نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب إحياء الموات (1)
قال الشافعي رحمه الله: " بلاد المسلمين شيئان عَامرٌ وموات ... إلى آخره " (2).
5566 - الأصل في الكتاب السنة والإجماع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضاًً ميتةً، فهي له " (3). وقال صلى الله عليه وسلم: " مَوتان (4) الأرض لله، ولرسوله، ثم هي لكم مني أيها المسلمون " (5). وأجمع المسلمون على الأصل، وإن اختلفوا في التفاصيل.
5567 - ثم ابتدأ الشافعي، فقسم الأراضي، وعبر عنها بالبلاد على دأب العرب، وأراد بالبلاد الأراضي.
والتقسيم الجامع فيها أن نقول: الأراضي تنقسم إلى أراضي بلاد الإسلام وإلى أراضي بلاد الكفر، فأما أراضي بلاد الإسلام تنقسم (6) إلى عامر وغامر، فالعامر لأهله، وكذلك حقوق الأراضي، وسأجمع إن شاء الله قولاً شافياً في حقوق الأملاك.
__________
(1) من هنا صار العمل يعتمد على ثلاث نسخ، نسخة الأصل (د 2) مع نسخة (د 1) وزاد عليهما نسخة (ت 3).
(2) ر. المختصر: 3/ 102.
(3) حديث: "من أحيا أرضاً ميتة ... " أخرجه البيهقي: 6/ 147، 148، وهو عند أبي داود بمعناه: باب إقطاع الأرضين، ح 3071، وانظر التلخيص: 3/ 139 ح 1327.
(4) موتان: بفتح الميم والواو.
(5) حديث: "موتان الأرض لله ورسوله ... " عند الشافعي في الأم: 4/ 54، بلفظ: " عادي الأرض " وعند البيهقي بهذا اللفظ: 6/ 143.
وقد نبه الحافظ أن قوله: " أيها المسلمون " مدرج، وليس في شيء من طرق الحديث. انظر التلخيص: 3/ 138 ح1325.
(6) جواب (أما) بدون الفاء، كدأب إمام الحرمين في أحيان كثيرة.

(8/281)


وأما الغامر، فقسمان، قسمٌ لم يجرِ عليه ملكٌ في الجاهلية والإسلام، وهو المَوَات الذي يُملك بالإحياء. وغرض الباب بيان أحكامه، إن شاء الله عز وجل.
وقسم جرى عليه ملكٌ، وذلك ينقسم: قسمٌ جرى عليه ملك، ثم درست العمارة، فهو ملكٌ لمالكه، والأملاك لا تزول بزوال العمارات.
فإن كان مالكه متعيّناً، لم يخف حكمه.
وإن تطاول الزمن، وأشكل المالك في فترات [وانجلى لأهل] (1) النواحي، فهو ملك لمسلم غير متعيّن، والأمر فيه مفوّض إلى رأي الإمام، فإن رأى أن يحفظه ليتبيّن مالكه، أو وارثه، فَعَلَ، وإن رأى أن يبيعه، ويحفظ ثمنه على مالكه، فيفعل من ذلك ما يرى النظر فيه. ثم إن أراد أن يستقرض ذلك على بيت المال، فله ذلك.
ولعلنا نستقصي ما يتعلّق بالفقه من أحكام الإيالة في موضعٍ نوفق له، إن شاء الله تعالى، وأراه لائقاً بأدب القضاء.
هذا إذا كانت الأرض ملكاً للمسلمين، فدرست عمارتها، وغاب ملاكها.
5568 - فأما إذا كان على الأرض عمارة جاهلية، وقد خفي الأمر، ولم يدر كيف جرى استيلاء المسلمين عليها؟ فإذا استبهم كما وصفناه، ففي تملكه بالإحياء قولان منصوصان للشافعي: أحدهما - أنها تملك كما يملك ركازُهم، وإن لم يُدر كيف الاستيلاء، فإن آثارهم القديمة لا معوّل عليها، ولا حُرمة لها.
والقول الثاني - لا تملك بالإحياء؛ فإنها ليست مواتاً، بل قد جرى الملك عليها، والموات هو الذي لم يجر عليها (2) ملك قط. وهذا القائل ينفصل عن الركاز، ويقول: هو عرضةُ الضياع، فلو لم يأخذه أول واجدٍ، لأخذه غيره. ونحن نرى تمليك الملتقط اللقطة، وإن علمناها لمسلم، لقربت مما ذكرناه، كما سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: في فترات وأهل النواحي. والعبارة على الحالين قلقة. ولعلّ المعنى: "وأشكل معرفة المالك في فترات، وانجلى لأهل النواحي في فترات" والله أعلم.
(2) كذا في النسختين بضمير المؤنث، وهو صحيح على تأويل "الأرض" مثلاً.

(8/282)


فأما ا"لأرض، فلا نخشى فواتَها، ولا نتوقع الاستزلال (1) فيها.
ثم من لم ير إحياءها (2)، فإن أمكن معرفة كيفية الاستيلاء، أحدثنا الحكمَ على مقتضاه، فإن كان الاستيلاء عَنوة، سُلك بالأرض مسلك المغانم، ثم حصة الغانمين تلتحق بملك المسلم الذي لا يُدرى، وسبيله سبيل الضوالّ. وإن عرفنا أن الاستيلاء من غير إيجاف خيلٍ وركاب، فسبيله سبيل الفيء، وإن أشكل الأمر، لم يخرج عن ملكٍ جُهل مالكه سواء كان من الغانمين أو من المرتزقة.
والذي أراه في ذلك أنه إذا كان إدراك كيفية الاستيلاء ممكناً، فلا يلتحق هذا بصورة القولين، وإنما القولان فيه إذا عرفنا أن العمارة جاهلية، وأشكل علينا دخولُها تحت أيدينا.
5569 - وذكر الشيخ أبو علي أن العمارة إذا تقادمت، وانتهت إلى عصر عادٍ وثمود، في الأمم السالفة، فلا حكم لها، وهي ملتحقة بالموات قولاً واحداً، واحتُج عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " عادي (3) الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني أيها المسلمون "، فعلى طريقه (4) لو تفاحش التقدّم والتقادم، فلا حكم له (5)، وقد أوضحتُ أن العمارة الجاهلية إذا قربت، وأمكن استدراك كيفية الاستيلاء من التواريخ، فيتعين الحكم بما يظهر في ذلك. وإن استبهم الأمرُ فيخرّج القولان حينئذٍ، ولعل المرعي في التقدم الذي ذكره الشيخ أن يكون بحيث لا ينتهي إليه ضبطُ ناقلٍ، إلا على إجمال.
وما ذكره ليس متفقاً عليه. ومعظم الأصحاب على مخالفته، والمصيرِ إلى طرد القولين، مهما رأينا عمارة جاهلية.
__________
(1) الاستزلال: بهذا الرسم تماماً في النسخ الثلاث، ولعلها بمعنى الأخد والاستيلاء. من: زلّ يزلّ من باب ضرب إذا أخذ، أو هي بمعنى الخطأ والانحراف، على نحو قوله سبحانه: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَان} [آل عمران: 155]، أي استدرجهم إلى الزلل. (المعجم، والمصباح).
(2) عبارة (د 1)، (ت 3): ثم من أحياها.
(3) هذه الرواية بلفظ (عادي الأرض) هي لذات الحديث الذي تقدم آنفاً.
(4) (د 1): قوله.
(5) "له" الضمير يعود على الإحياء.

(8/283)


وإذا لم نر أثرَ عمارة أصلاً، وقلنا إنه الموات الذي يُملك بالإحياء، فلسنا نشترط فيما ذكرناه في ذلك العِلْمَ والدرْك الحقيقي؛ فإنا لا نبعد أن ذلك الذي نقدّره مواتاً كان مملوكاً قبلُ، ولكن يكفي ألا نرى أثرَ عمارةٍ، ولا نراه من حقوق (1) موضعِ أثرِ عمارة الإسلام، ولا نعلم أنه كان عامراً فدرست عمارته بسبب من الأسباب، وإنما نُجري أحكام الأملاك دواماًً وابتداء على الظواهر، ولا يتصور مُدرَك القطع فيها.
هذا بيان أراضي بلاد الإسلام في غرضنا المتعلق بالتقسيم.
5575 - فأما أراضي بلاد الشرك، فإنها تنقسم إلى عَامرٍ، وموات. فأما العامر فملك الكفار، وإن استولينا عليها قهراً، كانت غنيمة، وإن انجلَوْا عنها مرعوبين من غير قتال، فهو فيءٌ إذا ثبتت الأيدي عليها.
فأما الموات في دار الحرب، فقسمان: قسم كانوا يذبّون عنه، ويحامون، وقسم لا يذبون عنه.
فأما ما كانوا يذبون عنه، فإن استولينا على ديارهم، نُظر: فإن جرى الاستيلاء عَنوة عن قتال واقتهار، فكل من له حقٌّ في المغنم يصير فيه بمثابة المتحجّر، وسنذكر أن من يحجِّر موضعاً ليُحييه، فهو أولى به.
وإن كان الاستيلاء من غير قتالٍ، فأهل الفيء في ذلك الموات بمثابة المتحجرين، كما ذكرنا. وسيأتي بيان التحجُّر، ومعناه، وحكمه.
وإن كانوا لا يذبّون عن ذلك الموات، فهو مما يشترك فيه كل محيي، فإن أحياه مسلم، ملكه، وإن أحياه كافرٌ ملكه؛ فإنه ليس من بلاد الإسلام، حتى يمتنع إحياؤه على الكفار، كما سنذكره من بعد.
5571 - ومما يتعلق بذلك أنا إذا قررنا طائفةً من الكفار على بلدةٍ لهم صُلحاً، ووضعنا الأمر على ألاَّ نتعرّض لديارهم ويقبلوا الجزية، فإذا كان ببلدتهم مواتٌ، وكانوا يذبّون عنه، كما قدّمنا وصفه، فليس للمسلمين إحياء مواتهم، كما ليس
__________
(1) عبارة (د 1)، (ت 3): من حقوق موضعٍ عليه أثر عمارة الإسلام.

(8/284)


للكفار إحياءُ موات بلاد الإسلام؛ فإن موات بلدتهم منسوبٌ إليها، كما أن موات بلاد الإسلام منسوب إلى بلاد الإسلام.
وليس هذا الذي ذكرناه على حد التحجّر؛ فإن التحجر لا يُثبت حكماً دائماً، ومن تحجر ثم توانى، بطل حقُّه، والاختصاصُ الذي ذكرناه دائمٌ للكفار في البلدة المختصة بهم، وللمسلمين في موات بلاد الإسلام، ثم الموات الذي يملك بالإحياء في بلاد المسلمين يختص به المسلمون، فلا يملكه أهل الذمة إذا أحْيَوْه، خلافاً لأبي حنيقة (1).
5572 - ولا يتوقف حصول الملك بالإحياء للمسلم على إذن الإمام وإقطاعه، خلافاًً لأبي حنيفة (2).
5573 - ثم قد كثرت غلطات المزني في هذا الكتاب، وبلغت مبلغاً لا يليق بمنصبه، ولا محمل لها عندي إلا شيء واحد، وهو أنه أحاط بفقه المسائل وأتى به على وجهه، وصادف في الكتاب ألفاظاً قليلةَ الجدوى في الفقه، فلعله انتسخها من نسخة، فوقع فيها بعض الزلل، والخللُ يتطرق إلى اعتماد النسخ (3)، فممّا أُخذ عليه أنه قال: " والموات الثاني ما لم يملكه أحد في الإسلام يُعرف، فإذا لم يملكه، فهو الموات الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4).
وهذا فيه خلل؛ لأنه جعل قوله: "إذا لم يملك" تكراراً لما سبق من قوله: " والموات الثاني ما لم يملكه " [فجعلهما] (5) شيئاً واحداً. وإنما قال الشافعي: " أو
__________
(1) ر. البدائع: 6/ 195، حاشية ابن عابدين 5/ 277، الاختيار 3/ 66، تكملة فتح القدير: 9/ 5.
(2) ر. البدائع: 6/ 194، حاشية ابن عابدين: 5/ 278، الاختيار: 3/ 66، تكملة فتح القدير: 9/ 3.
(3) (د 1)، (ت 3): والنسخ.
(4) عبارة المزني بتمامها: "والموات شيآن: موات ما قد كان عامراً لأهله، معروفاً في الإسلام، ثم ذهبت عمارته، فصار مواتاً، فذلك كالعامر لأهله، لا يملك إلا بإذنهم.
والموات الثاني - ما لم يملكه أحد في الإسلام يعرف؛ ولا عمارة ملك في الجاهلية، إذا لم يملك. فذلك الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " المختصر: 3/ 102.
(5) في الأصل: وبجعلهما.

(8/285)


لم يُملك، فهو الموات "، فجعل المواتَ الذي يملك بالإحياء قسمين: أحدهما - لم يملكه أحد في الإسلام يعرف، وليس عليه عمارة في الجاهلية، والثاني - ما عليه عمارة في الجاهلية، فجعل المزني القسمين قسماً واحداً.
فصل
قال: " وسواء كان إلى جنب قرية عامرة، أو نهر ... إلى آخره " (1).
5574 - قصدَ الشافعي بذلك الردَّ على أبي حنيفة (2)، حيث قال: " الموات الذي بقرب العمران [لا يملكه] (3) غير ملاّك العمران بالإحياء، ومالك العمران أحق بقدر صَيْحته (4) منه في كل جانب ".
5575 - فأما عندنا، فالموات القريب من العمران والبعيد سواء، إذا لم يكن من حريم العمران وفِنائه، والحقوق المعدودة من حقوق الأملاك: كمسيل الماء، ومناخ الإبل، ومراح الغنم، ومتحدّث النادي، وملعب الصبيان، وسأجمع حقوقَ الأملاك في فصل -إن شاء الله تعالى- وهو من أهم مقاصد الكتاب.
5576 - والغرض الآن أن ما لا يتعلق بحقوق الأملاك من الموات يملكه من يبتدره بالإحياء. واحتج الشافعي عليه بأنه صلى الله عليه وسلم أقطع ابن مسعود موضعاً يقال له: "دور" وكان بين ظهراني عمارة الأنصار، فجاءه حيٌّ من بني زهرة يقال لهم: بنو عبد بن زهرة، فقالوا: نَكِّب عنَّا ابنَ أم عبد، قال صلى الله عليه وسلم: " فلم ابتعثني اللهُ إذاً، إن الله لا يقدس أمةً لا يؤخد للضعيف فيهم حقُّه" (5). وأراد حقَّ
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 103.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 134، البدائع: 6/ 194، تكملة فتح القدير: 9/ 2.
(3) في النسخ الثلاث: يملك.
(4) (د 1): حصته. وعبارة الإمام في الدرّة " بقدر مدى صوته " مما يؤكد صحة نسخة اصل، ومعها (ت 3).
(5) حديث إقطاع النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود رواه الشافعي في الأم: 3/ 268، 273، ومن طريقه البيهقي: 6/ 145، قال الحافظ: وهو مرسل، ووصله الطبراني في الكبير: 10/ 274، ح10534. (التلخيص: 3/ 140 ح1330).

(8/286)


الإكرام والتعظيم، وأبان أنه ضعيف في جسده، حقيقٌ بأن يعظم حقُّه، لمقامه في العلم والدين، والحق نوعان حقٌّ واجب، يُقضى ويقتضى (1)، وحق تقديم وتفضيل.
5577 - وغلط المزني، فقال: فجاء حيٌّ من بني عُذْرة (2)، وهذا غلط؛ لأن عبدَ بن زهرة، لم يكونوا من بني عُذْرة، وإنما هم من قريش، وهم رهط عبد الرحمن بن عوف.
وغلط المزني غلطاً آخر، حيث قال: " وإن ذلك لأهل العامر ". والشافعي قال: ليس ذلك لأهل العامر.
وغلط بعد هذا غلطاً آخر، فقال: " والموات الذي للسلطان "، واقتصر على هذا، وهذا كلام يستدعي جواباً، والشافعي قال: والموات الذي للسلطان أن يقطعه كذا وكذا (3).
فصل
قال: " والذي عرفناه نصاً ودليلاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حمى النقيع (4)، وهو بلد ليس بالواسع ... إلى آخره " (5).
5578 - مضمون الفصل الحمى، وتصويره: أن يحمي الإمامُ ناحيةً، مرعىً لإبل المصالح، ويَمنع نَعَمَ العامة عنه. وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى لخاصته ولمصالح المسلمين من نَعَم الصدقة والجزية، والضوالّ، والخيل المعدّة في سبيل الله، فلا يُنكِر حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم (6) أحدٌ.
__________
(1) سقطت من (د 1)، (ت 3).
(2) في مختصر المزني المطبوع بين أيدينا: "فجاء حي من بني زهرة" على الرواية التي صححها إمام الحرمين. راجع المختصر: 3/ 103.
(3) هذا الغلط الثالث، تراه مصوّباً في نسخة المختصر المطبوعة، راجع: 3/ 103.
(4) النقيع: موضع قرب المدينة، وهو بالنون المثقلة المفتوحة، على بعد عشرين فرسخاً من المدينة، وهو من ديار مزينة (معجم البلدان).
(5) ر. المختصر: 3/ 104.
(6) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب أهل الدار يُبيَّنون فيصاب الوِلدان والذراري، ح3013، وكتاب الشرب والمساقاة، باب لا حمى إلا لله ورسوله، ح 2370.

(8/287)


5579 - وهل يجوز للأئمة بعده أن يحموا؟
أما إن حمَوْا لخاصتهم، لم يجز، وإن جاز لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهو إذاً معدودٌ من خواصّه، وخصائصه.
وهل للأئمة أن يحموا لمصالح المسلمين؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يجوز لهم ذلك، كما لا يجوز لآحاد الناس، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حمى إلا لله ورسوله " (1).
والثاني - يجوز، والحديث محمول على الحمى للخاصة، بدليل ما روي في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا حمى إلا لله ولرسوله وللأئمة بعده " (2).
وصح أن عُمر حمى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم الزَّبَذة، وولّى حماه مولاه هُنَيّ، وقال " يا هُنيّ ضمَّ جناحك للناس "، وعنى به تواضع ولا تتكبر، " واتق دعوة المظلوم؛ فإن دعوة المظلوم مجابة، وأدخل ربّ الصُرَيْمة والغُنيمة، وإياك ونَعَم ابنِ عوف ونعمَ ابنِ عفان؛ فإنهما إن تهْلِك ماشيتُهما يرجعا إلى نخل وزرع، وإن رب الغنيمة يأتيني بعياله، ويقول: يا أمير المؤمنين أفتاركُه أنا؟ لا أبالك، فالكلأ أهون عليّ من الدينار والدرهم " (3) وأراد به أنه إن هلكت ماشيته، احْتجتُ إلى الإنفاق عليه من الدنانير والدراهم في بيت المال، والكلأ دونهما.
5580 - ثم قال: " حمى رسول صلى الله عليه وسلم النقيع " ثم فسر النقيع، فقال: " هو بلد ليس بالواسع الذي إذا حُمي ضاقت البلاد على أهل المواشي حوله ". وقال: " وإنه قليل من كثير مجاوزٌ للقدر ". وهذا مختلٌّ؛ فإن الشافعي قال: " فإنه
__________
(1) رواه البخاري، وجعله ترجمة للباب بلفظه، فقال: باب لا حمى إلا لله ولرسوله. وهو برقم الحديث السابق نفسه. وانظر التلخيص: 2/ 533 حديث 1106.
(2) لم أصل إلى هذه الرواية.
(3) حديث عمر ومولاه هني رضي الله عنهما رواه البخاري بهذا السياق، غير أنه لم يذكر الربذة (كتاب الجهاد، باب إذا أسلم قوم في دار الحرب، ح 3059)، وقد بين ابن سعد أنه كان على حمى الربذة (فتح الباري 6/ 176) ورواه الشافعي في مسنده: ح 434، وعبد الرزاق في المصنف: ح 19751.
وننبه هنا إلى أننا اعتمدنا في مراجعة نص الحديث في البخاري طبعة دار السلام للكتب الستة في مجلد واحد، وفيها " ... إن تهلك ماشيتهما يرجعان ... " كذا بإثبات النون؛ مما لفت نظرنا وجعلنا نبحث لها عن وجه في شواهد التوضيح والتصحيح لابن مالك، وأخيراً راجعنا كثيراً من طبعات البخاري فلم نجد في أيٍّ منها إثبات النون، فليتنبّه الباحثون لذلك.

(8/288)


قليل من كثير غيرُ مجاوز للقدر "، وقد يتجه تصويب المزني بأن نجعل (مجاوز) نعتاً لكثير، [فنكسر] (1) الزاي، فيقال: من كثيرٍ مجاوزٍ للقدر.
5581 - ثم قال الشافعي: " وفي حماه -[عنى] (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم- صلاحٌ لعامة المسلمين، وذكر وجهَ الصلاح (3).
وكان للعرب في الجاهلية حِمًى، فكان الكبير منهم يحمي لنفسه، إذا انتجع بلداً مخصباً، فكان [يوفي] (4) بكلبٍ على جبل أو نشزٍ، ثم استعوى الكلبَ، ووقف له من يسمع منتهى صوته، فحيث انتهى عواؤه حماه من كل ناحية لنفسه، وهو يرعى مع العامة فيما سواه، ولا شك في فساد مثل هذا.
ثم قال المزني: ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يحمي، إن شاء الله تعالى، لصلاح عامة المسلمين. وهذا استثناء (5) في غير موضعه؛ فإنه يتضمن شكّاً، وتردّداً، والشافعي لم يقل هكذا، ولم يذكر الاستثناء في حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر الاستثناء، فحذف المزني الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضع الاستثناء مكانه.
5582 - ثم احتج الشافعي على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يحمي إلا لصلاح العامة، وإن جاز له الحمى لخاصته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يملك [مالاً] (6) إلا ما لا غنى به وبعياله عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم ملك خمسَ الفيء والغنيمة، وأربعة أخماس الفيء، وكان يصرف خمس الخمس إلى الكُراع والسلاح عُدّةً في سبيل الله، وينفق على نفسه وعياله من أربعة أخماس الفيء، ويدّخر منها نفقةَ
__________
(1) في الأصل: ونكسر.
(2) في الأصل: غير.
(3) عبارة المختصر: "وفيه صلاحٌ لعامة المسلمين بأن تكون الخيل المعدّة لسبيل الله تبارك وتعالى، وما فضل من سهمان أهل الصدقات، وما فضل من النعم التي تؤخد من الجزية، ترعى جميعها فيه .. " جزء 3/ 104.
(4) في الأصل: يؤتى. يوفي بكلب على جبل، أي يعلو به عليه، من أوفى على المكان: أي أشرف عليه. (المعجم. والمصباح).
(5) يشير إلى قوله: إن شاء الله تعالى.
(6) زيادة من (د 1)، (ت 3).

(8/289)


سنتهم، فما فضل كان يصرفه إلى الكُراع والسلاح، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة " (1).
[وأخلّ] (2) المزني بنقل هذا اللفظ (3)، لأنه نقل: " حتى صيّر ما ملّكه الله من خُمس الخُمس قوت سنته " (4)، وهذا يوهم أنه كان ينفق من خمس الخمس، وليس الأمر كذلك.
والشافعي قال: " صيّر ما ملّكه الله من خمس الخمس مردوداً في الكراع والسلاح ".
5583 - ثم من بقية الكلام في الحمى أنا إذا جوّزنا للإمام أن يحمي، فحمى على موجب الشرع، فلو أراد إمامٌ بعده أن ينقض حمى الإمام قبله، ففي جواز النقض قولان: أحد القولين- أنه يجوز، ولعله الأصح؛ فإن حمى الإمام اجتهادٌ منه في جهة النظر، وطلبٌ لمصلحة المسلمين، فإذا رأى مَن بعده ردَّ الحمى نظراً، لم يُعترض عليه.
والقول الثاني - لا يجوز نقضه؛ فإنه في حكم المُحْرز للجهة المعيّنة، فلا سبيل إلى نقضه، كما إذا جعل بقعةً مسجداً، أو مقبرةً، فلا يجوز تغييره، وإن اقتضت المصلحة التغيير.
والقائل الأول ينفصل عن هذا، ويقول: المسجد يترتب على ملك مالك، ثم هو تصرفٌ لازمٌ، فلم يقبل النقضَ، والحمى يرد على الموات، وهو ضربٌ من الحَجْر على حسب المصلحة، فنقضُه، وردُّه إلى ما كان عليه من حكم العموم لا يشابه نقضَ تصرفات الملاك.
وأطلق الأئمةُ القولَ بأن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يُنقض،
__________
(1) حديث: إنا معاشر الأنبياء لا نورث. متفق عليه من حديث أبي بكر رضي الله عنه. بلفظ: " لا نورث ما تركناه صدقة" وبلفظ المؤلف عند النسائي في الكبرى. (البخاري، ح 3093، 3712، 4046، 4241، 6726 ومسلم: الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ... "، ح 1758، 1759، والنسائي، ح 6275 طبعة مؤسسة الرسالة، وانظر التلخيص: 3/ 213 ح 1461).
(2) في الأصل، (د 1): وأخذ.
(3) (د 1)، (ت 3): الكلام.
(4) نص عبارة المختصر: " حتى صير ما ملّكه الله من خمس الخمس، وماله -إذا حبس قوت سنته - مردوداً في مصلحتهم في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله " جزء 3/ 107.

(8/290)


وقالوا: إنه نصٌّ، ونصُّ الشارع لا يتطرق إليه نقضٌ، وحمى الإمام اجتهادٌ، ولا يمتنع نقض الاجتهاد. وقال قائلون فيما ذكره الأئمة، وفيما ذكره الشيخ أبو علي وغيرُه: لو ظهر لنا أن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لعلّةٍ، ثم تبيّن زوالُ العلة، ففي ردّ حماه إلى حكم العموم وجهان أيضاًً.
ثم من جوّز الردَّ إلى حكم العموم يقول: لا بد من صَدَر ذلك عن رأيٍ متَّبع، من جهة الوالي، ولا نقول: كما (1) زالت العلة، انقطع حكم الحمى، وذلك أن هذا [مختلفٌ] (2) فيه، والهجوم على مخالفة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُخطرٌ (3)، فلا بد عند من يرى جوازَ الرد إلى حكم العموم من نظرِ صاحب الأمر، فينتظم في جواز نقض الحمى قولان في حمى الإمام، ثم وجهان مرتبان في حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5584 - ومما يجب التنبه له أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد بين الولاة والقضاة ومن جوّز نقض الحمى جوزه عن اجتهادٍ، وقد يُخيِّل ذلك أنه من باب نقض الاجتهاد بالاجتهاد قلنا: المعنيُّ بقول العلماء لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد أن القاضي إذا أمضى حكمه وقضاءه في واقعةٍ، وكان لقضائه مستندٌ من مذهب العلماء، ومتعلّق بالحجة، فإذا أراد قاضٍ بعده أن ينقض قضاءه، لم يجد إليه سبيلاً. وأما الحمى فمن جوّز نقضَه، فليس يأخذه من هذا المأخذ، ولكنه يقول: حَمْيُ الأول كان لمصلحة، فالمتبع المصلحة في كل عصر.
ثم إذا جوزنا للإمام أن ينقض حَمْي إمامٍ قبله، فيجوز للحامي أن ينقض حَمْي نفسه، إذا رأى في ذلك مصلحة، ولا يتوقف جواز النقض على ضرورة مرهقة.
فهذا منتهى الكلام ومأخذه في الحمى، وما يتعلق به ابتداءً ونقضاً انتهاءً.
ولو ابتدر مبتدر، فأحيا قطعةَ أرضٍ مما حماه، فسنذكر هذا مفصلاً، إن شاء الله تعالى.
...
__________
(1) كما: بمعنى (عندما). وهذا جارٍ بكثرة في لسان إمام الحرمين.
(2) في الأصل: مجتهد.
(3) مخطر: من أخطر المرضُ ونحوه فلاناً: جعله بين السلامة والخطر، وهو مثل: أنجد وأتهم، إذا دخل نجداً وتهامة، فأخطر: دخل في الخطر. (المعجم).

(8/291)


باب ما يكون إحياءً
5585 - قد ذكرنا أن إحياء الموات -على التفصيل المقدّم- سببٌ يُملّكه. وهذا الباب معقود لتفصيله، وكيفيته، وليس يكاد يخفى أن صفة الإحياء تختلف باختلاف المقصود في المُحيا، والمتبع في ذلك العرفُ، وقد مهدنا في (الأساليب) وغيرِها: " أن ما ورد في الشرع غيرَ محدود، وهو ما يختلف تفصيله، فالرجوع فيه إلى العرف، وسبب اقتصار الشرع على الإطلاق الإحالةُ على ما يفهمه أهل العرف في الفن الذي ورد الخطاب فيه " (1).
5586 - فنطلق في صدر الباب أن ما يعد إحياءً عرفاً في الغرض المقصود، فهو سبب تملّك الموات، وما لا فلا.
5587 - فإن أراد أن يتخد من الموات مسكناً فإحياؤها (2) بأن يحُوطَها ويسقُف (3) البعض بأن يتأتى سُكونه (4)، ثم يقع استتمامُ الأبنية والمرافق بعد جريان الملك.
5588 - وإن أراد أن يتخد من الأرض حظيرة تأوي إليها الأغنام، والمواشي، فقد رأيت الأصحاب متفقين في الطرق على أنه لا يكفي أن ينصب حوالي البقعة شوكاً وسعفاً، وجريداً، من غير أن يبني؛ فإنّ الزريبة التي يُقصد تملكها لا يُكتفَى بهذا التحويط فيها، وإنما يعتاد الاقتصارَ على هذا القدر المنتجِعُ (5) المجتاز، وأيضاً فإن
__________
(1) نهاية ما ذكره في (الأساليب).
(2) تأنيث الضمير على معنى البقعة أو الدار.
(3) سقفتُ البيت سقفاً من باب قتل. (المصباح).
(4) سكوناً: أي سكناً، وهذا جارٍ في لفظ إمام الحرمين، وتلميذه أبي حامد الغزالي كثيراً.
(5) المنتجِع: طالبُ الكلأ، يقصد أخصب بقعةٍ يراها، وانتجع القوم: إذا ذهبوا لطلب الكلأ في موضعه. (المصباح).

(8/292)


ما يفرض من ذلك ليس تغييراً للأرض به مبالاة، وإنما هو بمثابة نصب الأخبية والخيام، ثم لو حوّط على الحظيرة حائطاً مبنياً، فإذاك، ولو أثبت [بناء] (1) في طرفٍ يأوي إليه الراعي والمراقب، وجعل الباقي حظيرةً من سعفٍ أو قصبٍ، فقد ذهب بعضُ أصحابنا إلى أن هذا كافٍ.
والمنقولُ عن القاضي وما اقتضاه كلام شيخنا (2) أنه لا يملك صاحبُ هذه الواقعة إلا محلَّ البناء، والباقي يجري على قياس التحويط بالسعف والجريد، وليس كما إذا وُجد البناء ممن يبغي مسكناً بعد التحويط؛ فإنَّا نجعل ذلك إحياءً، تعويلاً على التحويط المعتبر مع إمكان السكون في المبنى، ونصب السَّعَفِ والقصب ليس حائطاً معتبراً.
5589 - فإن أراد أن يتّخد بستاناً، فلا بد من أن يحوِّط ويحفر الجداول ويهيّىء مجرى الماء إلى الأشجار. وذكر الأصحاب أنه لا بد من غرس الأشجار؛ لأن اسمَ البستان لا ينطلق على الأرض البيضاء الخليّة عن الغراس. فإن أراد مزرعةً، لم يحتج إلى التّحويط فوقها؛ فإن معظم المزارع بارزٌ لا تحتوي عليه الحيطان، ولكن لا بد من تمييز البقعة أوّلاً بجمع ترابٍ حولها؛ حتى تتميز عن الغير، وهذا التمييز فيها ينزل منزلة التحويط في غيرها، ثم لا بد من أن يسوق إليها الماء من نهرٍ، أو يُنبط (3) لها عَيْناً، أو يحفر بئراً، لتعتمد الزراعة الشِّرب العِدَّ، وإذا أجرى ماءً من نهرٍ عِدٍّ، كفى.
وإن كان يحتاج إلى شراء الماء؛ فإن الشرط أن يتمكن من السقي من الماء العِدّ.
5590 - ثم اختلف الأئمة في أنا هل نشترط في إتمام الإحياء أن تُزرعَ وينبت البذر في الأرض؟ فمن أصحابنا من قال: لا بد منه، وهو ظاهر النص، فإن الشافعي قال: " وتزرع ".
ومن أصحابنا من قال: لا حاجة إلى إيقاع الزراعة؛ فإن الإحياء تهيئةُ البقعةِ للمقصود، وإيقاع الانتفاع ليس شرطاً؛ فإن من يبغي اتّخاد مسكنٍ يكفيه أن يهىء
__________
(1) في الأصل: مأوى. وفي ت 3: " ولا يثبت بنا طرفا يأوي " وهو تحريف متفاحش.
(2) شيخنا: يعني والده، وقد صرح بذلك الرافعي. (فتح العزيز: 6/ 244).
(3) يُنبط: يستخرج. وماضيه أنبط إنباطاً. (المصباح).

(8/293)


البقعة لإمكان السكون فيه، ولا يشترط في تتمة الإحياء أن يسكن.
وقد ذكرنا أن ظاهر المذهب أنه إذا أراد اتخاد بستانٍ، فلا بدّ من غرس الفسيل، وهذا القائل يفرق بين البستان والمزرعة، ويقول: اسم البستان لا يُطلق على البقعة قبل الغرس، واسم المزرعة يثبت قبل الزراعة.
ومن أصحابنا من أجرى في الغراس والمقصودُ البستانُ خلافاً، وزعم أنه لا يشترط في وجهٍ؛ فتحصّل في الزراعة والغرس ثلاثةُ أوجه.
وذكر شيخي تردداً في أنا إذا جرينا على الأصح في اشتراط الغرس في البستان، فهل يشترط أن يَعْلَق الغراس، أم يكفي في جريان المِلْك الغرس؟ فذكر في ذلك خلافاً، والوجه عندنا القطعُ بأن العلوق ليس شرطاً.
ولا شك أنه يشترط فى اتخاد المزرعة التسوية والتكريب والتقليب بالثيران والفدان (1)، أو المساحي، هذا لا بد منه، فلو عمد إلى مواتٍ، وحرثه وبذره، معتمداً على القَطْر والمطر، فقد تردد صاحب التقريب في أن هذا هل يكون إحياء مملِّكاً؟ ومال إلى أنه لا يكون مملّكاً؛ فإن هذا لا يعدّ أمراً مؤبداً معتمداً، ولا اعتماد حتى تستند البقعةُ إلى ماءٍ يعتمد، كما قدمناه.
قال: ويحتمل أن يحصل الملك؛ فإن المطر من جهاتِ السقي، ويحتمل أن يفصّل الأمر في ذلك رجوعاً إلى العرف، ويقال: إن كان أهل الناحية يعتمدون المطر. ويتّكلون عليه، فيكون ما فعله إحياء، وإن كانوا لا يعتمدون المطر، فمن (2) فعل ما وصفناه عُدَّ طالباً رزقاً على غرر، فهذا محلّ تردد صاحب التقريب.
فإن قيل: هلاّ قطعتم في الصورة الأخيرة بأنه لا يملك لما أشرتم إليه، قلنا: لأن المزرعة تنقسم في عرف الزرّاعين، فمنها مزرعةٌ أصلية تعتمد ماءً عِدّاً، ومنها مزارع مهيّأة على الأمطار.
5591 - فهذه جُملٌ من كلام الأصحاب فيما يكون إحياءً وفيما لا يكون إحياءً.
ومجاري كلامِ الأصحاب دالّةٌ على اختلاف صفةِ الإحياء باختلاف المقصود في المحيا.
__________
(1) الفدان: آلة الحرث، ويطلق على الثورين يحرثُ عليهما في قران. (المصباح).
(2) (د 1)، (ت 3): ثم فعل.

(8/294)


5592 - وكنت أود أن نقول: كلُّ ما يحصِّل الملكَ في بُقعةٍ إذا انضم إليه القصد، فإنه يحصِّل الملك، وإن (1) فُرض القصدُ في جهةٍ أخرى.
[والذي] (2) أراه في ذلك الاستشهاد بالحائط، فالتحويط يملِّك البقعةَ إذا انضم إليه قصدُ اتخاد الحظيرة، فليكفِ مجردُ التحويط [في كل غرضٍ يفرض] (3). وقد وجدتُ هذا لصاحب التقريب، ولكنه لم يصرح بالقاعدة التي رُمتُها (4)، بل قال (5): لو قلتُ في حق من يبغي مسكناً يكفي التحويط فيه، لكان محتملاً.
5593 - وإنما قلنا ما قلنا؛ لأن ما كان سبباً في تملّك مباح، فليس للقصد فيه وقعٌ، فإنّ من كان يتّبع ظبية وكان يبغي امتحانَ شدة سَعْي نفسه، فأدركها، وضبطها، ملكها، وإن لم يخطُر (6) له قصدُ التملك. ومن احتشّ حشيشاً، وملأ ظرفاً كان معه، فقصد أن يتخد منه مقعداً يجلس عليه إذا ركب، فيملك الحشيشَ، وإن لم يقصد تملّكه، وكذلك القول فيما يداني ذلك، والمتعلَّقُ من جهة النقل فيما ذكرته ما حكيتُه
__________
(1) جواب هذا الشرط مفهومٌ مما قبله، تقديره: فإنه يحصّل الملك أيضاً. وكان العبارة: " كل ما لا يفعله إلا المتملّك يحصّل الملك، انضم إليه القصد، أو فرض في جهة أخرى " كما يتضح ذلك من حكاية النووي والرافعي لكلام الإمام في التعليق الآتي قريباً.
(2) في الأصل: (فالذي) بالفاء على أنها جواب الشرط. ولكن الواو هنا للاستئناف.
(3) في الأصل: من كل غرضٍ يطلب. والإمام بهذا يخالف الأصحاب، في اعتبارهم اختلاف صفة الإحياء باختلاف المقصود في المحيا.
(4) القاعدة التي رامها إمام الحرمين هنا هي النظر إلى اعتبار قصد المحيي، وعدم قصده، وحاصل قوله: " أن ما لا يفعله -في العادة- إلا المتملك كبناء الدار، واتخاد البستان يفيد الملك، قصد أو لم يقصد.
وما يفعله المتملك وغيرُه، كحفر البئر في الموات، وكزراعة قطعة من الموات اعتماداً على ماء السماء، إن انضم إليه قصد أفاد الملك، وإلا، فوجهان.
وما لا يكتفي به المتملك كتسوية موضع النزول، وتنقّيته عن الحجارة، لا يفيد الملك، وإن قصده ". ر. الروضة: 4/ 291، وفتح العزيز: 6/ 246.
(5) في الأصل: بل لو قال: لو قلت.
(6) يخطُر: من بابي قعد وضرب.

