نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الشفعة (1)
4692 - الأصل في الشفعة السنة والإجماع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقت الحدود، فلا شفعة" (2) وقال عليه السلام: "الشفعة في كل شركٍ من رَبعْ أو حائط" (3) وأجمعوا على أصل الشفعة، وأَخْذُها من قولك شفعت شيئاً بشيء إذ جعلته شفعاً به.
ثم المبيعات في الشفعة على أقسام: قسمٌ يثبت فيه الشفعة سواء انفرد معقوداً عليه، أو اشتمل العقد عليه، وعلى غيره، مما لا شفعة فيه. وهو العقار. على ما سنفصل القول فيه.
وقسم لا تثبت الشفعةُ فيه، لا مفرداً، ولا مضموماً إلى غيره، وهو المنقولات.
وقسم تثبت الشفعة فيه تابعاً، ولا تثبت الشفعة متبوعاً مقصوداً، كالأشجار والأبنية. فإذا بيعت مع العرصاتِ، ثبتت الشفعة فيها ثبوتَها في الأراضي، وإذا أُفردت الأشجار بالبيع دون مغارسها، أو أفردت الأبنية بالبيع دون أساسها، فظاهر المذهب أنّه لا شفعة فيها.
وخرّجها بعض الأصحاب على تفصيل القول في القسمة. وقال: إن قلنا: لا تثبت الشفعة فيما لا ينقسم، فالأشجار والأبنية الشاخصة، والسقوفُ لا تقبل
__________
(1) من أول كتاب الشفعة بدأت نسخة (هـ 3)، فصارت النسخ ثلاثاً، ثم حصلنا على (ي)، فصارت أربعاً. وما زال الأصل هو (د 2).
(2) حديث الشفعة فيما لم يقسم. الموطأ: 2/ 713، والسنن الكبرى: 6/ 102، 105. وانظر التلخيص: 3/ 124 ح 1301. وهو عند البخاري بلفظ: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما لم يفسم ... ح 2257، وعند مسلم ح 1608.
(3) مسلم بالرقم السابق.

(7/303)


القسمة في معظم الأحوال، فلا شفعة فيها، إلا (1) إذا كانت تنقسم.
وإن قلنا: تثبت الشفعة فيما لا ينقسم من العقار، [ففيها الشفعة] (2) كما سنذكره الآن بهذا الفصل، إن شاء الله.
[فلو] (3) فرض جدار عريض قابل للقسمة، أو صُوِّر سقف قابل لها، ففي المسألة قولان: أحدهما - لا تثبت الشفعة فيها مفردة؛ فإنها محدثات ليس لها (4) حقيقة التأبّد، وهي إلى الزوال؛ فإن الأشجار ستُرقل (5) وتصير قَحاماً (6)، والأبنية تنهدم على طول الدهر؛ ولقد كانت منقولةً، فأُثبتت في الأرض، ومصيرها إلى ما كانت عليه قبل التثبيت.
والقولُ الثاني - أنه تثبت الشفعة فيها؛ فإنها لا تعدّ من المنقولاتِ، وتثبت فيها الشفعة مع الأراضي؛ فلتثبت الشفعة فيها وحدها. هذه طريقة لبعض الأصحاب.
وكان شيخي أبو محمد رحمه الله يرددها في الدروس.
والطريقة المرضية التي قطع بها أئمة المذهب أنه لا تثبت الشفعة فيها مفردة متبوعة وإنما تتعلق الشفعة بها إذا كانت تابعة للأرض.
4693 - ثم مذهب الشافعي أن الشفعة لا تثبت إلا للشريك في العقار، ولا شفعة بالجوار، ولا بالاشتراك في المسيل والممر وغيرهما من حقوق الأملاك، ومذهبه
__________
(1) (ت 2): إذا كانت لا تنقسم.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(3) في الأصل، (ت 2)، (هـ 3): أو، وفي (ي): ولو، والمثبت تصرف من المحقق.
(4) (ت 2): عليها.
(5) أي ستطول، وتنمو، وتبلغ عمرها. يقال: أرقلت النخلة: طالت (معجم، مصباح).
(6) (ت 2): فحاماً بالفاء. وفي الأصل، (ي)، (هـ3) قحاماً بالقاف. والقحامة: بلوغ أرذل العمر، والقحم من بلغ أرذل العمر، والجمع قِحام. ونخلة قحمة إذا كبرت ودق أسفلها، وقل سعفها. والجمع قحام أيضاً. أما بالفاء (فِحام) فهي جمع فحم (معجم، مصباح).
ورجحنا (قحاماً) بالقاف، لأنها من ألفاظ الفقهاء، فقد ذكرها الأزهري في الزاهر: 318 - فقرة 696.

(7/304)


الظاهر أن الشفعة تختص بالشقص الشائع من العقار القابل نلقسمة. [فإن كان ممّا لا يقبل القسمة] (1)، كالطواحين، والحمامات، والقَنَى (2)، وما في معناها مما لا ينقسم، فلا شفعة فيها للشريك.
وذكر الأئمة عن ابن سريج قولاً مخرجاً أن الشفعة تثبت فيما لا ينقسم من العقار.
وذكر بعض الأصحاب وجهين على الإطلاق في أن الشفعة هل تثبت فيما لا ينقسم.
4694 - فمن خصص الشفعة بما (3) يقبل القسمة -وهو ظاهر المذهب- علل ثبوتها بما (4) يتعرض الشريك له من مؤنة القسمة عند فرض الاستقسام وما تمس الحاجة إليه عند وقوع القسمة من إفراد الحصة المميزة بمرافق كانت ثابتة على الاشتراك قبلُ كالبئر، والمَبْرز والممر في بعض الأحوالِ، وغيرها من مرافق الدار.
فإن قيل: كان الاستقسام من الشريك متوقعاً (5) قبل البيع، ثم كان يترتب عَليْهِ ما ذكرتموه من مسيس الحاجة إلى إفراد الحصة المتميزة بالمرافق، فلم يتجدد بالشراء شيء. قلنا: نعم كان الأمرُ كذلك قبل البيع، ولكن الشريكين مستويان، ليس أحدهما أولى بطلب الاستخلاص، وطلب الخلاص (6) من الشركة من الثاني، فلم يكن قبل وقوع البيع لذلك مدفع، فإذا أراد أحد الشريكين أن يزيل الملك عن نصيبه وتمكن من إزالته إلى شريكه وتخليصه ممّا كان بصدده، فالذي يقتضيه حُسن العشرة أن يبيع منه، فيصل إلى مطلوبه من عوض ملكه ويخلُصُ (7) شريكُه عن الضرار. فإذا لم يفعل ذلك، وباعه من أجنبي، سلّط الشرعُ الشريكَ على صرف ذلك الملك إلى نفسه. هذه طريقة.
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وفي مكانه: "وما لا يقبل القسمة".
(2) القَنَى: وِزان الحصى: جمع قناة: مجرى الماء، ضاق أو اتسع. وجمعها قنوات، وقنىً مثل حصاة تجمع حصوات وحصىً (معجم - مصباح).
(3) (ت 2): بما لا يقبل القسمة.
(4) (ت 2)، (هـ3): بما لا يتعرض.
(5) (هـ3): متوفاً.
(6) سقط من (ت 2)، (ي): "وطلب الخلاص".
(7) (ي): وتخليص.

(7/305)


ومن أثبت الشفعة فيما لا يقبل القسمة من العقارات المشتركة، فالشفعة عنده معلّلة بالضرار الذي يتعرض الشريك له من تضييق المداخل، ولم يكن إلى دفع ذلك سبيل عند استمرار الشركة؛ فإذا أراد أحد الشريكين بيعَ نصيبه، فينبغي أن يخلِّص شريكه مما كان بصدده من تضييق المداخلة، فإذا لم يفعل ذلك، فباع من آخر، أثبت الشرعُ للشريك صرفَ ذلك إلى نفسه، ليتوفر على البائع حظُّه، ويندفعَ الضرار.
4695 - فإن قيل: هلا قلتم: لا يعلل ثبوت الشفعة، والمتبع فيه الخبر؟ قلنا: اتفق القياسون على تعليلها، ثم الأصول المعللة لو تتبعت، لأُلفيت كذلك، ولو طُرّق إليها منعُ التعليل، لانحسمت مسالك النظر. و [بالجملة] (1) لسنا ندّعي أن ما يعلل من الأحكام تشهد العقول لعللها، ولكن يفهم الناظر عن علم تارة وبظن أخرى أن الشارع أثبت الحكم المعلوم بسبب، ثم إذا غلب ذلك على الظن، فلا يكون المعنى المظنون إلا مخصوصاً. وهذا يطرد في كل معنى اتفق القياسون عليه، فالشفعة معتمدها درءُ ضررٍ مخصوص.
ثم ما رآهُ الشافعي صحيح على السبر، وما اعتمده أبو حنيفة (2) في إثبات شفعة الجار معلوم في نفسه، لا يبعد في مأخذ الشرع تعليق الحكم بمثله. ولكنه باطل على السبر في نفسه، كما يذكره الخلافيون (3).
فقد عاد عقد المذهب إلى مسلكين في تعليل الشفعة، وانتظم منه أن العلة ما أشرنا إليه، ومحلها البيع الجديد.
وحكى صاحب التقريب عن ابن سُريج أنه مال إلى القول بإثبات الشفعة بالجوار.
وهذا غريب، لم يحكه عن ابن سريج غير صاحب التقريب.
وذكر الشيخ أبو علي عن ابن سريج لفظاً، وحمله على محملٍ نذكره، فقال: إذا قضى حنفي بشفعة الجار، لشافعي، فلا معترض على الشافعي في ظاهر الحكم،
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 120، مختصر اختلاف الفقهاء:4/ 239 مسألة 1947، إيثار الإنصاف: 329، طريقة الخلاف: 358 مسألة: 150. وانظر أيضاً: الاصطلام: 4/ 161.
(3) (ت 2): الحذاق.

(7/306)


ولكن هل يحل له المقضيُّ به باطناً لاتصال الحكم بقضاء القاضي؟ فعلى وجهين.
وهذا يطّرد في نظائرِ ذلك. كالحكم بالتوريث بالرحم (1) ونحوه. وسنذكر هذا الأصل وسرَّه في كتاب الدعاوى، إن شاء الله، فحمل الشيخ أبو علي ما نقل عن ابن سريج من لفظه المبهم في شفعة الجوار على ما ذكرناه من اتصال الأمر بقضاء القاضي.
ولفظُ ابن سريج أنه قال: "لو قضى قاضٍ بشفعة الجوار نفذتُ قضاءه"، ثم قال: "وقضيت بشفعة الجوار". وظاهر كلامه يشعر بما ذكره الشيخ، كأنه قال: قضاء القاضي بالشفعة نافذ، وأنا أقضي بتنفيذ قضائه.
4696 - فإن قلنا: تثبت الشفعة فيما لا ينقسم، فلا كلام، وإن خصصنا ثبوت الشفعة بما يقبل القسمة -وهو ظاهر المذهب- فالقول فيما ينقسم وما لا ينقسم يأتي مستقصىً في كتابٍ متعلق بالدعاوى والبينات، ولكنا نذكر هاهنا ما يقع الاستقلال (2) به فنقول:
المذهب الصحيح أن المعتبر فيما يقبل القسمة، وفيما لا يقبلها أن يبقى جنس المنفعة الثابتة حالة الاشتراك لكل حصةٍ، بعد المفاصلة، والإفراز. فإن كان الملك المشترك ينتفع به مسكناً، فلتكن كل حصة بحيث يتصور اتخاذها مسكناً. ثم هذا القائل لا يشترط بقاء ذلك الجنس على ذلك الوجه؛ فإن كل حصة، أضيق من جملة المسكن، فالنظر إلى أصل المنفعة لا إلى قدره (3). والحمّام على هذا غير منقسم، فإنه لو فصل وقسم قسمة الدور، لم يكن كل قسم منتفعاً به الانتفاع الذي كان، فكذلك القول في الأَرْحية، وما في معانيها.
هذا هو الذي إليه الرجوع فيما يقبل القسمة وفيما لا يقبل.
وذكر الأصحاب وجهين بعيدين، لا معول عليهما سوى ما ذكرناه: أحدهما - أن شرط ما ينقسم ألا تؤدي القسمةُ إلى حطيطةٍ بيّنة في الحصصِ المفرزة، حتى إذا كانت
__________
(1) إشارة إلى أن الشافعية لا يورثون ذوي الأرحام، بل تؤول التركة إلى بيت المال، إذا لم يوجد للمتوفى عصبة نسبية، ولا سببية، في ترتيبٍ وتفصيل يطلب في موضعه من علم الفرائض.
(2) (ت 2)، (هـ 3)، (ي): الاستقرار.
(3) كذا، بضمير المذكر. في جميع النسخ. وهو سائغ بتأويلٍ، فلنؤوله هنا (بالنصيب) أو (الجزء) أو (المسكن).

(7/307)


الدار تساوي مائةً، ولو قسمت، لكانت كل حصةٍ -وقد قسمت [نصفين] (1) - تساوي ثلاثين، فهذا عند هذا القائل مما لا ينقسم، لما في القسمة من البخس العظيم، والحطيطة البيّنة. وهذا الوجه ذكره العراقيون وزيفوه.
والوجه الآخر - أنه لا نظر إلى القيمة، ولا إلى الجنس الذي كان من المنفعة، ولكن إذا كان يبقى لكل حصّةٍ نوع من الانتفاع، فهو قابل للقسمة، فالحمام على هذا منقسم، إذ يمكن [فرض] (2) الانتفاع بكل حصة منه (3) سكوناً (4). وإذا كان يسقط أصل الانتفاع، أو عسر تصوير القسمة عِياناً كما في أسراب (5) القَنَى وآبارها. هذا هو الذي لا ينقسم.
والوجهان مردودان، لا اعتداد بهما، ولا عَوْدَ إليهما، والتفريع على المسلك المشهور.
4697 - وها نحن نذكر صورة تمس الحاجة إليها في حكم الشفعة، وهي أنه إذا كان بين رجلين حجرة مشتركة ضيقة الخِطة (6) وكان تسعة أعشارها لأحدهما والعشر للآخر، ولو قدر إفراز العشر، لم يكن مسكناً، فصاحب العشر لا ينتفع بالقسمة الانتفاعَ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) زيادة من (ت 2)، (ي).
(3) المراد بالحمام هنا الحمام العام الذي يغشاه الناس كافة، كلّ من يريد منهم. وهو يقصد للتنظف والتطبيب، وليس ما يتبادر إلى الذهن الآن، من الحمامات داخل البيوت، بل يشبه مراكز علاج السمنة والبدانة الموجودة الآن بواسطة حمامات البخار، والتدريبات الرياضية، حتى يتصور أن يُتخذَ منه مسكنين.
(4) سكوناً: أي سكناً من وضع المصدر مكان الاسم، وقد صرح بهذا المعنى الرافعي، ولفظه: "أما إذا اعتبرنا بقاء منفعةٍ ما، كفى أن يصلح كل سهم من الحمام بعد القسمة للسكنى" فتح العزيز: 11/ 386 بهامش المجموع. وكذلك صرح بهذا المعنى الشرواني في حاشيته على تحفة المحتاج، قال: "ظاهره أنه لو انتفع به من غير ذلك الوجه، كأن أمكن جعل الحمام دارين ... " حواشي التحفة: 6/ 57 سطر 3. أما حجة الإسلام الغزالي، فقد أخذ لفظ شيخه إمام الحرمين، فقال: "وقيل المعنى أن يبقى فيه (أي الحمام) منفعة، ولو للسكون" الوسيط: 4/ 70.
(5) السَّرب -بفتحتين- بيتٌ في الأرض، لا منفذ له: فإن كان له منفذ، فهو النفق (مصباح) فالمراد هنا الخزانات التي تتجمع فيها مياه الصرف تحت الأرض لحين التخلص منها.
(6) الخِطة بالكسر: المكان المختط لعمارة، والجمع خِطط، مثل: سدرة وسِدر. والخطة بالضم: الحالة والخِصلة. والجمع: خُطط (معجم، ومصباح).

(7/308)


المرعي، وصاحب التسعة الأعشار ينتفع بحصّته ويتأتى منه اتخاذها مسكناً، فقال الأئمة: إن طلب صاحب العشر القسمة، لم يجب إليها قهراً؛ فإنّه لا يستفيد بالقسمة فائدة. وإن دعا صاحب التسعة الأعشار إلى القسمة، فهل يجبر صاحب العشر على إجابته؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يجبر؛ لما عليه من الضرار. والثاني - يجبر، فإنَّ طالب القسمة منتفع وإنما يلحق الضرر صاحب العشر لنقصان ملكه.
ثم بنى الأصحاب على هذا حكم الشفعة (1)، فقالوا: إذا باع صاحب العشر نصيبه، فلا شفعة لصاحب التسعة الأعشار؛ لأنه يأمن من مشتري العشر الاستقسامَ والدعاءَ إلى القسمة قهراً. وإذا باع صاحب التسعة الأعشار نصيبه، فلصاحب العشر طلب الشفعة إن قلنا: يجبر صاحب التسعة الأعشار على القسمة. وإن قلنا: لا يجاب صاحب التسعة الأعشار إلى القسمة، فلا شفعة لصاحب العشر؛ فإن معتمد الشفعة إمكان الإجبار على القسمة، فإذا ارتفع ذلك من الجانبين، ارتفعت الشفعة، على المسلك المشهور.
هذا بيان قاعدة المذهب، فيما تثبت الشفعة فيه وفيما لا تثبت.
فصل
قال: "وللشفيع الشفعة بالثمن الذي وقع البيع به ... إلى آخره" (2).
4698 - قد قدَّمنا ما يؤخذ بالشفعة. ومضمون هذا الفصل الكلام فيما يبذله الشفيع في مقابلة ما يأخذه بالشفعة، فنقول:
إن كان الثمن من ذوات الأمثال، أخذ الشفيع الشقص بمثل المسمى في العقد، قدراً، ووصفاً. وإن كان [الثمن] (3) من ذوات القيم، كعبدٍ، أو ثوبٍ، وغيرهما، أخذ الشفيع الشقص بقيمة ذلك المتقوَّم.
__________
(1) (ت 2): القسمة.
(2) ر. المختصر: 3/ 50.
(3) ساقطة من الأصل.

(7/309)


ثم قال الأئمة: الاعتبار بيوم العقد في القيمة، وهذا ظاهرٌ لا حاجة إلى توجيههِ؛ فإن يوم العقد يومُ إثبات العوض، فيثبت تقدير العوض في حق الشفيع في الوقت الذي يثبت فيه العوضُ على المشتري.
4699 - ثم فرض الأئمة صورةً، وفي ذكرها الاطلاعُ على حقيقة الفصل، وذلك أنهم قالوا: لو اشترى رجل شقصاً بمائة مَنٍّ حنطةً، فإذا أراد الشفيع أن يأخذ (1) بالشفعة، فماذا عليه؟ قال القفال: لا يبذلُ الشفيع مائةَ مَنٍّ؛ فإن الحنطة مكيلة، ولا يجوز أن تتقابل حنطتان وزناً بوزن؛ فإن المعتبر عندنا معيار الشريعة، ومعيارها في البر الكيل، ولكن الوجه أن نكيل المائة المن التي كانت ثمناً، ونضبط (2) مبلغها بالكيل، ثم الشفيع يبذل للمشتري من صنف الحنطة التي بذلها: جودةً، وصلابةً، أو استرخاءً.
وحاصل ذلك أنا نقدّرُ كأن الشفيع أتلف على المشتري الحنطةَ التي بذلها؛ من حيث [إنه] (3) فوّت عليه مقصودَ بذلها، ومن أتلف حنطةً، غرِم مثلَها كيلاً.
هذا كلام القفال. وهو الذي أطلقه أئمة المذهب.
ثم قالوا في سياق هذا: الحنطتان وإن لم يكونا عوضين متقابلين في بيعٍ، فهما متقابلتان في حكم بيعٍ، فيجب أن يرعى فيهما معيار الشرع، وحنطةُ المشتري قابلت شقصاً، فلم يؤاخذ (4) بمعيار الشرع، وحنطة الشفيع تقع في مقابلة حنطة المشتري، فلا بد من رعاية المعيار.
ثم قطعوا بأن من أقرض حنطة وزناً، لم يصح؛ فإن القرض، وإن لم يكن على حقائق المعاوضات، ففيه معنى التقابل؛ فإن من يقرض شيئاًً يطلب مثله، فلزم اعتبار المعيار الشرعي.
وقال القاضي يبذل الشفيع مائةَ مَن، ولا نظر إلى المعيار؛ فإنه ليس يبذل الحنطة في مقابلة الحنطة، وإنما يبذلها في مقابلة الشقص؛ فإنه على القطع يأخذ الشقص
__________
(1) (ت 2)، (ي): طلب الشفعة.
(2) (ت 2): فتقسط، (هـ 3): فنضبط.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): فراع معيار الشرع.

(7/310)


بعوض، وعوضه ما يبذله، وهو في التحقيق بمثابة المشتري من المشتري، ولكن أثبت الشرع هذا قهراً.
وهذا الذي ذكره بالغٌ حسن. والذي قدمناه في توجيه ما ذكره القفالُ وغيرُه تكلّفٌ.
ثم تكلم القاضي على القرض وقال: يجوز عندي إقراض الحنطة وزناً، فإن القرض مستخرج عن قياس المعاوضات، ولو راعينا فيه أحكام الربا، لم يصح إقراض الربويات؛ من جهة أَنَّ التقابض فيه غيرُ مرعي، وإذا لم يكن التقابض مرعياً، فاتباع معيار الشرع تفصيل نرعاه في تعبدات الربويات.
وهذا الذي ذكره حسن، وإن خالف معظمَ الأصحاب فيه. وما نحن فيه من الشفعة ليس شبيهاً بالقرض، فإن ما يأخذه المستقرض يقابله ما يرده، فإن روعي فيه مكيال الشرع، لم يبعد، وقد ذكرنا أن ما يبذله الشفيع ليس عوضاًً عن ثمن العقد، وإنما هو عوض عن الشقص المبيع، فليس القرض فيما نحن فيه بسبيل. وسنقرر هذا الفصل عند الكلام في أن الممهور (1) مأخوذ بالشفعة، [وسنوضح ثَمَّ تنزيل] (2) ما يبذله (3) [الشفيع] (4)، تقديراً، وتحقيقاً.
4700 - ومما وصله الأصحاب بهذا أن قالوا: إن كان الثمن معلوماً، فالشفعة ثابتة، والتعويل فيما يبذله (5) الشفيع على مبلغ الثمنِ (6)، ثم القول ينقسم إلى الكلام في المثلي والمتقوم، كما قدمناه.
وإن اشترى المشتري الشقص بثمن مجهول المقدار، مشارٍ إليه، مثل أن يقول: اشتريت هذا الشقصَ بهذا الكف من الدنانير، أو بما في هذا الجُوَالق (7) من
__________
(1) الممهور: أي المبذول مهرا.
(2) في الأصل: ثم نوضح تنزيل.
(3) في (ت 2)، (ي)، (هـ 3): يأخذه.
(4) في الأصل: الشرع.
(5) (ي): يثبته.
(6) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): على الثمن ومبلغه.
(7) الجُوالق: وعاء من الخيش أصغر من الغِرارة، ويجمع الجُوالق على جَوالق، وجَواليقَ بفتح =

(7/311)


الحنطة، فالبيع يصح، تعويلاً على الإشارة. فإذا [استمكن] (1) الشفيع من إعلام ما أُثبت ثمناً، فيأخذ الشقص (2) بما يعلمه. وإن أخرج البائع الثمن، أو أتلفه، أو تلف في يده، وعسر الاطلاع على مبلغه، فالمنصوص عليه للشافعي أن الشريك لا يستحق الشفعة؛ لأنه لا يدري بما يأخذ الشقص، ولا سبيل إلى أخذ الشقص من غير عوض. وهذا من الحيل في دفع الشفعة، وليست حيلة مستعملة؛ فإن المشتري والبائع يبعد أن يرضيا بالثمن المجهول، فلا يدري واحد منهما أنه مغبون، أو مغبوط، والحيلة هي التي تستعمل مع رعاية غرض العقد، وتندفع الشفعة بها.
وسنجمع طرفاً منها في آخر الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
هذا نص الشافعي.
وحكى الأئمة عن ابن سُريْج أنه قال: الشفعة لا تبطل بهذا، ولكن يقال لطالب الشفعة: خمن في نفسك قدراً، وادَّع الشفعةَ به، فإذا تبيّنه، فقال المشتري: كان أكثرَ مما تقول، فالقول قول المشتري مع يمينه: يحلف بالله أنه اشترى بأكثر ممَّا سماه. ثم يقال للشفيع: زِدْ في مقدار الثمن، وأعد الدعوى، ونعرض اليمينَ على المشتري، فإن حلف، زاد الشفيع، فلا يزال كذلك، والمشتري يحلف، فإن نكل المشتري، حلف الشفيع على المقدار الذي استقرت عليه الدعوى آخراً، واستحق الشقص به.
4701 - ولو قال المشتري لما توجهت (3) عليه الدعوى: لست أدري بكم اشتريتُ، وأصرّ على ذلك، كان هذا منه إنكاراً أولاً، مقتضاه عرض اليمين عليه، فإن أعاد قولَه، كان ما جاء به نُكولاً، واليمين تردُّ على المدّعي، فيحلف على المقدار الذي ذكره ويستحق.
وهذا الكلام حكاه من يوثق به عن القاضي، وهو كلامٌ مختلٌّ.
والوجه عندنا أن نقول: إن اعترف صاحب الشفعة والمشتري بأن الثمن كان
__________
= الجيم، وعلى جُوالقات بضمها، كالمفرد، وهو لفظ معرب (معجم).
(1) في الأصل: استكمل.
(2) (ت 2)، (ي)، (هـ3): السفعة.
(3) (ي)، (هـ3): استقرت.

(7/312)


جزافاً، غيرَ مقدّر، فلا حاجة لذكر مقدارٍ معين في الدعوى، ولو فرض ذلك، وعُدّ ما يبديه المشتري من التردد إنكاراً ونكولاً، فكيف يستجيز الشفيع أن يحلف يميناً باتةً على المقدار الذي قدّره في دعواه؟ وتكليفه أن يربط دعواه (1) بمقدارٍ، مع اعترافه بأنْ لا مقدارَ، كلامٌ خارج عن الضبط، وحاصلُه تسويغ الكذب له أوّلاً، مع تجويز الحلف عليه على بتٍّ آخراً، ويبعد جريان مثل ذلك في مقتضى التكاليف.
فالوجه إذن القطعُ بتعذر طلب الشفعة، إذا اعترفا بكون الثمن مجهولاً، وتعذّر البحثُ عن ابتاعه (2)، والاطلاعِ على مقداره.
4702 - ولكن لو لم يقرّ الشفيعُ بوقوعِ العقد على مقدار مجهول، وادّعى أن العقد وقع على معلوم، وزعم المشتري أنه وقع على مجهول أوّلاً، أو كان معلوماً ولكنه نسيه في أثناء المعاملات، فليقع التصوير هاهنا أولاً.
ثم هذه الصورة تنقسم قسمين: أحدهما - أن يزعم الشفيع أنه عالم بالمقدار الذي وقع العقد به، وينسب المشتري إلى العلم به، ثم إلى المناكرة بادعاء الجهل. والآخر - أن يزعم الشفيع أن العقد وقع على معلوم، ولم يوُرَد (3) .. على كف، ولا على صُبْرة من حنطةٍ، ولكن كان غيرَ عالم بالمقدار الذي وقع العقد عليه.
ونحن نتكلم في القسمين: فأمّا إذا زعم الشفيع أن الثمن كان ألفاً، فهذا موقع النظر. فإذا قال المشتري: لست أدري، فقوله هذا يمكن أن يكون صدقاً، وليس الجهل والنسيان بدعاً، فنقول: من ادعى مالاً مقدّراً على إنسان عن إتلافٍ، أو اقتراضٍ، أو عن جهةٍ أخرى من الجهات الملزمة، فقال المدعى عليه: لست أدري، فهذا لا ينفعه، ولا يكتفى منه بالحلف على نفي العلم، ولكن إذا جزم المدعي الدعوى، وربطها بمقدارٍ، ولم يذكر المدعى عليه إلا ما وصفناه، فهو كالإنكار المضاد للدعوى، فنقول له: تحلف بالله لا يلزمك ما يدعيه خصمك، فإن لم يزدنا
__________
(1) (ت 2)، (ي): ذلك.
(2) كذا في النسخ الأربع. ولم أصل إلى معنى مناسب لها، في مادة: ب. ت. ع. ولا في مادة: ت. ب. ع ولعلها لفظة عامية بمعنى (أصله) مثلاً، ولعل في الكلام تصحيفاً أو سقطاً. ويكون صوابها: وتعذر البحث عنه، واتباعه، والاطلاع عليه.
(3) في غير الأصل: "ولم يورد هذا على كف، ولا ... " [انظر صورتها].

(7/313)


على قوله: "لا أدري" لمّا عرضنا (1) اليمين عليه، جعلناه ناكلاً، ورددنا اليمين على المدَّعي، وإن كنا نجوّز أن يكون صادقاً في دعوى الجهل، ولكن مبنى الدعاوى في الشرع على هذا. فمن ادعى حقاً مقدَّراً على إنسانٍ، وجزم دعواه فيه، لم يقنع من المدعى عليه بذكر الجهل، ولم يُجَب إلى (2) الاكتفاء بتحليفه على نفي العلم.
4703 - ولو ادّعى الشفيع استحقاق الشفعة بمقدارٍ عيّنه، فقال المشتري: لست أدري مقدار الثمن، فهذا موضع النظر، من قِبَل أن المدعي ليس يدعي استحقاق ذلك المقدار عليه، وإنما يدعي استحقاق الشقص مترتباً على بيعٍ جرى، ومقدار الثمن فيه ما ذكر، فادعاء المشتري الجهلَ بذلك المقدار ليس يصادم ما يدعي الشفيعُ استحقاقَه، وإنما يتعلق بما التزمه المشتري لغير المدعي وذلك الملتزَم وإن كان يتعلق بالمشتري، فله تعلق بغيره أيضاً، وهو البائع؛ فإن لزوم الثمن يترتب على إيجاب البائع، وقبول المشتري، فإذا كان الأمر كذلك، فالذي يقتضيه النص (3) أن يُكتفَى من المشتري باليمين على نفي العلم، وإذا حلف توقفت الشفعةُ إلى أن تقوم بينة، أو يعترف المشتري.
وابنُ سُريج يقول: لا نقنع من المشتري بقوله: "لا أدري"، ونعرض عليه اليمين الثانية، كما لو ادعى مدّعٍ على رجلٍ ألفاً.
وهذا الذي قاله ابن سُريج في هذا المقام حسنٌ متجه. ووجهُ النص ظاهر، فينتظم قولٌ منصوصٌ عليهِ، وآخرُ مخرّج. وفيما قدمناه تنبيه على توجيههما.
فإن جرينا على النص، حلّفنا المشتري على نفي العلم. فإن حلف، وقفت الشفعةُ، وتوقفنا على بيانٍ، ولم نقطع ببطلانها. وإن نكل عن يمين العلم (4)، رددنا اليمين الباتّة على الشفيع بالمقدار الذي عينه، فإن حلف، استحق الشفعة.
وإن فرعنا على ما خرجه ابن سريج، لم نقنع من المشتري بيمين العلم، وإذا امتنع
__________
(1) (ت 2)، (هـ 3): رددنا. وعبارة (ي): وإن لم يزدنا على قوله: لا أدري، عرضنا اليمين عليه، وجعلناه ناكلاً ...
(2) عبارة (ي): ولم يجب الاكتفاء بتحليفه.
(3) (ت 2): النظر.
(4) أي اليمين على نفي العلم.

(7/314)


عن اليمين الجازمة، جعلناه ناكلاً، ورددنا اليمين.
هذا في قسم من القسمين.
4754 - والقسم الثاني - أن يقول الشفيع (1): قد جرى البيع بمقدَّرٍ، ولكني لست أدريه، فالمنصوص عليه في هذه الصورة أن دعواه لا تقبل، ولا يقال له: قدّر، وادّعِ وهو يقول: لست أدري.
وحكى النقلة عن ابن سريج في هذه الصورة أنه قال: يَنُصّ المدعي على مقدارٍ، ويطالب المشتري بجزم اليمين، ولا يكتفى منه بيمين العلم، فإن نكل، استظهر الشفيع بنكوله، وكان له أن يستجيز الحلف بالمقدارِ الذي اتفق منه تعيينه، واليمين قد تستند إلى اليقين، وقد تستند إلى الظن، ونحن نقولُ: إذا رأى الوارث خط أبيه الموثوق به مشتملاً على مالٍ له، على زيد، فللوارث أن يعتمده، ويحلفَ به.
وإن حلف المشتري اليمينَ الباتة، قيل للشفيع: إن أردت الشفعة، فزد في الثمن، وأعد الدعوى، ثم يُعرض على المشتري اليمين الجازمة، وحكم حلفه ونكوله على ما ذكرناه في الدعوى الأولى. فإن حلف المشتري، زاد الشفيع، ولا يزال كذلك حتى يسأم المشتري وينكل، فيحلف المدعي مستظهراً بنكوله.
هذا على هذا الوجه منقولٌ عن ابن سريج. وهو مزيف عند الأصحاب في هذه الصورة. والقسمان جميعاً: -الأول، وهذا - خارجان عما ذكرناه في أول الكلام، وهو إذا اعترفا بأن العقد أورد على مجهولٍ، فإنهما إذا اعترفا بذلك، يجب القطع بوقوف الشفعة، وإن فرض اليأس من الإحاطة بالثمن المعيّن، بطلت الشفعة. هذا بيان الفصل.
4705 - ولا خلاف أنه لو أقرض إنساناً كفاً من الدراهم، فالقرض فاسد؛ فإن المقْرَضَ لا يدري ماذا يرد. وهذا واضح، إذا وقع البناء على أن يستقرض كفاً، ويخرجَه على الجهالة، ولو أقرضه كفاً على أن يرى (2) مقدارَه ويردّ مثلَه، فهذا
__________
(1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): المشتري. والمثبت هو الصواب، كما سبق تصوير المسألة في قسميها.
(2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): يبين.

(7/315)


مختلف فيه؛ من جهة ورود القرض ابتداء على مجهول، والأصح الصحةُ إذا كان بناء الأمر على أن يضبط ما اقترضه، ثم يخرجَه. والصورة الأولى تفرض فيه إذا أقرضه تمرات، فأكلها، أو كان تسليمه لها بأن يُوجرها المقترض.
ومما يتعلق بما نحن فيه، أَنَّ من اشترى شقصاً بمائة مَنّ حنطةٍ، وفرعنا على طريقة القفال، فالسبيل أن نكيل تلك المائة المنّ، ثم نقول للشفيع: ائت بهذا النوع، وكِل مثل ما كِلنا المائة، ولا نتعرض للوزن. ولو تلفت تلك المائةُ [المن] (1) المجعُولةُ ثمناً، قال القفال: يكيل مائة من مثلها، ثم يكلّف الشفيع ما قدمناه، وإن جهلنا نوع تلك الحنطة، وقعنا في جهالة الثمن. وقد مضى التفصيل فيه.
فصل
قال: "فإن علم وطلب مكانه، فهل له ... إلى آخره" (2).
4706 - مضمون الفصل القول في أن الشفعة تثبت على الفور أم على التراخي؟ والفصل من أقطاب الكتاب. و [القول في] (3) التفريعات في أطرافه ينتشر، ونحن - بعون الله- نأتي به مضبوطاً، إن شاء الله تعالى.
4707 - فنبدأ بنقل النصوص.
ظاهر المذهب وما نص عليه في منقول المزني أنّ الشفعة على الفور، ونص في رواية حرملة على أن طلبها يتقدّر بثلاثة أيام، ونص في القديم على قولين: أحدهما - أَنَّ طلبها متابد، ولا يبطل إلا بصريح الإبطال، والثاني - أنه يتأبد، ويبطل بصريح الإبطالِ أو دلالة الإبطال، على ما سنفصل.
وسبيل الترتيب أن نقول: الشفعة على الفور أو على التراخي؟ فيه قولان: فإن قلنا: هي على التراخي، فهل تتابّد أو تتقدّر بأمدٍ؟ فيه قولان: فإن قلنا: تتأبد، فهل
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ر. المختصر: 3/ 50.
(3) ساقط من الأصل.

(7/316)


تبطل بدلالة الإبطال، أو لا تبطل إلا بصريح الإبطال؟ فيه قولان آخران. وإن قلنا: لا تتأبّد، وليست على الفور، فالصحيح أنه تتقدّر بثلاثة أيام، كنظائر في ذلك نَصِفُها في الفصل.
وذكر صاحب التقريب في هذا المنتهى قولاً آخر: أنا لا نقدّر بالثلاث، ولكن نبهم الأمرَ، ونرجع إلى مدّة التدبّر، وذلك يختلف باختلاف المطلوب، ومقدار ثمنه، فكل مدة يُعَدّ الشفيع فيها متدبراً لا يقضى ببطلان شفعته بالتأخير فيها، وكل مدة نقضي على المؤخر فيها بالإعراض (1)، فنحكم ببطلان شفعته بالتأخير فيها، وهذا لم يحكه إلا صاحب التقريب.
ولستُ أعتد بهِ، فالوجْه التعلق بالأيام الثلاثة على هذا القول، لنظائرَ سنذكرها في الشرع، إن شاء الله تعالى، والتعلق بها أولى من الإحالةِ على الاستبهام. ولا خلاف أن حق الرد بالعيب على الفور، فاختلفت الأقوال في حق التي تَعتِق تحت عبدٍ في فسخ النكاح، فاجتمع فيها أقوال: أحدُها - الفورُ، والثاني - التقدير بثلاثة أيامٍ، والثالث - التأبيد، على ما ستأتي الأقوال في موضعها من النكاح، إن شاء الله تعالى.
وجرى قولان في الفور والتأقيت بثلاثة أيام، مع حذف قول التأبُّد في مسائلَ: منها استتابة المرتد، ففيها قولان: أحدهما - الفور بعد وضوح الحجة، والثاني - الإمهال ثلاثة أيام.
ومنها تارك الصلاة، ففيه قولان: أحدهما - أنا نتأنّى به ثلاثاً. والثاني - نقتله على الفور إذا امتنع من القضاء.
ومنها نفيُ الولد باللعانِ، وفيه قولان: أحدهما - الفور، والثاني - التأقيت بثلاثة أيام.
وألحق بعضُ الأئمة بذلك فسخَ النكاح بالإعسار براتب النفقة، فقال: فيه قولان بعد ثبوت الإعسار: أحدهما - الفور، والثاني - الإمهال ثلاثة أيامٍ.
وإذا انقضت مدّةُ الإيلاء، فهل يطلّق على المولي في الحال أم لا، حتى تمضي ثلاثةُ أيام؟ فعلى القولين.
وخيار الخُلف ملحق بخيار الرد بالعيب، وإنما قطعنا بالفور في الرد بالعيبِ،
__________
(1) (هـ 3) بالإبطال.

(7/317)


والخُلفُ في معناه؛ لأن الاطلاع على العيب معلوم قطعاً، فلا مجال للتدبّر بعد الاطلاع، والعقد متسرع إلى اللزوم (1) في وضع الشرع إذا لم يفسخ.
4708 - ونحن الآن نوجه أقوال الشفعة ونميزُها عن الرد بالعيب والخُلف، ونذكر الضبطَ في مسائل القولين، وسببَ انحذاف قول التأبد فيها: فوجه قولنا: تثبت الشفعة على الفور قوله عليه السلام "الشفعة كحل العقال" (2)، ومعنى الحديث أنها على الفور، وإن لم تُبتدر، فاتت، كالبعير يحل عنه العقالُ، ولأنها حق ثبت في المبيع لدفع الضرر، فأشبه حق الرد بالعيب والخُلف.
ووجه قولنا: يتقدر بثلاثة أيام هو أنه لا بد فيه من تفكرٍ وتروٍّ، ليعرف صاحب الحق غبطتَه في الأخذ أو في الترك، والثلاث غايةُ القلة، وبداية الكثرة.
ووجه قولنا: إنه يتأبد أن الأخذ بالشفعة يملّك المبيع بالثمن، فكان كالشراء يبتدئه المختار، غير أنه ثابت على القهر.
فهذا رمزٌ إلى توجيه الأقوأل، وقد ميزنا العيبَ والخُلف عن الشفعة.
فأمّا الصُّور التي يجري فيها قولان فحسب، فالذي نحتاج إلى ذكره فيها سببُ انحذاف قول التأبد، والسبب فيه لائح؛ فإنَّ التأبد يجرّ استحالةً فيها؛ إذ إمهال المرتد أبداً محالٌ، وكذلك إمهال المولي بعد انقضاء المدة أبداً لا وجه له، وفيه إدامةُ الضّرر على المرأة، وهو في التحقيق إبطال حقها، ورفع حكم الإيلاء.
وكذلك ترك تارك الصلاة أبداً لا وجه له، وقد ثبت أن ما جاء به من موجبات القتل.
والذي فيه أدنى ترددٍ الفسخُ بالإعسار، وكان لا يبعد فيه أن يقال: سبيله كسبيل التي عتَقَت تحت عبد، وغالب ظني أنّه قال به قائلون، وليس الإعسار عيباً، وهو مجتهد فيه أيضاً، فإذا جرى في الفسخ بالعتق تحت العبد قول التأبد، فهو أحرى
__________
(1) (ت 2)، (ي): متسرع للزوم إذا لم يفسخ.
(2) حديث "الشفعة كَحَلِّ العقال" رواه ابن ماجة والبيهقي من حديث ابن عمر، والحديث ضعيف، بوّب له البيهقي بقوله: باب رواية ألفاظ منكرة يذكرها بعض الفقهاء في مسائل الشفعة، (ر. ابن ماجة: الشفعة، باب طلب الشفعة، ح 2500، 2501، السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 108، تلخيص الحبير: 3/ 125 ح 1302، إرواء الغليل: حديث رقم 1542).

