نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب المساقاة
4986 - المساقاة: أن يعامل مالكُ النخيل والكروم من يحسن العملَ فيها، ليقوم بسقيها، وتعهدها، ويشترط للعامل جزاء معلوماً مما يخرج من الثمر.
وهذه المعاملة جائزة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1)، ومعتمد الشافعي في جوازها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر، واقتسم بساتينها بين الغانمين وأجلى أهلَ خيبر عنها، فجاؤوا مستأمنين، فقالوا: نحن أعرف بالنخيل منكم، فأعطونا، نكفكم، فساقاهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على شَطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، وقال: " أقرّكم ما أقرّكم الله تعالى " (2) وإنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأن اليهود كانت لا ترى النسخ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أساس المعاملة على تجويزه، وأنبأهم أنه إن نُسخ، حَكَم بغير حكم المعاملة، ومثل هذا الشرط جائزٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن الشرع كان عرضة [التغايير] (3) في زمنه، ومثل هذا التردد لا يسوغ منا. ثم لما أدركت الثمار، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة إليهم خارصاً، فلما نَذِرُوا (4) بقدومه، استقبلوه بحلي نسائهم، وأرادوا أن يخدعوه، فقال رضي الله عنه: هذا سحتٌ في ديننا، فلما أيسوا من هذه الجهة، أرادوا أن يستدرجوه بالكلام، فقالوا: أنت ابنُ أختنا، وإنما قالوا ذلك، لأن أمه كانت خيبرية، وقالوا: أنتَ أحب من قدم إلينا من هذه الجهة، فقال
__________
(1) المساقاة ومثلها المزارعة، لا يجيزها أبو حنيفة، وزفر، وأجازها أبو يوسف، ومحمد بن الحسن. ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 181 وما بعدها، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 21 - مسألة: 1685 - وما بعدها.
(2) حديث مساقاة أهل خيبر، متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر، رواه البخاري: المزارعة، باب المزارعة بالشرط ونحوه، ح 2328، ومسلم: المساقاة والمزارعة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، ح 1551، وانظر التلخيص: 3/ 130 ح 1307، 1308.
(3) في الأصل: المغايير، وفي (ي) الغايير. والمثبت من (هـ 3).
(4) نذروا: علموا، وزناً ومعنى. (المعجم).

(8/5)


رضي الله عنه: أما أنا فقد قدمت من عند رجلٍ هو أحب إليَّ من نفسي التي بين جنبي، على قومٍ هم أبغض إليَّ من القردة والخنازير، فقالوا: إذاً لا يمكنك أن تعدل بيننا، فقال: أما حبي إياه لا (1) يحملني على الميل إليه، وبُغضي إياكم لا يحملني على الحيف عليكم، فخرص عليهم مائة ألف وَسق، فقالوا: أجحفت بنا يا بن رواحة، فقال: إن شئتم، فلكم، وإن شئتم فلي، معناه: إن شئتم سلمتُ الجميع إليكم، وتضمنون نصيب المساكين، وإن شئتم سلمتم الجميع إليّ، وأضمن لكم نصيبكم، فقالوا: هذا هو العدل الذي قامت به السموات والأرض. قيل: لما رفعت تلك الثمار، لم ينتقص مما كان قال بعشرة أوسق.
ولأصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه أسئلة وعنها أجوبة مذكورة في الخلاف.
4987 - وأول ما نرى تصديرَ الكتاب به ذكر أربعة عقودٍ متقاربة في الصور مختلفةٍ في الحكم، يصح من جملتها عقدان ويفسد عقدان: وهي المقارضة، والمساقاة، والمزارعة، والمخابرة، أما القراض، فقد وضح القول فيه، والمساقاة صحيحة، وقد عبرنا عن تصويرها، وسيأتي تفصيل أركانها، إن شاء الله عز وجل.
والمزارعة، والمخابرة عقدان فاسدان. أما المزارعة فهي أن يعامل مالك الأرض رجلاً على أن يزرعها ببذرٍ لرب الأرض، وللعامل بعض ما يخرج منها، وهي استئجار الزراع ببعض يخرج من الزرع، فالمعاملة فاسدة.
والمخابرة أن يدفع الأرض إليه ليزرعها ببذر نفسه على جزء من الزرع يشرطه المالك للأرض. والعبارة عن المخابرة إنها استئجار الأرض ببعض ما يخرج منها.
قال الشافعي رضي الله عنه: لم نردّ إحدى سنتيه بالأخرى. أشار إلى أن القياسَ التسويةُ بين المساقاة والمزارعة في الجواز والمنع، ولكن السنة فرقت بينهما ووردت بتجويز المساقاة وبالمنع من المخابرة. روي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً، حتى ورد علينا رافعُ بنُ خَديج فأخبرنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها بقول رافع (2). واستدل بعض الفقهاء
__________
(1) جواب (أما) بدون الفاء.
(2) حديث رافع بن خديج في النهي عن المخابرة، رواه الشافعي (ترتيب مسند الشافعي) 2/ 136،=

(8/6)


بهذا الحديث على أن الأمر لا يلزم المأمور قبل اتصال الأمر به.
فهذا صورة هذه العقود.
4988 - ثم قال العلماء: المساقاة تنزع إلى عقود، وتشبهها في أحكام: هي شبيهة بالسَّلَم، من حيث إن العامل يلتزم العمل في الذمة، ولا تبطل بموت العامل، وتشبه بيعَ العين [الغائبة] (1)؛ إذ لا يجب فيها تسليم العوض في المجلس، بل لا سبيل إلى ذلك؛ فإن عوض العمل جزء من الثمار التي سيخلقها الله تعالى، وهي شبيهة بالإجارات؛ إذ المقصود منها العمل، وهي على الجملة معاملةٌ مستقلة بنفسها، ذاتُ خاصية، كما سيأتي شرح أحكامها، إن شاء الله تعالى.
ثم الكلام في ذكرها، وتمهيد قضاياها الجُملية يتعلق بفصول: منها في ذكر محلها، ومنها في ذكر وقتها، ومنها في ذكر أركانها في نفسها.
4989 - فأما محلها، فلا خلاف أنها تصح في النخيل والكروم، واختلف قول الشافعي في أنها هل تجري في غير النخيل والكروم من الأشجار؟ ففي المسالة قولان مشهوران: أحدهما- أنها تختص؛ فنها معاملة غيرُ مُنْقاسة، وقد ورد الشرع بها في النخيل، واتفق العلماء على أن الكروم في معنى النخيل، كما اتفقوا على أن الأَمَة في معنى العبد في قوله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِركاً له من عبد قُوّم عليه ".
والقول الثاني- أنها تصح على جميع الأشجار المثمرة؛ فإن مبنى المعاملة على مسيس الحاجة؛ إذْ مُلاك الأشجار يعجزون عن القيام بتعهد الأشجار، فأثبت الشارع هذه المعاملة، وأثبت حقَّ العامل في جزء من الثمار، حتى يحرص ويبذل المجهودَ في التعهد، والتفقّد، كما ذكرناه في عامل القراض، وهذا المعنى يعم الأشجار.
__________
=ح 447، ومعناه متفق عليه من حديث جابر: البخاري: المساقاة، باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ح 2381، ومسلم: البيوع، باب النهي عن المحاقلة ... ح 1536، الرقم الخاص 81، وأبو داود من حديث زيد بن ثابت: البيوع، باب في المخابرة، ح 3407، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 130 ح 1309، 1310.
(1) ساقطة من الأصل.

(8/7)


وقد رأى بعضُ أصحابنا [بناءَ] (1) القولين على أن الخرصَ هل يجري فيما عدا النخيل والكروم، وسنذكر الخرص وأثره في هذه المعاملة.
فإن فرعنا على قول الاختصاص، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في شجر المُقل (2) وسبب ذلك أنها شديدة الشبه بالنخيل، وثمرتها بارزة بروز العناقيد.
وإن قلنا بتصحيح المساقاة على سائر الأشجار المثمرة، فقد ذكر الشيخ أبو علي على هذا القول وجهين في شجر الخِلاف، وشجر الفرصاد (3)، أما شجر الخلاف، [فرَيْعُها] (4) أغصانُها تُقطع، ثم تُخلف، وأما شجرُ الفرصاد، فالمقصود منها الأوراق، ووجه التردد أن الأشجار المثمرة على حالٍ يقرب من النخيل والكروم.
وما لا يثمر، وإن كان يستفاد منه الأغصان والأوراق، يبعد بعداً ظاهراً.
ولا خلاف في منع المعاملة على البقول التي تبقى أصولُها في الأرض فتخلف على تردد الجزّ، وليست الجَزَّاتُ منها كأغصان الخلاف، وأوراق الفرصاد.
هذا تفصيل القول فيما يصح إيرادُ هذه المعاملةِ عليه.
4990 - فأما الكلام في الوقت الذي تُبْتدأ [فيه] (5) هذه المعاملة:
إذا جرت المساقاة قبل ظهور الثمر، صحت، وكانت مصادِفةً وقت الوفاق.
فلو خرجت الثمرةُ، ولكن لم يبدُ الصلاحُ فيها بعدُ، ففي صحة المساقاة بعد خروج الثمار قبل بدوّ الصلاح قولان: المنصوص عليه في الجديد أنها صحيحة، والمنصوص عليه في القديم أن المساقاة فاسدة.
التوجيه: من قال بالفساد، احتج بأن الثمار حدثت ملكاً لرب الأشجار، فإثبات
المعاملة يتضمن ربطَ استحقاق العامل بملكٍ [حاضر] (6) لرب الأشجار، وهذا يناقض
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) المُقل بضم الميم: حَمْلُ الدَّوْم وهو يشبه النخل. (المصباح والمعجم).
(3) (ي)، (هـ 3): التوت. وهو الفرصاد بعينه، كما سيأتي في السطر التالي.
(4) في الأصل: من نفسها (وهو تحريف عجيب).
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: خاص.

(8/8)


موضوع المعاملة؛ فإن مبناها على تعليق استحقاق العامل بما سيكون، فالثمار في الأشجار بمثابة الربح في معاملة القراض.
ومن قال بالصحة، قال (1): المقصود العمل على النخيل بما يُصلح ثمارها، وكُثْرُ العمل باقٍ إذا لم يبدُ الصلاح بعدُ، وقال الشافعي في الجديد: إذا صحت المساقاة قبل وجود الثمار، فهي بعد وجودها أَجْوَزُ، وعن الغرر أبعد.
وحقيقة القولين تؤول إلى أنا في قولٍ نشترط أن يكون حدوث الثمار على الحقَّيْن، وإنما يتحقق هذا إذا جرت المساقاة قبل حدوثها.
وفي القول الثاني لا يشترط هذا، وإنما يُنظر إلى بقاء وقت (2) العمل.
وما ذكرناه فيه إذا جرت المساقاة بعد وجود الثمار، قبل بُدوّ الصلاح، وأما إذا بدا الصلاح في الثمار، فيترتب ذلك على ما قبل بدوّ الصلاح؛ فإن منعنا المساقاة قبل بدو الصلاح، فلأن نمنعها بعد بدوّ الصلاح أولى.
وإن جوزناها قبل بدوّ الصلاح، ففي جواز إنشائها بعد [بدوّ] (3) الصلاح وجهان: أحدهما- أن المساقاة لا تصح؛ لأن معظم الأعمال على الأشجار تكون [فائتة] (4) في هذا الوقت.
ولا خلاف أن الثمار إذا دنا قطافُها، لم يجز ابتداء المساقاة.
4991 - والمعنى المعتبر في الباب أنا على القول القديم نشترط أن يكون وجود الثمار بعد لزوم المعاملة، لتوجد وتحدث على الحقّيْن. وفي القول الجديد نعتبر العمل، ثم ذكرنا مرتبتين إحداهما قبل بدو الصلاح، والأخرى بعد بدوّ الصلاح، ثم جوزنا إنشاء المساقاة قبل بدو الصلاح، لبقاء معظم العمل، وذكرنا خلافاً على القول الجديد بعد بدوّ الصلاح، لفوات معظم الأعمال، والمرعي في القول الجديد العملُ وبقاءُ مدته. ثم يُشترط أن يبقى عملٌ له أثر في الثمار، فإن بقي إلى الإرطاب وأوان
__________
(1) (ي)، (هـ 3): تمسك بأن المقصود.
(2) (ي)، (هـ 3): تفاوت العمل.
(3) في الأصل: وجود الصلاح.
(4) في الأصل: فائدته.

(8/9)


القطاف أيامٌ لكن [لو فرض] (1) عمل فيها لم تتأثر الثمار بها، فلا يصح ابتداء المساقاة، والحالة هذه.
ولا ينظر إلى انتفاع الأشجار وتأثيرها بتلك الأعمال، وإنما ينظر إلى تأثر الثمار.
فليفهم الناظر ذلك.
فإن قيل: لم تذكروا في المراتب التي نظمتموها التأبير في الثمار؟ قلنا: لا أثر للتأبير في الحكم الذي نبغيه، وإنما الأثر لبدوّ الصلاح وعدم بدوّه، وتأثيرُ التأبير في الخروج عن تبعية الأشجار في البيع المطلق.
هذا تمام البيان في الأوقات التي تُنشأ فيها المساقاة، مع ذكر الخلاف والوفاق في النفي والإثبات.
4992 - فإذا نجز ذلك، فالقول بعده في أركان المساقاة، فنقول:
المساقاة مضاهية للقراض في المقصود، والتعلق [بالمفقود] (2)، واحتمال الجهالة في العوض.
وبيان ذلك: أن القراض مقصودُه حملُ عاملٍ على الاسترباح؛ إذْ قد لا يحسنه ملاكُ الأموال ثم تعلّق القراض بالفائدة المنتظرة، كذلك مقصودُ المساقاة قيامُ من يحسن العملَ على الأشجار به؛ إذْ يغلب في النالس عدمُ الدراية بكيفية العمل على الأشجار، وجهة الاستثمار، ثم تعلق غرضُ العامل بالفائدة التي ستظهر، أو ستكمُل، كما مضى تفصيل ذلك، ثم يستحق العامل جزءاً من الثمار، وهي غيب أصلاً، وقدراً، كالأرباح في معاملة القراض. هذا وجه تشابه المعاملتين.
ثم المساقاة تمتاز عن المقارضة بأمرين متقاربين: أحدهما- أن التأقيت شرطٌ في المساقاة، كما سنفصله، ووضعُ القراض على الإطلاق، وقد يكون التأقيت مفسداً له، على التفصيل الذي مضى، هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني- أن المساقاة معاملةٌ لازمةٌ، إذا عُقدت، وتمت، لم يتخير
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: بالمعقود.

(8/10)


المالك، ولا العامل في الانفراد بالفسخ. والمقارضةُ جائزةٌ، وسبب الفرق بينهما في التأقيت والإطلاق، أن الأعمالَ المقصودةَ المؤثرةَ في الثمار مضبوطةٌ في الأوقات، يعرفها الدهاقنة (1)، وأهل الخبرة. وإذا كانت متأقتةً فتأقيتها في العقد إعلامٌ مطابق لمقصود العقد، فكان مرعيّاً.
والأمر في الأرباح على الضِّد من ذلك؛ فإنه ليس لتحصيل الأرباح وقتٌ يتخيّر (2) يُطلب إعلامه، فاقتضى ذلك الإطلاقَ في العقد.
ومن هذا المنشأ أخذنا افتراق المعاملتين في اللزوم والجواز؛ فإن القراض إذا استرسل على الزمان، فلو اتّصَف باللزوم، لكان عقداً مؤبداً، لا محيص عنه، وهذا غير محتملٍ في المعاملات، وإنما احتمله الشرع في النكاح؛ لأن مصالحه تتعلق باللزوم والدوام، ثم الشارعُ أثبت فيه حلاً (3) للملك متعلقاً بمقصود صاحب الحق، وهو الطلاق.
ولما تأقتت المساقاةُ، لاق بها الحكم باللزوم؛ فإنها إلى الانقضاء. هذا بيان وضع المساقاة.
4993 - ثم نقول بعد ذلك: المساقاة تستدعي أركاناً: منها ضربُ المدة، ثم ذكر [الإمام] (4) في مدة المساقاة اختلافاً بين الأصحاب، فقال: منهم قال: ينبغي أن تكون مدة المساقاة كمدة الإجارة، فليقع تقديرها بالسنين والأشهر والأيام، كما تقدّر مُدد الإجارات، والآجال في البياعات، وهذا القائل لا يصحح المساقاة بذكر سنة إدراك الثمار؛ فإنّ الوقت في ذلك يتفاوت، فقد يستأخر إدراكُ الثمار لبرد الهواء، وكثرة [الأنداء] (5)، وقد يتقدم إدراكها بنقيض ذلك، فالإحالة على مذة الإدراك إحالةٌ على مجهول.
__________
(1) الدهاقنة: جمع دُهقان (بالضم والكسر): القوي القادر على التصرف مع شدة خبرة. (المعجم).
(2) (ي)، (هـ 3): يتخيل ويطلب.
(3) (ي)، (هـ 3): حدّاً للمالك.
(4) في الأصل: الإتمام. (وهو من غرائب التصحيف) والإمام يعني به والدَه: أبا محمد الجويني.
(5) في الأصل: الأنواء.