(8/295)


من الاكتفاء بالتحويط في المسكن. والله أعلم، وإن أصرّ الأصحابُ، وهم كذلك يصرّون في تحصيل الإحياء على حسب المقاصد، فلو شبّبَ [مُشبِّبٌ] (1) بالخلاف فيما استشهدتُ به في الاحتواء على الظبية والحشيش، كان بعيداً (2).
وقد ظهر اختلاف أصحابنا في صُورةٍ سنذكرها في الصيد والذبائح، وهي أن ظبية لو دخلت داراً فلو قام صاحب الدار إلى الباب وأغلقه، وجرّد قصده إلى أَخْذ الظبية، فهذا يثبت الملك في الظبية، وإن اتّفق منه إغلاق الباب من غير قصدٍ، ففيه اختلافٌ بين الأصحاب، وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله تعالى.
5594 - والذي ذكرته يجري في كل سبب يشترك فيه وجهان فصاعداً، وهذا كالتكريب، والتقليب، والتسوية، فهذا القدر يكفي في المزرعة، مع تمييز البقعة، والاعتمادُ على ماءٍ؛ عِدٍّ كما وصفناه، وما ذكرناه مقدمةٌ لاتخاد البستان، فيتجه جداً الحكمُ بحصول الملك. ثم [العَامل] (3) على قصده في استتمام العمارة، والدليل عليه أنه لو كان يبغي بستاناً تَمَثَّلَه في نفسه، وهو على نهاية العمارة، فلا يشترط أن يبلغها، حملاً للعمارة على قصد العامر، وهذا نبنيه على وجهٍ من الرأي مع [تشبّثٍ] (4) بطرفٍ من النقل، مع الاعتراف بأن طريقة الأصحاب في المسلك الظاهر ما قدمناه.
5595 - ومما يدور في الخَلَد أن الحائط له أثر في اتخاد المسكن، والبستان، والحظيرة، كما أطلقه الأصحاب، ثم لم يتعرضوا لتفصيل الحيطان، ولا نشك أنها تختلف باختلاف المقاصد، فحائط المسكن يزيد على حائط الزريبة، والمعتبر في كل مقصود ما يليق به، فالساكن يزداد قصدُه في التحصين بالجدار على قصد صاحب البستان.
5596 - ومما نختتم به هذه الفصول أن من استفتح حائطاً، وأحكم الأساسَ ورفع
__________
(1) سقطت من (د 1)، (ت 3)، وحرفت في الأصل إلى (فشبب).
(2) كذا. ولعلها: " كان مبعداً " كما هو جارٍ في لفظ الإمام.
(3) في الأصل: "العامر" والمثبت من (د 1)، (ت 3).
(4) حرفت هذه الكلمة في النسخ، وهذا عجب من العجب، فقد رُسمت في الأصل هكذا: (تنبّث) وفي (د 1): (تثبيت) و (ت 3): (التثبت).

(8/296)


منه مقداراً مثلاً، ولم يكن ذلك المقدار حاجزاً، فلا يحصل الملك به، فإذا لم نجعله مالكاً، جعلناه متحجراً، كما سنصف على أثر ذلك التحجرَ وحكمَه، فإذا أضرب عن استتمام العمارة، وتبين ذلك منه، فأراد إنسان أن يعمر تلك البقعة، واحتاج إلى نقض ما بناه ذلك الأول، فهذا سائغٌ، وأرى ذلك مشروطاً بالتزام الضمان في النقص الذي يُحدثه القلعُ؛ فإن الذي بنى كان له أن يبني، وكلُّ من بنى بناءً مباحاً، ثم تسلّط الشرعُ على نقضه، فعلى الناقض أرشُ ما ينقصه القلع.
وتمام البيان في هذا يتضح بفصل التحجر كما سنذكره الآن إن شاء الله.
فصل
قال: " ومن أُقطع أرضاًً أو تحجّرها، فلم يعمُرها ... إلى آخره " (1).
5597 - اتفق أصحابنا أولاً أن لإقطاع الوالي مساغاً في الأراضي الموات، وليس الإحياء مشروطاً بالإقطاع، كما ذهب إليه أبو حنيفة (2)، فمن ابتدر وأحيا بقعة من الموات، ملكها، وإن لم يراجع الإمامَ، ولا معترضَ للأئمة فيما فعله، ولكن إذا جرى إقطاعُ صاحب الأمر، اختُصّ المقطَع بمحل الإقطاع، حتى لا يزاحمَ فيه اختصاص المتحجر. والتحجُّرُ أن يبتدىء الرجل تحقيقَ قصده في إحياء بقعةٍ، فينصب عليها علامة، بأن يخط حولها خطوطاً بيّنةً، أو يغرز خشباً وقصبات، أو يجمع حولها تراباً، وليس ما يأتي به محسوباً من العمارة، [وإنما يفعله إعلاماً أنه يهمّ بالعمارة] (3) حتى لا يقصد البقعةَ مبادرٌ.
هذا هو التحجر. وغرضُه الإعلامُ، فيحصل بما يحصل به الإعلام.
5598 - ثم ليس لغير المتحجّر أن يعمُر الموضعَ المتحجَّر، فإن ابتدره وعمَره مع
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 108.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 134، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 518 مسألة 1661.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وعبارة (د 1)، (ت 3): " وإنما يفعله أن يهم بالعمارة " والمثبت تقدير من المحقق.

(8/297)


كونه ممنوعاً، فهل يملك البقعة بالإحياء المعتبر التام؟ حاصل ما ذكره الأئمة أوجهٌ ثلاثة:
أحدُها- أنه لا يملك؛ فإنّه أقدم على إحياءٍ هو ممنوعٌ منه، فكان مقتضى المنع إعدام أثر الإحياء.
والوجه الثاني - أنه [يملك] (1)، وهو ظاهر القياس؛ فإنه لم يوجد من المتحجِّر إلا إظهارُ همّه بسبب التملك، وليس ما جاء به محسوباً من السبب، وهذا الذي أكمل الإحياء أتى بسبب التملك، وهذا بمثابة تحريمنا السّوْمَ على السَّوْم والخطبة على الخِطبة، ثم لو سام على سَوْم أخيه، واشتراه، ملَكه، وإن فعل ما لم يكن له أن يفعله.
والوجه الثالث- أن التحجر إن لم يتصل بإقطاع الإمام، ملك المحيي، وإن أقطع الإمامُ فتحجر، أو وجد الإقطاع المجرد من غير تحجر، فالمُحيي لا يملك؛ فإن الإقطاع (2) صادر من صاحب الأمر، ولا يليق بتأكيد الشرع طاعةَ الولاة [تجويزُ] (3) الخروج عن مراسمهم. والتحجر الذي ينفرد به المتحجر يجوز أن يُفرض مزاحمتُه.
5599 - ولو تحجر المتحجر، ثم طال الزمان، وامتدت المدة، وأعرض عن العمارة، فللوالي أن يقول: إن أحيَيْتَها، وإلا خلّينا بينها وبين من يُحييها، فإن الموات مُرصدٍّ لعامّة المسلمين، وإنما ثبت حق المتحجِّرِ فيه؛ لأنه ذريعةٌ إلى العمارة، فإذا طال الزمان، بطلت الذريعة.
ثم لا يتوقف بُطلانُ التحجر على إبطال الوالي، وإنما نؤثر رفعَ الأمر إلى الوالي لقطع الخصومة، وإلا فالحكمُ أن التحجرَ إذا بطل أثره، فلا حكم له، حتى إذا قلنا: لا يملك المُحْيي البقعةَ المتحجرة، فيُقضَى بأنه يملكها إذا ظهر انقطاعُ أثر التحجّر.
ثم لا مرجع في ذلك إلى ضبطٍ محدود، وإنما الرجوع إلى أهل العرف، والذي
__________
(1) في الأصل: تمليك.
(2) (د 1)، (ت 3): الإقرار.
(3) في الأصل: تحريف.

(8/298)


نفهمه منه أن الإنسان لا يؤخر العمارة عن التحجر إلا في زمانٍ يتهيّأ فيه للعمارة، ويهيِّء أسبابَها. والوجه فرض ذلك من متمكن من تهيئة أسباب العمارة، فإذ ذاك [يعتبر] (1) زمان التهيؤ، فأما إذا تحجر فقيرٌ بقعة، وأخد ينتظر أن يُملّكه الله عزّ وجل ما يهيّىء به أسباب العمارة، فهذا لا معوّلَ عليه، وكذلك لو تحجّر المتمكن بقعةً، وزعم أنه سيعمُرُها في السنة القابلة، فلا حكم لتحجّره، والأصلُ ألا ينفصل التحجرُ عن العمارة إلا بمدة التهيُّؤ.
وإذا حصل الانقطاع، فلا فرق بين أن يكون هذا عن عذر: مثل أن يغيب أو يُحبس، وبين أن يكون عن [إضرابٍ] (2) وإعراضٍ، والأصل في الباب أن عامة المسلمين مشتركون في الموات، وأثر التحجُّر ما نصصنا عليه. [فإذا زال أثرُ التحجّر] (3) ووقعُه، استمر حكمُ الاشتراك، وهو الأصل، وإذا أقطع الإمام بقعةً فالمُقطَع فيه كالمتحجِّر، فليشتغل بالعمارة، على حدّ اشتغال المتحجّر، فإن لم يفعل، كان القول [فيه] (4) كالقول في المتحجر في جميع ما قدمناه.
وبَيْن أئمتنا الخلافُ في أن من ابتدر وأحيا البقعة المتحجَّرة قبل ظهور التقصير من المتحجِّر، فهل يملك بالإحياء؟ على خلاف سيأتي في الصيد، وهو أن ظبيةً لو توحّلت في ملكٍ لإنسان، أو عشَّش طائرٌ في ملكه، فصاحب الوحل والملك الذي فيه العُش لا يملك الظبيةَ والفرخَ، ولكن ليس لغير المالك أن يأخد الصيدَ والفرخَ، فلو أخذه هل يملكه؟ فيه خلافٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
ووجه التشبيه أن التوحّل والتعشيش في الملك أثبت للمالك على الجملة حقّاً، والاصطيادُ سببٌ للتملك، فإذا ورد على حق التملك، كان مختلفاً فيه، كالتحجُّر مع الإحياء.
__________
(1) في الأصل: يغيّر.
(2) في الأصل: إضرار.
(3) في الأصل: فإذا زاد التحجر.
(4) ساقطة من الأصل.
(5) في (د 1)، (ت 3) متحققاً. وهو مخالف للسياق.

(8/299)


5605 - ومما يتصل بتمام البيان في ذلك أن المتحجِّر إذا أخد في العمارة، وكان تمهّد الأساس، أو بنى بعضَ الجدار، فقد ذكرنا أن هذا القدرَ لا يُثبت له الملك، ولكن لو ابتدر مبتدر إلى إحياء هذه البقعة، يجب القطع بأنه لا يملكها؛ فإن السابق إلى العمارة أولى، فقد تأكد حقُّ تملكه. والخلاف الذي ذكرناه في الابتدار إلى عمارة البقعة المتحجرة، [فسببه] (1) أن العمارةَ أقوى، وإن كان التحجر أسبق، فرأى بعضُ الأصحاب تقديمَ السبب الأقوى على الأسبق؛ فإن التحجر ليس من العمارة، وإذا ابتدأ العمارة في مسألتنا، فله حقُّ السبق، والتمسكُ بالسبب الأقوى.
5601 - ومما يتعلق بذلك أن الإمام إذا حمى بقعةً، وصححنا الحمى، فلو ابتدر مسلمٌ، وأحيا طرفاً من المكان المحمي، فقد اختلف أصحابنا في أنه هل يملكه؟ وهذا يقرب من الخلاف في إحياء الأرض المتحجِّرة، ولعل الأولى في الحمى ألا يملك؛ فإنه حكمٌ ثابت، وليس في حكم العلامة على ما سيكون، بخلاف التحجر.
5602 - وقد ذكرنا في قاعدة المذهب أن المسلمين إذا استولَوْا على موات بلاد الشِّرك، وكان المشركون يذبُّون عنه كما يذبّون عن عامر البلاد، فالغانمون فيه كالمتحجّرين. وذكر الشيخ أبو علي وجهين آخرين:
أحدهما - أنهم يملكون الموات إذا قصدوا تملّكه، كما يملكون المغانم؛ فإن الإحياء إثباتُ يدٍ على الاختصاص على الأرض المشتركة، فإذا ثبتت أيدي الغانمين، وظهر قصدُهم إلى الاستيلاء، كان ذلك بمثابة الإحياء، وليس يبعد أن يملكوا بالاستيلاء ما لم يكن ملكاً قبل استيلائهم، كما يملكون الحرائر، والذراري بالسبي.
والوجه الآخر- أنه لا يثبت لهم اختصاص بالموات، وإن اختصوا بالاستيلاء، ولا ينزلون منزلة المتحجِّرين أيضاًًً، بل المسلمون كافة في إحيائها شَرَعٌ (2)؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم علق ملكَ الموات بالإحياء، وحقَّ التخصيص بالتحجر، ولم يوجد منهم إحياءٌ، ولا تحجّرٌ.
__________
(1) في الأصل: وسببه. والفاء هنا على تقدير: وأما الخلاف. والله أعلم.
(2) شَرَع: بفتح الشين والراء، أي متساوون (المعجم).

(8/300)


فقد تحصَّلَ مما ذكرناه، مع ما قدمناه ثلاثة أوجه:
أصحُّها -وهو الذي قطع به معظمُ الأئمة- أن المستَوْلين بمثابة المتحجّرين.
والثاني - أنهم في الموات بمثابتهم في المغانم.
والثالث- أنه لا حقَّ لهم، ولا اختصاص.
وهذا فيما كانوا يذبّون عنه، فأما إذا كانوا لا يذبّون عن موات بلادهم، فقد تقدم التفصيل فيه، فلا مزيد عليه.
5603 - ومما ذكره الأئمة أن المتحجِّر لو باع ما تحجَّره، ففي صحة بيعه وجهان: أصحهما - المنعُ؛ فإن البيع يستدعي ملكاً ثابتاً، والتحجّر لا يقتضي ملكاً للمتحجّر.
والوجه الثاني - أنه يصح، ومورده حقُّ الاختصاص، وهذا القائل يستشهد ببيع حق البناء على العلوّ، كما قدمناه في كتاب الصلح. وهذا عند هذا القائل بيعُ حق مللكٍ، وليس بيعَ عينٍ مملوكةٍ من العلوّ، وقد قدمنا تفصيلَ القول في ذلك. وتصحيحُ البيع من المتحجِّر في نهاية الضعف.
5604 - ومما أرى ختمَ الباب به أن الجهة التي لا تردد فيها في قصد التملك، لا حاجة إلى فرض القصد فيها، وهذا كبناء الدار، والمساكن، وكاتخاد البساتين، والتحويط عليها، وكل ما يقصده المتملك.
5605 - وقد يقع ممن يطلب انتفاعاً" (3) ثمّ إعراضاً بعده، كالزرع في بقعةٍ من الأرض على القَطْر -وكان أهل البادية يعتادون ذلك- فهذا مما يستدعي قصداً، وكذلك حفر البئر في المفاوز، ومواضع العشب، قد يفعله [المنتجِع] (2) وقد يفعله المتملك، فإذا تردد الأمر، فلا بدّ من القصد.
5606 - وكل ما " لا " (3) يقتصر عليه المتملك أصلاً؛ لم يتضمن ملكاًً، وإن انضم
__________
(1) (د 1): انتفاعها. و (ت 3): انتفاعها، ثم أغراضاً بعيدة.
(2) في الأصل: المنتهج.
(3) ساقطة من (د 1)، (ت 3).

(8/301)


القصدُ إليه، وهذا كتسوية بقعة للنزول فيها، فهذا وإن قصد به المسوِّي تملكاًً، لا يكون تملّكاً.
5607 - وهذه القواعد في النفي والإثبات تضاهي نظائرها في الاصطياد، فمن نصب أحبولة، وهيأ أسبابها على مدارج الصيود، فهذا مما لا يقصد به [إلا] (1) الاصطياد، فلا حاجة إلى تقرير ضمِّ قصدٍ إليه. وإغلاقُ الباب على الصيد إذا اتفق دخولُه الدارَ مما يُقصد على علمٍ، وقد يقع من غيرِ علمٍ، فإن كان على علمٍ وقَصْدٍ، أفاد تملكاًً، وإن لم يجرِ به (2) قصدٌ، ففي الملك وجهان.
ونحن نطرد هذه المسالك في الإحياء، فما لا تردد فيه، فلا حاجة إلى القصد فيه، حتى كأنه من قبيل الأفعال يضاهي التَّصريحَ من قبيل الأقوال.
وما يتردَّدُ إذا انضم إليه قصدُ التملك، كان تملّكاً، وإن لم ينضم إليه القصدُ، ففي حصول الملك به وجهان.
وما لا يقصد به التملك لم يؤثِّر انضمامُ القصد إليه، فيناظر توحّلَ الظبية في الأرض المسقيّة، ويضاهي من الألفاظ ما لا [يحتمل] (3) معنى الطلاق.
هذا حاصل القول في قواعد الباب.
فرع:
5608 - موات الحرم يُملك بالإحياء؛ فإن جهات التملكاًت جارية عندنا في الحرم، جريانَها في غير الحرم، وما ملكت رِباع مكة إلا على هذه الجهة.
ولو أحيا المُحيي بعضَ بقاع عرفة، فقد اضطرب أصحابنا فيه، فذهب القياسون إلى أنه يملك ما أحياه، ولا تضيق عرفةُ وإن اختلت (4) أطرافها عن حجيج الدنيا.
ومن أصحابنا من قال: لا يَملك المُحيي من عرفةَ شيئاً، لتعلق حق الوقوف بها؛ وإذا فتحنا بابَ التملك، ارتفع الاختصاص، وقد يُفضي ذلك إلى الاستيعاب، ثم
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) (د 1)، (ت 3): وإن لم يكن عن قصدٍ.
(3) في الأصل: يحصل.
(4) (د 1)، (ت 3): أحييت. هذا، واختلت هنا بمعنى انتُقصت (معجم).

(8/302)


لا حجرَ على المحيي لو بنى، أو غرس وهذا يؤدي إلى إبطال حق الوقوف من البقاع المحياة.
والوجه الثالث - أن من أحيا مواتاً من عرفة ملكه، ويبقى حقُّ الوقوف للواقفين، ثم اضطرب أصحابنا في تفصيل هذا الوجه، فمنهم من قال: يبقى حقُّ الوقوف، وإن لم يضق الموقف، حتى لو قصد الموضعَ المحيا رهطٌ من الحجيج، لم يُمنعوا.
ومنهم من قال: إن كان في الموقف متسعٌ، لم يجز استطراق ما مُلك، وإن ضاق الموقف، استُطرِقت الأملاك.
***

(8/303)


باب ما يجوز أن يُقطع وما لا يجوز
قال: " ما لا يملكه أحد من الناس يُعرف صنفان ... إلى آخره " (1).
5609 - وقد أتى المزني بألفاظٍ مضطربة في صدر هذا الباب، وجاوزت غلطاتُه في الكتاب حدَّ العثرات، ولو قيست مواضع غلطه بمواقع إصابته، لعادلتها، إن لم تزد.
قال: " ما لا يملكه أحدٌ من الناس يُعرف صنفان: أحدهما - ما مضى، ولا يملكه إلا بما يستحدثه فيه، والثاني - ما لا تُطلب المنفعة فيه إلا بشيء يجعل فيه " (2)، عَنَى بالأول المواتَ؛ فإنه غير مملوك قبل الإحياء، وإنما يملكه المحيي بأن يجعل فيه شيئاً، [وعنى] (3) بالثاني المعدن، غيرَ أنه غَلِط، إذ قال: " لا تُطلب المنفعة فيه إلا بشيءٍ يُجعل فيه " وهذا والأول واحدٌ. والشافعي قال: "والثاني - ما تُطلب منفعتُه، لا بشيء يجعل فيه، وهذا صفة المعادن " (4).
5610 - ثم مقصودُ هذا الباب الكلامُ في المعادن الظاهرة، ونحن نقول: المعادن تنقسم، فمنها كامنة، وفيها بابٌ معقودٌ سيأتي، إن شاء الله تعالى، ومنها ظاهرة، والكلام يتعلق بتصوّرها، ثم بيان الحكم فيها.
فأما القول في تصويرها: فالمعادن الظاهرة هي التي نيلُها ظاهر بادٍ، لا حاجة إلى عملٍ في إظهار نيلها، ثم قد يسهل أخذُ نيلها على يُسر، وقد يعاني الآخد بعضَ المشقة في الأخذ، لا في إظهار النَّيل، والقسمان جميعاً من المعادن الظاهرة، فمنها معدن
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 108.
(2) السابق نفسه.
(3) في الأصل: وعين.
(4) عبارة الشافعي في (الأم) بهذا النص: "والثاني - ما تطلب المنفعة منه نفسه ليخلص إليها، لا شيء يجعل فيه من غيره، وذلك المعادنُ" ا. هـ (الأم: 3/ 265).

(8/304)


الملح، وهو ينقسم إلى ما ينعقد من ماءٍ ظاهرٍ، وإلى ما يُلفى في الجبال ظاهراً من غير حاجة إلى إظهاره بتنحية التراب والأحجار عنه، والقِيرُ (1) ظاهر، وكذلك النَّفطُ (2)، والكبريت، والموميا (3). ويلتحق بالمعادن الظاهرة المياه العِدّة، وهي العيون والأودية، ومن المعادن الظاهرة الأحجار ذوات المنافع الخاصة، كأحجار الأرْحية، وأحجار البَرام (4)، فإذا كانت ظاهرةً، فهي من المعادن الظاهرة، وإن كان يتعب آخذها باحتفارها وقلعها، وألحق الأئمة بالظاهر ما لو ظهر في مسيل الماء ذهبٌ أو غيره من الجواهر المطلوبة، مما يجرفه (5) السيل وسال به، وأظهره، فهو الآن بمثابة المعادن الظاهرة.
هذا بيان التصوير.
5611 - فأما الحُكم، فالأصل في الباب أن هذه المعادن مشتركة بين الناس لا يتطرق إليها اختصاصٌ بمالكٍ (6) بوجهٍ، ولا يتطرق إليها تخصيصٌ بإقطاعٍ، بل الخلقُ فيها شَرَعٌ، وهي فوضى بينهم لا تحجّر فيها، ولا تملك، ولا إقطاعَ، والأصل في ذلك مع الإجماع ما روي أن أبيض بنَ حمال استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملحَ مأرب، فأقطعه إياه، أو أراد، فقيل: يا رسول الله إنه كالماء العِدّ، فقال عليه السلام: " فلا إذاً " (7)، وإنما همَّ عليه السلام بالإقطاع لأنه لم يحسبه
__________
(1) القير: هو القار، وهو لغةٌ فيه. (المصباح).
(2) النَّفطُ: بالفتح أجود، وقيل الكسر أجود (المصباح).
(3) الموميا: مادة شمعية توجد في الجبال، وهي لفظة فارسية. (المعجم الفارسي العربي الجامع، لواضعه حسين مجيب المصري).
(4) البَرام: بفتح الباء جمع بُرمة، وهي القدر من الحجارة (المعجم).
(5) في (د 1)، (ت 3) جرى. وساغ هنا عطف الماضي على المضارع؛ لأن الشرط اتحاد المعطوف، والمعطوف عليه زماناً، وإن اختلفا في النوع، فالفعل (يجرفه) بمعنى (جرفه)، ومثاله قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّار} [هود: 98] فالفعلان يتحققان في المستقبل، فهما متحدان في الزمن، وإن اختلفا في النوع (ر. النحو الوافي: 3/ 621).
(6) (د 1)، (ت 3): تملك.
(7) حديث أبيض بن حمال: رواه الشافعي في الأم: 3/ 265، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء، باب في إقطاع الأرضين: 3064، والترمذي: الأحكام، باب ما جاء في القطائع: =

(8/305)


ظاهراً، وقدّره من المعادن الكامنة، فلما تبيّن له ظهوره، أبى من الإقطاع.
5612 - فإذا تمهد ما ذكرناه من حقيقة الاشتراك فيها، [فللسّابق إليها حقٌّ] (1) لا ينكر، وقال الأئمة: من سبق إلى معدنٍ (2) من هذه المعادن، فهو أحق بها حتى يستوفي حقَّه، لا يزاحمه من يلحقه، وهذا لا موقف فيه يقف الفقيه عنده، ولا توقيف من جهة الشرع يُنتهَى إليه، غيرَ أنا نعلم أن السابق لِحَقِّ سبقه مزيّةٌ، فلو قال الذي يلحقه: نشترك في أخْذِ النّيل، فيأخد وآخُذ، قيل: هذا إبطالٌ لِحَقِّ السبق، وقد اتفق العلماء على ثبوته، وهذا بمثابة إثباتهم حقَّ السبق لمن يسبق إلى مجلس القاضي؛ فإنه يُقدّم بحكومته لحق سبقه، وكذلك السابق إلى المفتي، والعالم المعلِّم (3).
ولو قال السابق: أُوقر من نيل المعدن أوقاراً كثيرة وأرُدّ الحُمُرَ ذاهبة وجائية، وأنا في ذلك لا أبرح حتى أقضي وطري، قلنا: ليس لك إلا ما يقتضيه العرفُ لأمثالك إذا سبق، فلك ما يعتاده السابق الذي يبغي الرفعَ والانكفافَ، ولا عليك لو [استعنت] (4) على الاعتياد، فأما ترديد الدواب، فمحاولةٌ للاختصاص بالمعدن، ثم لا ضبط في جهة النهاية، وهذا كما أن السابق إلى مجلس القاضي لا يقدّم إلا بحكومةٍ [واحدةٍ] (5)؛ إذ هذا هو المعتاد في المجلس الواحد بلا مزيدٍ.
ولو تكلّف السابق إلى المعدِن جمْعَ مائة حمار فصاعداً، وهذا لا يعتاده الرجل السابق إلى المعدن، لم يمكّن من هذا، فليس له إذاً إلا ما يليق به. لا يزاحمُ في
__________
=1380، والنسائي في الكبرى: إحياء الموات باب الإقطاع: 5764 - 5768، وابن ماجه الرهون باب إقطاع الأنهار والعيون: 2475، والدارقطني: 4/ 221، والبيهقي: 6/ 149.
ر. التلخيص: 3/ 142 ح1337.
(1) في الأصل: " فالسبق فيها حكم لا ينكر "، و (د 1): " فللتسبيق إليها حق لا ينكر "، وفي (ت 3): " فلنسق إليها حتى لا تنكر ". والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء السياق والسباق.
(2) "المعدن " يستخدم في هذا الباب بمعنى ما يُسمّى (المنجم) عندنا الآن، فهو مكان استخراج المعادن. وما يستخرج من (المعدِن) هو الذي يُسمّيه هنا (النَّيْل).
(3) في الأصل: والعالم إلى المعلّم.
(4) في الأصل: أسبغت.
(5) ساقطة من الأصل.

(8/306)


النَّيْل حتى يستوفيه، وأثر سبقه أن يتخفف ويأخد اللائق بحاله، على قربٍ من غير مزاحمة، فإذا فعل، لم نمنعه من أخد النيل أيضاًًً، ولكنه يزاحمه غيرُه؛ فإنه استوفى حقَّ سبقه، وصار في الزائد عليه كغيره، فلو عكف على المعدن، وكان لا يبرح، ولا يمتنع من أن يزاحَم، ولكن كان يأخد مع الآخذين، فالمذهب أنه لا يُمنع منه.
5613 - وذهب بعضُ الأصحاب إلى أنه يُمنع ويُنحَّى؛ فإنه في عكوفه مجاوزٌ لعادة
الآخذين من نيل المعدن، والأصح الأول؛ فإن الازدحام غير منكر في نيل المعادن، ولو كان يبتكر إلى المعدن كلَّ يوم، أو كان يبعث إليه غلمانه [يتناوبون] (1)، فلا منعَ.
5614 - ولو استبق رجلان إلى المعدن، فإن استمْكنا من الاشتراك في أخد النيل، اشتركا فيه، وإن ضاق مدخل المعدن (2)، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - أنه يُقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، قُدّم، فيستوفي حقَّه على ما فسرناه في حق السابق، والقرعة تُلحقه بالسابق، كما (3) إذا ازدحم رجلان على مجلس القاضي، فإنا نقرع بينهما، فمن خرجت قرعته، قدم، كما نُقدِّم السابق.
والوجه الثاني - أن الإمام يقدّم بالاجتهاد أحدَهما، من غير قرعة.
وذكر أصحابنا مسلكاً ثالثاً، فقالوا: ينصب القاضي من ينوب عنهما، ويأخد قدرَ ما يحتاجان إليه، ويقسم بينهما.
وهذه الأوجه تحتاج إلى مزيد بحث. أما وجه القرعة، فبيِّنٌ، وأما تقديم القاضي، فليس يستند إلى تَشَهٍّ (4)، وإلى وفاقٍ في انطلاق اللسان، وإنما يرجع إلى رأي، فإن خفي، مثل أن يرى أحدَهما أفقر وأضيق وقتاً، فيقدمه لهذا، فإن استويا عنده، اضطر إلى القرعة، إذا دام نزاعُهما.
ثم ما أشرنا إليه من وجوه الرأي لا يجوز أن يستمسك به المستبقان؛ فإن الرأي يدِق فيه، فهو مفوضٌ إلى من إليه الأمر، وأما ما ذكره بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً من
__________
(1) في الأصل: يتناولون.
(2) أي فتحةُ المنجم، كما فسرناه في التعليق آنفاً.
(3) (د 1)، (ت 3): فلما.
(4) (د 1)، (ت 3): تشيه.

(8/307)


استنابة إنسان، فهذا إذا وجدنا متبرعاًً، أو رضيا بأن يستأجرا، فإن لم يرضيا، ولم نجد متبرعاًً، فالقرعةُ، فهي إذاً مآل كل مسلك، وهي [المفتتح] (1) في الوجه الأول.
5615 - ومن تمام البيان في ذلك أنهما إذا استبقا، والنَّيلُ غيرُ عزيزٍ، فلو أخذا يبتدران النيلَ، فقد يأخد أحدهما أكثر، فيُمنع من هذا، فليس الأمر [بالتسالب] (2)، وليس [كتناهب] (3) اللاقطين، [لما يُنثر] (4)؛ فإنّ قصد الناثر أن يبتدره المتناهبون، والشرع يشير إلى الانتصاف، فإذا تنازعا، وقد ضاق النيل (5)، فالتسوية، إلا أن يتسامحا.
5616 - ومما يتصل بذلك أن العين العِدّ لو احتفّ به ناسٌ سبقوا إليه، واتخذوا بساتينَ ومزارعَ، وكان الماء كافياً، وافياً، من غير مزيد، فلو لحق لاحقٌ، واستحدث بستاناً، أو مزرعةً، وأراد أن يَشْركَ السابقين، ولو فعل لضاق الماء، وقَصَر عن البساتين، فالقدماء أولى بحق السبق، ولكن السبق في هذا النوع من الانتفاع لا يُزال، ولا يتصور التناوب فيه، بخلاف السبق إلى النَّيْل الذي يوجد من المعدن، وفي هذا مزيد كشفٍ سأذكره، إن شاء الله عز وجل- في البئر التي تحفر في المفازة؛ إذا فصَّلنا القول في فضل مائها.
هذا منتهى الكلام في المعادن الظاهرة، تصويراً، وحكماً.
5617 - ثم قال الأئمة: إذا عمد الرجل إلى أرضٍ على [الساحل] (6)، وسوّاها، واحتفر فيها حفيرةً يدخل الماء إليها، وينعقد الملح، فهذا مما يختص به العامر المحتفر، هكذا قال الأصحاب.
والوجه أن نقول: إن كان يبغي بالعمل على الأرض إحياءها لمقصودٍ، فسبق إليها
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل حُرّفت إلى: بالتنالب.
(3) في الأصل: كناهب.
(4) ساقط من الأصل.
(5) (د 1)، (ت 3): البناء.
(6) في الأصل: التناحل.

(8/308)


الماء، وانعقد الملح، فلا شك أنه يختص بذلك الملح الحاصل، وسنوضّح أن من أحيا أرضاًً، فظهر فيها معدن من المعادن الكامنة، فمُحيي الأرض مالكه.
5618 - ولو احتفر الأرض على الساحل، وقصد بما يفعله جذبَ الماء لينعقد الملح، فهذا في التحقيق أخذٌ من النَّيْل العام، على جهة الاختصاص.
فالوجه فيه أن يقال: إن كان بالقرب من مملحةٍ ينعقد الملح فيه (1)، فإن احتفر حفيرةً، وجرَّ شيئاً من الماء، فهو مزاحَمٌ [فيه إن أراد أن يبقى له دائماً، وقد يُميل إليه جملةَ المملحة، فاحتفاره كأخذه] (2) من النيل، وقد مضى الأخد مفصَّلاً، فالاحتفارُ طريقٌ في الأخْد فدائمُه كدائمه، وما يحصل شيئاً فشيئاً [كالأخذ] (3) المقطّع من المعدن.
ولو احتفر الأرضَ على شط البحر، والبحر ليس [مملحة] (4)، ولا ينعقد الملح فيه أبداً، ولكن إذا فتح منه فتحات ضيقة، إلى سَبْحة (5)، انعقد الملح منه على قرب، فإذا فعل الفاعل هذا، اختص، ولم يزاحَم، فكان بما فعله كاسباً منفعةً بجهةٍ في إحياء الأرض، كالزارع والغارس وغيرهما. هذا تفصيل ما أبهمه الأصحاب.
...
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، بضمير المذكر، ولها وجهٌ أشرنا إلى مثله كثيراً.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: كأخد.
(4) في الأصل محرفة إلى: ممكنة.
(5) كذا بالأصل، بالحاء المهملة، فقد رسم تحتها (حاءً) صغيرة علامة على إهمالها، وهي بمعنى الحفرة، من سبَحَ فلانٌ في الأرض: حفر. (المعجم).
وفي (د 1)، (ت 3): سبْخَة، بالخاء المعجمة، وهي أرضٌ ذات ملحٍ ونزّ، لا تكاد تنبت. (المعجم) وكلا المعنيين يستقيم به الكلام، والله أعلم أيهما أراد المؤلف رضي الله عنه.

(8/309)


باب تفريع القطائع
5619 - مقصود الباب الكلام في مقاعد الأسواق وما يتعلق بها ويُدانيها، فالأصل في الشوارع المرورُ والاستطراقُ. وكلُّ ما يضيّق على المارة، فهو ممنوعٌ، فإن الشوارع مقصودُها مضطرَبُ الناس في الذهاب والمجيء.
فإن اتسع الشارع، وقلّ الطارقون بالإضافة إليه، فلا يمتنع أن يقعد القاعد في وسط الشارع، أو في جانبٍ إذا وجد الطارقون سبيلاً (1) عن مقعده، على يُسرٍ، وليس للطارق أن يقول: لا أبغي الطروق إلا في مقعدك، وموضِع جلوسك؛ فإنا وإن حكمنا بأن الشارع للإطراق، فلسنا ننكر حقوق الكائنين [وهم] (2) وقوفٌ أو قعود، غيرَ أن الطروق أولى إذا ضاق المسلك.
فخرج من ذلك أن من جلس غير مضيِّقٍ على المارة، وتخيَّر مقعداً يبيع فيه ويشتري، فلا منعَ، وإذا سبقَ إليه، لم يزاحمه غيرُه.
ولا حاجة إلى استئذان الوالي؛ فإنه من حقوق الطريق، فأشبه المرورَ.
5620 - والاختصاصُ بالبقعة التي يتخيّرها بمثابة اختصاص المحي بالإحياء قطعةً من الموات، بيدَ أَنَّ المُحْيي يملك ما يُحييه، ومن يتخيّر مقعداً لا يملكه؛ فإن الشارع تعلّق به حقوقُ الناس قبل أن تخيَّر القاعدُ مجلسَه، فقيل: لا مطمع في الملك مع العلم بتأكد حق الطروق، وقد يزدحم الناس، ويضيق الشارع، ولكن إن لم يضق، فلا ننكر اختصاص السابق إلى المكان الذي تخيّره، كما سنصفه.
5621 - فنقول: من حقه ألا يُزعَج مادام فيه، ولا يُضيّقَ عليه في مجلسه، فلو
__________
(1) (د 1)، (ت 3): مميلاً.
(2) في الأصل كلمة غير مقروءة صورتها هكذا: (تؤهم).