(7/318)


بالجريان في الفسخ بالإعسار. وإن رُدّ الأمر إلى استمهال الزوج، وقوله: [سأتطلب] (1) راتب النفقة، فلا ينقدح إلا قولان، وينحذف قولُ التأبّد، كما ذكرنا.
4709 - فإذا تمهدت القواعدُ فرقاً وجمعاً، وتفصّلت في قضاياها، عُدْنا بعدها إلى التفريع على أقوال الشفعة.
فإن قلنا: إنها على التأبد، فأول ما نفرعه على ذلك أَنَّ الأصحاب قالوا: للمشتري على قول التأبد - أن يرفع الأمر إلى الحاكم ليكلّف الشفيع الأخذَ بالشفعة، أو الإبطالَ، والسَّبب أنه لا يثق بتصرفاته، وبنائه، وغراسه، وقد بذل في الشراء مالَه، ومبنى الشفعة على دفع الضرار، فيبعد أن يتضمن هذا الإضرارَ العظيمَ بالمشتري.
وذكر صاحب التقريب قولين في المسألة: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنه لا يُطالب الشفيع بإبطال حقّه، أو البدارِ إلى طلبها، بل الأمرُ إليه، وهذا حقيقة تأبيد الحق، والشفيع ينزل في حقه منزلة مستحِق القصاص في طلب حق القصاص. وهذا قولٌ حكاهُ ومال إلى اختياره في التفريعات.
4710 - ومما يتفرع على قول التأبد أنا إن قلنا: لا يبطل حق الشفيع إلا بصريح الإبطال، فلا كلام، ولا أثر للعلامات الدالة على الرضا بترك الشفعة. وإن قلنا: إنها تبطل بالعلامات، فلا خلاف أن التأخيرَ [والإضرابَ] (2)، وعدمَ المبالاة في أخذ الشقص ليس من العلامات المبطلة، بل هذا حقُّ التأخير، والوفاءُ بموجبه، وكذلك لو رأى المشتري يتصرّف بالبناء والغراس والبيع، فسكت، لم يبطل حقه بشيء من ذلك.
ولم يذكر الأئمة علامةً عليها تعويل، إلا المساومة، فإذا قال الشفيع للمشتري: بع مني هذا الشقصَ بكذا، أو قال: هب مني، فالذي ذهبَ إليه الأكثرون أن الشفعة تبطل على هذا القول بالمساومة، وطلب الهبةِ، إذا جرت مع العلم بثبوتِ حق الشفعة.
وحكى صاحب التقريب وجهين: أحدُهما- ما ذكرناهُ. والثاني - أن المساومة ليست مبطلة؛ فإنّ الشفيع قد يبغي بالشراء استرخاصاً، ووجهاً في الصلاح، حتى إن
__________
(1) في الأصل: سأطلب.
(2) في الأصل: "والإضرار"، والمثبت من (ت 2)، (ي)، (هـ 3).

(7/319)


انتظم له مرادُه، أغناه ذلك عن الشفعة، وإن لم ينتظم، فهو على أصل حقه، وهذا قد يبين في طلبِ (1) الهبة، وفي طلب الشراء بأقلَّ من الثمن الأول. فأما إذَا طلبَ الشراء بمثل ذلك الثمن، أو بأكثر منه، فلا يتجه ما ذكره صاحب التقريب من الاسترخاص.
ويتجه شيء آخر، وهو أنه رُبما يبغي استرضَاءهُ ويقدر أن يبيع راضياً، حتى يستغني عن طريق القهر، فإن أبى، عاد إلى حقه القهري. وإذا ردَّدنا القول في المساومة، وطلب الهبة، فقد يعوز [تصويرُ] (2) علامةٍ تبطل الشفعة، من غير تصريح بالإبطالِ.
وينبغي أن يقال: إذا قال الشفيع للمشتري: تبرع بهذا الشقص على من شئت، وهبه ممن بدا لك، فهذا عَلَم يبطل الشفعة من غير خلافٍ؛ فإنا إن حملنا المساومة على غرضٍ للشفيع، كما قدمناهُ، فلا غرض لهُ في أن يهب المشتري الشقصَ من غيره، فكذلك إذا قال: بعه ممن شئت، فهو إبْطالٌ للشفعة الثابتة في هذا العقد، ثم يتجدد الحق في الشراء، ويبعد مع القناعة بالعلامة أن يُحمل قولُه: بعه وهبه، على أنك إن وهبت أو بعت، نقضتُ تصرفَك. فإن تمسك متمسك بهذا بوجهٍ آخر سوى ما أشعرت به العلامة، كانَ طالباً للتصريح بالإبطال.
ولا خلاف أنا إذا حكمنا بتأبيد حق المعتقة تحت العبد، فلو مكنت زوجَها من الوطء، بطل حقُّها.
4711 - وإن فرعنا على تأقت الشفعة بثلاثة أيام، فالأشبه عندنا أنها تسقط بالعلامات في الأيام الثلاثة. ولا يبعد أن يخرّج قولُ اشتراط التصريح بالإبطال في الأيام الثلاثة.
4712 - فأمّا التفريع على قول الفور، فهو ظاهرُ المذهب وعليه تتفرع المسائل.
فنقول: أولاً الشفعة تبطل على قول الفور بالتقصير والتأخير، وكل ما ينافي الفورَ، والبدارَ. هذا أصل المذهب؛ فلا حاجة إلى علامةٍ ظاهرةٍ دالةٍ على إبطال الشفعة.
ثم إذا أردنا أن نحصّل القول في معنى الفور، أوضحنا أولاً ميلَ نص الشافعي
__________
(1) (ي)، (هـ 3): أصل الهبة.
(2) في الأصل: التصوير.

(7/320)


إلى المبالغة في الفور والبدارِ، ومن ألفاظه في ذلك أنه قال: "إن عَلِم، فطلبَ مكانَه، فهي لهُ" (1).
فأول ما نذكره بعد ذكر النص أن معظم أئمتنا صاروا إلى أن الرّجوع في تحقيق الفور إلى العرف، واكتفوا بأن لا يصدر من الشفيع ما يدل على التواني في الطلب، وبنَوْا عليه أنه لو كان ملابساً شغلاً، فبلغه ثبوت الشفعة [له] (2) ولم يكن في استكماله ما هو فيه من الشغل القريب ما يدل على التواني والتأخير، فلا يبطل حقه باستكمال ما هو فيه، وذلك مثل أن يكون في أثناء أكل الطعام، أو يكون في الحمام، أو متحرماً بصلاة نافلةٍ، فهذه الأشغال القريبة إذا أتمها، ثم استفتح، لم يكن مقصراً، وأبعد بعضُ أصحابنا، فقال: تحقيق الفور قطعُ ما هو فيه من هذه الأشغال، وقد أشار القاضي إلى هذا، وعضده بنص الشافعي في وجهٍ من الاحتمال، فإن الشافعي قال: "فطلبه على مكانه، فهي له". ونص في خيار المعتقة -تفريعاً على قول الفور- أنها لو تركت الفسخ ساعة من نهارٍ، بطل حقها، وقال: "لو أخرت أقل زمان بطل حقها". فقد حصلنا على اختلافٍ محقق في هذا.
ولا تبين حقيقة المراد إلا بأمرٍ، وهو أن علة الفور عندنا لا تتضح بما قدمناه، وحاصله أنا لو أثبتنا حق الشفعة -وهو لدفع الضّرار- من غير ربط بالفور، لَتوانَى الشفيعُ، وبقي المشتري غيرَ واثق بشيء من تصرفاته. ثم إن قيل: يُبطل (3) عليه، فسبيله أن يرفع إلى حاكمٍ، فربما يُغَيِّب وجهه، أو يمتنع. وفي العلماء من قال: إذا لم نقل بالفور، لم نبطل على الشفيع حقه. وهذا يُفضي إلى إلحاق ضررٍ بالمشتري يزيد على ما يدفعه الشفيع عن نفسه.
ثم إذا بطل التأبيد، فلا سبيل إلى التحكم بتأقيتٍ من غير توقيف، فلا يبقى إلا المصيرُ إلى الفور، فإن كان الذال على الفور ما ذكرناه، فالذي ذهب إليه الجمهور متجه حسن، وحاصله ألا يبدُوَ منه توانٍ. ومساق هذا لا ينافي استكمالَ الأشغال القريبة.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 50.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) يُبطل: أي يبطل المشتري على الشفيع حقه بالرفع إلى الحاكم.

(7/321)


وذهب آخرون إلى أن الشرط أن يُبدي من نفسه البدار، ومساق هذا (1) يقتضي قطعَ الأشغال.
وهذا ضعيف؛ فإنا إذا أوضحنا أن المقصود من إثبات الفور ألا يتضرر المشتري بانتظار ما يكون، فلا ينتهي الأمر بتضرره باستكمال الأشغال التي ذكرناها.
ثم من لم ير قطعها، يمنع وصلَ الشغل بالشغل، مثل أن يستتم الأكل، ويبغي أن يستحم، فهذا لا يُرخِّص العرفُ فيه فيما يطلب فيه الفور، إلا أن يفرض إرهاق (2)؛ فإذ ذاك يعذر.
هذا عقد الفصل.
4713 - وممّا يتصل بذلك أنه إن أراد أن يوكِّل من يَطلب الحق له، جاز هذا؛ فإن الغرض حصول التسرع إلى الطلب، وهذا يحصل بالوكيل، ولو امتنع على الشفيع أن يطلب بنفسه لعارضٍ، ولم يتمكن من التوكيل أيضاً، عُذِر، ولم يسقط حقه على الجملة.
ولو عجز عن الطلب بنفسه، واستمكن من التوكيل بالطلب، فهل عليه الابتدارُ إلى التوكيل، فعلى وجهين، ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يلزمه ذلك إن أراد الشفعة؛ فإن هذا طريقٌ في الطلب، وهو متيسر عليه، والدليل عليه أنه إذا تمكن من الطّلب بنفسه، فله أن يقيم طلب الوكيل مقام طلب نفسه، فإذا قام طلبُ الوكيل مقام طلبه، فكأنه بمثابة طلبه، فإذا قدر عليه، وتوانى فيه، كان مقصراً.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب ذلك؛ فإنه قد يحتاج إلى بذل أجرة الوكيل، وليس في طلب الشفعة إلزامُ الشفيع بذلَ مالٍ، وإن تبرع، احتاج إلى تقلّد المِنة، أما بذل الأجر، فيضاهي الاحتياجَ إلى بذل المال في سبيل الحج، وهو ينافي الاستطاعة، وتبرع الوكيل يضاهي تبرعَ أجنبي بالحج.
والصحيح عندنا في هذا أنه إن احتاج إلى بذل مال، لم يلزمه، وإن وجد متطوعاً، لم تثقل المنةُ بهذا الشغل القريب.
وممّا يتصل بما نحن فيه ما إذا كان الشفيع محبوساً، فقد فصّل بعض الفقهاء ذلك
__________
(1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): وحاصله يقتضي قطع الأشغال.
(2) إرهاق: المراد هنا اضطرار أو حاجة شديدة.

(7/322)


تفصيلاً ظاهراً، قد يشذ عنه فكر الفقيه، وذلك أنهم قالوا: إن كان محبوساً بباطلٍ من جهةِ ظالمٍ، فهو معذور، وإن كان محبوساً بحق كالمحبوس بالديْن، وهو قادرٌ على أداء ما عليه، غير أنه يماطل ويسوّف، فهذا الاحتباسُ لا يعذرُه.
4714 - وما ذكرناه تفصيل القول في الحاضر، فلو كان الشفيع غائباً، فبلغه الخبر، فعليه أن يسير نحو الجهة التي فيها طلب الحق، وبها المشتري الذي منه الطلب، ثم لا نكلفه ركوب غرر، ولكنَّه يترصد رُفقةً وثيقة.
ولو وكل وكيلاً، فابتدر وكيله، جاز ذلك، وكفى؛ فإن الوكيل يحل محل الموكّل، وإذا أحللناه محله في الشهود والحضور، مع القدرة على أن يبرز بنفسه ويطلب، فهذا في حق المسافر أولى بالجواز.
وممّا يتصل بمساق هذا الفن: أن الغائب قبل أن يبرح لو وجد المشتري، وكان قد خرج وفاقاً إلى تلك الجهة، فليطلب حقَّه (1) على الفور، وليس له أن يؤخر بناء على أن يعود مع المشتري إلى الناحية التي بها هذا الشقص المبيع؛ فإن الطلب توجّه على المشتري وهو حاضر، فشهود الشقص وغيبته بمثابةٍ.
وتمام الكلام فيما نحن فيه أن المشتري في الحضور مع الشفيع مطالب من جهة الشفيع، فإن طالبه الشفيع خرج من التواني، وإن تركه، وابتدر إلى مجلس الحاكم، واستعدى على المشتري، فهذا من البدار، وهو فوق مطالبة المشتري؛ إذ المشتري لو طولبَ، ربما يتمادى ويقول قولاً محوجاً إلى الارتفاع إلى مجلس الحكم، فإذا وقعت البداية بالحاكم، كان استيثاقاً من المقصود، وتمسكاً بمصير الأمر ومآله.
4715 - فإذا تمهد هذا الأصل، ذكرنا بعده فصلاً اختبط الأصحاب فيه، وهو القول في إشهاد الشفيع على أنه على الطلب، والكلام في ذلك يقع في صور، ونحن نأتي بها على ترتيبٍ نراه أقربَ إلى البيان.
فالمسافر إذا بلغه الخبر، ولم يستمكن من الخروج بنفسه، ولا من إخراج وكيلٍ، فظاهر المذهب أنه لا بد من الإشهاد على الطلب في مثل هذا المقام، والتعليل يأتي بعد طرد الصور.
__________
(1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): منه.

(7/323)


وذكر شيخي في هذه قولاً اختاره، وربما كان لا يذكر غيره: أن الإشهاد مستحب، فلو ترك الإشهاد، لم يُقضَ ببطلان حقه، فلتكن هذه الصورة مقدّمة في المرتبة. ويليها ما لو ابتدر الشفيع التوجهَ إلى صوب المشتري. فلو لم يُشهد، واكتفى بالبدار في نحو المشتري، ففي وجوب الإشهاد قولان نقلهما العراقيون: أحدهما - أنه يتعين، وتركُه يبطل الحق. والثاني - لا يتعين، ويكفي البدار في نحو الطلب. وإذا ثبت خلافٌ في الصورة الأولى، فهذه الصورة تترتب عليها والأخيرةُ أولى بألا يستحق الإشهاد فيها، ووجه الترتيب [لائح] (1).
ولو كان الشفيع حاضراً مع المشتري، ولكن أقعده مرض، أو منعه عن الظهور للطلبِ خوفٌ واستشعار (2)، فوجوب الإشهاد على الطلب في هذه الصُّورة يضاهي الإشهادَ في السفر، إذا استأخر الخروجَ لاستئخار الرفاق.
ولو كان حاضراً مع المشتري، وكان لا يمنعه من الطّلب مانع، وجرينا على أنه لا يقطع الأشغال القريبة التي هو ملابسها إذا بلغه خبر الشفعة، فهل يجب الإشهاد والحالة هذه؟ ظاهر كلام الأئمة أنه لا يجب، وأن وجوب الإشهاد عند من يراه يختص بالمعذور الذي يتعذر عليه مبادرة الطلب.
وذكر القاضي في هذا المقام وجهين في تعيين الإشهاد، واستنبطهما من نصّ الشافعي، حيث قال في الحاضر إذا بلغه موجب الشفعة: "إن طلب على مكانه، فهي له" ومعلوم أن الطلب في ذلك المكان من غير خروج إلى المشتري أو إلى مجلس الحاكم لا معنى له، ولا يكلف الإنسان أن يناطق نفسه بالطلب، فلا معنى للطلب الذي ذكره الشافعي مختصاً بمكان بلوغ الخبر، إلا أن يُشهد إذا قدَر على الإشهاد. وهذا استنباط حسن لائق باللفظ. والخلاف الذي أبداه يترتب على الإشهاد في السفر لا محالة.
4716 - فإذ ذكرنا الصور في الإشهاد مرتبة، فنذكر بعدها معنىً كلياً يستند الإشهاد إليه، ثم لا يخفى على الفقيه استعماله في تفاصيل الصور، فمن بلغه الخبر،
__________
(1) في الأصل: لاغٍ.
(2) كذا في النسخ الأربع. ولعلها: خوفٌ، أو استشعار خوف.

(7/324)


واستمكن من الإشهاد، ولم يشهد، أشعر سكوته بالتواني، فهذا المعنى هو الذي أوجب هذا الخبطَ والخلافَ، ومن لم يوجب الإشهاد كأنه يميل إلى الطريقة التي ذكرناها من أنا لا نشترط إظهارَ قصد (1) البدار، ولكن نشترط عدم التواني، ومن يشترط الإشهادَ كأنه يميل إلى إظهار أصل البدارِ.
ثم هذا المعنى مفضوضٌ على الصور، فإذا استأخر الإنسان عن الاشتغال بالطلب، فالإشهاد به أليق، وإن كان معذوراً.
وإذا أقبل على ما يصلح أن يكون اشتغالاً بالطلب، كان اشتراط الإشهاد أبعدَ، ووجه اشتراطه عند من يشترطه أن إقباله على أفعاله يمكن أن يُحمل على مقصودٍ آخر.
وأبعد الصور عن استحقاق الإشهاد صورةُ الحضور مع انتفاء العذر؛ فإن اتصال الاشتغال بالطلب مخيلةٌ ظاهرةٌ في حق الحاضر في طلب الشفعة، وهذا في حق المسافر أبعد.
فهذا منتهى القول في الإشهاد.
ولا شك أنه إذا عسر الإشهاد، فلا يكلف صاحب الحق أن يقول: أنا على الحق وطلبِه.
وإذا اطلع المشتري على عيب بما اشتراه، فهل يشترط أن يقول: فسخت العقدَ ورددتُ المبيع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نشترط ذلك؛ فإن الفسخ يحصل بالقول، ولا حاجة إلى حضور المردود عليه. ومن أصحابنا من لم يشترط ذلك وسوّغ له التأخيرَ إلى أن يلتقي بالمردود عليه، مع بذل الجد في طلبه.
4717 - ومما يتعلق بمضمون هذا الفصل القولُ في أحوالٍ تتعلق بالعلم بالبيع وصفته، والعفو عن الشفعة أو التواني فيها على ظن، ثم بدوّ خلاف ذلك المظنون، فنقول: إذا أخر الشفيع الطلب، ثم افتتح يطلب (2)، سألناه عن سبب التأخير، فإن قال: لم أخبر بالبيع، فالقول قوله مع يمينه. وإن قال: لم أصدِّق الخبرَ، نظر: فإن أخبره جمعٌ يقع العلم بقولهم، لم يقبل قوله. وإن قال: أخبرني عدلان، لم يعذر في
__________
(1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): عدم البدار.
(2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): بالطلب.

(7/325)


قوله: "لم أصدقهما". وإن كان أخبره صبي، أو كافر، أو فاسق، عُذر في ترك تصديق هؤلاء. وإن كان أخبره عدلٌ واحد، ففي المسألة وجهان، لا يخفى مُدرَك توجيههما.
وألحق بعض أصحابنا إخبارالعبد بإخبار الفاسق؛ من حيث إنه ليس من أهل الشهادة، ولست أرى الأمر كذلك، فإن أخذ هذا من الرواية أقرب، إذا لم يُشترط العدد، ولست أرى لاشتراط العدد معنى.
4718 - ومما ينتظم في هذا الفصل أنه إذا قيل للشفيع: اشترى فلان الشقصَ بألف، فترك الشفعة، بأن توانى فيها، أو عفا عنها، ثم بان أنه اشتراه بخمسمائةٍ، فهو على حق الشفعة؛ فإنه وإن أطلق العفو، كان ذلك على تقدير وقوع البيع بالألف، وليس ذلك مما يكون المجهول فيه كالمعلوم، والهزل كالجدّ؛ فإنه مدار الغرض.
وهذا بيّن.
وكذلك لو قيل له: اشتراه بألفٍ صحيح، فتوانى، أو عفا، ثم بان أنه اشتراه بألفٍ مكسر، فله الشفعة، ولا حكم لما جرى.
ولو قيل: اشتراه زيدٌ بألفٍ، فعفا، أو توانى، ثم بان أنه كان اشتراه عمرو، فله الفسخ؛ لأن الغرض يختلف في ذلك، فربما يرضى بمداخلة زيد وشركته، ولا يرضى بشركة غيره.
وإذا قيل له: اشترى النصف بخمسمائةٍ، فعفا، ثم بان أنه قد اشترى الكل بها، فهوعلى شفعته.
وكذلك لو قيل: اشترى النصف بخمسين، فبان أنه اشترى الكل بمائةٍ.
وكذلك لو أُخبر أنه اشترى الكل بمائة، ثم بان أنه كان اشترى النصف بخمسين، فله حق الشفعة؛ لأنه قد يكون له غرض في القليل دون الكثير، وفي الكثير دون القليل، وبمثله لو قيل: اشتراه بمائةٍ، فعفا، ثم بان أنه اشتراه بمائتين، فلا شفعة له؛ فإنه لم يطلب الشفعة بالمائة، فأي غرض لهُ في طلبها بالمائتين.
وكذلك لو أخبر أنه اشتراه بمائةِ دينارٍ مكسرة، فعفا، [ثم بان أنه كان اشترى بالصحاح، فلا شفعة.

(7/326)


4719 - ومما ذكره القاضي: أنه لو قيل له: اشتراه بمائة دينارٍ، فعفا] (1) ثم بان أنه كان اشتراه بألف درهم، فقد حُكي عن القاضي أنه على شفعته؛ لأن الغرض يختلف باختلاف الجنس، وقال: وكذلك لو كان الأمرُ على العكس.
فأما الصورة الأولى، فلا شكّ فيها، فإنه عفا إذا أخبر بالثمن الكثير، والغالب أن الألف أقلُّ من مائة دينار. فأما إذا أخبر بألف درهم، ثم بان أن الثمن مائةُ دينار، وقد عفا أولاً، فإثبات الشفعة في هذه الصورة محالٌ؛ فإن عفا وقد بلغه أقلُّ الثمنين المذكورين، فطلب الشفعة بالأكثر لا يليق بالأغراض المرعيَّة. والتعويل في هذَا الباب على المالية؛ فإن الشفيع ليس يأخذ بعين الثمن، وإنما يأخذ ببدلٍ مشبهٍ بالثمن المذكور في العقد (2).
فإذا كانت مائةُ دينارٍ تساوي ألفين فصاعداً، فلا يتحقق غرضٌ في ذلك.
وليس هذا كما لو قال لوكيله: بع عبدي هذا بألف درهم، فباعه بمائة دينار؛ فإن البيع يبطل؛ من جهة أن مبنى تصرف الوكيل على اتباع لفظ الآمر، وقد يغمض على الفقيه تعليل صحة البيع فيه إذا وكله بالبيع بألف درهم، فباعه بألفي درهم. ثم سبيل حل الإشكال ما قدمناه. فأمَّا إذا اختلف الجنس، فيظهر وقوع عقد الوكيل مخالفاً لقول الموكل.
نعم. لو أُخبر الشفيع بأن الثمن ألفا درهم فعفا، ثم بان أنه مائتا دينار، وكانت قيمة المائتين ألفين، فهذه المسألة فيها احتمال؛ من جهة أنه قد يعسر عليه تحصيل الدراهم، وقد يتجه فيه أن هذا ليس بعذر؛ فإن صرف الدنانير [إلى الدراهم سهل؛ فإن الدنانير ليست] (3) سلعة من السلع، حتى يفرض في بيعها ترصد وانتظار.
ولو قيل له: اشتراه بألف مؤجلٍ، فعفا، ثم بان أنه قد اشتراه بألفٍ حال، فلا شفعة له؛ إذ لا غرض في ترك الشفعة بالمؤجل والأخذ بالحال. ولو كان على العكس من هذا، فله الشفعة، لظهور الغرض في الترك بالحال، والأخذ بالمؤجل.
والجملة المعتبرة في هذه المسائل أنه إذا لم يظهر غرض بعد العفو، فالشفعة
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): مشبه بثمن العقد.
(3) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(7/327)


ساقطة. وإن ظهر غرض على خلاف ما أخبر الشفيع به، فهو على شفعته.
وهذه المسائل نختمها بسرٍّ، وهو أن العفو عن الشفعة ليس عفواً عن حق متقرر، بل الأمر فيه أولاً وآخراً على التوقف، كما سنبينه من بعدُ. والعفو المطلق فيما هذا وصفه.، لا يقع مبتوتاً، بل يقع مقدراً على وجه، فإذا بان غيره، لم يتناوله العفو.
4720 - ومما يتعلق بهذا الفن أن الشفيع قد يتلفظ بألفاظٍ لا تتعلق بطلب الشفعة عند الانتهاء إلى المشتري، وللأصحاب فيها كلام، فلو انتهى إلى المشتري وقال: السلام عليكم، ثم ابتدأ طلبَ الشفعة بعد ذلك، فقد قال العراقيون: لا تبطل شفعته بافتتاح الكلام بالسلام. وهذا الذي ذكروه ظاهرٌ، خارجٌ على ما ذهب إليه الجمهور، من أنا لا نشترط قطعَ الأشغال التي يكون الشفيع ملابساً لها عند بلوغ الخبر.
ومن غلا من أصحابنا وشرط قطعها، فلا يبعد أن يشترط الابتداءَ بطلب الشفعة.
ومما ذكروه أنه لو قال للمشتري: بارك الله لك في صفقة يمينك، وعَنَى ابتياعه الشقصَ، ثم قال بعد ذلك: أنا طالب الشفعة. قال العراقيون: له طلبها، وإن كان التفريع على قول الفور، وقياس طريق المراوزة يخالف هذا؛ فإن قوله: بارك الله لك يشعر بتقرير الشقص في يده. وتعقيب هذا الكلام بما يوجب إزالة يده يُلحق نظمَ الكلام بالاستهزاء.
وقال العراقيون: لو انتهى إلى المشتري، وقال: بكم اشتريت الشقص؟ قالوا: هذا يبطل حقّه، على نقيض ما ذكروه في اللفظ السابق. وقياس المراوزة في هذا أنه لا يبطل حقه؛ فإنه معذورٌ في البحث؛ من جهة أنه ربما يطلب الشفعة إذا كان الثمن مقداراً (1) عنده، ولا يطلبها إذا كان أكثر منه، ولا شك أن هذا يُفرض فيه إذا لم يكن عالماً بمقدار الثمن من جهةٍ أخرى.
ولا يمتنع أن يقال: لو كان عالماً (2) فيعذر في البحث، ويحمل الأمر فيه على أخذ إقرار المشتري.
__________
(1) في (ي): "مقدراً".
(2) (ت 2)، (ي)، (هـ3): وإن كان عالماً بمقدار الثمن يعذر.

(7/328)


وإذا قلنا: الشفعة على التراخي؛ فالبحث والسلام، وما في معناهما لا يؤثر، نعم. لو قال: بارك الله لك في صفقة يمينك، فقياس المراوزة أن هذا من علامات الرضا بإسقاط الشفعة، إذا لم نشترط التصريح. والعراقيون، لم يسقطوا به الشفعة على قول الفور.
ولو أخر الشفيع، ثم طلب، قلنا له: أخرت وقصرت، فلو قال: نعم أخرتُ ولكن لم أدرِ أن التأخير يُبطل حق الشفعة، فإن كان يليق بحاله أن يجهل هذا، فالقولُ قوله مع يمينه، والشفعة باقيةٌ (1) إذا حلف؛ فإن صورة التأخير لا تُبطل الشفعة، وإنما تبطل الشفعة بما يدل التأخير عليه من توان، مع العلم بأن الحق على البدار، فكأن التأخيرَ من وجهٍ يلتحق بالعلامات، مع العلم بأن الأمر ينبني على البدار.
فليفهم الناظر ما ينتهي إليه من أمثال ذلك.
4721 - ومما يتعلق بهذه الفصول القول في أن الشفيع متى يملك الشقص المشفوع؟ وما الذي يموجب تمليكه؟
أولاً - لا خلاف أنه لا حاجة في ثبوت الملك إلى عقد مجدد يُفرض إنشاؤه بين الشفيع وبين المشتري، والشفيع إذا ملك، يملك بالعقد الذي عقده المشتري، على سبيل البناء.
ثم اعترض فيما يطلبه أمور متعارضة: أحدها - أنّ الملك [مستحق] (2) على المشتري، ويُفرض انتقاله منه إلى الشفيع قهراً، من غير رضا يصدر منه، ولا تمليكٍ من جهته. هذا لا شك فيه. والملك لا يحصل للشفيع قهراً، بل الأمر مربوط بخِيرته (3). ثم إذا اختار الشفيع حصولَ الملك في المشفوع، فلو قلنا: إنّه يملك الشقص، وينقلب الثمن إلى ذمته قبل توفيره على المشتري، لكان في ذلك إجحاف بيّن، ومبنى الباب على دفع الضرر، فلا ينبغي أن يتضمن إلحاقَ ضررٍ بالغير.
4722 - فإذا حصل التنبيه على هذه الوجوه، فنحن نذكر ما يقتضي ثبوتَ الملك
__________
(1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): ثابتة.
(2) في الأصل: يستحق.
(3) الخِيرة: بفتح الياء وسكونها: اسم من الاختيار.

(7/329)


للشفيع وفاقاً، ثم نذكر صور التردد بعد وضوح محل الوفاق، فنقول: إذا سلم الشفيع العوضَ إلى المشتري، ملك الشقصَ قطعاً؛ فإن الذي كنّا نحاذره فيما شببنا به تخلفُ الثمن عن المشتري، مع الحكم بالملك للشفيع.
هذا متفق عليه.
وكذلك لو سلم المشتري الشفيعَ حقه، ورضي بأن يتخلف تأديةُ العوض عن جريان الملك في الشقص، فيحصل الملك على هذا الوجه أيضاً.
وليس هذا تمليكاً يفتقر إلى مملِّك (1)، ولا إيجاباً يفتقر إلى قبول، وإنما هو رضاً من المشتري بأن يتأخر حقُّه، ويتعجل حق الشفيع في الشقص.
وإذا كان يحصُل الملك بهذه الجهة، فقد اختلف أصحابنا في أنَّه هل يتوقف حصول ملك الشفيع على قبضه، وتسلّمه للشقص، أو يكفي ما صورناه من الرضا على الوجه الذي أوضحناهُ؟ فالذي ذهب إليه الأكثرون أن جريان الملك لا يتوقف على الإقباض والتسليم؛ فإن هذا ملك حاصل بحكم البيع، والأملاك التي تحصل بجهة المعاوضة لا يتوقف حصولها على صور القبوض.
ومن أصحابنا من قال: لا يتم ما قاله المشتري- إذا لم يقبض الثمن- إلا بقبض الشفيع المثمّن. وقول المشتري في حكم وعدٍ، وإتمام موجَب الملك التسليمُ.
وهذا بعيد لا تعويل عليه، والاعتداد بما ذكرناه، من أن القبض ليس بشرط.
ولو ارتفع إلى مجلس القاضي، وأثبت حقُّه في الشفعة، وحَقّق طلبَه، فقضى [له] (2) القاضي بحق الشفعة، ولم يوجد بعدُ تسليمُ الثمن، ولا رضا من المشتري، كما صوَّرناه، ففي حصول الملك للشفيع في الشقص وجهان: أحدهما - وهو ما نقله صاحب التقريب أن الملك يحصل للشفيع في الشقص بثبوت حق الشفعة، وتأكُّد الطلب، وجريان القضاء. وحقيقة هذا الوجه أن الشرع نزّل الشفيع منزلة المشتري، حتى كأنّ العقد عُقد له، إذا تأكَّد حقُّه، وهذا يحصل بجريان القضاء به. وإذا كنا لا نشترط تمليكاً جديداً، وعقداً مبتدءاً، ويستحيل وقوف الملك على بذل العوض؛
__________
(1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): تملك.
(2) ساقطة من الأصل.

(7/330)


اعتباراً بجملة عقود المعاوضات، ولكن الشفيع متخير بين الأخذ والترك، فإذا جرد قصدَه وأكُد بالقضاء، وجب الحكم بالملك له.
ومن أصحابنا من قال: لا يحصل الملك دون بذل الثمن، أو رضا المشتري، كما قدمنا؛ فإن الشراء أوجب الملك للمشتري، وحق الشفيع ثابت إلى أن نتبيَّن طلبه أو إسقاطه، فلو كان الملك يحصل له، لحصل بنفس العقد على حكم تخير، ثم كان يسقط إن لم يُرِدْه، ويستقر إن أراده. ولا خلاف أن الأمر لا يكون كذلك.
هذا ذكر كلام الأصحاب على الإجمال، والبيان منتظر في سياق الكلام بعدُ.
4723 - فإن قلنا: لا يحصل ملك الشفيع بجريان القضاء بثبوت حق شفعته، فلا كلام. وإن قلنا: يثبت ملك الشفيع في الشقص بنفوذ القضاء له، فلو أشهد الشفيع عدلين على طلبه، فهل يثبت له الملك بنفس الإشهاد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يثبت؛ فإن الإشهاد دون القضاء، لا يستقل بالإفادة؛ إذ لا حكم أولاً لصورة الشهادة، ما لم تتصل بمجلس الحكم. وإنما الذي يجري من الشفيع تحميل الشهود [الشهادة] (1) حتى يندفع عنه الانتسابُ إلى التقصير، وإن ادعي عليه تقصير، أغنته شهادة الشهود عن الحلف.
والوجه الثاني - أنه يثبت الملك بالإشهاد، ذكره صاحب التقريب، وحكى عن الأصحاب أن الشفيع إذا أشهد، لم ينفذ بعد ذلك تصرّفُ المشتري في الشقص. ثم قال بانياً على هذا: إذا امتنع نفوذ تصرف المشتري، كان السبب فيه جريان ملك الشفيع في الشقص المشترى.
هذا تأسيس الكلام فيما يقتضي ثبوتَ الملك للشفيع في الشقص على الجملة.
4724 - وها نحن الآن نتطلع إلى حقيقة الفصل، ونذكر ما عندنا فيه إن شاء الله عز وجل.
فنقول: إن وفر الثمن على المشتري، فلا خلافَ في ثبوت الملك، ثم لا يثبت
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(7/331)


للمشتري خيار المجلس في ذلك المكان الذي جرى التسليم فيه؛ فإنه مقهور فيما يجري، والجمع بين الاقتهار وإثبات الخيار محال (1).
وهل يثبت للشفيع خيار المجلس، حتى يثبت له ردُّ الشقص، واسترداد الثمن؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه لا خيار له؛ فإنَّ حكم خيار المجلس أن يتعلق بشخصين، فإذا انتفى الخيار عن المشتري، فيبعد أن يثبت للشفيع. والثاني - أنه يثبت؛ فإن هذا جريان ملك جديد، بحكم عقد بيعٍ، فلا يخلو عن خيار المجلس.
وهذا الخلاف يصدر عن قاعدة يتفرع منها مسائل في خيار المجلس، وهي أن خيار المجلس هل يتصور أن يثبت في أحد الشقين؟ أو هل يتصور أن يبقى في أحد الشقين، مع بطلانه في الشق الآخر؟ فيه تردّدٌ واختلافٌ بين الأصحاب، مضى استقصاؤه في أول كتاب البيع.
فإن قلنا: لا يثبت الخيار للشفيع، فلا كلام.
وإن قلنا: يثبت الخيار له، فالأمر موقوفٌ على مفارقته ذلك المكان. فلو فارقه المشتري، ففي انقطاع الخيار بمفارقته وجهان: أحدهما - أنه ينقطع بمفارقته؛ فإنه الذي ملك عليه، وإن لم يكن له خيار، فهو بمثابة ما لو ثبت خيار المجلس من المتبايعين، فأسقط أحدهما خيار نفسه، وبقي الخيار للثاني، ثم فارق الذي أبطل (2) خيار نفسه المجلسَ.
ومن أصحابنا من قال: لا يبطل خيار المجلس بمفارقة المشتري؛ فإنه لم يثبت له حظٌ في الخيار أصلاً، فلا معنى لاعتبار [فراقه] (3). هذا إذا بذل المشتري الثمن.
ثم إذا قلنا: لا ملك في زمان الخيار، فيتفرع على هذا أن الملك لا يحصل ببذل الثمن، ما لم ينقطع خيار المجلس، وهذا لا يخفى دركه على من فهم مأخذَ الفقه، وإن حصل الملك في الشقص للشفيع برضا المشتري، فالأمر على ما وصفناه في خيار المجلس.
__________
(1) في غير نسخة الأصل: بين الاقتهار والاختيار.
(2) (ت 2): أثبت.
(3) في الأصل: خياره.

(7/332)


فأمّا إذا نفذ القضاء بثبوت حق الشفعة، وقلنا: إنه يتضمن الملك، أو (1) حكمنا بأنّ الإشهاد يتضمنه، فلو أخر الشفيع تأديةَ الثمن، مقصراً من غير عجز، فهل نحكم ببطلان ملكه بعد جريانه أم لا؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يبطل ملكه؛ فإنا لو لم نبطله، لوقع بالمشتري الضّرار الذي بنينا الفصل على محاذرته، وهو أن يملك عليه ما ملك قبل استمكانه من الثمن.
والوجه الثاني - أنه لا يبطل ملك الشفيع، ما لم يرفع الأمر إلى القاضي، ثم إذا رفع إليه، طالب الشفيعَ؛ فإن أبى، أبطل عليه حقه، وهذا هو الذي اختاره القاضي؛ فإن الامتناع عن التأدية أمر مظنونٌ، لا يتبين إلا بالرفع إلى مجلس القضاء.
وهذا يلتفت من صور الوفاق على اشتراط تعلق إثبات العُنة بمجلس الحكم، ومن صور الخلاف على القول بالإعسار بالنفقة.
4725 - فخرج من مجموع ما ذكرناه أن حق الشفيع إذا ثبت من غير تأدية الثمن، ولا رضا المشتري، فهو عرضةُ البطلان بلا خلافٍ، وإنما التردد في أنه يبطل من غير قضاء، أو يتوقف على القضاء.
وهذا أوان التنبيه لطرفٍ من الحقيقة، فنقول:
قد تقدم في كتاب البيع أن البائع هل يملك حبس المبيع حتى يتوفر عليه الثمن؟ وفيه أقوال سبقت، والمشتري يملك حبسَ الشقص حتى يتوفر عليه الثمن بلا خلافٍ.
وإنما الخلاف في أثر منعه، فمن الأصحاب من يقول: أثر منعه امتناعُ الملك للشفيع. ومنهم من قال: لا يمتنع ملكُ الشفيع بمنعه، بل يجري بالقضاء أو الإشهاد، ولكن يثبت عُرضةً للبطلان إن مَطَل وسوّف. وهذا يناظر من البيع حكماً، وهو أنا إذا قلنا: على البائع البدايةُ بالتسليم، فلو سلم المبيعَ، ثم ظهر من المشتري الامتناعُ عن تسليم الثمن، فقد قال الشافعي: "أحجر على المشتري، وأنقض عليه الملك في المبيع". فإذا كان ثبت ذلك في البيع المملِّكٍ، فما الظن بملك
__________
(1) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): وحكمنا.

(7/333)


الشفيع (1)!! والفرق بين البابين أن نقض ملك [المشتري] (2) فيه تردد، وخبطٌ في المذهب. ولا خلاف فيما نحن فيه.
ومن لطيف ما يجب التنبيه له أنا إذا لم نثبت للشفيع الملك بالقضاء والإشهاد، فإذا جرى القضاء والإشهاد، ثم أقبل الشفيع على تأدية الثمن، فالأصح أنه لا يُرعى من الفور في تأدية الثمن ما يرعى في أصل الطلب؛ فإنا قد نبطل الشفعة على قول الفور بتأخيرٍ في لحظة على ما تفصّل القولُ فيه. فأما إذا تأكد الطلب، فيشتغل الشفيع بتأدية الثمن اشتغال ما لا يعد منتسباً إلى التقصير فيه، مع الاتصال بالتمكن، فينبغي أن يرعى إقبال قادر على أداء الثمن.
ومن أسرار الفقه في ذلك أنّ خبر الشفعة قد يفجأ الشفيعَ، وليس الثمن عتيداً عنده، فلو قلنا بالتضييق عليه في التأدية، كان ذلك سعياً في إبطال معظم حقوق الشفعاء؛ فقلنا: عَجّل الطلبَ (3)؛ [فإنك] (4) متمكن من إبداء الطلب، ثم أَقْبل (5)، وعبر الأصحاب عن الفسحة التي أشرنا إليها في التأدية بأن قالوا: كل اشتغالٍ لا يوجب حبسَ من عليه الحق في الديون، فهو محتمل فيما نحن فيه، وكل اشتغالٍ يجر تطويلاً، يسوغ لصاحب الحق استدعاءَ حبسٍ معه، فهو غير محتمل فيما نحن فيه.
ووراء ذلك ما ذكرناه من خلاف الأصحاب في أن الحق يبطل، أو يُبطله القاضي.
4726 - وقد انتهى الكلام الآن إلى بيانِ أصل من الأصول، وهو أن الشريك لو كان معسراً، لا وفاء معه بالثمن، والتفريع على قول الفور، فمن أصحابنا من قال: إذا اطّرد الإعسار، تبيّنا أنه لم تثبت له الشفعة أصلاً. ومنهم من قال: تثبت، ثم تسقط، وإنما أثبتناه (6)؛ لأنه لو جرى العقد فرزق الشفيع معه مقدار الثمن، فلا خلاف أنه يأخذ الشقص إن أراد، فكأن الأمر عند بعض الأصحاب موقوف، والشفعة عند
__________
(1) (ت 2): المشتري.
(2) في الأصل، (ي): الشفيع. والمثبت من (ت 2)، (هـ3).
(3) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): الثمن.
(4) في الأصل: فإنه.
(5) أي أقبل على أداء الثمن.
(6) كذا بضمير المذكر على معنى (حق) الشفعة.

