نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الإجارة (1)
5057 - الإجارة معاملة صحيحة، تورد على منافعَ مقصودةٍ قابلةٍ للبذل والإباحة، على شرط الإعلام مع العوض المبيّن.
5058 - وقد أجمع من بإجماعه اعتبار على صحة الإجارة، وخلاف ابن كيسان (2) الأصم، والقاساني (3) غيرُ معتدٍّ به من وجهين: أحدهما - أنهما ليسا من أهل الحل والعقد، والآخر - أن خلافهما مسبوقٌ بإجماع الأمة على صحة الإجارة قبلهما.
5059 - وتيمّن الأئمةُ بذكر قصة شعيب في استئجار موسى صلوات الله عليهما، والاستئجار على الإرضاع منصوصٌ عليه في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6].
__________
(1) من هنا -من كتاب الإجارة- بدأ العمل معتمداًَ على نسختين فقط، حيث انتهت نسخة (ي)، ونسخة (هـ 3) وبدأت نسخة (د 1) مع نسخة الأصل: (د 2).
(2) ابن كيسان، عبد الرحمن بن كيسان الأصم، أبو بكر، فقيه معتزلي، تلميذ العلاف، وله معه مناظرات، ت نحو 225 هـ. (ر. نشأة الفكر الفلسفي: 1/ 397، 410، 451 - والمنية والأمل: 52، لسان الميزان: 3/ 427، والأعلام: 3/ 323).
(3) القاساني، محمد بن إسحاق القاساني الظاهري، أخذ عن داود، وخالفه في مسائل، نقضها عليه ابنُ المغلّس. والقاساني بالسين، والعامة تقولها بالشين، نسبة إلى قاسان، من نواحي أصبهان. (تبصير المنتبه، بتحرير المشتبه: 3/ 1146) زاد الشيرازي في (طبقات الفقهاء: 176) قوله: " خالف داود في مسائل كثيرة في الفروع والأصول " ثم ذكر اسم كتاب ابن المغلس الذي رد به على القاساني، وهو: (القامع للمتحامل الطامع)، كما زاد أيضاًًً أنه يكنى بأبي بكر. وانظر (الفهرست: 300) وعنده: القاشاني (بالمعجمة) وعنده أيضاًًً أنه انتقل إلى مذهب الشافعي، وألف في إثبات القياس!!! قلتُ: لعله وهمٌ من ابن النديم، فالإمام في (البرهان) يعدّه ممن لا يقولون بالقياس على إطلاقه. وكذلك لم يقل هذا أحدٌ من أصحاب طبقات الشافعية (فيما نعلم).

(8/65)


وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجفّ عرقُه " (1). والحديث الذي أجراه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً، إذ قال: " مثلكم ومثل الذين من قبلكم من اليهود والنصارى، كمثل رجل استأجر أجيراً من الصبح إلى الظهر بقيراط " (2). معروف. وهو أصل في الباب. وقال صلى الله عليه وسلم: " ثلاثةٌ أنا خصمهم، ومن كنت خصمه خصمتُه: رجل باع حراً، وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منفعته، ولم يؤدّ أجره، ورجل أعطاني صفقةَ يمينه، ثم غدر " (3).
" وأجّر عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه نفسَه من يهودي كان يستقي له الماء، كل دلو بتمرة " (4). " واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بنَ أريقط دليلاً " (5).
__________
(1) حديث " أعطوا الأجير أجره "، رواه ابن ماجة: كتاب الرهون، باب أجر الأجراء: 2/ 817، ح 2443، والطبراني في الصغير: 1/ 43، ح 34، وأبو يعلى: 12/ 34، ح 6682، وابن عدي في الكامل: 6/ 230، والبيهقي في السنن: 6/ 120، 121. وانظر التلخيص: 3/ 132، 1314.
(2) حديث: " مثلكم ومثل الذين من قبلكم "، رواه البخاري: كتاب المواقيت، ح 557، وكتاب الإجارة، ح 2268، وكتاب الأنبياء، ح 3459، والترمذي: كتاب الأدب، ح 2871، وأحمد: 2/ 6، 111.
(3) حديث: " ثلاثة أنا خصمهم ... " عند البخاري من الأحاديث القدسية، فقد رواه عن أبي هريرة بلفظ: " عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال الله تعالى: "ثلاثة أنا خصمهم ... " وهو أيضاًًً على غير هذا الترتيب، فقد قدم من أعطى وغدر، وهو بلفظٍ مغاير أيضاًً: " رجل أعطى بي ثم غدر " وقد رواه في كتاب البيوع: باب إثم من باع حراً، ح 2227، وفي كتاب الإجارة: باب إثم من منع أجر الأجير، ح 2270، ورواه أحمد: 2/ 358.
(4) حديث علي " أنه أجر نفسه من يهودي " أخرجه ابن ماجة: كتاب الرهون، باب الرجل يستقي كل دلو بتمرة، ح 2446، 2447، وأخرجه البيهقي في السنن: 6/ 119، ورواه أحمد في مسنده: 1/ 90، 135، وانظر التلخيص 3/ 134 ح 1319.
(5) حديث استئجار الرسول صلى الله عليه وسلم لابن أريقط، أخرجه ابن إسحاق، وابن جرير، وهو عند البخاري من غير تصريح باسم الدليل. (تخريج أحاديث السيرة للألباني. بهامث فقه السيرة للغزالي: 170، والبخاري: كتاب الإجارة، باب استئجار المشركين عند الضرورة، ح 2263. وأيضاًً باب إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاث، ح 2264).

(8/66)


والحاجة ماسة إلى الإجارة بينةٌ لا خفاء بها.
5060 - ولسنا ننكر أن الإجارة من حيث وردت عدى منافعَ لم تخلق [بعدُ] (1) مائلةٌ عن القياس بعض الميل، ولكنها مسوغةٌ لعموم الحاجة. وقد ذكرنا في مواضعَ أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة. ثم ما ثبت أصله بالحاجة، لم يتوقف إثباته وتصحيحه في حق الآحاد على قيام الحاجة، حتى يقال: الإجارة تنعقد في حق من لا مسكن له، وهو محتاج إلى المسكن، ولا تنعقد في حق من يملك المساكن، بل يُعمم [في حكم] (2) التجويز الكافة.
5061 - ثم نذكر تراجم في أصول الكتاب بالتوطئة والإيناس، وننعكس في المسائل على تفصيلها، فنذكر معقود الإجارة، والألفاظَ التي تنعقد الإجارةُ بها، وما تصح الإجارة فيها، ونرمز إلى [انقسام] (3) الإجارة في قاعدتها. إن شاء الله تعالى.
5062 - فأما القول في معقود الإجارة، فقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه قديماً وحديثاً، فقال بعضهم: المعقود عليه في الإجارة العينُ المستأجرة، وإنما حملهم على ذلك محاذرةُ الحكم بإيراد المعاوضة اللازمة على مفقودٍ، وهي المنافع.
وقال قائلون: المعقود عليه في الإجارة المنافعُ.
وهذه الطريقةُ هي المرضية عند الفقهاء، فإن معقودَ كلِّ عقدٍ هو المقصود منه، والمنافع هي المقصودةُ، والإجارة عقدُ تمليكٍ، والمنافع هي التي تُملّك، وتستحق فيها دون العين، والأجرة في الإجارة تتوزع على المنافع، إذا تبعضت في منازل الفسخ والانفساخ، فهي المقصودة المعقودُ عليها، ولكن الشرعَ احتمل إيراد العقد عليها، وهي تثبت شيئاًً شيئاً (4)؛ لما أشرنا إليه من مسيس الحاجة.
__________
(1) مزيدة من: (د 1).
(2) في الأصل: بحكم.
(3) في الأصل: انفساخ.
(4) (د1): شيئاًً فشيئاًً.

(8/67)


وقد ينتهي الكلامُ إلى ماهية المنفعة، وليست المنافع (1) رقبةَ العين المستأجرة، ولا ما يعقل من صفاتها كتركّب الجدران وتنضّد السقف على الهيآت (2) المطلوبة، وغيرها من الصفات.
فالمنافع إذن نعني بها تهيُّؤَ العين المستأجرة لانتفاع المستأجِر بها في الوجه المطلوب، ولا مزيد في الأحكام الشرعية على هذه المواقف.
5063 - وقال القاضي: الإجارة ترد على العين، لاستيفاء المنفعة منها، وأشار بذلك إلى أن [العاقد] (3) يقول: أجرتك هذه الدارَ، فيضيف لفظَه إلى عينها، والمقصود استيفاء المنفعة منها.
وهذا الذي قاله قريب؛ فإنه (4) عَنَى [بذكر] (5) العين إضافةَ لفظ الإجارة إليها.
وهذا لا اختلاف فيه، ثم أشار إلى المنافع، وأبان أنها المقصودة، وفيما ذكره مزيد نظر وتفصيل، [سننبه] (6) عليه في ألفاظ هذا العقد، إن شاء الله تعالى.
5064 - فأما القول في الألفاظ التي تنعقد الإجارةُ بها، فاللفظ الشائع الصريح في الباب -من غير استكراه- الإجارةُ، والإكراءُ. فقول المالك: أكريتُك هذه الدارَ سنةً، أو أجرتك بكذا. ولو قال: ملكتك منفعةَ هذه الدار، أو منفعةَ هذا العبدِ شهراً بكذا، صحَّ، باتفاق الأصحاب. وهذا يدل دلالة ظاهرة على أن المعقود عليه المنافع.
5065 - ولو قال: بعتُ منك منافعَ هذه العين شهراً بكذا، ففي صحة الإجارة وجهان مشهوران: أظهرهما - أن الإجارة لا تنعقد؛ لأن لفظ البيع موضوعٌ لتمليك الأعيان، فاستعماله في المنافع بعيدٌ عن موضوعه، ونقْلٌ له عن حقيقة بابه.
__________
(1) (د1): المنفعة.
(2) (د1): اللبنات المطلوبة.
(3) في الأصل: القائد.
(4) (د1): فإن.
(5) في الأصل: ذكر.
(6) في الأصل: سنبينه.

(8/68)


ولفظُ التمليك لا اختصاص له ببابٍ (1)، بل هو صالح لكل ما يثبت فيه الملك، والمنافع مملوكة بالإجارة.
وقال ابن سُريج: تصح الإجارةُ باستعمال لفظ البيع على الصيغة التي ذكرناها؛ فن البيع يتضمن تمليكَ الأعيان، والمنافعُ تملك بملك الأعيان، فلا يبعد استعمال لفظ البيع فيها، كما لا يبعد مساواةُ المنافع للأعيان في جريان الملك، وقد قال الشافعي: الإجاراتُ صنفٌ من البيوع.
5066 - ولو قال: أكريتك، أو قال: أجرتك منافع هذه الدار، كان اللفظ لاغياً؛ فإن وضع لفظ الإجارة على الإضافة إلى العين المنتفع بها، فإذا أضيف إلى المنافع، كان لاغياً في اللسان، غيرَ مفيد، ولا يضاف إلى المنافع إلا ما يقتضي التمليك في وضعه وصيغته، والإجارةُ ليست كذلك. وإنما أفادت الملكَ بالشيوع في الاستعمال، فلتستعمل على الوجه المعتاد.
5067 - وهذا أوان التنبيه على ما ذكرناه قبلُ من كلام القاضي: فقوله: الإجارة ترد على العين لاستيفاء المنفعة، يختص بلفظ الإجارة والإكراء؛ فإنهما لا يتضمنان تمليكاً، وما يتضمن تمليكاً يَضاف إلى المنفعة دون العين، فلو قال: ملكتك هذه الدارَ شهراً، وأراد الإجارة، لم يجز، وحُمل اللفظُ فيه (2) على تمليكٍ مؤقت في العين، وهو فاسد. فإذا كان [يقع الكلام كلياً] (3) في معقود الإجارة، فلا معنى للتعلق بصيغة لفظة من الألفاظ مختصة، وإنما يمتحن المعقود من الألفاظ الناصّة على الغرض كالتمليك، فلا جرم هو مضاف إلى المنافع، والإجارة تعمل عن جهة شيوعها في العادة، لا عَنْ معناها. فهذا ما أردنا التنبيهَ عليه.
5068 - فأما القول فيما تصح إجارته، وما لا تصح إجارته، فالأوْلى فيه التعرض
__________
(1) هذا توجيهٌ للوجه المقابل للأظهر الذي فهم من الكلام، ولم يذكره صراحة، ولكنه سيأتي فيما نقلها عن ابن سريج.
(2) (د 1): منه.
(3) في الأصل: نفع الكلام كلّها.

(8/69)


للتقسيم. فالأعيان تنقسم إلى الجمادات، والحيوانات، فأما الجمادات، فإنما تجري الإجارة فيما يُنتفع به انتفاعاً [يقابَل] (1) بالمال عرفاً، مع بقاء العين. وما لا يتأتى الانتفاع به إلا باستهلاكه، فلا يتخيل فيه الإجارة. كالأطعمة والأشربة، فلا تُستأجر التفاحةُ لتُشتمَّ؛ فإن ذلك، وإن كان منفعة، فليست من المنافع التي تُبذل عليها الأموال، ومالك التفاحة لا يرضى بتسليمها لتُبذلَ، وتقربَ من الفساد، ثم تُرد.
5069 - واختلف أئمتنا في استئجار الدراهم والدنانير، لتزيين الحوانيت، ودكاكين الصيارفة، فذهب الأكثرون إلى منع استئجارها؛ فإن ما ذكرناه ليست منفعةً مقصودةً؛ فإن الغرض مما أشرنا إليه موقوفٌ على أن يُرِي الصرافُ أنها ملكُه، ولو ظهر ذلك، لفسد الغرض، فغاية المقصود تلبيسٌ إذاً، وإذا منعنا الاستئجار، ففي جواز استعارتها للمقصود الذي ذكرناه خلافٌ، ولا وجه لمنع الإعارة إلا ما نبهنا عليه من التلبيس، وإلا فالإعارة تقبل الجهالةَ والإبهام، ولا تقبلها (2) الإجارة.
5070 - وذكر القاضي في الاستشهاد بفساد إجارة الدراهم، والدنانير: أن استئجار الأطعمة لمثل الغرض الذي ذكرناه في الدراهم فاسدٌ. ولستُ أرى الأمرَ كذلك، فلو استأجر الرجلُ صُبرةَ حِنطةٍ، ليزين بها دكّانه، فالكلام فيه [كالكلام في] (3) استئجار الدراهم والدنانير. ولا يجوز تخيّل الفرق بينهما (4 والخلاف جارٍ فيهما 4)، والأصح المنع، كما قدمناه.
5071 - وأما الحيوان قسمان (5): آدمي، وغيرُ آدمي، فالآدمي يجوز إجارته، حراً كان أو عبداً. وغير الآدمي قسمان: منتفعٌ به، وغير منتفع به. فما لا ينتفع به
__________
(1) في الأصل: فيقابل.
(2) (د 1): ولا تقتضي ما تقتضيه الإجارة.
(3) في الأصل: فالكلام فيه كاستئجار الدراهم.
(4) ما بين القوسين ساقط من (دا).
(5) هكذا. بدون الفاء في جواب (أما) وهي لغة (كوفية)، يجري عليها غالباً إمام الحرمين، في كتابه هذا، وفي غيره، كما أشرنا مراراً.

(8/70)


يظهر فساد إجارته، كالخنازير، والسباع غير (1) الجوارح، والحشرات ونحوها.
والمنتفع به قسمان: نجس العين، وطاهر العين. فأما ما هو نجس العين، فالكلب المعلّم، وفي جواز إجارته وجهان: أحدهما - لا تصح، كما لا يصح بيعه.
والثاني - أنها تصح؛ لأن مَوْرد البيع العين، وعين الكلب نجسة، ومورد الإجارة المنافع، وهي لا تتصف بالطهارة والنجاسة.
وأما الحيوان الطاهر المنتفع به، كالجوارح من [الطيور] (2)، وكالفهد، والحُمر، والبغال، والفيلة، والبقر، التي تركب، وتَحمل، أو تصلح للحراثة، فاستئجارها جائز.
5072 - ولا يجوز استئجار الأعيان لأعيانٍ تنفصل منها، كاستئجار الأشجار لمكان الثمار؛ قصداً إلى تملكها، وكاستئجار المواشي قصداً إلى درِّها ونسلها. هذا ممتنع لا مجوّز له.
5073 - ثم الإجارة تنقسم، فقد تُفرضُ واردةً على العين، بحيث لا يتصور ورودها على الذمة، وهذا بمثابة استئجار الأراضي، والمساكن، والقنوات، ونحوها، فلا يتأتى فرض إيرادها على الذمة، كما لا يتأتى الإسلامُ في شيءٍ (3) منها في الذمة، يُلتزم، ثم يُعيّن، والسبب فيه أن مقصودَها الأعظم يتعلق بتعيينها؛ وإلا، فالقَراح (4) في موضعٍ يُقوّم بمائة، ومثله في موضع آخر يُقوّم بعشرة، فإذا كان مقصودُها الأظهر في تعينها، ولا يتصور نقلُها، لم ينتظر إيراد البيع إلا على ما يتعين منها. وكذلك القول في إجارتها.
فأما ما سواها من الأعيان [وهي] (5) المنقولات، فالإجارة تنقسم فيها إلى ما يرد على العين، وإلى ما يرد على الذمة. وهذا مما سيأتي مفصلاً في مسائل الكتاب.
__________
(1) المراد هنا الجوارح التي يمكن تعليمها للصيد.
(2) في الأصل: الصيود.
(3) (د 1): في موصوفٍ.
(4) القَراح: وزان كلام: المزرعة التي ليس فيها بناء ولا شجر (المصباح).
(5) في الأصل: فهي.

(8/71)


ولكنا نذكر الآن جُملاً من خواصّ ما يرد على الذمة، وقضايا ما يرد على العين.
والقسمان أولاً يستويان في وجوب الإعلام في العوض والمعوّض، [وقد تختلف طرق الإعلام] (1) في المنافع على ما سنذكر معاقد الكلام، فيها، إن شاء الله تعالى.
5074 - فإن وردت الإجارة على عينٍ مثل أن يقول: استأجرت [منك] (2) هذا العبد أو هذه الدّابة، صحّت الإجارة. ولإعلام المنفعة مسلكان: أحدهما - المدة، والآخر - الإعلام بذكر نهاية المقصود، فأما المدة، فيقول: استأجرت منك هذه الدّابة لأتردد عليها في حوائجي في هذا اليوم، أَوْ أَحملَ عليها في هذا اليوم أقمشةً أنقلها من الحانوت إلى الدار، فهذا وجهٌ.
والوجه الآخر - أن يقول: استأجرت هذه الدابة، [لأركبها] (3) إلى موضع كذا، أو أحمل عليها كذا وكذا إلى موضع كذا، فإذا صحت الإجارة، فمن حكمها ألا يجب تسليم الأجرة في المجلس؛ فإنها لم تقع سلماً، بل ارتبطت بعينٍ، ولا يجري فيها إبدال العين المعيّنة بغيرها، وإن تلفت قبل استيفاء المنفعة، انفسخت الإجارة. كما سنصف ذلك من بعدُ، إن شاء الله، وإن عابت، فردها المستأجر، انفسخت الإجارة.
5075 - ثم مما نمهده في هذا القسم أن المستأجر إذا ذكر نوعاً من الانتفاع، لم يتعين، وكان ما (4) يساويه في الإضرار بالدابة في معناه. فلو قال: استأجرت هذه الدابة لأركبها، ثم أراد أن يُركب غيرَه، وكان ذلك الغير مثلَه، فذلك جائز.
ولو استأجر أرضاً لزراعة الحنطة، كان له أن يزرعها شعيراً؛ فإن ضرر الشعير أقلُّ، ولسنا نلتزم تفصيل هذا؛ فإنه بين أيدينا (5).
والضابط الذي يليق بعقد التراجم أن الإبدال جائز في جهات الانتفاع، إذا لم يزد
__________
(1) في الأصل: قد يختلف طرفا الإعلام.
(2) زيادة من (د 1).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في (د 1): بما.
(5) أي سيأتي فيما نستقبل من مسائل.

(8/72)


الضررُ، ولم يختلف جنسُه. أما زيادة الضرر، فمثل: أن يستأجر الدابة لركوب نفسه، وهو نحيف، ثم يُركبها رجلاً ضخماً، وأما الاختلاف في الجنس، فهو أن يستأجر دابة ليحملها تبناً، فحمّلها مثلَ وزن التبن تبراً، [لم يجز] (1)؛ فإن ضرر التبن في أن [يغمر] (2) الدابة ويعمّها، وضرر التبر في ثقلها [على] (3) موضع من البهيمة؛ فهي (4) تكُدُّ (5) ذلك الموضعَ، وتُميده (6)، فلا يجوز هذا النوع من الإبدال.
ثم إجارة العين تضاهي بيعَ العين في الافتقار إلى الرؤية، على حسب ما ذكرناه في اختلاف القول في بيع الغائب.
5076 - وأما الإجارة الواردة على الذمة، فمثل أن يقول: ألزمت ذمتَك خياطةَ هذا القميص، أو نقلَ هذه الحمولة ووزنُها كذا، من هذا الموضع إلى موضع كذا، أو تنقلني إلى موضع كذا، فهذا النوع جائز على الجملة.
فإن وقع العقدُ بلفظ السّلم، صح، ويجب تسليمُ الأجرة في المجلس، كما يجب تسليم رأس المال في السلم. (7 وإن جرت الإجارة على الذمة من غير لفظ الإسلام 7) والإسلاف، ففي اشتراط تسليم الأجرة في المجلس وجهان أجرينا نظيرهما في البيع الوارد على الذمة [من غير لفظ السلم والسلف.
ثم من أحكام الإجارة الواردة على الذمة] (8) ذكرُ أوصاف ما ينتفع به على ما يليق بأوصاف المسْلَم فيه، فإذا طلب مركوباً، ذكر جنسَه ونوعَه، والذكورة والأنوثة، وصفةَ المشي، والتعرضُ للذكورة والأنوثةِ يؤول إلى صفة المشي، وسيأتي استقصاء
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: يعم.
(3) في الأصل: حتى.
(4) (د 1): فهل.
(5) (د 1): تهدّ.
(6) (د 1): وتكده. وتميده: من ماد الشيء ميداً: اضطرب وتمايل. (المعجم).
(7) ما بين القوسين ساقط من (د 1).
(8) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(8/73)


هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى. وقَدْرُ (1) المقصود الآن عقدُ الجُمل.
ثم إذا جاء الملتزِم بالمنتفَع به، فلم يكن على الوصف المستحق، أبدله، وإن عابت تلك الدابة، ولم يرض بذلك العيبِ المؤثر في المنفعة - المستأجرُ ردَّها، ولم ينفسخ العقد، فليأخذ (2) بدلها. وكذلك لو تلفت تلك الدابة، وجب إبدالها.
5077 - ولو قال: استأجرت هذه الدابة، كانت الإجارة واردةً على عينها.
ولو قال للرجل الذي يخاطبه: استأجرتك بكذا وكذا، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الإجارة واردةٌ على عين المخاطب، وقوله: استأجرتك، كقوله: استأجرتُ هذه الدابة.
والوجه الثاني -وهو الذي صححه القاضي- أن الإجارة تنعقد على الذمة بهذه العبارة؛ لأن معناها في التحقيق: استحققت عليك خياطةَ هذا الثوب، أو ما عينه من العمل سواه، وهذا يتضمن إلزامَ الذمة، وليس كما لو قال: استأجرت هذه الدابّة؛ لأنه طلب انتفاعاً (3) بعينها، وفي مسألتنا طلب أن يوقع المخاطَب عملاً في عين مالٍ له، إما بنفسه، وإما بغيره.
فعلى هذا لو أراد أن يعلّق الإجارة بعين المخاطب، احتاج إلى مزيد تقييد، فيقول: استأجرت عينَك، أو نفسك، أو استأجرتك لتخيط بنفسك.
5078 - ومما يليق بالمعاقد الكلية، أن إعلام المنفعة قد يقع بذكر المدة، كما ذكرناه. وليست المدّةُ في الحقيقة تأجيلاً، (4 ولا تأقيتاً؛ فإن الأجل معناه مَهْلٌ يحِلّ الحق عند انقضائه، وهذا لا يتحقق في مدّة 4) الإجارة، والإجارة ليست مؤقتة في الحقيقة؛ فإن علائق العقد تبقى بعد انقضاء المدة، ويكفي في تحقيق بقائها تصوّر فسخها بعد المدة بالتحالف، والاختلاف في مقدار الأجرة والمدة، فالمدة إذاً تُعلِم
__________
(1) عبارة (د 1): وقد رد المقصود الحمل. (ففيها سقط وتصحيف) والله أعلم.
(2) عبارة (د 1): فليطالب ببدلها.
(3) (د 1): انتفاعها.
(4) ما بين القوسين سقط من (د 1).

(8/74)


المنافعَ إعلام الكيل والوزن [المكيلَ] (1) والموزون.
فإذا كان يتأتى إعلام المنفعة من غير مدة، كفى، مثل أن يقول: استأجرتك لخياطة هذا القميص، فهذا كافٍ، فلو جمع بين الإعلام بهذه الجهة وبين ذكر المدة، فقال: استأجرتك لتخيط هذا الثوبَ في هذا اليوم، ففي صحة الإجارة وجهان: أحدهما - أنها تصح، وأن مزيد الإعلام لا يضر.
والثاني - أنها لا تصح؛ فإن الوفاء بالوجهين يعسر، فقد يتم العمل وفي النهار بقية، وقد ينقضي النهارُ وفي العمل بقية، فلا معنى للجمع بين الجهتين.
وإذا صححنا الجمعَ بين الجهتين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن المقصود العملُ، فإذا تم، كفى، ولا يستعمل الأجير في بقية النهار، ولو انقضى النهار، وبقي من العمل وجب استتمامهُ.
ومن أصحابنا من قال: يتم المقصود المقابل (2) بالأجرة بإحدى الجهتين، فإن قم العمل، كفى، وإن انقضى النهار والأجير مُكبٌّ على العمل، كفى، واستحق تمامَ الأجرة.
فهذه جملٌ رأينا تصدير الكتاب بها.
فصل
قال: " وقد يختلف الرضاعُ ... إلى آخره " (3).
5079 - أبان الشافعي أن الشرط في صحة الإجارة كونُ العمل معلوماً على الجملة، فإن تطرقت جهالةٌ إلى التفاصيل، لم يضر؛ إذ لو شرطنا العلم بالتفاصيل، لما صحت الإجارة على الإرضاع، وقد دل نصُّ القرآن على صحتها، ثم ما يشربه الصبي من اللبن في كل يوم غيرُ معلوم، وقدرُ ما يحتاج إليه غيرُ معلوم، وهو إلى النموّ والازدياد،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) (د 1): والمقابل.
(3) ر. المختصر: 3/ 80.

(8/75)


والأعراض تعرض، والصبيّ للأمراض بالمرصاد، فثبت ما أشار إليه الشافعي من المقصود.
5080 - ثم نجمع ما يتعلق بالاستئجار على الحضانة والإرضاع تأصيلاً وتفصيلاً، فنقول: الاستئجار على الحضانة المجرّدة من غير إرضاع جائز، ويجوز استئجار الحاضنة في الولد الذي ليس مرتَضعاً، ويجوز للأم أن تستأجر حاضنةً لا لبن لها، والأم ترضع.
ثم نقول وراء ذلك: إن استأجر مرضعةً على الإرضاع المجرد من غير حضانة، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من جوّزه، ومنهم من لم يجوّز الاستئجار على الإرضاع دون الحضانة.
5081 - توجيه الوجهين: من قال: لا يجوز، استدل بأن [الإرضاع] (1) المجردَ صرفُ اللبن إلى الصبي، وهو عينٌ، [واستحقاق] (2) الأعيان مقصودةً بالإجارة بعيدٌ عن القواعد؛ فإن الإجارةَ تعتمد المنافعَ، كما أن البيع يعتمد العين. وأيضاًً، فإن الإرضاع لا يتأتى دون الاحتضان في رفع الصبيّ ووضعه، وهو مقصودُ الحضانة.
ومن قال بالجواز، احتج بظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فذكر الأجْرَ في مقابلة الإرضاع، ثم الفقيه من (3) لا يألف فنّاً من الكلام، ويتبع المعنى، فالمرعي الحاجةُ في هذه الأبواب، وهي ماسة إلى الإرضاع، واللبن وإن كان عيناً، فليس موجوداً في الحال، ولكنه يَدِرُّ شيئاًً شيئاًً، ويضاهي المنافع من هذه الجهة، والمتبع الحاجةُ. وما ذكره القائل الأول من استحالة الأرضاع دون الحضانة، ليس بشيء؛ فإن المرضعة تلقم الصبيَّ الثديَ، وعلى غيرها الرفع والوضع.
ومما يتصل بهذا المنتهى أن المرأة لو كانت ذاتَ لبن، فقد اضطرب طرق
__________
(1) في الأصل: إرضاع.
(2) في الأصل: فاستحقاق.
(3) (د 1): ثم الفقيه لا يألف فنّاً.

(8/76)


الأصحاب في ذكر الحضانة دون الإرضاع، وفي ذكر الإرضاع دون الحضانة. ونحن نصف ما ذكره الأصحاب، ثم ننص على المختار.
5082 - فإذا استأجر المرضعةَ للحضانة، ولم يتعرض للإرضاع، فهل يدخل الإرضاع تبعاً؟ ولو ذكر الإرضاعَ، ولم يتعرض للحضانة، فهل تدخل الحضانة تبعاً؟ اضطرب الأئمة: فقال قائلون: في الطرفين وجهان: أحدهما - أن ذكر الحضانة يستتبع الإرضاع، إذا كانت الحاضنةُ مرضعةً، وذكر الإرضاع يستتبع الحضانة.
والوجه الثاني - أنه لا يستتبع أحدُ المقصودين الثاني، بل لا يثبت إلا ما ذكر.
التوجيه: من قال بالاستتباع، قال: الإرضاع في العرف لا يخلو عن الحضانة -وإن كان يتصوّر تجريده- فَحُمِلَ الأمرُ على المفهوم عرفاً، والحضانة في ذات اللبن لا تطلق إلا والمراد القيام بالإرضاع مع الحضانة، فوجب تنزيل اللفظ في الشقين على موجَب العرف.
ومن قال بنفي التبعية، تمسك بظاهر الصيغة. ومعناها الاقتصارُ على المذكور.
وذكر القاضي وجهاً ثالثاً - وهو أن الحضانة لا تستتبع الإرضاعَ، والإرضاعُ إذا ذكر، استتبع الحضانة. وهذا فقيهٌ حسنٌ؛ من جهة أن انفراد الإرضاع يتضمّن صرفَ الإجارة إلى استحقاق العين، وإذا ثبتت الحضانةُ، كان اللبن في حكم التبع، كما سنصفه.
فالخارج إذاً مما ذكرناه: أن إفراد الحضانة من غير لبنٍ جائزٌ. وكذلك (1) يجوز إفرادُ الحضانة من ذات اللبن، إذا وقع التنصيصُ على ذلك، وقُطعَ العرفُ -كما ذكرناه في التوجيه- وذلك بأن يقول: استأجرتكِ على الحضانة دون الإرضاع. والاستئجار على الإرضاع من غير حضانةٍ فيه خلافٌ قدّمناه، ونبهنا على وجهه.
5083 - وتمام البيان عندي يقف على بيان الحضانة، وبيانُها مقصود في الفصل.
قال علماؤنا: الحضانة تنقيةُ بدن الصبي عن الدرن والنجاسات، وغسلُ الخرق،
__________
(1) (د 1): ويجوز أيضاً.

(8/77)


وثياب البدن، [عما] (1) يغسل عنه ثياب الصبيان، ورفعه، ووضعُه، وإضجاعه في المهد، وربطه، وتحريكه، على المعتاد في مثله. فهذه جمل أعمال الحاضنة.
فإذا (2) قلنا: يجوز (3) إفراد الإرضاع بالاستئجار، لم يشترط جميع هذه الأعمال، بل يكفي ضمُّ الرضيع إلى النحر عند الإرضاع، ووضعُه في الحجر، وما جرى هذا المجرى، [مما] (4) يتعلق بالإرضاع، هذا لا بد منه. فأما ما يزيد على هذا من الغسل، وغيرِه، فلا وجه لاشتراطه.
وأما الكلام في إطلاق الحضانة، وأن الرضاع هل يتبعها، وفي إطلاق الإرضاع، وأن الحضانة هل [تتبعه] (5)، فعلى ما قدمناه. وإذا أتبعنا الحضانةَ الإرضاعَ بحكم العرف، أردنا جميعَ أعمال الحضانة.
ولو استأجر امرأة للحضانة والإرضاع، وصرح بالجمع، وأراح نفسه من الخلاف، ثبت الأمران.
5084 - ثم اختلف أئمتنا في أن المقصود من العقد أيّهما، فمنهم من قال: المقصود الحضانة، والخدمةُ، واللبن تبعٌ؛ لأن المنافع هي المستحقةُ بالإجارة، واللبن عينٌ، وإذا انعقد على المنفعة، لم يبعد أن يتبعها عينٌ، كما إذا استأجر داراً فيها بئرٌ، فالإجارة على منافع الدار، وماء البئر يختص بالمستأجِر تبعاً، والدليل عليه أن الله تعالى [سمى] (6) ما يبذل لصاحبة اللبن أجرةً، والأجرةُ عِوض المنافع، واللبن يبعد أن يكون مقصوداً، وهو مجهول متفاوت.
ومن أئمتنا من قال: المقصود اللبن، والحضانةُ تابعةٌ، فإن إحياء الولد وتربيتَه باللبن، والحضانةُ تعهدٌ، وقيامٌ بالخدمة.
__________
(1) في الأصل: "كما".
(2) (د 1): وإذا.
(3) (د 1): لا يجوز.
(4) في الأصل: فيما.
(5) في الأصل: تتبعها. وعبارة (د 1): وأن الحضانة تتبعه.
(6) في الأصل: ثمى (بالثاء).

(8/78)


وبالجملة إنما يتميز المقصود بحكم العرف.
ومن أئمتنا من قال: هما جميعاً مقصودان. ولعله الأصح، والأعدلُ؛ فإنه يجوز الاستئجار على كل واحدٍ منهما، على حياله. وما ذكرناه من منع إفراد الإرضاع عند بعض الأصحاب بعيدٌ، وقد فسرناه بما يخرج معظم أفعال الحاضنة، فبان أن كل واحدٍ منهما يجوز إفراده بالعقد، فإذا جمعا كانا مقصودين.
التفريع على الوجوه:
5085 - إن قلنا: المقصود الحضانة، فلو انقطع اللبن، لم تنفسخ الإجارةُ؛ لبقاء مقصودها، ولكن يثبت الخيار، كما لو استأجر طاحونةً، وانقطع الماء المدير، فللمستأجر خيارُ الفسخ.
ومن قال: المقصود اللبن؛ فإذا انقطع، وجب الحكم بانفساخ الإجارة.
ومن جعل اللبن والحضانة مقصودين، فإذا انقطع اللبن، وجب أن يقال: هو بمثابة ما لو اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، فينفسخ البيع في التالف، وفي الانفساخ في الثاني قولا تفريق الصفقة.
هذا بيان الوجوه وفوائدها.
5086 - وقال قائلون: ما ذكرناه من أن الحضانة تتبع الإرضاعَ، والإرضاعُ يتبع الحضانةَ مأخوذٌ من هذا الاختلاف الذي ذكرناه في أن المقصود من الإجارة المشتملة على الحضانة والإرضاع ماذا؟ وهذا غفلةٌ عن مأخذ الكلام؛ فإن الإتباع والاستتباع محالان على حكم العرف، كما قدمناه، بدليل أنه يجوز إفراد الحضانة والتصريحُ بقطع الإرضاع، وكذلك يجوز إفراد الإرضاع والتصريح بقطع الحضانة.
فرع:
5087 - ليس للمنكوحة أن تؤاجر نفسها للإرضاع، وإن كان الزوج لا يستحق منها هذه المنفعة، والسبب في المنع أنها لا تقدرعلى تسليم نفسها، وعلى توفية ما يستحق عليها، ولو قدرنا صحة الإجارة؛ إذ لو أرادت إدخال الصبي دار زوجها، لم يكن لها ذلك، وللزوج منعها من الخروج. ولو أجرت نفسها بإذن زوجها للإرضاع، صح ذلك، ثم يجب الوفاء بالعقد.
5088 - ولو أراد الزوج أن يستأجرها لترضع ولده منها، أو من غيرها، فقد ذكر

(8/79)


العراقيون أن الاستئجار فاسد، فإنها على الجملة مستغرقة المنافع بحق الزوج.
وقطع المراوزة بصحة الاستئجار، والوجه ما ذكروه؛ فإنّ استئجار الزوج إياها بمثابة إذنه لها في أن تؤاجر نفسها، والإرضاع ليس واجباً عليها، والزوج لا يستحق من منافعها شيئاً إلا منفعة المستمتع. والذي ذكروه (1) مذهبُ أبي حنيفة (2) - رضوان الله عليه، فلستُ أعتد إذاً بما حكَوْه، وإن قطعوا به.
فرع:
5089 - إذا استأجر الرجل وراقاً ليكتب له شيئاً معلوماً، فهل يدخل الحِبرُ في مطلق الاستئجار؟ ذكر الشيخ أبو علي طريقين للأصحاب: فمن أصحابنا من قال: في المسألة وجهان، كالوجهين في أن الرضاع هل يتبع الحضانة. وقد ذكرنا وجهين في ذلك، والمتبع في تشبيه الحبر باللبن العرفُ، وجريانُه بأن يهيء الوراق الحبرَ منْ عند نفسه، ويصلحه على ما يُحب [ويؤثر] (3).
التفريع (4):
5090 - إن قلنا: الحبر يتبع، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتبع، فلو شُرط، ثبت، وإن كان مجهولاً كالرضاع. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قطع بأن الحبر لا يتبع الكتابة، وليس في معنى [اللبن في] (5) الإرضاع، ولو ذكر مع الكتابة على الجهالة، فسد، وإن ذُكر وأُعلم، فهو جمعٌ بين بيع عينٍ وإجارة في صفقة واحدة، وفيه الخلاف المشهور.
وهذه الطريقةُ أمتن وأقيس؛ فإن الاستئجار على الرضاع المجرد جائز، ولا يجوز أن يبتاع الإنسان من الحبر ما يكتب به مجلّدةً، أو مجلدتين، والسر في ذلك أن تصحيح الاستئجار على الإرضاع متلقى من الضرورة المرهقة، والحاجة الحاقة.
__________
(1) المراد العراقيون.
(2) الذي عند الأحناف -فيما رأيناه- أن استئجار الزوجة على إرضاع ولده ليس جائزاً بإطلاقه، بل يجوز إذا كان الولد من غيرها، أما إذا كان منها فلا يجوز، نص عليها السرخسي والكاساني (ر. المبسوط: 5/ 127، 129، البدائع: 4/ 192).
(3) في الأصل: ويؤثره.
(4) (د 1): التفريع عليه: أنا إن.
(5) زيادة من (د 1).

(8/80)


وكان شيخي يقطع بأن استئجار الخياط لا يُلزمه الخيطَ، بخلاف الحبر، والأمر على ما ذكر.
والفاصل أن جريان العرف في الورّاق قريبٌ من الاطراد، في أن الورّاق يتكلف الحبرَ، والأمر في الخياط بخلاف ذلك.
وإن اضطربت العادة في الخياط والورّاق، في الحبر والخيط، فقد ذكر القاضي وطائفة من الأصحاب أن إطلاق العقد يُبطله، ولا بد من التعرض لما يقع التوافق عليه في الحبر والخيط؛ فإنّ العادات إذا ترددت واللفظ بينها لا تفصيل فيه، فهو ملتحق بالمجملات.
وكان شيخي يقطع بأن العادات إذا اختلفت، فالحبر والخيط على المستأجر، وليس على [الآجِر] (1) إلا الكتابة [والخياطة] (2)؛ فإنها المذكورة، فلا مزيد على مقتضى اللفظ، ووضع العقود على اتباع [قضايا] (3) الألفاظ إلا أن يغيّرها العرف، فإذا اضطرب العرف، لم نبالِ به، ورجعنا إلى موجب اللفظ، وكذلك القول في الخياطة.
فصل
قال: " والإجاراتُ صنفٌ من البيوع ... إلى آخره " (4).
5091 - الإجارات معاوضةٌ محققة مشتملةٌ على التمليك من الجانبين، فالمُكري يملك الأجرة على المستأجر، والمستأجر يملك عليه في مقابلة الأجرة منفعةَ العين، أما الأجرة، فنها بمثابة الأثمان، فإن عُجِّلت، تعجلت، وإن أُجلت، وكانت ديناً، تأجلت. وإن أطلقت، تعجلت، كما لو قيدت بالتعجيل، فهي فيما ذكرناه تنزل منزلة الثمن.
__________
(1) في الأصل: الورّاق. وأثبتنا (الآجر) من (د 1)، كي تشمل الخياط، الذي زدناه منها.
(2) مزيدة من (د 1).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ر. المختصر: 3/ 80.

(8/81)


5092 - ولو كانت الأجرة عيناً مشاراً إليها، تعيّنت، ولو كانت الأجرة صُبرةَ دراهم أشير إليها، ولم تكن معلومةَ المقدار، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: يصح ذلك، وتثبت الأجرة جزافاً، تعويلاً على الإشارة، كما يثبت الثمن كذلك.
ومن أصحابنا من خرّج جواز ذلك على قولين، كالقولين في رأس المال في السلم، وقد قدمنا قولين في أن رأس مال السلم إذا كان جُزافاً هل يصح السلم، والجامع بين العقدين أن السلم عقدُ غررٍ، وكذلك الإجارة عقدُ غرر؛ فإنّ المنافعَ توجد شيئاًً، فشيئاًً، ولا يستقر الضمان ما لم تنقض المدة في يد المكتري، وقد [يعرض] (1) تلفُ العين المستأجرة، وانفساخُ الإجارة في المدة المستقبلة، ثم تمس الحاجة إلى توزيع الأجرة المسماة على ما مضى وبقي، فإذا لم تكن الأجرة معلومةً، جَرَّ ذلك خبطاً وجهالة يعسر دفعُها.
والفقه في العقدين أنهما جُوَّزا على حسب الحاجة، واحتمل فيهما من الغرر ما يليق بقدر الحاجة، [فما] (2) يفرض زائداً على مقدار الحاجة [فسد وأفسد] (3). هذا قولنا في الأجرة.
5093 - فأما المنافع، فمذهب الشافعي أن المستأجر يملكها بالعقد، ومعنى ملكه لها أنه يستحق على مالك الدار توفيةَ المنافع، من عين الدار، وهذا الاستحقاق يضاهي من وجهٍ استحقاقَ الديون؛ من حيث إن المنافع ليست موجودة، ونحن نقضي بالملك حملاً على الاستحقاق، كما نقضي بكون الدين مملوكاً لمستحقه، وإن لم نكن نعني به استحقاقَ عينٍ موجودة في الحالة الراهنة، ولكنّ الدين لا يتعلق بعين، والمنافع تستحق من عينٍ مخصوصة. وقد قررنا ذلك في (الأساليب).
5094 - ثم إذا قبض المستأجر العينَ المستأجرةَ، ثبت حكم الملك، والقبضِ في
__________
(1) في الأصل: يفرض.
(2) في الأصل: وما.
(3) عبارة الأصل: يفسُد ويُفسِد.

(8/82)


منافع [العين] (1) المستأجرة، وآية ذلك أنه لو أصدق امرأةً سكنى دارٍ مدةً معلومة، وسلم الدار إليها؛ فإنه يستحق عليها تسليمَ النفس.
ولو فُرض ما ذكرناه نجْمَ الكتابة، فالمكاتب يعتِق. لكن لا ينتقل الضمان إلى المستأجِر؛ فإن العين المستأجرة لو تلفت بعد قبض المستأجر، انفسخت الإجارة في المدة المستقبلة، فالقبض في العين وإن كان يؤثر في تأكيد حق المستأجِر، وتسليطه على الإجارة، فلا يتضمن نقلَ الضمان عن المُكري بالكلّية، ولا تنقطع العلائق بالكلية؛ فإن القبضَ في المنافع لم يحصل محسوساً، وإنما حصل حكماً.
ومن الدليل على بقاء العُلقة أنه يجب على المكري السعيُ في إدامة يدِ المستأجر على العين المستأجرة، حتى لو استرمّت الدارُ المكراة ولوْ لم تُعمَّر، لَعسُر استيفاء المنفعة، فيجب على المُكري أن يعمّرها، كما سيأتي ذلك مشروحاً في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
5095 - ثم المذهب الأصح أن المستأجِر لو أراد أن يُكري الدارَ المستأجرةَ قبل قبضه إياها، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، وإنما يتسلط على إجارتها إذا قبضها. وقبضُه يؤثر في تسليطه على الإجارة، ولا يقطع عُلقة الضمان عن المكري؛ لأن العين المستأجرة، لو تلفت بعد القبض، حُكم بانفساخ الإجارة.
وأبعد بعض أصحابنا، فجوّز للمستأجر إجارة العين المستأجرة قبل القبض، فإنّ قبض العين إذا كان لا ينقل الضمان على الحقيقة، ولا يقطع عُلقةً من المكري، فلا أثر لهُ في التسليط على الإجارة، فكما تصح الإجارة من المستأجر بعد قبض العين، فكذلك يصح ذلك منه قبل القبض.
__________
(1) في الأصل: الدار.

