الصبغ، فانمحق، أو نقصت قيمته، أو نقص الثوب، فلا يلتزم الغاصب بسبب النقصان شيئاً؛ فإنّ كل نقصان يثبت بسبب فك الصنعة بإذن المالك، فلا يكون مضموناً. وقد ذكرنا أن المغصوب منه إذا كلف الغاصبَ ردّ الدراهم نقرة، فابتنى عليه نقصانٌ لا بدّ منه، فلا ضمان على الغاصب.
4641 - ويتعين في هذا المقام التنبيه لسرٍّ لطيف في المذهب، وهو أن الصّفات إذا فاتت في يد الغاصب لصنعة أحدثها، وقد ازدادت القيمةُ بالصنعة، ولكن خرج التبر عن كونه تبراً، فالمالك يجبر الغاصبَ إن أراد على إبطال صنعته. وليس الغرض من
__________
(1) (ت 2): تفصيله.
(2) (ت 2)، (ي): قدمناه.
(3) (ت 2): الإجبار.
(4) في (ت 2): إزالة.

(7/260)


ذلك اعتقاد استحقاق الصّفةِ التي كان التبرُ عليها قبل أن صِيغت (1) أو طبعت؛ إذ لو كنا نعتقد ذلك، لألزمنا الغاصبَ النقصان إذا سبك الدراهم نُقرةً بأمر المالك. ولكنَّا نثبت هذا الحق للمالك على الغاصبِ؛ من جهة أنا نبني الأمر على غرضٍ له في النقرة، فالمرعي في ذلك الأغراضُ، لا المالية. فليفهم الناظر ذلك. وهذا إذا لم يفسد صنعة متقومة.
فأمَّا إذا غصب حلياً لصنعته قيمةٌ، فاتخذ منه حلياً آخرَ، قيمةُ صنعته تضاهي قيمة صنعة الحلي المغصوب، فقد نقول: لا جبران (2)؛ فإنه يكسر الحلي الأوّل ثم [يصوغه] (3) مرة أخرى، [فليلتزم] (4) بالكسر أرش النقص، ثم [الصيغة الجديدة] (5) التي يحدثها لا تجبر ما تقدم من النقصان. وقد مهدنا ذلك.
ولو غصب حلياً وكسره، واتخذ منه صنفاً آخر من الحليّ، فالمغصوب منه لا يكلفه رده إلى الصنعة الأولى؛ فإن ذلك لا يمكن الوفاء به (6). وقد ذكرت ذلك فيما تقدم.
فإذا تجدد العهد بهذا، ابتنى عليه أن المغصوب منه لو كلف الغاصبَ إزالة الصبغ، فله ذلك، ولكن لو فرض نقصانٌ، لم يلزمه أرش النقصان.
ومما لا يخفى أنه لو غصب ثوباً قيمته عشرة، وغصب من مالك الثوب أيضاً صبغاً قيمته عشرة، ثم صبغ الثوب، فصار الثوب المصبوغ يساوي عشرة. فقد أتلف الغاصب الصبغَ، فيلزمه بدلُه: المثلُ إن كان من ذوات الأمثال، أو القيمةُ إن كان من ذوات القيم. وإن كان الثوب يساوي خمسةَ عشرَ، يلزمه ما يقابل النقصان، ويحتسب النقصانُ من الصبغ. هذا منتهى القول في هذا الأصل.
__________
(1) أي النقرة، أو العين المغصوبة عامة.
(2) أي لا تجبر الصنعة، والصياغة الجديدة أثرَ الكسر.
(3) في الأصل: يصوغ.
(4) في الأصل: ويلتزم.
(5) في الأصل: صيغة الجديد.
(6) أي لا يمكن الثقة بأنه سيعود إلى ما كان عليه في الصنعة الأولى، كرَفْو الثوب، وإعادة بناء الجدار إذا هدمه وكان مبنيا بالملاط.

(7/261)


4642 - فأمَّا إذا غصب ثوباً من زيدٍ، وغصب صبغاً من عمرو، فإن كان الصبغ معقوداً [ولم] (1) يفرض نقصان، فلا ضمان على الغاصب الصابغ، وقد صار مالك الثوب ومالك الصبغ شريكين.
فإن فرض نقصان والصبغ معقود، نظر: فإن انمحق الصبغ، وكان الثوب يساوي عشرةً، فالغاصب يغرَم بدل الصبغ للمغصوب منه (2). وإن كان الثوب يساوي خمسة عشر، فصاحب الصبغ شريك، وحقه الثلث من الثوب المصبوغ، وملكه على الحقيقة عين الصبغ، ولكنه يقع ثلثاً مع الإضافة إلى الثوب، ويغرَم في هذه الحالة الغاصبُ نصفَ قيمة الصبغ إذا كان متقوماً. وكل ذلك إذا كان الصبغ معقوداً.
فأمّا إذا كان يمكن إزالته، فليقع الفرْض فيه إذا لم تتفق زيادة ولا نقصان في الثوب والصبغ. فإن رضيا، فهما شريكان، وإن أرادا أن يُكلفا الغاصِبَ استخراج الصبغ، وتمييزه عن الثوب، فلهما ذلك. ثم إذا فصل، وحدث نقص غرِم الغاصب أرش النقص لا محالة. وليس هذا من [باب] (3) فك الصنعة المجرّدة عند اتحاد المالك؛ فإن في هذه الصورة نوعاً من الاعتداء، وهو وصل ملك زيد بملك عمرو، فيلتزم النقصانَ.
وهذا يتضح بصورة: وهي أن الصبغ والثوبَ لو زادا، فصار الثوب يساوي ثلاثين، فإن [أزال] (4) الغاصبُ بنفسه، التزم نقصان الثوب من حساب خمسةَ عشر، والتزم نقصان الصبغ أيضاً من حساب خمسة عشر.
وفي القلب من هذا شيء؛ من جهة أن الملك لم يتحد، حتى يقال: حصلت هذه الزيادة بالصنعة في ملكٍ واحدٍ في يد الغاصب، ثم ترتب عليه نقصان، بل حصل ما حصل من الزيادة بسبب ضم ملك زيد إلى ملكِ عمروٍ، فكان لا يمتنع في القياس أن يقال: هذه الزيادة غير معتبرة ولا محسوبة على الغاصب. وهذا دقيق لطيف.
__________
(1) في الأصل: فلم.
(2) الصورة مفروضة فيما إذا كان الثوب يساوي عشرة، والصبغ يساوي عشرة.
(3) مزيدة من (ت 2)، (ي).
(4) في الأصل: زال.

(7/262)


والأصل ما قدمناه للأصحاب، وهو المذهب.
ولو كلفناه الإزالة والثوب ثلاثون ففُرض نقصان، فالنقصان محسوب عليه من حساب العشرة في كل جانب؛ فإن الزيادة حصلت بالصنعة، وقد أفسدها بإذنهما.
وفيما ذكرناه أن الصنعة إذا أفسدها الغاصبُ بإذن المغصوب منه، لم يضمن نقصانها.
وإن أمره أحدهما بالفصل دون الثاني، فالذي يقتضيه قياس الأصحاب أن النقصان في حق الآمر محسوب من العشرة، وفي حق من لم يأمر من خمسة عشر.
ويظهر من هاهنا الاحتمال الذي ذكرناه (1) قبل هذا؛ فإن الغاصب يقول للذي لم يأمره (2) بالفصل: كيف أغرَم لك من حساب الخمسة عشر، وإنما تمت الصنعة في صبغك بأن وصلته بثوب غيرك وقد أجبرني مالك الثوب على فصله، ويقتضي (3) هذا حَسْبَ النقصان في حق من لم يأمر منهما من العشرة أيضاً.
هذا نجازُ القولِ في فصل الصبغ.
ولو غصب أرضاً وغرس فيها، أو بنى، فتفصيل القول في الغراس مع الأرض والبناء [عليها] (4) كتفصيل القول في صِبغٍ يستعمله الغاصب في ثوب مغصوب، والصبغ يمكن إزالته. وقد مضى ذلك مفصلاً مقسماً.
فصل
قال: "ولو كان زيتاً فخلطه بمثله ... إلى آخره" (5).
4643 - الرأي أن نذكر في صدر الفصل نص الشافعي رضي الله عنه على وجهه، ونبين معناه، ثم ننشىء بعده ترتيبَ المذهب. قال رضي الله عنه: إذا خلط الزيت المغصوب بزيت له، وزيته أجود من الزيت المغصوب، فالغاصب بالخيار بين أن
__________
(1) (ت 2)، (ي): أظهرناه.
(2) (ت 2): الذي يأمر.
(3) (ت 2): وهذا مقتضى هذا حسب.
(4) في الأصل: معها.
(5) ر. المختصر: 3/ 42.

(7/263)


يعطيه من المخلوط مثلَ مكيلته، وبين أن يعطيه من موضع آخر مثل زيته.
وإن خلط الزيتَ المغصوب بمثله، فظاهرُ النص أنه يتخير أيضاً: إن شاء أعطاه من المخلوط مثلَ مكيلته، وإن شاء أعطاه من غيره.
وإن خلطه بزيتٍ أردأَ من زيته، فالمالك بالخيار، إن لم يرض بالمخلوط، فله ذلك، فيطلب من الغاصبِ مثلَ زيته، وإن رضي بذلك المخلوط،. فالغاصبُ بالخيارِ، إن شاء أعطاه من ذلك المخلوط مكيلة زيته، وإن شاء أعطاه من موضع آخر (1).
هذا نص الشافعي رضي الله عنه. وهو مصرح بأن الخلط يتنزل منزلة عدم العين المغصوب؛ فإنه خيّر الغاصبَ في الأقسام الثلاثة بين أن يعطي حقَّ المغصوب منه من المخلوط، وبين أن يعطيه من موضع آخر، فإذا كان يتخيّر على هذا الوجه، فهذا يدل على أن حق المغصوب منه زائل في التعلق بعين ماله. وعلى الغاصب أن يوفيه حقه، فإن أتاه بمثل زيته من أي موضع شاء، قبِله المغصوبُ منه، وإن أتاه بمثل مكيلته من هذا المخلوط، فلا خيار للمغصوب منه؛ فإنه أعطاه أجود من حقه، ولكن الغاصب لا يتعين عليه البذلُ من هذا المخلوط.
وإن كان الخلط بالأردأ، فإن أعطاه مثل زيته من موضعٍ آخر، قبله. وإن أعطاه من المخلوط، فالخيار إلى المغصوب منه.
هذا معنى النص. ونحن نبتدىء بعد هذا تفصيل المذهبِ، فنقول:
4644 - حاصل ما ذكره الأئمة في تأسيس المذهب ثلاث طرق: أشهرها، وأظهرها - إجراء القولين في الأحوال الثلاثة أحدهما - أن عين مال المالك في حكم المفقود. وقد قال الشافعي في التعبير عن هذا: "الذائب (2): إذا اختلط بالذائب، انقلب". والقول الثاني - أن عين المال قائمةٌ، وهذا هو الحق في مسلك القياس؛ فإنا نقطع بقيامها حِساً، فبعُد إلحاقها بالمعدومات، مع تحقق وجودها.
__________
(1) ر. الأم: 3/ 226. وهو بتصرفٍ من الإمام في نصّ الشافعي.
(2) (ت 2): الباب.

(7/264)


فإذا طردنا الطرق بتفريعاتها، نبهنا بعدها على مشكلة عظيمةٍ، وغائلةٍ صعبة الموقع، فما ذكرناه من طرد القولين طريقة واحدة.
الطريقة الثانية: قطعُ القول بموجب النص، وهو أن الزيت إذا خلط بزيتٍ، كان كالمعدوم. [وقد] (1) أوضحنا شهادةَ النص على هذا.
والطريقة الثالثة: أن الخلط بالمثل لا يُلحق الزيت بالمعدوم، وفي الخلط بالأردأ والأجود القولان؛ فإن التسليم من المخلوط المتشابه الأجزاء ممكن، بلا مراجعة.
وفي التسليم من المخلوط المختلف رداءةً وجودة عسر، كما سنصفه في التفريع.
4645 - هذا بيان الطرق الثلاث.
والرأي بعدها أن نختار طريقة القولين، ونجريهما في الأقسام الثلاثة، ونفرعُ عليهما. ثم في التفريع عليهما بيانُ المذهب في جميع الطرق.
فإن حكمنا بأن العين المغصوبة كالمفقود، فأصل المذهب أن يُلْحَق الخلط بإتلاف الزيت. ولو غصب زيتاً، فأتلفه، وكان يملك مثله، وأجود منه، وأردأ منه. فإن أعطى المالك مثل حقه، قبله لا محالة، ولا خِيَرة. وإن أعطاه أجود من حقه، تعيّن على المالك قبوله. ولم يكن له أن يقول أبغي مثل حقي ولا أتقلّد (2) منة البذل في مزية الجودة؛ فإن هذا محتمل في الصّفة بلا (3) خلاف، [فلا] (4) حكم للمنة فيها. ولو أتاه بأردأ من حقّه، فله أن يمتنع من قبوله؛ فإن قبله، وقع الموقع. فالمخلوط بالأجود ملك الغاصب، فإذا أعطى منه، كان ما جاء به أجود ممّا غصب، والمخلوط بالأردأ ملك الغاصب أيضاً، فإذا جاء به تخير المغصوب: إن شاء قبله، وإن شاء رده. هذا بيان هذا القول.
فأما إذا فرعنا على القول الآخر: وهو أن العين المغصوبة قائمةٌ حكماً، كما لو (5) أنها قائمة حساً، فينظر: فإن كان وقع خلط الزيت المغصوب بمثله، فحق (6) المالك
__________
(1) في الأصل: فقد.
(2) (ت 2)، (ي): أقبل.
(3) (ت 2): فلا خلاف ولا حكم.
(4) في الأصل: ولا.
(5) (ت 2)، (ي): بدون (لو).
(6) (ت 2): لحق.