(7/334)


بعضهم ثابتة، ثم يطرأ سقوطها باطِّراد العسر.
ولو قال الشفيع: أحصّل الثمنَ ببيع [عقارٍ لي، وأظهره] (1) للعرض، فإن كان عقاراً لا يطلب مثله، فلا تعلّق به. وإن كان يطلب مثله، ولكن تباطأ انتظام بيعه، فهذا ممّا لو فرض في الديون، [لاستحق] (2) صاحب الدين طلب الحبس إلى اتفاق البيع.
وهل يبطل حق الشفيع في مثل هذا المقام، والضِّياع (3) المعروض مرغوب فيه؟ فيه احتمالٌ عندنا، ولا يخفى على الفقيه أن كل ما نفرعه على قول الفور.
4727 - وممَّا يتصل بأطراف الكلام أن الشفيع إذا ملك الشقص برضا المشتري، لا بتسليم الثمن، فلو قال المشتري: قد ملكتَ، ولكن لا أسلم الشقصَ إليك، حتى تسلم الثمن، فهذا (4) يخرّج على تفصيل الأقوال في أن البداية بالتسليم في البيع بمَن؟ والمشتري في رتبة البائع، والشفيع في رتبة المشتري منه.
ولو سلم الثمن، وملك بهذه الجهة، لا برضا المشتري، ثم خرج ما سلمه مستَحَقاً، فقد تبينا أن المشتري (5) لم يملك، ونحن نقول: لو بان أنّ ما أداه المكاتب مستحَقٌ في النجم الأخير، فالعتق الذي حكمنا به مردود تبيُّناً. وكذلك القول فيما نحن فيه.
ولو وجد المشتري بما قبضه عيباً، فردَّه، ففي المسألة احتمالٌ، يجوز أن يقال: تبيّن أنه لم يملك، كنظيره في الكتابة إذا رد السيد النجم بالعيب، والجامع أن المقصود حاصل في الموضعين بأداءِ موصوفٍ، وإذا لم يحصل أداء الموصوف، تبيّنا أن الغرض لم يحصل.
ويجوز أن يقال: يحصل الملك للشفيع، ثم يرتد؛ فإن الملك في المعاملات
__________
(1) في الأصل: عقاري، وأظهر.
(2) في الأصل: لا يستحق. والمثبت من النسخ الثلاث.
(3) الضِّياع: جمع ضَيعة. مثل: كَلْبة وكلاب. والضيعة العقار. (مصباح).
(4) (ي) فهل.
(5) كذا في جميع النسخ: "المشتري"، والصواب "الشفيع"، كما سيظهر بعد أسطر، وعلى فرض أنها "المشتري" فالمراد: لم يملك الثمن، فقد خرج مستحقّاً، وليس المراد: لم يملك الشقص.

(7/335)


يقبل الارتداد، والعتقُ لو حكمنا به، لم يقبل الانتقاض والارتداد، فكان الأمرُ في العتق مبنيّاًَ على التبين.
4728 - ومن تمام البيان في هذا أنا إذا حكمنا بالملك للشفيع من غير تأدية الثمن، ولا رضا من المشتري، ولكنَّا حصَّلنا الملك بالقضاء أو الإشهاد، فهذا الملك عرضةُ النقض في حق (1) المشتري لو استأخر حقُّه، كما قدمناه.
والشفيع بنفسه (2 إن أراد أن ينقضه، فقد حكى شيخي أنه لا ينقضه 2)، وذكره صاحب التقريب أيضاً.
والذي يدل عليه كلام الأصحاب أن الشفيع في نفسه بالخيار في الإعراض وترك الحق بعد الطلب، وإنما يتأكد حقُّه تأكداً لا يملك النقض، إذا أدى الثمن، أو رضي المشتري، فحصل منه القبول، ولسنا نعني القبولَ الذي يعارض الإيجاب؛ فإنا لا نشترط إيجاباً من المشتري، حتى يقابل بالقبول، ولكن يقابل الرضا بالرضا.
ولو بدت منه مخيلةُ الرضا في مقابلة رضا المشتري، كفى ذلك، فإذا لم يوجد هذا، ولا بذل الثمن، فالشفيع بالخيار بين الإضراب وبين التمادي على الحق.
وممَّا ذكره صاحب التقريب أن قال: إذا أشهد الشفيع على الطلب، لم ينفذ بعد ذلك بيعُ المشتري وتصرفُه، وادعى الوفاق فيه. وهذا فيه نظر، فالوجه أن نقول: إن حكمنا بحصول الملك للشفيع، لم ينفذ تصرف المشتري، وإن لم نحكم بحصول الملك، ففي نفوذ تصرف المشتري تردد، لمكان تأكد الشفعة بالطلب، فقد يبعد أن نأمر الشفيع بالإقبال على تحصيل (3) الثمن، ونُسلِّط المشتري على البيع. والأظهر نفوذ تصرف المشتري إذا لم يحصل الملك للشفيع، ثم للشفيع نقض تصرف المشتري.
وسيأتي بيان شافٍ في تصرف المشتري وتفصيل القول في نقضه.
وقد انتهى الكلام في ملك الشفيع، وما يوجبه على أبلغ وجه في البيان.
__________
(1) المعنى لحق المشتري.
(2) ما بين القوسين سقط من: (هـ3).
(3) في (ت 2)، (ي)، (هـ3): "على طلب الثمن".

(7/336)


4729 - وقد حان الآن أن نتكلم في حكم ملكه الحاصل، فنقول: إن قبض الشقص، وجرى ملكه فيه، فتصرفاته نافذة فيما قبضه.
وإن وفر الثمن، ولم يقبض الشقصَ من المشتري، ففي نفوذ تصرفه فيه قبل القبض وجهان، ذكرهما صاحب التقريب، وغيره من أئمة المذهب: أحدهما - أنه لا ينفذ فيه تصرفه. وهو مع المشتري كالمشتري مع البائع، فيما ينفذ ويُرد من التصرفات؛ والسبب فيه أن ملك الشفيع ترتب على ملك المشتري، كما ترتب ملك المشتري على ملك البائع.
والوجه الثاني - أنه ينفذ تصرف الشفيع؛ فإنا نثبت له الملك بناء قهراً، حتى كأن المشترَى ملكٌ له، ومساق هذا يقتضي تنفيذَ تصرفه، وهذا الخلاف فيه إذا حصل الملك بأداء الثمن.
فأمّا إذا قلنا: يحصل الملك بالقضاء أو الإشهاد، فلا يملك التصرفَ بلا خلافٍ فيه.
ولو حصل الملك برضا المشتري، فالظاهر عندي في ذلك امتناعُ تصرف الشفيع، إلى أن يتوفر عليه الثمن. وهذا إذا أثبتنا له حق الحبس.
وقد تبقّى علينا من الفصل بقية تتعلق بالعهدة الدائرة بين الشفيع والمشتري، وسيأتي الشرح عليه بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل.
وهذا نجاز غرضنا من الفصل بما نحن فيه.
فصل
قال: "فإن اختلفا في الثمن، فالقول قول المشتري مع يمينه ... إلى آخره" (1).
4730 - نذكر وجوهاً من الاختلاف بين من يطلب الشفعة وبين المشتري، فنقول: إذا جاء طالباً للشفعة، فقال المشتري: لا ملك لك في الدار، ولا شِرْكَ، فإذا أنكر أصل الملك، فالقول قول المشتري، وعلى الشفيع البينة، ثم إن لم يجد الشفيع
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 50.

(7/337)


البينةَ، فكيف يحلف المشتري؟ قال الأصحاب: يحلف بالله لا يعلم له ملكاً، وقضَوْا بأنه لا يقع الاكتفاء بهذا، ونفيُ ملك الغير باليمين في هذا المقام ينزل منزلةَ نفي فعل الغير (1)؛ من جهة أن المشتري ليس يدعي لنفسه ملكاًً في محل النزاع، وإنما يجزم المرءُ نفيَ ملك الغير إذا كان يدعيه لنفسه، مثل أن يدعي رجل أن الدار التي في يدك لي، فيحلفُ المدعى عليه على نفي ملك المدعي ويُسند يمينه إلى ثبوت الملك لنفسه. هذا وجهٌ من الاختلاف.
ولو أقر له بالملك، ولكنه أنكر الشراء، فقال: ما اشتريتُ الشقص الذي تبغيه، فالقول قوله مع يمينه الجازمة في نفي الشراء، وعلى الشفيع إقامة البينة إن وجدها على الشراء.
وإن أقر بالشرك، وأقر بالشراء، وادعى جهالة الثمن؛ فقد فصلنا القول في ذلك فيما سبق.
وإن اعترف بكل ما يدعيه الشفيع، وادعى عليه ما يُسقط الشفعة من تقصير في الطلب وغيره، فالقول قول الشفيع.
4731 - وإن اختلف الشفيع والمشتري في مقدار الثمن، فادعى الشفيع أنه اشتراه بألفٍ، وقال المشتري: اشتريته بألفين، فإن كان لأحدهما بينة دون الثاني، حكم ببينته. وإن أقام كل واحد منهما بينةً على وفق قوله، فحكم البينتين إذا تعارضتا سيأتي في كتاب الشهادات. ولكن الوجه هاهنا التفريعُ على التَّهاترِ (2)؛ فنجعل كأن البينتين لم تقوما، وسنذكر حكم ذلك في سياق الفصل، إن شاء الله تعالى.
وإن شهد البائع لأحدهما، فلا خلاف أنه لو شهد للمشتري، لم تقبل شهادته، سواء كان قبض الثمن، أو لم يقبضه؛ لأنه لو شهد، كانت شهادته متضمنة أمراً باشره، وصدر منه، مع من باشر ذلك الأمرَ معه. وهذا يناقض وضع الشهادة، ولا فرق بين أن يشهد قبل قبض الثمن أو بعده؛ فإن صيغة الشهادة خارجة عن القاعدة.
__________
(1) ومعلوم أنه لا يجوز الحلف على نفي فعل الغير، وإنما يحلف على عدم علمه به.
(2) التهاتُر: الشهادات التي يكذب بعضها بعضاً.

(7/338)


ولو شهد البائع للشفيع، فمن أصحابنا من قال: لا تسمع شهادته؛ لأنه شهد على فعل نفسه. ومنهم من قال: إن شهد قبل قبض الثمن، تسمع؛ لأنه يقابل ما يطالِب به المشتري، ولا ينسب إلى التهمة. وإن شهد بعد قبض الثمن، لم تسمع؛ لأنه يقابل العهدةَ، وما يثبت للمشتري الرجوع به في تفاصيل [العهدة] (1)، فتمكنت التهمة فيه.
وإن لم يُقم بينةً، فالقول قول المشتري مع يمينه. وليس الشفيع مع المشتري بمثابة المتبايعين يختلفان في مقدار الثمن، ويتحالفانِ، والفرق أن المتبايعين اعترفا [بثبوت] (3) الملك للمشتري، ثم تداعيا، فاشتمل كلام كل واحدٍ منهما على شيئين، هو في أحدهما مدعٍ، وفي الثاني مُدّعىً عليه، وليس أحدهما أولى من الآخر، وكل واحد منهم تولى أحد طرفي العقد، واستوى القولان في الاحتمال، فكان التحالف لذلك.
وفي مسألتنا لم يقع الوفاق على حصول الملك للشفيع، ولم يتول الشفيع أحد شقي العقد، وإنما تولاه المشتري، فجعلنا القول قوله؛ لأنه أعلم بما تولاّه، والشفيع يدّعي لنفسه حق تملكٍ بدون ما ذكره المشتري وأبداه، فكان القول قولَ المشتري، بخلاف ما ذكرناه في المتبايعين.
فصل
قال: "وإن اشتراها بسلعة ... إلى آخره" (4).
4732 - إذا كان الثمن سلعة، أخذ الشفيع الشقص بقيمة السلعة، فالاعتبار (5) بيوم العقد، كما تقدم.
__________
(1) في الأصل: العهد.
(2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): منه.
(3) في الأصل: بوقوع.
(4) ر. المختصر: 3/ 50.
(5) كذا في جميع النسخ (بالفاء)، ولا محل لها؛ فإن جواب الشرط هو: أخذ ... فالواو هنا أولى.

(7/339)


وذهب ابن أبي ليلى إلى أن الشفيع يأخذ بقيمة الشقص، ووافق أن الثمن إذا كان مثلياً يؤخذ الشقصُ بالمثل.
وعماد المذهب أن الشفيع أحَلَّه الشرعُ محل المشتري إن أراد التملك فيما يتصور أن يحل فيه محله، فإن كان الثمن من النقود، أو من ذوات الأمثال، أخذ الشفيع الشقص بمثل الثمن المسمَّى، ولا يتصوّر منه أخذُه بعين المسمَّى؛ فإن الثمن المسمى في العقد خرج من ملك المشتري إلى البائع، فقدر الشرع في تملك الشفيع ثمناً يضاهي ثمنَ الشراء، وقَرَّبَ القول في التقدير والتمثيل على أقصى الإمكان. وهذا ينافي الأخذَ بقيمة الشقص؛ إذْ لو فرض الأخذ بها، لكان ذلك إضراباً عن إيقاع الملك بالشراء للشفيع. ولهذا قلنا: إذا وهب الشريك الشقص من إنسانٍ، فلا شفعة؛ إذ لا عوض، ولا سبيل إلى الأخذ بقيمة الشقص؛ فإنه لو اشترى المشتري بمتقوم، أخذ الشفيع بقيمة ذلك، لا بقيمة الشقص.
ثم الفقه الواقع فيه أن الشريك لا غرض له في البيع من أجنبي، ولو باعه من شريكه، لحصل مقصودُه من الثمن، [ولانْدفع] (1) عن الشريك الضرار، كما تقدم.
فإذا باعه من غيره -وقد ندبه الشرع إلى عَرْضه على شريكه- راغم الشرعُ مقصوده، وصرف البيع إلى الشريك.
وإذا وهب من إنسانٍ وقصد التقرب إليه والامتنان عليه، فربما لا يبغي أن يسلك هذا المسلك مع غيره؛ فإن الأغراض تختلف في المنح والهبات باختلاف الأشخاص، فأعظم داعيةٍ إلى الهبة صفةُ المتهب، وليس كذلك الشراء؛ فإن الداعية إليه تحصيل العوض، والغرض (2) في هذا لا يتفاوت.
وقد بان أنّ الشقص لا يؤخذ بقيمته، ولا سبيل إلى مخالفة الواهب بصرف هبته إلى غير قصده وجهته، واقتضى مجموع ذلك سقوط الشفعة في الموهوب.
__________
(1) في الأصل: ولا يدفع، (ت 2)، (ي)، هـ 3: ولا يندفع عن الشريك بالضرار.
(2) (ي): العوض.

(7/340)


فصل
قال: "أو تزوّج بها، فهي للشفيع بقيمة المهر ... إلى آخره" (1).
4733 - إذا أصدق امرأته شقصاً في مثله الشفعة، استحقه الشفيع عندنا بقيمة مقابله، وهو البضع، وقيمته مهرُ المثل، خلافاً لأبي حنيفة (2)، ولو اختلعت المرأة نفسها بشقصٍ، أخذه الشفيع بقيمة البُضع. ولو وقعت مصالحة عن قصاصٍ بشقصٍ، أخذه الشفيع بالدِّية، والبدل المالي لذلك الدَّم، ولو أثبت الشقص أجرةً في الإجارة، أخذه الشفيع بقيمة المنافع، وهي أجرة المثل.
وأبو حنيفة لم يثبت الشفعة في هذه المسائل أصلاً، وتخيل في الصداق، وبدلِ الخلع، والصلح عن الدم أن الشقص لم يثبت في معاوضاتٍ حقيقية، وما ذكره في الإجارة بعيدٌ جداً عن قياس مذهبه؛ فإن الأجرة في الإجارة عِوضٌ على التحقيق، وامتنع عنده ثبوت العبد الموصوف (3)، والوصيف المطلق أجرة، كما يمتنع ذلك في البياعات، بخلاف المسائل الثلاث، ووافق أنه لو أصدق امرأته دراهم، ثمَّ اعتاضت عنها شقصاً، فالشفيع يستحق الشقص بمثل الصداق إن كان مثلياً.
ثم إذا ثبت الشقصُ صداقاً، وتعلق حقُّ الشفيع به، فلو طلقها زوجها قبل المسيس، فالطلاق يتضمن تشطُّرَ الصّداق، فقال الأصحاب: لو طلق الزوج، وارتد إليه شطر الصّداق، ولم يكن إذ ذاك شفيع حاضر يطلب، فأخذ الزوج النصف، ثم جاء الشفيع طالباً؛ فإنه لا يتبع ما أخذه الزوج، وإنما يتعلق بما بقي في يد المرأة، فيأخذ بنصف مهر المثل.
ولو جاء الشفيع طالباً، وفُرض طلاق الزوج مع قيام طلب الشفيع، فهذا موضع تردد الأئمة. قال أبو إسحاق المروزي: الزوج أولى بنصف الصَّداق. وقال ابن
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 50. وفيه: وإن تزوج بها.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 124، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 244 مسألة: 1954، وانظر أيضاً: الاصطلام: 4/ 171.
(3) (ي): الموهوب.

(7/341)


الحداد في مسألة تناظر هذه، وهي إذا أفلس المشتري، فأراد البائع الرجوع في الشقص بعذر الفلس في الشقص وأراد الشفيع الأخذ بالشفعة، قال: الشفيع أولى؛ فمساق ما قاله ابن الحداد في مسألة الإفلاس أن الشفيع في مسألة الصداق أولى من الزوج، ومساق ما قاله المروزي أن البائع في مسألة الإفلاس أولى، فنقل الأصحابُ كل جواب من الإمامين إلى جوابِ الآخر، وخرّجوهما على وجهين: أحدهما - الشفيع أولى في مسألة الصداق والإفلاس؛ لأن حق الشفيع أسبق؛ فإنه ثبت قبل التطليق المشطِّر، وكذلك ثبت قبل طريان الفلس واطراد الحجر، هذا أحد الجوابين. والجوابُ الثاني - أن الزوج أولى بالشطر، والبائع أولى بالرجوع إلى عين المبيع؛ لأنهما يرجعان بسبب ملكٍ لهما سابق متقدمٍ، على حق الشفيع؛ فإن قلنا في مسألة الإفلاس: الشفيع أولى، فيأخذ الشقص، ويبذل الثمن.
ثم اختلف أصحابنا في ذلك الثمن: فمنهم من قال: هو مصروف إلى البائع يختص به من بين سائر الغرماء؛ فإنه ثمن المبيع الذي له فيه حق الرجوع لولا الشفيع.
ومن أصحابنا من قال: الثمن مصروف إلى الغرماء، والبائع أُسوتهم؛ فإنه إن لم يرجع في عين المبيع، فتخصيصه بالثمن محالٌ. وهذا اختيار ابن الحداد.
4734 - ومما يتعلق بالقبيل الذي نحن فيه أن من اشترى شقصاً مشفوعاً، واطلع على عيبٍ به، فأراد رده، فقال الشفيع: لا ترده فإني رضيتُ به معيباً، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الشفيع أولى؛ فإن حق شفعته متأكّد متقدّم على اطّلاع المشتري على العيب، وهو أيضاً يُحصِّل غرضَ المشتري، فيرد عليه مثلَ ثمنه، أو قيمتَه، إن كان من ذوات القيم؛ فلا معنى لإبطال حق الشفيع.
والقول الثاني - أن الرد ينفذ، والمشتري أولى به من الشفيع بالأخذ؛ والسَّبب فيه أن حق الشفعة إنما يثبت لو سلِم العقدُ عن الرد، فإذا لم يستقر العقدُ، عاد الأمر إلى ما كان عليه قبل العقد، وجُعل كأنّ العقدَ لم يجرِ، وأيضاً ربّما يكون للمشتري غرض في استرداد عين ماله الذي جعله عوضاًً، وإذا منعناهُ من الرد؛ فاته هذا الغرض.
4735 - ومما يتفرع في ذلك أن المشتري لو رد بالعيب في غيبة الشفيع، نفذنا الردّ

(7/342)


في الحال، وإذا جاء الشفيع بعد جريان الرد، فهذا يتفرع على أنه لو اجتمع طلبُه، مع همّ المشتري، فمن المقدم منهما؟ فإن قلنا: المشتري مقدم، لحق الرد، فإذا نفذ الردّ، فلا مستدرك. وإن قلنا: حق الشفيع مقدم، فإذا جرى الرد، ثم جاء الشفيع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا شفعة؛ فإنها فاتت بجريان الردّ وتقدمه. والوجه الثاني - له حق الشفعة. وهذا القائل يقول: الرد مردود، والشفعة تترتب على الملك السّابق، ويُجعل كأن الرد لم يجر.
وهذا فيه ضعف؛ من جهة أن الفسخ لا يفسخ.
وكان شيخي يقول: إذا أثبتنا حق الشفعة في هذه الحالة، تبيّنا بطلانَ الردّ؛ لأنه صادف حقاً مقدّماً عليه. ولا نقول: ينفذ الرَّد، ثم يُرد.
فرجع حاصل القول إلى وجهين في الأصل: أحدهما - أن الشفعة بطلت بالرّد، والثاني - أنها لم تبطل.
فإذا قلنا: إنها بطلت، فلا كلام. وإن حكمنا بأنها لم تبطل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الرد يُرد. والثاني - أنا نتبين فساد الرد من أصله، ويجعل كأنه لم يجر. وقد قدمنا أن الزوج إذا طلق زوجته قبل المسيس، وكان الصداق شقصاً، وجرى ذلك قبل طلب الشفيع الشفعة، وحكمنا بتشطير الصَّداق، فإذا جاء الشفيع يطلب، فقد قدَّمنا أن ما ارتد إلى الزوج لا ينتزع من يده.
وكان يقول رضي الله عنه: إذا رددنا الرّد على بعد [القول] (1) بفسخ الفسخ، فاسترجاع ما ارتد إلى الزوج أولى.
وبالجملة اختلف أئمتنا، فذهب ذاهبون منهم إلى تنزيل ما ارتد إلى الزوج من الصَّداق بالطلاق قبل المسيس، منزلة ما لو جرى الرد قبل طلب الشفيع؛ فيخرّج على وجهين: أحدهما - أن الشطر منتزع من يد الزوج، ورجوعُه إلى قيمة الصداق.
والثاني- أنه لا ينتزع من يده، ويأخذ الشفيع ما بقي في يد المرأة من الشقص، بحصته من مهر المثل. هذه طريقة.
ومن أئمتنا من قطع في الطلاق بأن ما رجع إلى الزوج لا يسترد منه، وجهاًً واحداً؛
__________
(1) في الأصل: القرن.

(7/343)


لأن الطلاق هو الموجب للتشطر، والطلاق لا مردّ له، وشطر الصداق يرتد من غير اختيار، فبعد نقض حكم التشطير فيه.
والأصح عندنا التسويةُ بين طلب الشفعة بعد الطلاق، وبين طلبها بعد جريان الرد؛ فإن القول كما اختلف في اجتماع طلب الشفيع والقصد بالردّ كذلك اختلف القول فيه إذا انضم طلب الشفعة إلى تطليق الزوج قبل المسيس، فإذا اتفقا في الابتداء، فإن لم يكن للطلاق مرد، وجب أن يتفقا في طريان طلب الشفعة.
4736 - وممَّا يتصل بذلك تفصيل الإقالة، فإذا اشترى شقصاً، ثم فرض جريان الإقالة، نظر: فإن لم يكن عفا الشفيع عن الشفعة، وجرت الإقالة، نُفرّع ما نقوله على القولين في أن الإقالة فسخٌ أو بيع؟ فإن جعلنا الإقالة بيعاً، فالشفعة لا تبطل، والشفيع بالخيار إن شاء نقض الإقالة؛ حتى يرتد الشقص إلى ملك المشتري، فيأخذه بالشفعة منه.
وإن قلنا: الإقالةُ فسخ، فهذا طلب شفعة ترتب على جريان فسخ، فيلتحق هذا بما ذكرناه في طلب الشفعة بعد جريان الردّ بالعيب. وما ذكرناه فيه إذا كان الشفيع على طلب شفعته، وما كان عفا.
فأما إذا عفا الشفيع عن الشفعة، ثم جرت الإقالة من بعدُ، فإن قلنا: الإقالة بيعٌ، فللشفيع أخذ الشفعة من البائع الأول؛ فإنه بالاستقالة (1) صار مشترياً. فإن قلنا: الإقالة فسخ، لم يتجدد حق الشفيع؛ فإن الفسخ لا يُثبت حقَّ الشفعة. وإن كان يشتمل على تراد في العوضين. وهذا مما اتفق عليه الأصحاب.
فصل
قال: "وإن اشتراها بثمنٍ إلى أجل ... إلى آخره" (2).
4737 - إذا اشترى الرجل شقصاً بثمن مؤجلٍ، فالذي نص عليه الشافعي في الجديد، وهو ظاهر المذهب، ولم يحك الصيدلاني وشيخي غيرَه أنّا نقول للشفيع:
__________
(1) في (ت 2): "الإقالة".
(2) ر. المختصر: 3/ 51.

(7/344)


إن شئت عجل الثمنَ للمشتري، وتعجل حقك من الشفعة. وإن شئت، فاضرب عن الطلب حتى يحل الأجل.
ونص الشافعي فيما رواه حرملةُ على أن للشفيع أن يأخذ الشقص بالثمن المؤجل، وحكم ذلك أن يأخذ المبيع من المشتري في الحال، ويكون الثمن للمشتري في ذمة الشفيع، كما أن الثمن للبائع في ذمة المشتري.
وحكى أبو العباس بن سُريج عن كتاب (الشروط) (1) أن الشفيعَ يأخذ الشقص بعَرْضٍ يساوي مقدارَ الثمن مؤجلاً بأجله.
وهذا في ظاهر الأمر فيه إنصاف؛ فإنا لو كلفناه ألفاً حالاً، كان ذلك تفاوتاً في المالية بيّناً. ولو قلنا: عجل بعضَ الثمن ونكتفي به، مصيراً منا إلى أن البعض الحال يقوم مقام الألف المؤجّل، كان ذلك مقابلةَ ألفٍ مؤجلٍ بستمائة حال، وهذا صورة الربا. فإذا قدرنا عرضاً قيمته الألف المؤجل، لم يؤد هذا التقدير إلى الربا، وكان رعايةَ الانتصاف في الحقوق المالية.
هذا بيان الأقوال.
وقال مالك (2) رحمه الله: إن كان الشفيع ملياً، ثقةً، سلمنا إليه الشقصَ بالثمن المؤجل، وإن لم يكن ملياً، وأعطانا كفيلاً ملياً، سلمنا إليه الشقص أيضاً بالثمن المؤجل، وإن لم يكن ملياً ولم يجد كفيلاً، لم نسلم إليه الشقص.
4738 - ونحن الآن نوجه الأقوال، ثم نفرع عليها،: فأما وجه قوله الجديد، فعماده أن البائع إن رضي بذمة المشتري ووثق بأمانته، فالمشتري لا يلزمه أن يرضى
__________
(1) كتاب (الشروط). لم يبين إمام الحرمين من هو صاحب كتاب الشروط، وتركنا نبحث عن كل من له كتاب في الشروط، من رجال المذهب السابقين لابن سريج، حتى ترجح لدينا أنه كتاب الشروط للمزني، ثم وجدنا الرافعي يقول: "عامة الأصحاب ذكروا أن ابن سريج نقله عن الشافعي رضي الله عنه من كتاب الشروط. والمفهوم من إيراده أنه نص عليه فيه. وقال الشيخ أبو علي: إن ابن سريج خرجه من قول الشافعي في كتاب الشروط: إنه يجوز بيع الدين، فقال: يقوّم الدين المؤجل بعرض، ويأخذه الشفيع به" ا. هـ بنصه من فتح العزيز: 11/ 450. قلتُ: فكأن ابن سريج نقله نصاً للشافعي، أو مخرجاً من معاني كلامه. عن كتاب الشروط للمزني.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 635 مسألة 1096، جواهر الإكليل: 2/ 58.

(7/345)


بذمة الشفيع، وإن كلفناه أن يسلم الشقص، ويعوّل على ذمّة المشتري، فقد ألزمناه أمراً مخطراً؛ فنقول: إن رددت الشقص، فعجّل؛ فإن المؤجل يصح تعجيله، وإن لم ترُد الشقصَ، فانتظر حلول الأجل، فاجتمع إذن مراعاة حق المشتري واستدامة حق الشفيع.
ومن قال: نُسلِّم الشقصَ المبيع إلى الشفيع بالثمن المؤجل، احتج بأن الشفيع ينزل منزلة المشتري في تملك الشقص، ومقدارِ الثمن، وكل ما تتصور المساواة فيه تقريباً؛ فينبغي أن يحل محله في الأخذ عاجلاً بالثمن المؤجّل.
ومن نصر القول الثالث، فاحتجاجه ما ذكرناه في بيان القول (1) الأول، من اعتبار الإنصاف، واجتناب صور الربا. وإذا كنَّا نُقيم قيمةَ الثمن إذا كان سلعة مقام السلعة، فلا يبعد أن نقيم سلعة مقام الثمن، مع التقريب في الغرض المالي، إذا كان ينتظم ذلك في المقاصد.
هذا بيان توجيه الأقوال.
التفريع:
4739 - من قال بالقول الجديد، وهو ظاهر المذهب، فوّض الأمرَ إلى الشفيع، كما مضى، وجوز له أن يعجل ويتعجل، وأن ينتظر (2) حلول الأجل، ويترك الشقص في يد المشتري.
ويتفرع على هذا القول ثلاثةُ أشياء: أحدها - أنا إذا فرعنا على قول الفور، فقد اختلف أئمتنا في أنا هل نوجب أن يُشعر الشفيعُ بأنه على الطلب، ثم يؤخر إن أراد التأخير؟ فمن أئمتنا من قال: لا يجب ذلك، ولا فائدة فيه، فإذا جوزنا له التأخير إلى حلول الأجل، جوزنا له السكوت عن الطلب إلى ذلك الوقت.
ومن أصحابنا من قال: لا بُدّ من الإشعار بالطلب، كما فرعنا على قول الفور.
ثم إذا أكّد الشفعة بالطلب، كان تأخير أداء الثمن إلى منتهى الأجل بمثابة تأخر أداء الثمن الحالّ (3) إلى أوقاتٍ [يتيسّر] (4) أداؤه فيها عادة، مع العلم بأن تأخير الطلب إلى تلك الأوقات مبطل لحق الشفعة.
__________
(1) (ت 2)، (ي): في بيان ذلك القول من اعتبار ....
(2) في (ت 2)، (ي)، (هـ3): "وينتظر" بدون (أن).
(3) ساقطة من كل النسخ، عدا الأصل.
(4) في الأصل: "يتبين" وفي (ت 2): يتأخر.

(7/346)


فهذا أحد الأشياء الثلاثة.
والثاني - أن المشتري إذا مات، وحل الأجل عليه بموته، فالأمر موسع على الشفيع في تأخير أداء الثمن كما قدمناه في حالة الحياة، والسبب فيه أنه وإن كان يتلقى من جهة المشتري، فهو مُباين له في المرتبة. وقد ذكرنا أن من ضمن ديناً مؤجلاً على صفة التأجيل، ثم مات المضمون عنه، وقُضي بحلول الدين، وانقطاع الأجل، فلا يحل الدين على الضامن بسبب حلوله على المضمون عنه.
والأمر الثالث - أن الشفيع لو مات بنفسه، فوارثه يقوم مقامه في استحقاق الشفعة، ثم لا يقضى أنه يحل عليه الثمن؛ [إذ] (1) لم يكن عليه أجل حقيقي، ولم يكن الثمن ديناًً في ذمته حتى يفرض حلوله بموته، لكن كان ثبت له حق الشفعة على وجهٍ، فيثبت ذلك الحق على ذلك الوجه لوارثه. ذكره الصيدلاني وغيره من المحققين. وهو ممّا لا يشك فيه.
هذا تمام التفريع على القول الجديد.
4740 - فأمّا التفريع على القول الذي رواه حرملة، فإنا نرى هذا قولاً قديماً، فإنه في الأصل يضاهي مذهب مالك، ثم اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: نعتبر ما اعتبره مالك من كون الشفيع ملياً موثوقاً به في ظاهر الحال؛ فإن لم يكن، اشترطنا أن يقيم كفيلاً ملياً وفياً، فإذ ذاك نوجب على المشتري تسليمَ الشقص، وتركَ الثمن في ذمة المشتري. وإن لم يتحقق ذلك في المشتري، ولم يأت بكفيلٍ، لم نسلم إليه الشقص. وهذا هو الذي حكاه الشيخ أبو علي في تفريع هذا القول في مذهبنا. فكأنَّه إذاً مذهبُ مالكٍ.
ومن أصحابنا من لم يشترط ملاءةَ الشفيع، ولا الإتيانَ بكفيل، وأحل الشفيع محل المشتري، وأوجب تسليم الشقص إليه عاجلاً؛ تنزيلاً له منزلة المشتري، من غير نظر إلى صفته، وهذا فيه بُعد وإجحاف بالمشترى. وإن كان يميل إلى طرفٍ من القياس بعض الميل. وقد حكاه موثوقٌ به عن القاضي.
__________
(1) في الأصل، و (ت 2)، (هـ 3): إذا.

(7/347)


ثم يتفرع على هذا القول أن المشتري لو مات، وحل عليه الأجل، لم يحلّ على الشفيع، كما ذكرناه في الضامن والمضمون عنه. ولكن لو مات الشفيع، وجب القضاء بحلول الثمن عليه؛ فإن الأجل [تأصّل] (1) في حقه، بدليل استئخار الشقص، وأخذه عاجلاً. وإذا أخذ الشقص وملكه، استقر الثمن في ذمته.
فليتنبه المفرع لذلك، وليفصل بين ثبوت حقيقة الأجل على هذا القول، وبين ثبوت فسخه على القول الجديد. [و] (2) ليست من حقيقة الأجل في شيء، ولذلك لا يتعجل الشفيع على الجديد أخذَ الشقص، فلا جرم لم يكن للحكم بالحلول على الشفيع معنى إذا مات قبل حلول الأجل.
ولو فرض في ذلك القول أخذُ الشقص، لكان يتعين أن يعجل الثمن في حياته.
ومما نفرعه أنا إذا أحللنا الشفيعَ محل المشتري في الأجل على قول حرملة، وفرعنا على قول الفور، وجب على الشفيع البدار إلى الطلب؛ فإن الشقص معجل له، حتى إذا أخر، كان مقصراً، ويُقضى بسقوط حقه. وليس هذا كالتفريع على الجديد؛ فإن تلك الفسحة تثبت في أخذ الشقص، حتى كأنها أجل في الشقص. فليفهم الناظر ذلك.
4741 - فأما (3) إذا فرعنا على القول (4) الثالث، [فتعيين] (5) العَرْض إلى الشفيع، وتعديل القيمة إلى من يعرفها، فنعتبر مبلغ الثمن مؤجلاً، ثم نقيس به ثمناً حالاً، ونراجع في المقدارين المقومين، ونقول: ما يساوي ألفاً إلى سنةٍ، بكم يُشترى نقداً؟ فيقال: بخمسمائة، فنكلف الشفيع أن يأتي بسلعة تساوي خمسمائة عاجلة، وهذا قد قدمناه في تصوير القول. فلو لم يتفق طلبُ الشفعة حتى حل الأجل، فالمشتري مطالب بالألفِ، والشفيع يجب أن لا يطالَب إلا بالسلعة المعدّلة التي ذكرناها؛ فإنّ لاعتبار في قيمة عوض الشراء، بحالة العقد، فكأن المشتري لما اشترى بألفٍ
__________
(1) في الأصل وحدها: تأجل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) (ت 2): فإنا.
(4) القول الثالث هو ما حكاه ابن سُريج عن كتاب الشروط، وهو أن يأخذ الشفيع الشقص بعرْضٍ يساوي مقدار الثمن مؤجلاً بأجله.
(5) في الأصل: فتعين.

(7/348)


مؤجّل، اشترى بخمسمائةٍ حالةٍ، فالاعتبار إذاً بحالة العقد. ولهذا قلنا: إن ثمن العقد إذا كان متقوماً، فالاعتبار في مبلغ قيمته بحالة العقد. فإن قيل: إذا فرعتم على القول الجديد، فهل تنفذون تصرفات المشتري في مدة الأجل في الشقص؟ قلنا: نعم. ولا يملك الشفيع نقضَها مادام الأجل، إلا أن يعجل الثمن. ثم إذا تصرم الأجل، يتبع التصرفاتِ بالنقض.
فقد نجز ما أردناه في هذا الفصل.
فصل
قال: "ولو ورثه رجلان، فمات أحدهما، وله ابنان ... إلى آخره" (1).
4742 - الذي نراه أن نقدم على هذا الفصل أصلاً مقصوداً في كتاب الشفعة، وهو أنّه إذا ازدحم شفيعان فصاعداً على المبيع المشفوع، وكانا مختلفين في مقدار الملك في الشركة، فالشفعة مقسومة على الرؤوس بالسوية، أم هي مقسومة على مقدار الحصص في أملاك الشفعاء؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن القسمة على أقدارِ الحصص، وبيان ذلك بالتصوير أن الدار إذا كانت مشتركة بين ثلاثة، لواحد نصفها، ولآخر ثلثها، ولآخر سدسها، فإذا باع مالك النصف نصيبه، وهو النصف، فهو مقسوم على الجديد بين صاحب السدس والثلث أثلاثاً على الملكين.
والقول الثاني - وهو المنصوص عليه في القديم أن القسمة تقع على رؤوسهم بالسوية، فيأخذ كل واحد منهما نصفَ الشقص المبيع، وهو ربع الدار، وهذا مذهب أبي حنيفة (2)، واختيار المزني، وتوجيه القولين قد استقصيناه في [كتاب] (3) الأساليب والغنية، وليس يتعلق بذكرهما ضبطٌ مذهبي، فنعيده.
ولو انفرد الشفيع، واستحق الشفعةَ، ومات من غير تفريطٍ قبل اتفاق أَخْذ
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 51.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 121، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 248 مسألة 1965.
(3) زيادة من (ت 2). وهما كتابان للإمام في علم الخلاف.

(7/349)


الشقص، وخلف ابناً وبنتاً، فحقُّ الشفعة موروث، كما سنذكره بعد ذلك.
ثم اختلف أصحابنا على طريقين، في تخريج القولين في قسمة الشفعة، فصار صائرون إلى أن القولين يخرجان في الابن والابنة، وإن تفاوتا في استحقاق نصيب الشفيع، وشِرْكه القديم. ففي قولٍ نسوي بينهما في الشقص المشفوع. وفي قولٍ يوزع على مقدار ملكيْهما في الشرك القديم.
ومن أصحابنا من قطع القولَ بأن الشفعة في حق الوارثين مقسومةٌ على اختلاف الملكين؛ فإنها موروثة، والإرث يقتضي التفاوت.
وحقيقة هذا الاختلاف للأصحاب ستأتي واضحة، إن شاء الله تعالى، في الفصل الذي نذكر فيه توريث الشفعة.
4743 - فإذا وضح هذا الذي ذكرناه، عدنا بعده إلى بيان مضمون الفصل.
فإذا مات الرجل، وله دار، وخلف ابنين، ثم مات أحدهما عن ابنين، وانصرفت حصته من الدار إليهما، ثم باع أحد الحافدين نصيبه من الدار، فأخوه أولى بالشفعة، أو يشاركه العم فيه؟ فعلى قولين: أحدهما -وهو المنصوص عليه في القديم- أن الأخ أولى؛ لأنهما اختصا بوراثة أبيهما دون العم، وانحازا عنه بحيازة الميراث، فإذا تصرف أحدهما تعلق حكم تصرفه بأخيه، ولم يتعدَّه، كما اختص الإرث بهما دون العم. وهذا لست أرى له [وجهاًً] (1) أصلاً. ولست أصفه بالضعف، فأكون حاكماً باتجاهه على بعد، ولكن لا أصل له في القياس.
والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في الجديد- أن العم يشارك في الشفعة؛ فإنه شريك، والشفعة نيطت بالشركة، وهو مساوٍ للأخ في الشركة الشائعة؛ فوجب أن يساويه في استحقاق الشفعة.
ثم قال الأصحاب: القولان لا يختصان بالوراثة، بل لو اشترى شخصان داراً، ثم باع أحدهما نصيبه من شخصين، أو وهبه منهما، واستقر ملكهما، ثم باع أحدهما نصيبه، فالشفعة تختص بمن كان شريكاً له في الدرجة الأولى، أو يشاركه الشريك
__________
(1) زيادة من: (ت 2)، (ي)، (هـ 3).

(7/350)


الأصلي في الدار، وهو شريك البائع؟ فعلى هذين القولين.
4744 - ولو كانت الدار بين ثلاثة، فباع واحد منهم نصيبه من شخصٍ، أو وهبه منه، واستقر ملكه، ثم باع أحد الأصلين الباقيين نصيبه، فالشفعة تثبت للشريك الأصلي القديم أو يشاركه الشريك الحادث فيه، يعني المتهب، فعلى هذين القولين؛ فإن بين القديمين تواصلاً، واختصاصاً قديماً، ليس ذلك للحادث. فكما لا يتعدى تصرفُ المحدثين في الشركة إلى القدماء على القول القديم، فكذلك لا يتعدى تصرف القدماء إلى الحادثين، إذا كان في الجهة القديمة شريكان فصاعداً.
ثم إذا وقع التفريع على القديم، فلا شك أن الحافدين (1) في الصورة الأولى لو باعا جميعاً ما يملكان، فالشفعة تثبت للعم، وإنما يقدم أحد الأخوين على العم إذا باع أحد الحافدين، ووقع الكلام في تقديم الاخ، أو التشريك بينه وبين العم. وهذا واضح.
وكذلك إذا كان الشريك القديم واحداً، فباع ما يملكه، أو كان في المسألة شركاء متقدمون، فباعوا جميعاً حصصهم، فالشفعة تثبت للحادثين. وإنما الكلام فيه إذا باع بعض القدماء، وثبت شفيع قديم، وشريكٌ حادث؛ فإذ ذاك يجري القولان.
والذي يبين هذا الفصل أنا إذا فرضنا ابنين أولاً، ثم قدرنا موت أحدهما وتخليف ابنين. ثم باع أحد الأخوين الحافدين نصيبه، والتفريع على القديم، فالشفعة تثبت للأخ الذي لم يبع دون العم على القول القديم.
هذا حكم الحال.
فلو عفا ذلك الأخ عن الشفعة، فهل للعم أن يأخذ الشفعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا شفعة له؛ لأنه لو كان من أهل الشفعة، لما تقدم الأخ عليه؛ لأنه مساوٍ له في الشركة الشائعة، فلما تقدم الأخ عليه، عُلم أنه لا شفعة له؛ فإن التقديم والتأخير لا يثبت في قاعدة الشفعة. ولذلك استدل أصحابنا في إسقاط شفعة الجار بتقدم الشريك عليه، وقالوا: لما تُصوّر سقوط استحقاقه مع الشريك، دلَّ ذلك على أنه لا حق له أصلاً. هذا أحد الوجهين.
__________
(1) (ي): الحادثين.