(8/310)


جلس جالس أمامه أو بالقرب منه، بحيث يتعذر عليه انبساطُه في الكيل والوزن والإعطاء والأخذ، كان ذلك تزاحماً ممنوعاً، فإنا إذا أثبتنا للسابق إلى المقعد حقّاً، فقد التزمنا توفيرَه عليه، وهذا يُثبت لمقعده حريماً، والمحكَّمُ في مثله العادةُ.
وذكر بعضُ من لم يُحط بحقيقة ذلك شيئاً أَشْعَرَ بذهوله، فقال: لو جلس بجنبه من يمنع المساومين معه، لم نتركه (1)، وهذا ليس بشيءٍ؛ فإنه جارٍ في الدكاكين المملوكة، فلا تزيد المقاعد عليها، وإنما المرعي ما نبهنا عليه من الانبساط، مع الرجوع إلى العادة، وقد يختلف بكثرة القاعدين، وضيق المقاعد؛ فإن أصحابها يتضامّون إذا كثروا، ويتوسعون إذا قلّوا، وموجب الشرع الحملُ على أحسن المراشد في العوائد.
5622 - ومن تخيّر بقعةً، وجعلناه أولى بها، فإنه يُزايلها ليلاً، وهو أولى بها، إذا كان ينتابها، ولا يسوغ لسابقٍ أن يسبق إلى مجلسه لتخلّل قيامه، وليس ذلك بمثابة المعادن الظاهرة؛ فإنها لا تتعين لمنتابٍ؛ إذْ مبناها على الاشتراك، وليس فيها حق الاختصاص إلا على قدرٍ ذكرناه في السابق، ومبنى المقاعد على الاختصاص.
ثم المتبع فيه الاعتيادُ، ومن يتخيّر مقعداً يبيع فيه ويشتري، أو يحترف، فغرضه الأظهر أن يظهر مكانُه، حتى يعرفَه المعاملون، وهو الركن الأعظم في المكاسب، فإذا كان هذا هو المقصود في تعيين المقاعد، فلا بد من الوفاء به.
5623 - وأنا أقول: لو جلس الجالس في بقعةٍ، ولم يضيِّق على الطارقين، لم يُزعَج، وإذا لم يكن له غرضٌ كما نصصنا عليه، فليس له حقُّ العوْد إلى ذلك المكان، حتى يقالَ لو سبق إليه سابق، لم يكن له ذلك؛ إذ لا غرض للجالس فيه؛ حتى يقالَ: يتعطل غرضه بتفويت مجلسه.
5624 - ثم إذا عيَّنا المقعد لذي الغرض الصحيح، فلو استأخر يوماً ويومين، لم ينقطع حقه عن المقعد، سواء كان معذوراً أو غير معذور، وإن طال الزمان وتمادى
__________
(1) المعنى لو جلس بجواره من ينافسه في بضاعته نفسها، فيجذب المساومين والمبتاعين ويمنعهم بجلوسه عن الشراء منه، لم نتركه.
ووجه الذهول والخلل في هذا الكلام، أن هذا التنافس بين المتجاورين موجودٌ في الدكاكين المملوكة، والاختصاص بالمقاعد لا يمكن أن يزيد على الدكاكين المملوكة.

(8/311)


الفصل، لم يعطَّل المقعد، وكان للغير السبقُ إليه. وكذلك إذا غاب غيبةً بعيدةً.
هذا ما أطلقه الأصحاب، وما ذكروه كلام مرسل [ومقصودنا] (1) ضبطُه، ولم يهتم به أئمةُ المذهب، ولم يُعملوا فيه وفي أمثاله القرائحَ الذكيةَ، واكتفى الناقلون عنهم بظواهر الأمور، وانضم إليه قلة الاعتناء (2) بالبحث، فصار أمثال ذلك عماية عمياء، والموفق من يهتدي إلى المأخد الأعلى (3)؛ فإن مذهب إمامنا الشافعي تَدْواره على الأصول، ومآخد الشريعة.
5624/م- وأنا أقول مستعيناً بالله تعالى: إن أضرب صاحبُ المقعد، وتبيّن إضرابه، بطل حقُّه على قربٍ من الزمان، وذلك بأن يَبْذُل مجلسَه لغيره، أو يتخذ مقعداً آخر، وأخد ينتابه، فيتبين إضرابُه عن الأول.
هذا مسلك في بطلان اختصاصه بالمقعد الذي تخيره.
وإن لم يفعل ذلك، ولكن وُجد يختلف بعذر أو بغير عذر، فالذي ذكره الأصحاب فيما (4) لا يُبطِل حقَّه اليومَ (5) واليومين، ولو روجعوا في الثلاثة والأربعة، لاسترسلوا عليها، ولا يمكننا أن نقول: المعتبر الزمن الذي يدل مثله على الإضراب، فإن المريض المعذور إذا طال زمانُه غيرُ مضرب، ويبطلُ حقُّه، وكذلك من استفزَّه سفرٌ، لم يجد منه بداً، فحاله يُظهر عدمَ إضرابه، فالوجه أن يقال: لا حقَّ في [تعيُّن] (6) المقعد إلا أن يُعرف فيعامل، وإلا فمقعد كمقعد، فكل زمانٍ يظهر فيه انخرامُ الغرض، ففيه سقوطُ حقه، فإذا طال انقطاعه، انقطع أُلاّفُه، واستفتحوا المعاملةَ مع غيره، فينقطع غرضُه، في تعيّن المقعد (7).
ولهذا لم نفصل بين المعذور وغيره، فإذا عاد، كان كمن يتخيّر مقعداً على الابتداء.
__________
(1) في الأصل: ومقصوده.
(2) (د 1)، (ت 3): قلة الرغبات في البحث.
(3) (د 1)، (ت 3): الأصلي.
(4) (د 1)، (ت 3): فيها أنه لا يبطل.
(5) اليومَ (مفعول ذكره)، وفاعل (يبطل) ضمير مستتر.
(6) في الأصل " تعلّق ". وآثرنا هذه لمّا رأيناه في نسخة الأصل في السطور التالية.
(7) عبارة (د 1): فينقطع غرضه، فينقطع حقه في تعين المقعد.

(8/312)


ولو كان ينتاب تلك البقعة، فاتفق استئخاره مدة، لا ينقطع بمثلها حقُّه، فلو جلس جالسٌ على مقعده بانياً على أن ينزعج إذا عاد، ويسلِّم له مقعده، فظاهر المذهب أنه لا يُمنع، ويحتمل أن يقال: يمنع؛ لأن هذا يُظهر لأُلاّفه ما يُظهره الزمانُ الطويل في الانقطاع.
فأما القعود في غير أوقات المعاملة، فلا بأس، والقعود في أوقات المعاملة لغير المعاملة، فلا بأس به.
فهذا هو الممكن في ضبط ذلك.
5625 - وإن طرأت حالة يتقابل فيها الظنان في انقطاع الغرض وبقائه، فلعل الظاهر بقاءُ حقِّه ودوامُه.
5626 - ثم أحدث الأصحاب فنّاً من الكلام، فقالوا: إذا طال عَوْد الرجل إلى مقعدٍ واحد، فهل يُزعج عنه، ويقال له: تنحَّ وتخيّر مقعداً آخر؟
ذكر نقلةُ المذهب وجهين في ذلك، واعتبروهما بالوجهين في العاكف على المعدن العِدّ، إذا طال مقامُه عليه، وهو في ذلك دائبٌ في أخد النَّيْل.
5627 - ونحن نقول: أما الخلاف في تنحية من يُطيل [عكوفه] (1) على المعدن، فمأخود من طلبه الانفرادَ بما يأخذه من النّيْل، وخروجه عن العادة العامة في تقرير المعادن الظاهرة على الاشتراك والتناوب، فأما الخلاف في إزعاج من يتخيّر مقعداً من الشارع فبعيدٌ جدّاً، وهو موضوعُ الباب؛ فإن الغرض الذي يُدار عليه تخيّرُ المقاعد ما أشرنا إليه من ظهور الأُلاَّف، وكثرةِ المعارف في المعاملة، وفي تنحيته، وإزعاجه إبطالُ هذا الغرض، فأَخْذُ النيل على التناوب، وتخيّر المقاعد على نقيض ذلك؛ فإن الناس لو تناوبوا عليها، لبطلت أغراض الجميع فيها.
فإذا لاح ما ذكرناه من التنبيه، فالوجه في تنزيل الخلاف المأثور عن الأصحاب في المقاعد أن نقول:
__________
(1) في الأصل: وقوفه.

(8/313)


إن اتسعت المقاعد واستوت الأغراض في أعيانها، وتخيّر كلٌّ مجلساً ينتابه، ويأوي إليه، فلا معنى لتنحيته والتبادلِ (1)، والحالةُ هذه؛ فإن ذلك يُبطل أغراضَ الكافَّة. وإن ضاقت المجالس، وكثر المزدحمون، فيظهر إذْ ذاك الخلافُ بعضَ الظهور، ثم وجه التقريب فيه أَنَّ من طال انتيابُه بقعةً، وظهر انتفاعه بسبب جلوسه فيه، وهو مطلوبٌ من غيره في الصورة التي ذكرناها، فقد يقال: مبنى هذه البقاع على الاشتراك، فإذا اكتسبْتَ بسبب الجلوس في بقعةٍ منها مالاً، فسلِّمْها إلى غيرك، وهذا يناظر ما ذكرناه في المعادن، غيرَ أن نيْل المعدن العِدّ عتيدٌ يوجد، والمنفعة المطلوبة من [المقاعد] (2) لا تظهر إلا على طول الزمان، [فالنُّوَبُ] (3) في الأصلين تتفاوت طولاً وقصراً، والمعنَى هو المتبع في كل صنف.
ثم لا نظر إلى اتساع المتاجر والمكاسب على أصحاب المقاعد؛ فإن ذلك أرزاقٌ، فمن محظوظٍ فيها، ومن محروم، ولكنّ الاعتبارَ بالزمان الذي يتسع في مثله المتجر والمكسب على المرزوق. وهذا تفصيلٌ لا بد منه.
5628 - وذهب بعضُ الأصحاب في ذكر الخلاف مذهباً آخر، أشار إليه صاحب التقريب، وغيرُه، فزعموا: أن الغرض من تنحية من ينتاب مقعداً إذا طال الزمان أن يخرج عن مضاهاة المتملّكين، فقد يدعي على طول المدى ملكَ البقعة.
وهذا ركيك، لا أصل له؛ فإن الشوارع، وإن طال المدى عليها لا يَنسَى حُكمَها المحتفون بها، ولو صح هذا المعنى، لوجب سدُّ طريق لزوم المقاعد جملةً، لما أشار إليه هذا القائل، فلا أصل لهذا إذاً، وإنما التَّدْوار على ما ذكرناه.
ثم قدمنا أن الأصل أن العاكف على المعدن العِد لا ينحَّى، والوجه الآخر ضعيفٌ
جداً، ثم وقع الخلاف في تنحية من تخيَّر (4) مقعداً أبعد، فتضاعف الضعفُ. ثم إن أردْنا التشوفَ إلى ضبطٍ في الزمان الذي تقع التنحية بعده، لم نجد إليه سبيلاً، مع
__________
(1) أي تبادل المقاعد.
(2) في الأصل: القاعد.
(3) في الأصل: فالأمر.
(4) (د 1)، (ت 3): في تنحية أصحاب المقاعد.

(8/314)


اختلاف المكاسب، وأحوال الناس في البلاد، وغايتُنا إن أردنا ذلك تحكيمُ العرف، واتخاذُ الزمان الذي يتسع المكسبُ فيه معتمداً.
5629 - ثم مما يتعين ذكره في هذا المقام أن الذي صار إليه معظم الأصحاب أن الوالي لو أراد أن يُقطع المقاعد، فله ذلك، كما له أن يُقطع المواتَ مَنْ يُحييه.
وذكر صاحب التقريب والشيخ أبو علي، ومعظمُ الأئمة وجهاً آخر في أن الإقطاع في المقاعد لا ثبات له، وإنما جريانه فيما يفيد التسببَ إلى التملك؛ فإن الأمر فيه يعظم خطره.
5630 - وللاجتهاد مساغٌ، فالمحل محل التنافس، والأظهر جريانُ الإقطاع لإمكان التنافس في المقاعد، ولكن التنافس المجردَ لا يصلح للاعتماد مع إمكان جريانه في المعادن العِدة الظاهرة، وقد أجمع الأصحابُ، وشهد الخبرُ على أنه لا يجري الإقطاع فيها، [فالتعويل] (1) إذاً على تطرّق الاجتهاد في الأمر المطلوب، وأمر المعادن العِدة ظاهر، فلم يجر فيه الإقطاع، وأما الموات، ففي كونه مواتاً، ثم في كونه خارجاً عن حقوق الأملاك نظرٌ بيّنٌ، والاجتهاد يظهر في المقاعد من جهة أنها هل تُضيِّق على الطارقين، أم كيف السبيل فيها؟ ثم إن أجرينا الإقطاع أوّلاً، فلا كلام، وإن لم نُجْره، تعين مراجعة الوالي في تنحية من نُنحِّي إذا رأينا ذلك مذهباً، حتى لا يُفضي الأمرُ إلى التجاذب، والاجتهاد يدِق مُدركُه في الاكتفاء بالمدة التي استوفاها من يُنحَّى.
هذا هو الذي يظهر عندنا.
ولا يمتنع طرد الخلاف في ذلك أيضاًً؛ فإن التنافس متوقّع الجريان في الابتداء أيضاً، مع ظهور الخلاف، وغايتنا أن ننبّه على مسالك المعاني، إذا عدمنا النقلَ في التفاصيل.
5631 - ومما يتعلق بمضمون الباب، ويلتحق به السبقُ إلى المواضع المعيّنة في الرباطات المسبّلة على السابلة.
__________
(1) في الأصل: والتعويل.

(8/315)


فمن سبق إلى بقعة، لم يزاحم فيها، وإن فرض استباق وازدحام، فالأصل القرعةُ، وقد ينقدح فيه تحكيم صاحب الأمر، إن كان في الرُّفقة، والأصل القرعةُ.
ثم من تخيّر لسكونه (1) بيتاً، أو بقعة، فلو زال عنها، لم يُمنع من العوْد إليها؛ فإن الحاجة قد تضطره إلى الانتشار في حوائجه، ولا نظر إلى استخلافه على البقعة بعضَ خدمه وعبيده، أو تركه فيها شيئاً من متاعه، فقد لا يكون الرجل مخدوماً، ثم المنفرد لا يمكنه أن يترك متاعَه، وينتشرَ في مآربه، فيكفي إذاً ما ذكرناه. هذا في رباط السابلة.
5632 - ولو جاوز من تخيّر البقعة الغرضَ الذي بُنيت البقعة له، فأقام، أُزعج، إذا زاحمه نازلٌ يبغي أن ينزل، ويرحل. و [قد،] 2) نقول: إذا ظهر أن البقعة مسبلة على من لا يُعرِّج (3)، فلا تعريج، وإن لم يكن زحمة؛ فإنّ شرط الواقف متبع.
5633 - ولو بنى الرجل رباطاً، وهيأ فيه مساكن، ووقفها على من يبغي السكونَ فيها، فهذا يخالف في وضعه رباط السابلة، فلا يمتنع السكون.
ولكن ذكر الأصحاب الخلافَ السابق في أن من يُطيل مدةَ الإقامة، ويجاوز الحدَّ، فهل يزعج؟ وشبهوا هذا بتنحية العاكف على المعدن العِدّ، وهذا لعمري متجهٌ؛ من جهة أن في إطالة مدة الإقامة اختصاصاً بالبقعة، [ومنعاً للأمثال من ذلك النوع من الانتفاع] (4).
ولمّا ذكر القفال هذا الخلاف فلفظه في تصويره: أن من أقام سنين هل يزعج أم لا؟ وهذا لا ضبط له على التحقيق، والممكن فيه أن البقعة إن بنيت لغرضٍ يحصّله
__________
(1) لسكونه بيتاً: أي لسكنه حجرة من حجرات الرباط.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) عرّج بالمكان أقام به، والمعنى: أنه قد نقول: " لا إقامة، وإن لم يكن زحمة، اتباعاً لشرط الواقف ".
وفي (د 1)، (ت 3): مسبلة على ألا يزعج، فلا يزعج. وهو عكس المعنى المقصود.
(4) عبارة الأصل: " ومنعاً عن ذلك نوعاً من الانتفاع للأمثال ".

(8/316)


الساكنون فيه، كالمدرسة المنسوبة إلى الطلبة، فإذا حصّل ساكنُها الغرضَ، تنحَّى.
وهذا إن ظهر، فهو مشكل فيما لم يربط بغرضٍ.
فإن صح المصير إلى أن مدة الإجارة لا تزيد على سنة، فهذا القول حريٌّ بالاستعمال في هذا المقام. وإن لم نصححه -وهو غير صحيح- فليس لنا مأخذٌ في هذا الأصل، ولا مرجعٌ إلا إلى نظر الوالي، وصاحب الأمر.
والموقفُ الأعظمُ على العلماء استعمالُ ما يجمعونه [في] (1) آحاد الوقائع (2) إذا بُلوا بها، وكان شيخي يشبّه هذا بجمع الجامع العلومَ المخصوصةَ بفن الطب، وهو هيّن على صاحب القريحة [والجد] (3)، وإذا أراد استعمالَ ما جمعه في معالجة الأشخاص، عظم الأمر عليه فيها.
وإنما أحلنا ما انتهينا إليه إلى ذي الأمر لتفاوت الناس في الحاجات، واختلاف البقاع والأصقاع.
والظاهر في هذه الأبواب تركُ التنحية والإزعاج.
وما نحن فيه مفروضٌ فيه إذا أطلق المحبِّسُ التحبيسَ على من ذُكر (4)، ولولا اتصالُ هذا بالمصالح العامة، لحذفنا الخلاف في هذا المقام؛ إذ لا خلاف أن من سبَّل بقعةً على سكون شخصٍ، لم يُعترض عليه بالتنحية، فذكْر منفعة السكون على الإطلاق بهذه المثابة.
5634 - وألحق الأئمة بما ذكرناه نزولَ المنتجِع قُطراً (5) من الصحراء، وتركَه بهائمه تنتشر في مرابعها، فلا سبيل إلى إزعاج من يسبق إلى مثل هذه البقاع، ولا سبيل إلى مزاحمته بنشر المواشي في محل انتشار [ماشيته] (6) إلا أن تكون الرياض
__________
(1) في الأصل: (من).
(2) في (د 1)، (ت 3): المسائل.
(3) في الأصل: والحر. (وهي بدون نقط).
(4) في (د 1)، (ت 3): يسكن.
(5) قطراً: ناحيةً.
(6) في الأصل: ما يثبته.

(8/317)


أُنُفاً (1) لا يظهر في أمثالها ضرارٌ من زحمة.
5635 - وتكلم الأصحاب في تخيّر الإنسان مجلساً في المسجد، فأجرى بعضهم تخيّره مجرى تخيّر المقاعد في الشوارع، حتى إذا ظهر ذلك من قصد سابقٍ إلى البقعة، لم يزاحم فيها، والمسجد مشترك كالشارع، ومن ضرورة هذا الحكم أنه إذا فارقها، وعاد إليها، كان أولى بها، على القياس الذي قدمناه في مقاعد الشارع.
وكان شيخي يأبى هذا على هذا الوجه، ووجدت صاحب التقريب على موافقته، والأمر في ذلك مبتوتٌ عندي على هذا الوجه؛ فليس المسجد في ذلك كالشارع؛ فان ما ذكرناه من تخيّر البقاع في الشوارع محمولٌ على غرضٍ ظاهرٍ في المعاملة، ولا يتحقق مثله في المساجد، فبقاع المسجد تضاهي مجالس المتحدثين في الشوارع.
وكان شيخي يثبت أثر التعيين في الصلاة الواحدة، إذا اتفق الخروج والعود، ثم كان يحكي في ذلك وجهين أنه لو رعف بعد الشروع في الصلاة، وخرج ليتهيّأ (2)، فإذا عاد، لم يُزحم. وهذا وجه.
والآخر أنه لو شهد المسجدَ قبل إقامة الصلاة في اتساع الوقت، ثم أخرجته حاجةٌ، فإذا عاد، كان أولى بمجلسه. وهذا أمثلُ.
ولا نستريب في انقطاع تصرّف الإمام عن [تعيين] (3) البقاع في المسجد وإقطاعها؛ فإن المساجد لله، والسبق فيها لمن سبق، ولا يظهر في لزوم موضعٍ واحدٍ غرضٌ، كما نصصنا عليه.
فهذا منتهى الكلام في ضم النشر، وإيضاح المقصود، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قام أحدكم من مجلسه في المسجد، فهو أحق به إذا عاد إليه " (4).
...
__________
(1) أنُفاً: بضم الهمزة والنون: أي جديدة، لم تُرعَ من قبل، ويوصف بها المذكر والمؤنث (المعجم) والمعنى المراد هنا: أنها خصبة وافية كافية لا يظهر فيها ازدحام.
(2) (د 1)، (ت 3): بسببها.
(3) في الأصل: تغيير.
(4) حديث: إذا قام أحدكم من مجلسه: رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه دون التقييد=

(8/318)


باب إقطاع المعادن وغيرها
قال الشافعي رحمه الله: " في إقطاع المعادن قولان: أحدهما - أنه يخالف إقطاع الأرض ... إلى آخره " (1).
5636 - وقد أخل المزني في النقل؛ فإنه نقل: " أحدهما أنه يخالف إقطاع الأرض لا وإنما قال الشافعي: " أحدهما أنه لا يخالف إقطاع الأرض "، فحذف المزني كلمة " لا "، وجعل القولين واحداً، وقد سئمنا تتبع كلامه (2).
5637 - فمقصود الباب القولُ في المعادن الكامنة التي يظهر نيلها بالعمل عليها، ولو جدَّدْنا عهدنا بتراجم القول في محالّ الإقطاع نفياً وإثباتاً، وخلافاًً ووفاقاً، لقلنا: الأراضي وما يتصل بها من المعادن والمقاعد أربعةُ أقسام:
أحدها - ما يملك بالعمل فيها، وللإمام أن يُقطع، ويصير المقطَع أحقَّ بمحل الإقطاع كالمتحجر.
__________
=بالمسجد. (ر. مسلم: كتاب السلام، باب إذا قام من مجلسه ثم عاد فهو أحق به، ح 2179). قال الحافظ: وقد أورده بالزيادة إمام الحرمين في النهاية وصححه، وأقره في الروضة على ذلك. ر. التلخيص: (3/ 142 ح1335).
(1) ر. المختصر: 3/ 110.
(2) في طبعة المختصر التي معنا (بهامش الأم) مصداقٌ لكلام إمام الحرمين؛ فقد أسقط المزني فعلاً لفظ (لا) ثم ذكر بعد ذلك القولَ بمخالفة إقطاع المعادن لإقطاع الأرض، وبذلك (فعلاً) جعل القولين قولاً واحداً، وهو مخالفة إقطاع المعادن لإقطاع الأرض. (ر. المختصر: الموضع السابق نفسه).
ولكن الذي يستحق أن يذكر هنا هو هذا التعقب من إمام الحرمين للمزني، ووصفه (بالغلط) على حين نجده عند النقل عن كثير من الأئمة يعزو أخطاءهم إلى النقلة عنهم، فيقول مثلاً: "وما أرى هذا إلا من غلط الناقلين عنه ". فلماذا المزني؟؟

(8/319)


والثاني - ما لا مدخل للإقطاع فيه أصلاً، وهو المعادن الظاهرة، ويلتحق بها مقاعد المساجد.
والثالث - ما لا يملك، وفي جريان الإقطاع فيه خلاف، [وهو المقاعد في الشوارع، والأظهر جريان الإقطاع.
والرابع - ما اختلف القول في جريان الإقطاع فيه] (1) وهو المعادن الكامنة.
5638 - والأولى في ضبط ما يجري فيه الإقطاع، وما لا يجري، وما يختلف فيه المذهبُ أن نقول: إذا كان المطلوب تملك مباحٍ، وهو في محل الاجتهاد، فالإقطاع يجري فيه قولاً واحداً، وهو الموات، كما قدمناه؛ فإن الملك هو الاختصاص الأكبر، فيجوز أن يؤثّر فيه تخصيص الوالي، وما لا يتصور فيه اختصاص الملك، ولا اختصاصُ الانتفاع، فلا معنى للإقطاع فيه وهو المعادن الظاهرة العِدة. وما يجري فيه الاختصاص من غير تملك، ففي جريان الإقطاع فيه خلاف، كما ذكرناه في المقاعد.
والمعادنُ [الكامنة] (2) ينبني أمرها في الإقطاع على أن العامل عليها هل يملكها؟ فإن قلنا: يملك العامل رقابها، فيجري الإقطاعُ فيها كالموات، وإن قلنا: لا يملك العامل رقبة المعدن، ولكنه يختص به، كما سنصفه، فهل يجري الإقطاع فيها؟ فعلى الخلاف.
فهذا تفصيل القول في الإقطاع.
5639 - ثم نبتدىء فنصف المعادن الكامنةَ، ونذكر أحكامها أولاً، فأولاً.
فأما صفتها، فهي المعادن التي ليس يظهر نيلُها إلا بالعمل عليها، ثم النيل [فيها] (3) مكتتم بالطبقات، فيظهر النيل، ثم لا يتواصل النيل على الظهور، كمعادن الذهب والفضة، والفيروز، والبَلْخَش (4)، وما في معانيها.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: الكافية.
(3) في الأصل: فمنها، (د 1)، (ت 3): عليها. والمثبت تقدير منا.
(4) البلْخش: جوهر يُجلب من بلخشان. والعجم يقولون له: بدخشان. وهو اسم ولاية، ويقال=

(8/320)


وكان شيخي يتردد في الأحجار التي فيها جواهر، وهي باديةٌ على الأحجار كالحديد، فإن أثره يبدو على الحجر، ولكنه لا يستخرج منه إلا بمعاناة، ولا يكون البادي عينَ الحديد المجسّم (1)، وهذا فيه تردد واحتمالٌ ظاهر.
5640 - فإذا تصورت المعادن، فمن سبق إليها، فله العمل عليها؛ فإن الإقطاع حيث يثبت ليس شرطاً في استفادة العامل، بدليل أن الإقطاع متفق عليه في الموات، ولا يتوقف التملك بالإحياء عليه. ومن ابتدر إلى معدنٍ (2) من المعادن الكامنة، وعمل حتى بدا النَّيْل، فهل يتملك المعدنَ بعمله تملكَ الموات بالإحياء؟ لا يخلو: إما ألاّ يكون على المعدن أثر العمارة الجاهلية، وإما أن يكون عليها أثر عمارتها، فإن لم يكن عليها أثر الجاهلية، فابتدر العمل عليه مبتدر، فهل يملك رقبة المعدن (3)؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يملك ملك الموات بالإحياء؛ فإن المعدن قطعة من الأرض المباحة التي لم يظهر عليها أثر تملك سابق، والنيل من طبقاتها معدود من جملتها، فأشبهت الموات يُحيَا.
والقول الثاني - أن رقبة المعدن لا تملك بالعمل عليها، بخلاف الموات؛ فإن الموات بالإحياء (4) يتهيّأ للانتفاع الدائم، والمعدن وإن ظهر منه بعضُ النيل، فإظهار ما لم يظهر يستدعي من العمل ما استدعاه النيل الأول، فلم ينته الأمر فيه إلى عمارة تامة تتهيأ البقعة لأجلها لمنفعة دارّة.
هذا إذا لم يكن عليها أثر عمارة الجاهلية.
5641 - فإن كان على المعدن أثر عمارة الجاهلية، فلأصحابنا فيه خبطٌ وتخليط، وما استد أحد من الأئمة استداد الشيخ أبي علي، فنذكر ما ذكره الجمهور، ثم نذكر طريقته.
__________
=لها: بَدْخش أيضاًً، وهي بين خوزستان وهندستان، فيها معادن الذهب والأحجار الكريمة (معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة).
(1) (ت 3): المحتم.
(2) المعدن: يراد به ما يعرف الآن (بالمنجم).
(3) رقبة المعدن: أي أرض المنجم.
(4) بدأ من هنا خرمٌ في نسخة (ت 3)، مقداره نحو صفحة.

(8/321)


قال الأئمة: في المعدن الذي عليه أثر العمارة الجاهلية ثلاثة أقوال: قولان تقدم ذكرهما، والثالث - أنه بمثابة المعادن الظاهرة العِدة، وليس يتوجه هذا إلا بأن يقول قائل: ألفيناه في الإسلام معدناً، فلا يضر اكتتام نَيْله إذا كنا نعلم أن المعدن نيل (1).
وهذا بعيدٌ؛ فإن المعدن إذا لم يكن عليه أثر الجاهلية، فأظهر نيلَه مسلم، وقلنا: إنه لا يملكه، ثم أضرب عنه، أو مات، فلا يصير المعدن ملتحقاً بالمعادن الظاهرة، لا نعرف في ذلك خلافاً، ولو صح ما ذكره [موجِّه] (2) القول الثالث، للزم التحاق المعادن التي ظهر نيلُها بعمل المسلمين بالمعادن الظاهرة، وهذا لا سبيل إلى التزامه.
5642 - فأما الطريقة التي ذكرها الشيخ أبو علي، فهي المنقاسة المرضية، وهي أنه قال: إذا عمل أهل الجاهلية على المعدن، وقلنا لا تملك المعادن بالعمل عليها، فوجود عملهم وعدمه بمثابةٍ (3)، وهو كما لو لم يكن عليه أثر عمارة، وإن قلنا: إن المعادن (4) تملك بالعمارة، فإذا عمروها، فكأنهم ملكوها، فإذا تحولت البلاد إلى المسلمين، فالتفصيل فيها كالتفصيل في الموات الذي ملكوه بالعمارة في الجاهلية، وفيه قولان تقدم ذكرهما، وسبب التردد في هذا أنا نحكم لأهل ملتنا بتملك الموات إذا أحْيَوْه، وإسناد هذا الحكم إلى الجاهلية في حكم تقديم الحكم من ملّتنا على أهل الملل السابقة، ولم يتبين من أديانهم حكمُ إحياء الموات، فأما ما نصادفه في أيديهم متموَّلاً متحوَِّلاً، فنحكم فيه بحكم الماليّة.
هذا بيان قاعدة الحكم في المعادن الكامنة.
5643 - فإذا أحيا رجل أرضاًً مواتاً، وحكمنا له بالملك فيه، فظهر فيه معدن من المعادن الكامنة، فهو باتفاق الأئمة ملك محيي الأرض؛ فإنه بالإحياء ملك الرقبة إلى
__________
(1) أي سبق اكتشافه وإظهارُ نَيْله.
(2) في الأصل: فوجه.
(3) بمثابةٍ: أي بمثابةٍ واحدة.
(4) عبارة (د 1): العمارة تملك بها المعادن.

(8/322)


منتهى التخوم (1)، فإذا استقر الملك بالإحياء، لم ينتقض، ولو ظهر في الموات المملوك بالإحياء (2) معدن ظاهر كالكبريت ونحوه، فهو ملك المحيي إجماعاً، لا يزاحَم فيه، لأن الملك بالإحياء استقر على رقبة الأرض، وكل ما في الأرض فهو حقُّ مالك الأرض.
ومن احتفر قناةً، ملك الآبارَ، والأسرابَ، فالماءُ الجاري على صورة المعدن العِد (3).
5644 - فإذا تمهد ذلك، فلو علم الرجل بمعدن، فاتخد عليه داراً أو بستاناً، وقال: إنه موات، وقد قصدتُ إحياءه، فإذا قلنا: لا يملك المعدن، فالظاهر من [المذهب] (4) أنه لا يملك البقعة، وإنما ملكناه بالإحياء حيث يصح قصده في تملك الرقبة للإحياء، وهاهنا لا يصح القصد، والبقعةُ معدنٌ (5)، فإن المعادن في القصود الصحيحة لا تتخد مزارعَ.
وقال بعضُ أصحابنا: يُملَكُ المُحيَا بالإحياء، ولا أثر للعلم.
وإن (6) قلنا: هذه البقعة لا تملك بهذه الجهة، والمعدن يُملك، فليس بناء الدار مما يملك به هذه البقعة، وسبيل الملك فيها إظهار النيل.
5645 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن من احتفر معدناً، واتسعت الحفيرة، وظهر في طرفٍ منها، أو في وسطها النَّيل، فكيف القول إذا لم يظهر النيل إلا في هذا الجانب؟ أنقول: هو المملوك، أو المملوك جملة الحفيرة؟ لا بد في هذا من نظر،
__________
(1) التخوم: جمع تخْم بفتح وسكون، مثل فلس وفلوس، وهو حدّ الأرض، ومن معانيها الأعراق أيضاً، فالمراد: أن ملك محيي الأرض يمتد إلى نهاية حدودها، وإلى أعمق أعماقها (المصباح، والمعجم، والقاموس، حيث ترى لها أكثر من وزن).
(2) إلى هنا انتهى الخرم الذي كان في نسخة (ت 3).
(3) في (د 1)، (ت 3): "ملك الآبار والأسرابَ، والماءَ الجاري على صورة الماء العدّ".
(4) في الأصل: " من المعدن ": وهو سبق قلم من الناسخ.
(5) معدن: أي منجم. كما سبق.
(6) في الأصل: فإن قلنا.

(8/323)


فلا سبيل إلى الحكم بتخصيص الملك بمحل النيل، وقد يكون كالذَّر وجناح البعوض (1)، ولا سبيل إلى إطلاق القول بملك كل ما يتصل بموقع النَّيل من غير [ضبط] (2) وانتهاءٍ إلى موقف.
والوجه فيه أن يقال: إذا وجدنا النَّيل بدداً في أطراف بقعةٍ ووسطها، عُدَّ ذلك معدناً، وعُدّ النيل ظاهراً بالعمل، وإذا بعدت بقعة لم يتواصل النيل إليها، ولم يكن ذلك البعد معتاداً في تضاعيف النَّيْل المتبدِّد، فهو خارج عن حدّ المعدن. ومعظم هذه الأمور والتصويرات آيلة إلى العادات، والمحكَّمُ فيها أهل العادات.
5646 - ثم قال الأئمة: إذا ملك الرجل معدناً من المعادن الكامنة: إما على قولنا: المعدن يملك بالعمل المُظهِر لنيله، وإما إذا وقع الفَرْض في إحياء مواتٍ مُلك، ثم ظهر فيه معدنٌ، فإذا باع الإنسان هذا المعدن، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن البيع مردودٌ، واعتلّوا بأن المقصود من هذا المعدن النيلُ، وهو مجهول، والمعادن لا تُبغى لترابها وحجرها، ومدَرها، والانتفاعِ فيها بالوجوه المعلومة في الأراضي، فإذا صار المقصود مجهولاً، امتنع البيعُ.
ورأيت في مرامزِ كلام الأصحاب ما يدل على تصحيح البيع، وهو متّجهٌ في القياس على تقدير إيراد البيع على الرقبة، ثم النيل على موجب الوفاق.
والذي يجب القطع بفساد البيع فيه أن يجمع الرجل مقداراً من تراب المعدن وفي حشوه النيلُ، فإذا باعه على علم بأنّ فيه نيلاً، فهذا باطل؛ فإنه لا يبغي من البيع الترابَ، وإنما يبغي النيلَ، وهو مجهول. وقد ذكرنا تردُّدَ الأصحاب في المعاملة على الدراهم المغشوشة إذا كانت جارية في المعاملات، وسبب (3) الاختلاف أن النُّقرة
__________
(1) الدَّر وجناح البعوض: مثال للقلة والصغر.
(2) في الأصل: وقف.
(3) يعلل للخلاف في الدراهم المغشوشة، ويبين سببَه في مقابلة القطع بفساد بيع تراب المعدن المختلط بالنيل، مع أن المحكوم فيه واحد، وهو الخليط المجهول المقدار. وقد بين أن سبب القطع هناك في (التراب الخارج من المنجم) والتردد هنا (في الدراهم المغشوشة) أن الدراهم المغشوشة لا تراد عادة لما فيها من النقرة الخالصة، وإنما تراد لرواجها، أي قدرتها الشرائية،=

(8/324)


ليست مقصودة، وإنما المقصود الجريان.
5647 - ثم قال الشافعي: " ولا ينبغي أن يقطعه من المعادن إلا قدرَ ما يحتمل ... إلى آخره " (1).
ما يجري الإقطاع فيه، فلا ينبغي أن يُقطِع الإمامُ الشخصَ إلا مقدارَ ما يستقلّ به، فإن زاد، لم يكن للإقطاع حكمٌ.
وكذلك إذا تحجر الإنسان متسعاً من الموات لا يستقل بإحيائه، فلا حكم لتحجره. ثم إذا أبطلنا تحجرَه، لم يثبت له في المتحجر حقُّ الاختصاص في المقدار الذي يتصور أن يستقلّ به؛ فإن ذلك لا يتعين في قُطرٍ (2)، وحق الاختصاص على الشيوع غير معقول، فإن عين شيئاً، فهو تحجّرٌ منه [الآن] (3) والإنسان لا يمنع من ابتداء التحجر.
5648 - ثم قال الشافعي: " وكل ما وصفناه من إحياء الموات، وإقطاع المعادن وغيرها، فإنما عنيتُه في عفو بلاد العرب فإنه الذي عامره عشر، وعفوه مملوك " (4).
وهذا مما أخل المزني بنقله خللاً فاحشاً؛ فإنه قال: وعفوه مملوك. والشافعي
قال: " وعفوه غيرُ مملوك " (5)، وعنى بالعفو المواتَ، فحذف المزني كلمة " غير " حتى إنها تُزاد في بعض النسخ، وتُثبت على الاستقامة (6)، ومعنى كلام الشافعي ما ذكرته في الغامر والعامر في بلاد العرب، وخصصها بالذكر (7)؛ لأن العرب أسلمت على بلادها، ولم تُملك على القهر، إلا في مواضع مخصوصة، وأراد بقوله عامره عشر، أي ليس على أهل عامره إلا عشرُ الزروع، ولم يضرب عليه خراج.
__________
=فكان هذا فرقاً، جعل من نظر إليه يتردّد في القطع بتحريم البيع.
(1) ر. المختصر: 3/ 111.
(2) قطر: أي ناحية.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ر. المختصر: 3/ 112.
(5) هذا فعلاً ما قاله الشافعي في الأم، ج 4 ص51.
(6) على الاستقامة: أي يثبتها قرّاء مختصر المزني إقامةً للنص.
(7) (د 1)، (ت 3): بالملك.