(7/265)


مختص بهذا المخلوط، ولا يتعداه، وسبيل الوصول إليه أن يسلم إليه [مثل] (1) مكيلة زيته من هذا المخلوط. ثم نحن نعلم أن ما رجع إليه ليس خالصَ حقه، وفيه من ملك الغاصب. وفيما خلفناه على الغاصب ملكُ المغصوب منه. ولكن القسمة توجب التفاصل في الحقوق. وسنشرح هذا في آخر الفصل.
وإن وقع الخلط بالأجود، فليس للمغصوب منه أن يقول للغاصب: أعطني مثل مكيلتي من هذا المخلوط؛ فإنا لو كلفنا الغاصب ذلك، كنا مجحفين به. والذي ذكره الأصحاب أن الغاصب والمغصوب منه شريكان في المخلوط. والوجه أن يبيعاه ويقتسما الثمن على مقدار القيمتين. فإذا كان الزيت المغصوبُ يساوي درهماً، وزيت الغاصب يساوي درهمين، والمخلوط يساوي ثلاثة دراهم، فنبيع المخلوط ونقسم الثمن أثلاثاً بينهما.
ولو أرادا أن يقتسما عين الزيت المخلوط على نسبة الثلث والثلثين، على أن يكون للمغصوب (2) منه ثلثُ الجملة. والمسألة مفروضة فيه إذا كان مقدارُ المغصوب مثلَ مقدار زيت الغاصِب، فلو أراد المالك أن يأخذ ثلثي مكيلته، ويترك الباقي على الغاصب، بناء للقسمة على نسبة القيمتين، فقد قال الشافعي: لا يجوز هذا، فإنه ربا، وإجراءٌ للتفاضل، فيما تُعبدنا فيه بالتماثل. ونقل البويطي عن الشافعي جوازَ القسمة على هذا الوجه. وتكلف أصحابنا، فخرّجوا قوله على أن القسمة إفرازُ حق، وتفاصلٌ (3) فيه، وليس على أحكامِ البيوع، والتفاصُل في الحقوق محمول على القيم ورعاية القسط، في المالية في هذا القسم.
هذا بيان هذا القول في الخلط بالأجود.
وينقدح (4) عندنا مسلك ثالث في هذا، وفي كلام العراقيين رمز إليه، وهو أنا نكلف الغاصب أن يعطي المغصوب منه مثلَ مكيلته من هذا المخلوط؛ فإنا نقول له:
__________
(1) مزيدة من: (ت 2)، (ي).
(2) (ت 2): الغاصب.
(3) (ت 2): وتفاضل.
(4) (ت 2): وقد ينقدح.

(7/266)


إذا اختلط المالان، صارت الجودة في حكم صفة شائعةٍ في جميع الزيت، فكأنَّ المغصوب زاد زيادة متصلة في يد الغاصب، وهذا [متجه] (1) وإن لم يثبت عندنا فيه نقل صريح.
4646 - فأمّا إذا وقع الخلط بالأردأ، فنقول للمغصوب منه: خذ مكيلتك من هذا المخلوط، وغرِّم الغاصبَ أرشَ النقص، هذا طريق وصولك إلى حقك. وقد ذكرنا في مسائل التفليس أن المشتري إذا خلط الزيت المشترى بأردأ منه، وجعلنا البائع واجداً عين ماله، فنقول له: إمَّا أن تقنع بمقدار حقك من هذا المخلوط، وليس لك أرش النقص، وإما أن تُضارب الغرماء بالثمن، والسببُ فيه أن العيوب في أمثال هذه المسائل من البيع لا تقابل بالأروش، والنقيصةُ مقابلةٌ بالأرش في الغصوب، ومسائل العدوان.
فلو قال المغصوبُ منه للغاصب: نحن مشتركان في هذا المخلوط، فنبيعه ونقسم الثمن على نسبة قيمتي الملكين، فإن رضيا بذلك، جاز، ونفذ.
وإن أرادا أن يقتسما الزيت متفاضلاً على نسبة القيمتين، فقد قال قائلون من أصحابنا: الترتيب في ذلك كالترتيب فيه إذا وقع الخلط بالأجود، حتى يخرّج فيه القولُ الذي حكاه البويطي. وهذا رديءٌ، لا أصل له؛ فإن الرجوع إلى مقدار الحق من هذا المخلوط ممكن، مع غرامة أرش النقص. وهذا أقرب؛ [فلا] (2) حاجة إلى التزام صورة التفاضل مع الاستغناء عنها.
ولمن يجري القولين أن يقول: إذا كان بناء قولي البويطي على أن القسمة ليست [بيعاً] (3) بل هي مفاصلة لا يلتزم فيها رعاية المماثلة، فلا نظر -والمعتبر هذا- إلى إمكان الرجوع إلى أرش النقص. ولو كنا نلتزم ذلك، لكان الأرش ومقدار المغصوب في مقابلة مثل المغصُوب، وهذا غير سائغ فيما ترعى المماثلة فيه؛ إذ لا يجوز مقابلة صاع ودرهم بصاعٍ.
__________
(1) في الأصل: يتجه.
(2) في الأصل: ولا.
(3) في الأصل، وفي (ت 2): تبعاً، والمثبت من (ي).

(7/267)


هذا حاصل التفريع.
وقد طردنا تفصيل المذهب على ما نقله الأئمة.
4647 - ونحن نذكر وراء ذلك إشكالاً عظيماً، فنقول:
ظاهر النص أن المغصوب المخلوط كالمعدوم، وهذا مشكل جداً، فإنه ليس حق المغصوب منه بأن يحكم عليه بالعدم لاختلاطه بملك الغاصب بأولى من عكس ذلك، حتى يقال: انعدم ملك الغاصب باختلاطه بملك المغصوب منه، والخلط متحقق من الجانبين جميعاً. ولا خلاف أن رجلين لو اجتمعا وخلط أحدهما [زيتاً له] (1) بزيت الآخر، فهما مشتركان. ومسائل الشركة مستندة إلى اختلاط مالي الشريكين.
4648 - ولو انثالت حنطة لرجلٍ على حنطة لآخر من غير فرض قصد، فهما مشتركان، ثم يقع النظر في التفاصل، فإن تماثلت الأجزاء، سهل الأمر، وإن اختلفت جودة ورداءة، ففي وصولهما إلى حقهما التفصيل الذي ذكرناه في تفريع المذهب إذا عسر الفصل.
وما ذكرناه في الحنطة لو فرض في الذائب، كان كذلك. وممّا يعضد الإشكال وينهيه نهايته أن من غصب صبغاً، وصبغ به ثوباً لنفسه، أو ثوباً غصبه من الغيرِ، ولم ينمحق الصبغ، فصاحب الصبغ مع صاحب الثوب شريكان [إن] (2) كان الصبغ معقوداً يتعذر فصله؛ فإذاً لا يبقى على هذا التقدير لظاهر النص توجيهٌ عليه تعويل.
وأقصى الممكن فيه أن نقول: مسألة الخلط في الغصب مأخوذة من نظير لها في البيع: وهي إذا اختلط المبيع بغير المبيع قبل القبض، فإذا جرى ذلك، ففي انفساخ العقد قولان، ذكرناهما في كتاب البيع توجيهاً وتفريعاً.
وتحقيق الشبه [فيه] (3) أن من باع عيناً، التزم تسليمها مخلّصةً، فإذا عسر ذلك، ولم تكن القسمة -لو قدرت- تسليماً للعين التي اقتضى العقد تسليمها، فنقول: تعذّرُ ذلك كانعدام العين في قولٍ. كذلك الغاصب لما غصب الزيت، التزم رد عينه، فإذا
__________
(1) في الأصل: ماله بزيت الآخر.
(2) في الأصل: فإن.
(3) مزيدة من: (ت 2)، (ي).

(7/268)


عسر ذلك بالخلط، ولم (1) تكن القسمة تسليماً للعين المغصوبة، كان هذا التعذر بمثابة انعدام العين.
وهذا غاية ما نتكلفه، وهو ركيك؛ فإن العقد عرضةُ الفسخ، والأملاك (2) يبعد نقضُها في غير العقود.
4649 - ولنا أن نقول: إنما تعلقنا بانفساخ العقد، لا بخيار فسخه، وانفساخ العقد يتبع تلف العين. وهذا غير مرضي؛ إذ يجوز أن يقال: إنه يحصل عند اليأس من إمكان تسليم المعقود عليه على ما اقتضاه العقد. وأما مسألة الصبغ، فواقعة، وهي مناقضة لما ذكرناه. غير أن الذي ذكره الأصحاب أن الصبغ متميز عن الثوب عياناً وحساً، ولكنه ملتزق به إذا كان معقوداً التزاقاً يتعذر الفصل معه، ولأجل هذا الخيال (3) جرى القول القديم في أن الصبغ المعقود يصير بمثابة الزيادة المتصلة، على ما حكاه صاحب التقريب.
ومما يشكل [في] (4) ذلك أنّا نقول: من غصب عبداً، فأبق من يد الغاصب، وغرِم الغاصب للمغصوب منه قيمةَ العبد، فإنه لا يملك الغاصب رقبةَ العبد ببذل قيمته. وقد ملكنا الغاصب على ظاهر النص زيتَ المغصوب منه، وألزمناه البدل، فكان هذا مناقضاً لأصلنا.
وسبيل الجواب عن ذلك أن الإباق لا يتضمن للغاصب ملكاً في الآبق، بلا خلاف. ولكنه يغرَم القيمة لمكان الحيلولة. ثم رأى أبو حنيفةَ أن يملك الغاصب رقبة العبد، فكان هذا تمليكاً منه بعلة التضمين (5).
ونحن نقول في مسألة الخلط: (6 نفس الخلط 6) يُملِّكُ الغاصب ما غصبه، ثم
__________
(1) (ت 2): لم (بدون الواو).
(2) (ت 2)، (ي): والأمر.
(3) (ت 2): الخيار.
(4) (ت 2): وذلك. وسقطت من الأصل. والمثبت تقدير منا. وصدقتنا (ي).
(5) ر. رؤوس المسائل: 346 مسألة: 226، إيثار الإنصاف: 256.
(6) ما بين القوسين سقط من (ت 2)، (ي).

(7/269)


جريان الملك للغاصب في المغصوب يُلزمه الضمان، فهذا تضمين بتمليك سابق
وما قاله أبو حنيفة تمليك بتضمين.
4650 - ثم قال الشافعي: "وإن خلطه بشَيْرَج (1)، أو صبه في بانٍ (2) ... إلى آخره".
قال أصحابنا: ما قدمناه من فصول الخلط فيه إذا خلط الشيء بجنسه، فأما إذا خلطه بما لايجانسه، مثل أن يخلط زيتاً ببانٍ أو بجنسٍ آخر من الأدهانِ، فالمغصوب يلتحق بالمنعدم المفقود. هذا ما أطلقه الأصحابُ.
[وخرّج] (3) القاضي فيه قولاً أن المغصوب (4) واجدٌ لعين ماله. وألحق ذلك بالخلط بالأرْدأ والأجود، مع اتحاد الجنس. وهذا تخريج منقدح لما نبهت عليه من وجوه الإمكان (5).
ومن عجيب الأمر أن الأصحاب ألحقوا ما لو غصب زيتاً ولتَّه بالسويق بخلط الزيتِ بالبان، وقطعوا بأن الغاصب لا تعلق له بعين مال.
وهذا عندي على نهاية الفساد؛ فإن الزيت لا يخالط السويق مخالطة المائع المائعَ، بل هو مع السويق كالصبغ مع الثوب قطعاً، وقد مضى القول في الصبغ.
وغاية الأمر أن يجعل الزيت مع السويق كالصبغ المعقود بالثوب.
وممّا أجراه الشافعي من صور الخلط أنه لو غصب دقيقاً وخلطه بدقيقٍ. فإن قلنا: الدقيق يقبل القسمة، فهو كخلط الزيت بالزيت. وإن قلنا: إنه لا يقبل القسمة، فالوجه إن جعلنا المغصوب منه واجداً لعين ماله بيعُ الدقيق، وقسمةُ الثمن على أقدار القيمة.
__________
(1) في الأصل: بشيء منه، و (ت 2)، (ي): بشرٍّ منه .. والمثبت اختيار منا، على ضوء السياق، أكد صحته أن عبارة الأم: " ... وإن كان صب زيته في بانٍ، أو شيرق، أو دهن طيب، أو سمن، أو عسل، ضمن ... " 3/ 226. وأما قوله في الأم قبيل ذلك: "فإن كان صب ذلك المكيال في زيت شر من زيته، ضمن الغاصب ... إلخ"، فهذا هو الخلط بالأردأ، وقد تقدم، فلا محل لتكرار المؤلف له هنا. فرجح ما اخترناه. والله أعلم.
(2) المراد دهن البان. وهو يتخذ من الشجر المعروف بهذا الاسم (مصباح).
(3) في الأصل: إذْ صرح القاضي.
(4) في (ت 2)، (ي): الغاصب.
(5) (ت 2): الإشكال ومثلها (ي).