(8/83)


فصل
قال: " فإن قبض العبدَ، فاستخدمه، أو المسكن، فسكنه ... إلى آخره " (1).
5096 - قد ذكرنا أن القبض في العين المستأجرة لا ينقل الضمان عن المكري، وإن كان يُبيح التصرفَ للمكتري، فإذا استأجر عبداً وقبضه، فتلف، نُظر: فإن تلف كما (2) قُبض، ولم ينقضِ [من] (3) مدة الإجارة شيء به اعتبار؛ فإن الإجارة تنفسخ، وترتدّ الأجرة.
وإن مضى بعضُ المدة في يد المستأجر، ثم تلفت العين، فالإجارة تنفسخ في المدة الباقية المستقبلة.
وهل نقضي بانفساخها في المدة الماضية؟ فعلى قولين: أظهرهما وأشهرهما - أنها لا تنفسخ في المدة الماضية؛ فإن المنافع صارت مستوفاة فيما مضى تحت يد المستحِق، ثم فاتت من ضمانه واستحقاقه، فلا ينعطف انفساخ العقد عليه.
والقول الثاني - وهو ضعيف مزيف، أن الإجارة تنفسخ فيما مضى. وهذا القول يجري فيه إذا اشترى عبدين، وقبض أحدَهما، وتلف في يده، ثم تلف العبدُ الآخر في يد البائع، فالبيع ينفسخ في العبد الذي تلف في يد البائع. وهو نظير الإجارة في المدة المستقبلة في مسألتنا. وهل نحكم بانفساخ البيع في العبد الذي قبضه المشتري وتلف في يده؟ المذهب أنا لا نحكم بذلك؛ لتلفه تحت يد المستحق.
وفيه قولٌ بعيد أنا نحكم بانفساخ العقد فيه.
التفريع على القولين في الأجارة:
5097 - فإن حكمنا بأن الإجارة تنفسخ في المدة الماضية بانفساخها في المدة المستقبلة، فترتد الأجرة المسماة بكمالها على المستأجر، ويغرَم [المستأجر] (4)
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 81.
(2) "كما" بمعنى "عندما".
(3) ساقطة من الأصل.
(4) مزيدة من: (د 1).

(8/84)


للآجر قيمةَ ما تلف في يده، وهو أجرة مثل المنافع في الزمان الماضي.
وإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ في المدة الماضية، ولا يقع الانفساخ فيها، فهل يثبت للمستأجر الخيارُ في فسخ الإجارة؟ فعلى قولين: أصحهما - أنه لا يثبت خيارُ الفسخ فيها؛ فإنها لو قبلت الفسخَ إنشاءً بسبب الخيار، لقبلت الانفساخ.
والقول الثاني - أنه يثبت خيار الفسخ فيها لتبعّض الأمر وانفساخه، وخيار الفسخ أعم من الانفساخ؛ فإنه يثبت لا محالة، حيث لا يثبت الانفساخ وقوعاً.
5098 - فإذا انتهى التفريع إلى التبعيض، وهو الجواب الصحيح، وأردنا أن نبُقي العقدَ وحُكمَه في الزمان الماضي، ونقضي بانفساخه في الزمان المستقبل، فلا ننظر في ذلك إلى مقدار الزمان، حتى إذا كان مضى نصفُ المدّة، وبقي نصفُها، فلا نحكم بالانفساخ في النصف وبقاء العقد في النصف، ولكن ننظر في أصل التوزيع إلى أجرة المثل، فإن كان مثل ما مضى كأجر مثل ما بقي، نصّفْنَا، وقضينا بانفساخ العقد في النصف، واستقراره في النصف.
وإن كانت الأجرة (1) للزمان الماضي أكثرَ، [لوقوع ذلك الزمان في موسم يكثر في مثله الرغبات] (2) في منافع العين، وكان (3) أجر مثل ما بقي أقل، ضبطنا النسبة (4)، ونسبنا ما بقي إلى ما مضى وأجرينا الحكم على حسب ذلك.
فإذا كان أجر مثل الماضي ثلثين، وإجر مثل الباقي ثلثاً، قضينا باستقرار العقد في ثلثي المعقود، واستقر بحسب ذلك ملكُ الآجِر في ثلثي الأجرة المسماة، ونحكم بانفساخ الإجارة في الثلث، فيسترد المستأجر ثلثَ الأجرة المسماة.
وكذلك الاعتبار لو كان الأمر على العكس في ذلك، وكانت أجرة مثل ما مضى مائة، وأجرة مثل ما بقي مائتين والأجرة المسماة خمسمائة، فيستقر ثلثها، ويرتد ثلثاها إلى المستأجر لمكان الانفساخ في المدة المستقبلة.
__________
(1) عبارة (د 1): وإن كانت أجرة المثل في الزمان الماضي ..
(2) عبارة الأصل: مثل الزمان في الموسم، فإنه تكثر الرغبات.
(3) عبارة (د 1): وكانت أجرة المثل فيما بقي أقل.
(4) (د 1): ضبطنا التقسيم.

(8/85)


وتفاوت الأجرة في المدتين كتفاوت القيمة في عبدين يشتريهما، ويقبض أحدَهما، ويتلف في يده، ثم يتلف الثاني في يد البائع، فينفسخ البيعُ في العبد التالف في يد البائع، ويستقر في العبد الذي قبضه المشتري وتلف في يده، والرجوع إلى القيمتين في العبدين قراراً وانفساخاً. ووضوح ذلك يغني عن مزيد الشرح فيه.
وهذا كله فيه إذا استأجر عيناً، وقبضها، ثم تلفت في يده تحقيقاً، كالعبد يتلف في يد المستأجر، وهو موْرد العقد.
5099 - فلو استأجر داراً، وقبضها، ثم انهدمت في يده بعد مضي مدة كما سبق تصويرها، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الإجارة تنفسخ بانهدام الدار في المدة المستقبلة، كما تنفسخ بموت العبد المستأجَر. والكلام في انفساخها أو فسخها بالخيار في المدة الماضية على التفصيل الذي تقدم ذكره.
وذهب بعض القياسين من الأئمة إلى أن الإجارة لا تنفسخ بالانهدام [في] (1) المستقبل، فإن المنافع لا تزول بالكلية؛ إذ العرصةُ باقية، والانتفاع بها سُكُوناً (2) ممكن على الجملة، وليس كموت العبد المستأجَر؛ فإن موته يزيل وجهَ الانتفاع بالكلية.
فإن جرينا على ما ذهب إليه الأصحاب في الانهدام، فالتفريع في التوزيع كما تقدم في تلف العبد.
وإن لم نجعل الانهدام بمثابة التلف، فإنا نجعله بمثابة تعيّب المعقود عليه، ولو تعيّب، لثبت للمستأجر حقُّ الخيار. فإن أجاز العقدَ، استقرت الأجرة المسماة بكمالها للمكري، ولم يملك المستأجر استرداد شيء منها، لرضاه بالعيب، ولا يخفى نظير ذلك في المبيع إذا وقع الرضا [بعيبه] (3).
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) سكوناً: أي سكناً، وهذا الاستعمال واردٌ في كلام الغزالي أيضاً وغيره من الفقهاء، ولم أعثر عليه في المعاجم، ولم أجد أحداً ممن يشتغلون بعلوم اللغة سمع به، بل كانوا جميعاً يستغربونه، ويعجبون منه.
(3) في الأصل: بعينه، و (د 1): بدون نقط.

(8/86)


وإن فسخ العقدَ، انفسخ بفسخه في المستقبل، وعاد التفريع على التوزيع الذي قدمناه في المدة الماضية والمستقبلة.
والانهدامُ إذا لم يكن تلفاً عند هؤلاء، فهو كالتعيب في المعقود عليه، وليست العَرْصة الباقية مع السقوف التالفة بمثابة عبدين استأجرهما، وتلف أحدهما وبقي الثاني.
5100 - وقد ذكرنا في أحكام البيع أن من اشترى داراً واحترق سقفها في يد البائع، فيكون ذلك كتعيّب المبيع في يد البائع، أم يكون كتلف بعض المبيع، حتى نقول (1): السقف مع بقاء العرصة بمنزلة تلف أحد العبدين المبيعين مع بقاء الثاني؟ فيه اختلاف مشهور، تقدم ذكره في كتاب البيع. وهذا الاختلاف لا يجري في الإجارة.
فإن حكمنا بأن انهدام الدار بمثابة تلف العبد المستاجَر، فلا كلام. وإن لم نجعله تلفاً في جميع المعقود عليه، لم (2) نقل: تَلِفَ بعضُ المعقود في الإجارة، وبقي البعضُ. والفرق بيّنٌ بين العقدين: الإجارة والبيع؛ فإن الغرض من البيع المالية، فلا يمتنع أن يكون للسقف جزءٌ معلوم من المالية، ولا يتحقق مثل ذلك في الإجارة.
وهذا بينٌ للمتأمل لا خفاء به.
5101 - ومما فرعه الأئمة في ذلك أن قالوا: من استأجر عبداً مدةً معلومة، وقبضه، ثم إن المستأجر أتلفه بنفسه، فالإجارة تنفسخ بفوات العبد بهذه الجهة، كما تنفسخ إذا مات حتف أنفه، أو قتله أجنبي، وليس ذلك كما لو اشترى عبداً وأتلفه؛ فإنا نجعل إتلافه إياه قبضاً منه، كما تقدم تقريره، في كتاب البيع، ولا نجعل إتلافَ المستأجِر للعين بهذه المثابة.
والفرق أن إتلاف المشترى يرِد على عين المعقود عليه، فيقع قبضاً لما تقدم ذكره (3) في البيع. وإتلاف المستأجَر (4) لا يرد على المعقود عليه في الإجارة؛ فإن
__________
(1) (د 1): ننزل السقف مع العرصة منزلة.
(2) (د 1): ثم.
(3) (د 1): تقريره.
(4) (د 1): المشتري.

(8/87)


المقصود فيها المنافع، والإتلافُ لا يتناولها. نعم يمتنع بسبب إتلاف العبد وجودُ منافعه في المستقبل، فالحكم إذاً ما ذكرناه من الانفساخ، كما لو مات العبد بنفسه، أو قتله أجنبي.
5102 - قال القاضي إذا استأجر داراً، وقبضها، وعابت الدار في يده، فإنا نُثبت له حقَّ الفسخ، كما سنشرح ذلك في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى.
فلو أنّ المستأجر عيّب تلك الدارَ بنفسه، والتزم أرش النقص بسبب جنايته، فله حق فسخ الإجارة؛ فإن العيب قد وقع، فلا نظر بعد وقوعه إلى جهة الوقوع؛ بناء على ما مهدناه في التلف؛ فإنه يوجب الانفساخ، سواء وقع أو أوقعه المستأجر قصداً.
[فالقول] (1) في وقوع العيب كالقول في وقوع التلف.
وهذا الذي ذكره منقاسٌ حسن، لا ينقدح في الفقه غيرُه.
ولكن قد يختلج في صدر الفقيه خلافُه؛ من جهة أنه المتسبب إلى إيقاع هذا العيب، وهذا الاحتمال لا يظهر في الإتلاف؛ (2 من جهة أن المنفعة قد فاتت بالإتلاف 2)، ولم يصادفها في عينها إتلاف، والمنفعة في مسألة التعييب لم تفت، وإنما طرأ عليها عيبٌ، والمستأجِر (3) سببه، فلا يبعد ألا يثبت الخيار.
5103 - وقال القاضي مفرعاًعلى ما ذكره: إذا (4) جعلنا طريان الجَبّ على الزوج مثبتأ للمرأة حقَّ الفسخ، على التفصيل الذي سيأتي ذكره في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى، في الفرق بين ما قبل المسيس وبعده، فلو (5) جبَّت المرأةُ بنفسها زوجَها ينبغي أن يثبت لها الخيار في الفسخ، وإن حصل العيب بجنايتها، وفعلها.
وهذا الذي ذكره جارٍ على قياسه الفقيه الذي مهده، وفيه الاحتمال الذي ذكرناه،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين القوسين سقط من (د 1).
(3) (د 1): فالمستأجر.
(4) سقطت من (د 1).
(5) جواب (إذا).

(8/88)


وقد [يعتضد] (1) الاحتمال بشيء، وهو أن المرأة لو أخّرت حق الفسخ مع التمكن منه، فقد نجعل ذلك سبباً في بطلان حقها، فإذا كان يبطل حقها بالتأخير لإشعاره برضاها بالمقام تحت الزوج المجبوب، فإقدامها على الجب لأن (2) يدل على رضاها أولى.
هذا وجهٌ، والأوجه الأفقه ما ذكره القاضي.
فصل
قال: " ولا تنفسخ بموت أحدهما ما كانت الدار قائمة ... إلى آخره " (3).
5104 - مذهب الشافعي أن الإجارة لا تنفسخ بموت أحد المتعاقدين، إذا بقيت العين المستأجرة، فلا نقضي بانفساخها بموت الآجِر، ولا بموت المستأجر؛ فإن الإجارة معاوضةٌ لازمة، فإذا لزمت، لم يتضمن موتُ أحد المتعاقدين انفساخَها، كالبيع.
وأبو حنيفة (4) خالف في ذلك.
ولو أجر الحرُّ نفسَه، ثم مات، فالإجارة تنفسخ لفوات المعقود عليه، لا لفوات العاقد.
والإجارة فيما ذكرناه تضاهي النكاح في القاعدة، فإذا زوّج السيد أمته من إنسانٍ، ثم مات السيد، وبقيت الأمة المزوّجة وزوجُها، فالنكاح قائم، ولا يؤثر فيه تلفُ السيد المزوَّج، وإذا مات أحد الزوجين، فموته يضاهي موت المعقود عليه في الإجارة، ولكن لا ينفسخ النكاح بموت أحد الزوجين، بل ينتهي نهايته؛ فإن النكاح معقودٌ للعمر، فإذا تصرّم، كان منقضَى العمر منتهى النكاح.
__________
(1) في الأصل: يقتضيه.
(2) (د 1): لا يدل.
(3) ر. المختصر: 3/ 81. وفي الأصل: باقية، وفي (د 1): مادامت باقية. والمثبت نص
المختصر.
(4) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 52.

(8/89)


وإذا فاتت العين المستأجرةُ في أثناء المدة، فات بفواتها المنفعة المستحقة في بقية المدة؛ فإن الإجارة عقدت للمنفعة التي تحتويها المدة.
ثم ذكر الأئمة أحكاماً في طريان الملك على الإجارة، ونحن بعون الله تعالى نأتي بها موضّحة مشروحة إن شاء الله عز وجل.
5105 - فنقول أولاً: من نكح أَمَةً، ثم ملكها بإرثٍ، أو اكتسابٍ، فينفسخ النكاح بطريان الملك على رقبة الزوجة، بلا خلاف.
ومن اكترى داراً اكتراءً صحيحاً، ثم ملك في أثناء المدة رقبةَ الدار بإرثٍ، أو اكتسابٍ، فهل نقضي بانفساخ الإجارة في بقية المدة، فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنا نحكم بالانفساخ قياساً على النكاح؛ إذ لا خلاف أن طريان الملك على الزوجة يتضمن انفساخَ الزوجيّة، والجامع أن ملك اليمين يُثبت استحقاق منفعة البضع، والنكاحُ يتضمن ذلك، فيستحيل (1) أن يستحق منفعةَ البضع بجهتين. وملكُ الرقبة لا سبيل إلى درائه (2) ودفْعه، فاقتضى ذلك انقطاعَ النكاح. فكذلك ملك الرقبة يتضمن ملك المنفعة، والإجارة تقتضي ملكَ المنفعة، فلا يسوغ اجتماعُ موجبي الاستحقاق في شيء واحدٍ.
5106 - ومن أصحابنا من قال: لا تنفسخ الإجارة بطريان الملك على الرقبة، بل تبقى على مقتضاها، كما سنبين حكمَ بقائها بالتفريع، إن شاء الله تعالى.
ولو أكرى الإنسانُ داره، ثم إن المالكَ المكري اكترى تلك الدارَ من المكتري، ففي صحة ذلك وجهان [مأخوذان] (3) مما تقدم ذكرُه. فإن جعلنا ملك الرقبة والاستئجارَ نقيضين، لم تصح الإجارة، وإن حكمنا بأنهما لا يتناقضان، وإذا طرأ الملك على الرقبة، بقيت الإجارةُ، فنحكم بأنه يصح من المالك أن يُكريَ ملكه، ثم يكتريه من المكري.
__________
(1) في (د 1): ويستحيل.
(2) درائه: أي درئه، ويستخدم الإمام دائماً، بل غالباً هذا الوزن (دراء) مكان الدّرء.
(3) ساقطة من الأصل.

(8/90)


5107 - فإذا ثبت ما ذكرناه، فنقول في التفريع: من اكترى داراً سنةً، ثم ملكها في أثناء السنة، فإن حكمنا بأن الإجارة لا تنفسخ في بقية المدة، فلا يسترد [المكتري] (1) شيئاًً من الأجرة؛ فإن الإجارة قائمة، ولو انقطع الملك الطارىء في رقبة الدار بسببٍ مثل أن يشتري المستأجر الدارَ، ثم يطلع على عيبٍ قديمٍ يُثبت مثلُه حقَّ الفسخ في البيع، ولا يُثبت حق الفسخ في الإجارة، فإذا فُسخ البيعُ بالعيب، فالإجارة باقية كما كانت، فيتمسك بالدار بحق الإجارة إلى انقضاء المدة.
وإن حكمنا بانفساخ الإجارة بسبب طريان الملك على الرقبة، فإذا رد المبيعَ بالعيب، فالإجارة لا تعود بعد انفساخها. وهذا بيّن لا شك فيه.
5108 - ثم إن ابنَ الحداد فرّع على هذا الأصل، واختار أن طريان الملك على الرقبة يوجب انفساخ الإجارة، وقال (2) بعد هذا الاختيار: إن حصل الملك في الرقبة قهراً بالإرث، وحكمنا بانفساخ الإجارة، فالمستأجر يرجع بقسطٍ من الأجرة في مقابلة المدة المستقبلة، ولو حصل له الملك باختياره، فاشترى الدار المستأجرة، فالإجارة تنفسخ، كما ذكرناه في اختيار ابن الحداد. ثم قال: لا يسترد من الأجرة شيئاًً، واعتلّ بأن الانفساخ ترتب على اختياره لمَّا تملّك الرقبةَ قصداً، وإذا كان حصول ذلك مترتباً على الاختيار كما ذكرناه، فهو المتسبب إلى رفع الإجارة في المستقبل، من غير سببٍ خاص يُثبت حقَّ رفع الإجارة، كالرد بالعيب المؤثر في مقصود الإجارة، فلا يثبت له حق استرجاع الأجرة في المستقبل (3).
5109 - وهذا الذي ذكره ضعيف، خارج عن قياس الفقه خروجاً ظاهراً؛ فإن الإجارة إذا انفسخت، فلا أثر للقصد، وعدم القصد في سبب ارتفاع الإجارة.
[وسنذكر هذا الفرع لابن الحداد مستقصىً في آخر المزارعة من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى] (4).
__________
(1) في الأصل: المكري.
(2) (د 1): وقال ابن الحداد.
(3) سيأتي مزيد شرح، وتفصيل لفروع ابن الحداد في آخر كتاب الإجارة.
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(8/91)


وليت شعري ماذا يقول ابن الحداد فيه إذا هدم المستأجر الدار المستأجرة، أو قتل العبدَ المستأجر، فهو المتسبب إلى انفساخ الإجارة قصداً، فقياس ابن الحداد أنه لا يسترد من الأجرة شيئاًً في مقابلة المدة المستقبلة. وهذا إن قال به في نهاية البعد.
5110 - ثم فرق ابن الحداد بين طريان الملك القهري، وبين طريان الملك على سبيل الاختيار، فحكم بأن الملك إذا كان قهرياً، وترتَّب عليه انفساخ الإجارة، فيثبت (1) حق استرداد الأجرة في المستقبل، بخلاف ما لو حصل الملك باختياره، واستشهد الأصحاب لما ذكره من الفصل بين القهر والاختيار بأصلٍ يناظر ما نحن فيه من النكاح، وهو أن من نكح أمةً، ثم ورثها قبل المسيس، وانفسخ النكاح، فلا يثبت من مهرها شيء، ولو اشترى زوجته قبل المسيس تشطّر المهرُ، كما لو طلّق قبل المسيس، فرقاً بين أن يختار سبب الفسخ، وبين أن يقع من غير اختياره.
وهذا التفريع من ابن الحداد والفرق (2) بين الملك القهري، وبين الملك الاختياري ساقط لا أصل له، ويلزمه بحسبه أن يقول: لو أتلف المستأجر [العين المستأجرة، لم يسترد من الأجرة شيئاًً، لمكان اختياره؛ بخلاف ما لو تلفت] (3) العين بنفسها، فإن (4) ارتكب ذلك طرداً لقياس مذهبه، رجع الكلام معه إلى إفساد أصل مذهبه، وإن سلم ذلك، لم يجد فصلاً.
هذا تمام البيان في طريان ملك الرقبة على مدة الإجارة.
5111 - ومما يتصل بما نحن فيه أن المالك إذا أجر الدار، ثم أراد بيعها، ففي بيع الدار المكراة قولان مشهوران، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله تعالى، ولكنا نشير إليهما لغرضٍ لنا ناجزٍ في الفصل.
فإن قلنا: لا يصح البيع، فلا كلام.
__________
(1) (د 1): يثبت.
(2) (د 1): في الفرق.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(4) (د 1): وإن.

(8/92)


وإن قضينا بصحة البيع، فالإجارة لا تنفسخ، ويجب الوفاء بها إلى انقضاء مُدتها، فإن أقدم المشتري على الشراء عالماً بأنها مستأجرة، فلا خيار له، وإن اطلع على ذلك بعد الشراء، فله خيار الفسخ.
ولو باع مالك الدار الدارَ من المستأجر، صح بلا خلاف، سواء قلنا: إن طريان الملك على الرقبة يوجب انفساخ الإجارة، أو قلنا: تبقى الإجارة. فأما إن حكمنا بانفساخ الإجارة، فقد زال المانع (1).
وإن حكمنا ببقائها، فسبب القطع بصحة البيع أن الحق لا يعدوهما، وإن كنا نمنع بيع المكري لمكان يد المكتري وتعذّر إزالة يده؛ فاليد فيما نحن فيه للمشتري، فإنه المكتري.
5112 - فإذا وضح الحكم بصحة البيع من المكتري، فنقول بعد ذلك: إذا صححنا البيع في صورة القولين، والمكتري غير المشتري، فلو فسخ المكتري الإجارة بسببٍ، فالدار تسلم إلى المشتري أم للبائع الاستمساكُ بمنافع الدار إلى انقضاء مدة الإجارة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الدار تسلم إلى المشتري؛ فإن الحق في المنافع [كان] (2) للمكتري، وقد انقطع حقُّه، فصار كما لو اشترى داراً خليَّةً عن الإجارة.
والثاني - أن حق المنافع إلى تمام مدة الإجارة للبائع؛ فإن البيع ورَدَ والمنافعُ مستثناةٌ عن استحقاق المشتري، والردّ من المكتري على البائع، لا على المشتري، فيخلف البائعُ المكتري باستحقاق المنفعة.
5113 - وهذا الخلاف ينبني على مسألةٍ، وهي أن الرجل إذا باع داراً واستثنى سكناها سنةً، ففي صحة البيع على هذا الوجه وجهان: أحدهما - أنه يفسد؛ فإنه يخالف موضوعَ البيع؛ إذ مقتضاه أن يملك المشتري المنافعَ بملك الرقبة.
والثاني - أنه يصح وتبقى المنافع المستثناة للبائع.
قال الأئمة: اختلاف القول في صحة بيع الدار المكراة يؤخذ من هذا. فإن قلنا:
__________
(1) المانع: تفويت المنفعة على المستأجر.
(2) في الأصل: كانت.

(8/93)


لا يمتنع استثناء منافع الدار، فلا يمتنع بيع الدار المكراة، وإن قلنا: يمتنع استثناؤها، فيمتنع بيع الدار المكراة. وهذا الذي ذكره يقارب من طريق اللفظ، ولولا خبرٌ ورد في استثناء منافع المبيع، لما كان للاختلاف في استثناء المنافع وجه.
ولكن ورد خبرٌ (1) في جواز استثناء المنافع مدة يقع التوافق عليها، ومقتضى العقد في وضعه يخالف ذلك.
5114 - ولا نعرف خلافاًً أنه لو باع أشجاراً، لم تثمر بعدُ، واستثنى ثمار تلك السنة، أو ثمار سنين، فلا يصح الاستثناء، وملك الرقبة يقتضي للمشتري استحقاقَ المنافع، كما يقتضي له استحقاق الزوائد والفوائد، فالحكم بفساد الاستثناء لا ينافي إجراء القولين في صحة بيع العين المكراة؛ فإن استحقاق المنافع بالإجارة تقدم على جريان البيع، ولم يُبعد تنزيلَ البيع على الرقبة، وإن كان لا يتأتى تسليم الدار على الفور إلى المشتري، كما لو باع الرجل داراً مشحونةً [بالأمتعة] (2)، وكان لا يتأتى منه تفريغُها على الفور، ولو أقدم على التفريغ باذلاً جهده، لم يتأت إلا في مدة، فالبيع يصح؛ فإذاً القولان في بيع المكري لا يستدّ (3) أحدهما من مسألة الاستثناء لما نبهنا عليه.
فصل
5115 - الإجارة عندنا لا تفسخ بالمعاذير، إذا لم يثبت في العين المستأجرة ما يقتضي الفسخَ، خلافاًً لأبي حنيفة (4)، فإنه قال: تفسخ الإجارة بالمعاذير، فلو اكترى رجل حانوتاً ليحترف عليه، ثم بدا له الانتقالُ إلى سوقٍ آخر، فيفسخ به العقدَ، وكذلك إذا اكترى دابة للمسافرة، ثم انتقض عزمُه، فله الفسخ في تفصيلٍ لهم.
ونحن لا نرى الفسخَ بشيء من ذلك، وقد ألزمونا في أثناء الكلام مسألة مذهبية، لا بد من شرح القول فيها.
__________
(1) يشير إلى الخبر الذي جاء فيه أن جابراً رضي الله عنه باع في بعض الأسفار بعيراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يكون له ظهره إلى المدينة.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) يستدّ: أي يستقيم. والمعنى: لا يؤخذ أحدهما من مسألة الاستثناء.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 130، حاشية ابن عابدين: 5/ 50.

(8/94)


5116 - فنقول: من استأجر من يقلع له سناً، نُظر، فإن لم يكن به وجع، فالإجارة فاسدة؛ لأن السن الذي لا وجع به يحرُم قلعه، كما يحرم قطعُ عضو من غير علّة، ولا ضرورة مرهقة. وإن كان السن وجِعاً وقال أهل الخبرة: قلعُه لا يُريح ولا يقطع الألم، فلا يجوز الاستئجار، والحالة هذه. ولو قيل: قلعُ السن يريح من الألم، فيسوغ القلع. وهذا فيه إذا عظم الوجعُ، وصعب احتمالُه. وقد يؤدي إلى السهر، ثم السهر عظيمٌ يجر أمراضاً صعبة.
فأما الوجع القريب، فلا يجوز قلع السن لأجله.
ومن هذا القبيل قطعُ اليد المتآكلة إذا قال أهل الصنعة: إن الأكَلَة تترامى وتتقاذف لو لم تقطع اليد، ثم إنما ينفع القطع إذا أخذ القاطع شيئاًً من الصحيح، وإن قلّ.
وكان شيخي أبو محمد يحكي في هذا اختلافاً، من جهة وضع الحديدة على المحل الصحيح، والقطع في نفسه مهلك، ولعله أرجى من الأكلة. وأما السن الوجِع، (1 فليس في قلعه قطعُ ما لا وجع به، فإن جوّزنا قطع اليد المتآكلة، كما يجوز قلعُ السن الوجع 1) فقد قال الأئمة: يحق بذل مالٍ لمن يقلع السن.
5117 - واختلفوا في أن سبيله سبيل الجِعالة (2)، أم سبيله سبيل الإجارة؟ فمنهم من قال: هو جعالة، فإن الوجع قد يسكن في أثناء الأمر، وإذا سكن، لم يجز القلع، وليس فتور الوجع أمراً بدعاً غريباً، فجواز العمل ليس موثوقاً به، والإجارة إنما تصح في عمل موثوقٍ به، أما الجعالة مبناها (3) على الغرر، [وترقُّب] (4) ما يكون.
ومنهم من قال: لا يمتنع الاستئجار عليه؛ فإن القلع في نفسه فعلٌ معلوم، وإمكانهُ ظاهر، وفتور الوجع في الزمان الذي يتأتى فيه القلع بعيد، ولا يشترط في
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (د 1).
(2) الجعالة: بالكسر، وفيها التثليث.
(3) مبناها: جواب أما بدون الفاء، كما نبهنا على ذلك مراراً.
(4) في الأصل: فيرقب.

(8/95)


صحة الإجارة القطعُ بسلامة العقد عمّا يُنافيه، ويطرأ عليه؛ فإن الإجارة الصحيحة متعرضة لتقدير الطوارىء.
5118 - وأما قطع اليد المتآكلة إن جوزناه، فيظهر جواز الاستئجار فيه، وذلك أن الذي اعتمدناه في منع الاستئجار على قلع السن إمكان فتور الوجع، ولا إمكان في اليد المتآكلة؛ فإنا على تحقيقٍ نعلم أن الأكلة لا تزول في الزمان الذي يُفرض فيه عقد الإجارة على القطع، وليس لقائلٍ أن يقول: القطع في نفسه مما لا ينضبط؛ فإنه مضبوط، ولو لم يكن منضبطاً، لما جاز. فإذا جوزناً القطعَ، وجب أن يجوز الاستئجار عليه.
5119 - فإن قيل: معتمد من منع الاستئجار على قلع السن أن الوجع قد يفتر، ويمتنع القلع، فقولوا على حسب ذلك: من استأجر امرأة على كنس المسجد، وهي مُشفيةٌ (1) على دَوْر حيضها، لا يجوز استئجارها، لظهور الاحتمال في طريان الحيض، والسؤال مفروض في الاستئجار على الكنس في زمان معين.
قال القاضي: لا نص في هذه المسألة. ولو قلنا: لا يصح الاستئجار إذا صور المصور مسألته على التضييق الذي وصفناه، لم يمتنع، ولا يمتنع الفرق أيضاًًً؛ فن الكنس على الجملة أمر جائز، وإنما الكلام فيمن يتولاه، ولا ثقة بأدوار النسوة (2)، فيحمل الأمر على الظاهر.
فإن قيل: هلا قلتم: إن من استأجر امرأةً حائضاً على كنس مسجدٍ، ففعلت، فقد عصت، ولكنها وفت العمل المستحق عليها بالإجارة؟ قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ فإن كنس الحائض في زمان الحيض حرام في نفسه، والاستئجار على الحرام باطل.
5120 - وقد يتصل بهذا الفصل إشكالٌ نبيّنه من بعدُ، إن شاء الله تعالى.
وهو أن من استأجر شخصاً لكنس دارٍ معينة، ثم أراد أن يستعمل ذلك الأجير في
__________
(1) مشفية: من أشفى على الشيء أشرف عليه وقاربه. (مصباح).
(2) (د 1): النسوية.

(8/96)


كنس دارٍ أخرى تساويها، فكيف السبيل [فيه] (1)؟ إن جوّزنا ذلك، فالتعيين إذاً لا حكم له، ومعقود الإجارة كنسُ بقعةٍ تساوي البقعةَ المذكورة في قدرها، ويلزم من مساق ذلك تصحيحُ الاستئجار على كنس المسجد، ثم تنزيل المعقود عليه على ما ذكرناه. وهذا مع ما يتصل به سنذكره من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
فصل
5121 - الإجارة إذا أضيفت إلى مستأجَرٍ معين، فيجب اتصال الاستحقاق بالعقد، فلو وقعت الإضافة إلى زمانٍ منتظرٍ، لا يعقب انعقادَ العقد، والمستأجَر عينٌ، فإجارةٌ فاسدةٌ عندنا. وذلك إذا قال في رجب: أجرتك داري هذه شهراً مبتدؤه غرةُ شعبان، والمسألة خلافية مع أبي حنيفة (2) وإضافة العقد في المعيّن إلى زمانٍ سيأتي تتنزل (3) منزلة تعليق العقد عندنا على مجيء الوقت المذكور، فلا فرق بين أن يقول: أجرتك داري هذه الشهرَ الآتي، وبين أن يقول: إذا جاء [رأس] (4) الشهر، فقد أجرتك.
5122 - واختلف أئمتنا فيه إذا أجر شيئاًً من شخصٍ، واستعقبت الإجارةُ الاستحقاقَ، ثم قال معه: إذا انقضت هذه المدة، فقد أجرتك هذه البقعةَ سنةً أخرى. فمنهم من قال: لا يصح ذلك. وهو القياس؛ لأنه تعليق العقد، والإجارة الثانية متميزة عن الأولى، وهي [مستأخرة] (5) كما ذكرناه، فلتبطل هذه الإجارة، كما لو لم تتقدّم الإجارةُ الأولى.
ومن أصحابنا من قال: تصح (6) الإجارةُ الثانية المترتبةُ على الأولى، إذا (7) اتحد
__________
(1) مزيدة من (د 1).
(2) ر. مختصر الطحاوي: 131، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 128 مسالة: 1824.
(3) عبارة (د 1): تنزل عندنا منزلة تعليق العقد على.
(4) سقطت من الأصل.
(5) في النسختين: مستأجرة بالمعجمة من أسفلها. والمثبت اختيار منا، لعله الصواب.
(6) (د 1): لا تصح. (وهو سبق قلم).
(7) (د 1): واتحد.

(8/97)


القائل؛ وذلك أن المنافع في حقه متواصلة الاستحقاق، لا تقطّع فيها، فلا فرق بين أن تفرض في عقدٍ واحدٍ أوْ عقود، وإذا أجر الرجلُ داراً سنة، فالشهر الأخير من السنة مستأخِر عن العقد، وكذلك كل جزء يتأخر عن الجزء المقترن بالعقد.
وهذا [لا] (1) أصل له. والصحيح الحكم بفساد الإجارة الثانية؛ نظراً إلى هذه الإجارة في نفسها، وما ذكرناه بجملته فيه إذا كانت الإجارة واردةً على العين.
5123 - فأما إذا كانت واردة على الذمة، فلا يمتنع ثبوت الأجل فيه، وذلك بأن يقول: ألزمتُ ذمتك خياطةَ هذا الثوب غُرةَ شعبان، فالتأجيل غيرُ ممتنعٍ؛ فإن العمل المستحق دينٌ، والدين يتأجل ويحل.
5124 - ويتعلق بالقاعدة التي نحن فيها تفصيل القول في كراء العُقَب (2)، فله التفات على [تأخر] (3) الاستحقاق عن العقد، ونحن نستوعب ما فيه من الصور، ثم نذكر في كل صورةٍ ما يليق بها، إن شاء الله تعالى.
فمن الصور أن يضيف المستأجر الإجارةَ إلى دابةٍ معيّنة، ويقول: أركب هذه نصف الطريق وأسلّمها إليك نصفَها، فالذي سبق إليه المزني أوّلاً في هذه الصورة، وتابعه معظمُ الأصحاب عليه أن الإجارة فاسدة، في هذه الصورة؛ فإن مضمونها أن يركب على الاتصال مثلاً، ثم ينقطع استحقاق ركوبه، ثم يعود الاستحقاق بعد تخلّل قاطعٍ، والإجارة تبطل على هذا الوجه؛ فإن الاستحقاق الثاني غيرُ متصل بالأول، فيقع في حكم تأخر الاستحقاق عن العقد، واستئجار دابةٍ الزمانَ الآتي.
ومن أصحابنا من قال: الإجارة صحيحةٌ، ومعناها استئجار نصف الدابة على الشيوع، ومذهبنا أن الشيوع لا يمنع صحةَ الإجارة، كما لا يمنع صحة الرهن والهبة والبيع، فمقتضى (4) الإجارةِ استحقاقُ نصف منفعة الدابة، ثم حكم المهأياة بين
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) العُقب: جمع عقبة: وزان غرفة وغرف: وهي هنا النوبة، حينما يتعاقب الراكبون دابة الركوب (مصباح ومعجم).
(3) في الأصل: أخر.
(4) (د 1): ومقتضى.

(8/98)


المستأجِر والمالك توجب التقطّعَ لا محالة، فرجع التقطّع إلى قسمة المنافع بالمهايأة، والعقد في أصله يضمن استحقاقَ نصف المنافع على الاتصال والاستعقاب (1). وهذا منقدحٌ في القياس بالغٌ.
ونص الشافعي يدل على تصحيح كراء العُقب.
هذا ما ذكره الأئمة في هذه الصورة، وعلينا فيها فضلُ نظر.
5125 - فنقول: هذه الصورة تنقسم قسمين: أحدهما - أن تعقد الإجارة على صيغة التقطيع، وتدرج هذه القضية في موجب العقد، مثل أن يقول: أركب هذه الدابة نصف المنزل، وأتركها إليك في الباقي، هذه صورة.
والأخرى - ألا يقع التعرض لذلك، بل يستأجر الرجل النصفَ من دابة.
فإن جرت صيغة التقطيع في صلب العقد، فميلُ الجمهور إلى الفساد، لما ذكرناه من التقطيع في الاستحقاق، وهؤلاء لا يرَوْن الإجارةَ واردة على [كل] (2) الدابة مع التقطيع الذي ذكرناه.
ومن أصحابنا من لم يجعل التقطيعَ محمولاً على حقيقته، وجعله عبارة عن الشيوع في الإجارة، ثم اعتقد أن الشيوع لا يمنع صحة الإجارة.
5126 - ولو لم يقع في العقد تعرض للتقطيع، ولكنه استأجر نصف دابة معيّنة، فالذي ذهب إليه الجمهور صحةُ الإجارة، ثم المهايأة موقوفة في أصلها وتفصيلها على ما يقع التراضي به.
وغلا بعض أصحابنا، فلم يصحح الإجارةَ في العين المعينة إذا وقع التعرض إما باللفظ، وإما بقرينة الحال للركوب، فإن ذلك لا يتأتى إلا بالتقطيع، فيعود الكلام إلى التصريح بالتقطيع. وهذا القائل يقول: الشيوع لا يمنع صحةَ الإجارة ما لم يُردّ إلى ما ذكرناه من تقطيع الاستيفاء، فإذا علمنا أن الاستيفاء لا يتصور إلا مقطَّعاً، حكمنا بالفساد.
__________
(1) والاستعقاب: ساقطة من (د 1).
(2) مزيدة من (د 1).

(8/99)


5127 - وهذا وإن كان يتأتى توجيهه بعيدٌ عن مذهب الشافعي مخالف لنصه.
فإن قيل: فمتى يجوّز هذا القائل استئجارَ الجزء الشائع؟ قلنا: إنما نجوّزه إذا كان لا يحتاج إلى التقطيع في توفية المنافع، كالذي يستأجر جزءاً من دارٍ، ويتأتى منه مساكنة غيره من غير فرض مهايأة.
وهذا خبطٌ وتخليط. والصحيح (1) التصحيحُ، إذا لم يجْر لفظُ التقطيع في العقد، فهذا بيان صورة واحدةٍ، قسمناها، وفصلنا (2) ما قيل فيها.
5128 - فأما إذا استأجر رجلان دابة معينة على أن يتعاقبا، ويتناوبا في الركوب، فهذا ينقسم أيضاًًً: فإن لم يتعرضا للتناوب وذكر التعاقب، ولكنهما استأجرا دابة معينة عن مالكها، فلا يجوز أن يفرض في ذلك اختلاف.
والوجهُ القطع بصحة الإجارة. ثم إنهما إن أرادا المهايأة أجرياها على حسب التوافق، وأصل العقد وارد على استعقاب العقد الاستحقاقَ.
وشَبّبَ بعضُ الضَّعَفةِ من الأصحاب بفساد الإجارة؛ لأنهما يستحقان المنافع، واستيفاؤها على هيئة التقطّع لو صحت الإجارة، والتقطّع يُفضي إلى استئخار الاستحقاق، وهو مفسد عند الشافعي.
وكأن هذا القائل لا يصحح الإجارةَ على نعت الشيوع، إلا حيث يُتصور الوصول إلى الانتفاع على الاشتراك، من غير تقطيع، وهذا كالرجلين يستأجران بعيراً على أن يحمّلاه محمَلاً ويركبانه جميعاً، فهذا مسوغٌّ لا دافع له، فأما إذا كان لا يتأتى اجتماعهما للركوب (3) والانتفاع، وكان سبيل الانتفاع التعاقب، فالإجارة فاسدة؛ فإن العقد إنما يصح إذا كان يصح استيفاء المعقود فيه (4) على وجه يطابق الشريعة.
هذا إذا استأجرا على الشيوع، ولم يتعرضا في العقد لصيغة التقطيع.
__________
(1) عبارة (د 1): والصحيح إذا لم يجر لفظ التقطيع في العقد - أنه يصح.
(2) (د 1): وفصلناها من قيل فيها.
(3) (د 1): في الركوب.
(4) (د 1): عليه.

(8/100)


5129 - فأما إذا تعرضا للتقطيع، فقالا: يركب زيد هذا شطر المرحلة، ثم يركب عمرو هذا، فإذا جرى العقد كذلك، فمن قطع بصحة الإجارة الواردة على الإشاعة من غير تقطيعٍ في اللفظ والصيغة، يجعل في هذا العقد وجهين، لما فيها من التصريح بالاستئخار، حتى كأن مضمونَها أن كل واحدٍ استأجر جملةَ الدابة في بعض المرحلة.
هذا منتهى البيان في ذلك.
5130 - ثم نصَّ الشافعيُّ على صحة استئجار الرجلين الدابة على أن يركباها تعاقباً وتناوباً، ولفظه رضي الله عنه صالح لأن يُحمل على الاستئجار المطلق من غير تعرضِ لذكر التقطيع في صيغة العقد، وهو صالحٌ أيضاًً لذكر التقطيع في صيغة العقد.
ثم من تفريعه رضي الله عنه أنهما إذا كانا يتناوبان على الدابة، فينبغي أن يرعيا الإنصاف، والانتصاف، ومن مقتضى هذا ألاّ تطولَ مدةُ ركوب كل واحدٍ، فإن أحدهما إذا ركب فراسخ وصاحبه (1) يمشي فإذا أراد الركوبَ، وقد لحقه العِيُّ (2) والكلال، فيثقل بدنه على الدابة إذا ركب، وهذا مما يظهر أثره، وإذا كانا يتناوبان على أزمنة متقاربة بحيث لا ينتهي واحدٌ منهما إلى الكلال، فلا يؤدي إلى الإضرار بالدابة.
وهذا حسنٌ، لا بد من مراعاته، إلا أن يكون الذي يُطيل المشيَ لا ينتهي إلى العِيّ الذي يُفضي إلى ثقل البدن، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص، واعتبارُه هيّن، إذا فهم المقصود.
__________
(1) (د 1): فصاحبه إذا أراد الركوب ..
(2) (د 1): العياء. والعي والعياء بمعنى العجز، وإن غلب على الأول الاستعمال في وصف المرض الذي يعجز عنه الطبيب. وعلى الثاني الاستعمال في وصف من عجز عن البيان، ولم يهتد إلى الرأي، والمعنى المراد هنا كما هو واضح من السياق: العجزُ عن المشي، لا عن البيان (المعجم والمصباح).

(8/101)


فصل
قال: " وإن تكارى دابة من مكة إلى [بطن] (1) مَرّ، فتعدى بها إلى عُسفان ... إلى آخره " (2).
5131 - صورة المسألة أن يكتري دابة ليركبها إلى موضعٍ معلوم، فإذا انتهى إلى ذلك الموضع، وتعدّاه راكباً للدابة، وذلك بأن يكتريها للذهاب إلى ذلك الموضع فحسب، من غير رجوع من ذلك الموضع إلى مكان الإجارة، فإذا كان كذلك، فكما (3) انتهت الدابة إلى المنتهى المذكور، فقد انتهت الإجارة، ولا يجوز للمستأجر أن يركبها بعد ذلك، وعليه أن يسلمها للمالك إن كان معه المالك، أو إلى نائبه.
فإن لم يكونا حاضرين في ذلك المكان، سلّم الدابة إلى حاكم البقعة، فإن لم يتمكن من شيء من ذلك، فحكمه حكم المودَع إذا كان يضطر إلى مفارقة البلدة والانجلاء منها، وكان لا يجد من يودع الوديعةَ عنده، ولم يجد أيضاًًً حاكماً يراجعه، فلا وجه إلا أن يسافر بالوديعة، كذلك القول في المسافرة بالدابة بعد انتهاء الإجارة نهايتها، فيسوقها أو يقودها راجعاً، ولا ينتفع بها.
5132 - فلو جاوز المكانَ المعلومَ، وتعدّاه راكباً منتفعاًَ بالدابة، فقد تعدى إذا فعل ذلك، وصار غاصباً للدابة، ودخلت في ضمانه فيغرَم أجر المثل بعد انتهاء الإجارة.
فإن تلفت الدابة في يده، ضمنها بأكثر قيمتها من يوم التعدي إلى يوم التلف، وكذلك يغرم أجر المثل لمدة العدوان، فلو رد الدابة إلى المكان المعلوم المعيّن في الإجارة، لم يخرج عن الضمان.
وهذا جارٍ على قياسنا؛ فإنا نقول: المودَع إذا تعدى في الوديعة، ثم كف عن
__________
(1) في النسختين (إلى مرّ) والزيادة من مختصر المزني. وبطن مَرّ: بفتح الميم وتشديد الراء: من نواحي مكة، عنده يجتمع وادي النخلتين، فيصيران وادياً واحداً. (ياقوت الحموي).
(2) ر. المختصر: 3/ 83.
(3) "فكما": بمعنى (فعندما).