(8/11)


والوجه الثاني- أنه لا يشترط في المساقاة ضربُ مدة الإجارة، ولكن لو ضُربت فيها مدة الإدراك، كفى، وذلك بأن يقول: ساقيتك لتعمل إلى صرام النخيل، وذلك أنّ الغرض من المعاملة تحصيلُ هذا المقصود، والسعيُ في تتمته (1)، وهذا يحصل بما ذكرناه. ثم هذا القائل لا يمنع تأقيت المساقاة بمدة الإجارة، ولكن يشترط ضربَ مدة يجري فيها إدراكُ الثمار لا محالة، إن لم تفسدها [الجوائح] (2).
ثم إن شرطنا الإعلامَ بالسنة والشهور، كما في الإجارة والأجل، فلا كلام، وإن صححنا هذه المعاملة بناءً على إدراك الثمار، فلو قال رب الأشجار: ساقيتك سنةً، والتفريع على أن المعاملة تكتفي بسنة الإدراك. فالسنة المطلقةُ محمولةٌ على ماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما- أنها محمولة على السنة العربية. والثاني- أنها محمولة على سنة الإدراك.
وسيكون لنا التفات على تفريع الوقت مرة أخرى، إذا خُضْنا في بيان الأعمال المطلوبة من العامل المساقَى.
هذا مقدار غرضنا الآن في ذكر المدة.
4994 - ولو اختار مالكُ الأشجار طريقَ الاستئجار على الأعمال، جاز؛ إذا كانت الأعمالُ معلومةً، ويتعين إذ ذاك [الإعلامُ] (3) بمدة الإجارة، وليكن الأجرُ من غير الثمار إذا أنشئت المعاملةُ على صيغة الإجارة وحقيقتها. ولو قال: استأجرتُك، وذكر إعلاماً في المدة يصلح للبابَيْن، ولكنه أثبت للعامل جزءاً من الثمار، فالمذهب فساد الإجارة. ومن أصحابنا من قال: لا ننظر إلى اللفظ وننظر إلى المعنى، ولا يبعد استعمال لفظ الإجارة في معاملة المساقاة. وقد قدمنا لذلك نظائر. وسنعود إلى هذا، إن شاء الله.
وقد انقضى الآن ما نطلبه في هذا الركن، وهو التعرض لإعلام المدة.
__________
(1) (ي)، (هـ 3): تنميته.
(2) في الأصل: الحوائج.
(3) الأعمال.

(8/12)


4995 - ومن أركان المعاملة ربطُها بجزءٍ من الثمار، كما ذكرناه في المقارضة، فإن وقع التوافق على غير الثمار، بأن سمى له دراهمَ معلومةً، أوْ ما في معناها، فقد خرجت المعاملةُ عن وضعها، والنظرُ بعد ذلك في استجماع ما جرى لشرائط الاستئجار.
ولو أراد عقد الإجارة بلفظ المساقاة، ففيه التردد الذي ذكرناه في عقد المساقاة بلفظ الإجارة.
فإذا تبين أن المساقاة تتعلق بجزءٍ من الثمار، فلا بدّ من إعلامٍ بالجزئية، كما قدمناه في إعلام جزئية الربح في القراض، ويفسد إعلامُ الجزئية باستثناءٍ مُقَدَّرٍ منها، كما يفسد القراض بمثل ذلك، حتى لو قال رب الأشجار: صاعٌ من الثمار لي، والباقي منها مقسوم بيننا نصفين، أو ثلثاً وثلثين، أو على ما يتفقان عليه، فهذا باطل؛ (1 فإن الثمار مغيبةٌ 1)، فربما لا يوجد أكثر من صاع، فيكون هذا بمثابة ما لو شرط أن يكون كلُّ الثمار له، وهذا ممتنع، كنظيره من القراض.
ولو شرط جملة الثمار للعامل، ولم يستبق لنفسه شيئاً، فالمعاملة فاسدةٌ أيضاً.
وتفترق المساقاة والقراض عند إضافة جملة الثمار إلى إحدى الجهتين على الوجه الذي ذكرناه في القراض.
فإن قيل: [إن] (2) كان لا يظهر في القراض غرض مالي في صرف جميع الربح إلى العامل، ويفسد القراض لأجله، فقد يقصد ربُّ الأشجار تنمية الأشجار، ويرى أن يجعل الثمار في المدة في مقابلة الأعمال المنمِّية للأشجار.
قلنا: لسنا ننكر كَوْنَ ذلك مقصوداً في مطرد العرف، ولكن الشرعَ وضع هذه المعاملةَ، واحتمل ما فيها من الجهالة لتحصيل الثمار، ولهذا تكون أعمالُ المساقَى مؤثرةً في تنمية الثمار، وليس عليه كلُّ عمل يفرض ويقدَّر في البستان، وإنما يمتاز عمله بما ذكرناه من تأثيره في الثمار، على ما سنصف ذلك من بعدُ، إن شاء الله.
وبالجملة كل معاملة تشتمل على جهالة، وقد ظهر احتمال الشرع لها، فهي
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ي)، (هـ 3).
(2) في الأصل: إنه.

(8/13)


مخصوصة بمورد الشريعة لا تتعداه. وقد نجز بيان هذا الركن.
4996 - ومما يتعلق بهذه المعاملةِ على مناظرة القراض، القولُ في انفراد العامل باليد، وامتناعِ مداخلة المالك، وهذا يأتي مستقصىً في أثناء الكتاب بما فيه من وفاقٍ وخلافٍ، و [عند] (1) ذلك نذكر ما لو شرط ربُّ الأشجار أن يعمل مع المساقَى غلامُ المالك.
4996/م- ولسنا نذكر ما يُشترط في المساقاة، وفي غيرها من المعاملات، كالإيجاب والقبول ونحوه. [وإنما] (2) نشير إلى جمل القول في خصائصها.
ومما يتعين ذكره في هذا المنتهى: أنه لو لم يذكر لفظَ المساقاة، وذكر مقصودَها، فلا بأس، مثل أن يقول: خذ هذه النخيل، واعمل فيها كذا وكذا، ولك الثلث من ثمارها، فالمعاملة تصح بهذه الصيغة، كما تصح (3) المقارضة بمثلها.
قال القاضي (4): " قد ذكرنا أن مقصود القراض إذا ذكر على هذه الصيغة، فلا حاجة إلى قبول العامل لفظاً، وليس الأمر كذلك في المساقاة؛ فإن القبول لا بد منه هاهنا؛ إذ المساقاة [معاملة] (5) لازمة، فيبعد ثبوتُها على اللزوم من غير التزام بالقبول، وليس كذلك القراض؛ فإنه من المعاملات الجائزة، فناظر التوكيلَ بالبيع، والأمرَ به ".
وهذا الذي ذكره في المساقاة صحيح، لا كلام فيه، وما قدمه في القراض، فليس هو مساعداً عليه، وقد أوضحنا في ذلك ما يُقنع ويكفي.
فهذا آخر غرضنا من عقد الجُمل في وصف المعاملة، وذكر تراجم أركانها.
4997 - والذي يليق بهذا المنتهى ذكرُ الخَرْص، وقد قدمنا في كتاب الزكاة جريانَ
__________
(1) في الأصل: وبعد.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: تصح هذه المقارضة.
(4) "قال القاضي" سقط من: (ي)، (هـ 3).
(5) ساقطة من الأصل.

(8/14)


الخرص على الملاك لحقوق المساكين، وذكرنا اختلافَ القول في أن الخرص عبرةٌ فيها، أو تضمين، وفرَّعنا على كل قول ما يليق به. ولو [رام] (1) ربُّ الأشجار أن يخرص الثمارَ على العامل، فهل للخرص أثر في ذلك؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا أثر له، وإنما وقع الحكم به في الزكاة توقيفاً، وإلا فهو تخمين، وحدسٌ، ورجمُ ظنٍّ.
ومن أصحابنا من قال: يثبت حكم الخرص هاهنا، كما يثبت في حقوق المساكين. وهذا القائل احتج بحديث عبد الله بن رواحة؛ فإنه خرص على أهل خيبر ثمار النخيل، ولا يمكن حملُ خَرصه على حقوق المساكين، فإنهم ما كانوا ملاك الثمار، والخرصُ في الزكاة على ملاك الثمار، لا على العاملين فيها.
ومن أصحابنا من قال: إنما جرى ذلك الخرص؛ لأن المعاملة كانت مع الكفار، ونحن قد نحتمل في المعاملة مع المشركين، ما لا نحتمله في المعاملة مع غيرهم.
وهذا غيرُ سديد، فإنا إنما نفرق بين المسلم وبين الكافر فيما يتعلق بالموادعة، والعهود، والمواثيق، فأما المعاملات الخاصة المتعلقة بالأموال، فلا ينبغي أن يقع فيها فرقٌ بين المسلم والمشرك.
ثم من أصحابنا من خرّج القولين في جواز المساقاة على ما عدا الكروم والنخيل من الأشجار على القولين في أن الخرص هل يجري في هذه المعاملة؟ وذلك لأن الخرص لا يتأتى فيما عدا النخيل والكروم، فإن ثمار النخيل والكروم عناقيدُ متدلّيةٌ بارزةٌ للناظرين، فيتأتى خرصُها، وما عداها من الثمار مستترٌ بالأوراق فيعسرُ الاطلاع عليها. وهذا البناءُ فيه نظر، لأنا وإن أثبتنا للخرص أثراً إذا جرى، فلا يُشترط إجراؤه في هذه المعاملة على ما سنعيد ذكره، إن شاء الله عز وجل- فلا معنى لأخذ اختلاف القول في جواز المساقاة من هذا المأخذ.
__________
(1) في الأصل: أزم.

(8/15)


قال: " وإذا ساقى على نخلٍ، وكان فيه بياضٌ ... إلى آخره " (1).
4998 - قد ذكرنا فيما قدمنا فسادَ المزارعة، والمخابرة، إذا جُرّدَ القصدُ إليهما، وأُفردا، وهذا الفصلُ معقودٌ في الأراضي التي تكون في ظلّ النخيل، ويعتاد أربابُها زراعتَها، ثم سقيها مع النخيل.
فإذا كانت بحيث لا يتوصل إلى سقي النخيل إلا بسقيها؛ وإلى العمل على النخيل إلا بالعمل عليها، فيجوز على الجملة المزارعةُ عليها تبعاً للنخيل في المساقاة.
والأصل في ذلك ما روّيناه أن النبي صلى الله عليه وسلم " ساقى أهل خيبر على أن لهم نصفَ الثمر والزرع ". وهذا نص في هذا المقصود، والحاجة ماسة من طريق المعنى إلى تجويز هذه المزارعة، ولو منعناها، لتعطلت تلك الأرأضي إذا لم تزرع، وإن كان يزرعها المالك يتعطل عمل [المساقَى] (2) عليها، ويقع مجاناً؛ إذ لا يتوصل إلى العمل على النخيل إلا بالعمل عليها، وقد يجوز الشيء تبعاً، وإن كان يمتنع ثبوتُه مقصوداً متبوعاً، وهذا كالحمل في البطن يتعلق به استحقاقُ المشتري إذا أشترى الأصلَ، ولا يتأتى فرض تملكه على الابتداء، والثمرة قبل التَّأْبير تتبعُ الشجرةَ في مطلق البيع، وقد لا يجوز بيعُها وحدها، وكذلك تتبع الثمارُ الأشجارَ بعد الظهور قبل بدوّ الصلاح في أن لا يشترط القطع فيها إذا بيعت مع الأشجار، ولو بيعت وحدها قبل بُدوّ الصلاح، فلا بد من شرط القطع، ونظائرُ ذلك كثير.
فإذا تمهد هذا الأصلُ، ووضح (3) أن المزارعة إذا صححناها؛ فإنّا نصححها على طريق التبعية للنخيل، [فلو] (4) عامل المساقَى على النخيل، وعامل غيرَه على الأراضي التي في خللها، فالمزارعة على تيك الأراضي فاسدة؛ لأنها أثبتت مقصودة
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 71.
(2) في الأصل: الساقي، (ي)، (هـ 3): المساقاة. والمثبت تقدير منا؛ فهو أقرب لفظ لصورة الأصل.
(3) (ي)، (هـ3): وصحّ.
(4) في الأصل: ولو.

(8/16)


مع عامل منفرد، وفيه خبطٌ آخر؛ فإن من ينفرد بقبول المزارعة لو عمل على تلك الأراضي، لعمل على النخيل، والمساقَى لو عمل على النخيل، لعمل عليها، فلا يتأتى انفصال الأمر في ذلك.
ولو أدرج المزارعة والمساقاة تحت عبارةٍ، واتَّحد العاملُ، ولم يتفاوت المقدار المشروط من الزرع والثمرة، فهذا هو الذي يصح وفاقاً، وهو أن يقول: عاملتك على النخيل والأراضي التي في خللها على أن لك النصف من الثمر والزرع، فهذا جائز لما ذكرناه.
4999 - فلو اتحد العامل والمالك، ولكنه أفرد المزارعة على الأراضي بعقد، وأفرد المساقاة على النخيل بعقد، فحاصل ما ذكره الأصحاب في ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها- أن المزارعة فاسدة؛ لأنها أُفردت مقصودةً بالعقد وأُخرجت عن حقيقة التبعية، وهذا هو الأقيس.
والوجه الثاني- أنها تصح؛ فإن العامل إذا اتحد، ولم يؤد إلى اختلاط العمل، فالمقصود حاصل، ولا أثر للإفراد والجمع.
والوجه الثالث- وهو أعدل الوجوه- أن المساقاةَ إذا تقدمت، وثبتت المزارعةُ بعدها، فنحكم بصحتها؛ فإنها تدخل على المساقاة، وتلحقها لحوقَ التابع المتبوعَ.
فإذا تقدمت المزارعة، لم تصح؛ فإنها أُثبتت متبوعةً مقصودةً على سبيل الاستفتاح.
ويشهد لهذا أن من باع الأشجار وعليها ثمارٌ مؤبرة، فالثمار تبقى لبائع الأشجار، فلو باع الثمارَ بعد بَيعْ الأشجار من مشتري الأشجار، ففي اشتراط القطع خلاف ذكرناه في كتاب البيع. ولو باع منه الثمار أولاً، ولم يشترط القطعَ، وهي غيرُ مزهية، فلو باع الأشجار ممن اشترى تلك الثمار، فبيعُ الثمار مقر على حكم البطلان.
ثم من يرى تصحيح المزارعة وإن تقدمت، فيضطر فيها إلى تقدير (1) الوقف والتبيّن؛ فإنه لو فرض الاقتصارُ على المزارعة، فهي فاسدةٌ لا شك فيه، فكأن المساقاة بعدها تُبيِّن صحتها. وهذا فيه بُعد، ولكن أشار إليه الشيخ أبو علي.
__________
(1) (ي)، (هـ3): إلى أن يقدر هذا الوقف والتبين.

(8/17)


ولو كان لهذا الوجه صحةٌ وثبوتٌ، فلا بد من طرده في مسالة بيع الثمار إذا تقدم واستأخر عنه بيع الأشجار.
5000 - ومما نفرّعه في ذلك أنه لو قال المالك: زارعتك على هذه الأراضي بالنصف، وساقيتُك على النخيل بالنصف، وقدّم لَفْظَيْه على النسق الذي ذكرناه، على قبول العامل. ثم قال العامل: قبلتهما، فللأصحاب طريقان: منهم من ألحق ذلك بمحل الصحة وجهاً واحداً.
ومنهم من ذكر في هذه الصورة، اختلافاً، لتمييز المزارعة في الذكر عن المساقاة، ثم يُرتِّب هذا القائلُ هذا الخلافَ على ما لو أفرد كل واحد منهما بعقدٍ، وقبولٍ، على حكم التمييز.
وقد قال القاضي: " لو قال: زارعتك على هذه الأراضي، وساقيتك على النخيل بالنصف، فهذا يصح وجهاً واحدأ، وإن تعدّدت العبارة عن مقصود الأراضي والنخيل؛ إذا كان ذكرُ الجزئية بعدهما راجعةً إليهما. ومسألة التردد فيه إذا ذُكر جزئيةُ المزارعة، ثم ذُكر المساقاة وجزئيتُها، ثم ذكر القبول بعد ذلك ".
وهذا الذي ذكره صحيح، فلا يشترط في تصوير الوفاق أن نذكر عبارةً واحدةً صالحةً لهما، مثل أن يقول: عاملتك، أو ما جرى هذا المجرى.
ولو جمع بين الأراضي والنخيل في العقد واللفظ، ولكنه غاير بين الجزئين فقال: ساقيتك على هذه النخيل، وزارعتك على هذه الأراضي على أن لك من الثمر النصفَ، ومن الزرع الثلث، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم مَنْ صحح ذلك، لاتحاد العقد والعاقد، وجريان التبعية. ومنهم من لم يصحح المزارعةَ؛ لأنها ميزت على الصيغة المغايرة عن النخيل، وأفردت بقسطٍ وجزء، فكان ذلك خارماً للتبعية.
ثم لا يخفَى أن الخلاف في ذلك يترتب على الخلاف فيه إذا أُفردت المزارعة بعقدٍ تقديماً أو تأخيراً، ولا يشكل وجه الترتيب.
و [كل] (1) ما ذكرناه فيه إذا جرت المزارعة على الأرض، مع المساقاة في النخيل، واتحد العامل.
__________
(1) في الأصل: ولكن.