(7/270)


فرع:
4651 - إذا غصب الرجل رطلاً من الماورد وصبّه في أرطالٍ من الماء، فإن انمحق، ولم يبق له أثر، ولا قيمة، فهذا على القطع نازلٌ منزلة هلاك المغصوب، ولا نظر إلى بقاء عين الماورد بعدما تحقق سقوط القيمة، وهو كبقاء جثة العبد إذا مات. وإن بقي للماورد أثرٌ، فهذا [من باب خلط] (1) الشيء بما لا يجانسه. وقد مضى القول فيه مفصلاً.
فرع:
4652 - إذا خلط البر المغصوب بالشعير، فعليه أن يميزه، ولو بلقط الحبات؛ فإن التمييز ممكن على عسره وهو بمثابة ما لو غصب عبداً وأرسله إلى بلدة نائية، فعليه رده، وإن كان يحتاج في ردّه إلى بذل مؤن تزيد على قيمته.
وكذلك إذا خلط حنطةً حمراء بحنطة بيضاء.
هذا نجاز فصول الخلط. ثم ذكر الشافعي بعد هذا حكمَ الحنطة العفنة. وقد تقصيناه.
فصل
قال: "ولو أغلاه على النار ... إلى آخره" (2).
4653 - إذا غصب من الزيت دَوْرقين (3) ثم أغلاه، ففي المسألة أقسام: أحدها - ألا تنقص القيمة، ولا المكيلة، فيردّه، ولا حكم لما جرى. القسم الثاني - أن تنقص القيمة، ولا تنقص المكيلة؛ فإن النار قد تعيب؛ فيرد ما أخذ، ويغرَم أرش النقص.
ومن أقسام المسألة: أن تنتقص المكيلة ولا تنقص القيمة، (4 وذلك بأن يرجع الدورقان إلى دورق واحد، وقيمة ما بقي كقيمة دَوْرقين قبل الإغلاء 4)، وذلك بأن
__________
(1) في الأصل: كخلط.
(2) ر. المختصر: 3/ 42.
(3) دورقين: مثنى دَوْرق: مكيال للشراب (معجم).
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). وفي الأصل: "كقيمة دورق" والمثبت من (ي).

(7/271)


تُحدث النارُ فيه صفةً مطلوبة وإن كان ينقص من عينه، قال الأصحاب: يردّ ما في يده، ويغرَم مثلَ ما نقص، فإن نقص دورق، غرِم له مثل زيته دورقاً؛ فإن نقصان العين في المثليات يقابل بالمثل، ونقصان الصفة مع بقاء العين يقابل بالقيمة.
ومن صور (1) المسألة أن تنتقص المكيلة، وتزداد القيمة وذلك بأن يغصب دورقين، فيرجع بالإغلاء إلى دورق، وكان قيمة كل دورق درهمين (2) قبل الإغلاء.
وهذا الدورق الآن يساوي أربعة دراهم (3)، ففي المسألة وجهان: أحدهما - وهو الأصح - أنه يرد ما بقي، ويغرَم له دورقاً مثلَ زيته، والزيادة التي حدثت في الدورق المغلي زيادة صفةٍ متصلة بملك المغصوب منه.
والوجه الثاني - أنه يرد ما بقي، ولا غرم عليه؛ لأن ما بقي زاد بسبب النقصان، فإذا كان النقصان سببَ الزيادة، لم يكن سبباً للغرامة ومقتضى ذلك الجبران، وهذا ليس بشيء.
وقد ذكرت طرفاً من هذا من كلام صاحب التلخيص في مسائل التفليس.
4654 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن من غصب عصيراً ورده بالإغلاء إلى نصفه، حتى خثَر (4)، وصار دبساً. وكانت قيمته مثلَ قيمة العصير التام. فقد قال قائلون من أصحابنا: هذا بمثابة إغلاء الزيت، فيخرّج على الخلاف الذي تقدم ذكره.
وذهب ابنُ سُريج إلى القطع بأن الباقي إذا كانت قيمته مثلَ قيمة العصير ردّه، ولم يجب جبر (5) النقصان فيه، بخلاف الزيت. والفرق أن الزيت لا يخثُر بالإغلاء، والذاهب هو الزيت، فيتحقق نقصانُ العين فيه، والذاهب من العصير مائية لا قيمةَ لها، والباقي هو الأجزاء الحلوة المطلوبة.
__________
(1) (ت 2): أقسام.
(2) (ت 2): درهماً.
(3) (ت 2)، (ي): درهمين.
(4) خثر: من باب نصر. ثخن وغلظ. (معجم).
(5) (ت 2): ردّ.

(7/272)


فصل
قال: "وإن كان لوحاً فأدخله في سفينة ... إلى آخره" (1).
4655 - إذا غصب الرجل ساجَةً وأدرجها في بنائه، فالساجة منتزعة عندنا مردودة على مالكها، وإن أدّى انتزاعُها إلى انهدام قصرٍ، أنفق الغاصب عليه ألفاً، خلافاً لأبي حنيفة (2).
وضبط المذهب أن أملاك الغاصب لا تحترم إذا انتسب (3) إلى بنائها على مغصوب.
وممّا نُجريه في هذا الفصل إدخال اللوح المغصوب في السفينة.
4656 - وهذا يستدعي ذكرَ مقدمة مقصودة في نفسها، فنقول: إذا غصب الرجل خيطاً، وخاط به جرحاً -كان به- فالتحم الجرح، وكنا نخاف من انتزاع الخيط انتقاضَ الجرح، وإفضاء الأمر إلى خوف الهلاك، أو إلى الخوف من فساد عضو، فلا يُنزع الخيط والحالة هذه، بل يحرم انتزاعُه، ويجب رعاية حرمة الروح، ولو خفنا من انتزاع الخيط طولَ الضَّنا (4)، أو بقاءَ الشَّيْن، فقد ذكرت تفصيل ذلك في كتاب الطهارة.
والقول الجامع فيه أن كل ما يجوز ترك استعمال الماء به، والتحولُ إلى التيمم من الجرح والمرض، فإذا تحقق في مسألتنا امتنع منه (5) نزعُ الخيط. وكل ما لا يجوز التحول به من الماء إلى التراب، فلا ينتصب عذراً فيما نحن فيه، وينتزع الخيط معه ويردّ على مالكه. ومواقع الخلاف في الماء والتراب يجري فيها الخلاف هاهنا.
ولو رتب مرتب، انقدح وجهان: أحدهما - أن ترك الخيط أولى لقيام قيمته
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 42.
(2) ر. رؤوس المساثل: 349 مسألة رقم 229، وإيثار الإنصاف: 260.
(3) (ت 2)، (ي): إذا تسبب إلى ...
(4) ضني من باب تعب: اشتد مرضه حتى نحل جسمه (معجم).
(5) (ت 2): معه، وسقطت من (ي).

(7/273)


مقامه. والثاني - أن نزع الخيط أولى، لتعلقه بحق الآدمّي، وهو على الضيق.
والتحول من الماء إلى التراب رُخصة، والرخص لا تبنى على نهايات الضرورات.
وإذا مات المجروح، فهل ينزع الخيط بعد موته، فعلى وجهين: أحدهما - وهو الأصح أنا (1) ننزعه. والثاني - لا ننزعه؛ فإنا نحاذر المثلةَ بالميت. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي" (2).
فإن قلنا: الخيط منزوع من الميت، فلا كلام. وإن قلنا: لا ينزع منه، فالوجه فيه اعتبار حالة الحياة، فإن كان الخيط مستحق النزع في الحياةِ، نزعناه بعد الموت.
وإن كان لا يجوز نزعُه في الحياة، وكان نزعه بعد الموت يُظهر مُثلةً (3)، فإنا
لا ننزعه. وإن لم ننزعه في الحياة لخوف هلاكٍ، أو لبقاء شين ظاهر إن اعتبرناه، ولم يكن في نزعه بعد الموت مُثْلةٌ ظاهرة، فهذا محتمل على الوجه الذي نفرع عليه.
4657 - وكل ما ذكرناه في خيط جرح الآدمي، فأما إذا خاط جرح حيوان آخر، فإن كان حيواناً محترماً، انقسم القول إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل؛ فأما ما يؤكل لحمه من الحيوانات، ففيه وجهان: أحدهما - أنه يجب ذبحه، ونزعُ الخيط منه؛ فإن الذبح مسوغ (4)، فليكن طريقاً يتوصل به إلى رد المغصوب، ولا نظر إلى المالية التي تفوت بذبح بُختية (5)، أو جواد الخيل. والثاني - أنه لا يلزمه ذبح الحيوان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة" (6) وليس القصد من هذا الذبح -لو قلنا به- مأكلة.
__________
(1) (ت 2)، (ي): أنه ينزعه.
(2) حديث "كسر عظم الميت ... " رواه أحمد: 6/ 58، 100، 105، وأبو داود: الجنائز، ح 3207، وابن ماجة، ح 1616، والبيهقي في السنن الكبرى: 4/ 58، والدارقطني: 3/ 188 ومالك في الموطأ: 1/ 238. وانظر تلخيص الحبير: 3/ 121 ح 1293.
(3) مَثُلة، ومُثْلة بمعنى.
(4) (ت 2): مشروع.
(5) البختي: الإبل الخراسانية. وهي من أجود الإبل، ومثله الجواد في الخيل.
(6) حديث النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكلة ... أبو داود في المراسيل، ومالك في الموطأ: 2/ 358 - الجهاد، ح 10، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 121 ح 1294.

(7/274)


فأما الحيوانات المحترمة التي لا تؤكل، فلا يحل نزع الخيط منها على التفصيل الذي ذكرناه في الآدمي.
وقد اعتبر بعض أصحابنا في الآدمي الشينَ، والتوقي منه، وهذا غير معتبر في البهيمة؛ فإنا لو اعتبرناه، لرجع الأمر فيه إلى المالية، وليست المالية مرعية في هذا المجال.
فأمَّا الحيوان الذي لا يحترم، فينقسم إلى ما يستحق قتله كالكلب العقور، والسبع الضاري (1)، وإلى ما لا يستحق قتله: (2 فأما ما يستحق قتله، فينتزع الخيط منه، وأما ما لا يستحق قتله 2)، ولكنه ليس محترماً، فقد عد الأصحاب في هذا القسم الكلبَ والخنزير، ثم قَضَوْا بأنّ الخيط منزوع منهما. أما الخنزير، فأراه كذلك؛ فإن الذَّكَر من جنسه أعظم ضرراً من السباع كلها. والأنثى من المؤذيات في المزارع وغيرها. وأما الكلبُ، فالصَّيود منه، وكلبُ الماشية، وكل ما تصح الوصيةُ به - لا يجوز نزع الخيط منه. والكلب الذي لا منفعة فيه لا يبعد أن يلحق بالمؤذيات، [حتى] (3) لا يحرم قتله، فينزع الخيط إذن.
وقد ذكر القاضي الكلبَ مطلقاً ولم يفصله، وأطلق جواز نزع الخيط منه. وهذا مفصل عندنا.
ولو جُرح مرتدٌ وخِيط جرحُه، والتحم، ففي نزع الخيط منه ترددٌ، والأَوْجَهُ المنع؛ لأن المثلة بالمرتد محرّمة، وليست كالمثلة بالميت؛ فإنا نتوقع للمرتدّ عوداً إلى الإسلام، [وإن أظله السيف، وإن مات، فات] (4).
هذا تفصيل القول في نزع الخيط وينبني عليه أنا مهما (5) منعنا نزع الخيط، جوزنا
__________
(1) (ت 2): العادي.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(3) مزيدة من (ت 2)، (ي).
(4) المعنى: وإن أظله السيف: أي نتوقع عوده إلى لحظة قتله بالسيف. وفي الأصل: فإن أظله السيف ومن مات فات.
(5) مهما: بمعنى إذا.

