نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الهبات
5828 - الأصل فيها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنها كانت تجري في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطريق ثبوتها التواتر، وإنما ينقُل الآحادُ في تفاصيل أحكامها أخباراً، وهذا سبيل كل أصلٍ من أصول الشريعة.
فمما ورد في تفاصيل أحكام الهبات ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " (1)، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لواهبٍ أن يرجع فيما وهب إلا الوالد، فيما وهب لولده " (2).
وأصل الهبة مجمعٌ عليه.
5829 - ونحن نصدّر هذا الكتاب بذكر ركني الهبة. ولها ركنان: أحدهما - الإيجاب، والقبول، والثاني - الإقباض.
فأما الكلام في لفظ العقد، فقاعدة الباب أن الهبة عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول، كالبيع، وقد حكينا عن ابن سريج مذهباً بعيداً مائلاً عن قياس المذهب في أن البيع في المحقرات ينعقد بالمعاطاة، وهذا متروك عليه غيرُ معتد به، ولا شك أن من يصير إليه [يُجريه] (3) في الهبة.
ونحن نضرب عن هذا، ونأخد في مسلك آخر ونقول:
__________
(1) حديث "العائد في هبته". متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 397 ح 1047).
(2) حديث "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد ... " أخرجه الشافعي عن طاووس مرسلاً: المسند ح 174، ومن حديث ابن عباس رواه أبو داود: البيوع والإجارات، باب الرجوع في الهبة: 3539، والترمذي: البيوع، باب ما جاء في كراهية الرجوع في الهبة: 1299، والنسائي: الهبة، باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده: 372، وابن ماجه: الهبات، باب من أعطى ولده ثم رجع فيه: 2377، وابن حبان: 7/ 289 رقم: 5101، والحاكم: 2/ 46 ر. التلخيص: 3/ 158 ح 1363.
(3) في الأصل: يجزئه. والمثبت من (د 1)، (ت 3).

(8/407)


قد عم في عادات السلف، ومن بعدهم المهاداة والإتحاف بالتحف، من غير فرض إيجابٍ فيها وقبول.
وهذا لا ينزل منزلة ما عمت به عادات بني الزمان بعد دروس شعار التقوى في الاكتفاء بالمعاطاة في البياعات؛ فإن هذه العادة لا يمكن دعوى إسنادها إلى الأوّلين، بخلاف ما ذكرناه في التحف.
وقد ذهب بعض المصنفين إلى القطع بتصحيح هذا من غير لفظ، وقطع العراقيون باشتراط اللفظ في الإيجاب والقبول، وما ذكروه قياس العقود، ولما أشرنا إليه من أمر العادة وقعٌ في القلب.
ثم إنما [يصار] (1) إلى التوجيه المحمول على العادة فيما يمكن دعوى إسناد العرف فيه إلى الأولين، وهذا فيما أراه يتعلق بالمطعومات، فأما ما يضطرب النظر في ادّعاء العادة فيه، فهو غير ملتحق بتنزيل المعاطاة في البيع منزلة اللفظ.
5830 - ومما يتصل بهذا الركن أن الأب إذا وَهَب من طفله وهو وليه، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في أن هبته من الطفل هل تصح بمجرد الإيجاب، أو بمجرد القبول، أم لا بد من الإتيان بهما؟ فمنهم من قال: لا بد منهما، ومنهم من قال: يقع الاكتفاء بأحدهما؛ فإن التخاطب يجري بين اثنين، وهما في حكم ابتداء خطاب وجواب، وهذا لا ينتظم من الشخص الواحد، فاللفظ الواحد منه يعطي معنى العقد.
ثم رأيت الطرق متفقةً على أنا إذا لم نشترط اللفظين، فالاكتفاء بلفظ القبول جائز.
وفي هذا عندي فضل نظر. فأقول: للقبول صيغتان: إحداهما - أن يقول المخاطب بالبيع: اشتريت، إذا قال البائع: بعتُ. والأخرى: أن يقول: قبلت. كذلك يفرض مثل هذا في الهبة، فالمخاطب المتبرَّع عليه يقول: اتَّهبت، ويقول: قبلت. ثم الطالب في البيع يحسن منه أن يبتدىء، فيقول: اشتريت هذا العبدَ بألف، فلو قال: قبلتُ بيع هذا العبدِ بألف، فما أرى ذلك جائزاً؛ فإن هذا صيغة الجواب، والجواب قبل الخطاب لا ينتظم، ولا أشك أنه لو قال: [قبلت] (2) مبتدئاً، كان كلامه لغواً.
__________
(1) في الأصل: يضاد.
(2) ساقطة من الأصل.

(8/408)


فإذا تمهد لنا ذلك، عدنا إلى الغرض، فنقول:
إذا قال الأب: قبلت هبة هذا الطفل، أو قبلت بيع هذا له، فما أرى ذلك صحيحاً، ولا أشك في بطلان اقتصاره على قوله قبلتُ؛ فإنه كلام غير مفهوم.
وإن قال: اتّهبت لطفلي، أو اشتريت لطفلي، فهو موضع خلاف، وهو بمثابة قوله: بعت من طفلي، أو وَهَبت من طفلي.
وأما اكتفاؤنا بقرائن الأحوال في تقديم الطعام إلى الضيفان في الرأي الأصح، فهو خارج عما نحن فيه؛ فإن سبيله الإباحة، والإباحة ليست تمليكاً، ولم يختلف أصحابنا أنها لا تفتقر إلى القبول، على رأي من يغلو، ويشترط اللفظ. هذا قدْرُ غرضنا الآن، فيما يتعلق باللفظ.
5831 - فأما القول في القبض، فحصول الملك في الموهوب يتوقف على القبض التام، والقبض في الهبة كالقبض الناقل للضمان في البيع، وقد فصلنا القولَ في القبوض والمقبوضات في كتاب البيع.
والذي نذكره هاهنا التفصيلُ في هبة الأب من طفله، فيما يتعلق بالقبض، والوجه تجديد العهد بهبة المودَع الوديعةَ من المودِع، وقد ذكرنا هذا في كتاب الرهن، وأثبتنا قولين في أن نفس الهبة والرهن هل يكون إقباضاً؟ فإن قلنا: إنه ليس بإقباضٍ، ففي كيفية الإقباض والعينُ في يد المتهب والمرتهن كلامٌ.
فإذا تجدد العهد بذكر هذا، عدنا إلى القول في الأب إذا وهب من طفله.
فإن قلنا: الهبة من المودَع تُحوِج إلى إقباض، فهذا في الأب أولى. وإن قلنا: من المودَع إقباض، ففي هبة الأب من طفله طريقان: من أصحابنا من قال: لا حاجة إلى الإقباض في حق الأب، ونفسُ اللفظ كافٍ؛ فإن الموهوب في يد من يكون في يده لو قدّر القبض.
ومن أصحابنا من قال: لا بد من الإقباض؛ فإن الموهوب في يد المالك الواهب في مسألة الأب، وهو في يد المتهب في مسألة المودَع. وقد ذكر الخلاف على هذا الوجه الصيدلاني.
5832 - وسلك بعضُ من لا يحيط بحقيقة المذهب مسلكاً آخر، فقال: إن قلنا:

(8/409)


يجوز الاقتصار على أحد شقين لفظاً، فلا حاجة إلى إقباض، وإن قلنا: لا بد من اللفظين، فهو خارج على قياس المودَع. وهذا هَوَسٌ؛ فإن الاقتصار على أحد اللفظين مأخذُه غيرُ مأخد القبض، كما دل عليه التنبيهات الجارية في أثناء الكلام.
5833 - فإذا ثبت القول في القبض، فالقول الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الملك يحصل مع القبض إذا ترتب على الصحة على الهبة المنعقدة. وعنينا بصحة القبض ترتيبه على إقباض الواهب، فلو ابتدر المتّهب، وقبض من غير إقباض، ولا إذنٍ، لم يحصل الملك، خلافاً لأبي حنيفة (1) رحمة الله عليه. وقد قدمنا تفصيل القول فيه إذا ابتدر المشتري، فقبض العين المشتراة في كتاب البيع.
ولو أتلف المشتري المبيع، كان إتلافه قبضاً ناقلاً للضمان، ولو أتلف المتَّهب الموهوب، لم يكن ذلك قبضاً، ولزمته القيمة للواهب، والسبب فيه أن إتلاف المشتري صادفَ ملكَه، فبعُد أن يغرَم القيمة لتُحبس في مقابلة الثمن، إن قلنا: بالحبس. وإتلافُ المتّهب صادف ملك الواهب.
هذا بيان القول الجديد.
وللشافعي قولٌ في القديم: أن الهبة إذا اتصلت بالإقباض، تبيَّنا أن الملك حصل بعقد الهبة للمتهب، وهذا قولٌ ضعيف في حكم المرجوع عنه.
5834 - ثم الترتيب السديد أنا إذا حكمنا بأن الملك يحصل مع القبض، فلو مات الواهب أو المتهب قبل جريان القبض، انفسخت الهبة، ولو أراد وارثُ الواهب الوفاء بها، احتاج إلى إنشاء هبة.
وإن حكمنا بأن الملك يستند إلى العقد تبيُّناً إذا جرى القبض، فلو مات [الواهب] (2)، أو المتهب قبل جريان القبض، ففي انفساخ الهبة وجهان، وقد ذكرنا نظيرهما في الرهن.
وأطلق بعض المحفقين الوجهين على القولين، ووجّهوهما من غير تعرضٍ للترتيب
__________
(1) ر. المبسوط: 12/ 57.
(2) في الأصل: الراهن.

