نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب قسم الفيء والغنيمة (1)
قال الشافعي رضي الله عنه: "أصل ما يقوم به الولاة من المال ثلاثة وجوه ... إلى آخره" (2).
7704 - نقل المزني عن الشافعي رضي الله عنه حصراً في أقسام الأموال التي [يأخذها] (3) الولاة ويرعَوْنها، وجعلها ثلاثة أقسام: الصدقات، والفيء، والغنيمة،
__________
(1) وضع الإمام هذا الكتاب (قسم الفيء والغنيمة)، وما يليه (قسم الصدقات) هنا، التزاماً بترتيب السواد (مختصر المزني) الذي ألزم الإمامُ به نفسه، على تبرّمه أحياناً بهذا الترتيب (انظر مقدمة المحقق) وحق هذا الكتاب أن يوضع في السير، وحق قسم الصدقات أن يكون في آخر كتاب الزكاة.
وقد تبع إمامَ الحرمين في هذا الترتيب تلميذُه الغزالي في كتبه: البسيط، والوسيط، والوجيز، ثم تبعه البغوي في التهذيب، والتزم به الرافعي في الشرح الكبير، وفي المحرر، كما جرى عليه النووي في المنهاج، والعجب من النووي -رضي الله عنه- أنه خالف الرافعي، فنقل الصدقات إلى آخر الزكاة في الروضة مع أنها مختصر للشرح الكبير، وهو مع ذلك أبقى قسم الفيء والغنيمة مكانه بعد الوديعة وقبل النكاح. وهناك ترتيب آخر في المذهب، وهو ترتيب المهذّب والتنبيه للشيرازي، حيث جاء قسم الصدقات في آخر كتاب الزكاة، وقسم الفيء والغنيمة في كتاب السير.
وهناك اختلاف آخر في كتب المذهب، حيث جاء كتاب الأضحية عند مدرسة المهذب في كتاب الحج مع أحكام الهدي، أما مدرسة نهاية المطلب فجاءت الأضاحي في كتاب الصيد والذبائح، إلا ما كان من النووي في الروضة - أيضاً -دون المنهاج- حيث وافق ترتيب المهذب.
ومن الاختلاف أيضاً، كتاب العتق، حيث جاء في مدرسة المهذب بعد الوصايا وقبل الفرائض، أما مدرسة النهاية فالعتق في آخر الكتاب.
(2) ر. المختصر: 3/ 179.
(3) في الأصل: أخذها.

(11/441)


فقال الأئمة: الأموال العامة التي يقوم الوالي بجمعها وجبايتها تنقسم إلى الأقسام التي ذكرها، [وللإمام التصرف في أموال الملاك المتعينين] (1) وتلك الجهات زائدة على الأقسام التي نقل المزني حصرها عن الشافعي، [وتصرف] (2) الوالي في المال الذي له مالك متعين يقع على ثلاثة أوجه: أحدها - التصرف بالولاية، وهو تصرفه في مال الصبيان والمجانين، والذين لم يُؤنس رشدُهم، فإذا لم يكن لهؤلاء أولياء، فالإمام وليهم، أو من يقوم مقامه من ولاة الإمام.
والوجه الثاني - من تصرفه أنه يأخذ الأموال من الممتنعين ويوفرها على مستحقها.
والوجه الثالث - تصرفه في أموال الغُيّب، وعلى الناظر توقفٌ في هذا القسم، فالمالك المطلق يفعل بماله ما يشاء على وفق الشرع، ولا يلزمه عمارة أملاكه، وحفظ أمواله، وله تعريضها للضياع، وإنما [يحجر] (3) الشرع عليه في ذوات الأرواح [لحرمتها] (4) لا لحق المالية منها، والوالي يتصرف بالولاية في مال الموْليّ عليه، على حكم النظر والغبطة، كما تفصل ذلك في الكتب، والسلطان لا يتصرف في أموال الغيّب بالغبطة المحضة، وإنما يتسلط على التصرف فيها بشيئين: أحدهما - إذا أشرفت على الضَّياع، والثاني - إذا مست الحاجة إليها في استيداء (5) حقوق ثبتت على الغائب، وهذا وإن ذكره أصحاب الإيالة، فهو ملتحق باستيفاء الحقوق من الممتنعين، ثم هذا مندرج تحت الولاية، [فإن] (6) الغرض الأظهر منها درءُ الضرار، وكف الأذى والانتصاف للمظلومين، ثم في الضياع على المتأمل تفصيلٌ، فإن ظهر وامتدت الغيبة وعسرت [المراجعة] (7) قبل وقوع الضياع، فيسوغ التصرف، كما سنفصله.
__________
(1) في الأصل: والإمام متصرف في أموال الملاك المعنيين.
(2) في الأصل: ويتصرف.
(3) في الأصل: عجز.
(4) بحريتها.
(5) استيداء: أي طلب أداء الحقوق.
(6) في الأصل: بان.
(7) في الأصل: المرجعة.

(11/442)


وإن (1) أمكنت المراجعة، ولم ينقطع [الخبر] (2) انقطاعاً [يغلِّب] (3) على الظن اليأسَ من العَوْد قبل المستدرك، فلا يسوغ التصرف مطلقاً. أما التصرف عند ظهور الضياع واليأس من قرب العوْد، [فيحوج] (4) إلى بيان الضَّياع، وذكرِ تفصيل التصرف.
7705 - فأما الضياع فيقسّم إلى الهلاك بالكلية وإلى الاختلال. [فأما الهلاك إذا خيف، فهو الضياع، وأما الاختلال] (5) فإن كان لا يتراقى (6) إلى تلف المعظم، ولم يكن سارياً، فلم يعدّه معظم العلماء ضَياعاً؛ فإنه لو بيع مال الغائب لخيفة الاختلال، لالْتحق ذلك بابتناء البيع في مال الغائب على النظر المحض والمصلحة، وهذا ما لا يسوغ المصير إليه.
وإن كان يتلف معظم المال، فقد أُحلّ المعظم في هذا محل الكل.
وما ذكرناه في غير الحيوان، فأما الحيوان؛ فإنه يباع بتطرّق الاختلال إليه لحرمة الروح، وأيضاً؛ فإن ذلك يتداعى إلى الهلاك والحيوان يباع على مالكه في حضرته إذا كان لا يستقل بالإنفاق عليه.
هذا قولنا في الضياع.
7706 - فأما التصرف، فإن أمكن تدارك الضَّياع بالإجارة، اكتفى القاضي بها، ولم يبع، وإن كان لا ينسدّ الضياع بالإجارة، فله أن يبيع على الشرائط التي قدمناها، فإن قيل: لِمَ يتسلط الوالي على بيع مال الغائب عند إشرافه على الضياع والغائب ليس موليّاً عليه، ولا حق عليه [فيتأدّى] (7) من ماله الحاضر؟ قلنا: لا محمل لهذا من
__________
(1) (س): وإن أمكنت المراجعة أو انقطع الخبر انقطاعاً يُغلِّب على الظن اليأس.
(2) في الأصل: الغيبة.
(3) في الأصل: فغلب.
(4) في النسختين: فيخرج.
(5) زيادة من (س).
(6) (س): يترامى.
(7) في الأصل: فيتمادى.

(11/443)


طريق المعنى إلا حملُ [الأمر] (1) على العرف فيه، فإن الغُيَّب بقرائن أحوالهم لا يأبَوْن أن يَرعى حقوقَهم من [يلي] (2) المسلمين، وينتصب وزَراً (3) لهم، حتى لو فرض من المرء عند الغيبة نهيٌ عن البيع، [وانتهى] (4) الأمر إلى الضَّياع، فلسنا نرى البيع جائزاً والحالة هذه.
وبالجملة ليس يخلو بيع الوالي من غير استحقاق حق على الغائب فيما لا يجوز بيعه عليه بحضرته عن خلاف العلماء الناظرين في الإيالات، ولم أر للفقهاء اعتناء بتفصيل ذلك، والمسألة على الاحتمال، والظاهر جواز البيع على الشرط الذي ذكرناه، وإجارة القاضي لأملاك الغُيّب في معنى بيع الأعيان المشرفة على الضّياع؛ فإن المنافع متعرضة للضياع على ممر الزمان، ولم يجترىء على إطلاق [إجازة] (5) الإجارة في حق من لم تبعد غيبته أحد من العلماء فيما بلغنا.
ومما يتعلق بهذا القسم ملكٌ لا يتعين مالكه ويدُ الوالي تمتد إليه حفظاً، ولو أراد صرفه إلى جهة المصلحة، وقد تحقق وظهر اليأس من الاطلاع على مالكه، فهذا مما أطلق العلماء القولَ بجوازه، من غير اشتراط إشراف المال على الضياع، ونحن نجد نظير ذلك في اللقطة، وإن كان التعريف مشروطاً في تملكها، وذلك أنه لا يظهر اليأس من العثور على مالكها إلا بالتعريف، والذي ذكرناه في مالٍ ظهر اليأس من الاطلاع على مالكه.
فهذه جملٌ انتهت إليها تقاسيم الكلام في الأموال التي يتصرف الولاة فيها.
7707 - وعاد بنا الكلام إلى مقصود الكتاب، وهو القول في قسمة الفيء والغنيمة فنقول أولاً:
اسم الفيء ينطلق في اللغة ووضع اللسان على الغنيمة انطلاقه على ما نظفر به من
__________
(1) في الأصل: الآية.
(2) في الأصل: تلف.
(3) (س): وزيراً.
(4) في الأصل: وإذا انتهى.
(5) زيادة من (س).

(11/444)


أموال الكفار من غير قتالٍ، غيرَ أن الفقهاء اصطلحوا على تمييز ما نصيب من أموالهم بالقتال عما نصيبه منها من غير قتال، فسمَّوْا ما نصيبه بالقتال غنيمة، وما نصيبه من غير قتال فيئاً.
وهذا الباب مضمونه ذكر تراجم في مصارف الغنيمة والفيء على الجملة، ثم القول في تفاصيلها، وأوصاف المستحقين، وأقدار ما يستحقون، يأتي مفصلاً في أبوابٍ.
فأما الغنيمة، فأربعة أخماسها للغانمين إذا أرادوها وطلبوها، ولم يُعرضوا عنها، والخمس منها يقسّم على خمسة أسهم بالسوية: سهم للمصالح العامة، وسهم لذوي القربى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم للمساكين، وسهمٌ لليتامى، وسهم لأبناء السبيل.
7708 - فأما الفيء، فليقع الكلام أولاً في صفته التي يتميز بها عن الغنيمة، قال جماهير الأصحاب: كل مالٍ أصبناه من كافر من غير قتال وإيجاف خيل وركاب فهو فيء، ويدخل تحت ذلك ما يتخلى الكفار عنه مرعوبين لاستشعارهم الخوف من غير أن نقيم عليهم قتالاً.
ومن جملة الفيء، ما يخلِّفه ذمّي وليس له وارث خاص.
ومنه الجزية، والخراج المضروب على حكم الجزية، [ومنه] (1) مال المرتد إذا مات أو قتل مرتداً. هذا هو المذهب المشهور.
وذكر الشيخ أبو علي تفصيلاً نأتي به على وجهه، فقال: إذا همّ المسلمون بجرّ جيشٍ إلى بلاد الكفار، فتقاذف الخبر إليهم، فانجلَوْا وخلّوا أموالهم، فعثرنا عليها من غير قتال، قال: إن انجلوا قبل (2) تجهيز الجيش وبروزه في صوب بلدتهم، فالذي [تركوه] (3) وانكشفوا عنه فيء.
__________
(1) في الأصل: وفيه.
(2) (س): من غير تجهيز.
(3) في الأصل: يذكروه.

(11/445)


وإن تجهز الخيل وضربوا [معسكرهم] (1) وبرزوا في تلقاء أولئك الكفار، فانجلَوْا بعد ذلك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك المال مغنوم، وهو كما لو التقى الصفان، [فولَّوْنا] (2) ظهورهم، ومنحونا أكتافهم من غير شهر سلاح، فما خلفوه إذا ولَّوْا منهزمين مغنوم، (3 كذلك ما انجَلَوْا عنه بعد تجهيز الجيش، كما وصفناه مغنوم 3).
وهذا وجه بعيد لا يوافق قاعدةَ المذهب، فالأصح إذاً أن الذي انجلَوْا عنه فيء، لأنا لم ننصب قتالاً، وقصْدُ القتال ليس بقتال، ولو فتحنا الباب الذي أشرنا إليه، لزمنا منه موافقة أبي حنيفة في أصولٍ اتفق الأصحاب على مخالفته فيها: أحدها أنه لو نفق فرسُ الغازي قبل أن يلقى قتالاً عليه، فمذهب أبي حنيفة (4) أنه إن كان وطىء بلادَ الحرب، فله سهم فرسه وإن نفق. ونحن لا نرى ذلك أصلاً، ثم ما حكاه من الوجه البعيد لم يعتبر فيه أن ينجلي الكفار بعد دخول جند الإسلام دارَ الحرب، ولكن اكتفى [بالتأهب] (5) والتجهيز والحصول في المعسكر المضروب في تلقاء الكفار، وحمل هذا على ما يلقاه الظاهرون من المؤن في تجهزهم، وهذا الوجه [في] (6) نهاية الضعف. وإن قيل به، فالاقتصار على مجرد الظهور فيه بعدٌ أيضاً، ثم لا ضبط بعد ذلك، ولا وجه إلا إبطال هذا الوجه.
وقد ذكر صاحب التقريب هذا الخلاف أيضاً.
[فهذا] (7) تصوير الفيء.
__________
(1) في الأصل: بعسكرهم.
(2) في الأصل: وولونا.
(3) ما بين القوسين سقط من (س).
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 441 مسألة: 1588.
(5) في الأصل: الـ ـا ـث (كذا).
(6) في الأصل: على.
(7) في الأصل: وهذا.

(11/446)


7709 - ثم اختلف الأقوال في أربعة أخماس الفيء، فقال الشافعي في قول: إنها للمرتزقة خاصة، وهم الجنود المرتّبون للذب عن حَوْزة الدين، وهم أصحاب الديوان، كما سيأتي وصْفُهم، إن شاء الله تعالى. وهذا القائل يقول: كانت أربعة أخماس الفيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما استأثر الله به -وكان صلى الله عليه وسلم وَزَراً للمسلمين- خَلَفَه شوكةُ الإسلام وجندُه.
هذا قولٌ ظاهر.
والقول الثاني - أن أربعة أخماس الفيء مصروف إلى المصالح العامة، ولكن الإمام يبدأ بالأصلح فالأصلح، والأهم فالأهم، [وأهمُّ] (1) المصالح إقامة [أمور] (2) المرتزقة وكفاية مؤنهم، وتفريغ قلوبهم، وهذا موضع التوطئة، والشرحُ بين أيدينا، إن شاء الله تعالى.
والقول الثالث للشافعي، نص عليه في القديم أنا نجعل (3) الفيء خمسةَ أسهم: سهم منها للمصالح، والبداية بالأهم، كما وصفناه، وأربعة أسهم لذي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل، فتحصّل إذاً [ثلاثة] (4) أقوال كما سردناها.
ثم المذهب الظاهر أن الفيء يخمّس، ومصروف خُمسه ما أشرنا إليه، وفي أربعة الأخماس قولان: أحدهما - أنها ملك المرتزقة. والثاني - أنها للمصالح، والقول القديم مهجور مرجوع عنه.
ثم إذا صححنا تخميس الفيء، طردنا هذا في كل ما يستفاد من كافرٍ من غير قتال، ويدخل تحته ما خلّفه الذِّمي الذي ليس له قريب خاص، ومال المرتد، والجزية، والخراج المأخوذ من أهل الجزية.
وذكر صاحب التقريب قولاً آخر: أن ما أخذناه من الفيء بإرعاب الكفار من غير
__________
(1) في الأصل: واسم.
(2) في الأصل: أولاد.
(3) (س): نجعل جميع.
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(11/447)


لُقْيان قتال، فهو الفيء المخمّس، وما أصبناه من كافر من غير قتال ولا إرعاب، فلا يخمس أصلاً، ثم ظاهر ما ذكره (1) أنا لا نخرِّج فيه تمليك المرتزقة على القول الظاهر؛ فإنهم أهل الإرعاب، فيكون الحاصل من غير إرعاب على هذا القول مصروفاً إلى ما يصرف إليه خمس الفيء الحاصل بالإرعاب.
هذا ظاهر كلام صاحب التقريب في تفريع هذا القول البعيد.
وذكر الشيخ أبو علي هذا القولَ، وذكره العراقيون أيضاً. ثم إذا فرعنا على ذلك، ففي الطرق تردد في الجزية؛ من جهة [أن] (2) الكفار، وإن كانوا يبذلونها على طوعٍ، فسبب بذلهم لها استيلاءُ يد الإسلام عليهم، واستعلاء كلمة الله، فكانت الجزية حريةً أن تلتحق بالفيء الحاصل بالرعب.
هذا بيان الجمل التي أردنا تصدير الكتاب بها، لتحل محل التوطئة، والتراجم، مع العلم بأن التفاصيل محالةٌ على الأبواب الآتية، إن شاء الله عز وجل.
7710 - ومما يذكر أيضاً أن الله تعالى قال في محكم كتابه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]. فقال فقهاؤنا: ما كان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو في يومنا هذا سهم المصالح، ولا فرق [بين] (3) سهم الله وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما يرجعان إلى سهم واحدٍ.
هذا مذهب الشافعي.
وذهب بعض العلماء إلى أن ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فهو مصروف إلى الإمام الأعظم؛ فإنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيخلفه فيما كان يأخذه صلى الله عليه وسلم.
والشافعي حكى هذا المذهب عن بعض السلف، وردّ عليه، ولم يصح أن الخلفاء الراشدين كانوا يأخذون سهمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) (س): ما ذكرناه لا يخرج.
(2) زيادة من (س).
(3) في الأصل: من.

(11/448)


ومما يتعلق بالقرآن أن ظاهره يدل في الفيء على القول البعيد المنصوص عليه في القديم، وهو أن جملة الفيء مخمّس، ولكن هذا الظاهر [مزالٌ] (1) باتفاق المعتبرين من العلماء، كما أن ظاهر القرآن أن الغانمين لا يختصون بالمغانم؛ فإنه عز من قائل قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]، ولكن قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} يدل على أن أربعة أخماس الغنيم للغانمين، فإنه ما استثنى من الغنيمة إلا الخمس، وأضاف الباقي إلى الغانمين، إذْ قال عز وجلّ: {غَنِمْتُمْ}.
...
__________
(1) في الأصل: مراد. وفي (س): "زال".

(11/449)


باب الأنفال
7711 - أراد الشافعي رضي الله عنه بالأنفال الغنائم، وهي ما أصبناه بالقتال، وقاعدة الباب أن أربعة أخماسها للغانمين.
ثم صدّر الشافعيُّ الباب بأسلاب [القتلى] (1)، فمذهب الشافعي أن المسلم إذا قتل كافراً في القتال، مقبلاً غيرَ مدبر؛ فإنه يستحق سلبَه، والأصل في ذلك الأخبار الصحيحة (2)، والنصوص الصريحة، كما ذكرناها في مسائل الخلاف. ثم الكلام يقع في هذا الفصل على وجوهٍ:
منها - القول في السبب الذي يستحق به السلب، فنقول: سببُ استحقاق السلب قتلُ كافر مقبل على القتال إلى أن قُتل غيرَ منهزم ولا مدبر، فلو [ولى] (3) الكفارُ وركب المسلمون أقفيتهم، فمن قتَل منهم منهزماً، لم يستحق سلبه، ولو ناوش مسلمٌ قِرناً من الكفار، وطفقا يقتتلان، ثم ولى الكافر بسبب بأس المسلم وبطشه، فاتّبعه وقتله، فظاهر المذهب أن ذلك [سببٌ] (4) لاستحقاق السلب. هكذا ذكره الشيخ أبو علي.
وإنما المنهزم الذي لا يستحق قاتلُه سلبَه هو الذي لم يخض في القتال [وولّى] (5)، فأما
__________
(1) في الأصل: القتيل.
(2) الأخبار الواردة في السلب متعددة، وفيها أكثر من حديث متفق عليه، فمنها: "من قتل قتيلاً، فله سلبه". وهو متفق عليه من حديث أبي قتادة. أخرجه البخاري: كتاب فرض الخمس، ح 3142، ومسلم: كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، ح1751، (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 223، 224، 225، الأحاديث من رقم 1475 - 1479).
(3) في الأصل: ركب.
(4) في الأصل: بسبب.
(5) في الأصل: ووفى.

(11/450)


الخائض في القتال إذا كانت [هزيمته] (1) بسبب تحامل قِرنه عليه فالذي هزمه إذا قتله استحق سلبَه.
وفي هذا تفصيل لا بد منه، وهو أنه إن ولّى من قِرنه، فاتّبعه رجل غيرُ من كان يبارزه وقتله، فالظاهر أن هذا القاتل لا يستحق سلبه، وكذلك من هزمه لا يستحق سلبه الآن؛ إذْ قتله غيره.
والهزيمة هي مفارقة المعترك مع الاستمرار على الفرار، [وأما التردد بين الميمنة والميسرة] (2) والقلب، فليس ذلك من الهزيمة، (3 وسنصف الهزيمة 3) وحكمَها في حق المسلمين، و [كذلك نصوّر الهزيمة وحقيقتَها] (4) إذا فرضت من الكفار، إن شاء الله تعالى.
7712 - [ومن] (5) أسباب استحقاق السلب أن يثخن المسلمُ الكافرَ، ويُذهبَ بطشَه ومنعَتَه، فإذا فعل ذلك المسلمُ، استحق سلبَ ذلك الكافِر المثخن، فلو قتله قاتلٌ [وقد] (6) أثخنه أولاً مثخنٌ، فالسلب للمثخِن، لم [يختلف فيه] (7) علماؤنا؛ فإن المقصود إثخانه وإبطال بطشه، [وقد] (8) حصل بالأول.
فإن قيل: أليس روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل قتيلاً فله سلبه" فعلق استحقاق السلب بالقتل؟ قلنا: هذا ينزل على غالب العرف، والغالب أن القاتل هو الجارح أو المذفِّف (9) ابتداء، فاتجه تنزيل الخطاب عليه.
__________
(1) في الأصل: هزيمة.
(2) في الأصل: فأما التردد بين اليمنة واليسرة.
(3) ما بين القوسين سقط من (س).
(4) في الأصل: "وعد ذلك قصور الهزيمة في حقها" وفي (س): "وغير ذلك نتصور الهزيمة وحقيقتها" والمثبت تصرّف منا.
(5) زيادة من (س).
(6) في الأصل: فقد.
(7) في الأصل: يخلف إليه.
(8) في الأصل: فقد.
(9) المدفف: من دفَّ عليه يدف (من باب قتل)، ودفَّف تدفيفاً: إذا أجهز عليه وجرحه جرحاً يوحي بالموت. وهي بالمهملة والمعجمة. (المعجم والمصباح).

(11/451)


والدليل الخاص في ذلك ما روي أن شابَّين من الأنصار أثخنا أبا جهل يوم بدرٍ وقَطَراه (1) من فرسه، ثم صادفه ابنُ مسعود مثخناً فجثم على صدره، فناطقه أبو جهل، وأجاب ابنُ مسعود، وطال تحاورهما، ثم احتزَّ (2) ابنُ مسعود رأسه، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه الشابين، ولم يعط ابنَ مسعود منه شيئاً (3)، فصار ذلك نصّاً، وحسن معه حمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المعتاد، كما تقدم ذكره.
ولو قطع المسلم يدي قِرنه، وترك رجليه، أو قطع رجليه وترك يديه، فقد [ذكر] (4) العراقيون اختلاف نصٍّ أن هذا هل يكون إثخاناً، وأن ذلك لو صدر من مسلم، ثم جاء مسلم آخر [وأجهزه] (5)، فالسلب لمن؟ وأجْرَوْا القولين في ذلك: أحدهما - أن السلب للأول؛ فإنه أزمنه وأبطل قوّته ومُنَّته.
والثاني - أن السلب للمجهِز، فإنه قد يبقى (6) فيه بعد قطع اليدين قتالٌ بسبب رجليه، وقد يعْدُو، فيجلب الكفار على المسلمين. وإن بقيت يداه، فقد يبطش بهما.
__________
(1) قطراه من فرسه: ألقياه عنه، يقال: قطر فلاناً: أي صرعه، وقطره فرسُه: ألقاه على أحد قُطريه (جانبيه) (المعجم).
(2) احتزّ: يقال: احتزّ السياف رأسه، قطعها (المعجم).
(3) قصة مقتل أبي جهل وسلبه، واردة في الصحيحين، أثخنه معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء، وجاءا رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منهما يقول: أنا قتلتُه، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سيفيهما، وقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
(ر. البخاري: كتاب فرض الخمس، باب من لم يخمس الأسلاب، ح 3141، 3964، 3988، ومسلم: كتاب الجهاد، باب استحقاق القاتل سلب القتيل، ح 1752)، وانظر أيضاً (التلخيص: 3/ 223، 224 ح 1477).
(4) في الأصل: حل.
(5) في الأصل: وأخره.
(6) (س): بقي.

(11/452)


وقد ذكر الشيخ أبو علي هذين القولين في الصورة التي ذكروها كما ذكروها، وزاد طريقةً أخرى، فقال: من أصحابنا من قال: ليست المسألة على قولين، بل هي على حالين، فحيث قال: السلب للثاني أراد بذلك إذا لم يسقط [قتاله] (1) لقطع يديه أو رجليه، وحيث قال: السلب للأول أراد به إذا أزمنه بحيث لم يبق فيه قتال.
وهذه الطريقة هي الصحيحة التي لا يجوز غيرُها؛ فإن الإزمان [يختلف] (2) باختلاف الأشخاص، فرب رجل ليس بالأيِّد البالغ في القوة وإذا قطعت منه يد واحدة ينزف دمه بذلك، ويصير مثخناً، لا حراك [به] (3)، وسقوطُ القوّة على قدر بنية القلب وقوته وضعفه، ورب رجل ذي مِرّة لا تسقط قوته بقطع يديه.
ولا يتضح المقصود من هذا الفصل إلا بمزيدٍ، فنقول: الكافر إذا أصابته ضربة، فسقط، ولم يبق فيه بقية يدافع بها، ولكن لو ترك، لثابت إليه نفسُه وآبت إليه مُنّته، ولكنه في الحال لا يبطش، ولا يُغنى غناءً، فالذي أراه أن هذا ليس بإثخان؛ فإنه لو ترك، لعاد كما كان حَنِقاً متغيظاً.
ولو جرح الكافر جرحاً لم يمنعه من القتال في الحال، ولكنا علمنا أنه لو ترك لأهلكته الجراحات بعد أيام، فهو في الحال ليس بمثخن.
7713 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن المسلم إذا أسَر واحداً من الكفار وجاء به مأسوراً، فالظاهر أن ما عليه مِن سلبٍ لآسره؛ فإن إثبات اليد القاهرة عليه تحل محل الإثخان، فإن حكم يد الإسلام على الأسرى يُبتنى على استمرار الأسر.
هذا قولنا فيما كان معه، فلو [أرقّه] (4) صاحبُ الأمر، ففي ملك رقبته كلامٌ سأذكره في الفصل الثاني.
7714 - [وهذا] (5) تفصيل القول في السلب، فأقول: كل ما يتصل بالكافر القتيل
__________
(1) في الأصل: فقاله.
(2) في الأصل: مختلف.
(3) في الأصل: فيه.
(4) في الأصل: أرقد.
(5) في النسختين: وهو.

(11/453)


من سلاح أو جُنّة يُدرأ بها السلاح، فهو من سَلَبه، يُصرَف إلى قاتله، وسيفُه [ورُمحه] (1)، وما تبعه من أسلحته ودابّته التي هي عتادُه الاكبر، كل ذلك سلَبُه، وثيابُ بدنه التي هو لابسها من سلبه؛ فإنها متصلة به، وهو حاملها، ويمكن إلحاقها بالجُنن؛ [فإن لكل] (2) ملبوس وإن رقّ وخفَّ أثراً في الدفع، وإن لم نُحسّ أثره في الدفع، فالثياب الخشنة الدافعة لو باشرت [البشرة] (3)، أضرّت به، والقُمُص تحتها تهوّن محملها، فالقول الضابط في ذلك: أن [كل] (4) ما اجتمع فيه الحمل، وكونه سلاحاً أو [جُنة، فكونه] (5) سلباً لا شك فيه.
والسلاح الذي يحمله الفرس كالسلاح الذي يحمله الفارس، [فالسيف] (6) تحت الركاب، كالسيف الذي يتقلده الفارس، والرمح الذي يعتقله ويتأبطه كالرمح المنصوب على الفرس.
7715 - وإن كان على وسط الكافر [هميان] (7) فيه شيء، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أنه من السلَب؛ لأن الكافرَ حامله.
والثاني - أنه ليس من السلب، بل هو مغنم مشترك، لأنه ليس سلاحاً ولا جُنّة، وليس آلةً للقتال، ولا عُدّة للدفع، وليس من الملبوسات أيضاً.
واختلف أئمتنا في أن الكافر لو كان على فرسٍ، وكان يُجنب آخر كالجنيبة (8) هل تعد من السلب؟ فيه وجهان: أحدهما - أنها ليست من السَّلَب؛ لأنها ليست متصلة
__________
(1) في الأصل: وربحه.
(2) زيادة من (س).
(3) في الأصل: العشرة.
(4) زيادة من (س).
(5) في الأصل: جه فهو سلب.
(6) في الأصل: والسيف.
(7) في الأصل: هيمان. والهميان كيس يجعل فيه النفقة ويشد على الوسط. وهو معرّبٌ دخيل. قاله الأزهري (المصباح).
(8) الجنيبة: الفرس تقاد ولا تركب (المصباح).

(11/454)


بالكافر اتصالاً يتأتى الاستعمالُ به، فكانت [الجنيبة] (1) بمثابة الصبي والرَّحْل الذي يكون مع الكافر.
والثاني أنها من السلب؛ فإن الجنيبة مع الفرس المركوب بمثابة سيفٍ تحت الركاب، وآخرَ متقلدٍ، والعادة جارية بالاستظهار بالجنايب، وأجرى الأصحاب الوجهين في الهميان والجَنيبة مجرى واحداً؛ فإن في الهميان صورة الاتصال والحمل، وإن لم يكن من الجُنَن والأسلحة، وفي الجنيبة حكم الأعتاد (2) على الاعتياد، وإن لم يكن متصلاً بالفارس في الحال، فاعتدلا من هذا الوجه.
7716 - وظهر خلاف أصحابنا في الخاتم؛ لأنه ليس جُنّة، ولا آلة دفع، لكنه ملبوس محمول، فكان من وجهٍ كالهميان لاتصاله، وكان من وجه أخص بالكافر لأنه ملبوس يعتاد لبسه، واحتمال الهميان مما يندر جريانه، وقد يفرضُ الهميان دافعاً إذا كان فيه شيء، فإنه يدفع الأسلحة ويقي الموضع المستورَ به.
ولو كان على الكافر طوْقٌ من ذهب أو فضة، فإن كان قد يستعمل مثله وقاية للرقبة، فهو من الأسلحة، ولا نظر إلى الجنس، فإن المِغفر من الحديد من السلب، فلو كان من أحد التبرين، فهو من السلب أيضاً، وإن كان ذلك الطوق [لا يستعمل] (3) إلا زينةً، فقد ذكر العراقيون فيه وجهين وقربوهما من الخلاف في [الخاتم] (4) وهذا ليس على وجهه؛ فإن الطوق لا بد وأن يكون واقياً لما يستره، وأثره في الوقاية بيِّنٌ، لا حاجة إلى تقريره.
7717 - ولو كان الكافر يقاتل راجلاً، وهو مستمسك بفرسه، فالفرس من سلبه.
هكذا قال الأصحاب، ولا يمتنع عندنا إذا تُصوّر ذلك أن نجعل ذلك الفرسَ كالجنيبة، ويظهر الفرق من جهة أن الفارس في حكم [المستغني] (5) في حاله عن
__________
(1) في الأصل: الحفية.
(2) ساقطة من (س).
(3) زيادة من (س).
(4) في الأصل: الحكم.
(5) في الأصل: المستعير.

(11/455)


الجنيبة (1) بالفرس الذي هو مركوبه [والمترجل] (2) المستمسك بالفرس ليس [مستغنياً] (3) بشيء من جنس الفرس.
ولو كان معه غلامٌ، فليس من السلب، ولو كان الغلام حاملاً سلاحه يناوله متى شاء، فيجوز أن [يقال] (4) ذلك السلاح بمثابة الفرس المجنوب، ويجوز أن يقال: لا يكون ذلك السلاح من السلب، وإذا جعلنا الجنيبة سلباً، ففي السلاح الذي على الجنيبة ترددٌ ظاهر.
7718 - والفرس الذي هو راكبه [مع ما] (5) عليه من سرج ومركب [كله] (6) من السلب فيما قطع به الأئمة المراوزة.
وكان شيخي يقطع [بأن] (7) المِنْطقة (8) من السلب وجهاً واحداً، وذكر العراقيون في المِنطقة خلافاً، وهذا بعيد، ثم يليق بهم أن يلحقوا مركب (9) الفرس بالمنطقة، ويجوز أن يفصِّلوا ويقولوا: [لا] (10) يتأتى استعمال الفرس دون المركب؛ فهو مما لا بد منه، بخلاف المِنطقة [ويتجه] (11) على قياسهم أن يلحقوا ما لا يُحتاج إليه من
__________
(1) عبارة (س) مضطربة: في حكم المستغني في حاله عن كالجنيبة عن بالفرس الذي.
(2) في الأصل: والمرجل.
(3) في النسختين: مستعملاً.
(4) في الأصل: "يكون".
(5) في الأصل: مما عليه.
(6) في الأصل: كل.
(7) في الأصل: في أن.
(8) المنطقة: اسمٌ لما يسميه الناس الحياصة، (والأصل الحواصة) وهي سيرٌ يشد به حزام السرج (القاموس المحيط والمصباح).
(9) مركب الفرس: المراد به (الركابان) والركابان هما ما يُدخل الفارس فيهما رجليه، وجمعها (ركُب) بضمتين. (ر. صفة السرج واللجام، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي: 60، 61).
(10) في الأصل: لولا.
(11) في الأصل: وينحو.

(11/456)


المركب بالمِنطقة، كالغُّرة (1) من اللجام، وأحذ [اللببين] (2)، والكفاية حاصلة بواحدة، وكذلك ما يتعلق [بالزينة] (3) كالأطراف [المفضّضة] (4) من المعاليق (5) ونحوها.
وكل هذا خروج عن الأصل المعتبر، والوجه أن تعد جملة ملابس الفارس وملابس فرسه كيف فرض الأمر فيها من السلَب.
7719 - ولو قيل: هلا قلتم: السلبُ كلّ ما يسلب من الكافر، مما لا يتأتى سلبه إلا بقتله أو إثخانه؛ فإن السّلَب من السَّلْب؟ قلنا: لا يطرد هذا مع قطع الأصحاب بأن الكافر لو كان على فرسه عَيْبةٌ فيها ثياب ونفقة، أو على الجنيبة عيبة، فالعيبة بما فيها مغنم مشترك، وليس من السلب؛ فإنه ليس سلاحاً، ولا ملبوساً، فإذا كان هذا قولنا في العيبة فمخيَّمه وما فيه من رحله مغنمٌ لا شك فيه.
7720 - ولو كان معه فرسان يجنبهما، فالخلاف في واحد منهما؛ [فإنا] (6) لو جعلنا الفرسين المجنوبين سلَباً، [التزمنا] (7) ذلك في الثلاثة والأربعة فصاعداً، وإن كان يُسند الأمر في هذا إلى العادة، فليس وراء الجنيبة الواحدة عادة بها اعتبار، وإذا كان كذلك ووقع التفريع على أن السلب إحدى الجنيبين، فكيف سبيل التعيين؟
وما الوجه؟ هذا مشكلٌ محتمل، والغرض قد يتفاوت [بتفاوت] (8) الفرسين. هذا
__________
(1) الغرّة: المراد بها غرة اللجام، وهي من زينته وتحليته.
(2) اللببين: اللبب ما يشد على صدر الدابة، ليمنع تأخر الرحل والسرج، وهو يقع على لبان الفرس. وهو في الأصل سير واحد، ولببٌ واحد، فإذا كان من سيرين سمي الأول اللبب، والثاني (الكانف) فالتثنية هنا من باب التغليب. (السابق نفسه).
(3) في الأصل: بالعر ـ ـه (كذا) تماماً بهذا الرسم.
(4) في الأصل: المصصعه (كذا) تماماً.
(5) المعاليق: هي السيور التي تكون في الخُروق التي في مؤخر الدفتين، والدفتان هما جانبا السرج مما يلي لحم باطن فخذي الفارس، فالمعاليق هي من نسيج السرج وزينته في الوقت نفسه. (ر. صفة السرج واللجام، لابن دريد: 48، 55).
(6) في الأصل: فأما.
(7) في الأصل: لالتبس فيها ذلك.
(8) زيادة من (س).