(7/275)


أخذ الخيط قهراً لخياطة الجرح، إذا لم نجد غيرَه؛ فالدوام معتبر بالابتداء.
وإن كان عند المجروح خيوط، فغصب خيطاً، وخاط الجرح، والتحم، فقد أساء وظلم أولاً. ولكن لا ننزع الخيطَ لعدوانه الأول؛ فإنا لا نرعى محضَ حقّه.
وإنما نرعى ما لله من الحق في الأرواح.
4658 - ونحن نعود بعد بيان ذلك إلى تفصيل المذهب في غصب الألواح وإدراجها في السفن.
فإذا غصب لوحاً وأدرجه في سفينة، نزعناه، إن كانت السفينة على اليبس، أو كانت مرساةً على الساحل، وأمكن التوصل إلى النزع من غير إتلافِ روحٍ [أو] (1) مالٍ على ما سنفصل، إن شاء الله.
وإن كانت السفينة في اللُّجة، ولو انتزع اللوح، لغرقت بما فيها، ومن فيها، فإن كان فيها آدميون أو ذوات أرواحٍ محترمةٍ، فلا سبيل إلى نزعه، وإن لم يكن فيه إلا الغاصب، لم ينزع أيضاً، لما مهدناه في الخيط ونزعه.
ولو لم يكن في السفينة ذو روح، وكانت مربوطةً إلى سفينة، وهي تجري بجريها، فإن كان فيها أموال، قال الأصحاب: لم ينتزع اللوح إن كانت الأموال لغير الغاصب. وإن كانت للغاصب، فوجهان: أحدهما - أنه ينتزع؛ فإنّ الأموال لا تحترم لأعيانها، والغاصب قد فرط فيها؛ إذ وضعها في مثل هذه السفينة، فصار كما لو زرع أرضاً مغصوبة، فزرعه مقلوعٌ، [وإن] (2) كان له مدى يرتقب انقضاؤه، فليكن مال الغاصب في السفينة كذلك. هذا هو الأصح.
والوجه الثاني - أنه لا يقلع، ويتأنَّى [إلى] (3) انتهاء السفينة إلى الساحل، بخلاف الزرع؛ فإن الزرع تَنْبَثُّ عروقه، ثم يظهر منه مزيدُ إفساد للأرض، بخلاف اللوح، حتى إن كان البحر يؤثر في اللوح في غالب الظن، ولو نزع، لم يتأثر، فيرتفع الخلاف
__________
(1) في الأصل: ومال.
(2) في الأصل: فإن.
(3) مزيدة من (ت 2).

(7/276)


عند بعض أصحابنا. ومنهم من علل منع نزع اللوح بأن إجراء السفينة إلى الشط يوصّل إلى رد اللوح، فهو أمثل من النزع، والتغريق.
ولو لم يكن في السفينة مالٌ للغاصب ولكن كانت بنفسها تغرق لو انتزع اللوح، فهو بمثابة مال الغاصب.
ولم يختلف الأئمة في أن مال الغير [يمنع من نزع اللوح، وقد يخطر للفقيه أن يُضمِّن الغاصب أموال الغير] (1) ويذكرَ وجهاً في نزع اللوح. ولكن لم يصر إليه أحد؛ فإن أصل النزع متردد في السفينة نفسها [و] (2) في مال الغاصِب، فإذا انضم إلى ذلك حرمةُ مال الغير، انتظم منه وفاق الأصحاب في وجوب الانتظار.
ولو زرع الرجل ببذر غيره أرضاً مغصوبة، فلا خلاف في قلع الزرع.
فليتأمل الناظر ما يلقى إليه في كل [معاصٍ] (3).
فصل
قال: "ولو غصب طعاماً، فأطعمه من أكله ... الفصل إلى آخره" (4).
4659 - إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى إنسانٍ ليأكله، فإن كان الطاعم عالماً بكون الطعام مغصوباً، لم يخف استقرار الضمان عليه. وإن كان جاهلاً، وحسب الطعام ملكاًً للغاصب، فإذا أكله، ففي استقرار الضمان قولان: أحدهما - وهو الأقيسُ أنه يستقر على الطاعم؛ لأنه المتلف المختار، والأسباب إذا انتهت إلى حقيقة الإتلاف، فالاعتبار بالإتلاف.
والقولُ الثاني - أن قرار الضّمان على الغاصب المقدِّم؛ فإنه متمسك بأظهر أسباب التغرير، والضمان يستقر على الغارّ، ولذلك يرجع المغرور بحرية زوجته بقيمة الولد
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) زيادة من (ت 2).
(3) في الأصل، (ت 2): (مغاص) بالمعجمة. والمثبت من (ي) وهو المعهود في ألفاظ إمام الحرمين بالمهملة من عَوِصَ.
(4) ر. المختصر: 3/ 43.

(7/277)


إذا غرِمها على الغارّ. وقد ذكرنا توجيه القولين، ومأخذَ الكلام في (الأساليب). ثم إن قلنا: القرار على الغاصب، فالطاعم مطالَبٌ، ثم إذا غرم، رجع. وإن قلنا: القرار على الطاعم، فالغاصِب مطالبٌ، ثم (1) إذا غرِم رجع على من طعم.
ولو قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى المغصوب منه، فأتلفه، فإن كان على علمٍ، كان مسترداً للمغصوب. وإن كان جاهلاً، ففي المسألة قولاًن: إن قلنا: إن قرار الضّمان على الأجنبي الطاعم، فالذي (2) جرى من المغصوب منه استرداد الطعام.
وإن قلنا: لا يستقر الضمان على الأجنبي، لم ينتقل الضمان إلى المالك. وقد رأى الأصحاب انتقالَ الضمان إلى المالك أولى من قرار الضمان على الأجنبي؛ فإنّ تصرف المالك إذا انضم إلى إتلافه، تضمّن قطعَ عُلقة الضمان من الغاصب، وسيظهر لهذا أثر في التفريع.
4660 - وقد قدمنا قواعد للمراوزة في الأيدي التي تترتب على يد الغاصب.
وقد ذكرنا طريقةً للعراقيين تخالف طريقة المراوزة، ولا بد الآن من إعادتهما؛ فإنهما لائقان بمضمون الفصل.
قال المراوزة: كل يد ليست يدَ ضمانٍ، فإذا ترتبت على يدِ الغاصب، وفرض التلف من غير إتلافٍ، فصاحب اليد مطالبٌ، وقرار الضمان على الغاصب. وإن كانت اليد يدَ ضمانٍ، وحصل التلف، فقرارُ الضمان على صاحب اليد الضّامنة.
وبيان ذلك في الوجهين أن المودَع من الغاصب لا يستقر الضّمان عليه، إذا تلفت الوديعة في يده. وكذلك اليد الحاصلة عن الرهن، والاستئجار، والقِراض، وكذلك يد الوكيل، فهذه الأيدي تثبت على سبيل الأمانة. فإذا ترتبت على يد الغاصب، لم يحصل بها قرار الضّمان. والمطالبةُ تتوجه على أصحابها، ثم إنهم إذا غرِموا، رجعوا على الغاصب.
__________
(1) (ت 2)، (ي): ولكن.
(2) (ت 2): فإن جرى.

(7/278)


فأمّا الأيدي التي تقتضي الضمان إذا ترتبت على يد الغاصب، فإنها تتضمن قرار الضمان إذا ترتب التلف عليها كيد الشراء، والعاريّة، والسَّوم. هذا مسلك المراوزة.
فأمّا العراقيون، فإنهم أثبتوا قرار الضمان بالأيدي الضّامنة، كما أثبته المراوزة، وفصلوا أيدي الأمانة، وقسموها ثلاتة أقسام. وقد قدمت ذكرها فيما تقدم من كتب المعاملات. وأنا أعيدها الآن، لينتظم الكلام.
قالوا: كل يد ثبتت لمحض غرض المالك من أيدي الأمانة، فإذا ترتبت على يد الغاصب، لم تقتض قرارَ الضمان عند التلف، كيد الوديعة، وكل يدٍ تتعلق بمحض غرض صاحب (1) [اليد فإذا ترتبت على يد الغاصب، تعلق بها قرارُ الضمان، كيد الراهن. وألحقوا بيده يدَ المستأجر، والمقارض. وقد تصرفنا من قياسهم على يد المستأجر، والمقارض، والوكيل إذا قبض. قالوا: إن كان يتصرف من غير جُعلٍ، فيده كيد المودَع، وإن كان يتصرف بجُعلٍ، ففي المسألة وجهان. هذا كلامهم.
وهو يجانب طريق المراوزة بالكلية.
4661 - وكان شيخي يتردد في يد واحدةٍ ليست يدَ ضمان، وهي يد المتهب، فإذا وهب الغاصبُ المغصوبَ من إنسانٍ، وأقبضه (2) إياه، فقبض على جهلٍ منه، وتلف في يده، كان يقول: هذه اليد، وإن لم تكن يدَ ضمانٍ، فهي يد تسليط على الإطلاق، فيمكن أن يقال: يخرّج قرار الضمان إذا فرض التلف من غير إتلافٍ على قولين؛ فإن حكم الهبة إذا تمت بالإقباض انقطاع علائق الواهبِ بالكلية، فإذا فرض القبض على الهبة، كان القابض عنها في حكم المبتدىء قبضاً على الكمال. وهذه الصورة تضاهي الغصب.
__________
(1) من هنا بدأ خرم في نسخة الأصل. مقداره نحو ورقة من المخطوط. ومن هنا سيكون المثبت نص نسخة (ت 2) بدءاً من الورقة 148 ي سطر 14 إلى 150 ش سطر 10. والله المستعان والهادي إلى الصواب.
(2) في الأصل: وقبضه، والمثبت من (ي).

(7/279)


وهذا الذي ذكره حسن، وكان يتردد فيه [إذا] (1) أودع الغاصب العين المغصوبة من مالكها، فلم يشعر المالك بملكه فيها، حتى تلفت في يده. [فيحتمل] (2) أن يقال: تلفت من ضمانه؛ فإن يد المالك إذا ثبتت، لم يقطع أثرَها الجهلُ والظنُّ.
والظاهرُ أنها تتلف من ضمان الغاصب، كما لو جرى الإيداع عند أجنبي.
4662 - ولو غصب عبداً، ثم أمر إنساناً بقتله، فقتله معتقداً أن الآمرَ مالكٌ، فقد قيل: في قرار الضَّمان على القاتل قولان، كما ذكرناه في الإطعام. والصحيح أنه يستقر عليه الضّمان؛ فإن القتل ممَّا لا يستباح الإقدام عليه بالإباحة، ولا يتحقق التغرير فيه.
ولو قال غاصب العبد لمالكه: "أعتقه"، فتلفظ المالك بإعتاقه، وهو لا يشعر أنه مملوكه، بل بنى الأمر على أنه وكيلٌ في إعتاقه من جهة المالك، فقد قال بعض الأصحاب: لا ينفذ العتق؛ لأنه قدّره ملكَ الغير. وهذا غلطٌ غيرُ معتد به؛ فإن العتق لا يندفع بأمثال ذلك. ولهذا كان هزله جداً.
ولو واجه الإنسان عبد نفسه بالإعتاق ظاناً أنه عبد غيره وهو هازل بإعتاقه، نفذ العتق. وكذلك لو رآه في ظلمةٍ، فوجه العتق عليه، فإذا ثبت نفوذ العتق، فمن أصحابنا من خرّج انتقال الضمان إلى المالك، وانقطاعَه من الغاصب على قولي الإطعام. وهذا مزيفٌ لا أصل له. وإن اعتمده صاحب [القفال] (3) أبو سليمان.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ثم صدقتنا نسخة (ي).
(2) في الأصل: يحتمل، ومثلها (ي).
(3) ما بين المعقفين يقع في الورقة الساقطة من نسخة الأصل، وفي (ت 2): صاحب القصار أبو سليمان، وفي (ي) مثلها إلا أن كلمة (القصار) غير واضحة، فالراء تقرأ بين التاء المربوطة والراء، والصاد غير واضحة، ووضع الناسخ فوقها علامة تضبيب تفيد شكه في قراءتها، فرسمها كما هي.
ولذا رجحنا ما أثبتناه من أنه صاحب القفال أبو سليمان، فأبو سليمان الخطابي أحد رفعاء المذهب، ينقل عنه شيوخ المذهب كثيراً مثل النووي في المجموع، ثم هو من تلاميذ القفال، فصح أن يطلق عليه الإمامُ: صاحب القفال. =

(7/280)


والصحيح أن الغاصب يبرأ على الضمان، لأن وضع العتق أن لا ينفذ في ملك الغير.
والضيف يأكل طعام المقدّم إليه مستباحاً، وهو في ملك المقدِّم على ظاهر المذهب.
ولو زوج الغاصب الجارية المغصوبة من مالكها، على جهلٍ منه بها، ثم استولدها المالك، ثبت الاستيلاد لا خلاف فيه. ويبرأ الغاصب عن الضمان بثبوت يده على مستولدته. وشبب بعض الأصحاب بالخلاف في ذلك. والأصح ما ذكرناه.
4663 - ولو أطعم البائع المشتري الطعام المشترَى على جهلٍ منه بأنّه يأكل [ما اشتراه] (1)، فقد قال القاضي: يجب أن يخرّج على القولين المذكورين في إطعام الغاصب المغصوبَ منه الطعامَ المغصوب. فإن حكمنا بان الغاصب يبرأ، فإذا فرض هذا من المشتري، كان أكله قبضاً للطعام المشترى. وإن حكمنا بأن الغاصب لا يبرأ عن الضمان، فتَلفُ الطعام محسوب عليه. فكذلك نقول: هذا محسوب من ضمان البائع. ثم الوجه أن نجعل ذلك كما لو أتلف البائع المبيع قبل القبض. وحكمه مفصَّل في كتاب البيع.
فصل
قال: "ولو حل دابةً، أو فتح قفصاً عن طائرٍ ... إلى آخره" (2).
4664 - إذا فتح الإنسان باب قفص، أو حل الرِّباط عن طائر، فأطلقه عن الوثاق،
__________
= وهاك ترجمة موجزة له:
أبو سليمان حَمْد (بفتح الحاء وسكون الميم) بن محمد بن إبراهيم البُسْتي، المعروف بالخَطَّابي. صاحب معالم السنن في شرح سنن أبي داود. تفقه بأبي بكر الففال الشاشي، وأبي علي بن أبي هريرة ونظرائهما، وكان رأساً في الفقه واللغة والأدب. ولد سنة بضعَ عشرَةَ وثلاثمائة، وتوفي ببُسْت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وهو مذكور في الشرح الكبير للرافعي في عدة مواضع.
(ر. طبقات السبكي: 3/ 282 - 290، طبقات الإسنوي: 1/ 476، طبقات ابن الصلاح: 1/ 467، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 156، سير أعلام النبلاء: 17/ 23).
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ر. المختصر: 3/ 43.