(8/325)


وظنَّ الشافعيُّ أن بلاد العجم افتتحت قهراً، وغُنمت عليهم، وفي غامرهم
التفصيل المقدّم في الذب والمحاماة، وتنزيل المستولين منزلة المتحجِّرين، فأراد أن يصوّر أراضي عامرُها ليس [خراجياً] (1)، ولم يُقضَ (2) بالاستيلاء على غامرها ومواتها من الغانمين، حتى تتسق المسائل التي أطلقها من غير احتياج إلى تفصيل.
فرع:
5649 - إذا عمل العامل على المعدن الكامن، فإن قلنا: إنه يملكه، فلا كلام، وإن قلنا: إنه لا يملكه، فقد ذكر الأئمة وجهين في أن الإمام لو أراد تنحيته بعد طول الزمان لينتفع بالموضع غيره، فهل له ذلك؟
وقد قدمنا مثلَ هذين الوجهين في مقاعد الشارع، وأطلقنا وجهين أيضاً في المعادن العِدة الظاهرة، وما ذكرناه من الوجهين في المعادن الكامنة -حيث انتهى الكلام إليه- يناظر ما ذكرناه من الوجهين في المقاعد المُقْطعة في الأسواق.
ثم ذكرنا أن من تخيّر بقعةً على الشرط المقدم، أو اتصل بها إقطاع صاحب الأمر فيمهل فيه زماناً، وقرّبنا القولَ في ضبطه، ثم ذكرنا التنحيةَ وراء ذلك، كذلكَ يمكَّنُ العامل على المعدن زماناً متطاولاً، ثم الخلاف في تنحيته يقع وراء ذلك.
وسبيل التقريب اللائق بهذا الموضع في الزمان المتطاول، أن يبلغ مبلغاً يظهر منه فائدةُ العامل إذا اقتصدت الإنالة، فلم يتفق إكداء (3) ولا نيلٌ نادرٌ مجاوزٌ المعتاد، ثم قد يتفق مثل هذا الزمن، والعامل لا يستفيد في ذلك الزمن للحرمان والمجازفة، فالخلاف في تنحيته على ما ذكرناه. ولو استفاد العامل نيلاً نادراً (4) في زمان قريب، ففي إجراء الخلاف في تنحيته احتمالٌ ظاهر. يجوز أن يقال: لا ينحى نظراً إلى الزمان، ويجوز أن يقال: ينحَّى نظراً إلى الفائدة، وإذا طال الزمان في حق المحروم جرى الوجهان في طرده من غير أن ينظر إلى عدم الفائدة، وقد يُنحَّى المحروم ويرزق
__________
(1) في الأصل: خراجاً.
(2) (د 1)، (ت 3): ولم يتفق الاستيلاء.
(3) إكداء: يقال: أكدى العامُ أجدب، والمعدن (المنجم) لم يتكون به جوهر، أي ليس له نَيْل، وهو المراد هنا (المعجم).
(4) أي استفادَ نَيْلاً كثيراً مجاوزاً للاعتياد.

(8/326)


غيره، وقد يبقى المعدن حاقداً (1) لا ينيل في عمل شخص، وإذا عمل غيره، ظهرت الأنالة، وأمرُ المعدن وفاق، ونيله [أرزاق] (2).
فصل
قال: " ومن عمل في معدنٍ في أرضٍ ملكُها لغيره، فما يخرج منها، فلمالكها ... إلى آخره " (3).
5650 - إذا ملك الرجل معدناً من المعادن الكامنة، ثم قال لغيره: اعمل عليه، وما يخرجه من النيل، فهو لك، فما يظهر من النيل، فهو لمالك المعدن؛ فإنه لا يجوز أن يقدَّرَ عوضاً على الجهالة، ولا متبرعاًً به موهوباً، فلا وجه إلا تقريره على ملك مالك المعدن، وهل يستحق العامل أجراً في مقابلة عمله؟ هذه القاعدة يفصّلها يربع مسائل:
5651 - إحداها - أن يقول رب المعدن: أذنت لك في نهارك، أو أسبوعك، ولك ما يظهر من نيلٍ، فهذه الصيغة لا تتضمن استعماله، وإنما هو إطلاق التصرف، وتبرعٌ بما يتوقع من نيل، فإذا جرى الأمر كذلك، فالنيل مردود على المالك، كما قررناه. والذي ذهب إليه الجمهور أنه لا يستحق العامل على مقابلة عمله شيئاً، فإنه كان يعمل لنفسه ابتغاء النَّيل.
وحكى القاضي عن ابن سريج أنه أثبت للعامل أجر مثل عمله، لأن النيل انصرف إلى صاحب المعدن. وإن قصده العامل لتحصيل غرض نفسه، ووجّه ابنُ سريج هذا بأن قال: لم يرض العامل بأن يعمل مجاناً، ولم يسلَّم له ما طمع فيه، فينبغي أن يرجع بالأجر على من أوقعه في العمل، وسُلِّم له ما طمع فيه العامل؛ [فإنّ ذلك ثمرةُ عمله وفائدتُه] (4).
__________
(1) حاقِداً: أي حابساً، يقال: حقِد المعدِن لم يخرج شيئاً. (المعجم).
(2) سقطت من الأصل.
(3) ر. المختصر: 3/ 114.
(4) ساقط من الأصل.

(8/327)


وقرّب الأئمة هذا من أصل ذكرناه في كتاب الحج، وهو أن المستأجَر على الحج إذا نوى مستأجِره أولاً، ثم صرف الإحرام إلى نفسه ظانّاً أنه ينصرف إلى نفسه، واستمر على عمله على هذا الظن، فالحج ينصرف إلى مستأجِره، وفي استحقاقه الأجرة الخلافُ المشهور.
وعندي أن الصورة التي ذكرناها بعيدة عن استحقاق الأجرة؛ إذ لا استعمال فيها، وإنما جرى الإذن إطلاقاً، ورفعاً للحجر، وليس كمسألة الأجير في الحج؛ فإن المستأجِر استعمله أولاً، وانصرف إليه العمل آخراً، فلا يبعد أن يلغو القصد الفاسد اللاغي من الأجير، ثم إذا رأى ابن سريج في هذه الصورة إثباتَ الأجرة للعامل، فليت شعري ماذا يقول إذا عمل، ولم يستفد شيئاً؟ فإن جرى على قياسه في إثبات الأجر، كان في نهاية البعد إذا لم يحصُل نَيْلٌ هو شوفُه، ومتعلّق [طمعه] (1)، حتى يقال: إذا قُطع عنه ما أُطمع فيه، فهو عِوض (2) عنه.
وإن سلّم في هذه الصورة أنه لا يستحق الأجرة، فقد وُجد الكدّ، وظاهر العمل، وعلى الجملة هذا محتمل على قياس ابن سريج.
وما ذكرناه شرح مسألة واحدة.
5652 - المسألة الثانية - أن يقول: اعمل في بياض هذا النهار، ولك ما تُظهره من النيل، فالقول في النَّيْل كما مضى؛ واستحقاق الأجرة مختلف فيه بين الأصحاب، وهو ظاهرٌ في هذه الصورة؛ من قِبل استعماله العامل بأمره.
5653 - المسألة الثالثة - أن يقول: استأجرتك لتعمل في نهارك وأجرتك النَّيْلُ الذي تصادفه، فالظاهر هاهنا أنه يستحق أجرَ المثل، للتصريح بالاستئجار، وإثبات العوض.
وأبعد بعض أصحابنا، فأسقط الأجرة، لتعلق قصد العامل بأخد النيل الذي يُظهره عمله.
__________
(1) في الأصل: قلعه.
(2) هو عوض: أي الأجر، وفي (د 1)، (ت 3): إذا قطع عنه ما أطمع فيه، عُوّض عنه.

(8/328)


5654 - المسألة الرابعة - أن يقول: استأجرتك لتعمل، ولك نصف النيل الذي تصيبه، فلا شك أنه يستحق نصفَ الأجر على مقابلة النصف الذي شرط لرب المعدن، وهل يستحق النصف الآخر من الأجر؟ فيه التردد الذي ذكرناه في الأجر كله إذا قال: استأجرتك وأجرتك النيل كله.
فهذا بيان المسائل المفصِّلةِ للقاعدة.
فصل
ذكر [الشافعي] (1) الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من منع فضلَ الماء ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة ... إلى آخره " (2).
5655 - قد ذكرنا في كتاب البيع فصلاً في المياه وبيعها، وجريان الملك فيها، وخلاف من خالف من الأصحاب في أن الماء لا يُملك.
ونحن نذكر غرضَ هذا الفصل، وما نراه غيرَ مذكور في الفصل المقدم، فإن تكرر شيء غاب عن الذكر، [لم يضر] (3).
ومعتمد الفصل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ، منعه الله فضل رحمته يوم القيامة " (4)، والمراد بالحديث أن من احتفر بئراً في برّيّة، يسقي بمائها ماشيتَه، فإذا لحقت ماشيةٌ لإنسان، وقد فضل من
__________
(1) زيادة لمجرد الإيضاح.
(2) ر. المختصر: 3/ 114.
(3) ساقط من الأصل.
(4) حديث منع فضل الماء: رواه بهذا اللفظ الإمام الشافعي في الأم: 3/ 272، ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه البيهقي في الصغرى: 3/ 332 حديث: 2206، وبلفظ مقارب رواه الإمام أحمد: 2/ 179، 221.
والحديث متفق عليه بلفظ " لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ " (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/ 147، ح 1009) أما باللفظ الأول فنقل الحافظ عن البيهقي قوله: " هو مما لم يُقرأ على الشافعي، وحمله الربيع على الوهم، ولو قرىء على الشافعي لغيّره إن شاء الله.
وانظر التلخيص: (3/ 146 ح 1342).

(8/329)


ماء البئر عن حاجةِ حافرها، فليس له أن يمنع الفاضل من حاجته من الماشية الواردة؛ فإن منعَ فضل الماء يكون سبباً لمنع الكلأ في تلك الناحية؛ إذ الماشيةُ إنما ترعى بقرب الماء، فإذا منع صاحب البئر فضلَ مائه، فكأنه منع الكلأ في تلك البقعة.
هذا هو المعنيّ بقوله صلى الله عليه وسلم: " ليمنع به الكلأ ".
5656 - ثم تفصيل المذهب بعد بيان الحديث أن من احتفر بئراً، لم يخل من ثلاثة أحوال:
أحدها - أن يقصد تملك البئر.
والآخر - ألا يقصد تملكها، ولكن قصد استعمال مائها في جهة حاجاته.
والثالث- أن يحتفر بئراً ولا يقصد شيئاً.
5657 - فإن احتفر وقصد التملك ملك البئر كما (1) ظهر الماء، ولا يتوقف استقرار ملكه على أن يصير الماء غديراً، ثم إذا ملك البئر، صار أوْلى بالماء والتفريع على أن الماء يُملك، فجمَّةُ (2) البئر مملوكةٌ لمالك البئر، وهي بمثابة ما لو أحرز ماءً في قربة، أو آنية، أو انتزح ماءً، وجمعه في حوض. فإذا صار مالكاً للماء، فإذا أدركت ماشيةٌ، لم يلزمه تركُ فضلِ مائه لها، ولي الحديث في هذا القسم.
وإن أشرفت الماشية على الهلاك سقاها فضلَ مائه بالقيمة.
والجملةُ أن الماء في البئر المملوكة بمثابة الماء المجموع في الحوض، والأواني.
5658 - فأما إذا لم يقصد تملكَ البئر، ولكن قصدَ الانتفاعَ بمائها، فإنه يتقدم في انتفاعه، فإذا فضل الماءُ عن حاجته وحاجة ماشيته، وعن مزرعةٍ هيأها بالقرب من البئر، فيجب بذلُ الماء للمواشي، كما نطق الخبر به، وهو محمول على هذه الحالة. ثم ذلك الفاضل لا يتقوّم؛ فإنه لم يَملك رقبةَ البئر، بل صار أولى بها، كذلك هو أولى بمائها على قدر حاجته، والفاضلُ في حق الماشية كالماء المباح العِدّ.
__________
(1) كما ظهر: بمعنى عندما ظهر.
(2) جمّةُ البئر: ما يرجع من مائها بعد الأخد منه. والمراد هنا ما هو متجمع في البئر.

(8/330)


ثم قال الأصحاب: لو اتخد متخذٌ بالقرب من البئر مبقلةً، أو مزرعةً، فأراد أن يسقيها من فاضل ماء البئر، فليس له ذلك؛ فإنّ حقَّ السقي إنما ثبت لحرمة أرواح المواشي.
وهذا وإن أطلقه الأئمة كذلك في الطرق، يتطرق إليه احتمالٌ -من جهة القياس- ظاهرٌ؛ فإن حافر البئر إذا لم يصر مالكَها، ولم يصر مالكاً لجَمَّتها، وإنما يثبت له حق الاختصاص والتقدم بقدر الحاجة، فالقياس أن الفاضل عن الحاجة بمثابة الماء العِد الذي يشترك الناس كافة فيه. هذا وجه الاحتمال. والذي ذكره الأصحاب ما قدمناه من أنه لا يَمنع فضل مائه الماشيةَ، ويمنعه من المزارع وغيرِها.
وفي هذا تفصيلٌ لا بد من التنبّه له. وهو أن الذي لا يقصد تملك البئر إن كان يقصد كونَه أولى بالاستيلاء على البئر والاحتكام في مائه، فهو على موجب قصده أولى، وهذا الحكم يوجب له حق الاختصاص، وإن لم يكن ملكٌ. ولو أجرينا قياسَ الاختصاص على حقِّه، لما أوجبنا عليه بذلَ فضلِ مائه للمواشي من كير ضرورة، ولكن أوجبنا [ذلك] (1) للخبر. وحق الاختصاص مطّرد في غير المواشي.
هذا إذا قصد الاختصاص مطلقاً.
وإن خطر له في احتفاره أن يتقدم بقدر حاجته من غير مزيد، فهذا موضع الاحتمال، فيجوز أن يقال: لا حكم له في الفاضل، وليس له منعه من أحدٍ من الناس، سواء طلبوا سقي المواشي به، أو سقي المزارع، ويجوز أن يقال: إذا ثبت اختصاصه، لم يتبعض، والبئر بحكم ذلك الاختصاص تحت يده وتصرفه [والاختصاص] (2) لا يتبعض حكمه، حتى يثبت من وجه وينتفي من وجه.
وهذا يتضح بذكر الحالة الثالثة.
5659 - وهي أنه إذا احتفر بئراً، ولم يقصد أن يختص بمائها، ولم يظهر منه قصد التملك ولا قصد الاختصاص، فالذي ذهب إليه المحققون أن الحافر مع كافة الناس
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (د 1)، (ت 3).

(8/331)


في ماء البئر على قضيةِ الاستواء، فلا يتقدم بحاجته وهو في الماء كغيره.
ومن أصحابنا من قال: هو متقدم بحاجته. وهذا محتمل حسنٌ، ووجهه أن فعله هذا توصُّلٌ منه إلى الماء، فلا أقل من أن يُفيده الاختصاص، وإن لم يقصده، وهذا في إفادة الاختصاص بمثابة ما لو بنى رجلٌ على مواتٍ داراً، فإنه يملك عَرْصتَها، وإن لم يقصد التملك؛ لأن مثل ذلك لا يقع إلا من متملك، كذلك حفر البئر لا يقع إلا من مختصٍّ، فإن كان كذلك، ظهر على هذا الوجه ما ذكرناه في الحالة الثانية؛ فإنه وإن قصد التقدّم بالحاجة، فحق الاختصاص يثبت له بسبب الاحتفار.
هذا منتهى التفصيل في ذلك.
5660 - ولو أوجبنا عليه بذلَ فضل الماء للماشية، ولكن كان الفاضل فاضلاً عن سقيه وماشيته، ولم يفضل عن مزارعه التي هيأها، ومباقله، ظاهرُ كلام الأصحاب أنه لا يلزمه بذلُ فضل مائه، حتى يفضل عن مزارعه، وهذا فيه احتمالٌ على بعدٍ، لحرمة الأرواح.
5661 - ولو لحقت الماشية، فاستحدث حافرُ البئر مزرعة، فيظهر [هاهنا] (1) أنه لا يصرف الماء إلى تلك المزرعة المستحدَثة بعد لحوق الماشية؛ إذ لو جوزناً منعَ الفضل بهذه الجهة، لاستمكن صاحب البئر من طرد الماشية [بالزيادة] (2) في المزارع.
5662 - ثم مما ذكره الأصحاب من جليِّ الكلام في هذا الفصل أن الفضل الذي أوجبنا بذلَه للماشية أردنا ببذله التخليةَ بينه وبين أصحاب المواشي، وعليهم تكلّفُ السقي إن أرادوه، ولا يجب على صاحب البئر إعارة البكرة والدلو، والرِّشا؛ فإنه لا يسوغ الاحتكام على أملاكه إلا في أوقات الضرورات، كما سبق وصفها.
5663 - وإذا كان حافر البئر مالكاً للبئر، لم يُحتكم عليه في الملك، والماءِ الذي فيه، هذا ما قطع به المحققون.
__________
(1) زيادة من: (د 1)، (ت 3).
(2) في الأصل: لزيادةٍ.

(8/332)


وإنما أعدته لأن شيخي كان يكرر في دروسه وجوبَ بذل فضل الماء للمواشي، وإن كانت البئر مملوكةً؛ تمسكاً بظاهر الخبر؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين البئر المملوكة لحافرها وبين البئر التي ليست مملوكة لحافرها، لأنه لم يقصد تملّكها.
وكلام الصيدلاني في هذا الفصل مطلقٌ ليس فيه تفصيلٌ، وفرقٌ. [ولو كان] (1) الحكم يختلف عنده، لأشبه أن يفصّل.
وإنما (2) أخرت ذلك لأني لست أعتمده ولا أعتدّ به، ولا آمن أن يكون إطلاق من أطلقه عن غفلة، ولم يصرح أحدٌ بوجوب صرف فضل الماء إلى المواشي مع التصريح بكون البئر مملوكة إلا شيخي.
5664 - ومما ذكره الأئمة متصلاً بما ذكرناه أن من حاز ماءً، وأحرزه في أوانيه، أو جمعه قصداً في حوضٍ له، وسد المنافذ، فهذا مملوك على الرأي الظاهر، وإن لم نجعله مملوكاً على مذهب المروزي، فمحرزه أوْلى من غيره.
والماء الذي يجري في النهر المملوك، كماء القنوات مملوك (3) على الرأي الظاهر لمالك القناة، وكل من تصرف فيه بما ينقُصه، ويُظهر نقصَه، فهو ممنوع منه، ولو استاق أصحاب المواشي مواشيَهم إلى هذه المياه، وكان يظهر النقص منها، فهي مجلاةٌ عن الماء ممنوعةٌ، وما لا يظهر له أثر كالشرب، أو كسقي دوابَّ معدودة، أو كأخد قِربٍ، فقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يسوغ المنع من هذا القدر، واستمسكوا بقوله صلى الله عليه وسلم: " الناس شركاء في ثلاثة: الماء والنار، والكلأ " (4) وهذا بعينه هو الذي نقلتُه عن شيخي وأنكرته، فإنه انتفاعٌ بفاضل مملوكٍ.
__________
(1) في الأصل: وإن الحكم عنده.
(2) (ت 3): وما أخرت.
(3) في الأصل، (ت 3): مملوكة.
(4) حديث " الناس شركاء في ثلاث ": رواه أبو داود: البيوع، باب في منع الماء، ح 3477، وابن ماجه: الرهون، باب المسلمون شركاء في ثلاث، ح 2472، وأحمد: 5/ 364، والبيهقي في الكبر: 6/ 150، والصغرى: 3/ 329 رقم: 2196، وأبو عبيد في الأموال: 728. وكلهم بلفظ (المسلمون) سوى أبي عبيد وحده فإنه قال: الناس.

(8/333)


وذهب القاضي وطبقةُ المحققين إلى إجراء القياس، والمصيرِ إلى أن [للملاّك أن يَمْنعوا] (1) من هذا.
5665 - وما درج عليه الأولون من التسامح فيه محمول على أن الناس لا يضنون بهذا القدر، فصارت قرائن الأحوال بمثابة التصريح بالإباحة.
5666 - وذكر الأئمة تفصيلَ القول في بيع المياه في القنوات، وأنه لا يصح، وقد ذكرت ذلك مفصَّلاً في موضعه.
ومما ذكره القاضي أن القناة إذا كانت مشتركة، فالمهايأة لا تصح فيها؛ من جهة أن النُّوب تختلف من وجهين: أحدهما - أن الماء يزيد وينقص، والآخر - أنها تتفاوت في حاجات الدهقنة، فليس ما يقع في النوبة الأولى كما يقع في النوبة الأخيرة، وهذا فيما أظن لم أذكره في كتاب البيع.
ويتحصل مما ذكرته قبلُ، ومن هذا ثلاثة أوجه: أحدها - أن المهايأة تصح في نُوب القنوات ولا تلزم.
والثاني - أنها تصح وتلزم؛ فإن الانتفاع بنوبها لا يصح إلا كذلك، وهذا لا يخفى على أصحاب البصائر
والثالث - وهو الذي جددناه الآن أن المهايأة لا تصح أصلاً.
فصل
5667 - قد ذكرنا في الكتب السابقة مسائلَ متفرقة في حريم الأملاك، ونحن نذكر الآن في ذلك قولاً كافياً، إن شاء الله عز وجل، فنقول:
من كان له ملكٌ، لم يخل إما أن يتاخم مواتاً لا حق فيه لأحد، وإما أن يتاخم الشارعَ، وفيه الحقوق العامة، وإما أن يتاخم ملكاً.
فأما ما يجاور مواتاً، فيثبت له من ذلك الموات حقُّ الحريم، وهو ينقسم عندنا
__________
(1) في الأصل: الملاك إذ منعوا.

(8/334)


قسمين: أحدهما - يتعلق بإدامه الملك، وإقامته، وصونه عن الخراب، وعن إمكانه.
وبيان ذلك أن من أراد أن يحتفر في الموات الذي بقرب العمران بئراً أو نهراً عميقاً، وكان الملك يتَضرّر على تحقيقٍ، أو يُخاف ضررُه، فيمنع المتصرف في الموات من ذلك، وهذا المنع في حكم الوقاية للملك سمي حريماً.
ويظهر الحريم ويتسع في القنوات اتساعاً بيّناً، فإذا احتفر الإنسان قناةً في موات، وتملك آبارها، ورسومَها، وأسرابها، فيحرم على من يريد التصرف في الموات أن يتصرف تصرفاً يضر بالقناة، ويُفضي إلى هدمها أو ينقُص من مائها. ولو أراد مريدٌ أن يجري على معارضة تلك القناة [قناة] (1) أخرى، ولو فعل، لانقلب ماء هذه القناة المتقدّمة إلى المستحدثة، فهذا ممنوع، ويختلف ما ذكرناه باختلاف صفات الأراضي، فإنها تكون حَرّة (2)، وحصبة، وذاتَ رملٍ متخلخل.
والجملة ما ذكرناه من المنع من التصرف المنقص.
هذا أحد القسمين المذكورين في الحريم.
5668 - والقسم الثاني - لا يتعلق بخيفة الهدم، ولكنه يتعلق بالاتساع، وإثبات المضطرب، وهذا قد يقع عاماً لأهل القرية بالإضافة إلى الموات، فلهم فيه مطرحُ التراب، ومناخُ الإبل، ومجتمعُ النادي، وملعبُ الصبيان، ومركض الخيل إن كان سكان القرية خيّالة.
فأما المحتطَب والمرعى الذي ينشر فيه بهائم القرية، فالقول فيه ينقسم، فما يبعد لا يستحقّه أهل القرية، ولو أحياه محيٍ، ملكه، فأما ما يقرب من القرية، فلا يستقل مرعىً ومحتطَباً، ولكن قد تستدير البهائم بالقرب من القرية إذا استشعر أهلُها خوفاً من الإبعاد، فما كان كذلك، فهو مختلف فيه، على ما ذكره الشيخ أبو علي، والرأي الظاهر أنه ليس من حقوق القرية. هذا فيما يتعلق بالقرى على الجملة.
__________
(1) ساقطهَ من الأصل.
(2) أرض حرّة: ذات حجارة سود كأنها أحرقت. وحصبة: كثيرة الحصباء. (المعجم).

(8/335)


فأما إذا ابتنى الرجل داراً في مواتٍ، وفتح بابها في صوبٍ منه، فلصاحب الدار من الموات حقُّ مطرح التراب، والكُناسات، ومطرح الثلج، والممر في الصوب الذي فتح الباب فيه.
ولو أحيا محيٍ وبقَّى له الممرَّ، ولكن كان يحتاج أن [يزورّ] (1) عن قبالة الباب، فليزورّ؛ فإنه لا يستحق الممر في صوب الباب على طول الامتداد في الموات الكائن في تلك الجهة.
وقد ذكرت في كتاب الصلح أحكامَ المزاريب والأجنحة إلى الشوارع، وافتتاح المنافد والأبواب إلى الممر العام.
5669 - فأما إذا تضايقت الأملاك، فقد زال المتسعُ والحقُّ الذي سمّيناه المضطربَ والاتساعَ؛ إذ تتقابل الأقوال في ذلك.
وهذا إنما يُفرض في أملاكٍ صودفت كذلك، والكلامُ يرجع إلى تصرف الملاك في أملاكهم، فإذا تجاور ملكان، فلصاحب كل ملك أن يتصرف في ملكه بما يُعتاد مثله، وإن كان يُخاف منه اختلال ملك صاحبه، وهذا كتسليط كل مالك على حفر بئر في ملكه على الاقتصاد المعتاد، وكذلك القول في اتخاد مبرز لا يجاوز فيه حدّ ملكه.
وقد منعنا مثلَ هذا التصرف إذا خيف منه الضررُ في الموات؛ فإن الموات المطلق هو الذي لم يتعلق به حق. وما تعلق به حقُّ الحريم، فهو واقية الملك، وليس مواتاً مطلقاًً، وهذا لا يتحقق في الأملاك المتجاورة.
ثم يتفرع على ما ذكرناه أن احتفار البئر إذا أدى إلى اختلال دار الجار، فلا ضمان على الحافر لأنه متصرفٌ في ملكه، فليعتقد الملاك في الأملاك المتجاورة أنهم بصدد هذا الضرار، فلا بد من احتماله، ولولاه، لتعطلت الأملاك ناجزاً لخيفة الضرار، ولا سبيل إلى قطعِ مرافق الأملاك، وتحصيلِ الضرار، وتعطيلِ المنافع لتوقع ضرارٍ.
والذي يجب إنعام النظر فيه أمور العادات، فلو كانت دار الإنسان محفوفةً بالدور
__________
(1) في الأصل: يزوي.

(8/336)


والمساكن، فلو [أجلس] (1) فيها قصاراً، أو حداداً، فهذا -والدار كما وصفناها- خارجٌ عن الاعتياد، والظاهر عندنا منعُه؛ فإنه وإن كان ارتفاقاً، فهو مجاوز للعادة، وكذلك إذا اتخد داره حمّاماً، وهي محفوفة بالمساكن، فهذا من القبيل الذي ذكرناه، إلا أن يستمكن من الإبرام والإحكام على حدٍّ لا يزيد ضرره على ضرر المرافق المعتادة.
وكان شيخي يتردد في اتخاد الإنسان داره مدبغةً، ويميل إلى التجويز؛ فإن الضرار إذا كان لا يتعلق بالدور فتضرر السكان بالروائح لا يوجب منعَ المالك من التصرف.
وهذا محتملٌ على ما كان يتردد فيه رحمه الله.
5670 - والقول المغني عن التفصيل: إذا جاوز في التصرف العادةَ وعُد في حق نفسه مضرّاً بملك نفسه، فهذا لا يحتمل. وإن كان مرتفقاً بملك نفسه، ولكنه جاوز العادةَ في ذلك الفن وجرّ ضراراً ظاهراً، فهذا في ظاهر المذهب لا يحتمل. وإن لم يجرّ ضراراً على المساكن، وارتفق ارتفاقاً لا يعتاد، وجرّ إلى السكان تضرراً، فهذا فيه احتمال ظاهر. فهذا منتهى القول في ذلك والله المستعان.
...
__________
(1) في الأصل: فتح.

(8/337)


كِتَابُ العطَايَا (1) والحبس والصدقات
قال الشافعي: " فجميع ما يعطي الناسُ من أموالهم ثلاثة وجوه ... إلى آخره " (2).
5671 - صدّر الكتابَ بالتقاسيم في التبرعات، وقال: يقع قسمان منها في الحياة: وهما - الهبات، والصدقات.
ثم الصدقات تنقسم إلى صدقات البتات، وهي تصدّق الرجل بطائفة من ماله على من أراد.
والثاني - الوقف.
ومن التبرعات ما يقع بعد الوفاة. والمقصود من هذه التقاسيم انتزاع الوقف من خَلَلها، وباقي التبرعات تأتي في أبوابها.
5672 - والأصل في الوقف السنة، وإجماع الأمة، أما السنة، فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به بعد موته، وصدقة جارية " (3) فقال العلماء: الصدقةُ الجارية هي الوقف على وجوه الخير، وقال عمر رضي الله عنه: " أصبت مالاً من خيبر، لم أصب مثله في الإسلام، فراجعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) (د 1)، (ت 3): باب.
(2) ر. المختصر: 3/ 115.
(3) حديث: " إذا مات ابن آدم ": رواه مسلم: الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 3/ 1255، ح 1631. وأبو داود: الفرائض، باب ما جاء في الصدقة عن الميت، 3/ 117، ح 2880، والترمذي: الأحكام، باب ما جاء في الوقف، 3/ 660، ح 1376 والنسائي: الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت 6/ 251، ح 3681، وأحمد: 2/ 372، والبيهقي في الكبرى: 6/ 278 " كلهم من حديث أبي هريرة "، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 148 ح 1346.

(8/339)


وكان حدائقَ، ونخيلاً، فقال صلى الله عليه وسلم: حبِّس الأصلَ، وسبّل الثمرَ " (1).
وأجمع المسلمون على أصلِ الوقف، وإن اختلفوا في التفصيل.
5673 - ومذهبُ الإمام الشافعي أن الوقف إذا استجمع شرائطَه صحيحٌ لازمٌ، لا يتوقف لزومُه على تسجيلٍ من جهةِ قاضٍ، ويصح مُنَجَّزهُ في الحياة، ومنفَّذُه في الوصية بعد الوفاة.
5674 - ثم هو في التقسيم الأولي متنوع، فمنه ما يقع مضاهياً للتحرير، وهو كجعل بقعة مسجداً، وهذا مما وافق فيه من أنكر لزومَ الوقف والتحبيس. ويتصل بهذا القسم جعْلُ بقعة مقبرةً، على ما سيأتي، إن شاء الله. عز وجل تفصيل الصنفين.
والقسم الثاني - ما يتضمن صرفَ منفعته إلى الغير، وهو ينقسم إلى ما يقصر مقصوده على حق السكون، كالمدارس والرباطات. والوقفُ فيهما قريبٌ من جَعْل البقاع مساجدَ ومقابرَ، وإلى ما يفوّض الأمر إلى المستحِق، فإن شاء، انتفع بنفسه، وإن شاء استغلّه، وتملّك ما يحصل من غَلَّته، وهذا يجري على نوعين: أحدهما - ما تصرف الغلّةُ فيه إلى عمارة المساجد، والرباطات، والمدارس، وإلى ما يصرف إلى من يتملكه.
ثم الوقف يصح على مخصوصين معيّنين، وإلى جهةٍ عامة كجهة المسكنة والفقر.
وفي تصحيح الوقف على أقوام لا ينحصرون، وليس المراد حاجتَهم قولان، كالوقف على بني هاشم وبني المطلب، ونحوهم.
5675 - ومما يتعين تصدير الكتاب به أن الوقفَ إذا كان على معينين، أو على
__________
(1) حديث عمر بن الخطاب متفق عليه بلفظ: " إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها " البخاري: الشروط، باب الشروط في الوقف 5/ 418، ح 2737، مسلم: الوصية، باب الوقف 3/ 1255، ح 1632. أما بلفظ إمام الحرمين فقد رواه الشافعي في مسنده: 2/ 138، ح 457 [السندي] والنسائي: الإحباس، باب حبس المشاع 6/ 232، ح 3603، 3604، 3605. وابن ماجه: الصدقات، باب من وقف 2/ 801، ح 2397، وأحمد: 2/ 156، 157، والبيهقي في الكبرى: 6/ 162 والصغرى: 3/ 336، ح 2223، 2224.

(8/340)


جهةٍ، والغرض منه أن يملكوا ما يحصل من غَلّةٍ وثمرة، فللشافعي في هذا الصنف ثلاثة أقوال: أحدها - أن الملك في رقبة الموقوف يبقى للواقف، ويثبت لمن عليه الوقف استحقاقُ الرَّيْع والفائدة.
والقول الثاني - أن الملك يزول إلى الموقوف عليه في الرقبة، ولكنه محبَّس، لا يباع، ولا يوهب ولا يورث، فيثبت ملك التصرف في الفوائد، وملك التحبيس في الرقبة.
والقول الثالث- أن الملك في الرقبة يزول إلى الله تعالى، والفوائد يستحقها الموقوف عليه.
وما يقع مضاهياً للتحرير كجعل البقاع مساجدَ، لا يتجه فيه إلا زوالُ الملك إلى الله تعالى، على تفصيلٍ سيأتي في المسائل، إن شاء الله عز وجل.
5676 - وحقيقة مذهب أبي حنيفة (1) ردُّ الوقف إذا كان المقصود به تمليكَ الفوائد، ومن أصله أنه يلزم بالتسجيل، وهذا يخرّج على اتباع قضاء القاضي في مواقع الخلاف، ونُقل عنه أنه ألزم الوصية بالوقف إذا خرجت من الثلث، وهذا عنده بمثابة الوصية بالمنافع والثمار، فلا يصح الوقف على أصله (2) بنفسه (3)، وسلّم لزومَ جعل البقاع مساجدَ ومقابرَ، ولم ير ذلك وقفاً، وإنما اعتقده تحريراً.
5677 - فإذا تمهد ما ذكرناه ترجمةً، فنذكر بعد ذلك فصلين في مقدمة مسائل الكتاب: أحدهما - في الألفاظ وذكر الصريح منها، والكناية. والثاني - في بيان ما يصح وقفه.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 136، البدائع: 6/ 218، الاختيار لتعليل المختار: 3/ 40.
وما ذكره إمامنا هو قول أبي حنيفة وزفر، وأما أبو يوسف ومحمد، فعندهما لا يشترط شيء من هذا، فقد وافقا الشافعية.
(2) " على أصله " أي أصل أبي حنيفة وقواعده، فإن من أصله أن الوقف لا يصح، لأنه حبسُ الرقبة، وتصدقٌ بالثمرة، والثمرة معدومة، وعنده لا يجوز التصدق بالمعدوم، ولذا يصح عنده الوقف إذا كان موصىً به، ويكون إذاً وصيةً بالمنافع، وهي تصح عنده.
(3) أي بذاته بصفته وقفاً، وانما يصح إذا كان في صورة وصيةٍ بالمنافع، كما وضحناه في التعليق السابق.

(8/341)


5678 - فأما القول في الألفاظ، فلفظ الوقف على انفراده من غير انضمام قرينةٍ إليه صريحٌ في الباب، في الفن الذي يتضمن تمليك المنافع والفوائد. هذا هو الذي يُقطع به.
ولفظ التصدق بمجرده غيرُ كافٍ.
وتردد الأئمة بين اللفظين في التحبيس والتَّسبيل، والتحريم والتأبيد، فاشتهر خلافُ الأصحاب في التحريم والتأبيد، فإذا قال: جعلتُ هذه البقعةَ محرّمةً [عليَّ] (1) وريعُها للمساكين، أو لفلان وفلان، وبعدهم للمساكين. أو قال: أبّدتُها، أو جعلتُها مؤبَّدةً، وذكر المصرف كما سيأتي، فمن أصحابنا من رأى الاكتفاء بأحد هذين اللفظين، وزعم أنهما جاريان على الشيوع والذيوع في المقصود، وذهب آخرون إلى أنهما لا يستقلاّن؛ فإنهما [يستعملان] (2) تأكيدين للوقف والتحبيس، فإذا ذكرا مفردين، لم يستقلا.
فأما لفظ التحبيس والتسبيل، فالذي قطع به الأئمة أنهما كلفظ الوقف.
وذهب أبو سعيد الإصطخري إلى أنهما كنايتان في الباب، حكاه الشيخ أبو علي عنه وزيفه.
وذهب بعض الأئمة إلى نقل تفصيلٍ عن أبي سعيد الإصطخري، فقال: من أصله أن التحبيس صريح، والتسبيل ليس كذلك. وهذا القائل [يذكر] (3) للتفصيل والفرق بين التحبيس والتسبيل مسلكين: أحدهما - أن الرسول صلى الله عليه وسلم غايرَ بين اللفظين في قصة عُمر؛ إذ قال: "حبِّس الأصل وسبِّل الثمر" فاستعمل التحبيس في الأصول والرقاب، والتسبيل في الثمار، وقيل: [عنى] (4) صلى الله عليه وسلم بالتسبيل صرفَ الثمار إلى السابلة.
__________
(1) في الأصل: غلتها.
(2) في الأصل: يستقلان.
(3) في الأصل: يرجم.
(4) في الأصل: عبر.

