نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب النكاح (1)
باب ما جاء في أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأزواجه في النكاح
7831 - والأصل في النكاح قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} [النساء: 3].
وقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تكثروا" (2).
قال (3): واتفق المسلمون على أن النكاح شرع لإحلال النساء للرجال.
قلت (4): الآيتان، والخبر لا يخص ما ترجم الباب (5)، بل هي عامة.
وقوله: "النكاح شرع لإحلال النساء للرجال" فيه نقد، بل لتحليل كل واحد من القبيلين للآخر.
قال: وصدّر الشافعي رضي الله عنه الكتاب بهذا الباب، وأضاف الأصحاب إليه خصائصه في غير النكاح.
__________
(1) من هنا خرم في الأصل، ينتهي عند أول باب اجتماع الولاة وتفرقهم، وقد أكملناه من مختصر ابن أبي عصرون (صفوة المذهب) حيث وجدناه يحتفظ بعبارة الأصل، ونكاد لا نجد لفظة منه غير ألفاظ الأمام.
(2) حديث "تناكحوا تكثروا": أخرجه صاحب مسند الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنه، وذكره البيهقي في (المعرفة) عن الشافعي بلاغاً، وكذا هو في الأم، والمختصر (ر. مسند الفردوس: 2/ 130 ح 2663، الأم: 5/ 144، مختصر المزني: 3/ 255، معرفة السنن والآثار: 5/ 219، البدر المنير: 7/ 423، التلخيص: 3/ 248).
(3) القائل هو إمام الحرمين.
(4) أي ابن أبي عصرون.
(5) فإن الباب مترجم بأنه في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه.

(12/5)


7832 - ويحصر خصائصه صلى الله عليه وسلم ضربان: تغليظٌ، وتخفيف، وينقسم التغليظ إلى التحريم والإيجاب: أما الإيجاب فمنه:
صلاة الليل، لقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] والنافلة في اللغة: الزيادة. وهي في حق الأمة جائزة لنقصان فرائضهم، وفرائضه صلى الله عليه وسلم [منزّهة] (1) من النقص؛ فكان تهجده زيادة على مفروضاته.
ومنه وجوب الأضحى (2)، والضُّحى، والوتر.
وفي وجوب السواك خلاف.
وكان يقضي دين من مات معسراً، لما اتسع عليه المال وجوباً عند الجمهور، أشعر به قوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك كَلاًّ فإليَّ، أو ديناً فعليَّ" (3). وقيل: كان تكرّماً منه، وهو غير سديد؛ لأن قوله حقٌ، فلا يجوز تقدير خلافه، ولا يمكن حمله على الضمان عند من أجاز ضمان المجهول لما يتضاعف فيه من جهالة الجنس، والقدر، والصفة، ومن له، وعليه.
وذُكر في إيجاب ذلك على الإمام من سهم المصالح وجهان.
قال (4): وفيه تفصيل: فإن [من] (5) لم يقدر على القضاء، ولم يمطُل، يلقى الله تعالى ولا مظلمة عليه، قالت عائشة رضي الله عنها: "لأن أموت وعلي مائة ألف
__________
(1) في الأصل: منزه.
(2) المراد الأضحية، وورد ذلك في الحديث الذي رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعاً "أمرت بركعتي الضحى ولم تؤمروا بها، وأمرت بالأضحى ولم تكتب"، وروى الدارقطني عن أنس مرفوعاً: "أمرت بالوتر والأضحى ولم يعزم علي" وقد ضعف الحافظ إسناد الحديثين (ر. مسند أحمد: 1/ 317، الدارقطني: 2/ 21، التلخيص: 3/ 254، 255 ح 1532).
(3) حديث أنه كان يقضي دين من مات معسراً لما اتسع عليه المال، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك كلاًّ ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (ر. البخاري: الكفالة، باب الدين ح 2298، مسلم: الفرائض، باب من ترك مالاً فلورثته، ح 4157. التلخيص: 3/ 108 ح 1268).
(4) أي إمام الحرمين.
(5) زيادة اقتضاها السياق.

(12/6)