(8/410)


على القولين في وقت حصول الملك: من قال بالانفساخ، احتج (1) بأن العقد قبل القبض جائز من الطرفين جوازاً شرعياً فينفسخ، كالجعالة، والوكالة، والقراض.
ومن قال: لا ينفسخ، احتج بأن مصير الهبة إلى اللزوم عند فرض جريان القبض، فالموت قبل القبض بمثابة الموت في زمان الخيار في عقد البيع.
وقد أجرينا هذا الخلاف في الرهن.
هذا منتهى غرضنا في ذكر ركني الهبة: اللفظ، والقبض.
فصل
مشتملٌ على بيان ما يصح هبته، وما يمتنع هبته
5835 - فكل عينٍ صح بيعُها، صح هبتُها.
والشيوع لا يمنع صحةَ الهبة فيما ينقسم، وفيما لا ينقسم، كما لا يمنع صحة البيع والرهن، وخالف أبو حنيفة (2) رحمة الله عليه في الهبة، وقياسه فيها يخالف قياسَه في الرهن، فلا جَرم قال: بيعُ الشائع الذي لا ينقسم أصله جائز، وتعويله في منع هبة الشائع على أن الهبة تبرع، فلو صحت في الشائع، لملك المتَّهب [إلزام] (3) الواهب القسمة، وهذا يؤدي إلى إلزام المتبرع مؤونةً على (4) التبرع في عين ما تبرع به، وهذا قد رددناه عليه في (الأساليب) (5) وغيرها (6).
وإنما غرضنا أنهم يستمسكون بالقبض، ويقولون: " إنما يوقف الملك في الهبة
__________
(1) في الأصل: واحتج.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 139 مسألة: 1837، والمبسوط: 12/ 64، ومختصر الطحاوي: 139، وإيثار الإنصاف: 280.
(3) في الأصل: التزام.
(4) (د 1)، (ت 3): في. والمراد إلزام المتهب مؤونةً بسبب هبته، وهي مؤونة القسمة.
(5) الأساليب: أحد كتب الإمام في الخلاف، ولما نصل إليه.
(6) وغيرها: أي غير الأساليب، ولعله يعني (الدرّة المضيئة)، فقد ردّ فيها على الحنفية هذه المسألة.

(8/411)


على القبض؛ لأن الملك لو حصل بنفس الهبة، لوجب الإقباض، فيؤدي هذا إلى إلزام الشرع (1) للمتبرع شيئاً بسبب تبرّعه، وهذا بعيد ".
وهذا الكلام باطل عندنا.
5836 - فإن قيل لنا: فما معتمد المذهب في اشتراط القبض، وقد قال مالك (2): الهبة تملك بنفسها من غير إقباض؟
قلنا: اعتمد الشافعي في اشتراط القبض حديث أبي بكر: فإنه كان منح عائشة رضي الله عنهما جِداد عشرين وَسْقاً، فلما مرض مرضه الذي مات فيه قال لها: " وددت لو حُزتيه قبل هذا، وهو الآن مالُ وارث بينك وبين أخويك وأختيك ". قالت: " عرفت أخويّ محمداً وعبدَ الرحمن، وأختي أسماء، فخطر لي أن خارجةَ كانت حاملاً من أبي بكر، وأنها ستلد أنثى، فولدت أنثى " (3).
هذا متعلق الشافعي في اشتراط القبض.
5837 - ثم تردد الأصحاب في أمور نُرسلها، ثم ننبه على حقيقتها:
فذكر بعضهم في صحة هبة الكلب خلافاًً، وأورد الشيخ أبو علي هذا، ونَحَوْا بالهبة في الكلب نحو الوصية به، وهذا بعيد جداً، وحق هذا الإنسان أن يطرد هذا الخلاف في المجاهيل وغيرِها، [مما] (4) تصح الوصية به، ويمتنع بيعُه، ولا شك أنهم يُلزَمون طردَ هذا في الجلد قبل الدباغ، والخمر المحترمة، وكل ما يثبت فيه حق الاختصاص إذا صحت الوصية؛ فإن الهبة تبرعٌ ناجز والوصية تبرعٌ مضاف إلى ما بعد الموت.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): التبرع. ولفظ (الدرة المضية): " الشرع " مثل الأصل.
(2) ر. جواهر الإكليل: 2/ 212، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 673 مسألة: 1198.
(3) حديث هبة أبي بكر لعائشة، رواه مالك في الموطأ (كتاب الأقضية: باب ما لا يجوز من النحل 2/ 752، ح 40، وفيه أن عائشة سألت أبا بكر: " إنما هي أسماء، فمن الأخرى " فقال لها أبو بكر: " ذو بطن، بنت خارجة، أُراها جارية " رضي الله عنهم أجمعين.
(4) ورواه البيهقي (6/ 172) من طريق ابن وهب عن مالك وغيره. تلخيص الحبير: (3/ 72 1328).
(4) في الأصل: فما.

(8/412)


وكان شيخي لا يعرف هذا، وينزل الهبة منزلة البيع. وقد أجرى هو وغيره قولين في هبة الغائب، كما أجروْهما في بيع الغائب، وسنذكر في باب العمرى والرقبى أن تعليق الهبة باطل، والوصايا تقبل التعليقات، كما سيأتي شرحها، إن شاء الله تعالى.
5838 - وذكر طائفة من أصحابنا في صحة هبة المرهون وجهين: أحدهما - البطلان؛ قياساً على البيع.
والثاني - الصحة، ومعناه البناء على الانتظار، فإن بِيع الرهنُ في حق المرتهن، تبيّنا بطلانَ الهبة. وإن انفك الرهن، فالخِيرَةُ إلى الراهن الواهب. فإن أقبض، حصل الملك.
وهذا على ضعفه يتجه بشيء، وهو أن الهبة لا تُعقب الملك في وضعها؛ فإن صادفت مرهوناً، لم يبعد الانتظار فيها؛ فإن القبض المملّك منتظَرٌ، وهذا يجرّ خبطاً (1) عظيماً، ويُلزم تصحيحَ الهبة في الآبق، وما لا يقدر عليه في الحال.
ويجوز أن ينفصل عن الآبق؛ فإنه غير مقدورٍ عليه، والراهن قادر على فك الرهن بأداء الدين.
5839 - ومما يتصل بما نحن فيه القول في هبة الدين. (2 ونحن نقدم عليه تفصيل القول في بيع الدين، وقد قدّمتُ -فيما أظن- قولين في بيع الدين 2) من غير مَنْ عليه الدين، وغرضنا الآن تفصيل القول في الهبة. فإن حكمنا بصحة بيع الدين، ففي صحة هبته وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يصح هبة الدين، فإن ما يصح بيعه، يصح هبته.
والثاني - لا يصح هبته؛ فإن الهبة تفتقر إلى القبض، والدين لا يتصور قبضه وهو دين.
فإن قلنا: لا تصح الهبة، فلا كلام.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): يخرج خبلاً.
(2) ما بين القوسين ساقط من (د 1)، (ت 3).

(8/413)


وإن قلنا: تصح، فهل يفتقر انبرامها إلى قبض الدين واستيفائه، حتى تكون الهبة جائزةً (1)، يبطلها الواهب قبل القبض الحسي؟
قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا بد من القبض في الانبرام، وهو قياس الهبات.
والوجه الثاني - أنه لا يفتقر إلى القبض المحسوس، بل تنبرم الهبة قبل استيفاء الدين.
ثم من أصحابنا من قال: تنبرم بنفس الإيجاب والقبول، ومقصود هذه الهبة أن يصير المتَّهب بعد الهبة كالواهب قبل الهبة، ومعلوم أن الواهب كان يستحق الدين في الذمة من غير قبض، فعلى هذا تنزل هبة الدين منزلة الحوالة، وهذا لا بأس به، وقد ذكره العراقيون على قريبٍ من الوجه الذي ذكرناه حكاية عن صاحب التقريب.
ومن أصحابنا من قال: لابد من تسليطٍ بعد الهبة، وهو في حكم الإقباض بالقول، فتنعقد الهبة بالإيجاب والقبول، ثم يقول الواهب بعدهما دونك والدين، فاستوفه، فقد سلطتك عليه، ويضاهي هذا التخلية في الأعيان التي لا تقبل النقلَ.
5840 - وخرّج صاحب التقريب التصدقَ بالدين، حتى يقع عن الصدقة المفروضة إذا نواها- على هذا القياس؛ حتى إذا صحَّحْنا الهبة من غير استيفاء، قلنا على ذلك: لو كان مال الرجل ديناً، فتصدق بشيء منه على مستحقِّي الزكاة، وقع ذلك موقع الاعتداد والاحتساب. ولو كان له على مسكينٍ دينٌ، فوهبه منه عن حساب الزكاة، لم يقع الموقع؛ فإن هذا إبراء، وليس بتمليك على الحقيقة، وتنزيل الإبراء منزلة التمليك من باب الإبدال في الزكوات، ولا مساغ لها عند الشافعي. وقد قيل: إن أبا حنيفة رحمة الله عليه يمنع ذلك، مع توسّعه في إقامة غير المنصوص عليه مقام المنصوص عليه.
5841 - ومما يتصل بذلك رهن الدين، وقد قدمنا في كتاب الرهن منعه، وهو الأصل، ولكن خرّج الأصحاب الرهن على الهبة فقالوا: إن منعنا الهبة، منعنا
__________
(1) "جائزة": أي غير لازمة: أي هي حينئذٍ عقدٌ جائز.

(8/414)


الرهن، وإن صححنا الهبة، لم يمتنع تصحيح الرهن. ولكن الوجه الذي ذكرناه في انبرام الهبة قبل الاستيفاء المحسوس لا يخرّج في الرهن، ولا يتجه فيه إلا اشتراط الاستيفاء، فإن المقصود من الرهن التوثق بالعين، وهذا لا يحصل فيما ليس مقبوضاً حسّاً، فصحة الرهن بتأويل انعقاده، ووقوف انبرامه على القبض المحسوس يخرّج على بعد.
***

(8/415)


باب العمرى والرقبى
5842 - هذه اللفظة استعملتها العربُ في الجاهلية قبل المبعث، ونحن نذكر صيغتها ومعناها، ثم نذكر حكمها.
فإذا قال الرجل: أعمرتك هذه الدار ووهبت (1) منك عمرك، أو ما بقيت، فهذه صيغ العمرى. ومعناها أن الموهوب يكون للمعْمَر ما بقي، فإذا مات، لم يخلفه الوارث، ولم يقم مقامه. هذا معنى اللفظ، وكانت العرب تعنيه (2) وتريده، وتبني (3) النحلةَ على رجوع الموهوب إلى الواهب إذا مات المتَّهب.
فإذا بأن اللفظ ومعناه، عدنا إلى ترتيب حكم الشرع فيه.
5843 - والترتيب القريب أن نقول: إذا قال: أعمرتك، أو وهبت عمرك، أو ما بقيتَ، ولم يتعرض لقطع الملك عن ورثته، ولا استمرار الملك عليهما، ففي المسألة قولان: أصحهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الهبة تصح. وقال الشافعي في القديم: لا تصح الهبة.
توجيه القولين: من قال: لا تصح، فوجهه بيّن في القياس؛ فإن الهبة قياسها أن تقتضي ملكاًً يقتضي البيعُ مثلَه، وحكم الملك المستفاد من البيع أن يطّرد على الوارث، واللفظ لا يعطي هذا المعنى في الهبة، فينبغي أن تبطل.
ومن نصر القول الجديد، فمعتمده الخبر، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله
__________
(1) (د 1)، (ت 3): ووهبتك.
(2) تعنيه: أي المعنى.
(3) (د 1)، (ت 3): تبغي.