(8/102)


عدوانه، لم يعد (1) أميناً، وبقي ضامناً.
وأبو حنيفة (2) خالف في ذلك، وحكم بأن المودَع إذا ترك عدوانه، عاد إلى حكم الائتمان، ثم إنه مع المخالفة في هذا الأصل، وافق في أن المستأجر إذا جاوز بالدابة المنتهى المعلوم، وصار متعدّياً ضامناً، فإذا ردّها إلى ذلك المنتهى، لم ينقطع أثر العدوان، وتكلّف فرقاً لسنا له (3) الآن.
5133 - ومما يتعلق بأصول هذا الفصل أن من اكترى دابة ليركبها إلى موضعٍ عيّنه، فلا يتعين الخروج في ذلك الصوب، فلو ركبها في صوب آخر، واستوت المسافتان، وتماثل المسلكان في السهولة والوعورة، فلا معترض، ولا بأس؛ فإن المنفعة هي المستحقة، والدابة متعيّنة، ولا يتعين جهة استيفاء المنفعة مع رعاية الاقتصار، فليس الصوب المعيّن معقوداً عليه، حتى يتخيل تعيّنه، ولهذا الأصل جوّز الشافعي أن ينيب المستأجرُ غيرَه مناب نفسه في الركوب إذا كان مثلَه، وجوّز أن [يُكري] (4) مستأجرُ الدابةِ الدّابةَ من غيره، على شرط استواء المستأجر الأول والثاني.
ولو استأجر ثوباً ليلبسه مدة، فله أن يُلبِسَه غيرَه، مع رعاية التساوي والاقتصاد.
ومنع أبو حنيفة (5) الاستنابة تبرعاً، وإجارةً في الحيوان والثوب، ووافق في العقار والدار، فجوز الاستنابة والإجارة من المستأجر.
5134 - فإذا تمهد ما ذكرناه إلى أن الصوب المعين لا يتعين في الإجارة، فلو
__________
(1) لم يعد أميناً: بمعنى لم يرجع، ولا تعود له صفة الأمانة ومنصبها.
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 26 آخر سطر، نقلاً عن الهداية، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 116 - مسألة 1809.
(3) الفرق الذي يشير إليه إمام الحرمين، هو " أنه مأمور بالحفظ في الوديعة قصداً، فيبقى الأمر بعد العَوْد (أي إلى الأمانة والانكفاف عن العدوان) أما في الإجارة، والإعارة، فهو مأمور بالحفظ تبعاً للاستعمال، فإذا انقطع الاستعمال لم يبق هو نائباً ". ا. هـ من حاشية ابن عابدين: 5/ 26.
(4) في الأصل: يكون.
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 116 مسألة 1808، وحاشية ابن عابدين: 5/ 18 سطر 13.

(8/103)


استأجر دابة من مكة إلى مَرّ ظهران، فركب المستأجر إلى نصف الطريق، ثم عنت له حاجة في البلدة، فانعطف راجعاً، قلنا له: إن كنت استأجرت الدابة لتركبها أربعة فراسخ وعيّنت لانتهاء سفرك مرّ ظهران، فقد استوفيت ما استحققت؛ إذ ركبت ذاهباً، ومنعطفاً راجعاً أربعة فراسخ، فقد استقرت الأجرة، والدابة مردودةٌ على ربها.
ولو خرج نصفَ فرسخٍ من مكةَ، ثم انعطف على مكة، فقد استوفى ربعَ المنفعة.
فلو [اتجه] (1) في صوب [مَرّ] (2)، فإذا طوى ثلاثة فراسخ، قيل له: انتهى استحقاقُك، فلا تتعدَّ موضعَك، فإن تعدَّيْته راكباً، كنت غاصباً، وعليك أجرُ المثل للزيادة، مع التعرض لضمان [الدابة] (3).
وكل ذلك يخرج على ما مهدناه من أن الاعتبار بالمسافة، ولا أثر لتعيين الصوْب.
5135 - ويعترض فيما نُجريه أنه إذا ذكر صوباً سهلاً معبّداً، ثم ركب الدابة في صوبٍ آخر وعرٍ، فهذا عدوان. وإذا فرض عيبُ الدابةِ أو تلفُها بسبب سلوك المسلك الوعر، كان هذا كما لو استأجر داراً ليسكنها، فأسكنها القصَّارين، والحدادين، فتزلزلت القواعد، واختلت، ففي ذلك كلامٌ مجموعٌ، يأتي من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
ولو استأجر دابةً إلى مَرّ ليركبها إليه، ثم يرجع، فهذا استحقاق الركوب، في ثمانِ (4) فراسخ، فإن من مكة إلى مَرّ أربعةَ فراسخَ، فالذاهب إليه والراجع طاوٍ ثمانِ فراسخَ، وما مهدناه من أن المرعِيَّ المسافةُ، لا الصوْبُ المعين، يقتضي أن يجوز
__________
(1) في الأصل: أتى.
(2) في الأصل: مرّة.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) كذا في النسختين. وهذا لأنه نظر إلى لفظ الجمع، فعامله معاملة المؤنث، أما حذف الياء في (ثماني)، فله وجه عند أهل الصناعة، جاء في أوضح المسالك، لابن هشام، قوله: "لك في (ثماني) فتح الياء، وإسكانها، ويقلّ حذفها مع بقاء كسر النون، ومع فتحها" أوضح المسالك: 172 طبعة مصطفى الحلبي.

(8/104)


للمستأجر [أن] (1) يمرّ على الدابة ثمان فراسخَ في [أيّ] (2) صوبٍ.
ولكن يعترض فيه أنه إذا فعل هذا، وانتهى إلى منقطع الفراسخ الثمان، فإلى من تسلم الدابة، وكيف الطريق فيه؟ فنقول: إن رضي المالك بهذا، وصاحَب الدابةَ، أو أصحبها نائباً له، فلا امتناع، ولا عدوان، والدابة تسلّم عند منتهى الفراسخ الثمان إلى المالك، أو إلى نائبه من غير عدوانٍ، وهذا جرى بعد إيراد العقد على الذهاب إلى مَرّ والرجوع منه.
5136 - ثم حكم هذه الصورة استقرار الأجرة المسماة لحصول استيفاء الركوب في ثمان فراسخَ، ولو جرى العقد على المرور والرجوع، ثم لم يصدر من المالك إذنٌ في مجاوزة مَرّ، وعسر تسليم الدابة على منتهى ثمان فراسخ، فهذا يجر عدواناً لا محالة؛ فإن العقد انعقد على رد الدابة إلى بلدة المكري، وهو بها، ولكن إذا اتفق هذا، فنقول: أما الأجرة المسماة، فقد استقرت من جهة استيفاء المنافع، وإذا انتهت المسافة، فلا شك أن الراكب المستأجر متعدٍّ؛ فإنه كان مأموراً بالرد إلى مكة راجعاً، وقد ترك هذا وأنهى الدابةَ إلى محل يعسر الجريان فيه على موجب الشرط، ولو ردها من تلك المسافة، فهو في ردّه معتدٍ غارمٌ لأجر المثل.
5137 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا جاوز مَرّاً، والمسألة مفروضةٌ فيه إذا لم يكن الطريق الذي سلكه -مجاوزاً (3) - أوعرَ مما بين مكة ومَرّ، فإنا نجعله بنفس مجاوزته متعدياً، من جهة أنه بمجاوزة مرٍّ، يتعرض لمخالفة الأمر في جهة رد الدابة، وهو مقصودٌ بَيِّنٌ، فهو إذاً غيرُ متعدٍّ من جهة استيفاء المنفعة، ولكن [يأتيه] (4) العدوان من الجهة التي أشرنا إليها، وهذا واضحٌ لا إشكال فيه.
__________
(1) زيادة من (د 1).
(2) زيادة من المحقق.
(3) مجاوزاً: بالنصب (حالٌ) من الضمير الفاعل، و (أوعرَ) (خبر) يكن.
(4) في الأصل رسمت هكذا: [ـاننه]. بدون إعجام الحرف الأول. وإعجام الثالث والرابع من فوق، وفي (د 1): ثابتة.

(8/105)


وقد يخطر للفقيه أنه لا يصير متعدياً ما لم يستوف الفراسخ، فإنّ (1) عُسْر الرد يتبيّن (2) إذ ذاك. وهذا ليس بشيء ولم نذكره ذِكْرَنا الاحتمالات الممكنة.
5138 - ومما يتم به الغرضُ أنه إذا استأجر دابةً ليركبها إلى مرّ، ويرجع عليها إلى مكة، وكانت العادة أن من انتهى إلى مرّ لم يرجع على فوره، بل يبيت ثم يُصبح راجعاًً، فإذا جرى على العادة، جاز، ولا [مستدرك] (3)، ولا نقول: اليوم الذي سكن فيه بمرّ محسوبٌ عليه؛ من جهة تضييعه المنفعة، كما سنوضح هذا في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
ولو كانت العادةُ جاريةً بأن ينكفىء (4) على فوره راجعاًً، فلينكفىء. فإن أقام على خلاف المعهود في العادة، كان ذلك الزمان محسوباً عليه. كما سيأتي تفصيله.
ولو اضطربت العادةُ فالأصح حملُ مطلق العقد على الانكفاء (5) على البدار.
ومن أصحابنا من أوجب التعرض لذلك عند اضطراب العرف، وزعم أن إطلاق العقد مع اضطراب العرف يفسده. وهذا رديءٌ لا أصل له.
5139 - ولو استأجر دابةً للذهاب والرجوع، فخرج والطريق آمنٌ، فلما انتهى إلى المكان المعيّن، حدث خوفٌ في الطريق، فليس له أن يقتحمه، ولو فعل، وضاعت الدابة، صار ضامناًً، وإذا مكث في ذلك المكان، (7 وتثبط (6) إلى أن انجلى الخوف، فذلك الزمان غيرُ محسوبٍ، فإنا أمرناه بمصابرة تلك البقعة في ذلك الزمان 7) احتياطاً
__________
(1) (د 1): وإن.
(2) ساقطة من (د 1).
(3) في الأصل: يستدرك.
(4) (د 1): ينقلب.
(5) (د 1): الانقلاب.
(6) تثبط: تريث، وتعوّق. وهنا تظهر براعة إمامنا، ودقة عبارته، وحسن اختياره لألفاظه، وهو هنا ناظرٌ لقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]، فالتأخر بهذا المكان ليس برادة المكتري، وإنما هو معوّق، ثُبط، فتثبط، ولذا لم يكتف بقوله: " مكث في ذلك المكان ".
(7) ما بين القوسين سقط من (د 1).

(8/106)


للدّابة، فكان في حكم المودَع المؤتمن في تلك المدة.
وإن استأجر الدابة، وفي الطريق خوفٌ، ثم رجع، وذلك الخوفُ قائم، ففاتت الدابة، فلا ضمان؛ لأن الخوض في العقد جرى مع العلم بالخوف القائم، ووقع الرضا بالذهاب، والرجوع.
ولو كان الخوفُ قائماً، ولكن لم يكن مالكُ الدابة عالماً به، بل كان يظن أن الطريق آمن، فهذا مما تردد فيه كلامُ الأصحاب، فقال بعضهم: لا ضمان على المستأجر، وإن فاتت الدابة؛ وكان التقصيرُ من المالك؛ إذْ (1) لم يبحث، ولم يحتط لملكه.
ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان على المستأجر؛ فإن المالك بنى الأمرَ على تقدير الأمن، وقصّر المستأجر؛ إذْ (1) لم [يبيّن] (2) له حقيقةَ الحال.
5140 - ولو كان الطريق آمناً في الممر، ووقع بناءُ العقد عليه، ثم حدث الخوف بعد الانتهاء إلى الموضع المعيّن، فقد ذكرنا أن المستأجر لا ينقلب راجعاًً حتى ينجلي الخوفُ، فلو رجع، وسلمت الدابةُ من جهة ذلك الخوف المعترض، ولكن أصابتها آفةٌ أخرى، فالمذهب أن الدابة مضمونة؛ لأن المستأجر في خروجه في هذا الوقت متعدٍ. ومن صار [متعدّياً] (3)، لم يتوقف وجوب الضمان عليه على أن يكون التلف من جهة عدوانه. هذا هو الذي لا يجوز أن يُعتقد غيره.
وقد أنهيتُ مسائلَ الفصل وختامها ما وعدناه من بيان احتساب الضمان على المستأجر.
5141 - وتفصيل القول فيه أنه إذا اكترى دابةً، وذكر في الإجارة مدةً معلومة، فإن
__________
(1) في (د 1): إذا.
(2) في الأصل: يتبين.
(3) في الأصل: معتدٍ. والمثبت من (د 1).

(8/107)


لم يسلِّم المكري الدابةَ حتى انقضت المدةُ المضروبة، تنفسخ الإجارة، وترتفع بانقضاء مدتها، ولو سلم الدابةَ إلى المكتري على أثر العقد، فربطها المكتري، ولم ينتفع بها حتى انقضت المدة، فقد انتهت الإجارة نهايتَها، وقرّت الأجرةُ المسماة؛ فإنه استمكن من الانتفاع، وضيّع حقَّه، حتى تلفت المنافع تحت يده.
ولو لم يضرب مدةً في الإجارة ولكن استأجر دابة (1) معينةً ليركبها إلى موضعٍ عيّنه، فلو سلّم المكري الدابةَ إلى المستأجر، فربطها مدةً لو سافر فيها، لأمكنه قَطْع المسافةِ المذكورة، فالإجارةُ تنتهي، وتستقر الأجرة، ولا يملك المسافرة؛ فإنا جعلناه في حبسه وربطه بمثابة المستوفي.
5142 - ولو كانت المسألة بحالها، فلم يسلِّم المكري الدابةَ حتى انقضت مدة كان يتأتى في مثلها قطعُ المسافة، فهل نحكم بانفساخ الإجارة قياساً على ما لو اعتمد العقدُ مدةً مضروبة، ثم حبس المكري الدابةَ فيها، حتى انقضت تلك المدة؟ اختلف أصحابنا: فذهب المراوزةُ إلى أن الإجارة تنفسخ، وإن لم يجر للمدة ذكرٌ، إذا مضى زمنٌ يسع في مثله استيفاءُ المنفعة، وقطعُ المسافة، وهذا قياسٌ حسنٌ، لا يتجه غيره؛ فإنَّ المدة وإن ذُكرت، فليست معيّنة، وإنما المطلوب المنفعةُ فيها، فليكن الاعتبار بمضي زمان إمكان الانتفاع، وأيضاًً لم يختلف أصحابنا في أن الإجارة تنتهي نهايتها بربط المستأجر الدابة في الإجارة التي لم يجر فيها ذكر المدة، فإذا استوى ذكرُ المدة وذكرُ المنفعة في حق المستأجر، وفي حكم انتهاء الإجارة، فينبغي أن يكون الأمر كذلك في حق المكري.
5143 - وذهب العراقيون إلى أن المدةَ إذا لم يجر لها ذكرٌ في الإجارة وإنما اعتمدت الإجارةُ قطعَ المسافة، وإعلامَ المدى، فإذا لم يسلم المكري الدابةَ في زمان لو سلمها فيه، لأمكن استيفاء المنفعة، فالإجارة لا تنفسخ، والمكري مطالبٌ بتسليم الدابة، وعللوا بأن المدة لم يجر ذكرُها، والتسليم ممكنٌ بعد هذا الحبس، وليس كحبس
__________
(1) (د 1): مدة معينة.

(8/108)


المستأجر الدابة، فإنا لو لم نحسب عليه تلك المدة، لكان ذلك تضييعاً للمنفعة على المكري، وإسقاطاً لحقه.
وهذا الذي ذكروه وإن كان في ظاهره بعضُ الإخالة، فلا وجه عندنا في القياس إلا ما ذكره المراوزة. وهذا واضح لا إشكال فيه على [المتأمل] (1).
5144 - ولو استأجر دابة وقبضها، ثم تعذَّر عليه المسافرة عليها، واحتبست عنده مدةً تسع المسافرة لو أمكنت، فالأجرة تتقرر عليه؛ فإن المنافع فاتت (2) تحت يده.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردةً على العين.
5145 - فأما إذا كانت واردةً على الذمة، فالإجارة الواردة على الذمة تقبل التعجيل والتأجيل، فإن كانت معجلةً، فلم يسلّم المكري حتى مضت مدة، لم تنفسخ الإجارة وبقي الدين مستقراً في الذمة؛ فإن الإجارة ليست تعتمد عيناً حتى يُفرض انفساخ العقد بضياعٍ وتلفٍ فيها، وهذا بيِّنٌ، لا شك فيه.
ولو سلم المكري في إجارة الذمة دابةً إلى المكتري على شرط الاستحقاق، فحبسها، حُسبت المدةُ عليه؛ فإنَّ حقه تعين بتسليم الدابة، فلم يفترق الأمر في حقه بين أن يكون أصل العقد على العين، أو على الذمة.
وهذا واضحٌ، لا إشكال فيه.
5146 - وقد يتصل بهذا الفصل القول في ثبوت الخيار في الإجارة، ثم الكلام في أن الخيار إذا ثبت، فالمدة من أي وقتٍ تُحتسب.
وهذا قد استقصيناه في أول كتاب البيع على أبلغ وجهٍ في البيان، فليطلبه في فصول الخيار من يريده.
__________
(1) في الأصل: التأمل.
(2) (د 1): تلفت.

(8/109)


فصل
قال: " وله أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة ... إلى آخره " (1).
5147 - نص الشافعي هاهنا على أن من أراد أن يؤاجر ملكه ثلاثين سنة في عُقدةٍ (2) واحدةٍ، جاز له ذلك، ونص في بعض كتبه على أنه لا يزيد على سنة واحدة في مدة الإجارة، ونص في كتاب الدعاوى على أنه يؤاجر ما شاء، فجعل المدة إلى خِيَرَته من غير ضبط.
واختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من جعل هذه النصوص أقوالاً، وأجرى ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا ضبط من طريق التعبد في المدة، والأمرُ مفوّضٌ إلى ما وقع التراضي عليه، وهذا هو القياس، ولا حاجة إلى تكلف توجيهه.
والقول الثاني - أنه لا يجوز المزيد على سنة؛ فإن الإجارةَ أُثبتت للحاجة، وإلا فهي حائدةٌ عن القياس؛ من جهة إيرادِها على مفقودٍ، يتوقع (3) وجوده من عينٍ مخصوصة، والحاجة في الأغلب لا تزيد على السنة، والسنة الواحدة تشتمل على جميع جهات المنفعة، وما يزيد بعد انقضائها في حكم المتكرر.
والقول الثالث -وهو أضعف الأقوال- أن الأمدَ الأقصى ثلاثون سنة، ولا مزيد على هذه، وهذا وإن (4) لم يترتب على أثرٍ، فلا يليق بقاعدة الشافعي -رضي الله عنه - في توقِّيه عن التحكم بالتقديرات، من غير توقيفٍ، ولكنّ الممكن في توجيهه، أن هذه المدة في تفاوض الناس [هي] (5) المعتبر الأقصى في نهايات [التغايير] (6) وهي نصف العمر الغالب.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 82.
(2) (د 1): في عقدٍ واحد.
(3) في الأصل: ويتوقع.
(4) (د 1): إن لم يترتب.
(5) في الأصل: هو.
(6) التغايير. هذه أقرب قراءة إلى السياق، فالكلمة غير واضحة في (د 1) بسبب أثر تصويب فيها، وغير واضحة -قراءةً- في الأصل بسبب عدم استقرار (النقط) فوق الحروف وتحتها.=

(8/110)


وهذا وما يدانيه لا ثبات له.
5148 - وذهب المحققون من أئمتنا إلى قطع القول بأن مدة الإجارة مردودة إلى التراضي، ولا تعبّد فيها، ولا ضبط، ولكن يجب أن يؤاجر كلُّ شيء مدةً يُعلم بقاؤُه فيها، أو يظن ذلك، فإن كانت المدة بحيث يُقطع بأن المستأجَر لا يبقى فيها، فالإجارة مردودة، وإن كان [يغلب] إمكان البقاء فيها، صحت الإجارة، وإن غلب على الظن أن العين لا تبقى فيها، وأمكن البقاء على بُعدٍ، ففي المسألة احتمالٌ، والأظهر التصحيحُ.
وهذا القائل يحمل ذكر الثلاثين على وفاقٍ أجراه الشافعي في [محاولةِ] (1) بيان تطويل المدة. وقد يُجري المبيِّن عدداً على قصد المبالغة، ولا يبغي تقديراتها، وهو كقوله تعالى: [إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ] [التوبة: 80].
ومما يجب التنبيه له أن القول الثالث في طريقة الأقوال، وهو القول المنقاس المحكي عن الدعاوى، محمول على ما وقع القطع به في هذه الطريقة لا محالة.
5149 - ثم من أجر شيئاًً سنة لم يلزمه بيان حصة كل شهر من الأجرة. وإذا آجر سنين، ففي المسألة قولان: أحدهما -وهو القياس- أنه لا يلزمه أن يبين حصةَ كل سنة منها، كما لو اشترى عبيداً صفقةً واحدةً؛ فإنه لا يجب بيان ما يخص كلّ واحد من العبيد.
والقول الثاني - أنه يجب أن يُبيّن ما يخص كلَّ سنة من الأجرة؛ لأن في ذلك تقليلَ الغرر، وقد يُفرض تلف المعقود عليه، ومسيس الحاجة إلى تقسيط الأجرة المسماة على ما مضى وبقي، فإذا كانت الحصصُ مُبيّنةً، هان دَرْكُ المقصود، ووقع الاكتفاء بنص العقد عن طلب الحصص بالاشتهار، وقد يعسر البحث عن الأُجَر في الأزمنة
__________
=وساعد على ذلك الاختيار ورجحه قول الرافعي: " .. لأنها نصف العمر، والغالب ظهور (التغيير) على الشيء بمضي هذه المدة ". فتح العزيز: 6/ 111. والمعنى أن مدة الثلاثين هي أقصى مدة يتخيل فيها بقاء الحال على ما هو عليه، والآن نحن نقول: إن الحياة يتغير وجهها كل ثلاثين سنة؛ حيث ينتهي جيل، وينشأ جيل في نحو هذه المدة.
في الأصل: يعقب.
(1) في الأصل: مجاوزة.

(8/111)


الماضية، وإذا أمكن تقليل الغرر، تعيّن في عقود الغرر. ثم هذا القائل يرعى هذا في السنين؛ فإن إدراك حصص الشهور قريب، وإنما يُتوقع التفاوت في السنين، لتطاول الآماد بها.
وهذان القولان يقربان من الخلاف الذي حكيناه في كون الأجرة جزافاً مشاراً إليها.
5150 - ومما يتعلق بهذه الفصول أنه لو قال: أجرتك هذه الدارَ سنةً، مبتداها من وقت العقد، صح ذلك.
ولو قال: أجرتك هذه الدارَ سنةً، ولم يذكر أنها السنة التي تعقب العقد، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن الإجارة تفسد؛ فإن السنة ذكرت مطلقةً مجهولةً، وهي متناولة للسنة المتصلة بالعقد ولغيرها، والإجمال في صيغ العقود يفسدها.
ومن أصحابنا من يصحح الإجارة، وإلى ذلك مال الجمهور؛ فإن السنة إذا ذكرت على الصيغة التي ذكرناها، لم يُفهم منها في مطرد العرف إلا السنة المتصلة بالعقد، والعرفُ إذا اقترن باللفظ المجمل بيّنه وأوضحه. وهو كما لو قال: بعتك عبدي هذا بألف درهم، فاللفظ في نفسه مجملٌ من طريق وضع اللغة، ولكنه محمول على النقد الغالب يوم العقد.
وهذا متِّجه، ولا يبقى معه للوجه الأول متمسك، إلا أن يقال: الإجارة تقع على أنحاء ووجوه، وقد لا يحيط بتفاصيلها إلا الخواص، والمدة تختلف فيها، ولا يمكن اطراد العرف في أنها تحتسب في ظن المتعاملين من وقت العقد، أو من وقت التسليم، وإذا كان الأمر مضطرباً في ظنون الناس، فلا بد فيه من البيان.
5151 - ومما يتعلق بأحكام المدة أنه لو قال: أكريتك هذه الدار شهراً من السنة، ولم يعين الشهر، فهذا فاسد وفاقاً. وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا ذكر شهراً، ولم يضفه إلى سنة، فإذا قال: شهراً من السنة، فتقديره: أكريتك شهراً من شهور السنة، وهذا إبهام لا شك فيه.

(8/112)


ولو قال: بعتك صاعاً من هذه الصُّبرة، وكانت معلومةَ الصيعان، فالبيع صحيح. وإن كانت مجهولة (1) الصيعان، ففيه وجهان، قدمنا ذكرهما في كتاب البيع، والجريان على الصحة. والفرقُ بين صاعٍ من صُبرة، وبين شهر من شهور السنة أن الغرض يختلف بتقدم الشهر وتأخره، وينضم إلى ذلك أنه لو فرض متاخراً، لكان ذلك باطلاً؛ من جهة استئخار الاستحقاق عن العقد الوارد على العين، وهذا لا يتحقق في الصاع من الصُّبرة؛ فإنه إذا عقد عليه، فقد تنجّز استحقاقُ جزءٍ من الصُّبرة، وتسليمه سهلٌ، لا عسر فيه.
5152 - ولو قال: أجرتك الدار سنةً، كلُّ شهر منها بكذا، وأوضح حصةَ كل شهر، فهذا جائزٌ، ولا فرق بين أن يجعل الشهور متساوية في الحصص، وبين أن يقدّرها مختلفة، ونظير ذلك من مسائل البيع أنه لو قال: بعتك هذه الصُّبرة: كل صاعٍ بدرهم، فالبيع صحيح، ولو قال: بعتك هذه الصّبرة: كلّ صاع من نصفها بدرهم، وكلُّ صاع من نصفها الآخر بدرهمين، فالبيع صحيح وإن تفاوت ثمن الصيعان؛ فإن (2 النصف من الصُّبرة كصبرةٍ على حالها، فكأنه في تقدير 2) النصفين يشير إلى صُبرتين، ويقول: بعتك هذه الصبرة: كل صاع بدرهم، وبعتك هذه
الصبرة الأخرى: كلّ صاع بدرهمين.
5153 - ولو قال: أكريتك هذه الدارَ: كلَّ شهرٍ بدينار، [ولم] (3) يذكر مدةً مضبوطة، فالإجارة لا تصح على هذه الصيغة عندنا، والمذهب أنها لا تصح في الشهر الأول أيضاًً.
ومن أصحابنا من قال: تصح الإجارةُ في الشهر الأول، وهو اختيارُ ابن سُريج، وهو غير مرضي عند أئمة المذهب؛ فإن الإجارة وردت على صيغةٍ واحدةٍ مسترسلة على الشهور كلها، فتصحيحها في بعضها دون البعض لا يتجه.
__________
(1) (د 1): معلومة.
(2) ما بين القوسين ساقط من (د 1).
(3) سقط من الأصل.

(8/113)


ونظير الإجارة فيما ذكرناه من البيع ما لو قال: بعتك كلَّ صاع من هذه الصُّبرة [بدرهم.
قال الأئمة: لا يصح البيع في جميع الصبرة؛ فإنه لم يقل: بعتك هذه الصُّبرة] (1)، كلَّ صاع بكذا، بل قال: بعتُك كلَّ صاعٍ من هذه الصُّبرة، فلم يأت بعبارةٍ تشتمل على جميع الصّبرة.
وكان شيخي يقول: إذا قال: بعتك كلَّ صاع من هذه الصبرة بكذا، فالبيع يصح في الصبرة، كما لو قال: بعتك الصبرة كل صاع بكذا.
والمسألة محتملة.
5154 - فإذا فرعنا على المشهور الذي ذكره (2) القاضي، فلم (3) نجعل ذلك بيعاً في جميع الصبرة، فهل يصح البيع في صاعٍ واحد من الصبرة؟ فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما فيه إذا قال: أجرتك داري هذه كل شهر بكذا، فهل تصح الإجارة في الشهر الأول؟ فيه ما ذكرناه من خلافِ ابن سريج، ولكن مذهبه يختص بالشهر الأول؛ [إذْ] (4) لا يتصور تصحيح الإجارة في غيره. وفي مسألة الصبرة يصح البيع في صاعٍ من جملتها عند ابن سريج، والأصح أن لا تصح الإجارة في الشهر الأول، ولا يصح البيع في صاعٍ من الصبرة إذا لم نجعل ما جرى بيْعاً في جميع الصُّبرة.
فهذا تمام المراد في ذلك.
فصل
5155 - ذكر الأئمة في إجارة الوقف كلاماً متصلاً بما نحن فيه، فنقول: إذا أجر
الوقفَ من تصح إجارته، فذكر مدةً معلومة، ثم مات الآجرُ، نُظر: فإن كان الآجِرُ
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) في النسختين: ذكر.
(3) (د 1): ولم.
(4) ساقطة من الأصل.

(8/114)


متولِّياً، ولم يكن موقوفاً عليه، فموته لا يؤثر في الإجارة، وهي باقية على لزومها.
فأما إذا أجر الوقفَ من هو موقوف عليه، وكان شرط الواقف مقتضياً ترتيبَ البطون، وألا يستحق من في البطن الثاني شيئاً ما لم ينقرض مَن في البطن الأول، ثم أجّر الموقوفُ عليه في البطن الأول الوقفَ، فالقول في أن الموقوف عليه هل يؤاجر بسبب استحقاقه لرَيْع الوقف يأتي مستقصًى في كتاب الوقف، إن شاء الله عز وجل، وفيه نذكر تخريج ذلك على الأقوال في أن الملك في رقبة الوقف لمن؟ فلسنا نخوض الآن في تفصيل ذلك؛ فإنه من أقطاب كتاب الوقف، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
5156 - فإذا أجر الموقوفُ عليه حيث يجوز له ذلك، ثم مات الآجر في البطن الأول، وشرْطُ (1) [الواقف] (2) يقتضي انتقالَ الاستحقاق إلى البطن الثاني، فهل نحكم بارتفاع الإجارة في بقية المدة عند موت من في البطن الأول؟
في المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن الإجارة لا تنفسخ؛ فإنها انعقدت على
اللزوم، فلا يتضمن طريانُ الموت انفساخَها، كما لو أجر المالك داره المملوكةَ، ثم مات في أثناء المدّة، فالملك ينتقل إلى الوارث في الرقبة، ولكن لا تنفسخ الإجارة.
والوجه الثاني - أن العقد لا يبقى في بقية المدة إذا انتقل الاستحقاق إلى البطن الثاني.
5157 - وبنى الأصحاب هذين الوجهين على اختلافٍ ذكروه في الوقف، وذلك أنَّهم قالوا: البطن الثاني يتلقى الاستحقاقَ من البطن الأول تلقي الوارثِ من الموروث أم يتلقى من الواقف؟ فيه اختلاف مشهورٌ بين الأصحاب، ثم بنَوْا مسألتنا على ذلك، فقالوا: إن حكمنا بأن البطن الثاني يتلقى من الأول، فالإجارةُ تبقى في بقية المدة، كما تبقى الإجارة إذا مات الموروث، وإن حكمنا بأن البطن الثاني يتلقى الاستحقاقَ من الواقف، فالعقد يزول في بقية المدة إذا مات من في البطن الأول.
__________
(1) (د 1)؛ فشرط.
(2) في الأصل كما في (د 1): الوقف. والمثبت تقدير منا على ضوء عبارة الأصل التي مضت آنفاً.

(8/115)


وهذا الاختلاف الذي ذكره الأصحاب في الوقف لست أرى له وجهاً، بل يجب عندي القطعُ بأن البطنَ الثاني يتلقى الاستحقاقَ من الواقف؛ فإن المتبع في الوقف، وتعيينَ المستحقِّ والقدرِ شرطُ الواقف، ومن في البطن الثاني يستحق [بما] (1) يستحق به من في البطن الأول ولا وِراثةَ (2) في الوقف.
ولكن توجيه الوجهين مع القطع بما ذكرته ممكنٌ؛ فإن الإجارة صحت من البطن الأول على حالٍ، فلا يمتنع الحكمُ بدوامها.
ثم إذا حكمنا ببقاء الإجارة في بقية المدة، فيجب صرف حصة تلك المدة إلى البطن الثاني لا محالة، ولو استنفق من في البطن الأول جميعَ الأجرة، فحصة بقية المدة دينٌ في تركته. هذا لا بد منه، ولا شك فيه.
5158 - ثم ذكر الأصحاب وجهين في انفساخ الإجارة، وهذا يستدعي عندنا نظراً، والوجه ألاّ نذكر عبارةَ الانفساخ، بل نقول: نتبيّن في وجهٍ أن الإجارة باطلةٌ في بقية المدة؛ من جهة أنا علمنا أن من في البطن الأول تصرّف فيما لم يكن له. ومساق هذا يقتضي [تبيّنَ] (3) البطلان، لا الحكمَ بالانفساخ؛ فإن الانفساخ يُشعر بانعقاد العقد، ثم بارتفاعه بعد حقيقة الانعقاد، كقولنا: إذا تلف المبيع قبل القبض، انفسخ البيع، وكقولنا: إذا انهدمت الدار في أثناء مدة الإجارة، انفسخت في بقية المدة، فلا معنى إذاً للانفساخ في مسألة الوقف. ولم يصرح بالبطلان على أحد الوجهين إلا الصيدلاني، والأمر على ما ذكرنا، ووافق فيه الصيدلاني.
5159 - ومما يتصل بهذه القاعدة، ويناظر ما نحن فيه أن الولي إذا آجر الطفلَ، فهو جائز على حكم الغبطة على الجملة، فلو أجَّره مدةً سيبلغ بالسن في أثنائها لا محالةَ، فالإجارة وراء البلوغ باطلةٌ؛ فإنها وقعت وراء أمد الولاية. وهل تصح الإجارة في المدة التي تقع في الصبا؟ ذكر الأصحاب بطلانَ الإجارة من غير تفصيل،
__________
(1) في الأصل: مما.
(2) (د 1): وارث.
(3) في الأصل: تبيين.

(8/116)


ولم يتعرضوا لبيان الإجارة في مدة الصبا.
وقال القاضي: يجب تخريج صحة الإجارة في المدة الواقعة في الصبا على قولي تفريق الصفقة. وهذا حسنٌ متّجهٌ، ويحمل ترك تعرض الأصحاب لذلك على اعتمادهم وضوحَ الأمر في هذا.
5160 - ولو أجر الولي الطفلَ مدة لا يعلم أنه يبلغ بالسن فيها، ولكن كان بلوغه بالاحتلام ممكناً في أثناء المدة، فيحكم على ظاهر الحال باستمرار الإجارة، فإن لم يتفق البلوغ حتى تمت الإجارة، فلا كلام.
وإن اتفق البلوغ في المدة، ففي الإجارة وراء البلوغ خلافٌ، ذكره الأصحاب منهم من قال: الإجارة تبقى، فإنها جرت من وليٍّ على شرط الغبطة، ووقع الحكم أولاً بنفوذ الإجارة، فيجب الوفاء بها.
والصحيح أن الإجارة لا تبقى.
ثم ذكر الأصحاب عبارة الانفساخ، والوجه عندنا أن نقول: نتبين بطلانَ الإجارة وراء البلوغ، وهذا كما ذكرناه في مسألة الوقف.
5161 - ثم إذا حكمنا ببطلان الإجارة وراء مدة البلوغ، فهل نقول: تبيّنا أن الإجارةَ اشتملت على ما يصح، وعلى ما يفسد، حتى يُخرّج على قولي تفريق الصفقة قولٌ إن الإجارة باطلة في جميع المدة، كما ذكرناه فيه إذا أجر الصبي مدةً يعلم أن شيئاًً منها يقع وراء بلوغه بالسن؟ هذا لم يتعرض إليه الأصحاب. وإذا أوضحنا أن انتفاء الإجارة وراء البلوغ سبيله البطلان، لا الانفساخ، فلا بد من خروج هذا القول.
وقد يظهر للفقيه القطعُ بصحة الإجارة فيما تقدم على البلوغ بالاحتلام، وأن الإجارة عقدت على احتمال أن تصح وتستمر في جميع المدة، وكل عقد يُعقد كذلك، ثم يتبين آخراً أمرٌ، فيظهر تخصيصُ الإبطال بما يتبين آخراً، وسنذكر نظير ذلك في محاباة المريض في البيع، إذا لم يفِ الثلث باحتمالها.
5162 - ومما يتصل بما نحن فيه أن المالك إذا أجر عبده سنة، ثم إنه أعتقه في أثنائها، فالذي قطع به الأصحاب أن الإجارة لا تنفسخ في بقتة المدّة بطريان العتق.

(8/117)


وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكره الأصحاب.
والثاني - أن الإجارة تنفسخ في بقية المدة. وهذا ضعيفٌ لا خروج له على قاعدة المذهب. والسبب فيه أن الإجارة جرت من المالك بحقِّ الملك، ثم طرأ عليها ما يتضمن زوال الملك عن الرقبة، فكان ذلك بمثابة ما لو أجر المالك فى اره، ثم مات.
وأبو حنيفة (1) مع مصيره إلى أن الإجارة تنفسغ بموت المكري- سلّم أن العبد المستأجَر إذا أُعتق في خلال المدة، لم تَنْفسخ الإجارة (2)، فالوجه القطع بأن الإجارة لا تنفسخ.
ثم هل يثبت للعبد إذا عَتَق الخيارُ في فسخ الإجارة في بقية المدة؟ فعلى وجهين- ذكرهما صاحب التقريب أيضاًًً: أحدهما - أنه لا خيار له، والإجارة تجري على موجب لزومها.
والوجه الثاني - أنه يثبت له الخيار كما تتخير الأمة إذا عَتَقت تحت زوجها القِنّ، وهذا بعيدٌ لا أصل له.
نعم إن حكمنا ببقاء الإجارة ولزومها، وأوجبنا الوفاء بها، فإذا عمل المعتَق في بقية المدة، بعد نفوذ العتق، فهل يرجع بأجرة مثله في هذه المدة الواقعة بعد العتق
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 128، المبسوط: 15/ 153، البدائع: 4/ 222، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 129 مسألة 1826، البحر: 8/ 41، تبيين الحقائق: 5/ 144، فتح القدير: 8/ 84، حاشية ابن عابدين: 5/ 52، الاختيار: 2/ 55، مجمع الأنهر: 4/ 401.
(2) هذه المسألة (انفساخ الإجارة بعتق العبد المستأجر) أجهدتنا كثيراً، فلم نجدها في مظانها من كتب السادة الأحناف برغم طول بحثنا. وأخيراً وجدناها في (البدائع: 4/ 199 عند شروط المستأجَر) كما وجدناها في غير مظانها أيضاًً في: تبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه: 5/ 141، والبحر: 8/ 37، وحاشية ابن عابدين: 5/ 46، ومجمع الأنهر: 1/ 396، والاختيار: 2/ 55. كلهم في باب ضمان الأجير، وليس في باب فسخ الإجارة. وهذا مما يدعونا أن ننادي مع المنادين بضرورة فهرسة كتب الفقه وتكشيفها. ورحم الله ابن حجر الذي قال: " ولطالما قرأت المجلدة كاملة فلم أظفر بما أريد " فمن لنا بصبره وجَلَده!!! والله المستعان.

(8/118)


على سيده؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يرجع به على سيده؛ فإنه بسبب العقد الذي قدّمه في الرق استسخره بعد العتق، مع أنا نعلم أن السيد لا يستحق منفعةَ مُعتَقه بعد نفوذ العتق.
والوجه الثاني - أنه لا يرجع عليه بشيء، نظراً إلى ابتداء العقد، وقد جرى في حالة الرق، وما بقي منه من بقايا أحكام الرق، والدليل عليه أن المعتَق على المذهب الذي عليه الجريان لا يجد محيصاً عن العمل في بقية المدة، فالمعنى الذي أوجب إلزامَ الإجارة وإدامتَها بعد العتق، ذلك المعنى يوجب قطعَ الرجوع [والتبعة] (1) عن السيد.
5163 - ومما يجب تجديد العهد به في آخر الفصل التنبيه للفرق بين البطلان، وبين الانفساخ، فما ذكرناه من انتفاء الإجارة بعد بلوغ الطفل محمول على البطلان، وكذلك ما ذكرناه من انتفاء الإجارة بعد موت مَنْ هو في البطن الأول محمول على البطلان، وما ذكرناه في العبد إذا عتق [عن] (2) صاحب التقريب من أن الإجارة تنتفي (3) بعد العتق، فهو إن صح محمولٌ على الانفساخ؛ فإن الإجارة صدرت من المالك بحق الملك، ثم أنشأ تصرفاً ينافي حجرَ الرق، فكان ذلك بمثابة ما لو أتلف البائع المبيعَ قبل القبض، وقلنا بانفساخ البيع.
وهذه المراتب يجب أن يتنبه لها الفقيه، ولا يعتقدها على قضية واحدة.
5164 - ثم قال الأئمة: إذا أكرى من في البطن الأول الوقفَ ممّن في البطن الثاني، ثم مات القريب قبل انقضاء المدة، فهذا يُخرّج على ما ذكرناه من أن تصرفه ينتفي (4) إذا مات أم لا؟
فإن قلنا: إجارته تنتفي بموته لو جرت مع أجنبي، فلا شك أنها تنتفي في الصورة
التي فرضناها. وإن قلنا: لا تنتفي إجارته مع الأجنبي في بقية المدة إذا مات، ففي
__________
(1) في الأصل: والمنفعة.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) (د 1): تنتهي.
(4) (د 1): ينتهي.

(8/119)


انتفاء الإجارة، وقد جرت ممّن هو في البطن الثاني وجهان، والسبب في جريانهما أنه قد طرأت حالةٌ في حقه توجب له استحقاق المنفعة من غير إجارة.
وقد ذكرنا أن المستأجر إذا اشترى في خلال المدة الدارَ المستأجرة، فهل تنفسخ إجارته؟ والوجه ترتيب مسألة الوقف على طريان الملك على الرقبة، ومسألة الوقف أولى بارتفاع الإجارة، والفرق أن طريان الملك في الرقبة ليس يُثبت الاستحقاقَ في المنافع مقصوداً، بل مالكُ الرقبة يستحق منفعتها تبعاً لملك الرقبة، والموقوف عليه في البطن الثاني يستحق المنافع استحقاقاً مقصوداً، من غير تقدير تبعية، فكان ذلك أولى بانفساخ الإجارة.
ثم نقول في هذا المنتهى هذا انفساخٌ، وليس بطلاناً، وهو بمثابة ما لو اشترى الزوج زوجته، فإن النكاح ينفسخ بما يطرأ من ذلك.
هذا بيان مسائل الفصل.
فصل
قال: " وأي المتكاريين هلك ... إلى آخره " (1)
5165 - قد ذكرنا من مذهب الشافعي أن الإجارة لا تنفسخ بموت واحد من المتعاقدَيْن، ولا بموتهما جميعاً؛ فإنها معاملةٌ لازمةٌ، فيجب الوفاء بها.
5166 - وإذا أجر الحرُّ نفسه، ثم مات، فانفساخ الإجارة ليس بسبب موت الآجر، وإنما هو بسبب فوات المعقود عليه.
5167 - ثم نقول: الإجارة لا تخلو إما أن تُفرضَ واردةً على عينٍ، أو تُفرضَ واردةً على ذمة الآجر، فإن وردت على عينٍ، وبقيت العين، ومات العاقد، فالإجارة تبقى. وإن كانت الإجارة واردةً على [ذمة الآجر] (2) فإذا مات، فسبيل الإجارة في
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 82.
(2) في الأصل: على الذمة.

(8/120)


ذِمّته كسبيل الديون اللازمة، فإن كان في تركته وفاءٌ استأجرنا منها من يتمم العمل المستَحق في ذمته، وإن لم يكن في تركته وفاءٌ، أو لم يخلّف شيئاًً فوارثه بالخيار إن شاء سعى في إتمام العمل، واستحق الأجرة، وإن شاء أعرض.
ثم المستأجر يتخير في فسخ الإجارة، ورفع المعاملة لتحقق العذر (1)، ولم نحكم بانفساخ الإجارة، فإن العجز لا يتحقق إلا عن مباحثة، وما كان كذلك، فهو متعلّق بخيَرةِ صاحب الحق.
ولو كان عمل بعض العمل في حياته، وكان استوفى تمامَ الأجرة، فإذا انفسخت، وقع الاعتداد بقسطٍ يقابل عملَه في الحياة، ويصير الباقي ديناً في ذمة المتوفَّى، وهذا بيّنٌ، والعهد بتقريره قريب في كتاب المساقاة.
5168 - ثم ذكر الأصحاب مسائلَ مختلفاً فيها، منها: أن الشيوع لا يمنع صحة الإجارة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2)، وقد ذكرنا تحقيق المذهب فيه في مسألة كراء العُقَب (3).
ومنها أن من استأجر شيئاًً وقبضه، ثم أراد أن يكريه، فله ذلك، ولا معترض عليه في مقدار الأجرة، فلو كان استأجر [داراً] (4) بمائةٍ سنة، وقبضها، ثم أكراها بمائتين، ساغ، وما يأخذه (5) من الزيادة حلالٌ طيب. وقال أبو حنيفة (6): الإكراء بالزيادة صحيح، ولكن الزيادة على الأجرة ليست بطيّبة (7)، ويلزم التصدق بها، وهذا لا أصل له في الشريعة عندنا.
5169 - ولو أجر المستأجر العينَ التي قبضها من المالك المُكري، فقد ذكر
__________
(1) (د 1): التعذر.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 124 مسالة: 1821، إيثار الإنصاف: 334.
(3) العُقَب: جمع عقبة وزان غرفة وغرف، ويراد بها (النَّوْبة) حينما يتعاقب الراكبون دابة الركوب. وانظر ما يحيل إليه في فصل وجوب اتصال الاستحقاق بالعقد.
(4) سقطت من الأصل.
(5) (د 1): يأكله.
(6) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 126 مسألة: 1823، ومختصر الطحاوي: 129.
(7) (د 1): ليست طيبة، ويجب.