لا أملك قضاءها أحب إليّ من أن أموت وأخلف مثلها" (1). ولا معنى لصرف مال المصالح في دينه (2). وإن ظلم بالمطل، ومات معسراً، فالأوجه ألا يصرف مال المصالح إليه، فإن قيل بجوازه، فيقضى أيضاً دين من لم يظلم؛ ترغيباً لأرباب الأموال في إسعاف المحتاجين وشرطه -عاماً وخاصاً- أن يفضل المال عن مصالح الأحياء.
ومن الإيجاب مشاورة [ذوي الأحلام] (3) عند قومٍ؛ لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وقيل: نُدِب إليها استعطافاً للقلوب.
وسر تخصيصه بالإيجاب تعظيم ثوابه؛ فإن ثواب الفرض أعظم؛ قال صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه عز وجل: "ما تقرّب المتقربون إليَّ بمثل أداء ما افترضت عليهم" (4). وقال صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: عبدي، أدِّ ما افترضت عليك، تكن أعبد الناس، وانته عما نهيتك عنه، تكن أورع الناس، وارض بما قسمت لك، تكن أغنى الناس، وتوكّل على الله، تكن أكفى الناس" (5). وقيل: يزيد ثواب الفرض على النفل سبعين درجة؛ لما روى سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شهر رمضان: "من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه، كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه" (6).
__________
(1) أثر عائشة رضي الله عنها لم نقف عليه.
(2) فالراجح عند الإمام أنه لا يقضى دينه من سهم المصالح.
(3) في الأصل: "ذوي الأْرحام" وهو سبق قلم؛ فلا معنى لتخصيص ذوي الأرحام بالمشورة.
(4) حديث "ما تقرّب المتقربون إليَّ ... " طرف من حديث أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه (ر. البخاري: الرقاق، باب التواضع، ح 6502، التلخيص: 3/ 254 ح 1513).
(5) حديث " ... عبدي، أدِّ ما افترضت عليك" قال في كشف الخفا (1/ 75 ح 171): "رواه ابن عدي عن ابن مسعود. قال الدارقطني: رفعه وهم، والصواب وقفه".
(6) جاء في زيادات النووي في الروضة: 3/ 7 قوله: "قال إمام الحرمين هنا: قال بعض علمائنا: الفريضة يزيد ثوابها على ثواب النافلة بسبعين درجة، واستأنسوا فيه بحديث" ا. هـ.
وجعل ابن حجر هذه من فوائده في تلخيص الحبير، وعقب على كلام النووي قائلاً: =

(12/7)


فقابل النفل فيه بالفرض في غيره، وقابل الفرض فيه بسبعين فريضة في غيره، فأشعر أن الفرض يزيد على النفل سبعين درجة، بل دلّ أن كل نفل شهر رمضان كفرض غيره، وأن فرضه بسبعين فريضة في غيره.
7833 - فأما ما وجب في النكاح:
فمنه تخييره نساءه، لقوله سبحانه: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]. وقيل: إن سبب التخيير أنهن طالبنه بشيء من الدنيا، ولم يكن في يديه وفاء به (1).
وروي أن إحداهن طلبت منه خاتماً من ذهب، فجاءها بخاتم من فضة، لطخه بالزعفران، فردته. وقد روي في سبب التخيير وجوه، ويظهر أن [نفرة] (2) زحفت إلى قلبه صلى الله عليه وسلم لمطالبتهن له بما لايجده، فآلى صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل عليهن شهراً.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: كنّا معاشر المهاجرين متسلطين على نسائنا بمكة، وكانت نساء الأنصار مسلّطات على رجالهن، فلما قدمنا المدينة اختلطت نساؤنا بنسائهم، فطفقن يتخلقن بأخلاقهن، فكلمت امرأتي ذات يوم في شيء، فراجعتني، فرفعت يدي لأضربها، وقلت: لا تراجعيني يا لكعاء، فقالت: إن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه، وهو خير منك، فقلت: خابت حفصة وخسرت إذاً. فجمعت ثيابي وقمت، فأتيت حفصة، فقلت لها: أتراجعين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: نعم. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يظلّ على
__________
= "والحديث المذكور ذكره الإمام في نهايته، وهو حديث سلمان مرفوعاً" وساق الحديث على نحو ما هو وارد هنا في شهر رمضان. ثم قال: "وهو حديث ضعيف، أخرجه ابن خزيمة، وعلّق القول بصحته [أي قال: إن صح الخبر] واعترض على استدلال الإمام به، والظاهر أن ذلك من خصائص رمضان، ولهذا قال النووي: استأنسوا، والله أعلم" انتهى كلام الحافظ (ر. التلخيص: 3/ 254) وانظر صحيح ابن خزيمة: 3/ 191 - 192 - رقم: 1887.
(1) حديث أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم طالبنه بشيء من الدنيا، ولم يكن في يديه وفاء به، رواه ابن سعد في الطبقات عن جابر رضي الله عنه (8/ 179) وما بعدها.
(2) الكلمة بين المعقفين اختيار من المحقق لمناسبة السياق، وفي الأصل كلمة تعذر قراءتها.