(11/457)


[مقامٌ قد] (1) يخطر للفقيه فيه القرعة؛ فإن الفرس الذي تخرج القرعة عليه وإن شرف قدرُه لو صور وحده، لأخذه سلباً، فلا يظهر مع هذا تفاوت القيم.
ويجوز أن يقال: هذا إلى الوالي، وصاحب [الرأي] (2) أَخْذاً من مِلْكه التنفيل، كما سنذكره بعد هذا، ثم لا يقع تنفيل الإمام على حسب الوفاق، ولكنه ينظر إلى الحال والشخص، والغَنَاء، وكذلك يرى رأيه في تعيين الفرس، ويبني الأمر على مقتضى الاجتهاد. وهذا [أوْجه] (3) من القرعة.
وقد يخطر للفقيه تخيير القاتل؛ فإن مبنى استحقاقه السلبَ على الاختصاص [لما] (4) أبلاه من البلاء وأبداه من الغَناء، فلا يبعد أن يستحق السلبَ المتعيَّنَ وتعيينَ السلب.
وما ذكرناه من تخصيص الخلاف [بالجنيبة] (5) الواحدة، وقد (6) يتحامل المصور (7)، فيفرض جنيبين، وهذا يعتضد تصويره باعتياد [جُندٍ] (8) من الكفار ذلك، والدورانُ على العادة في محل الوفاق والخلاف.
ثم لا بدّ -وإن قدَّرنا خلافاً في الجنيبين- من الرجوع [إلى] (9) العادة، ثم يُفضي الأمر إلى الإشكال الذي ذكرناه.
وإذا زاد العدد على العادة، والفارس إن احتمل من السلاح أكثر من العادة، فالزائد على العادة محمول وليس سلاحاً مستعملاً، وهو [يقرب] (10) من الهميان، كما تقدم،
__________
(1) في النسختين: هذا مقام وقد يخطر للفقيه ... (بزيادة الواو).
(2) في الأصل: الدابة.
(3) في الأصل: الوجه.
(4) في الأصل: بما.
(5) في الأصل: فالجنيبة.
(6) (س): قد يتحاول.
(7) في الأصل: من المصور.
(8) في الأصل: خيل.
(9) زيادة من (س).
(10) في الأصل: مقرب.

(11/458)


ثم يؤول الكلام إن جعلنا البعض سلباً إلى [التعيين] (1) وفيه التفصيل المقدم.
7721 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن من أسر كافراً، فأرقّه الإمام، ففي رقبته وجهان مشهوران: أوجههما - أنها لآسره؛ فإن رقبته أخص من سلاحه وثيابه.
ومن أصحابنا من قال: رقبتُه مغنمٌ؛ فإن الرق جرى فيه بعد الأسر.
ومما يتعلق بهذا أن الإمام لو رأى قتلَ الأسير، فلا معترض عليه، وليس للآسر أن يحتكم على صاحب الأمر بالإرقاق، ولا يغرم الإمام شيئاً للآسر، وإن قلنا: لو أرقه، لكان الملك في الرقبة للآسر (2)؛ لأن قتل الإمام على حكم الاستصواب نازلٌ منزلة قتل الواحد من المسلمين قِرنه، فإنّ قتله [واقع] (3) بحق، فليفهم الناظر ذلك.
وكذلك لو منَّ عليه، فلا معترض، ولا غرم.
ولو فاداه، فله المفاداة، ثم المال المأخوذ من مفاداته فيه احتمال على الخلاف المذكور في رقبته إذا أرقّه الإمام، والأظهر أنه ليس للآسر مالُ المفاداة؛ فإنه ليس سلباً، ولا هو عين المأسور. والله أعلم.
هذا تمام القول فيما يُعدّ (4) من السلب، ويلتحق به، وفيما يخرج منه.
7722 - ومما يتعلق بالسلب القولُ في صفة السالب القاتل: اختلف أئمتنا في أن من ليس (5) من أهل السهم وكان من أهل الرضخ، كالصبيان والنسوان والعبيد إذا جرى منهم قتلٌ، فهل يتعلق به استحقاق السلب؟ فمنهم من قال: يتعلق به استحقاق السلب؛ تعلقاً بظاهر قوله عليه السلام: "من قتل قتيلاً، فله سلبه".
ومنهم من قال: لا يستحق السلب إلا مَن هو من أهل استحقاق السهم في المغنم؛
__________
(1) في الأصل: التعين.
(2) (س): للأسير.
(3) زيادة من (س).
(4) (س): يتعلّق.
(5) عبارة (س): في أن من يكون من أهل الرضخ.

(11/459)


فإن السلب واستحقاقه يتعلقان بكمالٍ في حال من هو من أهل القتال، فإذا قصر الشخص عن استحقاق السهم، كان بأن يقصر عن استحقاق السلب أولى.
وقد يعترض ها هنا احتمال في الطرف الآخر، وهو أن المسلم لو قتل صبياً من الكفار مراهقاً كان يقاتل، أو امرأة كانت تقاتل، ففي استحقاق سلبه احتمال؛ فإنه ليس من أهل القتال.
ولو قتل عبداً منهم، استحق (1) سلبه بلا خلاف؛ فإن ما يَلْقى من قتل عبد مثل ما يَلْقى من قتل حر، فإن عورضنا في هذا بأن قتال العبد منا كقتال الحر، قلنا: هو كذلك، ولكن الشرع لم يعلق به السهم، فترددنا في السلب.
7723 - ومما يتعلق بالسلب، وهو تمامه وختامه، القول في أن السلب هل يخمس [ومن أين يؤخذ؟ وقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال قائلون: لا يخمس] (2) السلب، بل تُنحَّى أسلاب القتلى، ويُقضى بفوز القاتلين [بها. هذا] (3) ظاهر الأخبار الدالة على [اختصاص] (4) القاتلين بأسلاب القتلى، وأيضاً إذا كان يختص القاتل بالسلب عن الغانمين، جاز أن يختص به عن أصحاب الخمس.
والوجه الثاني - أن السلب يخمّس؛ فإن اختصاص القاتل بسلب القتيل كاختصاص الغانمين بالمغنم، [فالقاتل] (5) في السلب كأنه الجُنْد كله فيه، ثم الخمس زاحم حقوقَ الغانمين، وكان يليق بطريق الرأي ألا يثبت الخمس إلا في الفيء، فلما لم يكن كذلك، دلّ على أن الخمس يتعلق بكل مغنوم.
__________
(1) عبارة (س): ولو قتل عبداً منهم لا خلاف أنه يستحق سلبه.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه من (س).
(3) في الأصل: بهذا، وهذا ظاهر ...
(4) في الأصل: إخلاص.
(5) في الأصل: والقاتل.

(11/460)


فصل
قال: "والنفل من وجهٍ آخر، نفَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنيمةٍ ... إلى آخره" (1).
7724 - معنى الفصل أن الإمام لو رأى أن يحرّض سرية من السرايا على اقتحام مخاوف، نفّلهم مقداراً مما يأخذون على خلاف ما يقتضيه اعتدال القسمة، مثل أن يقول لسريةٍ رأى اقتطاعَها عن كُثْر (2) الجند: نفّلتكم الربعَ، بحيث لا يخمس عليكم، هذا جائز للإمام. ذكر الشافعي البدْأةَ والرجعة، والمراد بالتنفل في البدأة أن يخصص سريةً تَقْدُم الجندَ وتُوغِل في العدو مبتدئة، هذا هو البدأة.
والرجعة [أن] (3) تنجرّ الراية وكُثْرُ الجُند متوجهةً إلى بلاد الإسلام، فيقتطع الإمام سريةً ويكلفُهم أن يرجعوا على أدراجهم، ويغتالوا طائفةً من الكفار، أو يهجموا على قلعة، أو يرجعوا لغرضٍ سوى ما ذكرناه، وهذا يشتدُّ عليهم، وهو الرجعة، ثم [التنفيل] (4) في البدأة من وجهٍ قد يكون أقلّ؛ فإن السرية لم تلق بعدُ [قتالاً] (5)، والجند من ورائهم، وهم فئتُهم ووزرُهم.
(6 وإذا كُلِّفوا الرجعة 6) وقد عضّهم السلاح وفشا فيهم الجراح، والجند مشرِّقٌ، وهم مغرّبون، فهذا يكون أشقَّ عليهم.
وقد يكون الأمر على العكس، بأن نقدّر الكفار على أُهَبهم في الابتداء، فيعظم مصادمتُهم، ويقدّرون [مفلولين] (7) في الانتهاء، فتسهل الكرة عليهم.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 187.
(2) كُثْر الجند: معظمهم وعامتهم (معجم).
(3) زيادة من (س).
(4) في الأصل: السبيل.
(5) غير مقروءة في الأصل، هكذا: ـ ـالا (انظر صورتها).
(6) ما بين القوسين ساقط من (س).
(7) في الأصل: "معلولين". ومفلولين يقال: فللتُ الجيش فلاً من باب قتل، فانفلّ: كسرته، فانكسر (مصباح).

(11/461)


والنظر في ذلك إلى الإمام، والأحوالُ على التباسٍ، فإن رأى التسوية بين التنفيل في البدأة والتنفيل في الرجعة، سوى بينهما، وإن رأى أن يجعلهما متفاوتين، فلا معترض عليه، ثم له أن يجعل ما في البدأة أكثر مما في الرجعة، وله عكس ذلك، والسبب فيه أنه لم يَرد في ذلك توقيف شرعي، نقف عنده؛ فكان الأمر مفوضاً إلى الرأي والاجتهاد. ولو صح في بعض الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفَّل على قدرٍ [في] (1) البدأة والرجعة، فليس ذلك -إن صح- تقديراً، وإنما هو حكم الوفاق.
ثم لا يحتكم صاحب الأمر بهذا؛ فإنّ التحكم بالتفضيل في المال، والحرمان [منه] (2) غيرُ سائغ، والمال إذا تعلق الأمر فيه بالزيادة والنقصان، والأثرة والحرمان خطر في الاجتهاد.
7725 - ثم إذا تبين جواز التفضيل في [التنفيل] (3)، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: إذا خصص الإمام قوماً بشيء، فنجبر ذلك النقصانَ للجند، ويكون جبران النقصان من خمس الخمس المرصد المصالح، وهؤلاء يرون هذا الجبران حتماً، وحكماً متبعاً لا يُتعدى، ثم يردّون الأمر إلى اختيار الإمام من وجهٍ، ويقولون: إن شاء الإمام -وقد نفّلَهم الربعَ، أو ما رأى- جاء بهذا القدر من سهم المصالح (4)، ولم يخصص المتنفِّلين المفضلين بأعيان ما أَتوْا به، وإن أحب، فضّلهم بذلك القدر من أعيان ما أصابوه، ثم غرم لباقي الجند مقدارَ التفضيل من سهم المصالح، وهذا القدر لا معترض فيه.
هذا قولنا.
ومن أصحابنا من ذكر قولاً آخر: إن التفضيل في التنفيل جائزٌ للإمام، من غير أن
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في النسختين: فيه.
(3) في الأصل: السبيل.
(4) جاء بهذا القدر من سهم المصالح: المعنى أنه لا يترك لهم أعيان ما أخذوه من العدو، بل يعطيهم بدلاً منه من سهم المصالح، كما سيتضح من العبارة التالية.

(11/462)


يجبر ذلك النقصان [لكُثْر] (1) الجند، فيخصص على حسب النظر في التنفيل، ثم لا يحتسب ذلك عليهم، بل يفوزون به فوْز القاتلين بأسلاب [قتلاهم] (2) من غير جبران.
وهذا القائل يقول: لا يخفى مسيس الحاجة إلى مثل ذلك في سياسة الحروب، وقد ورد فيه التفضيل في التنفيل، ولم يرد جبران النقصان، فإذا وجدنا التنفيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم وألفيناه موافقاً لوجه الرأي، [اتخذناه] (3) إمامَنا.
هذا قولنا في تنفيل السرية في البدأة والرجعة.
7726 - ومن [أسرار] (4) المذهب في هذا أن الإمام لو لم يتعرض لهذا عند انبعاث السرية، ولكنهم لما أصابوا ما أصابوا أراد أن يخصصهم تفضيلاً وتنفيلاً ببعض ما أصابوه، فظاهر كلام الأصحاب أن هذا ممتنع بعد الإصابة والإحراز، وإنما يسوغ التفضيل والتنفيل قبل إصابة المغنم.
وسبب هذا أنهم إنما [يُفضَّلون] (5) ليحرصوا على الامتداد في الصوب الذي يراه الإمام.
ثم القول في ذلك معتضدٌ بالخبر (6)، وهو وارد في اشتراط التفضيل عند ابتداء البعث.
__________
(1) في الأصل: أكثر، و (س): لأكثر. والمثبت تصرف من المحقق. وكُثْر الجند: معظمه، والمراد هنا باقي الجند.
(2) في الأصل: قتالهم.
(3) في الأصل: اتخذناها.
(4) في الأصل: أسر المذهب.
(5) في الأصل: ينفصلون.
(6) يشير إلى حديث عبادة بن الصامت عند الترمذي، أنه صلى الله عليه وسلم نفل في البدأة الربع، وفي القفول الثلث. قال الترمذي: وحديث عبادة حديث حسن.
وفي الباب عن ابن عباس، وحبيب بن مسلمة، ومعن بن يزيد، وابن عمر وسلمة بن الأكوع. ا. هـ بنصه من جامع الترمذي. ورواه أبو داود عن حبيب بن مسلمة (ر. الترمذي: ح 1561، وأبو داود: ح 2748، 2749، 2750، وانظر أيضاً تلخيص الحبير: 3/ 221 ح 1471).

(11/463)


فهذا ما وجدناه، ويتأيد ما ذكرناه بطرفٍ من المعنى؛ فإنهم إذا أحرزوا والجندُ وزرُهم ومرجعُهم، والغوث قريب منهم، فقد تعلق حق الجميع بما [حصّلوه] (1)، فالتخصيص بعد تعلق حق الكافة مخالف (2) للتفضيل والتنفيل قبل (3) التحصيل.
7727 - ومما اختلف الأصحاب فيه أن الإمام لو رأى في مصلحة القتال أن يقول للأبطال، أو الجند عامة: من أخذ مالاً، فهو له لا يزاحَم فيه، فهل يجوز ذلك؟
فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - لا يجوز؛ فإن هذا تخصيص مخالفٌ لوضع الشرع [في] (4) تعديل القسمة، ولم يرد فيه ثَبَت.
ومِنْ أصحابنا من جوز هذا؛ بناء على التفضيل في (5) التنفيل في البدأة والرجعة، وهو متَّجِه في طريق الإيالة (6)، وله نظير في مورد الشرع، وهو اختصاص القاتلين بالأسلاب.
ومن قال بالأول، انفصل عن هذا [بأن] (7) قال: التخصيص (8) بالسلب سببه بيّن؛ فإن نهاية البلاء الحسن والغَناء قتلُ الكفار، فأما الاشتغال بأخذ الأموال في حال قيام القتال، فمن الأسباب الحائدة عن وجه الرأي، ومن أعظم المكائد في الحروب أن يخلِّي الكفارُ الأموالَ (9) على رجالنا حتى ينكبّوا على التنافس فيها، ثم إنهم يعكرُون عكْرةً (10)، ويرون ذلك خداعاً وغِرّة، هذا بيّن ظاهر في غالب الأمر.
ثم إن لم نجوّز ما ذكرناه، فلا كلام، وإن جوزناه، فهو بمثابة التنفيل
__________
(1) في الأصل: فصلوه.
(2) في الأصل: تعبد مخالف.
(3) (س): سقط منها: قبل التحصيل.
(4) في الأصل: من.
(5) (س): على التفضيل في البدأة والرجعة.
(6) (س): الإماية.
(7) في الأصل: فإن.
(8) (س): بأن التحصيص بالسلب سببٌ.
(9) في الأصل: والأموال.
(10) يعكرُون عكرة: من باب قتل: أي يرجعون ويكرون كرّة. (معجم ومصباح).

(11/464)


[الذي] (1) سبق شرحه، ويؤول الخلاف في وجوب الجبران من خمس الخمس، كما تقدم في ابتداء الفصل.
وإذا حيزت الغنائم، فمقتضى كلام الأصحاب أن التفضيل بعد حيازة المغانم غيرُ سائغ، وإنما هذا التردد قبل الحيازة. والله أعلم.
هذا منتهى القول في ذلك.
7728 - ولو مست الحاجة إلى [ترجّل] (2) الفرسان، وكان يشتد القتال على الرّجّالة، ويهون على الفرسان، فأراد الإمام -والحالة هذه- أن يسوّي بين الرجّالة والفرسان، أو أراد تفضيل الرّجالة على حسب الرأي، [فهذا لا مساغ] (3) له؛ فإنه هجوم على مخالفة الوضع (4) في القسمة من غير تعلّقٍ بمستند من توقيفِ الشارع، وقد أجمع علماؤنا على أن تفضيل الفرسان على الرجّالة من التوقيفات المتبعة، وليست محمولةً على وجه الاستصواب، وهو بمثابة ما لو خصص الإمام بمزيد في المغنم الذين يباشرون القتال، وهذا لا يجوز، وما ذكرناه من تخصيصه كلَّ من يأخذ بما يأخذ على بُعده [مشبه] (5) بالسلب، فإذا لم نجد معتصماً شرعياً، فلا سبيل إلى تسليط وجوه [التأتي] (6) على [تغيير] (7) وضع الشرع في تعديل القسمة.
7729 - ومما يتعلق بالفصل أنه لو جعل للسرية المبعوثة كلَّ ما غنمت وأصابت، فهذا مما تردد الأصحاب فيه، من جهة مخالفته للأثر والتوقيف، وإفضائه إلى الميل بالكلية عن تعديل القسمة.
__________
(1) في الأصل: الذين.
(2) في الأصل: توجل.
(3) في الأصل: وهذا لا يساغ، وفي (س): فهذا الامتناع. والمثبت تصرف من المحقق.
(4) (س): مخالفة وضع القسمة.
(5) في الأصل: منيّة (كذا).
(6) التأتي: الترفق في الأمر، والتبصّر به حتى يأتيه من وجهه (معجم). ثم هي في الأصل: "الثاني".
(7) في الأصل: تعيين.

(11/465)


وما ذكرناه حقه أن يُرتب على ما لو قال: من أخذ شيئاً، فهو له؛ فإن التنفيل في البدأة والرجعة في جميع ما أصابه المبعوثون أمثل من إطلاق القول بأن (1) كل من أصاب شيئاً، فهو له.
وقد تمهد في مسلك المذهب أنا لا نحكِّم وجهَ الرأي في جميع المسائل، ولكن إن وجدنا في التنفيل أصلاً في التوقيف، اتبعناه، ثم تصرّفنا قليلاً في المقدار، فإن لم نجد أصلاً في التوقيف، ولم يستدّ (2) لنا قياس شبهي، وجب اتباع القواعد في تعديل القسمة، وامتنع التفضيلُ وإن وافق الرأيَ.
وإن وجدنا قياساً شبهياً [كما (3) ذكرناه في تشبيه] ما يصيب كل رجل بالسلب، فهو على التردد، والزيادة على الربع والثلث مأخوذة من مسألة إلحاق المسكوت عنه بالمنصوص عليه لكونه في معناه، كإلحاقنا الأمة بالعبد في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركاً له في عبدٍ قُوِّم عليه" وإذا وقع التنفيل في مقدار النصف، فهو مقطوع به جوازاً، وإن وقع في معظم ما يصيبه المبعوثون، فيحتمل تخريجه على الخلاف، وتنزيله منزلة ما لو [خصصهم] (4) بجميع ما يصيبونه، ثم حيث جوزنا التفضيل، ففي وجوب الجبران من سهم المصالح ما قد تمهد من الخلاف.
هذا منتهى القول في ذلك.
...
__________
(1) (س): أمثل من القول بل كل من أصاب.
(2) يستدّ: أي يستقيم. وفي (س): يستبن.
(3) (س): قياساً شبهياً في جميع ما يصيبه كل رجل ...
(4) في الأصل: خصصه.

(11/466)


باب تفريق القسم
قال الشافعي رضي الله عنه: "كل ما حصل ممّا غُنم من أهل دار الحرب، من شيء قلّ أوكثر ... الفصل" (1).
7730 - مسائل هذا الكتاب كثيرة الوقوع في مسائل السير، والأصحاب يخلطون الأبواب بالأبواب، وهذا يجرّ إلى التكرار، وإلى التعطيل، فالذي نراه أن نتخذ منصوصات المختصر إمامَنا، وما يقع وراءها، ولا يتصل بها، فهو محالٌ على أبواب السير، وبالجملة القدر اللائق بهذا الكتاب الكلامُ في كيفية القسمة، وأقدارها، والكلام في صفات المستحقين، فأما ما عدا ذلك، فحقه أن نذكره في كتاب السِّير.
7731 - فنبتدىء، ونقول: كل ما أصابه الغانمون من منقولٍ أو عقارٍ تحقق الاستيلاء عليه، أو وقع في أيديهم من الذراري والنسوان [فسبيل ذلك التخميس، والقسمةُ بين الغانمين. والذراري والنسوانُ] (2) يَرِقّون بنفس الوقوع في القبضة، وينزلون منزلة الأموال المغنومة، ولا يخفى أن ما ذكرناه فيه إذا تمت الحيازة، وولّى الكفار، فأما ما دامت الحرب قائمة، وكنا نصيب منهم ويصيبون منا، وقد يستردّون ما نُصيبه، فلو اتفق وقوع شيء في أيدينا، ثم استردوه قبل انكشاف القتال (3)، فلا نقول: ملكنا ما أخذنا ثم أخذوه من أملاكنا قهراً، حتى يكون سبيله كسبيل ما يأخذون من أموالنا، بل إذا استردوا، وانفصل الأمر، وانجلى القتال بعد ذلك، فلا ملك لنا فيما استردوه، وكذلك القول فيما يستردون من الذراري والنسوان، لا نجعلهم مقرّين
...
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 188.
(2) زيادة من (س).
(3) عبارة (س): قبل انكشاف القتال، فالقول فيه، فلا نقول ...

(11/467)


على حكم الرق بمثابة عبيد المسلمين، والغرض [أنا] (1) لا نثبت الملك عليهم حتى ينفصل القتال.
وما نصيبه من مجانينهم، فهو بمثابة نسائهم وذراريهم.
هذا قولنا في هؤلاء.
فأما رجال القتال من الكفار الأحرار إذا أسروا، وثبت الاستيلاء، فهؤلاء لا يَرِقون بنفس الأسر وفاقاً، ولكن الإمام يتخير فيهم بين أربع خلال، لا معترض عليه في شيء منها: فإن أراد أن يضرب رقابهم، فعل ذلك [على حسب الرأي، ولا خيرة على حكم الإمام] (2) وإن أراد أن يمنّ عليهم، ويطلقهم، فله ذلك، و [إن] (3) أراد أن يفاديهم، فله ذلك، وإن أراد أن يضرب الرق عليهم، فعل ذلك، ولا معترض عليه، وهو مأمور بينه وبين الله تعالى بأن لا يبني ما يختاره على [الإرادة] (4) المحضة، بل حقٌّ عليه أن يتبع وجهَ الرأي في تعيين قسم من هذه الأقسام، وله أن يقضي الأمر فيهم بهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام.
7732 - ثم إن أرقهم، نُظر فإن كان انفرد بأسرهم آحادُ الرجال، ففي اختصاصهم تملك الرقاب الخلافُ [المشهور] (5) الذي ذكرته في فصل السلَب.
وإن اتفق الأسر من جميع الجند، فرقابهم مغنومة مردودة إلى المغنم.
وإن قال قائل: إذا رأينا [ضربَ الرق على المأسور] (6)، وقد أُرقَّ إلى
__________
(1) في الأصل: أما.
(2) زيادة من (س).
(3) سقطت من الأصل.
(4) في الأصل: الإفادة.
(5) زيادة من (س).
(6) في النسختين: ضرب رقبة المأسور. والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق، وعلى ضوء مختصر العز بن عبد السلام؛ فعبارته: "وإذا جعلنا رقاب من أسرهم الأجناد مغنماً، خُمِّست. ويحتمل أن لا تخمّس، إذا جعلنا الرقاب للأجناد، ومنعنا تخميس الأسلاب. = لكن الظاهر التخميس؛ فإن التخصيص لا يثبت إلا إذا انفرد المخصَّص بضربٍ من الغناء" ا. هـ بنصه.

(11/468)


الآسر (1)، ثم رأينا أن لا يخمس السلب، فإذا أسرهم الجند يرقون، ثم لا تخمس رقابهم، لم يكن ذلك بعيداً، والظاهر التخميس؛ فإن التخصيص إنما صادفناه عند اختصاص بعض رجال القتال بوجهٍ من الغناء، فإذا لم يكن كذلك، فالظاهر وجوب التخميس، (2 والإجراء على مناظم المغانم 2).
7733 - وإذا فادى الأسرى، فما يأخذه من أموال المفاداة ملحق بالمغانم، لا خلاف (3) فيه، هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فادى به أسرى بدر، والسبب فيه أن التوصل إلى الأموال المأخوذة منهم، كان بسبب احتواء الجند على المأسورين.
7734 - ثم إن اختار الإمام القتل، فوضع السيف فيهم، فإنما يفعل ذلك بالرجال المقاتلة الأحرار، دون الذراري والنساء والعبيد، فإن أشكل عليه بلوغُ واحدٍ، فله أن يأمر بالكشف عن مؤتزره، فإن لم يكن أنبت، ألحقه بالذراري، ومن أنبت، فله (4) ضرب رقبته. وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أسر رجالَ بني قريظة، ونزّلهم على حكم سعد (5).
ثم القول في الإنبات وأنه (6) عين البلوغ أو علامته ليس مما نذكره الآن، وقد أجرينا فيه كلاماً [مُشْبعاً] (7) في كتاب الحجر، والقول في ادّعاء استعجال الإنبات مما ذكرناه ثَمَّ، وسنعود إليه في كتاب السير، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) أُرق إلى الآسر. كذا في النسختين، والمراد جعلنا الرقاب للأجناد. والله أعلم.
(2) ما بين القوسين سقط من (س).
(3) في الأصل: ثم لا خلاف فيه.
(4) (س): فليضرب رقبته.
(5) خبر بني قريظة ونزولهم على حكم سعد، متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، البخاري: كتاب الجهاد، باب إذا نزل العدو على حكم رجل، ح 3043، 3804، 4121، 6262، ومسلم: كتاب الجهاد، ح 64 رقم عام 1768.
(6) (س): هل هو عين البلوغ، أو أمارة.
(7) في الأصل: شبعنا.

(11/469)


7735 - ومما يذكره الأصحاب في الكتابين أن واحداً من الأسرى لو أسلم بعد الإسار، فلا شك أنه يمتنع قتلُه، وقد قال الشافعي: "لو أسلموا بعد الإسار رُقوا"، وظهر اختلاف الأصحاب في هذا، فالذي صار إليه جماهير الأصحاب أنه لا يمتنع بإسلامهم بعد الإسار إلا القتل، ويتردّد الإمام فيهم على حسب الرأي بين المنّ، والفداء، والرق، فأما المن، فإذا كان يجوز في حق الأسير المصرّ على الكفر، فهو فيمن أسم أولى وأجوز، وإذا جوزنا الإرقاق، فالمفاداة أجوز.
ثم هؤلاء [يفتنّون] (1) في تأويل قول الشافعي رضي الله عنه، حيث قال: "وإذا أسلموا بعد الإسار، رُقّوا" والغاية [المقبولة] (2) في التأويل أنهم قربوا من الرق، وهذا يناظر قول المصطفى عليه السلام من وقف بعرفة، فقد تم حجه، والمراد قرب من التمام، وأمن الفوات.
ويمكن أن يقال: المن مما يقلّ في تصرف الإمام، فلم يعتدّ به الشافعي، وكذلك المفاداة، [والغالبُ] (3) الإرقاقُ والقتلُ، فبنى الشافعيُّ رضي الله عنه على الغالب، وردّ النظر إلى القتل والإرقاق، ثم صادف القتلَ ممتنعاً، فقال: رُقُّوا. هذا هو الممكن في التأويل.
ومن أئمتنا من جرى على [ظاهر النص، وقال: من أسلم من الأسارى، رُقّ.
وهذا وإن كان يوافق] (4) ظاهر النص، ففي توجيهه عُسرٌ، [والممكن] (5) فيه أنه إذا أسلم، فالمن يتعلق بأهل الحرب الذين لم يلتزموا حكمنا، والمفاداة ينبغي أن تفرض من [أموال أهل الحرب] (6) أيضاً؛ فإن ابتداء ضرب مال على مسلم بمثابة ابتداء ضرب
__________
(1) في الأصل:، " ـ ـعبون "، والمثبت من (س).
(2) في الأصل: المنقول، و (س): المنقولة، والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء المعنى.
(3) في الأصل: والغالبة.
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(5) في الأصل: والتمكن.
(6) في الأصل: من أموالهم.

(11/470)


جزية على مسلم، [والرق] (1) وإن كان أشد من ذلك، فقد نراه يجري ابتداء على أولاد المسلمين.
وإذا انحسم القتل، وبعُد المن والفداء، صار المأسور، وإن كان رجلاً كالصبي والمرأة، فهذا هو الممكن في ذلك.
7736 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن الأسارى لو قالوا: قبلنا الجزية، وكانوا ممن يجب تقريرهم على الجزية في جيشهم إذا لم يكونوا مأسورين، فالذي عليه الجريان أن اختيار الإمام في المن والفداء والإرقاق على ما كان، وإنما التردّد في أنه لو أراد أن يقتلهم، هل له أن يقتلهم؟
هذا مما اختلف فيه الأصحاب، فمنهم من قال: له قتلهم، ولا حكم لقبولهم الجزية وهم في قبضة الإسلام، وهذا ظاهرُ القياس (2).
ومن أصحابنا من قال: يحرم القتل؛ فإن قبول الجزية من العواصم في الجملة كالإسلام، [فالإقدام] (3) على القتل مع قيام عاصم محرمٌ، كما لو أسلم الأسير.
وكأن [القتل] (4) بين هذين الوجهين في جواز القتل [يبنى] (5) على ما لو حاصرنا قلعة ليس فيها إلا النساء، فقبلن الجزية، فهل يحرم سبيهن لقبول الجزية؟ فعلى وجهين (6) سيأتي شرحهما في كتاب السِّير إن شاء الله تعالى.
__________
(1) زيادة من (س).
(2) الأظهر تحريم القتل، قاله النووي (ر. الروضة: 10/ 298).
(3) في الأصل: بالإقدام.
(4) في النسختين: القتال.
(5) زيادة من المحقق لاستقامة المعنى. ومع ذلك يبقى في العبارة نوع قلق، بل لعل فيها سقطاً.
(6) قال النووي: هذه المسألة على قولين، نص عليهما في الأم: أحدهما - يعقد لهن؛ لأنهن يحتجن إلى صيانة أنفسهن عن الرق، كما يحتاج الرجال للصيانة عن القتل ... ولا يؤخذ منهن شيء.
والقول الثاني - لا تعقد لهن الجزية، ويتوصل الإمام إلى الفتح بما أمكنه ... "فالقولان متفقان على أنه لا تقبل منهن جزية" ا. هـ ثم وصف كلام الإمام بالشذوذ، فقال: "وشذ الإمام، فنقل في الخلاف وجهين، وجعلهما في أنه هل يلزم قبول الجزية، وترك =

(11/471)


ووجه البناء أن النسوة [لسن] (1) من أهل التزام الجزية، ولكن صورة التزامها هل تعصمهن عن الرق؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه، كذلك الأسير ساقط الاختيار، فإذا وجد منه التزامُ الجزية، فهو بمثابة التزام الجزية ممن ليس من أهلها، غير أن التأثير في الأسير يظهر في سقوط القتل، وفي النسوة في سقوط السبي.
وقد ذكر صاحب التقريب في كتاب السير وجهاً بعيداً حكاه وزيّفه، فقال: من أصحابنا من ذهب إلى أن الأسير إذا (2) قبل الجزية، يجب إطلاقه، وإجابته إلى عقد الذمة، وتنزيله منزلة المختار من الكفار إذا طلب الذمة، وهذا في نهاية البعد؛ فإن الأسير إذا اسلم، لم يُطلَق وجوباً، وكان الإمام على وجهٍ مخيراً بين المن والفداء والإرقاق تخير نظرٍ واجتهادٍ.
وفي وجهٍ يرِق بنفس الإسلام، فلو أطلقنا الأسير القابل للذمّة، لكان أثر الأسر ساقطاً بالكلية، [فإن المختار مجالب إلى عقد الذمة إذا طلبه] (3) ويستحيل أن يبقى أثر الأسر مع الإسلام ويسقط أثره مع طلب الذمة.
ولكن وجه هذا الوجه على بعده أن الجزية من آثار الكفر، فإن عقدنا له الذمة، لم نُخله عن صَغار الكفر، ولو خلّينا المسلم حتماً واجباً، لكان الإسلام مُحبطا لآثار الإسار بالكلية، وهذا لا سبيل إليه.
7737 - ومما يتعلق بأحكام الأسرى أن الإمام لو أراد أن يضرب الرق على الأسير وهو من عبدة الأوثان، فالمذهب المبتوت (4) الذي ذكره الأئمة أن ذلك جائز، ثم يصير اطّراد الرق عليه [عاصماً له] (5) ولا يجب قتله، بل لا يجوز؛ لحق الرق الثابت في رقبته للملاّك المحترمين، وليس كالمرتد؛ فإن الرق لا يعصمه.
__________
= إرقاقهن" ا. هـ ملخصاً (ر. الروضة: 10/ 302).
(1) في النسختين: لـ ـس.
(2) في الأصل: وإذا.
(3) ما بين المعقفين زيادة من (س).
(4) هذا ما استقر عليه المذهب، وقال عنه النووي: إنه الصحيح. (ر. الروضة: 10/ 251).
(5) في الأصل: عاصمة.

(11/472)


والكفار على أقسام: منهم من يقرّر على كفره بالذمة، وهم أهل الكتاب، والمجوس يسنّ بهم سنّة أهل الكتاب.
ومنهم من لا تعصمه الذمة، ولكن يُنظَرون مدّةَ التسييح (1)، وهي أربعة أشهر، على ما سيأتي تفصيلها في السِّير، إن شاء الله عز وجل، وهؤلاء إذا رُقوا، دامت عصمتهم بالرق.
ومنهم (2) أهل الردة، ولا عاصم لهم من حكم الله بوجهٍ من الوجوه.
وقال أبو سعيد الإصطخري: "لا يجوز (3) إرقاق عبدة الأوثان، بل يتخيّر الإمام بين المن، والفداء والقتل فيهم". وإحلالُ هذا الكفر المغلّظ محل الردة نوعٌ من القياس، فإذا كان يجوّز المن والفداء، فقد خرم القياس (4) الذي اعتمده، فلا اعتداد بما ذكره أصلاً.
7738 - ومما يليق بتمام البيان في ذلك أنا إذا قلنا: الأسير إذا بذل الجزيةَ لا يجوز قتله، وجرينا على الأصح، وهو أنه لا يجب قبول الجزية منه وإطلاقُه، ولكن يحرم قتله، فلو أراد الإمام المنَّ عليه، فعل، وإن أراد إرقاقه، [نفذ] (5) ذلك منه، وإن أراد مفاداته ورأى المصلحة (6)، وهو لا يبغيها ويأبى إلا الجزية وقبولها، فلا سبيل إلى إجباره على المفاداة؛ فإن الكلام لا ينتظم؛ إذ (7) لا يجبر عليها إلا بالقتل،
__________
(1) ساقطة من (س).
(2) ومنهم: أي من الكفار.
(3) (س): يجوز (بدون لا).
(4) خرم القياس: أي قياس عبدة الأوثان على المرتدّين، ومعنى خرم القياس: أن المرتد لا يجوز في حقه إلا القتل، فكيف يجوّز المن والفداء في حق عبدة الأوثان، وقد قاسهم على المرتدّين.
قال النووي: والصحيح الأول، أي المقابل لقول الإصطخري (ر. الروضة: 10/ 251).
(5) في الأصل: بعد.
(6) أي رأى الإمام المصلحة في المفاداة، والأسير لا يبغيها.
(7) (س): فإن الكلام لا ينتظم إلا يجبر عليها، وهذا عود إلى القتل.

(11/473)


وهذا عوْد إلى القتل الذي حكمنا بسقوطه، ولا يجوز أن يقال أيضاً: إذا لم يمتثل أمرنا في المفاداة، أحبطنا عصمته، وعاد الإمام إلى رأيه في قتله إذا رأى القتل؛ فإن التفريع على أن قبول الجزية عصمةٌ، فيتعين في الصورة التي انتهى الكلام إليها قبولُ الجزية منه.
فإن قيل: هذا الوجهُ (1) الذي حكاه صاحب التقريب (2)، فإنه ألزم إطلاقَه وعقْدَ الذمة له، وتوظيفَ الجزية عليه.
قلنا: الفرق بين مذهبه وبين التفريع الذي انتهينا إليه أنه يرى إسعاف قابل الجزية، وإن كان الصلاح في إرقاقه، ونحن نقول: إذا كان الصلاح في إرقاقه أرقه، ونفذ الرق عليه قهراً، وإن لم يكن في إرقاقه مصلحة، ولو أرقّه، لصار كلاً [ووبالاً] (3) على المسلمين، [ولو أدى الجزية التي قبلها، ورأى الإمامُ قَتْلَه] (4)، فإذا امتنع قتلُه بالجزية ولم [ير] (5) الإمام إرقاقَه، لم يتجه إلا إطلاقُه، وقبولُ الجزية منه.
7739 - ومما نذكره من أحكام الأسارى أن الأسير قبل أن يجري الرقُّ عليه، وقبل أن ينفذ الإمام رأيه فيه، لو [ابتدره] (6) واحدٌ من المسلمين، وقتله (7)، فقد أساء وتعرض لتعزير الإمام، ولكن يجب ألا نُضمِّنه؛ فإنه كافر غيرُ معصوم.
فإن قيل: لو كان الإمام يرى إرقاقهم، فمن قتل واحداً منهم، فقد فوّت الإرقاق، فهلا كان ذلك بمثابة تفويت الرق بالغرور، والمغرور يلتزم القيمة لمنعه الرق من الجريان؟ قلنا: ذلك الرق كان يجري لا محالة لولا الغرور، فالغرور دفع الرق الذي لا حاجة إلى تحصيله، والرق لا يجري على الأسير من غير ضرب، وأشبه
__________
(1) الوجهُ: خبر لقوله: هذا، وليست بدلاً.
(2) (س): "فإن قيل هذا مذهب الإصطخري". ولم يسبق للإصطخري هذا الكلام، فهل صاحب التقريب حكى ما حكاه عن الإصطخري؟ هذا محتمل جدّاً.
(3) في الأصل: وقتالاً، و (س): ووباً، والمثبت من تصرفات المحقق.
(4) في الأصل: ولولا الجزية التي هذا رأي الإمام قتله، فإذا امتنع ... والمثبت من (س).
(5) في الأصل: ولم يقرّ الإمام.
(6) في الأصل: ابتدى.
(7) ساقط من (س).