(8/121)


الأصحاب في صحة ذلك وجهين وبنَوْهما على الوجهين في أن المكتري إذا ملك رقبةَ المكترَى، فهل تنفسخ الإجارة؟ وقد قدمنا تفصيلَ المذهب في ذلك، والوجهُ ترتيب الوجهين فيه إذا أكرى من المكري على الوجهين فيه إذا طرأ للمكتري ملكُ الرقبة، والإكراء (1) من المكري أولى ألا يصح، والسبب في ذلك أنه اجتمع مع ملك المكري للرقبة أن المنافع بعدُ في ضمانه للمكتري منه، فلو صححنا الإجارة معه، لكانت المنافع مضمونةً له، و [مضمونة] (2) عليه، وهذا متناقضٌ في موجب المعاملات، والله أعلم.
...
__________
(1) (د 1): والاكتراء.
(2) سقطت من الأصل.

(8/122)


باب كراء الإبل
قال الشافعي: " وكراء الإبل جائز للمحامل والزوامل والرحال ... إلى آخره" (1).
5170 - المحامِل جمع مَحْمِل، وهو كالمرقد، والزوامل جمع الزاملة، ومعناها ما يزمّل ويلف من الثياب والأمتعة على ظهر الدابة ليركبها من يركبها، ويقال: تزمّل فلانٌ بكسائه إذا التفَّ به، ومنه قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ] [المزمل: 1]، وقيل: الزاملة على صيغة الفاعل، ومعناه المفعول؛ فإن الزاملة اسمٌ للثياب المزمِّلة، ويجوز أن يقال: الزاملة اسمٌ لشكلٍ في وضع الأمتعة جامعٍ لها، فتلك الصورة زاملةٌ [لاثةٌ] (2) للأمتعة.
والرحال جمع الرحل، وهو يطلق على الإكاف، وقد يطلق على الزاملة أيضاًًً.
5171 - ثم قال المرتَّبون مقصود الباب تفصيلُ القول في كراء الدواب في الوجوه والمقاصد التي تُكترى إليها. ثم لها أربعة مقاصد: أحدها - الركوب. والثاني - الحمل. والثالث - الاستقاء. والرابع - الحرث. ونحن نذكر كلَّ مقصودٍ من هذه المقاصد، ونوضّح ما يتعلق به، إن شاء الله عز وجل.
5172 - فلتقع البداية بالركوب. والاستئجارُ لهذا المقصود، ولغيره ينقسم إلى الإجارة الواردة على العين، وإلى الإجارة الواردة على الذمة، ونحن نذكر تفصيل الإجارة الواردة على عينِ الدابة فنقول: لا بد أولاً مع تعيين الدابة من وجوهٍ في
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 82.
(2) في الأصل تقرأ (لانه)، وفي (د 1): لافة. والمثبت هو أقرب صورة للأصل. ولاثّة: من لاث العمامة إذا لفها على رأسه، وعصبها به. (المعجم).

(8/123)


الإعلام: منها إعلام المنفعة، وذلك يحصل بوجهين: أحدهما - المدة، وذلك بأن يقول المكتري: اكتريت منك هذه الدابة لأركبها في بياض هذا النهار، وأتردد عليها في حوائجي. فهذا وجه في إعلام المعقود عليه.
والوجه الثاني - ألا يتعرض للمدة، ولكن يذكر المقصود ويوضحه، بأن يقول: اكتريت هذه الدابة لأركبها إلى الموضع الفلاني، وهذا إعلامٌ تامٌّ، ولا حاجة إلى ذكر الوقت، مع ما ذكرناه.
5173 - ومما يجب إعلامه في إجارة العين للركوب صفةُ الراكب، فإن حضر، وعاينه مالك الدابة، كفى ذلك وإن لم يحضر، فلا بد من وصفه، فإن ذكر وزنه، كفى. وإن لم يذكر وزنه، وذكر قدّه، وما هو عليه من نحافة أو سمن، على التقريب الممكن، فالأصح أن ذلك كافٍ؛ فنا إذا كنا نكتفي بمعاينة الراكب، فذكر هذه الأوصاف تنزل منزلة المعاينة، وإن كنا لا نحيط بحقيقة الوزن في المعاينة، ولا في الوصف.
ومن أصحابنا من أوجب ذكر الوزن إذا لم يكن الراكب حاضراً حالة العقد -ولا خلاف أن العِيان يكفي في ضبط الراكب- وهذا الوجه ضعيف غيرُ معتد به.
5174 - ثم إذا انعقدت الإجارة على عين الدابة، فمن أحكامها أن تلك الدابة لا سبيل إلى بدلها؛ فإن بقيت استمرَّت الإجارة، وإن تلفت في يد المستأجر، انفسخت الإجارة في بقية المدة، كما تقدم تقرير ذلك.
ولو عابت عيباً يؤثر في مقصود الإجارة تخيّر المكتري، فإن رضي بالعيب، استمر العقدُ، وإن فسخ ارتفعت الإجارة.
5175 - ومن أحكام تعيّن الدابة أن (1) استئجارها يجب أن يكون بحيث يستعقب العقدُ استحقاقَ منفعتها، فلو أضيف العقدُ إلى مدة في الاستقبال، لم يصح مثل: أن يقول: أجرتك هذه الدابة غرة شعبان، والعقد في رجب. وقد أوضحنا ذلك.
__________
(1) (د 1): على استئجارها.

(8/124)


5176 - ثم إذا قبض المستأجر الدابةَ، وكان ذكر أنه يركبها، فلو أراد أن يُركبها غيرَه، جاز، [والجملة] (1) الضابطة في ذلك أن المستحَقَّ في الإجارة منفعةُ الدابة، فهي مخصوصةٌ، وذكرُ عين الراكب (2) لا يعيّنه، فإن التعيين إنما يؤثر في المعقود عليه، والراكب مستوفٍ للمنفعة وليس معقوداً عليه، فإذا أراد أن يُركب غيرَه، جاز.
ولهذا قطع الأئمة بأنه (3) يُكري الدابة إن رام ذلك، ومن ضرورة تجويز ذلك تبدّل الراكب.
ثم إنما يجوز تبديل الراكب إذا كان مثلَ المستأجر المعيّن للركوب، فإن كان أثقلَ منه، لم يجز، وذلك بيّنٌ.
5177 - ولو كان المستأجر رفيقاً في ركوبه وتزْجيَة الدابة، فلو أكراها ممن هو في الجثة مثلُه، ولكن كان أعنفَ منه في الإجراء، أَو التَّزْجِية، فهذا لا يؤثر في إفساد الإجارة، والسبب فيه أن ما يصدر من ذلك الراكب من ضربٍ وتعنيف ينقسم، فمنه ما كان لا يُمنع منه المستأجر لو أراده، وهو القدر المعتاد في إجراء الدابة، ومنه ما يزيد على المعتاد الشائع، فيمنع منه الراكب. فإذا ثبت ما ذكرنا، فلو ركب المستأجِر من المستأجِر، وعنّف، واعتدى، وزاد في التعنيف والضرب، على ما يسوغ، فهلكت الدابة بهذا السبب، فلا شك أن الضمان يتوجه عليه.
5178 - ثم قال الأئمة: ليس للمالك مطالبةُ المستأجر الأول ليرجع بما يغرَم.
وهذا متفق عليه.
وليس كما لو [أكرى] (4) الدابة من رجل ضخمٍ تزيد جثتُه في الثقل؛ فإن الدابة إذا هلكت بسبب ثقل الراكب الثاني؛ فالضمان يتوجه عليه، ويتوجه أيضاًًً المطالبةُ على المستأجر الأول من جهة المالك. والفرق أن الدابة إذا تلفت بتعنيفٍ من الثاني،
__________
(1) في الأصل: فالجملة.
(2) (د 1): الدابة، وهو سبق قلمٍ لا شك.
(3) (د 1): بأن.
(4) في الأصل: اكترى.

(8/125)


فالأول غيرُ مقصّرٍ في الإجارة والتسليم، وإنما جاء العدوان من الثاني، فلم يتعلق بالأول عدوانٌ، ولا سببُ عدوان، وليس كذلك إذا ركب من هو أثقل منه؛ فإن عيْنَ ذلك عدوان. ولكن إذا تحقق الإتلاف من الثاني، فعليه قرارُ الضمان، والمطالبة تتوجه على الأول؛ لأنه تسبب إلى ما جرى. وهذا واضحٌ.
5179 - ومما يتعلق بالركوب في الدابة المعيّنة أنه لو اكترى بعيراً (1) [ليحمله] (2) مَحْمِلاً ليركبه، فلا بد من إعلام المَحْمِل، فإن عاينه، كفى، إجماعاً، ولا يشترط مع العيان معرفةُ الوزن.
وإن لم يكن المَحْمِل حاضراً، فلا بد من وصفه؛ فإن وقع الاقتصار على ذكر وزنه، فالذي قطع به المحققون أن ذلك لا يكفي؛ فإن المحامل تختلف بالسعة والضيق، وغيرهما من الصفات، مع التقارب في الوزن، ويختلف الضرر والعناء على الدابة باختلاف هذه الصفات اختلافاًً بتناً.
وذكر بعضُ الأصحاب أن الاقتصار على ذكر الوزن كافٍ، ثم لهيئة المحمل على الوزن المعلوم ضبطٌ يعرفه أهل الصناعة فيتّبع ذلك. وهذا الوجه ضعيفٌ، لا أعتدُّ به.
ولو وصف المَحْمِل بالطول والعرض والسعة، وكل ما يختلف الغرض به، ولم يتعرض للوزن، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن الوزن لا بد منه؛ فإنه الأصل.
والثاني - أن الصفات كافية كما في العيان؛ إذ لا خلاف أنه لا يجب الوزن مع العيان.
5180 - والأصح أن الراكب إذا كان غائباً، كفى في إعلامه وصفُه، ولا حاجة إلى ذكر وزنه، وفيه أيضاًً خلافٌ قدّمته، والأصح في المحمل وجوب ذكر الوزن إذا كان غائباً، والأصح أن ذلك لا يجب في الراكب الغائب، والمتبع في النفي والإثبات والفرق والجمع العرفُ، وهو هيّنٌ على أهل المعاملة.
5181 - ولو جرى ذكر المَحْمِل في موضعٍ محاملُه متدانية كمحامل بغداد،
__________
(1) (د 1): بعين.
(2) في الأصل: ليحملها.

(8/126)


وشقادف (1) الحجاز، فقد قال أبو إسحاق المروزي: إطلاق المحمل في مثل هذه البقعة كافٍ، وخالفه معظمُ الأصحاب؛ فإن المحامل لا تتوافق في شيء من البقاع، ولا بد وأن تختلف اختلافاًً معتبراً.
5182 - ومما يتعلق بالركوب أن المستأجر إذا ذكر أنه يركب الدابة بالإكاف، فلو أبدله بالسرج، جاز، فإن السرج أهونُ، وأخفُّ على الدابة من الإكاف.
ولم يذكر أحد من الأصحاب اشتراط ذكر الوزن في السرج والإكاف، وإنما تعرضوا للوزن في المحامل الغائبة، واكتَفَوْا بالعادة في الإكاف والسرج؛ لأن ذلك مما لا يختلف اختلافاًً به مبالاة.
5183 - ومما ذكره الأئمة في ذلك أن قالوا: من اكترى دابة وقبضها، ثم أفلس [المكري] (2)، فلا أثر لفلسه في الإجارة، فإن منعنا بيع المكرَى يصْبرُ الغرماء حتى تنقضي الإجارة، ثم تباع الدابة، وتصرف إلى الغرماء. وإن جوزنا بيْعَ المكرَى، فأراد الغرماء البيعَ، جاز لهم ذلك، وإن كانت القيمة تنتقص والرغبات تقلّ، فإنا لا نكلفهم أن يؤخروا حقوقهم رعايةً لغبطة المحجور عليه. وقد ذكرنا لذلك نظائر في كتاب التفليس.
ثم إذا بيعت الدابة، فهي تقِرّ في يد المستأجر إلى أن يستوفي تمام حقه، وتنقضي الإجارة، وذلك واضحٌ لا إشكال فيه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المقصود من الإجارة الركوب، وقد وردت على عين الدابة.
5184 - فأما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة، فيجري في ذلك لفظان: أحدهما - أن يقول: ألزمت ذمتك إركابي إلى الموضع الفلاني، فهذا لفظٌ.
ولا بد فيه من إعلام المركوب، فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاًً عظيماً. وقد
__________
(1) الشُّقدُف: بضم الشين والدال، مركب أكبر من الهودج، يستعمله العرب، وكان يركبه الحجاج إلى بيت اله الحرام. جمعه شقادف. (المعجم).
(2) في الأصل، كما في (د 1): المكتري، والمثبت تقدير منا رعاية للمعنى.

(8/127)


ذكرنا في السَّلَم أنه يجب فيه ذكر الأوصاف المقصودة، فليذكر الجنسَ والنوعَ، وليبيِّن أن المركوب حمار، أو بغل، أو فرس، أو بعير (1)، وذكر الأئمة أنه يذكر أنه ذكر أو أنثى؛ فإن السير يختلف بالذكورة والأنوثة، والذي يدل عليه ظاهرُ كلام الأئمة أن ذلك شرطٌ، وقد رأيت في كلام بعضهم ما يدل على أن ذلك احتياطٌ، وليس بشرط، والمسألة محتملة.
ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب لوصف سير الدابة، وأنها تخطو أو تُهَمْلج (2)، والذي لا يستراب فيه وجوبُ ذكر ذلك؛ فإن البهائم تختلف في هذا، وما ذكرناه في صفة السير يجري لها مجرى الأوصاف، ومعظم الغرض يتعلق بذلك، وإذا ذكروا الذكورة والأنوثة، فما ذكرتُه أولى بالاشتراط.
فهذا بيان ما يتعلق من الإعلام بلفظٍ يتفق استعماله في إلزام المقصود ذمّةَ المكري.
5185 - واللفظ الثاني أن يقول: ألزمت ذمتك تسليمَ مركوبٍ إليَّ أركبه إلى موضع كذا، فهذا يُداني اللفظَ الأول، ولكنهما قد يختلفان في التفريع، كما سيأتي شرحُ ذلك، إن شاء الله تعالى- ثم القول في وصف الدابة كما ذكرناه.
5186 - ولا يشترط أن يذكر صحةَ الدابة وقوّتَها، واستقلالَها؛ فإن مطلق العقد يقتضي ذلك، وما يقتضيه مطلقُ العقد، فلا حاجة إلى التصريح بذكره.
5187 - ثم إن جرى العقد بلفظ السَّلَم، فيجب تسليمُ الأجرة في مجلسِ العقد، وإن لم يجر لفظُ السلم، وإنما قال: ألزمت ذِمتك، ففص وجوب تسليم الأجرة في مجلس العقد خلافٌ بين الأصحاب قدّمنا ذكره، وهو جار في البيع الوارد على مبيع موصوفٍ في الذمة من غير ذكر لفظ السلم، والسلف.
5188 - ثم إذا وردت الإجارة على الذمة، فيتصور فيها الحلول والتأجيل: فالحالّ
__________
(1) (د 1): أو غيرهما.
(2) تهملج: هملجت الدابة سارت سيراً حسناً في سرعة. (المعجم).

(8/128)


هو الذي يُقيَّد بالحلول، أو يطلق؛ فإنَّ المطلق عندنا كالمقيّد بالحلول والتعجيل.
والمؤجل مثل: أن يقول: ألزمت ذمتك أن تُركبني غُرّةَ المحرم إلى موضع كذا، فهذا جائز؛ فإنّ الديون تقبل الآجال.
فأما إذا ورد العقدُ على دابة معينة، ففرض الأجل محال؛ فإن الأعيان لا تقبل الآجال، ولو أضيفت إجارة الدابة المعيّنة إلى وقتٍ مستقبل، فهو باطل، كما تقرر من المذهب.
ثم لا بد من إعلام الراكب في عقد الذمة، وقد ذكرنا طريق إعلامه بالعيان، أو الوصف، فإن قيل: أليس التعيين ينافي وضعَ السَّلم، فلم تجوّزون تعيين الراكب؟ قلنا: إنما يمتنع تعيين المعقود عليه، مثلُ أن يعيّن المسلم في الرطب نخلاتٍ من بستان، هذا ينافي مقصودَ السلم، والراكب ليس معقوداً عليه، والذي يوضح الحقَّ في ذلك أن الراكب وإن عُيِّن في الإجارة في الدابة المعيّنة، فإنه لا يتعين؛ إذ له أن يُركب غيرَه، فلا أثر إذاً لتعيين الراكب. والأمر على ما وصفناه.
5189 - ثم من أحكام الإجارة [الواردة] (1) على الذمة أن المكري لو سلّم دابةً على الصفة المطلوبة، ثم تلفت تلك الدابة في يد المستأجِر، فلا تنفسخ الإجارة، بل يجب على المكري أن يأتي بدابةٍ أخرى، على صفتها، وتحقيق ذلك أن الدابة إذا كانت معيَّنةً في الإجارة، فسلمها المستأجرَ، وتلفت في يده، فالإجارة تنفسخ، والتلف يقع من ضمان المكري. هذا حكم الإجارة الواردة على العين.
فأما إذا كانت واردةً على الذمة، ففيها متسع، فلا وجه للحكم بالانفساخ إذا كان الوفاء بالعهد ممكناً، وكذلك لو عابت تلك الدابة في يد المكتري، فإنه يردّها ولا تنفسخ الإجارة، بل يستبدل عنها دابةً أخرى، غيرَ معيبة، وإذا عابت الدابة المعيّنة في الإجارة، فردُّها يتضمن انفساخَ الإجارة لا محالة.
ومما يتعيّن الاعتناء بفهمه في هذا المقام أن الدابة المسلّمة في إجارة الذمة يتعلق بها حق المستأجر على التحقيق، وإن كان مستند الإجارة الذمةَ، وبيان ذلك: أن
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(8/129)


المستأجر لو أراد أن يكري الدابةَ التي قبضها عن إجارة الذمة، فله ذلك، أطبق عليه أئمة المذهب.
ومما ذكروه في تحقيق ذلك أن المكري لو أفلس قبل تسليم الدابة، فقد يُضارب بحقه المستأجرُ، كما سنصفه الآن، إن شاء الله تعالى- وإذا سُلِّم الدابة، ثم جرى الإفلاس، فلا مضاربة، والمستأجر أولى بتلك الدابة حتى يستوفي حقَّه منها؛ فإن اختصاصه بها -وقد تسلمها- يزيد على اختصاص المرتهن بالرهن.
5190 - ومما ذكره الأئمة في ذلك: أن المستأجر لو أراد الاعتياض عن حقّه قبل تسلّم الدابة، لم يكن له ذلك؛ فإنه اعتياضٌ عن المسلم فيه، وهو ممنوعٌ إجماعاً، ولو تسلم دابة على الصفة المطلوبة، ثم أراد المكتري أن يعتاض عن حقه في تلك الدابة، فله ذلك، وفي تصحيح هذا الاعتياض سقوطُ حقِّ المستأجر، وعللوا بأن حقَّه إذا تعين في الدابّة (1)؛ فإن الاعتياض يقع عن حقٍّ في عين، فإذا كنا نجوز للمستأجر في إجارة الذمة أن يُكري الدابةَ التي قبضها، فقد أثبتنا له حقاً في عينها محققاً، فالاعتياض من المسلم إليه يَرِدُ على حقه المتعيّن في الدابة، ثم يترتب على تصحيح الاعتياض انقطاع حقّه من المسلم.
فإن قيل: لو تعين حقه كما ذكرتموه في الدابة، فلم قلتم إذا تلفت تلك الدابة، وجب على المسلم إليه الإبدال؟ قلنا: لأن القبض لا يتحقق في المنافع من الوجوه كلِّها قبل انقضاء المدة، فلذلك قلنا: لو تلفت الدابة المعيّنة في الإجارة في يد المستأجر، تضمن ذلك انفساخ الإجارة.
5191 - فلينتبه الناظر إلى هذه الأحكام؛ فإنها مستقيمةٌ على قاعدة الإجارة، وموجب الذمة، وقد يظن المبتدىء فيها تناقضاً، وليس الأمر كذلك. وسبب اختلافها ظاهراً [صدورُها] (2) عن حكم الذّمة (3)، وثبوتُ حق التعيينِ بالقبض، مع
__________
(1) في (د 1): الذمة.
(2) في الأصل: صدورهما.
(3) (د 1): ظاهر صدورها عن حكم الحدمة.

(8/130)


العلم بأن القبض لا يتم في المنافع، ما لم تنقض المدّة (1).
5192 - ومن تمام البيان في ذلك أن المكري في الذمة لو سلم دابَّة، ثم استردّها وأتى بأخرى، وقد يعتاد المكرون ذلك، فنقول: إن لم يرض المكتري بهذا، فلا يسوغ استرداد الدابة منه، لما قرره الأئمة من ثبوت حق اختصاصه بالدابة، حتى أثبتوا له أن يُكري تلك الدابة، وهذا ينافي جواز انفراد المكري بالاستبدال.
5193 - وكان شيخي أبو محمد يقول: إن كان لفظُ الإجارة معتمِداً ذكر الدابة، مثل أن يقول: ألزمتك دابة صفتُها كذا، أركبها، فإذا سلمت إليه الدابة، فلا يجوز الاسترداد أصلاً. وإن قال: ألزمت ذمتك إركابي، فالمعتمد الإركاب، فيجوز الاستبدال، والحالة هذه.
والأئمة لم يفصلوا بين اللفظين؛ فإن المعتمدَ -كيف جرى اللفظُ- الدابةُ وصفتُها، والذي ذكره شيخي إنما يتجه، ويحسن، إذا كان الاكتراء لنقل حُمولة؛ فإن الدابة لا أثر لذكرها (2)، فإذا قال: ألزمت ذمتك نقلَ متاعي هذا إلى موضع كذا، فلا ينبغي أن يكون لتسليم الدابة في هذه الصورة أثرٌ ووضعٌ 3) أصلاً، وسنوضح أنه لو أراد نقلَ ذلك المتاع بكتفه، جاز، فلا أثر إذاً للدابة في هذا الموضع إذا لم يقع التعرض لها، فإذا جاء المكري المتلزمُ بالدابة وحمّلها الحُمولة المذكورة، فلا أثر للإتيان بها وتسليمها؛ فإن مقصودَ العقد نقلُ المتاع على أيِّ وجهٍ فُرض.
أما إذا كان المقصود الركوب، فلا بد من التعرض للدابة، بل لا بدّ من ذكر جنس المركوب ووصفه؛ فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاً بيّناً، ولا أثر لذكر الدابة في نقل الحُمولات. هذا منتهى القول [في] (4) ذلك.
5194 - ومن بقية الكلام في هذا القسم أن المكري الملتزم في الذمة إذا أفلس قبل
__________
(1) (د 1): الذمة.
(2) (د 1): لدركها.
(3) (د 1): ووقع.
(4) في الأصل: من.

(8/131)


تسليم الدابة الموصوفة، وإقباضها، فإن كانت الأجرة التي سلمها إليه قائمةً بعينها، فالمكتري بالخيار بين أن يفسخ العقد، ويسترد عينَ ماله، وبين أن يُمضي العقدَ، ويضارب الغرماء.
وإن لم تكن الأجرة باقيةً، فلا وجه له إلا المضاربة، والسبيل فيها أن يضارب بكراء مثل إركابه على الدابة الموصوفة، إلى الموضع المذكور، وما خصه بالمضاربة لا يسلّم إليه؛ إذ لو سُلّم إليه، لكان اعتياضاً عن المسلَم فيه، ولكن يصرف ما يخصه إلى دابة يركبها، فإن أمكن شراء دابة للمفلس، حتى يركبَها المكتري إلى المكان المسمى، ثم الدابة تباع، وتصرف إلى الغرماء، فهذا بالغٌ حسن، وفيه توفية حق المكتري من غير تنقيصٍ من حقوق الغرماء. وإن لم يتمكن من ذلك، اكترينا بما يخصه دابةً على الصفة التي ذكرها، فإن لم يف ذلك المقدارُ بتمام الغرض، حصّلنا بعضَ المقصود، وبقي الباقي ديْناً له في ذمة المفلس، وقد ذكرنا المضاربة في السلم في كتاب التفليس. وهذا عين (1) ذاك.
وقد نجز القول في اكتراء الدابة للركوب على صفة التعيين، وعلى إلزام الذمّة.
5195 - فأما الاكتراء للحمل، فينقسم إلى إجارةٍ ترد على عين الدابة وإلى إجارةٍ تعتمد إلزام ذمة [المكري] (2)، فأما ما يتعلق بالعين، فهو استئجار دابة معيّنة لتحمل متاعاً، وفي اشتراط رؤيتها قولان، كالقولين في شراء العين الغائبة، ثم لا بد من الإعلام، وله مسلكان، كما تقدم ذكره: أحدهما - الإعلام بالزمان، وذلك مثل أن يقول: اكتريت منك هذه الدابة بياضَ هذا النهار، لأنقل عليها أمتعةً لي من الحانوت إلى الدار؛ فالإجارة تصح، فإنّ ذكْر المدة يُعلم المقصودَ، ويبيّنه، ولكن لا بد من ذكر المقدار الذي تحمله الدابة كلَّ كرّة، فإنها لو حملت ما لا تُطيق في كل كرة، لتفسخت، وهلكت.
فهذا وجهٌ في الإعلام.
__________
(1) (د 1): غير ذاك.
(2) في الأصل: المكتري.

(8/132)


والوجه الثاني - أن يتعرض لنفس المقصود من غير ذكر زمان؛ مثل أن يقول: اكتريت منك هذه الدابة لأحملها كذا وكذا، إلى موضع كذا، فهذا إعلامٌ كافٍ، وإن لم يقع لذكر الزمان تعرّضٌ.
5196 - ثم التعويل في هذا السبيل على ذكر المقدار المحمول (1)، ولإعلامه مسالكُ ذكرها الأصحاب، ونحن نذكرها على وجوهها، ونُتْبع كلَّ وجهٍ بتعليله، ثم إذا نجزت فصول اكتراء الدواب، وما ذكره الأصحاب فيها، جمعنا بعد انقضائها كلاماً ضابطاً، يحوي مآخذ الكلام، إن شاء الله تعالى.
فمن وجوه الإعلام في (2) الحُمولة ذكرُ الوزن، فإذا قال: اكتريت هذه الدابة لأحمّلها مائة مَنٍّ، إلى الموضع الذي يُسمّيه، كفى ذلك في الإعلام، وأجمع الأصحاب على أنه لا يجب ذكر جنس المحمول، وإن كان قد يختلف الغرض به، كما سيأتي شرح الكلام عليه، إن شاء الله تعالى.
ثم قال الأئمة: (3 إذا ذكر الوزن 3)، فله أن يحمّلها مائةَ منٍّ من أي جنسٍ شاء.
هذا وجهٌ في الإعلام.
5197 - ومما ذكره الأصحاب في الإعلام معاينة المحمول، فإذا قال: اكتريت هذه الدابة لأحمّلها هذا، جاز. اتفق عليه الأصحاب، وأطبقت عليه الطرق وإن كان العيان لا يبيّن مقدار الوزن، وإنما يقرّب بعضُ الخواص، القولَ في وزن ما يعيّنه خرصاً وتخميناً، والعقد يصح تعويلاً على العِيان فيما يُخرَص، وفيما لا يُخرَص.
5198 - ومما ذكره الأئمة أن المتاع لو كان في ظرف لم يعايِن جنسَه، فشاله (4) المُكري باليد، كفى ذلك في الإعلام، إذ الشَّيْلُ في الوزن أقرب إلى العِيان، فإذا كفى العيان، كفى الشَّيْلُ، والتقريب المستفاد منه. أما إذا لم يعايَن المتاع في الظَّرْف،
__________
(1) (د 1): المعلوم.
(2) (د 1): أن الحمولة.
(3) ما بين القوسين ساقط من (د 1).
(4) شاله: أي رفعه، فهي من العامي الفصيح. (المعجم).

(8/133)


ولم يُشَلْ، فلا يصح العقد؛ فإن المحمول مجهولٌ، لم يتطرّق إليه وجهٌ من الإعلام.
ويجوز أن يكون المغطّى بظرفه شيئاًً خفيفَ الجنس، ويجوز أن يكون حديداً، أو تبراً.
هذا بيان إعلام المحمول فيما ذكره الأصحاب.
5199 - ثم قالوا: إن قال: استأجرت هذه الدابة لأحملها مائة (1 منّ من الحديد، لم يتعين الحديد، بل كل ما يشابهه في الرزانة والاكتناز، فهو بمثابته، فإذا قال: أحملها مائة منّ من الحديد، لم يتعين الحديد، فله أن يحملها النحاس والرصاص والتبر؛ فإن هذه الأجناس متقاربة، ولو أراد أن يحملها مائة منّ من التبن لم يكن له ذلك؛ وكذلك لو عين التبن، فقال: أحمّلها مائة 1) منّ من التبن، فله أن يُحمّلها مائة من من القطن؛ فإنه في معنى التبن، وليس له أن يحمّلها مائة منّ من الحديد.
والسبب فيه أن كلّ واحدٍ من الحديد والتبن فيه نوع من الضرر لا يمكن دفعه، أما الحديد، فإنه باكتنازه، وثقله يَلْقَى موضعاً من الدابة، [فيهدّ] (2) ذلك الموضع، ويدقه، وقد يُقرّحه.
وفي حمل التبن ضرر آخر؛ فإنه [يغمّ] (3) الدابة ويعمّها ويحوي جملتَها، فإذا وقع [تعيين] (4) في أحد هذين الجنسين، لم يكن للمكتري أن يبدله بالجنس الآخر.
ولو قال أُحمّل الدابة مائةَ مَنّ من الحنطة، فله أن يحمّلها مائةً منّ من الشعير، وكذلك عكسه؛ لأنه لا يتفاوت الأمر، وهذا لائح، لا إشكال فيه.
وإنما نذكر الآن المسائل مرسلةً، وسيأتي ضابطها في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
5200 - ومما ذكره الأئمة في ذلك أنه لو قال المستأجر: أحمّلها مائة مَنّ، فالظرف
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (د 1).
(2) في الأصل: فيمد.
(3) في الأصل، كما في (د 1): يعمّ. والمثبت تقدير منا لتحقيق التغاير بين المعطوف والمعطوف عليه، وغمّ الشيء غطاه (المعجم).
(4) ساقطة من الأصل.

(8/134)


محسوبٌ في المائة، ولو قال: أحمّلها مائة مَنٍّ مِن الحنطة، فالظرف زائد على المائة المنّ؛ فإن الحنطة التي ذكر وزنها لا يتأتى حملُها إلا في ظرف.
ثم لا بد وأن يكون الظرف معلوماً، إما بالمعاينة، وإما بالوصف، ثم من ضرورة الوصف التعرض لوزنه، وإن جرت الإجارة في موضعٍ لا يتفاوت الظروف فيه، كالغرائر الحبليّة (1) التي تُنسج على منوالٍ واحد، فالعرف المقترن بالعقد كافٍ في البيان، هذا ظاهر المذهب.
ومن أئمتنا من قال: إذا قال: أحمّلها مائةَ منّ، فالظرف زائد على المائةِ أيضاًً؛
فإن الغالب أن التعرض يقع للمحمول في الظَّرف، وإن لم يقع التنصيص على جنسه.
[فقوله: أحمّلها مائة منّ، كقوله: أحملها مائة مَنّ من الحنطة] (2). وهذا محتمل.
وظاهر المذهب ما قدّمناه.
ثم سيأتي في الظروف وأنها على المكري أو على المكتري فصلٌ منفردٌ، إن شاء الله عز وجل.
5201 - وما ذكرناه فيه إذا كانت الإجارة واردةً على عين الدابة. فأما إذا أورد الاكتراء على الذمة بحمل الحُمولة، فلا يجب فيها وصف الدابة والتعرض لها؛ ويكفي أن يقول للمستأجر: ألزمت ذمتك نقل مائة منٍّ من الحنطة إلى موضع كذا، وإنما لم نوجب التعرضَ للدابة؛ لأن المقصود لا يتفاوت في نقل الحُمولة بتفاوت الدواب، وليس كما إذا كان المقصود الركوب؛ فإن الغرض الأظهر يتعلّق بصفة المركوب، فلو ذكر المكتري دابةً ووصفها، ولم يعيّنها، والمقصود نقل الحُمولة، فلا بأس أيضاًً، وقد يكون له في وصف الدابة غرضٌ.
__________
(1) الحبلية: نسبة إلى (الحبْل) اسم موضع بالبصرة، أو إلى قرية من قرى عسقلان اسمها: (حبْلة). أو إلى (الحَبْل) الذي منه مادتها. كل ذلك فحتمل، فلم أصل فيما راجعت من أسماء المواضع والبلدان، ومعاجم الألفاظ والأنساب، ما يقطع بواحدٍ من هذه. والله أعلم.
(2) المثبت بين المعقفين عبارة (د 1)، وعبارة الأصل: "وإن لم يقع التنصيص على جنسه بقوله: أحملها مائة من من الحنطة".

(8/135)


5202 - فخرج مما ذكرناه أن الكراء الواقع في الذمة لنقل الحُمولة يفرض على وجهين: أحدهما - الاقتصار على إلزام الذمة من غير ذكر مركوب. والثاني - التعرضُ لمركوبٍ، ووصفُه، وكلا الوجهين جائزان.
وإن كان المقصود الركوب، فلا بد من التعرض لمركوب كما ذكرناه.
5203 - قال القاضي: إذا كان المحمول شيئاًً يُخاف انكساره، وكان مما يتأثر بالحركة العنيفة، فلا بد من التعرض للدابة، كالزجاج وما في معناه، فلا يصح فيما هذا سبيله إطلاق الإلزام في الذمة، حتى يذكر الدابة، وهذا الذي ذكر حسنٌ، وهو مفروض فيه إذا أشار إلى المحمول، وهو زجاج، أو ما في معناه، أو ذكره.
فأما إذا جعل عماد العقد الوزنَ، ونوى حملَ الزجاج، وأضمره، وما ذكره، وما أظهره، فلا يجب التعرّض للدابة، والحالة هذه.
5204 - فأما الاكتراء للاستقاء، فإنه ينقسم أيضاًًً إلى ما يرد على عين الدابة وإلى ما يرد على الذمة.
فأما الإجارة الواردة على عين الدابة، فهي أن يقول: اكتريت هذه الدابة لأستقي بها، وهذا يستدعي الإعلامَ، وله وجهان: أحدهما - أن يتعرض للزمان، فيقول: أستقي بها في هذا اليوم، فهذا ضبطٌ (1)، ولا بد معه من ذكر الدار التي يقع بها الاستقاء، والبئر التي يقع منها الاستقاء، وهذا يناظر قولنا في نقل الحُمولة: إنه إذا ذكر زماناً ينقل فيه حُمولةً من الخان إلى المنزل، فلا بد من ذكر مقدار ما تحمل الدابة كل مرة، كذلك لا بدّ هاهنا من ذكر الدلو، والبئر، ولا يخفى اختلافُ الغرض فيما ذكرناه.
هذا وجهٌ في الإعلام.
والوجه الثاني - في الإعلام أن لا يتعرض للمدة، ويُبيّن العملَ، فيقول: اكتريت هذه الدابة لأستقي من هذه البئر كذا وكذا دلواً إذا أشار إلى دَلو وعيّنه، ولو وصفه،
__________
(1) (د 1): إعلام.

(8/136)


ووصف البئر، وعمقها، كان الوصف كالتعيين، بل هو أبلغ في إفادة الإعلام من التعيين.
5205 - وأما الكراء الواقع على الذمة في هذا القسم، فإنه ينقسم انقسام الاكتراء الواقع على الذمة في نقل الحُمولة، فيجوز إيراده على الذمة المطلقة، من غير تعرُّضٍ للدابة، ولا بد من إعلام البئر والدَّلْو، إن كان التعويل على عدد الدِّلاء. وإن أراد المكتري التعرضَ لدابة يصفها، يقع بها الاستقاء، فله ذلك، كما قدمناه في نقل الحمولة.
5206 - فأما الاستئجار للحرث، فينقسم إلى العين، والذمة، فأما الإجارة الواردة على العين، ففيها الإعلامان المذكوران قبلُ في المسائل: أحدهما - يشتمل على ذكر الزمان، فيقول: اكتريت منك هذه الدابة لأحرث بها اليومَ، ولا بد من وصف الأرض، أو الإشارة إليها، فإن أشار إليها، كفت الإشارة، والتعيينُ إذا كان يُطلع بالإشارة على صفة الأرض، فقد تكون الأرض مُتستِّرة بترابٍ حُرّ ووراءه الحجرُ والرمل (1).
وإن اعتمد الوصفَ، ولم يعيّن الأرضَ، قال: إنها خصبة، أو سهلية، أو جبلية، أو صلبة، أو خوارة، [جاز] (2).
والغرض يختلف بهذا اختلافاًً ظاهراً. وإن لم يُرد أن يذكر الزمان، فعيّن الدابة، وأعلم العمل بالإشارة إلى الأرض، أو بذكر أرضٍ موصوفةٍ، فذلك جائز، كما تقدم.
5207 - والاكتراء على الذمة في الحراثة ينقسم، كما تقدم في الاستقاء، ونقل الحُمولة؛ فلا يمتنع إلزام الحرث في الأرض المعيّنة، أو الموصوفة في الذمة. وإذا كان المكتري لا يُجري ذكرَ البهيمة، ذَكَرَ مساحةَ الأرض، والمنتهى الذي يبغيه في التكريب (3)، والتقليب، والحرث، فلا بد من وصف الأرض كما تقدم.
__________
(1) (د 1): والوصف.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) التكريب: هو تقليب الأرض، وزناً ومعنىً. (المصباح).

(8/137)


وإن أراد التعرضَ للدابة التي يقع الحرث بها، فيجب الاعتناء بوصف الدابة، وذكر جنسها؛ فإن الغرض يختلف بذلك اختلافاً بيناً.
5208 - [فهذه جهات الأغراض] (1) في اكتراء الدواب وبيان الإعلام في المطلوب من كل فن، وإيضاح انقسام الإجارة إلى ما يرد على العين، أو على الذمة، وقد ضمّنَّا الكلامَ انقسامَ الإعلام، وانقسامَ كراء الذمة.
ونحن نرسم بعد ذلك فصولاً متصلةً بالأصول التي مهدناها، ثم نذكر بعد نجازها الضابط الموعود.
فصل
فيما على المكري والمكتري من الآلات في تحصيل الأغراض التي قدمنا ذكرها.
5209 - فإن كانت الإجارة واردةً على العين، وكانت مطلقة، فالإكافُ والحزامُ (2) والبرذعة والخِشاش (3)، أو البُرَةُ (4)، والخطامُ في البعير، كل ذلك على المكري [إذا] (5) جرت الإجارةُ مطلقةً واردةً على عين الدابة، والمعوّل فيما ذكرناه على العرف الغالب؛ فإن مطرد العرف يقضي بكون هذه الآلات على المكري.
واختلف أصحابنا في السرج والدابةُ معينة للركوب، فمنهم من قال: يأتي به المكري قياساً على الإكاف، ومنهم من قال: يأتي به المستأجر، بخلاف الإكاف.
والتعويلُ في ذلك على العادة، وأنها في السرج تجري على خلاف حكمها في الإكاف، والمتبع في الخلاف والوفاق العرفُ، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) عبارة الأصل: هذه الأغراض في اكتراء الدواب.
(2) في الأصل، كما في (د 1): الحرام بالإهمال للراء.
(3) الخِشاش: بكسر الخاء عود يجعل في أنف البعير يشدّ به الزمام. يقال: خشَّ البعيرَ إذا جعل في أنفه الخشاش. (المعجم).
(4) البرةُ: حلقةٌ من صُفرِ (نحاسٍ) أو غيره تجعل في أحد جانبي أنف البعير للتذليل.
(المعجم).
(5) في الأصل: أو.

(8/138)


5210 - وأما الظروف التي فيها نقل الحُمولة، فإن كانت الإجارة واردةً على عين الدابة، فهي على المكتري، وليس على مُكري الدابة إلا تسليمُها، مع الإكاف، وغيره، مما وصفناه.
وإن كانت الإجارة واردةً على الذمة في نقل الحُمولة، فقال الملتزم: التزمتُ نقلَ متاعك إلى موضع كذا، فالظرف على المكري الملتزم؛ فإنه إذا التزم النقلَ مطلقاً، فقد التزم التسبب إلى تحصيل الآلات التي يقع النقلُ بها.
5211 - وإن كان الاكتراء للاستسقاء، فقد قال القاضي: إن كان الرجل معروفاً بالاستقاء بجمل نفسه، ودَلْو نفسه، فمطلق التزام الاستقاء يلزمه الإتيان بالدَّلو والرِّشا. وإن لم يكن المكري معروفاً باعتياد ذلك، فليس عليه إلا الإتيانُ بدابةٍ صالحةٍ للاستقاء.
ويتجه عندنا في ذلك ضربٌ من التفصيل، فنقول: إن لم يقع التعرض للدابة، وإنما اعتمد العقدُ الالتزامَ المطلق في تحصيل الغرض، فالظرفُ، والدَّلو، والرّشا، وما عداها من الآلات، التي تمس الحاجةُ إليها- على المكري الملتزم.
وإن وقع التعرضُ للدابة ووصفها، فالأمر يختلف وراء ذلك بالعادة، فإن اطّردت عادةُ الناحيةِ بأن يأتي الملتزم بالآلات، فعليه الإتيان بها، وهي تنزل منزلة الإكاف، وما في معناه، وإن جرت العادة بأن المكتري يأتي بالظروف والآلات، فليس على المكري الإتيان بها.
5212 - وإن اضطربت العادات، والإجارةُ واردةٌ على الذمة، وقد وقع التعرض
للدابة وصفتها، فالمسألة محتملة: يجوز أن يقال: [على المكتري] (1) الظروفُ والآلات؛ فإن الاعتماد على الدابة والإتيان بها، ويجوز أن يقال: إنها على الملتزم المكري، فإنه التزم النقلَ، فأشعر التزامُه بالتزام الأسباب التي لا بد منها في النقل.
ثم يتصل بهذا المنتهى أن العادة إذا اضطربت، ورأينا اتباع العادة، فهل يبطل العقدُ لاضطراب العادة، حتى يقال: لابد من التقييد، حتى لا يقعَ العقدُ في
__________
(1) في الأصل: ليس على المكري.

(8/139)


مضطرب العادة؟ أم لا حاجةَ إلى ذلك، ويرجع إلى صيغة اللفظ (1) ومقتضاها؟ [فيه] (2) خلاف قدمته.
ولا خلاف بعد تقدير ذلك أنه لو خصص العقد بالدابة، ونفى التزام الإتيان بالآلات فينعقد العقد على حسب ذلك، حتى قال الأصحاب: ولو قال: أكريتك هذه الدابةَ العاريةَ، بلا إكافٍ وحزام وبرذعة، فالإجارة تنعقد على هذا الوجه، وينقطع اتباع العادة.
5213 - ولا خلاف أن المكتري إذا كان يركب المَحْمِل، فعليه الإتيان بالمَحْمِل، والمظلة والغطاء، وما يفرش في المحمل والحبل الذي يُشدّ به أحدُ المحملين إلى الآخر، والذي يشد به المحمل على الدابة. هذه الأشياء بجملتها، يأتي بها المكتري، إلا أن يشترطها على المكري.
5214 - وإن مست الحاجةُ إلى سائقٍ يسوق، وإلى هادٍ دالٍّ يدل، فإن كانت الإجارة واردةً على العين، فليس على المكري إلا تسليم الدابة.
وإن كانت الإجارةُ واردةً على الذمة، فالتفصيل في أجرة السائق والهادي، كالتفصيل في الإتيان بالظرف، وقد بينا ذلك.
فصل
5215 - قد ذكرنا في قاعدة المذهب أن المَحْمِل لا بد وأن يكون معلوماً للمكري، وأوضحنا طريقَ الإعلام فيه، ونحن نذكر الآن تفصيلَ القول في المعاليق التي يُعلّقها المكري كالسفرة (3)، والقُمقُمة (4)، والمِطهرة (5)، ونحوها.
__________
(1) (د 1): العقد.
(2) في الأصل: ففيه، ومطموسة في (د 1).
(3) السفرة: طعام يصنع للمسافر، وسميت الجلدة التي يوعى فيها الطعام سفرةً مجازاً، والجمع سُفر، مثل غرفة وغرَف. (المصباح).
(4) القُمقمة: وعاء من صفر (نحاس) له عروتان، يستصحبه المسافر. (مصباح).
(5) المطهرة: الإداوة، وهي إناء صغير يحمل فيه الماء (المعجم، والمصباح).