(7/281)


إن نفّره مع الحل، فطارَ، وجب الضّمان، لا خلاف فيه. وإن اختصر على حل الرباط وفَتْح باب القفص، فمذهبنا الظاهر أن الطيران إن اتصل بالحل، وجب الضّمان، وإن استأخر الطائر بعد الحل، وتخلل زمان يعدُّ فاصلاً بين الفتح والطيران، فلا ضمان.
وقال أبو حنيفة (1): لا يجبُ الضّمان، وإن اتصل الطيران، إذا لم يظهر مع الفتح تنفير. وقال مالكٌ (2): يجب الضّمان سواء اتصل الطيران بالفتح، أو انفصل عنه. وقد ذكر الأصحاب قولين مثل مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة رحمة الله عليهما. فحصل على هذا التقدير ثلاثة أقوال.
والمذهب المشهور منها الفصل كما قدمناه، وعصام المذهب أَنَّ الطيران فعلُ حيوانٍ ذي اختيارٍ، وهذا لا ننكره. وقياسه أنه إذا لم [يجرِ] (3) إرهاقٌ، وحمل على الفعل، ولم يوجد من الفاتح إتلافٌ، ولا إثباتُ يدٍ، فلا يجبُ الضمان. وإذا اتصل الطيران، فالأمر محمولٌ على اقتضاء الفتح تنفيراً، والتنفير فيما لا يعقِل ينزل منزلة الإكراه، والإلجاء [فيمن] (4) يعقل.
ومن حكم بوجوب الضّمان مع الاتصال والانفصال، ألحق ذلك بالأسباب المضمّنة كحفر البئرِ في محل العدوان ونحوه. ومن لم يوجب الضّمان في الاتصال والانفصال، أحال الضياع على فعل حيوانٍ [ذي] (5) اختيار، يعتمد الخلاص.
والمتردي في البئر لا يعتمد التردي فيها.
وسيكون لنا كلام ضابط في كتاب الديات في الأسباب وما يتعلق بها [من] (6) الضمان وما لا يتعلق، إن شاء الله عز وجل؛ فإن القول في ذلك منتشر على من لا يحيط بالمدارك.
__________
(1) رؤوس المسائل: 350 مسألة 230، البد ائع: 7/ 166.
(2) الإشر اف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 630 مسألة 1084، جواهر الإكليل: 2/ 148
(3) في الأصل: يحز.
(4) في الأصل: ثم يعقل.
(5) في الأصل: ذو.
(6) زيادة اقتضاها السياق.

(7/282)


4665 - ولو فتح بابَ اصطبلٍ وخرجت بهيمةٌ، فضاعت، فالأمرُ كما ذكرناه.
وكان الشيخ أبو محمدٍ يشبب بالفصل بين حيوان نافرٍ بطبعه إذا حل رباطَه، وبين حيوان آنِسٍ لا نِفار فيه، ويقول: اتصال حركة البهيمة الإنسية، كانفصال حركة النافر من الطير والوحوش. وهذا منقاس. ولكني لم أره إلا له.
فإذا أطلق عبداً مجنوناً عن قيده، فهو في التفصيل] (1) كالبهيمة.
وإن فتح باب دارٍ، فخرج منه عبد مميز، فأبق، فلا ضمان، اتفق الأصحاب عليه. ولا فرق بين أن يتصل خروج العبدِ، أو ينفصل. واضطرب الأصحابُ في العبد المعروف بالإباق إذا اعتمد مالكه تقييدَه، أو إغلاقَ بابٍ عليه، فإذا حل إنسان قيدَه، أو فتح الباب، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يجب الضمان إذا كان العبد مميزاً؛ فإن التعويل على إحالة الضياع على فعلِ مختارٍ، وهذا يتحقق من المميز. وإن كان معروفاً بالإباق.
وأبعد بعض الأصحاب، فجعل حلّ القيد عنه، كحل الرباط عن طائرٍ أو بهيمة، ثم التزم تخريجه على قياس الطائر، ففصل بين أن يتصل الإباق أو ينفصل. وهذا ساقطٌ، لا اتجاه له.
وممّا نذكره أن الطائر لو كان في بيتٍ كبير، ففتح الفاتح القفص، فابتدأ الطائر الطيران، وتخلل زمانٌ إلى اتفاق انفصاله، وربما يستدير الطائر مراراً إلى أن يصادفَ موضع الفتح، فهذا يعد من الطيران المتّصل، وإن استأخر الضياع.
4666 - ولو (2) حل الوكاءَ عن زقٍّ، وفيه مائعٌ، فإن كان الزق منبطحاً، فإن ما فيه يتدفق بحل الوكاء على هذه الهيئة؛ فلا خلاف في وجوب الضمان على من حل الوكاء. وإن كان الزق منتصباً، وكان حل وكائه على هيئة الانتصاب، لا يدفق ما فيه لو بقي منتصباً، نُظر: فإن سقط الزق متصلاً بالحل، واندفق (3) ما فيه، فإن كان
__________
(1) انتهى هنا الخرم الموجود في نسخة الأصل (د 1).
(2) (ت 2): أوحل.
(3) (ي): واندفع.

(7/283)


سقوطُه بسبب تحريك الوكاء وجذبه في صوب الحل، فيجب الضّمان؛ فإنّه حلَّ وأسقطَ الزقَّ.
ولو صادف زقاً منتصباً محلولاً، فأسقطهُ، وجب الضّمان؛ فإن هذا يعد من اعتماد الصب والتدفيق.
ولو حل الوكاء، وترك الزق منتصباً، فبقي كذلك، ثم هبت ريح، فأسقطته، فقد قطع الأصحاب بأن الضمان لا يجب؛ فإن السقوط كان محالاً على الريح، ولا تعويل عليها، ولا يدرى متى تهب. وإن هبَّت، فمتى تبلغ مبلغاً يُسقط الزق.
ولو حل الوكاء عن زق، وكان ما فيه جامداً، فشرقت الشمس، وأذابت مافيه، فاندفق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الضّمان لا يجب؛ لأن الشمس هي المؤثرة، وما جرى من الضياع والفوات محال عليها، كأنها على صورة من يباشر إتلافاً. والوجه الثاني - أنه يجب؛ من قِبل أن الشمس يتيقن شروقها، وليست كالرياح التي لا يدرى متى تهب، فمن عرّض جامداً للشمس، عُدّ ساعياً في تضييعه وتدفيقه.
4667 - وذكر القاضي وجهين في صورةٍ تناظر ما ذكرناه، على تقديره -رحمه الله- وهي أن من أزال أوراق كَرْمٍ وجَرَد (1) العناقيدَ لحَمْي الشمس في الموضع الحار، فأفسدتها الشمس، فهل يجبُ الضمان، على مَنْ نجا (2) الأوراق؟ فعلى الوجهين الذين ذكرناهما في تعريض الجامد لشروق الشمس. وهذا يعسر تصويره في البلاد المعتدلة.
ولو حل الوكاء عن زقٍّ، فاتصل بحلّه سقوطُه، ولم يظهر لنا أن سقوطَه بسبب جذب الوكاء، فقد أطلق الأئمة أن السقوطَ إذا كان على الاتصال، وجب الضّمان، إذا كان ما في الزق مائعاً، فاندفع لما سقط. وليس هذا لأثر الاتصال، وإنما هو لعلمنا بأن الزق الذي يكون منتصباً إذا سقط متصلاً بفعلٍ، فسقوطه به؛ لأن السقوط لا يكون إلا بسببٍ. فإذا قال المصور: إذا اتصل السقوط، ولم يبن لنا أن السقوط
__________
(1) جَرَد الشيء قشره، وأزال ما عليه وعرّاه. (معجم).
(2) ينجو نجاءً ونجاة: كشط، وقشر، ونجا الأوراق أي قطعها وأزالها (المعجم).

(7/284)


بفعل الحالّ. قيل له: هذا تلبيس؛ فإن السقوط إذا اتصل، لم يكن إلا لتأثير مؤثر.
وهذا لا خفاء به.
والغرض من هذا التنبيه ألا يؤخذ هذا من قياس الطيران وانفصاله؛ فإن ذلك يتعلّق (1) باختيار حيوان، أو بإزعاجه.
ولو حل الوكاء عن زق فيه مائع، وكان مملوءاً، والزق منتصب، فأخذ ما فيهِ يسيل قليلاً قليلاً، ويبتلّ لأجله أسفل الزق، حتى أفضى هذا إلى سقوط الزق، واندفاق ما فيه، فيجب الضمان في هذه الحالة؛ لانتسابِ الاندفاق إلى حل الوكاء.
4668 - ولو فتح (2) المُحْرِم القفص عن صيدٍ مملوك، فطار على الاتصال، على قول التفصيل، وهو المذهب، وجب عليه الجزاءُ، لو هلك الطائر قبل أن يستقر؛ فإنا نجعل هذا تنفيراً. والمحرم إذا نفّر، واتصل التلف بالنّفار، التزم الضّمان، فيجب عليه الجزاءُ في الصورة التي ذكرناها لله تعالى، والقيمةُ للمالك.
وإذا استأخر الطيرانُ، فلا جزاء، ولا ضمان؛ فإن الأمر محالٌ على الطيران الذي اختاره الطائر، من غير تنفير.
وإذا فرعنا على قول مالكٍ، وجب الضمان للآدمي، ولم يجب الجزاء؛ فإن الضمان على قوله لا يتلقى من التنفير، والجزاء لا يثبت إلا بالتنفير.
فصل
قال: "ولو كصبه داراً، فقال الغاصبُ: هي بالكوفة ... إلى آخره" (3).
4669 - ليس في هذا الفصل أمرٌ (4 يتعلق بأحكام الغصوب، وما فيه 4) يتعلق بالدعوى والإقرار. وحاصل القول فيه أنّ من ادعى على رجل داراً ببلدة، فلا بد وأن
__________
(1) (ت 2): يقع.
(2) (ت 2): حلّ عن قفصٍ عن صيدٍ.
(3) ر. المختصر: 3/ 44.
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(7/285)


يتعرض في دعواه لتعيينها بالوصف، وذلك يحصل بذكر [المحِلّة] (1) التي فيها الدار، ثم قد لا يكفي ذلك، حتى يعين سكةً من المحلّة، ثم إن كان فيها دور، ميّز (2) الدار التي يدّعيها، بذكر الحدود المشتملة عليها.
ولو ادعى داراً مطلقة، كانت الدعوى مجهولةً، غيرَ مقبولة. وهذا [يُفَصَّل] (3) في كتابِ الدعاوى.
ثم صور المزني دعوى دارٍ بالمدينة، وصوّر إقرار المدعى عليه بدارٍ بالكوفة، فالذي جاء به ليس جواباً عن الدعوى، وإنما هو إقرار بغير (4) المدعى. فإن قال المدعي [هذه] (5) الدار التي أقررتَ بها فهي لي، [ثبتت] (6) تلك الدار، ويبقى المدعى عليه مطالَباً بجواب الدعوى.
وتفصيل أجوبة الدعاوى لا يمكن ذكره على التبعية. وما يتعلق بتفصيل الإقرار استقصيناه في [كتاب] (7) الأقارير.
فصل
قال: "ولو غصبه دابة، فضاعت من يده ... إلى آخره" (8).
4670 - إذا غصب عبداً، فأبق، أو دابةً فشردت، فحكم ضمان الغصب مستدام، وإن زالت يد الغاصب، ثم للمغصوب منه مطالبة الغاصب بقيمة الآبق والشارد، فإذا غرَّمه القيمة، لم يصر الغاصب مالكاً للآبق بسبب بذل القيمة، وموجِب القيمةِ عندنا
__________
(1) في الأصل: الحارة.
(2) (ت 2): عين.
(3) في الأصل: الفصل.
(4) (ت 2): بعين.
(5) في الأصل: هذا.
(6) في الأصل: فتثبت.
(7) زيادة من (ت 2).
(8) ر. المختصر: 3/ 44.