(11/474)


الأشياء بما نحن فيه إتلاف الجلد القابل للدباغ قبل الدباغ؛ فإنه لا يوجب الضمان مع تهيُّؤ الجلد للدباغ ابتداءً [فإنشاء] (1) الدباغ كإنشاء الإرقاق، وليس ما نحن فيه كالخمرة المحترمة؛ فإن من أصحابنا من أوجب على متلفها الضمان، وهذا على بعده موجّهٌ بأن الخمرة لو تركت، فإلى التخلل مصيرها.
وقد نجز غرضنا من الكلام في الأسارى، فإن كان فيهم بقايا سنستدركها في [كتاب] (2) السير، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "وينبغي للإمام أن يعزل خمسَ ما حصل ... إلى قوله يرضخ لهم من الجميع" (3).
7740 - نصدّر هذا الفصلَ بالرضخ وأهلِه وبيان محله، فنقول أولاً: مستحق السهم المسلمُ الحر البالغ الذي [بلغ عدّه] (4) من أهل القتال، وإن كان يضعف غناؤه ويقلّ أثره، ويشترط مع ذلك كله ألا يكون مخذِّلاً، على ما سنصف المخذلَ وحكمَه.
7741 - والنسوةُ والصبيان وأهل الذمة والعبيد أصحاب الرضخ.
ثم إن كانت النسوة [يُتصور] (5) منهن إعانة الجند في خدمةٍ، أو حفظ رَحل أو تهيئة طعام، أو غيره من وجوه المنفعة، فهم من أهل الرضخ، وكذلك الصبيان إذا كان ينتفع الجند بهم، فالجواب على ما ذكرناه.
وإن لم يكن في النسوة منفعة، وما كان بلغ الصبية (6) مبلغ النفع، فقد ظهر في
__________
(1) في الأصل: كلمة غير مقروءة (انظر صورتها).
(2) زيادة من (س).
(3) ر. المختصر: 2/ 188، 189.
(4) في الأصل: الذي لا تبلغ عنده.
(5) في الأصل: يتصد، و (س): يصدر منهم.
(6) (س): الصبي مبلغ المنفعة.

(11/475)


كلام الأصحاب تردد في أنا هل نرضخ لهم؟ فمنهم من قال: لا رضخَ إلا لمن ينتفع الجند بحضوره، وهذا ظاهر القياس.
ومنهم من قال: [يرضخ] (1) لهم، حتى لا نكون حرمنا مسلماً شهد الوقعة، وشاهد المغنم، وإذ ندب الله تعالى إلى ذلك في قسمة بين ملاك متعينين في أملاك لازمةٍ لهم فقال عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] فلا يمتنع إذاً تحتم ذلك في المغانم التي لا تثبت الأملاك [فيها] (2) إلا بالقسمة.
وقد أشار الأئمة إلى التيمُّن بحضور أطفال المسلمين ونسائهم، فلا يبعد أن يكون حضورهم مدْرأةً لظفر الكفار وأهل الذمة، وإذا حضروا، فهم أهل الرضخ، ثم إن حضروا (3 بإذن صاحب الراية، استحقوا الرضخ، وإن حضروا 3) ولا أمر ولا نهي، استحقوا الرضخ، فإنهم في منصب الذب عنا؛ إذ هم من سكان ديارنا.
وإن نهاهم الإمام [عن الحضور] (4)، فلم ينتهوا، وحضروا، ففي المسألة تردد.
ويجوز أن يقال: لا يستحقون الرضخ لمخالفتهم.
ويجوز أن يقال: يستحقونه؛ فإن [الحضور] (5) في المغانم لا يختلف بالموافقة والمخالفة.
وأما نسوان أهل الذمة وأطفالهم، فقد ظهر [فيهم] (6) اختلاف الأصحاب.
والذي [نرى] (7) ذكره أوجه: أحدها -[أنا لا نرضخ] (8) لهم أصلاً.
والثاني - أنا نُجريهم مجرى أطفال المسلمين ونسائهم.
__________
(1) في الأصل: يوضح.
(2) في الأصل: منها.
(3) ما بين القوسين ساقط من (س).
(4) زيادة من (س).
(5) في الأصل: الحطوط.
(6) في الأصل: منها.
(7) في الأصل: ينتهي.
(8) في الأصل: أما لا نوضح.

(11/476)


والثالث - أنا نرضخ لهم إن كان فيهم منفعة وغَناء، وإن لم يكن فنقطع بأن لا يرضخ لهم، وإن رضخنا لأمثالهم من أطفال المسلمين؛ والفرق أنا نستدفع بأطفال المسلمين كرّةَ الكفار وظفرتهم، ولا يتحقق هذا المعنى في أطفال الكفار.
7742 - وأما المخذّل، فهو الذي يكسر قلوب الجند، ويسعى في تفريق كلمتهم، ويستحثهم على الهزيمة، ويُرعب قلوبَهم بالأراجيف، ويفتّر أعضاءهم، فإذا شهد الوقعة، وشعر الإمام به، صرفه قهراً، فإن [انغل] (1) في الجند، فلا سهم له، ولا رضخَ له، اتفق علماؤنا عليه، فلو اتفق منه قتلُ كافرٍ، وهو متمادٍ على تخذيله، وقد يتفق منه القتل في دفع أو إرهاقٍ إلى مضيق، فقد قطع أصحابنا بأنه لا يستحق سلَب القتيل، [والسبب] (2) في ذلك أنه ضرٌّ كله، وأثره عظيم، وضرره بيّن، ونحن إنما نُسهم أو نرضح لمن ينفع أوْ لا يضر.
فإن فرض فارض ضرراً من استصحاب الأطفال، فليس الضرر منهم، وإنما هو من ضرورة الحال، والمخذّل [مزجور بالحرمان] (3) عن وجوه الاستفادة.
7743 - ومما نذكره في ذلك أن المريض الزَّمن الذي لا حراك به من أهل الرضخ، كما سنصف المرضى وأحوالَهم.
فهذا بيان من يستحق الرضخ.
7744 - فأما القول في محل الرضخ، فحاصل ما ذكره الأئمة في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أن الرضخ يخرج من المغنم قبل التخميس، ثم يقع التخميس بعد إخراج الرضخ، ووجه هذا تنزيل الإرضاخ منزلة المؤن، كمؤنة نقل المغانم إلى الموضع الذي تتهيأ القسمة فيه [فالإرضاخ] (4) ينزل هذه المنزلة.
__________
(1) انغل: يقال: انغلّ في الفلاة ذهب فيها، والمعنى دخل في الجيش، ولم ينصرف بصرف الإمام إياه (المعجم).
(2) في الأصل: "فالبينة".
(3) في الأصل صحفت هكذا: من جوزوا الحرمان.
(4) في الأصل: كالإرضاخ.

(11/477)


والوجه الثاني - أن المغانم تخمّس أولاً، ثم يؤخذ الرضخ من أربعة أخماس الغنيمة.
ويحط قدر الرضخ عن قدر السهم كما سنصفه، فالرضخ إذاً عند هذا القائل من حصص الغانمين، ولكنه محطوط من السهم، كما يحط حق الراجل عن حق الفارس.
والوجه الثالث - أن الإرضاخ يخرج من السهم المرصد للمصالح، وقد ذكرنا فيما تقدم التنفيل في البدأة والرجعة، وذكرنا محل [التنفيل] (1)، والخلافَ فيه، وقد ظهر عندنا أن من أصحابنا من ينزل النفل منزلة الرضخ، وقد تفصل القول في محله.
7745 - ومما نذكره متصلاً بذلك أنه لو شهد الوقعة أهل الرضخ، ولم يشهد من أهل السهم أحد، فإذا استفادوا غنائم، فلأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدها - أن المغانم تخمس، فيصرف الخمس إلى مصرفه، ويصرف أربعة الأخماس إليهم.
ومن أصحابنا من قال: [يفرز] (2) الخمس، ويصرف إلى أهله، ويصرف إليهم الرضخ على ما يراه الإمام، ويصرف الفاضل إلى تمام أربعة الأخماس إلى بيت المال، ويلقى في سهم المصالح. وهذا ضعيف غيرُ معقول؛ فإنا لا ندري كم ينصرف إليهم، وكم يقدر معهم من أصحاب السهام، فلا ضبط لهذا، ولا وجه له.
ومن أصحابنا من قال: ما أحرزوه لا يثبت له حكم الغنيمة أصلاً، وسبيله كسبيل ما يأخذه المسلمون سرقة، وما كان كذلك لا يخمّس، بل يصرف بجملته إلى السرّاق، على ما سيأتي شرح ذلك في [كتاب] (3) السّير إن شاء الله عز وجل.
ووجه ذلك أنهم ليسوا من أهل القتال، وإن قاتلوا، فهم أتباع، فإذا لم يكن معهم أصحاب السهام، فلا حكم لقتالهم.
7746 - ثم إذا أضفنا مقداراً من الرضخ إلى العبد (4 فهو لمالك رقبته اعتباراً بجميع أكساب العبد 4). ولو جرى الإحراز، وهم على الرق، ثم عَتَقوا قبل القسمة،
__________
(1) في الأصل: "النفل".
(2) في الأصل: يقدّر.
(3) زيادة من (س).
(4) ما بين القوسين ساقط من (س).

(11/478)


فالحقوق للسادة، كما ذكرنا؛ فإن [الإحراز] (1) جرى في اطراد الملك على رقابهم، ولو عتقوا قبل انجلاء القتال، فهذا فيه احتمال، وسنذكره في الفصل الذي يعقب هذا الفصل، عند ذكرنا التغايير الطارئة على الجند في أثناء القتال، كنفوق الدوابّ واعتراض الأمراض وغيرها.
7747 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه أن الإمام يخرج الخمس، ويقرع بينه [وبين] (2) أربعة الأخماس، ولا يكاد يخفى كيفية الإقراع في ذلك، وهو محتوم لما في أعيان الأموال من الأغراض.
فصل
قال: "ثم يعرف عددَ الفرسان والرجّالة ... إلى آخره" (3).
7748 - إذا أفرز الإمام الخمسَ، وأراد قَسْم أربعة الأخماس بين الغانمين، فينبغي أن يعلم أولا الفضل الذي بين الفارس والراجل: مذهب الشافعي رضي الله عنه أن للراجل سهماً، وللفارس ثلاثة أسهم: سهمٌ في مقابلته وسهمان في مقابلة فرسه، وهذا إنما صرنا إليه من جهة توقيف الشارع، [وقد صحَّ الخبر] (4) على (5) حسب هذا.
ومن شهد الوقعةَ بفرسين، فالمذهب الظاهر أنه لا يسهم إلا لفرس واحد، وحكى شيخي عن بعض أصحابنا وجهاً أنه يسهم لفرسين، وهذا يقرب بعض القرب من مذهب من جعل الجنيبة من سلب الكافر القتيل بمثابة مركوبه، ثم لا مزيد على فرسين
__________
(1) في الأصل: الأخذ إن.
(2) في الأصل: ومن.
(3) ر. المختصر: 3/ 189.
(4) صحفت في الأصل هكذا: ويرضخ الجند على.
(5) الخبر المشار إليه، هو حديث ابن عمر المتفق عليه: جعل للفرس سهمين ولصاحبه سهماً.
وهذا لفظ البخاري (ر. البخاري: كتاب الجهاد، باب سهام الفرس، ح 2863، ومسلم: كتاب الجهاد، باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين، ح 1762).

(11/479)


في الموضعين، والوجه المحكي في أن الجنيبة سلبٌ معروف، وسببه بيّن، وإثبات السهم لفرسين مع اتحاد الفارس لم أره في مذهبنا إلا من جهة شيخنا (1). وقد نقل الفقهاء هذا مذهباً عن الأوزاعي.
7749 - ثم لا سهم إلا بسبب الخيل، وراكب البغل لا يستحق إلا ما يستحق الراجل، وكذلك القول في [راكب الحُمر] (2). والإبلُ والفيلةُ، وإن كان فيها بعض الغناء، فالسهم الزائد للخيل.
والذي يعترض (3) في قلب الفقيه أن المسابقة جائزة على الخف والحافر، والمسابقة إنما جوّزت مع اشتمالها على الغرر المضاهي للقمار استحثاثاً على ركوب الخيل والإبل.
ولا اغترار (4) بهذا، فليس كل عُدّة تجوز هذه المعاملة عليها يزداد السهم بسببها، كالمناضلة (5)، وهي الأصل دون سائر الأسلحة، فالغرض من المسابقة الاستعداد بالأهب، والسهام تؤخذ من (6) الدّواب التي تصلح للهرب والطلب والكرّ والفرّ، والإجماع يغنينا عن هذا.
7750 - ولو أحضر الغازي فرساً رازِحاً (7) لا يكاد ينهض لضعفه، وهُزاله، فحق الإمام أو صاحب الراية أن يمنع من مثل هذا، إذا كان في الخيل الصالحة [والأهب] (8) العتيدة [ممتنَع] (9)، كما يمنع من مصادمة القتال من غير سلاح، فلو اتفق إحضار مثل
__________
(1) المذهب الوجه الأول، وهو الذي قطع به الجمهور، كما قال النووي، وجعل الآخر (قولاً) حكاه بعضهم (الروضة: 6/ 384).
(2) في الأصل: ركاب الجمل.
(3) (س): والذي يعرض للفقيه.
(4) (س): ولا اعتداد.
(5) المعنى أن المناضلة تكون بالسهام خاصة، ولا تزاد أنصبة الغانمين وأسهم بسبب رميهم بالسهام أثناء المعركة.
(6) المعنى أن السهام من الغنيمة تؤخذ زيادتها وتستحق بسبب الدوابّ التي تصلح للكرّ والفر.
(7) رازحاً: براء مفتوحة، وبعد الألف زاي مكسورة، هو المهزول البين الهزال. (مصباح).
(8) غير مقروءة في الأصل.
(9) في الأصل: متسع، وممتنع أي منعة.

(11/480)


هذا الفرس الذي لا غناء فيه، ففي تعلق السهم بإحضاره قولان: أحدهما - أنه لا يتعلق به استحقاق سهم؛ من جهة أنه لا غَناء فيه، فكان كالجنس الذي لا يتهيأ لمقاصد القتال من البغال والحمر وغيرها.
والقول الثاني - أنه يتعلق به استحقاق السهم؛ نظراً إلى الجنس؛ فإن اتباع آحاد الأفراس في الجند العظيم عسر، فالوجه الاكتفاء بالجنس، وحسم باب النظر في التفاصيل، وهذا بمثابة إيجاب الزكاة في الجَرْبى المراض من الماشية، مع علمنا بأن الشرع (1 لم يعلق الزكاة 1) إلا بالجنس المُرْفق (2) والمقدار التام.
ثم من أوجب السهم نظراً إلى الجنس، اشترط أن يكون الفرس بحيث يتأتى ركوبه، حتى (3 لو أحضر مهراً لا يركب أو فرساً لا يتأتى ركوبه 3)، فلا يجوز أن يكون في مثل هذا خلاف؛ فإن متعلّق إثبات السهم [أن] (4) استحقاق السهم لا يتوقف على مصادمة الكفار، بل الوقوف في الصف كافٍ في الاستحقاق؛ من جهة أن المصطفّين وزرُ المقاتلين كرّاً وفرَّاً، فمن كان على فرسٍ في الصف أرعب بموقفه، ولا يطّلع العدو على صفة فرسه، وشرْطُ هذا أن يكون مركوباً (5).
7751 - ولو نفق الفرس قبل القتال، لم يستحق صاحبه إلاَّ سهمَ راجل؛ فإنه لم يلق القتال إلا راجلاً، ولا فرق بين أن يكون نَفَقُ (6) الفرس بعد دخول دار الحرب، أو قبل دخولها، خلافاً لأبي حنيفة (7)، فإنه قال: إذا دخل بفرسه دار الحرب ونفق،
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (س).
(2) المرفق: من أرفقه به نفعه. (معجم).
(3) ما بين القوسين ساقط من (س).
(4) في الأصل: واستحقاق.
(5) قال الرافعي: "وعن أبي إسحاق أنه لا خلاف في المسألة، بل القول بالإسهام محمول على ما إذا أمكن القتال عليه، والآخر على ما إذا لم يمكن". (فتح العزيز: 7/ 373).
(6) (نفَقَ) أي (نفوق) كما في (س). وغالباً يستعمل الإمام (فَعَلَ) مكان (فعول)، مثل: صَدَر مكان صدور، وحَدَث مكان حدوث.
(7) ر. مختصر الطحاوي: 285، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 441 مسألة: 1588.

(11/481)


استحق سهم الفرس، وإن لم يلق عليه قتالاً، وإن قامت الحرب، [والفرس] (1) مركوب قائم، ثم نفق قبل انجلاء الحرب، فالحاصل ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يستحق سهم الفرس، حتى ينجلي القتالُ والفرسُ قائم، فإنّ الاستحقاق يستقر بانكشاف الحرب وانجلائها، فإذا تقدّر (2) نفوق الفرس قبل تحقق سبب الاستحقاق، لم يُستحق بسبب الفرس شيء.
والقول الثاني - أن صاحب الفرس يستحق سهم الفرس؛ لأنه لقي القتال عليه، وحصل الإرعاب منه في انتصاب الحرب.
والقول الثالث - أنه إن نفق قبل حيازة المغنم، فلا سهم بسبب الفرس، وإن نفق بعد حيازة المغنم، وقبل انجلاء الحرب، استحق صاحبه سهم الفرس، وسنوضح هذا الأصل، إن شاء الله عز وجل - عند ذكرنا المددَ إذا لحقوا بهم متى يشاركون في المغنم، ومتى لا يشاركون فيه.
ولم يفصل أصحابنا بين أن يكون سبب الهلاك (3) جراحة أصابتها في الحرب [وبين] (4) أن يكون نفوقها لا بسبب القتال.
ولو مات الغازي في أثناء الحرب قبل انكشافها، فقد قطع الأئمة أقوالهم، بأنه لا يثبت له استحقاق في المغنم؛ حتى يقال: يخلفه الورثة فيه. وهذا يعضد أحد الأقوال في نفوق الدابة.
والمقدار الذي ذكر الأصحاب في الفرق أن الغازي إذا مات قبل انكشاف الحرب، فلا مستحق يُعزى إليه حقُّ المغنم، وإذا مات الفرس وقد أحضره صاحبه وأرعب به، [فلئن] (5) نفق الفرس، فمن يستحق بسببه قائم، وهذا الفرق فيه غموض [وبُعد] (6).
__________
(1) في الأصل: فالفرس.
(2) (س): اتفق تفوق.
(3) (س): هلاك الدابة جراحة ...
(4) في الأصل: ومن.
(5) في الأصل: فليس.
(6) في الأصل: وتعذر.

(11/482)


7752 - ومما يتعلق بذلك أن الغازي لو مرض في أثناء القتال، قال الأصحاب: إن كان ذلك المرض بحيث لا يمنعه من القثال، فلا كلام، وهو من أهل القتال، واستحقاق المغنم. وإن كان ذلك المرض يمنعه من القتال، نُظر: فإن كان [ممّا] (1) يرجى زواله، فلا مبالاة به، وإن كان ذلك المرض مزمناً لازماً، بحيث لا يرجى زواله، ففي استحقاق السهم قولان: أحدهما - أنه لا يستحقه، لخروجه عن وصف المستحقين قبل انكشاف القتال، فصار كما لو مات في أثناء القتال.
والقول الثاني - أنه يستحق لبقائه، ويتصور إضافة استحقاقٍ إليه.
وهذان القولان -قبل أن ننعطف على هذه التفاصيل بالتتبع- يضاهيان القولين في نفوق الدابة؛ فإن نفوقها مع بقاء [صاحبها] (2) وإمكان إضافة الاستحقاق إليه (3 بمثابة سقوط قوّته مع إمكان إضافة الملك والاستحقاق إليه 3) فلا فرق، ومأخذ الخلاف في المسألتين متقارب.
وذكر بعض أئمتنا في سبب ثبوت السهم للمريض الذي زَمِنَ أن رأيه منتفع به، بأن يراجَع ويستشار، فلم يسقط الانتفاع به بالكلية، وهؤلاء ربما يترددون فيه إذا جُنّ، فمنهم من يجعل الجنون كالموت في إسقاط السهم قولاً واحداً.
ومنهم من أجرى القولين في طريان الجنون؛ لأن المجنون لا يمتنع إضافة الملك إليه، وهذا المسلك أفقه؛ فإن الرأي المجرد لو كان معتمداً في الباب، لوجب إثبات السهم للذي شهد القتال مريضاً، وبقي كذلك إلى الانجلاء، وليس الأمر كذلك.
فهذا ما ذكره الأصحاب.
7753 - وفي بعض هذه الفصول تأمل على الناظر. أما ما ذكره الأصحاب من أن المرض إذا كان يرجى زواله، فما المراد بهذا؟
ليعلم المسترشد أن المراد برجاء الزوال توقُّع زواله في أثناء القتال، قبل انكشافه،
__________
(1) في الأصل: فيما.
(2) في الأصل: صاحبه.
(3) ما بين القوسين ساقط من (س).

(11/483)


وتقدير الكلام أن نفرض زوال ما اعترض، حتى يقدّرَ كأنه لم يكن، وما أراد الأصحاب توقعَ الزوال بعد انقضاء القتال، حتى لو كان ذلك المرض بحيث لا يتوقع زواله إلا بعد أيامٍ مثلاً، فهو في حكم المرض المزمن.
ومما يجب الاعتناء به أن من حضر الوقعة وبه (1) مرض يمنعه من القتال، فزَمِن مثلاً، فلا سهم له، ولكنه يستحق الرضخ، ولو كان به مرض لا يمتنع عليه معه ركوب الفرس، والوقوفُ في الصف، ولكن لا يتأتى منه مباشرة القتال، فلا سهم له، وذلك أنا وإن كنا نسهم لمن يقف في الصف ولا يقاتل، فيشترط أن يكون بحيث يتأتى منه القتال لو مست الحاجة إليه، وإنما يكتفى بالوقوف في الصف؛ لأن ترتيب القتال يقتضي ذلك؛ فإن جملة الجند لا يتأتى منهم بأجمعهم الاشتغال بالقتال دفعة واحدة، ولكنا نشترط ما ذكرناه من إمكان القتال عند مسيس الحاجة، فلو دام -من أول القتال إلى آخره- المرضُ الذي وصفناه، فلا سهم، والواجب الرضخ.
ولو كان من أهل القتال، فطرأ المرض الذي يرجى زواله -على ما فسرنا ذلك- فإن اتفق زوال ذلك المرض فذاك، وإن اتفق دوامه إلى انجلاء القتال، ففي هذا تردد ظاهر، يجوز أن يقال: إنه بمثابة المرض المزمن، ويجوز أن يقال: ليس هو بمثابته، وهو كالطارىء الزائل.
وهذا يلتفت على تردد الأصحاب في أن من مرض مرضاً مرجو الزوال، وامتنع عليه الاستواء على الدابة، فليس له أن يستأجر من يحج عنه، وإنما يستأجر [ذو العَضب] (2) الذي لا يرجى زواله، فلو استأجر المريض مرضاً مرجو الزوال من يحج، فحج عنه الأجير، ثم تمادى المرض وأفضى إلى الموت، ففي وقوع الحج عن المستأجِر قولان.
هذا ضبط القول في الأمراض [التي تعرض] (3) وتزول أو لا تزول.
فرع:
7754 - إذا كان مع الرجل فرسه، ولكنه نزل ليقاتل راجلاً عند مسيس الحاجة إليه، والفرس مقود موجود بالقرب من صاحبه، ومهما مست حاجته إليه
__________
(1) (س): ومرض مرضاً.
(2) في الأصل: والعضب.
(3) في الأصل: الذي يعترض.

(11/484)


ركبه، فإذا كان كذلك، استحق سهم الفرس، لأنه مُرصَد معتد معه، فصار كما لو كان راكبه، هذا إذا كان الفرس بحضرته.
فأما إذا نزل الفرسان ليقاتلوا مترجلين في مضيق ثم درجوا فيه موغلين في القتال، وبعدوا عن الخيل، فهل يستحقون سهام الأفراس؟ حكى شيخي رضي الله عنه في ذلك وجهين: أحدهما - أنهم لا يستحقون؛ فإنهم [دخلوا] (1) القتال من غير خيل، ولم يكن الخيل بالقرب منهم، حتى يفرض منهم ركوبها إذا مست الحاجة إلى الركوب.
والوجه الثاني - أنهم يستحقون سهام الأفراس؛ فإنهم أحضروها الوقعة، والتزموا مؤنها، وهي موجودة، وما بعّدوها عن أنفسهم إلا لتولّجهم في المضيق الذي لا تنسلك الخيل فيه، وقد يرجعون على أدراجهم، فالخيل على هذه الصفة تعد عدة في المعترك (2).
هذا منتهى القول في الخيل وما يلحقها من التغايير.
7755 - فإذا تبين الغرض في ذلك، فإنا نذكر بعد هذا تفصيل القول في كيفية القسمة، فنقول: الغرض قسمة أربعة أخماس الغنيمة، فإن رأينا أخذ الرضخ من رأس الغنيمة، فليؤخذ المقدار الذي يفي بالأرضاخ، ثم الإمام لا يسوي بين مستحقي الإرضاخ مع التفاوت في الغَناء والأقدار، ولكنه يفاوت بينهم باجتهاده، وهي قريبة الشبه من الحكومات في أروش الجراحات، وهي مفوضة إلى اجتهاد الولاة، فالأمر في الرضخ على هذا الوجه يجري، ولا يظهر أثر الخلاف في أن الغنيمة (3) هل تخمس [أم] (4) لا؟ في أقدار الأرضاخ؛ فإنها سواء أخذت قبل التخميس أو بعدها، فالقاضي يقلّل ويكثِّر باجتهاده. وإنما يظهر الأثر في الخمس، فإن أفرزنا الخمس أوّلاً، كثر
__________
(1) في الأصل: رحّوا القتال (انظر صورتها) ولم أجد لها معنى، وفي (س): وجدوا القتال والمثبت تقدير منا رعاية للسياق، مع ملاحظة أقرب صورة للكلمة الموجودة.
(2) جعل الرافعي والنووي مناط استحقاق سهم الفرس هنا احتمال الركوب، وإلا فلا (الشرح الكبير: 7/ 374، والروضة: 6/ 384).
(3) (س): القسمة.
(4) في الأصل: أو لا.

(11/485)


قدره، ووفر مبلغه، وإن أخذنا الرضخ أولاً، انتقص الخمس.
وإن فرعنا على الأصح، وهو أن الأرضاخ تؤخذ من أربعة أخماس الغنيمة، (1 فهذا ممّا نقصده الآن، فنقول أولاً: إن لم يكن في المعسكر أحد ممن يستحق الإرضاخ، فإنا نقسم أربعة أخماس الغنيمة 1) بعد إخراج أسلاب القتلى على الغانمين، وننظر إلى الغانمين، فإن كانوا رجّالة، قسم المغنم عليهم بالسوية، وكذلك إن كانوا فرساناً لا يشوبهم راجل، قسمت الغنيمة عليهم بالسوية، ولا يظهر التفاوت، ولا فرق بين الوقوف في الصفوف وبين الذين يصلون (2) بنار القتال.
ولو كان الغانمون رجالة وفرساناً، فنقول: للراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم، والسبيل أن نضبط عدد الرجالة والفرسان، ونعتمد عدد الرجالة، ونضعّف (3) عدد الفرسان، فنعد كل فارس ثلاثة من الرجالة، ونقسم أربعة أخماس الغنيمة على منتهى العدد الخارج، ثم نصرف إلى كل راجل سهماً من السهام [المعدّة] (4) عنده، وإلى كل فارس ثلاثة أسهم، فإذا كان الجندُ ألفَ راجل، وألفَ فارس، فأربعة أخماس الغنيمة تقسم على أربعة آلاف سهم، على القاعدة التي ذكرناها.
هذا إذا لم يكن ثمَّ أصحابُ رضخ، فإن كان مع أصحاب السهام أصحاب رضخ، وقلنا: أرضاخهم تقع بعد التخميس من أربعة أخماس الغنيمة، فالوجه أن يضبط القاسم مبلغَ أربعة الأخماس، ويتأمل عدد [أصحاب] (5) السهام، ثم يرى رأيه في أصحاب الرضخ، وينهي اجتهاده نهايته في أقصى ما يراه لبعضهم، وفي أدنى ما يراه لبعضهم وأوسطهم، ويحط الرضخ الأعلى عن سهمٍ، ويثبت مقداره بالاجتهاد، ويثبت الأدنى والأوسط وينسبهما إلى الرضخ الأعلى، [ثم ينظر إلى كم ينتهي مبلغ الأرضاخ التي تعدّ للقسمة] (6) على عدد أصحاب السّهْمانِ، فيزيد ذلك المبلغ على
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (س).
(2) يصلَوْن: الفعل يتعدى بنفسه وبالباء.
(3) (س): وبعضهم.
(4) في النسختين: المعدلة.
(5) زيادة من (س).
(6) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(11/486)


العدد الذي كان يبتنى عليه القسمة بين أصحاب السهام لو انفردوا، فتعتدل القسمة على هذا النسق، وذلك بأن يكون أصحاب السهام ألفاً من الرجالة، وألفاً من الفرسان، فأعداد السهام أربعة آلاف، ثم لما نظر في أصحاب الرضخ اجتهاداً كانوا ثلاثمائة مثلاً، وكان المبلغ الذي أخرجه لهم بالاجتهاد مائة وخمسين، فيضم هذا العدد إلى أربعة آلاف، ويقسم أربعة أخماس الغنيمة من هذا المبلغ كله، ويحط منه ما يحتاج إليه الرضخ، ويقسمه على اجتهاده بينهم، ثم يقسم السهام الباقية على أصحاب السهام.
ولو كان في أصحاب الرضخ فارس، فكيف الوجه في اعتبار حصته (1)؟ أنحطها من سهم راجل؟ أم نحطها من ثلاثة أسهم لفارسٍ هو من أهل السهام؟ (2 الرأي أن نعتبره بفارس من أهل السهام 2)، ونجعل كأنه ثلاثة من أصحاب الرضخ، ونقدر له ثلاثة مبالغ، ونحط كل مبلغ عن سهم من السهام المعدَّلة عندنا.
هذا هو الوجه لا غير، وقد وضح ما أردناه من كيفية تعديل القسمة.
فصل
قال: "ولو كان لرجل أجير يريد الجهاد ... إلى آخره" (3).
7756 - الوجه أن نذكر المسائل في هذا النوع مرسلةً، ونوضّح في كل مسألة ما قيل فيها، ثم نذكر عند نجازها ضابطاً لها.
فالمسألة الأولى في الأجير: فإذا استأجر الغازي من يخدمه أو يسوس دابتَه، أو يضرب أخبيته، ويقوم بما تمس إليه حاجته استئجاراً صحيحاً، فالظاهر الذي أجراه الأصحاب أنه [إن] (4) لم يقاتل كما (5) حضر الوقعة، لم يستحق السهم. وإن قاتل،
__________
(1) (س): مراجعته.
(2) ما بين القوسين ساقط من (س).
(3) ر. المختصر: 3/ 190.
(4) زيادة من (س).
(5) كما: بمعنى عندما. وقد سبق التعليق عليها مراراً، بأنها ليست صحيحة ولا عربية. (قاله النووي في التنقيح).

(11/487)


ففي المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يستحق السهم مع الأجرة، أما الأجرة، فلعمله لمستأجِره، وأما السهم فلقتاله، وهو من أهل استحقاق السهم، ثم إنما يستحق الأجرة إذا لم يعطل من العمل الموظف عليه شيئاً، وذلك بأن يقع القتال في فترة من أعماله كان لا يحتاج إلى العمل فيها.
وإن عطّل عملَه في مقدارٍ من الزمان، يستحق السهمَ لقتاله، وسقطت الأجرةُ على مقابلة تعطيله الأعمال المستحقة عليه، إذا كانت الإجارة تعتمد المدّة. وهكذا ينتظم تصويرها.
والقول الثاني - أن الأجير لا يستحق السهم؛ لأنه لم يقصد الجهاد في خروجه وحضوره، وأيضاً فإنه [مستحَقُّ] (1) المنافع بالإجارة، فكان كالعبد، والعبد لا يستحق السهم، ولا يستحقه مولاه بسببه.
والقول الثالث - أن الأجير يخير بين الأجرة وبين السهم؛ لأنه متردّدٌ بين حالة المجاهدين وحالة الأجراء، [إن أترك] (2) الأجرة، تحقق أنه مجاهد فليستحق السهم، وإن استمسك بالأجرة، فلا سهم له، وتوجيه ذلك بيّن.
7757 - ثم إذا شرطنا في استحقاق السهم إسقاط الأجرة، فحاصل ما ذكره الأصحاب في إسقاط (3) مقدار الأجرة ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يكفيه [أن يسقط] (4) ساعة القتال، فإذا فعل ذلك، استحق السهم.
والثاني - أنه لا يستحق السهم [ما] (5) لم يسقط أصل الأجرة من يوم خروجه إلى منتهى القتال؛ فإنه بذلك يصرف خرجته إلى جهة الجهاد، ولا يكفي حط أجرة ساعة القتال.
والوجه الثالث - أنه يحط أجرته من وقت دخول دار الحرب. وهذا بعيد عن
__________
(1) في الأصل: يستحق.
(2) في الأصل: يترك.
(3) (س): في مقدار الأجرة.
(4) زيادة من (س).
(5) في الأصل: من.

(11/488)


قواعدنا؛ فإنا لا نعتبر دار الحرب، ولا نعلّق بها حكماً في أصول المذهب.
فهذا ظاهر ما ذكره الأصحاب في الأجير الذي استأجره الغازي على عملٍ من أعماله التي يحتاج إليه. وقول إسقاط الأجرة فيه تأمل؛ [فإنا إذا كنا] (1) لا نُبعد الجمع بين استحقاق السهم والأجرة، [فمقتضى] (2) ذلك أن يعمل ويقاتل.
فإن قال قائل: هو في وقت قتاله [لا يتفرغ] (3) إلى ما يعمل لمستأجِره، فيترك عمله ويقبل على القتال بدله، وإذا ترك عمله، استحال أن يستحق الأجرة بكمالها.
قلنا: هذا تضيّق في التصوير، لا معنى له؛ فإن الأجير لا يعمل [دائباً والمكافحة] (4) في القتال لا تدوم أيضاً، فيمكن فرض القتال في فترات [لو] (5) ترك الأجير العمل [فيها] (6) لجاز له، ولما أثر بترك العمل في الأجرة.
وأما قولنا: لا يدوم القتال، فهو حق؛ فإن البطلَ الكرّار ربَّما لا يحتاج في جميع مدّة القتال إلا إلى [ضربات] (7) تجري مجرى الفُرص ينتهزها، وليس من الحزم في القتال أن يأتي بها إلا كذلك، وأوقاتها تلطف، وأزْمانُها تخفّ، وليس المعنىُّ بقولنا: قاتلَ الأجيرُ أن يدأب ضرباً، وطعناً، وانغماساً في العدو. وإذا تبين المراد، اندفع بمجرد التصوير السؤال.
وإن حكمنا بأنه لا بد من إسقاط الأجرة بجملتها إن أراد السهم، فالمراد منه أن نهضته إن كانت مقصورة على جلب الأجرة، لم يقصد الجهاد؛ فإن أراد أن يصرف نهضته إلى جهة [الغزو] (8) فيسقط حقه الأول، حتى يُقدَّر كأنه لم يخرج لمّا خرج إلا غازياً.
__________
(1) في الأصل: وإذ لم إن كنا.
(2) في الأصل غير مقروءة وكذا في (س) انظر صورتها فيهما. والمثبت تصرف منا.
(3) في الأصل: لا ينوع (انظر صورتها).
(4) صحفت في الأصل بصورة غير ذات معنى (انظر صورتها).
ثم المكافحة: المراد المواجهة من قولهم: كافح القوم أعداءهم: استقبلوهم في الحرب بوجوههم ليس دونها ترس (المعجم).
(5) في الأصل: أو.
(6) في الأصل: بها.
(7) في الأصل: طريات.
(8) في الأصل: العدو.