(8/140)


5216 - فأول ما نذكره فيها أنها إن أُعلمت وصفاً، أو تعييناً، فلا كلام، وإن أُطلقت، قال الشافعي: القياس أن إطلاقها فاسدٌ مفسد؛ فإنه لا بيان فيها، ولا ثبت يُرجَع إليه، وهي مذكورة في العقد على الجهالة. قال: ومن الناس من يقول: يصح العقد، والرجوع إلى ما يراه الناس وسطاً مقتصداً.
هذا كلام الشافعي.
5217 - واختلف أصحابنا، فمنهم من قال: هذا الذي ذكره الشافعي ترديدُ قولٍ منه، ففي المسألة قولان: أظهرهما - أن العقد لا يصح للجهل، كما قررناه.
والثاني - أن العقد يصحّ، ويحمل الأمرُ على ما يراه أهل العرف قريباً مقتصداً في المعاليق.
ومن أئمتنا من قال: لا يصح العقد قولاً واحداً؛ لما قدمناه من ظهور الجهالة، فالمذهب الآخر حكاه الشافعي عن بعضِ الناس، فلا يُلحق بمذهبه.
5218 - وفي بعض التصانيف (1) أن المَحْمِل إذا أطلق، ولم يقرن ببيانٍ من طريق الوصف، ولا من طريق العيان، فهو كالمعاليق حتى يُخرَّجَ فيها الطريقان. وهذا غلطٌ لا تعويل عليه، لم أره إلا في هذا التصنيف، وليس المَحْمِل كالمعاليق؛ فإنه من الأمور المقصودة، ولا يعد من التوابع في الإجارة، فإبهامه كإبهام الحُمولة.
5219 - وإذا أجرينا القولين في المعاليق، وهي الطريقة المشهورة، ثم فرّعنا عليها، وقلنا بصحة العقد، وتنزيل المعاليق على المعتاد، فلو لم يذكر المعاليقَ أصلاً، فعلى هذا القول وجهان: أحدهما - أن المكتري (2) لا يحمل المعاليق؛ فإنه لم يجر لها ذكر. ومن الناس من لا معاليق له.
ومنهم من قال: يقبل من المكتري المعاليق، ويحمل على قضية الاعتياد، كما ذكرناه.
__________
(1) يقصد ببعض التصانيف، كتب الإمام أبي القاسم الفوراني، فهو كثير الحط عليه، وتغليطه.
وقد سبقت الإشارة إلى ذلك مراراً.
(2) في (د 1): " المكري ".

(8/141)


5220 - ومما يتصل بما نحن فيه، أن من اكترى دابة ليحمّلها حُمولة تستقلّ الدابة بها فحسب، ولا يتأتى ركوبها، فلا معاليق في مثل ذلك، وإنما [المعاليق] (1) للدابة التي يركبها المكتري. وهذا بيّن متفق عليه.
ولا شك أن المعاليق تختلف باختلاف المركوب، فمعاليق الحمار دون معاليق البعير.
5221 - وألحق أئمتنا السُّفرةَ بالمعاليق. فأما حمل طعامٍ فيها، فقد اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من ألحقه بالمعاليق، ورد الأمر في مقداره إلى الاقتصاد في العادة.
ومنهم من لم يُثبت حملَ الطعام إلا مبيناً مُقدَّراً؛ فإن التقدير فيه متيسّرٌ غيرُ بعيدٍ عن العادة، فأما وزن القماقم [والإداوات] (2)، فممَّا لا يُعتاد أصلاً، ويُبنى الأمر فيه على التسامح والتساهل.
فإن قلنا: لا بد من ذكر مقدار الطعام المحمول، فهو مما يؤكل في كل محط ومنزل.
5222 - فإذا وقع التشاوط على حمل عشرين مَنّاً من الطعام، فقد قال الشافعي: القياسُ [أن له إبدال] (3) ما يفنى من الزاد.
والتفصيل فيه أن المكتري إن أكل الطعام المحمولَ، فالمذهب أن له أن يأخذ مثل ذلك الطعام، وأبعدَ بعضُ أصحابنا فيما نقله بعضُ المصنفين، فقال: ليس للمكتري أن يحمل طعاماً جديداً، إذا فني ما حمله أولاً؛ فإن المكري إنما يسامح في حمله بناء على أنه يؤكل ويَفْنَى، ثم المكتري يشتري في كل مرحلةٍ قدرَ حاجته.
وهذا وجه مزيّفٌ، لا أعدّه من المذهب. وقد قطع الأئمة بأن الطعام إذا فَني، أخذ المكتري مثلَه.
__________
(1) في الأصل: المعلاق.
(2) في الأصل: الإداوة.
(3) في الأصل: أن يبدل.

(8/142)


5223 - والمسائل مفروضة فيه. إذا قال المكتري: أحمل عشرين منّاً من الطعام، فهذا اللفظ يشعر باستدامة حمل هذا المقدار، والعادةُ جاريةٌ بين المسافرين، بأن حَشْو السفرة إذا فني أعادوا مثله، وإذا تطابق اللفظ والعرف، فلا وجه لمخالفتهما.
نعم. محلّ تردد الأصحاب ما نصفه.
قالوا: إذا نفذ جميعُ الزاد، فله حملُ مثله، وإن انتقص، فهل له أن يُكمل المقدارَ المذكورَ كلما انتقص، أم ليس له ذلك، حتى ينفد الزاد؟ فعلى قولين: أصحهما - وهو اختيار المزني أنه يزيد كلّما نقص، كما أن الحمولة المقصودة لو نقص شيء منها بسببٍ، فإن المكتري يُكملُها ويردّها إلى المقدار المشروط، فكذلك الزاد المشروط.
والقول الثاني - أنه لا يكمل ما نقص؛ لأن العادة في الزاد أنه لا يشتري منه ما لم يَفْن الأول.
5224 - ثم موضع التردد والخلاف فيه إذا كان في المراحل المستقلة زادٌ بأسعارٍ راخية. فإن لم يكن فيها زادٌ، أو كان، ولكن بسعرٍ عالٍ زائد على سعر المنزل، الذي اتفق فيه نقصانُ الزاد، فيجوز الإبدال في هذه المنازل، قولاً واحداً؛ فإن اللفظ في تقدير الزاد مشعرٌ بهذا، والعادةُ مطردة، موافقةٌ، ثم تحقق القحط (1) والغلاء كما ذكرناه، والظن فيه والاستشعار بمثابة التحقق، وهذا معلوم في العادة.
5225 - ومن تمام البيان في ذلك أن المسائل التي حكينا النصَّ، وتردُّدَ الأصحاب فيها في إبدال الزاد وجَبْر النقصان مصوّرةٌ فيه إذا ذكر المكتري أنه يحمل خمسين منّاً من الزاد مثلاً، فإن لم يجر للزاد ذكرٌ، والطعام موجود، فالذي عليه التعويل أن المكتري لا يحمل شيئاًً، وليس القول في ذلك كالقول في المعاليق؛ فإن المسافر لا يخلو عن المعاليق، والعادات مضطربة في حمل الطعام، إذا كان موجوداً في المنازل.
وأبعد بعضُ أصحابنا كما قدمنا، فألحق حملَ الطعام بالمعاليق.
__________
(1) (د 1): تحقيق العقد.

(8/143)


فإن فرعنا على هذا الوجه الضعيف، وجوزناً له أن يحمل مقداراً من الطعام، ورجعنا فيه إلى عادة المسافرين، فالظاهر في التفريع على هذا المنتهى أنه إذا نقص شيء من الطعام، لم يجبره؛ فإن المعتمد في المسائل المتقدمة أن المكتري ذكر مقداراً من الزاد، فاقتضى اللفظُ استدامةَ ذلك المقدار، فإذا لم يجر ذكرُ مقدارٍ، ووقع التعويل على العادة المجردة، فالعادة تقتضي أن الطعام لا يزاد كلما نقص.
5226 - وذكر بعض الأصحاب وجهاً بعيداً في جواز الزيادة، وهذا على نهاية
الضعف؛ فإنه تفريع ضعيف على أصلٍ ضعيفٍ. نعم، إذا لم يكن بين يدي المسافر طعام في المنازل، أو كان ولكن بسعر زائد، فالعادة تقتضي الاستظهار بالزاد، ويعود الكلام الآن إلى المقدار، وفيه جهالة، فيتصل ترتيب المذهب في هذا المقام بالمعاليق؛ فإنها معتادة محمولة. هذا منتهى البيان في ذلك.
فصل
قال: " وإن أكراه إلى مكة، فشرط سيراً معلوماً، فهو أصح ... إلى آخره (1).
5227 - إذا اكترى دابةً ليركبها، أو يُحمّلها إلى موضعٍ مخصوص، فإن ذكرا قدرَ السير كلَّ يوم، وأبانا أنهما يسيران خمسة فراسخ، أو أقلَّ، أو أكثر على ما يتوافقان عليه، وكانت الدابة تحتمل ذلك، فالشرط متبع.
وإن لم يذكرا مقدار السير، وأطلقا العقدَ، نُظر: فإن لم (2) يكن في الطريق مراحلُ معلومةٌ، كطريق سماوة (3)، وتبوك، فالمذهبُ الصحيح أن العقد يفسد؛ فإن المقصود فيه مجهولٌ، غيرُ متقيّد بلفظٍ، ولا عادة. ومن أصحابنا من صحح الإجارة، وتشوّف إلى ضبط السير بالزمان، مع الاقتصاد في المسير.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 83.
(2) (د 1): فإن كان.
(3) السماوة: بادية السماوة بين الكوفة والشام.

(8/144)


فإن كان في الطريق مراحل معلومة، بالمناهل والرباطات، والقُرى، أو بالأميال، والبُردُ والصُّوى (1)، فالعقد صحيح محمول على موجب العادة والكلام في كيفية تسيير الدابة استحثاثاً وتزجيةً، مردودٌ إلى العادة، وهو مضبوطٌ، لا يعدّ من المجاهيل، فإذا تقيّد المسير بالعرف، والمراحل المرتبة في الطريق، فلا مزيد ولا نقصان إلا عن تراضٍ من المكري والمكتري.
5228 - ومما يتعلق بما نحن فيه الكلامُ في زمان السير والسُّرَى (2)، فإن بيّناه شرطاً في العقد، اتّبعناه، وإن أعرضا عن ذكر الزمان، وأطلقا العقدَ، فالعادة يُكتفَى بها في ذلك، فنحملها إذا تنازعا في زمان المسير على المعتاد في ذلك الطريق، فإن لم يكن للعادة ضبطٌ في الزمان الذي يقدّر السير فيه، فهذا يجرّ جهالةً مفسدةً؛ من جهة أن المتعاقدَيْن إذا تنازعا، وليس أحدهما بالموافقة بأولى (3) من الثاني، فيؤدي مثلُ هذا إلى قيام الخصومة ناشئةً بينهما، لا نجد لها مفصلاً. وهذا غير مُحتمل.
5229 - ولو تنازع المكري والمكتري في محل النزول، فطلب المكري النزولَ في الصحراء بارزاً من القرية وخِطّتها، ورأى صاحب المتاع النزولَ في القرية احتياطاً لمتاعه، وليشتري في القرية ما يبغيه على يُسر، فإذا تنازعا كذلك، حملناهما على العادة، فإن كان وقت أمنٍ، فالعادة النزول في الصحارى، وإن كان وقت خوف، فالعادة النزول في القرى، ومما يؤثر في ذلك الصيفُ والشتاءُ، والعادة هي المتبعة.
وإن اضطربت العادة في محل النزول، ولم نجد منها بيّناً (4) بعَيْنه نتَّبعه، ففي المسألة احتمال، والأظهر أن ذلك يؤثر في الفساد؛ فإنه يجرّ نزاعاً عظيماً بين المكري والمكتري.
__________
(1) الصوى: جمعُ صُوّة، وهي العَلَم من الحجارة المنصوبة في الطريق، وزان مُدية ومُدّى (المصباح).
(2) السُّرى: سيرُ عامة الليل (يذكّر ويؤنّث) وفي المثل: " وعند الصباح يحمد القومُ السُّرى " (المعجم).
(3) (د 1): بالموافقة منها أولى ...
(4) كذا في النسختين. ولعلها: شيئاً.

(8/145)


5230 - ومما يتصل بذلك أن المكتري الراكب قد ينزل بالرواح، ويمشي مقداراً، فإن وقع فيه شرط على المكتري، فقد قال الأصحاب: يلزمه اتباعُ ذلك الشرط، وهذا يعترض فيه إشكال، وهو أنه إذا قُدّر ذلك مستحقاًً، رجع استحقاق الركوب إلى بعض المسافة، وينقطع الأمر فيه، ويقع في تفريع كراء [العُقَب] (1)، وقد تَفَصَّل ذلك فيما مضى.
وذهب طوائف من أصحابنا إلى احتمال هذا القدر -وإن منعنا كراء [العُقَب] (2) - بناءً على التساهل، وهذا إنما يحسن إذا لم يكن النزول محتوماً.
هذا إذا جرى شرطُ النزول، فإن لم يَجْرِ، فقد ذكر الأصحابُ وجهين: أقيسهما - أنه لا يلزمه النزول؛ فإنّ لفظَ الاكتراء للركوب يقتضي استدامةَ الركوب، فالتعلق بموجب اللفظ أولى.
والوجه الثاني - أنه يلزمه النزول، ولفظ العقد ينزل على العادة. وهذا مزيّفٌ؛ فإن العادة لا تقضي بإلزام النزول، بل هي جاريةٌ بالتبرع بالنزول، ثم قرّبَ القاضي الوجهين في هذا المقام من القولين في المعاليق؛ فإن تفصيل المذهب فيها دائر على اللفظ والعادة، كما تقدم.
فصل
قال: " وعليه أن يُركِبَ المرأة، ويُنزلَها عن البعير، والبعيرُ بارك ... إلى آخره " (3).
5231 - قال الأئمة: إن كانت الإجارة واردةً على العين، فلا يلزم مالك الدابة الإركاب، والإنزال وإناخة البعير، وإنما عليه تسليمُ الدابة المعيّنة.
وإن كان العقدُ وارداً على الذمة، وقد التزم المُكري تبليغَ الراكب المنزلَ المعيّنَ،
__________
(1) في الأصل: العُقبة، وهي مفرد العقب، وقد مرّ شرحها آنفاً.
(2) في الأصل: العقبة.
(3) ر. المختصر: 3/ 84.

(8/146)


فالذي ذهب إليه الجمهور أنه يجب على المُكري إعانة الراكب إن كان عاجزاً، فيُركب المرأة، ويرعى حدَّ الشرع، وموجب الدين في إركابها. وكذلك القول في الشيخ الهِمِّ (1)، والمريضِ والصبي، ويجب إناخة البعير لهؤلاء، أما الشاب القوي القادر على أن يركب بنفسه، لا يجب إعانته، ولا يجب إناخة البعير له، إذا قدر على أن يَركب بنفسه، والبعير قائم.
هذا الذي ذكرناه يجب القطع به؛ فإن الإجارة إذا وردت على الذمة؛ فمعتمدها تبليغُ المكري الراكبَ الموضعَ المعيَّنَ، وهذا يتضمن -لا محالة- الإعانةَ عند العجز.
5232 - وفصل شرذمة من الأصحاب بين أن يقع التعويلُ في إجارة الذمة على التبليغ، ويجري ذكر الدابة تبعاً، مثل أن يقول: ألزمت ذمتك أن تبلغني الموضعَ المسمّى، على دابةٍ صفتُها كذا وكذا، فإن كان كذلك، وجبت الإعانة، وبين أن يقع التعويل على الدابة، على صيغة الإيقاع في الذمة، مثل أن يقول: ألزمت ذمتك منفعة دابةٍ صفتها كذا وكذا.
وهذا الفصل فقيهٌ لا بأس به. والمشهورُ إيجاب الإعانة في إجارة الذمة كيف فرضت؛ وذلك لأنّ إجارة الذمة لا بد فيها من التعرض للدابة، إذا كان المقصود الركوب، فلا يختلف الأمر باختلاف الصيغ.
5233 - وذكر بعض المصنفين وجهاً بعيداً في أن الإجارةَ إذا وردت على عين الدابة، وجبت الإعانة فيها على الركوب، وهذا على بعده معتضدٌ بالعادة بعضَ الاعتضاد، وللعادة وقعٌ عظيمٌ في أمثال ذلك.
5234 - ومما يتصل بما نحن فيه حملُ الحُمولةِ على الدابة وحطُّها في المنزل. وقد ألحق القياسون ذلك بالإعانة على الركوب. وقد تفصّل المذهب فيه.
وذهب آخرون إلى أن الإعانة على الحطّ والترحال مستحقةٌ لعموم العادة فيها، من
__________
(1) الهمّ: الشيخ الفاني. (المصباح).

(8/147)


غير فرقٍ بين إجارة العين والذمة، بخلاف الإعانة على الركوب؛ فإن التعويل على العادة، وهي مطردة في الحط والترحال، وإن اضطربت في الركوب والإعانة عليه.
5235 - ثم قال العراقيون تفريعاً على هذا: رفعُ المَحْمِل، وحطُّه على المكري، وشدُّ (1) أحدِ المحملين إلى الثاني على الرسم في مثله في ابتداء السفر- فيه وجهان: أحدهما - أنه على المكري؛ فإنه من تمام الترحال، وقد عمت العادةُ به.
والوجه الثاني - أن ذلك على المكتري؛ فإنه بمثابة ضمّ المتاع بعضِه إلى بعض، وتنضيدُ الأمتعةِ في ظروفها على مالك المتاع، فليس على المكري أن يفعل ذلك، وإنما عليه حطُّها ورحْلُها.
فصل
قال: " وينزل الرجل للصلاة ... إلى آخره " (2).
5236 - قال الأئمة: كل ما يتهيّأ فعلُه على الدابة، كالأكل والشرب، وإقامة النافلة، فالمكري لا يُنزلُ المكتري لأجله، وكل ما لا يتأتى فعله على الدابة كصلاة الفرض، وقضاء الحاجة، والوضوء، فالمكتري ينزل لأجله، والمكري هل يُعينه؟ فيه التفصيل المقدّم في الإعانة، وتقف الدابة حتى يفرغ. فإذا نزل للصلاة، لم يعجله المكري، والمكتري لا يطوّل ولا يبطىء، بل يصلي على حقّه وتمامه.
هذا منتهى القواعد والأصول، في مضمون الباب، وفيه فصول منتشرة، يحسبها المبتدىء متفاوتة غيرَ داخلةٍ تحت ربطٍ وضبط، وهذا أوان الوفاء بما وعدناه في صدر الفصول.
5237 - فنقول: هذه المسائل بما فيها تدور على مقتضى اللفظ، وموجب العرف في إفادة الإعلام، ويتعلق بعضُ أطرافها بتساهلٍ معتادٍ في بعض المقاصد، فأما النظر في مقتضى الألفاظ، فلا يكاد يخفى على الفطن، وأما العادة، فإنها تنقسم إلى
__________
(1) (د 1): وسنذكر أحد المحملين.
(2) ر. المختصر: 3/ 84.

(8/148)


ما يطّرد، ولا يستراب في اطراده، وإلى ما يضطرب بعضَ الاضطراب، فأما العادةُ المطَّردة، فنعم المرجعُ هي في أمثال هذه المعاملات، ولها أثران: أحدهما - تقييدُ اللفظ المطلق. وهذا معلوم من أثر العادة، وبيانُه فيما نحن فيه أن السير إذا أطلق في مسلكٍ فيه مراحل، فليس في اللفظ تقييد في مقدار السير، ولا في كيفيته، ولكن العادة المطردةَ تُنزل المعنى المتردد في اللفظ على وجهٍ واحد، وهذا بمثابة حمل النقود المطلقة في العقود على ما يعمّ في المعاملة جريانُه. فهذا أثر في [العادة] (1) لا ينكر.
والأثر الثاني - أن العادة إذا اقتضت شيئاًً، وليس في لفظ العقد له ذكرٌ، لا على إجمال، ولا على بيان، فهذا موضعُ نظر الفقهاء، ثم ينقسم، فمنه ما تظهر العادة فيه على اطرادٍ، كالإعانة على وضع الحُمولة ورفعها، في الإجارة الواردة على العين.
ظاهرُ المذهب أن ذلك واجبٌ، وكأن العادة [نطقت] (2) به.
ومن أصحابنا من لم يوجب ذلك، وقال: أثر العادة في بيان إجمال اللفظ، فأما أن تقتضي شيئاًً لا ذكر له، فلا.
5238 - ويلتحق بهذا القسم (3) إيجاب الإتيان بالإكاف، وما في معناه في إجارة العين، وهذا متفق عليه، لاطراد العادة، ولا يعرف خلافُه. وقد يفرض نزاعٌ على الإعانة في الرفع والخفض.
هذا بيان أثر العادة المطردة.
5239 - فأما إذا اختلفت العادة، وحصل الوفاق على اختلافها، فلا حكم لها.
فإن كان اللفظ مستقلاً بإفادة المقصود، فعليه التعويل. وقول القائل: عادةٌ مضطربة: كلامٌ (4) مضطرب؛ فإن المضطرب ليس عادة.
__________
(1) في الأصل: الفساد.
(2) في الأصل: قطعت.
(3) (د 1): الفن.
(4) خبر، مبتدؤه: وقولُ القائل: عادة مضطربة.

(8/149)


ومن أصحابنا من يقول: إذا اختلفت العادة فيما يتعلق بمقصود العقد، فلا بد من تقييد لفظ العقد بما يقطع العادة المضطربة.
وقد قدمتُ لهذا نظائرَ في المسائل، وهو كلام ضعيفٌ، مزيفٌ عندي؛ فإن اللفظ إذا كان مستقلاً، فلا مبالاة بما يضطرب من أحوال الناس.
5240 - ومما يتعلق بالضوابط في هذا المنتهى أنا قدمنا في صدر الفصول الاكتفاءَ بذكر وزن الحُمولة، وقد يخطر للناظر أن ذلك مجهول؛ فإن الغرض يختلف باختلاف الحُمولات، فالرزينُ منها المكتنز يهُدُّ [الأضلاع] (1)، ويكُدّ، ويُقرّح، والمنفوش منها كالتبن والقطن، يَغُمّ ويَعُمّ. ولكن لم يعتبر الأصحاب ذلك؛ لأن الضررين يتقاربان (2) ويدنوان من التقابل، وإنما الذي يجب ذكره ما يظهر غرضاً، ولو سكت عنه، لأشكل، ولم يقابله ما يماثله. فأما التعرض لأعيان الأغراض القريبة من التقابل، فبعيدٌ اشتراطه، فليفهم الناظر ذلك.
5241 - وما أجريناه من الاكتفاء بالعِيان في الحمولة والشَّيْل باليد، فهو من باب التسامح والتساهل. فإذا انتشر المطلوبُ وكثر، لاقَ به التساهل في بعض الأطراف؛ سيّما إذا اعتضد بالعرف. وعلى هذا الأصل انبنى كثير من الكلام في أوصاف السَّلَم، ولما عظمت الأوصاف في الحيوان، ومست الحاجة إلى السلم، ازداد التسامح في السلم في الحيوان، على حسب كثرة أوصافها، وانتشار الأمر فيها.
5242 - وأما مسائل التردد كالمعاليق؛ فإنها مأخوذةٌ من عادةٍ جاريةٍ فيها، مع إبهامٍ ونزاعٍ يُؤلَف في أمثالها، وعُسرٍ في ضبطها، ولا ينبغي أن يظن الفقيه أن اختلاف القول من اختلاف العادة، فإن العادة لو اختلفت، لأسقطناها وعدنا إلى تحكيم اللفظ.
5243 - فهذا منتهى الإمكان في ذكر مأخذ الفصول المقدمة، والتطلع إلى ضبطها. وإنما يصعب مُدركُ أمثالها على من لا يستمدّ من بحور الأصول، ولا يغزر حظُّه من مآخذ الشريعة.
__________
(1) في الأصل: الأضلاح.
(2) (د 1): يتفاوتان.

(8/150)


فصل
قال: " وإن اختلفا في الرِّحْلة (1)، رُحِل لا مَكْبوباً، ولا مستلقياً ... إلى آخره" (2).
5244 - إذا تنازع المكري والمكتري في كيفية رِحْلة المحمِل، فقال المكتري: نُرْحله مكبوباً، وقال المكري: بل نُرحله مستلقياً، فقد اختلف الأئمة في تفسير ذلك، فقيل: المكبوب أن يكون مقدّم المحمل الذي يلي عنقَ البعير منكبّاً، والمستلقي أن يكون مؤخره الذي يلي العجز متسفِّلاً، والمكبوبُ أهون على الراكب، وأشق على البعير.
وقيل: المكبوب أن يكون الجانب الذي يلي جنب البعير في عرض المحمل مُلتصقاً به، ويستعلي ما يلي الصحرا (3) في مقابلة ذلك. وهذا يشق على الراكب.
والمستلقي عكس ذلك (4).
وعلى الجملة إذا فرض نزاعٌ بينهما، لم يُحمل لا مكبوباً، ولا مستلقياً، ولكن يحمل معتدلاً بينهما.
فصل
قال: " وإن هرب الجمال ... إلى آخره " (5).
5245 - إذا هرب الجمّال، فلا يخلو: إما أن يذهب بالجمال أو يدعَها في يد
__________
(1) الرّحْلة: بكسر الراء، وضع الرَّحل على البعير، من رَحَله يرحله رحلاً ورِحلةً (المعجم).
(2) ر. المختصر: 3/ 84.
(3) كذا في النسختين، ولم يسعفنا في بيان معناها، لا المصباح، ولا المعجم، ولا القاموس، ولا الزاهر، ولا الأساس. وقد يكون بها تصحيف أو تحريف. والله أعلم.
(4) للرافعي في الشرح الكبير، وكذلك النووي في الروضة تفسير آخر للمكبوب والمستلقي، وفيه أن المستلقي أسهل على الراكب من المكبوب. ولم أجد عند أيهما لفظ (صحرا) الذي أبحث له عن معنى هنا. (الشرح الكبير: 6/ 141، والروضة: 5/ 222).
(5) ر. المخثصر: 3/ 85.

(8/151)


المكتري. فإن ذهب بها، لم تخلُ الإجارة إما أن تكون واردةً على أعيانها، أو تكون واردة على ذمة المكري. فإن كانت واردةً على أعيانها، فلا شك أن الإجارة تنفسخ في المدّة التي تغيّب الجمّال فيها، ولا سبيل إلى الاكتراء عليه؛ فإن المعقود عليه كان متعيَّناً، والعقد إذا ورد على العين، لم يتعدّها إلى غيرها.
فإن كانت الإجارة واردةً على الذمة، فهرب الجمال، فلا نقضي بانفساخ الإجارة، ولكن ما التزمه الجمال دينٌ في ذمته، فيرفع المكتري القصةَ إلى مجلس الحاكم، وإذا ثبت عنده الأمر على حقيقته، ووجد مالاً للمكري، فإنه يكتري عليه من ماله. وإن لم يجد له مالاً، فله أن يستدين عليه إن رأى ذلك.
فإن لم يفعل الحاكم، ولم يتيسر [المقصود] (1) فللمكتري أن يفسخ الإجارة. هذا إذا هرب بالجمال.
5246 - فأما إذا هرب وترك الجمال في يد المكتري، فلا يخفى أن المؤن عليها كانت على مالكها، وكذلك القيام بتعهدها، فإذا هرب، فإن تبرع المكتري بالإنفاق، وبَذْلِ مؤنةِ التعهد، لم (2) يجد مرجعاً.
فإن أبى (3)، ورفع الأمر إلى الحاكم ثَمَّ، يفعلُ الحاكم في تحصيل المؤونة ما وصفناه.
[فإن] (4) لم يجد الحاكم له مالاً، ولم ير الاستقراضَ عليه، وكان في الجمال [فضلٌ] (5) عن مقصود المكتري، فله بيع الفاضل من رقابها، وصرفُه إلى نفقة الباقي.
5247 - ولو أذن للمكتري في أن يُنفق عليها من مال نفسه، على شرط الرجوع،
__________
(1) في الأصل: المفقود. ومعنى "لم يتيسّر المقصود": أي تعذر الأكتراء عليه، كما في عبارة الرافعي في الشرح الكبير: 6/ 174. والجملة حينئذٍ تكون من باب عطف البيان للجملة قبلها.
(2) (د 1): المتعهد ولم نجد.
(3) (د 1): وإن أراد رفع الأمر.
(4) في الأصل، كما في (د 1): وإن لم.
(5) في الأصل: قصد.

(8/152)


ففي المسألة قولان: أحدهما - يجوز ذلك، فإن الضرورة على الجملة قد تُحْوج إليه، والضرورات تغيّر قياس العقود، ثم إذا تمهّد أصلٌ لإمكانِ حاجةٍ، لم يتوقف نفوذُه على [تحقق] (1) الحاجة في كل صورة. وعلى هذا الأصل جرت الإجارة جملةً وتفصيلاً، والحاجة ظاهرة في الإذن للمكتري؛ فإن الغالب أن الحاكم لا يجد مالاً للهارب، ولا يثق بالرجوع عليه لو استقرض.
والقول الثاني - أن ذلك غيرُ جائز، فإن المكتري لو تعاطى، كان قائماً بتأدية حق نفسه، واستيفائه، وهذا لا سبيل إليه.
فإن قلنا: يجوز للحاكم تفويض الأمر إليه، فلو أنفق، واقتصد، ووجد الجمّال، رجع عليه.
ولو نازعه في المقدار، فقد ذكر صاحب التقريب وجهين: أحدهما - أن القول قولُ المكري؛ فإن الأصل براءة ذمته، عن المقدار الذي يدّعيه المكتري.
والوجه الثاني (2) - أن القول قول المكتري؛ فإنه إذا كان مأذوناً من جهة الحاكم، فهو مؤتمنٌ من وجهٍ، وإن كان راجعاًً بنفسه لنفسه، فيجب أن يُصدَّق مع يمينه.
والمعنى الذي جوّز تفويضَ الأمر إليه، لا يبعد على مقتضاه تصديقُه [في] (3) القدر الممكن المقتصد مع يمينه.
5248 - ولو استبدّ المكتري، فأنفق بنفسه، مع إمكان مراجعة الحاكم، لم يجد مرجعاً.
وإن لم يجد حاكماً، وأنفق، ففي المسألة الأوجهُ الثلاثة، التي ذكرناها في كتاب المساقاة: أحدها - أنه يرجع للحاجة الماسة.
والثاني - لا يرجع.
والثالث - أنه إن أشهد، رجع. وإن لم يُشهد، لم يرجع.
__________
(1) في الأصل: تحقيق.
(2) (د 1): والقول الثاني.
(3) في الأصل: على.

(8/153)


ولا يرجع ما لم يقصد الرجوع، فلو قصد التبرعَ، لم يرجع، ولو لم يقصد شيئاًً، فلا يرجع أيضاًً، وإنما التردد والاختلاف إذا أنفق على قصد الرجوع.
ولو كان في الموضع حاكم، ولكن عسر عليه إثبات الواقعة في مجلسه، والقاضي لا يتصرف على غير بصيرة، فهذا بمثابة ما لوْ لم يجد الحاكم في التفصيل الذي ذكرناه.
5249 - وما ذكره الأصحاب من الفصل بين أن يُشهد، وبين أن لا يُشهد مشهورٌ في المذهب، ولكن لستُ أرى لذلك أثراً في إثبات الرجوع في الأصل؛ فإن الشهود لا يسقطون على حكمٍ غيرِ ثابتٍ، وإنما التفويض والتسليط إلى الولاة.
ولكن هذا يضاهي أصلاً سيأتي في كتاب اللقطة، وهو أنه هل [يجب] (1) على الملتقط أن يُشهد، إذا تمكن من الإشهاد، فهذا مأخوذٌ من ذلك، وسيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
5250 - ثم قد ذكرنا فيه إذا فوّض الحاكمُ إليه الإنفاقَ أنه لو اختلف المكري والمكتري في المقدار، فالقول قول من؟ والذي يقتضيه القياسُ أنه إذا أنفق بنفسه من غير تفويضٍ، وقلنا: له الرجوع في القدر المتفق عليه، فلو فرض نزاعٌ، فالقولُ قولُ المكري؛ فإنه لم يستند إنفاقُه إلى ائتمان من جهة السلطان. وفيه احتمالٌ؛ من جهة أن الشرعَ سلّطه على الإنفاق، فيجوز أن يكون كتفويض الحاكم إليه، وللحاكم سلطنةٌ في مال الغُيّب على شرط النظر، والمصلحة.
ولو وجد مالاً لغائب، وكان ضائعاً لا يتأتى حفظه إلا بمؤونة، وقد يبلغ مبلغاً، فلو أراد بيع ذلك المال، وإمساك ثمنه للغائب، جاز ذلك، وسنصف هذه الأبواب في أحكام القضاة، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
5251 - الأجرة إذا كانت مؤجلةً في الإجارة، فحلّت، وقد تغيرت صفةُ النقد، وكان ذُكر مطلقاً في العقد، فلا شك أن الاعتبار في صفة النقد بالنقد الذي كان غالباً يومَ العقد، ولا نظر إلى نقدِ يوم الحلول. وكدلك القولُ في الثمن إذا حل.
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(8/154)


5252 - فأما إذا ذُكر في الجعالة مقدارٌ من الدراهم، وكانت الدراهم إذ ذاك على صفةٍ، ثم استكمل المجعولُ له العملَ، وقد تغيرت صفة النقد، فقد اختلف أصحابنا فيما حكاه القاضي، فذهب بعضُهم إلى أن الاعتبار باليوم الذي تم العملُ فيه؛ فإنه يوم استحقاق الجُعل. وهذا ضعيفٌ، لا أصل له.
والصحيح أن الاعتبار بالنقد [العام، يوم ذُكر؛ فإن العرف العام قرينُ اللفظ، فكأنه وإن أطلق الدراهم] (1) قيدها بالصفة العامة حالة الذكر.
...
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(8/155)


باب تضمين الأجراء
قال الشافعي رحمة الله عليه: " والأجراء كلهم سواء، وما تلف في أيديهم، ففيه واحدٌ من قولين ... إلى آخره " (1).
5253 - نقول أولاً قبل الخوض في مقصود الفصل: من استأجر دابةً، أو غيرَها من الأعيان، وقبضها ليستوفي المنفعةَ منها، فإذا تلفت في يده من غير عدوانه وتقصيره في الحفظ، لم يضمنها، لا نعرفُ في ذلك خلافاًً، والسببُ فيه- عندنا- أنه استحق المنفعة منها، ولا سبيل إلى استيفاء المنفعة منها إلا بقبضها، وليست العين هي المستحقة في نفسها، فلما كان قبضُها طريقاً في استيفاء المنفعة، لم يثبت الضمان فيها.
ولو اشترى رجل سمناً في بُستوقة (2) ليستخرج السمن منها، فتلفت في يده من غير عدوانٍ وتقصيرٍ، فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن البُستوقة لا تكون مضمونةً على القابض، قياساً على العين المستأجرة، ووجه التقريب أن اتصال المنفعة بالعين كاتصال السمن بالبُستوقة.
وهذا غير صحيح، والذي ارتضاه المحققون أن البستوقة مضمونة؛ فإن إخراج السمن منها من غير نقلٍ وإثبات يدٍ عليها ممكنٌ، ولا يتأتى الانتفاعُ دون نقل الأعيان التي بها الانتفاع، فالبستوقة في يده كالعين المستعارة، فهذه مقدمةٌ، جددنا ذكرها.
ونحن نخوض بعدها في مقصود الباب، فنقول:
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 85.
(2) البُستوقة: إناءٌ من الفخار، فارسي معرّب (معجم الألفاظ الفارسية المعربة).

(8/156)


5254 - إذا تلفت عينٌ في يد الأجير، [وكانت سُلِّمت] (1) إليه ليوقع فيها العملَ المستحَقَّ على الأجير بالإجارة، فلو تلفت تلك العينُ، فنقول: إن كانت يد المالك قائمةً، والأجير كان يعمل بين يديه، فليس للأجير يدٌ على الحقيقة، فإذا تلفت العينُ بآفة سماوية، فلا ضمان؛ فإنها لم تتلف في يد الأجير، وهذا يسمى الأجير المشاهَد. ومعناه أنه يعمل في مشاهدة المالك، وتحت يده.
5255 - فأما إذا زالت يد المالك وثبتت يد الأجير على العين التي كان يوقع عملَه
فيها، فإذا فرض التلف بآفةٍ من غير صُنعٍ من جهة الأجير، ولا تقصيرٍ، ولا عدوانٍ، فحاصل المذهب طريقان: من أصحابنا من رأى أقوال الشافعي محتملة في ذلك، ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها- أنه لا يجب الضمان، وهو الأقيس؛ فإنه لم تثبت يده على العين لمنفعةِ نفسه، وإنما أثبتها ليوقع فيها عملاً مستحقاً عليه، وإذا كان مستأجرُ العين لا يضمنها، لأنه يستوفي منها منفعةً له، فلأن لا يضمن الأجير -وسببُ قبضه منفعةٌ مستحقة عليه- أولى؛ فإن من استحق شيئاً متخيِّرٌ في إسقاط حقه، ومن استحق عليه شي، فلا خِيَرَة له.
والقول الثاني - أنه يجب الضمان؛ لأنه يقبض ما يقبض لتقرير عوضِ عملِ نفسه، وترجع المنفعةُ إليه.
والقول الثالث- أن الأجير المشترك يضمن، والأجير المنفرد لا يضمن.
5256 - واختلف أئمتنا في الأجير المشترك، ويظهر من ذكر الاختلاف فيه الأجيرُ المنفرد، فمنهم من قال: الأجير المشترك هو الذي يلتزم تحصيلَ العمل في ذمته، فإن شاء أوقعه بنفسه، وإن شاء استأجر من يُحصِّلُه، فيجتمع في يده أعيان أملاك الناس، وسمي مشتركاً، لأنه لا يختص بواحدٍ من المستأجرين، والأجير المنفرد هو الذي تتعلق الإجارة بعينه لا بد منه، فهو منفرد لمستأجِره. والمشترك أولى بالضمان؛ لاتساع الطريق عليه، حتى كأنه غيرُ مأمورٍ في عينه بتحصيل العمل، بخلاف المنفرد.
__________
(1) في الأصل: " وكأنه سلمه " بهذا الرسم.

(8/157)


5257 - وذكر العراقيون وجهاً آخر في معنى المشترك والمنفرد، فقالوا: المشترك من لا يتعين لعمله مكانٌ، وهو الذي يستأجَر لعملٍ موصوفٍ، من غير ذكر وقت، وقد يُتصور ذلك مطلوباً من عمله، حتى لو أراد إقامة غيره مقام نفسه، لم يجد إليه سبيلاً، وذلك أن يقول: خِط بنفسك هذا الثوبَ، فيتصور إذاً أن يعاقده على عمله في عينه أقوامٌ، والأجير المنفرد هو الذي يستعمل عقيب العقد، ولا يمهل، ويتعين له مكانٌ على هذا، ولا يقدّر مشتركاً.
5258 - وهذا الذي ذكره العراقيون فيه نظر، أولاً - في نفسه، ثم الرجوع يقع بعد ذلك إلى مقصود الفصل.
فإذا استأجر رجل شخصاً في خياطة ثوب وأورد الإجارةَ على عمله (1)، فلو أراد أن يلزمه الاشتغال بما استحقه عليه، فله ذلك، وإذا كان يملك هذا، فمنافعه مستحقة في هذه الجهة، فيجب أن لا يصح من الغير استئجاره، ومنفعة عينه مستحقةٌ مستغرقةٌ.
وهذا فيه احتمال، فلو جرينا على حقيقة الاستغراق، لزم منه أن يقال: إذا مضى على أثر العقد زمانٌ يسع العمل، فلم يعمل فيه، تنفسخ الإجارة، كما لو استأجر داراً شهراً، ولم يتفق تسليمُها حتى انقضى الشهر، وقد ذكرت طرفاً من هذا فيما تقدم، وهذا أوان استقصائه.
فإذا وردت الإجارة على الذمة، لم يخف مقصودُنا فيه، وإذا وردت على العين، وقُرنت بالتأقيت، فيتحقق [لا محالة] (2) الاستغراق، ويترتب عليه الانفساخ إذا مضت المدة قبل التسليم.
وإن كانت الإجارة متعلقةً بالعين، ولكن المعتمدَ فيها صفةُ العمل، وبيانُ مقداره، كخياطة الثوب، وما في معناها، فهذا مختلف فيه. والاختلاف مأخوذ من فحوى كلام الأئمة.
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: "على عينه".
(2) ساقطة من الأصل.

(8/158)


فالذي يقتضيه قياس المراوزة أن الإجارة إذا كانت متعلقة بالعين، [فهي] (1) على التضييق، وحقيقةِ الاستغراق، كما لو تقيدت بالوقت.
والذي تقتضيه طريقة العراقيين أنها ليست على التضييق، حتى كأنها مستحقة في ذمة الأجير من عينه، فمهما أقامها (2)، وقعت الموقع.
وإن استبعد سائلٌ الجمعَ بين العين والذمة، أمكن أن يقال: كل إجارة واردةٍ على عينٍ بهذه المثابة؛ فإن المستأجر يستحق منفعةَ الدار من عين الدار، قبل وجود المنفعة.
فرجع حاصل الكلام إلى أن الأجير المشترك هو الذي (3) لا يضيّق عليه تضيّق التأقيت. والأجير المنفرد هو الذي يضيّق عليه المستأجر، [فيقول] (4): استأجرتك لتخيط هذا، ويشتغل به عقيب العقد من غير تأخير، وقياسهم أن إطلاق العمل لا يتضمن التضييق المؤدي إلى الانفساخ، وإذا قيد بالتضييق، ومضى الزمان الذي يسع العمل وقد [تقيّد] (5) بالتضييق، اقتضى ذلك الانفساخَ.
5259 - فإذا ظهر ما أردناه، فالذي [نُجلِّيه] (6) من فرق بين الأجير المشترك، والأجير المنفرد، أن المنفرد كأن يده [نائبة] (7) عن يد المالك؛ فإنها مستغرَقة به لا يُشارَك فيها، ويد الأجير المشترك ليست مختصةً بأحد، فتثبت اليد له على التحقيق.
__________
(1) في الأصل: فهو.
(2) (د 1): أتى بها.
(3) (د 1): هو الذي لا يضيق التأقيت.
(4) في الأصل: ويقول.
(5) في الأصل: تفسد.
(6) في الأصل: (نخيله) أو (نحيله) تقرأ بهما. وفي (د 1): (ـحليه) هكذا بإهمال الأول والثاني. والمثبت اختيار من المحقق.
(7) في الأصل: (ثايبة) و (د 1): ثانية. والمثبت تصرف منا، على ضوء السياق، وعبارة الرافعي التي تقول: " يده كالوكيل مع الموكل " (الشرح الكبير: 6/ 148).

(8/159)


وكل ما ذكرناه من التطويل، [والتفصيل] (1) وإن كان مُقيداً في نفسه، فلا جدوى فيه فيما نحن فيه، كما سيتبين في الطريقة الثانية.
هذا بيان المسلك الأول.
5260 - الطريقة الثانية - قال معظم المحققين: الأجير لا يضمن ما يتلف تحت يده من غير عُدوان وتقصير، قولاً واحداً، ويده يد أمانة. وقد حكى الربيع " أن الشافعي كان يرى أن الأجراء لا يضمنون، ولكنه كان لا يبوح به لأجراء السوء، وكان يرى أن القاضي يقضي بعلمه، وكان لا يبوح به لقضاة السوء ". ووجه ذلك في القياس واضح لا حاجة إلى تكلف بيانه.
وهذا القائل يقول في قول الشافعي: " لا يجوز في الأجير إلا واحدٌ من قولين ": لم يُرد الشافعيُّ به ترديدَ القول، وإنما قصد محاجة أبي حنيفة (2)، فإنه يقول: ما يتلف بعمل الأجير، وإن اقتصد فيه يضمنه، وما يتلف تحت يده من غير صُنعه لا يضمن، فقال: لا يجوز إلا واحدٌ من قولين: إما ألا يضمن أصلاً، وإما أن يضمن كيف فرض الأمر، سواء تلف بآفة أو بصنعٍ هو مأذون فيه، فرجع قوله إلى الرد على من فصل بين أن يتلف بصُنعه أويتلف بآفة.
هذا بيان طرق الأصحاب.
5261 - ثم إن جعلنا يدَ الأجير يدَ ضمان، فلو تلف تحت يده بآفةٍ، ضمن، ولو تلف بصُنعه، ضمن. وإن قلنا يدُه ليست يدَ ضمان، فلو تلف بآفة، لم يضمن، [وإذا تلف] (3) بسبب عمله، نُظر: فإن جاوز الحدَّ، وتعدَّى في عمله، ضمن، وإن اقتصر واقتصد، ولم يجاوز الحدّ، فلا ضمان أصلاً، ولا أثر للعمل من غير تفريط وعدوان، عند أصحابنا.
وقد يخطر للفقيه على قياس [قول] (4) الشافعي أنا إذا جعلنا يدَ الأجير يدَ الضمان،
__________
(1) في الأصل: في التفصيل.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 85، مسألة: 1767، المبسوط: 15/ 80، إيثار الإنصاف: 335.
(3) في الأصل: فإذا أتلفه.
(4) في الأصل: مذهب.