(8/18)


وقد قدمنا صورة المزارعة، وأوضحنا أن البذر فيها يكون من جهة مالك الأرض، والعمل من الزراع.
5001 - فلو ساقى المالك رجلاً على النخيل وخابره على الأراضي المتخللة.
والمخابرة أن يكون البذر من العامل، ويقع شرط جزء من الزرع لمالك الأرض عوضاً عن منفعة أرضه.
فلو جرت هذه المعاملة في الأراضي في ضمن المساقاة على النخيل، ففي المسألة وجهان ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما- أن المخابرة صحيحة لمعنى التبعية؛ فإنها في معنى المزارعة، وكل واحدة منهما باطلة لو أفردت.
والوجه الثاني- أن المخابرةَ فاسدة؛ لأنها لا تُضاهي المساقاة؛ من جهة أن وضع المساقاة على شرط [شيء] (1) من الثمار للعامل، والأصل أن تكون الثمار لمالك الأشجار، والمزارعة في معناها؛ فإن الغلّة تبعُ البذر، فالأصل أن تكون الغلةُ بكمالها للمزارع، فإذا شُرط جزء منها للعامل؛ فإن (2) ذلك كشرط جزء من الثمار للعامل؛ وليس كذلك المخابرة؛ فإن البذر فيها من العامل، والأصل أن تكون الغلة له.
وكل هذه المسائل تدور على التبعية، ومراعاتها.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الأراضي بحيث لا يتأتى إفرادها [بالسقي] (3) والعمل دون النخيل، وكانت مع ذلك قليلةً، لا يجرّد القصدُ إلى إفرادها.
5002 - فأما إذا كانت تلك الأراضي كثيرة، وكان يمكن إفرادُها بالعمل فيها، فلا تجوز المزارعة عليها مع النخيل، وإن احتوى عليها حائط واحد.
ولو كثرت الأراضي، ولكنها كانت لا تفرد بالعمل، ولا يتأتَّى إفرادها، ففي المسألة وجهان: أحدهما- أن المزارعة فاسدة؛ لأنها بكثرتها يمتنع تقديرها تبعاً.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (ي)، (هـ 3): كان ذلك.
(3) في الأصل: بسقي.

(8/19)


والثاني- وهو الأصح- أن المزارعة تصح؛ فإنها تابعة في العمل؛ من جهة أنه لا يتأتَّى إفرادُها بالعمل عليها.
ثم اختلف أئمتنا المعتبرون في ذلك: فمنهم من اعتبر كثرة الأراضي، وقال: إن كانت أكثر من مغارس النخيل، أو كانت مثلَها، فتقع في الخلاف، وإن كانت أقلَّ من النخيل، فالتبعية ثابتةٌ والمزارعة صحيحة، على شرط التبعية.
ومن أئمتنا من راعى الرَّيْعَ، وقال: إن كان ريْعُ النخيل أكثرَ فالأراضي تابعةٌ، وإن كان ريعُ الأراضي أكثرَ، أو كان مماثلاً، فلا تبعية.
وبالجملة كل ما ذكرناه فيه، إذا كان لا يتأتى إفراد الأراضي بالعمل فيها دون النخيل، فإن كان يتأتى ذلك، فلا وجه لتصحيح المزارعة أصلاً. هكذا ذكره الأئمة رضي الله عنهم.
فصل
قال: " ولا تجوز المساقاة إلا على جزء معلوم ... إلى آخره " (1).
5003 - الثمار في المساقاة بمثابة الربح في القراض، وعوض العامل في المعاملتين جزءٌ من الفائدة الحاصلة بأثر عمل العامل، ثم سبيل الإعلام الجزئية، وقد ذكرنا تفاصيلها في القراض.
وجُملة تلك المسائل في هذا الفن تعود هاهنا: فإذا قال المالك للعامل: لك نصف الثمار ولي نصفُها، صحَّ ذلك. ولو قال: لي نصف الثمار، وسكت عن النصف الثاني، أو قال: لك نصف الثمار، وسكت عن إضافة النصف الثاني إلى نفسه، فالخلاف في ذلك كالخلاف في نظيره من القراض.
ولو سمى للعامل في مقابلة [عمله] (2) ثمرة نخلة، أو نخلات، فالمساقاة فاسدةٌ؛ لأن تيك إن لم تُثمر، تجرّد عملُه على باقي النخيل عن مقابل، وإن أثمرت، ولم يثمر
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 72.
(2) ساقطة من الأصل.

(8/20)


غيرُها، فلا يَسْلَمُ لرب النخيل شيء، وهذه المعاملة لا يجوز أن يعدل عن موضوعها.
ولو شرط للعامل صاعاً، ثم جعل الباقي نصفين، أو شرط لنفسه صاعاً، فذلك فاسد، كنظيره من القراض. وكذلك لو شرط أن تكون الثمار نصفين، ثم إنّ أحدهما يردُّ على الآخر صاعاً، فيفسد؛ إذ قد لا يكون النصف إلا صاعاً، وهو بمثابة ما لو شرط لصاحبه صاعاً، ثم قدّر القسمة بعده.
وكل هذه الفصول متكررة، اكتفينا بالرمز إليها.
5004 - والذي يجب الاعتناء بدَرْكه: أن شرط جميع الثمار للعامل فاسدٌ مفسد للمعاملة، وكان لا يمتنع من طريق المعنى تجويز ذلك اكتفاءً من مالك الأشجار بتنميتها، وقد يقع هذا غرضاً في أوّل نماء الأشجار الحديثة، المحتاجة إلى التعهد، ولكن لا يسوغ هذا، كما لا يسوغ شرطُ تمام الربح للعامل.
ومبنى المعاملةِ على تمليك حق المالك في اقتضاء ملك الثمرة لمالك الأشجار، وصرف شيء منه إلى العامل، والغرضُ من صرف شيء إليه أن يسعى في تكثيره، بناءً على أن ما [يبقى] (1) للمالك عند عمل العامل أكثرُ من كل الثمرة لو لم يكن عمل.
هذا هو المفهوم من وضع هذه المعاملة.
وقال القاضي في أثناء هذه المسائل: " لو باع نصفاً من صُبرة، وصاعاً من النصف الآخر، لم يجز؛ لأنه لم يمحض الجزئية ".
وهذا لستُ (2) أراه كذلك؛ فإن هذا التفريع إنما يحسن إذا جوزنا بيع صاع من صُبرة مجهولة الصيعان، وفيه خلافٌ، ذكرناه؛ فإن جوزنا هذا، فبَيعُ النصف من الصُّبرة المجهولة جائزٌ؛ فيقع (3) النصفُ الثاني كصُبرة مجهولةٍ، بيع صاعٌ منها، ولا يجوز غير هذا.
__________
(1) في الأصل: بقي.
(2) (ي)، (هـ 3): لا أراه.
(3) عبارة (ي)، (هـ3): وبيع صاع من النصف الثاني كصبرة ...

(8/21)


فصل
قال: " ولو دخل في النخيل على الإجارة ... إلى آخره " (1).
5005 - هذه المعاملة تنعقد بلفظ المساقاة وهو خِصِّيصٌ بها، نصٌّ فيها، ولو لم يأت بها، وذكر المعاملةَ، صح العقدُ، ولا بدّ من القبول.
ولو قال: خذ هذه النخيل، واسقها، وتعهدها، واعمل فيها كذا وكذا، على أن ما رزق الله من الثمار، فهو بيننا نصفان، جاز هذا.
ولا بدّ من القبول باتفاق الأئمة، بخلاف نظيره في القراض؛ فانا ذكرنا فيه تردداً.
والفارق أن المساقاة لازمة، فلا بد فيها من التزام، وإنما يحصل الالتزام بالقبول، والقراض جائزٌ، فضاهى الوكالة. وقد مضى هذا.
ثم إن قال: خذ، فلا بدّ من شرحٍ للأعمال التي تستحق على العامل، على تفصيلها.
وإن قال: ساقيتك، كفى أن يذكر جزئية الثمار، ويقبل العامل، ولا حاجة إلى تفصيل الأعمال؛ فإنها بيّنة في موضوع العقد، كما سنشرحها.
ولو قال: عاملتك على هذه النخيل، ففي اشتراط تفصيل الأعمال تردد واحتمال.
ولو قال: استأجرتك لتعمل في هذه النخيل، ولك النصف من ثمارها، لم يصح ذلك أصلاً قبل بُدوّ الثمار.
5006 - فإن قيل: هلاّ صححتم المساقاة بلفظ الإجارة، والإجارةُ موضوعة لاستحقاق المنافع، وفي المساقاة استحقاق المنافع؟ قلنا: الإجارةُ صريحةٌ في بابها، وهي ممكنةٌ فيما نحن فيه، وكل لفظٍ صريحٍ استعمل في مكان إمكان استعماله، لم يجز أن يُصرف بالنية إلى غيره، كالطلاق لا يصرف إلى الظهار، والظهار لا يصرف إلى الطلاق.
فإذا كانت المساقاة لا تصح بلفظ الإجارة، والإجارةُ تستدعي عوضاً معلوماً مَوْجوداً، أو ملتزماً في الذمة. ولو استأجر إنساناً ليعمل عملاً في غير البستان،
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 72.

(8/22)


وجعل أجرته جزءاً من ثمرة البستان، فالإجارة فاسدة، لا شك في فسادها، فالاستئجار على العمل على النخيل بهذه المثابة.
هذا إذا جرت لفظة الإجارة، والثمار معدومة، فإن كانت موجودةً، فاستأجره على أعمالٍ معلومةٍ ببعضٍ من تلك الثمار، لم يخلُ إما أن يكون ذلك قبل بدوّ الصلاح، وإما أن يكون بعد بدوّ الصلاح. فإن كان قبل البدوّ، لم يصح؛ لأن بيع الثمار قبل البدوّ مشروط بشرط القطع، ولا يتأتى القطع في جزءٍ مشاعٍ. وإن فُرض استئصال الثمار بالقطع، تضمّن تقرير العقد على البعفقطعَ ما ليس معقوداً عليه (1)، وهذا فاسد غير محتمل.
وإن بدا الصلاح، فاستأجره على أعمالٍ، وجعل أجرته نصف الثمار، صحت الإجارة، ويحمل الأمر على التبقية إلى أوان الجداد.
وإن استأجره ليعمل على النخيل أعمالاً بيّنها، وأعلمها، وشرط أجرته ثمرةَ نخلة أو نخلات بعينها، فإن لم تكن الثمار خارجةً، لم تصح الإجارة، وإن خرجت، فإن كان قبل بدوّ الصلاح، جاز بشرط القطع، وإن كان بعده، جاز مطلقاً.
والأجرةُ في الإجارة حكمها حكم العوض في البيع في كل تفصيل.
فصل
قال: " وكل ما كان [فيه] (2) مستزاذٌ في الثمرة ... إلى آخره " (3).
5007 - مقصود الفصل بيان ما على العامل من الأعمال، ونحن نفصلها، ثم نعود، فنضبطها من جهة المعنى على أقصى الإمكان، إن شاء الله.
فعلى العامل السقي وتنقية الأنهار مما فيها لسَوْق الماء، وعليه كنسُ الآبار من الحمأة، وتصريفُ (4) الجريد، وتأبيرُ النخيل، وقطعُ الحشيش المضرّ، وقد تمس
__________
(1) لأنه يستحيل قطع الجزء الشائع إلا بقطع الكلّ.
(2) مزيدة من نص المختصر، حيث سقطت من النسخ الثلاث.
(3) ر. المختصر: 3/ 72.
(4) تصريف الجريد: الجريد سعف النخيل، ويسمى جريداً لأنه يجرّد من خوصه، وتصريف=

(8/23)


الحاجة إلى تقليب الأرض في المغارس، وهو عليه أيضاً، وعليه الجِدادُ، ونقلُ الثمار إلى الجرين، وتجفيفُها. فهذه الأعمال على العامل.
5008 - فأما ما يتعلق بإصلاح الحائط، وبناء الجدران، ونصب الأبواب، وشراء الدولاب، وحفرِ بئرٍ جديد، ونهرٍ، فهذه الفنون تجب على رب النخيل.
5009 - والضبط فيما على العامل، أن ما يتعلق بتنمية الثمار، ولا يتأصل عمارةً في البستان ثابتةً، فهو على العامل، وما يتعلق بالعمارات الدائمة في البستان، فليس على العامل.
وعبّر بعضُ الأصحاب، فقال: ما تكرر في كل عامٍ، ولا يبقى أثره بعد مضي السنة، فهو الذي يلتزمه العامل، وما لا يتكرر في كل عام، ويبقى أثره بعد مضي السنة وخروج العامل عن العمل، فهو في جانب رب النخيل.
ونحن نعلم أن الأعمال المنمِّيةَ للثمار تؤثر أثراً ظاهراً في الأشجار؛ إذْ لو قُطع السقي في سنةٍ، لتأثرت الأشجار تأثراً بيّناً، وكذلك إذا تُرك تصريف الجريد عن النخيل تأثرت، والنخلة تُخْلِف كلّ سنة [ضغثاً] (1) من السعف والجرائد، وتجف، ولو لم تقطع، لتضررت النخلة.
فإذا كنا نعلم ذلك، ونستيقن أن الأشجار تنتفع بأعمال العامل، فالوجه ما ذكرناه من تكرر العمل في كل سنة، فالواجب ما يؤثر في الثمرة، ويتكرر في كل سنة، ولا يثبت أثراً دائماً.
5010 - وتردد أئمتنا في القيام بحفظ النخيل، فمنهم من قال: على العامل؛ فإنه مما تتأثر به الثمار بأن لا تسرق، وليس هو أمراً دائماً، فشابه السقي.
ومن أصحابنا من قال: ليس ذلك على العامل، وهو القياس؛ فإنه ليس عملاً
__________
=الجريد أن يشذِّبه من سُلائه (شوْكه)، ويذلّل العذوق فيما بين الجريد لقاطعه. والتشذيب: تشنيخُ شوكه عنه، وتنقيحه مما يخرج من شَكيرِه الذي يضرّ به إن ترك عليه (والتشنيخ: تنحية الشوك عن الشجر، والتنقيح مثله). (الزاهر: 250 فقرة: 537، والمعجم).
(1) في الأصل: صنفاً.

(8/24)


ينمِّي الثمار بطباعه، وإنما هو حفظٌ عن اللصوص، لا يعدُّ من أعمال المُساقَى.
ولو حصل أدنى ثُلمةٍ في الحائط، وكان يهون ردْمها، فقد ردّد القاضي جوابه فيه أيضاً؛ فإنه من الأمر الهين، الذي لا يعد من الآثار المتخلّدة. والمسألة محتملة.
فلو قيل: قطعتم القولَ بأن القطاف على العامل، وليس القطاف منمِّياً للثمار.
قلنا: هو إصلاحٌ لها، وكذلك النقل إلى الجرين، والتجفيف.
ثم إن جرى العقد بلفظ المساقاة، فلا حاجة إلى تفصيل هذه الأعمال ذكراً؛ فإنها مقتضى المساقاة.
وظاهر نص الشافعي يوهم أنه لا بد من ذكرها؛ لأنه قال في الأعمال: " جاز شرطها على العامل "، ولو كانت المساقاة مقتضيةً لها، لما كان لشرطها على العامل معنى، وقد رمز إلى هذا بعض الأصحاب، وصار إلى أن أعمال المساقاة مختلفة الأصناف، وقد يُفرض الذهول عن بعضها [وتختلف] (1) عاداتُ أهل النواحي (2) فيها، فالاقتصار على إطلاق لفظ المساقاة لا يفيد إعلامَنا. وهذا وإن أمكن توجيهه، فلا ينبغي أن يُعتدَّ به مذهباً إذا كان المذكورُ لفظَ المساقاة.
والوجه القطعُ بأن المساقاةَ تُغني عن تفصيل الأعمال، ولو فصلت مع هذا اللفظ لم يضر، وعليه يُحمل كلامُ الشافعي رضي الله عنه.
5011 - ولو شرط مع الأعمال المستحقة في المعاملة ما ليس مستحقاً، كحفر بئرٍ جديدٍ، أو ما في معناه، فالمعاملة تفسد عندنا؛ فإن ما شرط لا يُستحَقُّ إلا بطريق الاستئجار، والاستئجار يستدعي عوضاً يليق بالإجارة (3)، فإذا وقع الاقتصار على ذكر جزء من الثمار، لم يكن ذلك على وفق الاستئجار، فيبقى ذلك المزيد مشروطاً في العقد على حكم الفساد، فيفسد وتفسد، وأجاز مالك (4): أن يشترط في العقد كل ما كان من مصلحة الحائط. وهذا باطل.
...
__________
(1) في الأصل: فتخلف.
(2) (ي)، (هـ 3): البوادي.
(3) (ي)، (هـ 3): عوضاً معلوماً.
(4) ر. جواهر الإكليل: 2/ 180، حاشية العدوي: 2/ 193.

(8/25)


باب الشرط في الرقيق
قال: " ولا بأس أن يشترط المساقى على رب النخيل غلماناً يعملون معه ...
إلى آخره " (1).
5012 - أراد بالمساقي -والقاف مكسورة- العاملَ، ولو قال المساقَى- بفتح القاف - لكان أظهر في تفاوض الفقهاء، غير أن ما ذكرناه صحيح في اللغة؛ فإن المساقاة مفاعلة، فيجوز أن يعبَّر عن كل واحد منهما باسم الفاعل والمفعول، وهو يضاهي كلمة المصادفة والموافاة، وما في معناهما، فيجوز أن تقول إذا التقيت بزيد: صادفتُ زيداً، ويجوز أن تقول صادفني زيد، ووافيتُ زيداً، ووافاني زيد، ولاقيتُ زيداً، ولاقاني زيدٌ.
وغرض الباب أنه لو كان في البستان الذي جرت المعاملة فيه غلمانٌ مرتبون للعمل فجرت المساقاة مطلقة بين ربُّ البستان وبين العامل، فالعبيد لا يدخلون في موجَب العقد المطلق.
وقال مالك (2): الغلمان الذين هم من عَمَلة الحائط يدخلون تبعاً، والعامل يستعملهم، وهذا الذي ذكره وهمٌ، وغلطٌ؛ لأن المالك ربما لم يرضَ بالمساقاة إلا [لقطع] (3) غلمانه عن العمل، حتى يتفرغوا، وهو يستعملهم في أمورٍ سواه، فيجب حملُ المساقاةِ على مقتضاها. وخروج العبيد.
هذا إذا كان العقد مطلقاً، [فإن قُيّد، فشرَط] (4) العاملُ دخولَهم في العقد،
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 73.
(2) جواهر الإكليل: 2/ 179، حاشية الدسوقي: 3/ 541.
(3) في الأصل: يقطع.
(4) في الأصل: فلو شرط، والمثبت عبارة (ي)، (هـ 3).