(7/351)


والوجه الثاني - أن العم تثبت له الشفعة إذا عفا الأخ؛ لأنه شريك، ولكنا رأينا تقديم الأخ عليه؛ من جهة أنه أقرب، فإذا سقط حق الأقرب، وجب أن يستحق العم لوجود الملك، وأصلِ الشركة.
4745 - وهذا يضاهي مذهب أبي حنيفة (1) في تقديم الشريك على الجار، وهو يناظر من صور الوفاق تقديمَ المرتهن على سائر الغرماء بالمرهون، فلو أسقط المرتهن حقه من الرهن، أو أبرأ عن الدين، صُرف المرهون إلى حقوق الغرماء، وكذلك إذا قتل رجل جماعة، وثبت القصاص عليه، فإذا كان قتلهم ترتيباً، فحق الاقتصاص لولي القتيل الأول، ولو عفا، فحق الاقتصاص لولي القتيل الثاني. وهكذا إلى انتهاء الأمر إلى ولي القتيل الأخير.
وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى أنا إذا قدمنا الأخ على العم، فهذا إسقاط للعم عن الاستحقاق أصلاً، أم ثبتت له الشفعة ولكنا نراه مزحوماً بالأخ؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه.
وقد يجري مثل ما ذكرناه هاهنا في ازدحام الشفعاء إذا عفا بعضهم عن الشفعة؛ فإن الحق في ظاهر المذهب في جميع الشقص يثبت للباقين، وليس هذا حقاً متجدداً لهم، ولكن لكل واحد من الشفعاء حقُّ استحقاق جميع الشقص لو انفرد، فإذا كان مزحوماً بآخرين، لم يأخذ كل واحد إلا مقداراً، فمن عفا وخرج عن الاستحقاق، عاد الباقون إلى التقدير الذي ذكرناه. حتى لو عفا الجميع إلا واحداً، فهو يأخذ الشقص بأصل الاستحقاق، لا باستفادةٍ من جهة الشركاء. وسيأتي تقرير (2) ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ثم ما ذكرناه في الأخوين والعم، وعفوِ الأخ يخرّج في كل صورة ذكرناها في قوله القديم، فإذا اشترى رجلان داراً، ثم وهب أحدهما نصيبه، من اثنين، ثم باع أحد المتهبين نصيبه، وفرعنا على أن صاحبه أولى بالشفعة من الشريك القديم، فعلى ما ذكرناه من خلاف الأصحاب.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 239 مسألة: 1947، البدائع: 5/ 8.
(2) (ت 2)، (ي)، (هـ3): تحقيق.

(7/352)


4746 - ومما فرعه ابن سريج على هذا الأصل أن من قال: لو مات رجل عن دارٍ وابنتين، وأختين، فللبنتين الثلثان، والباقي للأختين، وهو الثلث، فلو باعت إحدى البنتين نصيبها، والتفريع على القديم فالشفعة تثبت لمن؟ قال ابن سريج: يحتمل أن نقول: تختص بالشفعة البنت التي لم تبِع، ولا شفعة للأختين؛ من جهة أن البنتين كانتا مختصتين بجهة الإرث، ؤالحصة مضافة إليهما، فاقتضى ذلك اختصاصَ إحداهما بالشفعة إذا باعت إحداهما، وعدم تعلق الاستحقاق بالأختين، تفريعاً على القديم.
هذا احتمال أبداه ابن سريج في التفريع على القول القديم، ثم زيَّف هذا الوجهَ، وقال: يجب تشريك الأختين في الشفعة؛ لأن الوراثة تثبت لجميع الورثة دفعةً واحدة، والورثة مستوون، فلا معنى لتقديم بعض الجهات على البعض. وهذا الذي ذكره في بيع إحدى البنتين يجري في بيع إحدى الأختين، حتى يتردد الجواب تفريعاً على القديم في أن الشفعة تختص بالأخت أو تتعدى إلى البنتين. وهذا يجري في جملة أصناف الورثة، حتى إذا كان فيهم زوجاتٌ وبناتٌ، وأخوات، فباعت زوجة حصتها، ففي اختصاص الزوجات الكلامُ الذي ذكرناه.
والوجه تشريك جميع الورثة.
4747 - ثم إذا وقع التفريع على القول الجديد، وهو المذهب المبتوت، وإن كنا نحكم بأن القديم مرجوع عنه، فهذا أوانه.
فإذا باع أحد الحافدين نصيبَه، وأثبتنا الشفعة لأخيه وعمّه، فللعم نصف الدار، وللأخ ربعها، والمبيع الربع، ففي كيفية القسمة على الأخ والعم كلامٌ يتعين التأنِّي فيه، في ترتيب المذهب. فإن جرينا على القياس، أرسلنا القولين في أن المبيع يقسم أثلاثاً بين العم والأخ، أو يقسم بالسوية بينهما. هذا طريق التفريع القياسي. وإن راعينا نظم المذهب، قطعنا بالقسمة على التفاوت، نظراً إلى الحصتين والشريكين؛ فإن القسمة على رؤوس الشفعاء في القول القديم. ونحن في القديم لا نثبت للعم الشفعةَ، وفي الجديد لا نرى القسمةَ على الرؤوس، فإذا فرعنا على تشريك العم في الشفعة، وهو الجديد، قطعنا النظر إلى الحصتين، وفاوتنا في المقدار أخذاً بالجديد، وأصحابنا يمنعون من بناء الجديد على القديم، والقديم على الجديد.

(7/353)


وقد تقدم مراراً أن القول القديم لا ينبغي أن يعد من مذهب الشافعي؛ فإنه مرجوع عنه. فإن قيل: قد اختار المزني القولَ القديمَ، ورأى قسمةَ الشفعة على رؤوس الشفعاء، واحتج بقول الشافعي في مسألة العم، والأخ، ونقل فيه لفظَ الشافعي، فقال: قال الشافعي: "العم والأخ سواء في استحقاق الشفعة"، وفهم المزني من نص الشافعي القسمةَ على الرؤوس، وهذا تفريع القديم. وتشريك العم هو القول الجديد، قلنا: لا محمل لهذا في ترتيب المذهب إلا وجهان: أحدهما - أنه يحمل الاستواء على الاستواء في أصل الاستحقاق، لا على التساوي في المقدار. والثاني - أن نُقدر للشافعي قولاً في الجديد في أن الشفعة تقسم على الرؤوس لا على الأنصباء.
وهذا فيه نظر؛ فإنه لم يصح في الجديد القسمةُ على الرؤوس. ومهما (1) قطع الشافعي في الجديد فتواه، فالذي أراه موافقةُ المزني في أن ذلك رجوع منه عن ترديد القول.
فصل
قال: "ولورثة الشفيع أن يأخذوا ما كان يأخذ أبوهم ... إلى آخره" (2).
4748 - الشفعة موروثة عندنا على الجملة، فإذا مات الشفيع قبل اتفاق أخذ الشقص، ولم يقصّر، انتقلت الشفعةُ إلى الورثة.
وقال أبو حنيفة (3): الشفعة لا تورث.
فنقول: إذا مات الشفيع وخلّف ابناً وبنتاً، وامرأة، وخلف الشقص الذي كان ملكه من الدار، وبه استحق الشفعة، فالشقص مقسوم بين الورثة، على أربعةٍ وعشرين للزوجة الثُّمن ثلاثة، والباقي بين الابن والبنت للذَّكر مثلُ حظ الأنثيين، فيخص البنتَ ثلث ما بقي، وهو سبعة، ويخص الابن أربعةَ عشرَ. وحق الشفعة ثابت لهم، ثم الشفعة تقسم على رؤوسهم، أو على حصصهم في الشِّرك القديم؟ فعلى
__________
(1) "مهما" بمعنى: (إذا).
(2) ر. المختصر: 3/ 52.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 248 مسألة: 1966، مختصر الطحاوي: 123.

(7/354)


القولين والتفصيل المقدم. فمن أصحابنا من قطع بأن الشفعة مفضوضةٌ على نسب الحصص، ولم نر هذا من صور القولين، ومنهم من أجرى القولين. وحقيقةُ هذا الاختلاف تستند إلى حقيقة الفصل.
وقد اختلف الأئمة في أن الورثة يأخذون الشفعة لأنفسهم في الحقيقة، أم يأخذونها للموروث، ثم يخلفونه؟ وفي ذلك وجهان: فإن قلنا: إنهم يأخذونها لأنفسهم، جرى القولان في كيفية التقسيط. وإن قلنا: إنهم يأخذونها للميت تقديراً، ثم ينتقل المأخوذ إليهم إرثاً، فليس إلا القطع باعتبار الحصص.
4749 - وممَّا نفرعه في هذا المنتهى أن واحداً من الورثة إذا عفا عن الشفعة،
فكيف يجري هذا التفريع؟ وهذا يستدعي رَمْزاً إلى أصلٍ سيأتي استقصاؤه، إن شاء الله. وهو أن من انفرد باستحقاق الشفعة إذا عفا عن بعض الشفعة، ففيه أوجه:
أحدها - أنه يبطل جميع حقه بالعفو عن البعض، كما لو عفا مستحق القصاص عن بعض حقه في القصاص؛ فإنه يسقط جميعُ القصاص، ولا يتصور بقاء شيء منه.
والثاني - لا يسقط بالعفو عن البعض شيء ويلغو العفوُ.
والثالث - أنه يسقط ما أسقط، ويَبقى ما أبقى.
وسيأتي ذلك على الاستقصاء، إن شاء الله تعالى.
فإذا عفا واحد من الورثة، نفرِع ذلك على الوجهين في أن الورثة يأخذون الشفعة لأنفسهم أم يأخذونها للميت؟
فإن قلنا: إنّهم يأخذون للميت، فإذا عفا واحدٌ منهم، سقط حق الباقين، ونزل منزلة ما لو عفا عن بعض حقه في حياته، ولو فعل ذلك، بطل حقه في الجميع، في ظاهر المذهب. وفيه خلاف، سنذكره في الفصل الذي يلي هذا الفصل.
وإن قلنا: إنّ الورثة يأخذون الشفعة، لأنفسهم، فإذا عفا واحد منهم، أخذ الباقون الشقصَ بكماله، وسقط حق العافي على ظاهر المذهب. وسنصف هذا بعد ذلك، إن شاء الله تعالى.
وغرضنا الآن أن نلحق عفوَ بعض الورثةِ في وجهٍ، بعفو الشفيع الواحد عن بعض

(7/355)


حقه. ونلحقَ عفوَ بعض الورثة في وجهٍ بعفوِ واحدٍ من الشفعاء الذين استحقوا الشفعة لأنفسهم من غير وراثة. والتفصيل وراء ذلك بين أيدينا.
فصل
4750 - إذا كان بين رجلين دارٌ مشتركة، لكل واحد نصفُها، فباع أحدهما عُشرَ نصيبه من إنسانٍ، ثم باع تسعة الأعشار بعد الصفقة الأولى من رجلٍ آخر، فقد قال أبو حنيفة (1) في هذه المسألة: للشريك الذي لم يبع أن يأخذ العشر الذي اشتملت عليه الصفقة الأولى، ثم الشريك القديم ومن اشترى العشر يشتركان في تسعة الأعشار؛ لأن بيع التسعة الأعشار جرى بعد ثبوت الملك في العشر لمشتريه، فاقتضى ذلك اشتراكهما في التسعة الأعشار. هذا مذهبُ أبي حنيفة.
فأما تفصيل مذهبنا، فحاصل ما ذكره الأئمة طريقان: منهم من قال: إن أراد الشريك القديم أخْذَ مضمون الصفقتين، كان له ذلك: العشر والتسعة الأعشار؛ فإن بيع المبلغين جرى وملك الشريك القديم سابق. وهؤلاء يخالفون مذهب أبي حنيفة، ويحتجون عليه بأن أخذ العشر المتلقى من الصفقة الأولى متفق عليه. وإذا أخذه الشريك القديم، استحال بعد زوال ملك المشتري أن يستحق الشفعة في التسعة الأعشار.
ولو عفا الشريك عن الشفعة في الصفقة الأولى وأراد أخذ التسعة الأعشار، فمشتري العشر قد استقر ملكه فيه، وجرى بيع التسعة بعد ملكه، فهل يزاحم الشريكَ القديم في العقد الثاني؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يزاحمه؛ لأنّ ملكه في العشر قد تقرر، وكان متقدماً على الصفقة الثانية، وإذا كان صاحب العشر مع الشريك القديم شريكين عند العقد الثاني، وجب أن يشتركا في الشفعة.
والوجه الثاني - أن صاحب العشر لا يشارك الشريك القديم في العقد الثاني؛ لأن ملكه كان عرضة لأخذ الشريك القديم لما جرى البيع الثاني، ومستحق الشفعة الشريك
__________
(1) ر. طريقة الخلاف: 361 مسألة: 151، إيثار الإنصاف: 332.

(7/356)


القديم، فإذا كان ملكه عرضة لأخذ الشريك القديم وقت جريان العقد الثاني، استحال أن يزاحم بذلك الملك الشريكَ الثاني. نعم: لو عفا الشريك القديم عن الشفعة في العُشر، ثم جرى البيع الثاني، فلا خلاف أنهما يزدحمان في التسعة الأعشار.
هذه طريقة.
4751 - ومن أصحابنا من قال: إن عفا الشريك بعد جريان [العقد] (1) عن الشفعة في العُشر الذي اشتمل عليه العقد الأول، فصاحب العشر والشريك القديم يزدحمان في التسعة الأعشار وجهاً واحداً.
فإن أخذ الشريك القديمُ العشرَ بالشفعة، فهل للذي اشترى العشرَ أن يزاحم في التسعة الأعشار كما صار إليه أبو حنيفة؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه لا يزاحم؛ لأن الشريك يأخذ العشر الذي اشتراه وفاقاً، فلا يبقى له مِلكٌ يزاحم به.
والوجه الثاني خرّجه القفال - أنه يزاحم في التسعة الأعشار، وإن أُخذ العشر الذي اشتراه؛ لأن ملكه كان ثابتاً لما جرى العقد الثاني، فاقتضى ثبوتَ حق الشفعة له، فلا يضر زوال ملكه بعد ذلك على قهر.
وكان القفّال يبني هذا التردد على أصلٍ، وهو أن بعض الشركاء في الدار إذا باع حصّته، ولم يُشعر شريكَه بذلك، ولم يعلم ثبوتَ حق الشفعة له، فباع ملك نفسه على جهلٍ منه باستحقاق الشفعة، ثم تبين له ثبوتُ حق الشفعة له، فهل نحكم بأن ما جرى من البيع في ملكه القديم عن جهلٍ وغِرّة يتضمن بطلان الشفعة؟ في المسألة قولان: أحدهما - أن حق الشفعة يبطل؛ فإن الغرض من الشفعة دفع الضرار عن المالك كما فصلناه، فإذا زال الملك، فلا حاجة إلى الدفع، فأشبه ما لو باع على علمٍ بثبوت الشفعة.
والقول الثاني - أن حق الشفعة ثابتٌ، لا ينقطع بما جرى من البيع على الجهل.
ومما يجب الإحاطة به أن الشفيع إذا باع ملكه بعد الإحاطة بالشفعة، فحقه من الشفعة يبطل، وإن قلنا الشفعة على التأبيد، وشرطنا التصريح بالإسقاط، فبيع الملك على عمدٍ وعلمٍ يتضمن إسقاط الشفعةِ، على اتفاق بين الأصحاب، لم أعثر فيه على خلافٍ.
__________
(1) في الأصل: العقدين.

(7/357)


قال القفال: إذا أخذ العشرَ الذي اشتملت عليه الصفقةُ الأولى، فليس ذلك عن اختيارٍ من المشتري، فشابه ذلك ما لو باع الشريك ملكه على جهلٍ بثبوت الشفعة.
هذا حاصل القول في المسألة.
4752 - فإن عفا الشريك القديم عن الشفعة في العشر، وجرينا على الأصح، وأثبتنا له المزاحمة في التسعة الأعشار، فكيف نقسمها بينهما؟ إن حكمنا بأن الشفعة تقسّم على الرؤوس، فتلك الشفعة تقسم بين الشريك القديم، وبين صاحب العشر نصفين، ولا حاجة إلى تصحيح ذلك بطريق الحساب. وإن أردنا التصحيحَ، لم يخف مُدركه.
وإن قلنا: الشفعة تقسم على الأنصباء وأردنا التصحيحَ والضبط، فالوجه أن نتخيل أصلَ المسألة، وهو عشرون لاشتمالها على نصف العشر؛ فإن الشريك الأول باع عُشراً من نصفه، وعشر النصف نصف العشر، فوضعنا المسألة من عشرين. النصف للشريك القديم: عَشَرة، وما سُلِّم (1) لمشتري العشر سهمٌ، فبين الشريك القديم، وبين صاحب العشر أحدَ عشرَ سهماً، فتقسم التسعة على أحد عشر سهماً، فلا تنقسم. وإذا انكسر عدد على عددٍ، فالوجه في التصحيح ضربُ العدد الذي عليه الكسر في أصل المسألة، فنضرب أحدَ عشرَ في عشرين، فتردّ علينا مائتين وعشرين، وهذا المبلغ أجزاء الدار، النصفُ القديم منها مائة وعشرة، والذي سلم في الصفقة الأولى أحدَ عشرَ، بقي تسعة وتسعون. لصاحب نصف العشر تسعة، وللشريك القديم تسعون، فيخلص للشريك القديم ملكاً أصلياً ومأخوذاً بالشفعة مائتان، ويخلص للمشتري نصف العشر من الصفقة الأولى ومن الثانية عشرون.
ثم إذا تبيّنا هذا من طريق البسط، تلقينا منه نسبةً بيّنة، فالدار بين القديم وبين المزاحم على أحدَ عشرَ جزءاً، عشرة منها للشريك القديم، وواحد للمزاحم.
وما ذكرناه من فرض يتعين (2) في العشر والتسعة الأعشار مع رجلين لو فُرِضا مع رجل
__________
(1) (ت 2)، (ي)، (هـ3): يسلم.
(2) في (ت 2): "معين".

(7/358)


واحد على الترتيب، فالترتيب في الصفقة الأولى والثانية [في العفو، والأخذ، والمزاحمة، كالتفصيل في البيعين من شخصين في جميع ما ذكرناه. وهذا قد نعيده] (1) في آخر الكتاب عند جمعنا حيلاً في تعسير الشفعة على الشفيع، إن شاء الله تعالى.
فصل
يحوي قواعد من الشفعة، نحيل عليها تفريعات مسائل الكتابِ
4753 - فنقول: إذا ثبت حق الشفعة لرجلٍ واحد، فعفا عن بعض حقه، ففي المسألة أوجه مشهورة مذكورة في الطرق: أحدها - أنه يسقط جميعُ حقّه؛ فإن الشفعة لا تتبعض، فإذا وجب القضاء بسقوط بعضها، تداعى ذلك إلى أصلها، وهي شبيهة عند اتحاد المستحق بحق القصاص، إذا ثبت لواحد؛ فإنه لو عفا عن بعضه، كان كما لو عفا عن جميعه.
والوجه الثاني - أنه لا يلغو العفو عن البعض، ولا أثر له، والشفعة ثابتة بكمالها؛ فإن التبعيض إذا تعذر -وليست الشفعة مما يُدرأ بالشبهة- فالوجه تغليب ثبوتها.
وهذه الأوجه إنما يتسق جريانها إذا لم نقل بأن الشفعة على الفور. وسنذكر ترتيب الأصحاب فيها على قول الفور، إن شاء الله تعالى.
والوجه الثالث - أنه إذا أسقط بعضَ حقه، سقط ما أسقطه، وبقي ما أبقاه؛ فإنه حق مالي ولا يبعد تطريق الانقسام إليه.
قال الشيخ أبو بكر: هذا الوجه إنما يخرّج -على ضعفه- إذا رضي المشتري بأن تبعّض عليه الصفقة، فأمّا إذا أبى ذلك، وقال للشفيع: إما أن تترك الجميع، أو تأخذ الجميع، فله ذلك. وهذا الذي قاله حسن، لا يسوغ في القياس غيرُه، فإن تبعيض الصفقة على المشتري إضرار بيّن، وتعييب لما يبقى في يده.
وإن فرّعنا على قول الفور، فقد اختلف أصحابنا على طريقين: منهم من أجرى الأوجه الثلاثة على قول الفور، وصور العفوَ عن البعض مع البدار إلى طلب الباقي.
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل وحدها.

(7/359)


ومنهم من قطع بأنا إذا فرعنا على قول الفور، فالعفو عن البعض يُسقط الجميع؛ فإن ابتناءه على الفور على هذا القول، يشعر بتسرع السقوط إليه، وكان حَريّاً بمشابهة القصاص، وقد ذكرنا أن العفو عن بعض القصاص يُسقط الجميع.
4754 - ومن الأصول التي نذكرها في هذا الفصل: أنه إذا ثبت في شقص واحدٍ شفيعان، فلو عفا أحدهما عن حقه، فكيف السبيل فيه؟ ذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع أربعةَ أوجه: أحدها - وهو الأصح المشهور أن حق العافي يبطل من الشفعة، ويثبت الحق بكماله للثاني. فلو أراد أن يأخذ بعضَ الشقص، وهو القدر الذي كان يخصه مع شريكه لو لم يعف، فليس له الاقتصار عليه، وللمشتري أن يقول: إما أن تأخذ الكل، وإما أن تدع. وهذا هو الذي قطع به شيخنا أبو محمد، والصيدلاني، وكل معتبر من أثبات النقلة. وتعليل هذا الوجه أنه إذا عفا أحدهما، جُعلَ كأنه لم يكن، وأُخرج من البَيْن، وقدر الثاني منفرداً باستحقاق الشفعة. وهذا هو الأصل، والمذهب.
وقد ذكر الشيخ أبو علي سواه ثلاثةَ أوجه: أحدها - أَنَّ الذي عفا [قد] (1) سقط بعفوه نصف الشفعة، وثبت ذلك القدر للمشتري، ولو أراد الشفيع الثاني أن يأخذ جميع الشقص، لم يكن له ذلك، ولو أراد المشتري أن يُلزمه أخذ الجميع، لم يكن له ذلك. وهذا الوجه يوجّه بأن الحق ثبت لهما، وسقط [سهمهُ] (2) بإسقاطه، وحقوق الأموال تقبل الانقسام.
والوجه الآخر أن أحد الشفيعين إذا عفا، سقط نصيبهما جميعاً بعفوه، وانقطعت الشفعة أصلاً، كما إذا ثبت القصاص الواحد لرجلين، فعفا أحدهما.
وهذا ضعيف جداً.
والوجه الثالث - أنه لا يسقط حق من لم يعف، ولا يسقط حق من عفا أيضاًً؛ فإن الشفعة لا تقبل الانقسام، فإذا كان حق من لم يعف ثابتاً؛ من جهة تشميره في طلبه،
__________
(1) في الأصل، (ي)، (هـ 3): فقد. والمثبت من (ت 2)، وتمام عبارتها: قد سقط حقه بعفوه نصف الشفعة.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(7/360)


فحق صاحبه بمثابة حقه، فينبغي أن يغلّب [جانب] (1) الثبوت على [إخالة] (2) القول بالتبعيض، ويخرج من مجموع ذلك إلغاء عفو العافي.
فهذا الذي ذكره ثلاثة أوجه، وإذا ضممناها إلى ما هو المذهب، كان المجموع أربعة أوجه.
4755 - وليقع التفريع بعد هذا على الوجه الأول، الذي هو المذهب.
قال الشيخ: هذا الذي ذكرناه فيه إذا ثبتت الشفعة لرجلين ابتداء، فأما إذا ثبتت الشفعة لرجل واحد، فمات، وخلّف وارثَيْن، فعفا أحدهما، قال: اختلف أئمتنا على طريقين: منهم من قال: هذه المسألة تجري مجرى المسألة الأولى، وهي إذا ثبتت الشفعة ابتداءً لرجلين، فعفا أحدهما.
ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة تنزل منزلة ما لو ثبتت الشفعة لرجلٍ واحد، فعفا عن بعضها.
وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى ما قدمناه من أن الوارث يأخذ الشفعة لنفسه أو
يأخذها للمورث. فإن قلنا: يأخذها لنفسه، فالورثة بمثابة الشفعاء على الابتداء.
وإن قلنا: إنه يأخذها للمورث، فهو واحد، والتفصيل فيه كالتفصيل في تصرف الشفيع الواحد.
4756 - ومما يتعلق بهذا الأصل أنه لو كانت الدار مشتركة بين ثلاثة، فباع أحد الشركاء نصيبه من أحد الشريكين، فللشريك الذي لم يشتر حقُّ الشفعة، ولكن هذا المشتري يقول: كما ثبتت الشفعة لك لشركتك، فكذلك ثبتت لي، فإني شريكٌ مثلك، فالذي اشتريته، فهو بيننا لحق الشفعة. قال الأصحاب: للمشتري ذلك.
وقال ابن سريج: لا شفعة للمشتري؛ فإن الشفعة في الشرع أثبتت جلباً للملك، ولو أثبتنا المشتري شفيعاً، لكان مستبقياً للملك بالشفعة، وهذا يخالف موضوعَ الشرعِ في قاعدة الشفعة، فعلى المشتري أن يسلم على رأي ابن سريج تمامَ الشقص الذي اشتراه للشريك الذي لم يشتر.
__________
(1) زيادة من: (ي)، (هـ 3).
(2) في الأصل، (ي)، (هـ3): "إحالة" والمثبت من (ت 2).

(7/361)


ولو باع بعضُ الشركاء بعض حصته، ثم لما طلب سائر الشركاء الشفعة قال البائع: قد بقي لي شِرْكٌ في الدار، فأنا أساهمهم فيما بعت لحق الشفعة، فليس له المساهمة عند الكافة. والفرقُ بين الشراء والبيع أن المشتري جالبٌ، والشفعة جلبٌ، فالمسلكان متوافقان والبيع إزالة، فلم يستقم أن يُقْدمَ على الإزالة، ويُلزمَها بطريق إلزامها، ثم يبغي الاسترجاع من عين ما أزال. وباع.
فإذا فرعنا في مسألة الشراء على الأصح، وقلنا: إن المشتري له حق الشفعة، فلو قال الشفيع: خذ جميع الشقص، فقد تركت حق الشفعة. فإما أن تأخذ أنت الشقص المشترَى بكماله، أو تدع، فظاهر المذهب أنه ليس للمشتري ذلك بخلاف ما لو ثبت في الصفقة شفيعان، وليس أحدهما مشترياً؛ فإنا على المذهب المعتبر نجوّز لأحدهما أن يترك الشفعة إلى صاحبه، ثم الحكم على المتروكِ عليه أن يأخذ الكل، أو يدع الكل.
والفرق بين الشفيع الذي ليس مشترياً وبين الشفيع في مسألتنا أن الشفيع الذي ليس مشترياً جالب على الحقيقة، فلا يتحتم عليه الطلب، والمشتري إنما جلب الملك بطريق الشراء، فليس له أن يكلف صاحبه استخراج الملك عن حكمه، وهو لو ترك، كان تاركاً ملكاًً لزم له بالشراء، فلذلك لم [يجز] (1)، وكان شفيعه على أخذِ محض حقه.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاًً عن بعض الأصحاب أن المشتري إذا ترك حقه من الشفعة في استبقاء ما اشترى، فيجوز ذلك، ثم يتوجه في ظاهر المذهب على الشفيع الذي ليس مشترياً أن يأخذ جميع الشقص أو يدع قياساً على الشفيعين اللذين ليس أحدهما مشترياً. وهذا بعيد. والوجه ما ذهب إليه عامة الأصحاب. هذا مقصود الفصل.
فرع:
4757 - إذا وجد الشريك في الدار نصيب شريكه في يد أجنبي، وألفاه متصرفاً فيه، وزعم أنه اشتراه من شريكه، وكان ذلك الشريك غائباً، فهل يجوز
__________
(1) في الأصل، (ت 2)، (ي): يلزم. والمثبت من (هـ 3).

(7/362)


للشريك الحاضر أن يأخذ ما صادَفه في يده بحكم الشفعة، بناء على تصديقه فيما ادعاه من الشراء؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك ما لم يتحقق عنده الشراء من جهةٍ أخرى.
والوجه الثاني - وهو الأظهر أن له أن يعوّل على قوله؛ فإن أحكام البياعات يعتمد معظمُها قولَ من يُتلقى الملك منه، فإذا قال هذا المتصرف: قد ملكت بالشراء، فبناء الشفعة على قوله بمثابة بناء الشراء على قوله. ولا خلاف أنه يجوز الشراء منه تعويلاً على قوله: اشتريت. ثم إذا رجع الغائب، فإن صدّق [صاحبُ الملك ما ادّعاه صاحبُ اليد] (1) من الشراء، نفذت الشفعة. وإن كذبه، فالقول قوله حينئذٍ في تكذيبه مع يمينه، فإذا انتهت الخصومة معه، رددنا الشفعة عوداً إلى قول الشريك الراجع المكذب.
فصل (2)
قال الشافعي: "فإن حضر أحد الشفعاء أخذ الكل بجميع الثمن ... إلى آخره" (3).
4758 - نصور المسألة فيه إذا كانت الدار بين أربعةٍ، فباع واحد منهم، فالثلاثة الباقون شفعاء، ثم لا يخلو إما أن يكونوا حضوراً، أو غُيَّباً، فإن كانوا حضوراً، أخذوا بالشفعة، ويقسم الربعُ المبيع بينهم بالسوية، والمسألة مفروضة في استوائهم في الحصص.
وإن تركوا الشفعة، جاز، وسلم للمشتري ما اشتراه.
وإن طلب بعضهم الشفعة وعفا البعض، فقد ذكرنا كلامَ الأصحاب في هذا الطرف، وأوضحنا أن المذهب الظاهر أن الذي لم يعفُ يأخذ الكل إن شاء، أو يدع.
__________
(1) في الأصل: فإن صدّقَ فيما ادعاه صاحب اليد. وفي (ي): فإن صدق فيما ادعاه صاحب اليد. وفي (هـ 3): فإن صاحب صدّق اليد فيما ادعاه صاحب اليد. والمثبت عبارة (ت 2).
(2) في (ت 2): (فرع) مكان (فصل).
(3) ر. المختصر: 3/ 52.

(7/363)


فإن قال: آخذ ما يخصني عند المزاحمة، لم يكن له ذلك. هذا ظاهر المذهب.
4759 - ولو كان الشفعاء غُيّباً لمّا جرت الصفقةُ، فلو حضر واحد منهم، وطلب الشفعةَ، فله ذلك، وليقع البناء على ظاهر المذهب فيه إذا حضر، كما أعدنا المذهب فيه الآن، فنقول في هذا الآيب الراجع: خذ الشقص بتمامه، وابذل جميعَ الثمن للمشتري، ليس لك إلا هذا إن أردت الشفعة. فلو قال: آخذ ما يخصني عند المزاحمة وأترك نصيب صاحبيَّ الغائبين، لم يكن له ذلك. وللمشتري أن يقول: لا آمن ألا يحضر صاحباك أو يحضرا ولا يرغبا في الشفعة، فتتبعض الصفقة عليَّ.
هذا حكمنا في الأول إذا حضر. فلو أخذ تمام الشقص بتمام الثمن، ثم رجع الثاني، فله أن يقول للأول: "أنا وأنت بمثابة واحدةٍ في استحقاق الشفعة، وعودُ الثالث مغيّبٌ، قد يكون وقد لا يكون، فينبغي أن نستوي"، فهذا الكلام الذي أبداه حق، ولا بد من إجابته إلى ملتمسه، فعلى الأول إذن أن يشاطره، ثم الثاني يبذل نصف الثمن، ويسترد نصف الشقص.
فإذا عاد الثالث وهو على الطّلب، فإنَّه يأخذ من كل واحد من الأول والثاني ثلثَ ما في أيديهما، ويبذل مقدار ما يأخذ من الثمن.
هذا هو الترتيب في قاعدة المذهب.
فلو حضر الأول، وقال: أنا آخذ نصيبي، وأتوقف في نصيب صاحبيّ؛ فإني لو أخذتُ الجميع، لكان الظاهر أن ينقضا عليَّ. فإذا فرعنا على قول الفور، وجرينا على ظاهر المذهب الذي جعلناه قاعدة الفصل، فالمشتري لا يجيبه إلى ما يبغيه من قبض البعض؛ فإن هذا يفرّق الصفقة عليه في الحال. وهل يُجعل توقف هذا الراجع في أخذ الكل تقصيراً منه مبطلاً لحق شفعته رأساً؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا نجعل هذا التوقف -على قول الفور- مبطلاً لحقه من الشفعة؛ فإنه يتمكن في الحال من أخذ الجميع، فتركه ما هو متمكن منه لتوقع أمرٍ - مبطلٌ لحقه.
هذا اختيار ابن أبي هريرة.
والوجه الثاني - لا يبطل حقه، وينتصب ما أبداه من توقع استرداد ما يأخذ منه عذراً
في التأخير. ثم محل عذره في حق صاحبيه ثلثا الشقص، والثلث منه يمتنع عليه أخذه

(7/364)


بسبب امتناع المشتري من تبعيض الصفقة عليه، فانتظم في الجميع عذرٌ في التأخير.
هذا مذهب أبي إسحاق المروزي.
فإن قلنا: بطلت شفعته بهذا التأخير، فهذا جريانٌ على ظاهر المذهب، فنجعل تقصيره بمثابة تصريحه بالعفو، وقد ذكرنا في تصريح بعض الشفعاء بالعفو عن نصيبه الأربعةَ الأوجه. ونحن وإن كنا نجري مقصود كلّ فصلٍ على ظاهر المذهب، فنشير في الأثناء إلى ما سواه، حتى لا تنسل الوجوه البعيدة عن ذكر الناظر في الفصل وفكرِه. ونعود بعد التنبيه إلى [الفصل] (1) فنقول: إن قلنا: بطلت شفعته بهذا التأخير، فإذا حضر صاحباه أخذا جميع الشقص، واقتسماه نصفين، على المذهب، ويخرج الأول من البين.
وإن قلنا: لم يبطل حق الأول، فإذا حضر صاحباه، فإن طلبا الشفعة، فإنهم يقتسمون الشقص بينهم بالسويّة، وإن عفا في الحضور بعضُهم، فقد مضى فيه الأوجه الأربعة.
4760 - ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو حضر الأول، وأخذ تمام الشقص، كما رسمناه، ثم حضر الثاني، وكان حقه أن يشاطر الأول، فلو قال: أنا أقنع بمقدار حقي، وهو ثلث الشقص، وأترك نصيب الغائب على الذي رجع أولاً؛ فإني لو أخذتُ النصف، لنقض عليَّ الثالثُ إذا عاد ثلث ما في يدي، فلست أرغبُ أن آخذ ما سيؤخذ مني، فإذا بقي على هذا التقدير الثلثان في يد الأول، وقبض الثلثَ، وبذل مقداره من الثمن، فإذا رجع الثالث، فقد قال ابن سريج: للثالث أن يقول للثاني: تركت ما تركت عافياً مُخلاً بحق نفسك، وجرى ذلك على الشيوع ولي مما في يدك الثلث، فيأخذ منه ثلث ما في يده، ثم يأتي إلى الأوّل ويقول: أضمُّ ما أخذتُه من الثاني إلى ما بقي في يدك، ونشترك فيه، ونقتسمه نصفين بيننا. هذا هو الذي رآه ابن سريج.
وإذا أردنا تصحيحَ هذا الحساب طلبنا عدداً له ثلث ولثلثه ثلث، ثم أقله تسعة،
__________
(1) في نسخة (د 2) وحدها: الأصل.

(7/365)


فنصرف ستة منها إلى الأول، وثلاثة إلى الثاني ثم ينتزع الثالث من يد الثاني واحداً فيضمه إلى الستة في يد الأوّل، فتصير سبعة، ثم السبعة لا تنقسم على اثنين، فتضرب اثنين في أصل المسألة، وهو تسعة فتصير ثمانية عشر، وقد كان للثاني من التسعة اثنان، فنضربهما في المضروب في المسألة فيرد علينا أربعة، وهي حصة الثاني، فتبقى أربعة عشر، تقسمه بين الأول والثالث، فلكل واحد منهما سبعة. وإذا كان ربع الدار ثمانية عشر، فجملتها اثنان وسبعون، فهذا وجه القسمة عند ابن سريج.
قال القاضي: لما ترك الثاني على الأول سدساً، كان ذلك عفواً منه في بعض الحق، والشفيع إذا عفا عن بعض حقه، فإنا في ظاهر المذهب نُبطل جميع حقه، فيخرج منه أنه يسقط حق الثاني بالكلية. ويقسم الشقص نصفين بين الأوّل والثالث.
وهذا الذي قاله متجه في قياس الشيوع.
وابن سريج بنى مذهبه الذي قدّمناه على تقدير العفو، وعليه قال: للثالث أن يقول للثاني: إن أسقطت حقك، لم يسقط حقي ممَّا في يدك.
وحقيقة هذه المسألة عندنا تبتني على الوجهين المقدّمين في أن الأول لو رجع وقال: لا آخذ إلا نصيبي، وأتوقف في نصيب صاحبي، فقوله هذا هل يكون تقصيراً منه مبطلاً لحقه؟ فإن جعلنا هذا تقصيراً، اتجه ما قاله القاضي من سقوط حق الثاني.
وإن قلنا: نعذر الأول في توقفه، ولا نجعل ذلك عفواً منه، فإذا قال الثاني: تركت عليك نصيب الثالث، فيكون معذوراً، ولا يكون ما صدر منه عفواً. فعلى هذا لا يملك الثالث أن يحط نصيب الثاني من الثلث، ويرجع القول إلى اقتسامهم في آخر الأمر الشقص أثلاثاً بينهم (1). وهذا متجه حسن.
فانتظم إذاً في المسألة ثلاثة أوجه في حق الثاني: أحدها - مذهب ابن سريج.
والثاني - مذهب القاضي، والثالث - اقتسام الثلاثة [آخراً] (2) بالسوية أثلاثاً.
4761 - ومما فرعه العراقيون في أطراف المسألة أن الأول لو أخذ الكل كما رسمناه، ثم شاطره الثاني، ثم عاد الثالث، ولم يظفر إلا بأحدهما، فلو قال له:
__________
(1) في (ت 2)، (ي)، (هـ 3): "ويرجع القول في اقتسامهم في آخر الأمر إلى أن الشقص أثلاث بينهم".
(2) في الأصل، (ت 2): أجزاء.

(7/366)


لست أظفر إلا بك، ولا [فرق] (1) بيني وبينك، فأشاطرك فيما في يدك ثم [ننظر] (2) ما يكون، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين ذكروهما: أحدهما - له ذلك، وهو قياس أرشد إليه ما حكيناه من صيغة [قول الثالث] (3)، فإن مبنى هذه المسألة على استواء الشفعاء آخراً، وبناء الأمر على ترك التبعيض على المشتري.
والوجه الثاني - أنه ليس له أن يأخذ ممّا ظفر به إلا الثلث؛ فإن باقي حقه في يد الآخر، فليس له مؤاخذة هذا الحاضر بما هو في يد غيره.
4762 - ومما يتعلق بتمام البيان في الفصل أن الأول لما أخذ جميع الشقص، فلو انتفع بما أخذه، وأخذ من ثمرة الأشجار، وغَلة (4) الأرض ما أخذ، فإذا رجع الثاني وشاطره، فإنه يشاركه في المنفعة من وقت المشاطرة، ولا يسترد منه شيئاًً مما أخذه؛ إذ (5) كان منفرداً. والسبب أن الأوَّل لما أخذ الكل ملكه ملكاً محققاً، ولم نقل ملكه موقوف على [ما يبدو من عفو] (6) صاحبيه. وكيف [يستأخر] (7) وقد بذل جملة الثمن، وزال ملك المشتري (8) عن الشقص. ويستحيل أن يملك لصاحبيه من غير توكيلهما. فإذا تحقق زوال ملك المشتري، ولم يكن الأول وكيلاً لصاحبيه، فلا طريق إلا الحكمُ بثبوت الملك للأول، ثم هو عرضة النقض ابتداءً وافتتاحاً في نصيب صاحبيه، وهذا يقتضي صرفَ المنفعة إليه في زمان الانفراد؛ إذ هو في حقهما بمثابة المشتري في حق الشفيع.
ثم لو انتفع المشتري قبل أن يتفق أخذُ الشفيع، فذاك الذي يأخذه غيرُ مسترد منه، ثم إذا جاء الثاني وشاطر، فإنه يشارك في شطر المنفعة من وقت المشاطرة، ثم الثالث
__________
(1) في الأصل: قرب.
(2) في الأصل: انظر.
(3) في الأصل: والثالث.
(4) (هـ 3): وغابة الأرض.
(5) في الأصل: إن، (ي)، (هـ 3): إذا.
(6) في الأصل: على تأييد وأثر من عود صاحبيه، وفى (ت 2): على لما يبدو من عفو صاحبه والمثبت من (ي)، (هـ 3).
(7) في الأصل، (ت 2)، (هـ 3): نستجيز. والمثبت من (ي) وحدها.
(8) أي زال إلى الشفيع الأول.