(8/342)


والوجه الثاني - أن التسبيل من السبيل، وهو لفظ مبهم، والتحبيس معناه حبس الملك في الرقبة عن التصرفات المزيلة، فكان في معنى الوقف.
5679 - ومما يتعلق بذلك أن الأصحاب ترددوا في لفظ الوقف إذا استُعمل فيما سبيله مضاهاة التحرير، مثل أن يقول مالك البقعة: وقفتها على صلاة المصلين، وهو يبغي بذلك جعلَها مسجداً.
ثم من تردد في التحبيس والتسبيل، جعلهما صريحين إذا اقترنا بالقرائن المشهورة في الباب، مثل أن يقول: حبّست على فلان كذا، تحبيساً محرّماً مؤبداً، أو ذكر التسبيل وقرنه بما ذكرناه.
5680 - وقد ذكرنا أن لفظ التصدّق لا يستقل في الباب، إذا تجرّد وفاقاً، وسبب ذلك أنه يستعمل صريحاً في التبرع بالأعيان، فيقول من يصرف طائفةً من ماله إلى محتاج: تصدَّقتُ بهذا عليك، وهو يبغي تمليكه الرقبةَ تقرباً إلى الله تعالى، والمتصدَّقُ عليه يتصرف في الرقبة تصرفَ الملاّك.
فلو قال: تصدقت بهذا على فلان وفلان، -وذكر معينين- صدقةً محرَّمةً مؤبدةً، أو قال: تصدقت على المساكين صدقةً محرّمةً مؤبدةً، فللأصحاب اضطرابٌ في لفظ الصدقة مع التقييدات التي ذكرناها. فذهب الأكثرون إلى أن اللفظ إذا [تقيد، التحق] (1) بالصرائح في الباب، وهذا ظاهر المذهب.
وامتنع آخرون، وسبب الامتناع أن التصدق صريح في تمليك الرقبة على خلاف الغرض المطلوب في الوقف.
وذهب ذاهبون إلى اشتراط التقييد بقطع التصرف عن الرقبة، مثل أن يقول: لا يباع ولا يوهب؛ فإن التحريم والتأبيد مع لفظ الصدقة قد يحملان على تأكيد الملك في الرقبة على معنى أن الملك فيها [مسرمدٌ] (2) لا ينقضه المتصدق.
__________
(1) في الأصل: تقيدت الثمن. وهو تحريف ظاهر.
(2) كذا في: (د 1)، (ت 3)، وفي الأصل: غير واضحة الحرت الثاني (السين). والسَّرْمد الدائم الذي لا ينقطع. ولم يرد للفعل (سَرْمد) ذكرٌ في المعاجم التي رأيتها (اللسان، والأساس، والقاموس، والمصباح، والمعجم، والزاهر) فقد ذكر من الاسم فقط (السرْمد).

(8/343)


وفصل فاصلون بين أن يستعمل التصدّق في معينين يُتصوّر الهبة منهم، وبين أن يستعمله في جهة لا يتأتى تصوير الهبة فيها كالتصدق على المساكين.
5681 - وحاصل خلاف الأصحاب يؤول أوّلاً إلى وجهين في استعمال لفظ الصدقة، من غير ذكر الوقف والتحبيس والتسبيل، فمنهم من لم ير استعمال لفظ الصدقة دون الألفاظ الثلاثة؛ من جهة إشعاره بتمليك الرقبة [لا] (1) على جهة الوقف، ومنهم من جوز استعمال لفظ الصدقة مع الاقتران بالقرائن التي ذكرناها.
ثم اختلف هؤلاء في القرائن، فمنهم من شرط أن يقترن بنفي البيع والهبة، على ما جرى الرسم فيه.
ومنهم من اكتفى بأن يُقرنَ بالتحريم والتأبيد، على ما جرى تفصيل الكلام به.
ثم إذا شرطنا الاقتران، فجرّد الصدقةَ، فإن خاطب بلفظها قابلاً متعيناً، فالأصح أنه صدقة بتات، مقتضاها تمليك الرقبة؛ فإنها صريحٌ في الباب.
فأما إذا أضاف اللفظ إلى المساكين وغيرِهم من الجهات العامة، ونوى الوقف، فالنية هل تنزل منزلة القرائن اللفظية؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من نزّل النية منزلةَ التقييد بالألفاظ، وأقام لفظ الصدقة مقام الكنايات في الطلاق والعتاق، وحكمها أنها تعمل مع النية.
ومنهم من لم يكتف بالنية؛ فإن التصدق صريحٌ في تمليك الرقبة، وإنما فرقنا بين إضافة الصدقة إلى الجهات العامة وبين إضافتها إلى معين يتصور منه القبول، لأنها إذا أضيفت إلى معيّن، تحقق كونها صريحاً في تمليك الرقبة.
فهذا حاصل الكلام في الألفاظ.
وإذا قلنا: التحريم ليس صريحاً، واقترنت النية به، يجب القطع بصحة الوقف؛ لأنه ليس [موضوعاً] (2) لتمليك الرقبة، وقد انتجز غرضنا من الكلام في الألفاظ.
5682 - فأما القول فيما يصح وقفه، فنقول أولاً: يصح وقف العقار، والمنقول،
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل: صريحاً.

(8/344)


ويصح وقف الجماد والحيوان. والمتبع أن يكون الموقوف المحبَّس بحيث يثبت له منفعة مقصودة، أو فائدة مقصودة، كالثمار وما في معانيها.
والمنفعة المقصودةُ يضبطها ما يصح استئجارها على شرط ثبوت الملك في الرقبة، فإن الحرّ يؤاجر نفسَه، ولا يصح منه تحبيس نفسه على جهةٍ، أو على أشخاصٍ معينين. ثم على جهةٍ بعدهم.
5683 - واختلف الأصحاب في وقف الدراهم لتزيين الدكاكين، اختلافهم في إجارتها، والأصح منع الوقف والإجارة، والتصحيح أقربُ إلى الإعارة.
ويصح أن يحبس حلياً مباحاً ليتحلى به معينون، ثم بعدهم أيتام، على ما يجري الوقف به.
ويصح وقف عبدٍ صغير، وإن لم يكن منتفعاً به في الحال، لأن الوقف معقودٌ على التأبيد، فلا يضر استئخار الانتفاع من الأول لنقصٍ في المعقود عليه مصيره إلى الزوال. وهذا كتصحيح النكاح على الرضيعة، وإن لم يكن منتفعاً بها في الحال.
والمعنى ما نبهنا عليه.
وألحق الأصحاب بهذا وقفَ الدراهم على أن يصاغ منها حلي، على قولنا بفساد وقف الدراهم على أن تبقى على صفتها، ويكتفى منها بالتزيين، وزعموا أن استئخار صيغة الحلي بمثابة استئخار إمكان الانتفاع والمحبّسُ عبدٌ صغير، أو مُهرٌ صغير.
وهذا فيه بعض النظر؛ فإن المُهرَ والعبد الصغير يصيران من طريق الخلقة إلى إمكان الانتفاع، والدراهم والنّقرة ليست كذلك، [واختيار] (1) إنشاء صوغها افتتاح أمرٍ من طريق الإيثار، ويكاد الوقف أن يكون في حكم المعلّق بما سيكون.
5684 - فأما وقف الكلب المنتفع به، فنقول أولاً: تصح الوصية به، وفي صحة هبته خلافٌ قدمتُه في البيع، ولا شك في امتناع بيعه، وفي صحة إجارته خلافٌ مشهور، ذكرناه في كتاب الإجارة.
__________
(1) في الأصل: والخيار.

(8/345)


فإذا تجدد العهد بهذه الأصول، فمن أئمتنا من لم يصحح وقفَ الكلب وإن صححنا إجارته؛ لأن رقبته ليست مملوكة، والوقف يستدعي وروداً على رقبةٍ مملوكة، ولهذا يمتنع وقفُ الحرِّ نفسَه، وإن كان يصح منه أن يؤاجر نفسَه.
ومن أصحابنا من خرّج صحة وقف الكلب على صحة هبته؛ فإن الوقف إثبات اختصاصٍ في جهةٍ، فكان في معنى الهبة، وليس الكلب فيه كالحر؛ فإنه ليس مملوكاً، وليس في رقبته اختصاص.
وبنى الشيخ أبو حامد جواز وقف الكلب على جواز إجارته.
هذه مسالك الأصحاب في وقف الكلب.
5685 - وأما وقف أم الولد، فقد اختلف أصحابنا فيه، ورتبوا الخلاف على الوجهين في وقف الكلب، وجعلوا وقف المستولدة أولى بالصحة؛ من جهة أنها مملوكة، ولم يمتنع فيها من أحكام الملك إلا البيع والرهن، وبنَوْا الخلافَ على أن الوقف هل يتضمن نقلَ الملك إلى الموقوف عليه؟ وفيه الاختلاف المقدم.
فإن قضينا بأن رقبة الوقف مبقَّاة على ملك الواقف، فلا يمتنع وقف المستولدة، وإن حكمنا بأن الوقف يتضمن نقل الملك في رقبة الموقوف إلى الموقوف عليه، فالوقف باطل؛ فإن الملك في رقبة الموقوف لا يقبل النقل.
هذا منتهى القول فيما يصح وقفه وفيما لا يصح وقفه.
5686 - ثم إن صححنا وقف المستولدة فلو عتَقَت بموت مولاها، انفسخ الوقف وزال؛ لأن الوقف يناقض حرية الموقوف.
5687 - وقد ذكرنا أن العبد المستأجر إذا عتَقَ في أثناء المدة، فالظاهر أن الإجارة لا تنفسخ، والفرق ما قدمناه من أن الوقف ينافي الحرية، والإجارة لا تنافيها. وقد جرت من مالكٍ لها، ويعتضد ما ذكرناه بأن الإجارة مؤقتة، والوقف مبناه على التأبيد، فيستحيل بقاؤه بعد زوال الرِّق، ولا حاجة إلى هذا مع العلم بأن النكاح معقود على التأبيد والحرية الطارئة عليه لا توجب انفساخ النكاح، فالتعويل على ما قدمناه من أن الوقف في موضوعه يستدعي ملكاًً تاماً. كما قدمناه.

(8/346)


وكان شيخي يقول: من استحق منفعة عبدٍ على التأبيد بطريق الوصية، لم يملك صرفَ ذلك الاستحقاق إلى غيره بجهة الوقف؛ فإنه لا ملك له في الرقبة، والوقف وإن لم يكن تحريراً، فهو قريب منه؛ من حيث إنه يقتضي قطعَ تصرف المالك عن الرقبة التي حبَّسها. وقد ظهرت مضاهاة التحرير في المساجد والمقابر.
فهذا ما أردناه.
فصل
5688 - موضوع الوقف على التأبيد ومنافاة التأقيت، وهذا الفصل معقود لبيان مسائلَ يجري الوقف فيها على قضية التأقيت، ومجموعها يدخل تحت نوعين، ثم يلتحق بهما مسائلُ؛ التحاقَ الفروع بالأصول، والنوعان أصلان مقصودان في الكتاب.
5689 - فنقول: الوقف الوارد على التأبيد هو الذي يجد مصرفاً من إنشائه ولا ينتهي إلى منقطعٍ، بل يتصل بمصرفٍ لا يُتوقع انقطاعه، وهذا كما لو وقف على المساكين والمحاويج، وجهات الخير، وكالوقف على معيّنين موجودين على قضية تتضمن تعجيل حقوقهم متصلةً بالعقد، ثم يذكر الواقف انصرافَ الوقف بعد انقراضهم إلى جهةٍ لا تنقطع.
5690 - ثم قد يُفرض الوقف منقطعَ الآخر، وقد يفرض منقطع الأول، ونحن نذكر كل قسم [و] (1) ما يليق به.
ونبدأ بالوقف المنقطع الآخر، وهو أن يقول: وقفت هذه الدار على أولادي، ولا يتعرض لمصرفِ الوقف بعد انقراض المذكورين، ففي صحة الوقف قولان مشهوران:
أحدهما - أن الوقف لا يصح؛ فإنه مخالف لموضوعه؛ إذ موضوعُه [على] (2)
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) مزيدة من (د 1)، (ت 3).

(8/347)


التأبيد، وبه تميّز عن العواري، ولما رسم رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرَ الوقفَ والتحبيس، قيّد عمرُ رضي الله عنه التحبيسَ بالتأبيد والتحريم. والوقفُ في الحقيقة قربةٌ يبغي [المتقرِّب بها] (1) إدامتها. هذا وضعها ومبناها، والصدقات المملِّكةُ تقطع سلطان المتصدق، وتنتهى نهايتَها بالوصول إلى يد المتصدَّق عليه، والوقف هو الصدقة الجارية، فإذا لم يثبت له مصرف متأبَّد، كان مائلاً عن موضوعه. هذا هو القول الصحيح وبه المنتهى.
والقول الثاني - أن الوقف يصح؛ فإنه ليس فيه تأقيت، والموقوف عليه إذا تعلّق الاستحقاق بعمره جانب الوقفُ التأقيتَ، والنكاحُ مع ابتنائه على التأبيد ينتهي بانتهاء عمر أحد الزوجين.
وذكر صاحب التقريب قولاً ثالثاً: أن الوقف إذا كان في عقارٍ، لم يصح إنشاؤه منقطعَ الآخر، وإن كان الوقف في حيوان، لم يمتنع ألا يتأبد مصرفه، فإن الحيوان المحبَّس إلى الهلاك مصيره، فإذا وقف مالكُ الحيوان الحيوانَ على شخص معين، كان ارتقاب بقاء الموقوف مع وفاة الموقوف عليه متعارضاً في التقدير بارتقاب موت الموقوف، مع بقاء الموقوف عليه.
هذا بيان الأقوال في الأصل. وحقيقتها تتبين بالتفريع.
5691 - فإن حكمنا بفساد الوقف، فهو جرى لغواً، والموقوف مقَرٌّ على ملك الواقف، لا يتعلق به استحقاقُ المسمَّيْن، ولا استحقاقُ غيرهم في حياتهم وبعدهم.
5691/م- وإن حكمنا بأن الوقف صحيح، فهو [لازم] (2) في بقاء المسمَّين وريعُه مصروف إليهم ما بقوا؛ وفاءً بشرط الواقف، فإذا تصرّم المذكورون، وانقضَوْا، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الوقف ينتهي بانقضائهم انتهاء النكاح بموت أحد الزوجين، ثم حكم انتهائه أن يرتد ملكاً، كما كان قبل الوقف.
والقول الثاني - أن الوقف لا ينقطع بانقراض المسمّين.
__________
(1) في الأصل: المتصرّف بها.
(2) في الأصل: نازل.

(8/348)


توجيه القولين: من قال بانقضاء الوقف، استدلّ بأن المتبع فيه شرطُ الواقف، ويبعد أن يثبت فيه مصرِفٌ لم يتعرض له المحبِّس، فإذا انقضى مصرفه المسمّى، واستحال تقدير مصرفٍ، وامتنع استقلال الوقف من غير مصرف، فلا يبقى إلا انقلابُه ملكاً.
ومن قال بالقول الثاني، احتج بأنا لو حكمنا بانقضاء الوقف، لكان ذلك مفضياً إلى تأقيت الوقف. وهذا تغييرٌ لوضعه، وتبديل لحقيقته.
التفريع على القولين:
5692 - إن حكمنا بانقلاب الوقف ملكاًً، فمن ضرورة هذا القول التزام تطرق حكم التأقيت إلى الوقف، وكأن هذا القائل يقول: المرعي في امتناع تأقيت الوقف جانب الموقوف عليه، وهو غير متأقت في حقه، وليس الوقف مما يورث حتى يقال: ليثبت في حق الموقوف عليه ثبوتاً يخلفه فيه وارثه، وليس كالملك في البيع؛ فإن الخلافة ممكنة فيه.
ومن منع هذا، فكأنه يرعى التأبيد في الموقوف [المحبَّس] (1)، فإنه المتقرب به.
وهذا هو الصحيح. فإذا صححنا الوقف، ثم رددناه ملكاًً، فقد التزمنا نوعاً من التأقيت.
5693 - وبنى بعض الأصحاب على هذا القول مسألةً، وهي أن الرجل إذا وقف داراً سنةً، أو سنتين على شخص، أو على جهةٍ من جهات الخير، فهل يصح الوقف؟ المذهب الذي عليه التعويل أنه لا يصح، وإن صححنا الوقف المنقطع الآخر؛ فإن تصحيح ذلك (2) مقرّب (3) من حكم التأبيد؛ نظراً إلى الموقوف عليه، وتشبيهاً بالنكاح. فأما التصريح بالتأقيت، فلا اتجاه له.
5694 - وأبعد بعض أصحابنا، فصحح الوقف على هذه الصيغة، وقضى بانتهائه
__________
(1) في الأصل: للحبس.
(2) تصحيح ذلك: الإشارة إلى الوقف منقطع الآخر.
(3) (د 1)، (ت 3): يقرب.

(8/349)


إذا انتهت المدة، وهذا لا يحل الاعتداد به، ولا يسوغ إلحاقه بالوجوه الضعيفة؛ فإنه في التحقيق إلزامُ عاريةٍ، والعارية يستحيل الحكمُ بلزومها؛ فإنها تَرِد على ما يوجد شيئاً شيئاً، فلا تستقر فيه اليد، والتبرعات إنما تلزم بالقبوض، والوقف خُصَّ بالتصحيح، ليستمكن المحبِّس من تأبيد قُرَبِه، فإذا ترك الأصل الذي [بنى الشرعُ الوقفَ عليه] (1)، لم يبق فرقٌ بين العاريّة والوقف.
5695 - فأما إذا قلنا (2): لا يرتدُّ الموقوف ملكاًً عند انقراض المسمَّيْن، فلا يستقل الوقف دون مصرف. وقد اختلفت الأقوال في مصرِف هذا الوقف، بعد انقضاء الجهة التي سماها الواقف، فكان شيخي يذكر أوجهاً، وأطلق صاحب التقريب الأقوال، ولعل بعضها من تخريجات ابن سريج.
فأحد الأقوال - أن الوقف يُصرف إلى أقرب الناس بالمحبِّس.
والقول الثاني - أنه يُصرف إلى المساكين.
والقول الثالث - أنه يصرف إلى المصالح العامة، وهي مصرف خمس الخمس من الفيء والغنيمة.
وتوجيه الأقوال يستدعي تنبيهاً على مسلكٍ لبعض الأصحاب غيرِ مرضيٍّ، وذلك
أن بعض الأصحاب قال: هذه الأقوال تنزل على قصود الناس في أوقافهم [فمن] (3)
يصرف إلى أقرب الناس بالمحبِّس يدعي أن هذا هو الغالب في الأوقاف، فكأن الواقف ذكره، وإن لم يصرح به.
والقائل الثاني - يبغي القُربة، وهي إلى سدّ الحاجات أقرب.
والقائل الثالث - يذكر الجهة العامة الحاويةَ لوجوه الخير.
ودوران الطريقة على حمل الوقف على مايظن كلُّ واحد عمومَه عُرفاً في المصارف. وهذا زلل ظاهر، وميلٌ عن المسلك المطلوب.
__________
(1) في الأصل: بين الشرع الوقف، لم يبق.
(2) عوْدٌ إلى مسألة الوقف منقطع الآخر.
(3) في الأصل: ومن.

(8/350)


5696 - ونحن نقول: إذا ثبت بقاء الوقف، فتلقِّي مصرفه من العرف محالٌ؛ فإنه مضطرب، والظاهر أن الواقف لم يرد تأبيد الوقف، فإن كان المتبع في ذلك حَمْل لفظه على موجب العرف، فلفظه ناصٌّ في التخصيص، فلا معنى لترك موجب لفظه لعرفٍ مختلطٍ، لا ثبات له، ولا اطراد فيه، فالطريقُ في توجيه الأقوال أنا إذا اضطررنا إلى إبقاءِ الوقف، والوقف أُثبت قربةً في الشرع متعلقةً بمصرف، ونحن لم نجد مصرفاً من جهة شرط الواقف، ولا من جهة إرادته، ردَّدنا الظنون في أَوْلى القربات، وأثبتناها على الاختلافِ (1) على خلاف مراد الواقف، فرأينا في قولٍ الصرفَ إلى أقرب القرابات أولى؛ فإن أفضل القربات ما يضعها المرء في القرابات، ويستفيد بها مع التقرّب صلةَ الرحم.
وفي قولٍ: تُعتبر الحاجة؛ فإن سدّ الحاجات أهمُّ الخيرات.
وفي قول: يحمل المصرف على أعم الجهات؛ إذ لا متعلق عندنا في تعيينٍ.
فهذا حقيقةُ هذه الأقوال [والتقرير] (2) بعدُ أمامنا.
التفريع على هذه الأقوال:
5697 - إن حكمنا بأنه يصرف إلى الأقربين، فقد اختلف أصحابنا، فمنهم من
قال: يصرف إلى المحاويج من الأقربين، فإنا إذا كنا نبغي القربة، فالوجه أن نرعى الحاجة، ثم نعتبرها مع القرابة.
ومن أصحابنا من قال: لا نرعى الحاجة، ثم هؤلاء يكتفون بصلة الرحم، ويضمون إليه أن الوقف الحق (3) ذخرٌ وعمادٌ للأغنياء إذا افتقروا (4)، فإن الأموال المعرضة [للانتفاع] (5) والتصرفات تبيد بالتبذير والصرف، والأوقاف تبقى لامتناع
__________
(1) (د 1)، (ت 3): وأثبتناها على اختلاف مراد الواقف.
(2) في الأصل: والتقريب.
(3) (د 1)، (ت 3): المحرّم.

(4) (د 1)، (ت 3): افترقوا.
(5) زيادة من: (د 1)، (ت 3).

(8/351)


بيعها، وهذا ظاهرٌ في قصود الواقفين على أولادهم، وإن خلفوا عليهم أموالاً.
5698 - ومما اختلف أصحابنا فيه في التفريع على هذا القول: أنا إذا صرفنا إلى الأقرب، راعينا أَوْلى القرابة باستحقاق الإرث، أو أقربهم رحماً؟
من أصحابنا من قال: الأقرب هو الأوْلى بالميراث، فابن العم أوْلى بالوقف من ابن البنت.
والوجه الثاني -ولعله الأصح على حكم هذا التفريع- أن قرب الرحم أوْلى؛ فإن الغرض صلة الرحم، ولا مزيد على قاعدة الشرع؛ [إذْ] (1) حرم الوارثَ وجوهَ المبارّ الواقعةِ وصيةً، وحمله على الاكتفاء بالإرث.
وإن فرعنا على صرف الوقف إلى المساكين، فقد اختلف أصحابنا على ذلك: فمنهم من رأى محاويجَ الجيران أوْلى، ومنهم من لم يفرّق. وتقديم الجيران لا معنى له؛ فإنا إن سلكنا هذا المسلك [وقعنا] (2) في الصرف إلى محاويج القرابة، وهو القول الأول، فلينتبه الناظر لما يمرّ به.
وينقدح في هذا القول جواز نقل الرَّيْع من مساكين البلدة، ومنعُ ذلك يجري على اختلاف القولين في نقل الصدقات.
وإن فرعنا على الصرف إلى المصالح العامة، لم يتصرف فيه غيرُ الوالي. هذا هو الرأي الظاهر. ولا يبعد عن الاحتمال ردُّ ذلك إلى نظر المتولِّي، إن كان في الوقف متولٍّ. والقول في المتولي في الوقف المنقطع الآخر قد يغمض، على ما سنذكره من بعدُ.
5699 - ومن تمام التفريع أن من رأى الصرف إلى الأقربين، قال: لو انقرضوا، أو لم يكونوا، فالمصرف مردودٌ إلى القولين الآخريْن، وانقراض الأقربين لا يوجب انقطاع الوقف؛ فإنا نفرع على أن الوقف لا ينقطع، وإن انقطعت الجهات التي ذكرها الواقف.
__________
(1) في الأصل: إن.
(2) في الأصل غير مقروءة.

(8/352)


5700 - ومما نفرعه أيضاًًً أن مَنْ وقف وأقّت، وصرّح بالتأقيت، فقال: وقفت هذا على فلانٍ سنةً، فإذا كنا [لا] (1) نصحح الوقفَ المنقطع الآخر، وكنا نرى أن الوقف يتأبّد وراء انقراض ما ذكره الواقف، فإذا وقع التصريح بالتأقيت، فلا شك أن هذا أحرى بالفساد، ولكن إذا صححنا فنثبت وراء الوقف مصرفاً، والقول فيه يختلف، كما تقدم في الوقف غلى الأولاد من غير تعرضٍ للمصرف بعدهم.
5701 - ومأخد هذا الذي ذكرناه مع التصريح بالتأقيت أصلٌ عظيم في الوقف، يكاد أن يكون قطباً لشطر المسائل، ونحن نقرره، ونذكر ما فيه، ثم نعود إلى التصريح بالتأقيت، فنقول:
العتق إذا نُجِّز وأُقِّت، نفذ، وتأبد، وإذا شُرط في العتق شرطٌ فاسد، لا على معرض التعليق، لغا الشرطُ، ونفد العتقُ، فمؤقته منفّذٌ مؤبد، ومذكوره على حكم الفساد صحيح، وكذلك القول في الطلاق.
5702 - فأما الوقف، فإنه ينقسم إلى وقفٍ يضاهي التحرير، وإلى وقفٍ يبعد عن مضاهاة التحرير. فأما الوقف الذي يضاهي التحرير، وهو جعل بقعةٍ مسجداً، فهذا النوع لا يفسد بالشرط، ولا يتأقت بالتأقيت، بل يتأبد على الصحة. هذا هو الظاهر، وما عداه مطَّرحٌ، وسيأتي الشرحُ عليه، إن شاء الله عز وجل.
5703 - فأما ما لا يضاهي التحرير، كالوقف على الأعيان، وجهات الخير، فإذا قرن بشرطٍ فاسد أوْ أقّت، لم يخلُ إما أن يكون مما يشترط القبول فيه، وإما ألا يكون شرطاً فيه، فإن لم يكن القبول شرطاً فيه، ففي نفوذه مع الاقتران بالشرط المفسد.
وجهان، وفي تأبده مع تصريحه بالتأقيت وجهان: أحدهما - أنه يُنحى به نحو العتق، فنيفد على موجب الشرع، وينحذف التأقيت، والشرطُ الفاسدُ.
والوجه الثاني - أنه يفسد، ولا ينفذ؛ فإن الوقف مداره على اتباع الشرائط في جهة
__________
(1) في النسخ الثلاث " نصحح " بدون [لا]. وزيادتها تقدير منا على ضوء عبارة الإمام: " فلا شك أن هذا أحرى بالفساد "، فإن أفعل التفضيل يقتضي اشتراك المسألتين في صفة الفساد وعدم الصحة، والله أعلم.

(8/353)


الصحة، وكل ما اتبع الشرط الصحيح فيه أفسده الشرط الفاسد، والعتق قطعٌ للملك، واستئصالٌ لسلطنة التصرف.
فأما الوقف الذي يشترط القبول فيه على رأي [بعض] (1) الأصحاب، فالأصح أنه يفسد بالشرط الفاسد، فسادَ العقود المفتقرة إلى الإيجاب والقبول.
5704 - فإذا ثبتت هذه المراتب، عاد بنا الكلامُ إلى التصريح بتأقيت الوقف، فإن أفسدناه، فالملك دائم، والوقف باطلٌ، في [الوقت] (2) ووراءه، وإن صححناه، وأبَّدناه (3)، فهذا الوجه على هذا القول له (4) اتجاه على حال؛ أخذاً مما ذكرناه الآن.
فأما تصحيح الوقف مع التأقيت، وردّه إلى الملك بعد الوقف كما ذكرناه في التفريع على القول الأول، فكلام فاحشٌ مشعر بذهول صاحبه عن فقه الكتاب.
هذا منتهى الغرض الآن في ذكر الوقف المنقطع الآخر، وهو أحد الصنفين الموعودين.
5705 - فأما الوقف الذي لا ينتجز له مصرف في الأول، فنصوّره، ثم نذكر تفصيل المذهب فيه، ومضطرب المختبطين ونردّ الأمرَ إلى التحقيق.
5706 - فإذا قال القائل: وقفت داري هذه على من سيولد لي، ولا ولد له، أو وقفتُ على المنتظَرين، دون الموجودين منهم، فهذا الوقف لا مصرف له من جهة الأول.
وقد قال الأئمة: في صحة هذا الوقف قولان مرتبان على القولين في الوقف المنقطع الآخر، وجعلوا الانقطاع في الأول أولى باقتضاء الفساد؛ من حيث لم يجد الوقف مرتبطاً يثبت عليه، بخلاف ما إذا انقطع آخره.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: الوقف. وعبارة (د 1)، (ت 3): بالوقت.
(3) (د 1)، (ت 3): وإن صححناه، أيدناه، وهذا.
(4) (د 1)، (ت 3): .. لا اتجاه له على حال.

(8/354)


5707 - والذي أراه عكسُ هذا الترتيب؛ فإن الوقف إذا انقطع آخره، حاد عن وضعه، كما مهدته قبلُ، والوقف إذا لم يستعقب مصرفاً، ومصرفه منتظَر، فليُنتظر إلى أن يقع. وإن دل هذا على الفساد، فالانقطاع في الآخر أدلّ عليه. وتعليق الوقف في الأول -مع التصريح به في هذا القسم- يناظر التصريحَ بالتأقيت في قسم انقطاع الآخر، فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد وقفت داري هذه على المساكين، فالذي ذهب إليه أئمة العراق القطعُ بالفساد، وذكر المراوزةُ خلافاًً في تصحيح تعليق الوقف.
وأنا أقول: قد ذكر العراقيون في الوقف المؤقت خلافاًً، فما وجه قطعهم بإفساد التعليق، وقد ذكروا في هذا الوقف على ما سيكون خلافاً، وهو على التحقيق تعليق، والعتق يصح تعليقه، وإن كان يفسد تأقيتُه، وليس بين التعليق وبين [القُرْبة] (1) المؤبدة -إذا وقعت من المنافاة- ما بين التأقيت والتأبيد. نعَمْ، إن كان الوقف لا يشترط القبول فيه، (2 فتصحيح التعليق فيه متجه، وإن كنا نشترط القبول فيه 2)، فالتعليق فيه بعيد، كما ذكرناه في تعليق التوكيل.
ولا يتبيّن سرُّ القول إلا بالتفريع، ونحن نفرع على الوقف على من سيكون، ثم نعود إلى التعليق.
5708 - فإذا قال: وقفت على من سيولد لي، فإن أفسدنا الوقف، فالملك مطرد، والوقف لاغٍ، ولا يثبت إذا ولد المنتظر.
وإن حكمنا بصحة الوقف، فقد ذكر الأئمة خمسة أوجهٍ في مصرف الوقف، قبل وجود المولود المنتظر، ذكرنا ثلاثة منها في انقطاع الآخر، ولا يضر إعادتها، فأحد الوجوه- أن الوقفَ يصرف إلى الأقربين بالمحبِّس.
والثاني - أنه يصرف إلى المساكين.
والثالث - أنه يصرف إلى المصالح العامة.
__________
(1) في الأصل: القرابة.
(2) ما بين القوسين سقط من (د 1)، (ت 3).

(8/355)


وزاد الأصحاب وجهين: أحدهما - يخرج في هذه الصورة والآخر يخرج في نظيره لها.
فأما الوجه الخارج، فهو أن الرَّيع مصروف إلى الواقف إلى وجود من يوجد.
والوجه الثاني - أن الموقوف عليه إن كان موجوداً، وكان الشرط الذي تعلق الوقف به مفقوداً، فهو مصروف إليه، وبيانه لو قال: وقفت داري هذه على من يفتقر من أولادي، ولا فقير منهم، فهو مصروف إليهم.
هذا نقل ما ذكره الأصحاب، والتحقيق عندنا وراء ذلك.
5709 - فنقول: ظهر التفريع على إفساد الوقف، فإن صححناه، فمقتضاه تأخير استحقاق الريع عن وقت إنشاء الوقف، فنقول: أيقع الوقفُ كذلك أم يقع مستعقباً للاستحقاق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقع على حسب ما وضع، كما يتعلق العتق إذا عُلق، وينتجز إذا نجِّز، هذا وجه.
والوجه الثاني - أنه يستعقب الاستحقاق على خلاف ما أشعر به لفظُ المحبِّس.
توجيه الوجهين: من قال: لا يثبت الاستحقاق عَقِيب الوقف، قال: إذا لم يفسد الوقفُ، ولم يبعد أن يثبت كما أثبته الواقف، لزم الجريان على موجب لفظه، ومقتضاهُ تأخير المصرف.
ومن قال بالوجه الثاني، استدل بأنه نجّز الوقفَ إذا قال: " وقفت هذا "، ولم يعلقه، وسنتكلم في التصريح بالتعليق، وإذا انتجز الوقف، لزم ثبوت مصرفٍ له.
وقد يقول هذا القائل: الوقف لا يقبل التعليق، فإذا تضمن اللفظُ التعليق، ثم حكمنا بصحة الوقف، فهو على مذهب إلغاء الفاسد، وتنفيد الوقف على موجب الشرع، وهذا يتضمن تنجيز المصرف.
التفريع:
5710 - إن حكمنا بأن الاستحقاق يستأخر، فالوقف هل يثبت أم يتأخر ثبوته؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يتأخر ثبوته، كما يتأخر العتق إذا أُخر.
وقد قال شيخي أبو محمد: وقعت مسألة في الفتاوى في زمان الأستاد أبي إسحاق وهي أن من قال: " وقفتُ داري هذه على المساكين بعد موتي ". فأفتى الأستاذ بأن

(8/356)


الوقف يقع بعد الموت وقوعَ العتق في المدبّر بعد الموت، وساعده أئمة الزمان، وهذا تعليق على التحقيق، بل هو زائد عليه؛ فإنه إيقاع تصرفٍ بعد الموت، وسنتكلم في هذه المسألة في فروع الكتاب، إن شاء الله تعالى.
والوجه الثاني - أن الوقف يثبت، وإن استأخر الاستحقاق به، فإنه قال: وقفت هذا على من سيولد، فلفظه تنجيز الوقف مع تأخير الاستحقاق.
فإن قلنا: الوقف غير واقع، فالدار ملكه في الحال، والتصرفات فيها نافذةٌ، حَسَب نفوذها في العبد المعلّق عتقُه بصفةٍ.
وإن قلنا: الوقف واقعٌ، والاستحقاق [مستأخر] (1) فالريْع مصروفٌ إلى المالك؛ فإن استحقاق الريْع مستأخر.
هذا إذا فرعنا على هذا الوجه.
وإن قلنا بالوجه الآخر، وهو: إن الوقف ناجز، والاستحقاق ناجزٌ أيضاًًً، فالواقف لم يذكر مصرِفاً قبل وجود المنتظَر، أو قبل تغيّر صفة في الموجود [تجعله متعلقاً] (2) للاستحقاق، فهذا إذاً وقف يقتضي مصرفاً، لم يذكر الواقف مصرفه، فينقدح فيه الأوجه الثلاثة التي ذكرناها.
ولا يجري في هذا المسلك الصرفُ إلى المالك، فإنا نبغي فى هذا المنتهى مصرفَ قُربةٍ لوقفٍ يستدعي مصرفاً عاجلاً.
نعم، إذا قال: وقفت على من يفتقر من أولادي، فذِكْر وجهٍ رابعٍ في الصرف إلى الولد قبل أن يفتقر قد يتّجه على بُعْدٍ، من حيث إنه أولى من أقاربه الذين لم يذكرهم، فالوقف عليه قربة.
فهذا تحقيق القول في تنزيل هذه الوجوه. وقد أرسلها الأصحاب وأتينا بها في مظانها مفصلةً.
__________
(1) في الأصل: والاستحقاق غير واقع.
(2) في الأصل: " جعله منغلقاً " وعبارة (د 1)، (ت 3): " جعله متعلقاً ". والمثبت تصرّف من المحقق، نرجو أن يكون صواباً.

(8/357)


5711 - ونحن نذكر وراء ذلك التصريحَ بتعليق الوقف.
فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد وقفت داري هذه، فهذه الصورة رتبها الأئمة المراوزة على ما إذا قال: وقفت على من سيولد لي، أو على من يفتقر من أولادي، ورأَوْا التصريحَ بالتعليق أولى بالفساد، وبنَوْا ذلك على أن قوله: " وقفتُ " تنجيز للوقف.
وقد ذكرنا ما يتعلق بهذا [و] (1) فهم الناظر من كلامنا أن قبول الوقف الذي لا يُشترط القبول فيه- للتعليق ليس بدعاً، سيّما إذا حكمنا بأن الوقف لا يفسده الشرط، كالعتق والطلاق.
ثم إن أفسدنا الوقف، فلا كلام، ولا يقع الوقف عند وجود الصفة أيضاً.
وإن لم يبطل، عاد الوجهان في أن الوقف ينتجز، أو يتعلق، وانتظم التفريع بعده على حسب ما مضى، حرفاً حرفاً، غيرَ أن ما وجهنا به بعضَ الوجوه من اقتضاء قول الواقف: " وقفت " تنجيزاً لا يتجه في التصريح بالتعليق.
5712 - وعلى الفقيه الآن أن يفهم موقع الوجهين في الصنفين اللذين هما عماد الكلام، ذكرنا وجهاً في انقطاع الآخر يشير إلى أن تأقيت الوقف صحيح، وهذا في نهاية الفساد، وذكرنا الآن وجهاً أن تعليق الوقف صحيح عند بعض أصحابنا، وهذا وإن استبعده العراقيون غيرُ بعيد عندي في القياس.
5713 - وكنت أود أن أجد لبعض الأصحاب وجهاً في جواز تعليق الإبراء؛ فإنه ليس بعيداً عن القياس [إذا] (2) لم يشترط القبول فيه، فإذا وجدت هذا في الوقف، اتجه مثله في الإبراء، وقد قال ابن سريج في تفريعات القول القديم في الضمان: إنه يصح تعليقه، فإذا صح تعليق الالتزام، فلأن يصح تعليق الأبراء أولى.
وقد انتهى تأسيس الكلام بانقطاع الوقف في الطرف الآخِر، والطرف الأول.
__________
(1) مزيدة من: (د 1)، (ت 3).
(2) ساقطة من الأصل.