(8/26)


ليعملوا معه، فظاهر النص أن الشرط صحيح، وإذا (1) وقع التوافق عليه، لزم الوفاء به. ثم لو جرى هذا الشرط لعبيدٍ (2) مرتّبين معروفين بالعمل في هذا البستان، أو جرى في عبيد آخرين، لم يُشْهَروا بالعمل في هذا البستان، فلا فرق، والكل على وتيرة.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن (3) يشترط عملَهم معه؛ فإن المعاملة تقتضي استحقاق صنوفٍ من الأعمال على العامل، فإذا اشترط أن يعمل العبيد معه، اقتضى ذلك الحطَّ من تلك الأعمال، وقد يتعاطى العبدُ معظمها وهذا تغييرٌ لوضع العقد.
وسنذكر (4) أن المالك لو شرط أن يعمل مع العامل، لم يجز.
وعمل العبد كعمل المالك، ويدُ العبد إذا كان يتصرف بإذن المالك كيد المالك، فإذا امتنع شرطُ عمل المالك، وجب أن يمتنع شرطُ عمل العبد.
5013 - فيخرج من هذا الترتيب أن المالك لو شرط أنه يعمل، لم يجز على ما سنذكره. وفي شرط عمل العبيد الخلاف الذي ذكرناه (5): ظاهر النص الجوازُ، وفيه الوجه المخرّج المشهور.
ومَنْ نصر النصَّ، انفصل عن عمل المالك بأن قال: المالك إذا كان يعمل، ففي عمله إفساد تدبير العامل، وشرطُ عمله أن يكون صادراً عن استقلاله بنفسه، واستبدادِه برأيه؛ وهذا لا يتحقق في العبد؛ فإنه مع العامل في حكم المصرَّف المستخدم، حتى لو وقع الشرطُ على أن يستقلَّ العبدُ بالعمل، ولا يتبعَ استعمال العامل إياه، فذلك فاسدٌ مفسدٌ، نازلٌ منزلة اشتراط عمل المالك، فإذاً العبيد إذا ذكروا، وقعوا [عوناً] (6) للعامل على سبيل التبع.
__________
(1) (ي)، (هـ 3): وإن.
(2) (ي)، (هـ 3): في عبيدٍ.
(3) (ي)، (هـ 3): لا يشترط.
(4) عبارة (ي)، (هـ 3): وسنذكر أن العامل لو شرط على المالك أن يعمل معه لم يجز.
(5) (ي)، (هـ 3): ذكره.
(6) في الأصل: عيناً.

(8/27)


ولو شرط رب النخيل أن يُعينَ العاملَ بثيرانٍ عوامل، أو ما في معناها من الآلات
التي يحتاج إليها العامل، لم يضرّ شرطُ ذلك، اتفق الأئمة عليه في الطرق، والفرق أنها ليست عواملَ بأنفسها (1)، وإنما هي كالآلات، والعملُ مضافٌ إلى مستعملها، ولا يُتوقع منها مزاحمةٌ، بخلاف عبيد رب النخيل. وإنما يتّضح هذا الفصل بآخره.
5014 - وقد ذكر المزني في آخر مسائل التحري شيئاً، وأنا أرى في طريق البيان أن أذكره الآن: فلو شرط العامل أن يستأجر في الأعمال الأجراءَ، أو في بعضها، وشرط أن تكون أجرتُهم على المالك، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما- أنه يسوغ. والثاني- لا يسوغ.
توجيه الوجهين: من قال: لا يجوز شرطُ ذلك، احتج بأن الأعمال إذا تولاها الأجراء واستحق المساقَى جزءاً من الثمار، لم يكن استحقاقه في مقابلة عمل [و] (2) رب المال كان متمكناً من تحصيل تفاصيل هذه الأعمال بالأجراء، فإذا حصلت بهذه الجهة، والتزم المالك الأجرة، لم يبق للعامل مع ذلك معنىً.
ومن قال بالجواز، احتج بأن قال: إذا وقع التشارط كذلك، فالمطلوب من العامل استعمالُ الأجراء في الوجوه التي يستصوبها، وتخيّر الأوقات للأعمال، وانتصابه قهرماناً (3) عليهم، وهذا جارٍ في العرف.
فإن قيل: هلا وقع القطعُ بجواز ذلك اعتباراً بمؤنة الحمال والكيال والدلال في مال القراض؛ فإن مؤنهم محسوبة من عُرض (4) المال، فليكن الأُجراء بهذه المثابة؟
قلنا: لا سواء؛ فإنّ الأعمال التي يتولاّها هؤلاء في القراض لا يتولاها التاجر بنفسه، ويستحيل أن نكلف مرموقاً في التجارة أن يتعاطاها، فتلك الأعمالُ خارجةٌ عن كونها ثابتةً على المقارض، والأعمال التي يقع استئجار الأجراء عليها في مسألتنا
__________
(1) (ي)، (هـ 3): ليست مستقلة بأنفسها.
(2) الواو ساقطة من الأصل، ومن (ي).
(3) القهرمان: أمين المَلك، ووكيله الخاص بتدبير دخله وخرجه. فارسي معرب (معجم).
(4) في الأصل: غرض: وعُرض المال، عامته، ووسطه. (معجم).

(8/28)


مستحقةٌ على العامل في وضع المعاملة. نعم، قد ذكرنا أن عرض الثياب، ونشرَها، وردَّها إلى ظروفها من عمل المقارَض، فلو شرط الاستئجارَ على هذه الصنوف، جرى الخلاف الذي ذكرناه في الاستئجار على أعمال المساقاة.
5015 - ولو شرط العامل في المساقاة أن يصرف إلى أجرة الأجراء أجزاء من الثمار، فهذا الشرط يُفسد؛ فإنه لا يجوز إضافةُ الثمار إلا إلى العامل والمالك.
وإذا قال: أصرف إليهم من الثمار أجرتهم والباقي بيننا، فهذا يجر جهالةً في المشروط بين العامل وبين رب النخيل، وإذا وقع الشرط على أن يبذل المالك أجرة الأجراء، لم تصِرْ جزئيةُ الثمار مجهولةً، وسنقرر هذا الفصل، وهو إضافة مؤن الأجراء إلى الثمار في آخر المسائل.
وكان قَدْرُ غرضنا التردّدُ الذي ذكرناه إذا كانت الأجرة مشروطةً على المالك.
ثم مَنْ صحح ذلك، [فلا خلاف] (1) أنه يجب أن يبقى متعلَّقٌ من عمل العامل، وأوْلى أعمالِه استعمالُه الأجراء في وجوه الاستصواب، فإذا وقع الشرط على ألا يعملَ، ولا يستعملَ، فلا شك أن المعاملةَ فاسدةٌ.
ولو ذكر أنه يَعُدُّ الأجراء، أو يضبط حسابَهم، فالذي أراه أن (2) هذا لا يكتفى به، إذا لم يكن يهتدى (3) إلى الدهقنة، وجهات الاستصواب، ولم يقع الشرط على الاستقلال بالاستعمال، فإنّ عدّ الأجراء، أَوْ ضبطَ حسابهم عملُ أجيرٍ، آخر لا يختص بالدهقنة المطلوبة.
5016 - فإذا تمهد ما ذكرناه، التحق اشتراط عمل العبيد باشتراط الأجراء. وفي عمل العبيد مزيد أمرٍ يشير إلى فساد الشرط، وهو أنّ أيديهم تضاهي يدَ المالك بخلاف أيدي الأجراء، فالوجه ترتيب اشتراطهم على اشتراط الأجراء، والمصيرُ إلى أن اشتراطهم أولى باقتضاء الفساد من طريق القياس، والنصُّ على الصحة، فليقع التفريع عليه.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) عبارة (ي)، (هـ 3): أنه.
(3) (ي)، (هـ 3): إذا لم يهتد إلى ..

(8/29)


5017 - فنقول: إذا شُرطوا وتعينوا بالشرط، فالكلام بعد ذلك في نفقاتهم ومؤنهم، وقد أجمع الأئمة على أنه لو لم يقع التعرض لنفقتهم، فنفقاتُهم على المالك؛ فإن النفقة تتعلق بالمالك إذا لم يقطعها قاطع عنه، ولو وقع الشرط على أن ينفق المالك، فقد تطابق الشرطُ ومقتضى الشرع.
ولو وقع الشرط على أن تكون النفقة على العامل، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: هذا فاسدٌ؛ لأنه قطعٌ لمقتضى الشرع في اقتضاء الملك نفقةَ المملوك.
ومنهم من قال: يصح شرطُ النفقة على العامل؛ فإن العمل في وضع العقد مستحَقٌّ عليه، فلا يمتنع شرط مؤنة [العملة] (1) عليه، وهذا ظاهرُ النص؛ فإنه قال: رضي الله عنه: ونفقة الرقيق على ما يتشارطان.
وذهب مالك (2) إلى أن مطبق العقد يقتضي أن تكون النفقة على العامل، وإياه قصد الشافعيُّ بالرد حيث قال: والنفقة على ما يتشارطان، فهذا هو الترتيب في الأصل.
وذكر شيخي عن بعض الأصحاب وجهاً أن شرطهم لو كان مطلقاً، ولم يقع التعرض لذكر نفقاتهم، فالعقد يفسد بهذا الإطلاق؛ فإنه يجرّ جهالة في المقصود.
وهذا مزيف ضعيفٌ.
فإذا حكمنا بأن النفقة على المالك في التفاصيل التي ذكرناها، فإنه ينفق عليهم إنفاقه قبل ذلك. فإن قلنا: النفقة على العامل عند الشرط، فهل يُشترط إعلامها؟ فعلى وجهين: أحدهما- أنه يجب الإعلام، وهو الأقيس، ولا يخفى وجهه.
والثاني- لا يشترط الإعلام ويتسامح في ذلك، ويُرد الأمر إلى [الأمر] (3) القَصْد الوسط في الإنفاق، ومثل ذلك محتمل في عرف المعاملات.
__________
(1) في النسخ الثلاث: العمل. والمثبت تقدير منا لرعاية السياق.
(2) ر. جواهر الإكليل: 2/ 179، حاشية الدسوقي: 3/ 541.
(3) في الأصل: إلى الآمر القصد. وفي (ي): إلى القصد الوسط. والمثبت من (هـ 3).

(8/30)


ومما أجراه الشافعي في محاجّة مالك لما نقل عنه أن [نفقة العبيد] (1) على العامل من غير شرط، فقال رضي الله عنه: كما [ألزمته] (2) النفقة، فألزمه أجرة العبيد؛ فإن أجرة أعمالهم تزيد على نفقاتهم. وهذا الكلام ينشىء في المذهب نظراً على الفقيه.
5018 - وقد ذكرنا في اشتراط أجرة الأجراء على المالك تفصيلاً، [فإذا جَرَيْنا] (3) على أن حقَّ العمل أن يكون مستحقاًً على العامل، فاشتراط أجرة العبيد عليه لا [يمتنع] (4) ليكون هو الموفي عملَ المساقاة.
ويرجع النظر إلى تعيين العبيد وأن أيديهم هل تنزل منزلةَ يد المالك، فليتبيّن الناظرُ ذلك، ثم ليعلم أن الأصح جوازُ اشتراط أجرة الأجراء على المالك، وردّ الأمر إلى أن جملة الأعمال لو قوبلت بجزءٍ من الثمار، جاز. ولو قوبل بعضها على شرط الاستقلال بجزءٍ من الثمار، فالأصح الجواز.
ولو لم يكن للعامل استقلالٌ، وإنما كان يصرّفه المالك في عملٍ يريده، وذكر له جزءاً من الثمار، لم يجز ذلك بلا خلاف، فإن هذا خارج عن المساقاة المعهودة، وهو على الحقيقة استئجارٌ بجزءٍ من الثمار. والاستئجار على هذا الوجه فاسد.
فهذا بيان أطراف الكلام في الفصل.
...
__________
(1) في الأصل: أن النفقة على العامل.
(2) في الأصل: لزمته.
(3) في الأصل: وأجرينا.
(4) في الأصل: يمنع.

(8/31)


باب (1)
قال المزني: "هذه مسائل أجبتُ فيها على معنى قوله وقياسه ... إلى آخره" (2).
5019 - فمن ذلك لو ساقاه على نخيلٍ سنين معلومة، على أن [يعملا] (3) فيها جميعاً، لم يجز في معنى قوله.
فقال الأئمة: أصاب فيما قال؛ لأن [المالك] (4) إذا شرط أن يعمل معه في البستان مَنَع انفراده بالرأي والاجتهاد (5)، وغيَّر وضْعَ المعاملة، وردَّ مرتبة العامل إلى محلّ مستعمَل محتكمٍ عليه، وهذا صفة الأجير الذي يستعمله مستأجِره، ووجدت الطرقَ متفقةً على ما ذكرت، وقد قدمتُ في القراض أن المالك لو شرط أن يعمل مع المقارَض، أفسد القراضَ بهذا الشرط.
وهذا في القراض أظهر؛ من جهة أن صاحب المال إذا كان يزاحِم في العمل عليه فأهل العرف لا يعاملون العامل، ولا يقيمون له وزناً والغرض من نصبه أن يظهر أثره في التجارة، وهذا قبضٌ على يده.
وهذا التعليل على هذا الوجه قد لا يظهر في المساقاة إلا على وجه التكلف، في أن العامل لو لم يكن مستبداً، فقد يؤدي ذلك إلى فوات وجوهٍ من العمل، وأعمال الدهقنة في أحيانها [كالفُرص] (6) في أوانها. وقد ذكرنا في القراض أن المالك لو لم يشترط أن يعمل مع المقارض، ولكن شرط أن يكون له يدٌ في المال، فهذا الشرط مفسدٌ وفاقاً.
5520 - ولو شرط ربُّ النخيل أن يكون البستان تحت يده، نُظر: فإن لم يكن
__________
(1) هذا العنوان (باب) سقط من نسخة الأصل وحدها.
(2) ر. المختصر: 3/ 73.
(3) في الأصل: يعمل. والمثبت من (ي)، (هـ 3).
(4) في النسخ الثلاث: العامل. والمثبت تقدير منا.
(5) (ي)، (هـ 3): والاستبداد.
(6) في الأصل: كالقراض، وفي (ي)، (هـ 3): كالقرض. والمثبت تقدير منا.

(8/32)


للعامل يدٌ، وكان يحتاج إلى مراجعة المالك، مهما (1) أراد الدخول والعمل في البستان، فهذا التضييق مفسدٌ للعمل إجماعاً؛ فإنه يؤثر أثراً بيِّناً في عين مقصود المعاملة، إذ قد يَرْهَق (2) عملٌ في الدهقنة لا يقبل التأخير.
وإن كانت اليد ثابتةً للعامل، وكان متمكناً من الوصول إلى العمل متى شاء، فهذا مما رأيت كلامَ الأصحاب فيه على التردّد، فرأى بعضُهم أن تُلحَقَ المساقاة بالقراض، حتى تكون مشاركةُ المالك في اليد مُفسدةً كالقراض.
وهذا غير سديد؛ فإن المالك إذا كان لا يزاحِمُ في العمل، فلا أثر ليده، والحالة كما وصفنا، بخلاف اليد في القراض؛ فإن نفسَ مخالطة المالك للمال تصرف وجوهَ الطالبين والراغبين عن العامل، وتتضمن قبضاً على يده، وهذا لا يتحقق في عمل المساقاة أصلاً.
وتمام البيان في ذلك: أنا إذا لم نجعل مجردَ يد المالك مؤثراً، فلو شرط أن يعمل مع العامل على حسب استعمال العامل إياه، من غير أن يستبد بنفسه، أو يزاحمه في التدبير والاستقلال، فهذا فيه احتمالٌ ظاهر، ولكن مقتضى قول الأصحاب أنه إذا كان يشارك في العمل، وجرى شرطُ ذلك، كان فاسداً مفسداً. وهذا فيه نظر، ولا يبعد حمل كلام الأصحاب على اشتراط العمل، على وجهٍ يزاحم تدبير العامل.
هذا منتهى الكلام في هذا.
فصل
قال: " ولو ساقاه على النصف، على أن يُساقِيَه في حائط آخر على الثلث، لم يجز ... إلى آخره " (3).
5021 - وهذا كما قال: وعلّة الفساد أنه شرط عقداً في عقد، وكان كما لو قال:
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) رهق الشيء: حان أوانه، ودخل وقتُه. (معجم).
(3) ر. المختصر: 3/ 73.

(8/33)


بعتك هذا العبدَ بألفٍ، على أن تشتريَ داري بألفين.
وكذلك لو قال: ساقيتك في هذا الحائط على النصف على أن تساقيني في حائطك هذا- لا يجوز، كما لو قال: بعتك هذا العبدَ بألفٍ، على أن تبيعني دارَك.
ثم المساقاة الثانيةُ صحيحة، إذا جرت مطلقةً؛ فإنها خليّةٌ عما يُفسدها، وإنما فسدت المساقاةُ الأولى بشرط هذه فيها، فإذا لم يقع في العقد المتأخر شرطٌ، وجرى على موجب الشرع، صحَّ.
وكذلك القول في البيعين، فالبيع الأخير المطلق صحيحٌ.
فإن جرى ما يتضمن تعليقاً في العقدين، مثل أن يقول: ساقيتُك في هذا الحائط على النصف على أن تساقيني في حائطك هذا على الثلث، فإذا وجب لك هذا، وجب لي هذا، فإذا رأيا ذلك إنشاءً للعقدين، لم يصح واحدٌ منهما؛ فإنَّ كلَّ واحد معلّقٌ بالآخر، والتعليق ممنوعٌ في ذلك.
ولو جرى هذا على هذه الصيغة، ثم [استفتحا] (1) المساقاةَ الثانيةَ، أو البيعَ الثاني، وقد جرى قبلُ صيغةُ التعليق، فلا أثر لما تقدم، ويصح العقد الثاني إذا استقل بشرائط الصحة، ولا يؤثر إضمارُهما أن ذلك وفاءٌ بالتعليق المقدّم، إذا لم يَجْرِ تعليقٌ عند استفتاح هذا العقد.
5022 - ثم مهما فسدت المساقاة، فللعامل أجر مثل عمله، والثمار، بجملتها لرب النخيل. فلو فسدت المساقاة، وعمل العامل، واجتاح الثمارَ الجوائح، ولم يحصل شيء منها، فهل يستحق العامل على الفساد أجرةَ المثل؟ فعلى وجهين: أحدهما- أنه يستحق بعمله، ولا تعويل على الثمار في حقه، كانت أو لم تكن.
والثاني- أنه لا يستحق شيئاً، لأن العقد لو كان صحيحاً، لما استحق شيئاً، فإذا عمل على الفساد، فقد صدر منه العمل على وجهٍ لا يعتقدُ استحقاق شيء بعمله، مع اعتقاد الصحة، فليكن الفاسدُ كالصحيح، حتى لا يختلفا إلا في المستحق، فالواجب في الصحيح جزءٌ من الثمار، وفي الفاسد أجرة المثل. وقد ذكرنا نظير ذلك في القراض.
__________
(1) في الأصل: استثنى. وفي (ي): غير مقروءة، صورتها هكذا: (اسسحقا). والمثبت من (هـ 3).