(7/286)


الحيلولةُ الواقعة بين المالك وملكه، بسبب الغصب، ثم المالك يتصرف في القيمة تصرفه في أملاكه، وإذا استمكن الغاصب من العبد؛ فإنه يرده ويسترد القيمةَ.
وكان شيخي يتردد في أن تلك القيمة لو كانت قائمةً في يد المغصوب منه، فإذا رد الغاصب العبدَ، فهل له أن يسترد أعيان تلك الدراهم ولا يرضى بغيرها؟ أم للمغصوب منه الخيار بين أن يردّها، وبين أن يرد أمثالها؟ وهذا التردد لا يوجب توقفاً في [تسلّط] (1) المغصوب منه على التصرف. ولكن القيمة في يدِه بمثابة القرض (2 في يد المستقرض، وقد ذكرنا اختلافَ قولٍ في أن ملك المستقرض متى يحصل 2).
ثم قال القاضي: إذا غرِم الغاصب القيمة، ثم رجع العبد، فللغاصب أن يستمسك بالعبد، ولا يرده حتى تُردَّ القيمةُ عليه، وهذا نقله عن نص الشافعي رضي الله عنه في غير مسائل المختصر، ونص أيضاً على أن من اشترى شيئاًً شراءً فاسداً، وأدّى ثمنه، ثم تبين له الفساد، فإنه يتمسك بما قبضه على حكم الفساد، حتى يُرَدَّ الثمنُ عليه.
وهذا فيه فضل نظر؛ فإنا ذكرنا أقوالاً في أن المبيع هل يحبس في مقابلة الثمن، حتى يقال: البداية بالتسليم على المشتري؟ ولا ينبغي أن [يزيد] (3) العبد الآبق إذا آب على المبيع في مقابلة الثمن، فليخرّج الأمر على الاختلاف.
ويتجه جدّاً إيجابُ البداية بالتسليم على الغاصب؛ تغليظاً عليه؛ فإن يده هذه بقيةُ يد العدوان. والذي غرِمه لأجل الحيلولة، [بحقٍّ غرمه،] (4) والحيلولة قائمة إلى أن يرد، فيظهر إيجاب البداية عليه، لما نبهنا عليه.
هذا في العبد الآبق.
فأمّا إذا اشترى شيئاً شراءً فاسداً، ووفّر الثمن، وقبض المشترى، فالاستمساك به
__________
(1) في الأصل: مسألة. وفي (ت 2): تسلّك. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق.
والحمد لله صدقتنا (ي).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2). هذا، وفي الأصل بعد كلمة يحصل: "ولكن القيمة في يده بمثابة القرض" وهو تكرار لا محل له.
(3) في الأصل: يرتد.
(4) ما بين المعقوفين مكان كلمتين مطموستين في (ت 2) وغير مقروءتين في الأصل هكذا: [نحو غرمه] والمثبت من (ي).

(7/287)


أبعد من استمساك الغاصب بالعبد الآيب عن الإباق؛ من جهة أن للقيمة المبذولة في مقابلة العبد الآبق [بدلٌ] (1) مستحقٌّ شرعاً، والمشترى على الفساد لا يقابله عوض مستحق، فالأوجه فيه أن يطلب (2) ماله، ويرد ما في يده، من غير ترتيب أحدهما على الثاني.
4671 - وممّا يتعلق بمضمون الفصل أن العبد إذا أبق، فعلى الغاصب أن يضمن للمغصوب أجرة مثل المنافع للأيام التي تمر، وهذا مقطوع به قبل اتفاق غرامة القيمة. فإذا غرِم للمغصوب [منه] (3) القيمةَ، فهل يجب عليه أجرُ المثلِ بعد ذلك إلى اتفاق الإياب والرد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يلتزم الأجر؛ فإن القيمة التي بذلها، ومكن المالكَ من التصرف فيها في الحال، تنزل منزلة ردّ (4) المغصوب، فضمان أجر المنفعة مع ما ذكرناه يبعد.
والوجه الثاني: وهو الأصح أنه يلتزم الأجرَ، كما كان يلتزمه قبلُ؛ فإن حكم [الغصب] (5) قائم. وإنما وجبت القيمة على مقابلة الحيلولة الواقعة، فليجب الأجر على مقابلة ضياع المنفعة، والقيمة على مقابلة وقوع الحيلولة.
ولو ازداد العبد الآبق زيادة متصلة، أو ولدت الجارية الآبقة، ففي وجوب ضمان الزيادة وجهان، مأخوذان مما ذكرناه. فإن قلنا: لا يجب الأجر تنزيلاً لبذل القيمة منزلةَ ردّ المغصوب، فلا يجب ضمان الزوائد، وكأَنَّ المغصوب خارج عن عهدة الغاصب.
وإن قلنا: يلتزم الأجرَ استدامةً لحكم الغصب [فيثبت] (6) الضمان في الزوائد.
وهذا الخلاف الذي ذكرناه في الزوائد أبعد من الخلاف في الأجرة. والوجه القطع
__________
(1) في الأصل: بذل. (بالمعجمة).
(2) (ت 2): يأخذ الثمن.
(3) زيادة من المحقق، وفي (ت 2): الغاصب، ومثلها: (ي).
(4) ساقطة من (ت 2)، (ي).
(5) في الأصل: المغصوب.
(6) في الأصل: ويثبت.

(7/288)


بضمان الزوائد؛ من جهة أنا إن قلنا: تمكُّنُ المغصوبِ منه من الانتفاع بالقيمة، [بالتصرف] (1) فيها يسد مسد ما يفوت من منفعة العين، فهذا على بعده قد يُتخيل، فأما المصير إلى انقطاع عُهدة الغصب، فبعيد.
ومما يخرّج على الخلاف أحكامُ جنايات العبد في إباقه، ففي وجهٍ نُعلِّق ضمانَها بالغاصب استدامةً لحكم الغصب، وفي وجهٍ نبرئه منها لبذله القيمة.
4672 - ثم قال المحققون: لو غصب عبداً وغيّبه إلى مكانٍ بعيدٍ، ولما توجهت الطَّلِبةُ عليه بردّه، عسر عليه ردُّه، وغرِم قيمته. قالوا: يجب [عليه] (2) في هذه الصورة ضمانُ الأجر إلى الرد. وكذلك القولُ في ضمان الزوائد، والتزام عهدة الجنايات. وزعموا أن هذا محلُّ الوفاق، بخلاف ما قدمناه في حالة الإباق.
والفارق أن العبد المغصوب إذا كان خروجه وغَيْبتُه على حكم الغاصب وتصريفه إياه، فهو باقٍ في حقيقة يد الغاصبِ، فَقَطْعُ علائق الضّمان محالٌ بخلافِ الآبق. وهذا الفرق وإن كان له اتجاهٌ، فقد كان شيخي يطرد الخلاف في هذه الصُّورة؛ بناء على صورة بذل القيمة، ونزولها منزلة العين. والمسألة محتملة.
4673 - وحكم الأجرة في اللوح المغصُوبِ المدرج في السفينة، يخرّج على الترتيب الذي ذكرناه، فإن لم يضمن الغاصب قيمة اللَّوح لمكان الحيلولة، فعليه أجر مثلها إلى التمكن من نزع اللوح ورده. وإن غرِم القيمة لوقوع الحيلولة، وتعذر الرد، فإذا كان الغاصب مع السفينة، فهذه الصورة تناظر ما لو صَرَفَ العبد إلى بعض الجهات وغيّبه. وفيه من التردد ما ذكرناه.
وحكم أجر المثل يجري في الخيط مادام جزءٌ منه باقياً في الجرح، فإذا تعفن وبلي، فقد تلف.
ومن آثار ما ذكرناه أنه إذا غرِم قيمة الآبق، وكانت ألفاً، ثم ازداد بالسُّوق، فصار مثله يساوي ألفين، فزيادة السوق في هذا المقام بمثابة زيادة الأعيانِ. فإن قطعنا
__________
(1) (ت 2): فالتصرف. ولعلها: والتصرّف.
(2) زيادة من: (ت 2).

(7/289)


علائق الضّمان ببذل القيمة الأولى، فلا نظر إلى ما يتفق من بعدُ من ارتفاع السعر. وإن استدمنا حكمَ الضمان والتغليظَ على الغاصب، فلما ارتفع السوق، وجب بذلُ مزيدٍ في القيمة.
4674 - ومن دقيق المذهب ما نختم الفصل به: وهو أن ضمان القيمة عند وقوع الحيلولة، وحصول التعذّر من الرد واجبٌ، كما ذكرناه في قاعدة الفصل. فلو جاء الغاصب بالقيمة للحيلولة، فللمغصوب منه أن يمتنع منها على ظاهر المذهب؛ من جهة أنها ليست حقاً مستحقاً ملتزَماً في الذمّة، يأتي الملتزم به، فيجبر المستحِق على قبوله أو الإبراءِ عنه.
ويتصل بذلك أنه لو أبرأ مالكُ العبد عن القيمة المعلّقة بالحيلولة، فلا معنى لإبرائه عنها؛ فإن الحيلولة تتجدد حالاً على حالٍ. وهذا يضاهي نظائرَه من إسقاط امرأة المولي حقها عن الطلبِ بعد انقضاء المدّة؛ فإنه لا حكم لإسقاطها؛ من جهة تجدد حقوقها على ممرّ الزمن في المستقبل.
ونزَّل بعضُ أصحابنا قيمة الحيلولة منزلةَ الحقوق المستقرة، حتى صحح الإبراء عنها، وألزم مالك العبد قبولَها. وهذا غفلة عن حقيقة الفصل، والتعويل على ما قدمناه.
فصل
قال: "ولو باعه عبداً، وقبضه المشتري ... إلى آخره" (1).
4675 - مقصود الفصل غيرُ متعلقٍ بأحكام الغصوب، وإنما هو مجمع من قضايا الأقارير والدعاوى. ولكنا نذكره جرياناً على ترتيب (السَّواد) (2) فنقول: من باع عبداً وأَلْزم في ظاهر الحالِ بيعه، ثم قال: كنتُ غصبته، فقوله مردود في انتزاع العين من يد المشتري، ولكنه هل يغرَم للمقَرّ له قيمةَ العبد؟ من أصحابنا من خرج ذلك
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 45.
(2) السواد: المراد مختصر المزني، كما أشرنا من قبل.

(7/290)


على القولين فيه إذا قال: غصبت هذه الدارَ من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلَّمةٌ إلى الأول، وفي وجوب ضمان القيمة للثاني قولان، تمهد ذكرهما.
ومن الأصحاب من قطع في مسألة الإقرار بعد البيع بوجوب ضمان القيمة للمقَرّ له. وفرق بأنه في مسألة الإقرار لم ينشىء أمراً، وإنما صدر منه إخبارٌ مجرّد. وفي مسألة البيع أنشأ البيع في ظاهره، وهو موجب لحكم الحيلولة. وهذا الفرق مما سبق ذكره.
ولو قال البائع ما قال، فصدقه المشتري، وجب عليه تسليم العبد إلى المقَرّ له، ويرجع بالثمن على البائع (1).
وإن لم يقر البائع لكنّ المشتري أقرّ بأن هذا العبدَ الذي اشتريتُه مغصوب من فلان، غصبه البائع وباعه، فلا يرجع بالثمن على البائع.
وإن لم يوجد الإقرار منهما، ولكن جاء إنسانٌ [وادّعى] (2) أن العبد الذي باعه ملكُه، كان غصبه (3) منه، وباعه مغصوباً، فكذباه -أعني البائع والمشتري- فالقول قولهما. أما المشتري، فيحلف: "لا أسلم العبد إلى المدعي". ولا عليه لو قيّد يمينه -إن أراد- بكَوْن العبد ملكاً له، بناء على ظاهر الحال.
وأمّا البائع، فإنما يتجه تحليفُه إذا كنا نرى تضمينه القيمة. وينبغي أن يقع يمينه على نفي القيمة؛ فإنها المدعاة عليه في الحال. ولو تعرض لنفي الغصب للمدّعي، فلا بأس مع التعرض لنفي القيمة. ولو اقتصر في يمينه على نفي الغصب، ففيه وفي أمثاله خلافٌ يأتي في الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
4676 - وفرض الأصحاب صورة طوّلوا الفصل بذكرها، فقالوا: لو اشترى عبداً وقبضه، وأعتقه، فجاء المدعي وادّعى أن البائع كان غصبه، فإن كذبوه -يعني البائعَ والمشتري والعبدَ- والتفريع على الصحيح في حق البائع، فيحلف البائع: "لا تلزمه
__________
(1) ساقط من (ت 2)، (ي).
(2) في الأصل: فادعى.
(3) (ت 2)، (ي): عصب منه.