(7/367)


يشارك في ثلث المنفعة من وقت المثالثة.
هذا ترتيبٌ مجمع عليه، وهو يرشد إلى ثبوت الملك للأوّل في الجملة تحقيقاً، وكذلك القولُ في الثاني، ثم القرار على الأثلاث في آخر الأمر.
4763 - وممّا يتعلق بما نحن فيه أن الأول بذل الثمن للمشتري فعهدته عليه، والثاني يبذل شطر الثمن للأول، فعهدته على الأول، والثالث يبذل الثمن للأول، والثاني، فعهدته عليهما، وسنعيد هذا الفصل بعينه (1) في فصل العهد إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "وكذلك لو أصابها هدم من السَّماء ... إلى آخره" (2).
4764 - نقل المزني عن الشافعي أن الدار إذا انهدمت بعد ثبوت حق الشفعة، فالشفيع يأخذ الكل بكل الثمن، ونقل الربيع أنه يأخذ الباقي بحصته من الثمن.
وقد اضطربت طرق الأصحاب، وأتى بها الباقون على خبطٍ لا يُجدي فائدة، ولا يوضح مقصوداً، والفصل يعترض فيه أمران: أحدهما - أن الدار إذا انهدمت، التحق النقض بالمنقولات، وأَخْذُ المنقول بالشفعة بعيد، ولكن جرى هذا بعد استحقاق الشفعة، فأثار تردّداً ويعترض في المسألة أيضاًً أن النقض إذا تلف، ولم نر أخْذَه، فالشفيع يأخذ العرصة، وما بقي من البناء بكل الثمن أو بقسطه؟ وهذا يُفضي إلى تردُّدٍ أيضاًً.
4765 - والوجه الاقتصار على طريقةٍ تحوي الغرض، وتشتمل على وجه البيان في الأطراف، فنقول: إن ارتجت الدار وتزلزلت، ولم تنهدم ولكن ظهر فيها فطور، وتكسّر، فهذا تعيّبٌ في الشقص المشفوع، ولا نقض، فالشفيع بالخيارِ إذا جرى ذلك في يد المشتري بين التَّرْك والأخذ بكل الثمن. وهذا بمثابة ما لو تعيب المبيع في يد البائع، فالمشتري بالخيار بين إجازة العقد بجميع الثمن، وبين رد المبيع واسترداد جميع الثمن.
__________
(1) (ت 2)، (ي)، (هـ3): عليهما.
(2) ر. المختصر: 3/ 52.

(7/368)


وإن سقط السقف أو [بعض] (1) الجدران على الأرض فلا يخلو النقض إمّا أن يكون قائماً أو تالفاً، فإن تلف النقضُ، فهذا يبتني على أصلٍ، وهو أن أجزاء البناء تجري من الدار مجرى الصفات، (2 أو تجرى مجرى الأعيان؟ وفيه جوابان ظاهران ذكرهما القاضي والأئمة: أحدهما - أنها تجري من الدار مجرى الصّفات 2)، وهي منها بمثابة الأطراف من العبد، ولو سقطت أطرافُ العبد في يد البائع، لم يُسقط من الثمن شيئاً، ولم يثبت للمشتري إلا الخِيَرةُ في الإجازة بالكل والفسخ، واسترداد الثمن. هذا أحد الوجهين. وهذا القائل يقول: إذا انهدمت الدار المبيعة، وتلف نقضها، أو بعضُ نقضها في يد البائع، فالمشتري بالخيار بين الرد والإجازة بجميع الثمن، كما ذكرناه في أطراف العبد، فعلى هذا نقول في مسألتنا: يأخذ الشفيع بكل الثمن إن شاء، فإن أحب أعرض.
والوجه الثاني - أن أجزاء البناء تجري مجرى الأعيان المقصودة حتى، إذا انهدمت الدار في يد البائع، وفات النقض، جعلنا فوات النقض بمثابة تلف أحد العبدين قبل القبض، إذا كان المشتري اشترى عبدين، فتلف أحدهما؛ فإنه يأخذ العرصة (3) بحصتها من المسمى في ظاهر المذهب، كما فصلنا ذلك في تفريع تفريق الصفقة، والغرض إلحاق أجزاء البناء بأحد العبدَيْن، والثوبين، كما ذكرناه. فعلى هذا يأخذ الشفيع العرصةَ بحصتها من الثمن، كما لو اشتملت الصَّفقةُ على شقص وسيف، فالشفيع يأخذ الشقص بقسط من الثمن.
هذا كله إذا كان النقض فائتاً.
4766 - فأما إذا كان النقض قائماً، فهل للشفيع أخذ النقض؟ فعلى وجهين، أو قولين؛ أخذاً للتردد من النَّصيْن: أحدهما- لا يأخذ النقض؛ لأنه منقولٌ ولا يُستحق المنقول بالشفعة.
والثاني- أنه يأخذه؛ فإن ذلك جرى بعد تعلّق الشفعة، وتأكدها، فصار كما لو
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين القوسين ساقط من (هـ 3).
(3) العرصة: أي الأرض التي أقيمت عليها الدار.

(7/369)


أخذ الشقص بالشفعة، ثم فرض الانهدام، وليس هذا كالشقص والسيف إذا اشتمل العقد عليهما؛ فإن الشفعة لم تتعلق إلا بالشقص وحده.
التفريع:
4767 - إن حكمنا بأن الشفيع يستحق النقضَ، رجع الكلام إلى التعيب بالانهدام، وقد فصلناه، فنقول للشفيع: إن أردتَ الأخذَ، فخذ العرصة والنقضَ بتمام الثمن، وإلا، فأعرض.
وإن قلنا: يخرج النقض عن الاستحقاق، فإن جعلنا أجزاء البناء بمثابة أحد العبديْن، أخذ الشفيع العرصة، وما بقي ثابتاً من البناء بقسطه من الثمن، وإن لم نجعل أجزاء البناء بمثابة أحد العبدين، بل جعلناها أوصافاً، فإذا قطعنا استحقاق الشفيع عن النقض، وبقَّيناه على ملك المشتري، فهل يأخذ الشفيع ما بقي بقسطه، أو يأخذ بالتمام؟ فعلى وجهين: أحدهما -وهو ظاهر القياس- أنه يأخذ بالتمام؛ فإنا نفرع على أن أجزاء البناء صفةٌ.
والثاني - أنه يأخذ بالقسط.
وإن فرعنا على أن البناء صفاتٌ، والسَّبب فيه أنا نُبقي النقضَ -وقد كان من الدار- ملكاًً للمشتري، فيبعد أن يبقى في يده ما هو مملوك، ويغرم الشفيع تمامَ الثمن.
ورب قولٍ يعسر طردُ قياسه لأمر يعترض. وهذا من ذاك، فليفهم الناظر، وليفرق بين بقاء النقض للمشتري وبين تلفه بآفة سماوية.
والقائل الأول يُلحق النقضَ وقد بقي للمشتري بالثمار، والزوائد التي يستفيدها المشتري قبل قبض الشفيع.
ولو تلف النقض بإتلاف أجنبي، فإن قلنا: النقضُ حق الشفيع غرِم المتلف قيمةَ النقض، وأخذ الشقصَ بتمام الثمن. وإن قلنا: للمشتري النقضُ، فقيمة النقض على المتلف للمشتري. وهل يأخذ الشفيع ما بقي بتمام الثمن، أو يأخذه بقسطه؟ فعلى التردد الذي ذكرناه في بقاء النقض، مع البناء على أصلين: أحدهما - أن الشفيع لا يستحق النقضَ، والثاني - أن الأجزاء صفاتٌ، وليست أعياناً في تقدير العقد.
ومن قال مع هذين الأصلين بالرجوع إلى التفصيل، فهذا يُناظر أصلاً ذكرناه لابن

(7/370)


سريج، وذلك أنه قال: إذا رأينا مقابلةَ أطراف العبد بالمقدَّرات نضطر إلى نقض هذا الأصل فيه، إذا قطع المشتري يدي العبد؛ فإنا لو جعلناه قابضاً لجميع العبد، والعبد [بعدُ] (1) في يد البائع، لكان ذلك محالاً، فيرجع في هذا التفريع إلى قول اعتبار النقصان. كذلك يبعد أن يبقى النقضُ ملكاً للمشتري، ويغرَم له الشفيع تمام الثمن، فيرجع هذا القائل لهذه الاستحالة من قول الصفة إلى قول الجزء في هذه الصورة المخصوصة.
وهذا نجاز الفصل بجميع ما فيه.
فصل
قال: "ولو قاسم، وبنى، قيل للشفيع: إن شئت، فخذ بالثمن وقيمة
البناء ... إلى آخره" (2).
4768 - المشتري إذا بنى بعد جريان القسمة، أو غرس، ثم جاء الشفيع، وطلب الشفعة، فإنه لا ننقض غِراسه وبناءه مجاناً، خلافاً لأبي حنيفة (3).
ومعتمد المذهب أن المشتري بنى وله البناء، وصادف تصرفُه ملكَه، فكان بناؤه محترماً، والبناء المحترم لا يُحبط على الباني. ثم تفصيل المذهب في البناء والغراس، كتفصيل المذهب فيهما إذا صدرا من المستعير في الأرض المستعارة، ثم للمعير أن يرجع في العاريّة.
وقد تقصَّينا هذا على أحسن مساقٍ في كتاب العواري، وأوضحنا أن مالك الأرض يتخير بين ثلاث خلال: إحداها - أن يقوّم عليه البناء والغراس. والثانية - أن يبقيها ويُلزمَ المستعيرَ أجر المثل في مستقبل الزمان. والثالثة - أن ينقضها ويغرَم ما ينقُصه النقضُ، فالشفيع مع المشتري في تفصيل هذه الخلال، بمثابة المعير مع المستعير.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ر. المختصر: 3/ 52.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 123، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 247 مسألة: 1963.

(7/371)


وقد ذكرنا أن المستعير لو زرع الأرض المستعارة بإذنٍ، لم يقلع زرعُه في أصْل المذهب، وأشرنا إلى تردُّدٍ في أنه إذا رجع عن العاريّة هل يغرَم المستعير أجر المثل في بقية المدة؟ والذي قطع به أئمتنا أن المشتري إذا زرع الأرض، ثم أخذ الشفيعُ الشقصَ، فلا شك أن زرعه لا يقلع، ولا يلزمه الأجرة؛ فإنه كان تصرف في ملكه، وليس كالمستعير مع المعير؛ فإن انتفاع المستعير كان يعتمد إباحةَ المعير، وقد انقطعت بالرجوع. وألحق الأئمةُ سقوطَ الأجر في الزرع عن المشتري بما لو باع الرجل أرضاً مزروعة، فإذا صححنا البيع، فليس على بائع الأرض أجرُ الأرض من وقت البيع إلى الحصد. وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على إلحاق المشتري (1) بالمستعير في أجرة الأرض المزروعة. وهذا غير بعيد في القياس، وإن كان بعيداً في النقل؛ وذلك أن المشتري زرع الأرضَ، والشفعةُ متعلقة بها، بخلاف من زرع أرضه الخالصة، ثم باعها؛ فإنه لم يكن على بائع الأرض في وقت الزرع استحقاق. وهذا بيّن من هذا الوجه.
4769 - ثم إن المزني لما نقل من نص الشافعي البناء والغراس، أخذ يعترض ويقول: هذه المسألة لا تتصور على مذهب الشافعي؛ لأن المشتري لو بنى قبل القسمة، فهو متعدٍّ غاصب، لأنه بنى في ملك الغير، فيقلع عليه مجاناً، وإن فرض البناء بعد القسمة، فالقسمة والمفاصلة تُبطل الشفعة، فكيف ينتظم بقاء الشفعة مع جريان البناء والغراس بعد القسمة (2).
فقال الأصحاب: يمكن تصوير القسمةِ من وجوه، مع بقاء الشفعة، فمنها: إذا قيل للشفيع: اشترى فلانٌ الشقص بألف، فرغب الشريك عن طلب الشفعة، ورأى الثمنَ فوق المقدار الذي هو ثمن المثل، فلو قاسم المشتري، ثم بان أنه كان اشترى الشقصَ بخمسمائة، فللشفيع حقُّ الشفعة، وتلك القسمةُ لا تُبطل الشفعةَ؛ لأنه أقدم
__________
(1) المشتري: المراد به هنا مشتري الشقص.
(2) هذا معنى كلام المزني في المختصر: 3/ 53.

(7/372)


عليها على تقدير زيادةٍ في الثمن، وقد بان الأمر بخلاف ما قدّر.
ومما ذكره الأصحاب في وجوه القسمة، أن الشريك إذا رأى الشقصَ في يد إنسان، فقال: اتَّهبتُه، وصدَّقه، وقاسمه، ثم بان أنه اشتراه، فالشفعة ثابتة، والقسمة صحيحةٌ.
ومن الوجوه ما لو غاب عن البلد، ووكّل من يقاسم شريكَه، ومن (1) يشتري من شريكه، فقاسم وكيلُه، صحت القسمةُ، وله الشفعة إذا رجع، والإذن في المقاسمة لو وقع بعد ثبوت الشفعة والعلم بها، لكان مبطلاً للشفعة، ولكن إذا تقدم التوكيل بالمقاسمة على جريان البيع، كان لتصحيح الوكالة وجه على رأي من يرى تعليقها.
والشفعة لا تسقط؛ فإن الإذن تقدَّم على ثبوتها.
ولو علق الشريك العفوَ عن الشفعة بوجود الشراء قبل وجوده، لم ينفذ العفو عند وجوده.
ومن الوجوه أن يرفع المشتري [العقدَ] (2) إلى مجلس الحاكم، ولا تبين حقيقة الحال، ويقول: هذه الدار مشتركة بيني وبين غائب، وأنا أريد القسمة، فعلى الحاكم أن ينصب قيّماً عن الغائب، ليقاسمه، وليس على القاضي طلبُ الشفعة له، لأنه استحداث تملك، فلا يليه على غائب.
ومما ذكره الأصحاب أن المشتري لو وكل البائع بالمقاسمة، ولم يشعر الشريك بحق الشفعة، فقاسمه البائع على تقدير أنه باقٍ على [حقيقة] (3) ملكه، ثم بان له حقيقة الحال ثبتت الشفعة.
فهذه وجوه صوّرها الأصحاب في القسمة، وقضَوْا بأن الشفعة تبقى معها.
وبحقٍّ تمارى (4) المزني في تصوير المسألة.
__________
(1) أي وكّل من يقاسم شريكه، والمشري الذي يشتري من شريكه، فبهذا يقع التوكيل بالمقاسمة قبل ثبوت الشفعة، فلا تبطلها.
(2) في الأصل: القصة.
(3) ساقطة من الأصل وحدها.
(4) (هـ 3): تمادي.

(7/373)


والذي نراه أن كلَّ قسمة تولاها الشريك، أو وكيلٌ من جهته، وبناها على عدم العلم بالشفعة، فتلك القسمة صحيحة، وعدم علم المالك بثبوت حقٍّ له لا يتضمن ردَّ تصرفٍ أنشأه على اختيارٍ، وهو نافذ التصرف، والإشكالُ في ثبوت الشفعة مع صحة المقاسمة، فإن المقاسمة قاطعةٌ لعلة الشفعة، وكل ما قطع مقتضى الشفعة قبل التملك بها يقطعها، ولهذا كانت الشفعة عرضةَ السقوط على قول الفور بتأخير لحظة.
ومعتمد الأصحاب في الشفعة مختلَفٌ فيه، فمنهم من اعتبر مؤنةَ المقاسمة وإفرازَ المرافق، وقد انفصل الأمر بوقوع القسمة، ومنهم من اعتبر المداخلة والتضييق، وقد زال هذا المعنى بصحة القسمة.
وإذا كانت الشفعة تسقط بالرضا بالضرر، فتسقط بانقطاع الضرر.
4770 - والذي نحققه أن الشفيع يأخذ ملكاً مجاوراً أو شائعاً، فإن كان يأخذ ملكاًً مجاوراً، فهذا بعيد عن مذهب الشافعي، وإن كان يأخذ ملكاً مشاعاً، فلا قسمة إذاً، والبناء تبين وقوعُه في مشاع، فيجب منه سقوطُ حرمته، وليس كالمستعير؛ فإنه يغرس بإذن المالك على بصيرةٍ، وهاهنا لم يجر إذنٌ في البناء، وإنما جرت مقاسمة، فإن صحت، فلاَ شفعةَ بعدهَا، وإن بطلت، لم تقتض جوازَ البناء.
وأقصى الإمكان في ذلك أن نجعل جريان القسمة مع الحكم بالصحة، بمثابة زوال ملك الشفيع عن الشرك القديم، وهو غير عالم بثبوت الشفعة، وقد ذكرنا قولين في ذلك، ولعلنا نعود إليهما من بعدُ، والجملة في ذلك أن الشفعة عمادُها ملكُ الشفيع، والشيوعُ، ثم في بقاء الشفعة مع زوال الملك قولان، فيجب إجراء القولين في زوال الشركة.
وهذا بمثابة اختلاف القول في أن الأمَة إذا عتقت تحت زوجها العبد، ثم لم تشعر حتى عَتَق الزوجُ، ففي بقاء خيارها قولان.
ويلتحق بهذا الفن زوال العيب القديم في يد المشتري، قبل بطلان حقه من الرد.
ولو قلنا: القياس في هذه الأصول تغير الأحكام بهذه الطوارىء، لم يكن قولنا هذا

(7/374)


بعيداً؛ فإن ما ينافي في أصل وضعه ثبوتَ شيءٍ ودوامَه على علمٍ، فوقوعه على الجهل كوقوعه على العلم.
هذا منتهى النظر في ذلك.
4771 - وفي النفس بعدُ بقيةٌ، فلعل الشافعي يرى دوام الشفعة إذا انتهى الشيوع إلى الجوار على صفة الغرور، وقطعُه بهذا مع قطع الأصحاب بعد المزني يُشعر به، فإن كان هذا مذهباً، اعتقدناه، واتبعناه، وانتظم من أصلنا أن الشفعة تبقى مع زوال الشيوع، إذا كان زوالها على الوجوه التي ذكرناها، ويبقى معه أن الضابطين وأصحاب الاستثناء، لم يصرحوا بهذا وأبهموه، والرأي وراء ذلك مشترك؛ فإن سنح لأحد بعدنا أمرٌ، فليلحقه بالكتاب.
وما ذكره الأصحاب من قسمة القاضي، ففيها نظر عندنا، ولسنا نؤثر الخوض فيها الآن؛ فإنها من أحكام القضاة. ونحن نستوفق الله تعالى، وننتهي من أحكامهم إلى مبالغ لم نسبق إليها. وغرضُ الفصل يتم بما [سلّفناه] (1) من القسم في الأمثلة السابقة.
فصل
قال: "ولو كان الشقص في النخل فزادت ... إلى آخره" (2).
4772 - الزيادات الحادثة في يد المشتري تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها - الزياداتُ المتصلة: ككبر الوديِّ (3) وسوق (4) النخيل، فلا أثر لها، والشفيع يأخذ الأصول معها، ولا يلتزم للمشتري بسببها مزيداً، وإن كانت الزيادات حاصلة بتنمية المشتري وتعهده.
والقسم الثاني - زيادة منفصلة تخلصُ للمشتري، وهي كالثمار تحدث في يد
__________
(1) في الأصل: سلمناه، والمثبت من: (ت 2)، (ي)، (هـ 3). و"سلّفناه": أي قدمناه.
(معجم).
(2) ر. مختصر المزني: 3/ 53.
(3) الوديّ: على فعيل: صغار الفسيل. الواحدة وديّة.
(4) سوق النخيل: جمع ساق.

(7/375)


المشتري فيجُدُّها أو يؤبّرها، ثم يبتدىء الشفيع طلبَ الشفعة، فتيك الثمار تبقى للمشتري. وإن كانت موجودة حالة العقد، لم يتعلق بها استحاق الشفيع، إذا كانت بارزة مُؤبرة مُدْخلة في العقد بالتسمية؛ فإنها إذا كانت كذلك، التحقت بالمنقولات، ولو كانت غير مؤبرة حالةَ العقد، وقد دخلت تحت مطلق تسمية المبيع، ثم أبرت، انقطع عنها حقُّ الشفيع (1)، إذا جرى التأبير قبل أخذه.
وفي هذا بقية سنوضحها آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
والقسم الثالث - زيادة اختلف القول فيها، وهي الثمرة قبل التأبير، فإذا ظهرت الثمرةُ في يد المشتري، ولم تؤبر، حتى أخذ الشفيع المشفوعَ، فالمنصوص عليه في الجديد أن الثمار للمشتري، لا حظ للشفيع فيها، كما إذا أبرت. وقال في القديم: هي للشفيع على سبيل التبع (2).
وهذان القولان يجريان في المشتري إذا أفلس، وقد أطلعت النخيل المشتراة، ولم تؤبر، فالبائع هل يرجع في الثمرة أو تخلصُ للمشتري وغرمائِه؟ فعلى قولين.
ولو أطلعت النخيل الموهوبة، ولم يؤبر الطلع، وقد تلف الإطلاع في يد المتهب، فعلى [هذين القولين] (3).
وإذا ردّ المشتري النخيل بعد أن أطلعت في يده، فهل يبقى الطلع للمشتري أو يرده مع الأصل؟ فعلى قولين.
4773 - ومما يجب التنبه له أن الثمار لو كانت موجودة على النخيل حالة العقد، وبقيت غير مؤبرة، فأفلس المشتري، فالبائع يرجع في الثمار قولاً واحداً، رجوعَه في النخيل، وكذلك القول فيه إذا كانت الثمار موجودةً حالة الهبة، ودامت إلى وقت الرجوع، وكذلك لو فرضت موجودةً في البيع، ودامت إلى وقت الردّ.
ولو كانت الثمار موجودة حالة البيع، ودامت غيرَ مؤبرة، ففي أخذ الشفيع لها
__________
(1) في (ي)، (هـ 3): "المبيع".
(2) في (ت 2)، (ي): البيع.
(3) في الأصل: فعلى قولين.

(7/376)


قولان، لا يختلف التفريع بأن تحدث بعد الشراء، أو توجد عند الشراء وحالة الأخذ.
وذلك أن الشفعة تنافي استحقاقَ المنقولات، وهذا لا يختلف بأن يكون موجوداً حالة العقد، أو حدث بعده. فإن التحقت الثمار (1) بالزوائد المتصلة، أخذها الشفيع (2 كيف فرضت، حادثةً أو مقارنةً للعقد، وإن لم نر إلحاقها بزوائد الشجرة المتصلة، فلا يأخذها الشفيع 2)، ولا يختلف الأمر بأن تكون موجودة حالة العقد أو تحدث من بعد. ولهذا قلنا: الثمار إذا كانت موجودة مؤبرة حالة العقد كذلك، وأدرجت في البيع ذِكْراً، فالشفيع لا يأخذها.
4774 - وقد يخطر للفقيه أنا إذا رأينا أخذ النقض بالشفعة، فيكون التأبير بعد العقد بمثابة انتقاض البناء، وهذا لا ينبني عليه حقائق الفقه؛ فإن الثمار إلى التابير تصير.
فإن لم يتفق أخْذ المشفوع حتى أُبّرت، فقد تبينا أنها، لم تستحق بالشفعة، وهذه قضية لا تخفى على الفقيه، ولا يضر التنبيه عليها، والثمار لو كانت هي المبيعة في الإفلاس، لثبت الرجوع فيها، فيختلف الترتيب بأن تكون موجودة حالة العقد، أو تحدث بعدها والثمار قبل التأبير تدخل تحت مُطلق تسمية الشجر، إذا ثبتت الأشجار مثمنات أو أعواضاً، فيستتبع الشجرُ الثمرَ قبل التأبير في البيع، والصداق، وإذا أثبتت أجرةً، وكذلك القول في الهبة وإن كانت عريّةً عن العوض.
4775 - فإن قيل: قطعتم بالاستتباع في ابتداء هذه العقود، وردّدتم القولَ في الرجوع من البائع في حق المفلس، ومن الواهب، وكذلك في الردود، قلنا: لعل الفرق أن إنشاء التملّك بالتراضي اختيارُ قطع العلائق عن الأحوال، فقوي، واستتبع.
والفسوخ والردود أمورٌ تنشأ قهراً، والرهن لما ضعف عن إفادة الملك، كان في استتباع النخيل الثمارَ التي لم تؤبر اختلافُ قولٍ، كما تقدم، ولا نطنب في هذه التفاصيل، فقد وضحت في مواضعها، وإنما قدرُ غرضنا ذكر ما يتعلق بالشفعة، وقد بان على ما ينبغي.
__________
(1) (ت 2)، (ي): المنقولات.
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

(7/377)


فصل
قال: "ولا شفعة في بئرٍ لا بياض لها، لا تحتمل القسمة ... إلى آخره" (1).
4776 - تفصيل القول في بيع شقص من بئر: أنها إن كانت واسعةَ القعر فسيحة المقر، بحيث يمكن أن يتخذ منها بئران، وكان فيها عيون يتأتى وقوع قدرِ الكفاية في كل قسم، فإذا بيع شقصٌ من مثل هذه البئر، ثبتت الشفعة للشريك؛ من جهة احتمالها للقسمة.
وإن ضاقت البئر عن احتمال ما ذكرناه من القسمة، ولم يتأت اتخاذ بئرين منها، فإذا بيع شقص منها، فظاهر المذهب أن الشفعة لا تثبت للشريك. وفيه تخريج ابن سريج، وقد قدّمنا ذلك في صدر الكتاب.
فإن رأينا إثبات الشفعة فيما لا ينقسم، فلا كلام، وإن لم نر إثبات الشفعة فيما لا ينقسم، فقد قسّم الأصحاب القول في ذلك على وجهين: فقال قائلون: إن لم تكن للبئر حريم، وكانت غيرَ منقسمة، فلا شفعة إذا اشترطنا كونَ المشترك قابلاً للقسمة.
وإن كان للبئر حريم واسع، يقبل القسمة، فهل تثبت الشفعة في البئر تبعاًً للحريم؟ فوجهان: أحدهما - تثبت تبعاًً، كما تثبت الشفعة فى الأشجار؛ تبعاًً للمغارس والأرض.
والثاني - لا تثبت بخلاف الأشجار؛ فإنها متصلة بالشقص في محل الشفعة، بخلاف البئر؛ فإنها مباينة عن الحريم، إذ هي بقعة أخرى، فلم تتبع الحريم.
ولفظ الحريم أطلقه القاضي وغيرُه، وفيه استبهام عندي، فإن أريد به ما يتصل برأس البئر، مما يجب أن يصان لتبقى البئر مصونةً (2) كما [سأستقصي] (3) القول في حريم الأملاك في إحياء الموات، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 53.
(2) (ي): مضمونة.
(3) في الأصل: أستقضي.

(7/378)


فالحريم لا يكاد يوصف بالملك إلا على تفصيلٍ، واتباع البئر الحريمَ، وإن كان مملوكاً بعيدٌ؛ فإن البئر هي الأصل، والحريم تبع، فليس في الحريم على هذا التفسير ما يقتضي استتباعَ البئر.
وصرح بعض أصحابنا بأمرٍ مفهوم في نفسه، فقالوا: إن كانت البئر تسقي مزراعَ، وكانت تيك المزارع قابلةً للقسمة، فإذا بيع قسطٌ منها مع جزء من البئر، ففي ثبوت الشفعة في البئر -على قولنا الصحيح، وهو اشتراط قبول الانقسام- وجهان: أحدهما - لا تثبت الشفعة؛ فإن البئر غيرُ منقسمة. والثاني - أنها تثبت تبعاًً للمزارع المنقسمة، وتوجيه الوجهين ما تقدم.
والذين أطلقوا الحريم أرادوا به ما صرح به هؤلاء، من ذكر المزارع، وإنما وقع كلام الشافعي على الآبار التي تسقي النواضحُ منها المزارعَ، ثم تيك المزارع تنسب إلى البئر، والبئر تنسب إليها، فإذاً ليس المراد بالحريم ما يتصل بحافات البئر، وإنما المراد ما تسقيه البئر.
4777 - ثم اختلفت عبارة الأئمة فيما يحتمل القسمة، فقال الشيخ القفال، وطبقة من المحققين: المنقسم هو الذي يمكن الانتفاع [بأفراد] (1) الحصص المفروزة من الجنس الذي كان ينتفع [به] (2) قبل الإفراز: فإن كانت مزرعة أمكنت الزراعة في كل حصة، وإن كانت داراً مسكونة أمكنت السكنى، فيخرج مما ذكرناه الحمام الصغير الذي لو قسم، لم يتأت من كل قسم حمّام. وكذلك ما في معناه.
ومن أصحابنا من قال: إذا كانت الحصة المفرزة بحيث يمكن الانتفاع بها بوجهٍ من الوجوه، كفى ذلك في الحُكم بكون الملك المشترك قابلاً للقسمة، وإن لم يمكن الانتفاع بالحصة من جنس الانتفاع بالجملة المشتركة.
ومن أصحابنا من قال: إن كانت القيمة (3) تنتقص بالقسمة انتقاصاً متفاحشاً، فهو
__________
(1) في الأصل: "بإفراز" والمثبت من (ت 2)، (ي)، (هـ 3).
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) (ت 2)، (ي): الحصة.

(7/379)


غير محتملٍ للقسمة. وإن كان لا ينتقص انتقاصاً متفاحشاً، فهو محتمل للقسمة.
فأما الحمّام، فإن كان كبيراً يمكن أن يُتخذ منه حمامان، فهو محتمِل للقسمة على المذهبين الأولين. فإن كان لا يتفاحش نقصان القيمة، ارتفع الخلاف، وإن كان صغيراً لا يمكن اتخاذ حمامين منه، لكن لو [أفرز] (1)، لصلح كل نصيب لمنفعة أخرى كالسكنى، واتخاذ المخازن، وغيرها، فهو على طريقة القفال غير قابلٍ للقسمة، وعلى طريقة الآخرين هو قابل للقسمة، ومن يرعى القيمة يتّبعها.
4778 - ومما نذكره الطاحونة، فإن كان يمكن أن يتخذ فيه حَجَران دائران تثبت فيها الشفعة، وإلا فعلى الخلاف الذي ذكرناه، ولو لم يكن في الطاحونة الكبيرة إلا حجر واحد وأمكن نصب حجرين، فهو مما ينقسم على المذهب، ثم الكلام في دخول الحجر الأعلى والأسفل تحت مطلق البيع مما سبق في موضعه على الاستقصاء.
وإنما قصدتُ بذلك التنبيهَ على أن المعتبرَ إمكانُ نصب الحجرين، لا ثبوتهما.
والدار إذا قسمت، فقد تمس الحاجة، إلى إفراد كل حصة بمرافق تُستحدث لها، ثم مسيس الحاجة إلى ذلك لا يخرجها عن كونها قابلةً للقسمة.
فرع:
4779 - إذا كان بين رجلين دار مشتركة، لكل واحدٍ منهما نصفها، فبنى أحدُهما على السقف حجرةً، بإذن شريكه وإعارته إياه، أو بأن يعقد عقداً يستحق به ذلك. قال الشيخ: تثبت الشفعة لشريكه في نصف الدار إذا بيع، ولا تثبت الشفعة في الحجرة؛ فإنه ليس لشريكه في الحجرة شرك أصلاً، بل البائع ينفرد بالحجرة ولا شفعة، فيها.
وكذلك إذا كان بين رجلين أرض مشتركة، ولأحدهما فيها أشجار انفرد بها، فإذا باع شقصَه من الأرض، وباع معه الأشجارَ، فلا شفعة في الأشجار، كما قدمناه.
قال الشيخ: هذا ما علقته عن القفال. ثم عُرِضت عليه المسألة، فقال (2): ينبغي أن تثبت الشفعة في الحجرة والنخيل التي انفرد بها البائع، وإن لم يكن للشريك فيها
__________
(1) في الأصل: "أفرد".
(2) القائل الشيخ، وكأنه خالف ما علقه عن القفال. والشيخ إذا أطلق، فهو أبو علي السنجي.

(7/380)


شرك؛ فإن الحجرة متصلة بالدار المشتركة اتصالاً لو بيعت الدار مطلقاً، لتبعها العلو، وكل ما ينسب إلى الدار. فإذا تحقق هذا الضرب من الاتصال، تثبت الشفعة؛ فإنه فوق اتصال الجوار.
وهذا ليس بشيء، والصحيح ما قدمناه أولاً؛ فإن الشفعة عند الشافعي رضي الله عنه لا تثبت إلا في مشترك.
فرع:
4780 - أصول الأشجار تتبع الأراضي في الشفعة؛ لأنها ثوابت، فتبعت الأرض، وبمثله لو باع مبقلة وفي الأرض أصول البقل، وكانت تخلّف، وينبت منها ما ينبت، وتُجَز، ثم تعود فتخلّف، فقد قال الشيخ أبو علي: إنها بمثابة الأشجار في الاستحقاق بالشفعة.
وهذا فيه نظر، ولم أره إلا للشيخ رضي الله عنه.
فصل
قال: "فأما الطريق التي لا تُملك، فلا شفعة فيها ... إلى آخره" (1).
4781 - الممر الشائع (2) الذي لا اختصاص فيه لا حُكم للاشتراك فيه في اقتضاء الشفعة؛ فإن الشارع غيرُ مملوك؛ فلا يتصور ورود عقد عليه، فإذا بيع ملكٌ يُفضي إلى الشارع أو يُفضي الشارع إليه، فلا يثبت للمشارك في الممر شفعةٌ في الدّار المبيعة، التي بابها لافظٌ في الشارع. وهذا لا إشكال فيه.
والسكة المنفتحة في الأسفل شارعٌ، فأما السكة المنسدة، فَعَرْصَتُها، أو ساحتها ملك لسكان السكة، فإن فرض بيعُ دارٍ، فليس للمشتركين في عرصة السكة حق الشفعة في الدار التي بيعت؛ إذ لا شركة في الدار. وأما السكة في نفسها، فملكٌ من الأملاك، فالذي يقتضيه قياس الأصول أن يقال: إن كانت قابلةً للقسمة تثبت الشفعة فيها، وإن لم تكن قابلة للقسمة، فلا شفعة فيها، على ظاهر المذهب.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 54.
(2) (ت 2)، (ي): الشارع.

(7/381)


ثم الصحيح في اعتبار ما يقبل القسمة ما ذكره القفال، فإذا قلنا: السكة قابلة للقسمة عنينا بذلك أنها لو أفرزت، كانت كلُّ حصة بحيث يتأتى اتخاذها ممراً، فهذا هو القابل للقسمة على الطريقة المشهورة.
وإذا ثبت هذا، فمعلوم أن من باع داراً دخل تحت مطلق بيعها ممرُّها من السكة، فلو أثبتنا للشركاء في عرصة السكة حقَّ أخذ حصة الدار المبيعة من عرصة السكة، فهذا يقتضي أن يستحقوا على المشتري الممر الثابت للدار المشتراة، وإذا كان كذلك، فكيف السبيل فيه؟
فصّل الأصحاب هذا أولاً، فقالوا: إن كان المشتري يتمكن من أن يتخذ للدار المشتراة ممراً من جانب آخر يدخل منه ملكَه، فالشفعة ثابتةٌ في الممر على قياس الأصول. وإن كان لا يتأتى للدار ممرٌّ إلا في هذه الجهة، [فلا] (1).
4782 - وقد عبر الأئمة من أوجه وراء ذلك عن المقصود، فقال قائلون: في ثبوت الشفعة أوجهٌ: أحدُها- أن الشفعة تثبت جرياً على الأصول، ثم يمتنع على المشتري الممرُّ، ولا مبالاة بهذا. [إذا] (2) أفضى القياس إليه؛ فإن المتبع الدليل.
والوجه الثاني - لا تثبت الشفعة؛ لأن في إثباتها إلحاق ضرر عظيم بمشتري الدار، وهو قطع ممرها، والشفعة أُثبتت في أصلها على دفع الضرر، فيستحيل أن تثبت على وجه يتضمن إلحاق الضرر بغير الشفيع؛ فإن الضرر لا يُزال بالضرر.
والوجه الثالث - أنه يقال للشفيع: إن كنت تُمكِّنُه من المرور، فلك الشفعة، وله حق المرور، وإن كنت تمنعه من المرور، فلا شفعة لك. وهذا الوجه مختل؛ فإن تخيير الشفيع في هذا غيرُ معقول، فإنا (3) إذا كنا نثبت له أخذ ما اندرج تحت البيع من عرصة السكة، فلا يخلو إما أن نوجب للمشتري حقَّ المرور من غير خِيَرة، أو لا نوجب ذلك، فإن كنا نوجب للمشتري حقَّ المرور، فلا يعبر عن هذا بما ذكره
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل. وفي (ت 2): فإذا.
(3) (ت 2)، (ي): فأما.

(7/382)


صاحب الوجه الثالث من رد الأمر إلى خيرة الشفيع. وإن كان لا يستحق المشتري المرورَ [فقول] (1) القائل للشفيع: إن منعت، وإن لم تمنع عبارةٌ مضطربة، والعبارة السديدة عن الغرض هي التي ذكرها صاحب التقريب، إذ قال: هل تثبت الشفعة أم لا؟ فعلى وجهين موجهين بما ذكرناه من قياس الأصول، وإلحاق الضرر، ثم قال: إن قلنا: تثبت الشفعة، فهل يستحق مشتري الدار حقَّ الممر في السكة، والملكُ فيها للشفيع؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يستحق، وهو القياس.
والثاني - يستحق، وقد يثبت للإنسان حقُّ الممر في ملك غيره.
ويمكن أن نعبر عن الطريقة، فيقال في المسألة أوجه: أحدها - أن الشفعة لا تثبت. والثاني - تثبت، وينحسم حق الممر. والثالث - تثبت ويبقى حق الممر مستحقاً للمشتري.
ومبنى هذه العبارات على تفصيل في [صدر] (2) المسألة بنينا الغرض عليه، وذلك [أنا] (3) قلنا: إن كان يتأتى للمشتري اتخاذُ ممر في غير هذه السكة، وجب عليه أن يستجد ممراً آخر وتؤخذ حصتُه من السكة بثمنها. وإن كان لا يتأتى منه اتخاذ الممر في جهةٍ أخرى، فإذ ذلك يختلف الأصحاب.
وكان شيخي يقول: إذا كان اتخاذ الممر ممكناً، ولكن لا يتوصل إليه إلا بمعاناة عُسر والتزام مؤنة، فهذا أيضاً داخل تحت الخلاف، وتصوير الضرر لا ينحصر في أن يسقط الإمكان في اتخاذ الممر. ومن الممكن على هذه الطريقة أن نقابل ما يأخذه تقديراً من ثمن الممر بما يلزمه من المؤنة في استحداث ممرًّ آخر. فإن تقابلا، فلا ضرر. وإن قل التفاوت، احتمل. وإن ظهر، خرج الخلاف. فإذاً صار هذا أصلاً مختلفاً فيه، في قاعدة الكلام، فليتأمل. وقد نجز الغرض.
__________
(1) في الأصل: فقال، (ت 2): فيقول.
(2) في الأصل: في صورة.
(3) في الأصل: إن.

(7/383)


فصل
قال: "ولولي اليتيم، وأب الصبي أن يأخذ بالشفعة ... إلى آخره" (1).
4783 - ولي الطفل إذا كان أباً أوجداً، أو وصياً من جهتهما، أو قيماً مطلقاً من جهة القاضي، إذا بيع شقصٌ، وللطفل فيه الشفعة، فعليه أن يأخذ الشقص المشفوع بالشفعة، إذا كان النظرُ، والغبطة للصبي في الأخذ.
وهذا يُضبط بأن يقال: إذا كان للولي أن يشتري العقارَ للطفل، فعليه في مثل تلك الحالة أن يأخذ له بالشفعة، فإن لم يأخذ، فله الأخذ بعد البلوغ، والاستقلال بالنفس.
وبيان ذلك [أنه] (2) إن كان يفوت للصبي غبطة ظاهرة، فيتعين أخذُ الشفعة له، ولا يجوز إبطالها عليه، وإن كان في أخذها له ما يخالف النظر والغبطة، ووجه الصلاح، فليس للولي أن يأخذه.
وقد يعارض ذلك أمرٌ بذكره يبين المقصود. وهو أنه إذا تمكن الولي من شراء شيء للطفل ابتداء وكان في الشراء غبطةٌ ظاهرة، فلا شك أن الأوْلى للولي أن يشتري.
ولكن تردد الأئمة في أن ذلك هل يجب على الولي؟ فقال الأكثرون: يجب، ووجه ذلك ما تمهد من وجوب رعاية المصلحة.
وقال آخرون: لا يجب؛ فإن الذي يؤاخذ الولي به ألا يفرط في مال الطفل، فأما أن يحصّل له مالاً عن جهةٍ أخرى، فلا يلزم ذلك. ولو ألزمناه، لأوجبنا أن يبذل كنه المجهود في سلوك طرق المكاسب والمتاجر، ويبعد أن نوجب ذلك.
ومما ذكره الأئمة أنه لو أراد الولي أن يشتري شيئاً بمال الطفل، وما كان للطفل فيه منفعة، فهذا في حكم العبث، الذي لا يفيد شيئاً، ولا يجدي، وليس هذا النوع مما يفيد مصلحةً، وتصرف الولي في مال الطفل يجب أن يتقيد بالمصلحة الناجزة، أو بتوقعها على ظنٍّ غالب، وكان شيخي يقطع بأن التصرف الذي لا خير، ولا شر فيه ممنوع. وهذا حسنٌ متجه.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 54.
(2) ساقطة من الأصل.