(8/416)


عليه وسلم: جعل العمرى للوارث (1). وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: " لا تُعمروا ولا تُرقبوا، فمن أعمر شيئاً، أو أرقبه، فسبيله الميراث " (2).
فإن تعلق ناصر القول القديم بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإعمار والإرقاب، قيل له: هذا محمول على طريق المشورة، وحاصله لا تعمروا، وأنتم تبنون الأمر على أن الموهوب يزجع عليكم، واعلموا أن سبيله الميراث.
التفريع على القولين:
5844 - إن حكمنا بفساد الهبة، فلا كلام، وهي لاغية، وملك الواهب باقٍ، وإن
اتصل بالإقباض.
وإن حكمنا بأن الهبة صحيحة، فالأصح أن ما في اللفظ من التعرض للتخصيص بالعمر باطل، والهبة مؤبدةٌ، والملك مسترسل على الورثة إذا مات المتَّهِب المُعْمَر.
وحاصل هذا القول يرجع إلى تصحيح الهبة وإبطال مقتضى اللفظ في تضمين التخصيص والتأقيت، والمعتمد فيه الخبر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " فسبيله الميراث ".
5845 - وللشافعي قولٌ في القديم: إن الهبة تصح، وتقتضي الملك متقيداً بحياة المتَّهب، وإذا مات، رجع إلى الواهب.
وهذا وإن كان مشهوراً، فهو مختلٌّ جداً؛ فإن المعتمد الخبرُ، ومقتضاه طرد الملك على الورثة.
__________
(1) حديث: " العمرى ميراث لأهلها " رواه مسلم عن جابر وأبي هريرة: الهبات، باب العمرى، 3/ 1248، ح 1625، 1626. وأحمد عن سمرة: 5/ 8، 13، 22. وعنه أيضاًً الترمذي: الأحكام، باب ما جاء في العمرى، 3/ 623، ح 1349. وابن حبان عن زيد بن ثابت بنحوه: 7/ 292 حديث: 5110. وانظر التلخيص: 3/ 156 ح 1358.
(2) حديث " لا تعمروا، ولا ترقبوا ... " رواه الشافعي: 2/ 168 (السندي) وأبو داود: البيوع، باب من قال فيه ولعقبه 3/ 293، ح 3556. والنسائي: العمرى، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر جابر في العمرى 6/ 273، ح 3731. والبيهقي في الكبرى: 6/ 175 ومعرفة السنن والآثار: 9/ 58، ح 12344 (كلهم من حديث جابر). وانظر التلخيص: 3/ 156، ح 1359.

(8/417)


ثم تفريع القديم على الجديد لا يحسن في نظم المذهب، والأحسن أن نقول: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الهبة تصح، ويطّرد الملك على الورثة، ولا مبالاة فيما في اللفظ من معنى الإشعار بتخصيص الملك بعُمر المتهب.
والقول الثاني - أن الهبة تفسد.
والقول الثالث - أنها تصح، والملك مقصور على عُمر المتهب. وهذان القولان نص عليهما في القديم، وكل ما ذكرناه فيه إذا قال: أعمرتك هذه الدار، أو وهبتك هذه الدار عمرك.
5846 - ووراء هذه الصورة صورتان: إحداهما - أن يقول: أعمرتك ما بقيتَ، فإذا متَّ، فلورثتك.
والأخرى - أن يقول: فإذا متَّ، انصرف إليَّ الموهوب ملكاً. فإن قال: وهبتك عمرك، والموهوب [بعدك] (1) لورثتك، فالهبة صحيحة، لا خلاف في صحتها، ويستوي في الحكم بالصحة الجديدُ، والقديمُ؛ فإنه صريح بتأبيد الملك، وتثبيته على حكم الاطراد.
فأما إذا قال: وهبتك عمرَك، فإذا متَّ، رجع إليّ الملك في الموهوب، فلا شك أن هذا باطل على المذهب القديم، إذا رأينا إبطال الإعمار المطلَق، فإن رأينا في الترتيب القديم تصحيحَ العُمرى، وتخصيصَ الملك بعمر المتَّهِب، فالهبة صحيحة، على هذه القضية، والملك فيها مقصور على عمر المتَّهِب. وهذا التقييد عند هذا القائل تصريحٌ بما يقتضيه مطلق الإعمار.
فأما إذا فرعنا على القول الجديد، وقلنا: الإعمار المطلق صحيحٌ، والملك مسترسل على الورثة، وما في اللفظ من معنى التخصيص باطل.
فإذا جرى اللفظ مقيداً بالرجوع إلى الواهب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا يبطل لما فيه من التصريح بالتأقيت. وهذا القائل يقول: الإعمار المطلق
__________
(1) زيادة من (د 1)، (ت 3).

(8/418)


لا تأقيت فيه؛ فإنه إذا ذكر الملك في عمر المتهب، فقد تناهى في تأبيد الملك؛ فإن أقصى ما يمتد فيه ملك المالك عمرُه. ثم إذا ثبت هذا، فالإرث بعد انقضاء العمر فرعُ هذا المقتضَى. ولم يجر له ذكرٌ بنفيٍ ولا إثبات. فهذا وجه.
والوجه الثاني - أن الهبة لا تفسد؛ فإن ما صرح بهِ من التأقيت هو مقتضى الإعمار المطلق، فإذا ثبت أن الهبة تصح بلفظ الإعمار، فينبغي أن تصح، وإن قُيّدت بالتأقيت، فالشرط إذاً باطل، والهبة صحيحة.
5847 - ومما يتصل بتفصيل المسائل أنه إذا قال: وهبتك عُمْرَ زيدِ، وذكر رجلاً غيرَ المتَّهِب، أو قال: وهبتك عمري، أو ما بقيتُ، والتفريع على الجديد، وقد تبين ميله إلى التصحيح، فالمذهب الظاهر أن الهبة تفسد؛ فإنها ما أضيفت إلى عمر المتَّهب، حتى يقال: تقديرها ملكتك على أقصى ما يتصور ملكك، واللفظ حائد عن اللفظ المعهود [في الباب] (1)، ومعتمد التصحيح الخبرُ، وهو محمولٌ على الصيغة المعروفة.
وذكر الشيخ والعراقيون وجهاً آخر: أن الهبة تصح على الجديد، ويفسد التأقيت ولم يصر أحد ممن يُحتفل به إلى الحكم بالصحة، مع الوفاء بموجب الشرط، حتى يقال: يثبت الملك مختصاً بالعمر المذكور، حتى إذا مات زيدٌ، الذي ذكر عمرَه قبل موت المتَّهب يرجع الملك إلى الواهب المُعْمِر، ولكن يتأبد الملك بعد موته للمتهب، ثم لورثته بعده، فيؤول الخلاف إلى أن الشرط الفاسد هل يُفسد الهبةَ أم يُطّرح الشرط، ويحكم بصحة الهبة مؤبدةً على خلاف الشرط؟
5848 - ولو قال: وهبت منك داري هذه سنةً، أو يوماً، فهذا خارج على الخلاف الذي ذكرناه؛ إذ لا فرق بين تقييد الملك بعمر غير المتهب، وبين تقييده بالوقت الصريح، فيخرَّجُ على الجديد وجهان: أحدهما - أن الهبة فاسدة، وما جاء به إعارةٌ بلفظٍ فاسد.
__________
(1) ساقط من الأصل.

(8/419)


والوجه الثاني - أن الشرط محذوف، والهبة في نفسها متبعة على حكم التمليك المؤبد.
5849 - وينشأ من هذا المنتهى جريان الخلاف في تصحيح الهبة، وإبطال الشرط الفاسد، ثم خصص بعض أصحابنا هذا الخلافَ فيما يتعلق بالوقت.
وقال قائلون: كل شرطٍ فاسد مذكورٍ في عقد الهبة، فهو خارج على الاختلاف، حتى نقول في وجهٍ: يفسد الشرط، وتصح الهبة على موجب الشرع، حتى لو قال وهبت منك عبدي هذا على [ألا تبيعه] (1) إذا قبضته، ولا تتصرف فيه، أو ما جرى هذا المجرى، فهذه الشرائط منحذفة، والملك حاصلٌ للمتَّهِب.
وهذا القائل يفصل بين الهبة وبين البيع، ويقول: الشرائط التي تذكر في البيع تُصيِّر الثمن -الذي هو ركن البيع- مجهولاً، وجهالة الثمن تُفسد البيع، ولا عوض في الهبة.
فهذا وإن نقله الأئمةُ حَيْدٌ عظيم، وإبعادٌ ظاهر، وسببه تصحيح الإعمار، وقد حكينا في كتاب البيع قولاً غريباً، عن صاحب التقريب، ردّده مراراً: أن الشرط الفاسد ينحذف في البيع، ونحكم بصحة البيع، (2 وذلك غير معتدٍّ به من أصل المذهب. وليس ما حكيناه في الهبة ذلك القول 2)، وإنما هو محكي مع الفرق بين الهبة والبيع.
هذا مجموع القول في العمرى، مع ما يتعلق بأطرافها.
5850 - فأما القول في الرقبى فنذكر لفظها، وما كان يريده من يُطلقه، ثم نذكر حكمَ الشرع على ترتيبنا في العمرى.
فلفظ الرُّقبى أن يقول: وهبت داري هذه على أنك إن متّ قبلي، رجعت إليّ، فإن متُّ قبلك، استقر ملكُك.
وسُمِّي هذا النوعُ رقبى؛ لأن كلّ واحد منهما يرقب موت صاحبه، فالمتّهِب يرقب
__________
(1) في الأصل: أن تبيعه.
(2) ما بين القوسين ساقط من (د 1)، (ت 3).