(7/291)


القيمة" ويحلف المشتري: "لا يلزمه ردُّ العبد" (1)، ولا نزاع مع العبد؛ فإنه قد أعتقه المشتري ظاهراً، ومضى حكم الشرع بنفوذ العتق فيه. وسنبين ما نبغيه في أثناء الفصل، إن شاء الله.
4677 - فلو صدقه البائع، لم يقبل قوله في انتزاع العبد؛ فإنه يتضمن إبطالَ ثلاثة حقوق: حق المشتري، وحق العبد، وحق الله تعالى في العتق. وإن صدقه البائع والمشتري، لم يقبل في ردّ العتق لحق العبد، وحق الله تعالى. وعلى المشتري القيمةُ، [والطلبة] (2) بها؛ من جهة إعتاقه، فلو صدقه البائع، والمشتري، والعبد، لم يبطل العتق؛ لأن فيه حقَّ الله تعالى.
ولو [مات هذا العبد] (3) وكان كسب مالاً، ولم يكن له نسيبٌ وارث، فميراثه للمقَر له بالغصب (4)؛ لأن البائع والمشتري أقرا له (5 بالملك، وليس 5) في [قبول] (6) إقرارهما في هذا المقام -وقد نفذ العتق- مُرادّةُ (7) حقٍّ. وهذا ظاهر؛ فإن [العتيق] (8) لا يرثه إلا مولى [العتاقة] (9) إذا لم يكن له من يحجب مولاه، ولا يمكن (1) أن يُقدَّر حرَّ الأصل؛ فإن الحرية الأصلية ليست ثابتة في حساب، ولا على موجب قولٍ من أقوال هؤلاء.
4678 - وهذه المسألة فيها لطفٌ؛ من جهة أن قبول قول المشتري يوجب ارتداد
__________
(1) (ت 2)، (ي): العين.
(2) في الأصل: والطالبة.
(3) في الأصل: ولو فات هذا العتق. وفي (ي): ولو مات هذا العتيق.
(4) أي يرثه بالولاء.
(5) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(6) في الأصل: قبوله.
(7) اسم ليس مؤخر.
(8) في النسختين: (العتق)، والمثبت تقدير منا. وقد صدقتنا نسخة (ي) وقد حصلنا عليها بعد الانتهاء من هذا الجزء.
(9) زيادة من المحقق للإيضاح.
(10) (ت 2)، (ي): ولا يمكننا أن نجعله، حرّ الأصل.

(7/292)


العتق، لو أمكن الوفاء بذلك، فكيف انتهض مثبتاً (1 للميراث. ولكن الغرض من هذا أن الاختصاص الذي يمكن إثباته يثبت بقول المشتري 1)، وإن لم يثبت، رُدَّ العتقُ. وليست المسألة خالية عن إمكانٍ واحتمال (2). وتكاد أن تكون من دواير (3) الفقه؛ فإن في قبولِ إقرار المشتري ردَّ العتق، وفي رد العتق ردُّ التوريث، وما في يد هذا العتيق ربما حصّله من جهاتٍ لا يصح من العبيد التحصيلُ منها من غير إذن السَّادة.
وقد ينقدح في المسألة تفصيلٌ، فنقول: ما يصح من العبد اكتسابه من غير إذن المولى يجب أن يصرف إليه، فإنه بين أن يكون كسبَ عبده، أو ميراثَ عتيق ثبت أصل الملك له فيه [لزوماً] (4)، وما ثبت في يده عن جهةٍ لا يصح استبداد العبد بها، فالوجه الحكم بأن المقر له لا يستحقه؛ فإنه ينكر الملك فيه، ويرد عتق المشتري. هذا [ما] (5) لا بد منه. وهو مستقر المسألة. والأئمة وإن لم يذكروا هذا التفصيل، فلا شك أنهم عنَوْه، ولو عرض عليهم، لم ينكروه.
فصل
قال: "ولو كسر لنصراني صليباً ... إلى آخره" (6).
4679 - آلات الملاهي تُكسَّر في أيدي المسلمين، فاختلف الأئمة في الحد الذي
ينتهي الكاسر إليه. فقال القائلون: إذا فصلها، كفى، وينبغي أن يُبقي انتفاعاً آخر به، إن أمكن الانتفاع، وهذا القائل يقول: إذا كان الكلام مفروضاً في الأوتار، فيكفي في الكسر رفعُ وجه البَرْبَط (7)، وتركُه على شكل قصعه؛ فإنه بهذا القدر يخرج
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(2) (ت 2)، (ي): إمكان احتمال.
(3) أي من مسائل الدّور.
(4) مزيدة من (ي).
(5) زيادة من (ت 2)، (ي).
(6) ر. المختصر: 3/ 45.
(7) البَرْبط: العود. من آلات الموسيقى.

(7/293)


عن اللهو (1)، والاستعمال المحرّم.
ومن أئمتنا من رأى الزيادة على الحدّ الذي ذكرناه.
ثم الضبط فيما ينتهي إليه ألا يتأتى من [المنكسر] (2) اتخاذ آلةٍ كالتي كانت، أو اتخاذ آلة أخرى من المعازف. وحاصل الخلاف المذكور آيلٌ إلى أن المعتبر عند بعض الأصحاب إخراجُ الآلة عن إمكان استعمالها في الوجه المحرم. والاعتبار عند الآخرين بإخراجها عن إمكان الرد إلى الهيئة المحرّمة.
وذهب آخرون إلى مسلكٍ وسط، فقالوا: ليس من الشرط إنهاء الكسر إلى استحالة اتخاذ الآلة من الرُّضَاض (3)؛ فإن الخُشب متهيئة لاتخاذ آلات منها، فإذا وجدنا أصولها في أيدي من يتعاطى صنعة الآلات لم نفسدها عليه.
فالمعتبر إذاً انتهاء الكسر إلى حالةٍ لو فرض محاولة صنعة الآلة من الرّضاض، لنال الصانع من التعب ما يناله في ابتداء الاتخاذ.
ولم يكتف أحد من أصحابنا بقطع الأوتار وترك الآلات. والسبب فيه أن الأوتار منفصلة عن الآلة، [وهي] (4) في حكم المجاورة لها، فلا يقع الاكتفاء بإزالتها؛ فإنَّ الآلات باقية.
ووراء ما ذكرناه [نظر] (5)؛ فالذي يصنع هذه الآلات إذا وجدنا في يده صفائح لم تتم الصنعة فيها، فإن كانت على حدٍ لا يتجاوزها الكسر، (6 فلا نفسدها، وإن كانت على حدٍّ قد يتجاوزها الكسر 6) ففي كسرها تردُّدٌ عندي؛ فإن من يبالغ في الكسر بناء على ما عهد من الآلة المحظورة قد لا يرى هذه المبالغة في الابتداء، قبل أن تثبت الهيئة.
__________
(1) (ي): يخرج من التهيؤ للاستعمال المحرّم.
(2) في الأصل: الكسر. والمثبت من (ت 2)، (ي).
(3) الرضاض: شظايا وبقايا أثر الكسر. (معجم).
(4) في الأصل: وهو.
(5) في الأصل: مضض.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(7/294)


ومن بالغ في الكسر ينبغي أن يتوقف في الصليب؛ فإن الصليب خشبة معرَّضة على خشبة، فإذا رفعت إحداهما عن الأخرى، فلا معنى للازدياد على هذا. وقد سقطت هيئة الصليب بالكلية، والعلم عند الله.
فصل
" فإن أراق له خمراً ... إلى آخره" (1).
4680 - تفصيل القول في إراقة الخمر على المسلمين بيّن، وغرض الفصل تفصيل القول في إراقة خمور أهل الذمة.
اتفق الأئمة على أنه لا يجوز أن يُتَّبعوا في مساكنهم، وتراق عليهم خمورهم. وإن كنا نعلم أنهم يتخذونها. وإذا ظهر لنا هذا من المسلم، اتّبعناه، وأرقنا عليه؛ وذلك أنا عقدنا الذمة على تقريرهم على مُوجب عقدهم (2)، بمعنى المتاركة والإضراب، وليس اقتناؤهم للخمور بأكثر من استمرارهم على الكفر. ولا نشك أنهم إذا استخلوا بأنفسهم، أظهروا تكذيب نبينا؛ فإذا سوّغ الشرع تقريرهم على كفرهم، لم يبعد أن يسوغ تقريرهم على خمرهم. ثم هم ممنوعون من إظهار الخمور والتظاهر بشربها، بحيث يُطَّلع عليهم، وكذلك يُمنعون من إظهار المعازف، وإظهارُهم إياها استعمالُها، بحيث يسمعها من ليس في دورهم.
ثم إذا أريقت عليهم الخمورُ التي اقتنَوْها، فلا ضمان على مريقها، وإن كان ممنوعاً من اتباعهم، خلافاًً لأبي حنيفة (3).
وأجرى الأصحابُ في أثناء المسألة مسألة مذهبية في الحد؛ فإنهم ألزمونا (4) سقوط الحد عن الذمي إذا شرب وارتفع إلينا راضياً بحكمنا، والذي قطع به المعتبرون
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 46.
(2) أي: عقيدتهم.
(3) ر. رؤوس المسائل: 348 مسألة 228، ومختصر الطحاوي: 119.
(4) (ت 2): ألزموا.

(7/295)


من أئمة المذهب أنه لا يحد شاربهم، وإن رضي بحكمنا، إذا كانوا يعتقدون حل الخمر. وهذا وإن كان يغمض الجواب عنه في الخلاف، فهو المذهب.
وذكر أئمة الخلاف وجهاً في وجوب الحدّ وفي كلام الشيخ أبي علي رمز إليه.
وتوجيهه هيّن إن صح النقل، فإنا نستتبعهم في موجب عقدنا، ولا نتبعهم. وقد يعتضد هذا بنص الشافعي رضي الله عنه إذ قال: "لو شرب الحنفي النبيذ حددتُه، وقبلت شهادته" فإذا كان عقد الحنفي في استحلال النبيذ لا يعصمه من الحدّ، فعقد الذمي لا يمنعه من الحد، إذا رضي بحكمنا. وهذا موضع [الغَرَض] (1)، والكلام.
4681 - فإن قيل: ما المعتمد في المذهب الظاهر في الفصل بين إقامة الحدّ على الحنفي وبين الامتناع من إقامة الحد على الذمي؟ قلنا: لما رأى الشافعي المعنى الذي يجب الحد على شارب الخمر لأجله موجوداً في النبيذ، لم يعرّج مع وجود المقصودِ على مذهبِ ذي مذهبٍ؛ فإنا على اضطرار نعلم أن كل خبل (2) يجره شرب الخمر يقتضيه (3) شربُ النبيذ. وإذا كان هذا معتمدَ الحدّ، وهو مقطوع به، فلا وقع للخلاف وراءه. والحنفي مزجور بالحدّ زجرَ غيره. والذمي ليس مزجوراً بحد الشرب، مع العلم بأنه يشرب الخمر إذا [استخلى] (4). وعماد الحد الزجرُ، ولا حاصل له في حق الذمي. وهذا حدٌّ واضح.
4682 - ثم لما ذكر الشافعي هذا في النبيذ، اضطرب الأصحابُ في النكاح بلا ولي، ونكاح الشغار، وما سواهما من الأنكحة المختلف فيها.
فقال أبو بكر الصيرفي (5): يجب الحد على من وطىء في النكاح بغير وليّ، قياساً على شرب النبيذ. وهذا مزيف لا أصل له. والمعنى الذي نبهنا عليه يُسقطه؛ فإن
__________
(1) في الأصل: الفرض.
(2) (ت 2): تخيل.
(3) (ت 2): فقاضيه.
(4) في الأصل: استحلّ.
(5) (ت 2): الصيارفي.