(11/489)


ومن قال: لا يلزمه (1 أن يسقط 1) أكثر من أجرة ساعة القتال، فهذا فيه أدنى تأمل؛ [فإنا] (2) إن صورنا لطفاً في أوقات القتال، فلا يقابل شيءٌ من الأجرة وقتَ القتال، فلا معنى لإسقاط الأجرة.
وإن صورنا القتال ممتدّاً في زمان يقابَل بالأجرة، فإذا اشتغل فيه بالقتال وترك العمل، سقطت الأجرة من غير إسقاط، ولم يبق لاسقاط الأجرة معنى، [وآل] (3) النظر إلى أن الأجير الذي استحق المستأجِر عملَه هل له أن يترك العمل المستحَق عليه ويشتغل بالقتال، فينبغي أن [يتأنَّق] (4) الفقيه في [توجيه] (5) هذا الوجه.
والسبيل فيه أن نقول: إذا قاتل في أوقات لطيفة، وهو واقف في معظم الأوقات في الصف موقف المقاتلين، وهو في ذلك يعمل لمستأجره، وقد يكون عمله مراقبةَ الرجل أو رياضةَ [دابةٍ] (6) هو راكبها، فيتصور الإتيان بالأعَمال مع تصوير القتال وينبني على ذلك أنه يستحق (7) الأجرة؛ لأنه لم يخلّ بها، فإن أراد السهم على الوجه الذي نفرعّ عليه، فينبغي أن نسقط أجرته في مدة المعركة؛ فإنه [وإن] (8) لم يكن مباشراً للقتال في جميع المدة، [فهو] (9) في حكم المقاتل إذا قاتل في بعض المدّة، فقد اجتمع القتال وتوفية الأعمال، والتخير بين إسقاط أجرةٍ وجبت وبين طلب الأجرة وترك السهم.
وعماد هذا الفصل أن من جاء مجاهداً وجرّد قصده في الغزو، فلو وقف في الصف، ولم يقاتل، لكفاه ذلك في استحقاق السهم، لا خلاف فيه، ومن لم يتجرد
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (س).
(2) في الأصل: فأما.
(3) في الأصل: ذاك.
(4) في الأصل: يرافق.
(5) في الأصل: تصوير.
(6) في الأصل: الدابة.
(7) (س): ألا تسقط الأجرة.
(8) زيادة من (س).
(9) سقطت من الأصل.

(11/490)


قصده في الجهاد، فمجرد الوقوف من غير قتال، هو الذي فيه الكلام، والذي ذكره الأصحاب في تقسيم حال الأجير، حيث قالوا: "إن لم يقاتل، لم يستحق السهم".
أرادوا إذا وقف في المعركة، ولم يتعاط قتالاً، فخرج من ذلك أن الوقوف قتالٌ في حق من جرّد قصدَه، وليس هو قتالاً في حق الأجير على موجب هذه الطريقة، وسنذكر ترتيباً يخالف ذلك في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
وإن تعاطى القتال، ففيه الأقوال، كما قدمناه.
7758 - ولو حضر البقعة تاجراً، فالذي ذكره بعض الأصحاب في الترتيب أنه إن قاتل، استحق السهم، وإن وقف في الصف ولم يقاتل، ففي استحقاق السهم قولان، والتجارة أضعف من الإجارة؛ فإنها ليست من الأشغال الشاغلة، ويتأتى الجمع بينها [وبين غيرها من الأشغال، وأيضاً؛ فإن التاجر لا يُستَحقُّ عليه] (1) عملٌ سوى القتال بسبب اشتغاله بالتجارة، وإبرامه عزمه عليها، والأجير كالعبد؛ من جهة أنه مستحَقُّ المنفعة، فاقتضى هذا الافتراقُ قلبَ الترتيب وإجراءه على مقتضى ما ذكرناه في الأجير، فإنا قلنا: إن الأجير إن لم يقاتل، لم يستحق السهم، وإن قاتل، ففي استحقاقه الخلاف المقدم، ونقول في التاجر: إن قاتل استحق، وإن وقف ولم يقاتل، ففي المسألة قولان.
7759 - ولو كان في أيدي الكفار أسير من المسلمين، فأفلت ذلك الأسير من ربطهم وتحيز إلينا، فالذي أجراه الأصحاب أنه إن قاتل، استحق السهم، وإن وقف في صف المسلمين، ولم يقاتل، ففي المسألة قولان، على الترتيب الذي ذكرناه في التاجر، ووجه التشبيه أنه يليق بحال الأسير إذا أفلت أن يقصد مقاتلة الكفار، والاشتفاء منهم، وليس يتحقق فيه ما ذكرناه في الأجير من كونه مستغرق المنفعة مستحَق العمل، فرأى الأصحاب تشبيه الأسير بالتاجر في الترتيب.
7760 - ومما ذكره الأصحاب أن الإمام إذا استأجر من سهم المصالح أجيراً للقتال،
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.

(11/491)


فقد أطلق الأصحاب أن ذلك جائز، ثم قالوا: إذا [حضر وقاتل] (1)، فهل يستحق السهمَ؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قطع بأنه لا يستحق السهم، لأن عينَ قتاله مقابلٌ بالأجرة، فيستحيل أن يقابله استحقاقُ السهم، وليس كالمستأجَر على الخدمة والسياسة (2)؛ فإنه [إن] (3) قاتَل، فليس [قتالُه مقابلاً] (4) بالأجرة قصداً.
ومن أصحابنا من جعل المستأجَر على القتال بمثابة المستأجر على الخدمة والسياسة، وجعل المسألة في استحقاق السهم على الأقوال التي ذكرناها.
ويخرج من هذا الترتيب أن سبب المستأجر على القتال أقوى من سبب المستأجر على [غير] (5) القتال من الأعمال، والاستئجار على الأعمال أقوى من التجارة، وإفلات الأسير.
فهذا ترتيب جماهير الأصحاب.
7761 - فإن [اعترض] (6) على الفقيه إشكال في استئجار الإمام طائفةً على الجهاد، فلا ينبغي أن يستبعد ذلك على شرط الضبط بالمدّة، فإن فروض الكفايات يجوز الاستئجار على معظمها، كحمل الجنائز [وحفر] (7) القبور، وما في معناها، [وسنجمع] (8) في ذلك قولاً ضابطاً في أول كتاب الصداق، إن شاء الله عز وجل.
والذي يجب الاعتناء به في تصوير الإجارة إعلام العمل، وهذا [قد] (9) يغمض مع ذكر المدّة؛ لأنّ غوائل القتال وما تمس الحاجة إليه لا ينضبط. هذا فيه بعض
__________
(1) في الأصل: حضره وقاتل.
(2) والسياسة: أي سياسة الدابة.
(3) ساقطة من النسختين.
(4) في الأصل: بمثابة مقاتلاً.
(5) في الأصل: عين.
(6) في الأصل: اعتراض.
(7) (س): وحمل.
(8) في الأصل: ونستجمع.
(9) في الأصل: به.

(11/492)


النظر، ويمكن فرض بذل العوض (1) في معرض الجعالة، حتى تكون المعاملة أقبل للجهالة، فهذا مجموع ما أبهمه الأصحاب وأرسلوه من المسائل، مع مزيد شرح في التنبيه على المراتب.
7762 - وذكر الشيخ أبو بكر في خاتمة هذا الفصل ما يشفي الغليل، وقال: كل مسألة قلنا فيها: إن لم يقاتل، لم يستحق السهمَ، وإن قاتل، فعلى أقوال، فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا: يستحق المقاتل، ففي الواقف قولان.
وكل مسألة قلنا فيها: إن قاتل، استحق، وإن وقف، فعلى خلاف، فمن أصحابنا من قال فيها: وإن قاتل فهل يستحق السهم؟ فعلى قولين. فيخرج من مجموع كلام الأصحاب في الإجارة والتجارة وإفلات الأسير واستئجار الإمام على عين القتال أقوال: أحدها - أن هؤلاء يستحقون إذا وقفوا وشهدوا المعركة وإن لم يقاتلوا.
والثاني - أنهم لا يستحقون السهم وإن قاتلوا.
والثالث - أنهم يستحقون السهم إن قاتلوا، ولا يستحقون بالوقوف المجرد.
والرابع - أن (2) التاجر يستحق والأجير لا يستحق.
والخامس - أنه يفصل بين أن يُسقط الأجرة أو لا يُسقطها، كما تفصل.
[وينشأ] (3) قولٌ آخر [من] (4) الفرق بين المستأجر على القتال وبين المستأجر لشغل آخر، وهذا كما أشرنا إليه في الترتيب المشهور من قوة بعض الأسباب وضعف بعضها. وإذا رأينا في الأجير أن يُسقط الأجرة، فلا شيء في حق التاجر يُسقطه، وقد ينقدح على بُعد أن يُشترط تصميمه على العزم على ترك التجارة، وهذا ضعيفٌ، لا اتجاه له.
__________
(1) (س): بذل بعض العوض.
(2) (س): أن الأجير لا يستحق، والتاجر يستحق.
(3) في الأصل: مـ ـلثا (انظر صورتها).
(4) في الأصل: في.

(11/493)


قال الشيخ أبو بكر: كأن الأقوالَ في هذه [المسائل] (1) ناشئة (2) من الخلاف في أن [القصد] (3) والنية هل تعتبر في الجهاد؟ ففيه خلاف: من أصحابنا من لا يعتبر القصدَ في الجهاد، وعلى هذا لا يبعد أن يسهم لهؤلاء، قاتلوا أو وقفوا ولم يقاتلوا.
ومن أصحابنا من اعتبر القصدَ في الجهاد، فعلى هذا تنفصل الأقوال كما تقدم ذكرها.
فهذا مجموع القول في هذه المسائل تأصيلاً وتفصيلاً.
ثم حيث قلنا: (4 إنه يستحق السهم، فلا كلام، وحيث قلنا 4): لا يستحق السهم، فهل يستحق الرضخ، فعلى وجهين حكاهما الشيخ أبو علي والعراقيون، أنه يستحق الرضخ، ولا ينحط [عن] (5) الأطفال والمرضى في حكم المغنم، وهذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من قال: لا يستحق الرضخ، فإن المعنى الذي أسقط السهم يتضمن إسقاط حقه بالكلية من المغنم، وهذا وإن كان له وجه، فالمذهب ما تقدم من استحقاق الرضخ.
فرع:
7763 - إذا استأجر واحدٌ من المسلمين غازياً حتى يجاهد عنه، فالاستئجار باطل؛ فإن الجهاد مما لا يجري النيابة فيه، فلو اندفع (6) المستأجر على الغزو، ووفّى ما شرط عليه من العمل، فلا شك أنه لا يستحق الأجرة، فإن العمل لم يقع عن المستأجِر، وهل يستحق السهم؟ فعلى قولين ذكرهما الأصحاب، وقربوهما من القولين في أن المستأجَر على الحج إذا نوى [الحج عن] (7) مستأجِره، وكان الأجير
__________
(1) في الأصل: المسألة.
(2) (س): المسائل بأسرها ناشئة.
(3) في الأصل: المقصد.
(4) ما بين القوسين ساقط من (س).
(5) في النسختين: من.
(6) (س): تبرّع.
(7) ساقط من النسختين.

(11/494)


صرورةً، فالحج يقع عن الأجير، وفي نفي استحقاق الأجرة اتفاقٌ بين الأصحاب، فلا أجرة، ولو صح الاستئجار على الحج، فأحرم الأجير عن مستأجِره على الصحة، ثم صرف الحجةَ إلى نفسه ظاناً أنها تنصرف إليه، وقضى المناسك على هذا القصد، ففي استحقاق الأجرة قولان، فجعل الأصحاب استحقاق السهم مع فساد الإجارة على خلافٍ، ولا شك أن هذا التردد يترتب على أن الإجارة على الجهاد، ولو صحت [من] (1) الإمام، فهل يستحق المجاهد السهمَ مع استحقاق الأجرة؟ وفيه الخلاف المقدم.
فإن قلنا: إنه يستحق الأجرة والسهمَ، فإن لم يستحق الأجرة لفساد الإجارة، فلأن يستحق السهم أولى، وإن قلنا: المستأجر على الصحة إذا استحق الأجرة لا يستحق السهم، فالمستأجر على الفساد إذا لم يستحق الأجرة، فهل يستحق السهم؟ وفيه الخلاف الذي ذكرناه. والمذهب أنه يستحق.
7764 - ومما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك أن الواحد من المسلمين إذا استأجر من يغزو، ولم يقصد وقوع الغزو عنه، وإنما قصد إقامة هذا الشعار وتحصيلَ هذا الخير وصرف عائدته إلى الإسلام، ففي جواز الاستئجار من آحاد المسلمين وجهان (2) مبنيان على جواز الاستئجار على الأذان من آحاد المسلمين، وكل ذلك يأتي مستقصىً، إن شاء الله عز وجل - في أول الصداق.
فرع:
7765 - قال صاحب التلخيص: إذا كان في أيدي الكفار أسير من المسلمين، فلما قاتلناهم، وانكشف القتال وانحازت كل فئة، قال: "فلو أفلت أسيرٌ بعد ذلك، فهل يستحق السهمَ؟ فعلى قولين" (3). فصوّر إفلات الأسير بعد انقضاء القتال، وهذا مأخوذ عليه عند جماهير الأصحاب؛ فإن التردد فيه إذا أفلت
__________
(1) في النسختين: عن.
(2) جزم النووي بعد الجواز، "لأنه إن لم يكن الجهاد متعيناً عليه، فمتى حضر الصفَّ، تعين، ولا يجوز أخذ الأجرة عن فرض العين" (ر. الروضة: 10/ 240).
(3) ر. التلخيص: 461.

(11/495)


والحرب قائمة، فأما إذا أفلت وقد أحرز المسلمون المغانم (1) فتخيل الخلاف في استحقاق السهم بعد ذلك بعيدٌ.
ثم إن تكلفنا وجهاً لما قاله صاحب التلخيص، فلعل السبيل فيه أن يفرض الأسير في الصف، وهو في أيدي الكفار، وينتهز منهم الغرة، فلعل صاحب التلخيص جعل كونه في الصف -إذا أفلت في العاقبة- وقوفَ قتالٍ، وهذا على بعده يُحْوج إلى فرض كونه مطلقاً غيرَ مربوط، ويحوج أيضاً إلى تصوير اتصاله بنا على قرب من انجلاء القتال، فلو بعد وتخلل اليوم أو أكثر، فلا يجوز تقدير الخلاف فيه.
والوجه القطع بتخطئة صاحب التلخيص؛ فإن السير لا غَناء فيه، ولا وقْع لوقوفه.
7766 - ولو أسلم واحدٌ من الكفار، واتصل بنا قبل انجلاء القتال، فسبيله كسبيل الغزاة، [حتى] (2) يستحق السهم بالوقوف وإن لم يقاتل، فإنه يغلب على حاله وقد ترك دينه قصدَ الذبّ عن دين الله تعالى وليس كالأسير منا [يفلت؛ فإنه] (3) يغلب عليه قصد الفوز والنجاة، وهذا يضعف قصده في القتال، والله أعلم (4).
__________
(1) (س): الغنائم فيستحيل الخلاف.
(2) في الأصل: معنى، والمثبت من (س).
(3) زيادة من (س).
(4) إلى هنا انتهت نسخة (ح) التي اتخذناها أصلاً، بل هي نسخة وحيدة من أول:
فصل: قال الشافعي: لو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بربع ماله.
ثم صارت (س) نصاًَ مساعداً لها من أول:
فصل: أورده صاحب التقريب.
واستمر الأمر على ذلك حتى انتهت (هنا) نسخة (ح). وليس في خاتمتها تاريخ النسخ ولا مكانه ولا اسم ناسخها، ولا رقم الجزء المنتهي، ولا الذي يتلوه، ولا أول عبارة منه.
وكل ما جاء في هذه الخاتمة:
الحمد لله صلواته على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين
وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(11/496)


فصل (1)
قال: "ولو جاءهم مدد قبل انقضاء الحرب ... إلى آخره" (2).
7767 - إذا قاتل المسلمون وأحرزوا غنائم، وانجلى القتال، وانكشف الأعداء، ثم لحق بعد ذلك مددٌ لجند الإسلام، فمذهبنا أن المدد اللاحق بعد انجلاء القتال لا يشارك الجندَ فيما أحرزوه من المغانم.
وقال أبو حنيفة (3): "إن لحقوا والجند بعدُ في دار الحرب يشتركون في المغنم، ولو تعلق جند الإسلام بدار الإسلام، ثم لحقهم مددٌ؛ فإنهم لا يشركونهم". فعندنا التعويل على الإحراز، ولا التفات إلى الدار.
وهذا الفصل يتطرق إليه ضربٌ من الانتشار المحوج إلى الضبط، فالوجه نقل ما ذكره الأصحاب، ثم الاعتناء بتمهيد الأصل ورعاية الضبط، فنقول:
ما يحصل في [يد] (4) الجند المجتمع من المغانم مشترك بينهم، لا يختصّ آخذ الأموال بها، وفيه سببان: أحدهما - أن ما يأخذه الآخذون إنما يقرون على أخذه لقتال المقاتلين، أو لوقوف المصطفِّين، فالأَخْذ وإن حصل من بعضهم، فهو مضاف إلى كلهم.
والمعنى الثاني - أنا لو خصصنا الأموال بآخذها، لكان ذلك خرماً لسبيل السياسة، فكأن الأموال على حالةٍ مطلوبُ الخلق، فإذا حصل العلم لرجال القتال بأن المال لآخذه، لابتدروا الأموال، وتركوا القتال، ثم قد يكون ذلك سبباً لظفرة الكفار، [ومن أدنى آثار] (5) ركوبهم علينا أن يستردوا ما أخذناه، وربما يضعون السيف في
__________
(1) من هنا بدأ اعتماد نسخة (س) ورقة (168 ي) أصلاً، بل هي وحيدة.
(2) ر. المختصر: 3/ 191.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 460 مسألة 1614، الاختيار لتعليل المختار: 4/ 127.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل غير مقروء ما بين المعقفين، فقد رسم هكذا: "لطفره الكفار من أد ـى اا ركو ـهم عليا" كذا بدون نقط. (انظر صورتها).

(11/497)


المسلمين، فاقتضت مصلحة القتال أن تكون الأموال فوضى (1).
وإذا نفذت طليعة من [كُثر] (2) الجند على الرسم المعتاد فيه، فإن أفادت هذه السرية المتقدمة شيئاً، لم يختصّوا به، بل يشركهم الجند فيه، إذا كانوا بحيث لا يتعدَّوْا الغوث منهم، وكذلك الجند إذا غنموا، فالسرية تشترك فيما أخذه الجند، والسبب فيه أن الغوث إذا كان لا يبعد، فالسرية المتقدمة مع كُثر الجند كالميمنة مع القلب، وهذا بيّن.
ولو نفذت سريتان من الجند، فأخذت كل واحدة صوباً، فهما من [كثر] (3) الجند على بُعد، لا يبعد معه الغوث، فكل سرية [تشرك] (4) الجندَ، والجند يَشْرك كلَّ واحدة من السريتين. وهل تشرك إحدى السريتين الأخرى فيما أصابته؟ على وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها تشرك الأخرى؛ فإنهما صادرتان عن جندٍ واحد والجمع بجملتهم متناصرون. وهذا هو القياس الذي قطع به المراوزة.
والوجه الثاني - أن إحدى [السريتين] (5) لا تشرك الأخرى؛ فإنها ليست متهيئة لنصر الأخرى، وإنما تستنصر كل فئة بنصر الجند إذا مست الحاجة إلى النصرة، وهذا ضعيف. والوجه الأول هو المذهب.
7768 - ووراء ما أرسله الأصحاب نظرٌ من وجهين: أحدهما - يشتمل على القول في تقريبٍ يصار إليه في معنى لحوق الغوث وتعذره، والفقيه قد يكتفي في مثل هذا بالرجوع إلى أهل الأمر، والتعويل على خبر ذوي الخبرة، وقد يختلف ذلك بتوعر
__________
(1) فوضى: أي شائعة لا اختصاص لأحد بشيء (المصباح).
(2) في الأصل: "كر" كافُ وراء. وهو تصحيف سخيف أرهقنا كثيراً في البحث عن معنى لهذا اللفظ (كر) في المعاجم وكتب الغريب؛ لأنه تكرر أكثر من مرة. ثم ترجح لدينا أنه مصحف عن "كُثر": وكثر الشيء معظمه، وكثيره، فكُثْر الجيش أي عامته وجماعته. (القاموس والمعجم والمصباح واللسان).
(3) في الأصل: "كر" مصحفة أيضاً عن كُثْر. وتكرار هذا التصحيف هو الذي أوقعنا في ظن الصحة لكلمة "كر" وجعلنا نبحث لها عن معنى كما أشرنا آنفاً.
(4) في الأصل: تشترك.
(5) في الأصل: الشريكين.

(11/498)


الطرق [وسهولتها] (1)، ويختلف بعزة الماء [ووجوده] (2)، إلى غير ذلك مما يقطع على المسافرين، ومما يقرب مسيرهم، ويسهل وصولهم، وهذا لا [بأس] (3) به على ما فيه من الإبهام، والمعتمد فيه أن السرايا وكُثر الجند إذا كانوا في مواقع يتأتى منهم التناصر والتظافر [كانوا] (4) بمثابة الجند الواحد في المعترك الواحد، وإذا تقاذفوا وتبادَوْا (5)، وكان لا يتأتى من فريق منهم الاستنجاد، وكل [فرقة] (6) مستقلة بقوتها، راكبة إلى منتهى [يقطعها] (7) عن الطوائف الأخرى، فيثبت لكل فريق حكم الاستقلال.
ثم الذي يمكن ضبطه في ذلك أن تكون المسافة بحيث يتأتى الانتشار في مثلها مع مكالحة (8) العدو. ولا يشترط أن يلحق الغوث في الحال، فإن ذلك لو فرض، لكانوا [معاً] (9) على صعيد واحد، ولكن إذا كان المستنجدون بحيث لو اشتغلوا بمطاردة العدو، وأرسلوا المستنجِدَ، للحقهم الغوث قبل أن [يُصطلموا] (10)، فهذا هو المعنيُّ بالغوث.
وفيه دقيقة لا تخفى على أهل الحرب، هو أنه إذا كان بين يدي الجند، وبين السرية المبتعثة مسافة الغوث، كان الأعداء مرعوبين مذعورين بإمكان المدد، وذلك يفل من [عزمهم] (11)، فيقع التواصل ناجزاً بهذا، والخوف على التقريب الذي ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: الطرق وسهولته.
(2) في الأصل: بعزة الماء وجوده.
(3) في الأصل: يأنس.
(4) في الأصل: كانه.
(5) تبادَوْا: أي تباعدوا، من قولهم: بدا فلانٌ إذا خرج إلى البادية (معجم).
(6) في الأصل: فريق.
(7) في الأصل: منقطعة.
(8) مكالحة العدو: من قولهم: "كالحه" إذا واجهه بالخصومة (معجم).
(9) في الأصل: وقفا.
(10) في الأصل: يصطرموا. ويُصطلموا: أي يستأصلوا، ويُقضى عليهم (معجم).
(11) في الأصل: عدتهم.

(11/499)


وذهب بعض الأصحاب إلى مسلك آخر، عليه يدل كلام شيخنا أبي بكر، وها أنا واصفه، قال: إذا تجرر عسكر من صوب، وكانوا ينحون (1) وطراً، فرأى من يسوسهم أن يفرق سرايا في جهاتٍ حتى [يشتمل على] (2) أطراف القطر المأموم (3)، ويكون مددهم سببَ تبدد جمهور الأعداء، وقد يروْن محاصرة قلاع على الممرّ وحفظ مراصد، ثم ينأَوْن ويبعدون، بحيث لا يلحقهم معه المدد لو تحامل عليهم العدو، ولكن صاحب الراية يفعل ذلك على وجهٍ يبعد معه تحامل جيش جرار على سرية، فإنهم يأتون من الجوانب، والراية تخفق على كُثر العسكر، [وهذا الضرب من الرأي] (4) يعصم السرايا من أن يُقصَدوا، والغرض قُطر واحد بنواحيه، فلا تعويل على الغوث، والحالة على ما وصفناها، فإذا فرض والحالة هذه إصابة مغانم من السرايا، ردّوها على الجند، وإذا أصاب الجند شيئاً [شرّكوا] (5) فيه السرايا؛ [فإنّ] (6) صَدَرَ (7) الجميع عن رأيٍ واحد، والغرض في التحقيق غزاةٌ [واحدة] (8). هذا مسلك اختاره المحققون.
7769 - وقال الشيخ أبو بكر: لو كان الإمام الذي منه الصدَرُ والوالي في بلدة، فسيّرا سرايا في جهاتٍ، فأصابوا مغانم، [ومعظم الجند هؤلاء مع صاحب الراية في البلدة] (9)، فمن فيها لا يشركون السرايا فيما أصابها (10)، وإن كانت مواقعهم في القتال غيرَ بعيدة عن غوث صاحب الراية في البلدة، واحتج هؤلاء بخبرين: أحدهما -
__________
(1) ينحون: أي يقصدون ويتجهون إلى وطرٍ وغاية (معجم).
(2) مطموسة في الأصل.
(3) المأموم: أي المقصود.
(4) في الأصل: وهذا الرأي من الضرب من الرأي.
(5) في الأصل: شركوه.
(6) في الأصل: فإذا.
(7) صَدَر: أي صدور. والمعنى أن الجميع يتحركون برأيِ واحد، وقيادة واحدة. واستعمال المصدر بهذا الوزن، لازمة من لازمات إمام الحرمين.
(8) في الأصل: "واحد" وهذا من آثار عجمة قديمة لدى الناسخ.
(9) في الأصل: ومعظم الجند مع هؤلاء صاحب الراية في البلدة. (فجاء الخطأ من وضع (مع) في غير موضعها).
(10) أصابها: المراد ما أصابته من الغنائم.

(11/500)


"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة حنين، فبعث سرية إلى أَوْطاس ثم أشركهم [فيما] (1) أصاب بأوطاس، وبين حُنين وبين أَوْطاس مسيرة ليالٍ" (2)، "وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارّاً بالمدينة، والسرايا تبتعث في الجهات، ويختصون بما يغنمون لا يُشرِكون المقيمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يصيبون، قربت المسافة أو بعدت" (3).
فتحصّل مما قاله الأصحاب مسلكان مختلفان: أحدهما - النظر إلى إمكان لحوق الغوث على النفير الذي ذكرناه، ومعتمد هؤلاء وقوعُ الجند -وإن تفرقوا- موقع الجند الواحد المتناصر، وإن كانوا كذلك، اشتركوا اشتراك الجند الواحد. وإن كانوا لا يتناصرون، فكلٌّ مستقل بقوته. وكل هؤلاء يقولون في حديث حنين: كان تجهّزه صلى الله عليه وسلم في صوب حنين. والخبر محمول على ذلك؛ فإن الحصار لم يقع قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حنين، وهؤلاء يقولون أيضاً: السرايا المنبعثة كانت [بمنأى] (4) عن غوث المقيمين بالمدينة، ويقولون: لو فرض وقوع
__________
(1) في الأصل: فلما.
(2) حديث سرية أوطاس رواه الشافعي في الأم: 4/ 70، ورواه عنه البيهقي في الكبرى: 6/ 335.
هذا وقد قال الحافظ في التلخيص: "حديث روي أن جيش المسلمين تفرقوا فغنم بعضهم بأوطاس، وبعضهم بحنين، فشركوهم" متفق عليه من حديث أبي موسى" ا. هـ.
والذي رأيتُه في البخاري ومسلم حديث سرية أوطاس، وليس فيه ذكرٌ للغنائم ولا لمشاركة من كان في حنين فيها، مع أن هذا هو موضع الاستدلال من الحديث. (ر. فتح الباري: كتاب المغازي، باب غزوة أوطاس، جزء 8/ 41 ح 4323، ومسلم: 2/ 1943 كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رضي الله عنهما، ح 2498، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 226 ح 1482.
ولفظ الشافعي في الأم: "مضت خيل المسلمين فغنمت بأوطاس غنائم كثيرة، وأكثر العسكر بحنين، فشركوهم" وعنه البيهقي بلفظه.
(3) حديث "أن السرايا كانت تخرج من المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغنم ولا يشاركهم المقيمون في المدينة" رواه الشافعي في الأم: 40/ 70، والبيهقي من طريقه في المعرفة. وانظر (التلخيص: 3/ 226 ح 1481).
(4) في الأصل: تأتي.

(11/501)


سرية بحيث يلحقهم غوث الجند المقيمين، فما يصيبونه [يشترك] (1) فيه المقيمون، ثم هؤلاء يسلمون أن هذا في الجند المتأهبين للخروج إذا بلغهم هائعة ومن عداهم، وإن قربوا إذا لم يكونوا متأهبين، فلا غوث منهم، وإن اشتغلوا بالتأهب يفوت الأمر وينزل بُعْد ذلك عن الحصول منزلة بعد المسافة هذا مسلك.
والمسلك الثاني - أن يشمّر قوم لصوب، ويبتُّوا أمرهم على ناحية، كما قدمنا وصفه، فالصادرون عن رأي واحد في حكم المتناصرين وإن كانوا لا يتناصرون، وعلى هذا الجندُ المقيمون في البلد ما بنَوْا أمرَهم على التشمر لأمدٍ يشاركهم السرايا فيه.
هذا منتهى كلام الأصحاب صريحاً وضمناً.
7770 - وتمام البيان أن المدد إذا وقعوا في (2) الجند في المعترك موقعاً لو شعر الجند بهم، لاستنجدوا بهم، ولكنهم لم يشعروا، ثم انجلى القتال، ثم لحقهم المدد، فالذي رأيت الأصحاب متفقين عليه أن المدد لا [يشركون] (3) الجند، وهذا يعتضد [بمسلك] (4) من لا يعتمد التناصر، ويعوّل على الصدَر (5) عن رأيٍ واحد؛ فإنه ليس بين الجند والمدد رأي جامع. ومن يعتمد التناصر ينفصل عن هذا، ويقول: عدم شعور الجند بمكان المدد يحجزهم عن الاستمداد والاستنجاد، فكان ذلك بمثابة عسر الاستمداد.
وقد نجز الغرض، وضممنا فيه النشر جهدنا.
7771 - وفي بعض المصنفات وجه محكي عن القفال، أخّرته حتى لا يوثق به ولا يعدَّ من المذهب: حكى صاحب التقريب: أن القفال كان يقول: إذا انبعثت السرايا والجند بعدُ في دار الإسلام، لم يشركوا، وهذا غلط صريح، ولم ينقل أحد
__________
(1) في الأصل: مشترك.
(2) كذا. وهي صحيحة؛ حيث تأتي (في) مرادفة لـ (مِن). قاله ابن هشام في المغني.
(3) في الأصل: يشتركون.
(4) في الأصل: مسلك.
(5) الصدر: الصدور. مصدر صدر يصدر صدوراً وصدَراً.

(11/502)


من أصحاب القفال هذا عنه، فإنّ التعويل على الدار لا يوافق مذهب الشافعي بوجهٍ؛ فإنّ معوّل الشافعي على المعاني لا على الديار.
7772 - ولو لحق المدد والحرب بعدُ قائم، نُظر: فإن لم يحرز الجند المغنم حتى لحق المدد، فما يقع آخراً [ ... ] (1) بعد لحوقهم مشترك.
وإن كانوا أحرزوا مغانمهم، والحرب بعدُ [ناشبة] (2) والقوم مطاردون، فهل يُشرِك الجندُ المددَ فيما أثبتوا أيديهم عليه؟ فعلى قولين: أحدهما - أنهم لا يشركونهم؛ فإنهم لحقوا بعد إثباتهم الأيدي عليها، فأشبه ما لو لحقوا بعد انجلاء الحرب ..
والقول الثاني -وهو الأصح- إنهم يشركونهم؛ فإنّ تلك الأيدي لا [حكم] (3) لها، وهي مع قيام المطاردة ضعيفة، بل هي عرضة للاستدراج لو كان للكفار عَكْرَةٌ (4) على المسلمين.
7773 - ويتصل بهذا القولُ في القسمة، فنقول: إذا انكشف القتال، وتحاجز الفئتان، فقسمة الغنيمة جائزة، وإن كانت في دار الحرب، قال الشافعي: لو قلت: القسمة في دار الحرب أولى (5)، لم أكن مبعداً؛ فإن ذلك أنفى للغُلول وأنقى للقلوب. وإذا تبدّد المغنم، خف محمله.
7774 - ولو ثبتت الأيدي صورةً على مغانمَ والحربُ بعدُ قائمة، والمطاردة
__________
(1) بياض في الأصل قدر كلمة واحدة.
(2) في الأصل: ناشئة.
(3) في الأصل: يحكم.
(4) عكرة: أي رجعة. من قولهم: عكر يعكر (من بابي قتل وضرب) عطف ورجع (معجم ومصباح).
(5) عبارة الشافعي في الأم: "السنة في قسم الغنائم أن يقسمها الإمام معجلاً على وجه النظر، فإن كان من معه كثيرون، آمنون في ذلك الموضع أن يكر عليهم عدوّهم، فلا يؤخر قسمه إذا أمكنه في موضعه الذي غنمه فيه، وإن كانت بلاد حرب" الأم: 4/ 65.

(11/503)


دائمة، فلو اقتسموها، فالذي رأيت للأصحاب أن القسمة مردودة. ولست أبعد تخريج صحتها على القولين في أن المدد اللاحق هل يشترك في هذه الأعيان الواقعة في أيدي الجند قبل لحوق المدد، وهذا لا بد من تخريجه على ذلك. والله أعلم.
***

(11/504)


باب تفريق الخُمس
7775 - قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] قد قدمنا في صدر الكتاب أن الغنيمة مخموسة، وكذلك الفيء، ومقصود هذا الباب المعقود إيضاح مصارف خُمس الغنيمة وخُمس الفيء.
وقاعدة المذهب أنّ خمس الفيء وخمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم متساوية، سهم منها للمصالح العامة، وهو السهم الذي يُرصد للمصالح، وكان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، فلما استأثر الله تعالى به صرف سهمه إلى المصالح.
وسهمٌ لذوي القُربى، وسهمٌ لليتامى، وسهم للمساكين وسهم لأبناء السبيل.
وما ذكرناه تراجم، ونحن نذكر الآن الشرح والتفصيل.
7776 - فأول ما نذكر أن الشيخ أبا علي حكى في الشرح قولاً غريباً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انقلب إلى رحمة الله تعالى ورضوانه، ارتفع سهمه، وعادت مصارف الخُمس إلى أربعة أسهم: أحدها - لذوي القربى (1).
والثاني - لليتامى، والثالث - لأبناء السبيل، والرابع - للمساكين. وهذا قول غريب لم أره إلا في طريق شيخنا أبي علي.
وذهب بعض العلماء إلى أن السهم الذي كان مضافاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مصروف إلى خليفة الزمان؛ فإنه وزرُ المسلمين، [وهو] (2) الذي يقرب إلى القيام مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولم تصح عندي نسبة هذا إلى أحد من أصحابنا.
__________
(1) في الأصل: أحدها - لذوي القربى واليتامى.
(2) في الأصل: وهذا.

(11/505)


وفي بعض الطرق صيغةٌ مختلّة بهذا المعنى؛ فإنّ صاحب الطريقة قال: [ظاهر] (1) المذهب أن السهم الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصرف إلى خليفة الزمان، ثم ذكر مذهب السلف (2). وقوله ظاهر المذهب يشعر بخلافه، ولكنه إيهامٌ لا حاصل وراءه، فلا أصل لهذا الرمز، ولا للقول الغريب الذي حكاه الشيخ، ولا عوْد (3) إليهما. وهذا قولنا في السهم الذي يعزى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7777 - فأما سهم ذوي القربى، فإنه مصروف إلى بني هاشم، وبني المطلب.
ونعني الذي يكون من صلب بني هاشم وبني المطلب، وهم الذين ينتمون إلى هؤلاء بالآباء لا بالأمهات، فمن كانت أمه هاشمية ولم يكن أبوه هاشمياً، فليس من بني هاشم، وإنما الانتساب إلى الآباء وانتمائهم إلى الأجداد القديمة.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم من [صلبة] (4) بني هاشم، وبنو المطلب يقعون منه موقع بني عبد شمس [وبني] (5) نوفل. ثم خصص رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب، ولم يعط غيرهم، وقد قيل: إن عثمان (6) بن عفان جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عبشمياً. فقال: يا رسول الله إنا لا ننكر فضل بني هاشم لمكانك منهم، ولكن قرابتنا وقرابة بني المطلب واحدة، وقد أعطيتهم وحرمتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ بني المطلب لم يفارقونا في
__________
(1) مزيدة من المحقق على ضوء السياق كما سيظهر في السطر التالي.
(2) كذا. ولعلها: مذهب الشافعي، فبهذا تكون مختلفة.
(3) "لا عَوْد إليهما" قال النووي: و"هذان النقلان شاذان غريبان مردودان" (ر. الروضة: 6/ 355) وعليه فالمذهب أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده -بأبي هو وأمي- لمصالح المسلمين.
(4) في الأصل: صلبته.
(5) في الأصل: بنو.
(6) يسوق إمام الحرمين هذا الحديث على نحو ما ساقه الشافعي في الأم: 4/ 71 إلى حد كبير.
غير أن الشافعي رواه عن محمد بن جبير بن مطعم، قال: أتيته صلى الله عليه وسلم أنا وعثمان بن عفان، فقلنا ... الحديث.