(8/420)


موتَ المُرقِب ليستقر ملكه، والمُرقِب ينتظر موت المتَّهِب ليرجع الملك إليه.
هذا بيان اللفظ ومعناه عند أهله.
5851 - والحكم فيه إلحاقُ هذا اللفظ بما إذا قال: أعمرتك، أو وهبتك عمرك، وإذا مت، رجع إليّ، وقد ذكرنا في هذه الصورة طريقين للأصحاب. وقوله: فإن مت، استقر لك الملك لا يتضمن مزيد فساد، ولا يؤثر أصلاً، وإنما النظرُ إلى تصريحه برجوع الملك في الموهوب إليه عند تقدير موت المتّهِب في حياته.
فهذا تفصيل القول في العمرى [والرقبى] (1).
5852 - ووراء ما ذكرناه فرعٌ نذكره ينتجز به مقصود الباب.
وهو أنه إذا قال: أعمرتك داري هذه، أو وهبتكها عمرك، وقلنا: تصح الهبة، ويثبت الملك متقيداً بعمر المتَّهِب، فلو مات المُعْمِر الواهب قبل موت المتَّهِب، فلو قدرنا رجوع الملك، فكان يرجع إلى ورثة المعمر. وهذا فيه استبعاد؛ من جهة أنه ثبوت ملكٍ للورثة ابتداء فيما لم يملكه الموروث في حياته، ولكن ما يقتضيه قياس هذا القول أنه يرجع إلى ورثته بحكم شرطه، ويكون كما لو نصب شبكة في حياته وتعقَّل بها صيدٌ بعد موته، فالملك يحصل في الصيد للورثة.
والصحيح أنه تركة تُقضى منه الديون والوصايا، فإن حمل [حامل] (2) حصولَ الملك للورثة على حصول الملك لهم في الشبكة، كان ذلك غيرَ صحيح؛ إذ لا يمتنع فرضُ تسبب قوي يقصد مثله من غير تقدير ملك، وذلك بأن يحتفر حفيرة على مدارج الصيود، ولا يَقصد تملكها (3)، فالصيد الواقع فيها للورثة، ولا ملك لهم في الحفيرة.
وقد يتكلف متكلف فيقول: صار الحافر أولى بالحفيرة من غيره، وهذا الحق
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) تملكها: الضمير يعود إلى الحفيرة، لا إلى الصيود، كما قد يتوهّم، وذكر الحفيرة غير المملوكة مثالاً للسبب، حيث يردّ قول من قال: إن الملك يحصل للورثة لملكهم الشبكة، فأراهم أن الصيود يحصل ملك الورثة فيها بحفيرة غير مملوكة.

(8/421)


ينزل إلى ورثته. والذي عليه التعويل ما قدمناه من كون الصيد من جملة التركة.
5853 - ومما يتعلق باستقصاء الكلام في ذلك أنا إذا أثبتنا الملكَ للمتَّهب، وقيدناه بعمره، فلو باع ما ملكه، ثم مات، والعين مبيعة، فهذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: لا ينفد بيعُه؛ فإن مقتضى البيع -إذا صح- التأبيدُ، وهذا لا يسعه الملك المؤقت، وليس له أن يملّك غيرَه ما لا يملكه في نفسه. فإذن له الانتفاع، وله وطء الجارية التي جرى الإعمار فيها، وليس له أن يبيع.
ويجوز أن يقال: بيعه نافد محمول على التأبيد الذي يقتضيه البيع، وهو بمثابة ما لو علَّق عتقَ عبده بمجيء الغد، ثم إنه لم يجر بيعه قبل الوقت الذي هو متعلق العتق، فالبيع ينفذ، ويتعطل العتقُ، وتعليقُه. ولو لم ينفد البيع في مثل الإعمار، لما كنا مثبتين للمتَّهِب ملكاً.
5854 - ولعل الأصح منعُ صحة البيع؛ فإن من علق عتق عبده لا يقال: تأقت ملكه، بل ملكه على التأبد الذي كان. والتعليق مشروط بألا يتقدم على وجود الصفة ما يتضمن دفعَ العتق عند وجود الصفة. والملكُ مؤقت في عمر الإنسان إذا فرّعنا على القول الذي انتهينا إليه.
وإذا خرج أصلٌ عن قانون القياس، فكلما كثرت الفروع، ازداد الفرعُ بعداً.
***

(8/422)


[باب عطية الرجل ولده] (1)
5855 - الأصل أن الهبة إذا صحت وأفادت ملكاً عند القبض، فالملك يطرد ولا يتطرق إليه إمكان القبض؛ فإن الملك يتم، ويتسلط المتّهِب على سائر جهات التصرفات، ومبنى الهبة على أنها إذا اقتضت ملكاًً، انقطعت فيها علائق العقود؛ إذ لا يتطرق إليها ردٌّ بعيب، ولا تفاسخٌ على الرضا على موجب الإقالة في البيع، فالذي يقتضيه الأصل ألا يرجع واهبٌ فيما وهب، غير أنا (2) نثبت للأب الرجوع فيما وهبه لولده.
والأصل في الباب ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يحل لواهب أن يرجع في هبته إلا الوالد فيما وهب لولده " (3) وروى الشافعي حديثَ النعمان بن بشير إذ رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام، فقال: " أنَّى لك هذا؟ " فذكر أن أباه بشيراً أنحله إياه، فقال صلى الله عليه وسلم لبشير: " أنحلت سائر ولدك مثل هذا؟ " فقال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: " أيسرُّك أن يكونوا في البر إليك سواء "، فقال: نعم، قال: " فارجعه ". وروي " فاردده " (4). فثبت أن رجوع الواهب فيما وهب لولده في حكم المخصوص بتخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم الكلام يتعلق بثلاثة فصول: أحدها - فيمن يثبت له حق الرجوع.
والثاني - في وقت الرجوع.
والثالث - فيما يقع الرجوع به.
__________
(1) في الأصل: فصل. واخترنا هذا لما سيأتي قريباً من تفصيله هذا الباب إلى ثلاثة فصول.
(2) (د 1): لا نثبت.
(3) سبق تخريج هذا الحديث آنفاً.
(4) حديث النعمان بن بشير متفق عليه بنحو هذا اللفظ (اللؤلؤ والمرجان: 398، ح 1048، 1049).

(8/423)


[الفصل الأول] (1)
5856 - فأما القول فيمن يرجع، فحاصل ما ذكره الأصحاب أربعة أوجه: أحدها - أن الرجوع يختص بالوالد إذا وَهَب من ولد صلبه، ولا يثبت للأم، ولا للأجداد والجدات.
ومعتمد هذا الوجهِ، ما مهدناه من خروج الرجوع عن القياس، ووجوب اتباع النص وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لواهبٍ أن يرجع فيما وهب إلا الوالد "، فخصص الرجوع بالوالد، فيجب اختصاصه به.
5857 - والوجه الثاني - أن الأم تَشْرك الأبَ في الرجوع إذا وَهَبت؛ فإنها في معناه، والولد ولدهما، وانتسابه إلى الأب ظاهر، واتصاله بالأم من جهة الولادة مستيقنٌ.
ثم هذا القائل يقول: حق الرجوع [لا يعدوهما إلى الأجداد والجدات، ووجه هذا الوجه أن الوالد يثبت حق الرجوع] (2) له بالنص، والتحقت الأم به التحاق الجارية بالعبد في قوله صلى الله عليه وسلم: " من أعتق شِرْكاً له في عبد قُوّم عليه " (3).
5858 - والوجه الثالث - أن حق الرجوع يثبت للأصول فيما وهبوا لفصولهم، ولا فرق بين الأبوين وبين الأجداد والجدات، وبين من يلي منهم، وبين من لا يلي، وبين من يرث، وبين من لا يرث.
وهذا القائل ينحو بهذا الحق نحو القصاص؛ فإنه لا يجب على أصلٍ بقَتْل من ينتمي إليه بجهة الولادة بدرجة، أو درجات.
5859 - والوجه الرابع - أن حق الرجوع يثبت للأب، ولكل أصلٍ يتصور أن يكون
__________
(1) العنوان من عمل المحقق، رعايةً لتقسيم المؤلف.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(3) حديث من أعتق شركاً له في عبد ... متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 364، 412، ح 958، 1082).

(8/424)


له ولاية على الذي وَهَب منه بالقرابة. فهذا إذن يختص بالوالد، والأجداد المتّصلين به إذا كانوا ورثة، وصاحب هذا لا يخصص حقَّ الرجوع بحال قيام الولاية؛ فإن الهبة قد تكون من الابن (1) البالغ الرشيد، وقد يكون الأب أو الجد فاسقين غيرَ صالحين للولاية، فلا نظر إلى ثبوت الولاية وتحققها، وإنما النظر إلى كون الواهب صالحاً للولاية على الموهوب منه على الجملة إذا تجمعت الأسباب التي تقتضي قيامَ الولاية.
5860 - ولا شك أن الأولاد لا يرجعون فيما وَهبوا لأصولهم. ومن يقع على جانبٍ من عمود النسب لا يرجع إذا وَهَب وأقبض. وكذلك القول في الأجنبي إذا وهب وأبرم هبته بالقبض.
فهذا تمام المقصود فيمن يملك الرجوع، وفيمن لا يملكه.
والفصل الثاني
معقود في الأوقات التي يثبت فيها الرجوع.
5861 - فنقول: إن بقي المتهب، وبقيت العين الموهوبة، واستمر الملك المستفاد بالهبة، فيثبت حق الرجوع، ثم إن كانت العين الموهوبة غيرَ متغيرة عن صفتها الثابتة لها حالةَ القبض، فلا كلام.
وإن تغيرت صفتها بنقصانٍ وعيب، فللواهب الرجوع فيها، على ما هي عليها من الصفات، ولا رجوع له بأرش النقص؛ فإن العين الموهوبة لو تلفت، لم يجد الواهب رجوعاً بشيء إجماعاً، فنقصان الصفة يؤخد من المأخد الذي يُتلقَّى منه فوات الموصوف.
5862 - وإن زادت العينُ الموهوبة، لم تخل الزيادة إما أن تكون متصلة وإما أن تكون منفصلة، فإن كانت منفصلة، فهي متروكة على المتهب مُبقَّاة على ملكه، لا رجوع فيها، وحق الرجوع ثابت في العين الموهوبة.
__________
(1) واضح أن قوله: " من الابن " معناه للابن.