(8/160)


فلو عمل في العين ما أُمر به، ولم يزد، فأدى ذلك إلى عيبٍ، فلا يجب ضمان ذلك، وينزل ذلك منزلة ما لو لبس المستعيرُ الثوبَ وأبلاه (1)؛ فإن المذهب أن ضمان الأجزاء البالية لا تجب، ولو تلف الثوب بآفةٍ، وجب ضمانُه على المستعير. وهذا ظاهرٌ في الأجير، ولا ينبغي أن يقدَّر خلافٌ في أن الأجير لو فصَّل الثوبَ النفيسَ وقطّعه، فانتقصت قيمته بالقطع أنه لا ضمان عليه، فإذا جرى ذلك في النقصان الذي يوجبه القطع، فغيره بمثابته إذا اقتصر العامل على امتثال الأمر، وقد قررتُ هذا في (الأساليب) (2).
هذا بيان عقد المذهب في تضمين الأجراء.
5262 - ثم إن الشافعي ذكر مسائلَ، وبين فيها عملَ الأجراء، [وتعدّيهم] (3) واقتصادهم، ونحن نذكرها، ولكن حظَّ الفقيه في جميعها ما قدّمناه، من أنه إن اعتدى، ضمن، وإن لم يعتد واقتصد، فالذي أطلقه الأصحاب تخريجُ ذلك على أن يدَ الأجير يدُ أمانة، أو يد ضمان.
والذي نراه في القياس الجلي أنه لا يضمن ما يقتضيه عملُه المأذون فيه، كما ذكرناه في بلى الثوب باللُّبس المأذون فيه للمستعير.
وإذا تمهدت القاعدة شرعنا بعدها في المسائل، ونُفرد لكل مسألة فصلاً، ونوضِّح ما يليق به.
فصل
قال: " إذا استأجر من يحجمه، أو يختن غلاماً له، أو يبيطر دابته ... إلى آخره " (4).
5263 - إذا استأجر من يحجمه، فلم يقصّر الحاجم، فأدى إلى سبب محذور،
__________
(1) (د 1): وأبلاه بالإذن.
(2) الأساليب: اسم كتاب في علم الخلاف لإمام الحرمين. وقد تكرر ذكره مراراً.
(3) تقدير من المحقق، مكان كلمة بالأصل رسمت هكذا: " وبعد خيطهم " فهل هي كناية عن التعدي. وقد خلت (د 1) من الكلمة.
(4) ر. المختصر: 3/ 85.

(8/161)


فإن كان المحجوم حراً، فلا ضمان، لأن يدَ الحر ثابتةٌ عليه، وإن كان استأجره ليحجم غلاماً له، فإن كانت يد المالك ثابتةً على الغلام، فلا ضمان على الحجام، إذا لم يجاوز ما أُمر به، وإن ثبتت يده عليه، ولم يكن السيد معه، ففيه التفصيل الذي ذكرناه من اختلاف الطرق، والفرق بين المنفرد والمشترك، ويعترض فيه ما نبهنا عليه من أن ذلك حاصل بفعلٍ مأذونٍ فيه، كما تقدم، ولسنا نعود بعد ذلك إلى هذا التفصيل، ولكن نذكر ما يتجدّد.
فصل
قال: " ولو استأجر للخبز ... إلى آخره " (1).
5264 - الخبز عملٌ من الأعمال، فإن فسد الخُبز بتقصيرٍ من الخباز، ضمن، وإن لم يَزد الخبّاز على ما استدعى منه، ولكن احترق بعض الخبز، ففي الضمان التفصيلُ الذي ذكرناه.
5265 - والذي نذكره في هذا الفصل أن من استأجر خبازاً، فلا بد من أن يوضّح أنه يخبز في تنّور (2)، أو فرنٍ، وأنه يخبز الأقراص، أو الغلاظَ من الأرغفة، أو الرقاق. والغرض يختلف بذلك. وكل ما يوضحه العُرف من غير تردّد، فهو متبع، وهذا بمثابة ذكر التنور في هذه الديار؛ فإن العرف يعيِّنها، وإنما تمس الحاجة إلى التعيين عند إمكان التعدد.
5266 - ثم إن كانت الإجارة واردة على العين، فالآلات التي لا بد منها على
المستأجر، وليس على الأجير إلا تسليم نفسه إلى المستأجر.
وإن كانت الإجارة واردةً على الذمة، فالآلات على الملتزم في الذمة.
5267 - وأما حطب التسجير، فإن عمّت العادة بأنه يأتي به المستأجر، فهو يجري
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 86.
(2) لم يفرق المعجم الوسيط بين الفرن والتنور، بل فسر التنور بأنه الفرن، ولكن المصباح نقل عن ابن فارس: أن الفرن الذي يخبز عليه غير التنور.

(8/162)


على حكم العرف، وإن كانت العادة مطردةً في أن الحطب يأتي به الملتزم، ففيه اختلاف بين الأصحاب. فالذي ذهب إليه القاضي والمحققون أن العادة محكّمةٌ في ذلك، وقد التزم الأجير تحصيل الخبز، فعليه التسبب إليه.
ومن أئمتنا من قال: لا يكون على الملتزم حطبٌ؛ فإنه عينٌ يُشترى، وهو تمليك بجهات التملك، فلا يتبع المنفعة.
وهذا الذي ذكرناه في الخبز [يجري في القلم والحبر] (1) في حق الورّاق، والخيط في حق الخياط. وإن اضطربت العادة، فلا يستحق على الخباز، ولكن في بطلان العقد الخلاف الذي قدّمناه.
فصل
قال: " وإن اكترى دابة، فضربها أو كبحها باللجام ... إلى آخره " (2).
5268 - هذه المسألة ليست نظيراً للمسائل التي تقدمت؛ فإنها كانت مفروضة في استئجار أجيرٍ للعمل، وهذه المسألة فيه إذا استأجر الرجل دابةً ليركبها، أو يحمّلها حُمولةً، فلو قبضها، أو ضربها (3) في التسيير، أو كان يكبح لجامها، فهلكت، فقد قدمنا أن العين المستأجرة أمانةٌ في يد المستأجر، وأنها لو تلفت بآفةٍ سماوية تحت يده، لم يلتزم الضمان أصلاً، فإذا وجد من المستأجر فعلٌ كما ذكرناه، من الضرب وكبح اللجام، فإن لم يجاوز المعتادَ في ذلك، ففرض التلفُ، فلا ضمان أصلاً، وإن جاوز العادةَ في ذلك، بحيث يُعدّ مجاوزاً، فقد أثبت الأصحاب الضمان.
وقال أبو حنيفة (4) يجب الضمان سواء عُدّ الضارب مقتصداً أو مجاوزاً للعادة، وهذا أجراه على مذهبه في أن سراية القصاص مضمونة، وسنجمع بعد ذلك بفصول قولاً بالغاً في التعزيرات، وحكم الضمان [فيها] (5) إذا أدت إلى الهلاك، ونعيد هذا
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، سقطت من النسختين.
(2) ر. المختصر: 3/ 87.
(3) (د 1): وتركها.
(4) ر. بدائع الصنائع: 4/ 213، وحاشية ابن عابدين: 5/ 24.
(5) في الأصل: منها.

(8/163)


الفصل في أثناء التعزير والتحرير الضابط، إن شاء الله عز وجل.
5269 - فأما إذا استأجر رائضاً حتى يروض دابةً له، فضربها الرائض، وكبح لجامها، فعابت، أو هلكت، فهذا عائد إلى سَنَن المسائل التي تقدمت، فإن عُد متعدياً، ضمن؛ وإن لم يعد متعدياً في تحصيل المستدعَى منه، فيعود التفصيل في المشترك، والمنفرد، واختلاف الطرق.
والرأي عندنا القطع بنفي الضمان، (1 إذا كان السببُ الفعلَ المأذون فيه، كما أجرينا ذكرَ ذلك مراراً. وتمام البيان فيه بين أيدينا 1)، ونحن، إن شاء الله- ذاكروه في فصل التعزير.
فصل
قال: "وهذه الأغنام والبقور التي تسلم إلى الراعي من غير عقدٍ ... إلى آخره" (2).
5270 - إذا سلم مالك المواشي المواشيَ إلى الراعي، واستعمل الراعي في رعيها، ولم يذكر أُجرة مسماةً، فهذا يخرّج على أن المستعمل إذا عمل هل يستحق أجر المثل؟ وهذا سيأتي مستقصَى، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: يستحق، فالذي جرى في حكم إجارةٍ فاسدةٍ، وحكم الفساد في الضمان حكم الصحيح، وقد فصلنا ذلك.
فأما إذا قلنا: لا يستحق المستعمل شيئاًً إذا عمل، فالذي جرى ليس باستئجار على الفساد، وإنما العامل متبرع بالعمل، وليس على المتبرع ضمانٌ إذا لم يجاوز فيما فَعلَ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (د 1).
(2) هذه العبارة بألفاظها ليست في المختصر، وإنما عبارته: " قال: والراعي إذا فعل ما للرعاة فعله مما فيه صلاح لم يضمن، وإن فعل غير ذلك، ضمن " المختصر: 3/ 87.
هذا. ولم أصل إلى هذا النص من كلام الشافعي في "الأم"، كما لم أصل إلى هذا الجمع (البقور) للبقرة، لا في المعاجم اللغوية، ولا في معاجم ألفاظ الفقهاء، ومما ذكرته المعاجم: البقرة للمذكّر والمؤنث، والجمع: بقر، وبقرات، وبُقُر (بضمتين)، وبُقَّار، وأُبْقور، وبواقر، وأما باقر، وبقير، وبيقور، وباقور، وباقورة، فأسماء للجمع. (القاموس، واللسان).

(8/164)


مراسمَ المالك، وعلى هذا [يخرّج] (1) على ضياع الثوب في الحمام، وليس فيه إجراء ذكر الأجرة.
وتمام البيان في هذه الفصول يأتي في فصل [التعزيرات] (2) وما يتعلق بها، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو أكرى حَمْلَ مكيلةٍ، وما زاد فبحسابه، فهو في المكيلة جائز، وفي الزيادة فاسد ... إلى آخره " (3).
5271 - نذكر في مقدمة الفصل فصولاً تتعلق (4) بإعلام المعقود عليه، وترتبط بألفاظ العقد، ثم نخوض بعدها في مقصود الفصل.
[فإذا] (5) أشار إلى صُبرة مجهولة الصيعان، وقال: اكتريت هذه الدابة لتحمل هذه الصبرة إلى موضع كذا، أو ألزمت ذمتك ذلك، فالعقد جائز، وقد مهدنا ذلك فيما سبق، وقلنا: الإشارة كافيةٌ كما لو أشار في بيع الصّبرة.
ولو قال: تحمل هذه الصُّبرة كلَّ صاع بكذا، صحّ، وإن لم تكن الصيعان معلومة، كما لو قال: بعتك هذه الصّبرة كلَّ صاع بدرهم. ولو قال: تحمل عشرة آصعٍ من هذه الصبرة، فجائز.
ولو قال: تحمل كل صاعٍ من هذه الصبرة بكذا، ولم يذكر لفظاً يتضمن حملَ الصُّبرة بكمالها، فقد قال الجمهور: يفسد العقد، [فإنه] (6) لم يتعرض لحمل الصبرة، ولم يبين مبلغاً منها، بل أبهم، وكذلك يبطل البيع على هذه الصيغة.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: التقريرات.
(3) ر. المختصر: 3/ 88.
(4) (د 1): فصول لا تتعلق.
(5) ساقطة من الأصل.
(6) في الأصل: فإن.

(8/165)


وقال بعضُ الأئمة: قوله " تحمل كلّ صاعٍ بكذا من هذه الصبرة " بمثابة قوله: " تحمل هذه الصبرة كل صاع بكذا ". وكذلك القولُ في البيع. وهذا متجهٌ في المعنى، وإن كان بعيداً في الحكاية، ووجهه أن قوله: " تحمل كل صاع من هذه الصبرة " عبارةٌ تشمل جميعَ الصّبرة من غير اختصاص بمقدار.
5272 - فأما صورة مسألة الكتاب، فهي أن يقول: تحمل عشرة آصاع من البُرِّ بكذا، وما زاد، فبحسابه. قال الشافعي: الاستئجار صحيح في المقدار المبين، وهو فاسد في الزيادة، أما الفساد في الزيادة، فمن قبل الجهالة؛ فإنه لم يذكر للزيادة ضبطاً، لا بإشارة، ولا بإعلام المنتهى، [فأما] (1) علة الصحة في المقدار المذكور، [فهي] (2) أنه صحيحٌ لو فرض الاقتصار عليه، والزيادة المذكورة لم تذكر على صيغةٍ تتضمن إلزامَها، واشتراطَها في العقد مع المذكور المقدّر، فليست معقوداً عليها مع المقدّر، ولا مشروطة في العقد الوارد على المقدّر.
فإذا ثبت ما ذكرناه في ألفاظ العقد، فقد قال الشافعي بعده: لو حمل مكيلةً، فوجدها زائدة ... إلى آخره.
5273 - إذا استأجر دابة ليحمل عليها مقداراً مُقدَّراً: عشرةَ آصعٍ مثلاً، فاتفق حملُ أحدَ عشرَ، فلا يخلو إما أن يحصل هذا التعدي من المكتري، أو من المكري، أو من أجنبيٍّ سواهما.
5274 - فإن (3) حصل التعدي من المكتري، وكان تولّى بنفسه الاكتيالَ، فزاد على المشروط، وحمل على الدابة، فانفرد باليد في الدابة، وكان مالكها سلّمها إلى المكتري، فنقول: إن سُلمت الدابة، فعلى المكتري الأجرةُ المسماةُ في مقابلة المذكور المشروط، وعليه أجرةُ المثل في مقابلة الزائد، ولو تلفت الدابة في يده، ضمن في هذه الصورة كمالَ قيمتها؛ وذلك لأنه لما حمَّلها أكثرَ مما تستحق، صار
__________
(1) في الأصل: وأما.
(2) في الأصل: فهو.
(3) (د 1): أما إذا حصل.

(8/166)


عاصياً، ويده يدُ عدوان، فيلتزم كمالَ الضَّمان. ولو تلفت الدابة والحالة هذه بآفةٍ سماوية، فيجب ضمانُها أيضاً، وإن لم يكن التلف بسبب العدوان.
ولو كان المكتري يكتال بمرأًى من مالك الدابة، فكان يراه يزيد، فسكت، ولم ينكر، فحكم أجرة المثل، وضمان الدابة لو تلفت كما ذكرناه، وسكوتُ المالك على سبب الضمان، لا يغيّر حكمَ وجوبه.
5275 - ولو اكتال المكتري وزاد، ولكنه سلّم إلى المكري، حتى تولى الحملَ بنفسه، وكانت اليدُ له في دابته، قال الأئمة: إن كان المكري عالماً بما جرى، فلا يستحق للزيادة أجرَ المثل؛ فإنه تعاطى حملها، ولو تلفت الدابة، فلا يستحق ضماناً على المكتري؛ فإن المالك هو الذي تعاطى سببَ الهلاك بنفسه، مع العلم بحقيقة الحال.
وهذا الذي ذكروه في نفي الضمان سديدٌ، فأما نفي أجرة المثل في الزيادة، ففيه نظر، ولا أقل من أن يُحمَلَ ذلك على استعمال إنسان، أو استعمالِ دابته من غير ذكرِ الأجرة، وفي ذلك تفصيل سيأتي مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
فأما إذا زاد المكتري، وسلّم إلى المكري، فحمل المكري على الدابة، مع الجهل بحقيقة الحال؛ فقد قيل: يستحق الأجرة (1) في مقابلة الزيادة، ويثبت الضمان لو تلفت الدابة؛ فإن المكري لم يرض بهذه الزيادة إذا (2) كان جاهلاً بها.
5276 - وهذا فيه فضل نظر. فأما الضمان، فقد تعاطى المالك بنفسه حَمْلَ الزيادة
__________
(1) هنا خلل غريب في سياق نسخة (د 1)، فقد أقحمت في السياق إحدى عشرة ورقة، ومن العجيب أن الخلل ليس في رؤوس الصفحات، فقد انتقلت من ص 39 س1 من منتصفه، إلى ص50 س1 من نهايته، مما يشهد بأن الخلل كان في الأصل المنقول عنه، وليس من عمل ناسخ نسختنا هذه (د 1) وهذا المقدار (إحدى عشرة ورقة) يشهد بأن سبب الخلل أن ناقل الأصل المنقول عنه، وضع كراسة كاملة في غير مكانها، ونسخها في غير سياقها، فقد كانوا يقسمون الكتاب إلى كراسات كل كراسة عشر ورقات، وهذا بعينه نظام الملازم الذي يتبع الآن في المطابع، حيث يقسم الكتاب إلى ملازم، كل ملزمة ثماني ورقات.
(2) في الأصل، كما في (د 1): إذا. وهي بمعنى (إذ) وهو استعمال سائغ، كما أشرنا إلى ذلك مراراً.

(8/167)


على الدابة، فوُجد منه سببُ التلف مباشرة، ولكنه كان مغروراً من جهة المكتري، فيجب تخريج ذلك على قولي الغرور، كما تكرر مراراً. فأما لزوم أجر المثل في الزيادة، ففيه احتمالٌ أيضاًًً على بُعدٍ؛ فإنه لم يجرِ لتلك الزيادة ذكرٌ، والظاهر لزومُ أجر المثل؛ فإن الزيادة حُملت في ضمن عقد معاوضة، وليس كالعمل المطلق، حيث لا يجري ذكر الأجرة.
5277 - ثم إذا تلفت الدابة بآفةٍ تحت يد مالكها، وما تلفت بسبب الحمل، فلا يجبْ ضمان الدابة أصلاً. وإن كان تلفُها بسبب الحمل الثقيل، واتفق التلف في يد المالك، ففي مقدار الواجب قولان: أحدهما - أنه يجب نصف الضمان، ولا ينظر إلى مقدار الزيادة، قل أو كثر، والقول الثاني - أنا نوزع قيمة الدابة على المحمول المستحق وعلى الزائد، ونوجب ما يخص الزائد، فإن كان جزءاً من أحد عشر جزءاً، وجب ضمان جزء من أحدَ عشر جزءاً من القيمة، وإن كان أقلَّ أو أكثر، فبهذا الحساب.
وهذان القولان بناهما الأصحاب على القولين في أن الجلاد إذا زاد على الحد سوطاً أو أكثر، وهلك المحدود، ففيما يلتزمه الجلاد قولان: أحدهما - أنه يلتزم شطرَ الضمان. والثاني - أنه يلتزم جزءاً من الأجزاء؛ فإن كان الحدُّ ثمانين، فزاد سوطاً، التزم جزءاً من أحد وثمانين جزءاً من الدية. وعلى هذا البابُ وقياسُه، إن كثرت الزيادةُ، أو قلَّت. ومن يُوجب الشطرَ يطردُه فيه إذا كثرت الزيادة، وزادت على المقدار المستحق.
5278 - ولا خلاف أن الجراحات إذا تعددت من شخصين، وآل الأمر إلى التوزيع، وكان جَرَحَ أحدُهما مائةَ جراحة، وجَرح الثاني جراحةً واحدةً، فالدية عليهما نصفان، والسبب فيه أن آثار الجراحات تتفاوت تفاوتاً عظيماً، وربما يكون أثرُ الجراحةِ الواحدةِ أكثرَ من أثر مائةِ جراحة، وإذا كان الأمر كذلك، فلا نظر إلى أعداد الجراحات، ولا سبيل إلى استدراك أغوارها، فالوجه التوزيعُ على رؤوس الجناية، وأما الزيادةُ على الجلدات المستحقة، فإنها خارجة على القولين، فهي في قولٍ: كالجراحات، والمتبع التشطير، وفي قولٍ: يقع التوزيعُ على الأعداد؛ فإن آثار

(8/168)


الجلدات لا تتفاوت، بخلاف الجراحات والزيادة في الحمل ملحقةٌ بالجلدات.
وذهب بعضُ المحققين إلى أن الأولى القطعُ بالتوزيع في الزيادة المحمولة على الأجزاء؛ فإنها لا تتفاوت قطعاً، والسياط يقدّر فيها تفاوت، وهذا حسنٌ. ولكن الطريقة المشهورة تخريج القولين بناءً على الجلدات.
5279 - وكل ما ذكرناه في زيادةٍ تتحقق، فأما إذا كانت تلك الزيادة بحيث يقع مثلُها من الكيلين، فلا حكمَ، ولا وقعَ لها؛ فإنها غيرُ متحققة، وقد يعاد الكيل مرة أخرى، فلا تظهر الزيادة، وقد يظهر نقصان.
5280 - وما ذكرناه فيه إذا زاد المكتري والمكري [مغرور] (1)، وقد حمل بنفسه.
وقد يحمل المكتري بنفسه، واليدُ في الدابة [للمكري] (2)، فحكم الأجرة والضمان على ما ذكرناه، وهذه الصورة تقع مقطوعاً بها، في أجرة المثل، في الزيادة، وفي أصل الضمان. ثم القولان في مقداره على ما ذكرناه، ولا حاجة إلى تخريج الضمان على قاعدة الغرور؛ فإن المكتري قد تولى بنفسه حملَ الزيادة.
والذي يجب التنبيهُ له في تفاصيل المسألة أن لا يُصوّرَ حملُ الزيادة والدابة في يد المكتري؛ فإنها لو كانت تحت يده، فيصير بنفس حمل الزيادة غاصباً، ولو تلفت الدابة بسبب آخر، وجب كمال الضمان، فكذلك بسبب الحمل، فليقع التصوير فيه إذا كانت الدابة في يد مالكها.
5281 - فأما إذا تولى المكري الكيلَ وكان المكتري فوّض إليه أن يكيل القدرَ المشروط، ويحملَه، فزاد المكري وحمل أكثر من المشروط، فنقول: لا يستحق في مقابلة الزيادة أجرةً، ولو تلفت الدابة بسبب الحمل، (3 فلا ضمان 3)، وتعليله بيِّنٌ.
5282 - ويطرأ في المسألة شيء آخر، وهو أن المكري نقل شيئاًً من حنطةِ المكتري
__________
(1) في الأصل: معذور.
(2) في الأصل: للمكتري.
(3) ما بين القوسين سقط من (د 1).

(8/169)


إلى بلدةٍ أخرى، من غير إذنه، فكان حكمه فيما فعل حكمَ الغاصب.
ونحن نذكر ما يتعلق بذلك. ونقول:
أولاً- يجب على الناقل أن يرد تلك الزيادة إلى الموضع الذي نقلها منه؛ جرياً على وجوب ضمان الرد، فلو ظفر صاحب الحنطة بالناقل في المكان الذي نقل عنه؛ فإنه يلزمه مثلُ حنطته، لمكان الحيلولة التي أوقعها، وقد جرى سبب الضمان في هذا المكان ابتداءً، فهو كما لو أتلف حنطةً، فظفر صاحب الحنطة بالمتلِف في مكان الإتلاف؛ فإنه يغرمه المثلَ، ثم لا تنقطع الطَّلِبةُ عن الناقل بهذه الغرامة، بل هو مطالب برد تلك العين التي نقلها إلى موضعها، ولا فرق بين أن تكثر المؤنة، أو تقل، فإذا ردّها، فإنه يسترد ما كان بذله، والقول في أنه يسترد عينَه، إن كانت باقيةً، كما تقدم في المغصوب منه، إذا أبق العبد المغصوب وغرم الغاصبُ للمالك قيمتَه، لمكان الحيلولة، فإذا رجع العبدُ، وعينُ تلك القيمة باقية، فهل يستردّها؟ فيه تفصيل قدمتُه.
5283 - ولو ظفر صاحب الحنطة في مسألتنا بالناقل في البلدة التي نقل إليها، فلو قال المتعدي بالنقل: خذ حنطتَك، فإن أخذها مالكها، فلا كلام، ولو طلبها من الناقل، وجب عليه ردُّها عليه، وإذا قبضها، انقطعت مؤنة الرد، فلو بدا لمالك الحنطة، فقال: ردّها الآن من يدي إلى المكان الذي نُقلت عنه، فالظاهر أنه لا يلزمه ذلك؛ فإنّ قبضَه قد تم في [الملك] (1)، فكان ذلك قطعاً للمادّة، واستئصالاً لتبعة الطّلبة، وإبراءً عن مؤنة الرد.
وفي المسألة احتمالٌ على تأويلِ أنه يقول: لست أثق بيدك في عين مالي، فاليد لي، والْتزم النقلَ.
5284 - ولو لم يقبل منه الحنطة في تلك البلدة، وقال: الْتزم ردَّها إلى مكانها، فله ذلك.
فلو قال الناقل؛ خذها إليك، وأنا أنقلها في يدك، فللمالك أن يمتنع، ويقول:
__________
(1) في الأصل: ملك.

(8/170)


لو قبضتُها، لكانت مؤنة الحفظ عليّ، ولو تلفت في يدي، لسقط الضمان، فكن أنت الملتزمَ لذلك كله.
5285 - ثم لو قال المالك، والحالة هذه: اغرم لي على مقابلة الحيلولة، فله ذلك؛ فإن الحنطة، وإن كانت حاضرةً، فهي بمثابة الغائبة للوجوه التي ذكرناها، ثم لا يغرّمه مثلَها؛ إذ يستحيل أن يغرّمه المثلَ، وعينُ ماله قائمة، ويعسر عليه نقل المثل، كما يعسر عليه نقلُ العين، فلا يغرّمه إلا القيمة. ثم إذا ردّ الحنطةَ إلى مكانها، استرد القيمة.
5286 - وكان شيخي يقول: يغرّمه أرفعَ قيمةٍ من مكان النقل، إلى حيث انتهت؛
فإن العدوان مطّردٌ في هذه الأماكن جملتِها، ولا مكان منها وإلا للمالك طلبُ حنطته إن صادف ناقلَها فيه مع الحنطة، وله طلب قيمتها في ذلك المكان، حملاً على تكليفه نقلَها إلى الأول، الذي نقلها منه، فينتظم من مجموع ذلك إيجابُ أقصى القيم.
5287 - وقد مهدنا في كتاب الغصوب في ظاهر المذهب أصلاً، فقلنا: إذا أتلف رجل مثليّاً في مكان، ثم ظفر المتلَفُ عليه بالمتلِف في غير مكان الإتلاف، فالمذهب الظاهر أنه لا يطالبه بالمثل، وإنما يطالبه بقيمة مكان الإتلاف. وما ذكرناه في هذا الفصل مباينٌ لذلك الأصل؛ فإن الحنطة في عينها فائتةٌ، واقتضى الترتيب على ما رآه الأصحاب ألا نُغرّمَه المثلَ في غير مكان الإتلاف، والحنطة قائمة في مسألتنا، فجرى ما مهدناه من غرامةِ المثلِ والقيمةِ على ترتيبٍ يخالف الإتلاف، ويكفي في ذلك التنبّه والتأمل.
5288 - ولو جرى نقلُ تلك الحنطةِ الزائدةِ من ثالثِ، مثل أن يُفوّض المكتري الكيلَ إلى إنسانٍ، فيزداد ويحملَ أكثر من المشروط، فالكلام في أجر المثل والضمان في الدابّة لو تلفت معلّقٌ بهذا الثالث، فيغرَم أجرَ المثل في الزائد، وفي الضمان عند فرض التلف اختلافُ القول، كما تقدم.
وللمالك أن يكلفه ردَّ الزيادة إلى البلد المحمول عنه، كما ذكرناه في حق المكري إذا كان هو الناقل.

(8/171)


5289 - ومما يتعين [التصوير] (1) عنه في أطراف المسألة ألا تُفرض اليدُ عند فرض حمل الزيادة للضامن؛ فإن اليدَ لو كانت له، ونقدِّر التلفَ في الدابة وجب ضمانُ تمام القيمة، لأنه بنفس حمل الزيادة، صار في حكم الغاصب للدابة، وإذا كان كذلك، فإذا كانت اليد للمكتري، وهو الحامل، ضمن تمام القيمة، وإنما يختلف القول في مقدار الضمان، مع القطع بأن جميع القيمة لا تلزم إذا كانت اليد في الدابة للمكري، فإذا فرضنا ثالثاً، فينبغي أن يكون منصوباً من جهة المكري، ثم ينبغي أن تكون يده مع يده؛ إذ لو انفرد باليد، لضمن تمامَ القيمة إذا اعتدى بحمل الزيادة، ثم لا نظر إلى صدور ذلك عن أمر المكتري؛ فإن الأمر بالعدوان من غير إكراهٍ لا يُثبت على الآمر ضماناً.
فخرج من ذلك أن الثالث إذا انفرد باليد، ثم نفقت الدابة، ضمن تمام قيمتها، إذا كان هو الحامل للزيادة بالأمر [أو بغير] (2) الأمر، وإن كانت اليد للمكري، فإذ ذاك يضطرب القول في مقدار الضمان.

فصل
قال: " ومعلّم الكتّابِ، والآدميين، مخالف لراعي البهائم ... إلى آخره" (3).
5290 - هذا الفصل يجمع قواعدَ المذهب في بيان التلف الذي يُفضي إليه ضربٌ جنسُه مأذونٌ فيه. والوجه أن نرسل المسائل، فنذكرَ ما يتعلق بالمذهب فيها، ثم نحرص على ضبطها، كصنعتنا في أمثالها.
فنقول:
5291 - لمعلّم الصبي أن يؤدِّبه إذا مست الحاجةُ إلى تأديبه، وعليه التحفظ عما
__________
(1) في الأصل: التصور، والمثبت من (د 1).
(2) في الأصل: لو تغير الأمر.
(3) ر. المختصر: 3/ 88.

(8/172)


يؤدي إلى هلاكه، أو تعييب عضوٍ من أعضائه؛ فإن تأديبَه في الشرع، مشروطٌ بالسلامة. ولو كانت العرامة (1) التي به لا تزول بالضرب الخفيف، وكان يظهر أن إمكانَ زوالها يقتضي ضرباً عنيفاً مخوفاً، فلا يجوز أن يُضرب ضرباً عنيفاً، وإن كان زوال العرامة موقوفاً عليه.
فإن فرض تأديبٌ لا يقصد في ظاهر الظن بمثله الإهلاكُ، فاتفق التلف منه، تعلق الضمان به. فإن قال المؤدب: قد اقتصدتُ، واقتصرتُ على حدّ الأدب، فقد جوزتم لي هذا القدرَ، فلم تثبتون الضمان فيما جوزتموه؟ قلنا: لا يتصور التلفُ إلا بمجاوزة الحدّ في كيفية الضرب، أو مقدارِه، أو محلِّه، أو زمانه، وقولُ القائل وقع التلفُ وفاقاً عريٌّ عن التحصيل؛ فإن القتلَ لا يقع وفاقاً إلا بمجاوزة حدٍّ من الحدود التي أشرنا إليها. ثم إذا حصل التلف، وبان أن سببَه مجاوزةُ الحد، وكان التأديب مشروطاً بتوقي [التَّلف] (2)، وجب الضمان.
5292 - ثم ما جرى شبهُ عمدٍ، ولا يخفى الكلامُ في متعلّق ضمانه، فالدية على العاقلة، وهي مغلظةٌ، والكفارة على الضارب.
5293 - والزوج إذا أدّب زوجتَه، فالكلام فيه على نحو ما ذكرناه.
5294 - ولو كان أذن الولي للمؤدب في الضرب العنيف، فلا حكم لإذنه، مع نهي الشرع عنه، ولا يتعلق بالولي الضمانُ لإذنه.
5295 - وأبو حنيفة (3) رضي الله عنه لا يوجب الضمانَ في تأديب الصبي إذا أفضى
__________
(1) العرامة: الشراسة والشدة، من قولهم: عَرُم فلان يعرُم (بالضم فيهما) عرامةً وعُراماً إذا شرس واشتد. (المعجم).
(2) في الأصل: المتلف.
(3) قال السرخسي في المبسوط (16/ 13): "فإن ضربه بغير إذن الأب، فلا إشكال في أن يكون ضامناً، وإن ضربه بإذن الأب، فلا ضمان عليه في ذلك؛ لأنه غير متعدٍ في ضربه بإذن الأب.
ولو كان الأب هو الذي ضربه بنفسه فمات، كان ضامناً في قول أبي خنيفة، ولا ضمان عليه في قول أبي يوسف ومحمد، وهما يدعيان المناقضة على أبي حنيفة فيقولان: إذا كان الأستاذ لا يضمن باعتبار إذن الأب، فكيف يكون الأب ضامناً إذا ضربه بنفسه؟ لكن أبا حنيفة رحمه الله=

(8/173)


إلى إهلاكه، مَصيراً إلى أن المرعي مصلحته، وأوجب الضمانَ على الزوج إذا أدّب زوجتَه، وأهلكها، وقال: مطلوب الزوج أن تصلح الزوجةُ له، فإذا هلكت، ضمنها.
وهذا كلامٌ ساقط؛ فإن التأديب المهلك، لا استصلاح فيه.
5296 - ولو سلّم مالكُ العبد عبدَه إلى من يعلّمه، وسوغ له من تأديبه ما يسوغه
الشرع، فالقول في وجوب الضمان إذا أدى التأديب إلى التلف ما ذكرناه في الصبي.
ولو أذن له المالك في الضرب العنيف المخُوف، فإذا ارتسم المأمورُ رسمَه، ولم يتعدّه، فأدى إلى التلف، لم يضمنه لمالكه، وإن تعدى، وظلم؛ فإن حق المالية في رقبة العبد للمولى.
ولو أباح دمَه، لم يحلّ للمأمور بقتله أن يقتله، ولكن لو قتله، لم يضمنه.
5297 - ولو عزر السلطانُ في أمرٍ يتعلق بحق الله وأدى التعزيرُ إلى التلف، وجب الضمان. ثم في محله قولان: أحدهما - أن محلّه عاقلتُه المختصون به. والثاني - أن محله بيتُ المال. وسيأتي شرح ذلك في موضعه، إن شاء الله - ولكن إذا انتهى نظمُ كلامٍ إلى حكمٍ، فلا بد من الرمز إلى أصله، مع إحالة البيان على موضعه.
ثم إن أوجبنا الضمان على عاقلته، فالكفارةُ يختص وجوبها به، لا تحملها العاقلةُ. وإن ضربنا الغرمَ على بيت المال، ففي ضرب الكفارة عليه قولان، سيأتي ذكرهما، ومأخذ وجوب الضمان أن التعزير لحق الله تعالى يجري مجرى التأديب، وهو مشروط بالسلامة.
__________
=يقول: ضربُ الأستاذِ لمنفعة الصبي لا لمنفعة نفسه، فلا يوجب الضمان عليه إذا كان يأذن وليه، فأما ضرب الأب إياه لمنفعة نفسه؛ فإنه يغير سوء أدب ولده، فيتقيد بشرط السلامة، كضرب الزوج زوجته لما كان لمنفعة نفسه ". اهـ ..
والواقع أنه لا مناقضة في كلام أبي حنيفة رضي الله عنه، حيث علق الحكم بالمصلحة، فمن يؤدب لمصلحة نفسه كالأب والزوج يضمن، ومن يؤدب لمصلحة غيره بإذنه كالمعلم، لا يضمن. على حين علّق الآخرون الحكم بالإذن، وقد ألمع إلى هذا السرخسي رحمه الله.

(8/174)


5298 - واختلف أئمتنا في أن التعزير إذا وجب حقّاً للآدمي، فأقامه الإمام لأجله، فأدى إلى التلف مع الاحتياط في الاقتصاد، فهل يجب الضمان؟ والأصح القطعُ بوجوب الضمان، والمصيرُ إلى نفي الضمان ذهولٌ عن حقيقة مذهبنا، كما سنصفه عند خوضنا في ذكر ضابط المذهب في المسائل.
5299 - فإن قيل: من أصلكم أن سِرايةَ القصاص ليست مضمونة، وإن كان مستحقُّ القصاص (1) بالخيار في استيفاء القصاص، وليس محمولاً عليه بقهر شرعي، فما المتّبعُ في هذه المسائل؟
قلنا: قد ظن من لا يحيط بمأخذ الكلام أن المذهب مُدارٌ في النفي والإثبات على كون سبب الإتلاف مقدَّراً أو غيرَ مقدَّر، وزعم أن التعزير اقتضى الضمانَ، من حيث إنه لا يتقدّر، فالأمر فيه مفوّضٌ إلى اجتهاد المعزِّر، والقصاص في حكم الأفعال المقدّرة المحدودة، ولا اجتهاد فيها، فإذا أفضى إلى التلف، لم ينتسب المقتصُّ إلى الخطأ في الاجتهاد.
وهذا كلام غيرُ بالغٍ في مقصوده، وإن كان تحويماً على الحق (2).
5300 - والمتبع في الباب فَهْمُ الشرع على وجهه، فحيث ينهى الشرعُ عن السبب المتلِف، ويأمر بالاقتصار على ما لا يُتلف، فإذا فُرض التلف، فقد تعدّى الضارب ما رُسم له، مخطئاً، أو عامداً، فإذا أباح الشرعُ سبباً متلفاً، لم يتعلق به الضمان.
والاقتصاص من الأسباب المتلفة، ثم لا يختلف ذلك بالوجوب والإباحة، ولا يختلف بكونه مضبوطاً، أو محالاً على الاجتهادِ والنظرِ، بدليل أن من دفع صائلاً على (3) نفسه، أو ماله، فمقدار الدفع يتقيد بقدر الحاجة، وليس فيها ضبطٌ شرعي، وتقديرٌ محسوس، ثم ما يُفضي إلى تلف الصائل لا يُعقب ضماناً؛ لأن الشرع سلّط
__________
(1) (د 1): وإن كان المقتص بالخيار.
(2) في (د 1): تحويماً عليه.
(3) (د 1): عن. و (على) تأتي بمعنى (عن).

(8/175)


على القدر المتلف عند الحاجة، ثم لا يضرّ أن يكون ذلك مظنوناً؛ فإن معظم مسائل الدماء تتعلق بالظنون.
ويُخرّج على القاعدة التعزيرُ؛ فإنه لم يَثبت مُهلكاً، وإنما أُثبت أدباً يستبقي المؤدَّب، فإذا أهلك، أثبت الضمانَ.
ومن أخذ هذا من أن التعزير لا يجب، تعرّض كلامُه للانتقاض بالقصاص، ومن فرّق بين التعزير [الذي يجب لحق الله تعالى، وبين التعزير الذي يجب للآدمي، فقد اضطرب عن مأخذ هذا الأصل؛ فإن الشرع لم يثبت التعزير] (1) لحق الآدمي إلا أدباً، بمثابة تعزير الزوج زوجته. وهذا أصل جليٌّ، فليتبعه الناظر.
5301 - وإذا سلم المكري الدابة إلى المكتري، فكان المكتري يزجيها ويضربها، فهلكت، أو عابت، فإن عدّ مقتصداً، فلا ضمان.
فإن قيل: كيف يُخرّجُ هذا على الحد الذي ذكرتموه، وقتل البهيمة ممتنع شرعاً؟ قلنا: الأسباب التي أذن الشرع فيها في البهائم مهلكاتٌ، أو أسباب في الهلاك؛ فإن تحميل البعير العبء الثقيل على الاعتياد في مثله، وجَوْب البوادي عليه، على الظمأ، مع التَّزجية بالضرب المعتاد، مما لا يندر الهلاكُ منه، فالإذن فيه من المالك إذنٌ في سبب الإهلاك.
5302 - ومما يجب التنبه له في هذا المنتهى أن المتمادي في كلامه إذا قال: لا يجوز السعي في إهلاك البهيمة، رُدّ عليه قوله بما ذكرناه، وقيل له: أباح الشرعُ قتلَ كثيرٍ من البهائم لحاجة الآدميين إلى أكل لحومها، فتحميلها المشاقَّ في معنى الإذن في إهلاكها، ولكن على اقتصادٍ معتادٍ.
فإن لم يقنع السائل وقال: كيف يرضى مالك الدابة النفيسة بإهلاكها وحظه من كِراها مقدارٌ نزرٌ؟ قلنا: مثل هذه الدابة لا تتلف إلا بسَرفٍ، فلا جَرَم يجب الضمان.
والتلفُ إنما يقع في الدابة الضعيفة، أو المئوفة (2)، والإذن في تحميلها إذنٌ في سبب
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) المئوفة: شيء مئوف وزان رسول، والأصل مأووف على مفعول، لكنه استعمل على=

(8/176)


تلفها، أو تعيّبها، فقد خرج ما ذكرناه على القاعدة خروجاً بيّناً.
5303 - فإن قيل: إذا تعدى المكتري، وجاوز حدّ الحاجة، فتلفت الدابة، فقد حصل التلف بما له أن يفعله، وبما ليس له أن يفعله، فهلا قسَّطتم الضمان، وحططتم بعضَه على مقابلة ما يجوز فعله؟ وتقريب القول فيه أن ضرباتٍ معلومة لو فرض الاقتصار عليها، لعد الضارب مقتصداً، فإذا زاد، عُدَّ مجاوزاً، فقد حصل التلف بما يجوز وبما لا يجوز؟
قلنا: إن كان المكتري منفرداً باليد، فيصير بأول العدوان غاصباً، والغاصب يضمن ليده، وإن لم يصدر منه إتلافٌ.
وإن كانت الدابة في يد مالكها، وكان المكتري يزجيها، فزاد على حد الاقتصاد، فهذا موضع السؤال، فانه لا يضمن ليده، وإنما يضمن لفعله.
5304 - والذي قطع الأصحاب به وجوبُ تمام الضمان؛ والسبب فيه أن القدرَ الذي لو اقتصر عليه، لكان مقتصداً إنما يكون مأذوناً فيه من المالك بشرط الاقتصار عليه، فإذا جاوزه، فقد خرج أصل الضرب عن الإذن. فهذا بيّنٌ في فنِّه. ولكنّ الاحتمالَ متطرقٌ إليه من طريق المعنى؛ لأن الفعل المقتصد منفصلٌ عن الزائد، فكان لا يبعد في القياس التقسيطُ إذا لم يكن سببُ الضمان اليدَ، كما نبهنا عليه. وهذا بمثابة الزيادة على الجلد في الحدّ.
ولنا أن نعتصم بتأديب المؤدب، وتعزير المعزّر؛ من جهة أن الهلاك يحصل بالقدر الزائد، ثم يجب تمام الضمان.
ولم نُبد الاحتمالَ الذي ذكرناه ليكون مذهباً وإنما ذكرناه للتنبيه على وجوه الكلام.
5305 - وإذا تعدّى الأجير في فعله، وزاد على الحد المطلوب، وأتلف العين التي استؤجر لإيقاع الفعل فيها، وجب كمالُ الضمان؛ تخريجاً على هذه القاعدة. ثم الضبط في هذا القبيل يستدعي الربطَ بالخروج عن التقدير، فإذا كان كذلك، وثبت
__________
=النقص. والمئوف هو من أصابته آفة (المصباح).

(8/177)


النهي عن سبب الإتلاف، وفوّض القدر إلى المتعاطي، فلا تقسيط إذا تعدّى الحدَّ أصلاً.
هذا منتهى الكلام في غرض الفصل.
فصل
قال: " ولو اختلفا في ثوب، فقال ربُّه: أمرتك أن تقطعه قميصاً ... إلى آخره" (1).
5306 - إذا دفع مالكُ الثوب الثوبَ إلى خياطٍ ليخيطه، فخاطه قَبَاءً، ثم اختلفا، فقال صاحب الثوب: أمرتك بأن تخيطه قميصاً، وقال الخياط: بل أمرتني بأن أخيطه قَباءً، فقد حكى الشافعي من قول ابن أبي ليلى (2) أن القول قولُ الخياط، وحكى من مذهب أبي حنيفة (2) أن القول قولُ رب الثوب، ورجَّحَ مذهبَ أبي حنيفة ورآه أوقع، ثم قال: " وكلاهما مدخول "، فأشار إلى قولٍ ثالثٍ في المسألة، وقد نصّ في الأمالي على أنهما يتحالفان.
وهذا هو القول الثالث الذي أشار إليه هاهنا.
واختلف أئمتنا: فمنهم من قال: مذهب الشافعي التحالف، وما سواه حكاه مذهباً لغيره.
ومن أصحابنا من أثبت للشافعي ثلاثة أقوالٍ، وأخذ ذلك من ترجيحه مذهبَ أبي حنيفة على مذهب ابن أبي ليلى، وهذا يشر بتردده في القولين؛ فإن من يُفسد القولين لا يرجّح أحدهما على الثاني.
فليقع التعويل على طريقة الأقوال، ونحن نوجهها ونفرع عليها.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 89.
(2) ر. المبسوط: 15/ 96، وبدائع الصنائع: 4/ 219، واختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: 106، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 98 مسألة: 1779.