(11/506)


جاهلية ولا إسلام، وشبك بين أصابعه" (1). فأبان أن سبب اختصاصهم دون الذين هم في درجتهم من القرابة، ما كان منهم من موافقة بني هاشم في الجاهلية والإسلام وهؤلاء هم الذين حرموا الصدقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم سهمهم من خمس الغنيمة والفيء، ويقول: "إنّ الله قد أغناكم عن أوساخ أموال الناس بما أعطاكم" (2).
ثم أجمع أئمتنا في الطرق أنهم يستحقون سهمهم، كانوا أغنياء أم فقراء، وهذا كما أن استحقاق الورثة للميراث لا يتخصص بالفقراء المحاويج، بل يستوي في استحقاقه الغني والمحتاج، كذلك هذا.
وكذلك أجمع الأصحاب على أن سهمهم مصروف إليهم على التفاوت بين الذكر والأنثى، فللذكر سهمان وللأنثى سهم، وهذا محتوم؛ فإن سبيله سبيل الميراث، وهذا السهم مصروف إليهم صرف التركة أو صرف باقيها (3) إلى الذكور والإناث من العصبة. ولا يجوز تفضيل البعض إلا من جهة الذكورة والأنوثة كما نبهنا عليه، فأما التفضيل بسائر الفضائل والمناقب، فلا سبيل إليه. فإن قيل: صح أن رسول الله
__________
(1) حديث: قرابة بني هاشم وبني المطلب رواه البخاري، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، قال البرقاني: وهو على شرط مسلم هكذا قال الحافظ في التلخيص: 3/ 216 ح 1462. وانظر (البخاري: كتاب المغازي، باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام، ح 3140، وطرفاه في: 3502، 4229، وترتيب مسند الشافعي: 2/ 125، ح 411، 412، ومسند أحمد: 4/ 81، 83، 85، وسنن أبي داود: كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب: في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذوي القربى، ح 2978، 2979، 2980، والنسائي: كتاب قسم الفيء، ح 4137).
(2) حديث "إن الله قد أغناكم عن أوساخ الناس" رواه مسلم من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، في قصة طويلة، بلفظ: "إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمدٍ، ولا لآل محمد" (صحيح مسلم: كتاب الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، ح 1072) قال الحافظ: وفيه عند أبي نعيم في معرفة الصحابة من حديث نوفل بن الحارث: "إن لكم في خمس الخمس ما يكفيكم" (ر. التلخيص: 3/ 238 ح 1503).
(3) باقيها: أي باقي التركة، بعض أصحاب الفروض.

(11/507)


صلى الله عليه وسلم أعطى بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل، وفاضل بينهم (1). قلنا: كان السبب أن بعضهم كان ذا أولاد بخلاف البعض، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم نصيبه ونصيب أولاده (2).
هذا قولنا في سهم ذوي القربى، وإن كان ذلك يقتضي التوريث بالعصوبة، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي سهم ذوي القربى الأجداد والأحفاد، فلا مزيد على ما صح النقل فيه.
7778 - فأما اليتامى، فهم يتامى المسلمين الذين لا آباء لهم، وأما المستحقون ما كانوا أطفالاً، إذ لا يُتْمَ بعد البلوغ. ولا نفضّل في هذا الصنف ذكراً على أنثى.
واختلف أصحابنا في أنّا هل نشترط فقرهم؟ فمنهم من لم يشترط، وجعل الأيتام من المسلمين مستحقين لهذا السهم من الخمس، وإن كانوا أغنياء. ومن أئمتنا من قال: إنهم يستحقون إذا احتاجوا، ولا يستخقون إذا استغنَوْا (3). وهذا القائل يزعم أن اليتم
__________
(1) هذه تكاد تكون عبارة الشافعي، إذ قال في الأم: "وأخبرنا عمي محمد بن علي بن شافع عن الزهري عن ابن المسيب عن جبير بن مطعِم قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، ولم يعط منه أحداً من بني عبد شمس، ولا بني نوفل شيئاً، فيعطي جميع سهم ذي القربى حيث كانوا لا يفضِّل منهم أحداً حضر القتال على أحدٍ لم يحضره إلا بسهمه في الغنيمة، كسهم العامة، ولا فقير على غني، ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهماً، ويعطي الصغير منهم والكبير سواء، وذلك أنهم إنما أعطوا باسم القرابة، وكلهم يلزمه اسم القرابة.
فإن قال قائل: قد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل؟ قال الشافعي: فكل من لقيت من علماء أصحابنا لم يختلفوا فيما وصفتُ من التسوية بينهم، وبأنه إنما قيل: أعطى فلاناً كذا لأنه كان ذا ولد فقيل أعطاه كذا، وإنما أعطاه حظه وحظ عياله" ا. هـ (الأم: 4/ 71).
(2) خبر القسمة لسهم ذوي القربى، المشار إليه، وإعطاء بعضهم مائة وسق، وبعضهم أقل، المراد به قسمة سهمهم من خيبر، أورده ابن إسحاق في السيرة، وفيه: " ... ولعلي بن أبي طالب مائة وسق، ولعقيل بن أبي طالب مائة وسق وأربعين وسقاً، ولبني جعفر خمسين وسقاً ... ولأم الزبير، صفية بنت عبد المطلب أربعين وسقاً ... قال ابن هشام: قسمه على قدر حاجتهم، وكانت الحاجة في بني عبد المطلب أكثر، ولهذا أعطاهم أكثر". (السيرة النبوية لابن هشام: 3/ 1180).
(3) هذا هو المشهور، وقيل الصحيح. (ر. الشرح الكبير: 7/ 333، الروضة: 6/ 356).

(11/508)


يشعر بعدم الكافل، وإنما لسهم هذا لحاجة ناجزة.
ثم الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب اشتراك كافة يتامى المسلمين في الاستحقاق. وانفرد القفال بأن قال: المراد يتامى المرتزقة (1) دون غيرهم، وهذا [ .... ] (2) ولم يُساعَد عليه.
7779 - وأما المساكين، فلا حاجة إلى وصفهم، وهم المساكين المذكورون في آية الصدقات، كما يأتي الكلام فيها، إن شاء الله تعالى.
7780 - وأما أبناء السبيل، فهم المسافرون، وسيأتي وصفهم في الصدقات، إن شاء الله تعالى. وقد ذهب جماهير الأصحاب إلى [أنه] (3) تُشترط فيهم [الحاجة.
وحكى بعضهم] (4) وجهاً عن بعض الأصحاب أنا نصرف هذا السهم إلى كل من يَهُمّ بسفر، وإن لم تكن حاجة ماسة. وهذا غريب جداً لا تعويل عليه.
والمعتبر عندنا في الباب أن كل من سمي في البابين (5)، فلا يختلف وصفه فيهما، ومن جملة ذلك أبناء السبيل.
فأما الذين لا ذكر لهم في آية الصدقات، فأصحاب القرابة منهم، ولا تشترط
__________
(1) يتامى المرتزقة: المراد يتامى المجاهدين أصحاب الديوان الذين يأخذون كفايتهم من الفيء، فإذا استشهد واحد منهم أو مات وترك يتيماً، فيأخذ كفايته من سهم اليتامى من الفيء، ولا يأخذ من الصدقات عند القفال، وقال الماوردي بقول القفال في المساكين، فقال في الأحكام السلطانية: "والسهم الرابع للمساكين، وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم من أهل الفيء، لأن مساكين الفيء يتميزون عن مساكين الصدقات لاختلاف مصرفهما".
قال الرافعي: وقد يحتج لهذا بظاهر قول ابن عباس رضي الله عنهما: "إن أهل الفيء كانوا بمعزلٍ عن الصدقة، وأهل الصدقة كانوا بمعزلٍ عن الفي".
(ر. الأحكام السلطانية: 127، والشرح الكبير: 7/ 333، 334) وقول ابن عباس، رواه البيهقي في المعرفة: 5/ 163.
(2) كلمة طمس أولها، وما بقي منها صورته هكذا (حـ ـلف) بهذا الرسم وهذا النقط.
(3) في الأصل: أن.
(4) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(5) البابين: المراد باب قسم الفيء، وباب قسم الصدقات.

(11/509)


حاجتهم. والمعتمد في ذلك الأخبار؛ فإنه صح في الأخبار "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي سهم القرابة للأغنياء كما كان يعطي الفقراء منهم" (1). فأما اليتامى، فلا ذكر لهم في الصدقات، وليس معنا فيهم ثبت من جهة الخبر، واسمهم مشير إلى الحاجة.
7781 - ومما يتعلق بمقصود الباب أن الذي دل عليه النص وصار إليه جمهور الأصحاب أنه يجب على الإمام أن يوصّل كل سهم من هذه السهام إلى جميع المستحقين في خِطة الإسلام، لا يغادر منهم أحداً، وذلك مما يتمكن الإمام منه بأن [ينصب] (2) في [كل] (3) قُطر أميناً موثوقاً ذا خبرة ويأمره بضبط أعداد المستحقين، واتخاذ جرائد وسجلات تحوي أنساب ذوي القربى، ويضبط اليتامى وغيرَهم من مستحقي السهام. وإذا صدَرَ أمورُ الخِطة عن رأي واحد واتّسقت الطاعة وأمكنت الاستطاعة، فهذا هيّن.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أن الإمام لا يلزمه ذلك، ولكنه يأمر حتى يُصرف ما يتّفق من خمس الغنيمة في كل قطر إلى المستحقين من أهل ذلك القطر، حتى لا يحتاج إلى [جمع الجميع] (4) نقلاً (5)، ثم يلزمه [تفريقها] (6) بعد جمعها. وهذا الذي ذكروه فيه إبهام.
ونحن نقول إن عنى أبو إسحاق بهذا أن يكل الإمام أهل كل قطر إلى ما يتّفق في
__________
(1) حديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي الأغنياء من سهم ذوي القربى، رواه الشافعي بلفظ: فقد أعطى صلى الله عليه وسلم أبا الفضل العباس بن عبد المطلب، وكان غنياً، لا دين عليه، ولا حاجة به، بل كان يعول عامة بني المطلب، ويتفضل على غيرهم لكثرة ماله، وما منّ به عليه من سعة خُلقه" (ر. الأم: 4/ 74).
(2) مكان كلمة مطموسة.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: جميع الجميع.
(5) كذا قرأناها بصعوبة شديدة، وأعاننا على ذلك أن الناسخ كتب بعدها: "ثم يلزمه تفرقها بعد نقلها، ثم ضرب على كلمة (نقلها) وكتب مكانها: (جمعها).
(6) في الأصل: تفرّقها.

(11/510)


ذلك القطر من فيء أو مغنم حتى إن لم يكن، فلا شيء لهم -وربما [تمرّ] (1) السنون على أهل كل قطر ولا يُصيبون فيه فيئاً ولا مغنماً، ومساق هذا يقتضي لا محالة أن يُحرم قومٌ ويعطَى قوم- فإن أراد هذا، فهو مخالفُ لما عليه معظم الأصحاب والنصِّ.
وإن أراد بذلك أن للإمام ألا ينقل الأخماس من الأقطار ويُقرَّ في كل قطر المقدارَ الذي يليق بأهل ذلك القطر، فهذا قريب لا ينبغي أن يكون فيه خلاف، على ما شرط أنه إن خلا قطرٌ، لم يُحرم أهله، ويبعث إليهم حظهم من حيث يستصوب.
7782 - فإن قيل: أليس من يؤدي الزكاة لو أراد أن يقتصر من كل صنف على ثلاثة، كان له ذلك؟ قلنا: نعم، ولكن آحاد الناس لو تكفلوا فضّ [صدقاتهم] (2) على المستحقين في خِطة الإسلام، وما في أيديهم يقلّ على سبيل الانبساط على كافة المستحقين [ويتعذر عليهم] (3) الإمكان لو أرادوه، ولا يقبل كلُّ مقدار بسطاً، فحسمنا هذا الباب.
أما الإمام، فإنه ينظر لأهل الإسلام نظر الشخص الواحد [لذويه] (4) المعدودين، حتى لو ضاع واحدٌ، [تداعى] (5) ذلك إلى انتسابه إلى التقصير في الضبط، فإذا كان يجب عليه أن يرعى آحادهم، فسبيل رعايتهم أن يبسط كل سهم على جميع مستحقيه، إذا كان يقبل الانبساط عليهم، ولو جُمع الزكوات عند الإمام، تعيّن عليه أن يرعى في الزكاة ما يرعاه في خمس الفيء والغنيمة.
ولكن يعترض في الزكاة قول منع النقل؛ فإن كان الإمام يرى النقل، فإنه يلتزم في جميع الزكوات إيصالها إلى المستحقين في الخِطة.
فإن قال قائل: هلا خُرّج في خمس الفيء والغنيمة قولٌ في منع النقل، كما خرج
__________
(1) مكان لفظة غير مقروءة.
(2) في الأصل: "صدقهم".
(3) في الأصل هكذا: "على كافة المستحقين [بياض قدر ثلاث كلمات] عليا عدهم الإمكان ... ".
(4) في الأصل: " لرو ـه " بدون نقط.
(5) في الأصل: يراعى.

(11/511)


في الصدقات؟ قلنا: لا يمتنع أن يخرج، ولم يتعرض لذلك الأصحاب بالنفي والإثبات.
فإن قيل: أليس حمل الشافعي قول معاذ لأهل اليمن -"إئتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين والأنصار بالمدينة" (1) - على الفيء؟ وهذا دليل من نصه على أن الفيء يُنقل. قلنا: لا يمتنع حمله على أربعة أخماس الفيء، فإنها مُرصدة للمرتزقة والجند المعقود بالمدينة، وإنما كلامنا في مصارف الخمس.
وهذا منتهى المراد في ذلك.
7783 - ومن تمامه أنا [إن] (2) أوجبنا البسط على الكافة، فإن لم يكن الفقر مشروطاً فيهم، فيجب الفضّ على كافتهم بحيث يستوي الذكور في أقساطهم، وتستوي الإناث في حصصهم، وقد تقدم أن الأصل في الباب على تضعيف حق الذكور كما تقدم.
وإن شرطنا الحاجة في مستحقي بعض السهام، فلا يمكن التسوية بينهم، [ولا] (3) يتجاوز [سداد] (4) الحاجة، ويجعل الحاجات معتبره ومرجوعَه.
__________
(1) حديث معاذ أخرجه البيهقي، وعلّقه البخاري. (ر. السنن الكبرى: 4/ 113، والبخاري: كتاب الزكاة، باب العرض في الزكاة (بعد حديث 1447)، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 242 ح 1518).
هذا، وفي (تنبيهٍ) للحافظ فسّر فيه غريب الحديث قال: "خميس: المراد به الثوب الذي طوله خمسة أذرع، كأنه عنى الصغير من الثياب. وقيل: لأن أول من عمله ملِكٌ باليمن يقال له: الخميس، أمر بعمل هذه الثياب، فنسبت إليه. وقال المحب الطبري: روي: "خميص" بالصاد، فإن صح، فهو تذكير خميصة. اهـ.
هذا وقد صحف في التلخيص: (ملك) إلى (مالك خميس) فأشكلت العبارة في طبعة عبد الله هاشم اليماني: 3/ 114، وطبعاً تبعه أبو عاصم في طبعة مؤسسة قرطبة، والتصويب من غريب أبي عبيد: 4/ 136.
(2) زيادة لاستقامة الكلام.
(3) في الأصل: ولكن.
(4) في الأصل: اسداد.

(11/512)


وإن كان المقدار الحاصل بحيث لا تنتهي حصة واحد منهم إلى مقدار سدّ الحاجة، أفيسوي الإمام أم يعطي على قدر الحاجات؟ فإن الأشخاص وإن كانوا هم المستحقين، [فالجهة التي اقتضت الصرفَ الحاجةُ، فكان للإمام أن يرعى الكثرة في أشخاصٍ] (1) بالإضافة إلى من قلّت حاجته.
وإن وقع بيد الإمام مقدارٌ [لو بسطه] (2) على أهل الخِطة [لما] (3) تُصوِّر أن ينبسط لقلّته [وكثرةِ] (4) المستحقين، فإذا تُصوّر الأمر كذلك، فالأمر مفوّض إلى اجتهاده، ثم سبيل اجتهاده أن يقدِّم بما معه الأحوج فالأحوج، وإن كانت الحاجة غير مرعية في مستحقي ذلك السهم. لا وجه غير ذلك؛ فإن التأخير على الجملة ممتنع والفضّ على الكافة غير ممكن، والتحكم لا سبيل إليه، فلا وجه إلا ما ذكرناه.
7784 - ومما ذكره الأئمة في هذا الباب أنه إذا جاء إلى الإمام إنسان، وادعى أنه من ذوي القربى، لم يعطه بدعواه حتى يثبته، فإن كان [نسبه مستفيضاً] (5)، اكتفي به، وإلا ألزمه إثباته بالبينة، [إن] (6) أراد طلبَ حقه من ذلك السهم.
وكذلك لو ذكر أنه يتيم، فلا سبيل إلى اعتماد قوله؛ فإن اليتيم لا بد وأن يكون طفلاً، وقول الطفل غير مقبول، فعلى الوالي أن يبحث عن ذلك بطريق البحث عنه، ثم إذا استبان صغره، فلا بد وأن يتحقق عنده موت أبيه.
__________
(1) هذه الفقرة مضطربة تماماً، وقد حاولنا إقامتها بصورة غير مُرضية لنا، ولكن لم نستطع غيرها. والعبارة في الأصل هكذا: "فالجهة التي لصرف الحاجة مكان الإمام الكثرة في أشخاص بالإضافة إلى من قلت حاجته" ا. هـ بنصه. فمن وجد لها وجهاً، فليلحقها بالكتاب، وليغفر لنا، ويدعو لنا بالعفو وحسن العاقبة.
(2) في الأصل: الوسطة.
(3) في الأصل: كما.
(4) في الأصل: وكثرته.
(5) مطموس بالأصل. وأمكن قراءته على ضوء ما بقي من أطراف الحروف، وفحوى كلام العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية.
(6) في الأصل: وإن.

(11/513)


فأما من جاء يطلب من سهم المساكين، وذكر أنه مسكين، فلا نكلفه إقامة البينة على مسكنته، وإن كانت البينة تقام على الإعسار، ولكن نكتفي بقوله، وسيأتي شرح [ذلك] (1) وأنه هل يحلّف إذا اتُهم - في موضعه من قسم الصدقات، إن شاء الله عز وجل.
...
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(11/514)


باب تفريق أربعة أخماس الفيء
قال: "وينبغي للإمام أن يُحصي جميع من في البلدان ... إلى آخره" (1).
7785 - مقصود الباب الكلام في أربعة أخماس الفيء، وقد قدمنا في أول الكتاب اختلاف الأقوال في أربعة أخماس الفيء، وذكرنا أن القول الأشهر أنها مصروفة إلى المرتزقة، وهم الجند المرتبون المشمرون للإجابة مهما دعوا، وللجهاد مهما ندبوا، وهم شوكة الإسلام ونجدة الملّة، ولقبهم الخاص بين الفقهاء المرتزقة، والمراد أنهم بنَوْا أمرهم على الترصد للذب عن دين الله تعالى، وطلب الرزق من مال الله.
والمطوِّعة هم الذين ينهضون للغزو من غير أن يكونوا مدوّنين عند السلطان.
7786 - وأول ما نذكره في صدر الباب أن الإمام إذا كان يصرف إلى المرتزقة حقوقهم من الفيء، فينبغي أن يعرف أقدار حاجاتهم، ويضبط عيال كل واحد منهم، والذين يتصلون به ممن يمونهم، حتى إذا ثبت عنده مبالغ الحاجات، فيعطي كل واحد منهم على قدر حاجته وعياله، ثم يجرّد نظره في آخر كل نوبة؛ فإن الأحوال في قدر الكفايات لا تجري على نسق واحد، وكذلك تختلف المبالغ والأقدار باختلاف الأسعار، فليكن الجميع على ذُكْره لتكون قسمته على بصيرة وثَبت.
ومما يرعاه منهم حاجاتهم في الأسلحة والمركوبات.
7787 - ثم إذا فَضَّ عليهم من الفيء ما يسدّ حاجتهم، فإن لم يفضل شيء، فلا كلام، وإن فضل شيء فما يصنع بذلك الفاضل؟ فعلى قولين مبنيين على أن أربعة أخماس الفيء ملك المرتزقة، [أم] (2) ليس لهم منه إلا الكفاية؟ وفيه قولان: فإن قلنا: ليس لهم إلا الكفاية، فالفضل يصرف إلى سائر وجوه المصالح، فإنا في هذا
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 199.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(11/515)


القول لا نملِّكهم شيئاً، وإنما نكفيهم ليتفرغوا إلى الجهاد والقتال.
والقول الثاني - أن أربعة أخماس الفيء ملكُ المرتزقة، فعلى هذا إن فضل عن حاجاتهم شيء، فهو مردود عليهم.
وحاصل القول في هذا أنا وإن رأينا كفاية المرتزقة من المصالح، فإذا كُفوا المؤن؛ فقد كفى وتم الغرضُ.
وهذا القول يوجّه بأن المرتزقة لا اختصاص لهم بسببٍ يوجب لهم الملك، بخلاف الغانمين؛ فإنهم اختصوا بإثبات أيديهم على المغانم، فكفاية المرتزقة من أهم المصالح، فإذا كفوا المؤن، فقد كفى وتمّ.
فأما تمليكهم من غير صدور سببٍ منهم يقتضي الملك، فلا وجه له، فإذا ملكناهم كان السبب أنهم النجدة والعماد، وعليهم الاعتماد، ولو شغرت البلاد عن أهل الاستعداد، لهجم الكفار على الثغور، وكبسوا على المساكن والدور، فما يُظفر به من غير قتالٍ بسبب رعبٍ، فينبغي أن يستبدّ به الذين منهم الرعب، فعلى هذا تصرف الأربعة الأخماس إليهم ملكاً.
7788 - وعلى المنتهي إلى هذا الموضع أن يصرف الفكرَ إلى أمرين: أحدهما - أن المغانم تقسّم على رؤوس الرجّالة والفرسان، ولا ينظر إلى المؤن التي يلتزمها (1) كل شخص، كما ينظر إلى الكفاية في المرتزقة، والسبب فيه أن المقتضي الظاهر في الملك الاستيلاءُ وإثباتُ اليد، وهذا مما يُرجع فيه إلى القوّة الناجزة، ثم للشرع توقيفٌ في الفرسان والرَّجالة، وهو مبني على التمكن الناجز والأمر الحاضر، [وفي هذا مقنع عن النظر إلى المؤن] (2) [ولكن] (3) سبب الملك في المرتزقة الإرعاب، وذلك يخرج عن الضبط، فالتفت الشرع فيه إلى المؤن، التي يلتزمها المرتصد
__________
(1) أي المؤن التي يحتاجها الفرسان والرجالة. فلا ينظر إليها عند قسمة الغنائم.
(2) من خبرتنا وتذوقنا لعبارات إمام الحرمين يلوح لي أن صواب العبارة هكذا: "وفي هذا قطعٌ للنظر عن المؤن". ولكنا نلزم أنفسنا دائماً احترام النص المكتوب ما دام له وجه. مهما كان قلقاً.
(3) في الأصل: وفي.

(11/516)


للقتال، والبدار إلى هائعة الواقعة؛ إذ ليس ذلك استيلاء محققاً فيرعى.
هذا أحد ما يجب الاعتناء به.
ثم المؤن التي ذكرناها ينبغي ألا تنتهي إلى حدّ السرف واشتغال المرء بما لا يعنيه، وهذا بمثابة كفايتنا مؤن العبيد، فإن كان فيهم غناء (1)، فليبلغوا ما بلغوا، وإن كانوا زمنى [ويقوم بهم] (2) مقدارٌ قريب -فقد يألف عبداً قدمت خدمته عنده- فلا (3) نَضَّايق بهذا القدر (4)؛ فإن [ذلك] (5) خروج عن قانون الباب، فأما إذا كان يعتمد جمعَ الزمنى، فلا يجاب إلى كفايتهم من الفيء. هذا أحد الأمرين اللذين رأيت الاعتناء بهما.
والثاني - أن المرتزق لو كان ذا غنىً وثروة، فلا ينظر إلى ماله، ولا نقول: هو مستقلٌّ بماله، فلا نكفيه، ولكنا نكفيه من الفيء، ونترك له ماله عتيداً، لنكون أقمنا مؤنته من مال الله تعالى، فإذ ذاك يترصد لقتال أعداء الله تعالى.
ثم إذا قمنا بالمؤن وكفايتها، وفضل فاضل من المؤن -والتفريع على قول الملك- فإنا نقسم الفاضل على الرؤوس بالسوية، فإن المؤن قد زالت بالكلية، فإنها غير معتبرة، والفيء مضاف إليهم ملكاً، ولا فرق.
فإن قيل: هلا قسمتم الفاضل على نسبة الحاجات؟ قلنا: لا سبيل إلى ذلك وقد زالت الحاجات.
فإن قيل: هلا فضّلتم في الفاضل الفارسَ من المرتزقة على الراجل كصنيعكم في
__________
(1) غناء: أي كفاية ومعونة على القتال. وعبارة العز بن عبد السلام: "وإن اتخذ المرتزق عبيداً يصلحون للقتال، ليقاتلوا عند الحاجة، لم تجب مؤنتهم على النص. وقيل: تجب. وهو الأصح عند إمام الحرمين، وعلى النص: للإمام أن يأمر المرتزق باتخاذ عبيد لذلك، ويُكفى مؤنتهم من الفيء". ا. هـ بنصه (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة رقم 35 يمين).
وعبارة الرافعي: "فأما العبيد الذين تتعلق بهم مصلحة الجهاد، فينبغي أن يُعطى لهم، كم كانوا (ر. الشرح الكبير: 7/ 337).
(2) مكان كلمتين تعذر قراءتهما.
(3) جواب قوله: وإن كانوا زمنى.
(4) عبر عن هذا العز بن عبد السلام، فقال: "ولو زمن عنده عبد قديم الصحبة، لم يضايق في كفايته". (ر. الغاية في اختصار النهاية: الموضع السابق نفسه).
(5) مكان أربع كلمات مطموسات ذهب بها أثر بلل أصاب الأصل، فاستحالت قراءتها.

(11/517)


الغنيمة؟ قلنا: هذا التفاضل قد نقدّر [الفراغ] (1) منه في مقام الكفايات، إذا قمنا بسد الحاجات.
فإن قيل: هلا فضلتم البعض على البعض بالمناقب والمآثر، والقرب من شجرة النبوة، والعلم والتقوى وغيرها من الفضائل؟ قلنا: هذا رأي أبي بكر: ترك التفضيل، واتبع الشافعيُّ رأي أبي بكر في هذه المسألة، وذكر مفاوضة جرت بين الخليفتين، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: "أتجعل من شهد بدراً وبيعة الرضوان واختص بالسوابق كمن يدخل في الإسلام آنفاً، قال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجرهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ" (2).
وقد قال صاحب التقريب: إن اتسع المال، فرأى الإمام أن ينهج منهاج عمر، كان ذلك محتملاً، فذكر قولاً مخرجاً [عند] (3) اتساع المال، فلعله أراد بذلك أن يفاضل الإمام، ويكون في المال من التوسعة ما يرد به نُهمةَ المفضول، [ومال] (4) غيره إلى قولٍ مطلق غير مقيد باتساع المال.
وكان شيخي أبو محمد يقول: التصرف في ذلك قريبٌ من التصرف في حد الشرب؛ فإنا قد نفوض الرأي إلى الإمام كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
هذا والمذهب المعتمد ترك التفضيل، وهو الذي نص عليه الشافعي وبتَّ به جوابَه (5).
وكل ما ذكرناه، والتفريع على أن أربعة أخماس الفيء ملكٌ للمرتزقة.
7789 - ومما نفرعه أن نص الشافعي تردد في أنه هل يجب تمليكُ ذراري المرتزقة أم لا يجب ذلك فيهم، بل يصرف إلى المرتزقة مقدار كفايتهم، ويفوض الأمر في
__________
(1) في الأصل: الفرع.
(2) خبر مفاوضة عمر وأبي بكر في العطاء (رواه الشافعي في الأم 4/ 78، والبيهقي في السنن: 6/ 348، 349، والبزار، وهو في مختصر زوائد البزار: 1/ 718، 720 ح: 1329، وفي كشف الأستار برقم 1736. وانظر التلخيص: 3/ 230 ح 1490).
(3) في الأصل: عنه.
(4) في الأصل: وأراد.
(5) ر. الأم: 4/ 78.

(11/518)


الصرف إلى المرتزقة ولا نعترض عليهم؟ فذكر الأئمة قولين: أحدهما - أنه إنما يملّكهم كما تملك المقاتلة. والثاني - لا يملكهم؛ فإن هذا حق المرتزقة، وهم رجال القتال المستجمعون لصفات الغانمين الذين يستحقون السهام. والذراري ليسوا من المرتزقة، فلا معنى لتملكهم ما أُعد للمرتزقة.
فإن قلنا: لا يملِّكُ الذراري، فلا كلام.
وإن حكمنا بأنهم يملّكون، فقد اختلف أصحابنا في تمليك بنات المرتزقة، فمنهم من أوجب ذلك طرداً للباب، ومنهم من خصص إيجاب التمليك بالغلمان الذين يتوقع أن يبلغوا رجالاً للقتال كآبائهم. ثم الذين أوجبوا تمليك [النساء اختلفوا] (1) في زوجات المرتزقة، وليس من بنات المرتزقة، فمال الأكثرون إلى أنه لا يجب تمليكهن.
وما ذكرناه لا يجرّ خلافاً في القَدْر المبذول، فإن الكل يدور على مقدار الكفاية، وفي كيفية صرف مقدار الكفاية التردد الذي ذكرناه.
فالذي هو التحقيق تمليك المرتزقة قدر كفايتهم ويفوّض الأمر إليهم.
ومنهم من رأى إيجاب تمليك كل واحد من المتَّصلين القدر لأجله في الكفاية.
هذا بيان صوره.
7790 - ومما يتعلق بذلك أن الرجل من المرتزقة إذا مات وخلّف أولادً، فهل يجب أن يصرف إليهم من الأرزاق، وإن لم يكونوا من أهل القتال؟ فعلى قولين أيضاً: أحدهما - لا يجب؛ لأنهم ليسوا من المقاتلة، وليسوا تحت كفاية مقاتل. والثاني - يجب؛ فإن رجال المرتزقة إذا علموا أن ذراريهم لا يرزقون بعدهم لا يشمّرون للقتال، ولا يعرّضون أنفسهم ودماءهم للحتوف [وظُبات] (2) السيوف، وهم يعلمون أن صبيانهم بعدهم يضيعون وروي: "أن عمر كان لا يفرض لأولاد المرتزقة، ولا يفرض إلا للفطيم، فخرج ليلة يطوف، فمرّ بباب دار، فإذا بامرأة ولها صبيٌّ
__________
(1) مطموسة في الأصل: والمثبت تقدير منا على ضوء السياق.
(2) ذاهبة في الأصل: والمثبت من تقديرنا.

(11/519)


يبكي، وهي تقول: حكم الله بيني وبين عمر، فوقف بالباب، وقال: مالَكِ ولعمر، فقالت: إن عمر لا يفرض إلا لفطيم، وقد فطمته قبل أوانه، ففرض عمر بعد ذلك للصغير فطيماً كان أو رضيعاً".
ثم إذا رأينا الفوض للصبي، فهو على قدر كفايته، وكلما يَفَع وترعرع ازدادت مؤنته، فيزيد الإمام في الفوض له.
ثم إذا قام بأقدار الحاجات وآل الأمر إلى قسمة الفاضل على قول التمليك، فالذي رأيته من فحوى كلام الأصحاب أنه يختص بالفاضل رجالُ القتال والذراري يكفيهم مقدار الكفاية، وإن قلنا إنهم يملكون. هذا ما رأيته، وفيه احتمال، والعلم عند الله تعالى.
7791 - ومما يليق بقاعدة الباب أن توظيف الأعطية إلى رأي الإمام، فإن رأى أن يجعلها مسانهة (1)، فعل، وإن رأى أن يجعلها مشاهرة، فلا معترض.
والذي كان عليه ديوان عمر رضي الله عنه المسانهة (2). وذلك أنّ مجالب الأموالِ المغانمُ والفيءُ. وذلك في الغالب لا يتكرر في السنة.
7792 - فإن جُمع المال وتحصّل في قبضة الوالي وانقضت المدة التي ضُربت للأرزاق، فمات بعض المرتزقة بعد نهاية المدة وجباية الخمس، [فحصة] (3) ذلك الذي مات [تكون] (4) ملكاً له محقَّقاً مصروفاً إلى ورثته، وإذا كنا نقيم الوارث مقام الموروث الغانم إذا مات قبل قسمة الغنائم، مع العلم بضعف الملك فيها قبل القسمة، فالتوريث بعد انتهاء المدة وحصول المال ليس بعيداً.
7793 - وفي كلام الأصحاب تردُّدٌ في المرتزق لو أعرض عن مقدار رزقه بعد
__________
(1) مسانهة: أي سنوية سنة بعد سنة.
(2) خبر أن ديوان عمر رضي الله عنه كان مسانهة، قال الحافظ: خبر تدوين عمر للدواوين رواه البيهقي في المعرفة (ر. التلخيص: 3/ 229 ح 1489، وانظر معرفة السنن والآثار: 5/ 169 ح 4016، 4017، والأم للشافعي: 4/ 81) هذا، وليس فيه أنه كان مسانهة.
(3) في الأصل: فحصر.
(4) زيادة من المحقق، فضلنا زيادتها بدلاً من تغيير ما بعدها إلى الرفع، وحمل الناسخ على الخطأ.

(11/520)


انقراض الزمان وحصول المال، فهل يسقط حطه بالإعراض، أم الملك في حصته لازمٌ له كالملك الحاصل للورثة في حصصهم؟ فالمسألة محتملة، والأظهر عندنا أن الملك لا يقرّ؛ فإن الترتيب في ديوان المرتزقة ظاهر الإشعار بقصد (1) تحصيل الرزق.
والجهاد لا يحمل [إلا] (2) على قصد إعلاء [كلمة الله] (3) والذب عن الملة، فلا يقع المغنم فيه مقصوداً.
هذا إذا مات المرتزق بعد المدة وجباية المال.
فأما إذا جمع المال، فمات بعض المرتزقة في أثناء المدة المضروبة، فهل نقول: إنه يستحق جزءاً من حصته على قدر المدة؟ ذكر الأئمة قولين، وقربهما بعضهم من القولين في الجزية إذا مات الذمي في خلال السنة؛ فإن للشافعي قولين في أنه هل يجب مقدار من الجزية على قدر ما مضى من السنة؟ ووجه الشبه عند هذا القائل من تشبيه المدة بالمدة غير مرضي عند المحققين؛ من جهة أن مدة الجزية لا تنقص عن السنة أصلاً، وهذا توقيف شرعي متفق عليه، ومدة العطاء لا ضرب لها، ولو أراد صاحب الأمر أن يجعلها ستة أشهر أو أقل، جاز ولا معترض، وإذا كانت المدة تنقص وتنقسم ابتداءً، ولا يتصور مثل ذلك في الجزية، استبان أن [وجه] (4) البناء غير سديد.
والصواب توجيه القولين المذكورين في المرتزق إذا مات من غير بناء، فمن قال: إنه يستحق مقداراً من رزقه، ويصرف إلى ورثته بنسبة المدة والمال المستحق، فهذه (5) الإجارةُ والأجرة، ثم إذا انقضى شيء من مدة الإجارة، ففُرض انفساخُ الإجارة في بقية المدة بانهدام الدار، فالأجرة تتقسط ثبوتاً وسقوطاً.
ومن قال: لا يستحق المرتزق شيئاً إذا مات في خلال المدة شبّه الترصد بالارتزاق والترتيب في مرتبة الجند المعقود بالجعالة؛ فإن ما يفرض وقوعه مما يبعث فيه الجند
__________
(1) في الأصل: وبقصد.
(2) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) تقدير منا مكان كلمتين ذهبت أطرافها.
(4) في الأصل: أوجه.
(5) فهذه الإجارة: أي أنه شبه الارتزاق بالإجارة.

(11/521)


لا ينضبط ولا يتطرق إليه الإعلام المرعي في الإجارة، فتشبيه [حالة المرتزق] (1) بالجعالة أولى. ثم حكمها ألاّ يُستحق ببعض [العمل فيها شيء] (2) من الجعل المضروب.
هذا بيان توجيه القولين من [ .... ] (3).
فصل
ذكر الشافعي رواية مالك بن أوس بن الحَدَثان عن عمر أنه قال: "ما من أحد منكم إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم أُعطِيَه أو مُنِعه" (4). ثم ذكر الشافعي وجوهاً في هذا الأمر، منها أنه قال: لعله خاطب أهل الفيء والصدقة وقال ما قال وهو منتظم في حقوقهم.
ويجوز أن يقال: إنه ما من أحد من المسلمين إلا وله في أربعة أخماس الفيء انتفاع؛ فإن المرتزقة إذا رُتّبوا فيها، وكُفوا المؤن، وتشمروا لسدّ الثغور وحماية البيضة، فقد انتفع المسلمون قاطبةً بذلك، وكذلك إذا بنينا [القناطر] (5)، والرباطات، والمساجد، [فينتفع بها] (5) الناس كافة في أحوالهم، [وكأنه قال] (5) ما من أحد إلا وقد [حُطّ عنه] (5) بهذا المال فرضُ كفاية، [فإنه] (5) كما لا يجوز تضييع الفقراء [لا يجوز] (5) تعطيل الثغور، فإذا صرف هذا المال إلى سد الثغور، رجع نفعه إلى المسلمين كافة. وهذا معنى الحديث، والأمر في ذلك قريب.
فصل
قال: "ولم يختلف أحد لقيتُه في أن ليس للمماليك في العطاء حق، ولا للأعراب ... إلى آخره" (6).
__________
(1) مكان كلمتين مطموستين تماماً.
(2) مكان كلمات ذهبت ولم يبق سوى أطراف بعض حروفها.
(3) مقدار كلمتين لم يبق إلا حرف (غـ) من الأولى منهما.
(4) ر. الأم: 4/ 79، والسنن الكبرى للبيهقي: 6/ 347، ومعرفة السنن والآثار: 5/ 162.
(5) الكلمات بين المعقفين تقدير منا مكان المطموس في هذه الصفحة.
(6) ر. المختصر: 3/ 201.