(8/358)


5714 - ثم إنا نُلحق بما مهدناه مسائل سهلةَ المُدرك على من أحاط بما تقدم.
منها- أن من وقف داره على وارثه في مرض موته، ثم بعده على المساكين، فالوقف باطلٌ على الوارث في مرض الموت، فتلتحق هذه المسألة بانقطاع الوقف في الأول، ولكن قال الأصحاب: لا نقطع ببطلان الوقف على الوارث في الحال، وإنما [يتبين] (1) الفساد إذا مات من مرضه، فقد وجد الوقف متشبثاً، فرأى الأصحاب أن يرتبوا هذا على ما إذا عري الوقف عن مصرفٍ من جهة اللفظ والذكر.
وهذا الترتيب قليل النَّزَل (2)؛ فإنه إذا تبين انقطاع الوقف أولاً، فالظن السابق لا حكم له، إذا كان التبين على خلافه.
5715 - ومما ذكره الأصحاب ملتحقاً بهذا الأصل: أن من وقف على شخص معيّن، ثم بعده على المساكين، فلم يقبل ذلك المعين، والتفريع على أن قبوله شرط، فالوقف انقطع من هذه الجهة، فيخرّج على الخلاف المتقدم في انقطاع المصرف أولاً، ورأَوْا ترتيب ذلك على ما إذا وقف [على] (3) من سيولد، وزعموا: أنه علق الوقف بحاضرٍ، ثم كان الانقطاع من جهة غيره.
وهذا كلام عري عن التحصيل، لا ينبغي أن يقع التشاغل به. نعم، لو قلنا: إن القبول ليس بشرط، فإذا وقف على معيّن، ثم بعده على المساكين، فلو رد الموقوفُ عليه الوقفَ، فينقدح في هذه الصورة ترتيبٌ؛ من حيث إن الوقف ثبت متصلاً مستعقباً ثبوت مصرفٍ، ثم ارتد بالرد، فلا يمتنع أن يرتب هذا [على ما لو لم يثبت للوقف متعلق أصلاً] (4).
5716 - ومما يجري في هذه الفنون، أنه لو قال: وقفت على فلانٍ، ثم بعده على
__________
(1) في الأصل: ينشأ.
(2) النَّزَل: بفتح النون المشدّدة، والزاي أيضاً، من قولهم: فلان ليس بذي نَزَل، أي ليس له عقل ولا معرفة، وقولهم: طعامٌ كثير النزل (وزان سبب) أي كثير البركة، فالمعنى: ترتيب لا طائل وراءه. (المعجم والمصباح).
(3) ساقطة من الأصل.
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(8/359)


المساكين، فإذا لم يقبل، أوْ ردَّ على التفصيل الذي ذكرناه، فيتجه هاهنا الصرف إلى المساكين؛ من جهة أنه جعل المصرف صائراً إليهم إذا انقطع استحقاق المسمَّى أولاً، فإذا لم يستقر الاستحقاق عليه، فيتجه تنزيل ذلك منزلة ما لو انقرض المعيّن بعد ثبوت الاستحقاق لهم. هذا بيان تمهيد الأصول وفروعها.
5717 - ومما يجب التنبيه له أن من وقف على بطونٍ، ورتبهم في الاسْتحقاق، فاستحقاق البطن الأول إذا اعتبر بنفسه، كان على حكم التأقيت، واستحقاق البطن الثاني إذا اعتبر بنفسهِ، فهو على حكم [التعليق] (1)، ولا امتناع فيما ذكرناه من التأقيت والتعليق إذا اطرد الوقف، ولم ينقطع أهل المصرف أولاً وآخراً، ووسطاً. ومثل هذا لا يسوغ فرضه في الإجارة، فإن المعتبر فيها أعيان العاقدين، والمعتبر في الوقف وقوعه قربة على وضع الشرع، فلا نظر إلى تناوب المستحقين.
فرع:
5718 - إذا أشار إلى عبدين، وقال: وقفت أحدَهما، ولم يعيّن، ففي صحة الوقف على الإبهام وجهان: أحدهما - المنعُ؛ فإن الوقف مبنيٌّ على قضيةٍ معلومة، يقصد الواقف بوقفه التقرّبَ إلى الله تعالى بتحبيسِ معينٍ، أو يقصد تمليك شخصٍ رَيْعَ عينٍ معينة، فإذا فرض على الإبهام، كان كالإبهام في البيع والهبة، والإجارة وغيرها.
ومن أصحابنا من قال: يصح الوقف على الإبهام، كما يقع العتق على الإبهام، إذا قال مالك العبدين: " أحدكما حُرّ ". وهذا التردد يضاهي ما قدمناه من تردد الأصحاب في أن الوقف هل يقبل التعليق قبولَ العتق له، ويلتفت على التردد في أن الوقف إذا اقترن بالشرط المفسد، هل يفسد أم ينفد نفوذَ العتق؟
ثم إن لم نحكم بثبوت الوقف على الإبهام، فلا مساغ لتنفيذه على خلاف إيقاعه، وليس كما إذا أُقِّت، فقد يُؤبّد مؤقَّته، والسبب فيه أنا نجد لتأبيد المؤقت مثالاً، ووجهاً، ولا وجه إذا بطل الإبهام (2 غيره.
__________
(1) في النسخ الثلاث التعلق.
(2) هذا القوس متصل بنظيره في الصفحة التالية.

(8/360)


وإن صححنا الوقف على الإبهام، فهو إذاً على هذا الوجه بمثابة العتق 1).
[فلو قال: " وقفت: أحدَهما "، طالبناه بالتعيين، كما نطالب من يُبهم العتقَ، ثم قد يُفضي التفريع إلى الإقراع، فهو إذاً على هذا الوجه بمثابة العتق] (2).
5719 - ولو قال: " وقفت عبدي هذا على أحدكما "، فأبهم الموقوفَ عليه، فقد قال الأصحاب: الوقفُ مردود، لا مساغ له.
وكان شيخي يقول: " إن حكمنا بأن الوقف يفتقر إلى القبول، فالإبهام يُبطله، وإن حكمنا بأنه لا يفتقر إلى القبول، لم يبعد ثبوت الوقف على الإبهام، ثم على الواقف البيان، ولا يبعد إجراء القرعة بينهما عند تعذر البيان ".
وهذا فرع بعيد على أصلٍ نازحٍ، فيبعد مأخد الكلام فيه.
فرع:
5720 - إذا قال الرجل: " وقفت داري هذه "، ولم يتعرض لذكر المصرف أصلاً، فقد ذكر الأئمة أن الأصح بطلان الوقف، وحكَوْا وجهاً بعيداً في صحته، ثم رددوا الأقوال في المصرف، كما تقدم، ورتبوا فساد الوقف في هذه الصورة على فساد الوقف المنقطع من جهة الأوّل، وعلى فساد الوقف المنقطع من جهة الآخر، وزعموا أن إطلاق الوقف مع السكوت عن مصرفٍ أولى بالفساد.
وفي هذا فضلُ نظر؛ فنا إذا كنا نثبت مصرفاً حيث نفى المصرفَ في طرفي الوقف، فلا يبعد أن نُثبت مصرفاً حيث لم ينفه، ولم يثبته.
ولا شك أن الأظهر الفساد.
5721 - ومن لطيف القول أنه لو وقف على الكنائس والبِيع، وكتبة التوراة، فوقفه باطلٌ، لا خلاف فيه، ولم يصر أحد إلى إبطال المصرف الذي ذكره، وتنزيل الوقف على مصرفٍ صحيح، وهذا يؤكد أن إطلاق الوقف باطل؛ فإنه لو جمع جامع بين إفساد المصرف الذي ذكره بناءً على حذف الفاسد، وبين تنزيل الوقف بعد هذا
__________
(1) هذا القوس متصل بما قبله في ذيل الصفحة السابقة. وما بين القوسين ساقط من (د 1)، (ت 3).
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(8/361)


الحذف على مصرفٍ يصح، لكان قياساً على حسب هذه الأصول. ولكن الذي بلغنا من الأصحاب القطعُ بالبطلان.
والذي يتجه فيه أن الوقف ينقسم إلى وقف تمليك، وإلى وقف قُربة، فأما وقف التمليك، فهو بمثابة الوقف على معينين، وهو جائز، وإن لم يكن فيه قُربة، وهو كالوقف على الكفار. والقسم الثاني - الوقف على جهات القربة، فأما الوقف على البِيَع، فليس تمليكاً، ولا قربة، فبطل، والوقف المطلق يحتمل الصرف إلى القربة، فانقدح فيه الخلاف على البعد.
وقد نجز تمهيد هذا الأصل على أحسن مساق.
فصل
معقود في شرائط الوقف، وما يصح منها وما يفسد
5722 - فنقول أوّلاً: موضوع الوقف الإلزام والإبرام، وقطعُ الخِيَرة، كما أن موضوعه التأبيد، كما تفَصّل القولُ فيه في الفصل السابق.
فإذا وقف على معيّنين، أو على جهةٍ من جهات القُربة، فالرجوع إلى شرط الواقف في الصفات المرعية في الاستحقاق، وفي الأقدار المستحقَّة، والترتيب والجمع؛ فإن الواقف هو المفيد، وله الخِيَرةُ في كيفية الإفادة وقدرِها.
فلو وقف وقدَّر، وأثبت لنفسه الخِيَرةَ في التغيير والتقديم، والتأخير، والأثرة [والتفضيل] (1)، وجعل لنفسه أن يحرم بعد الوقف من شاء، ويزيد من أراد، فهل يصح الشرط على هذا الوجه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يصح؛ فإن مبنى الوقف على اللزوم، فإن كان الموقوف عليه عرضةً لأن يُحرم، لم يتحقق اللزوم في مستقر الوقف، وبقيت سلطنةُ الواقف بعد ثبوت الوقف. وهذا محالٌ.
ومن أصحابنا من صحح الشرط كذلك، وأوجب الوفاء به، وحكم بأن اللازم
__________
(1) في الأصل: التفاصيل.

(8/362)


أصلُ الوقف، فلا مردّ له بعد صحته، فأما تفاصيل المصارف، فلا يمتنع تعلُّقُها باختيار الواقف.
5723 - ولا خلاف أنه لو أطلق ذكرَ المصارف، وأتى بالوقف مستجمعاً لشرط الصحة، ثم رام تغييراً، لم يجد إليه سبيلاً.
5724 - فإن صححنا الشرط الذي وصفناه، فلا كلام، وإن أفسدناه فهل يفسد الوقف بفساده؟ فعلى الخلاف الذي قررناه قبلُ في تشبيه الوقف بالعتق والطلاق، أو قطعِه عنهما، فإن أفسدنا الوقفَ، فالملك مستدامٌ، والوقف لاغٍ.
وإن حذفنا الشرطَ، قررنا الوقفَ على المصارف على الإلزام.
5725 - ولو قال الواقف بعد ذكر المصارف: جعلتُ إلى فلان التقديمَ، والأثرةَ، والحرمانَ، فإن لم نصحح من الواقف شرطَ ذلك لنفسه، فلأن لا يصح شرطه ذلك لغيره أولى، وإن صححنا شرطه لنفسه، ففي صحة الشرط للغير وجهان: أصحهما - الفساد، ثم إذا فسد، ففي فساد الوقف الكلامُ المقدم.
5726 - ومسائل الوقف تنتشر من اختلاف ألفاظ الواقفين، وحظ الفقه منها اتباعُ مقتضى الصيغ، وإنما يُحيط بالألفاظ ذَرِبٌ باللغة، وعلمِ اللسان، ماهرٌ فيما يتعلق بمعاني الألفاظ في أصول الفقه (1)، وليس الفقه إلا الإرشادَ إلى ما يصح ويفسد، والدعاءَ إلى اتباع اللفظ.
ثمّ يقع في ألفاظ الواقفين العمومُ والخصوص، والاستثناءات، والكنايات، وهي المتاهة الكبرى، ويجب التثبت عندها، [ليتبيّن] (2) انصرافُ الضمائر (3) إلى محالّها.
ومما يتكرر مسيس الحاجة إليه الجمعُ والترتيب، (فالواوُ) جامعةٌ، وكلمة (ثُم) مرتِّبةٌ، فإذا قال: " وقفت على فلان وفلان "، اقتضى ذلك اشتراكَهما، [ولو قال:
__________
(1) عُني إمام الحرمين بمعاني الألفاظ في كتابه (البرهان) في أصول الفقه (ر. الفقرات: 84 - 114).
(2) في الأصل: لبيتني.
(3) (د 1)، (ت 3): الضمان.

(8/363)


على فلان، ثم فلان، اقتضى ترتّباً] (1).
وفيه دقيقة، وهي أن الواو إذا لم يقترن بها، أو لم يستأخر عنها ما يقتضي ترتيباً محمولةٌ على الجمع، وقد يستأخر عن الواو ما يتضمن ترتيباً، وهذا مثلُ قول المحبِّس: وقفت على أولادي، وأولاد أولادي، وأولادهم، فهذا لو اقتصر عليه، لاشتركوا، ولا يمتنع أن يقول: بطناً بعد بطن؛ [فيترتب] (2)؛ فإن الواو قد تقتضي الاشتراك في أصل الاستحقاق، وقد تقتضي الاشتراكَ في الأصل، والتفصيلَ، وذلك إذا تجرد (3) عما يقتضي الترتيب.
5728 - وأما الاستثناءات، فيتعين تتبعها، فالمسألة المشهورة للشافعي أن الاستثناء الواقع آخراً ينصرف إلى جميع ما تقدم إذا لم يمنع من انصرافه مانع، فكذلك القول في الصفات، وبيان ذلك أنه لو قال: وقفت على أولادي ثم على إخوتي، ثم على أعمامي إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا ينصرف إلى الجميع، ولا يختص به المتأخرون.
والمسألة تذكر في الأصول (4)، وعليها بنى الشافعي قوله في قبول شهادة القاذف إذا تاب، تعلقاً بظاهر قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 5] ومثال الصفة، أن يقول: " وقفت على أولادي، ثم بعدهم، على إخوتي، ثم بعدهم على أعمامي، الفقراء منهم "، فهذه الصفة يُنحى بها نحو الاستثناء، وتنصرف على المذكورين، وهذا الكلام مبهمٌ، يحتاج إلى مزيد تفصيل.
والوجه فيه أن نقول: إذا قال: وقفت على أولادي، ثم بعدهم على بني فلان، ثم بعدهم على إخوتي إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا ينصرف إلى المتقدمين، كما ذكرناه، ولا يختص بالمتأخرين، بل يتعلق حكمُه بالجميع.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) سقطت من الأصل.
(3) كذا: بحذف (تاء) المضارعة في أوله، أو (تاء) علامة التأنيث في آخره. أو تُنطق بالبناء للمجهول.
(4) راجع البرهان: فقرة 287 - 293.

(8/364)


ولو ذكر الذين وقف عليهم، وأطال الكلام، في وصف كل قبيلٍ، ثم كان يستفتح في كل صنف كلاماً مستقلاً بنفسه، فلست أرى الاستثناء والوصفَ الواقعين آخراً منصرفَيْن إلى الجمل المتقدمةِ السابقةِ المذكورةِ على صيغ الاستقلال.
وبيان ذلك بالمثال؛ أنه إذا قال: وقفت على أولادي، فمن مات منهم رجع نصيبه إلى أولاده، للذكر مثلُ حظ الأنثيين، ومن لم يعقب رجعت حصتُه إلى الذي في درجته. ثم قال: فإذا انقرضوا، فالريع مصروفٌ إلى إخوتي: فلانٌ، وفلان، وفلان ثم قال: إلا أن يفسق منهم أحد، فهذا يختص بالإخوة عندي.
5729 - وإن أطلق الأصحابُ صرفَ الاستثناء إلى المتقدمين، فكلامُهم (1) محمول على ذكر البطون على التواصل بعاطفٍ جامع، أو عاطف مرتِّب، من غير تخلل كلامٍ يفصل جملةً عن جملةٍ، ويوجب بين البطون اختلافاًً وتفاوتاً، مثل أن يقول: وقفت على أولادي، ثم بعدهم على إخوتي، ثم على أعمامي إلا أن يفسق منهم أحد، فظاهر مذهب الشافعي رجوعُ ذلك إلى الكافة، وما ذكره في عطف الجمل، بعضِها على بعض بالواو أظهر، فإذا كان العطفُ يقتضي ترتيباً، فالصرف إلى جميع المقدَّمين فيه بعضُ النظر والغموض؛ فإن انصراف الاستثناء إلى الذين يليهم الاستثناء مقطوعٌ به، وانعطافه على جميع السابقين والعطف بالحرف المرتِّب محتملٌ غيرُ مقطوع به، وإذا ثبت الاستحقاق بلفظ الواقف نصاً، ولم يثبت ما يغيره، وجب تقرير الاستحقاق، ولم يجز تغييره بمحتملٍ متردَّدٍ.
5730 - فانتظم مما ذكرناه ثلاث مسائل: إحداها - أن يطول الفصل، ويتخلل بين الصنف والصنف فواصل، كما صورناه، فالاستثناء لا ينصرف إلى الجمل السابقة.
وإن كان العطف بثُمَّ، فالذي أراه اختصاص الاستثناء بالمتاخرين.
وإن كان العطف بالواو، ولا فاصل، فمذهبُ الشافعي رجوعُ الاستثناء إلى الجميع، وكذلك القول في الصفة.
__________
(1) في الأصل: وكلامهم.

(8/365)


والأصحابُ وإن لم يفصِّلوا الكلام، فما أطلقوه محمولٌ على هذا التفصيل لا محالة.
فرع:
5731 - إذا قال: وقفتُ على أولادي، فهل يدخل أولاد الأولاد في الاستحقاق؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنهم لا يدخلون.
ومن أصحابنا من قال: يدخلون في الاستحقاق، واسم الأولاد يتناول الأدنَيْن والأحفاد، فإن فرعنا على أنهم يندرجون تحت اسم الأولاد، فالأصح أن أولاد البنات لا يدخلون.
هذا ما اختاره صاحب التقريب، وتعليله: أن أولاد البنات ينسبون إلى آبائهم، وهم أزواج البنات؛ فإن الانتساب إلى الآباء دون الأمهات، وعلى هذا المعنى قال القائل:
بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد (1)
وذهب ذاهبون إلى أن أولاد البنات على الوجه الذي نفرع عليه يدخلون دخول أولاد البنين، ثم الوجهان في الأصل فيه إذا لم يجر ما يتضمن إخراج الأحفاد. فلو قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرضوا، فلأحفادي ثلث ما سميتُ لهم، والباقي لأخواتي، فهذا، وما في معناه، يخرج الأحفاد عن الاندراج تحت مطلق اسم الأولاد.
فرع:
5732 - إذا قال: وقفت على زيد وعمرو، ولم يذكر بعد انقراضهما مصرِفاً، وفرعنا على أن الوقف المنقطع الآخر صحيح، فلو مات أحد الرجلين، ففي نصيبه وجهان: أحدهما - أنه مصروف إلى الباقي منهما، والصرف إليه مع تعرض الواقف له أولى من تقدير مصرِف لم يذكره الواقف.
ومن أصحابنا من قال: نصيب من مات منهما بمثابة نصيبهما لو ماتا، وقد تفصل المذهب في مصرف الوقف بعد انقراض المسمَّيْن.
__________
(1) هذا البيت من شواهد ابن عقيل. وقد قال عنه العلامة الشيخ محمد محي الدين عبد الحميد، نسبه جماعة إلى الفرزدق، وقال قوم: لا يعلم قائله. مع شهرته في كتب النحاة، وأهل المعاني والفرضيين. (شرح ابن عقيل: 1/ 233).

(8/366)


فصل
في التولية
5733 - وهو من قواعد الكتاب، وفيه أمر يكاد أن يخرج عن القياس بعضَ الخروج.
والذي نراه أن نذكر التفصيلَ في الوقف على الجهات، ثم نذكر الوقف على معيّنين.
فأما إذا وقف على جهةٍ، كالوقف على المساكين، فإن شرط التولية لنفسه، وصرّح به، فهو القائم بالصدقة لا يزاحَم، سواء قلنا: الملك له في رقبة الوقف، أو قلنا: إنه زائلٌ إلى الله تعالى، ولا يجري في الأوقاف على الجهات إلا قولان؛ فإن إضافة الملك في الرقبة إلى المساكين لا يتجه. هكذا قال الأئمة.
وعندي أنه لا يمتنع تقدير إضافة الملك إليهم، كما أنا نضيف الملك في رَيْع الوقف إليهم، والملك في الريع محقق، فإذا لم يمتنع إضافة الملك المحقق، لم يمتنع إضافة الملك المقدّر.
وغرض الفصل الآن أن حق التولِّي يثبت للواقف إذا شرط لنفسه، فإن قيل: هلاّ كان حق التولي تابعاً لملك الرقبة؛ حتى يقال: إن أضفنا الملك إلى الواقف، فحق التولِّي له، وإن أضفناه إلى الله تعالى، فحق التولي للسلطان؟ قلنا: حق التولِّي من جملة الحقوق المستفادة من الوقف، والمتَّبع في [حقوق] (1) الوقف شرط الواقف.
ثم إذا شرط الواقف لنفسه حقَّ التولِّي، فليس هو بمثابة ما لو أثبت لنفسه في الوقف حظّاً ونصيباً، وكل ذلك متفق عليه.
والذي تمهد مذهب العلماء فيه قديماً وحديثاً أن الواقف هو المتقرِّب إلى الله تعالى بصدقته، فكان أولى بالقيام عليها من غيره، فإذا انضم إلى ما ذكرناه تصريح الواقف بشرط التولي لنفسه، لم يبق ريبٌ في اختصاصه بالتولِّي.
__________
(1) في الأصل: حكم.

(8/367)


5734 - ولو شرط الواقف حق التولِّي لرجلٍ عينه، فهو المتولِّي، إذا كان مستجمعاً للشرائط المرعية، وسبيل ذكره الأجنبي كسبيل إثباته في الوقف حظاً لمن يريد أن يُثبت له حظاً، فشرط التولِّي للغير كشرط قسط من الريع.
وشرطُ الواقف التولِّي لنفسه يؤخد بما تمهد من كون الواقف أولى بتربية صدقته التي تقرب بها؛ فإنا لو حملنا التولِّي في حقه على إثباته حظّاً لنفسه، وقعنا في وقف الرجل الشيء على نفسه، أو صرفه قسطاً من الريع إلى نفسه.
وسيأتي هذا متصلاً بهذا الفصل.
ويجوز أن يقال: نَصْبُه أجنبياً صادر مما ثبت له من حق القيام، ثم له أن يستنيب غيرَه مناب نفسه. هذا إذا وقع التعرض لذكر من يتولى الوقف.
5735 - فأما إذا كان الوقف على جهة القربة مطلقاًً، من غير تعرضٍ لمن يتولى الوقفَ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: أمر التولِّي يُبنى على الملك، فإن حكمنا بأن الملك فىِ الرقبة للواقف، فله حق التولِّي، وإن قلنا: الملك في الرقبة زائل إلى الله تعالى، فحق التولّي للسلطان. وهذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من قال: حق التولِّي للواقف، وإن قلنا: الملك لله تعالى، فإن الوقف تقرب، والقيام عليه تتمة للقربة، فكان مفوَّضاً إلى المتقرِّب.
والأصح الطريقة الأولى.
5736 - ثم شرط القائم في الوقف الذي هو قربة أن يكون مستصلحاً للقيام، ولذلك
شرطان: أحدهما - الأمانة. والآخر - الكفاية. ولو انخرم أحدهما، تسلط السلطان عليه، حتى لو كان الواقف شرطَ لنفسه التولِّي، ثم اختل فيه الوصفان، أو أحدهما، لم يتركه السلطان، على ما سنصف في آخر الفصل في القول في العزل والانعزال.
هذا في الوقف على الجهات، والوقف عليها لا يكون إلا قربةً.
فلو وقف على الأغنياء شيئاً، فقد اضطرب أصحابنا فيه: فمنهم من أبطل الوقف، ومنهم من صححه.

(8/368)


والغرض في هذا يتبين بذكر ثلاث مراتب: إحداها - الوقف على جهات القربة، فهو منفّذ.
والأخرى - الوقف على الجهات التي يزجر الدين عنها، ولا يقرر عليها، إلا على موادعة ومتاركة، فالوقف على هذه الجهات باطل، وذلك كالوقف على الكنائس والبيع وكتبة [التوراة] (1).
والمرتبة الثالثة - في الوقف على جهةٍ لا نهي فيها، ولا يتضح فيها وجهُ القُربة، كالوقف على الأغنياء من غير تعيين أشخاص.
وكل ما ذكرناه في أحكام التولية في الوقف على الجهات، فأما إذا كان الوقف على معيّنين، فهذا ليس مبنياً على القربة، حتى يقال: المتقرِّب أولى بتتمة القربة.
5737 - فإذا وقع التنبّه لهذا، قلنا:
الواقف لا يخلو إما أن يتعرض لذكر من يتولَّى [الوقفَ، وإما أن يُطلق الوقفَ، فأما إذا أطلق، ولم يتعرض لمن يتولّى] (2)، فإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو المتولِّي بلا مدافعة؛ إذ الريْع له، والملك في الرقبة مضاف إليه.
وإن قلنا: الملك مضاف إلى الله تعالى، فظاهر المذهب أن السلطان لا يتولّى الوقفَ؛ فإنه إنما يخوض فيما يتعلق بالجهات العامة، والملك الذي يضاف إليه في هذا النوع من الوقف تقدير.
ومن أصحابنا من قال: حق التولِّي يتبع الملك، فإذا أضفناه إلى الله تعالى، فحق التولِّي إلى القائم بحقوق الله تعالى.
وإن فرّعنا على أن السلطان لا يتولى، فحق التولِّي للموقوف عليه نظراً إلى استحقاق الريع والمنفعة.
وإن قلنا: الملك للواقف في الرقبة، فالأصح أن حق القيام ثابت له؛ فإنه ملك خاص، فيجوز أن يكون القيام بذلك الملك إليه.
__________
(1) في الأصل: " الزبور ". واخترنا هذه، لأنها اللفظة التي تكررت مراراً مع الكنائس والبيع.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(8/369)


وإن قال قائل: حق القيام لمن له حق المنفعة والريع، قيل له: القيام يمكن أن يضاف إلى الملك، ويمكن أن يضاف إلى المنفعة، وإضافته إلى الملك أولى من إضافته إلى المنفعة.
فهذا حاصل القول في إطلاق الوقف.
5738 - وتتمة البيان فيه أنا قد نقول: إذا أُتلف الموقوفُ، يستحق الواقف قيمته ملكاً. وإذا قلنا: الملك لله تعالى، فالقيمة في وجهٍ من الوجوه لا تصرف إلى مال الله تعالى، فاتضح بما ذكرناه أن إضافة الملك تقدير في الوقف على الأعيان، وهو تحقيق في حق الواقف، وكما لا يظهر إضافة الملك في رقبة الوقف إلى المساكين، فكذلك لا يظهر إضافة الملك في الوقف على الأعيان إلى الله تعالى، وليس الوقف قربة.
5739 - فأما إذا وقف الواقف، وشرط التولِّي لنفسه، أو لأجنبي أو لبعض من عليه الوقف، فقد قال الأئمة يُتّبع شرطُه، فإن شرط لنفسه التولِّي، فهو له. وإن شرطه للموقوف عليه، فلا شك في ثبوته، وإن شرط لأجنبي، فظاهر المذهب أنه ينتصب ذلك الأجنبي بنصب الواقف. وهذا الآن في حق الأجنبي يُحمل على إثبات حق له، وسلطنةٍ في الوقف بشرطٍ من إنشاء [الواقف] (1).
فإن قال قائل: إذا فرعنا على أن الملك للموقوف عليه، والحق في الريع له، فما وجه حق ثبوت التولِّي لغيره؟ قلنا: من أنكر تخصيصات الواقف وتحكماته في شرائطه، فليس على خبرةٍ من الكتاب؛ فإن العلماء متفقون على أنه لو شرط ألا تُكرى الضيعة الموقوفة، بل تُستغل، فلا يجوز أن تكرى، ولو شرط ألا تكرى أكثر من سنة، وجب اتباع شرطه، ومبنى الوقف على اتباع تحكمات الواقف، إذا لم يخالف موجَب الشرع، وليس كهبة الواهب؛ فإنه لا يبقى له تحكم إذا أقبض، ولو تحكم بطلت الهبة بتحكّمه، فللواقف على الأعيان تعيينُ جهات الانتفاع.
والأصل الشاهد فيه أنه وإن ملك الموقوفُ عليه الرقبةَ -على قولٍ- والمنفعةَ،
__________
(1) في النسخ الثلاث: الوقف. والمثبت تقدير منا.

(8/370)


فالرقبة محبَّسة عليه، [وأصل] (1) تحبيسها [اتِّباع] (2) شرط الواقف. ومن أحاط بوضع الوقف، هان عليه هذا.
5740 - فإن قيل: إذا كان الوقف على الأعيان، فهل يجوز أن يكون المتولِّي فيه فاسقاً، أم ترعَوْن فيه الأمانة والكفاية، على ما ذكرتموه في القسم الأول؟ قلنا: هذا مما تردد الأصحاب فيه. والمذهب أنه يشترط الأمانة والكفاية، فإنا نشترط هاتين الصفقتين في الوصي والقيّم، والمتولِّي في معناهما، وإنما تخيّل من لم يشترط ذلك من جهة أنه حَسِب التولِّي حقّاً للمتولِّي، وهذا كلامٌ عريٌّ عن التحصيل، فلا اعتداد به.
ثم من جوز نصب المتولِّي مع العُرُوّ عن الصفتين يقول: لأرباب الوقف أن يُقيموا أَوَدَه، ويحملوه على المراشد، فإن أبى، استعدَوْا عليه.
ولا خلاف أنه إذا كان فيهم طفل، فالمتولي يجب أن يكون أميناًً كافياً.
5741 - ثم لو فسق المتولِّي وقد شرطنا عدالته، فتفصيل القول في فسقه الطارىء كتفصيل القول في فسق الوصي، وسيأتي مفصَّلاً في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.
5742 - ثم إذا نصب الواقف متولِّياً، فإليه القيام بالعمارة، وتحصيل الريع من وجهه وإيصاله إلى مستحقيه، وإليه عقد الإجارة على حكم النظر.
ولا يمتنع أن ينصب الواقف متولِّياً في بعض المصالح المتعلِّقة بالوقف، ويفوِّض الباقي إلى أرباب الوقف، فالتولية تصحّ على الخصوص، وعلى العموم، كما يصح الإيصاء على الوجهين.
5743 - ولو نصب متولِّياً، وشرط له من الريع شيئاً، جاز. وإن لم يشرط له شيئاً، فهل يستحق المتولِّي من الريع قدرَ أجرة مثله؟ فعلى خلافٍ بين الأصحاب، وهو خارج على المسائل التي ذكرناها في كتاب الإجارة، إذا استعمل الرجل إنساناً، ولم يذكر لعمله أجرة.
__________
(1) في الأصل: " فأصل " وفي (د 1)، (ت 3): والأصل. والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في النسخ الثلاث: لاتباع.

(8/371)


5744 - فإذا كان الوقف متعلِّقاً بالمتولِّي، فاليد نتُبعُها شرطَ الواقف، فلا يمتنع أن يشترط كون الوقف في يده، أو في يد ثالث. وإن أطلق الوقفَ، فاليد في الوقف تتبع التصرّفَ، فإن أثبتنا حقَّ التصرف للموقوف عليه، وجب تسليم الوقف إليه، وإن أثبتنا حقَّ التصرف للواقف، فيقرر الوقف في يده، والقول الجامع أن اليد تتبع التصرفَ، وقد مضى التفصيل في ذلك، وتولِّيه عند الإطلاق والشرط.
5745 - ومذهبنا أن لزوم الوقف لا يتوقف على إقباضه للموقوف عليه وتسليمه إليه، وليس كالهبات والصدقات، وخالف في هذا أبو يوسف ومحمد (1)، واضطربت مذاهبهم. هذا منتهى القول في التولية، وما يتعلق بها.
فصل
5746 - قد ذكرنا في أثناء الكلام مصارفَ الوقف، إذ جرى ذكرها معترضاً، ونحن نجمعها على الإيجاز في هذا الفصل، فنقول:
الوقف ينقسم إلى وقف تمليك، وإلى وقف قربة.
فأما وقف التمليك، فالضابط فيه أن كل من تصح الوصية له يصح الوقف عليه.
وذهب معظم الأئمة إلى أن الوقف على المساكين يلتحق بالقربات، ويُرعى في هذا المسلك طريق القُربة، وآية ذلك أنه لا يجب استيعاب المساكين، بل يسوغ الاقتصار على ثلاثة منهم؛ فعلى هذا لا يلتحق الوقف على المساكين بقسم وقف التمليك، ويترتب على هذا امتناع الوقف على اليهود والنصارى.
وحكى شيخي عن القفال أنه كان يُلحق هذا القسمَ بوقف التمليك، ويجوّز الوقف على الكفار، وعلى الفسقة، ومعاقري الخمور، والمُجّان، كما يصح الوقف على معينين من هؤلاء. وهذا قياس حسن، وربما كان لا يذكر شيخي في بعض الدروس غيرَه. والوصية تصح لهؤلاء، كما تصح لمعينين منهم، وإنما ينفصل المذهب في الوصية لأهل الحرب بالسلاح، كما سيأتي في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 137، البدائع: 6/ 219.

(8/372)


5747 - فعلى هذا الوقفُ الذي يستدعي القربة، هو الوقف على الجهات التي لا تستدعي تمليكاً، كالوقف على البِيع، وكتبة التوراة، فهو باطل، والصحيح الوقف على المساجد والرباطات.
فحصل من مجموع ما ذكرناه ترددٌ في أن الأجناس الذين لا ينحصرون هل يُرعى في الوقف المضاف إليهم وجهُ القربة أم لا؟ فإن راعينا وجه القربة، ففي الوقف على الأغنياء تفصيلٌ، قدمته فيما مضى.
واختلف القول في الوقف على أقوام يعسر حصرهم، ولو قدرنا صحة الوقف، لوجب استيعابهم، وهذا كالوقف على بني هاشم، والعلوية، والطالبية، وسنذكر هذين القولين في كتاب الوصايا، إن شاء الله تعالى. وغرضنا الآن منها أنا إن صححنا الوقف، لم نعلِّقه بالقربة؛ فإنه يتضمن تمليكاً واستيعاباً.
5748 - ومما يتصل بهذا الفصل وقف الإنسان على نفسه، وقد ظهر اختلاف الأصحاب فيه، فذهب القياسون إلى منعه؛ فإن الغرض من الوقف إخراج الواقف ملكَه إلى غيره، ولا حاصل لوقف خالص ملكه على نفسه؛ فإن مقصود الوقف نوعٌ من الاختصاص، والملك الخالص زائد على كل اختصاص.
ومن أصحابنا من جوّز وقفَ الإنسان على نفسه، وحمل ذلك على طلبه تحبيسَ الملك، حتى تنحسم عنه التصرفات المزيلة للملك.
ثم بنى الأصحاب على هذا أن الرجل إذا وقف على نفسه شيئاً من ملكه، ثم ذكر أنه [بعد موته] (1) وقفٌ على فلان وفلان، ثم بعدهم على المساكين، فإن صححنا وقفه على نفسه، انتظم الأمر واتسق الوقف، وإن حكمنا بأن وقف الإنسان على نفسه باطلٌ، فهذا وقفٌ منقطع الأول، وقد مضى تفريع انقطاع الوقف من الأول.
5749 - ومما فرعوه أنا إذا أبطلنا وقف الإنسان على نفسه، فلو وقف شيئاً على الفقراء والمساكين، ثم افتقر هو في نفسه، فهل يحل له أن يأخد من رَيْع الوقف ما يسد حاجته، لاندراجه تحت اسم المساكين؟ فيه اختلاف بين الأصحاب على قولنا
__________
(1) ساقط من الأصل.

(8/373)


يمتنع منه أن يقف على نفسه قصداً، وسبب الخلاف ما أشرنا إليه من أنه لم يقصد نفسَه، وإنما تناوله عموم اسمٍ، وسنذكر نظير هذا في الوصايا، إن شاء الله.
5750 - ومما يتصل بهذا الفصل، وبما تقدم في التولية أن الواقف لو شرط أن يتولى بنفسه الوقف، ثم أثبت لنفسه أجرة من الرَّيْع، فهذا ينبني على أن وقفه على نفسه هل يصح؟ فإن حكمنا بصحته، لم يمتنع هذا الذي ذكرناه، فإن لم نصحح وقفه على نفسه، ففي الأجرة التي يشترطها لنفسه من ريع الوقف وجهان مبنيان على أصلٍ سيأتي في قَسْم الصدقات، وهو أنا إذا حرّمنا الصدقات المفروضات على بني هاشم وبني المطلب، فلو انتصب واحد منهم عاملاً، فهل يحل له أن يأخد من سهم العاملين؟ فيه [خلافٌ] (1) سنذكره، إن شاء الله عز وجل. وهذا إذا كان المأخود قدر أجر المثل، فإن زاد، لم يخرّج جواز أخذه إلا على قولنا بتصحيح وقف الإنسان على نفسه.
هذا منتهى قولنا في مصارف الصدقات، وسنلحق بهذا الفصل وبما قدمناه فروعاً في آخر الكتاب نتدارك بها ما لم تحتوِ الفصول عليه، إن شاء الله عز وجل.
فصل
معقود في جناية العبد الموقوف، والجناية عليه
5751 - فنبدأ بالجناية عليه، فنقول: هي تنقسم إلى الإتلاف، والجنايةِ على الأطراف، مع البقاء. فأما الإتلاف، فلا يخلو إما أن يصدر من أجنبي، وإما أن يصدر من الواقف، أو من الموقوف عليه.
5752 - فإن أتلف الأجنبيُّ العبدَ الموقوفَ، ضمِنَ القيمةَ، لا محالة، والكلامُ في مصرفها على أقوالِ الملك.
فإن حكمنا بأن الملك في الرقبة مزالٌ إلى الله تعالى، فالقيمة على المذهب المبتوت الذي عليه التعويل تصرف إلى عبدٍ آخر يُشتَرى ويُحبَّس، فإن وجدنا عبداً
__________
(1) في الأصل: اختلافهم.