(7/296)


كل ما يُحذَر في الخمر، فهو موجود في النبيذ، والزنا من غير تعلقٍ بصورة العقد هو السِّفاح، ولا يضاهيه نكاحٌ بُني على رضاً وإشهادٍ، فليس يقتضي زاجرُ الزنا في الوطء في النكاح بلا وليّ ما يقتضيه الزاجرُ عن شرب الخمر في شرب النبيذ. ثم كان شيخي يحكي عن الصيرفي (1) ثبوتَ (2) الحد على الحنفي في النكاح بلا ولي طرداً لقياس النّص (3) في شرب النبيذ.
وحكى الشيخ أبو علي عن الصيرفي (1) مصيرَه إلى إيجاب الحد في حق من يعتقد تحريم النكاح بغير ولي، والقطع بأنه لا حد على من يعتقد تحليله.
هذا منتهى مسائل الغصب في نقل المزني. ونحن نرسم فروعاً بعدها.
فرع:
4683 - سنذكر في بابٍ مخصوص بأحكام البهائم في ربع الجراح، إن شاء الله تعالى أن ما تفسده البهيمة، فالأمر في الضمان مبني على تفريط مالكها، فإذا كان المالك معها، فأتلفت شيئاً بخبْطها (4) أو عضِّها أو رَمْحها (5)، فعلى المالك الضمان، ولا تعلق للمضمون برقبة البهيمةِ.
فإذا كان معه طائر، فالتقط لؤلؤة، فإن لم يكن مأكولَ اللحم، فعليه القيمة للمالك؛ إذ لا يحل ذبح الطائر الذي لا يؤكل لحمه، (6 إذا لم يكن من الفواسق. وإنما وجبت القيمة لمكان الحيلولة. ثم إن كان الطائر مأكول اللحم 6)، ففيه الخلافُ الذي ذكرته في الذبح. وأنه هل يسوغ؟ وقد قدّمتُه في فصول الخيط. فإذا تمهد ما ذكرناه، بنينا عليه فرعاً (7).
فإذا باع الرجل حماراً بشعير معين، فقضم الحمار الشعير، فإن كان الشعير مُسلَّماً
__________
(1) (ت 2): الصيارفي.
(2) في الأصل: في ثبوت.
(3) (ت 2): طرداً للقياس اقتضى في شرب الخمر.
(4) خبط البعير الأرض ضربها بيده. وفي (ت 2): خلطها.
(5) رمح ذو الحافر رمحاً: ضرب برجله. (معجم).
(6) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(7) (ت 2): فروعاً.

(7/297)


إلى البائع، (1 لا ينفسخ العقد لدخوله في ضمان مستحقه، ثم الكلام في الضمان يترتب على تفصيلٍ: فإن كان سلّم الحمار إلى المشتري، وكان المشتري معه لما قضم، لزمه الضمان للبائع 1)، ويغرَم له مثل شعيره.
وإن كان الشعير في يد المشتري بعدُ، والحمار في يد البائع، فإذا قضم الشعيرَ، نظر: فإن كان البائع مع الحمار، فما جرى يكون قبضاً للشعير المجعول ثمناً.
وهذا يوضحه أمر بيّن (2) وهو أن من ثبتت له يد، وإن لم يكن مالكاً، فهو مؤاخذ بحفظ ما تحت يده، فلو كان الحمار وديعة في يد إنسان، وكان يستاقه ليسقيه، فما يتلفه الحمار مضمون على المودَع، والبائع إذا كان ذا يدٍ للحمار (3)، وإن كان ملكُه للمشتري، فما يتلفه محسوب على البائع، فكأنه أتلف الشعير بنفسه [و] (4) لو أتلفه، كان قابضاً له؛ فإن مستحق العوض إذا أتلفه، كان إتلافه له بمثابة قبضه إياه.
هذا مقصود الفرع.
فرع:
4684 - الغاصب إذا أدخل فصيلاً في خوخة، فكبر بحيث لا يتأتى خروجه من المدخل (5) الذي أدخل فيه، وكان لا يمكنه ردُّه إلى مالكه إلا بهدم البيت، أو فتح باب كبير، فإنا نهدم على الغاصب على قدر الحاجة، ولا ضمان؛ لأجل أنه المتعدي.
ولو دخل الفصيل البيتَ، وصادف فيه ما يأكله ويشربه، فكَبِر، ثم انتهى إلى حالةٍ لو ترك فيه لهلك، فصاحب البيت ليس غاصباً في هذه الحالة، والنظر مردود إلى تفريط مالك البهيمة، فإذا كان مفرِّطاً بترك مراعاته، حتى دخل الموضع الذي دخله، فيهدم ما تمس الحاجة إلى هدمه في تخليص الحيوان، ولسنا نرعى فيه حرمةَ مالكه، وإنما نرعى حرمةَ الروح، ثم يغرَم المالك ما ينقصه الهدم؛ من جهة انتسابه إلى التفريط.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(2) ساقطة من (ت 2).
(3) (ت 2): في الحمار.
(4) في الأصل: فلو.
(5) (ت 2): خروجه من الخوخة إلا بهدم البيت.

(7/298)


فلو أمكن تصوير صورة لا يكون المالك مفرطاً فيها في إرسال بهيمته، فلا تفريط من مالك البهيمة، ولا من رب البيت، وقد (1) جرت الواقعة على الصورة التي ذكرناها؛ فعدم الغصب من صاحب البيت يوجب احترامَ ملكه؛ وعدم التفريط من صاحب البهيمة يوجب براءة ذمته، فكيف [الوجه] (2) والحالة هذه؟ قلنا: نهدم ما تمس الحاجة إلى هدمه، ثم لا ضمان؛ فإن الهدم مستحق لحرمة الرّوح ولا تفريط من أحد، فالوجه نفي الضمان.
وقد ينقدح فيه خلافٌ؛ تخريجاً على [أن] (3) من أوجر مضطراً طعاماً يلزمه قيمة الطعام لرجوع المنفعة إليه، فعلى رب البهيمة على هذا التقدير ما ينقصه النقض.
والعلم عند الله تعالى.
فرع:
4685 - زوج خف يساوي عشرين أخذ الغاصب منه فرداً، وكان الفرد الذي أبقاه يساوي درهماًً، فما الذي يجب على الغاصب، إذا تلف ما غصبه في يده، أو أتلفه؟ حاصل ما ذكره الأصحابُ أوجه: أحدها - أنه يجب على الغاصب تسعةَ عشرَ؛ فإنّه تسبب بأخذ فرد وإتلافه إلى رد قيمة ما أبقاه إلى درهم، فيلزمه تمامُ ما انتقصه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الغاصب إلا درهم؛ فإنه قيمة الفرد، وهو لم يأخذ غيره. ومن أصحابنا من قال: يجبُ عليه نصفُ قيمة الزوج. وهذا معتدل بين طرفي التكثير والتقليل.
فرع:
4686 - إذا غصب شاةً وانتفع بدرّها، ونسلها، وصوفها؛ فإنه يرد الشاة، ويغرَم ما ثبتت يدُه عليه [من الشاة. ثم منه ما هو من ذوات الأمثال، ومنه ما هو من ذوات القيم، كالنتاج. وللشافعي وقفةٌ في الصُوف، في أنه من ذوات الأمثال] (4) أو
__________
(1) (ت 2): ولو جرت.
(2) (ت 2): توجه.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2)، (ي). وعبارة الأصل هكذا: ويغرم ما ثبتت يده عليه، ثم الصوف هل هو من ذوات الأمثال، أو من ذوات القيم، والأمر محتمل ...

(7/299)


من ذوات القيم. والأمر محتمل، من جهة أن الصوف من الشاة الواحدة لا يتماثل، فما الظن إذا تعددت المحال.
فرع:
4687 - إذا أجج ناراً في داره، فطارت منها شرارة [إلى دار جاره] (1) أو إلى كُدْسه (2)، فجرَّت حريقاً، فهذه المسألة، ونظائرها، معروضة على العادة. فإن عُد صاحب النار مقتصداً في إيقاده، فلا ضمان عليه، وإن حدث ما حدث بسببه؛ فإن التحفظ من مثل هذا غير ممكنٍ، فمجرى الحال محمول على القدر [المقدّر] (3) ولو لم نَقُل ذلك، لمنعنا الملاك من التصرف في أملاكهم. ولا يجري ما ذكرناه مجرى التعزيرات (4) المشروطة بسلامة العاقبة؛ فإن حسم تصرف الملاك عظيم، فلا يقاس بهلاك يقع نُدرةً، مع الاقتصاد في [التعزير] (5).
وإن عُدّ صاحب النار مجاوزاً للغاية، توجه الضمان عليه.
قال الأصحاب: النار القريبةُ في اليوم [ذي] (6) الريح في العرائش، وبيوت القصب، كالنار العظيمة المجاوزة للحدّ. وفقه الفرع أنا إن تحققنا المجاوزة، أثبتنا الضمان. وإن تحققنا الاقتصادَ، نفيناه. وإن ترددنا، فلا ضمان مع التردد. والمعني بالتردد تساوي العقدين. فإن غلب على الظن مجاوزةُ الحد من غير قطع، أمكن تخريج هذا على غلبة الظن في النجاسات؛ فإن البابين مستويان في إمكان التعلق بالأماراتِ.
ولو كان الإنسان يسقي الزرع فانبثق بثقٌ من أرضه إلى دار جاره، وجرّ هدماً، وفساداً، فالقول فيه خارج على ما ذكرناه. وعلى الذي يسقي أرضه [أن] (7) يتعهد
__________
(1) في الأصل: شرارة في داره أو إلى كُدسه.
(2) الكدس، وزان قُفل، ما يجمع من الطعام في البيدر (مصباح).
(3) في الأصل: المقدور.
(4) (ت 2): التقديرات.
(5) في الأصل: التقدير، وفي (ي): التقديرات.
(6) مزيدة من (ت 2)، (ي).
(7) في الأصل: أو.

(7/300)


ما جرت العادة بتعهده. والنائم عن مثل هذا مقصّر، إذا لم (1) يقدم احتياطاً موثوقاً به. وقد يختلف الأمر باختلاف البقاع، وصفات الأراضي، في كونها صُلبة، أو خوارة (2)، ويختلف أيضاً بأن تكون الأرض المسقيّة مستعليةً؛ فإن الماء يسرع انحداره من العلوّ.
فهذا منتهى الضبط في ذلك.
فرع:
4688 - إذا اشترى الرجل أرضاً مغصوبة على جهلٍ بحقيقة الحال، [وبنى عليها، وغرِم على البناء مالاً، ثم تبين الاستحقاق، نُقض] (3) بناؤه، وألزم الأجر.
أما القول في المنافع وأنه هل يرجعُ بما [غرمه] (4)، فقد مضى مفصلاً.
والذي نُحدثه الآن أنه إذا هُدم بناؤه، فهل يرجع بأرش النقصِ على البائع الذي غره؟ فيه اختلاف بين الأصحاب. ومال القاضي إلى أنه يرجع، وهذا استمساكٌ بمحض التغرير. ولا أحد يصير إلى أنه يرجع (5) بما بذله في البناء؛ فإن ذلك يختلف، وإنما الرجوع بما ينقصه النقض.
فرع:
4689 - قد ذكرنا خلافاًً في أن المستعير، والقابضَ عن الشراء الفاسد، والمسْتام، يضمنون ضمانَ الغصوب أم لا؟ فإن نفينا ضمان الغصب، فقد خَرَّج الأصحابُ ضمان الزوائد المنفصلة والمتصلة على هذا القانون، واستقر جواب المحققين على أن الاعتبار -إذا نفينا تغليظ الغصبِ- بيوم القبض، فكلّ (6) ما يحدث بعده، لا (7) يقع مضموناً. قال صاحب التقريب: الذي أراهُ وأختاره، أن الزوائد
__________
(1) في (ت 2): إلا أن يقدم، وفي (ي): إلى أن يقدم.
(2) (ت 2): رخوة.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 2)، (ي). وفيهما: "ونقض بناؤه".
(4) في الأصل: يغرمه.
(5) في الأصل: يرجع مال بما بذله.
(6) (ت 2): فكان.
(7) (ت 2): فلا.

(7/301)


المتصلة مضمونة. وما ينفصل لا يضمن، كالولد، والثمار. وهذا غريب، وإن اتجه في الرأي.
فرع:
4690 - إذا غصب الرجل عيناً وباعها، فأراد المالك إجازة البيع، فهو خارج على وقف العقود، وإن كثرت البياعات، وعسر تتبعها، وتفرق المتعلقون بها، فإذا فرعنا على الجديد في منع وقف العقود، ففي هذه الصورة تردد، لما في [التتبع] (1) من الضرر العظيم. وللشافعي في الجديد ترديد جوابٍ في هذا. وقد أدرجت هذا في تقاسيم الوقف في كتاب البيع.
فرع:
4691 - إذا باع رجل، أو أجرى البيعَ إلى حالة الإلزام، ثم قال: كنت غصبته، فقد ذكرنا في وجوب الضمان عليه للمقَر له خلافاًً.
وقد زاد صاحب التقريب وجهاًً مفصلاً، فقال: إن قال: بعته وهو ملكي، ففيه التردد في الغرم، وإن أطلق البيع، ولم يدّع الملك، لم يضمن؛ فإنَّه قد يبيع الإنسان ما لا يملكه. وهذا لا أصل له؛ فإنه ببيعه أوقع الحيلولة، وإن لم يدع الملك لنفسه. ومعتمد الضمانِ في الباب الحيلولةُ وإيقاعُها، والله أعلم.
[انتهى كتاب الغصب بحمد الله] (2).
...
__________
(1) في الأصل: التبيع.
(2) زيادة من (ت 2).

(7/302)