(11/522)


7794 - وقد ذكرنا طرفاً من الكلام في [عبيد] (1) المرتزقة، وهذا أوان استقصائه، فنقول: إذا [اتخذ] (2) الرجل منهم [عبيداً زمنى] (2) لا يتأتى منهم الخدمة، ولا القتال، فلا [نلتزم بنفقاتهم] (2)، ولو كان الرجل [مخدوماً] (2) فاتخذ عبداً مملوكاً لم ليخدمه، فإنا نكفيه مؤنة ذلك العبد من مال الفيء، إذ ذلك من الحاجة، وإن زاد على عبدٍ لخدمته، فقد قال الأصحاب: لا حق له [في الزائد] (2)، ويقال للسيد: أعطيناك كفايتك وكفاية عيالك، وكفاية العبد الذي يخدمك، وليس لك من جهة الكفاية غيرُ هذه، وهؤلاء العبيد إن لم يمكنك أن تنفق عليهم، فبعهم. هذا ما ذكر الأصحاب.
وقد قدمنا فيما سبق أنه إذا أعد غلماناً للقتال، وكانوا صالحين، فيجب القيام بكفايتهم من مال الفيء، وليس في ظاهر النص في هذا اللفظ [تعرُّضٌ] (3) له؛ فإنه نص على أنا لا لانلتزم أكثر من مؤنة عبدٍ لخدمته.
واختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أن عبيد الحرب يجب القيام بمؤنهم، كما تقدم. والذي تعرض له الشافعي عبيد التزيّن والتجمل إذا كان لا يتأتى منهم القتال.
وهذا هو الصحيح.
ومنهم من قال: ليس للرجل المرتزق أن يتخذ عبداً للقتال، ولكن للإمام إن رأى ذلك ابتداءً [اقترح] (4) على المرتزق أن يفعل هذا.
وإن رأى أن يقيم مقام العبيد أحراراً أصحاب نجدة يترتبون في الديوان، فعل من ذلك ما استقر رأيه عليه. وفي المسألة احتمال. وظاهر النص أنا لا [نكفي] (5) من الفيء إلا خادماً واحداً.
وأما إن زاد المرتزق على زوجة واحدة، فظاهر النص أنا نكفي مؤن الزوجات،
__________
(1) ما بين المعقفين تقدير منا مكان الكلمات المطموسة في هذه الصفحة.
(2) في الأصل: للزائد.
(3) تقدير منا على ضوء ما بقى من آثارحروفها.
(4) في الأصل: واقترح.
(5) في الأصل: نكتفي.

(11/523)


وإن بلغن أربعاً، ومن أصحابنا من سلك بذلك مسلك المضايقة، ولم يذكر القيام بأكثر من مؤنة زوجة واحدة.
7795 - ثم قال الشافعي: "وعليهم أن يغزوا إذا أغزوا، ويرى الإمام في إغزائهم رأيه ... إلى آخره" (1).
وهذا بكتاب السير أليق، ولكنه ذكره هاهنا، فنشير إليه، ثم نعود إلى استقصائه في كتاب السير، إن شاء الله تعالى.
فنقول: حق على المرتزقة أن يتبعوا رأي الإمام وأمرَه، وإذا ندبهم إلى الجهاد، لم يتثبطوا ولم يعارضوا رأي الإمام، بل طاروا إلى الجهة التي يعيّنها. وهذا فائدة إعدادهم واستعدادهم، فلا يكون لهم مشاركة في الرأي، ويكون إلى التأني (2).
ولو أراد الإمام ندبهم، فلا شك أنه يُغزي كل طائفة إلى الصوب الذي يليهم، ويكون قد رتب في كل قطر أقواماً يكتفون به.
وهذا الفن يحتاج إلى فصل ثانٍ، وسيأتي مبيناً في كتاب السير، إن شاء الله تعالى.
ولو أراد الإمام أن يندب طائفة من المطوّعة، فإن لم تحدث حالة يتعين القتال لها، فلا ينبغي للإمام أن يجزم أمره في ذلك؛ فإن المطّوعة ليس الجندَ المرتبين، والجهادُ في حقهم من فروض الكفايات، فلو جزم الإمام أمره من غير حادثة تقتضيه، لكان ملحقاً فرضَ الكفاية بمراتب فرائض الأعيان، وهذا لا سبيل إليه؛ فإن فعل الإمام، فهل يتعين امتثال أمره، وارتسام رسمه؛ بذلاً للطاعة على حسب الاستطاعة؟
وفيه اختلاف عظيم الوقع في حكم الإمامة، ونحن بعون الله نذكر من هذا طرفاً صالحاً في كتاب السير، إن شاء الله تعالى، عند ذكرنا المحالّ التي يتعين فيها الجهاد، والمواضع التي لا يتعين فيها الجهاد، فعند ذلك [نذكر تأصيل] (3) هذا الفصل وتفصيله، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 203، والأم: 4/ 79.
(2) كذا. ولعل المعنى: ويكون الإمام أميل إلى التأنِّي.
(3) مطموس تماماً في الأصل، والمثبت تقديرٌ منا.

(11/524)


7796 - ثم قال الشافعي: "ولا يعطى مجاهد من الفيء ... إلى آخره" (1).
أراد بالمجاهدين الغزاة المطّوعة الذين لم يثبتوا أسماءهم في الديوان المشتمل على [العسكر المعقود] (2) والغرض من ذلك أن أربعة أخماس الفيء مقصورة على المرتزقة [المترتبين] (3)؛ إذا جعلناها ملكاً لهم [ورددنا] (4) الفاضل من الكفاية عليهم.
وإن قضينا بأنهم لا يملكون الأربعة الأخماس، ولكنها مال مصلحة، ونحن نبدأ بهم [نكفيهم] (5)، فعلى هذا لو أراد الإمام أن يصرف الفاضل من كفايتهم -الذي يجوز له صرفه إلى بناء القناطر والمساجد والرباطات- إلى طائفة من المطّوعة، فلا معترض على صاحب الأمر في ذلك؛ فإن [للنظر] (6) في مال المصالح متسعاً رحباً، وهذا بيّن، ولكن الأصل أن سهم الصدقات يصرف إلى المطّوعة، وهو المعني بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّه} [التوبة: 60] فإذا [لم يحصل] (7) ذلك السهم من الصدقات، فإنا نصرفه إليهم على الشرط الذي سنذكره في كتاب قَسْم الصدقات، إن شاء الله تعالى.
وإن اتفق ذلك السهم ووضعه في أهله واقتضى الرأي مزيداً، فلا [معترض على] (8) رأي الإمام كما ذكرناه.
ولو أراد الإمام أن يصرف سهم سبيل الله من الصدقات إلى المرتزقة، لم يكن له ذلك إذا كان في مال الفيء متسع. فإن لم يكن في يده من مال الفيء شيء، وكان
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 209.
(2) مطموس تماماً في الأصل، والمثبت اختيار منا.
(3) تقدير منا.
(4) في الأصل: وردّد.
(5) في الأصل: مكفيهم.
(6) في الأصل: النظر.
(7) في الأصل رسمت هكذا: "فإذا م ـحدد" وهي مع ذلك متلاشية وغير واضحة. والمثبت تقدير منا على ضوء السياق، وعبارة العز بن عبد السلام في مختصره، قال: "ولو صرف شيئاً من فاضل الفيء إلى المطوعة، لم يجز إلا إذا جعلناه للمصالح، وفقد كفايتهم من الزكاة" (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة رقم 36 يمين).
(8) تقدير منا حيث طمست تماماً واستحالت قراءتها.

(11/525)


المرتزقة مستظهرين بأموالهم، ولم يكونوا على الصفات التي [نشترطها] (1) في استحقاق سهم سبيل الله من الصدقات، فلا يجوز صرف ذلك إليهم.
فإن كانوا غير مستظهرين [ولو لم نكفهم] (2)، لضاعوا، فإذا رأى الإمام والحالة هذه أن يصرف سهم سبيل الله من الصدقات إليهم، ورأى انتهاضهم وهم المعدّون المستعدون أقرب من انتهاض المطوعة، فلا معترض على الإمام في ذلك.
وهذا الطرف الآخر سيكون لنا إليه عودة، إن شاء الله تعالى - في قسم الصدقات، وهذا التنبيه الآن كافٍ.
فصل
7797 - ذكر الشافعي في أثناء كلامه أن ما مع الإمام من مال الفيء إذا فضل عن كفاية المرتزقة، فهو مردود عليهم، موضوع فيهم، إذا فرّعنا على أنه ملكهم، وإن لم نره ملكاً لهم، فأقرب وجوه المصالح صرف ذلك الفاضل إلى عُدد القتال قصداً ودفعاً، وأولاها أمر الثغور والحصون، وإعداد الكُراع والسلاح، ومن وجوه المصالح أرزاق الحكام والولاة وأمر الأحزاب وهم الشُّرَط، ثم ينبثُّ النظر إلى القائمين بإظهار شعار الإسلام، وهذا مما نبسط القول فيه، ونحن نأتي به ونستقصيه في كتاب السير، إن شاء الله تعالى.
وقدر الغرض منه الآن أن المشهور من مذهب الشافعي أن الإمام لا يبقي في بيت المال شيئاً من مال وجوه المصالح، ما وجد مصرفاً لها مصطرفاً فيها، فإن لم يجد، ابتدأ في ابتناء رباطات ومساجد على حسب الرأي فيها، ولا يتصور انحسام هذه الجهات من الرأي، وتأسى الشافعي في ذلك بسيرة الشيخين؛ فإنهما ما كانا يدخران مال سنةٍ، بل كانا يصرفان مال كل سنة إلى مصارفه [ويشرفون] (3) إلى ما سيكون في السنة القابلة من الفتوح، وأخماس الغنائم والفيء.
وهذا وإن كان أشعر به ظاهر النص، فالذي ذهب إليه المحققون العارفون بأحكام
__________
(1) هكذا قدرناها بصعوبة بالغة، ونرجو أن يكون تقديرنا صحيحاً.
(2) اختيار من المحقق على ضوء المعنى وما بقي أطراف الحروف.
(3) ويشرفون: أي يتطلعون.

(11/526)


الإيالة من الأصحاب أن الإمام لو أراد إعداد مالٍ (1) وذخيرة لجند الإسلام، أُهبةً لإلمام الملمات، ووقوع المهمات، فلا معترض عليه إذا فضل المال عن الوجوه اللائحة في المصالح.
وجميع ما ذكره الأصحاب لا يخرج عن أوجه (2): أحدها - وهو ظاهر النص أنه يُخرج ولا يدّخر، ثم إن ألمت ملمة -والعياذ بالله- تعين القيام بكفايتها، فإنه يخاطب أصحاب الثروة من المسلمين. والقول في ذلك يطول، وهو من غمرة أحكام السير.
والوجه الثاني - أن له أن يعد في بيت المال ذخيرة، وهو أولى من كثيرٍ من وجوه المصالح، والنظر في ذلك إليه.
والوجه الثالث - أن يعد القدر الذي [أقرّه] (3) الأولون فيه باستفتاح مساجد ورباطات، فأما المصالح الدائمة، فلا يؤخر بسبب الاستعداد إذا واعد أداءُ المال شيئاً منها، وسيكون لنا في ذلك بسط، ومزيد كشفٍ، إن شاء الله عز وجل (4).
...
__________
(1) إعداد مالٍ وذخيرة لجند الإسلام: أي ادخار مالٍ.
(2) لقد بسط الإمام هذا الموضوع في كتابه الغياثي - أكمل بسط وأوفاه (ر: الغياثي الفقرات من 346 - 408).
(3) في الأصل: أمره.
(4) في نهاية نسخة الأصل، وهي نسخة وحيدة (س 339) ما نصه:
تم الجزء السادس عشر من نهاية المطلب في دراية المذهب، بعون الله وتيسيره والله الموفق وعليه الاعتماد يتلوه - إن شاء الله في الجزء السابع عشر باب ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيلٍ ولا ركاب.
كتبه وما قبله من الأجزاء الفقير إلى عفو الله وغفرانه الراجي لطفه ومغفرته عبد الله بن جبريل بن عبد الله الشافعى، غفر الله له ولوالديه، ولمن نظر فيه من المسلمين وذكره بالرحمة والرضوان. وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلم تسليماً والحمد لله رب العالمين.
اتفق الفراغ منه في العشر الأول من شهر جمادى الأخرى (كذا) أحد شهور سنة ... وثلاثين وستمائة.

(11/527)


باب ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيلٍ وركاب (1)
7798 - ظاهر المذهب أنّ الإمام لا يقسم ذلك العقار من الفيء، بل يستغله لأهل الفيء، ويصرف مستغلاتها إلى المصارف المقدمة.
وقيل: العقارات كالمنقولات، فإذا قلنا: هي مملوكة لأهل الفيء، كان سبيلها سبيل المنقولات.
وقيل: إنّ الإمام إذا أحب أن يصرف رقابها إلى مصارف المنقول صرف، وإن أحب، وقفَها وسبّلها على تلك الجهات، فأمّا سواد العراق، فله بابٌ.
فصل
7799 - إذا أراد الإمام أن يتخذ ديواناً للعساكر يجمع أصنافهم، وأسماءهم، كان حسناً، وينصب صاحبَ الجيش، وهو ينصب [نقباء] (2)، وكل نقيب ينصب [عُرفاء] (3)، وكل عريفٍ يحيط بأسماء معروفين مخصوصين به، فالإمام يدعو عند حاجته صاحبَ الجيش، وصاحبُ الجيش يدعو النقباء، وكل نقيب يدعو عرفاء تحت
__________
(1) سقط من نسخ النهاية هذا الباب، وما بعده إلى آخر قسم الصدقات. والمثبت هنا من مخطوطة مختصر ابن أبي عصرون (صفوة المذهب) الجزء الثالث، حيث رأيناه في اختصاره يلتزم ألفاظ النهاية، وقلما يغير فيها لفظاً أو تعبيراً.
(2) في الأصل: "نقيباً" والمثبت من المحقق؛ إذ المراد جمع (نقيب) كما هو واضح من قوله: "وكل نقيب".
(3) في الأصل: "عُرفاً"، بضم العين وتنوين الفاء، وزن (فُعُل) بضم العين، وهو مطّرد في كل اسم رباعي، قبل آخره حرف مدّ، صحيح الآخر مثل: قضيب وقضب، وبريد وبرد؛ فلا يصح في (عريف) (عُرُف)؛ لأنه صفة، بل يجمع على (فعلاء) حيث يطرد هذا الوزن في وصف مذكر عاقل على زنة (فعيل) بمعنى (فاعل) غير مضعف، ولا معتل اللام، ولا واوي العين، مثل: بخيل وبخلاء، وعريف وعرفاء. (ر. شذا العرف في فن الصرف: 108).

(11/528)


رايته، وكل عريف يدعو مسمَّين تحت ضبطه وأمره، فيسهل الأمر في جمعهم وتفرقهم، وفضِّ (1) الأعطية عليهم، وندب كل فريق إلى ناحية.
وحسنٌ أن يكون لكل فريق علامة يعرفون بها في الحرب، فقد كان ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7800 - وأوّل من دوّن الديوان في الإسلام عمر بن الخطاب؛ لمّا كثر المال، وانتشر الجند، واتسعت الخِطَّة، وتعذّر الضبط، قيل [له] (2): إن مَلِك الشام كان يدون الدواوين، فرآه رأياً، فقيل له: ابدأ بنفسك، فقال: بل أقرّ نفسي حيث كنتُ؛ أبدأ برهط رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه أجراهم في سهم ذوي القربى مجرى بني هاشم، فكان رضي الله عنه إذا وجد السن في بني هاشم قدّمه، وإذا وجده في بني المطلب قدمه، وجعل رأس الديوان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم استوت له عبد شمس ونوفل، وكان هاشم والمطلب وعبد شمس ونوفل بني عبد مناف، [فقدم] (3) عبد شمس؛ لأنه والمطلب إخوة هاشم لأبيه وأمه، ونوفل كان أخاه لأبيه؛ فرأى تقديم عبد شمس؛ لمكان عثمان وسابقته وفضله، ثم أعطى نوفلاً.
ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار، ابنا قصي [أخوا عبد مناف] (4)، فقدّم عبد العزى لمكان خديجة منهم؛ فإنها بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى، ولمكان الزبير بن العوام منهم؛ فإنّ العوام هو ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى أخو خديجة.
ثم أعطى عبد الدار، وذكر من فَضْل عبد العزى أنهم شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف المطَّيبين (5)، وهو حلفٌ جمع طوائف، وتحالفوا وتمسحوا بطيبٍ
__________
(1) فضِّ العطاء فضّاً: أي قسمه، فهو مفضوض. (المعجم).
(2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "فقد".
(4) في الأصل: "أخو عبد مناف".
(5) الصواب حلف الفضول، فلم يشهد النبي صلى الله عليه وسلم حلف المطّيبين؛ فقد كان قبل مولده عليه الصلاة والسلام.

(11/529)


كان معهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فحلفوا ألا يُقروا ظالماً بمكة، ولا يتركوا نصرة مظلومٍ، وكان ذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم انفردت له زُهرة بن كلاب بن [مرة] (1) فدعا بها تتلو عبد الدار.
ثم استوت له مخزوم بن يقظة بن مرة، ويقظة وتيم هما أخوا كلاب بن مرة، فقدم تيماً على مخزوم، لمكان أبي بكر الصديق، ثم دعا مخزوماً.
ثم استوت له عديٌّ بنُ كعب بن لؤي [أخو] (2) مرة، وسهمُ وجُمحُ (3)، فكان الواجب أن يقدم عديّاً لمكان عمر ومكانة ابنته حفصة، ولم يفعل، فقدّم جمحاً على سهم، وخلط عدياً [بسهم] (4) فلما وصل إلى سهمه، كبّر تكبيرة عالية وقال: الحمد لله الذي أوصل إلي حقي (5) من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دعا عامرَ بنَ لؤي أخا كعب بن لؤي، قبيلة أبي عبيدة بن [الجراح] (6)، فقال [أبو عبيدة] (7): أكل هؤلاء يُدْعَون أمامي. فقال: يا أبا عبيدة اصبر كما صبرتُ، أو كلّم قومك -يعني قريشاً- فمن قدمك منهم على نفسه قدمتك عليه، وإن شئتَ قدمتك على نفسي.
ولما انتهى إلى معاوية جعل الحارث بنَ فهر بين أسد بن عبد العزى وبين نوفل، وقدمهم على سائر قريش، سوى عبد مناف.
7801 - ثم لما فرغ عمر من قريش، دعا بالأنصار لمكانهم من الإسلام، ثم وضع
__________
(1) في الأصل: "ابن عبد مناف"، والتصويب من "نسب قريش" لأبي عبد الله، المصعب بن عبد الله بن المصعب الزبيري.
(2) في الأصل: أخوا.
(3) سهم وجمح ابنا عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، فهما وارثا هصيص أخي عدي ومرة، فمن أجل ذلك دعيا مع عدي.
(4) في الأصل: "بجمح"، ولا يصح؛ فهو سهو واضح؛ فقد قال: "إنه قدم جمحاً".
(5) في المصادر: "حظي" (ر. الأم: 4/ 81، السنن الكبرى: 6/ 264، معرفة السنن والآثار: 5/ 169).
(6) في الأصل: الجراحة.
(7) في الأصل: "أبي عبيدة".

(11/530)


قبائل العرب على الترتيب. ثم أثبت العجم، وكان معتمده في الديوان شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه (1).
ذكرنا هذا تيمناً.
فصل
7802 - قال صاحب التلخيص: "من أخذ شيئاً من الغنيمة غالاًّ، مالوا إلى أن يحرق عليه رحله، إذا لم يكن فيه مصحف، وروى فيه خبراً" (2).
فذهب معظم الأصحاب إلى تضعيف الخبر (3)، وأنه غير معمول به، وإن صحّ، فهو منسوخ؛ لأنه لم يعمل به الخلفاء، ومنهم من وافقه، وهو بعيد.
وإن كان في الرحل مصحف، فقد قالوا: "لا يحرق -وإن [أمكن] (4) إخراج
__________
(1) قصة تدوين عمر للديوان رواها الشافعي في الأم: 4/ 81، 82، ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى: 6/ 364، ومعرفة السنن والآثار: 5/ 169 ح 4016، 4017.
(2) لم نجد هذه العبارة بهذا النّص في التلخيص، وإنما العبارة في التلخيص المطبوع بين أيدينا جاءت بهذا النص: "ولو غل من المغنم شيئاً أحرق عليه رحله، وإن كان فيه مصحف بيع وتصدق بثمنه. قاله نصاً.
وهذا إذا كان الإمام عدلاً، وإذا لم يكن عدلاً، يحرّق، قلته تخريجاً" ا. هـ بنصه. (ر. التلخيص: 461).
فلعل إمام الحرمين نقل عن صاحب التلخيص من كتاب آخر له، أو نسخة أخرى من التلخيص غير التي بين أيدينا، فهي طبعة لا خير فيها، ولا ثقة بها.
(3) الخبر الذي وجدناه في هذه الشأن رواه أبو داود، والترمذي، وأحمد والحاكم والبيهقي عن صالح بن محمد بن زائدة. فال: "دخلت مع مسلمة بن عبد الملك أرض الروم، فأُتي برجل قد غلّ، فسأل سالماً عنه، فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الرجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه". قال: فوجدنا في متاعه مصحفاً، فسأل سالماً عنه فقال: بعه، وتصدق بثمنه".
والحديث ضعفه البيهقي، والحافظ في التلخيص، وكذا ابن الملقن في البدر المنير.
(ر. أبو داود: الجهاد، باب في عقوبة الغال، ح 2713، الترمذي: الحدود، باب ما جاء في الغال ما يصنع به؟ ح 1461، المسند: 1/ 22، الحاكم: 2/ 128، السنن الكبرى للبيهقي: 9/ 103، البدر المنير: 9/ 139، 140، التلخيص: 3/ 210 ح 2267).
(4) في الأصل: كان.

(11/531)


المصحف وإحراق الباقي- ولكن يباع رحله ويتصدق بثمنه"، وذلك في الخبر.
وهذا مما لم يُساعد (1) عليه.
قال: "وإنما هذا إذا كان الوالي عدلاً" (2).
وكل ذلك خبطٌ لا أصل له، وعندي أنّ الخبر إن صحّ، فهو محمول على المنافقين الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ورد في الإحراق عليهم أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن الجماعة.
فصل
7803 - كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصطفي من المغنم شيئاً، ومنه سميت صفية، فقال بعضهم: لم يكن ذلك محسوباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان محسوباً عليه من السهم الذي كان يعده للمصالح، وكان تخصيصه بالاصطفاء ليتميز ما كان [يَرْفده] (3) له.
...
__________
(1) أي صاحب التلخيص.
(2) ر. التلخيص: 461.
(3) يَرفِده: أي يُمسكه، من باب ضرب، رَفداً، ورِفادة (المعجم) هذا. وهي بالأصل غير منقوطة، ولا مضبوطة، ولكنها تقرأ هكذا بصعوبة.

(11/532)


مختصر قَسْم الصَّدقات
7804 - قال الشافعي: "الأصل فيه من الكتاب قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ... } [التوبة: 60]. ومن السنة: "أنه جاء رجلان إلى النبي عليه السلام، فسألاه الصدقة، فصعّد نظره فيهما وصوب، ثم قال: أعطيكما إن شئتما، ولا حظّ فيها لغني، ولا لذي مِرَّة سوي" (1).
وأجمع المسلمون على أن الصدقات وظائف موظفة في أموال الأغنياء ومن في معناهم، والغرض الكلي منها صرف قسط من أموال الأغنياء إلى محاويج المسلمين.
7805 - ولا يجب على ملاّك الأموال الباطنة صرف زكواتها إلى الولاة، بل يتولَّوْن تفرقتها على المستحقين.
وأما الأموال الظاهرة، ففي زكواتها قولان: أحدهما - يفرّقها الملاك كالباطنة، وهو المختار في الجديد.
والثاني -وهو مذهب أبي حنيفة (2) - وهو القديم: أنه يجب دفعها إلى الوالي لسيرة الصديق في مانعي الزكاة؛ لأن تولي الآحاد لا يؤخذ (3) منه بسطها على المستحقين، وإذا جمعها الإمام تأتى له ذلك؛ ولأنها وظيفة كلية. أعدت للحاجات العامة، فكأنها في السَّنَة تحل محل النفقات الدّارّة (4) يوماً يوماً لمن يمونه.
واختصّ ذلك بما يظهر؛ لأن للناس أغراضاً في إخفاء الأموال، وظاهرها لا يمكن إخفاؤه.
ووجه الأول أنها أحد أركان الدين، فيختصّ بأدائها من اختصّ بالتزامها؛ ولأن في منع الشافعي نقلها -في قولٍ- قصد التعميم؛ لأن أهل كل بلد إذا فرّق أغنياؤهم على
__________
(1) لم أصل إلى هذا الكلام منصوصاً للشافعي، لا في الأم، ولا في المختصر. فهو بمعناه.
(2) ر. بدائع الصنائع: 2/ 35، البحر الرائق: 2/ 248.
(3) كذا.
(4) الدّارّة: أي الدائمة المستمرة. (المعجم).

(11/533)


محاويجهم قربت من التعميم بتولِّي الإمام، إلا أنه لم يربط أحد جواز الدفع بمنع النقل، بل يجري الخلاف في النقل وإن لم يوجب دفعها إلى الأئمة.
7806 - والأموال الظاهرة: المواشي، والمعشَّرات. والباطنةُ: النقدان، وعروض التجارة. والمعادنُ (1) إن قلنا: "واجبها صدقة" - ملحقةٌ بالظاهرة. والركازُ ألحقه بعضهم بالباطنة؛ لأنها لخفاءٍ (2) وضعاً ورفعاً، وقيل: تلحق بالمعادن.
وصدقة الفطر قيل: هي من الظاهرة؛ لأن وجوبها بيّن، ومتعلّقها تواصل الوقت، وقيل: تلحق بالكفارات، ولهذا لم يتعرض السعاة لجمعها، ولو جُمعت عظمت (3) مبلغُها.
وقيل: إن صدقات الأموال الباطنة كانت تسلم إلى الخليفتين، وصح أن عمر طلب من حِمَاس صدقة التجارة من أُهب كانت عنده (4)، ثم رأى عثمان أن يكل زكاة الأموال الباطنة إلى أربابها. والذي يغلب على الظن أن الخليفتين كانا يقبلان زكاة الأموال الباطنة إذا جيء بها إليهما، ولا يطلبانها، ولو كان في حق الولاة أخذ جميع الزكوات، لما حطّه عثمان، وصحّ أن السعاة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمن الخليفتين كانوا يطلبون زكوات الأموال الظاهرة، ولم يصح بحثهم عن الأموال الباطنة، وندب عثمان إلى توليها أربابها لعلمه بما يؤول الزمان إليه.
__________
(1) المعادن جمع معدن، والمعدن مكان كل شيء فيه أصله ومركزه، وموضع استخراج الجوهر من ذهب ونحوه، وهو ما يعرف الآن بالمنجم، والمراد هنا بالمعادن ما يستخرجه المعدِّن (أي المستخرج) منها.
(2) لخفاءٍ: المعنى أن الركاز يوضع ويدفن في الأرض في خفاءٍ، ويبحث، وششخرج في خفاء، فهو لخفاءٍ وضعاً ورفعاً.
(3) كذا -بتأنيث الفعل، ووجههاً- إن لم تكن من سهو الناسخ- أن الفاعل ضمير مستتر، ومبلغُها بدل اشتمال (على ما في ذلك من تكلّف).
(4) أثر عمر رواه الشافعي، وأحمد، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، والدارقطني (ر. الأم: 2/ 46، مصنف ابن أبي شيبة: 3/ 183، مصنف عبد الرزاق: 4/ 96 ح 7099، سنن الدارقطني: 2/ 125، وانظر تلخيص الحبير: 2/ 246).

(11/534)


وإذا أوجبنا دفع زكوات الأموال الظاهرة إلى الإمام، فلو فرّقها ربها، لم تقع موقعها. وإذا قلنا: يجوز لربّ المال أن يفرقها بنفسه، فلو صرفها إلى الإمام، لجاز.
فصل
7807 - في جواز نقل الصدقات قولان: أحدهما - يجوز؛ لعموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ... } الآية [التوبة: 60]، من غير تخصيص بأهل بلد، وإنما دلّت على اعتبار صفات استحقاق الآخذين. والثاني - لا يجوز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم" (1). وقال معاذ "من نقل صدقته وعُشرَه من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته، فصدقته وعُشره مردودان إلى مخلاف عشيرته" (2).
وقيل: منع النقل يجري إذا كان مُلاّك الأموال يتعاطَوْن تفرقة زكاواتهم، فأمّا إذا تولاها الإمام، فلا يتجه القول بمنع النقل؛ لأن نظر الإمام في جميع أرباب الأموال، وجميع أهل الاستحقاق في جميع خِطة الإسلام، فيشقّ منعه من النقل.
ويتجه أن يقال: يرتب الإمام في كل قطر نائباً [يأمره بذلك] (3)، فهو متيسّر، وإليه يشير قوله عليه السلام لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وتردّ في فقرائهم".
__________
(1) حديث معاذ سبق تخريجه.
(2) حديث معاذ في نقل الصدقة لم نجده بهذا اللفظ، وقد رواه بلفظ مقارب الشافعي في الأم، والبيهقي في السنن الكبرى، وإسناده -كما قال ابن الملقن في البدر المنير- منقطع، والحديث رواه أيضاً سعيدبن منصور بإسناد قال عنه الحافظ في التلخيص: "صحيح متصل إلى طاوس".
هذا وقد اقتصر الحافظ على عزوه إلى سنن سعيد بن منصور، مع أنّ ابن الملقن في البدر المنير الذي هو أصل التلخيص عزاه أيضاً إلى البيهقي في السنن، وإلى الشافعي في الأم، فلعل الحافظ اكتفى بالصحيح. (ر. الأم: 2/ 78، السنن الكبرى: 7/ 9، البدر المنير: 7/ 400، التلخيص الحبير: 3/ 242 ح 1517).
(3) في الأصل: بأمره ذلك.

(11/535)


فإن قلنا: يجوز النقل، فلا كلام. وإن منعناه، فنقلَها وصرفَها إلى الموصوفين، ففيه قولان: أحدهما - لا تقع موقعها، وهو القياس. والثاني - تقع موقعها، لمصادفتها أهلَ الاستحقاق.
قال صاحب التقريب: من قال بهذا [يُعصِّيه] (1) ويُبرىء ذمته، ولا يمنع أن يرجع الأمر إلى كراهة، ولا [تُناقض] (2) المعصيةُ التبرئةَ.
فعلى هذا من كثرت زكاة أمواله، وإذا بسطها، قاربت محاويج القطر من الكفاية، فلو اقتصر على ثلاثة من كل صنف، فقد تبرأ ذمته إذا لم يكن في القطر من يرعى المحاويج غيره، لكن يعصي بتضييع أكثرهم؛ فتجتمع له المعصية والبراءة.
والحضري إذا استوطن بلدة أو قرية وماله فيها، وقلنا: لا يجوز النقل، فالمذهب أنه لا يجوز نقلها إلى قرية قريبة من بلده، منفصلةٍ عن وطنه لا يستبيح الخارج إليها الترخّص (3). وقيل: يجوز النقل إلى ما دون مسافة القصر، وهو بعيد، وفيه رفع هذا القول؛ لأنه إذا جاز النقل إليها، فهي محل الصدقة، فيجوز أن ينقل منها إلى مثلها، ويتسلسل، ويرتفع هذا القول. والصحيح هو الوجه الأول.
أمّا البدوي إذا استقر في موضع من البادية، لا يبرح منه إلا براح الحضري من وطنه، فإذا منعنا النقل، فلهؤلاء النقلُ إلى ما دون مسافة القصر؛ لأنه ليس في البادية مراسم بلدة وخِطة، فهذا أقرب معتبر.
وقيل: لا يجوز أن ينقلوا الصدقة بحيث يتميز مخيمهم عن مخيم الحلّة الأخرى كتميز القرية عن القرية الأخرى. وهذا لا بأس به، والأول أشهر.
7808 - فإن لم يجد في بلده إلا بعض الأصناف، فيصرف إليهم حقهم، ثم ينقل حق الباقين إليهم، أو (4) جوزنا النقل، وجب في هذه الصورة صرف فاضل الموجودين إلى من وجد منهم في بلد آخر.
__________
(1) في الأصل: يُعصّي.
(2) في الأصل: تناقضه.
(3) أي لا يجوز نقلها ولو إلى دون مسافة القصر.
(4) كذا. ولها وجه.

(11/536)


وإن قلنا: لا يجوز النقل إذا وجد المستحقين في بلده، فعلى هذه قولان: أحدهما - يتعين صرف حصص الغائبين إلى الحاضرين ولا ينقل أصلاً. والثاني - يتعين النقل إلى بقية الأصناف؛ لأن الأصل رعايتهم، ولأنه لو لم يجد في بلد المال مستحقاً أصلاَّ، تعيّن النقل، فكذلك إذا فُقد البعض.
فإن قلنا: لا ينقل، ويفضّ على الموجودين، فلا كلام. وإن قلنا: ينقل هذه، فعلى قول منع النقل تداخل قول منع النقل وقول جوازه في الأصل، لكن إذا جوزنا في هذه النقل في هذه الصورة، نقله إلى أي موضع شاء. وإن قلنا: لا يجوز النقل في الأصل وإنما ينقل في هذه الصورة لعدم بعض المستحقين، فإنه ينقلها إلى أقرب المواضع إلى بلده، فإن وجدهم دون مسافة القصر، لم يزد عليها، وإن لم يجدهم دون مسافة القصر، فالجمهور على أنه ينقلها إلى مرحلتين، ولا يبلغ ثلاثة مراحل، ويراعي الأقرب فالأقرب، وإن زادت على مسافة القصر.
وقيل: إذا جاز النقل إلى مسافة القصر، فلينقُل إلى أين شاء. والأول أصح.
هذا إذا وجد في بلد الصدقة من كل صنف ثلاثة فصاعداً، وفقد بعض الأصناف جملةً.
فأما إذا وجد من كل صنف واحداً أو اثنين، فقد [قيس] (1) هنا على ما إذا وجد بعض الأصناف كاملاً، وفقد بعضهم، فإن قلنا ثَمَّ يفضّ على الموجودين، فهاهنا أولى، وإن قلنا ثَمّ يجب النقل، ففي هذه [قولان] (2)؛ فجعلوا فقدان الأصناف أدعى إلى النقل من فقدان كمال العدد في كل صنف.
7809 - والمعتبر وطن المال لا وطن المالك، قال العراقيون: ينبني على [هذا أن] (3) من أهلّ عليه شوال في بلدٍ وماله في غيره، ففيه وجهان: أحدهما - أن فطرته لبلده دون بلد ماله؛ لأنه حق يجب عن البدن، وليست في حقوق الأموال. والثاني - تصرف الفطرة في مستقرّ ماله؛ لأنه يعتبر فيها [المال] (4). وبيان هذا الوجه الأخير إذا
__________
(1) في الأصل: "قبل" والمثبت تصرف من المحقق؛ رعاية للسياق.
(2) في الأصل: "قولاً".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: للمال.

(11/537)


كان معه مقدار الواجب وهو في وطنه، وقلنا: لا يجوز النقل، لزمه إخراجه، وإن لم يجد قدر الواجب في وطنه، ففيه يخرج الوجه الذي ذكرناه في اعتبار وطن المال.
7810 - ومصرف الفطرة مصرف الزكوات عند الجمهور، وقيل: تجري مجرى الكفارات، فيكفي صرفها إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين.
فإن قلنا: تصرف إلى الأصناف، جاء التفصيل الذي قدمناه في النقل، وإن قلنا: تجري مجرى الكفارات المالية، فمنهم من قال: هي كالزكاة في منع النقل، ومنهم من جوّز نقلها؛ لأنها ليست من الوظائف الراتبة، فلا يتطرق إليها الحكمة التي راعيناها في منع نقل الزكاة من الانبساط على جميع البلدان؛ لأن ذلك [يحسب] (1) في الوظائف الراتبة.
والوصايا المطلقة للفقراء وغيرهم هل يجوز نقلها إذا منعنا نقل الزكاة؟ وكذلك الخلاف فيما يلزم بالنذر المطلق؟
قلت (2): العجب من قوله: الفطرة ليست من الوظائف الراتبة. وهل الوظيفة الراتبة إلا ما لازمت وقتاً لا تنفك عنه، وإن لم يجب في السنة إلا مرة كزكاة المال، بل الفطرة ألزم في الترتب من زكاة المال؛ فأكثر الخلق لا تلزمهم الزكاة؛ لعدم النصاب، والفطرة لازمة لمن هو من أهل العبادة.
قال: ومن لا يستوطن موضعاً ولا يستقر ماله، فلا يعتبر النقل في حقه، وجميع الأرض في حقه كالبلدة الواحدة.
ولو كان يتردد في إقليم فسيح، فالظاهر أن له أن ينقل الصدقة من ذلك الإقليم، وإن كان لا يخرج منه، وفيه احتمال.
ولو وجبت الزكاة وهو في بعض النواحي فقد قيل: الأولى أن يخرجها في محل وجوبها، ولم يوجب ذلك أحد من الأصحاب؛ لأن حكم الاستيطان غير ثابت للمال.
ولو كانت ماشية رجل تتردد بين قريتين شتاءً وصيفاً، ولا تتعداهما، فإن لم يكن
__________
(1) في الأصل: كلمة رسمت هكذا " محسـ ا " وبدون نقط.
(2) القائل ابن أبي عصرون، والمتعجب من قوله إمام الحرمين.