(8/374)


خالصاً، فإذاك، وإن لم نجده، صرفنا القيمة إلى شقصٍ من عبد، ومصرفه مصرف العبد.
وليس هذا كالأضحية؛ فإنها إذا أتلفت، ولم نجد بقيمتها إلا بعضَ شاة، لم نصرفها إلى بعض الشاة، وذلك لأن التضحية ببعض الشاة غيرُ مجزئة، ووقفُ بعض العبد جائز.
5753 - وإن حكمنا بأن الملك في رقبة [العبد] (1) للواقف، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يجب عليه أن يشتري بتلك القيمة عبداً، أو بعض عبد، كما ذكرنا في حق الله تعالى.
ومنهم من قال: القيمة تنقلب ملكاًً للواقف، ونحكم بأن الوقف انتهى بفوات العبد، وهو الذي كان مورد الوقف.
وهذا غير سديد؛ فإن من أتلف عبداً مرهوناً، والتزم قيمته، لزم جعل قيمته رهناً، مكان العبد، ولم نقل: انتهى الرهن نهايته، فليكن الأمر كذلك هاهنا؛ فإنّ تَعَلُّق الوقف لا ينقص عن تعلق حق المرتهن.
5754 - وإن فرعنا على أن الملك للموقوف عليه، ففي صرف القيمة إليه وجهان، كما ذكرناه الآن على قولنا الملك للواقف: أحد الوجهين - أن القيمة تصرف إلى الموقوف عليه ملكاً، وقد انتهى التحبيس.
ومنهم من قال: يجب صرفها إلى عبدٍ.
وإذا سلكنا هذا المسلك في هذا القول، وفي قول الواقف (2)، وقد مضى مثله في قولنا: إن الملك لله تعالى، فلا تختلف الأقوال إذاً بالتفريع، ولا يظهر لها أثر، ويطلق القول بصرف القيمة إلى عبد، أو بعضٍ من عبد على الأقوال كلِّها.
5755 - وإنما يظهر [أثر] (3) الأقوال إذا فرعنا (4) على أن الواقف يملك القيمة، أو ملكنا الموقوف عليه.
__________
(1) في الأصل: الوقف.
(2) أي قول: الملك للواقف.
(3) سقطت من الأصل.
(4) (د 1)، (ت 3): إذا ملكنا الواقف القيمة، أو ملكنا الموقوف عليه.

(8/375)


فإن قيل: إن حكمنا على قول الواقف بارتداد القيمة إليه ملكاً، فوجهه انقطاع الوقف، وانقلابُ الموقوف قُبَيْل التلف ملكاًً خالصاً، وهذا مفهوم على الجملة، صحَّ أو فسد.
فأما إذا قلنا: الملك للموقوف عليه، فما وجه تمليكه القيمة، والواقف ما ملكه مِلْكَ إطلاق، فكيف يملك القيمة مطلقاً؟
وإذا قلنا: يملك القيمة على قول الواقف، فقد أزلنا الوقف، وإذا أزلناه في حق الموقوف، فلا يبقى له عُلقةُ استحقاق؟ قلنا: هذا سؤال مُخيلٌ، ولكنه يجاب عنه بأنا إذا ملَّكنا الموقوفَ عليه رقبةَ الوقف، فكأن الواقف تصدق عليه، وملّكه الرقبة مِلكَ الصدقات، غير أنه حبّس عليه الملك، فإذا انحل الحبس الذي هو نعت ملك الموقوف عليه، بقي الملك المطلق.
هذا إذا كان الجاني أجنبياً.
5756 - فأما إذا قتل الواقفُ العبدَ الموقوفَ، فإن حكمنا بأن القيمة التي يلتزمها الأجنبي بقتل العبد تُصرف إلى الواقف ملكاًً، فإذا كان القاتل هو الواقف، لم يلتزم شيئاً؛ فإنه لو التزم القيمة، لالتزمها لنفسه. وهذا محال.
وإن قلنا: القيمة التي يلتزمها الأجنبي مصروفةٌ إلى عبدٍ، أو إلى شقص من عبد، فعلى الواقف القيمة لتصرف إلى الجهة التي ذكرناها.
وإن قلنا: القيمة التي يلتزمها الأجنبي تُصرف إلى الموقوف عليه ملكاًً، فعلى الواقف القيمة للموقوف عليه إذا كان هو القاتل.
5757 - ولو قتل الموقوفُ عليه العبدَ الموقوف، اتجهت هذه الوجوه في حقه، فإما ألا [نوجب] (1) عليه شيئاً؛ تفريعاً على أن القيمة التي يلتزمها الأجنبي مصروفة إلى الموقوف عليه ملكاًً، وإما أن نقول: على الموقوف عليه القيمةُ لتصرف إلى شراء عبد، وإما أن نقول: على الموقوف عليه القيمةُ للواقف؛ تفريعاً على أن ما يلتزمه الأجنبي مصروفٌ إلى الواقف ملكاً.
__________
(1) في الأصل: يتوجه.

(8/376)


هدا بيان التفريع فيه إذا كانت الجناية على العبد الموقوف قتلاً.
5758 - فأما إذا كانت الجناية عليه دون القتل، فإن كانت من جهة الأجنبي، فقد زاد بعضُ أصحابنا وجهاً فيما حكاه صاحب التقريب: أن أروش الأطراف والجنايات الواقعة دون النفس مصروفةٌ إلى الموقوف عليه على الأقوال كلِّها، تنزيلاً لها منزلة المهر الذي يجب بوطء الموقوفة، وسنذكر على أثر ذلك أن المهر مصروف إلى الموقوف عليه.
وهذا القائل يحتج بأن أروش الجنايات الواقعة دون النفس فوائدُ تتعلق بإفاتةٍ (1) وتفويتٍ، فضاهت المهرَ.
والمذهب الظاهر أن أروش الجنايات تنزل منزلة قيمة الجملة، وقد سبق التفصيل في القيمة إذا وجبت، أو قُدّر وجوبها بالقتل، على حسب تصويرنا القاتل أجنبياً، أو الواقف، أو الموقوف عليه.
هدا إذا كانت الجناية على العبد الموقوف عليه.
5759 - فأما إذا صدرت الجناية من العبد الموقوف، فإن كانت موجبةً للقصاص،
اقتُصَّ منه، فالقصاص لا يمنعه مانع.
5760 - وإن كانت الجناية تتعلق بالمال، فلا مطمع في بيع العبد الموقوف أصلاً في الجناية؛ فإن الوقف لا يقبل النقض، ولو بعناه، لتضمن بيعُه نقضاً للوقف. وإذا امتنع البيع، تعيّن التعلق بالفداء.
والقول فيمن يفديه يتفرع على الأقوال في ملك الرقبة، فإن قلنا: مالك الرقبة الواقف، فعليه أن يفديه؛ فإنه بوقفه تسبَّب إلى منعه من البيع، فكان ذلك موجباً للفداء عليه، وينزل وقفُه إياه منزلةَ استيلاد السيد الجاريةَ، وإذا جنت المستولدة، فعلى المستولد الفداء.
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والمعنى واضح: أي تتعلق بتفويت منافع الموقوف. وعبارة الرافعي التي نقلها عن صاحب التقريب: " أن أروش الأطراف والجنايات تصرف إلى الموقوف عليه، على كل قول، وتنزل منزلة المهر والأكساب ". ر. فتح العزيز: 6/ 296.

(8/377)


5761 - وإن حكمنا بأن الملك للموقوف عليه، فقد اختلف أصحابنا في وجوب الفداء، فذهب بعضهم إلى أنه يجب على الموقوف عليه الفداء؛ نظراً إلى الملك في الرقبة وتفريعاً على ذلك.
ومن أصحابنا من قال: يجب الفداء على الواقف؛ فإنه المتسبّب إلى المنع من البيع، كما قررناه، والتعويل في وجوب الفداء على المنع من البيع.
ومن أصحابنا من قال: وجوب الفداء يبنى على القبول، فإن حكمنا بأن الوقف لا يتم إلا بقبول الموقوف عليه، فعليه الفداء، فإنه المتسبب إلى تحقيق الوقف، وانضمّ إليه ما ذكرناه من الملك في الرقبة. وإن قلنا: يثبت الوقف دون قبول الموقوف عليه، فالفداء على الواقف.
5762 - ونحن نقول في القبول وقد انتهى الكلام إليه: إن كان الوقف على جهة من الجهات، أو على جنسٍ لا يضبطون، فلا يتوقف ثبوت الوقف على قبول أحدٍ؛ فإنه لا يمكن تقدير القبول إذا لم يكن الموقوف عليه شخصاً معيَّناً.
فأما إذا كان الوقف على متعيّن، ففي اشتراط قبوله وجهان: أحدهما (1) - أنه لا بدّ من قبوله، أو من قبول من ينوب عنه بجهة الولاية، إذا كان طفلاً أو مجنوناً، هذا هو الصحيح؛ فإن تمليك الغير رقبةً، أو منفعةً إلزاماً من غير قبول منه خارجٌ عن قياس القواعد.
ومن أصحابنا من لم يشترط القبول، ومال إلى أن الوقف ليس هبة على التحقيق، ولهذا لا يشترط فيه الإقباض الذي هو الركن في الهبات، فينبغي ألا يشترطَ القبول، كما لا يشترط الإقباض.
وإن حكمنا بأن القبول لا بد منه، فيشترط اتصاله بالوقف، على حسب اشتراطنا ذلك في كل قبولٍ يتعلق بإيجاب.
وإن قلنا: لا يشترط القبول، فلا خلاف أن الوقف يرتد برد الموقوف عليه،
__________
(1) (د 1)، (ت 3): أصحهما.

(8/378)


وهذا يناظر (1) قولَنا في الوكالة، وإذا فرّعنا على أن القبول ليس شرطاً فيها، فلا شك أنها ترتد بالرد، وقد فصلنا ذلك في الوكالة.
وتصوير الرد في الوكالة على الغرض الذي نريده [عسر] (2) مع أن الوكيل بعد قبول الوكالة لو رد الوكالة، لكان رده لها فسخاً، والوكالة جائزة على أي وجهٍ فرضت.
5763 - وما ذكرناه [من] (3) القبول والرد إنما يجري في البطن الأول. فأما إذا استقر الوقف بقبول من في البطن الأول، ثم انقرض، وانتهى إلى البطن الثاني، فلا يشترط القبول ممن في البطن الثاني، على المسلك الصحيح؛ فإن اشتراط القبول منهم، مع استئخار الاستحقاق في حقهم عن الوقف غيرُ متجه، وشرط القبول الاتصال.
وأبعد بعض أصحابنا، فاشترط القبول في كل بطن، وجعل استئخاره عن الوقف بمثابة استئخار قبول الموصَى له الوصية عن وقت الإيصاء.
فإن لم يُشترط القبول، فهل يرتد الوقف بردهم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرتد، فإن إلزامهم حقاً لهم في المنفعة والرقبة بعيدٌ عن القياس. والثاني - أنه لا يرتد بردهم؛ فإنهم دخلوا في الوقف تبعاً على وجه البناء، فكانوا بمثابة الورثة الذين يملّكهم الشرع إرثاً، ولو أرادوا دفْعَ الملك عن أنفسهم، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
وهذا كأنه يلتفت على خلاف الأصحاب في أن البطن الثاني يتلقَّوْن الاستحقاق من البطن الأول تلقِّي الوارث من المورث، أو يتلقَّوْنَه من الواقف؟ وفي ذلك وجهان: فإن نزلناهم منزلة الورثة، لم يبعد أن يلزم الوقفُ في حقهم. وإن حكمنا بأنهم يتلقَّوْن من الواقف، فينبغي أن يرتد الوقف بردّهم.
وعلى هذا الأصل أجرى الأصحاب الخلافَ بأن من في البطن الأول إذا أجَّر الوقفَ، ثم مات في أثناء المدة، فالإجارة هل تنفسخ بموته، أو تبقى إلى منتهى المدة؟ وقد ذكرنا هذا في كتاب الإجارة.
__________
(1) عبارة (د 1)، (ت 3): وهذا بمثابة قولنا في الوكالة إذا فرعنا ...
(2) في الأصل: يحسن.
(3) في الأصل: في.

(8/379)


5764 - هذا إذا فرعنا على أن القبول غيرُ معتبر [في البطن الثاني. فإن اعتبرنا قبولهم] (1)، أو قلنا: يرتد الوقف بردهم، فهذا يتضمن انقطاع الوقف في جهة الآخِر، إذا لم يقبلوا أو ردوا.
وقد مهدنا أصل انقطاع الوقف في الآخر.
ونحن نقول هاهنا: إذا انتقض الوقف في حق البطن الثاني بردّهم، أو لم يثبت بعدم قبولهم، ففي المسألة خلاف بين الأصحاب في أن الوقف هل يبقى على الجملة؟ منهم من قال: لا يبقى، بل ينقطع، وهو ظاهر القياس، ومنهم من قال: إنه يبقى؛ فإن الوقف قد ثبت بقبول من في البطن الأول، وحق الوقف إذا ثبت ألا ينقطع.
فإن قلنا: إنه لا ينقطع، فقد اختلف أصحابنا في مصرفه: فمنهم من رأى ردَّ البطن الثاني، أو عدم قبولهم بمثابة الانقراض منهم، حتى ينقل استحقاق الوقف إلى البطن الثالث.
ومنهم من لم يجعل ذلك بمثابة انقراضهم، فإن جعلنا ذلك كالانقراض، نظرنا في البطن الثالث إذا كانوا موجودين، وفرعنا قبولهم وردهم، وإن لم نجعل ردّ من في البطن الثاني بمثابة الانقراض، فتعود الأقوال في أن الوقف يصرف إلى أية جهة؟ ففي قولٍ نصرفه إلى الأقربين، وفي قولٍ إلى المساكين، وفي قولٍ إلى المصالح العامة.
فإن صرفنا إلى المصالح، أو إلى المساكين، استقر الوقف في الجهة؛ إذ لا قبول في الوقف على الجهات، وإن صرفنا إلى الأقربين، فيعود التفريع في قبولهم وردّهم، فإن قبلوا، فذاك، وإن ردّوا، لم يخرج إلا قولان في الصرف إلى المساكين، أو المصلحة العامة.
وهذا كله تفريع على قولنا: إنا نمهّد للوقف المنقطع مصرفاً.
فإن قلنا: لا نمهد له مصرفاً، فلا يتبين والحالة هذه بطلان الوقف في حق الأولين، وقد قبلوا. هذا لا سبيل إليه. ولكن يتجه عند فرض الانقطاع انقلابُ الوقف ملكاً، ولا يخرج على ترتيب التفريع غيرُ هذا.
__________
(1) عبارة الأصل: غير معتبر، فإن اعتبرنا قبول من في البطن الثاني.

(8/380)


5765 - ولا شك أنه يجري مع ما ذكرناه أن الوقف إذا تعذر صرفه إلى الجهات المضبوطة، وقد ذُكر وراءها جهةٌ لا تنقطع، فهل يصرف الوقف إليها؟ ويظهر هاهنا الصرف إلى الجهة التي لا تنقطع، ثم لا قبول في تلك الجهة، ويخرج أنا لا نفعل ذلك حتى تنقرض البطون المعيّنون؛ اتباعاً لشرط الواقف. وقد كان قال: فإذا انقرضوا فللمساكين.
5766 - ثم الكلام فيما يتجمع من الريع -وقد أبينا إلا اتباعَ الشرط- أن نقول: إنه مصروف إلى الواقف، فيخرج من ذلك أوجه إذا جمعها الإنسان: أحدها- الرجوع إلى المالك، وينضم إليه ثلاثة أوجه ذكرناها، أو ثلاثة أقوال عند انعدام المصرف الذي عينه الواقف، وينضم إلى هذه الوجوه النقل إلى الجهة العامة التي هي مصير الوقف ومرجعه في الآخر، إذا انتهت الجهات المعلومة.
وإذا لم يكن ذكر الواقف جهةً عامة بعد انقراض الجهات المضبوطة، عاد الكلام إلى اضطراب الأصحاب والتفّ الخلاف في الباب.
وهذا الأصل سيأتي مستقصىً في كتاب الدعاوى عند فرض الحلف والنكول من البطون، وهو فصل منعوتٌ في ذلك الكتاب، ونحن مهدنا نهاية المقصود منه فيما يتعلق بالقبول والرد، وانتجز بما ذكرناه تمامُ الغرض في فصل القبول، وإن انسل عنا وجهٌ لم يذكر، فقد نبهنا عليه.
5767 - والناظر إذا أحكم الأصول، فهو على سعةٍ في أمثال هذه المضطربات، في أن يستدرك ما يزلّ عن الذكر.
5768 - وإنما اتجه هذا الكلام من قولنا: إن القبول إن جعلناه شرطاً، وفرّعنا على أن الملك للموقوف عليه، ففداءُ العبد الموقوف -إذا جنى- عليه (1).
5769 - ومن تحقيق المذهب في ذلك أنا إذا اعتبرنا القبول، والتفريعُ على أن الملك للواقف، فهل يلزم الموقوف عليه الفديةُ، لمكان قبوله، وإن لم نحكم له
__________
(1) " عليه " في موضع خبر مبتدؤه: " فداء ".

(8/381)


بالملك في الرقبة؟ الظاهر أنا لا نفعل ذلك، ونحيل الفداء ولزومَه إلى الواقف؛ نظراً إلى ملكه في الرقبة، ثم إلى إنشائه الوقف الذي هو سبب القبول.
5770 - ومن أراد أخد المذهب من حفظ الصور، اضطرب عليه (1) في أمثال هذه الفصول. ومن تلقاه من معرفة الأصول، استهان بدرك أمثال هذه الفصول.
وكل ما ذكرناه تفريعٌ على أن الملك للواقف أو للموقوف عليه.
5771 - فأما إذا قلنا: الملك زائل في الرقبة إلى الله تعالى، فقد ذكر شيخي وصاحب التقريب ثلاثة أوجه في الفداء: أحدها - أن الفداء على الواقف؛ فإنه الأصل في المنع من البيع.
والثاني - أن الفداء يتعلّق بمال الله تعالى، وهو السهم المرصد للمصالح، وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن المغارم إنما تتوجّه إلى بيت المال من جهةٍ يتوقع توجّه فوائد منها إلى بيت المال، فإنا لمَّا ضربنا العقل على بيت المال عند عدم العاقلة الخاصة، كان ذلك معارَضاً (2) بصرفنا تركة من يموت، ولا وارث له على الخصوص إلى بيت المال، وقد ينقدح في بعض الصور انصرافُ الوقف إلى المصلحة العامة، كما ذكرناه، فيستدّ الوجه (3) عليه، وينتظم إيجاب الفداء من بيت المال.
والوجه الثالث - أن الفداء يتعلق بكسب العبد؛ فإنا لم نجد سواه متعلَّقاً، فإذا عدمنا تعلُّقاً في جهة الرقبة، فكأن الموقوف عليه حرٌّ، وإذا جنى الحر، لم يبعد مطالبته.
فهذه مضايق يضطر الفقيه إليها.
5772 - ثم القول في أن الموقوف بكم يُفدى، كالقول في المستولدة، وذلك يأتي مستقصىً في آخر كتاب الديات إن شاء الله عز وجل.
وقد نجز منتهى الغرض تأصيلاً وتفصيلاً في جناية الموقوف، والجناية عليه.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): عقله.
(2) معارضاً: أي مقابلاً: بمعنى معاوضاً.
(3) (د 1)، (ت 3): الوقف.

(8/382)


فصل
في وطء الجارية الموقوفة في الجهات التي يجري الوطء فيها، مع ما يُفضي الوطء إليه من العلوق.
5773 - فنقول في مقدمة الفصل: لا خلاف أن الموقوف عليه لا يستبيح وطء الجارية الموقوفة، وإن حكمنا بانه يملك رقبتها، وسنبين أنه مالك منفعة بضعها، من جهة صرفنا المهرَ الواجبَ على الواطىء بالشبهة إليه، فهذا متفق عليه بين الأصحاب.
5774 - ثم اختلفوا في أن الموقوفة هل تزوج؟ فقال بعضهم: يجوز تزويجها، كما يجوز تزويج المستولدة، وإن [امتنع] (1) بيعُها.
وقال آخرون: لا يصح تزويجها؛ فإنها قد تلد إذا وطئها الزوج، ثم يُفضي ذلك إلى هلاكها، والوقف لازم، فينبغي أن تحرم الأسباب المؤدية إلى رفعه. وهذا كتحريمنا وطءَ المرهونة على الراهن، وأيضاًً: فإن القول في ملكها مضطرب، ويُشكل بسببه من يزوّجها.
فإن حكمنا بأنها لا تزوج، فلا كلام.
5775 - وإن حكمنا بأنها تزوّج، فمن يزوّجها؟ قال الأئمة: هذا يُخرّج على الأقوال في الملك؛ فإن حكمنا بأن الملك زائل إلى الله تعالى، فيزوّجها القاضي.
واختلف الأئمة في أنه هل يستشير في تزويجها الواقفَ والموقوفَ عليه؟ فمنهم من قال: لا بد من استشارتهما، ولا يصح النكاح دون رضاهما.
ومنهم من قال: ينفرد القاضي بتزويجها على حسب النظر، ولا يستشير. وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه له، لما ذكرناه من إفضاء التزويج إلى العلوق والطلق، ونقصان الوِلاد (2).
__________
(1) في الأصل: عسر بيعها.
(2) الوِلاد: "الحَمْل. يقال: شاة (والد) أي حامل بينة الولادة، ومنهم من يجعلها بمعنى
الوضع" (المصباح).

(8/383)


وإن قلنا: الملك للواقف، فهو المزوِّج، وهل يستشير الموقوفَ عليه؟ فعلى وجهين، ولا خلاف أنه لا يستشير القاضي.
وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو المزوِّج ولا يستشير أحداً، وجهاً واحداً؛ لأن الملك له في الرقبة والمنفعة.
فإن قيل: [إذا لم يستشر] (1) فلم (2) ذكرتم وجهاً في استشارة القاضي الواقفَ والموقوفَ عليه إذا قلنا: الملكُ زائل إلى الله تعالى؟ فهلاّ اقتصرتم على استشارة الموقوف عليه، لمكان استحقاقه المنفعة، ولرجوع قيمة منفعة البضع إليه؟ فما وجه استشارة الواقف؟ قلنا: استشارته من جهة أنه منشىء الوقف، والقاصدُ إلى تخليده، وتأبيده، على حسب الإمكان في كل موقوف.
وما ذكرناه لو قيل به لم يكن بعيداً، وهو الفرق بين الواقف والموقوف عليه في وجوب الاستشارة.
وما ذكرناه في الاستشارة له التفات من طريق اللفظ، وعلى نظر قريب في المعنى إلى مسألةٍ في كتاب النكاح، وهي أن السلطان إذا كان يزوّج المجنونة البالغة عند مسيس الحاجة، فقد قال الشافعي: " ويستشير ذا الرأي من أهلها ". وفي هذا الأصل خلاف، وتردّدٌ، سيأتي مشروحاً في كتاب النكاح، إن شاء الله عز وجل.
5776 - ومما نذكره في مقدمة الفصل أن الموقوفة لو جاءت بولد من سفاحٍ، أو نكاح -إن صححنا النكاح- فالحكم في ولدها ماذا؟ أوّلاً- اختلف أئمتنا في أن من وقف بهيمةً على إنسانٍ أو جهةٍ، فأتت بولدٍ، فما حكم ولدها؟
منهم من قال: ولدها من فوائدها، فهو بمثابة الصوف، والوبر، واللبن، فيقع ملكاًً للموقوف عليه مطلقاًً، كالثمار المستفادة من الأشجار الموقوفة.
ومن أصحابنا من قال: الولد موقوفٌ كالأم؛ فإنه جزء من الأم، فينبغي أن يكون
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) (د 1)، (ت 3): فقد.

(8/384)


بمثابته؛ فإن الوقف جهةٌ لازمةٌ، لا يتوقع ارتفاعها، فولد الموقوفة في جهة الوقف كولد الضحيّة في جهة التضحية.
هذا قولنا في ولد البهيمة الموقوفة.
فأما إذا أتت الجارية الموقوفة بولد من سفاحٍ، أو نكاح، ففيه وجهان مرتبان على الوجهين في ولد البهيمة، وولد الأمة أولى بأن يكون موقوفاً كالأم، بمثابة ولد المستولدة من المستولدة. قال الشافعي: " ولد كل ذات رحم بمثابتها " ووجه الترتيب أن الجارية لا تقتنى لتلد بخلاف البهيمة، فكان عدُّ ولد البهيمة من الفوائد أقربَ.
5777 - ومما نقدمه أن الجارية الموقوفة إذا وطئت وطئاً يتعلق به لزوم المهر، فالمهر مصروف إلى الموقوف عليه، باتفاق الأصحاب، وإن حكمنا بأن الملك في الرقبة للواقف.
وهذا فيه إشكالٌ من طريق النظر، والحكمُ متفق عليه من طريق النقل. ووجه الإشكال أن منفعة البضع لا تملك وحدها دون ملك الرقبة، بخلاف منافع البدن، وقد ذكرنا الاتفاق على أن الموقوف عليه لا يستفيد بالوقف استباحة وطء الموقوفة، ولكن لم نجد مصرفاً أولى وأقرب من مصرف المنافع، ولا سبيل إلى تعطيل المهر، ولا إلى صرفه إلى جاريةٍ أو عبد ليوقف، فكان ما ذكره الأصحاب أقربَ الوجوه.
فإذا ثبتت هذه المقدمات؛ فإنا نفرض بعد ذلك وطء الموقوفة من الأجنبي، ثم نفرضه من الواقف، والموقوف عليه.
5778 - فأما إذا وطىء الأجنبيُّ الجارية الموقوفة، نُظر: فإن وطئها بشبهة وعري الوطء عن العلوق، وجب عليه مهر مثلها للموقوف عليه، كما ذكرناه.
وإن علقت مع الشبهة بولدٍ، فهو حرٌّ، وعلى الواطىء قيمتُه. ثم القول في مصرف قيمة الولد يترتب على ما ذكرناه، فإن جعلنا الولد الرقيق من فوائد الوقف، فالقيمة بمثابته، وهي مصروفة إلى الموقوف عليه.
وإن قلنا: ولدها الرقيق موقوف كالأم، فقيمة الولد تصرف إلى عبدٍ، أو شقصٍ، كما تقدم.

(8/385)


وإن وطىء الأجنبي زانياً، نظر: فإن كانت الموقوفة مستكرهة، وجب المهر، وإن كانت مطاوعةً، فعلى وجهين، تقدم ذكرهما في كتاب الغصب. وإن أتت بولد والواطىء زانٍ، فهو رقيق، والخلاف فيه كما تقدم. هذا في وطء الأجنبيّ.
5779 - فأما إذا وطىء الموقوفُ عليه الجاريةَ الموقوفة، فلا يخلو إما أن يتصل بالوطء الإحبال، وإما ألا تعلق، فإن لم تعلق، فلا حدّ للشبهة، ولا مهر؛ إذ لو وجب المهرُ، لوجب له على نفسه، وهذا محال.
فأما إذا علقت بمولودٍ، فهذا يتفرع على الملك، فإن قلنا: الملك في الرقبة للموقوف عليه، فينفذ الاستيلادُ بناءً على الملك.
وإن قلنا: الملك في الرقبة زائل إلى الله تعالى، أو هو باقٍ للواقف، فلا ينفذ الاستيلاد أصلاً.
فإن قيل: هلا أثبتموه لعلقة الملك، كما قضيتم بأن جارية الابن تصير مستولدةً للأب [إذا أولدها] (1)؟ قلنا: ذاك إن قلنا به، ليس جارياً على قياس؛ فإن جارية الابن لا حقَّ فيها للأب، ولو كان للأب في ملكها شبهةٌ، لما حلّت للابن، فإن حِلَّ الوطء لا يصادف إلا ملكاً محضاً، فإذاً ذاك خارجٌ عن القياس، متعلقٌ بحرمة الأبوّة، كما تعلق بها انتفاء القصاص عن الأب، فلا نتخيل قياساً على ذلك الأصل.
5780 - ثم أمر الولد يتفرع على الاستيلاد، فإن حكمنا بأن الاستيلاد يثبت، فالولد يعلق حرّاً.
وإن حكمنا بأن الاستيلاد لا يثبت، نظر: فإن وطئها على ظن أنها زوجته، أو مملوكتُه القنّة، فالولد حر، وإن وطئها عالماً بحالها، قاطعاً بأنها محرمةٌ عليه، فالمذهب أن الولد ينعقد حراً أيضاًًً.
ومن أصحابنا من لم يحكم بحريته.
5781 - وهذا يضاهي اختلافاً للأئمة في أن من وطىء جاريةَ الغير ظاناً أنها زوجته
__________
(1) ساقط من الأصل.

(8/386)


المملوكة، ومن حكم ولد الزوجة المملوكة الرق، فهل نحكم بحرية الولد؟ فيه اختلاف: من أصحابنا من قال: إنه رقيق بناء على ظنه، وهو فيما أظن اختيار القفال، ووجهه أن الوطء اكتسب حرمةً من ظنّ (1) الواطىء، وإن لم يكن الأمر على ما ظن في علم الله تعالى، فلا ينبغي أن تثبت حرمةٌ، لا يقتضيها موجَب الظن، لو تحقق وصدق، وقد ظن الواطىء أنه يطأ زوجته المملوكة وولد الرجل من زوجته المملوكة رقيق.
ومن أصحابنا من قال: يعلقُ الولد حراً في الصورة التي ذكرناها؛ فإن الوطء محترم، والرق لا يثبت في الولد المترتب على الوطء المحترم إلا بما يقتضي الرق، والأصل في بني آدم الحرية، وثبوت الرق يستدعي مقتضياً.
5782 - فإذا ثبت ما ذكرناه فوطءُ الموقوفِ عليه إذا كان عالماً بحقيقة الحال -والتفريع على أن الملك ليس له- وطءٌ ليس بساقط الحرمة، ولكن علمه بأنه يطأ جارية الغير، ينافي الشبهة التي تقتضي الحرية للمولود، فتخرج حرمة الولد على الخلاف الذي ذكرناه.
فإن قضينا بكون الولد حراً، فالأمر في مصرف القيمة، وفي إثباتها على التفصيل الذي تقدم.
وإن حكمنا بأن الولد يكون رقيقاً، يترتب الأمر على الخلاف السابق، في أنه مصروف إلى الموقوف عليه ملكاً مطلقاًً؛ إلحاقاً له بالزوائد وفوائد الريع، أم هو موقوف بمثابة الأم؟
فإن حكمنا بأن الولد ملحق بالريْع والفوائد، لو كان من غير الموقوف عليه، فإذا كان من الموقوف عليه، فهو موقع النظر؛ فإنه لو ثبت الرق، لعتَق عليه؛ فإن الولد منتسب إليه، والنسب (2) صحيح، فالوجه أن يقال: ينعقد الولد رقيقاً، ثم يعتِق، ولا يتوقف نفود العتق فيه على الانفصال.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): وطء الواطىء.
(2) في (د 1): والتسبب، وفي (ت 3): والسبب.

(8/387)


5783 - وقد اختلف أصحابنا في أن الرجل إذا سبى ابنته الكافرة، فهل نقول: إنه يملكها، ثم تعتِق عليه؟ أم نقول: يمتنع جريان الرق؛ لمكان القرابة المقتضية لمنافاة الملك؟ فيجوز أن يقال: يمتنع جريان الرق على الولد على هذا القياس، [وليس] (1) هذا كابتياع الرجل ولده؛ فإن الملك يحصل، ويترتب العتق عليه؛ من جهة أن الابتياع ذريعةٌ في تحصيل العتق، وكذلك القول في الملك الذي يحصل إرثاً؛ فإنه لولاه، لما حصل العتق، وفي مسألتنا لو حصل الرق يحصل في ابتدائه للأب، فينبغي أن يمتنع حصول الملك لمكان الأبوّة والبنوّة، ولا شك أن هذه المسألة لا تنفصل عن مسألة السبي، على ما سيأتي شرحها في موضعها، إن شاء الله عزجل.
هذا إذا قلنا ولد الموقوفة ينحى به نحو فوائد الوقف.
5784 - فأما إذا قلنا: ولد الموقوفة موقوف، فولدها من الموقوف عليه موقوفٌ، إذا وقع التفريع على أن الملك في رقبة الوقف ليس للموقوف عليه. ثم هذا الولد لا يعتِق على الموقوف عليه؛ إذ لا ملك له فيه. ولو فرعنا على أن الملك للموقوف عليه في رقبة الوقف، لأثبتنا الاستيلاد.
5785 - ومما يتعلق بمنتهى الكلام أنا أطلقنا القول بنفود استيلاد الموقوف عليه إذا حكمنا بأن الملك له، وفي هذا أدنى نظر، سنشير إليه في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
هذا إذا كان الموقوف عليه هو الواطىء.
5786 - فأما إذا وطىء الواقف، فإنه يلتزم المهر للموقوف عليه، كما ذكرناه.
وإن اتصل الوطءُ بالعلوق، فثبوت الاستيلاد، يتفرع على الأقوال في الملك: فإن حكمنا بأن الملك في الجارية الموقوفة لله تعالى، أو للموقوف عليه، فلا ينفذ الاستيلاد.
وإن حكمنا بأن الملك للواقف، فقد كان شيخي يقول: القول في نفود استيلاد
__________
(1) في الأصل: فليس.

(8/388)


الواقف، كالقول فيه إذا وطىء الراهن الجاريةَ المرهونة، وأعلقها، فمن قضى بنفوذ الاستيلاد بناء على ملك الراهن، قضى في مسألتنا بنفود استيلاد الواقف، ومن أبى ثَمَّ، أبَى هاهنا، والسبب فيه أنا وإن حكمنا للواقف بالملك، فللموقوف عليه حقٌّ متأكد ينقضه العتق إذا طرأ، فكان شيخي يقول: استيلاد الواقف أوْلى بألا ينفذ، فإن الوقف مبناه على ألا يُرَدَّ، وحق المرتهن يقبل الفسخ، والرفع.
5787 - وهاهنا نفي بما وعدناه؛ فنقول:
ظاهر كلام الأصحاب يدل على أن استيلاد الموقوف عليه ينفد قولاً واحداً، إذا قلنا: الملك في الجارية له، وفي نفود استيلاد الواقف الخلافُ الذي ذكرناه إذا قلنا: الملك في رقبة الوقف للواقف.
والفرق أنا إذا أثبتنا الملك للموقوف عليه في الرقبة، وحق المنفعة له أيضاًًً، فقد اجتمع له ملك الرقبة، واستحقاقُ المنفعة، فالحق كله له إذاً أصلاً وفرعاً، وليس كذلك الواقف، فإنا وإن حكمنا بأن الملك في الرقبة له، فحق المنفعة للموقوف عليه. وهذا الفرق لا بأس به.
ولكن يبقى معه أن الموقوف عليه ليس له أن يُبطل الوقفَ، وإن جعلنا الملك في الرقبة والمنفعة له، وكأن (1) الواقف قصد إلى تحبيس الملك على الموقوف عليه، فلو مَلَّكْنا الموقوف عليه أن يُبطل الوقف، لكان ذلك تسليطاً منا إياه على قطع الوقف بعد لزومه، وهذا لا يليق بوضع الوقف، فليس يبعد عن الاحتمال تخريج نفوذ الاستيلاد من الموقوف عليه على الخلاف على قولنا: إن الملك له؛ فإنا لو نفذنا الاستيلاد، لأبطلنا الوقف، على خلاف وضعه، وعلى خلاف مراد الواقف.
5788 - والذي يحقق ذلك أن نفود الاستيلاد في هذه الأبواب بمثابة نفود العتق لو قدر إنشاؤه، ولو أعتق الموقوف عليه العبدَ الموقوفَ، على قولنا: إن الملك للموقوف عليه، فلا سبيل إلى قطع القول بنفود العتق، فإذا كان الأمر في العتق على التردّد، فليكن الاستيلاد بمثابته.
__________
(1) " وكأن ": ليست هنا للتشبيه، وإنما للتحقيق.