(12/8)


بعض نسائه طول نهاره مغضباً، فقلت لها: لا تفعلي ذلك ولا تغترّي بابنة أبي قحافة، فإنها حِبّ النبي صلى الله عليه وسلم، يحتمل منها ما لا يحتمل منك، وكنت قد ناوبت رجلاً من الأنصار حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أحضر يوماً، ويغيب في حاجته، فأخبره بما يجري، ويحضر يوماً وأغيب في حاجتي، فيحدثني بما جرى، فكنت في البيت إذْ قرع الأنصاري الباب عليّ، وقال: أَثمَّ عمر، فقلت: نعم. أحدث أمر؟ فقال: نعم، قلت: أجاءتنا غسان؟ - وكنا نحدث بأن [غسانَ] (1) تنعل خيولها لتغزونا فقال: أمر أفظع من ذلك: طلّق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فخرجت من البيت، ودخلت المسجد، ورأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حول المنبر جلوساً يبكون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على [مَشْرُبة] (2)، وكان أسامة (3) على الباب، فتقدمت إليه فقلت: استأذن لي، فاستأذن، فلم يُجَب، فرجعت. فلما بلغت بعض حجر المدينة، نازعتني نفسي؛ فانصرفت فقلت: استأذن لي، فاستأذن؛ فلم يجب؛ فرجعت، فلما بلغت بعض حجر المدينة نازعتني نفسي، فانصرفت فقلت: استأذن لي، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوتي، فقال: اصعد، فكان صلى الله عليه وسلم نائماً على حصير من الليف، فاستوى جالساً، وإذا الليف قد أثّر في جنبه، فقلت: إن كسرى وقيصر يفترشان الديباج والحرير وأنت على مثل هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: "في شك أنت يا بن الخطاب؟ أما علمت أنها لهم في الدنيا، ولنا في الآخرة"، ثم قصصت عليه القصة، فلما بلغت إلى قولي لحفصة لا تغتري ببنت ابن أبي قحافة بَسِمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أطلقت نساءك؟ فقال: "ل". فقلت: الله أكبر" (4).
__________
(1) في الأصل: غساناً. ولم ندر لها وجهاً.
(2) بياض بالأصل، والمثبت من نصّ الخبر.
(3) في بعض روايات الحديث: "وكان على الباب غلام أسود". وفي بعضها: "رباح".
(4) أثر عمر رضي الله عنه متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما (ر. اللؤلؤ والمرجان: 2/ 115 - 120، ح 944، 945).

(12/9)


وروي أنه آلى عن نسائه شهراً، فمكث في غرفته شهراً، فنزلت آية التخيير، فلما نزلت بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، فدخل عليها وقال: "إني ملق إليك أمراً، فلا تبادريني فيه بالجواب حتى تؤامري فيه أبويك"، وتلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ} [الأحزاب: 28] الآيات. فقالت: أفي مثل هذا أؤامر أبوي؟ اخترت الله ورسوله والدار الآخرة، ثم قالت: لا تخبر زوجاتك بذلك، وطلبت أن يخترن الدنيا، فيفارقهن صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل على نسائه، وأخبرهن بما جرى مع عائشة، وكان يتلو عليهن آية التخيير، فاخترن بأجمعهن الله ورسوله والدار الآخرة (1). فثبت بذلك وجوب التخيير عليه صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعض الأصحاب إلى أن واحدة منهن لو اختارت الدنيا، لكانت تبين بنفس الاختيار، كما لو خيّر أحدنا زوجته، ونوى تفويض الطلاق إليها، فقالت: اخترت نفسي، ونوت الطلاق؛ فإنها تبين بنفس الاختيار. قال (2): وهذا غير مرضي؛ فإن الآية اقتضت التخيير بين الدنيا وزهرتها وبين الآخرة، ولا يماثل ما يجري بين الزوجين منا.
قال: والأولى في التوجيه أن اختيار إحداهن الدنيا يضاد صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدليل عليه أن هذا القائل يقول: لو اختارت الدنيا، كان يجب على المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يفارقها، والفرقة إذا وجبت، وقعت عندنا، ولهذا
__________
(1) واقعة التخيير أخرجها الشيخان من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها، وليس فيها أن عائشة طلبت أن يختار نساء النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا فيفارقهن، قال الحافظ في الفتح (8/ 382): "وقع في النهاية، والوسيط التصريح بأن عائشة أرادت أن يختار نساؤه [صلى الله عليه وسلم] الفراق، فإن كانا ذكراه فيما فهماه من السياق فذاك، وإلا فلم أر في شيء من طرق الحديث التصريح بذلك" ا. هـ
(ر. البخاري: التفسير، تفسير سورة الأحزاب، باب "قل لأزواجك إن كنتن تردن ... " ح 4785، مسلم: الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، ح 1475).
(2) أي إمام الحرمين.