(8/425)


5863 - وإن كانت الزيادة متصلة ككبر الغلام، وإرقال (1) الوديّ، وسِمَنِ الهزيل، وما في معانيها، فهذه الزيادات لا أثر لها، وحق الرجوع قائم في العين على ما هي عليه. ثم إذا رجع في العين تبعتها الزوائد المتصلة، وهذا قياس الأصول.
ولا أثر للزيادة [المتصلة] (2) إلا في الصداق عند تطليق الزوج زوجته قبل المسيس، على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الصداق، إن شاء الله عز وجل.
5864 - ولو وهب جارية حبلى، وبقيت، كذلك إلى أن رجع، فالجارية تنقلب إلى الراجع حاملاً، كما خرجت [في] (3) الهبة والإقباض عن ملكه حاملاً.
وإن كانت حائلاً عند الإقباض، فعلقت، وولدت قبل الرجوع، فالولد متروك على المتَّهِب، وحق الرجوع مختص بالأم.
وإن كانت حاملاً عند القبض، ووضعت قبل الرجوع، أو كانت حائلاً عند القبض، وعلقت بمولود رقيق، واتفق الرجوع قبل وضع الحمل، ففي الطريقين قولان: وقد قدمنا تحقيق ذلك ونظيرَه في الرهون والبياعات، ومسائل التفليس، وكل ما ذكرناه إذا اطرد الشرطان: أحدهما - بقاء المتَّهِب، والآخر - اطراد الملك المستفاد بالهبة.
5865 - فإن مات المتهب، وخلفه ورثته، فلا رجوع بعد موت المتَّهِب إجماعاً؛ فإن الملك تحوّل إلى الورثة، وإنما يثبت الرجوع على الموهوب منه، وهذا يعارضه أن الواهب لو مات، سقط حقه من الرجوع، ولم يخلفه الورثة، ولم يقوموا مقامه.
هذا منتهى ما أردناه.
5866 - وأما اطراد الملك المستفاد من الهبة، فالتفصيل فيه أن ملك المتهب لو زال عن رقبة الموهوب، فلا رجوع على المتهب، إذا كان لا يصادف العينَ الموهوبة في
__________
(1) إرقال الودي: أرقل النخل طال، والودِيّ والوَدْيُ: صغار الفسيل، فالمعنى: كنموّ
الفسائل، حثى تصير نخيلاً (الزاهر، والمعجم).
(2) في الأصل: المفصلة.
(3) زيادة من (د 1)، (ت 3).

(8/426)


ملكه؛ فإن مما يجب القطع به أن حق الرجوع لا يتعلق إلا بعين الموهوب، [فلو] (1) زال ملك المتهب زوالاً، لا يتحقق عوده مثل أن يَعتِق العبدُ الموهوب، فقد انقطع حق الرجوع بالكلية.
ولو استولد الجارية الموهوبة، كان الاستيلاد فيها بمثابة العتق؛ فإن المستولدة في حكم المستهلكة.
5867 - ولو زال ملك المتهب عن الموهوب ببيع أو هبة، ثم عاد، فهل يثبت للواهب الرجوع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع لمصادفة العين الموهوبة ملكاًً، بحيث يتصور التصرف فيه.
والثاني - أنه لا يرجع؛ لأن الملك المستفاد بالهبة قد زال، وهذا ملكٌ جديد، وقد ذكرنا استقصاء القول في ذلك في كتاب التفليس.
5868 - ولو كان وهب عصيراً، فاستحال خمراً، ثم عادت الخمر خلاً، فلا خلاف أن الواهب يرجع، وما تخلل من زوال الملك لا اعتبار به، وسبب القطع بما ذكرناه أن ما تخلل في حكم العارض، فإذا زال، قُدّر كأن لم يكن، والملك على الخل هو الملك الذي كان على العصير، وإنما يختلف الأصحاب إذا زال الملك، ثم حدث عن جهةٍ أخرى.
5869 - ولو ارتد المتَّهِب، ثم عاد إلى الإسلام، فإن قلنا: الردة لا تزيل الملك، فلا أثر لها، وإن قلنا: إنها تزيل الملك، فإذا عاد المتّهِب مسلماً، فالمذهب الأصح أن الرجوع يثبت للواهب وجهاً واحداً، قياساً على انقلاب العصير خمراً، ثم انقلابها خلاً.
ومن أصحابنا من يُلحق مسألة الردة بصور الخلاف، ويقول: هي بمثابة ما لو زال ملك المتهب، ثم عاد بهبةٍ أو غيرها من الجهات الضرورية، أو الاختيارية.
5870 - ومما يجب الاعتناء بدركه تفصيلُ القول في العوارض التي لا تتضمن زوال
__________
(1) في الأصل: ولو.

(8/427)


الملك، ولكنها تتضمّن الحجر، كالرهن المبرم بالقبض، والكتابة (1) الصحيحة، فلا شك أن الراهن يمتنع عليه التصرف في المرهون على حسب ما كان يتصرف من قبل، وكذلك القول في الكتابة، ولكن الملك قائم فيهما.
5871 - فنقول: أما إذا رهن المتّهِب العبدَ الموهوب، وأقبض، فنتكلم في استمرار الرهن. أولاً: قال علماؤنا: قد ذكرنا وجهين في أن هبة المرهون على التقدير الذي أوضحناه من قبلُ هل تصح؟ فإن حكمنا ببطلان هبة المرهون، وهو المذهب والقياس، فلا يصح الرجوع من الواهب مع استمرار الرهن.
وإن قلنا: هبة المرهون تصح، فلو رجع الواهب في المرهون، صح رجوعه. ثم ليس المعنيُّ بصحة الرجوع أن الواهب يتسلط على الرهن بالإبطال، فلا سبيل إلى إبطال حق المرتهن، ولكن فائدة تصحيح الرجوع حملُ الأمر على الوقف، فإن مست الحاجة إلى بيع الرهن في دين المرتهن بيعَ فيه، وتبيّن بطلان الرجوع، وإن انفك الرهن، تبيّنا أن الرجوع صح، واكتفينا بما [جرى] (2) من الرجوع حالة استمرار الرهن، ولم نحوج الواهب إلى تجديد الرجوع، هذا فائدة تصحيح الرجوع في استمرار الرهن.
5872 - ولو بيع الرهن، فلا مطمع في إثبات حق الرجوع للواهب [بقيمة] (3) الموهوب على المتهب؛ فإنه برهنه تصرف في ملكه، ولا معترض عليه، فلئن أراد الراجع الرجوع بعد لزوم الرهن، فرجوعه موقوف على إمكان الاسترداد، فإذا لم يتفق التمكن منه، فلا معترض على المتهب، وليس المتهب على عهدة وعلقة ضمانٍ بسبب الرجوع من الواهب.
5873 - وإن قلنا: لا يملك الواهب الرجوع في العين المرهونة، فإذا انفك الرهن، فالذي يجب القطع به أنه يرجع الآن؛ فإن الملك لم يتحول، وليس ملك
__________
(1) الكتابة الصحيحة: يريد مكاتبة السيد عبده.
(2) في الأصل: جاء.
(3) في الأصل: في قيمة الموهوب.

(8/428)


المتهب بعد انفكاك الرهن ملكاًً جديداً، فكان بمثابة انقلاب العصير، وانقلاب الخمر، بل ما ذكرناه في الرهن أوضح؛ لأن ملك المتهب كان [دائباً] (1) دائماً على العين المرهونة، وإنما طرأ حجرٌ، ثم زال، ولو استحال العصير الموهوب خمراً، لم تكن الخمر مملوكة، ثم لما انقلبت خلاً، ثبت الملك، (2 ثم قضينا بثبوت حق الرجوع؛ مَصيراً إلى أن ملك الخمر سببه ملك 2) العصير. وغلط بعضُ الأصحاب فقال: إذا قلنا: لا يرجع الواهب في استمرار الرهن، فلو انفك الرهن، ففي ثبوت حق الرجوع وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا زال الملك [عن] (3) الموهوب وعاد.
ولعل هذا القائل يظن فرقاً؛ من جهة أن التصرف بالرهن، ثم السعي في الفك يتعلق بالاختيار، بخلاف الانقلاب الجاري في العصير.
وهذا [عري] (4) عن التحصيل، فلا [يقعن] (5) به اعتداد، مع القطع بأن الملك بعد الانفكاك -ملكَ الهبة (6) - لم ينقطع. هذا قولنا في الرهن.
5874 - فإما إذا كاتب المتهبُ العبدَ الموهوب، كتابةً صحيحة، فالمذهب منعُ بيع المكاتب، فعلى هذا يمتنع الرجوع. وليس يخرّج إمكان الرجوع إلا على التردد الذي ذكرناه في أثناء الرجوع في المرهون، على تأويل التوقف والانتظار، حتى إذا عجز المكاتَب، أو عجَّز نفسه، فيتبيّن أن الرجوع صحيح. وهذا على نهاية البعد.
وما عندي أن من يجوّز هبة المرهون على انتظار الانفكاك يجوّز هبة المكاتب إذا منعنا بيعه؛ فإن الملك في المرهون غيرُ ناقصٍ، ولكن الراهن محجور عليه، والملك في المكاتب ناقص.
__________
(1) دائباً: أي ملازماً مستمراً، وقد حرّفت في الأصل إلى (دابيا) وسقطت من (د 1)، (ت 3).
(2) ما بين القوسين سقط من (د 1).
(3) في الأصل، بين، وفي (د 1)، (ت 3): على.
(4) في الأصل: يجري.
(5) في الأصل: يقص.
(6) " ملك الهبة " بدل من قوله: "الملك" و" لم ينقطع " خبر لقوله: " بأن الملك "، فالمعنى: مع العلم بأن ملك الهبهَ -بعد انفكاك الرهن عنها- لم ينقطع.