(7/384)


4784 - ونحن نعود بعده إلى القول في الشفعة، فنقول: إن كانت المصلحة في الأخذ بالشفعة، فلا يجوز للولي الترك وجهاً واحداً، وليس على التردد الذي ذكرناه في ابتياع ما فيه مصلحة ظاهرة؛ فإن الأخذَ بالشفعة يُعد من حقوق الطفل، ولا يجوز تضييع حقه، والشراءُ ابتداءً ليس مستنداً إلى حق الطفل، فليفهم الناظر ذلك.
ثم إن أخذ الولي، فذاك، وإن لم يأخذ، فحق الطفل المَوْليِّ عليه لا يبطل، بل إذا بلغ واستقل، فله طلب الشفعة والأخذُ بها، ولو لم يكن في أخذ الشفعة مصلحةٌ، بل كانت المصلحة في تركها، قالوا: لا يأخذ بها، ولو أخذ بها، كان أخذُه مردوداً؛ فإن التصرفات في مال الطفل تنحصر في رعاية المصلحة، فلو بلغ الطفل مستقلاً، وأراد أخْذَ الشفعة، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- أنه لا يثبت له ذلك؛ فإن الولي قد تركه مصلحةً ونظراً، فنفذ تركُه نفوذاً لا يستدرك.
والوجه الثاني - أن الصبي يأخذ حق الشفعة إن أراد؛ فإن الولي إن لم يأخذ بها لانحصار تصرفه فيما يجلب منفعة، فلا منفعة للطفل في إبطال حق شفعته.
ومما يتعلق بحقيقة هذا الفصل أن الغبطة إذا كانت في الأخذ، فتأخير الولي وتقصيره لا يبطل شفعةَ الطفل، بل لو صرح بالعفو، لم يظهر لعفوه أثر، والتقصير لا يزيد على العفو الصريح.
ويتصل [بهذا] (1) أن القاضي لو اطّلع على ترك الولي الطلبَ بالشفعة مع أن الغبطةَ في الأخذ بها، فإنه يتعين عليه أن يأخذ للطفل ما يتركه الولي، ولا يمتنع أن يكون على خبرة من مطالعة القوّام والأوصياء، كما سنذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ولا يلزمه أن يكون على بحثٍ عن أحوال الآباء والأجداد، بل يكل الأمر إليهم، واثقاً بشفقتهم، وسنذكر تفصيل ذلك في كتاب الوصايا، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: به.

(7/385)


فصل
قال: "وإن اشترى شقصاً على أنهما جميعاً بالخيار، فلا شفعة ... إلى آخره" (1).
4785 - غرض الفصل الكلامُ في أن الشفيع هل يأخذ بالشفعة في زمان الخيار؟ وقد قال الأصحاب: إن كان الخيار للمتعاقدَين، أو للبائع وحده، فلا يثبت للشفيع حقُّ الأخذ؛ فإنّ أخذ الشفيع موضوعٌ في الشرع لدفع الضرر، فلو قدرنا له حق الأخذ مع بطلان خيار البائع، كان محالاً، فإن حقه يتعلق بالمشتري، ويستحيل أن يتضمن إبطال حق على غير المشتري. وإن قلنا: يأخذ الشفيع، ويبقى حق البائع في الخيار، فليس هذا الأخذَ المشروعَ؛ فإن الضرار لا يندفع به، بل هو قائم كما كان، فمهما لم يكن أخذ الشفيع محسمةً للضرر، ومقطعة له، فلا سبيل إلى إثبات حق الأخذ له. وهذا ظاهر في مقصود الشفعة.
وإن كان الخيار للمشتري وحده، فأحسن ترتيبٍ في ذلك أن نقول: إن حكمنا بأن الملك للمشتري في زمان الخيار، ففي المسألة طريقان: أحدهما - أن أخذ الشفيع ينبني (2) على الخلاف الذي ذكرناه إذا أراد الشفيعُ الأخذ، وأراد المشتري ردَّ الشقص بالعيب القديم، وقد ذكرنا اختلاف القول في ذلك، فليكن الأخذ في زمان الخيار بهذه المثابة، حتى يخرّج على قولين: أحدهما - أنه لا يأخذ استبقاءً لخيار المشتري. والثاني - أنه يأخذ وينقطع بأخذه خيارُ المشتري، كما ينقطع حقُّ رده بالعيب، ولا أحد يصير إلى إثبات الأخذ للشفيع، مع بقاء الخيرة للمشتري.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من رأى القطعَ بأن الشفيع لا يأخذ في زمان الخيار، بخلاف الأخذ والمشتري يهم بالرد؛ وذلك لأن الأخذ بالشفعة يستدعي إفضاء العقد إلى استقرار الملك، وليس الأمر كذلك في زمان الخيار.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 54.
(2) (ت 2)، (ي)، (هـ3): الشفعة يخرّج.

(7/386)


والصحيح في ترتيب المذهب إجراء القولين، ثم إن قلنا: إنه لا يأخذ، فيصبر إلى انقضاء الخيار، وانقطاعه بإلزام المشتري العقد، فإن فسخ، انقطع العقد، وفاتت الشفعة، وإن أجاز، أو انقضى الخيار، ثبتت الشفعة حينئذ.
وإن قلنا: يأخذ الشفيع في زمان الخيار، فيلزم العقد بأخذه، ولا خيرة للمشتري، كما تقدم، ولا خيرة للشفيع أيضاًً.
فإن قيل: هلا أحللتم الشفيع من المشتري محل الوَارِثِ من الموروث، ثم أصلكُمْ أن الوارث يخلف الموروث في خيار الشرط، فاطردوا ذلك في حق الشفيع؟
قلنا: لا سواء؛ فإن الوارث يردُّ على من كان يردّ عليه الموروث، واقتضت خلافة الوارث حلولَ الوارث محل الموروث، فإذاً تبذل المتصرف، والحقُّ بحالِه، لم يتبذل، وهذا حقيقة الوراثة في كل ما يجري الإرث فيه، والشفيع لو أثبتنا له الخيار ليردّ على البائع، كان محالاً؛ فإنه ليس يتلقى (1) الملكَ منه. وإن أثبتنا له الخيار ليردّ على المشتري، لكان هذا خياراً جديداً، لم يتضمنه العقد، وهذا حسَنٌ لطيف.
فإن قيل: أليس يثبت للشفيع حقُّ الرد بالعيب على المشتري؟ قلنا: أجل. وسببه استدراك الظلامة، والرد بهذه الجهة أمر يثبت شرعاً، وهو يرد على من يتلقى منه، وهذا الآن ظاهرٌ، لا حاجة إلى المزيد عليه.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على قولنا: إن الملك في زمان الخيار للمشتري.
4786 - فأما إذا فرعنا على أن الملك في زمان الخيار للبائع، وإن انفرد المشتري بالخيار، فهذا القول أوّلاً ضعيفٌ. (2 والأصح والنص أن الملك للمشتري إذا كان منفرداً بالخيار.
فإن فرعنا على القول الضعيف 2) فالأصح أن الشفيع لا يأخذ بالشفعة؛ فإن أخْذه مبني على ثبوت الملك للمشتري، وإذا كان الملك القديم باقياً، بَعُدَ الأخذُ؛ إذ الشفعة أثبتت شرعاً عند تجدد ملك وحدوثِه، لأجنبي، وهذا ظاهر.
__________
(1) في غير الأصل: " لم يتلق ".
(2) ما بين القوسين سقط من (هـ 3).

(7/387)


ومن أصحابنا من ذكر وجهين في أن الشفيع هل يأخذ؟ ذكرهما صاحب التقريب، وأشار إليهما القاضي: أحد الوجهين- أنه يأخذ؛ فإنه لم يبق للبائع سلطان؛ إذ لوْ أراد تداركَ الأمر -ولا خيار له- لم يملك ذلك، فالحق كله للمشتري، [ولهذا] (1) التحقيق ضعُف قولُ بقاء الملك للبائع، وصار إطلاق ذلك في حكم اللفظ الذي لا حاصل له، ثم إن فرّعنا على هذا الوجه على ضعفه، فإذا أخذَ الشفيع، ملكَ؛ فإنه لا يبقى الخيارُ مع أخذه. وإذا انقطع الخيارُ، ثبت الملكُ، ومن ضرورة ذلك تقديرُ الملك للمشتري متقدّماً، وترتّبُ ملك الشفيع على ملكه.
وهذا يناظر في التفريع ما إذا اشترى رجل شيئاًً، وانفرد بالخيار، فلو باعه، نفذ بيعُه على الأصح، وإن قلنا: لا ملك له في زمان الخيار؛ فإن بيعَه يتضمن قطعَ الخيار أوّلاً تقديراً، ثم ينبني عليه تصحيحُ التصرف، وما تَحصّل ضمناً من هذه الأحكام له قياسٌ بيّن في الشرع.
هذا منتهى الكلام، واستكماله بسؤال وجوابٍ عنه، ينعطف على ما تقدم. فإن استبعد مستبعد إثباتَنا حق الشفعة في زمان الخيار لما فيه من قطع خيار المشتري.
قلنا له: إذا كان لا يبعد أن يقطع الشفيع ملكَه اللازم قهراً، لم يبعد أن يقطع حقه.
فصل
قال: "ولو كان مع الشفعة عَرْضٌ بثمنٍ واحد ... إلى آخره" (2).
4787 - إذا اشترى الرجل شقصاً ومنقولاً، أخذ الشفيع الشقص بقسطه من الثمن، وتركَ المنقول على المشتري، وهذا ظاهر. وقصد الشافعي الرد على مالك (3) رحمه الله، في إثباته الشفعةَ في بعض المنقولات، وذلك أنه قال (4): إن كان مع الشقص منقول يتعلق بمصلحته، فلا يأخذه الشفيع، وإن اشتراه المشتري مع
__________
(1) في الأصل: " وهذا " والمثبت من (ت 2)، (ي)، (هـ3).
(2) ر. المختصر: 3/ 54.
(3) ر. الكافي لابن عبد البر: 442.
(4) القائل الشافعي.

(7/388)


الشقص، وهذا كالغلمان الذين يعملون في العقار، وكالثيران في الضيعة وآلاتِ الحرث، فلا يأخذ [الشفيع] (1) شيئاًً منها.
هذا مقصود الفصل.
ثم الاعتبار في قيمة التوزيع بوقت العقد؛ إذْ فيه يتوزع الثمن على المثمن، لم يختلف الأصحاب في ذلك.
ويتعلق بهذا فائدتان: إحداهما - أن هذا يدل على أن التوزيع مقتضى العقد؛ فإنه لو حمل على الضرورة المُحْوِجَة، لأمكن أن يقال: الاعتبار بحال طلب الشفيع.
والأخرى- أن الأصحاب أطلقوا العقد، فإن حكمنا بأن الملك ينتقل إلى المشتري بنفس العقد، فهذا متجه، وإن كنا لا نرى أخْذ الشفعة في زمان الخيار؛ فإن المقابل يحصل بتقدير انتقال الملك، وإن لم يكن على اللزوم، وإن حكمنا بأن الملك لا ينتقل ما لم يَنْقَضِ الخيار، أو ينقطع، فالمسألة محتملة احتمالاً ظاهراً، يجوز أن يقال: الاعتبار بقيمة يوم الانتقال؛ إذ فيه يتحقق الملك الحديث، الذي بسببه الشفعة، ويجوز أن يقال: الاعتبار بيوم العقد، وهذا هو الذي أطلقه الأصحاب من غير تفصيل. ووجهه أن العقد يرسم تقدير المقابلة، وإن كنا نتمارى في نقل الملك، فالاعتبار بما رسمه العقد. وهذا [فقيه] (2) حسن.
فصل
قال: "وعهدة المشتري على البائع ... إلى آخره" (3).
4788 - هذا الفصل من أصول الكتاب، فينبغي أن يكون للناظر بفهمه وجميع ما فيه فضلُ اعتناء، فنقول في قاعدة الفصل: إن الشفيع يرجع في عهدة ما أخذه على المشتري، لأنه يتلقى الملك منه، ويبني ملكَه على ملكه، فهو في حق المشتري بمثابة المشتري في حق البائع.
__________
(1) في جميع النسخ: المشتري، والمثبت تقدير منا، رعاية للسياق والسباق.
(2) في الأصل: تقدير حسن.
(3) ر. المختصر: 3/ 54.

(7/389)


هذا أصل المذهب.
ومن موجبات هذا الأصل أن الشفيع يدفع الثمن إلى المشتري في الأحوال كلها، سواء كان الشقصُ في يده، أو في يد البائع، وسواء كان قد أدى المشتري الثمنَ إلى البائع، أوْ لم يُؤدّه، فيدفع الثمنَ إلى المشتري، ويرجع بالعهدة عليه.
ولو قال الشفيع والتفريع على قول الفور، والمبيع [بعدُ] (1) في يد البائع: لستُ أنقدُ الثمنَ، حتى ينقده المشتري. قلنا: ليس لك ذلك، ولا تعلّق لك بما بين المشتري والبائع.
ولكن يعترض في هذا شيء، وهو أنه [إذا] (2) دفع الثمن إلى المشتري، ولم يدفعه المشتري إلى البائع، والتفريع على أنه يثبت للبائع حق الحبس، ولا يستعقب أداءُ الشفيع الثمنَ إلى المشتري قدرة المشتري على تسليم المبيع، فالوجه في ذلك عندنا، أن يقال: إذا كان البائع حاضراً وكان توفيرُ الثمن عليه، وإلزامُه تسليمَ المبيع ممكناً، فليبذل الشفيعُ الثمنَ للمشتري، ثم إنه يتوصل إلى تسليم المبيع إلى الشفيع بطريقه. ولو كان البائع حاضراً، والمبيع معه، ويعلم أنه لا يقدر المشتري على التوصل إلى تحصيل المبيع في الحال، فلا يجب على الشفيع توفيرُ الثمن، وإذا أخر توفية الثمن على المشتري للعذر الذي ذكرناه، لم يكن مقصراً، ولم ينزل منزلة الشفيع يعجل الطلب، ويماطل بالثمن، حتى ينتهي الأمرُ إلى تفصيلٍ قدمناه، في أن شفعته تبطل في وجهٍ، ويُبطلها القاضي إذا استدعى المشتري ذلك في وجهٍ.
هذا الذي ذكرناه أصلُ المذهب، وبه الاعتبار، وعليه التعويل.
4789 - وذكر صاحب التقريب وجهاًً بعيداً عن ابن سريج في العهدة، وهو أنه قال: عهدة الشفيع على البائع، وعليه رجوعه، وبه تعلقه، وإذا طالب بالشفعة، وكان قبض البائعُ الثمن من المشتري، رد ما قبض على المشتري، وأخذ من الشفيع ما يبذله، وينزل الشفيع منزلة المشتري، وكأنه المشتري في الحقيقة، ومن كان
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقط من الأصل.

(7/390)


مشترياً مرفوعاً من البين، وزعم أن الشفيع لا يدفع الثمن إلى غير البائع.
وهذا بعيدٌ جداً، لم أر أحداً من أصحابنا حكاه كذلك سوى صاحب التقريب، وكيف يستقيم المصيرُ إلى هذا، ولا خلاف أن الملك يحصل للمشتري بالشراء، وسبب ثبوت الشفعة ملك المشتري، فإن كان هذا القائل يسلم أن ملك الشفيع يترتب على ملك المشتري، فيبعد مع هذا تقديرُ رفعه من البين.
وإن كان يزعم أنا نقدر ارتفاع المشتري من البين؛ فإن الملك يرتد إلى البائع، فإذا ارتد إليه، فأي حاجةٍ إلى الشفعة.
ويتطرق إلى هذا [خبالٌ] (1) آخر، لا استقلال به، وهو أن ثمن العقد إذا كان عبداً مثلاً، فإن كُلّف البائع ردّه إلى المشتري، وأُلزم أن يقبل قيمته من الشفيع، فهذا كلام ساقط ليس في أساليب الفقه، وقوانين الشريعة، وإن جوز له أن يستمسك بالعبد، فكيف يسلّم الشفيع الثمنَ إليه، فإذاً لا وجه لعدّ ما نقله ابنُ سريج من متن المذهب.
ولا شك أن قياسه على ما نقله صاحب التقريب، يقتضي ردَّ العبد إلى المشتري، وأخذَ قيمتِه من الشفيع، ومساقه يوجب أن يرد الشفيع الشقصَ بالعيب على البائع، ومن يسلك هذا المسلك الذي حكاه صاحب التقريب، يلتزم جميع ذلك.
ولا عَوْد إلى هذا الوجه بعد هذا، ولا اعتداد به.
4790 - والمقدار الذي حكاه الأئمة من تعلّق الشفيع بالبائع مخصوص بصورةٍ، وهي إذا اعترف الرجل أنه باع الشقص المشفوع من زيد، وأنكر زيدٌ الشراء أصلاً، وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب طوائف إلى أن الشفعة تثبت على ما سنفصلها.
وهذا اختيار المزني، ومذهب أبي حنيفة (2).
وذهب ابن سريج في بعض أجوبته إلى أن الشفعة لا تثبت.
4791 - توجيه الوجهين: من قال: لا تثبت الشفعة احتج بأن الشفيع (3) في قاعدة
__________
(1) في الأصل: خيال.
(2) ر. بدائع الصنائع: 5/ 30.
(3) (ت 2): احتج بأن الشفيع إنما تثبت له الشفعة، فرعاً على الشراء؛ فإذا ... ، (ي):=

(7/391)


المذهب فرع المشتري، فإذا لم يثبت الشراء، وهو الأصل، فكيف تثبت الشفعة، وهي الفرع؟ ومن قال: تثبت الشفعة، احتج بأنَ البائع اعترف بالبيع ومصير الملك في الشقص إلى الشفيع، فإذا اعترف الشريكُ بالبيع وادّعاه من إليه مصير الملك، لزم من موجب القولين. ثبوتُ الحق لمن يدعي استحقاقَه، وهو الشفيع.
التفريع على الوجهين:
4792 - إن حكمنا بأن الشفعة لا تثبت، فغاية ما نذكره على هذا أن نتوقف إلى ثبوت الشراء، ولا نثبت في الحال للشفيع شيئاً، فإن لم تكن بينة، فالقول قول المشتري مع يمينه، وينقطع الخصام بحلفه. وإن نكل، لم يخفَ ردُّ اليمين والحكمُ بها.
وإن فرعنا على ثبوت الشفعة، كما ذهب إليه المزني، فالشفيع يسلّم الثمن إلى من؟ ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك على هذا الوجه: فقال قائلون: يسلم الثمن إلى البائع، فإنه وإن كان لا يتلقى الملكَ منه، والقياس يقتضي أن يسلم الثمن إلى من يتلقى الملك منه، فإذا قضينا بثبوت حق الشفعة، ولا سبيل إلى أخذ الشقص من غير عوض، والبائع يزعم أنه ما قبض الثمن، والشفيع معترف بالتزام الثمن، فالضرورة تقتضي صرفَ الثمن إلى البائع، كأنّ الشفيع في هذا المقام، هو المشتري المؤدي للثمن. هذا وجهٌ.
والوجه الثاني- أنه لا يسلم الثمن إلى البائع، ولكن يرفع (1) الأمرَ إلى الحاكم، فينصب الحاكم منصوباً نائباً عن المشتري، ويسلم الشفيعُ الثمنَ إليه، ثم ذلك المنصوب يسلم ما قبضه إلى البائع.
وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه لهُ؛ فإن نصب المنصوب عمن لا يدعي لنفسه حقاً، لا حاصل له، والقُضاةُ إنما ينصبون المستنابين عن أصحاب الحقوق، إذا لم يكن لهم استقلال بطلب حقوقهم، لغيبةٍ، أو سقوط عبارةٍ، بجنونٍ، أو صبا، أو موت، فلا وجه إذاً لهذا التقدير، ولا تحقيق له.
__________
=احتج بأن الشفيع فرع المشتري، فإذا ... ، (هـ 3): احتج بأن الشفيع المذهب أنه فرع المشتري، فإذا ...
(1) في الأصل: لا يرفع.

(7/392)


ومن هذا الوجه يتضح إسقاط الشفعة، وليس للشافعي نص في إثباتها في الصورة التي ذكرناها.
4793 - ومما يتعلق بالتفريع على مذهب المزني أنّ البائع لو اعترف بالبيع، وأنكر المشتري، واعترف البائع بأنه قبض الثمن من المشتري، فهذا فيه مزيد إشكالِ؛ من جهة أن الشفيع ليس يدعي الشقص من غير ثمن يبذله ولا مُدّعيَ للثمن الذي هو معترف به، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يدفع الثمن إلى القاضي ليحفظه للمشتري.
والثانن- أنه يأخذ الشقص، ويبقى الثمن في ذمته إلى أن يدّعيه المشتري. ومن الممكن أن يعترف المشتري باستحقاق الثمن بعد الإنكار، وقد سبق تقرير (1) هذا في كتاب الأقارير.
والوجه الثالث - أنه لا شفعة في هذه الحالة، وإن فرّعنا على مذهب المزني، فإنّ أخذها من غير عوض عَسِر، ولا مدعي للعوض، فلا وجه إلا التوقف في الشفعة إلى بيان الأمر.
فهذا قاعدة المذهب في أصل العهدة.
4794 - ثم استتم الأصحاب التفريعَ على الأصل الذي عليه التعويل، وعادوا إلى فرض الكلام في إقرار المشتري بالشراء مع إقرار البائع بالبيع، وأجرَوْا تفريعاتٍ في تسليم الثمن، لا بد من ذكرها.
فقالوا: إنْ دفع الشفيع الثمنَ إلى البائع، نُظر: فإن دفعه بأمر المشتري، فهو كما لو دفعه إلى المشتري، وهذا فيه إذا قال: ادفع الثمن إليه؛ فإنّ قوله هذا يتضمن احتساب ما يؤديه له.
ولو قال له: اقض [ما عليّ للبائع] (2)، فقد ذكرنا أن من عليه الدين إذا قال لأجنبي: اقض دَيْني، ولم يُقيّد الإذنَ بشرط الرجوع، فإذا أدّى المأمورُ الدينَ، فهل يملك الرجوعَ؟ فيه الخلاف المشهور. وإذا قال المشتري للشفيع: أدّ ما للبائع
__________
(1) في (ي): تقدير.
(2) في الأصل: بما على البائع.

(7/393)


عليّ، فيظهر في هذه الصورة الاعتداد بما يؤديه؛ فإن الحالة القائمة بينهما مصرِّحةٌ بما أشرنا إليه.
وقد أشار بعض الأصحاب إلى تخريج هذا على الخلاف المذكور في أمر الأجنبي بأداء الدين، وهذا بعيد.
ثم إذا سلم الشفيع الثمنَ إلى المشتري، فيتحتم عليه أن يسعى في قبض المبيع من البائع وتسليمه إلى الشفيع، وكذلك إذا أدى الثمنَ بإذنه إلى البائع، [فيكلف القبض من البائع، ويسلّمه إلى الشفيع فذلك حقٌّ على المشتري] (1).
وكل ذلك من تحقيق تعلّق عهدة الشفيع به.
4795 - ولو أدّى الشفيع الثمن إلى البائع، دون أمر المشتري، فهذا رجُلٌ قضى ديْنَ الغير، دون أمرِه، فسقط الثمنُ عن المشتري، ولا يستحق الشفيعُ الشقصَ، وإن نقد الثمن، فيسلّم البائعُ المبيعَ إلى المشتري، ثم المشتري لا يلزمه تسليمُ الشقص إلى الشفيع، حتى يؤدي الثمنَ إلى المشتري؛ لأن الذي قدّمه كان تبرعاً منه، ولا يرجع المتبرع بما يتبرع به.
ولو دفع الشفيع الثمن إلى البائع، وقال: خذ هذا لأتملكَ الشقصَ بالشفعة، فهذا إذا قيده بشرط التملّك، فله أن يرجع على البائع بما أدّى؛ لأنه لم يتبرع، بل شرط شرطاً، ولم يحصل له ذلك.
وإذا جوزنا -عند إنكار المشتري- للشفيع أن يدفع الثمن إلى البائع المقرّ، فإذا عاد المشتري، وأقر بالشراء، لم يكن له أن يغرِّم الشفيعَ الثمن؛ فإنا سلطنا الشفيع على تسليم الثمن إلى البائع، فلا نُثبت للمشتري عليه مرجعاً.
4796 - ومما أجراه الأئمة من المسائل المتصلة بأحكام العهدة القولُ في ركنين هما عماد العهدة، ونحن نستقصيهما بعون الله تعالى:
أحد الركنين- يتعلق بالرد بالعيب. والثاني- يتعلق بظهور الاستحقاق.
__________
(1) عبارة الأصل: "فتكليف القبض من البائع، وتسليمه إلى الشفيع حق على المشثري" والمثبت من (ت 2)، (ي)، (هـ 3).

(7/394)


فأما القول في الرد بالعيب، فإنه ينقسم إلى ردّ الثمن، وإلى رد الشقص.
فأما رد الثمن، فينقسم إلى رد البائع ثمنَ العقد الذي أخذه من المشتري، إذا اطلع على عيبٍ. وإلى رد المشتري ما قبضه من الشفيع إذا رآه معيباً.
فأمّا التفصيل في ثمن الشراء، فالوجه أن نصوّر الثمن عيناً معيَّنةً (1)، ونقول: إذا اشترى الشقصَ المشفوعَ بعبدٍ معيّن فسلّمه إلى البائع، وأخذ الشفيع الشقصَ بقيمة العبدِ، ثم إن البائع وجد بالعبد عيباً قديماً، فردّه على المشتري، فالذي ذهب إليه الأئمة أن المشتري يغرَم للبائع قيمةَ الشقص؛ إذ لا سبيل إلى ردّه بعدما زال الملك عنه إلى الشفيع، وهو بمثابة ما لو اشترى داراً بعبدٍ، وقبضها، وباعها، ثم اطلع بائع الدار على عيبٍ بالعبد، فإنه يرده ولا يصادف الدارَ في ملك المشتري، فَيُلْزِمُه قيمتَها.
وكأن المبيعَ تالفٌ في حق البائع، فهذا هو المسلك البين والسبيل الممهد في المذهب.
4797 - وذكر صاحب التقريب (2) قولاً بعيداً في المسألة، وهو أن البائع إذا ردّ الثمن بالعيب، فالمشتري يسترد الشقص من الشفيع، ويردّ عليه ما أخذه منه، ويرد الشقص على البائع.
وهذا القائل يقول: ردُّ البائع يتضمن نقضَ ملك الشفيع؛ فإنه بمنزلة المشتري، وإنما أخذ الشقصَ بالعقد الذي جرى بين البائع وبين المشتري، ولم يتجدد عقدٌ بين المشتري والشفيع. وهذا بمثابة ما لو خرج الثمن المعين مستحقاً؛ فإنا نتبين فساد العقد الأول، ويتبين من فساده فسادُ أخْذ الشفيع. وهذا قولٌ ضعيف لا اتجاه لهُ؛ فإنَّ أخْذَ الشفيع وملكَه جديد، وإن لم يُحوِج الشرعُ فيه إلى إجراء عقدٍ، فيستحيل أن ينتقض بردٍّ جرى في العقد الأول.
ثم فرع صاحب التقريب على هذا القول الضعيف، فقال: لو وجد البائع المشتري، ردّ عليه الثمنَ على التفصيل الذي ذكرناه، ولو لم يجد المشتري، ووجد الشفيعَ، فما حكمه؟ قال صاحب التقريب: لا يردّ الثمن على الشفيع؛ فإنه لم يتملكه من جهة
__________
(1) (ت 2): الثمن معيناً، (ي)، (هـ 3): عيناً معيبة.
(2) (ت 2): صاحب التهذيب.

(7/395)


الشفيع، وإنما تملكه من جهة المشتري، ولكن يرفع الأمرَ إلى القاضي، فيقبض القاضي الثمن وهو العبد، ثم إن القاضي يبيع ذلك العبد، ويرد على الشفيع ما بذله من الثمن، فإن وفى قيمةُ العبد بما بذله الشفيع، فلا كلام، وإن لم يفِ ثمنُ العبد بما بذله الشفيع، فيقول الحاكم للبائع: إن تبرعت بتكميل ما بذله الشفيع أسترِدُّ منه الشقصَ، وأرده عليك، وإن لم تتبرع بالتميل، لم أسترد الشقص.
وهذا الذي ذكره خبطٌ عظيم، وخروج عن سبيل الفقه.
فأما إذا قلنا بالصحيح: وهو أن الشقص لا يسترد من الشفيع، ولكن يغرَم المشتري قيمةَ الشقص، فإن كانت قيمةُ الشقص مثلَ ما بذله الشفيع من غير زيادة، ولا نقصان، فلا كلام. وإن كان ما بذله المشتري من قيمة الشقص أكثر مما بذله الشفيع، فالمذهب أنه لا يرجع على الشفيع بتلك الزيادة أصلاً.
وذكر صاحب التقريب في المسألة قولاً آخر: إن المشتري يرجع على الشفيع بتلك الزيادة التي بذلها، وذكر العراقيون هذا القول، وله على ضعفه وجهٌ؛ فإن المشتري يقول للشفيع: ينبغي أن تاخذ الشقص بما قام عليّ الشقصُ به، وقد قام عليّ بهذا المبلغ الذي بذلتُه آخراً.
هذا إذا كانت قيمةُ الشقص أكثر مما بذله الشفيع.
فأما إذا كانت قيمةُ الشقص أقلَّ مما بذله الشفيع، فقد ذكر العراقيون في هذا الطرف وجهين أيضاًً: أحدهما - أن الشفيع لا يجد بتلك الزيادة مرجعاً. والوجه الثاني - أنه يرجع بتلك الزيادة على المشتري، وتوجيه الوجهين في صورة النقصان كتوجيه القولين (1) في صورة الزيادة.
ثم قال العراقيون: إذا قلنا: المشتري يغرَم قيمةَ الشقص فغرِمها، ثم رجع الشقص إلى المشتري بوجهٍ من الوجوه إما بهبةٍ أو ابتياعٍ، أو إرث، فإن أراد أن يرد الشقصَ ويستردَّ القيمة، إذ تمكن من ردّه الآن؛ أو أراد البائع أن يجبره على رد الشقص، فليس يثبت ذلك من الجانبين.
__________
(1) (ت 2): الوجهين.

(7/396)


وبمثله لو غصب عبداً فأبق من يده، وغرِم قيمته [لمالكه] (1) ثم ظفر بالعبد، فيرد العبد ويسترد القيمةَ، والفرق أن ملك المالك لم يزُل بإباق العبد، فيُرَد عليه ملكُه إذا عاد، وقد زال ملك المشتري عن الشقص، ونفذ الردُّ على القيمة، فلا مرد لذلك الرد، ولا تغيير له.
هذا كله تفصيل القول في رد البائع ثمنَ [العبد] (2) على المشتري.
4798 - فأما الركن الثاني فيما إذا بذل الشفيع العوضَ للمشتري، وأخذ الشقصَ، فخرج ما بذله مستَحقاً، فالمشتري يُطالب الشفيع بالثمن الآن، وقد تبين أنه لم يوفِّ الثمن الذي كان عليه، ولا يتصور ردٌّ ينقض الشفعة؛ فإن ما يلتزمه الشفيع أبداً يكون واقعاً في ذمته، والعوض الثابت في الذمة لا يطرأ عليه ردٌّ يفسخ الأصل، والاستحقاق فيه غير قادحٍ في أصل التملك. فإن قال المشتري: قد قصرتَ إذْ أديتَ ما لم يكن لك، فيبطل حقُّك بتقصيرك، وتأخيرِك أدَاءَ ما عليك، فلا يخلو: إما أن يقول الشفيع: لم أدر أن ما أديتُه مستحَق، وإما أن يعترف بأنه كان عالماً بكونه مستحقاً إذْ أداه، فإن قال: لم أكن عالماً؛ فالقول قوله مع يمينه، إن مست الحاجة إلى التحليف، ولا تبطل الشفعة.
ولكن إن كان يملك بجهةِ توفيةِ الثمن؟ فهل نقول الآن تبيُّناً: إنه لم يملك الشقص، فعليه إن أراد التملك أن يوفي الثمن؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نتبين أنه لم يملك؛ فإن عماد الملك من هذه الجهة التوفية وأداء الثمن، وقد بان أنه لم يؤد الثمن.
والوجه الثاني- أن ملكَه ثابت في الشقص، لجريان القبض حسّاً وصورة، والقبض
من جهات تملك الشقص المشفوع، فيبقى الشقص ملكاً للشفيع، وهو مُطالب بالثمن.
هذا إذا قال: لم أعلم أن ما أديتُه مستحَقاً.
فأما إذا اعترف بكونه مستحَقاً، وبعلمه ذلك حالة التسليم، فهل نقول: يبطل حقه من الشفعة، لما صدر من تقصيره وتأخيره؟ فعلى وجهين. وهذا الخلاف قد قدمتُه بعينه، إذ قلتُ: لو ماطل بعد طلب الشفعة فهل نحكم بأن حقه يبطل أم يتوقف بطلان حقّه على أن يُبطلَه القاضي؟ فإن قلنا: يبطل حقه من الشفعة، فلا كلام. وإن قلنا:
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: العقد.

(7/397)


لا يبطل حقه من الشفعة، فهل نحكم بأنه ملَك الشقصَ بقبضه أم لا نحكم له بالملك؟ فعلى وجهين، مرتبين على ما إذا كان جاهلاً بأن ما أدّاه مستحق. وهذه الصورة الأخيرة أولى بأن نقول فيها: لا يحصل الملك.
فهذا تحصيل القول.
وما ذكرناه فيه إذا خرج ما أدّاه مستحقاً، أو خرج زيوفاً.
4799 - فلو لم يكن مستحَقاً، ولكن كان معيباً، وكان من الممكن أن يرضى المشتري به فإذا لم يرض، وردّ، أما الشفعة، فلا تبطل؛ فإنه إن كان جاهلاً، فهو معذور، وإن كان عالماً، لم يبعد أن يقدِّر أنه يُسامَح ويساهَل في قبول ما أدّاه. فإن أبى المشتري إلا الاستبدالَ، فليفعل. والأصح أن ملك الشفيع لا يزول عن الشقص في هذه الصورة.
وفيه وجه آخر ضعيف: أن ملكه يزول، ولعل هذا القائل لا يحكم بثبوت الملك، ثم بزواله، بل يقول: كان الملك موقوفاً على ما يبين (1).
وذكر القاضي صورةً بديعة في سياق هذه المسائل، فقال: لو قال الشفيع حالة تسليم الثمن: تملكتُ الشقص بهذه الدنانير، ثم خرجت مستحَقة، أو رديئة الجنس، فرُدّت. قال: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه تبطل شفعته؛ لأنه أعطى ما لا يملكه، وعلّق الاستحقاق به.
والثاني - لا تبطل.
وخصص الخلافَ بالتعيين، وأطلق القول بأن الشفيع إذا لم يقل: تملكتُ الشقصَ بهذه الدنانير، ولكن جرى الإقباضُ والقبضُ مطلقاً، لم ينتقض الملك، ولم تبطل الشفعة.
أمّا ذكر الوفاق عند الإطلاق، فإخلالٌ بذكر خلاف الأصحاب، ولكنه متجه في المعنى.
والتفصيل البالغ ما ذكرناه.
[وأمّا ما ذكره في صورة التعيين] (2)، فوجه الخلاف لم يأخذه من اعتقاد تعيين
__________
(1) في (ي): "على تبين".
(2) في الأصل: فأما ما ذكره أولاً، فوجه الخلاف لم يأخذه ..

(7/398)


الدنانير، وإنما أخذه من لفظ الشفيع؛ إذ قال: تملكتُ بهذه، والترتيب أنا إن قلنا: المطلق مع العلم يتضمن الملك، فإذا لفظ بربط الملك بما يسلمه (1)، فالمسألة محتملة. ويظهر أن لا يملك، ووجه تمليكه أن تعيينه باطل، فإن التعيين لا أصل له، وإنما ملك الشقص بقبضه.
هذا منتهى الغرض في هذا الركن من العهدة.
4800 - ويلتحق به بعد نجازه أن الشفيع لو لم يكن قبض الشقص بعدُ، واطلع البائع على عيب بالعبد المسمى ثمناً، فإن أراد البائع الردَّ ليسترد الشقصَ، وأراد الشفيع أن يأخذ الشقص، فقد ذكرنا فيما تقدم أن المشتري لو أرادَ ردّ الشقص بالعيب، وأراد الشفيع أخذه، وبذْلَ الثمن فمن الذي يجابُ منهما إلى ملتمسه؟ في المسألة قولان، قدمنا ذكرهما.
والرد في هذه الصورة التي ذكرناها الآن من جهة البائع. وحاصل المذهب في هذا يحصره طريقان: من أصحابنا من أجرى القولين في هذه الصورة إجراءهما فيه إذا كان المشتري هو الذي يرد الشقص.
وسبيل التسوية بينهما أن في كل صورة من الصورتين ردّاً يتضمن نقضَ العقد الذي هو محل الشفعة، والشفيع يبغي بقاء العقد، ليدوم حقُّه، فينتظم القولان، مهما تعارض غرض الراد، وغرض الشفيع. ثم المشتري مدعوٌّ إلى أن يسترد من الشفيع مثلَ ما بذله أو قيمتَه، إن كان من ذوات القيم، والمشتري يبغي أن يسترد عين ماله، والبائع إذا كان هو الراد مدعوٌّ إلى أن يقنع بقيمة الشقص، وهو يبغي أن يسترد عينَه، فلا فرق، والتسوية اختيار القاضي.
ومن أصحابنا من قال: إذا كان الرّاد هو البائع والشفيع لم يملك الشقص بعدُ، فرأْيُ البائع متبعٌ؛ فإنّ رده نافذ، ولا ملك للشفيع بعدُ في الشقص، فتقديم غرض البائع أولى، وليس كرد المشتري؛ فإنه ينشىء الرد في [عين] (2) محل الشفعة، والبائع ينشىء الرد في غير محل الشفعة، وهو العبد.
__________
(1) (ت 2): فإذا اللفظ مرتبط بما يسلمه، (ي)، (هـ 3): فإذا لفظ، فربط بما يسلمه.
(2) في الأصل: غير.

(7/399)


وفي المسألة احتمال ظاهر، والتسوية أقيس.
4801 - ومما نرى إلحاقه بأعقاب هذا الفصل أن المشتري لو وجد بالشقص عيباً قديماً، وقد امتنع عليه الرد به لعيب حدث في يده، فرجع على البائع بأرش العيب القديم، فذلك القدر يُحط عن الشفيع بلا خلافٍ؛ فإنه وإن جرى بعدَ العقد، فهو مستحَق بالعقد، ولو تمكن المشتري من الرد بالعيب القديم، ولكن اتفق البائع والمشتري على الرجوع إلى الأرش والمصالحة عليه، ففي صحة ذلك وجهان مشهوران. فإن قلنا: لا يصح، فلا كلام. وإن قلنا: يصح، فهل يُحط في هذه الصورة عن الشفيع ما حُط عن المشتري؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - يُحط، كما لو امتنع الرّد؛ فإنه في مقابلة عيبٍ بالشقص. والثاني- لا يحط؛ فإن هذه مصالحة عن حق الرد، لا عن [عين] (1) العيب.
وممَّا ذكره صاحب التقريب أن من اشترى شقصاً بعبدٍ، وكان العبدُ معيباً، فلما رآه البائع، رضي بعيبه، ولم يردّه، فإذا أراد الشفيع الشفعة أخذها بقيمة العبد معيباً، وليس للمشتري أن يُلزمه قيمةَ العبد سليماً، ويقول: تبرع البائع عليَّ إذْ رضي بعيب العبد، وجوّزه تجويزَ السليم، فاغرم أنت أيها الشفيع قيمته سليماً، فيقال له: ليس على الشفيع إلا قيمةُ ما عيَّنته، إن كان سليماً، التزم قيمةَ السليم، وإن كان معيباً، التزم قيمةَ المعيب؛ فإنّ حكم الشَّرع أن يلتزم الشفيع قيمةَ المعيّن ثمناً على ما هو عليه من صفاته. وغلط بعضُ المصنفين، وصار إلى أن الشفيع يغرَم قيمة العبدِ سليماً.
وهذا غلط صريح لا يشك فيه ذو تحصيل.
فصل
ذكره الأئمة في أثناء فصول العهدة، فرأينا إفراده
4802 - ومضمونه مسائلُ، منها: أن الشفيع لو ضمن العهدة للمشتري في الثمن، لو فرض دَرَك (2)، قال الأئمة: هذا لا يمنعه من طلب الشفعة إذا استقر العقد.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) الدرك هو ضمان العهدة عند الشافعية، وعرفوه بأنه: ضمان الثمن للمشتري، إن ظهر المبيع=

(7/400)


وكذلك قالوا: لو ضمن للمشتري سلامة المبيع، أو ضمن الثمنَ للبائع، فلا يبطل حقُّ طلبه بهذه الجهات.
فإن قيل: [ما ذكرتموه] (1) في هذه الوجُوه يُشعر بتقرير المشتري على ما اشتراه، فهلا كان هذا رِضاً منه بأن يبقى الملك للمشتري، ويسقط حقُّه؟ قلنا: يُحمل ما يأتي في ذلك على قصدِ تمهيد سبب استحقاق الشفعة، والسعي في تحصيله؛ فإن الشفعة لا تثبت ما لم يثبت البيع.
4803 - ولو وكل أجنبيٌّ شريكاً في الدار حتى يشتري له نصيبَ صاحبه، فإذا توكَّل، واشترى لموكله، فهل تبطل شفعته؟ ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - لا تبطل، لما قدمناهُ من حَمْل ما صدر منه على تحصيل سبب الشفعة، فأشبه ما تقدم من ضمان العهدة، وضمان الثمن. والثاني - يبطل حقه من الشفعة؛ لأنه تعاطى بنفسه تحصيلَ الملك للمشتري، فكان ذلك رضاً منه بدوام الملك.
وكان شيخي في غالب ظني يطرد الخلاف في الصورة المقدّمة. وهي ضمان العهدة، وضمان الثمن، والفرق على حالٍ بيّن. ولكن احتمالَ الخلاف في تلك الأسباب غيرُ بعيد.
فإن طردنا خلافاًً، رتبنا تعاطي الشراء للموكِّل على الأسباب. والذي ذكرته إن كان ينقدح في ضمان العهدة، فليس له ظهور في ضمان الثمن؛ فإن الشفيع ضامنٌ للثمن، ملتزم غير أنه يؤديه إلى المشتري، فإذا أضافه إلى البائع، فقد يُخيل ذلك شيئاًً على بعد.
وهذه التفريعات على قول الفور.
4804 - ولو قال أحد الشريكين لصاحبه: بع نصيبي من فلان، فباعه منه، ففي بطلان الشفعة الوجهان المذكوران فيه إذا كان وكيلاً لذلك الأجنبي، [في الشراء] (2).
__________
=مستحقاً، أو معيباً، أو ناقصاً، بعد قبضى الثمن. (الموسوعة الفقهية: 28/ 237 مادة ضمان. فقرة: 30).
(1) في الأصل: ما ذكره.
(2) ساقط من الأصل.