(11/538)


بينهما مسافة القصر، فالذي أراه على قول المنع من النقل القطع بأنه لا يجوز إخراج الزكاة إلى غير القريتين. وإن كان بينهما مسافة القصر، ففيها احتمال ذكرناه في التردد في الإقليم. ولو اتفق وجوب الزكاة، والماشية في إحدى القريتين المتقاربتين، وقلنا: يمنع النقل، لم تتعين القرية التي وجبت الزكاة فيها لتفرقتها على الظاهر.
ومن وجبت عليه الزكاة في بلد ولا يجد فيه أحداً من أهل الاستحقاق، وربما احتاج في نقلها إلى قدرها أو زيادة عليه، فقد قال بعضهم: يلزمه النقل ومؤونته وإن عظمت. ولا تحتسب من الزكاة، قال: وهذا بعيد، والأصح أنه لا يجب، ويخالف الساعي إذا جمع الزكوات، واحتاج في نقلها إلى مؤونة، حيث قلنا: تكون من نفس الزكاة.
ورب المال مخير بين أن ينقلها ويلتزم مؤونتها، وبين الصبر إلى أن يجد مستحقها، ولا تنزل الزكاة في يد من وجبت عليه منزلة الوديعة حتى يقال: إن وصل إليه مستحقها سلمها إليه، بل يجب عليه أن يفضها على المستحق إذا لم تلزمه مؤونة، وإن وجبت مؤونة، فعلى الاحتمال الذي ذكرناه.
ذكر العراقيون حِلَّة (1) ينتجعون في البادية ومعهم أصناف أهل الاستحقاق لا يفارقونهم، فيجب صرف زكاتهم إليهم؛ لأنهم بمنزلة المقيمين معهم. هذا على قول منع النقل. قال: وفيها احتمال يُشير كلامهم إليه؛ لأن منع النقل في حكم البعيد الذي لا يستقيم على [السبر] (2)، والأخبار وردت في المقيمين، وهؤلاء مسافرون.
فصل
7811 - قال: ويجمع أهل الاستحقاق أنهم أهل الحاجة، ولكن منهم من هو محتاج إلى أخذها، كالفقراء، ومنهم من يحتاج إلى دفعها إليه كالعاملين ونحوهم، فنبدأ منهم بمن بدأ الله تعالى بذكره فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، فللفقراء سهم، وللمساكين سهم، ولو جرى ذكر الفقراء في وصية، فهم
__________
(1) حِلّة: أي أهل حلٍّ، أي متحضرون، أهل حضر.
(2) السبر: بالباء، وهي الأصل بالياء المثناة التحتانية.

(11/539)


والمساكين بمثابة، وكذلك لو جرى ذكر المساكين كانوا والفقراء بمثابة واحدة. فإذا اشتمل الكلام على الفقراء والمساكين، فلا بد من مغايرة بينهما.
والفقير عند الشافعي أشد حالاً من المسكين، [فالفقير] (1) الذي لا يجد شيئاً وراء الضرورة مثلاً في الملبس والمسكن، ولا يمنع أن يملك شيئاً لا موقع له من كفايته.
وأما من لا يفي دخله بخَرْجه، فهو المسكين. فهما يشتركان في أنّ كل واحد منهما لا يملك كَفافاً (2) أو سِداداً (3) من عيش، وفي القدرة على الكسب الذي يردّ القوت الكافي وغيرَه من الضرورات، ولا يخرجه من الاستحقاق بصفة الفقر أو المسكنة، فالفقير الذي لايملك شيئاً ولا له كسب يرد بعض كفايته، فإن رد بعضها، فهو مسكين.
وأما الصحيح الذي لا حرفة له، فمنهم من قال: يشترط في الفقر الزمانة؛ لأن الصحيح لا يخلو من نوع من الكسب يسد مسداً، ويخرجه عن كونه فقيراً، وإن لم يفِ دخله بخرجه، فهو مسكين.
فإن لم نشترط الزمانة، فلا كلام، وإن شرطناها، ففي اشتراط العمى تردد؛ فإن الزَّمِن البصير يكون ناطوراً.
وهذا سرفٌ، وحق الناظر في الجزئيات أن لا يغفل عن الكليات ونحن نعلم أن السلف لم ينتهوا إلى هذا الحد في التضييق.
وقد قال الشافعي في موضعٍ: "الفقير الذي يتعفف عن السؤال". فمن الأصحاب من شرط عدم السؤال، وجعله متمسكه، وقيل: لا تعويل على السؤال؛ فإنّ السائل [قد] (4) يُعطى، وقد يصرف، وأيضاً؛ فإن المعروف بالفقر إذا تعفف، قصده أرباب
__________
(1) في الأصل: والفقير.
(2) "كَفافاً" بفتح الكاف: كفاف الشيء مثله ومساويه، والكفاف من الرزق ما كان مقدار الحاجة من غير زيادة ولا نقصان. (المعجم).
(3) "سِداداً" بكسر السين، السداد ما سددت به خللاً، وسِدادٌ من عوز، أو سِدادٌ من عيش: لما يسدّ الحاجة (المعجم).
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(11/540)


الأموال بالكفاية، والأول يقول: السائل المضطرب (1) أوسع معيشة من المتعفف، والمسكنة لا تُنافي ضرباً من المال إذا لم يفِ الدخل بالخرج.
7812 - ومن صرف سهم الفقراء والمساكين إلى الفقراء، وظن أن ما أضيف إلى [المساكين] (2) اكتفاء بالأقل درجة [من] (3) الفقر من طريق التخفيف، وطلبُ الفقر تمسكٌ [بالأشدّ] (4) الأشق، فهذا ظن باطل (5)؛ لأن مقصود الشرع إزالة الحاجات بالزكوات؛ فقد يكون من غرضه أن يصرف إلى المساكين سهماً [ليتماسكوا] (6)، ولا يصيروا فقراء؛ فلو وجد المسكين نصاباً، وكان لا يفي بمؤونته، لم يمنع صرف الزكاة إليه -وإن التزم إخراج الزكاة- فجواز صرف الزكاة إليه ينبني على تحقق مسكنته، فيجوز الصرف إليه إلى الاستكفاء.
وإن كان محترفاً بحرفةٍ تحتاج إلى آلات وهو لا يملكها، وإذا ملكها رددت (7) عليه كفافه، فله الأخذ إلى أن يُحَصِّل آلة الصنعة. وكذلك لو كان يكتسب بالتجارة ولا يتأتى منه الاتجار [إلا بألفٍ] (8)، فله أخذ الألف من الزكاة.
ولو كان (9) يفتقر إلى عبدٍ يخدمه، لم يحتسب عليه إذا لم يكن العبد نفيساً، وكذلك لا يحسب عليه مسكنه اللائق بحاله، ولا يكلّف بيعه؛ فإن الحاجة إليه شديدة. وأما العبد، فإن كان المسكين يُخدم لمروءته ورتبته، فعدمه شاق على ذوي المروءات؛ فلا يمتنع أن يفرق بين هذا وبين العتق في الكفارة المرتبة؛ لأن الكفارات
__________
(1) المضطرب: أي الذي يدور على الناس.
(2) في الأصل: "المسكين" والمثبت تصرف من المحقق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) غير واضحة بالأصل، فيمكن أن تقرأ: (بالأصل) أو بالأسد.
(5) المعنى: أن من جعل الفقراء والمساكين صنفاً وأعطى السهم للفقراء؛ ظاناً أن ذكر المساكين جاء من باب التخفيف وأن توخِّي الفقراء وإعطاءهم وحدهم إنما هو من باب التمسك بالأشق، من فعل هذا فظنه باطل.
(6) في الأصل: يتماسكوا.
(7) كذا. والمعنى أنها ردّت دخلاً يكفي بخرجه.
(8) سقطت من الأصل بعض حروف؛ فقد رسمت هكذا: "الاتجارا بالف".
(9) "ولو كان ... إلخ": أي المسكين.

(11/541)


تتطرق إليها توسعات؛ [منها] (1) أنها ليست على الفور، وليس في الانتقال من أصلٍ إلى بدلٍ إسقاطُ الكفارة، والزكاة [وجبت] (2) لسدّ حاجةٍ حاقة.
فإن كان يتضرر بترك الخدمة لضعفه أو لنقص بصره، فإن العبد لا يحسب عليه، فهذا متجه، فأما الفقير، فلا يحتمل حاله ملك مسكن ولا عبد.
[ولو سلّم] (3) من عليه الزكاة إلى عبد المسكين بإذن سيده وقعت موقعها، والعبد آلةٌ، وإن لم يكن بإذنه، ففيه خلاف ذكرناه في قبول العبد الوصية والهبة بغير إذن سيده، فإن لم يكن سيد العبد من أهل الاستحقاق، لم تقع الموقع؛ لأن العبد وسيده ليسا من أهل الزكاة، وإن كان العبد محتاجاً؛ لأنّا نشترط مع الحاجة كونه أهلاً للملك، العبد وإن قلنا: يملك بتمليك سيده، فملكه ضعيف لا يكتفى به في التمليك المشروط في تأدية الزكاة، كما لو قال لعبده: ملكتك ما تحتشه، أو تحتطبه، أو تصطاده، أو تتهبه؛ فإنه إذا وُجد شيء من هذه الأسباب، لم يملك بها العبد -وإن قلنا: يملك بتمليك سيده- لأن الملك لا يحصل إلا من جهة السيد في ملكٍ حاصل، وتمليكُ الأسباب لا يملّك العبد ما يَحصل بها.
ولا يجوز صرف شيء من سهم المساكين إلى المكاتب؛ لما ذكرناه من ضعف الملك.
ولا يجوز صرف الزكاة إلى صبي، وإن كان فقيراً أو مسكيناً، إلا أن يقبلها له وليه، أو منصوبٌ من جهة الحاكم.
7813 - وإن كان للمسكين من تلزمه نفقتُه، ففي جواز صرف سهم المساكين وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأنه مكفيٌّ بنفقة قريبه؛ فهو كالكسب الدارّ بقدر حاجته، وهو القياس. والثاني - يجوز؛ لأن النفقة تجب عليه لمسكنته؛ فهي توجب الاستحقاق من الوجهين (4) على البدل، فإن سبقت الزكاة إليه، فلا نفقة له، وإن
__________
(1) في الأصل كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: " اد ـلها ".
(2) في الأصل: "ووجبت" بواوين.
(3) في الأصل: "ويسلّم" والمثبت تصرفٌ من المحقق.
(4) الوجهين: أي توجب المسكنة نفقتَه على قريبه، وكفايته من الزكاة، على البدل.

(11/542)


سبقت النفقة، فقد اكتفى، لكنه لا يستغني بنفقة يومه، وقد يستغني بما يأخذه من الزكاة.
والوجهان في زوجته المكفيّة بنفقته. ونفقةُ الزوجية أولى بمنع صرف سهم المساكين؛ لأنها لا تسقط بالغنى، فهو كريع وقف عليها، ومن له ما يكفيه من ريْع عقار لا يصرف إليه من سهم المسكنة؛ فعلى هذا لو نشزت، سقطت نفقتها، ولم تستحق من سهم المساكين لقدرتها على العود إلى الطاعة؛ فتعود نفقتها، فهو كقدرتها على الكسب.
ولو سافرت في شغلها بإذن الزوج، فإن قلنا: تسقط نفقتها، جاز أن تأخذ من سهم المساكين -حيث نجوِّز نقل الزكاة-؛ لأن نفقتها سقطت ما دامت مسافرة.
قال: وفيه نظر؛ لأنها قادرة على الرجوع، فيظهر في زمان قدرتها على العود تردد، وما ذكروه أظهر؛ لأنه يجوز لها المكث، فإذا مكثت، لم تكن قادرة على العود في ذلك اليوم، وكذلك كل يوم يتجدد؛ ولأنها وإن خرجت بالإذن، فهي المتسببة إلى إسقاط نفقتها؛ لأنها وإن أذن لها، فسقوط نفقتها لتقلّبها في حظ نفسها.
قلت (1): وفيما ذكره [وحكاه] (2) نظر؛ فإنها استحقت نصيباً بالمسكنة فسفرها وإقامتها سواء؛ فإنه بأخذها نصيب المسكنة، لا تمنع من السفر.
قال: ولو نشزت في غيبة زوجها، وقلنا: لا تعود نفقتها بعودها إلى الطاعة ما لم ينته الخبر إلى الزوج، ففي جواز صرف شيء من سهم المساكين إليها احتمال، لانتسابها إلى النشوز أولاً.
قلت: ولا ينبغي أن يكون في جواز صرف شيء من سهم ابن السبيل إليها خلاف؛ لأن نفقة الزوجية تسقط بسفرها على قول.
ولا ينبغي أن يجري خلاف في جواز أخذها من سهم الغارمين إذا ثبت غُرمها؛ لأن نفقة الزوجية للكفاية لا لقضاء الدين.
__________
(1) القائل ابن أبي عصرون.
(2) هكذا قدرناها على ضوء ما ظهر وبقي من أطراف الحروف وظلالها.

(11/543)


7814 - أما صرف الأب الزكاة إلى ولده المسكين أو ولده [الفقير] (1) من سهم [الفقراء] (2) أو المساكين، فلا يجوز اتفاقاً؛ لأنه إذا صرفه إليه اكتفى في يوم أو أيام، فتسقط نفقته، فيصير المال الواحد [محتسباً] (3) من الزكاة، مسقطاً للنفقة.
ويجوز أن يصرف إليهما من سهم الغارمين إذا كان عليهما دين؛ لأن القرابة لا توجب قضاء الدين، فتغسله (4) الزكاة، فيكون القريب كالأجنبي فيه، وسهم الفقر والمسكنة للكفاية، وهي واجبة على القريب.
أما الزوج إذا أراد أن يصرف إلى زوجته من سهم المسكنة، فهو كالأجنبي في ذلك؛ لأن نفقة الزوجية لا تسقط بوقوع الكفاية.
7815 - ولا يجوز لرب المال أن يصرف من زكاته إلى واحدٍ من سهمين بأن يكون غارماً ومسكيناً. هذا ظاهر المذهب (5)؛ لأنا فهمنا اعتناء الشارع ببث (6) الصدقات على الأشخاص، فلا بد من رعاية ذلك، كما لا يجوز أن يرث الإنسان بقرابتين [اجتمعتا] (7) فيه، وإن لم تحجب إحداهما الأخرى.
وقيل: يجوز الصرف إلى واحدٍ من سهمين بسبب الاستحقاق للصفات، وقد تجمعت. وقيل: يجوز الجمع بين سهم المسكنة وسهم الغرم لإصلاح ذات البين،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل رسمت هكذا: "معرياً" تماماً.
(4) كذا.
(5) على هذا استقر المذهب؛ إذ اختاره النووي، وحكاه عن جمع من أئمة المذهب، وقال: "إنه الأصح" (ر. المجموع: 6/ 219).
(6) كذا. وهي من بث الشيء يبُثه: فرّقه ونشره (المعجم).
(7) في الأصل: أجمعنا.
وهذا فيمن اجتمع فيه جهتا فرض، فلا يعطى بهما، أما من اجتمع فيه جهة فرضٍ، وجهة تعصيب، فهو يرث بهما كزوجٍ هو ابن عم في نفس الوقت. ولا يتصور اجتماع جهتي الفرض إلى عند من يستبيحون نكاح المحارم كالمجوس، فإذا أسلموا أو ترافعوا إليها، لا نورث بالقرابتين، وفد يتفق ذلك في المسلمين بغلطٍ واشتباه. (ر. الروضة 6/ 44).

(11/544)


وإن كان [لمصلحة] (1) نفسه، لأنهما جميعاً يرجعان إلى الكفاية.
ولا يجوز الجمع بين سهم الفقر وسهم المسكنة بحال؛ لأنهما يتناقضان، فلا يتصور الجمع بينهما في شخص واحد، وإذا أجزنا الجمع بين سهمين، أجزناه بين ثلاثة وأربعة إذا اجتمعت أسبابها.
ولا يجوز صرف سهم المساكين إلى مسكين واحد؛ لأن اللفظ ينبىء عن العدد مقصوداً؛ لأنه جرى ذكر كل صنفٍ بلفظ الجمع، فلا بدّ من رعايته.
7816 - للمسكين أن يأخذ قدر كفايته بحيث يفي دخله بخرجه، ولا يتقدّر بمدة سنة؛ فإن الذي يملك [عشرين] (2) ديناراً يتَّجر بها، ولا يفي دخله بخرجه مسكين في الحال، وإن كان ما في يده يكفيه لسنة، فالمعتبر أن يتموّل مالاً يحصل له منه دخل يفي بخرجه على ممرّ الزمان.
وإن كان لا يحسن تصرفاً، فالأقرب فيه أن يملَّك ما يكفيه في العمر الغالب، وفيه نَبْوة (3)؛ فإنه إذا كان ابنَ خمسَ عشرةَ سنة ويحتاج في السنة إلى عشرة، يؤدي إلى أن نجمع له مالاً جمّاً لا يليق بقواعد الكفايات في العادة.
والقريبُ من الفقه: إن كان يحسن التجارة، ملكناه مالاً يردُّ عليه التصرفُ فيه ما يكفيه، ولا يحطّه من الكفاية شيئاً، بل يكتفي بما هو أدنى درجات الكفاية.
وإن لم يحسن التجارة، فقد نقيم له قائماً يتَّجر له، وإن عسر ذلك، قال:
فالظاهر عندي أنه لا يزاد على نفقة سنة (4)؛ فإنه لا ينضبط، وللسنة اختصاص بالزكاة؛ فإنها تجب في السنة مرة، فنزلت في كفاية المحتاجين منزلة النفقة الخاصة في كفاية من ينفق عليه، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنة (5).
__________
(1) في الأصل: "المصلحة".
(2) كذا قدرناها على ضوء ما ظهر من الحروف، وعلى ضوء ما يفيدة السياق.
(3) كذا تماماً، والمعنى وفيه بُعد، من نبا الشيء ينبو نبوة إذا بعد، والتعبير المألوف في لغة الإمام "وفيه بُعْدٌ"، وكما ترى المعنى واحد.
(4) المذهب أنه يعطى كفاية العمر، قال النووي: "إنه الأصح" (ر. المجموع: 6/ 194).
(5) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخر لأهله قوت سنة" متفق عليه من حديث عمر =

(11/545)


7817 - وأما الفقير، فلو صرفنا إليه مقداراً، فيخرج به عن حد الفقراء، لم يكن للغير أن يصرف إليه من سهم الفقراء، نعم من سهم المساكين.
فأما الدافع الأول، فلو دفع إليه ما ينافي المسكنة دفعةً، ففيه تردد، فيجوز أن يقال: له ذلك، فالمنتَهى المرعيُّ في حق الفقير الكفايةُ، وإن كان ابتداء الدفع من سهم الفقراء، [فتُرعى] (1) غايةُ الضر، ويجوز أن يقال: لا يدفع من سهم الفقراء إلا ْأقل القليل، والمرعي أن يخرج عن حد الفقر، وهو كأكل الميتة؛ فإنه يراعى غاية الضرورة في الإقدام عليها، ويتردد في الزيادة على سدّ الرمق، قال: والأشبه عندي جواز الدفع إلى الفقير إلى الكفاية والاستقلال، فعلى [هذا] (2) لو صَرَفَ إليه من سهم الفقراء [ما] (3) أخرجه عن حد الفقر، ثم أراد هو بعينه أن يزيده من سهم الفقراء مرة أخرى، فيه (4) ترددٌ [و] (5) التفريع على جواز الدفع إلى حد الكفاية مرة واحدة، ويجوز أن يمتنع في دفعتين، لتعدد الفعل، وتميز الآخر عن الأول، ويجوز أن ينظر إلى اتحاد الدافع.
هذا كله في زكاة السنة الواحدة. فإذا تعددت السنة وفي يد الفقير بقية مما كان أخذه يخرجه عن حدّ الفقر، فلا يعطيه ذلك الشخص بعينه إلا من سهم المسكنة.
فرع:
7818 - إن بني هاشم [وبني المطلب] (6) لا يصرف إليهم شيء من الزكاة، وقال عليه السلام: "إن الله أغناكم عن أوساخ أموال الناس بخمس الخمس" (7). فإن
__________
= رضي الله عنه (ر. البخاري: النفقات، باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، ح 5357، مسلم: الجهاد، باب حكم الفيء، ح 1757).
(1) في الأصل: "فيستدعي".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) جواب (لو) في قوله: "لو صرف".
(5) الواو زيادة من المحقق. والمعنى إذا فرعنا على جواز الدفع إلى حدّ الكفاية مرةَ واحدة.
(6) في الأصل: "وبني عبد المطلب"، وهو خطأ ظاهر.
(7) الحديث رواه مسلم: الزكاة، باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة، ح 1072. وانظر التلخيص: 3/ 238 ح 1503.

(11/546)


لم يكن في يد الإمام فيء وافتقرت طائفة من ذوي القربى، فالجمهور أنه لا يجوز أن يصرف إليهم من سهم المساكين، وقال الإصطخري: يجوز إذا لم يكن فيء؛ لأنهم حرموا الصدقة، وأقيم الفيءُ في حقهم مقامها، فإذا لم يكن فيء، حلّوا محل الأجانب الذين لا قرابة لهم. وهذا بعيد.
وكما لا يصرف إليهم من سهم الفقراء والمساكين لا يصرف إليهم شيء من سهم (1) الزكاة، وإن اتصفوا بصفات الاستحقاق.
فإن [كانوا] (2) عاملين، فالأصح أنه يصرف إليهم؛ لأن نصيب العامل بمثابة الأجر. وقيل: لا يصرف إليهم.
وكانت الزكاة محرمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقة التطوع، ويشهد له حديثٌ: فإنه عليه السلام دخل بيته، فرأى بُرْمة تغلي، فخرج وعاد، [فاستطعم] (3)، فقدم إليه خبز قفار؛ فقال عليه السلام: "البرمة تفور باللحم"، فقيل: يا رسول الله إنه لحم تُصدق به على بريرة -والظاهر أنها كانت صدقة تطوع- فلم يردّ عليه السلام ذلك القول، لكنه قال: "هو عليها صدقة، ولنا منها هدية" (4).
وفي تحريم صدقة التطوع على بني هاشم وبني المطلب وجهان: أحدهما - التحريم قياساً على المصطفى، والجامع استواؤهما في الصدقة المفروضة.
قلت: والاستدلال بقوله عليه السلام: "نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" (5) أولى من القياس.
والوجه الثاني - أن النبي صلى الله عليه وسلم يختص بتحريم صدقة التطوع. وفقه ذلك أنه عليه السلام كان مكفياً ببيت المال، وهو يُطعِم ويسقي، فلا يليق بمنصبه
__________
(1) من سهم الزكاة: المراد من جنس الزكاة.
(2) غير واضحة بالأصل.
(3) في الأصل: فاستعظم.
(4) حديث "هو عليها صدقة، ولنا منها هدية" سبق تخريجه.
(5) حديث "نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" متفق عليه من حديث أبي هريرة (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 235 ح 645، التلخيص: 3/ 243 ح 1521).

(11/547)


العلي أن يُمتن عليه بالصدقة. وأما الفقير من ذوي القربى، فيجب كفايته، ويبعد صرف كفايته عن جهة [القربة] (1) إلى الله تعالى، فلا معنى للصدقة إلا [تحلّة] (2) يتقرب بها لله تعالى.
وفي الصدقة المنذورة خلافٌ، منهم من أنزلها منزلة الزكاة، فحرمها على ذوي القربى، ومنهم من أحلها محل صدقة التطوع، وفيها الخلاف المقدَّم.
فصل
7819 - قال سبحانه: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] فأثبت للعامل سهماً في الصدقات. والعامل: الساعي الذي يجبي الصدقات، ومنهم الحُسّاب والكتّاب، ومن لا بد من استعماله؛ لأن الساعي لا يستقل بذلك. فإن كان ثُمن الصدقة مثل أجور أمثالهم من غير زيادة ولا نقصان، فلا كلام، وإن فضل عن أجورهم شيء، فهو مردود على بقية الأصناف، ولو نقص عن أجورهم، فلا بد من تكميلها، ففي قول: تكمل من الصدقة، فيقدم سهم العاملين رأساً، ثم يُفضّ الباقي على بقية السهام بالسوية. والقول الثاني: يكمل من سهم المصالح، ولا يعطَوْن من الصدقة زيادة على الثمن.
وقيل: ليس للعامل إلا الثُّمن، فإن نقص عن أُجرة مثله، لم يكمل من موضعٍ آخر، ويلزم على هذا إذا زاد على أجرة مثله أن يأخذه بالغاً ما بلغ، وهذا بعيد، لم يبح به من قال بالأول، ويشهد لإمكانه تحريم هذا السهم على الهاشمي، وقد قيل: هي على اختلاف حالين، فإن بدأ بسهم العامل، فنقص، تممه من الصدقة، ثم يفض الباقي على السهام الباقية، وإن بدأ بسهام غير العاملين، ثم نقص سهام العاملين، لم تُنْقَض القسمة، وتمّم سهم العاملين من المصالح. قال: وليس فيه فقه، فإن اتفق هكذا، فلا يبعد ذلك، ويليق أنه إذا اتسع سهم المصالح، فرأى الإمام أن يجعل
__________
(1) في الأصل: القربى.
(2) في الأصل: لحله.

(11/548)


مؤونة العاملين منه، فالظاهر جوازه، وهذا يدل على أن ما يأخذه العامل مؤونة على الصدقة، وليس من عين الصدقة، لكنها مؤونة محسوبة على مستحق الصدقة.
وللساعي أن يبذل شيئاً من الصدقة لنقلها إلى المستحقين.
ويدلّ فحوى كلام الأصحاب على أنه لا يجوز حرمان العاملين من الصدقة بالكليّة، ويدل على أن ما يأخذونه صدقة؛ ولذلك حرم على الهاشمي. والمذهب ما قدمناه.
7820 - وإذا تولى رب المال تفرقة زكاة ماله، سقط سهم العامل عنه، وإن احتاج إلى مؤونة لنقلها، لم يلزمه؛ لأنها غرامة زائدة على الزكاة، ولا عدوان منه، فيُغلَّظ عليه، فإما أن يمسكها حتى يطرقه المستحقون، وإما أن يَحْتسب من الزكاة، [ما] (1) يجوز للساعي أن يحتسبه منها، ويعارض هذا أن الساعي قابض للمساكين وغيرهم، ناظر لهم نظر الولي للمَوْليّ عليه، أو نظر القاضي في أموال الغُيب، أو نظر الوكيل للموكل. ولو تلف ما يأخذه الساعي في يده، كان محسوباً على المساكين، والزكاة [ما بقيت] (2) في يد ملتزمها، فهي من ضمانه. فهذا وجه التردد.
[وإذا احتاج إلى كيال يكيل العشر، فهل مؤنته من سهم العاملين؟ ذكر الأئمة فيه وجهين؛ أحدهما - أنها من سهم العاملين؛ لأن ذلك من العمل] (3) في الزكاة، وقد زُيِّف؛ وصححنا أن مؤونة الكيال على رب المال (4)، وقد بيّنّا أن من اشترى طعاماً مكايلة، فمؤونة الكيال على البائع. وسهم هؤلاء على قدر أجور أعمالهم، ولا يقسم عليهم بالسوية.
وليس لوالي البلد، ولا للإمام الأعظم من سهم العاملين شيء، وما كان الخلفاء
__________
(1) في الأصل: وما.
(2) غير مقروءة بالأصل، ورسمت هكذا: " ما اثبـ ".
(3) عبارة الأصل هكذا: "وإذا احتاج إلى كيال يكيل العُشر، فمؤنته من سهم العاملين، أحدهما أنها من سهم العاملين لأن ذلك من العمل ... إلخ" وفيها اضطراب ظاهر.
والمثبت بالتعديل والإضافة من عمل المحقق، بناء على الحكم الفقهي في المسألة (ر. المجموع: 6/ 187، 188).
(4) هذا هو الوجه الثاني.

(11/549)


يأخذون من الصدقات شيئاً، إنما حقهم في سهم المصالح إذا لم يتطوع بالعمل، فكان الصّدّيق والفاروق يأخذان من سهم المصالح قدراً دَرَراً (1) ثم ردّاه في آخر أعمارهما إلى بيت المال، وروي أن عمر بن الخطاب أرصد لنفسه ناقة من الفيء تحلب كل ليلة، فيفطر على لبنها، فأبطأت ليلة: فلم تعد من مرعاها، فحلب له من نَعَم الصدقة، وأتي به، فشربه، فأعجبه ذلك، فسأله عنه، فقيل: إنه من نعم الصدقة، فأدخل أصبعه، فاستقاءه، وغرم قيمته للصدقات (2).
فصل
7821 - قال الله عز وجل: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم} [التوبة: 60] فمنهم الكفار إذا بدا لنا حسن نياتهم، ورجَوْنا إسلامهم، وقد كانوا يُعَدون من المؤلفة، والذي استقر الشرع عليه أنهم لا يعطَوْن من الصدقات شيئاً، وهل يعطَوْن من المصالح؟ قولان: أحدهما - يعطَوْن؛ لاتساع وجوه المصالح وعَوْد الفائدة إلى الإسلام. والثاني - لا يعطَون؛ لأن سهم المصالح يُعدّ للمسلمين وهؤلاء كفار.
ومنهم من هو حديث عهد بالإسلام، وهم أشرافٌ، ولم تصدق نياتهم، وفي ثبوتهم مسلمين إسلامُ أتباعهم، ففيهم قولان: أحدهما - يعطَوْن من المصالح.
والثاني - من الصدقات.
ومنهم بطرف بلاد الإسلام يليهم كفار، إذا أعطوا، قاموا بجهادهم، ولو لم [يجاهدوهم] (3)، نحتاج إلى مؤنة مجحفة في تجهيز جيش إليهم، فيجوز الصرف إليهم بلا خلاف، لأنه مُهمٌّ من مهمات الإسلام.
__________
(1) دَرَراً: جمع دارّ. والقدر الدارّ، والرزق الدارّ: أي الدائم الذي لا ينقطع، وجمعه دُرّار، ودُرّرٌ، ودَرَرٌ. (المعجم). (ولعل الصواب "قدراً داراً") والله أعلم.
(2) أثر عمر رواه مالك في الموطأ، والشافعي عنه. قال في البدر المنير: هذا الأثر صحيح. (ر. الموطأ: 1/ 269، 1لأم: 2/ 72، البدر المنير: 7/ 396).
(3) في الأصل: يحادهم.

(11/550)


وكذا لو كان [وراءهم] (1) قوم من المسلمين، إذا صرف إليهم شيء جَبوْا صدقاتهم، وأوصلوها إلى الإمام، وامتثلوا أمره، ولو أنفذ إليهم ساعياً، عظمت مؤونته؛ لأن ذلك بذل مال في مقابلة عمل، وتسميتهم مؤلفة تجوّزٌ؛ فإن قلوبهم مطمئنة بالإيمان.
ومن أين يصرف إليهما (2)؟ فيه أربعة أقوال: أحدها - من المصالح. والثاني - من سهم المؤلفة من الصدقات. والثالث - من سهم سبيل الله. والرابع - من سهم سبيل الله [و] (3) من سهم المؤلفة. وعلى الرابع قيل: يخرج على الوجهين فيمن فيه سببان يستحق بهما. وقيل: يجمع للمؤلفة (4) لحاجتنا إليهم، ولا يجمع لفقير غارم، لأنه محتاج إلينا، فيجوز الجمع للمؤلفة وجهاً واحداً، والوجهان في غيرهم.
قلت: ويتجه في هذين الصنفين أن يقال: يُعطى من يُرجى جبايته الصدقة من سهم العاملين؛ لأنهم قائمون بالعمالة حقيقة، وللمجاهدين من سهم سبيل الله؛ لأنهم غزاة حقيقة، ولا يعطَوْن من سهم المؤلفة. إلا أني لم أره للعراقيين.
وذكر العراقيون في الأشراف (5) هل يعطون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قولين. وإذا قلنا: يعطَوْن، فمن أين؟ فيه قولان. فإن قلنا: من الصدقات فقد أجرى صاحب التقريب الأقوال التي ذكرناها فيمن في أطراف خِطة الإسلام. وإذا قلنا: يجمع بين السهام، فهل يتعين؟ قيل: يتعين. وقيل: يفوّض إلى رأي ولي الأمر، ولعله الأصح.
فصل
7822 - الرقاب: هم المكاتبون عند الشافعي، وأبي حنيفة. فيعطَوْن سهماً يستعينون به على أداء مال الكتابة، فيدفع إليه مقدار ما عليه من النجوم إذا لم يكن في
__________
(1) في الأصل كلمة غير مقروءة. رسمت هكذا: " ما را ـهم ".
(2) الضمير يعود على الصنفين الأخيرين.
(3) في الأصل: وهو.
(4) أي يجمع لهم العطاء من السهمين.
(5) الأشراف: المراد الأشراف حديثو العهد بالإسلام، الذين أشار إليهم قبلاً، بأنهم لو ثبتوا على إسلامهم، لأسلم من وراءهم.

(11/551)


يده وفاء بها. فإن كان في يده بعض ما عليه، أُعطي تمامَه، كما يُعطى الغارم بقدر ما عليه. وفي جواز أخذه قبل حلول النجم عليه وجهان: أظهرهما - لا يجوز؛ لأنه غير مطالب. والثاني - يجوز؛ لأن له تعجيله قبل محله، ويلزم السيد قبوله، فإن رضي المكاتب بتسليم الصدقة إلى سيده، جاز تسليمها. ولو دفعت إلى السيد بغير إذنه، لم تقع الموقع؛ لأنه لا يتعين عليه صرفها إليه، بل يجوز أن يؤدي من كسبه ويستبقي الصدقة لنفسه.
وإذا قبض قسطاً من الصدقة، ثم أبرأه المولى، أو نجّز عتقه، قال صاحب التقريب: نرجع فيما قبضه إن كان باقياً؛ لأنه لم يحصل به المقصود، وهو الإعتاق، ولو كان أتلفه قبل الإبراء أو العتق، ففيه وجهان: يغرم؛ لأنه يلزمه الرد، [لو] (1) بقيت. والثاني - لا يغرم؛ لأن القصد بالدفع إليه إرفاقه، وقد حصل. وقيل: إن فاتت العين، فلا غرم، وإن بقيت، ففي استردادها وجهان.
وجميع ما ذكرناه يجري فيما إذا أداه أجنبي عنه، ثم أُعتق عنه، أو أبرىء.
ولو لم يدفع ما قبضه إلى سيده، [فعجّزه] (2) السيد، استرد منه بلا خلاف، إن كان باقياً، أو قيمته إن كان [فائتاً] (3)، بخلاف ما تقدم؛ لأن الغرض حصول العتق، فإذا نفذ، لم نتبعه.
وقيل: إذا دفع ما قبضه إلى سيده وعجز عن باقي النجوم، وعاد إلى الرق ففي استرداده من السيد طريقان: أحدهما - لا يسترد منه؛ لأنها بلغت محلها. والثاني - هي على وجهين. هذا إذا كانت العين باقية في يد السيد، أما إذا كانت فائتة، فالأمر على خلاف ذلك، وهذه أولى بأن لا يغرم السيد، وقطع الشيخ أبو محمد بالرد مهما (4) كانت العين باقية، وإن فاتت، غرم، وهو منقاس حسن؛ لأنه خرج عن كونه مكاتباً بانقلابه رقيقاً.
__________
(1) في الأصل: "ولو".
(2) في الأصل: فعجز.
(3) غير واضحة بالأصل، وفيها أثر تصويب.
(4) مهما: بمعنى (إذا).

(11/552)


ولو فاتت العين في يد المكاتب، تعلق عينها برقبته؛ لأنها تلفت مضمونة تحت يده، كما لو استعار عيناً، فتلفت في يده، بخلاف ما لو اشترى عيناً، فتلفت في يده كان بائعها رضي بذمته، وما قبضه من الصدقة لم يكن عوضاً، بل موقوفاً، وقد تبين أنه لم يقع منه موقعه.
فصل
7823 - قال تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} [التوبة: 60] فإن لزمه الغرم لحاجته الخاصة فيُرعى فيه أن يستدين في إباحةٍ كحاجته إلى نفقته، أو نفقة عياله، فهذا يقضى من الصدقة.
فإن كان لزمه في جهة معصية هو مقيم عليها، لم يصرف إليه من الصدقة؛ لأنّ في قضائه إعانةً له على المعصية. ولو تاب منها، فوجهان: أحدهما - لا يقضى، زجراً عن الاستدانة على المعاصي؛ لأن التوبة لا اطلاع على حقيقتها، ولا يؤمن إظهارها توصلاً إلى أخذ المال والمعاودة إليها. وقيل: يقضى؛ لأن المعصية زالت ومحتها التوبة، وتبقى الذمة مرتهنة.
ونعني بالاستدانة في المعصية أن يقترض مثلاً، أو يشتري بعقد صحيح، لا أنه يعقد عقداً فاسداً.
ومن استدان غير قاصد للفساد، ثم بدا له، فصرفه في الفساد، فإذا تحقق ذلك، قُضي من سهم الغارمين. لكن إذا اقترض وقبض وصرفه في الفساد، وادّعى أنه لم يكن قاصداً للفساد، لم نصدقه. ولو اقترض بقصد به الفساد، ثم عصمه الله، فصرفه في جهةِ خيرٍ، قُضي دينه؛ لأن النية إنما تعتبر إذا صدَّقها العمل. وعلى مقتضى هذا، إذا اقترض للطاعة، ثم أنفقه في المعصية أنه لا يقضى دينه، لأن نيته موقوفة على عمله.
قال الشيخ أبو بكر: الاقتراض في جهة الإسراف كالاقتراض في المعصية.