(8/178)


5307 - فمن قال: القولُ قول الخياط، احتج بأن أصل الإذن متفقٌ عليه، والأجير مؤتمن فيما أُمر به، وصاحب الثوب يبغي تضمينَه، والأصل براءةُ ذمته.
ومن قال: القول قول رب الثوب، احتج [بأنه] (1) الآذن، ولو أنكر أصلَ الإذن، يصدّق مع يمينه، فالقول في تفصيل الإذن قوله. والذي يوضّح الحقَّ أنه إذا ثبت الرجوع إلى قوله في أصل الإذن، فإنه ينكر أصلَ الإذن في قطعه قباءً.
[فهذا] (2) وإن سمي تفصيلاً، فهو أصلٌ متنازع فيه نفياً وإثباتاً، فليقع الرجوع إلى الآذن.
ومن قال: يتحالفان، احتج بأن سبب التحالف بين المتعاقدين الاختلافُ في المعقود عليه، وتعرُّضُ كلِّ واحدٍ منهما لكونه مدعياً من وجهٍ ومدعىً عليه من وجهٍ.
فإن نظرنا إلى المنفعة المعقود عليها، فهي على التنازع، وكل واحد مدّعىً ومدعىً عليه، فالمالك يدعي جنايةَ الخياط، ويُدّعَى عليه الإذن، والخياط يدعي إذنَ المالك ويُدّعَى عليه الجناية، ومجموع ذلك يقتضي التحالفَ؛ إذ ليس أحدهما أولى بالتصديق من الثاني.
فإذا توجهت الأقوال، فرعنا عليها.
5308 - فإن قلنا: القول قول الخياط مع يمينه، فقد قال الأصحاب: إنه يحلف بالله ما أمره بقطع الثوب قميصاً، وإنما أمره بقطعه قَباءً، فيشتمل اليمين على النفي والإثبات.
فإن قيل: هلا اقتصر على النفي؟ قلنا: نفي الأمر بقطعه قميصاً لا ينفعه في نفي الجناية، فإن نفي الجناية ادّعاها ربُّ الثوب؛ من حيث قطع الثوبَ قَباء، فلم يكن بدٌّ من التعرض لنفي. ذلك، وسبيل نفي الجناية إثباتُ الإذن، فإن كان لهذا إشكال، فهو من إشكال القول، وإلا، [فلا] (3) طريق في تفريعه- غيرُه إذا اعتمد أصله. ثم من
__________
(1) في الأصل: بأن.
(2) في الأصل: هذا.
(3) في الأصل: فطريق في تفريعه غيره.

(8/179)


حكم يمينه أنه لا يغرم لرب الثوب أرشَ النقصان.
5309 - ويقع النظر وراء ذلك في استحقاق الأجرة.
وقد اضطرب طريق الأصحاب فيه، فالذي صرح به شيخي -وهو مقتضى ما ذكره الصيدلاني وغيرُه- ذكرُ الاختلاف في أنه هل يستحق الأجرة المسماة إذا حلف؟
وقال العراقيون: لا يستحق الأجرة المسماة وجهاً واحداً، وهل يستحق أجرَ مثل عمله؟ فعلى وجهين، فنوجه الخلافَ في استحقاق الأجرة، ثم نبين ما صار إليه العراقيون من الفرق بين الأجرة المسماة وأجرة المثل.
فالتوجيه في الأصل: من قال: لا يستحق الأجرةَ، قال: يكفيه أن تنفي يمينُه الغرمَ عن نفسه، فأما أن يُتوصل بها إلى استحقاق ما يدّعيه، فهو بعيد عن [نظم] (1) الخصومة.
ومن قال: إنه يستحق الأجرَ، احتج بأن أصلَ الأجرة متفق عليه، وإنما الكلام في تعيين العمل، وبينهما عملان يتنازعان فيهما، ومن ضرورة انتفاء الغُرْم عن الأجير ثبوتُ الإذن في العمل الذي صدر منه. فإذا ثبت كونه مأذوناً فيه، وقد تقرر أن العمل المأذون فيه مقابَلٌ بالأجرة، فتثبت الأجرة.
5310 - هذا أصل التوجيه. والذي صار إليه العراقيون من الفرق بين المسمى وأجرة المثل مُنقدح؛ فإن الأجرة المسماةَ قد تزيد على أجرة المثل، فثباتها بقولِ من يدّعيها بعيدٌ، [ويبعد أن يحبَطَ تعبُ العامل] (2) إذا ثبت كونُه مأذوناً فيه، فالإنصاف أن ألا يزيد على أجر المثل.
ومن يُثبت الأجرةَ المسماةَ يقول: سبب ثبوت الأجرة أنها متفقٌ عليها ذكراً، وقد انتفى العدوان بيمينه، وتعيّن بانتفائه وقوعُ الفعل مأذوناً فيه، ومساق ذلك يُثبت الأجرة المسماةَ، إن كنا نرى إثبات الأجرة.
__________
(1) في الأصل: تعلّم.
(2) في الأصل: ولا يمتنع ألا يحبط تعب العامل.

(8/180)


ومما يجري في [خلل] (1) الكلام، أن من أثبت أجرة المثل؛ فإنه يقول لا محالة: إن كانت المسماة أقلَّ منها، فليس للخياط إلا الأجرةُ المسماة؛ فإنه ليس يدّعي أكثر منها، فيستحيل أن يستحق أكثر من المدَّعَى.
التفريع على ما ذكرناه في الأجرة:
5311 - فإن حكمنا باستحقاقها، فلا كلام، واستقلت يمين الخياط بنفي الغُرم، وإثبات الأجرة.
وإن قلنا: لا يستحق الأجرةَ، فله أن يعرض اليمين في طلب الأجرة على رب
الثوب، فإن حلف رب الثوب، انتفت الأجرة في ظاهر الحكم، وإن نكل، فقد اختلف مسلك الأئمة: فذهب بعضهم إلى أنا نثُبت الأجرةَ الآن باليمين السابقة الصادرة من الخياط؛ فإنها اشتملت على النفي والإثبات، ولكنا لم نثبت بها مالاً للحالف، حِذاراً من إثبات المدعَى بيمين المدعي ابتداءً، فإذا تبيّن آخراً نكولُ رب الثوب، وقع الاكتفاء بما تقدّم، فإنا لو أعدنا تحليفه، لم نزد على تحليفه على إثبات الإذن، وقد تقدّم هذا، فلا معنى لإعادته، فهذه يمينُ ردٍّ اقتضى ترتيبُ الخصومة تقدُّمَها، ولكنها لا تقع الموقع في استحقاق الأجرة، حتى يتبين نكولُ رب الثوب عن اليمين.
هذا مسلك متجه، فإن كان فيه إشكالٌ، فلا إشكال القول (2) لا بخلل التفريع، ولكن تصديق الخياط يجر هذا.
5312 - وهذا [هو] (3) الذي ارتضاه القاضي في التفريع. وذهب ذاهبون إلى أنا إذا لم نثبت الأجرة بمجرد يمين الخياط ابتداءً، فيقتصر على درء الغرم عنه، وخروجه عن العدوان. فإن أراد الأجرةَ، فينبغي أن يبتدىء دعوى فيها، ولا نظر إلى ما تقدم، ثم حكم الدعوى التي يبتديها عرضُ اليمين على رب الثوب، فإن نكل، رددنا اليمينَ على المدعي، وحلّفناه، ولا نظر إلى ما تقدّم.
__________
(1) في الأصل: ذلك الكلام.
(2) (د 1): الوجه. والعبارة غير مستقيمة في النسختين، ولعل بها سقطاً، أو تصحيفاً. ولعلها: "فالإشكال في القول، والخلل في التفريع" والله أعلم.
(3) مزيدة من (د 1).

(8/181)


وهذا قياس الخصومات، وقد يفرض في خصومةٍ ذاتِ أطراف نكولٌ عن يمينٍ في جانب مع الإقدام عليها في جانب آخر، فإذا تميزت الخصومة عن الخصومة، وجب أن نُوفِّر على الخصومة الأخيرة حقَّها، وترتيبَها. وهذا حسنٌ منقاس.
وكل ذلك تفريع على قولنا بتصديق الخياط.
5313 - وإن قلنا: القول قولُ ربّ الثوب مع يمينه، فيحلف بالله ما أمره بقطعه قَباءً، وتنتفي الأجرة عنه بيمينه.
ثم اتفق الأصحاب على أن الخياط يضمن، ولم يختلفوا في أصل الضمان، وهذا في الترتيب قد يناظر الأجرة في التفريع على القول [الأول] (1).
ثم ثبوت الأجرة مختلف فيه، وثبوت الضمان في التفريع على تصديق المالك غيرُ مختلف فيه، والسبب أن رب الثوب بيمينه يهجم على إثبات عدوانه؛ فإن الإذن إذا انتفى، ثبت العدوان، فإذا كان العدوان يثبت بالنفي وهو متضمَّنُ اليمين في قياس الخصومة، والأجرة لا تثبت إلا بتقدير إثبات، فكان الافتراق لذلك.
5314 - ثم إذا ثبت الضمان على الخياط، ففي قدره قولان: أحد القولين- أنه يجب ما بين القطعين، وبيانه أن الثوب لو كان يساوي عشرةً، غيرَ مقطوع، وكان يساوي القميص تسعة، والقَباء ثمانية، فالتفاوت بين القطعين دينار؛ فهو الواجب في قولٍ.
والقول الثاني - أنه يجب ما بين قيمة الثوب غيرَ مقطوع وبين كونه قَباء، وهو ديناران.
توجيه القولين: من أوجب الدينارين، احتج بأنه إذا لم يكن القطع مأذوناً فيه، فهو عدوان، ومن اعتدى، فقطع ثوباً قباءً، التزم كمالَ النقصان.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن قال: أصل القطع مأذون فيه، وفي تقرير هذا لطف، فقطع الثوب بنصفين مثلاً يليق بتفصيله قميصاً، وهذا القدر يقع مأذوناً فيه،
__________
(1) مزيدة من (د 1).

(8/182)


والعدوان في الزيادة، فإن من يبغي القَباء يَزيد بعد هذا القطع قطعاً، وذلك هو المضمَّنُ، وهذا يتضمن تضمينه ما بين القطعين.
5315 - وبنى الأئمة هذين القولين على أن الوكيل بالبيع إذا باع بغبن فاحش، وفاتت العين، فماذا يضمن؟ وفيه قولان -نص عليهما في الرهن اللطيف (1): أحد القولين- أنه يضمن كمال قيمة العين، والقول الثاني - أنه يغرَم المقدارَ الذي لو باع به، لنفذ، ويُحطّ عنه ما يتغابن الناس بمثله. وقد ذكرنا حقيقة هذين القولين. ووجْهُ بناء القولين في مقدار الضمان في مسألتنا على هذا ظاهرٌ من طريق اللفظ.
ولست أوثر هذا البناء؛ فإن مَن يوجب ما بين القطعين يأخذ مذهبه ممّا أشرت إليه، من جريان ابتداء القطع على حسب الإذن، كما ذكرته. وإذا كان مأخذ تعليل الضمان هذا، فلا مناسبة بين هذا الأصل، وبين ما ذكرناه في الوكيل.
5316 - وأنا أقول: لو كان القطع المنفي باليمين على وجهٍ لا يترتب شيء منه على جنس القطع المأمور به، فيجب القطعُ بإيجاب تمام الضمان، وإنما يختص القولان بالصورة التي ذكرناها، وهي أن يجري ابتداء القطع على حسب الإذن، ثم يترتب عليه قطعٌ يخالف الإذنَ، ثم الأصح في صورة القولين إثباتُ تمام الضمان؛ فإن بعض الإذن لا ينفع مع العدوان. ولهذا قلنا: إذا تعدى القصار، وزاد في الدّق، ضمن التمامَ وإن كان بعضُ الدقات مأذوناً فيه.
5317 - وإن قلنا: إنهما يتحالفان، فيترتب على جريان التحالف سقوطُ الأجرة؛ فإن من ضرورة التحالف انتفاء الإذن، وانقطاعُ العقد، وهذا يقتضي سقوط الأجرة.
ثم ذكر العراقيون في التفريع على قول التحالف قولين للشافعي منصوصين، في أن الخياط هل يضمن؟ أحدهما - أنه لا يضمن؛ فإن الذي يقتضيه الإنصاف أن تسقط الأجرة ويسقط بإزائها الضمان، وبهذا يحصل الاعتدال في الجانبين.
__________
(1) (الرهن اللطيف) عنوان ضمن كتاب الرهن في كتاب الأم، وهو بلفظ (الرهن الصغير) وتحته اختصار وزيادات لكتاب الرهن.

(8/183)


والقول الثاني - أن الضمان يثبت؛ لأن المتعاقدَيْن إنما يتبارآن إذا رجع كلٌّ إلى ما كان عليه قبل العقد، وصاحب الثوب يقول: هذا الثوب رددتموه عليَّ مقطعاً على خلاف إذني، وقد انتفى العقد، فضمّنوه لي. وهذا القول مشكلٌ؛ من جهة أنه يضاهي [تصديقنا] (1) صاحبَ الثوب، ويسقط أثر تحليفنا الخياط، ولو قدّرناه ناكلاً عن اليمين، لما لزمه إلا هذا، واليمين التي لا تجرّ نفعاً، ولا تفيد دفعاً لا معنى فيها.
وسبب جريان هذا القول ضعفٌ في (2) أصل التحالف؛ فإن ملك الإنسان إذا غُيّر عليه والقول قوله في نفي الإذن فيه، فالتحالف يبعدُ في هذه الصورة، فإذا قيل به، ثم رجع في عاقبته إلى إبطال أثر التحالف، كان تناقضاً، ولا (3) يستدّ على القول بالتحالف إلا سقوطُ الغُرم، في مقابلة سقوط الأجرة.
5318 - ومما يتعلق بتمام البيان في المسألة أن الخياط إذا أسقطنا أجرتَه، لو قال: كانت الخيوط لي، وأنا أنزعها؛ [فإنها تبعت عملي الموجب للأجرة] (4)، فإذا كانت الخيوط له، فله نزعها إذا كانت متقوّمة منتفعاً بها بعد النزع.
ثم قال الأصحاب: إذا نزعها، يغرَم ما دخل الثوبَ من النقص بسبب نزع الخيوط، كما إذا صبغ ثوبَ الغير بصبغ من عنده، ثم نزع الصبغ، فإنه يضمن لمالك الثوب أرشَ النقص، الذي يلحقه بسبب نزع الصبغ، كما قدمنا تقريره.
وهذا يستدعي مزيد نظر، فإن قلنا: لا يجب الضمان على الأجير، تفريعاً على قول التحالف، فإذا نزع، فقد أحدث نقصاً؛ [إذ] (5) ردَّ الثوب قِطَعاً؛ فيغرم ما بين الثوب مخيطاً، [وبين] (6) القِطَع.
وإن قلنا: إنه يضمن نقصان القطع في الأصل، فقد ضمّناه أرشَ نقصان التقطيع
__________
(1) في الأصل: تصديقاً.
(2) (د 1): ضعف أصل التحالف.
(3) (د 1): فلا.
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(5) في الأصل: إن.
(6) في الأصل: أو بين.

(8/184)


مرة، فيبعد أن يضمنه مرة أخرى، ولكن إن حدث بسبب نزع الخيط مداخلُ الإبر، وكانت انسدت بالخيوط، وقد يُحدث النزعُ خرقاً في موضع الخيط، فهذا يضمنه، فأما تضمينه الزيادة، وقد ضمّناه مرة؛ فإنه يتضمن تضعيف الضمان.
والذي ذكره الأصحاب ظاهرٌ في إيجاب الضمان عليه مرة أخرى، لتفصيله للثوب بعدما نظمه (1)، وهذا غير سديد؛ فإنه لا معنى لضمّه إلا وصل الخيوط به، فإذا جوزنا نزع الخيوط، عادَ الأمرُ إلى ما كان عليه.
هذا منتهى الكلام في الفصل.
فصل
قال: " ولو اكترى دابة، فحبسها ... إلى آخره " (2).
5319 - إذا اكترى دابة، وقبضها، فالإجارة لا تخلو إما أن تكون معقودةً على مدة، وإما أن تكون معقودة على منفعة معلومة.
فإن كانت معقودة على مدة، فإذا حبسها حتى انقضت المدة، ولم ينتفع بها، استقرت الأجرة، وانتهى العقد، ووجب ردُّ الدابة.
ولو وردت الإجارة على منفعة معلومةٍ، ولم يقع التعرض للمدّة، فمضى في يد المستأجر من الزمان ما يسع استيفاءَ تلك المنفعة، استقرت الأجرة، وانتهت الإجارة، وقد قدمنا ذلك.
5320 - ثم قال الأئمة: لو تلفت الدابة في يد المستأجر في المدة المضروبة، أو
في مدة العمل الموصوف، بآفة سماوية، فلا ضمان على المكتري؛ فإن يده يدُ أمانة، والأمانةُ لا تختلُّ بتركه حظَّ نفسه في الانتفاع، وإذا كان الزمان محسوباً عليه، فترك الانتفاع ترفيهٌ للدابة. نعم لو ربطها في إصطبلٍ، فانهدم الإصطبل عليها، من
__________
(1) كذا، ولعلها: بعد ما قطّعه. أو لعلّ نظمه في لغة السوق في ذلك العصر تعني (فصّله). أي قطعه إعداداً للخياطة.
(2) ر. المختصر: 3/ 91.

(8/185)


غير انتسابه إلى تقصير، بأن اتفقت رجفة ورجّة، تهدَّم السقف لها، فقد قال الأئمة: يجب الضمان، وإن كنا نقول: لو كانت الدابة مودعة عنده، وربطها في المحل الذي وصفناه، فاتفق انهدام السقف، فلا ضمان.
والسبب في إيجاب الضمان في مسألتنا أنه لو كان راكبها وسائراً عليها، لما كانت ربيطةً تحت سقفٍ، فإن ربطها، وكان ذلك سببَ الهلاك، أوجب الضمانَ؛ فإن التلف حصل بسببٍ يخالف مضمون [العقد] (1).
وسيأتي تقرير ذلك في كتاب الوديعة إن شاء الله، عند ذكرنا مخالفة المودَع المالك في جهة الحفظ.
5321 - ولو ربط الدابة في إصطبل، كما ذكرناه، فماتت بآفة لا تتعلق بالإصطبل، فلا ضمان، فنفس الربط ليس عدواناً، ولكنه يجر ضماناً من الجهة التي ذكرناها، فهذا ربط على شرط السلامة من آفة الربط في الإصطبل.
وتمام البيان في هذا محال على الوديعة.
5322 - ثم قال الشافعي: إذا انقضت المدة، فحبس الدابة بعد انتهاء المدة، ضمنها.
وهذا مما اضطرب الأصحاب فيه، فقال المراوزة: لا يجب على المستأجر ردُّ العين المستأجرة. نعم لا يمنع المالك من استردادها، وسبيله فيها كسبيل المودَع. ثم ليس على المودَع ردُّ الوديعة، ولكن إن أرادها المالك، لم يحل بينه وبينها، ومكّنه من أخذها، فقول الشافعي: " ضمنها " عند هؤلاء محمولٌ على ما إذا طولب بالتمكين من الاسترداد فأبى.
5323 - ومن أصحابنا من قال: إذا انقضت المدة، دخلت الدابة في ضمان المستأجر، وهؤلاء ذهبوا إلى أنه يجب عليه ردُّ العين، والتزام (2) مؤنة الرد. وهذا الوجه ذكره العراقيون، وصاحب التقريب.
__________
(1) في الأصل: مضمون ذلك.
(2) (د 1): ويلزمه مؤنة الرد.

(8/186)


ثم فرع صاحب التقريب وقال: لو اكترى دابة وشرط أن يردّها إلى بلد المكري من منتهى سفره، لزمه الرد.
وإن كان العقد مطلقاً، فإن كان المالك مع الدابة، هان ردُّها عليه في منتهى السفر، وإن لم يكن رب الدابة معها، فعليه أن يردها إلى بلده جرياً على وجوب الرد.
والمراوزة يقولون: لا يلزم الرد، ولكن إذا انتهى السفر، فالمستأجر في العين المستأجرة كالمودَع إذا أراد سفراً، وسبيله إذا أراد ذلك أن يسلّم العين إلى الحاكم، وفيه تفصيل سيأتي في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل.
وهؤلاء يقولون: لو شرط الردَّ على المستأجر، كان شرطاً باطلاً، مفسداً للإجارة.
5324 - فخرج من مجموع ما ذكرناه اختلافُ الأصحاب في أن الإجارة إذا انتهت، فيد المستأجر يدُ ضمان أم لا؟ وعليه يترتب مؤنةُ الرد، أو على مؤنة الرد يترتب الضمان. وهما كالقضية الواحدة؛ فإن ضمان العين نتيجة ضمان الرد، كما قررناه في العواري.
وطريقة المراوزة أمثل، ويبعد كل البعد أن يقال: إذا انقضت المدة، وهمَّ المستأجر بالرد، فتلفت العين في يده من غير تقصيره، يجب الضمان عليه. ومن أوجبه طردَ القياس في إثبات الضمان وألحق العينَ بعد الإجارة بالمستعار، والمأخوذِ سَوْماً.
ولا يمتنع عندنا أن يفصل الفاصل بين ألا يرد ويحبس، وبين أن يسعى في الرد غيرَ مقصّر. ولفظ الشافعي -إن كان الأخذُ منه- يتضمن هذا، فإنه قال: " ولو حبسها بعد انتهاء المدة، ضمنها ". فخصص الضمان بالحبس.
5325 - وذكر القاضي مسألةً لها اتصالٌ بما نحن فيه، فقال: إذا دفع الرجل بضاعةً إلى إنسان، فالتمس منه أن يحملها إلى بلد،، ويشتري له جاريةً، ففعل، فلا يلزمه نقلُ الجارية، بل يتركها؛ لأنه متبرع في عمله، وقد فعل ما أُمر به. وهذا الذي ذكره قياسٌ، لا شك فيه، والجارية التي يقبضها وتحصُل في يده، في حكم وديعةٍ وهو في

(8/187)


تركها مسافر عن الوديعة. ثم في المسافرة عن الوديعة تفصيلٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله.
ولا يمتنع أن يقول القائل: إذا [قبض البضاعة] (1) التزم ردَّ الجارية إليه. وإنما سمحت نفسُ صاحب البضاعة بتغييبها حتى يرد الجارية إليه. [و] (2) هذا له ظهورٌ في حكم العرف. ولكن الأصل ما ذكره القاضي، ثم لا نفصل بين أن يلتزم ردّها، ثم يبدو له، وبين أن يجري الإبضاعُ مطلقاً؛ فإن من التزم ردّ مال إنسان، ولم يُستأجر عليه، لم يلزمه الوفاء به.
فصل
نجمع فيه تفاصيلَ ما على المكري في عمارة الدار المكراة
5326 - فالوجه أن نرسل عبارات الأصحاب في الغرض المقصود، ثم نبحث عن الحقيقة. قالوا رضي الله عنهم: إذا انكسر جذعٌ من الجذوع، وأمكن إصلاحه من غير إبدالٍ، فذلك على المكري، وإذا استرمّ جدارٌ، فمال، فإقامته على المكري.
وإن مست الحاجة في العمارة إلى الإتيان بجذعٍ جديدٍ، فقد ذكر شيخي وجهين: أحدهما - أن على المكري ذلك. والثاني - ليس عليه الإتيان بجذعٍ جديد، وهو الذي قطع به معظمُ الأئمة.
توجيه الوجهين: من قال: لا يجب الإتيان بجذعٍ، قال: إن كانت الإجارة متعلقةً بما انكسر، فقد فات محل الإجارة، فلا يجب إبداله، كما لو أجر جذعاً، فانكسر، لم يلزم الإبدال.
ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الجذع كان في حكم الصفة للدار، والإتيان بجذعٍ جديد في حكم تغيير (3) الصفة، وليس كما لو كان الجذع مخصوصاً بالإجارة
__________
(1) المثبت من (د 1). وعبارة الأصل: " إذا التزم ذلك، ردّ الجارية ".
(2) زيادة من المحقق للإيضاح فقط، وإلا فالعبارة صحيحة مستقيمة، وإن كان هذا الأسلوب غير مألوف.
(3) تغيير الصفة: أي إعادة صفة الدار إلى ما كانت عليه، كما سيشير إليه، فيما يأتي قريباً.

(8/188)


مقصوداً فيها. وهذا الخلاف نازع إلى تردد الأصحاب في أن أجزاء البنيان هل توصف بكونها معقوداً عليها؟ أم هي كالصفات بمثابة أطراف العبد؟ وفيه تردد ظاهر قدمناه.
5327 - ومما نرى تقديمه في صدر الفصل أن العمارة التي أطلقنا القولَ بوجوبها على المكري، كإصلاح الجذع المنكسر، وإقامة الجدار المائل، مما تمارى الأصحاب فيه، فالذي ذكره العراقيون أنه لا يجب في التحقيق، ولكن إن فعلها المكري، استمرت الإجارة، وإن امتنع تخير المكتري. وهذا مذهب أبي حنيفة (1).
ووجه هذا أن الإجارة وردت على عين الدار، فإيجاب إحداثِ فعل فيها إيجابُ زائدٍ، لا تقتضيه الإجارة بلفظها. نعم، يثبت الخيار؛ إذ الدار لو انهدمت، لانفسخت الإجارة، فإذا كان العقد ينفسخ بالتلف، يثبت التخير فيه [بالتعيُّب] (2).
5328 - وذكر شيخي والقاضي ما يدلّ على أن العمارة تجب، على التفصيل الذي ذكرناه. وهذا متجه، من جهة أن توفية المنافع لا تتأتى إلا بمرمة الدار إذا هي [استرمت] (3)، وبناء مذهبنا على أن المنافع مستحقة على المكري، ولا يتجه في الحكم بانفساخ الإجارة إذا انهدمت الدار في يد المكتري إلا أن يقال: يد المكتري وإن ثبتت، وسلّطته على التصرف بالإجارة، ففي العين عُلقةٌ متعلقة بالمكري، وهي وجوب توفية المنافع عليه، فإذا كنا لا نوجب عليه العمارة، فلا يبقى لإيجاب توفية المنافع على المكري [معنى] (4) سديد.
فقد حصلنا إذاً على طريقين للأصحاب أثبتناهما عنهم على ثبتٍ وثقة.
5329 - ولو استأجر داراً، ولم يكن على بعض مداخلها بابٌ، أو لم يكن على مجرى مائها مزراب، فإذا اطلع المكتري على ذلك، وكان ما رآه مؤثراً في تنقيص
__________
(1) ر. المبسوط: 15/ 144، وحاشية ابن عابدين: 5/ 49، ومختصر اختلاف العلماء: 4/ 134 مسألة: 1833.
(2) في الأصل: بالتعصب. وهو تصحيف طريف.
(3) في الأصل: استرجت.
(4) في الأصل: نعنى.

(8/189)


المنفعة، فلا نوجب على المكري في هذه الحالة تعليقَ بابٍ، ولا نصبَ مزراب؛ فإنا لو ألزمناه ذلك، كنا موجبين عليه إحداث ما لم يكن ثابتاً حالةَ العقد، ولكن للمكتري الخيار في الفسخ والإجازة.
5330 - ولو انكسر جذعٌ، وكان الاكتفاء يقع بأن يُدعم بدِعامة، فقد اختلف الأئمة في هذه المسألة، فذهب معظمهم إلى أن هذا يلتحق بإصلاح الجذع من غير مزيد، وإقامة الجدار المائل؛ فإن الدعامة وإن لم يكن منها بد، وهي زائدة لم تكن، فإنها ليست جزءاً من الدار، وإنما هي مستعارة.
وفي كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن هذا بمثابة إحداث جذع جديد؛ فإن الدعامة جديدة، وقد شغلها بالعمارة، وإذا تحقق شغلها، وهي لم تكن، فلا أثر وراء ذلك لكونها جزءاً من الدار، أو خروجها عن أجزاء الدار. وفي المسألة احتمال.
5331 - ومما يتعلق بذلك أن كنس الدار مما لا يجب على المكري، وليس هذا معدوداً من عمارة الدار، وإنما هو من تنقية الساكن مسكنه إن أراد تنقيته، ولا تؤثر في المنافع المقصودة.
5332 - واختلف أئمتنا في تنقية البالوعة إذا امتلأت، فمنهم من قال: هي على المكري. ومنهم من قال: ليست على المكري؛ فإن ما يتجمع فيها يضاهي ما يتجمع في الدار من الكناسات، وفضلات الأطعمة ونَفْض الموائد، وقشور البطيخ، ونحوها.
ومنهم من قال: هي ملتحقة بعمارة الدار؛ فإن الكناسات ليس لها ضبط، فقد تكون، وقد لا تكون، والعادة جارية بأن السكان يتولَّوْن طرحَها وإلقاءها، وتنقيةُ البالوعة من الرواتب التي تقع لا محالة، فإذا امتلأت البالوعة، تعذّر الانتفاع، فوجب إلحاقُها بالعمارات.
5333 - فأما كسحُ الثلوج، فالقول فيه منقسمٌ إلى كسح عَرْصة الدار، وإلى كسح السطوح. فأما كسح العرصة، فإن كان الواقع فيه من الثلج لا يمنع كن الانتفاع، لقلّته وخفته، فهو ملتحق بكنس الدار من الغبار، وإن كثف الثلج، وكثر، وامتنع التردد

(8/190)


في الدار بسببه، فظاهر المذهب أنه يلتحق بالكنس، ولا يمتنع التحاقه بتنقية البالوعة.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على المسلكين جميعاً، وهو لكثرته [يجانب] (1) الغبار المعتاد الذي يكنس، ويخالف امتلاء البالوعة، من حيث إن ذلك يقع على اعتياد، بخلاف الثلج.
5334 - فأما الثلج على السطوح، فلا يجب على المكتري كسحُه؛ فإن كان يضر بالسقوف إضراراً مؤثراً في الانتفاع، فكسحه بمثابة إقامة الجدار المائل، وإصلاح الجذع. ثم يعود ما قدمناه من التفصيل في أن ذلك يجب على المكري، حتى يطالَب به أم لا يجب؟ فإن أوجبناه، فلا كلام. وإن لم نوجبه، فما لم يظهر نقصٌ مؤثر في الانتفاع، لا يثبت الخيار للمكتري.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب كسحُ الثلج على المكري، وإن أوجبنا عليه العمارة؛ فإن العمارةَ تغييرٌ في [صفة] (2) الدار، وردّها إلى ما كانت عليه، وكسح الثلج ليس بهذه المثابة.
5335 - وإن انتهت الإجارة، وانقضت، فلا يجب على المكتري تنظيفُ البالوعة التي امتلأت في زمان الإجارة، ليردّها منظَّفة كما قبضها، هذا لا يجب وفاقاً على المكتري، وإن ترددنا في أنه هل يجب على المكري تنقية البالوعة في أثناء المدة.
5336 - ومما يجب التنبه له أنا إذا لم نوجب التنقيةَ في أثناء المدة، فلو امتنع الانتفاع بالدار بسبب امتلاء البالوعة، والتفريع على أنه لا يجب على المكري التنقيةُ، فهل يثبت خيار الفسخ للمكتري؟
اضطرب (3) أئمتنا، فذهب الأكثرون إلى أنه لا خيار له، ولكنا نقول له: إن أردت الانتفاع فنقِّ البالوعةَ، كما تنقي الدارَ من الكناسة. وهذا هو الظاهر.
وأبعد بعض أصحابنا، فأثبت للمكتري التخيّر، وهذا التردد إنما يحسن إذا كنا
__________
(1) في الأصل: بجانب. وفي (د 1): بدون نقط.
(2) في الأصل: وصف.
(3) (د 1): اختلف.

(8/191)


نوجب العمارة على المكري، ونوجِّهُ عليه الطَّلِبة بها، فنقول هاهنا: لا يجب عليه التنقية، ولكن [للمكتري] (1) الخيار.
5337 - ويظهر أثر ما ذكرناه بمسألة، وهي أن الإجارة إذا انتهت، وقد تجمعت كناسةٌ في الدار، فقد قال الأصحاب: على المكتري نقلُها، وتسليمُ الدار فارغةً منها، ولم يوجبوا تنقيةَ البالوعة، فكذلك لا يوجبونها في أثناء المدة، ويقولون: إذا عسر الانتفاع، ثبت الخيار، بخلاف ما لو عسر باجتماع الكناسة. والكناسةُ التي أطلقناها عَنَيْنا بها، ما يُلقيها المكتري من قشور، ونَفْض طعام، وأما ما يقع في الدار من ترابٍ بسبب هبوب الرياح، فلا يجب على المكتري نقلُه، وتنقيةُ الدار منه أصلاً؛ فإن هذا لم يحدث بفعله، وسببِه، وهو -إن كان ثقل- ينزل منزلة الثلج، الذي يقع، في أنه لا يجب على المكتري تنقيتُه.
5338 - ولو اغتصب مغتصب الدارَ من يدي المكتري في أثناء المدة، فالذي [أطلقه] (2) معظم الأئمة أنه لا يجب على المكري تخليصُها من يد الغاصب، وإن اقتدر عليه. وفي كلام بعض المحققين ما يدل على أنه يجب عليه التخليص؛ لتمكين المكتري من الانتفاع. وهذا يتفرع على مذهب من يرى إيجابَ العمارة، التي يحصل بها التمكّنُ من الانتفاع.
5339 - وإذا اكترى الرجل حماماً، فتنقية الأتّون عن الرماد على المكتري؛ فإنه بمثابة الكناسة التي تجتمع في الدار المكتراة، بإلقاء المكتري إياها؛ إذ الرماد من أثر وقود الأتّون، فإذا انتهت الإجارةُ، فعلى المكتري نقلُ ذلك، كما ذكرنا في كناسة الدار.
ولا يجب على المكتري تنظيفُ مستنقع الماء، كما لا يجب عليه تنظيف البالوعة، وهذا فيه إذا انتهت الإجارة نهايتَها.
وهل يجب في أثناء المدة تنقية المستنقع، ومجتمع فضلات الماء؟ فعلى وجهين، كالوجهين في تنقية البالوعة في الدار، فلا فرق. والذي اختاره الأئمة في المسألتين أنهما على المكتري.
__________
(1) في الأصل: المكري.
(2) في الأصل: أطلق.

(8/192)


5340 - ثم إذا اكترى حماماً، فالذي يجب على المكري أن يسلّمه [مع] (1) الأبواب؛ فإنها (2) بمثابة الأبواب المُحكمة (3)، وإن كان يسهل نقلها، فأما الأرز (4) العتيدة، والطاسات والحبل، والدَّلو، فلا يدخل شيء منها في إجارة الحمام.
وإذا اشترطنا في إجارة الأعيان رؤيةَ العين المستأجرة، فلا بد من رؤية مواضعَ من الحمام، وما يتصل بها، إحداها [البيوت] (5) وبئر الماء، والقِدر، ومطرح الرّماد، ومبسط القماش، والوقود والأتون، والموضع الذي تجتمع فيه فضلات الماء، وعلى مشتري الحمّام أن يراها، إذا اشترطنا رؤيةَ المبيع.
5341 - وإذا اكترى الرجل داراً، فعلى مكريها تسليمُ المفتاح إلى المكتري؛ فإن منعه منه، انفسخ الكراء في زمان المنع، هكذا قال الأصحاب، وإن كان يتأتى من المكتري قلعُ الباب، أو قلعُ الأغلاق، أو العلوّ (6) في السطح، فمنع المفتاح منعٌ من المكرى.
ولو سلّم إليه المفتاحَ، فضاع في يده، أبدله المكري بغيره. ثم قال الأئمة: لا يجبر المكري على الإبدال، وإنما يُجبر ابتداءً على بذل المفتاح؛ فإن البذل الأول هو ابتداء التسليم، وابتداء التسليم واجبٌ على المكري، والإبدال بعد التسليم الأول في حكم الامتناع الطارىء.
وألحق الأئمة إبدال المفتاح، بإبدال جذع ينكسر في الدار، والحاجة ماسة في توفية المنافع إلى الإتيان بجذعٍ جديد، غيرِ الذي انكسر. ثم ينبني على ذلك أن
__________
(1) زيادة من (د 1).
(2) عبارة (د 1): فإنها الأبواب المحكمة، إن كان يسهل نقلها.
(3) والمعنى المفهوم من السياق أن للحمامات أبواباً غير ثابتة تتميز بها عن أبواب الدار، ويُرَاد بها -فيما نقدِّر- مزيد السَّتر، وأظنها تشبه الحواجز المتنقلة التي تفصل بعض الناس عن بعض في الصالات والفناءات الواسعة.
(4) في الأصل: الأزر. والأرز هو الصاروج، وهو النُّورة وأخلاطها، وهو مسحوق يستخدم في التنظيف، وإزالة الشعر (طلبة الطلبة للنسفي: 259، والمصباح، والمعجم).
(5) في الأصل: الثبوت.
(6) (د 1): أو التسلق.

(8/193)


المكري إذا لم يُبدل، فللمكتري الخيار، كنظيره في الجذع.
5342 - وإذا اكترى الرجل طاحونة، فعلى المكري [مع] (1) تسليم البيت تسليمُ الآلات العتيدة، كحجرِ الرَّحا، والآلةِ المعلّقة فوق الرّحا، التي هي مجتمع الحب، والقطبِ، وما عليه مداره من أسفل في رحا الماء؛ فإن العادة مطردة بتسليم هذه الأشياء، وإن كان يسهل نقلُها، فهي بجملتها معدودة من الطاحونة، على اعتيادٍ مطرد.
والقول في بيع الطاحونة كالقول في إجارتها، وقد ذكرنا في كتاب البيع تردداً في أن مطلق البيع في الدار هل يستتبع ما فيها من رحاً مثبتٍ، وليس ذلك مما نحن فيه؛ فإن متعلّق العقد اسمُ الدار، ومتعلّقُ العقد فيما ذكرناه اسمُ الطاحونة، وهذا الاسم يستدعي هذه الأشياء.
وذكر الأئمة نقولاً جاريةً لقواعدَ في الإجارة، ونحن نأتي بها مستقصاة، إن شاء الله عز وجل.
فصل
5343 - إذا اكترى الرجل داراً بعشرين ديناراً، وشرط المكتري على المكري أن يصرف مالَ الكراء إلى عمارة الدار، فالكراء فاسد، وعلّة الفساد الاحتكام على المكري في صرف عين الكراء إلى العمارة، ولفظ الشافعي في ذلك الكراهية، فإنه قال: " لو اكترى داراً، وشرط أن يُنفق الكراءَ على الدار، كرهتُ ذلك " وأجمع الأصحاب على حمل الكراهية من لفظ الشافعي على التحريم.
ولو وقع العقد بكراءٍ معلوم، وشرط المكري على المكتري أن يعمّر الدارَ بها، فهذا فاسد مفسدٌ أيضاًًً؛ من جهة أن قيامَ المكتري بالعمارة عملٌ منه مجهولٌ، واشتراط عمله مضموماً إلى الأجرة، يتضمن جهالةً بيّنة في العِوض.
ولو جرت الإجارة مطلقة عرية عن الشرط، ثم إن المكري وكّل المكتري ابتداءً بأن يصرف ما عليه من الأجرة إلى عمارة الدار، فهذا جائزٌ لا منع فيه.
__________
(1) زيادة من (د 1).

(8/194)


فصل
5344 - إذا استأجر من يحفر بئراً، ولم يتعرّض لذكر المدة، ولا بد من تبيين محلّ الحفر، وذكر عرْضِ البئر وعمقها، فإذا وقع الاستئجار على هذا الوجه، فأخذ الأجير في الاحتفار، فكل ما يحتفره، فهو جزء من عمله، واقعٌ [مسلّم] (1)، وأثر ذلك أنه لو شرط على الأجير احتفارَ عشرين ذراعاً في عرض ذراعين، فإذا احتفر عشرة أذرعٍ ثم انهارت البئر، فانطمست، فالأجير يستحق من المسمى مقدارَ عمله.
ولا يخفى أن التوزيع لا يقع على أذرع العمق في العرض المذكور، حتى يقال: إذا كان المشروط عشرين ذراعاً، وقد احتفر عشرة أذرع، فنجعل ذلك في مقابلة نصف الأجرة المسماة. هذا لا سبيل إليه. ولكنا نوزّع المسمى على أجرة المثل فيما عمل، وبقي. فإن قيل: أجر مثل ما بقي خمسةَ عشرَ درهماً، وأجر مثل ما حفر خمسةُ دراهم، ولا شك أن العمل يكثر كلما ازداد عمقُ البئر، فيستحق الحافر من المسمى ربعَه، والأذرع المذكورة في توزيع الأجر عليها كالأيام في مدة الإجارة في الدور والمساكن، مع وقوع بعضها في المواسم.
5345 - ولو انتهى الأجير في حفره إلى موضع صلب يخالف ما كان يعمل فيه، فإن كانت المعاول والفؤوس تعمل في الكُدية (2)، فعلى الأجير أن يعمل.
وهذا الفن من التفاوت يقع في أمثال هذه الإجارة، فيحتمل، من جهة أن الضبط في قبيله غيرُ ممكن، ومبنى (3) تصحيح الإجارة على الضرورة والحاجة.
ولو كانت المعاول لا تعمل في محل الإكداء (4)، وكان الأجير يحتاج إلى استعانة بإيقاد النار على الكُدية، فليس على الأجير ذلك؛ فإن هذا مجاوزةٌ لحد الحفر المطلق.
__________
(1) في الأصل: مسلّماً.
(2) الكُدية: الأرض الغليظة أو الصلبة، لا تعمل فيها الفأس (المعجم).
(3) (د 1): فمبنى.
(4) الإكداء: مصدر أكدى إكداءً: إذا بلغ الكُدية. (المعجم).

(8/195)


5346 - ولو استأجر أجيراً ليحفر، واعتمد في الإجارة ذكر المدة، فقال: تحفره في بياض هذا النهار، فلا حاجة -ومعتمد الإجارة المدة- إلى إعلام العمق والعرض؛ فإن الإجارة وردت على عين الأجير، [والمطلوب منه] (1) عمل الحفر في المدة المقدرة.
فصل
يجمع مسائل على نسقٍ
5347 - فإذا استأجر من يذبح له شاةً، ويسلخها، فجعل أجرة الأجير جلدَ الشاة، لم يجز له ذلك؛ لأنه جعل الأجرة جزءاً من الحيوان، وذلك ممتنع.
ويجوز أن يقال: الفساد بعلةٍ أخرى، وهي أن الجلد إنما ينفصل عن الشاة المذكّاة بعمل السلخ، فعمله المذكور في الإجارة يتصل بالأجرة المسماة ويقع [عملاً] (2) فيها، وهذا ممتنع، والشرط أن يقع عمل الأجير في خالص ملك المستأجر.
5348 - وإذا استأجر من يحمل ميتة إلى المزبلة، ويسلخها، وجعل الأجرة جلدَها، فهذا ممتنع للمعنيين المقدّمين، ولمعنى ثالث أجلى منهما، وهو أنه جعل الأجرة جلدَ الميتة، وهو قبل الدباغ نجسُ العين، غيرُ متقوّم، إلى أن يدبغ.
5349 - ولو استأجر من يجني ثماراً له، وجعل أجرة الأجير جزءاً من تلك (3) الثمار، فالإجارةُ فاسدةٌ عند الأصحاب؛ لأن عمله يقع فيما سُمي أجرةً، وقد ذكرنا أن الشرط أن يقع عملُ الأجير في خالص ملك المستأجر؛ فإذا وقع بعضٌ من عمله فيما قُدّر أجرة، فكأنه عمل فيما هو ملكه.
5350 - وإذا استأجر من ينخل دقيقاً، وجعل أجرته النخالة، لم يجز، وكذلك إذا
__________
(1) في الأصل: ومطلوبه عمل الحفر ..
(2) (د 1): عمداً.
(3) هنا انتهى الخلل في السياق في نسخة (د 1)، وصوابه الرجوع من ص60 ش (هنا) إلى ص 39 ي.

(8/196)


استأجر من يطحن حنطةً بقفيزٍ من الطحين، فالإجارة فاسدة.
5351 - والعلل وإن كانت ظاهرةً في إفساد الإجارة في هذه المسائل، فالمعتمد الأظهر فيها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن قفيز الطحان " (1)، ومراده صلى الله عليه وسلم استئجارُ الطحان بقفيزٍ من الطحين.
5352 - ولو استأجر مالكُ الجاريةِ مرضعةً لترضع الجاريةَ الرضيعةَ، وشرط أجرتها جزءاً من الجارية إذا فُطمت، فالإجارة فاسدة، تخريجاً على قفيز الطحان.
ولو قال: استأجرتُكِ على إرضاعها، وأجرتُك ثلثُ رقبتها في الحال، فهذا يخرّج على مسألةٍ نُقدّمها، ونذكر ما فيها: وهي أنه إذا كان بين رجلين جاريةٌ رضيعةٌ، فلو استأجر المالكان مُرضعة، جاز ذلك، ويقع العمل على نصيبهما، والأجرةُ عليهما، ولو أراد أحدُهما أن يستأجر مرضعةً، ولم يساعده شريكه، فالإجارة لا تنتظم في بعض الجارية؛ من جهة أن إيقاع العمل في البعض غيرُ ممكن، وإيقاع العمل في الجميع يتضمن إيقاعَ عملٍ في ملك الغير، من غير إذنه، وهذا مما لا يسوغ من الشريك الانفرادُ به. نعم، لو ظهرت الضرورة، فالحاكم يستأجر على الممتنع، والطالب.
ولو كانت الجارية الرضيعة مشتركةً بين رجلٍ ومرضعته، فاستأجر الرجل المرضعة على الإرضاع، فعملها يقع على ملكها وملك الشريك المستأجِر، فتفسد الإجارة.
فإذا ثبت ما ذكرناه، فنعود، ونقول: إذا كانت الجارية الرضيعة خالصةً لإنسانٍ، فاستأجر مرضعةً، وجعل أجرتها جزءاً من الجارية، فعملها لو صحت الإجارة يقع على ملكها وملك المستأجر، فتفسد الإجارةُ بناء على القاعدة التي مهدناها.
فرع:
5353 - إذا استأجر حلياً من ذهبٍ بذهب، أو فضة، فلا بأس، ولا نظر إلى جوهر الحلي، وإلى الأجرة المذكورة، فإن الأجرة في مقابلة منفعة الحلي، لا في مقابلة جوهره، فلا يثبت شيءٌ من أحكام الربا على هذا الوجه.
__________
(1) حديث النهي عن قفيز الطحان رواه الدارقطني: 3/ 47، والبيهقي: 5/ 5339، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 1533، ح 1316.