(7/401)


ولو عرض الشريك نصيبه على شريكه تأسياً بأمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، والحديث وارد في العرض على الجار، فاستنبط الأصحاب استحباب العرض على الشريك، واستدل الشافعي بحديث العرض على الجار على أن الجار لا شفعة له، وأن العرض غليه من مكارم الأخلاق؛ إذ لو كان يستحق الشفعة، لما كان في البيع من الغير تفويت عليه. ثم إذا اتفق العرض [على الشريك] (1)، فرغب عن الابتياع وأبدى زهداً فيه، فإذا اتفق البيع، فله الشفعة، لم يختلف الأصحاب فيه؛ بناءً على أن إسقاط الشفعة قبل ثبوتها باطلٌ، غيرُ مؤثر.
وليس ما ذكرناه بمثابة ما لو كان الشريك وكيلاً في البيع من الأجنبي، وفي الشراء له؛ فإن ذلك خوض منه في عين إزالة الملك إلى الأجنبي، فانتظم فيه الخلاف، وليس في العرض هذا المعنى.
فرع يتعلق بعلائق العهدة:
4805 - إذا أخذ الشفيع الشقص وبنى فيه أو غرس، فاستُحق الشقصُ، وقلعَ المستحِقُّ غراسه وبناءه، فلا شك أن الشفيع يرجع بالثمن على المشتري إذا كان وفر الثمن عليه. ثم التفصيل فيما عدا الثمن كالتفصيل المقرر في المشتري من الغاصب، وقد أوضحنا مواضع الخلاف والوفاق فيما يرجع به على البائع الغاصب، فنزل الأئمةُ الشفيعَ من المشتري، منزلة المشتري من الغاصب البائع، في كل ما تقدم.
ومما أثبت القاضي للشفيع الرجوعَ به قاطعاً قولَه، التفاوتُ الواقع بين قيمة الغراس والبناء قائماً ومقلوعاً، وهذه طريقة في المشتري من الغاصب على جهل. وكان شيخي يفتي بهذا.
والوجه عندنا إلحاقُ هذا بأحكام الغرور؛ فإنه هو الذي تعاطى البناء والغراس، ولكن اتصل فعله بتغرير من جهة غيره، فخرج (2) على قولي تقديم الطعام المغصوب إلى الضيف.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): فحمل.

(7/402)


وكان شيخي يذكر الخلاف ويميل إلى إثبات الرجوع، رعايةً للمصلحة.
4806 - والذي يدور في خلد الفقيه مما ذكرناه أن المشتري لم يعاقد الشفيع اختياراً، وإنما أخذ الشفيع الشقص قهراً، فالضمان الذي يتعلق بسبب الغرور، كيف يتعلق به، وهو ما غرّ أحداً. وهذا فيه إشكال لا ننكره، ولم يتعرض له أحد من الأصحاب، ويمكن أن يُفصَّلَ القولُ فيه، فيقال: إن قبض المشتري الثمن أو طالب به، أو لم يُبدِ كراهيةً، وجرى مع الشفيع على صفة المطاوعة، فقد يقال: هذا منه بمثابة البيع. فأما إذا وقع الفرض في أَخْذ الشقص منه، وهو ممتنع محمول على تسليم الشقص بالقهر، فلا يكون مغرّراً، ولكن الفقه فيما (1) ذكره الأصحاب: أنه في شرائه مختارٌ، وأخْذ الشفيع موجَبُ شرائه، فارتبط هذا بما يختاره وينشئه، وهذا متجه حسن.
فإن تعرض متعرض لفرض جهل المشتري بكون المشترَى مغصوباً، أشعر ذلك بعروه عن التحصيل؛ فإن أحكام الضمان في الغصوب لا تختلف بالعلم والجهل، وإنما يفارق العالمُ الجاهلَ في المأثم. نعم، شرط المغرور أن يكون جاهلاً؛ فإنه لو كان عالماً بحقيقة الحالة، لم يقع الغرور تصوُّراً، حتى يناط به حكم. فأما الواقف موقف من يغرِّر، فلا يختلف حكمه بعلمه وجهله، إذا اغتر المغرور بقوله أو بفعله.
فصل (2)
ثم إن المزني جمع مسائل [تحرَّى] (3) فيها مذهب الشافعي.
قال المزني: "وإذا تبرّأ البائع من عيوب الشفعة ... إلى آخره" (4).
4807 - جمع المزني مسائل قليلة النَّزَل (5)، وأجراها على قواعد المذهب، ونحن
__________
(1) في غير الأصل: " ولكن الفقه الذي ذكره ... ".
(2) العنوان (فصل) انفردت به نسخة الأصل.
(3) في الأصل: " يُجري" والمثبت من (ي)، (هـ 3).
(4) ر. المختصر: 3/ 55.
(5) (ي): النزر. والنَّزَل (بفتح النون مشدّدة، وفتح الزاي) العطاء، والفضل، والبركة (معجم).

(7/403)


نَجري على ترتيبه فيها، فمن ذلك هذه المسألة (1)، واختلف الأصحاب في صورتها، فمنهم من قال: صورة المسألة: إذا اشترى بشرط البراءة من العيوب -وقد استقصينا القولَ في ذلك في بابٍ من كتاب البيع- ففي صحة الشراء خلاف، ثم إن صح، ففي صحة الشرط قولان، فإن صح الشرط، لم يملك المشتري الرد بالعيب؛ لأنه [يبرأ] (2) البائع بحكم الشرط عن الرد بالعيب.
ولكن هذا يختص به فإذا اطلع الشفيع على عيبٍ بالشقص المشفوع، ردّه على المشتري، ولم يكن للمشتري أن يقول: إنما أخذتُ الشفعة (3) بصفقةٍ متضمنُها البراءةُ من العيوب، فالتزمْها؛ فإن الشفيع مع المشتري بمثابة المشتري من المشتري، في هذه القضايا. والبراءة وإن صحت، فهي مختصة بالمشتري، ولا تتعدّاه.
وإذا أخذ الشفيع، لم يفرق بين أن يكون عالماً بسقوط حق المشتري، وبين أن يكون جاهلاً؛ فإن حقه في استدراك الظلامة لا يختلف بإسقاط المشتري حقَّ نفسه.
4808 - ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة أن يطّلع المشتري على عيبٍ (4)، والمراد بحصول البراءة هذا؛ فإن المزني لو أراد فرض الكلام في شرط البراءة، لذكر الخلاف، وما قيل فيه رمزاً أو تصريحاً؛ فإنه يتسرع إلى ذكر مثل ذلك، وإلى إعادة اختياراته في صور الخلاف، فالمسألة مصورة في سقوط حق المشتري من الرّد بسبب اطلاعه على العيب. وهذا مُسقط لحق الرد وفاقاً.
ثم الترتيب فيه أن الشفيع إن اطلع كما اطلع المشتري، ثم أخذ الشفعة، لم يملك الرد، وإن لم يطلع المشتري، ولا الشفيع رد الشفيع على المشتري، ثم يرد المشتري على البائع على الترتيب البيّن فيه، إذا اشترى رجل شيئاًً من مشترٍ، ثم اطلع على عيبٍ.
ولو لم يطلع المشتري واطلع الشفيع، وأخذ، لم يملك الردّ على المشتري، والمشتري لا يرجع بأرش العيب على البائع منه؛ فإن الذي لحقه من النقصان قد روّجه
__________
(1) الإشارة إلى مسألة البراءة من العيب في رأس الفصل.
(2) في الأصل: لا يبرأ.
(3) "الشفعة": المراد (الشقص) محل الشفعة، وإلا فالمشتري ليس شفيعاً.
(4) أي ورضاه به؛ فيسقط حقه في الرد.

(7/404)


على غيره. [وكل] (1) هذا مما سبق في البيع.
وإذا قلنا: الشفيع مع المشتري كالمشتري من المشتري في مضمون هذا الفصل، فما غادرنا من البيان شيئاً، إذا لم يكن في الفصل استثناء.
ثم ذكر المزني بعد هذا فصلاً في خروج الثمن الذي عينه المشتري مستحقاً، وقد أدرجنا هذا في فصول [العهدة] (2) مبيناً، فلا نعيده.
فصل
قال: "ولو حط البائع ... إلى آخره" (3).
4809 - مقصود الفصل يتعلق بشيئين: أحدهما - فيه إذا تبرع البائع، وحطّ عن المشتري شيئاًً من الثمن. والثاني- فيه إذا حط عن المشتري أرش العيب. وهذا الأخير أجريناه مستقصىً في فصل العهدة.
فأما إذا تبرعّ البائع بحط شيء من الثمن، فلا يخلو إمّا أن يتفق ذلك بعد لزوم العقد، وإما أن يجري والعقدُ جائز في مكان الخيار، أو زمان الخيار، فإن جرى الحط بعد اللزوم، فهو [منحة] (4) تختص بالمشتري، فلا تلحق الشفيع، وهذا فرع أصلٍ، قد أوضحناه في البيع، وهو أن الزوائد، والحط، والتغايير بعد اللزوم، لا تلحق العقد عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (5)، وقد خالف هاهنا في الحط، وصار إلى أن ما حُط عن المشتري محطوطٌ عن الشفيع، إذا بقي من الثمن شيء، ووافق أنه لو حُط عن المشتري تمامُ الثمن، لم يؤثر ذلك في حق الشفيع، وكان مُطالباً من جهة المشتري بتمام الثمن، ووافق أيضاًً أن البائع والمشتري لو ألحقا زيادة بالثمن، لزمت المشتري، ولم تلحق الشفيع.
__________
(1) في الأصل: روّجه على غيره، ورجّاه. ولكن.
(2) في الأصل: العهد.
(3) ر. المختصر: 3/ 55.
(4) في النسخ كلها: متجه. والمثبت تقدير منا. نرجو أن يكون هو مراد المؤلف.
(5) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 146.

(7/405)


هذا في الحط بعد اللزوم.
4810 - فأما إذا جرى الحط في زمان الخيار، لم يخل: إما أن يُحط البعضُ أو يُحط الكل.
فإن حُط البعضُ، فأحسن ترتيب فيه أن نقول: ينبغي أن يُبنى هذا على الأقوال في أن الخيار هل يمنع نقل الملك؟ فإن قلنا: إنه لا يمنع نقل الملك، فكما يملك المشتري المبيعَ، فكذلك يملك البائع الثمن، فإذا جرى الإبراء من البائع، فهو مصافٌ ملكَه؛ فإن الثمن ملكُه، فيصح الإبراء لمصادفته ملكَ البائع. هكذا ذكره الأئمة.
وفي صحة الإبراء عندي احتمال خارج على تردد الأصحاب في إعتاق المشتري: هل ينفذ في العبد المشترَى في زمان الخيار على قولنا: إن الملك للمشتري؟ فإذا ترددوا في العتق [مع] (1) سلطانه، لم يبعد التردد في الإبراء؛ فإن المبيع متعلَّق خيار البائع، فامتنع لذلك نفوذ تصرفات المشتري عند طوائفَ من الأصحاب. كذلك الثمن متعلق خيار المشتري، فلا يبعد أن يمتنع تصرفُ البائع فيه، سيّما إذا منعنا الإبراء عما لم يجب، وإن وجد سببُ وجُوبه.
فإن فرعنا على ما ذكره الأصحاب من نفوذ الإبراء، فلا شك أنه على معنى الوقف، حتى لو اختار المشتري الفسخ، وارتد المبيعُ، فلا أثر لما تقدم من الإبراء، إلا على قول ضعيفٍ في أن المرأة إذا أبرأت زوجها عن الصداق الواقع في ذمته، ثم إنه طلقها قبل المسيس، فالمذهب أنه لا يطالبها بنصف الصداق، وفيه قول غريب، وهو يخرّج على ما إذا وهبت عين الصداق من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس. فإذا حكمنا بنفوذ الإبراء، فهل يلحق هذا الحطُّ المشتري على هذا القول الذي نفرع عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يلحقه، بل لا يلحق العقد، وإنما هو تغيير بعد العقد، فشابه التغيير بعد اللزوم، ومعتمد المذهب في امتناع التحاق التغايير بالعقد أن العقد إذا عقد على صيغة، فلا حاصل للإلحاق بها، إلا أن ترفع تلك الصيغة، وتستفتحَ أخرى.
__________
(1) في الأصل: وسلطانه.

(7/406)


والوجه الثاني- أن الحط يلحق العقد؛ فإن العقد في زمان الجواز يضاهي حالة تواجب المتعاقدين بالإيجاب والقبول، فيقبل من التغيير ما لا يقبله إذا لزم.
هذا كله إذا فرعنا على أن الخيار لا يمنع نقل الملك.
4811 - فأما إذا قلنا: يمنع نقل الملك، فكما لا يملك المشتري المبيع، لا يملك البائع الثمن. فإذا أبرأ البائعُ عن بعض الثمن، فقد ذكر القاضي وجهين في صحة الحط: أحدهما - أنه لا يصح؛ لأنه تصرفٌ من البائع فيما ليس بمملوك له، فلغا.
والثاني - يصح، ويلحق أصلَ العقد، وهذا يعتضد بتعامل الخلق في الأعصار، المنقضية.
فإن قلنا: لا يصح الحط، فلا كلام. وإن حكمنا بصحة الحط، فالأصح أن الحط على هذا القول يلحق بالعقد؛ فإنه في حكم توطئة العقد وتقريره، وما يجري من ذلك قبل اللزوم وانتقال الملك، فهو بمثابة ما يجري بين المتساومَيْن، قبل التواجب.
ومن أصحابنا من قال: في لحوق هذا الحط العقدَ وجهان. وهذا وإن كان يبعدُ بعض البعد، فله خروج على ما قدمناه، من أن تغيير العقد برفعه وابتدائه، ولا يختلف في ذلك حُكم الجواز واللزوم.
هذا بيان التفصيل في الحط في زمان الخيار.
والقفال كان لا يزيد في دروسه على أن يقول: الصحيح نفوذ الحط ملتحقاً بالعقد. وما ذكرناه من التخريج على أقوال (1) الملك أورده العراقيون، وهو حسن لا بد منه.
ثم إن ألحقنا حط البعض بالعقد، أثبتنا الحط في حق الشفيع، وإن جعلناه طارئاً على العقد، غيرَ ملتحق، فهو بمثابة الحط بعد الانبرام، فحكمه الاختصاص بالمشتري.
4812 - ولو حط البائع جملة الثمن، تفرع هذا على ما ذكرناه، فإن جعلنا حط البعض في زمان الخيار، كحطه بعد الانبرام، فحط الجميع بهذه المثابة، والشفيع
__________
(1) في (ت 2): قول.

(7/407)


مُطالب بتمام الثمن، وإن ألحقنا حطَّ البعض بالعقد، وجعلنا كان الثمن المسمى ما بقي بعد الحط، فحط الجميع يُفسد العقد لا محالة؛ من حيث يتضمن تعريتَه عن الثمن، غنَيْنا بالفساد أن البيع لا يثبت.
ووراء ذلك نظرٌ آخر، وهو أن الرجل إذا قال لإنسان: بعت منك عبدي هذا بلا ثمن، فلا شك أن ما أجراه ليس بيعاًً، ولكنه هبةٌ مملِّكةٌ صحيحة، أم ليست هبةً؟ في ذلك وجهان ذكرهما القاضي وغيره: أحدهما - أنه هبة؛ لإشعار اللفظ بالتمليك، مع التنصيص على نفي العوض، وهذا معنى الهبة.
والثاني - أنه ليس هبةً؛ فإن البيع في وضعه صريح في اقتضاء العوض، فإذا قرن بنفي العوض: كان جمعاً بين النقيضين. والعقود الصحيحة لا تنتظم من العبارات الفاسدة.
وعبر المحققون عن الوجهين بأن الاعتبار بمعنى اللفظ ومقصود اللافظ، أو بصيغة اللفظ، فإن اعتبرنا مقصود اللافظ، اقتضى ذلك تصحيحَ الهبة، وإن اعتبرنا صيغة اللفظ، فهي فاسدة، ومعتمد العقود الألفاظ.
التفريع على الوجهين:
4813 - إن حكمنا بصحة الهبة، لم يخفَ حكمُها، وافتقارُها إلى القبض، وإن لم نصحح من هذا اللفظِ هبةً، فلا شك، أن ما يقبضه ملكُ البائع، ولكن اختلف أصحابنا في أنه أمانة في يده، أو مضمون: فمنهم من قال: هو مضمون؛ لأنه مقبوض عن بيع فاسدٍ. ومنهم من قال: هو أمانة؛ لأن علائق الضمان نتيجة ما في العقد الفاسد من اقتضاء العوض، وإن كان على الفساد، وإذا قال بعتك بلا ثمنٍ، فليس فيما جاء به ما يتضمن عُهدة، ولا عُلقة، من طريق العوض. وعن هذا قال الأصحاب: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق على زق خمر، فقبلت، بانت، وعليها مهر المثل. ولو قال: أنت طالق على الريح، وقع الطلاق رجعياً، ولم يقبض عوضاًً.
هذا حقيقة القول في ذلك.
فإذا فرض الحط في الجميع، وألحقنا ذلك بالعقد، وأخرجناه عن كونه بيعاً، انتظم بعد ذلك تبيُّناً ما لو قال ابتداءً: بعت منك هذا بلا ثمن.

(7/408)


فصل
4814 - إذا ادعى على رجل أنه اشترى شقصاً له فيه شفعة، فأنكر المدعى عليه، فالقول في حكم الاختلاف على هذا الوجه قدمناه مستقصىً في أدراج الفصول، ولكن المزني ذكره في مسائل التحري، فنعيده على الإيجاز، فنقول: للإنكار صيغتان مقبولتان: إحداهما تعرِض لمضادة الدعوى لفظاً ومعنى، مثل أن يقول المدّعي: اشتريتَ شقصاً فيه شفعة، فيقول المدعى عليه: ما اشتريت.
والثانية تعرِض لمضادة مقصود الدعوى، ولا تناقضها لفظاً. مثل أن يقول في جواب المدعي -والدعوى على ما وصفناه- لا يلزمني تسليم هذا الشقص إليك، فهذا الإنكار يُكتفى به، وسبب الاكتفاء به أن الشفعة ربما كانت تثبت، ثم سقطت بتقصير من الشفيع، أوعفوٍ. ولو اعترف المدعى عليه بصورة الحال، لكان مؤاخذاً بالإقرار بالشفعة، مدّعياً سقوطها. والقول قول الشفيع في نفي ما يُدَّعَى عليهِ، فسوَّغَ الشرعُ للمدعى عليه أن يبهم الإنكار. وهذا من أسرار الخصومات، ولا يمكن التطفل ببسط القول في ذلك هاهنا، ولا اختصاص لهذه الصورة بهذا النوع من الإنكار، فليقع الاكتفاء بنقل الوفاق في صحة هذا الإنكار، ثم يحلف على حسب إنكاره.
فإن أتى بالصيغة المصرحة بنفي الشراء، ولما عرضنا اليمين أراد أن يحلف: لا يلزمه تسليم الشقص، فهل يُقبل اليمين كذلك؟ فعلى وجهين مشهورين جاريين في نظائر هذه الصورة، وموضع استقصائهما الدعاوى.
ولو أقام المدعي بينة على الشراء، لما أنكر المشتري، وحكمنا بالشفعة، فيأخذ الشقصَ، والمدَّعى عليه لا يخلو إما أن يعترف الآن، أو يصر على إنكاره، فإن اعترف، صرفنا الثمن إليه، وإن أصر على إنكاره، ففي المسألة الأوجه الثلاثة الجارية في أمثال هذه المسألة: أحدها - أنه يجبر المدعى عليه على القبول، أو الإبراء، حتى تبرأ ذمة الشفيع؛ فإن الإنكار والإقرار لا يبرئان الذمم. والوجه الثاني - أنه يترك الثمن في [ذمة] (1) الشفيع إلى أن يعترف به المدعى عليه. والوجه الثالث - أنه يؤخذ الثمن
__________
(1) في الأصل: يد.

(7/409)


منه ويوضع حيث توضع الأموال المشكلة، ثم يرى السلطان رأيه فيها. وشفاء الغليل في ذلك يتعلق بالإيالة الكبيرة (1)، ولكنا لا نخلي هذا المذهب (2) عن شفاء الغليل إذا رأينا الانتهاء إلى ذكره.
فصل
قال: "ولو أن رجلين باعا من رجلٍ شقصاً ... إلى آخره" (3).
4815 - إذا اشترى رجلان من واحدٍ شقصاً، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، ويترك نصيب الثاني، لم يختلف أصحابنا فيه. فإن قيل: أليس حكيتم قولاً في كتاب البيع أن أحد المشتريين لا ينفرد برد ما اشتراه على البائع، وجعلتم اتحاد البائع مقتضياً اتحاد الصفقة، فهلا خرّجتم هذا القولَ في منع تبعيض الشفعة؟ قلنا: ذلك القول على ضعفه له خروج؛ من قبل أن المبيع خرج جملة واحدة، من ملك البائع، فلو رجع إليه بعضه، لتضرر لا محالة، فكان سببُ منع الرد في ذلك القولِ القديم هذا، والشفعة لا تؤخذ من مأخذ الرد؛ فإنّ الشفيع يأخذ من المشتري، فينبغي ألا يتبعض على من يأخذ منه، فقلنا: إذا اشترى رجلان من رجلٍ، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما، ويترك نصيب الآخر؛ إذ لا تعلق لأحد المشتريين بالثاني، فلا تبعيض على المأخوذ منه.
ولو اشترى رجل من رجلين شقصاً، قال المزني: للشفيع أن يأخذ نصيب أحد البائعين، وقاس ذلك على الرد بالعيب؛ فإنه لو اطلع على عيبٍ بما اشتراه، كان له أن يردّ على أحد البائعين، ويُمسك ما اشتراه من الثاني.
4816 - وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى موافقة المزني، وهو القياس؛ فإن تعدد البائع يتضمن تعدد العقد والصفقة، ولو اشترى رجل واحدٌ من رجل واحدٍ شقصاً، في صفقتين، فللشفيع أن يأخذ مضمون إحدى الصفقتين، فليكن
__________
(1) الإيالة الكبيرة: أي أحكام الخلافة، وسياسة الأمة. وقد أفرد لها الإمام كتابه الماتع (الغياثي).
(2) المذهب: المراد به هذا الكتاب؛ فقد سماه بذلك في مقدمته.
(3) ر. المختصر: 3/ 56.

(7/410)


الأمر كذلك فيما نحن فيه؛ فإنهما إذا قالا: بعنا منك، فكل واحد من البائعين متميز (1) عن الثاني، والقبول وإن اتحد من حيث الصيغة، متعدد من حيث المعنى، والمعنى أولى بالاتباع.
ومن أصحابنا من خالف المزني، وقال: ليس للشفيع أن يأخذ بعضاً، ويترك بعضاً، لأن فيه تبعيضَ الشقص على المشتري. وقد ملَكه دفعة واحدة.
ولو اشترى واحدٌ شقصين من دارين من رجلٍ واحد، وكان (2) شفيعهما واحداً، فالصفقة متَّحدة إذا نظرنا إلى البائع والمشتري، وقد تمهد أن الصفقة لا تتعدد بتعدد المعقود عليهِ، إذا لم يكن في العقد عليهما اختلاف. فلو أراد الشفيع أخذ الشقصين من الدارين، فله ذلك. وإن أراد أخذ أحد الشقصين، وتَرْكَ الآخر، ففي المسألة وجهان مشهوران، وسبب الخلاف أنه ليس في أخذ أحدهما وترك الثاني تبعيضُ شقصٍ من دارٍ واحدة. وهذا بعينه هو الاختلاف المذكور في تفريق الصفقة بما يطرأ عليها آخراً، مثل أن يشتري الرجل عبدين، فيجد بهما أو بأحدهما عيباً، فأراد ردَّ واحد بالعيب، وإمساك الثاني بقسطٍ من الثمن، ففي ذلك قولان. ولا مأخذ لهما إلا تفريق الصفقة؛ إذْ لا ضرار من جهة التبعيض.
ولو اشترى عبداً، فوجده معيباًً، فأراد ردَّ بعضِه، لم يكن له ذلك، لما فيه من ضرار التبعيض، وهذا يناظر ما لو اشترى شقصاً في صفقة واحدةٍ، فأراد الشفيع أخْذ بعضه، وترك الباقي.
4817 - ولو اشترى شخصان من شخصين شقصين من دارين، شفيعهما واحد، فهذه الصورة يلتف (3) فيها وجوه من التفريق، فانظر كيف تجري فيها، وقد أصبتَ (4)، فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ الشقصين، وبين أن يأخذ النصف من كل واحد منهما من واحدٍ (5)، وبين أن يأخذ نصف أحد الشقصين من أحدهما، ومن
__________
(1) في الأصل: غير متميز.
(2) ت 2: كانت شفعتهما واحداً.
(3) في (ت 2)، (ي)، (هـ 3): يلتفت.
(4) المراد أن كل صور التفريق تصح فيها.
(5) أي من واحدٍ من المشتريين.

(7/411)


الثاني كلا النصفين، وبين أن يأخذ نصف شقصٍ من واحدٍ، ونصف الثاني من الآخر، إذا جوزنا تفريق الصفقة في الشفعة.
ثم ذكر المزني الاختلاف في مقدار الثمن وقد مضى.
وذكر ما لو كان الثمن [عبداً] (1) معيّناً فخرج مستحقاً، وهذا استقصيناه في أحكام العهدة.
وذكر بعده ما لو ثبت الشقص عِوضاً عن صلح على إنكارٍ، و [بان] (2) فساد الصلح، ثم قال: فلا شفعة إذاً.
ولا حاجة إلى ذكر شيء من هذا.
فصل
قال: "ولو أقام رَجُلان كلُّ واحدٍ منهما بينةً أنه اشترى من هذه الدار شقصاً ... إلى آخره" (3).
4818 - صورة المسألة: دارٌ في يد رجلين، اعترف كل واحدٍ منهما بأنه اشترى نصفَها، ولكنهما تنازعا في التاريخ، فادعى كل واحد منهما أنه اشترى نصيبه قبل صاحبه، وله الشفعة فيما اشتراه صاحبه، فإذا تنازعا كذلك ولا بينة لواحد منهما، فالذي جاءا به خصومتان: إحداهما متميزة عن الأخرى، وليس اختلافهما بمثابة التنازع من المتبايعين، في مقدار ثمن المبيع أو جنسه.
وإذا كان كذلك، فمن ابتدر منهما، وادّعى في مجلس الحكم، فالقاضي يفصل خصومتَه، وإن جاءا وادّعيا معاً، لم يُتركا كذلك، فإن تنازعا في البداية، أقرع بينهما، فمن خرجت قرعتُه، نصبناه مدعياً، وأجرينا خصومته بطريقها. فإذا قال من تقدم وفاقاً، أو قدمته القرعة: اشتريت نصيبي قبل صاحبي، فالقول قول صاحبه مع يمينه، لا ينبغي أن يحلف على البتِ أن صاحبه ما اشترى قبله، ولكن يحلف أنه
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل، (ت 2)، (ي): وأبان.
(3) المختصر: 3/ 57.

(7/412)


ما اشترى بعده، لتتعلق يمينه برد الدعوى على هذه القضية، فإن نَفْيَ فعل الغير بيمين باتَّة لا وجه له في صيغ الأيْمان. فإذا حلف على هذا، انتجزت الخصومة وينتصب المدعى عليه مدعياً، فيدعي أنه اشترى نصيبه قبل نصيب صاحبه، والقول قول صاحبه مع يمينه، فإن حلف صاحبه، كما حلف هو، أقررنا الدار بينهما، ونفينا الشفعة، وكلٌّ على ما اشتراه.
وإن نكل الأول لما حلّفناه، حلف صاحبه، واستحق الشفعة، فلو أراد المدعى عليه بعدما نكل، ورُدّت اليمين أن يدعي دعواه، صائراً إلى أن هذه خصومة أخرى، لم نمكنه من ذلك؛ فإن نصيبه قد أخذ بالشفعة، وحلف صاحبه يمين الرد، على أبلغ وجه في التصريح، فكيف نحلفه مرة أخرى على الإبهام؛ فإن يمين المدعى عليه تقع على النفي، كما تقدم، وإذا أخذ الشقصَ بالشفعة، فقد انقطعت الخصومة.
وهذا من لطيف أحكام الخصومات؛ فإن الخصومة متعددة، ثم وقع الاكتفاء بانتهاء إحداهما نهايتها، وأغنت عن الأخرى، لمّا كان متعلّق الخصومتين متحداً، كما ذكرناه.
4819 - هذا كله إذا لم يكن بينهما بيّنة. فأما إذا كان في الخصومة بينة، لم يخل إما أن يقيم أحدهما بينة، أو يقيم كل واحد منهما بينة، فإن انفرد أحدهما بالبيّنة، فشهدت على تقدم شرائه على شراء صاحبه، قضي له بالشفعة.
وإن أقاما بينتين، فقد تقومان من غير تناقضٍ، فلا فائدة فيهما، وهو أن تشهد كل بينة أن هذا اشترى يوم الجمعة، ولم يتعرضا لتعيين الوقت، فلا أثر للبيّنتين؛ إذ ليس فيما جاءا به بيانٌ.
وإن شهدت كل بينةٍ أن تملك من يقيمها سابق على تملك الثاني، فهذا تناقض في المقصود، والأصح في مثل ذلك التهاترُ والتساقطُ، حتى نجعل كأنْ لا بينة، ونعود إلى فصل الخصومة بينهما من غير بينةٍ.
وللشافعي قول في استعمال بينتين. ثم في كيفية الاستعمال أقوال: أحدها - القرعة، والثاني- الوقف، والثالث- القسمة.

(7/413)


أما القسمة، فلا معنى لها؛ فإنا لو قسمنا كل شقص بينهما، عاد كلٌّ إلى النصف، وهو [حيث يجري قول ضعيف] (1)، أما قول القرعة فجارٍ، وكذلك قول الوقف، وليس هذا وقفَ العقود، وإنما هو وقف حق التملك بالشفعة.
ونحن سنبين أن قول الوقف من أقوال الاستعمال قد لا يجريه بعض الأصحاب، إذا كان المدعى المتنازع بين الخصمين عقداً، بناء على أن العقود لا تحتمل الوقف.
وهذا فيه نظر.
ومما يطرأ علينا في تأليف الكلام اتصال أطرافه بأصول عظيمة، ومبنى الكتاب على طلب البيان، وهو غير ممكن في أطراف أصول (2)، لم يجر لها ذكرٌ. فالوجه في مثل هذا الاقتصارُ على الإحالة على موضع الاستقصاء.
4820 - ولو أقاما بينتين، فنصت كل بينة على وقت واحدٍ، وتبيّن وقوع الشراء منهما في ذلك الوقت، فليس هذا من تعارض البينتين، إنما يتعارضان إذا تعرضت كل واحدة لمقصود مقيمها، ومقصود كل واحدٍ من المدعيين في مسألتنا التقدم، وليس في البينة تعرض لذلك، فلا تهاتر (3)، ولا تعارض، وإنما دقيقة الفصل في قبول البينتين، فقد (4) قال الأكثرون: نقبلهما، وتسقط الشفعة من الجانبين؛ فإنه ثبت وقوع الملكين معاً، وإذا كان كذلك، فلا شفعة لواحد منهما.
ومن أصحابنا من قال: لم تقم بينة على وفق مراد مقيمها، فسقطت البينتان، وعاد الأمر إلى الخصومة من غير بيّنة، كما تقدم في صدر الفصل.
ووجه ما ذكره الأكثرون أن كل بينةٍ تنص على وقتٍ ليست فائدتها مأيوساً منها، فإن الأخرى قد يتأخر تاريخها، فإذا لم يتأخر تاريخ الثانية، أفادت دَفْعاً (5)، وإن لم تُفد شُفعة.
__________
(1) في الأصل: وهو حقه يجري قول خسيس.
(2) في (ت 2)، (ي)، (هـ 3): " فصول ".
(3) (ت 2)، (ي): تهافت.
(4) (ت 2)، (ي): وقد.
(5) (ي): وقفاً.

(7/414)


4821 - ثم ذكر المزني ما لو أقر البائع، وأنكر المشتري، وأخذ يفصل حكمَ الشفعة، وهذا مما مضى على الاستقصاء، فلا معنى لإعادته.
ثم قال: إذا كان في الشقص ثلاثة من الشفعاء، فشهد اثنان منهم أن الثالث عفا عن الشفعة، فإن عفَوَا عن الشفعة أوّلاً، وأظهرا عفوهما، ثم شهدا، قُبلت شهادتهما، وإن لم يقدما العفو، وشهدا على عفو الثالث، ردت شهادتهما؛ فإنّ مقتضى عفوِ الثالث لو ثبت، أن يأخذ نصيبه هذان اللذان شهدا، فهذه شهادة تضمنت جرّاً (1) صريحاً.
ولو شهدا قبل العفو، ثم رددنا شهادتهما، فعفَوَا، فالشهادة المردودة لا تنقلبُ مقبولة، بطريان العفو. ولو أعادا تلك الشهادة بعد العفو، لم نقبلها؛ فإنا قد رددناها للتهمة، فلا نقبلها بوجهٍ. وقد مضى هذا في نظائرَ له فيما تقدم.
وممَّا ذكره المزني أنه إذا رأى شقصاً في يد إنسان، فقال: قد اشتريتَه من شريكي الغائب، وأقام عليه بيّنة. قال: يثبت حق الشفعة، وأبو حنيفة (2) يقول بهذا، وإن منع القضاء على الغائب.
وذكر فصولاً تقدمت على الاستقصاء.
فصل
قال المزني: "ولو شجه مُوضحة عمداً ... إلى آخره" (3).
4822 - إذا شج رجل رجلاً شجة، لم يخل: إما أن تكون موجبةً للقود، وإما ألا تكون مُوجبة له، فإن كان لا توجب القود، وإنما توجب المال، فوقعت مصالحةٌ عن موجَب الشجة على شقصٍ، في مثله الشفعة، نظرنا في أرش الشجة، فإن كان أرشها من أحد النقدين والمقدار بيّنٌ، لا شك فيه، فالمصالحة صحيحة، وإذا صحت المصالحة، ترتب عليها استحقاق الشفعة، فيأخذ الشفيع الشقص بأرش الشجة.
__________
(1) (ت 2): جزاء، (ي): بإهمال الأول والثاني معاً.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 251 مسألة 1973.
(3) ر. المختصر: 3/ 59.

(7/415)


وإن كان أرش الشجة من الإبل، فجرت المصالحة على شقصٍ، فإن لم يكن المتصالحان عالمين بما يعتبر في أرش تلك الجناية، في أسنان الإبل وصفاتها المرعية، في التغليظ والتخفيف، فالصلح باطلٌ.
وإن كانا عالمين بما يقتضيه الشرع من السن والصفة والمقدار، ففي صحة الصلح وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يصح؛ لأن المذكور في أروش الجناياتِ، وفي الديات الأسنانُ وطرف من رعاية نوع الإبل في كل قبيلة، ولا يقع الاكتفاء بهذا في إعلام الأعواض.
والثاني - يصح الصلح؛ فإن ما اقتضاه الشرع إعلامٌ على الجملة، وليس الأرش في حكم المصالحة واجبَ الاستيفاء، بل الغرض سقوطه إلى البدل المذكور على الإعلام المشروط، وقد تكرر هذا في مواضع.
فإن حكمنا بفساد الصلح، فلا شفعة، وإن حكمنا بصحة الصلح، ففي ثبوت الشفعة وجهان: أحدهما - أن الشفعة تثبت بناءً على صحة الصلح. والثاني - لا تثبت؛ فإن الأرش ساقط في الصلح مستوفىً من الشفيع، واستيفاء المجهول عسر، وقد ذكرنا أن الشفعة لا تثبت مع جهالة العوض في ظاهر المذهب؛ فإن أسقطنا الشفعة، فلا كلام، وأن أثبتناها، أخذ الشفيع الشقص بقيمة الإبل الثابتة أرشاً، ثم السبيل في قيمتها النزول على قيمة ما يجزىء في الدية، وليس يخفى على الفقيه ما يجزىء في الدية. وإلى هذه القيمة نصير عند إعواز الإبل.
فإن قيل: أليس ذكرتم قولاً أن البدل عند إعواز الإبل [مقدّر] (1) شرعاً، فهلا رجعتم إليه في حق الشفيع؟ قلنا: تقديرات الشرع في الديات، لا تتبع في أحكام المعاوضات، فليس إلا ما ذكرناه في اعتبار القيمة.
4823 - وكل هذا إذا كانت الشجة أو غيرها من الجناية موجبة للمال، فأما إذا كانت موجبةً للقصاص، وأرش مثلها من الإبل إذا لم يثبت القصاص، فإذا جرت مصالحة، تفرع ذلك على القولين في موجب العمد: فإن قلنا: موجبه المال أو
__________
(1) في الأصل، (ت 2)، (هـ 3): يتقدر.

(7/416)


القود، ففي صحة المصالحة الوجهان المذكوران في الجناية المالية؛ فإن الصلح بمحض المال، فيقع الصلح عن المال. ثم يعود الترتيب بسبب جهالة الإبل.
فأما إذا قلنا: موجب العمد القودُ (1) المحض، فعلى هذا القول قولان في أن مطلق العفو (2) هل يتضمن ثبوت المال، فإن قلنا: مطلَقه، يثبت المال، فالمصالحة تقع عن المال، ويخرج الوجهان كما تقدم. وإن قلنا: مطلق العفو لا يتضمن المالَ، فقد ذكر أصحابنا طريقين: منهم من قال: يقطع بصحة الصلح؛ فإن عوض الصلح القصاص، وهو معلوم، ومنهم من خرّج صحة الصلح على الوجهين، واحتج بفقةٍ لا يدفع، وهو أن الصلح على مالٍ عفوٌ عن القصاص على مال، [فلئن كان يظن ظان أن العفو المطلق لا يوجب المال، فالصلح على مالٍ عفوٌ على مال] (3).
ويلزم في ترتيب المذهب ردُّ الأمر إلى الخلاف في صحة الصلح وفساده.
وهذا ينشأ عندي من أصلٍ، وهو أنا إذا قلنا: موجَب العمد القودُ المحضُ، فلو صالح عن القتل على مائتين من الإبل، فقد اختلف الأصحاب في صحة المصالحة، وحقيقة الاختلاف راجع إلى أن هذا بدلُ القصاص أو بدلُ المال الذي يتضمنه سقوطُ القصاص؟ فإن قلنا: إنه بدلُ القصاص، صح بالغاً ما بلغ، وإن قلنا: إنه بدلُ المال، فمقابلة مائةٍ من الإبل بمائتين مع التساوي في الصفة محالٌ.
فنقول: إن جعلنا القصاص بدلاً، فالوجه القطع بصحة المصالحة، وإن جعلنا البدل ما يتضمنه سقوط القصاص، فالصلح واقع على الأرش، فيخرّج على الخلاف.
وإن قلنا: موجب العمد أحدهما، فلا خلاف أن المرعي معنى المال، ثم وإن قطعنا بصحة الصلح، ففي الشفعة خلاف؛ من جهة أن الشفيع يأخذ الشقص، بالأرش لا محالة، وفي الأرش من الجهالة ما قدمناه.
__________
(1) من هنا بدأ خرم في نسخة (ت 2) مقداره ورقة واحدة.
(2) (ي)، (هـ 3): العقد.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل، ومن (هـ 3). والمثبت من (ي) أما (ت 2) فالورقة كلها مخرومة.

(7/417)


[فصل] (1)
ثم قال المزني: "لو اشترى ذمي من ذمي شقصاً بخمرٍ ... إلى آخره" (2).
4824 - الشقص المشترى بالخمر لا يؤخذ بالشفعة؛ فإن الشراء فاسد، ولو فرض دوران العقد بين ذميين، وكان طالب الشفعة مسلماً، فلا شفعة له، ولو كان الطالب ذمياً، وارتفع إلى مجلسنا، ورضي بحكمنا، فلا نحكم له بالشفعة، بل نقضي بسقوطها؛ فإنا لا نحكم إلا بما يوافق الدين. وإن تبايعوا فيما بين أظهرهم، أعرضنا عنهم، وذلك متاركةً، وليس حكماً بتصحيح العقد، ولو جاءنا الذمي بدراهم ليوفيها في جزية أو معاملة جرت له، وذكر أن تيك الدراهم أخذها من ثمن خمرٍ أو خنزير، وربما يتحقق ذلك، ففي جواز أخذ تلك الدراهم (3) منه وجهان مشهوران: أحدهما - لا نأخذها؛ لأنها ثمن خمر، والثاني لا نبالي بما كان منه، وإنما ننظر إلى الدراهم الحاصلة في أيديهم.
وسيأتي جوامع أحكامهم في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل.
4825 - ثم قال المزني: "ولا فرق بين المسلم والذمي" أراد بذلك أن المسلم كالذمي في استحقاق الشفعة، إذا استجمع أوصافها، وفي استحقاق الشفعة عليه، وقصد بهذا، قَطْع الوهم، حتى لا يظن ظان أن استحقاق الشفعة يختص به المسلم؛ من حيث إنه ملك قهري، والذمي لا يكون من أهل ذلك، فقطع هذا [الخيال] (4) وأبان التسويةَ، ثم جرى رضي الله عنه على أن ما لا يقبل القسمة، لا تجري فيه الشفعة (5)، وقدم عليه (6) أن الشفعة لا تثبت في بيع بعض العبدِ ورام بهذا أن يبيّن أن استحقاق الشفعة لا يتعلق بكل شائع.
وقد نجزت المسائل المنصوصة في الباب، ونحن نرسم بعدها مسائل وفروعاً.
__________
(1) عنوان [فصل] سقط من الأصل، وهو في (ي)، (هـ 3)، أما (ت 2) فيقع ضمن الورقة الساقطة.
(2) ر. المختصر: 3/ 59.
(3) هنا انتهى الخرم الموجود في (ت 2).
(4) في الأصل: الخيار.
(5) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): لا تثبت الشفعة في بيع بعضه.
(6) عليه: أي على التقدير الذي نقدر. وأسقطت (ت 2) كلمة (عليه) ولعله أوفق.