(8/34)


فصل
قال: " فإن ساقاه أحدهما نصيبه على النصف، والآخر نصيبه على الثلث ... إلى آخره " (1).
5023 - البستان إذا كان مشتركاً بين شريكين فساقيا عاملاً على نخيلهما، وشرط أحدُهما له نصفَ الثمار من نصيبه، وشرط الثاني له الثلثَ، وكان العامل عالماً بنصيب كل واحد منهما من النخيل، فهذه المعاملة صحيحةٌ، والجاري في حكم عقدين، كلُّ واحد منهما منفردٌ عن الثاني، وإن كان العامل جاهلاً، ولم يدر أن نصيب مَن شرط الثلث كم، ونصيبَ من شرط النصف كم، فالمعاملة فاسدةٌ؛ فإنه لا يدري كم يخصه من النصيبين؛ فإنَّ نصيبَ من شرط الثلث إذا كان أقل، كثُر نصيبُ العامل، وإذا كان على العكس قلّ نصيبه، فلا تنعقدُ المعاملة على الجهالة.
ولو جهل مقدارَ ملك كل واحد منهما من النخيل، ولكنهما شرطا له النصف من نصيبهما، فالمذهب الصحيح تصحيحُ المعاملة؛ إذْ لا جهالة فيما يستحقه، ولا أثر لتفاوت ملكيهما.
ولو ساقى واحد رجلين، وشرط لأحدهما النصفَ، وللآخر الثلثَ، جاز.
5024 - ولو ساقى رجلان رجلين، وشرطا النصفَ للعاملين، جاز، وإن لم يُبيّنا قدْرَ ما يستحق كل واحدٍ من العاملين من النصف الذي سمَّيا لهما، جاز؛ لأن الإطلاق يقتضي كونَ المسمى لهما بينهما، ثم الباقي يقسّم بين المالكين على قدر الملكين.
[فإن وقع الشرطُ على أن الباقي يقسم بعد نصيب العاملين بين المالكين، لا على قدر الملْكين] (2) [وذلك بأن يستشرطا] (3) الاستواء في الباقي، وملكهما متفاوت أو [يشترطا] (4) التفاوت وملكهما متساوٍ، فلا شك في فساد هذا الشرط، وأنه غير متبع.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 74.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) عبارة الأصل هكذا: ثم الباقي يقسم على قدر الملكين، فإن شرطا الاستواء في الباقي ...
(4) في الأصل: أو اشترطا.

(8/35)


ثم قال قائلون من أئمتنا: هذا يفسد العقد إذا جرى شرطاً فيه. وقد ذكرتُ نظير ذلك في القراض، وحكيت الوفاق فيه عن الأصحاب، وتكلُّفَ (1) تعليلِه على وجهٍ يلوح من خَلَله احتمالٌ في أن القراض لا يفسد؛ من جهة أن هذا الشرط يتعلق بالمالكَيْن، ولا تعلق له بالعامل والمعاملة، وهذا أظهر في المساقاة؛ لأن تشارط المالكَيْن في الثمار لا أثر له في المشروط للعامل، وليس استحقاقهما الثمار بحكم عقدٍ حتى يظهر في العقد أثرُ تشارطهما، فيظهر جداً أن نقول: يفسد هذا الشرط، وتصح المساقاة، ويقسم الفاضل من نصيب العاملين بينهما على نسبة المِلْكين.
وإنما رأينا ذلك في المساقاة، وأشرنا إلى فرقٍ بينها وبين القراض؛ من جهة أن الربح كأنه جزءٌ من عمل المقارَض، ولو لم يصرف الدراهمَ إلى العُروض، لما ثبت ربحٌ أصلاً. والثمار قد لا تكون كذلك؛ فإن حصولَها بالخَلْق والفطرة وتعهدها لتحسُنَ وتنمو بعمل العامل.
فصل
قال: " ولو ساقاه على حائطٍ فيها أصنافٌ ... إلى آخره " (2).
5025 - إذا كان في الحائط أجناس من النخيل كالدَّقَل، والعجوة والصَّيحاني وغيرها. فذا عامل المالك عاملاً على أن له من العجوة النصف، ومن الدَّقَل الثلث، ومن الصَّيْحاني الربع، نُظر فإن علما مقدار كل نوع بالعِيان، جاز العقد، كما لو كانت الأصناف الثلاثة في حدائق مفرَّقة. وإن جهلا، أو أحدهما، لم يجز.
فإن شَرط له النصفَ من كل صنفٍ، جاز، ولا يضر الجهل بأقدار الأصناف، وهذا بيّن.
قال الأصحاب: لو اشترى عبداً من رجلين مطلقاً، يصح الشراء، وإن جهل
نصيب كل واحد منهما، فإن قال: اشتريت نصيب زيد بألف، ونصيب عمرو بألفين،
__________
(1) (ي)، (هـ 3): تكلفتُ.
(2) ر. المختصر: 3/ 74.

(8/36)


نُظر: فإن كان عارفاً بنصيب كلِّ واحدٍ منهما، صح، ولو جهل نصيبَ كلِّ واحد منهما، لم يصح؛ فإن الغرض يتفاوت في ذلك تفاوتاً بيِّناً، كما ذكرناه في المساقاة.
فصل
قال: " ولو كانت النخيل بين رجلين، فساقى أحدُهما صاحبَه على أن للعامل ثلثي الثمر ... إلى آخره " (1).
5026 - صورة المسالة نخيلٌ بين رجلين نصفان، ساقى أحدُهما صاحبَه على أن للعامل فيها الثلثين، وله الثلث، فهو جائزٌ، وكأنه ساقاه في نصف نصيبه على ثلث الثمرة، وهو سدس الجملة، ولا يكاد يخفى أن المساقاة إنما تنعقد على النصف الذي ليس للعامل، وإجراء ذكر العمل (2) على جملة البستان غير ضائر.
وإن ساقاه على أن يعمل في الجميع بالنصف، فهذا فاسد؛ لأنه لم يشترط له شيئاً، واستعمله في نصيب نفسه، ولم يقابل عمله في نصيبه بشيء؛ فإنه يستحق النصف بأصل الملك.
ولو ساقاه والنخيل نصفان على أن يعمل في الجميع بثلث الثمرة، فلا شك في الفساد؛ فإنه استعمله، وحط من حصته من الملك شيئاً.
5027 - ثم إذا عمل العمل في هاتين الصورتين، فهل يستحق أجرةَ المثل لعمله [في] (3) نصيب مستعمِله؟ في المسألة وجهان: أحدهما- وهو ظاهر اختيار المزني أنه لا يستحق؛ لأنه تبرع بالعمل، حيث دخل في العقد على ألاّ يأخذ من الثمار إلا النصف أو الثلث، ولم يكن عمله على قصد استحقاق عوض.
والوجه الثاني- أنه يستحق أجر مثل عمله على نصيب صاحبه، وهو اختيار ابن سُريج، لوجود لفظ المساقاة، وفيها اقتضاء معنى المعاوضة (4).
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 75.
(2) (ي)، (هـ3): العقد.
(3) في الأصل: من.
(4) (ي) (هـ3): المعامة.

(8/37)


وقد تعترض مسألة في أجرة المثل تخالف هذه، وفيها الخلاف، وذلك أن يشترط المالكُ الثمارَ بجملتها للعامل، فالمعاملة فاسدة، فإذا عمل، فهل يستحق أجر مثل عمله؟ فعلى وجهين: أصحهما- أنه يستحق؛ لأنه عمل ليستحقَّ الثمرة، فإذا لم تسلّم له بحكم الفساد، استحق أجرةَ المثل. والوجه الثاني- أنه لا يستحق شيئاً، لأنه عمل لنفسه في الثمار، إذا (1) اعتقد أنها بجملتها له، ومن عمل على هذا القصد لم يستحق أجر المثل.
وهذا الخلاف يناظر مسائلَ: منها أن من استأجر رجلاً حتى يعمل على معدنٍ (2) للمستأجِر، وشرط له ما يستفيده من نيلٍ (3) في مدة عمله، فالنَّيْل لا يُصرف إليه، وهل يستحق أجر المثل. إذا عمل، فعلى وجهين، وسبب الاختلاف أنه كان يعمل لنفسه في [ابتغاء] (4) النيْل.
ومن ذلك أن يستأجر الرجل أجيراً على أن يحجْ على وجهٍ يصح، فإذا أحرم ذلك الأجير عن مستأجِره، ثم صرف الإحرام إلى نفسه، فالإحرام يقع عن مستأجِره، وفي استحقاق اجرة خلافٌ مشهور.
وعندي أن هذه الضروب من المسائل شرطُها أن يكون العامل جاهلاً، فإن علم المساقَى. وقد شرط له جميع الثمار أن المساقاة فاسدة، فالظاهر أنه يستحق أجرة المئل؛ لأنه خاض في العمل على علمٍ بأنه لا يستحق الثمار، فلم يكن عاملاً لنفسه. والله أعلم.
فصل
قال: " ولو ساقى أحدهما صاحبه نخلاً بينهما ... إلى آخره " (5).
5028 - إذا كان بين رجلين نخيلٌ نصفين، فإذا تساقيا فيها على أن يعملا معاً، ولأحدهما ثلثُ الثمرة، وللآخر ثلثاها، فلا شك في فساد المعاملة؛ لأنهما استويا في
__________
(1) (إذا) بمعنى (إذ).
(2) معدِن: المعدن: موضع استخراج الجوهر من ذهبٍ ونحوه. (معجم).
(3) النَّيل: ما ينال. وقد جرى هذا اللفظ على ألسنة الفقهاء اسماً لما ينال من المعدن.
(4) في الأصل: استيفاء.
(5) ر. المختصر: 3/ 76.

(8/38)


العمل والمِلك، فلا معنى للتفاوت في الاقتسام، بل الوجهُ القسمةُ على نسبة الملك، وكأن الذي رضي بالثلث وهب من صاحبه ثلث ثمرة نصيبه، وهي معدومة، لم تخلق.
ولو كانت الثمرةُ موجودةً، لم تصح الهبة أيضاًً؛ فإن الذي جرى ليست صيغةَ الهبة.
ولو شرطا أن يعمل أحدهما ثلث العمل، ويأخذ ثلث الثمرة، ويعمل صاحبه ثلثي العمل، ويأخذ ثلثي الثمرة، فالمعاملة فاسدةٌ على كل حال، ولو لم يكن فيها إلا اشتراكهما في العمل، وقد مهدنا أن اشتراك المالك. والعامل في العمل -إذا جرى شرطاً - فاسدٌ مفسدٌ. ثم الثمار مقسومةٌ نصفين على نسبة الملك، وصاحب العمل الكثير يرجع على شريكه بأجر مثل زيادة عمله.
وينتظم في ذلك عبارتان: إحداهما- أنه يرجع عليه بنصف أجر مثل ما زاد من عمله؛ لأن عمله مِثلا [عمل] (1) شريكه فيُحطّ مثلُ عمل الشريك، وهو الثلث (2) فيكون قد زاد عليه بسدس العمل.
والعبارة الثانية- أنه يرجع عليه بأجر مثل ما زاد من عمله على ملكه، وكلاهما يرجعان إلي معنى واحد.
ولو شرطا على أحدهما زيادةَ العمل وشرطا له الاقتصار على نصف الثمار أو على أقلَّ من النصف، فهل يرجع بأجر مثل ما زاد من عمله جملى ملكه، على شريكه؟ فيه الوجهان المقدمان في نظائر هذه المسألة.
فصل
قال: "ولو ساقى رجلاً نخلاً مساقاة صحيحة، فأثمرت، ثم هرب العامل ... إلى آخره " (3).
5029 - هذه المسألة تداني مسألة هرب الجمال على ما سيأتي مشروحاً في كتاب
__________
(1) في الأصل: على.
(2) عبارة (ي)، (هـ 3): فيحط مثل عمل شريكه، وهو السدس.
(3) ر. المختصر: 3/ 76.

(8/39)


الإجارة، إن شاء الله وحده. ولكنا نذكر مساق المذهب هاهنا، ونوضح ما في المساقاة من خواص، فنقول: إذا عمل العامل في المساقاة بعضَ العمل، وظهرت الثمار، فهرب، ولم يستتم العمل، فإن كان للعامل مالٌ، وكانت يد الحاكم ممتدةً إليه، وسهل الاستئجار عليه، فالحاكم يفعل ذلك إذا التمس منه مالكُ النخيل، والسبب فيه أن المعاملة لازمةٌ، والعملُ ديْن في ذمة المساقَى، ومهما امتنع مَنْ عليه الدينُ عن توفيته، وتمكن الحاكم من أدائه من ماله أداه.
ثم إذا تيسر ذلك، لم يملك ربُّ النخيل فسخَ المعاملة، ونزل التمكن [مما] (1) ذكرناه منزلة استمرار العامل على العمل.
وإن رأى السلطانُ أن يستقرض عليه من بيت المال، أو من واحدٍ من عُرض الناس، فهذا يلتحق بما ذكرناه، [فيقضي] (2) العملَ، وللعامل ما شُرط له من الثمرة، وعليه ما استقرض الحاكم عليه.
5030 - وإن تعذّر ذلك، فلم يكن له مال، ولم يرَ الحاكم الاستقراض من بيت المال، أو لم يكن في بيت المال مالٌ، فإذا تحقق [التعذّر] (3)، فأول ما نذكره أن المألك لو أراد فسخ المعاملة، كان له ذلك؛ فإن تعذر العوض في المعاملات يثبت سلطانَ الفسخ.
فلو جاء متبرع أجنبي، وقال: أنا أعمل [عنه] (4) أو أستاجر من يعمل، فلا [تفسخ] (5)، فإن رضي المالك بذلك، جاز، واستمر العقد، وكان ذلك بمثابة ما لو أدى أجنبيٌّ دينَ إنسان، وقبله مستحِق الدين، فتحصل براءةُ الذمة. وإن كان الأجنبي غيرَ مأذونٍ من جهة من عليهَ الدين، [فلا] (6) يجد مرجعاً عليه إذا أدى دينه.
__________
(1) في الأصل: بما.
(2) في الأصل: فينقضي.
(3) في الأصل غير مقروءة، رسمت هكذا (التغرض). والمثبث من (ي)، (هـ 3).
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في الأصل: ينفسخ.
(6) في الأصل: ولا.