(8/429)


5875 - وإن جوزنا بيع المكاتب على قولٍ بعيد، فالبيع فيه لا يتضمن نقض الكتابة ويؤول [فائدته] (1) إلى نزول المشتري منزلة البائع في قبض نجوم الكتابة واستحقاقِها، فالبيع وارد على الرقبة والفائدة عائدة إلى النجوم، فعلى هذا التأويل لوْ أراد الواهب الرجوع، تطرق الاحتمال إليه، من جهة أنه في التحقيق راجع في النجوم ويمكن أن يقال: يصح رجوعه نظراً إلى مورد [النجوم] (2)، وهو الرقبة.
5876 - ولو عجّز المكاتب نفسه وانقلب رقيقاً، وقد قدرنا صحة القول بالرجوع، وقع الاكتفاء بالرجوع السابق، كما ذكرناه في [المرهون] (3).
5877 - ولو آجر المتهب العبدَ الموهوبَ، فإن قلنا: المستأجَر يباع، فيصح من الواهب الرجوع في عينه، والإجارة باقية إلى منتهى مدتها.
ولو قلت: لا يصح بيع المستأجر، وصححنا الرجوع في المرهون، على تقدير التوقف وانتظار ما يكون، فيصح الرجوع في العين المكراة، ولا حاجة إلى تقدير [التوقف] (4) وليس إلا تمكين المستأجِر من استيفاء حقه من المنافع، وملك الراجع مستقر في رقبة المستأجَر، وإن منعنا الرجوع في [المرهون] (5)، أمكن أن نتردد في الرجوع في المستأجَر، لاطراد الملك فيه، واختصاص حق المستأجِر بالمنافع.
5878 - ويخرّج على هذا تردد فيه إذا وهب عبداً وأقبضه، ثم أبق من يد المتهب، فرجع الواهب في دوام الإباق، ففي صحة رجوعه احتمالٌ ظاهر، وإن كنا نقطع على هذا الطريق بإبطال هبة العبد الآبق؛ فإن الهبة تمليك، فيجوز أن تستدعي قدرة [المالك] (6) على التسليم، والرجوعُ وإن كان تملكاًً جديداً، فهو جارٍ على مذهب
__________
(1) في الأصل: حرّفت إلى (فالدّية).
(2) في الأصل: الرجوع.
(3) في الأصل: الرهون.
(4) في الأصل: الوقف.
(5) في النسخ الثلاث: " الملك " وهذا تقدير منا نرجو أن يكون صواباً.
(6) في الأصل: المستأجَر.

(8/430)


البناء، ولا يتوقف عَوْدُ ملك الراجع [على] (1) قبضه ما رجع فيه وحصول الملك في ابتداء الهبة يتوقف على إقباضِ الواهب.
فهذا منتهى القول في الأحوال التي تطرأ على الموهوب فيما يتعلق بحق رجوع الواهب.
فأما
الفصل الثالث
فمضمونه ما يقع الرجوع به من الألفاظ والتصرفات.
5879 - فأما الألفاظ، فكل ما يعطي معنى الرجوع، فهو جارٍ صحيحٌ، فإذا قال: رجعت فيما وهبت أو استرجعته، أو نقضتُ ملكك فيه، أو رددته إلى ملكي، فكل ذلك رجوع.
5880 - فأما إذا أقدم الواهب على تصرفٍ يستدعي ملكَ المتصرف فيه، كالبيع والعتق، فحاصل المذهب أوجه: أحدها - أن البيعَ والعتق ينفذان من الراجع، ويتبين انقلابُ الملك إليه قُبَيْل نفود التصرف.
ومن أصحابنا من قال: لا ينفد البيعُ والعتقُ. وهو الأصح؛ فإن ملك المتَّهِب تامٌّ، فلا يجوز الهجومُ على التصرف فيه من غير تقديم الرجوع.
والوجه الثالث - أن العتق ينفد متضمناً للرجوع، والبيعُ لا ينفذ، والفرق بينهما اختصاص العتق بسلطان النفود عن البيع.
5881 - ولو وطىء الواهب الجارية الموهوبةَ، فلا شك في تحريم الوطء، وإن قصد به الرجوع؛ لاستحالة إباحة وطء الجارية لشخصين. ولا خلاف أن المتهب يستبيح وطأها قبل الرجوع؛ فتجويز الإقدام على الوطء في حق الواهب محال. ولكن إذا جرى الوطء حراماً، فالمذهب أنه لا يصح الرجوع به؛ فإنه تصرفٌ ممنوع، وليس
__________
(1) في الأصل: إلى.

(8/431)


كالبيع والعتقِ، إذا جعلناهما رجوعاًً؛ فإنا نسوِّغ الإقدام عليهما.
وأبعد بعض أصحابنا فجعل الوطء رجوعاً، كما أنه يقع فسخاً من البائع في زمان الخيار، والأصح أنه لا يكون رجوعاًً.
ثم إذا اتصل بالوطء الإعلاق، فالذي يظهر عندنا القطعُ به أن الاستيلاد لا يكون رجوعاً. فإن حكمنا به لأن نفود استيلاد الأب لا يتخصص بالجارية الموهوبة؛ بل هو جارٍ في كل جارية قِنَّةٍ للابن. فإذا كان حصول الملك بهذه الجهة لا يختص بالجارية الموهوبة، وتقدير الرجوع فيها، فلا (1) أثر له في الرجوع.
وفيه احتمالٌ على بُعْد.
ثم من يقدر الاستيلاد رجوعاً، ففائدته أنه يثبت الاستيلاد، ولا يغرم قيمة الجارية للموهوب منه، وهذا إذا لم نجعل عين الوطء رجوعاً. فإن جعلناه رجوعاً، لم يخف الحكم، ثم إن قلنا: الوطءُ ليس رجوعاًً، وقدرنا الاستيلاد على الاحتمال البعيد رجوعاًً، فالوطء السابق المتقدم [على العلوق] (2) يصادف ملك المتهب، فيتعلق به المهرُ، كما يتعلق بوطء الإنسان جاريةَ غيره.
وقد انتهى غرضُ الفصول، وضبط الأصول، ونحن نُتبعها على عادتنا بفروعٍ.
فرع:
5882 - إذا وهب من ولده شيئاً، [فوهبه] (3) الولدُ من ولده (4)، وأقبض، فالمذهب الصحيح أن الجدّ لو أراد الرجوعَ، لم يجد إليه سبيلاً، إلا أن يعود الموهوب إلى ملك الواهب، فيجري الخلاف الممهد.
وأبعد بعض أصحابنا فجوّز للجد الرجوعَ على الحافد، تفريعاً على الأصح في أن الجد يرجع رجوعَ الأب. وهذا القائل يقول: لو وهب من حافده ابتداءً، لرجع، فليكن الأمر كذلك، وإن لم تصدر الهبة منه في حق الحافد. وهذا ليس بشيءٍ، ولكن أورده العراقيون، وغيرهم، من نقلة المذهب.
__________
(1) جواب شرط، لقوله: فإن حكمنا به.
(2) ساقط من الأصل.
(3) في النسخ الثلاث: فوهب. والمثبت تقدير منا، رعاية لاستقامة المعنى.
(4) (د 1)، (ت 3): "والده". وهو سبق قلم من الناسخ.

(8/432)


فرع:
5883 - إذا أفلس المتَّهب، وأحاطت به الديون والعين الموهوبة قائمة، فهل يثبت للواهب الرجوع؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يرجع ويستردها ملكاًً، كما يرجع البائع إذا أفلس المشتري بالثمن، وليس طريان الإفلاس بمثابة طريان الرّهن من الموهوب منه؛ فإن ذلك تصرّفٌ من قبله في ملكه تضمَّن حجراً عليه، وإثباتَ حقٍّ للمرتهن، بخلاف الإفلاس، والدليل عليه أن المشتري لو رهن ما اشتراه، لم يملك البائع الرجوع منه، ولو أفلس، كان البائع أولى بالرجوع في عين المبيع من سائر الغرماء.
والوجه الثاني - أنه لا يثبت الرجوع للواهب، لتعلق حق الغرماء بالعين الموهوبة، [وليس رجوع الواهب كرجوع البائع؛ فإن للبائع تعلقاً بالبيع، لمكان الثمن، ولا حق للواهب في العين الموهوبة] (1). ورجوعه ابتداء تملُّكٍ أثبته الشارع على خلاف القياس، وشرطه ألا يتعلق به حق متأكد لغير المتهب.
فصل
مشتملٌ على الهبة العرية عن الثواب والهبة المشتملة عليه
5884 - فنقول: الهبة تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها - هبةٌ مقيّدة بإسقاط الثواب.
والأخرى هبة مطلقة لا تعرّض فيها لثبوت الثواب، ولا بسقوطه.
والأخرى هبة مقيدة بشرط الثواب.
5885 - فأما الهبة المقيدة بنفي الثواب، فهي التبرع المحض وفاقاً، ولا ثواب للواهب، مع التصريح بالنفي.
5886 - وأما الهبة المطلقة، فقد أجمعوا على أن هبة الكبير ذي الدرجة ممن هو دونه (2) لا تقتضي ثواباً؛ فإن اللفظ لا يقتضيه، وحكم العرف والعادة لا يقتضيه؛ فإن الكبير لا يستثيب من الصغير.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) واضح أن المقصود إعطاء الكبير لمن هو دونه.

(8/433)


فأما إذا وهب الرجل ممن هو أكبر منه، وأطلق الهبة، ففي المسألة قولان:
أحدهما - أنه لا يثبت الثواب في مطلق الهبة؛ لأن لفظ الهبة مصرَّحٌ بالتبرع، وهو مناقض لاقتضاء العوض.
والقول الثاني - أنه يثبت الثواب حملاً لذلك على العرف الجاري بين الناس، والعرف نازل منزلة التقييد باللفظ.
ولو دارت الهبة بين قرينين متساويين في الدرجة، أو متدانيين، فقد ذكر العراقيون أن الهبة لا تقتضي ثواباً بين الأقران والأمثال، كما لا تقتضيه [إذا كان الواهب] (1) أعلى درجة من المتهب.
والذي ذكره المراوزة أن هذا يلتحق بهبة الرجل الصغير القدر من الرفيع الدرجة؛ فإن الأقران يغلب فيهم طلب الثواب إذا تهادَوْا، والذي اختاره المراوزة أمثل.
5887 - ولم يفصل أحدٌ من أصحابنا بين أن يقول الواهب: وهبت [أو] (2) تبرعت، وبين أن يقول: ملكتك هذا. والهبة تصح بلفظ التمليك، وكان لا يبعد الفصل بين اللفظين، وإلحاق لفظ الهبة والتبرع بما يتقيد بنفي الثواب، بخلاف لفظ التمليك، والاحتمالُ في الفصل بين اللفظين ظاهر، وسيتبيّن بالتفريع.
فإن قلنا: لا يثبت الثواب في الهبة المطلقة، فلا كلام.
5888 - وإن حكمنا بأن الثواب يثبت، ففي قدره أقوال ذكرها الأئمة بطرقٍ (3) مختلفة: أحدها - أن الثواب ينبغي أن يكون على قدر قيمة الموهوب. وهذا أقصد المذاهب وأقربُها من الضبط، ووجهه بيّن؛ فإنه إذا لم يجر لمقدار الثواب ذكرٌ، ولا بد من ضبطٍ يقف عنده، فأقرب معتبر قيمة الموهوب.
والقول الثاني - أنه إن استمسك المتَّهِب بالموهوب، تعين عليه أن يُرضي الواهب، ولا موقف إلا عند رضاه.
__________
(1) سقط من الأصل.
(2) في الأصل: (و).
(3) في الأصل: في طرقٍ.