(7/418)


فرع:
4826 - إذا باع المريض في مرض موته شقصاً مشفوعاً بألفٍ (1)، وهو يساوي ألفين، والشفيع وارثُ المريض، فهذه المسألة ردد ابن سُريج فيها أجوبتَه، وحاصل ما ذكره أربعة أوجه، وزاد الأصحاب بعده وجهاًً خامساً، ونحن نذكرها على وجوهها بعد أن ننبه على الإشكال فيها.
لو أثبتنا الشفعة للوارث، لكان ذلك محاباة (2) في مرض الموت معه، ولا يُنجي من هذا المصيرُ إلى أن الوارث يتلقى الملك (3) من المشتري؛ فإنه إذا كان يتوصل إلى الأخذ قهراً، فبيع الموروث يُثبت له حقَّ التملك قطعاً، من غير أن يتعلق باختيار متوسط.
هذا وجه.
ولو لم نثبت الشفعةَ، لكان خروجاً عن قاعدة الشفعة، ومذهبنا الخاص، من أن الشفيع يترتب أمرُه على المشتري، فاضطرب الأصحاب لما نبهنا عليه.
وذكر ابن سريج أربعة أوجه نأتي بها وِلاءً: أحدها - أن الشفيع يأخذ نصف الشقص بتمام الثمن، لتنتفي المحاباة والوصيةُ للوارث. فإن أبعد مبعدٌ هذا؛ من جهة تغيير الثمن عن وضعه، قلنا: نحن نقدر أعواضاً نعتقد أن العقود (4) لا تقتضيها، ولذلك نثبت على الشفيع مهرَ مثل المنكوحة، إذا كان الشقص صداقاً، وبدَلَ الدم إذا كان الشقص عوضاًً عن المصالحة، وقيمةَ العبد المعيّن المسمى ثمناً، فليكن ما ذكرناه من هذا القبيل.
وهذا الوجه بعيدٌ؛ فإن مساقه أن نسلم للمشتري نصف الشقص من غير عوض، ولا محمل لهذا؛ فإن البيع بالمحاباة إن كان يشتمل على تبرع، فهو شائع، في العقد (5)، وليس مضمونُ العقد بيعاًً وهبة.
والوجه الثاني - في الأصل- أن الشفيع إذا أراد الشفعة، فيصح البيع في نصف
الشقص بتمام الثمن، ويبطل البيع في النصف الثاني، ثم للمشتري الخيار لتبعض
__________
(1) (ت 2): بثوب.
(2) (ت 2): مجاناً على فرض الموت معه.
(3) (ت 2): الكلام من المشتري فأما إذا كان ...
(4) (ي)، (هـ 3): أن العقود عليه لا تقتضيها.
(5) (ت 2): في النصف.

(7/419)


الصفقة عليه. فلو قال: أفسخ، وقال الشفيع: آخذ الشفعة، فأيهما أولى؟ فعلى وجهين ذكرنا نظيرهما في الرد بالعيب. ووجه هذا الوجه أن تقرير البيع على وجهه، غيرُ ممكنٍ لوصول المحاباة إلى الوارث، وتبقية شيء من المبيع موهوباً في يد المشتري بعيدٌ جداً، فلا وجه إلا التغيير الذي ذكرناه، وبناء التخيير عليه.
والوجه الثالث في أصل المسألة- أن البيع باطل، فإنا لو صححناه، لتقابل فيه أحكامٌ متضادة، لا سبيل إلى التزام شيء منها، فالوجه إبطال البيع، لتناقض مضمونه.
والوجه الرابع- أن البيع يصح، ويثبت، ولا شفعة؛ فإنا لو أثبتناها، لزم من إثباتها تصحيحُ الوصية لوارث، وإن غيرنا البيعَ عن مضمونه، كان تحكماً بما يخالف قياسَ الأصول، فأقرب الأمور قطعُ الشفعة.
هذه أجوبة ابن سريج.
والوجه الخامس بعدها- أن البيع يصح، ويأخذ الشفيع الشفعة، مع المحاباة، ولا يكون ذلك وصيةً لوارث؛ فإنه يتلقى الملكَ من المشتري، لا من البائع المحابي، فليأخذ الشقص بكماله بألفٍ.
وهذا قد يبتدره الكيّس، ويراه قياساً، ولكنه حسيكة في صدور الفقهاء، لما نبهنا عليه، من أن هذا إثباتُ محاباةٍ في حق الوارثِ، على قهرٍ، من غير أن يتعلق باختيار المتوسط في البين. وقول القائل: إنه يتلقَى من المشتري إنما يستقيم لو طلب خيارَ الشراء، وربط الأمر برضاه.
ومع هذا كلِّه أعدلُ الوجوه هذا الخامس، فليس (1) فيه خروج عن قانون إلا ما ذكرناه من وصول المحاباة إليهِ، وسبيل الجواب عنه أن المحاباة تثبت في حق المشتري ثبوتاً معقولاً، ثم ابتنى عليه أخذ الشفيع، فإن لم يكن بد من احتمال شيءٍ في هذه المسألة الحائدة، فما ذكرناهُ أقرب محتمل. والعلم عند الله.
فرع:
4827 - إذا شهد البائعُ على عفو الشفيع عن الشفعة، قال الأصحاب: إن كان ذلك قبل قبض الثمن، فلا تقبل شهادته؛ فإنه إذا لم يقبض الثمن يبقى له عُلقه في
__________
(1) في الأصل، (ي)، (هـ 3): وليس.

(7/420)


المبيع، وهو حق الرجوع عند تقدير الإفلاس.
ولو قبض الثمن، وشهد على العفو بعد ذلك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا تقبل شهادته؛ فإنه يتوقع فيه تراد ورجوع إلى العين، بسببٍ من الأسباب. والوجه الثاني- أن شهادته مقبولة؛ فإن حكم العقد إذا انتهى إلى تقابل العوضين أنه بلغ غاية المقصود، فلا تعويل بعد ذلك على تقديراتٍ من طريق التوقع، وهذا التفصيل لصاحب التقريب.
فرع:
4828 - إذا شهد شاهدان أن الشفيع أخذ الشقص بالشفعة، وكان الشقص في يد الشفيع، وشهد شاهدان أقامهما المشتري أن الشفيع عفا عن الشفعة، وأبطل حقه منها، فقد ذكر شيخي وجهين: أحدهما - أن بينة الشفيع أولى؛ لمطابقتها ظاهر اليد.
والوجه الثاني - أن بينة المشتري أولى؛ فإنها تُثبت العفوَ، ولم يعارضها في مقصودها شيء، ومعارضتها -لو قدرت- نفيٌ، ولا شهادةَ على النفي، وسبيل امتحان ذلك أن الأخَذ بظاهر الشفعة ممكن مع تقدّم (1) العفو سراً، بحيث اطلع عليهِ شاهدان.
وهذا الوجه، لا وجه غيره، وما سواه غير معتد به.
فرع:
4829 - قال صاحب التقريب: إذا كان في يد العبد المأذونِ له في التجارة شقصٌ، فبيع الشقص الثاني، فأراد المأذون أخْذَه بالشفعة، وكانت التجارة تقتضي أخْذه، فله أن يأخذه، ولا حاجة إلى إذنٍ مجدد؛ إذ يعدُّ ذلك من التجارة.
ولو عفا السيد عن الشفعة، سقطت الشفعة؛ فإن الحق في الحقيقة له، وسواءٌ كان على العبد ديون، أو لم يكن؛ فإن الشفعة تسقط بإسقاط المولى.
وإنما قلنا ذلك؛ لأن الشفعة حق اعتياض، وللسيد منع عبده من الاعتياض في المستقبل؛ إذ لو نهاه عن التصرف، لصار محجوراً عليهِ، وإن كان عليه ديون، ولو أقدم على التصرف، لاستفاد ربحاً في غالب الظن، ولكن لا نظر إلى هذا.
__________
(1) (ت 2): تقدير العفو.

(7/421)


وليس كذلك لو أراد أن يتبرَّع بشيء ممّا في يد المأذون، وقد أحاطت به الديون؛ فإنه تبرعٌ بعين مالٍ تعلقت به ديون، والشفعة ليست عينَ مالٍ، وإنما هي حيث تثبت استحقاقُ اعتياض. وقد ذكرنا أن العبد لا يستحق ذلك أبداً، لا لنفسه ولا بسبب غرمائه.
فإن قيل: أليست الشفعة موروثة كحق الرد بالعيب، ثم المولى بعد إحاطة الديون بالعبد، لو أراد الرضا بالعيب، فقد لا يكون له ذلك على الإطلاق.
قلنا: أمّا جريان الإرث في الشفعة، فلا متعلق فيه مع إجرائنا الإرث في خيار الشرط، وغيره من حقوق العقد، وأما الرد بالعيب، فقد فصلنا القول فيه في عهدة المأذون، وبالجملة إن كان عفو السيد متضمناً احتمالَ حطيطةٍ وغبينة، فعفوه مردود، إذا كان لا يبذل للغرماء مثل ما يحط. وقد مضى في مسائل المأذون.
فرع:
4830 - الشريك إذا وجد الشقص المشفوع الذي كان لشريكه في يد إنسان، فقال صاحب اليد: قد اشتريت هذا الشقص، من فلان الغائب، وسمى شريكه، فذكر صاحب التقريب فيه قولين عن ابن سريج: أحدهما - أن الشفيع يأخذ الشقص بالشفعة، بناء على إقرار صاحب اليد، ثم الغائب إذا رجع، فهو على حجته إن أنكر، وجحد.
والقول الثاني- أنه لا يأخذ الشقص من المُقر؛ فإنه أسند البيع إلى غائبٍ، ولكن القاضي يكتب إلى البلدة التي بها البائع، ويبحث عن إقراره، فإن أقر، وثبت ذلك عنده بطريق ثبوت الأقارير في مجالس القضاة، أثبت الشفعة، وإن لم يثبت، توقف، وقرر الشقص موقوفاً، إلى أن يبين الأمر.
وهذا التردد الذي ذكره ابنُ سريج خصصه بالشفعة، ولم يصر أصلاً إلى إزالة يد من يدعي الشراء، ولا يجوز أن يكون في هذا خلاف؛ فإن الأيدي نراها تتبدل، ولا نتعرض لها، ثم كما لا نتعرض لأصحاب الأيدي كذلك لا نتعرض لانتفاعهم بما في أيديهم. وهذا أصل لا نصادمه، وهو مجمع عليه، ولا هجوم على مواقع الإجماع.

(7/422)


نعم، لو اعترف صاحب اليد بالشراء، ثم أراد أن يبيع ما ادعى شراءه، ففي بيعه، وهبته، ورهنه، وتصرفاته المستدعية حقيقة ملكه التردُّدُ الذي ذكره ابن سريج.
والوجه القطع بإثبات حق الشفعة بناء على ظاهر اليد في الحال، ورفعاً للخيال الذي أبداه.
ثم فرع الأصحاب على ما ذكره ابن سريج، فقالوا: إن قلنا: يأخذ الشفيع الشقص، قهراً، فلا كلام، وإن قلنا: لا يأخذه قهراً، فلو سلم صاحب اليد إلى الشفيع طوعاً، ففيه جوابان: أحدهما - وهو الذي قطع به صاحب التقريب أنا لا نتعرض لهذا إن جرى، وإنما ثبوت التردد في فرض الطلب القهري.
والثاني- وهو الذي قطع به العراقيون أنه لا يجوز للشفيع أخذه أصلاً، على هذا القول لابن سريج، وإن طاوعه صاحب اليد، ولم يمتنع عليه.
وبالجملة إن كان لهذا القول ثبات، فلا معنى للفصل بين الطوع وبين (1) القهر، فإن المرعي حق ذلك الغائب، وهذا لا يختلف، بأن يتطابق الشفيع والمشتري، أو يتمانعا.
فرع:
4831 - قال صاحب التقريب: إذا اشترى الرجل شقصاً رآه، ولكن الشفيع لم يره، فيثبت حق الشفعة للشفيع، وإن منعنا بيعَ ما لم يره المشتري؛ فإن حق الشفعة يثبت قهراً. والحقوق القهرية لا تستدعي ما يستدعيه إنشاء العقد، كالإرث وغيره.
ثم إذا منعنا بيعَ الغائب، فالشفيع لا يأخذ الشقص حتى يراه. ولو بذل الثمن، لم يملكه؛ إذ هو مختار في التملك، وإنّما حظ القهر في أصل حق الشفعة، فقد ثبت حق الشفعة لما قدمناه، ولكن لا يجري الملك إلا على شرط العقد الذي ينشأ، وليس للمشتري أن يمنعه من الرؤية؛ فإنه قد ثبت له حق الشفعة.
__________
(1) هكذا بتكرير (بين) مع الاسم الظاهر، مع أن المشهور أنها لا تكرر إلا مع الضمير. ولكن هذا ما جرى عليه إمام الحرمين، والتزمه -تقريباً- وقد نبهنا إلى ذلك من قبل، وذكرنا أن له وجهاً في الصحة، ونعيد هذا هنا من باب التذكرة.

(7/423)


هذا إذا قلنا: لا يصح بيع الغائب.
فأما إذا قلنا: يصح بيع الغائب، فإنه يملك الشقص ببذل الثمن، ثم يكون على خيار الرؤية، على هذا القول، أم كيف السبيل؟ خرّج أصحابنا هذا على الخلاف المقدم في خيار المكان، وهذا غير سديدٍ، والوجه القطع بثبوت خيار الرؤية للشفيع، إذا ملكناه قبل الرؤية؛ فإن المانع من إثبات خيار المجلس له عند بعض الأصحاب بُعْدُ ثبوتِ خيار المجلس من أحد الجانبين دون الثاني. وهذا المعنى غير مرعي في خيار الرؤية.
ويجوز أن يقال: يملك الشفيع الشقص قبل الرؤية، وإن منعنا بيع الغائب، حتى نقول: إذا بذل الثمنَ، ملك، قولاً واحداً؛ فإن ملكه يستند إلى قهرٍ، وليس فيه عقدٌ منشأ. وهذا يقرب من الخلاف في أن بيع الشفيع بعد بذل الثمن للشقص القائم في يد المشتري هل ينفذ أم يمتنع ذلك، امتناعَ بيع المبيع قبل القبض؟ وفي هذا اختلافٌ قدمناه.
ثم ذكر صاحب التقريب أن المشتري لو قال: لا أمكنك من قبض المبيع من غير رؤيةٍ، وإن جاز بيع الغائب؛ فإنك لو قبضته كنتَ على خيار الرؤية، ولم أكن واثقاً بالثمن الذي تبذله. قال: إنه يجاب إلى هذا، ويسوغ له أن يمتنع من إقباض الشفيع حتى يراه.
هكذا قال، وفيه احتمال ظاهر.
ولو فرض في الشقص عيب وكان المشتري يمنع من تسليمه حتى يطّلع الشفيع عليه، فلا معنى لهذا؛ فإن ذكر العيب كافٍ في ذلك، ولا يسد مسدَّ الرؤية المرعيّة ذكرٌ وإعلام.
فرع:
4832 - إذا ثبتت الشفعة للشفيع، وعلم به، ثم إنه باع الشقص الذي به استحق الشفعة، قبل أن يستقر ملكه في الشقص المشفوع، فلا شك أن حقه يبطل من الشفعة.
وهذا يحسن تصويره على قولنا: ليس حق الشفعة على الفور، وهذا يناظر ما لو

(7/424)


علمت الأمة بأنها عَتَقت تحت زوجها القِنّ، وعلمت ثبوتَ الخيار لها، وقلنا: إن حقها في الفسخ على التراخي، فأخرت حتى عَتَق الزوج، فلا خيار لها.
ولو باع الشفيع الشقص ولم يشعر بثبوت الشفعة، ثم علم أن الشفعةَ كانت ثابتةً وقت بيعه ملكَه، ففي ثبوت الشفعة قولان مشهوران.
وحيث قلنا: تبطل الشفعة لو باع جميع الشقص، فلو باع بعضه، فكيف حكمه؟ ذكر الشيخ أبو علي والعراقيون وجهين: أحدهما - أن الشفعة تبطل، وتكون كما لو عفا عن بعض الشفعة، وظاهر المذهب البطلان في الجميع لو فعل ذلك، فبيع البعض إذاً بمثابة العفو عن بعض الشفعة عند هذا القائل.
والثاني- لا تبطل شفعته أصلاً؛ فإنه قد بقي من ملكه القدرُ الذي لو لم يملك في الابتداء غيرَه [لاستحق] (1) الشقص بكمالهِ.
فرع:
4833 - إذا وهب لعبده شقصاً من دارٍ، وقلنا: إن [العبد] (2) يملك بالتمليك، فإذا باع الشقص الثاني، قال شيخي: تثبت الشفعة على الجملة. وهذا فيه احتمال ظاهر؛ من قبل أن ملك العبد ضعيف، والشفعة لا تستحق بالملك الضعيف عند كثيرٍ من أصحابنا. ثم قال رضي الله عنه: إذا ثبتت الشفعة هل يحتاج العبد في أخذ الشفعة إلى إذن جديدٍ من جهة السيد؟ فعلى وجهين حكاهما: أحدهما - لا بد من إذن، وهو القياس؛ فإن العبد، وإن قلنا: إنه يملك، فإنه لا يستبد بالتصرف، فيما ملّكه مولاه.
فرع:
4834 - قال شيخي رضي الله عنه: إذا شهد سيد المكاتب على شقصٍ فيه شفعة لمكاتَبه، تُقبل شهادته.
وهذا أراه هفوةً غيرَ معتد بها؛ فإن شهادة السيد لمكاتَبه لا تُقبل. ولكن لعله أراد إذا ادعى المشتري الشراء، فجُحد، فأقام سيدَ المكاتب شاهداً، والغرض إثبات
__________
(1) في جميع النسخ الأربع (لا يستحق). وهو تصحيف عجيب، لا يستقيم مع السياق، والسباق.
(2) في الأصل: العقد.

(7/425)


الشراء، وليس الشراء في المرتبة الأولى حق المكاتب، ففي ثبوت الشراء على هذا الوجه احتمال. ثم إن أثبتناه، لم يمتنع ترتب الشفعة عليه تبعاًً، ولا ينبغي أن يشك أنه أراد رحمة الله عليهِ غيرَ هذا.
ثم إن ثبتت الشفعة على طريق التبعية، كان ذلك شبيهاً بقضائنا بعيدِ شوَّال عند بعض الأصحاب، بناء على شهادة شاهدٍ واحدٍ على هلال رمضان -إذا رأينا قبول شهادة الشاهد الواحد- ثم استكملنا بعد ذلك العدة ثلاثين، فأصل الشراء يظهر فيه قبول شهادة السيد لمن يدعي الشراء. وفيه احتمال. وإن أثبتنا (1)، فيظهر انتفاء الشفعة للمكاتب.
فأما إذا ادعى المكاتب شراءً في شقصٍ هو فيه شفيع، وغرضه إثبات الشفعة، فالسيد لا يشهد في مثل هذه الخصومة قط، وما ذكرناه في السيد والمكاتب، يجري في الوالد والولد، على الترتيب الذي طردناه.
فرع:
4835 - المقارض إذا اشترى شقصاً بمال القراض، ولم يظهر بعدُ في المال ربحٌ، ولرب المال شقصٌ في تلك الدار، ليس من مال القراض. قال ابن سريج فيما نقله القفال عنه: لرب المال أخذ الشقص بالشفعة، قال القفال: هذا غلط؛ فإن الملك في المشترى لرب المال، وإذا وقع الشقص ملكاًً، فيستحيل، أن يأخذه بالشفعة لنفسه عن نفسه.
وهذا لم أره محكياً عن ابن سريج في التقريب وغيره من مبسوطات المذهب، وإنما كان يحكيه شيخي عن شيخه. ولعل الذي حمل ابنَ سريج على ما قاله أن مال القراض مستحَق البيع؛ إذ للمقارض أن ينضَّه بالبيع، على ما سيأتي تمهيد ذلك في كتاب القراض، إن شاء الله عز وجل. فرب المال يُثبت ملكَ (2) نفسه بحق الشفعة، ويقطع حق العامل في التسلط على البيع.
وهذا يضاهي ما لو اشترى أحدُ الشركاء نصيبَ شريكه، فللذي لم يشترِ حقٌّ
__________
(1) كذا. ولعلها: أثبتناه. أي الشراء.
(2) (ت 2)، (ي)، (هـ 3): الملك لنفسه.

(7/426)


الشفعة، ثم المشتري يقول له: أنا أُثبت بشرْكي القديم الملكَ في قسطٍ مما اشتريتُه، كما تأخذ أنت قسطاً منه. وإذا كانت الشفعة تقوى على جلب ملك؛ فإنه لا يبعد أن تقوى على إثباتِ الملك وتقريره.
وهذا تكلّف. والصحيح نفي الشفعة. ثم إذا نفيناها، كان الشقص كسائر أموال القراض.
فرع:
4836 - إذا اشترى شقصاً من أرضٍ، فزرعها. وتصوير الزراعة كتصوير البناء، فإذا أراد الشفيع أخذ الشفعة، فله ذلك. قال صاحب التقريب: للشفيع تأخير الشفعة -وإن فرعنا على الفور- حتى يُحصدَ الزرع؛ فإنه لا ينتفع بالأرض مزروعة، ولا سبيل إلى قلع الزرع، فلو وفر الثمن، لكان باذلاً عوضاً في مقابلة ما لا ينتفع به.
فأمّا إذا كان بالشقص أشجار مثمرة، وكانت المسألة مصورة حيث لا يستحق الشفيع الثمار، فلو أخّر الأخذ بالشفعة إلى قطاف الثمار، فهل يبطل حقه على قولِ الفور؟ فعلى وجهين: أحدهما- لا يبطل حقه بالتأخير، كما تقدم في الأرض المزروعة. والثاني- يبطل حقه بالتأخير؛ لأن الثمار لا تحجزه من الانتفاع بخلاف الزرع، والقائل الأول يقول: صاحب الثمار يدخل البستان لتعهد الثمار، فيتبعض الانتفاع. هذا كلام صاحب التقريب.
والوجه في مسألة الزرع أن يعجِّل طلبَ الشفعة، ثم يُعذر في تأخير توفير الثمن.
هذا منقدح.
ويجوز أن يقال: يتعين تعجيل الطلب، وتوفير الثمن، وإن لم يفعل، بطل حقه.
كما فصلناه. ولا نظر إلى استئخار منفعته إذا كان يجري ملكه في رقبة الشقص.
والدليل عليه أن الشقص المشفوع لو فرض بيعه وسط الشتاء (1)، حيث لا يفرض الانتفاع به، لفوات وقت الانتفاع، فلا يسوغ تأخير طلب الشفعة إلى أوان إمكان الانتفاع؛ فإن منع مانع هذا، على طريق صاحب التقريب، كان بعيداً.
__________
(1) المؤلف متأثر ببيئة خراسان التي يعيش فيها، حيث الشتاء القارص الذي لا يمكن معه الانتفاع بالأرض المزروعة.

(7/427)


فرع:
4837 - مشتري الشقص لو أراد بيعه، نفذ منه بيعُه، لا نعرف في ذلك خلافاًً بين الأصحاب.
ثم الذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أن من اشترى شقصاً مشفوعاً وباعه، فالشفيع بالخيار إن أحب نقض بيع المشتري، وردّ الشقص إلى حكم البيع الأول، وأخذه بالثمن المسمى فيه.
هذا إذا لم يكن عفا عن حق الشفعة في العقد الأول. فإن كان عفا أو قصر، فبطل حقه، فيتجدد له حق الشفعة بسبب البيع الذي أنشأه المشتري.
هذا مذهب الجمهور.
وحكى طوائف عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: لا سبيل إلى نقض بيع المشتري؛ فإن الأخذ بالشفعة ممكن بناءً على العقد الثاني، فلا معنى لإبطال تصرف المشتري، وجعل أبو إسحاق المنعَ من نقض بيعه بمثابة المنع من نقض بنائه مجاناً (1).
وهذا مزيف غيرُ سديدٍ؛ فإن في إلزام بيعه إبطالَ حق الشفعة في العقد الأول، وقد يظهر الغرض في الأخذ بموجَب العقد الأول.
ولو وهب المشتري الشقص، وأقبض، أو وقفه وقفاً حَقُّ مثله أن يلزم، فالذي ذهب إليه الجمهور أن الشفيع له أن (2) يبطل هبته ووقفه، ليأخذ بموجب العقد الأول؛ فإن الهبة لا تُثبت حقَّ الشفعة، وكذلك الوقف (3).
وإذا فرعنا على مذهب المروزي، فقد اختلف أصحابنا على قياس مذهبه على وجهين: فمنهم من قال: تبطل الشفعة بالهبة، ولا سبيل إلى نقضها، (4 فيصير هذا النوع من التصرف، قاطعاً لحق الشفعة 4).
ومنهم من قال: للشفيع إبطال هذا النوع بخلاف البيع؛ فإن البيع ليس قطعاً
__________
(1) (ت 2): محاباة.
(2) (ت 2): أن الشفيع الآن يبطل ....
(3) المعنى: أن الموهوب له، والموقوف عليه لا تثبت له الشفعة.
(4) ما بين القوسين سقط من (ت 2)، (هـ 3).

(7/428)


للشفعة، فإذا أمكن الجمع بين تقرير التصرف وإثبات الشفعة، تعيّن [ذلك] (1).
وليس كذلك الهبة، وما في معناها.
هذه هي الطريقة المشهورة التي رتبها الأئمة، في الطرق.
وذكر الشيخ أبو علي مسلكاً غريباً عن أبي إسحاق المروزي، لم أره لغيره، وهو أنه قال: إذا باع المشتري الشقص، نفذ البيع، وبطل حق الشفعة، ولا يتجدد للشفيع أخْذ الشفعة بالعقد الثاني.
وهذا لست أدري له وجهاً قريباً، ولا بعيداً؛ فإن البيع الثاني لو لم يجر غيرُه، لكان مثبتاً للشفعة، فلا معنى لإبطال الشفعة، والذي شبب به الشيخ أبو علي في توجيه ما نقله عن المروزي أن عقد المشتري إذا وجب تنفيذه وإلزامه، وامتنع نقضه، كان مبطلاً للشفعة، ويستحيل أن يثبت الشفعةَ ما يبطلها، وهذا كما أن من تحرم بالصلاة، ثم شك في صحة النيّة، فأتى بتكبيرةٍ تامةٍ مع النية، لم تنعقد الصلاة بها؛ لأن من ضرورة العقد الحل، وما يصلح للعقد لا يصلح للحل، ولا ثبات لمثل هذا الكلام، ولا تُتلقى حقوقُ الأملاك من أحكام النيات في العبادات.
فرع:
4838 - إذا اشترى الرجل شقصاً، دونه (2) شفيعان، فقد قدمنا أن ظاهر المذهب أنه إذا عفا أحدهما، أخذ الشفيع الثاني تمامَ الشقص، فإذا تجدد العهد بهذا، قال ابن الحداد بعده: لو ادعى المشتري على الشفيعين عفوهما عن الشفعة، فإن حلفا على نفي العفو، فهما على حقهما، وإن نكلا، رددنا اليمين على المشتري.
وإن حلف أحدهما، ونكل الثاني، فلا يرد اليمين على المشتري، فإنه لا يستفيد بيمين الرد شيئاً؛ إذ لو صح عفوُ أحد الشفيعين، لأخذ الثاني تمام الشقص.
وهذا الذي ذكره لطيف حسن، وهو من لطائف أحكام الخصومات؛ فإن دعواه تعلق بشخصين، ثم يتوقف رد اليمين على نكول الثاني، والسبب فيه ما نبهنا عليه.
ولو ادعى على أحدهما العفوَ، وصاحبه غائب، فأنكر، وِنكل عن اليمين، ففي
__________
(1) زيادة من (ي) وحدها.
(2) في (ت 2)، (ي)، (هـ3): "وفيه شفيعان".

(7/429)


رد اليمين على المشتري في هذه الحالة ترددٌ للأصحاب. فمنهم من قال: لا ترد اليمين، كما لو كانا حاضرين؛ فإن الرد يتوقف على نكولهما جميعاً. وهذا هو القياس، ومنهم من قال: ترد اليمين؛ فيثبت بها عفو الحاضر، ثم لا يمتنع أن يلحق الخصومات تغاييرُ من جهاتٍ. وإنما امتنعنا من الرد بنكول أحدهما عند حضورهما للتمكن من اختصار الخصومة، والوصول إلى الغرض منها.
وإذا نكل أحدهما من اليمين، وحلّفنا الثاني، فلو أراد الحالف أن يستبد بالشقص، لم يكن له ذلك؛ فإن العفو لم يثبت من صاحبه. ولو أثبتناه، لكان ذلك قضاءً بالنكول المجرّد. نعم، بين الشفيعين خصومة، فإن لم يتخاصما، فهما مشتركان في طلب الحق، وقسمة الشقص.
وإن ادعى من حلف على الناكل العفوَ، فإنا نحلفه الآن، ونكوله مع المشتري لا يمنعه من الحلف مع الشفيع، فإن حلف، فذاك. وإن نكل، ردت اليمين على الشفيع المدعي، فإن حلف، استبد بحق الشفعة، وأخذ الشقص بتمامه.
وفي كلام ابن الحداد اختلال في اللفظ، حمله الأصحاب على الغلط في المعنى، ونحن ننقله على وجهه.
لمَّا فرض دعوى المشتري على الشفيعين، وصوَّر نكول أحدهما عن اليمين، وقال: لا يحلف المشتري، بل يحلف [الحاضر] (1) من الشفيعين، أن صاحبه عفا، ويأخذ جميع الشقص (2)، وهذا في ظاهره يدل على أنه يملك أن يحلف من غير استفتاح دعوى وابتداء خصومة مع الناكل.
هذا ظاهر الكلام، وعليه حمل الأصحاب مذهب ابنِ الحداد، ثم غلطوه، وقالوا: كيف يحلف على العفو، وهو لم يدّع على صاحبه العفو، ولا يظن بابن الحداد أنه يثبت الحلف في حق الشفيع من غير دعوى واستئنافِ خصومة، وإنما أراد بتحليف الشفيع أن يحلف في أوان التحليف، ومن ضرورة ذلك أن يدعي ما ينبغي أن
__________
(1) في الأصل، (ت 2): الحالف.
(2) جواب لمّا محذوف، ومفهوم مما تقدم: "حمله الأصحاب على الغلط".

(7/430)


يحلف عليه، ثم لا يخفى حكم ابتداء الدعوى، وعرض اليمين مرة أخرى، كما ذكرناه.
ولست أشك أن ابن الحداد لم يُرد إلا ما قاله الأصحاب، ولكنه أوجز الكلام فيما لم يكن مقصوداً له. وقدْرُ غرضه ما ذكره من أن اليمين لا ترد على المشتري إذا نكل أحدهما، ثم جرى في كلامه أن الشفيع الثاني يأخذ، فقال: نعم، جميع الشقص إذا حلف. ولم يتعرض لتفصيل القول في وقت حلفه.
فرع:
4839 - إذا مات رجل، وخلف داراً وابناً، وخلَّف من الدين مثلَ نصف قيمة الدار، فإذا بيع نصف الدار في الدَّيْن، فهل للابن أخْذ ما بيع بالملك الذي بقي في الدار؟ ترتيب المذهب فيه أن هذا يخرّج على أن الدَّيْن في التركة هل يمنع ثبوت الملك للوارث في عين التركة؟ فعلى قولين، سنذكرهما في الوصايا، إن شاء الله.
أصحهما -وهو الجديد- أن الملك يثبت للورثة، وإن كانت التركة مرتهنة بالدين. والمنصوص عليه في القديم أن الملك لا يثبت للورثة في جزءٍ من التركة، مع بقاء جزءٍ من الدين.
فإن قلنا: التركة ملك الورثة، فإذا بيع بعض الدار في الدين، فلا شفعة للابن الوارث. فإن الذي بيع من الدار كان ملكَه، ومَن بِيع جزءٌ من ملكه بحقٍّ، لم يملك استرجاعه بالشفعة. وإنما وضْعُ الشفعة على جلبِ ملك الغير.
وإن حكمنا بأن التركة ليست مملوكة للورثة مع الدين، وإنما هي مبقاة على ملك الميت، فالبيع يصادف ملك الميت. فهل تثبت الشفعة للوارث؟ هذا يترتب على أمرٍ، وهو أن الدين إذا كان ألفاً وقيمة الدار ألفان، فنقول: الباقي على ملك الميت مقدار الدين، أم جميع التركة، من غير نظر إلى مقدار الدين؟ وهذا مما اختلف الأصحاب فيه، وله أصل سيأتي إيضاحه، إن شاء الله في التركات، من كتاب الوصايا.
فإن قلنا: لا يملك الوارث شيئاًً من التركة؛ فلا شفعة في هذه الصورة أيضاً؛ فإن النصف الذي يبقى للورثة إنما يخلص له مع نفوذ البيع في النصف المبيع، وحق الشفعة إنما يستحق بملكٍ يتقدم على البيع الذي هو محل استحقاق الشفعة.

(7/431)


وإن قلنا: يبقى (1) على ملك الميت من التركة مقدارُ الدين، ويثبت الإرث في الزائد عليه، فتثبت الشفعة للابن الوارث بسبب النصف الذي بقي له.
ولو كان للابن في هذه الدار شركٌ قديم، مثل أن كان الأب يملك فيها ثلثا، وكان للابن ثلثاها، وقيمة الثلثين ألفان، والدين ألف، فإذا فرض بيعُ بعض الدار في الدين، والتفريع على الجديد، فلا شفعة للوارث، فإن الذي بيع كان ملكاً للوارث على الجديد. وإن فرعنا على القديم، فيثبت حق الشفعة للابن بملكه القديم، من غير حاجة إلى تفصيل.
هذا هو المذهب.
وفي نقل الأصحاب كلامَ ابن الحداد خبطٌ وتخليط، لم أوثر ذكرَه؛ فإن الحق الذي لا محيد عنه ما ذكرناه، فما وافق ما قدمناه، فهو سديد، وما خالفه، فهو غلط غيرُ معتدٍّ به.
فرع:
4840 - الوصي إذا باع شقصاً من دارٍ للطفل، وراعى شرطَ الغبطة، والمصلحةِ في بيع العقار، كما قدمناه في كتاب البيع. وكان للوصي شِرْكٌ في تلك الدار، فلو أراد أخْذَ ما باعه من ملك الطفل بحق الشفعة، قال الشيخ أبو علي: ليس للوصي ذلك. بإجماع الأصحاب، والسبب فيه أنه قد يتهم، فيقال: إنما باع ليأخذ، وهذا الباب محسوم، سواءٌ وافق الغبطة الظاهرة، أو لم يوافقها.
وإنما منعنا الوصي من بيع مال الطفل من نفسه، وتولِّي طرفي العقد؛ لأنه ليس متعلقاً بما يدل على الشفقة التامة، وتولي طرفي العقد يُشعر بالتهمة، فالمعنى الذي لأجله امتنع عليه بيعُ مال الطفل من نفسه، امتنع عليه أخذ ما يبيعه بالشفعة.
والأب لما تولى طرفي العقد، وملك أن يبيع مال الطفل من نفسه، فلا جرم لو باع الشقص من مال الطفل، وله شركٌ قديم، فله أخذه بالشفعة.
هذا ما حكاه الشيخ أبو علي. وقال: لو اشترى للطفل شقصاً من دارٍ، وكان له شرك قديم فيها، فله أخذ ما اشتراه بالشفعة، فإن هذا لا تهمة فيه؛ إذ هو المشتري
__________
(1) (ت 2)، (ي)، (هـ3): يقرّ.

(7/432)


له، وهو الآخذ، وكان يمكنه أن يشتري لنفسه، وكان لا يتمكن من بيع مال الطفل من نفسه.
وفي القلب شيء من إثبات الشفعة للوصيِّ في المسألة الأولى إذا تحققت الغبطة للطفل. وليس يكاد يخفى وجه الغبطة على أهل البصائر وامتناع تولّي طرفي العقد ليس مما يعلل.
وممَّا نقطع به أنه ليس معللاً في حق الأب بالشفقة فإن الوصي إذا نزل منزلة الأب في بيع أموال الطفل، فلا يبقى بعد ذلك مضطرب.
4841 - ومما ذكره الشيخ أبو علي أن الرجل إذا وكل شريكه حتى باع شقصه من الدار، فهل لهذا الوكيل إذا نفذ البيع أن يأخذ بالشفعة ما باعه؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - ليس له أن يأخذه، كما ليس للوصي أخذ ما باعه من مال اليتيم.
والوجه الثاني- أن له أن يأخذه بملكه القديم؛ لأن الوصي هو الناظر في حق الطفل، ولا استقلال للطفل، فكان الوصي متهماً فيما يأخذه. والوكيل ليس ناظراً للموكل، وإنما يمتثل أمره، والموكل ينظر لنفسه، فلا موقع للتهمة هاهنا.
فرع:
4842 - إذا ارتد أحد شركاء الدار، وقلنا الرّدّة تزيل ملكه حقيقة، ثم باع شريكه حصة نفسه في زمان ردته، فلا شفعة للمرتد؛ إذ لا ملك له، فلو عاد مسلماً، فلا شفعة له، وإن عاد ملكه؛ فإنه لم يكن له عند البيع ملك.
وبمثله لو ثبتت الشفعة للشريك أولاً، ثم ارتد، وقلنا: زال ملكه، فلو عاد هل تعود شفعته؟ قال الشيخ أبو علي: المسألة محتملة، والظاهر أن لا شفعة؛ فإنه لا يُعذر فيما جرى منه، من سبب زوال الملك. فالوجه انقطاع شفعته.
ووجه الاحتمال أنه لم يعتمد إزالة ملك نفسه، وإنما جرت عليهِ شقوتُه، فارتد.
وليس كالذي يزيل ملك نفسه بعد ثبوت الشفعة قصداً. والعلم عند الله تعالى.
فرع:
4843 - لا يجوز أخذ العوض عن حق الشفعة في ظاهر المذهب. وقال الشيخ أبو إسحاق المروزي ثلاث مسائل أخالف فيها أصحابي: المصالحة عن حق

(7/433)


الشفعة، وحدُّ القذف، ومقاعد الأسواق، منع أصحابي أخذَ العوض عن هذه الأشياء، وأنا أجوّز أخذ العوض عنها.
فإذا فرعنا على ظاهر المذهب وقلنا: لا يحل أخذ العوض عن حق الشفعة، فلو أخذه، ثم تبين لهْ، واستُرِدَّ العوض، وكان أخذه على ظن أنه يحل، فهل يبطل حقه من الشفعة؟ أم هو على حقه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، وليس يخفى نظائرهما وتوجيههما.
فرع:
4844 - [إذا جاء] (1) الشفيع على قول الفور، وقال: لقد اشتريتَه رخيصاً، وأنا أطلب الشفعة، قال الأصحاب: يجب أن تبطل الشفعة على قول الفور؛ لأن الذي جاء به فصول (2)، وهذا متجه. ولو قال: بكم اشتريتَ؟ قال الأصحاب: بطل حقه؛ لأنه لم يبادر الطلب.
قال القاضي: الذي عندي أنه لا يبطل حقه بالبحث عن مقدار الثمن؛ لأن الجهل به يمنعه من الأخذ، والبحث عن المقدار إزالة للجهل المانع من الأخذ. وقد ذكرت هذا التردد فيما تقدم، وإنما أعدته لمصير القاضي إليه.
فصل
4845 - يجمع مسالك تُعسِّر الشفعةَ على الشفيع، وقد ذكر الأصحاب منها جملاً: أحدها - أن يبيع الشقصَ بأضعاف ثمنه دنانير مثلاً، ثم يأخذ عَرْضاً قيمته مثل ثمن الشقص، أو أقل عن الثمن المسمى، فلا يرغب الشفيع في الشفعة؛ لأنه لو رغب فيها، لأخذ الشقص بالثمن المسمى أوّلاً. وهذا وإن كان يعسّر الشفعة، ففيه تغرير؛ لأن البائع إذا التزم له المشتري الثمن ربما لا يرضى بالعَرْض الذي قيمته دون ذلك المبلغ.
__________
(1) عبارة الأصل: الشفيع -على قول الفور- إذا قال.
(2) في (ت 2): " فضول ". والمعنى أن ما جاء به من العبارة يشهد بأنه تراخى في طلب الشفعة، حيث فصل بين العلم بالبيع والطلب بالسؤال والاستفصال عن السعر.

(7/434)


ومن الحيل أن يقع بيع الشقص بأضعاف الثمن، ثم يحط البائع بعد لزوم العقد عن المشتري ما يزيد على ثمن المثل، فالشفيع لو أخذ بالثمن الأول؛ فإن الحط لا يلحق الشفيع. وفيه أيضاً تغرير؛ فإن المشتري إذا التزم للبائع الثمن العظيم، فربما لا يحط البائع بعد اللزوم.
ومن هذا القبيل أن يشتري عرْضاً قيمته مائة بمائتين، ثم يعطيه عن المائتين الشقص الذي قيمته مائة. وفيه غرر؛ لأنه ربما لا يرضى بالشقص بدلاً عن المائتين.
ومن الحيل أن يهب تسعة أعشار الشقص مثلاً من إنسان، ويبرم الهبة، ثم يبيع العشر بثمن الشقص، فلا يرغب الشفيع؛ لأن الموهوب لا شفعة فيه، والمبيع منه ثمنه مضعّف، ويشارك فيه المتهب، لتقدم ملكه في التسعة الأعشار، وليس يخلو هذا عن الغرر من الجانبين، مع أن الهبة مفصلة، كما سيأتي ذكرها، فمنها ما يقتضي الثواب، وهذا سهل المُدْرك، فإن تعريتها عن الثواب ممكن.
ومن أسباب التعسير اعتماد جعل الثمن مجهول المقدار، مشاراً إليه، وقد أوضحنا أن الأخذ بالشفعة مع جهالة الثمن غير ممكن، فهذا وما في معناه يتضمن تعقيد الأمر على الشفيع (1).
...
__________
(1) آخر الجزء الثاني عشر من نسخة (ت 2) ومن هنا أصبح الاعتماد على نسخ ثلاث فقط. وفي خاتمة نسخة (ت 2) ما نصه: "تم الجزء الثاني عشر من نهاية المطلب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرم وعظم. يتلوه في الجزء الثالث عشر إن شاء الله (كتاب القراض) ".

(7/435)