(8/40)


ولو بذل الأجنبي من نفسه الاشتغال بالعمل، فامتنع عليه رب البستان، وقال لا أرضى بدخولك بستاني، فله منعه، وإذا منعه، فله حق الفسخ، كما قدمناه.
5031 - ولو دخل أجنبيٌّ البستان من حيث لم يشعر المالك، وأكمل العمل المطلوب، فهذا فيه فضل نظر يبيّنه تقديمُ أصل مقصودٍ، وهو أن الأعمال المطلوبة بعقد المساقاة إذا وقع الاستغناء عن بعضها، مثل أن وقع العقد على السقي وغيره من ضروب الأعمال، فأغنت الأمطار عن السقي، فهل يستحق المساقَى [تمام] (1) ما شرط له؟ أم كيف السبيل فيه؟ أولاً - إن وقع الاستغناء عن جميع أعمال المساقَى، أو عن معظمها، فلا شك أن هذا يؤثر؛ إذ لو قلنا: لا أثر لذلك، لزم أن يستحق ما شرط له من الثمر من غير عمل، وهذا محال؛ فإنّ الجزء الذي شرط له قوبل استحقاقه بالعمل، فيستحيل ثبوتُ استحقاقه دونه.
ثم يجري هذا فى المعظم.
ويعترض إشكال، وهو أن التقسيم في الثمار، وإبقاء بعضها، وإسقاط بعضها، ليس بالهيّن، وليس ينقدح لي فيه وجه، إلا نسبة أُجرة المثل إلى الأعمال حتى يتبيّن أنه لو استتمها كم كان أجر مثله؟ وإذا سقط بعض الأعمال، فكم أجر مثله؟ فينسب ما سقط من أجرة المثل إلى جميعها، وتضبط الجزئية ويسقط مثل ذلك من الجزء المشروط له من الثمار، فإن كان الساقط نصفَ أجرة المثل، سقط نصف ما شرط له من الثمار.
هذا هو الوجه لا غير.
وقد يعترض في ذلك أن أعمال المساقَى خارجةٌ عن الضبط، بعضَ الخروج، والجهالة متطرقةٌ إليها على حالٍ؛ فإن من أعمالها السقيَ، وهو لا يجري على نسق واحد في كل سنة، فقد تزيد أعدادُ السّقيات، ثم لا يقام لما يزيد مزيدُ عوض، وقد تنقص أعدادُها لكثرة الأنداء، ثم لا يُحطُّ لما ينقص.
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(8/41)


[فالقدر] (1) الذي يتساهل فيه أهلُ الشأن، ويرَوْن مقابلة الزائد فيه -لو مَسّت الحاجة- بالناقص لو أغنت الأنداء؛ فذلك لا كلام فيه.
وهذا عندي قريب الشبه بما يطلقه الفقهاء فيما يتغابن الناس بمثله [وقد لا يحتمل] (2) مثل هذا في الإجارة. فما يتساهل أهلُ العرف فيه، لم يؤثِّر سقوطُه في حطٍّ، وما يسقطُ من العمل على ندورٍ ولم يكن مما يُتساهل في مثله، فهو الذي فيه الكلام.
5032 - ومما يعترض في ذلك أنه إذا عمل العامل بعضَ الأعمال وهرب، وامتنع باقي العمل، وأثبتنا حقَّ الفسخ، فإذا فسخ المالك لا نقول: يستحق العامل جزءاً مما شرط له ويسقط جزء، بل ينقطع حق الاستحقاق من الثمار بالكلية.
ولو جَرْينا على قياس الإجارة، ونزّلنا الثمار منزلةَ الأجرة، لأثبتنا بعضاً من الثمار؛ فإن الإجارة إذا انقضى بعضُ مدتها، وطرأ في باقيها ما يوجب الفسخَ، فإذا فسخت في البقية، لم تنفسخ الإجارة فيما مضى، على ظاهر المذهب.
فأعمال المساقَى لا تجري مجرى المنافع في الإجارة، حتى يقابَلَ [المنقضي] (3) منه بقسطٍ [من] (4) العوض المسمى في المعاملة.
فإذا ثبت ذلك، فلو سقط جملةٌ من أعمال المساقى، لا يُتسامح بمثله، فلست أرى إجراء هذا على قياس حالة الفسخ، حتى يقال (5): إذا تبعض الأمر، واستحال إثباتُ جميع المسمى من الثمن، فالرجوع إلى أجر المثل ويسقط الاستحقاق من الثمن.
والفارق فيما أظن أن نماء الثمر قد حصل، وسقط بعضُ العمل. والفسخُ مفروضٌ فيه إذا كان الثمر لا ينمو إلا بأعمالٍ تعذر صدورها من العامل، وعسُر تحصيلها من
__________
(1) في الأصل: القدر (بدون فاء).
(2) عبارة الأصل: وذلك لا يحتمل مثل هذا.
(3) في الأصل: المقتضي.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) ساقطة من (ي)، (هـ 3).

(8/42)


جهته، فإذا جرى الفسخُ، فالوجه ما ذكرناه.
وإن قيل: إذا حصل بعض النماء بما تقدّم من العمل، فكيف وجهُ إسقاطه، وردّ الأمر إلى أجر المثل؟ قلنا: هذه المعاملة مائلة إلى مضاهاة القراض في النظر إلى العقبى، ومنقرض العمل، فالذي (1) تحصّل إذاً أن الفسخ يوجب إسقاط الحق من الثمار، نص عليه الأصحاب. وسقوطُ بعض الأعمال بالاستغناء عنه ما أراه كذلك.
ومظنوني فيه ما ذكرته من اعتبار نسبة الثمار بنسبة أجر المثل، وليس يبعد المصير إلى سقوط الحق من الثمار؛ فإن تبعيض الثمار عسر في وجه الرأي.
5033 - وليس يصفو هذا الفصل إلا باستتمامه، فنقول: إذا عمل الأجنبي من حيث لا يشعر المالك؛ فيمكن أن يكون هذا بمثابة سقوط بعض الأعمال بغناء السنة (2) عنه، ويمكن أن يقال: إذا أوقع الأجنبي العمل، كان كما لو أوقعه العامل، وهذا هو الظاهر، وبه يشعر كلام الأصحاب.
وتمام البيان، و [جُمَام] (3) الفصل أن الأئمة أجمعوا على أن المالك لو لم يفسخ، وعمل بنفسه متبرعاًً استحق العامل تمام ما سمي له، ونزّلوا تبرعه بالعمل منزلة تبرع الأجنبي إذا رضي به المالك، وقد يخطر للفقيه أن تبرع الأجنبي بمثابة أداء الدين، وتبرع المالك ليس يضاهي هذا المسلك، ولكن النصوصَ وأقوال الأصحاب متفقةٌ على ما ذكرناه.
ولو لم يعمل العامل شيئاًً وتبرع المالك بجميع العمل، فهذا مشكلٌ، وما أرى العاملَ مستحقاً في هذا المقام -ولم يعمل شيئاً- وإن كنا ننزّل عملَ المالك متبرعاً كعمل الأجنبي، فالمسألة محتملة.
فهذا منتهى النظر، وغاية المضطرَب فيما حضرنا.
__________
(1) (ي) (هـ 3): فإذا تحصل إذا.
(2) السنة: المراد المطر والخصب. وهو هنا من أسماء الأضداد. فالسنة تستعمل أصلاً بمعنى الجدب. (معجم).
(3) في الأصل: وختام.

(8/43)


5034 - ومما يتعلق بأطراف الكلام في الفصل، أن الحاكم لو أذن للمالك أن يستقرض على العامل الهارب، ينفق على قدر الحاجة في استكمال العمل، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين، وكذلك لو أذن له أن ينفق من مال نفسه بشرط الرجوع عليه، ففي المسألة وجهان: أصحهما- أن ذلك يجوز، ثم يرجع على العامل، إذا تمكن من الرجوع؛ لأنه مؤتمنٌ من جهة الحاكم.
والثاني- لا يجوز ذلك؛ لأنه يستحق إتمام عمل العامل، ويستحيل أن يكون الإنسان مؤتمناً فيما يستحقه لنفسه على غيره، وهذا بعينه يأتي في هرب [الجمال] (1)، فلم نطنب فيه، وإنما أَغْرَقنا الكلام في خصائص المساقاة.
5035 - ولو أنفق المالك بنفسه وفي البلد حاكم يمكن أن يراجَع، وقصد بما ينفقه الرجوعَ به على العامل، لم يجد مرجعاً؛ لأنه ترك الاستئذان من صاحب الأمر، مع القدرة، ولو لم يكن [بتلك] (2) الناحية حاكم، وصاحب أمرٍ يراجع، فأنفق [المالك] (3)، ففي رجوعه على العامل إذا وجده ثلاثة أوجه: أحدها- أنه لا يرجع؛ لأنه لم يصدر إنفاقه عن أمر حاكم، ولا عن إذن العامل، ولم يفسخ أيضاً بل تمادى على العقد، فكان كالمتبرع، ولو قصد التبرع، لم يرجع.
والوجه الثاني- أنه يرجع؛ فإن تخسيره لا وجه له، ولا تقصير من جهته في ترك استئذانٍ ممكنٍ، فاستحقاقه، مع تحقق الضرورة يُثبت له سلطانَ الرجوع.
والوجه الثالث- أنه إن كان يُشهد (4) على ما يُنْفق، فيرجع، ويتنزّل (5) ذلك منزلة ما لو أذن الحاكم لو كان حاكم.
وإن لم يشهد، مع القدرة على الإشهاد، لم يجد رَجْعاً (6).
__________
(1) في الأصل: المال.
(2) في الأصل: مثل. وهو تصحيف عجيب.
(3) في النسخ الثلاث: العامل.

(4) (ي)، (هـ3): قد أشهد.
(5) عبارة (ي)، (هـ 3): وينزل منزلة إذن الحاكم، لو كان الحاكم.
(6) رَجْعاً ومرجعاً بمعنىً. تقول: رجع يرجع رجوعاً، ورَجْعاً ومرجعاً. (مصباح).

(8/44)


وفي كلام القاضي إشارة إلى أن حق العامل إنما يسقط بالفسخ إذا لم تظهر الثمرة، فأما إذا ظهرت الثمرة، ففي كلامه تردد ظاهرٌ، في أن الفسخ لو جرى، لم يتضمن إسقاطَ حق العامل من الثمرة بالكلية؛ التفاتاً على ما ذكرناه في الإجارة، ثم لا بد من سقوط البعض، ولا مرجع فيه إلا ما مهدناه في صدر الفصل.
هذا منتهى مرادنا في ذلك، وبقية التقرير هو ما يشترك فيه العامل، والجَمّال وسنذكره في كتاب الإجارة. إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " وإن عُلم منه سرقةٌ، وفسادٌ، مُنع من ذلك ... إلى آخره " (1).
5036 - إذا ادّعى المالك على العامل سرقةً وخيانةً، فالقول أولاً قولُ العامل؛ فإنه أمين، والأصل عدم ما يدّعيه المالك، فإن أثبت ذلك بالبينة، أو بإقرار العامل، لم يثبت للمالك حقُّ الفسخ، كما إذا ظهرت خيانةٌ من المرتهن في الرهن، لم يثبت للراهن حق الفسخ، بل تُزال يدُ المرتهن، ويعدّل الرهن، ويُقرّ العقدُ.
ثم إذا أثبتنا الخيانة، فقد قال المزني: يُكترى عليه من يقوم مقامه، وتزال يده عن النخيل. وذكر في موضع آخر أنهُ يضم إليه من يعمل معه، ويحفظه من الخيانة، ولا تُزال يدُه.
فقال الأئمة: إن كان لا تنحسم خيانته بمراقبة من يراقبه؛ لتهدّيه إلى سبل الخيانة، فإذا تبين ذلك، أو غلب على الظن، نُحِّي، على (2) هذا يُحمل قول المزني، حيث قال: " يكترى عليه، وإن أمكن تمكينُه من العمل مع درء خيانته بالمراقبة، لم ينح ولم تُزل يدُه ".
فالمسألة على حالتين، وليست على قولين.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 77.
(2) (ي)، (هـ3): وعلى هذا.

(8/45)


ثم قد يعترض في ذلك الكلامُ في [أجرة] (1) مَنْ [يُشارفه] (2)، وفيها إشكالٌ، فإن الحاجة إلى بذلها نشأت من قلة الثقة بالعامل، وظهور الخيانة [منه] (3)، ويبعد عندنا أن تكون هذه الأجرةُ محسوبةً عليه، وهو يزعم أنه ليس يخون في المستقبل.
وإن كان يعترف بالتمادي على الخيانة مهما وجد فرصةً، فيجب تنحيتُه، والاكتراءُ عليه، وإذْ ذاك يُستغنى عن الرقيب وأجرتِه.
ولو لم تثبت خيانةٌ من العامل، ولكن المالك اتّهمه، فلا تُزال يده عن النخيل، ولكن ينصب عليه المالك مشرفاً يطالع أحواله إن شاء، ولا يرتاب الفقيه في أن نفقة الرقيب ومؤنته على المالك في هذا المقام إذا لم يظهر من العامل خيانة.
فصل
قال: " فإن مات قام ورثته مقامه ... إلى آخره " (4).
5037 - قد ذكرنا أن المساقاةَ عقدٌ لازم، لا ينفسخ بموت العاقد، ثم ننظر، فإن مات رب المال؛ أكمل العامل ما بقي من الأعمال، واستحق المشروط له من الثمرة.
وإن مات العامل، فالذي قدمناه من لزوم المعاملة يقتضي ألاّ يحكم بانفساخ المساقاة. وهذا هو الذي ذكره المزني، وقطع به الأصحاب في طرقهم، وهو الذي صححه الشيخ أبو علي.
وحكى وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب أن المساقاة تنفسخ بموت العامل، وهذا وجهٌ ضعيف لا مستند له من أصل؛ فإن الحقوقَ اللازمةَ إذا أمكن تحصيلها بعد الموت، لم تنقطع بالموت، فالذي حكاه غلط إذن، غيرُ مُعتدٍّ به.
والوجه أن نقول إذا مات العامل، لم يخْلُ: إما أن يُخلّف تركةً تفي بتحصيل العمل، وإما ألاّ يُخلّف.
__________
(1) في الأصل: أخرة.
(2) في الأصل: مشارفه. ومعنى يشارفه أي يطلع عليه، ويدنو مه. (معجم).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ر. المختصر: 3/ 77.

(8/46)


فإن لم يخلف شيئاًً، لم يجب على [الورثة] (1) تحصيل العمل؛ فإن العمل كان ديناً في ذمته، والمديون إذا مات لم ينتقل الدين إلى ذمة وارثه. ولكن لو أراد الوارث أن يتمم العمل بنفسه، أو بمن يستأجره، جاز له ذلك، لثبوت عُلقة الاستحقاق في الثمار، فإن استتم العمل، صرفنا إليه الجزءَ المشروطَ له من الثمرة، وإن أبى أن يعمل، فللمالك حقُّ الفسخ، وقد قدمنا التفصيل فيه فيما تقدم، وفرّقنا بين أن يكون ذلك قبل بُدوّ الثمرة أو بعدها، وأوضحنا وجوه الرأي.
وإن كان خلّف تركة، فالسلطان يحصّل بقيةَ العمل من التركة، كما يؤدِّي الديون منها.
وكذلك القول فيه إذا كان التزم في ذمته خياطةً، أو صبغاً، ثم مات، فالأمر على ما ذكرناه في الفرق بين أن يخلّف تركةً وبين ألاّ يخلفها.
5038 - ومما يتم به غرض الفصل، وهو أصلٌ بذاته أن المساقاةَ حيث تُفرض [تصرفٌ] (2) [واردٌ] (3) على الذمة، وحكمُ المعاملةِ الواردةِ على الذمة أن يكون تحصيلها على الملتزم، فإن حصَّلها بنفسه، أو استأجر من يعمل، فلا معترض عليه، ولو شرط في المساقاة تعيين العامل (4)، حتى يعمل بنفسه، ولم يسوّغ له أن يستأجر؛ فيجوز أن يقال: لا تصح المساقاة؛ فإنّ هذا تضييق، والتضييق ينافي هذه المعاملةَ، وأمثالَها، وتركُ تعرض الأصحاب يدل على أنهم لم يعتقدوا جوازَ المساقاة متعلقةً بعين العامل، والمسألة محتملة على حال؛ فإن المالك ربما لا يعتمد الأجراء، ولا يرضى بدخولهم البستان. وليس في التعيين [كبير] (5) تضييق أيضاً.
ثم لو قدرنا ورودَ المساقاةِ على عين العامل، فلو مات، انفسخت المساقاة بموته، لا محالة، فإنْ عمل غيرُه، والمعاملة واردةٌ على عينه.، لا يسدّ مسدّ عمله.
__________
(1) في الأصل: الوثرة. وهو تصحيف واضح، حصل بالقلب المكاني.
(2) في الأصل: يصور واردة.
(3) في النسخ الثلاث: واردة.
(4) " العامل ": أي "المساقى" والمعنى أن يشترط في العقد قيامه بالعمل بنفسه.
(5) ساقطة من الأصل.

(8/47)


فصل
قال: " ولو عمل فيها العامل، فأثمرت ثم استحقها ربُّها ... إلى آخره " (1).
5039 - إذا استُحقت النخيلُ بعد تمام العمل، وحصولِ الثمرة، فلا يخلو إما أن تكون الثمرة قائمةً، أو هالكةً.
فإن كانت باقيةً، فهي للمستحِق؛ لأنها حدثت من عَيْن مِلكه، ولا حقّ للعامل فيها.
ثم قال الأصحاب: إذا أخذ المستحِق الأشجار والثمار، وقد عمل العامل، فلأصحابنا طريقان: منهم من خرّج أمرَه على قولين؛ لأنه أتلف عمل نفسه، غير أن الغاصب هو الذي استعمله، فهل يرجع على الغاصب بأجرة مثل نفسه؟ فعلى قولين مأخوذين من أصل الغرور.
ومن أصحابنا من قطع بأنه يرجع على الغاصب؛ لأن قولٍ الغرور إنما يجريان فيه إذا رجع الحظُّ من الإتلاف إلى المغرور، فحينئذ نقول في قولٍ: لا يرجع؛ لأنه المنتفع بما أتلفه، فيبعد أن يجتمع له الانتفاع به [وحق] (2) الرجوع.
وفي قول نغلّب حكمَ الغرور؛ ونثبت الرجوعَ على الغار.
فأما العامل في مسألتنا؛ فإنه لم يُتلف شيئاً له فيه حظٌّ ونصيب، ولكنه عمل، ولم يقصَّر، وإنما حمله على العمل الغاصبُ، فوجب القطع بثبوت الرجوع عليه.
هذا إذا كانت الثمار قائمةً، فردت على المستحِق.
5040 - فأما إذا كانت الثمار تالفةً، فالقول في ذلك ينقسم: فإن اقتسماها، وتلف نصيب كل واحد منهما في يده، فليقع الكلام أولاً في نصيب العامل.
فالذي ذكره معظمُ الأصحاب في الطرق: الشيخ أبو محمد، وصاحب التقريب، والصيدلاني في مجموعه، وصاحب التصنيف المعروف؛ أن المستحِق إذا غرَّم العاملَ
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 77.
(2) في الأصل: وهو.