(8/197)


5354 - ولو أتلف الرجل حُليّاً قيمته تزيد على زنته، وكانت الصنعة فيه (1) محترمة، فللأصحاب فيه اضطراب، فيما يغرَمه المتلف، قدمنا ذكره. وسببُ الاختلاف أن ما يبذله المتلف بدل المتلَف؛ فامتنع بعضُ الأصحاب من مقابلة حلي الذهب بما يزيد على مقدار وزنه من الذهب، على التفصيل الذي سبق، وليست الإجارة من هذا بسبيل.
فرع:
5355 - إذا استأجر الرجل صباغاً، ووصف العملَ المطلوبَ منه، فالعادة جاريةٌ -على الطرد- بكون الصِّبغ من جهة الصباغ، فإذا جرت (2) الإجارة على الصبغ، ففي دخول عين الصبغ تبعاً من التفصيل ما ذكرناه في دخول الحبر في عمل الورّاق، وقد ذكرنا ثَمَّ التفصيلَ في اطراد العادة واختلافها، فمسألة الصبغ ملحقةٌ بما إذا اطرد العرف في كون الحبر من جهة الورّاق، وقد مضى ذلك مشبَعاً.
فصل
5356 - قد ذكرنا أنه لا يجوز للمرأة وهي في حياة زوجها أن تؤاجر نفسَها للإرضاع، ولا يختص ذلك بهذا النوع، بل لا تؤاجر نفسَها في عملٍ من الأعمال، كالغَسْل، والخَبز، والغزل والخياطة، وما في معناها، وليس ذلك لاستحقاق الزوج هذه المنافع منها، ولكن لكونها مزحومة بحق الزوج؛ فإن (3) حق الزوج في الحرة [المنكوحة] (4) على الاستغراق.
ولو كانت الزوجة أمةً، فقد ذكرنا أن للسيد أن يستخدمها نهاراً، في المدة التي كان يستخدمها فيها إذا كانت خَلِيَّة عن [حق] (5) الزوج. فلو أراد أن يكريها في تلك المدة، جاز؛ لأن منفعة الأمة لا تكون مزحومةً بحق الزوج.
__________
(1) (د 1): غير محترمة.
(2) (د 1): ثبتت.
(3) (د 1): إذ بناء حق الزوج.
(4) مزيدة من (د 1).
(5) ساقطة من الأصل.

(8/198)


5357 - ولو أذن الزوج لزوجته الحرة في أن تؤاجر نفسَها، صح ذلك منها، ثم يجب الوفاء بموجَب الإجارة.
ولو كانت آجرت نفسَها للإرضاع، قبل أن نَكَحت، ثم نَكَحت، فطريان النكاح لا يغير أمرَ الإجارة، ويجب عليها الوفاء بمقتضى الإجارة، حتى قال الأصحاب: لو كنا نخشى من وطء الزوج إياها أن تعلَق، وتحبَل، فإذا حبِلت، قلّ اللبن، وفسد، فالزوج ممنوعٌ عن (1) وطئها؛ فإن حقَّ الإجارة تأكد أولاً، ثم طرأ النكاح، ومنع الزوج من الوطْء المؤثر في مقصود الإجارة بمثابة منع الراهن من وطْء الجارية المرهونة.
ولو فرضنا الإجارة بعد النكاح واردةً على ذمة المرأة، لصحت؛ فإن ذلك لا ينافي حقَّ الزوج؛ من جهة أنها لو أرادت تحصيلَ ما التزمته بأن تستاجر، كان لها ذلك، وهذا لا يزاحم حقَّ الزوج.
ثم إذا انعقدت الإجارة على ذمتها، فوجدت في خَلَل الأيام فرصة، واستمكنت من توفية بعض العمل بنفسها، فلها ذلك؛ فإن معتمد الإجارة الذمة. وهذا واضحٌ.
5358 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن المرأة إذا آجرت نفسها لإرضاع ولدٍ، ولم تكن ذات زوج، أو كانت ذاتَ زوج، وقد جرت الإجارة بإذن الزوج، فيجب عليها توفيةُ المنفعة بكمالها، فلو مات ذلك المولود الذي استؤجرت المرضعة لإرضاعه، فتفصيل القول في هذا يستدعي تقديمَ أصلٍ مقصودٍ في الإجارة، فنقول:
5359 - من استأجر دابةً معينةً لمنفعة معلومة، فلو تلفت الدابة، ترتب [على تلفها] (2) انفساخُ الإجارة لا محالة؛ فإن المعقودَ عليه قد مات، ولو مات المستأجر للدابة أو مُكريها، لم يؤثر موتُ واحدٍ منهما في الإجارة، وقد مهدنا هذا في صدر الكتاب، إذ قلنا: لا تنفسخ الإجارة بموت أحد المتعاقدين، والجملة المرعية فيه أن المكتري مستحِقٌ مستوفٍ، والحقوق يرثها الورثةُ، وتبدُّلُ المستوفي غيرُ ضائر، وقد قدمنا أن المستأجر لو أجر ما استأجره، جاز ذلك، ولو أقام غيره مقام نفسه، لم يمتنع.
__________
(1) سبق أن أشرنا أن (عن) تأتي مرادفة لـ (مِنْ).
(2) في الأصل: عليها.

(8/199)


5360 - ولو استأجر أجيراً ليعمل في عينٍ من الأعيان عملاً، مثل أن يقول: استأجرتك لتخيط هذا الثوبَ، فلو تلف ذلك الثوبُ المعيّن، فقد ذكر العراقيون في انفساخ الإجارة وجهين: أصحهما - أنها لا تنفسخ؛ فإن العمل لا يتعذّر، ومن الممكن الإتيانُ بثوبٍ آخر يضاهي ذلك الثوبَ، وليس الثوب معقوداً عليه في نفسه.
والوجه الثاني - أن العقد ينفسخ بتلف محل العمل، فإنه كان متعيَّناً في بقائه (1)، فإذا فات، انقطع العقد. وهذا وجهٌ ضعيف.
وينبني على ما ذكرناه تمامُ التفريع.
5361 - فنقول: إن حكمنا بانفساخ الإجارة، فلا كلام، وإن حكمنا ببقائها، فلو أتى المستأجر بثوبٍ آخر، وأمر الأجير أن يُوقع العملَ المستحَقَّ عليه في الثوب الثاني، جاز ذلك.
ولو قال المستأجر: ليس عندي ثوبٌ آخر، أو قال: لست آتي بثوبٍ آخر، والثياب عتيدةٌ عندي، فكيف السبيلُ فيه؟ ذكر العراقيون وجهين وأطلقوهما، ثم فصلوهما على أحسن وجهٍ في البيان: قالوا: من أصحابنا من قال: إن لم يأت المستأجر بعينٍ أخرى عن عجزٍ، أو عن امتناع، ومضت المدة التي يتأتى في مثلها العملُ لو صادف محلاً، استقرت الأجرة المسماة؛ فإن الأجير مسلِّمٌ نفسَه، لا امتناع منه.
والوجه الثاني - أن الأجرة لا تستقر، [وإذا مضت المدةُ، انفسخت الإجارةُ.
ويتأتى أن نعبر عن هذين الوجهين بتخير المستأجر في وجهٍ وعدم تخيّره في وجه.
5362 - ولا يتضح الغرض ما لم نكشف الأصلَ فيه، فالأجير الحر إذا سلّم نفسه إلى المستأجر، والإجارة واردةٌ على عينه، فلم يستعمله المستأجر حتى انقضت المدة، ففي استقرار الأجرة وجهان: أحدهما - أنها تستقر، كما لو سلم مكري الدار الدارَ إلى المستأجر، فلم ينتفع بها، وانقطعت المدة، والدار تحت يده.
__________
(1) في بقائه: أي لو لم يتلف يكون متعيَّناً للعمل ومحلاً له، ولا يجوز إبداله.

(8/200)


والوجه الثاني - أن الأجرة لا تستقر] (1) في مسألة الحر؛ فإن منفعته إن ضاعت في مدة التمكين، فإنما ضاعت تحت يده؛ فإن اليد لا تثبت على الحر، وعلى هذا يخرّج القول في حبس الحر قهراً ظلماً حتى تتعطل منافعه، فهل يجب على حابسه أجرته؟ فيه كلام قدمناه في كتاب الغصوب.
5363 - وإذا ثبت ما ذكرنا، عدنا إلى غرضنا، وقلنا: إذا لم يأت المستأجر بثوب آخر بعد تلف الثوب المعين، فنقدر أولاً كأن الأجير مسلِّم نفسَه إلى المستأجر، ولو فعل ذلك، ففي استقرار أجرته الخلاف، فإن رأينا أن نقول: لا تتقرر أجرته، فينشأ من هذا المنتهى شيء، وهو أن الثوب المعيَّنَ للقطع والخياطة لو كان باقياً، فلم يسلِّمه إلى الأجير المعيّن، فالقول في أن أجرته لا تستقر على ما ذكرناه. ولكن لو بدا (2) له في قطع ذلك الثوب، فهل نقول: يجب عليه الإتيان به أم كيف السبيل فيه؟ فالذي يتجه عندنا أنه لا يجب عليه الإتيان بذلك الثوب ليقطع، وقد سنح له غرضٌ ظاهر في الامتناع من قطعه، ولكن إذا كنا نفرع على أن أجرة الأجير تستقرّ، فلو ترك الإجارة حتى انقضى زمانُها، استقرت الأجرة.
ولو قال: أفسخ الإجارة، أو بدا لي لم يكن له فسخها؛ إذ لو أثبتنا له الفسخ، لكان ذلك فسخاً بالمعاذير، ونحن لا نرى ذلك، وإنما قال به أبو حنيفة (3) رحمة الله عليه.
وإن قلنا: أجرة الأجير لا تستقر بانقضاء زمان الإجارة، ولا [يجب] (4) -على ما ذكرناه- الإتيانُ بالثوب ليقطع، فيثبت حق الفسخ للأجير لا محالة، فإن فسخ تخلَّصَ، وسلمت منافعُه، وإن تمادى الأجير، ولم يفسخ، فهو الذي تسبب إلى تضييع منفعة نفسه. وإذا أثبتنا للأجير حقَّ فسخ الإجارة على الوجه الذي نفرّع عليه، فلو أراد المستأجر الفسخَ، فلست أرى له ذلك، ولست أعلم في فسخه غرضاً؛ فإنه لو لم يفسخ، لم يلتزم شيئاًً، وغرض الأجير ظاهرٌ في الفسخ. وإذا ترك الأجير الحظ
__________
(1) كل ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) بدا له: أي غير رأيه، وصرف نظره عن قطع وخياطة ذلك الثوب المعين.
(3) ر. المبسوط: 16/ 2، وبدائع الصنائع: 4/ 197، وحاشية ابن عابدين: 5/ 50.
(4) في الأصل: " نجيز ".

(8/201)


لنفسه (1)، فلا يجب على المستأجر تحصيلُه له.
ولو شبب مشبب بإثبات الخيار للمستأجر، كان ذلك وقوعاً في مذهب أبي حنيفة، على أن أبا حنيفة إنما يفسخ بعذر ظاهر، ولا عذر للمستأجر، حيث انتهى الكلام إليه.
فإذا ظهر ما ذكرناه في امتناع المستأجر عن قطع ذلك الثوب المعيّن، مع بقائه، قلنا بعده: إن تلف ذلك الثوب، وقلنا تنفسخ الإجارة بتلفه، فلا كلام. وإن قلنا: لا تنفسخ بتلفه، وفرعنا على أن أجرة الأجير تستقر بانقضاء زمان الإجارة، فالظاهر عندنا أن المستأجر له أن يفسخ الإجارةَ؛ فإنه قد لا يجد ثوباً، وإن وجده، فقد يظهر غرضُه في أن لا يقطعه، وليس كما إذا بقي الثوب المعيّن الذي أوْرد العملَ عليه.
5364 - وعن هذا الخبط صار من صار من أصحابنا إلى انفساخ الإجارة بتلف الثوب المعيّن. وقد ظهر لي من كلام طوائفَ من أصحابنا أن الإجارة لا يفسخها المستأجر إذا قلنا: إنها لا تنفسخ، وإن حكمنا بأن الأجرة تستقر بانقضاء زمان الإجارة.
فهذا إذاً واقعةٌ تلتحق بتوابع العقود، ومَغَبَّاتها، فالأمر في [تخيّر] (2) المستأجر، وقد تلف الثوب المعيّن على التردد الذي ذكرناه.
5365 - ومما يتصل بتمام القول في هذا الفصل، ما قدمناه من الاستئجار على قلع الضرس، والذي سبق ذكره لا نعيده، فإن صححنا الاستئجار، فسكن الوجع، امتنع القلع. والأصح في هذه الحالة انفساخ الإجارة؛ فإن محل العمل قد انتهى إلى حالة يمتنع إيقاع العمل فيه، [ولا بدل له] (3).
وكان شيخي يحكي عن بعض الأصحاب أن الإجارة تبقى، والأجير يستعمل في
قلع وتدٍ أو مسمار، مع تقريب القول في تداني العملين. وهذا عندي كلامٌ سخيف
__________
(1) كذا. ولعلها: حظ نفسه، أو الأحظ لنفسه.
(2) في الأصل: تغيّر.
(3) في الأصل: ولا بد له.

(8/202)


لا حاصل له، فليس قلعُ الوتد من قلع السن في شيء، ومن كان له في قلع السن
غرض؛ لم يقع قلعُ الوتد من غرضه بسبيل، فلا وجه إلا الحكم بانفساخ الإجارة.
5366 - وإذا ثبت ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ إلى المرضعة واستئجارها لإرضاع الولد المعيّن، [فنقول] (1): إذا مات ذلك الولد، فالقول في انفساخ الإجارة على ما تفصّل، والتفريعاتُ (2) تنتظم على ما مضى.
فإن قلنا: لا تنفسخ الإجارة، فذلك فيه إذا كانت تُرضع ولداً ليس منها.
5367 - وإن وقع استئجارها لترضع ولد الزوج منها، فمات ذلك الولد، والتفريع على أن الإجارة لا تنفسخ بموت الولد الأجنبي منها، لو كانت الإجارة واردةً عليه، فإذا كان الولد ولدها، وقد مات، فهل تنفسخ الإجارة أم يأتيها المستأجر بولد رضيع أجنبي؟
فعلى قولين منصوصين: أحدهما - أن الإجارة لا تنفسخ؛ بناء على المنتهى الذي انتهينا إليه، وذلك لأن إرضاع الولد الأجنبي ممكن، ويجوز الاستئجار عليه ابتداء، فيجب بقاء العقد بإمكانه انتهاءً.
والقول الثاني - أن الإجارة تنفسخ؛ فإن لبنها لا يدرّ على الأجنبي درورَه على ولدها، ولا [تترأم] (3) الأجنبيَّ حسب ما كان تترأم على ولدها.
وهذا قولٌ ضعيف، لا أصل له. والذي عندي فيه أن المصير إلى الانفساخ باطلٌ على الأصل الذي نفرّع عليه، وإنما الذي يخيل على بُعدٍ ثبوتُ الخيار لها لما أشرنا إليه؛ فإن الانفساخ ينبني على تعذر العمل بالكليّة، ثم الخيار أيضاًً فاسد من جانبها؛ من جهة أن المستأجر لو قال: رضيت بما يحصل من اللبن على نقصانٍ، فلا عذر لها.
نعم قد يتجه ثبوت الخيار للمستأجر؛ من حيث يقدّر أن لبنها يقل على الأجنبي،
__________
(1) فىِ النسختين: ونقول.
(2) (د 1): في التفريعات.
(3) في الأصل: تتزأم. وتترأم (بالراء): أي تتعطف، وتتحبب، وتلزم (المعجم).

(8/203)


وحضانتها لا تصدر عن ترأُّمٍ وشفقة، وكلّ ذلك خبطٌ، وسببه ضعف القول الذي عليه التفريع.
والوجه القطع بأن ولده منها كالولد الأجنبي منها في التفريعات.
فصل
5368 - إذا استأجر الرجل قميصاً ليلبسه، جاز ذلك على شرطِ الإعلام بالمدة، ثم يرعى المستأجرُ العادةَ في اللُّبس، فيلبس بالنهار، وبالليل في اليقظة، ولا ينام فيه؛ فإن ذلك مما يؤثر أثراً زائداً على اللّبس، ويتجه أن يقال: إنه غير معتاد، وإن كان يعتاده بعض الناس، فهو من احتكامه على ملكه، فإذا تعلق الكلام بالمضايقة في الانتفاع، فالعرف حاكم بالتوقّي من مثل هذا في ملك الغير.
وقال بعض الأصحاب: لا يلزم نزع القميص للقيلولة بالنهار؛ فإن العادة جارية بأن الرجل لا يتجرد للقيلولة، ويتجرد لنوم الليل، وقد يتطرق إلى وجوب النزع بعضُ الاحتمال في حق من يعتاد القيلولة.
ولو استأجر قميصاًً ليلبسه فوق قميصٍ، فقد يظهر وجوب النزع للقيلولة؛ إذ هكذا العادة.
ولو استأجره للّبس، فاتّزر به، لم يجز؛ فإن الاتزار أضرُّ بالثوب من اللُّبس على الوجه المعتاد.
ولو ارتدى به، فقد ذكر العراقيون وجهين في جواز ذلك: أحدهما - أنه لا يجوز؛ فإنه انتفاعٌ مخالف للمعتاد، والوجه الثاني - أنه يجوز؛ لأنه أقلُّ ضرراً من اللُّبس.
فصل
5369 - إذا دفع ثوباً إلى غسالٍ ليغسله، فإن ذكر أجرةً مسماةً، فلا كلام، وإن لم يذكر الأجرةَ، ولكن عرّض بها، فقال: اغسله، وأنا أُرضيك، أو أعرف حقك، فإذا غسل، استحق أجرة المثل.

(8/204)


ولو لم يتعرض للأجرة لا بتصريع ولا بتعريض، فالمنصوص عليه، وهو ما عليه عامة الأصحاب أنه لا يستحق شيئاً؛ لأن المنافع غايتها أن تكون كالأعيان في المالية، بل هي دونها.
ولو أتلف رجل مال رجل برضاه، لم يضمن شيئاًً، فكذلك إذا أتلف الأجير منفعة بدنه برضا صاحب الثوب.
ومن أصحابنا من قال: يستحق العاملُ أجر مثل عمله، وهذا اختيار المزني.
ومن أصحابنا من قال: إن كان ذلك الرجل معروفاً بالغسل بالأجرة، استحق الأجرة بحكم العادة، ونزلت منزلة النطق، وإن لم يكن معروفاً بهذا، لم يستحق لعمله أجراً.
ومن أصحابنا من قال: إن التمس الغسال دَفْع الثوب إليه فأسعفه صاحبُ الثوب، لم يستحق الأجرة؛ فإنه الذي ورّط نفسه في هذا، ورضي بتلف منفعته، فلا يستحق شيئاًً، وإن التمس صاحب الثوب منه الغسلَ، فيستحق حينئذ أجر عمله؛ فإن المالك هو الذي أوقعه في العمل، فكان بمثابة المتلِف لمنفعته.
والقول في أمثال ذلك كثير، ونحن نذكر مجامع المذهب فيها.
5370 - فإذا دخل الرجل الحمّام، ولم يَجْرِ للأجرة ذكرٌ، فنقول: أما قيمة الماء الذي سكبه، فواجبة، وقد يتجه إثبات المثل؛ فإنه من ذوات الأمثال، ويجب أجرة منفعة الحمام؛ فإنه أتلفها، وعلى المتلف قيمةُ ما أتلف، وإن جرى الإتلاف بمشهدٍ من المالك، فإذا كان كذلك، فما الظن، والعرف جارٍ بالتزام الأجرة.
فأما أجرة الدلاّك، والمزيّن، فتُخرّج على القاعدة التي ذكرناها في الاستعمال من غير ذكر أجرة، ومهما غلبت العادة، ظهر وجوب اتباعها.
ويبعد أن نقول: إذا تقدم الغسّال إلى ثوب إنسان، فرفعه وغسله أنه يستحق الأجر إلا أن يُفرضَ في رجل معروف بذلك، وقد جرت عادته بهذا، واستمرت عادة الناس معه ببذل الأجرة. والمزيّن في الحمام يتقدم من غير استدعاء في الغالب، وكذلك الدّلاك، ولكن اطرد به العرف، وهو في نهاية الظهور، فَقَوِي إيجابُ الأجر مع العلم، بتطرق الخلاف.

(8/205)


5371 - ومما يتعلق بهذا أن الماء وإن كان مثلياً، فقد جرى العرف بأنه يُتلف بالقيمة، فللعرف في هذا أثر، ووجه الخلاف في هذا المقام لائح، فكأنا في وجهٍ نجعل عموم العرف، كبيع الماء، وقد ذكرنا في المعاطاة الغالب، وأنها هل تكون بيعاً، خلافاًً للأصحاب، وسنذكر في الضيافة، وتقديمِ الطعام إلى الضيفان كلاماً بالغاً، من الفن الذي نحن فيه في باب الوليمة، ونلحق بها فصولاً في النَّثر واللقط، إن شاء الله عز وجل.
5372 - ونختم هذا الفصلَ بأمرٍ، وهو أن العادة تفسَّر اللفظَ المجملَ في العقود وفاقاً، وعلى هذا تحمل الدراهم المطلقة على غالب النقود يوم العقد، فلا يمتنع ذلك من حكم الحرف، وإن لم يجر لفظ أصلاً، ففي إقامة العرف الغالب مقام اللفظ التردُّدُ الذي ذكرناه.
فصل
5373 - يتعلق بالاستئجار في القصارة، وتلف الثوب مقصوراً، وما يتعلق به، وهو فصلٌ عويص، يجب إلاعتناء بفهم ما فيه.
5374 - فنقول أولاً: إذا استأجر الرجل قصَّاراً حتى يقصُر الثوبَ، فعليه أن يقتصد ويقتصر على ما يُحصّل الغرض، فإن جاوز الحدّ، وعدّه أهلُ الصناعة زائداً في الدق وغيره من الأعمال المؤثرة على قدر الحاجة، ثم ترتب عليه تلفُ الثوب أو تعيّبُه، وجب الضمان. وهذا العدوان لو فرض من الأجير المشاهَد، لأوجب الضمان عليه؛ فإنه إتلافٌ، والإتلاف يستقلّ بإيجاب الضّمان من غير فرض يد.
ولو اقتصر على القدر المطلوب في مثل الغرض المستدعَى، لم يتعلّق الضمان بفعله، وإن أدّى إلى التلف.
5375 - وينشأ الاختلاف من اليد، وقد ذكرنا تردّدَ القول في يد الأجير المنفرد، ويدِ الأجير المشترك، وقد ذكرتُ ما في النفس من هذا، وهو إشكالٌ على المذهب لا يُحلّ، فإني قلتُ: إن كان التلف بآفةٍ سماوية، فيخرّج هذا على اليد، وأنها يدُ

(8/206)


أمانة، أو يدُ ضمان قريب، ويؤول الكلام إلى تقوية قولٍ، وتضعيفِ قولٍ، كما قدمتُه في تضمين الأجراء.
ثم إن جعلنا يدَ الأجير يدَ ضمان، فيده كيد المستعير، وفي كيفية الضمان على المستعير القولان المشهوران: أحدهما - أنه كضمان الغصب، والثاني - أنه ليس كضمان الغصب.
5376 - فأما إذا كان سببُ العيب أو التلف الفعلُ، وهو مقتصدٌ مأذون فيه، فلست أرى لإيجاب الضمان وجهاً. ولو أذن المغصوب منه للغاصب في إتلاف العين، فأتلفها، لم يلتزم الضمان، ولكن الذي ذكره الأصحاب في الطرق تخريج التلف بالفعل على التلف بآفة سماوية.
والأجير المشاهَد إذا قَصَر، وما فرّط وما قصّر، فإن الأصحاب لم يصرِوا إلى إيجاب الضمان عليه؛ إذ لا يدَ له، والفعل مأذون فيه، وانفرد أبو سعيد الإصطخري بإيجاب الضمان على الأجير المشاهَد إذا عمل، واقتصد وأدى عملُه إلى التلف، أو التعيُّب، على ما حكاه العراقيون عنه، وهذا متروكٌ عليه، وليس معدوداً من المذهب، وهو كثير الهفوات في القواعد، ولا شك أنه لم يوجب الضمان على المشاهَد بسبب اليد؛ فإن اليد للمالك الكائن معه، وإنما أوجبه للفعل، وهذا ينافي قاعدةَ الشافعي؛ فإن الفعل مأذون فيه، وقد صوّرناه مقتصداً، وضمان الأجراء يأتي على قول التضمين من جهة اليد؛ لا من جهة الفعل. وإنما ربط الضمان بالفعل أبو حنيفة، لما قال: لو تلفت العين في يد الأجير بآفةٍ، لم يلزم الضمان، ولو تلفت بسبب الفعل المستدعى يجب الضمان.
5377 - ومما يتعلق بمضمون الفصل أن الأجيرَ لو قصَرَ الثوبَ، كما رُسم له، ثم جحد الثوبَ، وتلف في يده، فضمان الثوب واجبٌ، لمكان الجحود؛ فإنه عُدوان يناقض الأمانة، ويضمنُ به المودَع.
5378 - والكلامُ في استحقاق الأجرة، فنقول: إن قَصَر أولاً، ثم جحد، استحق
الأجرة، فلو اعترف بعد الجحود، وردَّ الثوب مقصوراً، طلب الأجرَ. ولو جحد

(8/207)


أولاً، وقصر الثوبَ جاحداً، ثم اعترف، ورد الثوبَ، ففي استحقاق الأجرة وجهان: أحدهما - أنه يستحق الأجرة لإيفائه العمل المعقودَ عليه، ووقوعه على حسب الاستدعاء.
والوجه الثاني - أنه لا يستحق الأجرة، فإنه أضمر أن يعمل لنفسه لمّا جحد، ثم قصر، فلا يستحق لذلك أجراً. والوجهان في ذلك كالقولين فيه إذا نوى الأجيرُ على الحج [الحجَّ عن] (1) مستأجِره أولاً عند العقد، ثم صرف النية إلى نفسه، ظاناً أن الحج ينصرف إليه، فنقول: الحج يقع عن المستأجِر، وفي استحقاق الأجير الأجرةَ قولان، مأخوذان من الأصل الذي ذكرناه.
5379 - ومما يتعين تجديد العهد به، وعليه تتفرع مسائل مهمّة أن القِصارة إذا وقعت من القصَّار، فهي أثرٌ أم هي نازلةٌ منزلةَ الأعيان؟ وفيه قولان مشهوران، ذكرناهما في كتاب التفليس، وتناهينا في تقريرهما، وبيانهما، ونبهنا على غلطاتٍ لبعض المفرّعين [فيهما] (2)، ونحن الآن نذكر في هذا المقام ما يليق بالتفريع عليهما، فنقول أولاً:
5380 - إذا صبغ الأجير الصبّاغُ الثوبَ بصِبغٍ من عند نفسه، وظهرت قيمةُ الصبغ زائدةً على عين الثوب، فللأجير أن يحبس الثوبَ حتى يستوفي الأجرة؛ لأن له فيها عينُ مالٍ. هكذا أطلقه الأئمة.
5381 - وإن كان الأجير قصَّاراً، فقَصَر، فهل يستمسك بالثوب إلى أن تتوفر الأجرةُ عليه؟ فعلى قولين مبنيَّيْن على أنَّ القِصارة أثرٌ أو عين، فإن جعلناها عيناً، جوزنا للأجير التمسكَ بالثوب حتى تتوفر الأجرةُ عليه؛ فإن حقَّه على هذا القول يتعلق بالقِصارة تعلّق استيثاق، كما تقدم إيضاحه في التفليس، ولا يتصور التمسك بالقصارة وحدَها، فيثبت التمسك بالثوب.
__________
(1) عبارة الأصل: " إذا نوى الأجير على الحج مستأجر أولاً عند العقد " وفي نسخة (د 1): " إذا نوى الأجير على الحج مستأجره أولاً عند العقد والمثبت تصرف من المحقق رعاية للمعنى.
(2) في الأصل: منهما.

(8/208)


5382 - (1 وإن قلنا: القصارة أثر، فليس للأجير التمسك بالثوب، فليتعيّن 1) عليه ردُّه، وطلبُ الأجرة حقّه لا تعلق له بالثوب.
5383 - وما أطلقه الأصحاب من حبس الثوب المصبوغ فيه مستدرَكٌ للناظر؛ فإنا ميَّزنا في التفليس بين الصِّبغ، وبين عمل الصابغ، فيجب أن يقال: ما يقابل قيمةَ الصبغ يجوز إمساك الثوب لتسلّمه، وما يزيد على قيمة الصبغ، فهو في مقابلة العمل، فيُبنى على القولين في أنه أثر أم عين.
5384 - ومما يجب التنبّه له في هذا المقام أنا ذكرنا اختلافَ القول في أن بائع العين هل يثبت له حق حبسها إلى استيفاء الثمن، ولم يتعرض الأصحاب لذلك في الصبغ، ولم يُشيروا إلى الاختلاف، بل قطعوا بجواز الحبس، وفيه توقُّفٌ وتردد، فيجوز أن يقال: جرى قطعهم بذلك تفريعاً على ثبوت حق الحبس، وكثيراً ما يُجري الأصحابُ التفريع على قول الحبس من غير تعرض لذكر الخلاف، والظاهر الذي يشير إليه فحوى كلام الأصحاب أن حق الحبس في هذا غيرُ مختلَفٍ فيه، وليس من قبيل حبس المبيع، ولعل السببَ فيه أن الأجير إذا تمم العمل، فقد وفّى ما عليه كَمَلا، وفات [المعوَّضُ] (2) من جانبه، وهذا يوجب له حقَّ استمساكٍ واستدراكٍ، ثم الصبغ جرى على منهاج المنافع، ولذلك لم يُشترط إعلامه على الصباغ، وانبثاثه في الثوب المملوك للمستأجِر مشابهٌ لحصوله في يد مالك الثوب.
وحق الفقيه أن يتفطّن للأصول ويميّزَ بعضَها عن البعض، فلا يعتقد انسحابَ حكمٍ
واحدٍ على القواعد، فهذا إذن قاعدة أطلقها الأئمة في الصبغ، لم يشبّبوا فيها بخلاف.
5385 - فإذا تمهّد ما ذكرناه، رتّبنا عليه أصلاً، ينْشعِب عنه أربعُ مسائل.
والأصل أن القصارَ إذا قصرَ الثوبَ، ثم تلف في يده، وفات، فلا يخلو إما أن يتلف بآفةٍ سماوية.
أو يتلف بإتلاف أجنبي.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (د 1).
(2) في الأصل: المقصود.

(8/209)


أو يتلف بإتلاف المالك.
أو يتلف بإتلاف القصار.
5386 - فإن تلف الثوب بآفةٍ سماويةٍ، أُثبتت المسألة أولاً على القولين في أن القصارة أثرٌ أو عين.
فإن حكمنا بكونها أثراً، (2 وهو الأصح، الذي لا [يستدّ] (1) على القياس غيره 2)، فالحكم الآن يُبتنى على أصلٍ آخر، وهو أن يد الأجير يدُ أمانة أو يدُ ضمان، إن قلنا: يده يدُ أمانة، فلا شيء للمالك على القصَّار، وللقصَّار عليه الأُجرة، ومن حُكم هذا القول ثبوتُ الأجرة، مهما ثبت العمل، والأصل أنا نقدره في حكم المسلَّم الموفّر، فنقضي [بالأجرة] (3)، ثم ننظر فيما وراءها من الأحكام.
وإنّ حكمنا بأن يدَ الأجير يدُ ضمان، ألزمناه ضمان الثوب مقصوراً، وله حقُّ الأجرة، ثم يجري التقاصّ [بعد الأجرة] (4) ومقدارِها، مما يلتزمه الأجير للمالك.
فهذا إذا فرعنا على أن القِصارَة أثر.
5387 - فإن حكمنا، بأنها عينٌ أو حالّة محل العين، فحكم هذا القول يتفرع أيضاًًً على قولي الضمان والأمانة.
فإن حكمنا بأن يد القصار يدُ أمانة، لم يضمن الأجير شيئاًً للمالك، ولم يستحق الأجرَ أيضاًً، وكأنا نقول: ضَرباً للمثل: القصارةُ قبل تسليم الثوب إلى المالك، تحت يد الأجير، بمثابة المبيع تحت يد البائع، فإذا فات الثوبُ، وفاتت القِصارة، سقط عِوض القِصارة سقوطَ الثمن بتلف المبيع، وهذا تمثيلٌ. والتحقيق فيه أنا نقدر القِصارَة جزءاً من عمل الأجير، فإذا لم يصل إلى المالك، قدّرنا كأن العمل لم يكن.
وقول العين في نهاية الضعف، وتضمين الأجير بالغٌ في الضعف أيضاًًً، فإذا اجتمعا
__________
(1) في الأصل: "يستمرّ" والمثبت تصّرف من المحفق، على ضوء المعهود من ألفاظ الإمام، والأوفق للمعنى.
(2) ما بين القوسين ساقط من (د 1).
(3) في الأصل: الأجرة.
(4) ساقط من الأصل.

(8/210)


تفرَّعَ عليهما تفريعٌ ملفقٌ أضعفُ منهما، فإن حكمنا على قول العين بأن يدَ الأجير يدُ ضمان، فيتفرع أولاً سقوطُ الأجرة لفوات القِصارة، ونزوله منزلةَ تلف المبيع، والنظر وراء ذلك فيما يضمنه الأجير.
والصور تتشعب، وقد أتيْتُ على أطرافها في كتاب التفليس، وأنا أرتاد الآن منها صورةً تقع وسطاً، وننبّه على طرفها، فأقول:
5388 - كان الثوب على البت (1) يساوي عشرة، فصار يساوي مقصوراً خمسةَ عشرَ، والأجرة المسماة درهمٌ.
أما الأجرة، فتسقط لفوات القِصارة، وأما ما يضمنه الأجير، فالذي أشار إليه كلامُ الأصحاب، وصرّح به المحققون أن الأجير يغرَم قيمةَ الثوب على البت، ونجعل كأن القصارة لم تكن، فإذا اعتقدنا القِصارةَ من طريق التقدير كالعين المبيعة وبائعها الأجير، فإذا فات المبيع قبل القبض، لم يلتزم البائع شيئاً إلا سقوطَ الثمن، فكذلك الأجير، تسقط أجرتُه ويغرَم قيمةَ الثوب غيرَ مقصور، وكأن القصارة لم تقع.
5389 - وهذا يتطرّق إليه إشكال من كتاب التفليس، وذلك أنا إذا فرعنا على أن القِصارة عينٌ، وقد اشترى الرجل ثوباً قيمتُه عشرة، واستأجر من يقْصُره بدرهم، فبلغت قيمةُ الثوب خمسةَ عشرَ، ثم أفلس المشتري، وأجرة [الأجير] (2) وثمن الثوب في ذمته، فإذا فرّعنا على أن القصارة عينٌ، وفسخ البائع البيع وآثر الأجير التعلّقَ بالقصارة، حتى لا يضارب، فالثوب يُباع ولا يُصرف من ثمنه إلى الأجير إلا درهمٌ. وباقي التفصيل مذكور في موضعه.
5390 - ووجه التعلّق بالمسألة أنا لم نجعل الأجير راجعاً إلى تمام قيمة القصارة ولم يزد على أجرته، وما ذكرناه قبلُ من أن القِصارة إذا فاتت في يد الأجير، فكأنها فاتت له، يناقضُ هذا الذي ذكرناه الآن، والمصير إلى قصر حقه على الأجرة يوجب أن يضمن الأجيرُ لمالك الثوب أربعةَ عشرَ درهماً. هذا بيّنٌ، فإذاً ينقدح في الصورة
__________
(1) البت: أي قبل القصارة. (الخام) بلغة عصرنا.
(2) في الأصل: الثوب.

(8/211)


التي ذكرناها وجهان: أحدهما - وهو ظاهر كلام الأصحاب أن القصارة تسقط بجملتها من حساب الضمان، ووجهه ما نبهنا عليه.
والوجه الثاني - أنه لا يسقط إلا قدر الأجرة من القِصارة، والباقي يضمنه الأجير ضمّاً إلى قيمة أصل الثوب.
5391 - وذكر شيخنا أبو علي وجهاً غريباً، عن بعض الأصحاب: أنا إذا حكمنا بتضمين الأجير، وجرينا على أن القصارة أثرٌ، فإذا قَصَر، وتلف الثوب المقصور في يده، لم يستحق الأجرَ، وإن حكمنا بكون القصارة أثراً؛ فإنَّ تغليظ التضمين ينافي استحقاق الأجر. وهذا الوجه ضعيفٌ جداً بالغ الشيخُ في تزييفه، وحكم بكونه غلطاً، ولهذا أخّرتُه عن ترتيب المذهب وسياقِه.
هذا كله كلامٌ فيه إذا تلف الثوبُ المقصور في يد الأجير بآفةٍ سماوية.
5392 - فأما إذا تلف بتلاف أجنبي، فذلك يتفرع على الأصلين: أحدهما - أن القِصارة أثر، أو عين، والآخر أن يد الأجير يدُ أمانة، أو يدُ ضمان، وترتيب التفريع أن نقول: إن صرنا إلى أنها أثر، فللقصار الأجرة المسماة؛ فإنه قد أتم العمل، واستحق الأجرة، ثم إن قلنا: يدُ الأجير يدُ أمانة، فلا تبعةَ على الأجير، والأجنبي يغرَم الثوبَ مقصوراً لمالكه.
وإن قلنا: يد الأجير يد ضمان، فلا شك أن قرار الضمان على الأجنبي المتلِف، ولكن الأجير طريقٌ في الغرم، فالمالك يُغرِّم أيَّهما شاء، فإن غرَّم الأجنبيَّ طلب منه قيمةَ الثوبِ مقصوراً، [واستقر الضمان.
وإن اختار تغريمَ الأجير غرَّمه قيمةَ الثوب مقصوراً] (1) أيضاً، ثم إنه يرجع بما يغرَم على الأجنبي، وللأجير أجرتُه على قولِ الأثر سواء ضَمَّنَّاه، أو لم نضمِّنه.
5393 - وإن جعلنا القصارة عيناً، فليقع التفريع على الأصح، وهو أن الأجنبيَّ إذا أتلف المبيعَ قبل القبض، لم نحكم بانفساخ العقد، فنقول على موجَب هذا: إذا
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(8/212)


جعلنا القصارةَ عيناً، وقد أتلف الأجنبيُّ الثوب، وفوّت القِصارة، فلا ينفسخ العقد بين الأجير والمالك المستأجِر، لكن يثبت للمستأجر الخيارُ في فسخ العقد المعقود على القصارة، وهكذا القول في المشتري، وتخيُّره إذا أتلف الأجنبيُّ المبيعَ قبل القبض، فإن اختار المستأجرُ فسخَ العقد في القصارة، سقطت الأجرة للقصار عن المستأجر، ثم نقول وراء ذلك:
5394 - إن جعلنا يده يدَ أمانة، فلا تبعة، ولا طَلِبَة للمالك عليه، ثم لا يحبَط حقُّه؛ فإن القصارة في حكم عين متلفة عليه، ونصور في هذا المنتهى الصورة التي ذكرناها قبلُ، فالثوب على البت عشرة، والأجرة المسماة درهمٌ، والثوب المقصور خمسةَ عشرَ، ونزيد، فنقول: أجرة مثل القصار نصف درهم، فيرجع الأجير على الأجنبي المتلِف. والذي قطع به الأئمة قاطبةً أنه لا يغرِّمه قيمةَ القِصارة خمسة، بل يرجع بمقدار أجرته، ثم المسألة محتملة، فيجوز أن يقال: إنه يستحق مقدار الأجرة المسماة من القصارة، وكأن ذلك القدر ارتدّ إليه بفسخ المستأجر، فيطالِب بقيمة ذلك المقدار المتلِف المفوّت. ويجوز أن يقال: لا يطالب المتلِف إلا بأجر مثله؛ فإنَّ فسخ المستأجر، أسقط اعتبار الأجرة المسماة، فلا يستحق الأجير إلا مقدارَ قيمة عمله من القصارة، وقيمةُ عمله أجرُ مثله. فإن قيل: هلا جعلتم جميع القصارة له؟ قلنا: هذا أصلٌ مهدناه في كتاب التفليس، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا.
5395 - وتمام الكلام في ذلك أن المالك إن غرّم الأجنبيَّ، غرَّمه قيمةَ الثوب إلا ما غرّمه الأجير، فإنه لو غرمه القيمة [التامة] (1) وغرمه الأجير (2) ما ذكرناه لتثنَّى الضمان عليه في ذلك المقدار.
5396 - وإن جعلنا يد الأجير يدَ ضمانٍ، فإنه يضمّنه إن أراد ما يضمّن المتلِف، ثم إنه يرجع بما يغرَمه على الأجنبي المتلِف.
5397 - وإذا بأن الحكم في الصورة التي ذكرناها، لم يخف ما سواها، فلو كان
__________
(1) في الأصل: الثانية.
(2) في (د 1): " الأجنبي ".

(8/213)


الثوب على البت عشرة، وهو مقصور أحدَ عشرَ، والأجرةُ درهمٌ، فينتظم في هذه الصورة أن نقول على قول العين، وعلى تضمين الأجير: إن أراد المالك تضمينَ الأجنبي، ضمّنه قيمةَ الثوب على البت، وكذلك إن أراد تضمين الأجير، ولانطلق هذا الحد في الصورة الأولى، فإنا صوّرنا القِصارة زائدةً على الأجرة [في الصورة الأولى] (1)، ورأينا قصرَ حق الأجير على مقدار أُجرته، فنظمنا في تلك الصورة ما يليق [بها] (2) ولا يحيط الناظر بهذه المسائل علماً، ما لم تكن قاعدةُ التفليس على ذُكرٍ.
5398 - وما ذكرناه فيه إذا اختار المالك في مسألة إتلاف الأجنبي فَسْخَ العقد المعقود على القِصارة، فإن أجازَ العقدَ فيها، غرم للقصار الأجرة المسماة، ثم إن قلنا: يد الأجير يدُ أمانة، [فلا] (3) تبعة للمستأجر على الأجير، فيغرِّم الأجنبيَّ قيمةَ الثوب مقصوراً، بكمالها. وإن قلنا: الأجير ضامن تخيَّر المالك، فإن شاء غرّم الأجير القيمةَ التامة والثوب مقصور، ثم إنه يرجع بما يغرَمه على الأجنبي المتلِف، وإن غرّم الأجنبيَّ، استقر الضمان عليه، فيغرّمه قيمةَ الثوب مقصوراً، ولا تعلّق للأجير بالثوب؛ فإنه استوفى أجرته من المستأجر؛ إذْ أجاز العقد، فلم يبق له طَلِبة.
5399 - فأما إذا تلف الثوبُ بإتلاف المالك، فالأجرة تتقرر على كل قول؛ فإنها مستقرة على قول الأثر، وإن جعلنا القِصارة عيناً، فقد أتلفها مستحقُّها، فصار بإتلافها قابضاً، كالمشتري يُتلف المبيعَ، فإن الثمنَ يتقرر عليه.
5405 - [وأما إذا] (4) تلف الثوبُ بإتلاف الأجير، فينبني هذا على القولين في أن البائع إذا أتلف المبيع، فكيف حكمه. وفيه قولان:
أحدهما - أنها كآفةٍ سماوية.
__________
(1) ساقط من الأصل.
(2) في الأصل. بهذا.
(3) في الأصل: من يد من لا تبعة.
(4) في الأصل: وإن تلف.

(8/214)


والثاني - أنها كجناية أجنبي.
5401 - فإن جعلناها كآفة سماوية، وجعلنا القصارة أثراً، فللأجير أجرته، ويغرَم هو قيمةَ الثوب مقصوراً للمالك. وإن قلنا: القصارة عين، فتسقط الأجرة بسبب إتلاف الأجير الثوبَ، وتفويته القصارةَ، ويغرَم للمالك ما يزيد على حقه من الأجرة، كما فصّلته في الصورة المقدّمة.
5402 - وإن جعلنا إتلافَه كجناية أجنبي، وقلنا: القِصارةُ أثر، فله أَجْرُه، وعليه قيمةُ الثوب مقصوراً.
5403 - وإن قلنا: القصارة عين مالٍ، فللمالك الخيار في فسخ العقد المعقود على القصارة، فإن فسخ، سقطت الأجرة، وطالب الأجيرَ [بما] (1) يطالب به الأجنبي المتلِف، ولا شك أن حق الأجير محطوطٌ من القيمة كما ذكرنا وجهَ الكلام فيه على أبلغ سبيل في البيان.
ثم لا شك أنه لا يستحق الأجرة؛ فإنا (2) حططناها له، والقول في أجرة المثل، والأجرة المسماة على ما تفصل. وإن اختار المالك الإجارة، استحق الأجير الأجرة، وغرم قيمة الثوب مقصوراً.
وقد نجزت المسائل على أحسن مساق، والله المشكور.
...
__________
(1) في الأصل: ما.
(2) (د 1): قلنا حططناها.

(8/215)