(11/553)


والسَّرف هو الخروج عن المعتاد، فيما لا يُكسب أجراً، ولا [يُسْمي] (1) شرفاً [و] (2) ليس محرّماً (3).
ويشترط لقضاء دين الخاصة من الصدقة ألا يكون في يده ما يقضي به الدين، فأما [من] (4) تحمَّل ديةً في تسكين فتنة لولا تحملها، لثارت، فإذا طلب قضاء ذلك عنه، لزمت إجابته؛ وإن كان غنياً بعقاره ومنقولاته، متمكناً من قضاء تلك الحَمالة من غير عسر يلحقه.
وإن كان غنياً بالنقدين أو بأحدهما، ففيه قولان: أحدهما - يؤدى عنه دينه، كما لو كان غنياً بعقاره وعروضه تحريضاً [لسادات] (5) القبائل على تطفئة ثائرة الفتن؛ فإنه تكثر منهم، فلذلك لا يكلّفون بقضائها من أموالهم.
والقول الثاني - لا يقضى من الصدقة إذا كان له وفاء من نقد؛ لأن صرفه في هذا الوجه لا يثقل على المقتعِدين (6) للرياسة بخلاف بيع العقار والمنقولات، فإنها تصدّ المتحمل؛ فإنه يعد قريباً من الخروج من منصب المروءة في العرف، وهذا وإن لم نرضه في القياس، فهو لائق بالمعاني الكلية.
ولو تحمّل الغرامة في إتلاف مال جرَّ فتنةً، ففيه طريقان: أحدهما - أنه كمتحمل الدية. وقيل: إن كان معه وفاء من النقد، لم يعط من الصدقة قولاً واحداً، وإن كان له غير النقد، فقولان على عكس الترتيب المقدّم.
__________
(1) في الأصل هكذا: "يسما" والتصرف في الرسم والضبط من المحقق، على اعتبار أن الفعل (سما) بمعنى (علا) يُعدّى بالهمزة -والتعدية بها قياسية، كما أقرها مجمع اللغة العربية- فيُسمي بمعنى يعلي، فيكون المعنى: "فيما لا يكسب أجراً، ولا يُعلي شرفاً" والله أعلم.
وأجزم أنها محرفة عن (ينمي) من قولهم: فلان ينميه حسبُه، أي يرفعه.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) أي ليس محرماً لذاته، وإلا فهو محرم من حيث كونه إسرافاً ومجاوزة حد الاعتدال. (ر. المجموع: 6/ 208).
(4) في الأصل: "ما" وهي تستعمل لمن يعقل على ندور إذا أمن اللبس، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] ولكن غيرناها جرياً على الغالب.
(5) في الأصل: "لمسادات" ولا معنى لها.
(6) هكذا قرأناها بصعوبة، والمعنى: من يتصدون للرئاسة، ويقتعدون مقاعدها.

(11/554)


7824 - ولو ضمن عن رجل ديناً في معاملة من غير خوف فتنة؛ فإن كان المضمون عنه موسراً والرجوع عليه ممكناً، لم يعط من الصدقة؛ لأنه ليس بدين؛ فإنه يجد به مرجعاً.
وإن كان المضمون عنه معسراً، ولا يجد الضامن مالاً يقضي به الدين، [فله] (1) قضاؤه من الصدقة.
وإن كان موسراً بالنقد أو بغيره، فقد قيل: هو كتحمل الدية، وقيل: كتحمل بدل متلف لخوف الفتنة. ومنهم من قطع بأن ضمان دين المعاملات كالاقتراض لخاصة نفسه، فالذي يلتزمه الإنسان لخاصة نفسه قطع المراوزة باشتراط الفقر في قضائه من الصدقة، وقيل: يجوز أداؤه مع الغنى، وهو ضعيف.
قال: وفي هذا المقام نظر، فإن كان الغارم لا مال له، لم تتجه مطالبة غريمه له، والصدقة تصرف لسد خَلة، أو كفاية أذى مستَحِقِّ الدين (2)، وإنما شرطنا الإعسار؛ لأنه لا يمتنع أن يكون للإنسان مستنض (3)، فيصرفه إلى قضاء دينه، فيصير مفتقراً إلى الصدقة، فإن كان ينتهي بأدائه إلى المسكنة، فله أخذه من الصدقة، وهذا نوع غنى يكفي في دفع المفسدة، فإن زاد الغنى عن الكفاية، لم يقض دينه. ويجوز أن يقال: لا نهجم على قضاء دينه وهو ذو كفاف، فيرتدّ الفرض إلى مسكين عليه دين، فلا يؤدى من الصدقة إلا دين مسكين.
ويجوز أن يقال: إذا لم يملك ما يقضي به دينه فلا يتهنَّى بعيشه، وهو مكتسب قدر الكفاف، فينازع في قدره وينحو إلى المحاكمة، ولأنه إذا قضيت الديون من الصدقات استرسل الناس في إقراض المعسرين واثقين بالصدقات؛ فإنها أثبت من الأغنياء المعتدّين (4).
__________
(1) في الأصل: فلو.
(2) في الأصل: "ومستحق للدين".
(3) "مستنض". كذا قرأناها بعد لأْي. والمستنض: هو النقد الذي حصله صاحبه من تنضيض متاع أو عُروض (ر. اللسان).
(4) المعنى أن الصدقات أثبت وجوداً، والثقة بأداء الدين منها أكبر من الأغنياء المعتدّين أي الموجودين، فقد يعطون، وقد يمنعون بخلاف الصدقة.

(11/555)


علم أن [للشرع] (1) على الحَمالات حث ظاهر، لصلتها بالمصالح العامة، حتى [كأن] (2) المتحمل مستناب من جهة الشرع في الاقتراض على الصدقة.
7825 - وفي قضاء الدين المؤجل من الصدقة ثلاثة أوجه: أحدها - لا يقضى؛ لأنه لا مطالبة به. والثاني - أنه يقضى الذي سيطالب به، [فيليق بالشرع أن يكفي المطالَب توقع المطالبة] (3). والثالث - إن كان الأجل ينقضي في وسط السنة المستقبلة قُضي دينه؛ فإنه سيؤدَّى قبل محل الصدقة الأخرى، وإن كان الأجل سنة فصاعداً، فيؤخر قضاء هذا الدين إلى صدقة السنة القابلة.
والغارم على أي وجه كان يستحق الأخذ من الصدقة بسبب الغرم، فلو أخذ الصدقة ثم أبرأه غريمه، فحكمه في رد ما أخذه إن كان تلف، حكم المكاتب إذا قبض حصته، ثم أُعتق أو أبرىء.
واحتج الشافعي في فصل الحَمالة بما روي أن قَبيصة بن مخارق الهلالي قال: "تحملت حَمالة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: نؤديها عنك، أو نخرجها عنك إذا قدم إبل الصدقة، ثم قال: يا قَبِيصة: المسألة حرمت إلا في ثلاث: رجل تحمل بحَمَالة، فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابه فاقة أو حاجة -شك الراوي- حتى يشهد أو يتكلم -وهذا أيضاً من الراوي- ثلاثة من ذوي الحجا أن أصابته فاقة، أو حاجة، حتى يصيب سِداداً، من عيش أو قَواماً من عيش -وهذا من الراوي أيضاً- ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة. الحديث" (4).
يعرض في الأول لحلال السؤال مع الفقر، ومعنى آخره أن من كان على كفاية برأس مال يتعفف عن التكفف، فإن [حُطّ] (5) بجائحة عنه، فله السؤال إلى عود الكفاف.
__________
(1) في الأصل: الشرع.
(2) في الأصل: "أن".
(3) العبارة كانت في الأصل مضطربة، فيها تقديم وتأخير هكذا: "فيليق بالطالب الشرع أن يكفى توقع المطالبة" والمثبت من تصرف المحقق.
(4) حديث قَبيصة سبق تخريجه.
(5) في الأصل: "حطه".

(11/556)


وفي أحاديث من الوعيد الذي يلحق الملحف في السؤال، قال عليه السلام: "الملحف في السؤال يحشر يوم القيامة وليس على وجهه مُزعة لحم" (1) ويروى "يحشر وفي وجهه خدوش".
ومتى انتهى السؤال إلى الإيذاء (2) فهو ممنوع. ولو آثر المرء الصمت في الضرورت مع قيام الدواعي، فهو ممنوع، قال عليه السلام: "من صمت وقد حقّ عليه النطق، فهو شيطان أخرس" (3).
وإذا مست الحاجة، فالسؤال مسوّغ، والتعفف حسن، وإن لم يكن حاجة [و] (4) لم ينته السؤال إلى الإيذاء، فهو مكروه، إلا أن يُباسط صديق صديقاً، فلا كراهة في هذا، وقد يدخل المسرة.
فصل
7826 - والمعني بقوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] سهم من الصدقة يصرف إلى الغُزاة المطّوعة، ولا يشترط فيه كونُه محتاجاً، بل لو كان من أغنى الناس إذا طلب، يُسعف بكفايته في مركبه وسلاحه ونفقته: فالمركب ما يبلِّغه إلى محل القتال، فارساً كان يقاتل أو راجلاً، كما لا تجب حجة الإسلام على من لا يجد راحلة
__________
(1) حديث "الملحف في السؤال يحشر يوم القيامة وليس على وجهه مُزعة لحم" رواه البخاري، والنسائي من حديث أبي هريرة (ر. البخاري: الزكاة، باب من سأل الناس تكثّراً، ح 1474، النسائي: الزكاة، باب المسألة، ح 2585).
رواية "يحشر وفي وجهه خدوش" أخرجها أصحاب السنن الأربعة من حديث ابن مسعود (ر. أبو داود: الزكاة باب من يعطى من الصدقة، ح 1626، الترمذي: الزكاة، باب ما جاء من تحل له الزكاة، ح 650، النسائي: الزكاة، باب حد الغني، ح 2593، ابن ماجه: الزكاة، باب من سأل عن ظهر غنى ح 1840).
(2) كذا قرأناها، ويرشح هذه القراءة، ويؤيدها العبارة الآتية قريباً في ختام الفصل، حيث قال: "إلا أن يباسط صديق صديقاً، فلا كراهة في هذا، وقد يُدخل السرور".
(3) أثر "من صمت وقد حق عليه النطق، فهو شيطان أخرس". هذا ليس حديثاً، وإنما هو من كلام أبي علي الدقاق، ذكره عنه أبو القاسم القشيري في الرسالة القشيرية (ص 36).
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(11/557)


أو نحوها، فإن كان (1) حصّل له فرساً يقاتل عليه، إما أن يشتريه ويسبّله، فإذا اتفقت الحرب كان عتيداً للغزاة. وإما أن يستأجره، وإما أن يستعيره، وإن رأى أن يملّكه الفرس لعلمه ببلائه، فعل، ويعطيه نفقة الذهاب ومدة [الإقامة] (2) على القتال والحصار، ونفقة الإياب؛ لأن استشهاده ليس ضربة لازم، فهذا لأن الغرض من الدفع إليهم تحريضهم على الجهاد، فاعتبر ذلك مع كونهم أغنياء، كالمرتزقة من مال الفيء.
ولو عدم الفيء في بيت المال، وجاء وقت عطاء المرتزقة، ففي الصرف إليهم من الصدقة وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأن حقهم في الفيء لا يسَاهمون فيه، فيبغي أن يختص [المطوعة] (3) بسهم الصدقة، وعليه تدلّ سيرةُ السلف من الأئمة والخلفاء الراشدين، فإنهم ما كانوا يمزجون الفيء بالمطوعة. والثاني - يجوز أن يصرف إليهم؛ لأنه مرصد للغزاة، وهم منهم وأولى من المطوعة.
وإذا نحونا بالفيء نحو مال المصالح ورأى الإمام أن يصرف ما فضل من كفاية المرتزقة إلى المطّوعة، جاز، وإن قلنا أربعة أخماس الفيء ملك المرتزقة، لم يجز أن يصرف منه شيء إلى المطوّعة. نعم، [يجوز] (4) أن يصرف إليهم من خمس الخمس المرصد للمصالح، وقال الصيدلاني: يجوز أن يصرف إلى المرتزقة من سهم سبيل الله إذا احتاجوا إلى قتال مانعي الزكاة، قال: فيعطَوْن مما يأخذون من الممتنعين، قال (5): ولا تحقيق فيه؛ لأن ما يؤخذ من الممتنعين ومن المطيعين سواء، فلا تختلف مصارفها وهم مترصدون لأمر الإمام في كل قتال، فأي أثر لتخصيص قتال مانعي الزكاة؟ وإذا قلنا يجوز أن يصرف سهم المرتزقة إلى المطوّعة، جاز أن يصرف
__________
(1) (كان) تامة، أي وُجد المطَّوّع، وفاعل (حصَّل) ضمير يعود على ولي الأمر الذي يقسِمُ الصدقات ويُعد الغزاة.
(2) في الأصل: الإنابة.
(3) في الأصل: "الموعطة". وهو سبق قلم من الناسخ حصل بسبب هذا القلب المكاني للأحرف.
(4) زيادة من المحقق
(5) أي إمام الحرمين، فهو يعترض على الصيدلاني.

(11/558)


إليهم جميع ما يحتاجون إليه من أصل النفقة، وما يزيد بسبب السفر على أحد الوجهين، كالمقارض إذا سافر.
فصل
7827 - قال الله تعالى: {وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] وهو مريد السفر، ولا يجد ما يبلغ به إلى مقصده، فيُدفع إليه من سهم الزكاة، إذا كان سفره طاعة. وإن كان سفر معصية، لم يُدفع إليه، وكذلك الهائم على وجهه، ومن يهمّ بالعود إلى وطنه يستحق باتفاق، وطالب التجارة غرضه صحيح وسفره مباح، وهل يصرف إليه منه إذا كان ماله غائباً، وهو يبغيه ليتجر فيه؟ قطع شيخه (1) بجواز الصرف إليه. وقال الصيدلاني: من سافر إلى بلدةٍ (2)، فقصده صحيح. قال: وفيه نظر ظاهر، فيجوز أن يقال: هذا ليس من الأغراض المعتبرة، وأكثر الأئمة على أن السفر [من] (3) غير غرض مكروه؛ لأنه إتعاب النفس بغير فائدة.
وإذا أجزنا نقل الصدقة، أجزنا صرف هذا السهم إلى الطارقين، وإلى المنشئين من وطن المال، وإن لم نُجز النقل، فيجوز صرفه إلى المنشئين، فأمّا الطارقون، فظاهر النص لا نجيز الدفع إليهم؛ لأنهم ليسوا من أهل هذه البلدة.
وقيل: إن أبناء السبيل الملازمون للأسفار، وهو بالطارقين ألْيق، فيجوز صرفه إليهم. وقال أبو حنيفة (4): ابن السبيل هو الطارق دون المنشىء.
وإذا منعنا نقل الصدقة وفي البلد غرباء من الفقراء والمساكين والغارمين وغيرهم، لم يجز الصرف إلى الغرباء؛ لأن تحريم النقل يقتضي أن يختص كل فريق بما عنده، وإذا علم الغرباء أن الصدقة تصرف إليهم، أمّوا البلد، وضيقوا على القاطنين في
__________
(1) شيخه: أي شيخ إمام الحرمين، ويعني والده الشيخ أبا محمد.
(2) بلدةٍ منكرة، أيّ بلدة، والمراد السفر لمجرد الانتقال، كما يتضح في السياق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) ر. البدائع: 2/ 46، البحر: 2/ 260.

(11/559)


البلد، فيفسد به [الغرض الذي قدمناه] (1) في أول الكتاب من [بسط] (2) الصدقات على جميع الجهات، وقد ذكرنا أن [لحوم] (3) الهدايا تفرّق في الحرم، فلو حضره الغرباء قُسّطت عليهم جميعاً، بخلاف الزكاة إذا منعنا النقل، والفرق أن الغرض من تفريق [لحوم] (4) الهدايا في الحرم تشريف مكانه (5) لشرفه. والغالب المرعي في الزكوات تعميم جميع أهل البلاد؛ ولأنها كثيرة تفضل [عمّن هم أهل الحرم] (6)؛ فهي بالغرباء الواردين أليق، وقد تضيق عليهم أطعمة الحرم لضيق خِطته.
فأما صدقات أهل الحرم، فإنها كصدقات سائر البلاد.
وإذا فارق وطنَ المال بعضُ أصناف أهل الزكاة، فنقل من عليه الزكاة نصيبَهم إليهم حيث كانوا، جاز؛ تعويلاً على الآخذ دون المكان، وهو جارٍ على القياس الذي ذكرناه، ويتضح به (7) إذا انتقل جملة المستحقين مثلاً، أما إذا كان في المقيمين في وطن [المال] (8) كفاية، وإنما انتقل طائفة منهم، فالقياس جواز الإخراج إلى الخارجين، وجَبُن بعضُ الاْصحاب في هذه الصورة على الخصوص؛ فلم يجيزوا النقل، فقد قيل: يجوز إخراج حصصهم إليهم؛ لأنهم من أهل النفقة، وقيل: لا يجوز حتى يحضروا وطنَ المال في سنة الزكاة، فلو حضروا بعضَ السنة، وغابوا قبل انقضائها، فهو مرتب على الصورة الأوّلة (9)، وهذه أولى بجواز الإخراج.
ولو غابوا معظم السنة، ثم أتَوْا وقت وجوب الصدقة، جاز صرفها إليهم باتفاق، ولا حكم للغيبة السابقة، ولو غابوا بعد انقضاء السنة، صرفت صدقة تلك السنة إليهم، وتعليله بيّن.
__________
(1) عبارة الأصل: "فيفسد به غرض قدمنا" والمثبت من تصرف المحقق، لاستقامة العبارة.
(2) في الأصل: "قسط". وهو تحريف ظاهر.
(3) في الأصل: "لحوق".
(4) في الأصل: "نجوم".
(5) أي تشريف مكان التفريق.
(6) في الأصل: "لمن هم أهل الحرم".
(7) أي ويتضح به القياس إذا انتقل ... إلخ.
(8) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(9) تأنيث "الأول" بالتاء واردٌ، وإن لم يكن بالأفصح (ر. المصباح المنير).

(11/560)


ولو خرجوا على قصد قبل وجوب الصدقة، لم يجز نقل الصدقة إليهم إذا فرعنا على منع النقل، وإن انتقلوا بعد وجوب الصدقة، فإن اتسعت الخِطة، ولم ينحصر أهلها، فالأصح جواز الإخراج، وإن كانوا محصورين وقد غابوا بعد الاستحقاق، فلهم حصصهم.
ويشترط في استحقاق ابن السبيل الحاجةُ الناجزة: ألا يكون معه ما يبلغه مقصده وإن كان له مال غائب، فلو قصد بلدة بعيدة، وله في منتصف طريقها مال، لم يأخذ إلا ما يبلغه إلى ماله، بخلاف سهم سبيل الله، فإنا نصرفه إلى الموسرين؛ لأن الغرض استحثاثهم على الغزو، وهذا يقتضي أن يُكفَوْا من الصدقة؛ حتى لا يتخاذلوا؛ ضِنةً بأموالهم، وابن السبيل [يعطى للحاجة] (1)؛ فاعتبر وجودها.
فصل
7828 - من ادعى الغرم لم يصدق إلا ببيّنة؛ لأنه دعوى باطنٍ، لا يعسر إثباته.
وكذا إذا ادعى العبد أنه مكاتب. ومن ادعى الفقر، أو المسكنة، لم يكلّف بيّنة على ذلك؛ لأنه يعسر ذلك على آحاد المساكين، ويتضح ذلك بسيرة الأولين؛ ولما جاء الرجلان يطلبان الصدقة، فلم يردهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على (2) أن قال: "لا حظ فيها لغني ولا لذي مرة سوي". وأُلحق به عدمُ الكسب، وإن أشعر ظاهر البِنْية بقوةٍ وتمكّنٍ من اكتساب بجهةٍ (3)؛ لأنا نرى كثيراً من أصحاب [القوة] (4) يعرون عن عمل [مع قوتهم] (5) فلا يطالب بالبينة. نعم، إن كذبه شاهد الحال، كذبناه.
وكذلك [إن] (6) اشترطنا الزمانة في سهم الفقراء.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، مكان كلمة رسمت هكذا: "احير" بهذا الإعجام وبها لا يستقيم المعنى.
(2) في الكلام حذف تقديره، "بل ما زاد" على أن قال ...
(3) كذا. والعبارة بها مستقيمة.
(4) مكان كلمة غير مقروءة رسمت هكذا: " حـ ـ " تماماً وبدون نقط.
(5) ما بين المعقفين تصرفٌ من المحقق، مكان كلمتين هكذا: " ـعيد قر ـهم " تماماً.
(6) زيادة لاستقامة العبارة.

(11/561)


وإذا ادعى أن عليه ألفاً لزيد، فصدقه على ذلك، ففيه وجهان: أحدهما - يقبل تصديقه؛ ويُعطى من سهم الغارمين؛ لأنه ثبت بالإقرار. والثاني - لا يقبل؛ لأنه لا تؤمن المواطأة بينهما، وكذلك إذا صدق السيد أنه (1) عبده على الكتابة، وهذا أقوى من تصديق المدين.
ولو أقرّ بدين لغائب، [وقبلنا] (2) إقراره للحاضر، ففيه وجهان.
ولو قال: أنا عازم على سفر، أو أريد الغزو، لم يطالب بحجة على عزمه، وجاز الدفع إليه من السهم الذي طلبه.
وحيث لا يطالب بالبينة، ففي تحليفه إذا اتهمه المطلوب وجهان، وهل هي (3) مستحقة أو مستحبة؟ وجهان: فإن قلنا: هي استحباب استظهاراً، فنكل، فلا حكم لنكوله. وإن قلنا هي مستحقة، فإن نكل عن اليمين، لم يستحق شيئاً.
وقيل: إن طلب من سهم المساكين، فذكر أنه غير مكتسب، فإن شهد له ضَعفُه (4)، لم يحلّف، و [إن] (5) بعُد بشاهد الحال صدقُه، ففي تحليفه وجهان.
فإن قيل: فقد قضيتم بالنكول، [إذا] (6) رأيتم التحليف مستحقاً كل، قلنا: لا بد [من شرط] (7) قيام حجة لائقةٍ بالحال، وهي اليمين، فإذا عدمت، صار كأن لم تكن بينة على الغرم والكتابة، ونحن تشترط قيامها.
ومن طلب من الغزاة أو ابن السبيل لم نحلفه، بل إن انتهض غازياً أو مسافراً (8).
وحلفه، ولا نجد مرجعاً لفقره، وهل هي استحقاق أو استظهار، على ما تقدّم.
__________
(1) كذا. ولعل [أنه] زائدة.
(2) في الأصل: "وقلنا" والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى أنه من أهل الإقرار.
(3) هي: أي اليمين.
(4) أي ضعف جسده.
(5) زيادة اقتضاها السياق؛ فالمعنى إذا كان يوحي حاله بقوته وقدرته وأنه من أهل الاحتراف.
(6) في الأصل: "وإذا".
(7) في الأصل: "يشرط".
(8) هنا خرمٌ، لا ندري مقداره، فالكلام غير متصل، ولا مستقيم.

(11/562)


وقيل: من ادّعى حَمالة، [وأشكل] (1) علينا حاله، طولب بالبينة، على قياسٍ بيِّن. فإن استفاض أمرها (2)، اكتُفي بالاستفاضة فيها، وقيل: هذا إذا انتهت إلى حدٍّ يفيد العلم [كأخبار التواتر] (3)؛ لأنها أقوى من البينة، وإذا لم تُفد إلاّ غلبة ظن، فلا أثر لها (4)، وعليه البينة، وفيما ذكره [فقه] (5).
وإذا انتهت الاستفاضة إلى إفادة العلم، فإنها تفيد القاضي علماً في الخصومات.
فإن قلنا: يجوز أن يحكم بعلمه، قضى بها، وإن منعنا القضاء بالعلم، فقد منع بعضهم القضاء بها؛ بناء على الأصل، ومنهم من أجازه؛ لأن المحذور من القضاء بعلمه تعرضه للتهمة، وقد زالت بالاستفاضة. والاكتفاء بها إذا أفادت ظناً فيما نحن فيه أفقه؛ لأن الأحكام فيه مبنية على الظن، بخلاف مفاصل الخصومات؛ فإنها منوطة بالعدد والتعبدات، ولا أظن بمن لم يكتف (6) اشتراطه إقامة بينة في مجلس القضاء، فإن طرد قياسه، فهو بعيد من وضع الباب، مخالف لسيرة السلف؛ فإنهم ما أخرجوا مستحقي الصدقة إلى مجلس الحكم. وإن اكتفى بقولٍ في غير مجلس القضاء، فالاستفاضة أقوى. ولعل المعتبر أن يشيع التحمل إشاعة يكتفى بمثلها في إثبات النسب، وتنبني الشهادة عليها.
...
__________
(1) في الأصل: "أو أشكل" والمثبت تقدير منا.
(2) أي الحَمالة.
(3) كذا قرأناها مراعاة لأقرب صورة للحروف، وأقرب معنى للسياق، وإلا فمكان ما بين المعقفين كلمتان في أولاهما أثر تصويب، وقد رسمتا هكذا: " كصاصـ االـ وا ـر " مع رسم حاء صغيرة تحت الثاني والرابع من الكلمة الأولى؛ علامة على إهمالها، مما ضلّلنا طويلاً.
(4) لم يفرق الرافعي بين إفادة الاستفاضة العلمَ أو غلبةَ الظن، وجعل حكمها في الحالين واحداً، وهو قبولها. (الشرح الكبير: 7/ 400).
(5) في الأصل: فقيه. وهو سهو واضح.
(6) أي من لم يكتف بالاستفاضة.

(11/563)


باب كيف تفريق قسم الصّدقات
7829 - تجب قسمة الصدقة على الأصناف بالتسوية، ويجب تعديل السهام اتفاقاً، إلا سهم العامل، فقد سبق تفصيله، فإن تولّى قسمة صدقته بنفسه، سقط سهم العامل، ويخرج المؤلفة على الرأي الظاهر، فيبقى الفقراء، والمساكين، والرقاب، والغارمون، وأبناء السبيل، وسبيل الله: فيقسم على ستة، فيصرف كل سهم إلى ثلاثة فصاعداً، ولا تجب التسوية بينهم (1)؛ لأنه ضبط للعدد (2)، فيجوز التفضيل وفاقاً.
ولا يجوز النقصان من الثلاثة.
وإذا تولى [الإمام] (3) تفرقة الزكاة، لم يؤاخذ في صدقة كل شخص بهذا التعديل، لكن يجمعها كلها، ويتعاطى فيها بتعاطي الواحد في تفرقة زكاة نفسه؛ لأن يد الإمام يد المستحقين، وهي محل الصدقة، وعلى الإمام مزيد نظر أن يوصل الصدقة إلى محاويج الخِطة.
فصل
7830 - إذا فرّق زكاة نفسه، ثم ظهر أن بعض من أخذ لم يكن مستحقاً، فقولان: أصحهما - أنها لم تقع موقعها؛ لأنها من ضمانه إلى أن يوصلها إلى مستحقها، وإلى
__________
(1) بينهم: أي بين الأصناف في العدد، بعد أن يستوفي ثلاثة من كل صنف.
(2) أي أن شرط استيعاب ثلاثة من كل صنف ضبطٌ للعدد الواجب، وبعده تجوز الزيادة من أحد الأصناف عن الآخر. ويحتمل أن يكون في الكلام سقط، وصحة العبارة: "لأنه لا ضبط للعدد" أي لا يطالب من عليه الزكاة بإحصاء الأصناف الثمانية، ومعرفة عدد الآحاد في كل صنف، والتسوية بينهم، فإن هذا لا ضبط له لدى الآحاد ممن لزمتهم الزكاة، وإنما يتيسر هذا للإمام، عندما يقوم هو بجمع الزكاة وتوزيعها.
(3) زيادة اقتضاها السياق.

(11/564)


هذا مَيْلُ النص في الجديد. والقديمُ: لا يلزمه تثنية (1) الزكاة؛ لأن فيه عسراً، ولا يتمكن الآحاد من نهاية البحث، وفي تثنيتها ثقل على أرباب الأموال.
هذا إذا خرج من قدَّرهُ فقيراً غنياً. فأما إذا خرج كافراً، أو رقيقاً، فقد قيل: هي على قولين كالتي قبلها. وقيل: يجب قطعاً تثنيتها؛ لأن الكافر والرقيق لا يخفيان غالباً، فظهورهما يدل على تقصير المعطي، بخلاف الفقير والغني، فأمرهما مشكل.
وإذا أدى سهم الغارم إلى من أقام بينة على غرمه، ثم بان كذبهم، ففيه قولان، كمن ادعى المسكنة، ثم بان غنياً. ولو لم يكلِّف مدعي الغرم البينة، وأعطاه بقوله، ثم بان كذبه، لم يقع المخرج موقعه، ورمز بعضهم [فيه] (2) إلى تردد، فإن قلنا: لا نسلّم إليه بقوله، لم يبق شك في أنه لا يقع ما أخرجه موقعه. وإن قلنا: يجوز له التعويل على قوله، فالظاهر أنه لا يعتد به؛ لأن الاستظهار بالبينة ممكن. وإذا اكتُفي بظاهر قول المخبر، كان مشروطاً بالسلامة.
ولا وجه لتحليف من يدعي المسكنة إذا لم تظهر تهمة، وإن ظهرت، فإن كان المفرِّق الإمام، فيليق بمنصبه تحليفه، وإن كان ربَّ المال، فيبعد منه التحليف، ويعضّده ترك السلف التحليف. ويجوز أن يقال: له أن يحلّف، كما يسمع قول الثقات في المغارم (3)، وإن اختص سماع [البينة] (4) بمجالس الحكام، وإذا رأينا التحليف على دعوى المسكنة، لم نوجبه على من يفرق الصدقة، إذا لم يكن تهمة، بخلاف سهم الغارمين، ولا يبعد في القياس اشتراط اليمين إذا قلنا: اليمين مستحقة، وتخصيص التحليف على المسكنة بمحل التهمة، وغالب العادة
__________
(1) كذا قرأناها على ضوء السياق، وبمساعدة أطراف الحروف، حيث فيها أثر تصويب، طمس صورة حروفها.
(2) في الأصل: "منه".
(3) المعنى: أننا كما جوّزنا سماع الثقات (أي الشهود) من الغارمين، أي طلبنا منهم البينة، وسمعناها، مع أن سماع الشهود يختص بمجالس الحكم، فكذلك يجوز أن يحلَّف في المسكنة.
(4) في الأصل: بالبينة.

(11/565)


اجتناب (1) التهمة في مصارف الزكوات. ولو تصور استواء النفي والإثبات في دعوى المسكنة، فعلى الوجهين.
أما إذا تولى الوالي تفرِقة الزكاة، فبان مَنْ ظنَّهُ مسكيناً غنياً، فالمشهور أن الوالي لا يغرم؛ لأن تغريمه يجر عسراً؛ لأنه يتعذّر عنه، ووقعت الزكاة موقعها، وبرىء [مَنْ أداها] (2)، ويسترد الوالي ما بذله إن تمكن منه، ويصرفه إلى مستحقه. ولا يقف الحكم ببراءة ذمة رب المال على أن يفعل الوالي ذلك.
وإن كان (3) الآخذ كافراً، أو رقيقاً، فهل يغرم الوالي؟ فيه قولان، فإنه ينسب إلى تقصير. وقيل في الصورة الأولى أيضاً قولان.
وحيث نوجب على الإمام الاستظهار، فلم يفعل، فالوجه القطع بتغريمه؛ لأنه متصرف بالولاية في حقّ الغير، وحيث لا يغرم الإمام، فلا نشك بوقوع الزكاة موقعها، وإن رأينا تغريمه، فهو بمثابة ما لو أكلها، ولم يصرفها إلى مستحقها، ولو فرض ذلك، فلم نحكم بانعزال الوالي، فظاهر القياس أنه يبرأ مَن عليه الزكاة؛ فإن يد الإمام يد المستحقين، والواقع في يده كالواقع في يد المستحقين. وقيل: لا تبرأ ذمة من عليه الزكاة؛ لأنها لم تبلغ محلها، وهذا يجري حيث يغرم الإمام جرياناً ظاهراً.
وإن لم يغرم الإمام، أثبتنا له حق الاسترداد إذا تمكن منه، بخلاف الصدقة المعجلة إذا لم تقع موقعها، ففي بعض الصور نقول: لا تسترد؛ لإمكان صرفها إلى جهة التطوع، بخلاف ما نحن فيه؛ فإنّ أَخْذ الصدقة ظلماً مستحيل أن يقدَّر جهة ثبوت الملك.
وأما إذا تولى تفرقتها من وجبت عليه، فالوجه أن نقول: إن أمكن الاسترداد، وجب ذلك، ويُقطع بأنّ الزكاة لم تقع موقعها.
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة شديدة؛ لعدم وضوحها بالأصل، والمعنى أن معطي الزكاة غالباً يبعد عن موضع التهمة، ويتطلب أصحاب الحاجة الحاقة.
(2) في الأصل: "مِنْ أدائها" ولعل الصواب ما أثبتناه؛ فالإمام مفرّق، وليس بمؤدٍّ، ويؤيد صحة اختيارنا الكلام بعده.
(3) كذا، ولعلها: "بان".

(11/566)


[ .... ] (1) على أن نقول: يسترده للمساكين؛ فإن هذا لو قيل به، فهو أولى [به بعد تقدير بُرئه] (2) عن الزكاة، ولا سبيل إليه.
وإن عسر الاسترداد وأيس منه، حكمنا بوقوع الزكاة موقعها، وبرىء من كانت عليه، وهو بمثابة ما لو تلف المال قبل الإمكان، إذا قلنا: تجب بانقضاء الحول.
وما أخذه ذلك الإنسان هل يكون ديناً للمؤدي أم للمسلمين؟ قال: وهذا خَبْط لا يهتدى إليه، ونتبين منه تزييف القول بأن الزكاة سقطت عمن عليه. وبهذا يتضح الفرق بين الوالي ورب المال؛ فإن الوالي يتصرف للمستحقين وأرباب الأموال، ويده صالحة للنيابة للمساكين.
...
__________
(1) النقط بين المعقفين مكان ثلاث كلمات تعذّر قراءتها، كما تعذّر تقدير كلمات مكانها.
(2) كذا قرأنا هذه الكلمات بصعوبة بالغة. وقد رسمت كلمة (برئه) هكذا (براه).

(11/567)


باب ميسم الصّدقة
وسمُ الدواب جائزٌ، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسم الدواب والنَّعَم في الصدقة والجزية (1).
ووسمُ الأغنام في آذانها (2) وليخفَّ على قدر احتمالها. ووسمُ الإبل والبقر في أفخاذها، وكذلك وسم الخيل.
ونهى النبي عليه السلام عن وسم الوجه، ورأى حماراً في وجهه وسم فقال: "ألم يبلغكم أني لعنت من يسم الدواب في وجوهها" (3). والذي ذكره الأصحاب الكراهية، وهذا الحديث يتضمن التحريم.
ثم قال الشافعي (4) رضي الله عنه: علامة الصدقة: لله، وعلامة الجزية: الصَّغَار.
ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه باباً (5).
__________
(1) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم وسمَ الدواب والنعم في الصدقة والجزية" متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (ر. البخاري: الزكاة، باب وسم الإمام إبل الصدقة بيده ح 1502، واللباس، باب الخميصة السوداء، ح 5842. مسلم: اللباس، باب جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه وندبه في نعم الزكاة والجزية، ح 2119).
(2) حديث وسم الأغنام في آذانها، ورد في بعض روايات حديث أنس السابق (ر. البخاري: الذبائح، باب الوسم والعلم في الصورة، ح 5542، مسلم: اللباس، باب جواز وسم الحيوان غير الآدمي في غير الوجه ح 2119، وابن ماجه: اللباس، باب لبس الصوف ح 3565، وأحمد 3/ 169).
(3) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم رأى حماراً في وجهه وسم ... " رواه مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه (ر. مسلم: اللباس، باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه ح 2117، 2118، أبو داود: الجهاد، باب النهي عن الوسم في الوجه والضرب في الوجه ح 2564، التلخيص: 3/ 240 ح 1512).
(4) ر. المختصر: 3/ 244.
(5) هو باب (الاختلاف في المؤلفة) ر. المختصر: 3/ 246.

(11/568)


آخر ربع البيوع (1).
...
__________
(1) جاء في خاتمة النسخة:
وافق الفراغ منه بتوفيق الله تعالى وحسن معونته، سابع ليلة مضت من ربيع الآخر من شهور سنة سبعين وخمسمائة، وهو حسبي ونعم الوكيل.
وكتبه العبد الضعيف الراجي رحمة ربه عمر بن أبي غانم ابن الموصلي حامداً لله ومصلياً على رسوله محمد خير خلقه وعلى آله وأصحابه وأزواجه صلاة زاكية تامة إلى يوم الدين.
ستبقى خطوطي بعد موتتي ... على أنها تبقى وتفنى أناملي
فيا ناظراً فيها اسأل الله رحمةً ... لكاتبها المدفون تحت الجنادل
اسأل الله رحمة.

(11/569)


عز الفقه وشرفه في الاقتصار على مسالكه، مع التزام الجواب عن كل واقعة.
الإمام
في نهاية المطلب

(12/4)