(8/48)


ما تلف في يده، فهل يرجع على الغاصب؟ كان ذلك خارجاً على الترتيب المشهور في الغارّ والمغرور؛ فإن العامل يدُه مترتبةٌ على يد الغاصب، والغاصب سببٌ في تحصيل يده؛ فكان في مرتبة الغارّ. وفصّل الصيدلاني ذلك، فقال: إن تلف ما خصّ العاملَ في يده من غير إتلافٍ من جهته، فطولب، ضمن، ثم رجع على الغاصب قولاً واحداً. وإن أتلفه على [حكم] (1) الغرور، ففي رجوعه على الغاصب قولان، كالقولين إذا قدّم الغاصبُ الطعامَ المغصوبَ إلى ضيفه، فأكله، فجعل يده عند التلف بمثابة يد المستودَع من الغاصب، وجعل إتلافه بمثابة إتلاف الضيف للطعامِ الذي قُدِّم إليه. هذا ما ذكره هؤلاء.
وأما العراقيون، فإنهم قطعوا أقوالهم بأن الضمان يستقر على العامل في حصته التي [قبضها] (2)، سواء تلفت في يده، أو أتلفها؛ لأنه قبضه عوضاً، وحكم العوض في المعاوضة الصحيحة أن يضمنه مَنْ قبضه؛ فكانت يد العامل في حصته من الثمرة بمنزلة يد المشتري من الغاصب، وقد قطعنا القول في كتاب الغصوب أن قرار الضمان فيما قبضه المشتري [على المشتري] (3)؛ فلا يتجه في القياس إلا ما ذكره هؤلاء، وهو الذي اختاره القاضي لنفسه، وظن أنه غير مسبوقٍ بهذا الاختيار. ولم يذكر العراقيون غيره.
هذا قولنا في حصته إذا فرض [منه] (4) قبضها عند اقتسام الثمار.
ولست أرى لما ذكره أصحابنا (5) وجهاً، إلا إخراجَ عوض المساقاة عن قياس الأعواض، وهذا غير متجه، مع كونه عوضاً عن منافعَ مستحَقة، في معاملة لازمة.
5041 - ولو تلفت الثمار على الأشجار قبل قطافها بجائحة، أما الكلام في حصة العامل، فعلى ما ذكرناه، وأما الكلام في الحصة الأخرى، فقد ذكر الأئمةُ
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: قبضوا.
(3) ساقط من الأصل.
(4) في الأصل: فيه.
(5) يريد المراوزة، حيث جعلوا المسألة على قولين، ولم يقطعوا قولهم كالعراقيين.

(8/49)


المراوزة، والعراقيون في توجه المطالبة على العامل (1) خلافاً، وقالوا: من أصحابنا من قال: لا تتوجه المطالبة على العامل، وهو ظاهر كلام المزني، ومنهم من قال: تتوجه المطالبة عليه، وهذا الخلاف في توجيه المطالبة أولاً، لا في قرار الضمان.
ثم وجه الأئمة الخلاف بأن قالوا: لا تثبت اليد للعامل؛ فإنه غيرُ مستحفظٍ بخلاف المودَع؛ فإنه مستحفظٌ من جهة المودع، واستدلّوا في ذلك بأن قالوا: لو جرت المساقاة مع المالك، ثم سُرقت الثمار، وكانت على رؤوس الأشجار بتقصيرٍ من العامل في الحفظ؛ فلا ضمان عليه؛ فإنا لا نكلّفه القيامَ بالحفظ، وإنما نكلفه الأعمال المشهورة المؤثرة في تنمية الثمار.
فهذا وجهُ من لا يضمّن العامل الآخذ من جهة الغاصب.
والوجه الثاني- أنه يضمن لثبوت يده ظاهراً حساً.
قال القاضي: قد ذكرنا تردداً في أنه هل يجب على العامل القيام بحفظ الثمار، وهل يلتحق ذلك بالأعمال المشروطة عليه، وهذا الخلاف الآن دليلٌ على ذلك التردد الذي قدمناه، فيجب أن نقول: إن ألزمناه الحفظَ، توجهت عليه المطالبةُ؛ إذ ترتبت يده على يد الغاصب، وكان كالمستودَع من الغاصب، وإن لم نُلزمه الحفظَ، لم تتوجه عليه المطالبة.
وهذا عندي كلام خارج عن الضبط المعتبر في مثل ذلك، من وجهين: أحدهما- أن اليد وثبوتَها أمرٌ محسوس، فتلقِّي ذلك من وجوب مؤنة الحفظ كلامٌ مضطرب، فالثمار مما تثبت اليدُ عليها، ويد العامل -من طريق الصورة- ثابتةٌ حسّاً، وضرورةً، ومن ثبتت يدُه على عينٍ مغصوبة فيستحيل بعد ذلك إبداءُ المراءِ في أنه هل يطالب أم لا.
وعندي أنه يجب القطع بوجوب الحفظ على العامل في الثمار، حالةَ استمرار يده؛ فإنا لا نجد صاحب (2) يدٍ في ملكِ غيره بجهةٍ شرعيةٍ، إلا وهو مأمور برعاية حق الحفظ
__________
(1) وجه المطالبة للعامل -وقد تلفت الثمار على الأشجار- أنها تكون تحت يده.
(2) (ي)، (هـ 3): أصحاب.

(8/50)


[فيها] (1)، وهذا جارٍ في الوكيل بالبيع، وفي المستأجِر في العين المستأجرة، وفي المرتهن، وغيرهِ من أصحاب الأيدي.
نعم. إنما يظهر التردد في مؤنة الحفظ (2) في صورة، وهي أن العامل إذا كان يعمل نهاراً، ويترك العمل ليلاً، فإذا فارق البستان، ولم يستخلف عليه ناطوراً، حتى سُرقت الثمار، ولا يد للعامل، فهذا فيه ترددٌ، قد ذكرناه، فيجوز أن يقال: يجب استخلافُ حافظٍ، ويجوز أن يقال: لا يجب عليه.
فأما ما دامت يدُه ثابتةً في زمان عمله، فكيف يستجيز المستجيز أن يسوّغ له الإغضاء على سرقة من يسرق، مع التنبّه لذلك؟ أم كيف يجوز ألا يتكلف بذلَ المجهود في الحفظ ما استمرت يدُه في مدة العمل؟ وكيف يستقيم أن يُتمارى في اليد المحسوسة، لزللٍ وخطأٍ في أن الضمان هل يجب على العامل لو قصر في الحفظ.
فيجب إذاً على القاعدة توجيه الطّلبة على العامل من جهة المستحِق المغصوب منه لتحقق اليد.
5042 - ومما يتفرع عليه، أن الأشجار في أنفسها لو تلفت تحت يدِ العامل، أو تلف بعضها، فلا حظ، ولا حصةَ للعامل في رقاب الأشجار، وقد أجراها الأئمة مجرى الثمار الواقعة في حكم المعاملة حصةً للمالك، فترددوا في توجيه المطالبة حَسب ما ذكرناه، وبنَوْا الأمرَ فيه على مؤنة الحفظ، وقد أوضحنا أن ذلك كلامٌ مضطرب، ووجه ردِّه إلى سَنن التحقيق ما ذكرناه.
ومن بديع ما ذكره الأصحاب الذين لم يثبتوا للعامل في حصته من الثمار يدَ قرارِ الضمان، أنهم قالوا: الكلام في حصة العامل إذا تلفت الثمار بالجوائح قبل القطاف، يجوز أن يخرّج على ما ذكرناه في حصة المالك؛ لأن اليد غيرُ ثابتةٍ قبل القطاف، والإحراز.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ي)، (هـ 3): "في ثبوته في صورةٍ ... ".

(8/51)


وهذا في نهاية البُعد؛ فإنه فرع أصلين ضعيفين جاريين غلطاً وخطأ (1)، أحدهما - التماري في اليد المحسوسة. والثاني - التغافل عن ضمان العوضية في حق العامل، في مقدار حصته، فوقع الفرع بعيداً بصدَره (2) عن هذين الأصلين.
5043 - ولو جنى العامل الثمارَ، وردّها إلى المخزن (3)، فقد رأيت الطرقَ متفقةً على ثبوت اليد على الحقيقة، وهذا صحيح، ولكن لا معنى لتخيل [الفرق بين] (4) هذه الحالة، وبين حالة قيام الثمار على الأشجار.
ومن أخذ ما ذكرناه من التردد في توجيه الطَّلِبة من القول في مؤنة الحفظ، لزمه أن يتردد في مؤنة الحفظ بعد الرد إلى الجرين؛ إذ لا فصل، واليد ثابتة حساً في الموضعين، فلا وجه إلا القطعُ بقرار الضمان في حصة العامل عليه.
ثم يجب القطع بتوجيه المطالبة بما ليس حصتَه، ثم الكلام في أنه فيما ليس حصتَه إذا طولب عند الفوات يرجع على الغاصب رجوع المستودَع عليه.
وللعراقيين طريقة ذكرناها في كتاب الغصب، في أن المستودَع من الغاصب إذا ضمن ما تلف في يده للمغصوب منه، فهل يرجع على الغاصب؟ أم يستقر الضمان عليه تنزيلاً لليد منزلة الإتلاف؛ من جهة أنها تضمِّن كما يُضمِّن الإتلاف؟ هذا مختلفٌ فيه عندهم، وهو مجانب لطريقة المراوزة، ثم يجب طرد قياسهم فيما ليس حصةً للعامل إذا تلفت تحت يده.
هذا بيان حقيقة المسألة، وقد اتفقت فيها عثرات وغلطات متداركة لأصحابنا المراوزة. والتردد في اليد والثمار على الأشجار، مما استوى في الغلط فيه المراوزةُ، والعراقيون. وهذا قبيحٌ، وأخْذ ذلك من مؤنة الحفظ زللٌ آخر؛ فإنَّ الأمر مفصلٌ فيه عندنا، كما قدمناه. ولسنا على ظنٍّ في جميع ما نبهنا عليه، بل الأمر مقطوع به.
__________
(1) في الأصل: أو خطأ.
(2) صَدَره: أي صدوره. وهذا استعمالٌ شبه دائم لإمام الحرمين لهذا المصدر.
(3) (ي): الجرين.
(4) في الأصل: الفرقة من.

(8/52)


فصل
قال: " وإن ساقاه على أنه إن سقاها بماء سماء أو نهر ... إلى آخره " (1).
5044 - صورة المسألة أن يقول المالك للعامل: ساقيتك على هذه النخيل على أنك إن سقيتها بماء سماءٍ أو نهر، فلك الثلث، وإن سقيتها بالنَّضح، فلك النصف، فالمعاملة فاسدةٌ على هذا الوجه؛ لمكان التردد الذي فيها، وشرط المعاملة الجزمُ، وبتُّ القول في تقدير العوض.
وقد قال الأئمة: لو قال رب المال للمقارض: إن، اتّجرت في البز، فلك ثلث الربح، وإن اتَّجرت في الطعام، فلك نصف الربح، فالقراض فاسد على هذا الوجه، فإذا فسد القراض مع جوازه ومشابهته الجعالة باحتمال (2) الجهالة، وإطلاق الأعمال من غير ضبطٍ بوقت، فلأن تفسد المساقاة أوْلى.
5044/م- ثم ذكر المزني تفصيلَ القول في أجرة الأجراء، وأنها على العامل أو على المالك، وقد فصلتُ القولَ في هذا في باب الشرط في الرقيق، فلا أُعيده.
ومما جدده القاضي في الأجراء صورةٌ أراها مضطربة، فأنقلها، وأبين التحقيق فيها.
قال: ولو قال المالك: ساقيتك، ولك الثلث من الثمار، والسدس فيها (3) إلى تتمة النصف للأجراء.
قال: "هذا صحيح". وهذا مختلٌّ، والخلل من الناقل، فإن إضافة جزء من الثمار إلى الأجراء باطل؛ فإنهم ليسوا في عقد المساقاة، وإنما تضاف الثمار إلى المالك بحكم الأصل أو إلى العامل بحكم العمل. نعم، لو أضاف النصف من الثمار إلى العامل، ثم ذكر أن مؤنة الأجراء عليه، فهذا جائز.
ولو أجرى قبل العقد أو بعده في معرض [المفاوضة] (4) أني زدتك سدساً، وحقُّك
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 77.
(2) في (ي)، (هـ 3): في احتمال.
(3) في (ي)، (هـ 3): منها.
(4) في الأصل: المعاوضة.

(8/53)


الثلث، لتتحمّلَ مؤنةَ الأجراء، فهذا -إذا لم يُجره شرطاً- كلامٌ لا يقدح في العقد.
وقد ذكرتُ أن إطلاق المساقاة توجب قيام العامل بالأعمال المنمِّية للثمار كلها، وإنما تنصرف مؤنة الأجراء عند بعض الأصحاب إلى المالك، بالشرط، كما قدمناه مفصلاً.
فصل
قال: " ولو ساقاه على وديٍّ (1)، لوقت يعلم أنها لا تثمر إليه، بم يجز ... إلى آخره " (2).
5045 - مقصود هذا الفصل تحصره مسائل: منها- أن يقول المالك في وديٍّ مغروس لرجلٍ: ساقيتُك على هذا الوديّ، لتعمل عليها، ودكر مدةً يُعلم أنها لا تثمر في مثلها، وإنما يدخل أوان إثمارها وراء تلك المدة، وجرى في لفظ المساقاة شرطُ شيء من ثمارها للعامل، فهذه المساقاة فاسدة؛ فإنها مستندةٌ إلى شرط شيءٍ لا يكون للعامل.
ثم إذا عمل العامل، فهل يستحق أجر المثل على المالك؟ قال الأئمة: إن علم العامل أنها لا تثمر في المدة المذكورة في المعاملة، ففي استحقاقه أجر المثل وجهان: أحدهما - أنه لا يستحقه؛ لأنه شرع في العمل شروع من لا يشك أن ما شرطه له لا يكون، فكان قانعاً بإحباط عمله، غيرَ خائضٍ فيه على اعتقتاد استحقاق عوض.
والوجه الثاني - أنه يستحق أجرة المثل، وهو اختيار ابن سريج وتعلق هؤلاء بلفظ المساقاة والمعاملة؛ فإن متضمنه إلزام عملٍ في مقابلة عِوض، فلئن كان لا يثبت ذلك العوض، فهو عبارة عن استحقاق عوضٍ ممكنٍ، وهو أجر المثل.
هذا إذا كان العامل عالماً بأن الوديّ لا يثمر في تلك المدة، فإن ظن أن الوديّ يثمر
__________
(1) الودي: على فعيل صغار الفسيل. الواحدة: وديّة. (المصباح).
(2) ر. المختصر: 3/ 78. وفي الأصل: لا تثمر ... الفصل. إلى آخر.

(8/54)


في تلك المدة، فالذي ذهب إليه الأئمة أنه يستحق أجرة المثل في هذه الصورة [وجهاً واحداً] (1) لمكان الظن.
ومن أصحابنا من طرد الخلاف الذي ذكرناه في استحقاق أجر المثل، والتفصيل أفقه وأحسن.
5046 - ومن مسائل الفصل أن تقع المساقاة في مدة يعلم أنها تثمر في السنة الأخيرة منها، أو في سنتين في آخر المدة، فهذا مثل: أن يعامله على العمل فيها عشرَ سنين، ويعلم أنها إن بقيت، وسلمت عن الآفة، ستثمر في سنتين من آخر المدة، فقد أجمع الأصحاب على صحة المساقاة، وجعلوا هذه السنين وإن خلا [معظمها] (2) عن الإثمار كالسنة الواحدة في النخيل المثمرة.
ثم إذا حصل الثمر، فليس للعامل إلا ما شُرط له.
ولو أصابت الثمار آفةٌ وجائحةٌ، فلا حق للعامل، كالمساقاة على النخيل المثمرة، فإن الجوائح إذا اجتاحت ثمارها، لم يستحق العاملُ شيئاً من أجر المثل، وكان كالعامل في القراض إذا لم يربح، فإنه لا يستحق شيئاًً.
ولو كنا نعلم أن الوديَّ يثمر في السنة الأخيرة، من المدة المضروبة، وكنا لا نقدّر أنها تثمر (3) قبل السنة الأخيرة، فإذا اتفق الإثمار في سنة على النُّدور، وكان قد شرط للعامل جزءاً من الثمار الحاصلة في المدة، ولم يقع التخصيص بثمار السنة الأخيرة، فالعامل يستحق الجزءَ المشروطَ له من ثمار السنة النادرة، كما يستحق من السنة الأخيرة.
5047 - ولو ساقى مالك النخيل رجلاً سنين، وكانت النخيل تُثمرُ إن لم تُصبها جائحة في كل سنة، فإن عُقدت المعاملة على أن يستحق العامل جزءاً من ثمرة كل سنة، جاز ذلك في السنين، جوازَه في السنة الواحدة.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: معظم أواخرها.
(3) (ي)، (هـ 3): لا تثمر.

(8/55)


وإن قال مالك النخيل المثمرة: ساقيتك ثلاث سنين على العمل (1) فيها، وليس لك إلا ثلث الثمرة في السنة الأخيرة، وتخلُص الثمرة لي في السنة الأولى والثانية، فهذه المعاملة فاسدة، قطع بفسادها المحققون.
وسبب الفساد أنه أثبت لنفسه الاستبدادَ [بثمار] (2) سنةٍ، أو سنتين، وإن كان عمل العامل جارياً فيها، وخصّص استحقاقه بسنة، وهذا بمثابة ما لو عامله، وشرط أن يعمل على جميع النخيل، ولا يستحق إلا النصف من بعض أنواع النخيل، وهذا ممتنع غيرُ سائغٍ كما تقدم.
5048 - ولو ساقاه على الوديّ، على جزءٍ من الثمار في السنة الأخيرة، وإنما خصص السنةَ الأخيرة [بالذكر] (3) بناءً على أن الثمرة إنما تقع فيها، فإذا اتفقت الثمرة في سنة أخرى قبلها، فالذي ذهب إليه الأئمة صحةُ المساقاة في هذه الصورة، ولم يجعلوها كالمساقاة على النخيل التي تثمر في السنين مع التخصيص بجزءٍ من ثمار بعض السنين.
وبنى (4) الأئمة على مسألة الوديّ وجوبَ الوفاء بالشرط وتخصيصَ الاستحقاق بثمار السنة الأخيرة، على حسَب الشرط ومقتضاه، والفرق ظاهر على رأي الأئمة لا غُموضَ فيه.
ولكن في مسألة الودي ضربٌ من الاحتمال؛ من جهة أن هذه المعاملة لا تحتمل انفرادَ المالك بثمار سنة (5) لا حظَّ للعامل فيها.
وكان (6) يجوز أن يقال: كان من حق مالك الودِي ألا يخصص استحقاق العامل بثمار السنة الأخيرة، بل يطلق لجواز أن يتّفق إثمارٌ في سنةٍ قبل السنة الأخيرة.
__________
(1) (ي)، (هـ 3): على أن تعمل.
(2) في الأصل: بثماره.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) (ى)، (هـ 3): ثم بنى.
(5) (ي)، (هـ 3): سنين.
(6) (ي)، (هـ 3): فكان.