(8/389)


والذي يحقق ذلك، ويوضّحه أن الملك محبّس على الموقوف عليه، والتحبيس مقتضاه الحجر، فالموقوف إذاً محجور عليه، وإن ثبت له الملك.
وينقدح من هذا فرقٌ بين العتق والاستيلاد على بُعدٍ والظاهر التسوية بينهما؛ فإن عتق المحجور عليه لا ينفذ، واستيلاده ينفذ، لأنه فعلٌ، لا سبيل إلى ردّه في ملكه، والمرعيّ في الحجر حق المحجور، والملك خالص له، وملك الموقوف. عليه ليس بخالصٍ؛ إذ لو كان خالصاً، لأفاد إباحة الوطء.
هذا منتهى المراد في وطء الجارية الموقوفة، وما يتعلق به.
5789 - ونحن وراء ذلك نبتدىء أصلاً متصلاً بما ذكرناه، فنقول: إن صححنا تزويج الجارية الموقوفة، وقلنا: الملك في الوقف للواقف، أو هو زائل إلى الله تعالى، فيجوز للموقوف عليه، أن يتزوجها. وإذا قلنا: الملك للموقوف عليه، فلا شك أنه لا يتزوجها؛ فإن المالك لا يتزوج مملوكته، ولا فرق بين أن يكون الملك قويّاً، أو ضعيفاً، فإذا حكمنا له بالملك نمنعه من التزوّج (1). ولو كان نكح أمةً، فوقفها سيدُها عليه، والتفريع على أن الملك للموقوف عليه، فإذا تم الوقفُ، انفسخ النكاح على ظاهر المذهب.
5790 - وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن دوام النكاح لا ينفسخ بالملك الذي يحصل بالوقف للموقوف عليه؛ فإن هذا ليس ملكاًً حقيقياً، وإنما هو في حكم تقديرٍ. ثم خرّج هذا على مسائل اختلف الأصحاب فيها: منها- أن الأب لا ينكح أمة ابنه، ولو كان نكح أمةً، فاشتراها ابنُه، ففي انفساخ النكاح بالملك الطارىء للابن وجهان. وكذلك لا ينكح السيد جاريةَ مكاتَبه، ولو نكح أمةً، فاشتراها مكاتَبه، ففي انفساخ النكاح وجهان (2).
كذلك لا ينكح الموقوف عليه الجاريةَ الموقوفةَ ابتداءً، ولو كان نكح أمةً، فوُقفت عليه، ففي المسألة وجهان. والتفريع على أن الملك للموقوف عليه.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): التزويج.
(2) (د 1)، (ت 3): قولان.

(8/390)


ولو أرادت المرأة أن تنكح مكاتَبها، لم تجد إليه سبيلاً.
ولو زوج الرجل ابنته من مكاتَبه، ثم مات، وورثت الزوجةُ زوجها، انفسخ النكاح، باتفاق الأصحاب، فالملك في المكاتَب [يقطع طارئُه النكاحَ] (1)، كما يمنع ابتداءه.
قال صاحب التقريب: " الملك على المكاتب ثابت، وهو بعُرْض (2) أن يَرِق إذا عجز، ولا يتصور أن يتمحّض ملكُ الموقوف عليه في الموقوف، فكان هذا الملك غيرُ محقق ". وهذا مما انفرد به.
والأصحاب مجمعون على أن التفريع إذا وقع على أن الملك للموقوف عليه، فهذا الملك كما يمنع الابتداء يقطع الدوام.
5791 - ومن أهم ما نختتم الفصلَ به أن الأئمة قالوا: إذا حكمنا بأن الموقوفة تصيرِ أم ولد للواقف، إذا فرعنا على أن الملك له، وحكمنا بأن حق الوقف لا يمنع نفوذَ الاستيلاد، فهذا الآن يخرّج على أن المستولدة هل يصح وقفها ابتداء؟ فإن حكمنا بأنه يصح وقفُها ابتداء، فيبقى الوقف فيها مع ثبوت الاستيلاد.
ثم قال الأصحاب إذا وطىء الموقوف عليه، وأولدَ، وحكمنا بنفوذ الاستيلاد تفريعاً على أن الملك للموقوف عليه، فبقاء الوقف يخرّج على الخلاف الذي ذكرناه.
5792 - وهذا عندي أخْذٌ بالظاهر، وإضرابٌ عن الغوص في الحقائق.
وبيان ذلك أنا لا نثبت الاستيلاد في الموقوفة للموقوف عليه، إلا بتقدير نقل الملك إلى الموقوف عليه بالكليّة، مع انبتات (3) الملك الذي أفاده الوقف، ومساق ثبوت الاستيلاد يوجب إحلالها للموقوف عليه. وإذا حلّت له، فليس هذا من جنس الملك الذي كان بسبب الوقف قبلُ، فكيف تكون مملوكة له بالوقف، ومنتقلةً إليه بالاستيلاد، وهذا تناقض لا سبيل إلى التزامه، وليسى هذا كما إذا وقع التفريع على
__________
(1) في الأصل: " فالملك في المكاتب ينقطع طارئه بالنكاح ".
(2) كذا في النسخ الثلاث، والعُرض بضم العين المهملة: الجانب.
(3) (د 1)، (ت 3): إثبات.

(8/391)


أن الملك للواقف وقد استولد؛ فإنه إذا كان يقف مستولدتَه ابتداء، فلا يمتنع بقاء الوقف مع الاستيلاد انتهاءً، وكل واقف إنما يقف خالصَ ملكه، والدليل عليه أن مستولدة الرجل لا توقف عليه، فيلزم من ثبوت الاستيلاد في حق الموقوف عليه بطلان الوقف، ولا ينقدح غيره، بخلاف ثبوت الاستيلاد في حق الواقف؛ فإن تخريجه على الخلاف في وقف المستولدة غير بعيد.
ومن قال من أصحابنا: الوقف يبقى مع ثبوت الاستيلاد في حق الموقوف عليه، يلزمه ألا يبيح المستولدة للموقوف عليه. وهذا خبطٌ عظيم، ولست أحمل ما ذكره الأصحاب إلا على ترك النظر، وإجراء الأمر على الظاهر.
5793 - ومن وقف مستولدةَ نفسهِ، وجوزنا ذلك، فإنا نحرّم عليه وطأها بعد الوقف، لا من جهة نقصان الملك في المستولدة؛ [فإن الملك في المستولدة لا ينقص] (1) ولكن الواقف لو وطئها بعد الوقف، أمكن أن تعلق بمولود، ثم ذلك قد يُفضي إلى موتها، وهذا تسبب إلى إبطال حق متأكد، فوجب المنع منه.
ثم إذا حكمنا ببطلان الوقف بالاستيلاد الثابت في حق الواقف، أوفي حق الموقوف عليه، فيكون الاستيلاد بمثابة استهلاك الوقف، وإتلافه من جهة الواقف، أو من جهة الموقوف عليه.
وقد ذكرنا تفصيلَ المذهب في ذلك، وفي تقدير القيمة، وبيان مصرفها، أو سقوطها رأساً، فلا حاجة إلى إعادة هذه الفصول.
فصل
في بيان نفقة الموقوف
5794 - إذا ذكر الواقف أن نفقة العبد الموقوف في كسبه، فما فضل عن نفقته من منافعه وكسبه، فهو مصروف إلى الجهات التي يذكرها، فشرْطُ الوقف يصح على هذا الوجه.
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(8/392)


والأولى لكل واقف أن يبدأ بصرف المستفاد من الوقف إلى ما به قوامُ الوقف وبقاؤه. هذا هو العادة المعتادة في شرائط الواقفين.
فإن أطلق الوقف على معيّن مثلاً، وبعده على جهة لا تنقطع، ولم يتعرض للنفقة، فلا يخلو العبد إما أن يكون كسوباً، وإما ألا يكون كذلك، أو كان كسوباً ولكن كسبه لا يفي بمؤنته ونفقته، أو يكون كسوباً أوّلاً، ثم يطرأ عليه الزمانة المقعدة من الكسب.
فأما إذا كان كسوباً، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أن نفقته تتعلق بكسبه، وإن لم يتعرض الواقف لذلك.
وذكر بعض المصنفين أن نفقته تخرّج على أقوالِ الملك، ولا تتعلق بكسبه، كما لو أقعدته زمانة عن الكسب، وهذا وإن كان يمكن توجيهه بأن الوقف تضمَّن صرفَ كسبه إلى الموقوف عليه، فكأنه غير مكتسب، إذا كان مستغرَق الكسب في استحقاق الموقوف عليه، فما أرى ذلك معتداً به، والتعويل على ما ذكره الأئمة في الطرق، وهو أن النفقة تتعلق بالكسب، ووجه ذلك الحملُ على العادة أوَّلاً (1)، والعادة إذا اطردت، كانت بمثابة التصريح بالشرط. وهذا أصلٌ، لا حاجة إلى تقريره بالشواهد.
5795 - فأما إذا لم يف الكسب بالنفقة، أو طرأ مانع يمنع عن الكسب، فالنفقة حينئد تخرّج على أقوال الملك: فإن حكمنا بأن الملك للواقف في الرقبة، فالنفقة عليه.
وإن حكمنا بأن الملك للموقوف عليه، فالنفقة تجب عليه.
وإن حكمنا بأن الملك لله، فالنفقة في مال الله.
وهذا إنما يجري في الإنفاق على ذي الروح لحرمته؛ فإنه لا يجوز تعطيله، وتركه يهلك هَزْلاً.
__________
(1) (أوَّلاً): بمعنى الأصل الثابت. ولذا لم يتبعها بـ (ثانياً)، وهذا أسلوب معهود، أن يذكر السبب الأصيل الذي يكفي وحده بلفظ (أولاً)، ولا ثاني له.

(8/393)


5796 - فأما عمارة الوقف إذا كان الموقوف عقاراً، وكان الوقف مطلقاًً، وريْعه لا يفي بالعمارة التي لا بدّ منها في إقامة الوقف وإدامته، فلا خلاف أنها لا تجب على أحدٍ: لا على الموقوف عليه إذا نسبنا الملك إليه، ولا في مال الله تعالى على قول إضافة الملك لله تعالى، ولا على الواقف، على قولنا: إن الملك له.
والسبب فيه أن عمارة الأوقاف يُنحى بها نحو عمارة الأملاك، ولا يجب على المالك أن يعمر ملكه.
وقد ذكرنا في كتاب الإجارة وجهاً أن المكري يلزمه عمارةُ الدار المكراة، ليتوفر المنافع منها على المكتري، وهذا سببه عهدةُ العقد، والتزامُ المكري توفية المنافع، وتوفيرها على مقابلة استحقاق العوض، وهذا المعنى لا يتحقق في حق الواقف.
فصل
في خراب الوقف وما يلحقه من التغايير
5797 - فإذا وقف الرجل شجرةً لتصرف ثمرتُها إلى شخص، وبعده إلى جهة، فلو يبست الشجرةُ، وصارت حطباً، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يبطل الوقف في ذلك، وينقلب الحطب ملكاًً للواقف؛ فإن الوقف المضافَ إلى الشجرة إنما يتعلق بالشجرة ما دامت ناضرة؛ فإن اسم الشجرة في التحقيق ينطلق عليها ما دامت كذلك، فإن سمى مسمٍّ حطبها شجرة، كان ذلك على مذهب الاستصحاب، فجفاف الشجرة إذاً، كهلاك العبد الموقوف، غير أنه إذا هلك، لم يفرض ردُّ جثته إلى ملكٍ؛ من جهة أنها ليست مالاً، والحطب مال.
5798 - ومن أصحابنا من قال: لا نحكم بارتداد الحطب إلى ملك الواقف، ولا نقضي بانقطاع أثر الوقف.
ثم هؤلاء اختلفوا على وجهين: فذهب بعضهم إلى أن الشجرة تستعمل في جهة إمكان الانتفاع بها، ويقدر كأن الواقف وقف جذعاً على إنسان، فإذا أمكن الانتفاع به، بإجارته وأخد أجرته واستعمال الموقوف عليه إياه في جهةٍ ينتفع به فيها، فهو الواجب.

(8/394)


ومن أصحابنا من قال: إذا انقضت الجهة التي أرادها الواقف من الشجرة، فالحطب أو الشجرة التي تصلح للانتفاع تباع، ويصرف ثمنه إلى ابتياع شجرة أخرى، أو إلى قسطٍ، إن لم يتأت شراء شجرةٍ أخرى كاملة، ثم تحبّس على الجهة التي ذكرها الواقف.
ومن أئمتنا من قال: ذلك الحطب يصرف ملكاًً إلى الموقوف عليه.
وهذان الوجهان الأخيران يقربان من تردد الأصحاب في قيمة العين الموقوفة إذا أتلفها جانٍ. وقد ذكرنا التفصيل فيها.
5799 - ومما أطلقه الأئمة في الكتب أن حُصُر المساجد إذا بليت، وصارت بحيث لا ينتفع بها، أو انكسر جذع وترضّض في مسجدٍ، وخرج عن إمكان الانتفاع، أو كنا نتعهد خشبة قائمة في المسجد، فاتفق نحتُ شيء منها، فتلك النحاتة ما حكمها؟
قال الأئمة رضي الله عنهم: الوجه بيع هذه الأشياء، وصرفُ ثمنها إلى مصلحة المسجد؛ فإنا لو لم نفعل هذا، لتعطل، ولا يمكن تقدير ارتداد أجزاء المسجد إلى ملك أحد؛ فإنها على التحقيق [ملكٌ لله تعالى] (1)، والقول فيما يتعلق بمصالح المسجد كالفرش بمثابة القول في أعيان المسجد.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنا لا نتعرض لبيع هذه الأشياء؛ فإنها خرجت عن المالية، إذ صرفت إلى هذه الجهة، فلا تعود أموالاً، فالوجه أن تترك على حالتها.
وهذا بعيد، لا اتجاه له.
5800 - نعم اشتهر الخلاف في أنه إذا أشرف جذع في المسجد على الانكسار، وتبيّن أنه إليه يصير، وهو في الحال على بقيةٍ من المنفعة المطلوبة، فهل يجوز للقائم بالمسجد أن يرعى المصلحة ويبيعَه قبل أن ينكسر، أم لا يجوز ذلك حتى يتحقق تعطل منفعته في جهته؟ هذا موضع اشتهار الخلاف.
5801 - ومما يتعلق بهذا الأصل أن من وقف داراً فأشرفت على الخراب، وعرفنا
__________
(1) عبارة الأصل: " فإنها في التحقيق له ".

(8/395)


أنها لو انهدمت، عسر ردُّها وإقامتُها، فهل نحكم والحالة هذه بجواز بيعها؟
اختلف الأئمة فيه: فذهب الأكثرون إلى منع البيع.
وجوّز المجوّزون البيعَ.
فإن منعنا البيع، أدمنا الوقف، وانتظرنا ما يكون.
وإن جوّزنا البيع، فالأصح صرف الثمن إلى جهة الوقف.
ومن أئمتنا من نحا بالثمن نحو القيمة إذا أتلف العينَ الموقوفة متلف. وهذا ضعيفٌ، لا أصل له في هذا المقام.
وإن حكمنا بأن الثمن يصرف إلى ابتياع شيء وتحبيسه على الجهة التي كانت، فهذا حكم منا ببقاء مقتضى الوقف.
وإن حكمنا بصرف الثمن إلى الجهة التي ذكرناها في قيمة العين الموقوفة إذا أتلفت، فمن جملة ما قيل في مصرف القيمة: أنها تصرف إلى الموقوف عليه؛ تفريعاً على أن الملك في العين له.
5802 - فلو قال الموقوف عليه: لا تبيعوا هذه الدار المشرفة على الخراب واقلبوها إلى ملكي؛ فإنكم [لو بعتموها، لصرفتم الثمن إليّ] (1)، فلا فائدة في البيع، والوجهُ الحكم بانقلاب هذه العين إلى حقي وملكي على الوجه الذي انتهى التفريع عليه.
فالمذهب أنا لا نجيبه إلى ذلك، ولا نقلب عين الوقف ملكاً، بل إذا جوزنا البيع، فبطلان الوقف يتوقف على جريان البيع، وهو باقٍ إلى [اتفاقه] (2).
وأبعد بعض الأصحاب، فأسعف الموقوفَ عليه، بما أراد، ثم هذا القائل لا يحوج إلى إنشاء عقدٍ، أو قولٍ في قلب العين إلى الموقوف عليه. ولكنه يقول: إنها تنقلب إليه. وهذا في نهاية الضعف.
__________
(1) عبارة الأصل: لو بعتموه ولصرفتم الثمن.
(2) في الأصل: العامة. وهو تحريف عجيب.

(8/396)


فصل
فيما يتضمن حجراً في الوقف
5803 - قد مهدنا في أصول الكتاب أن شرائط الواقف متبعة في تعيين الجهات وتفصيلها.
والمذهب الظاهر الذي قطع به معظم الأئمة أنه لو وقف داراً على معينين، وشرط
أن يسكنوها، ولا يؤاجروها، فليس لهم أن يتعدَّوْا موجَب الشرط، وتنزل الدار في نوْبتهم -ما بقوا- منزلة الرباطات والمدارس [المسبّلة] (1) على جهة السكون (2).
وقال بعض أصحابنا: الوقف على معينين سبيله سبيلُ التمليك، ولا يُرعى في هذه الجهة وجهُ القربة، ولذلك يجوز التحبيس على جماعة معيّنين من الكفار، والفسقة، وإذا كان محمولاً على التمليك، فالمنع من الاستغلال (3) بجهة الإجارة حجرٌ في الملك، فكان فاسداً مناقضاً للتمليك.
ثم إذا فسد الشرط، انقدح فيه وجهان مبنيان على الأصل الممهد فيما تقدم: أحد الوجهين- أن الشرط يفسد، والوقف مقدر دونه على حكم الإطلاق، ولا حجر على الموقوف عليهم.
والوجه الثاني - أنه يفسد، ثم لا يخفى [حكم] (4) فساده؛ فتبقى العين على ملك الواقف ويلغو الوقف، ويسقط أثره.
5804 - ولو وقف ضيعةً، أو داراً على معينين، وسوّغ الإجارة، ولكن حجر عليهم في زيادة مدة الإجارة على سنةٍ مثلاً، فالمذهب الذي يجب القطع به أن شرطه متبع؛ فإن هذا الشرط ليس حجراً في التحقيق، بل فيه رعايةُ مصلحة الوقف،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) السكون: أي السكن. وقد مضت إشارتنا إلى أن هذا الوزن وارد في لسان الحرمين، وتلميذه الغزالي، ولم نره في المعاجم المعروفة لنا.
(3) (د 1)، (ت 3): الاستقلال.
(4) ساقطة من الأصل.

(8/397)


واستبقائه؛ فإن مدة الإجارة إذا طالت واستولت أيدي المستأجرين فقد يؤدي ذلك إلى تعطيل الوقف رأساً.
فهذا القائل يقول: وإن منعنا الحجر، فلا نمنع ما يتعلق باستصلاح الوقف وتوفير المنفعة.
وأبعد بعض أصحابنا فأفسد هذا الشرطَ، ورآه ملحقاً بما يتضمن الحجرَ. وهذا مما لا أعتد به أصلاً.
5805 - ولو جعل بقعةً مسجداً، وأطلق، ثبت حكم المسجد في حق الناس كافة، ولم يتخصص بها قوم.
ولو قال: لا يدخل المسجد إلا عصبة خصصهم، فهذا الشرط باطل؛ فإن مبنى الحكم في المساجد التعميم.
5806 - ولو شرط ألا يقام في المسجد إلاّ شعارُ مذهبٍ خصَّصه بالذكر، فالمذهب والقياس أن ذلك التخصيص باطل، لما حققناه من أن أمور المساجد لا تقبل التخصيص.
وذهب طائفة من الأصجاب إلى وجوب اتباع شرط الواقف في تعيين ذلك الشعار.
وهذا قاله من قاله على جهة المصلحة؛ فإن التنافس بين أهل المذاهب ليس بالخفي، ولو ثبت المسجد عاماً، [يشترك] (1) أصحاب المذاهب في إقامة شعارهم فيها (2) مع الاختلاف، لأدى ذلك إلى الازدحام، والأمرِ الذي لا ينكر في طرد العرف، ثم الوالي لا يمكنه أن يتحكم في تعيين شعار مذهب، فأولى متبع في الباب ما ينص عليه ناصب المسجد وجاعله.
5807 - ولو جعل بقعة مقبرة، اشترك فيها كافة المسلمين، وخرج عن إطلاق الوقف
الكفارُ؛ فإن مطلق اللفظ يقتضي القربةَ، وقرينةُ الحال تشهد بذلك، فحمل الوقف عليه.
ولو جعل بقعة مقبرة لمخصوصين بالذكر، فقد ظهر اختلاف أصحابنا فيه، فذهب
__________
(1) في الأصل: فيشترك.
(2) كذا بضمير المؤنث، وهي على تأويل لا يخفى مُدركه.

(8/398)


بعضهم إلى تنزيل المقابر منزلةَ المساجد، حتى لا يسوغ التخصيص فيها.
وذهب الأكثرون إلى اتباع الواقف في تعيينه؛ فإن القبور في حق الأموات بمثابة المساكن في حق الأحياء، ثم تعيين المساكن لأقوام سائغٌ صحيح، فليكن تعيين المقابر كذلك.
5808 - ومهما فسد شرط في جعل المسجد، فالمذهب المبتوت أن الشرط يلغى، وينفد المسجد؛ فإن هذه الجهة مشابهة للإعتاق، والشرط الفاسد إذا لم يقع على جهة التعليق لا ينافي نفود العتق. هذا منتهى القول فيما يتضمن حجراً سائغاً، أو ممنوعاً في جهات الوقف.
فرع:
5809 - إذا علق الرجل عتق عبده بصفةٍ، ثم حبَّسه فوقفه، فالوقف نافذٌ في الحال، فإذا وُجدت الصفة بعد الوقف، فهذا يخرج على الأقوال في ملك الوقف: فإن حكمنا بأن الملك في الموقوف للموقوف عليه، فالعتق لا ينفذ، وينزل هذا منزلة ما لو علق عتق عبده، ثم باعه، وألزم البيع، ووجودُ الصفة في ملك المشتري لا يتضمن حصولَ العتاقة.
وهكذا التفريع على قولنا إن الملك في الموقوف زائلٌ إلى الله تعالى.
فأما إذا حكمنا بأن الملك في رقبة الوقف للواقف، فظاهر المذهب أن العتق ينفذ عند وجود الصفة.
ومن أصحابنا من قال: القول في نفود العتق في هذه الصورة كالقول في إعتاق الواقف العبدَ الموقوف، ولو أعتقه، لخرج نفود عتقه على أقوال نفود عتق الراهن في المرهون، وهذا يتردد على أحكامٍ، ويجمعها أن الاعتبار بحالة التعليق، أو بحالة تقدير وقوع العتق، وعليه يخرّج أمر (1) من علق عتق عبده في صحته، ثم مرض، فوجدت الصفة في مرض موته، فهذا ملحق بعتق الصحة، أو عتق المرض؟ وهذا الخلاف يجري فيه إذا علّق عتقَ عبده بصفةٍ، ثم رهنه.
5810 - ومما يجري في أثناء ذلك أنه لو علق عتق عبده بمجيء وقتٍ، فهذا
__________
(1) (د 1)، (ت 3): يخرّج أن من علّق عتق عبده.

(8/399)


[يأتي] (1) لا محالة، فلو وقفه، احتمل أن يلحق ذلك بالوقف المؤقت إذا كنا نحكم بنفوذ العتق بعد الوقف. وإذا كنا لا نحكم بنفوذ العتق، فلا شك في [صحة الوقف] (2).
فرع:
5811 - إذا وقف بهيمةً على إنسان، وجعل له الركوب منها، ولم يُثبت له لبنَها، وصوفَها أو وَبَرها، فمن أصحابنا من قال: حكم الوبر واللبن حكمُ منافعِ وقفٍ انقطع مصرفه، وقد ذكرنا التفصيل في ذلك، فلا نعيده.
ومن أصحابنا من قال: تخصيص الوقف ببعض المنافع يُفسده.
ومنهم من قال: الشرط يفسد، والوقف يعمّ، ولا خلاف أنه لو جعل الركوب لشخصٍ، واللبن والوبر لآخر، جاز.
فأما القول في نتاج البهيمة، فقد ذكرناه مفصلاً على الاستقصاء.
فرع:
5812 - سئل ابنُ سُريجٍ عمن وقف شجرةً على رجل، هل يجوز له قطع أغصانها إذا كانت الشجرة تبقى مع القطع؟ فقال: إن أجاز الواقف ذلك في شرط الوقف، جاز، وإن أطلق الوقفَ، لم يجز قطعُ الأغصان. قال الأصحاب: هذا في شجرةٍ لا يعتاد قطع أغصانها، فإن كانت الشجرة بحيث لا تطلب إلا لقطع أغصانها، ثم إنها تخلُف كالخِلاف، فمطلق الوقف فيها محمولٌ على حكم العادة، وأغصان شجرة الخِلاف كثمرات الأشجار المثمرة.
فرع:
5813 - لو وقف أرضاً، وشرط أن تصرف غلتُها إلى زكوات تجمعت عليه، أو كفارات لزمته، فحاصل المذهب في هذا أن ما ذكره وقفٌ منه على نفسه، وقد تقدم ذكر الخلاف فيه.
فإن منعنا ذلك، فالوقف باطلٌ؛ فإن الزكوات التي لزمته ديونٌ عليه، وتأديةُ ديونه من حقه، فقد صرف الوقفَ إلى حق نفسه.
__________
(1) في الأصل: باقٍ.
(2) في الأصل: "فساد الوقف"، وفي هامشها: " صحة الوقف " مع إشارة إلى أنها في نسخة أخرى.

(8/400)


ولو وقف شيئاً على مصارف الزكاة، صح، وحمل ذلك على الصرف إلى الأصناف المذكورين في كتاب الله تعالى، إلا العاملين والمؤلفة، أما العاملون، فلا شك في خروجهم، وأما المؤلفة، ففيهم تفصيل سيأتي مشروحاً في قَسْم الصدقات، إن شاء الله تعالى، فإن رأيناهم من جهات الخير، لم يمتنع صرف الوقف إليهم.
فرع:
5814 - إذا قال: وقفت على جهة الثواب، فقد ذهب ذاهبون إلى أن هذا محمول على الوقف على الأقارب، ولو وقف على جهة الخير، صُرف إلى مصارف الزكاة على التفصيل الذي ذكرناه، مع استثناء العاملين، كما سبق، ويصرف إلى قِرى الضيفان، أورده شيخي كذلك، وذكره العراقيون على هذا النحو، ففصلوا بين الثواب والخير.
ثم خصصوا كلّ لفظ بما ذكرناه، فالذي نحققه أن الخير رأوا صرفه إلى مصارف القربات الثابتة في الكتاب والسنة، وهي محصورة في مصارف الصدقات، وقِرى الضيفان.
ورأيت في بعض التعاليق المعتمدة عن شيخي أنه لا فرق بين لفظ الثواب والخير، وحكى في ذلك نصَّ الشافعي.
وذكر بعضُ المصنفين أن الفرق بين الثواب والخير مذهبُ بعض السلف. ولا فرق في ذلك عندنا.
وذهب معظم القياسين إلى أن الثواب والخير لا يختصان بجهة من جهات القُرب، ولكنهما يحملان على جميع جهات الخير. وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ولا ينقدح فيه تردد، إلا في شيء.
5815 - وهو أن رَيْع الوقف لو فرض جمعه وبناء رباطٍ به، أو مسجدٍ، فهو من جهات الخير، ويحتمل أن يقال: لا يحمل الوقف على هذا؛ فإن العادةَ ما جرت به، وإنما العرف الجاري في إخراج الريع إلى من ينتفع به، فأما اقتناء عقاراتٍ، وبناء مساجدَ، فليس مما يعتاد، والقول الضابط عندنا في الباب اتباع اللفظ في عمومه وخصوصه، إلا أن يتحقق عرفٌ مطردٌ مقترنٌ باللفظ، فيحكم العرف في اطراده، على تفاصيلَ مضت.

(8/401)


5816 - والذي أراه أن تشعيب المسائل اللفظية ليست من مسائل الوقف؛ فإنها تجري في الوصايا وغيرها، وليس من الرأي الإطناب فيها؛ فإنها بالوصايا أليق.
5817 - ولو وقف على سبيل الله تعالى، كان ذلك محمولاً على الوقف على الغزاة؛ تعلقاً بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60].
فرع:
5818 - اسم المولى ينطلق على المعتِق المنعِم، وهو الذي يسمى المولى الأعلى، وينطلق على المعتَق المنعَم عليه، ويسمى المولى الأسفل.
فقال أئمة العراق: إذا قال الواقف: وقفتُ هذا على (1) مولاي، وكان له معتِق منعِم، ولم يكن له معتَق، انصرف الوقف إليه.
وإن كان له معتَق منعَم عليه، ولم يكن له معتِق أعتقه، ولم يكن عليه ولاء، انصرف إلى المولى الأسفل.
وإن كان له على إنسان ولاء، وكان عليه ولاءٌ لغيره (2)، فإذا اجتمع المعتِق والمعتَق، فقد ذكر أئمة العراق ثلاثة أوجه: أحدها - أن الوقف يصرف إلى الصنفين، يستويان فيه.
والثاني - أنه يصرف إلى الأعلَيْن؛ فإن المولى إذا أطلق، كان ظاهراً في المنعِم، محتملاً في غيره.
والوجه الثالث - أن الوقف يبطل، لتردده بين الأعلى والأسفل.
5819 - وهذا الذي ذكروه يفتقر إلى فضل بيان. فإن كان ذكر الواقف المولى على صيغة التوحيد، لم ينقدح فيه إلا وجهان: أحدهما - الحمل على المولى الأعلى، لما ادعيناه من ظهور اللفظ، والآخر - البطلان؛ فإن اللفظ إذا كان على صيغة الوحدان، لم يصلح للعموم، وكل لفظ مشترك بين معنيين، فهو غير محمول عليهما؛ فإن اللفظ المشترك غيرُ موضوعٍ للاشتمال على المسميات جمعاً، بل هو صالح لآحاد المعاني على البدل، وهذا يجرّ إبهاماً لا محالة.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): على أعلى موالي.
(2) عبارة (د 1)، (ت 3): " وإن كان عليه ولاء، وكان له على غيره ولاء ".

(8/402)


وقد ينقدح حيث انتهى الكلام إليه مراجعة الواقف؛ فإن اللفظ الذي جاء به محتمل، وليس كما لو قال: وقفت على أحد هذين الرجلين؛ فإن ذلك صريح في الإبهام.
ولا يتأتى منا المبالغة في كشف ذلك، فهو محال على معرفة الألفاظ.
5820 - وهذا إذا ذكر اللفظ على صيغة الوحدان، فأما إذا قال: وقفت على مواليَّ، وله الصنفان: الأعلَوْن والأسفلون، فينقدح في هذه الصورة الصرفُ إليهم، والصرفُ إلى الأعليْن.
وقد يخرّج وجهُ الإبطال من جهة تقدير التردد، وهذا فيه بُعدٌ؛ لصلاح اللفظ للعموم والشمول.
ولكن قد ينقدح أن الإنسان لا يطلق هذا إلا وهو يريد أحد الصنفين؛ فإنهما في حكم المختلفين، ويبعد إرادة المختلفين في مثل هذا المقام. وينجرُّ هذا إلى التردد في الموقوف عليه.
وهذا إذا كان له جمعٌ من كل صنف، فإن كان لا ينتظم الجمع إلا بالصنفين، فالوجه الحمل عليهما.
فرع:
5821 - إذا وقف على عبد إنسان شيئاً، صح، وكان وقفاً على سيده، ولو وقف على بهيمة، اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من أبطله، ومنهم من صحّحه، وحمله على مالكها. ولو وقف على إنسان شيئاً وقال في شرطه: يصرف الرَّيع إلى عبد الموقوف عليهم، فهذا حجرٌ في رَيْع الوقف فاسدٌ باتفاق الأصحاب، ويعود الكلام إلى أن الشرط الفاسد هل يُفسد الوقفَ أم لا؟
فرع:
5822 - قال الشيخ أبو علي: إذا وقف رجل في مرض موته شيئاً على وارثه، وبعده على جهة الخير. فالوقف على الوارث مردود، ولكن هذا وقف منقطع الأول، وفيه من التفصيل ما تقدم في صدر الكتاب. فإذا صححناه، انقدح في [مصرفه] (1) قبل انقراض الوارث الوجوه المذكورة.
__________
(1) في الأصل: صرفه.

(8/403)


ولو ذكر جهةً فاسدةً، ثم جهةً صحيحة، وكان لا يتوقع فرض الانقراض في الجهة الفاسدة، مثل أن يقول: وقفت على رجلٍ، ثم على المساكين، فإذا لم يعيِّن رجلاً، لم ينتظم تقدير انقراضه، فإن أفسدنا الوقف، فذاك، وإن صححناه، فلا يتجه فيه إلا الصرف إلى المساكين، وكأن الرجلَ المذكور لا ذكر له. وهذا حسن فقيه، لا ينقدح غيره.
فرع:
5823 - إذا أجّر البقعة الموقوفة من يصح منه إجارتُها، ثم طُلبت البقعةُ بأكثرَ من الأجرة المسماة، فالوجه أن نقول: إن كان الوقف على معيّن، وقد تولى الإجارة، فلا أثر لطلب الموضع بزيادة؛ فإن الإجارة متعلقةٌ بحقه الخاص، لا يعدوه، فكان كالمالك يُكري.
وإذا كان الأمر على هذا الوجه، ولا حجر على الموقوف عليه، فلو تبرع، وأعار، أو أكرى بدون أجر المثل، فلا [معترض] (1) عليه.
ولو استثمر الأشجار المحبسة، وتبرع بجميعها، فإنما يتصرف في ملك نفسه.
والغرض مما ذكرناه تنزيل إجارة الموقوف عليه منزلةَ إجارة المالك.
5824 - فأما إذا كان الوقف على جهةٍ من جهات الخير، وإجارتُه مفوّضة إلى متولٍ، فلا شك أنه لا يصح منه التبرع؛ فإنه ناظر محتاطٌ في تحصيل ما هو الأغبط، وطلبِ ما هو الأحوط.
فلو أجر البقعة الموقوفة بأجر مثلها مدة، ثم طُلبت بالزيادة، فحاصل المذهب فيه أوجه: أحدها - أن الإجارة إذا لزمت على شرط الاحتياط، يجب الوفاء بها، ولا يغيِّرها بذلُ الزيادة من زائدٍ؛ فإن ارتفاع القيمة كان (2) إلى ملك المستأجر، وإذا ارتفع ملك المستأجر، لم يعترض عليه.
__________
(1) في الأصل: يتعرّض.
(2) كان إلى ملك المستأجر: أي ارتفع ملكُ المستأجر؛ إذْ هو ملك المنافع بعقد الإجارة، وارتفاع قيمة الإجارة هو في الحقيقة ارتفاع قيمة المنافع، وقد ملكها المستأجر وفي (د 1)، (ت 3): بحال إلى ملك المستأجر.

(8/404)


ومن أصحابنا من قال: مهما (1) ارتفع السعر، وزادت الأجرة، وظهر من يطلب بالزيادة، جاز للمتولي نقضُ الإجارة، بل وجب عليه ذلك؛ فإن الإجارة ترد على المنافع، وهي تؤخد شيئاً شيئاً.
وهذا عندي مزيف مجانب لمذهب الشافعي. ولم أر أحداً من أصحابنا يخالف في أن القيِّم إذا آجر ملك الطفل، ثم فرضت زيادة، على ما صورناه أنه لا يجوز نقض الإجارة.
فإن شبب صاحب هذا الوجه بطرد الخلاف في ذلك، كان قوله قريباًً من خرق الإجماع إن لم [يكنه] (2).
وقال بعض أصحابنا يجب الوفاء بالإجارة فى سنة، فأما إذا زادت المدة، واختلف الأجر، لم يجب الوفاء بالإجارة، وكأن هذا القائل يرى السنة مع ما يفرض فيها من تغايير قريباً (3) محتملاً.
ولهذا التفات على أن الإجارة حقها ألا تُزاد على سنة، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى ذلك في الوقف، مع المصير إلى أن إجارة الملك تزاد على السنة، وهذا له اتجاه في الوقف على جهاتِ الخير.
5825 - فإن فرعنا على أن الزائد يغير حكمَ الإجارة، فيحتمل أن يقال: المتولي يفسخ، ويحتمل أن يقال: الإجارة تنفسخ.
5826 - وعندي أن هذا كلّه إذا تغيرت الأجرة بكثرة الطالبين، فأما إذا وجدنا زبوناً يزيد على أجر المثل، فلا [خير فيما يزيد، ولا حكم له] (4). نعم، لو فرض هذا في ابتداء العقد، أسعف الزائد، وعقدت الإجارة معه، والله أعلم.
__________
(1) "مهما": بمعنى (إذا).
(2) مكان كلمة رسمت في الأصل هكذا: (ـلقه) تماماً. والمثبت من (د 1)، (ت 3).
(3) كذا في النسخ الثلاث، ولعل فيها سقطاً تقديره: " زماناً قريباً محتملاً "، أو فيها تحريف.
والله أعلم.
(4) عبارة الأصل: فلا حكم لما يزيد.

(8/405)


فرع:
5827 - إذا عسر الوصول إلى شرائط الوقف، فإن لم نأيس، وقفنا الأمرَ،
وحملنا المستحقين على الطلب، وإن أيسنا من العثور على شرائط الوقف، فقد سمعتُ شيخي يقول: حق هذا أن ينزَّل منزلة الوقف الذي لا مصرف له، إذا صححناه، وهو إذا قال القائل: وقفت داري هذه. وكان يحكي عن القفال في هذا: " أن أصح الوجوه فيه -إذا قال: وقفتُ- الحملُ على الجهة العامة ".
ولا يتأتى هذا إذا عدمنا شرطَ الوقف، وأشكل علينا تفصيله، مع العلم بانحصاره في معينين. والوجه [عندي] (1) وقف الريّع إلى أن يصطلحوا؛ فإنا إنما نقدِّر مصرفاً إذا تيقَّنا أن الواقف لم يثبته، وقد صححنا الوقف، فننظر في مصرفٍ، أما إذا ثبت المصرف، فالوجه الوقف على الاصطلاح، ثم يدخل في الوقف من نستيقنه مستحقاًً، فأما من لا نتحققه مستحقاًً، فلا مدخل له في الوقف والاصطلاح.
نجز كتاب الوقف بحمد الله ومنِّه، والصلاة على نبيه.
...
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(8/406)