(8/434)


وقد روي: " أن أعرابياً وَهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً، فأثابه عليه بعيرَيْن، فلم يرض، فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يرض حتى آذى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: عزمت ألا أقبل الهدية إلا من قرشي " (1).
وهذا القائل يقول: بناء ثبوت الثواب على العادة، ولم تجر العادة برضا الواهب بقدر قيمة الموهوب؛ فإنه لو حاول ذلك، تمكن من الوصول إليه بالبيع، ثم لا ضبطَ وراء ذلك إلا طلب رضا الواهب، غير أنه إذا أبى، وكان لا يرضى، فللموهوب منه ردُّ الموهوب، وللواهب الاسترداد قهراً، وهذا يدرأ سؤال من يقول: قد لا يرضى الواهب إلا بمالٍ عظيم القدر، فيقال: وجهُ دفع ذلك ردُّ الموهوب.
القول الثالث - أنه يقع (2) الاكتفاء بأدنى ما يتمول؛ إذ لا تقدير، وليس في العادة أيضاًً ضبطٌ، ولا وجه لتعليق الأمر بالرضا، فنجعل كأن الثوابَ مطلق وننزله على أقل الدرجات.
والقول الرابع - أنه يُرجع في هذا إلى العادة، فكل ما يعدّ ثواباً، وإن كان أنقصَ قيمةً من الموهوب، وجب على الواهب الاكتفاءُ به. وهذا القائل لا يرضى بالأقل، ولا يتبع رضا الواهب، ولا يعتبر القيمة، بل يقول: كل ما يتساهل الناس في مثله في باب الثواب، تعيّن قبوله، ووجب الاكتفاء به.
وهذه الأقوال لا تُلفى منصوصة، وأنا أراها أوجهاً من أجوبة ابن سريج، وليس يخلو كلام الشافعي عن الإشعار بمعظمها.
التفريع:
5889 - إن قدرنا الثواب بمبلغ قيمة الموهوب، فلو أراد المتَّهِب أن يرد الموهوبَ في عينه، فهذا فيه احتمال، ويتجه جدّاً أن يقال: يتعين الثواب؛ فإنه
__________
(1) حديث: " أن أعرابياً وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ... " رواه أحمد: 1/ 295، وابن حبان في صحيحه: 8/ 100، ح 6349، 6350 كلاهما عن ابن عباس. وهو أيضاًً عن أبي هريرة، عند أبي داود: البيوع، باب في قبول الهدايا، 3/ 290، ح 3537، والترمذي: المناقب، باب في ثقيف وبني حنيفة، 5/ 686، ح 3945، والنسائي: العمرى، باب عطية المرأة يغير زوجها، 6/ 279، ح 3759. وانظر التلخيص: 3/ 158 ح 1365.
(2) (د 1): " لا يقع ". وهو وهم من الناسخ.

(8/435)


مضبوط، ويظهر أيضاًً جواز أن يتسلط على الردّ، حتى يقال: لا قرار للهبة إلا بأن يتفق بذلُ الثواب. وإذا رأينا لزوم الهبة، فلو أراد أن يردّ الموهوبَ ثواباًً، فهذا فيه احتمال.
والأوجه ألا يجوز؛ فإنّ هذا ليس معتاداً في الثواب، [وتحويمنا] (1) في أصل الثواب، وتفصيلة على العادة، ولا خلاف أنه إذا أراد الثواب، لم يتعين عليه جنسٌ من الأجناس.
وإن فرّعنا على طلب الرضا، تخيّر الواهب والموهوب جميعاً؛ فهذه هبةٌ جرى القبض فيها، والخيار ثابتٌ في نقضها من الطرفين، وسبب ذلك تطرّق الثواب إلى الهبة وخروجُها عن حقيقة التبرع المحض.
وإن رأينا الاكتفاء بأقل ما يتمول، ففي تخير الواهب احتمال ظاهر، وإذا أثاب بقدر قيمة الموهوب، فلا خيار للواهب على هذا الوجه الذي انتهينا إليه.
وإن فرعنا على اتباع العادة في قدر الثواب، ولم نجزم قولَنا بلزوم قدر القيمة، فإن أثاب بقدر القيمة، فلا خيار، وإن أثاب بما ينقص عن قيمة الموهوب، ولكن يُعتاد مثلُه ثواباً، فالظاهر أنه لا خيار، وإن جرى نزاعٌ في حكم العرف، رفع الأمر إلى الحاكم، ورجع إلى أرباب العرف.
فهذا منتهى ما أردناه الآن في الهبة المطلقة.
5890 - فأما القسم الثالث - وهو تقييد الهبة بالثواب، فلا يخلو الثواب إما أن يكون مقدراً، وإما أن يكون مبهماً.
فإن كان مقدراً، فالأصح الصحةُ. وذكر بعضُ الأصحاب قولاً في الفساد؛ بناءً على أن الهبة المطلقة لا تقتضي الثوابَ، ومصيراً إلى أن الجمع بين الهبة وبين إلزام الثواب تناقضٌ. وهذا وإن كان متجهاً بعض الاتجاه، فهو غريب في الحكاية.
وإذا صححنا وأثبتنا الثواب فقد اختلف أصحابنا في أن ذلك: هبةٌ أو بيعٌ؟ فذهب المحققون إلى أنه بيعٌ في جميع أحكامه، ولا يتوقف ثبوت الملك على الإقباض، ويتعلق به عُهَدُ البيع، واستحقاقُ الشفعة.
__________
(1) في الأصل: وتحويمها.

(8/436)


ومن أصحابنا من قال: هو على حكم الهبة، حتى لا يلزم إلا بالإقباض، ولا تثبت الشفعة فيه.
وهذا بعيدٌ جداً، ذكره بعض المصنفين، ورمز إليه صاحب التقريب وغيره. ولو صح، فلا حيلة في دفع الشفعة أوقعُ (1) منها، فإن معظم الحيل المذكورة في دفع الشفعة تتضمن خطراً على من يتمسك به، كما قررناه في آخر الشفعة. وهذا لا خطر فيه. هذا إذا كان الثواب مُقدَّراً.
5891 - فأما إذا كان الثواب مجهولاً، غير مقدر، فقد اختلف ترتيب الأئمة، فقال قائلون: إن حكمنا بأن مطلق الهبة لا يقتضي ثواباً، فذكر الثواب المجهول يُفسد الهبة، وفي ذكر الثواب المعلوم خلافٌ، كما قدمناه. وإن قلنا: يثبت الثواب في الهبة المطلقة، فإذا ذكر من غير تقدير، صحت الهبة؛ فإنّ ذكره كذلك يضاهي حكمَ الإطلاق، والتصريح بما يقتضيه مطلق العقد غيرُ ضائرٍ.
[و] (2) قال العراقيون لو ذكر ثواباًً معلوماً، ففي صحة الهبة خلاف، [ولو] (3) ذكره مجهولاً، صح؛ تفريعاً على أن الهبة المطلقة تقتضي ثواباً.
فجعلوا إعلام الثواب حيث انتهى الكلام إليه أولى باقتضاء الفساد، وعللوا ذلك بأن إعلامه إخراجُ الهبة عن حيّز بابها، وإلحاقٌ لها بالبيع المحض، وعقد البيع المحض بلفظ الهبة فاسدٌ. فأما الثواب المبهم، فلا يليق بالمعتاد في الهبة.
وقالوا: لما كان التأبيد لائقاً بمقصود النكاح مع الجهل بمنقرض العمر، كان هذا النوع من الجهل شرطاً في صحة النكاح. هذا ترتيبٌ.
وقال قائلون: إعلام الثواب أولى بالتصحيح. وإن ذكر الثواب مجهولاً، فهو أولى بالفساد؛ لأنه لو أُطلق احتُمل الجهل في التوقّع، وإذا ذكر، فقد ألحق بالأعواض، فيجب الوفاء بشرط العوض.
__________
(1) يشير إلى ما جرى عليه بعض الفقهاء من تقدير صورٍ يفترضونها، تمكِّن المشتري من دفع الشفعة عما اشتراه، حتى يخلص له، ويستقر في يده.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: وفي ذكره.

(8/437)


وهذا له وجه. وما ذكره العراقيون أفقه.
فرع:
5892 - قال العراقيون: إذا صحت هبةٌ بثواب وسلم المتّهب الثواب إلى الواهب، فوجد به عيباً. قالوا: له ردّه. فإذا ردّه، استرد الموهوب بعينه، إن كان باقياً، وإن كان تالفاً، ذكروا فيه وجهين: أحدهما - أنه لا يرد العوض، ولا حقَّ له أصلاً؛ فإن الموهوب إذا تلف، بطلت الحقوق فيه، وانقطعت العلائق. والدليل عليه أن الأب إذا وهب لولده شيئاً، وسلمه، فتلف في يده لم يملك الرجوعَ وتغريمَه القيمة.
والوجه الثاني - أنه يرد الثوابَ، ويسترد قيمة الموهوب.
وهذا الذي ذكروه (1) كلامٌ مختلط؛ فإنهم إن فرضوا هذا في الهبة المطلقة، أو في هبةٍ ذُكر فيها ثواب مطلق مجهول، فلا يقع الثواب معيّناً، بل يقع في ذمة المتهب، وسبيل ما وقع في الذمة إذا صادف القابض به عيباً أن يُستبدل، فأما أن يُردّ وتُسترد العين، فلا معنى له. وهذا بيّن لا خفاء به، ولا اتجاه لما ذكروه إلا في الثواب المعين. ولو فرض تعيين الثواب، خرج هذا على ما قدّمناه من أن الهبة تلتحق بالبيع المحض، فإذا التحقت به، فلا معنى لذكر الخلاف عند تلف الموهوب، بل يجب القطع بالرجوع إلى القيمة عند تلف الموهوب.
وما ذكره الأصحاب في المسلك البعيد، من افتقار الهبة إلى القبض في إفادة الملك مع ذكر العوض المقدّر، أو المعيّن بعيدٌ، ثم إنما ذكر الأصحاب الخلاف في هذا الحكم؛ فإن القبض من خصائص الهبة وفي الشفعة (2)، فإنها لا تثبت إلا في المعاوضات المحضة، فإن تعدى متعدٍّ هذين الحكمين، وطرد الخلاف الذي ذكره العراقيون في تلف الموهوب، كان في نهاية البعد؛ فإن من طلب عوضاًً وقدّره، استحال أن يسقط تبعيّةً في أحكام الأعواض، هذا لا سبيل إلى احتماله، ولا مساغ له أصلاً.
__________
(1) في (د 1): ذكره.
(2) كذا في النسخ الثلاث: " وفي الشفعة " ولعل الأولى: " والشفعة " بدون (في).