(8/56)


5049 - ومن مسائل الفصل أن يساقي مالكُ الودِي العاملَ مدةً، ويغلب على القلب إثمارها فيها، ولا ينتهي الأمر إلى الاستيقان، فكيف الوجه في ذلك؟
جمع الأئمة هذه الصورة إلى الأخرى، وهي أن تكون المدة المذكورة بحيث لا يغلب على القلب إثمارُ الودِيّ فيها ولكن كان لا يبعد أن يثمر، وما نذكره يرجع إلى المدة، لا إلى تقدير السلامة من الجائحة والآفة؛ فإن الجوائح ممكنة في النخيل الباسقة.
فليفهم الفاهم أن هذا التردد محمول على قصر المدة وطولها.
ثم حاصل ما ذكره الأصحاب في الصورتين اللتين ذكرناهما طريقان: منهم من قال: إن كان لا يغلب على القلب إثمار الوديّ في تلك المدة، فالمساقاة فاسدة، وإن كان يغلب على الظن إثمارُها، ولكن لا ينتهي الأمر إلى الاستيقان، ففي صحة المساقاة وجهان.
وهذه الطريقة غيرُ مرضية، والصحيح عكسها، فنقول: إن غلب على الظن الإثمار، صحت المساقاة وجهاً واحداً، وإن لم يغلب على الظن، ولكن الإثمار كان ممكناً، فعلى وجهين.
وإنما رأينا القطع بالتصحيح عند الغلبة على الظن؛ لأن الحكم للأعم الأغلب، في مثل ذلك. والدليل عليه أن من أسلم في جنسٍ يغلب على الظن وجودُه في محله، فإن السلم يصح، كما يصح الإسلامُ فيما يستيقن وجودُ جنسه حالةَ المحل.
وإذا تبين ما ذكرناه في الصحة والفساد، فنقول وراء ذلك: إن صححنا المساقاة، فإن اتفقت الثمار، فللعامل ما شُرط له منها، لا شيءَ له غيرُه. وإن لم يتفق الإثمار في تلك المدة، فقد خاب العامل، ونزل عدمُ الإثمار في المساقاة التي حكمنا بصحتها منزلة عدم الثمار بالجوائح في النخيل المثمرة.
وإذا حكمنا بفساد المساقاة فللعامل أجر المثل، أثمرت الودي، أو لم تثمر، ونقطع بأنه يستحق أجرَ المثل إذا كان على رجاء من وجود الثمار. وإنما الخلاف فيه إذا عُلم أن الثمار لا تكون وقنع بشرط جزءٍ من الثمار، ففي استحقاقه الأجرةَ الخلاف المقدم.

(8/57)


وللقاضي تفصيلٌ، لم أره لغيره، وذلك أنه قال: إذا [استوى] (1) الاحتمالان في وجود الثمار، ففي الفساد.، والصحة وجهان، وإن ترجّح ظنُّ العدم، فالقطع بالفساد.
وهذا حسنٌ. ويُحتمل المصير إلى الصحة بمجرد الإمكان، وإن كان الغالب على الظن ألا تكون الثمار. وهذا ما ذكره الأصحاب. فليتأمل الناظر المنازلَ والمراتبَ، فقد نبهنا عليها فلا نعيد ترتيبها.
5050 - ومن مسائل الفصل أن يدفع المالك ودِيَّاً إلى العامل ليغرسه وينميه مدةً، ستثمر في آخرها إن علقت، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب فسادُ المعاملة؛ فان ابتداء الغراس ليس من أعمال المساقاة، وإنما أعمالها تنميةُ أشجارٍ مغروسةٍ، والمطلوب ثمارها، وهذا يضاهي في هذه المعاملة ما لو قال المالك للمقارَض: بع هذه العروض و [قد] (2) قارضتك على أثمانها إذا نضّت.
هذا مسلك الأصحاب.
وقد حكى شيخي وجهاً في تصحيح المساقاة، وهذا مزيَّفٌ، غير معتدٍّ به، ولكن ذكره صاحب التقريب، كما حكاه شيخي.
وتمام القول في ذلك أنا إن قلنا: لا تصح المساقاة، فلا كلام.
وإن قلنا: تصح المساقاة على الثمار التي ستكون في آخر المدة، فلو قال: اغرس هذا الوديّ، ونمّه، على أن لك الثلثَ من أعيان هذه الأشجار ورِقابها، فالذي قطع به الأئمة في الطرق فسادُ هذه المعاملة؛ فإن مبناها على استحقاق فوائد الأشجار، لا على استحقاق جزء من أعيانها. وذكر صاحب التقريب [وجهاً] (3) في صحة المعاملة على هذا الوجه، في الودِيّ والفسيل، فإنّ تعلّق (4) الودي هو مقصودُ
__________
(1) في الأصل: اشترى.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: وجهين.
(4) تعلّق الودي: أي نشوبها في الأرض، وتشبثها بها، كنشوب الجنين، وقراره في الرحم (ر. المعجم).

(8/58)


المعاملة، فكانت أعيانها بمثابة الثمار، إذا كان العامل يسعى في تحصيلها.
ثم قال صاحب التقريب: لا يضر وجودُ أعيانها حالة العقد؛ فإن الثمار قد تكون موجودة حالة عقد المساقاة، كما ذكرنا ذلك في أول الكتاب.
فهذا بيان مسائل الفصل.
فصل
قال: " وإن اختلفا بعد أن أثمرت النخيل ... إلى آخره " (1).
5051 - إذا اختلف العامل ورب النخيل في المشروط من الثمار للعامل، فقال رب النخيل: شرطتُ لك الثلث، وقال العامل: بل النصفَ، فإذا لم يكن في الواقعة بيّنة، فإنهما يتحالفان، ويفسخ العقد بالتحالف، وترتدُّ الثمار بجملتها إلى مالك النخيل، ويرجع العامل بأجر المثل، وإن كان أكثرَ من قيمة نصف الثمار.
فأما إذا كان في الواقعة بيِّنةٌ، فإن انفرد أحدهما بقامة البيّنة على ما يدّعيه، قُضي له بموجبها على [خصمه] (2)، وإن أقام كل واحد منهما بيِّنةً على وَفْق دعواه، وليقع الفرض فيه إذا [تعرضت] (3) البيِّنتان لتعيين الوقت الذي جرى العقد فيه على وجهٍ لا يمكن حمل البينتين على عقدين، فإذا جرى العقدُ كذلك، ففي المسألة قولان مشهوران: أصحهما - الحكم بتهاتُر البيّنتين، ورَدُّ الأمر إلى خلوّ الواقعة عن البيّنة، ولو خلت عنها، كنا نحكم بتحالفهما، فالأمر إذن كذلك.
والقول الثاني - أن البينتين تستعملان، ثم في استعمال البيّنتين في غير هذه الواقعة أقوال: أحدها - القسمة. والثاني - الوقف. والثالث - القرعة، على ما سيأتي في كتاب الدعاوى، إن شاء الله تعالى.
فأما قول الوقف، فلم يُجره الأصحاب هاهنا، وفيه فضل نظرٍ، سيأتي في
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 78.
(2) في الأصل، (هـ 3): حصته. والمثبت من (ي).
(3) (ي)، (هـ 3): تعارضت.

(8/59)


الدعاوى. وأجرَوْا قولَ القرعة، فمن خرجت له القرعة، فاز. وهل يحلف مع القرعة؟ فعلى وجهين.
والأصح أنه لا يجري قولُ القسمة.
ومن أصحابنا من قال: يثبت للعامل ما حصل الاتفاق عليه، وهو الثلث مثلاً، والمتنازع الزائد يقسّم بين الدعويين فيسقط نصفُه، ويثبت نصفه. وهذا بعيدٌ.
5052 - ولو ساقى رجلان رجلاً، فادعى العامل أنهما شرطا له النصف، فصدقه أحدهما، وكذبه الآخر، فيثبت نصيبه على موجَب التصديق على المصدِّق، ويعود الخلاف والنزاع إلى المكذِّب والعامل؛ فيتحالفان، ويرجع عليه بنصف (1) أجر مثل عمله.
فلو شهد المصدّقُ من المالكيْن على المكذّب للعامل، قبلت شهادتُه؛ إذ لا تهمةَ، ولا معنىً يوجب ردَّ شهادته.
ثم ذكر المزني أن رجلين لو ساقيا رجلاً، وشرط أحدهما له النصفَ من نصيبه، وشرط الثاني له الثلث، فإن تعيّن مقدار نصيب كل واحد منهما للعامل، صح ذلك.
وإن لم يبن له مقدارُ نصيب كل واحد منهما، وقد جرى الشرطُ على التفاوت، فالمعاملة فاسدة. وقد ذكرنا ذلك، ونظائره فيما سبق، وأوضحنا تعليله بما فيه مقنع، فلا حاجة إلى الإعادة.
وقد نجزت مسائل الكتاب.
فرع:
5053 - قد رمزنا في صدر الكتاب إلى تردُّدِ الأصحاب في أن الخرْص هل يجري في حكم المساقاة؟ فالذي مال إليه الأكثرون أن الخرص يجري في المساقاة [بين] (2) المالك والمساقَى، وهؤلاء استدلّوا بحديث عبد الله بن رواحة، لما خرص على أهل خيبر، بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن خرصُه لأجل الزكاة؛
__________
(1) (ي)، (هـ 3): بمثل.
(2) في الأصل: من.

(8/60)


فإن أهل خيبر كانوا يهوداً، لا زكاة عليهم، فدلّ [على] (1) أن الخرص كان في حكم المساقاة. ومن أصحابنا من قال: لا يتعلّقُ في المساقاة بالخرص حكمٌ، وحمل ما جرى على معاملةٍ بين المسلمين والكفار، لا يجوز فرض مثلها بين المسلمين بعضهم مع بعض.
فإن أثبتنا للخرص حكماً، فقد تقدم قولان في كتاب الزكاة، في أن الخرص عِبْرةٌ، أو تضمينٌ، وأوضحنا أنا إذا جعلنا الخرص عبرةً، فليس يتعلّق به حكمٌ محقّق. وإذا جعلناه تضميناً، فأثره قطعُ تعلّق الزكاة عن عَيْن الثمار، وردُّها إلى ذمة من عليه الزكاة، وتسليطُه على التصرف في الثمار بجملتها، حتى كأنا ننقُل حقَّ المستحقين من عين الثمار إلى الذمة.
فمن أثبت للخرص حكماً في المساقاة، فقد يعتقد أن حصة المالك بعد تقدير التَّجفيف تنقلب إلى ذمة العامل المخروص عليه، وتصير الثمار بجملتها ملكاً له؛ لضمانه حصةَ المالك.
وهذا لا يجترىء على القول به إلا جسورٌ؛ فإنّ قطعَ ملك المالك عن أعيان الثمار، وردَّه إلى ذمة العامل، من غير معاوضة يهتدي إليها محالٌ، وليس كالزكاة؛ فإن الأصل في ملك النصاب المالك، والزكواتُ حقوقٌ معترِضةٌ. وقد نقول: الأصح أنها لا تتعلق بالمال تعلق استحقاق، فردُّ الزكاة إلى الذمة على شرط الضمان، لا يبعد كلَّ البعد.
وإن قلنا في المساقاة: أثر الخرص أن يتقدر نصيب المالك على العامل، حتى لو ادعى نقصاناً مفرطاً، عما حزره الخارص تقريباً، لم يُقبل منه، إلا أن تعترض جائحة وآفةٌ، فهذا أقرب من نقل حق المالك من العين إلى الذمة، وتمليكِ العامل جميع الثمار، وهذا يضاهي تفريعَنا على قول العبرة في حق الزكاة.
فهذا ما أردناه في ذكر الخرص ومعناه.
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(8/61)


ومن امتنع من تأثير الخرص في المساقاة فسببُ امتناعه غموضُ أثره في العِبرة، والتضمين، كما أشرنا إليه.
5054 - ثم إن جعلنا للخرص أثراً، فالخرص يجري في النخيل والكرم، [وجرت] (1) المساقاة فيها، وهل يجري الخرص فيما عداهما من الأشجار؟ فعلى قولين. ولذلك خرّجنا المسألة في المساقاة على سائر الأشجار على قولين.
فإذا أثبتنا الخرص وتأثيره، اعتقدناه أمراً مرعيّاً، وأصلاً معتبراً في تصحيح المساقاة. والله أعلم بالصواب.
وإن لم نثبت للخرص أثراً، فيليق (2) بهذا القول تجويز المساقاة على جميع الأشجار، وإن افترقت في جريان صورة الخرص عادةً وإمكاناً.
5055 - ومما نلحقه بآخر هذا الفصل أن الثمار إذاً وجدت، فالمشروط للعامل منها مملوكٌ له، ولا يتوقف جريان ملكه فيه على استكماله الأعمالَ المشروطةَ عليه، وليست الثمار في ذلك بمثابة الأرباح في القراض؛ إذا (3) اختلف القول فيها، و [أن] (4) العامل هل يملك حصته منها بالظهور.
وهذا الذي ذكرناه مأخوذ من فحوى كلام الأئمة في الطرف، والسبب فيه أن [من] (5) منع ثبوتَ الملك للعامل في القراض تمسك بحرفين: أحدهما - أن الربح وقايةٌ [لرأس] (6) المال، وهذا المعنى لا يتحقق في الثمار، بالإضافة إلى الأشجار؛ فإن الأشجار لو عابت في أنفسها لآفةٍ أصابتها، لم يُجبر نقصانها بالثمار.
__________
(1) في الأصل: فجرت.
(2) في الأصل: فلا يصح، فيليق.
(3) كذا في النسخ الثلاث: "إذا" وهي بمعنى (إذ).
(4) في الأصل: وأنا.
(5) سقطت من الأصل.
(6) في الأصل: "برأس"

(8/62)


ومن أصحابنا من عوّل في الربح على تنزيله منزلة الجُعل في الجعالة؛ من حيث لا تنضبط أعمال المقارَض في معاملة جائزة وهذا لا يتحقق في المساقاة؛ فإن الأعمال فيها إلى الضبط، وهي لازمة لا يملك العامل التخلص منه اختياراً.
فرع:
5056 - أجرى القاضي في أثناء المسائل كلاماً متعلقاً بالعاريّة أحببنا نقله، وإن لم يكن من مسائل المساقاة.
قال: إذا وهب الرجل نَيْلَ معدنٍ مملوكٍ له، في مدةٍ من واحدٍ، ليعمل عليه، ويكونَ له ما يستخرج منه، فالهبة فاسدة في نص الشافعي، لأنها هبةُ [مجهولٍ] (1)، وليس كما لو أعار المالك من إنسانٍ عبدَه أو دارَه، وترك العين في يده من غير إعلام وضبطٍ؛ فإن المستعير يملك المنافع مدةَ اتّفاق بقاء العين المستعارة في يده، وهذا في التحقيق هبةٌ ومنحةٌ [في] (2) مجهول.
ثم فرّق، فقال: المنافع في وضع الشرع جعلت كالأعيان الموجودة، وجاز إيراد المعاوضة عليها، كما يجوز إيراد ذلك في الأعيان الموجودة، فكذلك يجوز أن تكون كالأعيان الموجودة في عقد التبرع، ومثل هذا لا يتحقق في نيل المعادن. ثم ما يستفيده العاملُ على المعدن من نيلٍ يلزمه ردُّه على مالك المعدن؛ فإن الرد فيه ممكن، والرد غيرُ ممكن في المنافع المستوفاة.
وهذا كلامٌ مختلطٌ.
وكان شيخي يقول: الإعارة ليست تمليكاً، والمستعير لا يملك المنافع قط، وإنما الإعارةُ إباحةٌ وإمتاعٌ، والمستعير ينتفع [بالمنافعِ] (3) انتفاع الضيف بما يأكله من الطعام، والأصح أن الضيف لا يملك ما يأكله، والإباحة لا تجري إلا في منتفعٍ به حالةَ الاستيفاء، ونيل المعدن ليس كذلك، ولو كان النَّيل مطعوماً، فأباح لمن
__________
(1) في الأصل: مجهولة.
(2) في الأصل: من.
(3) ساقطة من الأصل.

(8/63)


يأكله، أو يشربه، فما جرى من ذلك، فلا معترض فيه، ولا ضمان (1).
تمّت المساقاة.
...
__________
(1) في خاتمة نسخة (ي). ما نصه:
(والله أعلم. ثم في الهامش: بلغ مقابلة سنة 674 وبالله التوفيق).
ثم بعد ذلك
(آخر المجلد الثامن، يتلوه - ولله الحمد والمشيئة، في التاسع
كتاب الإجارة
الحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً حمداً كثيراً طيباًَ مباركاً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً كثيراً.
وحسبنا الله ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
انظر إلى الدهر وتفكر بعجايبه، وانظر إلى الناس تراهم كثيري التقلب).
أما نسخة (هـ 3)، فقد جاء في خاتمتها ما نصه:
(والله أعلم. يتلوه في الذي يليه بعون الله وحسن توفيقه
كتاب الإجارة
صح. نقل هذا الجزء بأسره من النهاية لإمام الحرمين
إلى خزانة سيدنا ومولانا الفقيه الإمام العالم سيد الورى فخر الدين شرف الأئمة أدام الله عليه ....... لمجد .... )

(8/64)