(8/438)


5893 - وقد رأيت لبعض الأصحاب تردداً في أن الأب إذا وهب من ابنه بثواب قدّره، فهل يملك الرجوع في الهبة؟ هذا يخرّج على أن المعاملة بيعٌ، أو هبةٌ؟ فإن قلنا: إنها بيعٌ، فلا رجوع. وإن قلنا: فيها معنى الهبة، فالرجوع محتمل، ثم إن رجع في الموهوب، ردّ العوض.
وهذا وإن كان بعيداً، فله اتجاه على حال، وأما ما ذكره العراقيون، فلا وجه له أصلاً كيفما فرضنا الهبة.
فرع:
5894 - إذا وهب حلياً من ذهب أو فضة، وثبت في الهبة ثواب مطلق، على [ما تقدّم] (1)، فما دام المجلس جامعاً، فله أن يُثيبه (2) نقداً، بحيث لا يؤدي إلى الربا.
فإن كان المبذول أقلَّ، أو أكثر، فهذا فيه احتمال ظاهر، خارجٌ على ما ذكرناه، من أن حقيقة الأعواض هل تثبت؟ والذي مال إليه معظم الأصحاب، وقطع به العراقيون: أنه يجب محاذرة صورة الربا؛ فإن الثواب على كل حالٍ عوضُ الموهوب، ويحتمل عندنا على بعدٍ خلافُ ذلك. والظاهر ما ذكروه.
ووجه الاحتمال أن باذل الثواب في حكم واهبٍ جديد، وكأنه يقابل هبةً بهبة، ولولا ذلك، لبطلت حقيقة الهبة.
5895 - ولا خلاف أن الثواب إذا لم يجر له ذكر، أو جرى ذكره مطلقاًً مجهولاً، فالملك في الموهوب موقوف على الإقباض، وإنما التردد في الثواب المقدّر، أو المعين.
وهذا يتطرق إليه خلل، من أنا لا نشترط في الثواب لفظ [الثواب] (3) وإجراءَ الإيجاب والقبول، وعن هذا لزم ظهور ما ذكر العراقيون (4)، حتى لا يُعتدَّ بغيره من المذهب.
__________
(1) (د 1)، (ت 3): تقرر.
(2) في النسخ الثلاث: يثبته. وهو تحريف ظاهر. وانظر فتح العزيز: 6/ 332.
(3) في الأصل: الهبة. وعبارة الرافعي التي نقلها عن إمامنا: " أنا لا نشترط في الثواب لفظ العقد إيجاباً وقبولاً " (ر. فتح العزيز: 6/ 333).
(4) ما ذكر العراقيون: أي آنفاً من وجوب محاذرة صورة الربا.

(8/439)


5896 - ومما ذكروه أنه إن فارق المجلس، فإن أثابه عَرْضاً، أو ثوباً، جاز. وإن أثابه نقداً، لم يجز؛ فإنه يكون صَرْفاً، ومن شرط الصرف تقابض العوضين في المجلس، وهذا الذي ذكروه حسنٌ، وفيه من طريق المباحثة الاحتمال البعيد. والله أعلم.
فرع:
5897 - إذا وهب [شيئاً] (1) مطلقاًً، وحكمنا بأن مطلقَها يقتضي الثوابَ، ونزَّلنا الثواب على مقدار القيمة، فعلى هذا لو قبض الموهوب، فزادت في يده زيادة متصلة، أو نقصت، فالاعتبار بأية قيمة؟
ذكر صاحب التقريب تفصيل الزيادة والنقصان.
فنبدأ بالزيادة، ونفرض ارتفاع القيمة بسببها، قال صاحب التقريب: في المسألة وجهان: أحدهما - أنا نعتبر قيمة يوم القبض؛ فإن وفى به المتَّهِب، فقد خرج عما عليه.
والوجه الثاني - أنا نعتبر قيمة الموهوب يوم بذل الثواب؛ فإن بذلها، خرج عن العهدة، وإلا كان الثواب قائماً، ولا خلاف أن الزيادة بعد بذل القيمة لا حكم لها.
هذا حكم الزيادة.
أما إذا قبض الموهوب، ونقص في يده بعيبٍ طرأ، ففي المسألة الوجهان في أن الاعتبار بقيمة يوم القبض، أو بقيمة يوم بذل الثواب؟ ولكن إن اعتبرنا قيمةَ يوم بذل الثواب، وهذا أضعف الوجهين هاهنا؛ لأن فيه بخساً، وإجحافاً بالواهب، فلا كلام.
وإن اعتبرنا قيمة يوم القبض، فإن بذلها المتَّهب، فلا كلام، وإن امتنع، وَرَدَّ الموهوبَ، فقد ذكرنا في هذا المقام تردّداً في الرَّد، وجرى صاحب التقريب على الرد، فإن رد الموهوب، فهل يغرم أرش النقص؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يغرَم أرش النقص.
والثاني - لا يغرم؛ فإن الهبة ليست عقد ضمان، وهذا التفريع يُنبه على حقائق الأصول.
__________
(1) ساقطة من الأصل.

(8/440)


فصل (1)
5898 - قد ذكرنا أن للأب الرجوعَ فيما وهب لولده، ونحن نقول: لا يستحب للإنسان أن يخص بعضَ أولاده بنِحلةٍ؛ فإن ذلك قد يكون سبباً لقطيعة الرحم، وقد يحمل المحروم على خلاف البر.
وإذا استحسنا التسوية فيهم، فقد ذكر شيخي وجهين في الابن والبنت: أحدهما - أنا نرعى في الاستحباب التسوية بينهما.
والثاني - أنا نجعل النحلة على نسبة الميراث: للذكر مثل حظ الأنثيين.
وقد ذكر. العراقيون هذين المذهبين عن السلف، ولم يجعلوهما وجهين للأصحاب.
والجملة أن المرعيَّ في هذا طلبُ الرضا، والأمر يقرب مأخذه فيما يتعلق بالاستحباب.
5899 - ومما ذكره الشيخ أبو علي في شرح التلخيص أن ابن سريج ذكر وجهاً أن الأب إنما يملك الرجوع إذا نوى بهبته استجلابَ مزيدٍ في البر، أو دفعَ عقوق، فإذا لم يحصِّل غرضَه؛ فيرجع إذ ذاك، فأما إذا أطلق الهبة، ولم يقصد هذا، فلا رجوع له.
وهذا خرمٌ عظيم، وخروج عن المذهب، ولهذا لم أذكره في سياق فصول رجوع الوالد فيما وهب.
فرع:
5900 - إذا ملّك الرجل رجلاً شيئاً، وأقبضه إياه، ثم اختلفا، فقال القابض: اتهبتُه، ووهبتنيه، وقال المقبض: قد بعتُه منك بكذا، وسلمته إليك مبيعاً، والثمن عليك؟ ذكر صاحب التقريب قولين: أحدهما - أن القول قول المتَّهِب؛ فإنهما اتفقا على ملكه، والمُقبض يدّعي عليه عوضاً، والأصل براءة ذمته منه، فقد
__________
(1) (د 1)، (ت 3): فرع مكان (فصل).

(8/441)


ثبت الملك وفاقاً وآل الخلاف إلى ادعاء شغل الذمة، والأصل براءتها.
والقول الثاني - أنه لا يثبت الملك مجاناً؛ فإن القول قول المالك في سبيل إزالة الملك، فيتحالفان، وينفي كل واحدٍ منهما بيمينه ما ادعاه صاحبه.
ثم حكم التحالف انتفاء الهبة، وانتفاء العوض المدّعى، ونتيجة ذلك ردُّ العين إلى المقبض.
وهذا يلتفت على تعذر (1) عوض العين. واليأس منه في الحال.
5901 - وما أطلقه هذا القائل من التحالف ليس على قياس التحالف المذكور في اختلاف المتبايعين في مقدار الثمن على ما تفصّل [المذهب] (2) فيه؛ فإن كل واحد من المتداعيين في هذه المسألة يحلّف صاحبه على نفي ما يدعيه عليه، فإن حلف المقبض على نفي الهبة، وحلف القابض على نفي الثمن، كان سبيل رد العين على المقبض بعد إقراره بأنه قد ملّك القابضَ العينَ، وسلّمها إليه قريباً من استرداد المبيع ممّن قبضه، تفريعاً على أن البائع مأمور بتسليم المبيع أولاً، إذا امتنع عن تأدية الثمن.
وقد ذكرنا نص الشافعي، في ذلك في كتاب البيع، وتصرُّفَ الأصحاب فيه، ولعل الظاهر أنه ينفرد المسترد في مسألتنا بفسخ البيع. وإذا كان كذلك، لم يتعرض له، ولم يقل: افسخ البيع أولاً، إذا كان الفسخ مما ينفرد به، فيؤول ذلك إلى الحكم الواقع بين العبد وبين [ربه] (3).
فليتأمل الناظر هذا الموضع.
وهذا حُكْمُنا على الظاهر، فإن كان مدعي البيع صادقاً في علم الله تعالى، فالحكم ما ذكرناه ظاهراً وباطناًً، وإن كان مدعي الهبة صادقاً، فمدعي البيع ظالمٌ باسترداد العين، والعين مبقّاة على ملك المتَّهب القابض باطناً.
وقد ذكرنا في تحالف المتبايعين قولاً: أن الحالف يجمع بين النفي والإثبات،
__________
(1) ساقطة من (د 1)، (ت 3).
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا (دية).

(8/442)


وذكرنا تفصيلاً فيمن نبدأ به، وأوضحنا انفصال التحالف في ذلك الموضع عن غيره، وهاهنا كل واحد يحلف على النفي، والمدعي على الحقيقة ابتداء [هو الذي] (1) يدعي البيع والثمنَ، ثم صاحب اليد بعد ذلك ينتصب مدعياً.
هذا منتهى القول في ذلك.
...
__________
(1) في الأصل: والذي.

(8/443)