(12/10)


استدللنا بوجوب الفراق في اللعان على وقوعه.
قلت: وفيما ذكره نظر؛ فإنه لو كان اختيار الدنيا يضاد صحبة رسولى الله صلى الله عليه وسلم، لتعجلت الفرقة، ولو وقعت الفرقة، لم يكن لقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] معنى؛ فإن المفارِقة كيف تفارَق؟ وقوله: إن الفرقة إذا وجبت وقعت - لا يصح، وليس ذلك مذهباً، ولهذا إذا أمتنع المُولي من الفيئة، وجب عليه أن يطلق، ولا يقع الطلاق قبل تطليقه. وكذا إذا رأى الحكمان في باب النشوز الطلاق، كان التطليق واجباً، ولا تطلق بنفس وجوب التطليق. وأما في باب اللعان، فلا نقول بأن الفرقة وقعت بوجوبها، بل تقع بكمال ألفاظ اللعان.
قالى: ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: إن الفرقة لا تقع، لكن كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يفارقها تلقياً من قوله سبحانه: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28]. وظاهرهُ وجوبُ الفرقة، وقد تحقق أن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فلا يناط بالأقيسة التي تناط بها أحكام العامة، وإنما يتبع فيها موارد الشرع من غير زيادة.
وذكر الخلاف في خصائصه خبطٌ، لا فائدة فيه؛ لأنه لا يتعلق بها حكم ناجز تمس الحاجة إليه، وإنما نجتهد فيما لا نجد بداً من إثباته أو نفيه، وما خلا منه تهجّم على الغيب من غير ثمرة.
وانبنى على هذا أنه هل كان يلزمهن الجواب على الفور؟ فقيل: إن قلنا: إن الفرقة تقع بنفس الاختيار، اقتضى أن يكون الجواب على الفور، على قولٍ، كما لو خير أحدنا زوجته، ففي وجوب الاختيار على الفور قولان. قالى: وهذا في نهاية الضعف؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "ولا تبادريني بالجواب حتى تستأمري أبويك". فإن قيل: ما كان لها ذلك تخييراً ناجزاً، قلنا: فلم اكتفى به صلى الله عليه وسلم في جواب التخيير؟ فلا حاصل لذكر الخلاف فيه.
وإن قلنا: لا تحصل الفرقة بنفس الاختيار، فلا يلزمهن الجواب على الفور، وهو الصحيح.
ولما اخترن الله سبحانه ورسوله والدار الآخرة جازاهنّ الله سبحانه، فحرم عليه

(12/11)


التبدل بهن، والتزوج عليهن، فقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] والذي صح عند الشافعي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أُبيح له ما حرّم من ذلك (1). وقال أبو حنيفة: مات ولم يبح له.
لنا ما روت عائشة رضي الله عنها: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء اللائي حرمن عليه" (2).
وفي تحريم طلاقهن وجهان: أحدهما - كان حراماً عليه؛ لقوله تعالى: {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] والتبدّل إنما يكون بمفارقتهن وإقامة غيرهن مقامهن. والثاني - لم يحرم طلاقهن، وهو الظاهر؛ لأن الخصائص يجب أن يقتصر فيها على المنقول.
وقال بعضهم: إنه في صورة خاصة، وهو أنه لو وجد التطليق باختيارهن الدنيا، فأما منعه من إنشاء طلاق بعد انقضاء التخيير، وأثره، فلا وجه له.
قال: وهذا التفصيل لا حاجة إليه، والوجه القطع بأنّ له اختيار الطلاق متى شاء.
ولما أباح الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم التبدّل بهن، لم يتبدّل، وهو السر في إباحته إظهاراً لمنته صلى الله عليه وسلم عليهن.
7834 - أما المحرمات من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فمما حرم عليه من دون أمته إلا ذوي القربى، فالصدقة (3) المفروضة، وكذا صدقة التطوع على المذهب
__________
(1) ر. الأم: 5/ 140.
(2) حديث عائشة: "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء اللائي حرمن عليه" رواه الشافعي في الأم، ولفظه "ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحلّ له النساء" قال الشافعي: كأنها تعنىِ اللاتي حظرن عليه في قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52]. وأخرجه أحمد، والترمذي، والنسائي دون الزيادة، قال في البدر المنير: هذا الحديث صحيح. (ر. الأم: 5/ 140، أحمد: 6/ 41، الترمذي: التفسير، باب: ومن سورة الأحزاب، ح 3216، النسائي: النكاح. باب ما افترض الله عز وجل على رسوله عليه السلام وحرّمه على خلقه ليزيده إن شاء الله قربة إليه، ح 3204، البدر المنير: 7/ 440، التلخيص: 3/ 263 ح 1540).
(3) فالصدقة: كذا بالفاء، ولم نعرف لها وجهاً، فقد سبق جواب أمّا بقوله: فمما حرم عليه. =

(12/12)


المعروف، وفي تحريمها على ذوي القربى خلاف تقدم. وقيل: بأنها لم تحرم عليه، لكنه كان يأنف منها تعففاً. وهو بعيد غريب.
ومنه خائنة الأعين (1)، فكان لا يجوز له أن يظهر شيئاً ويسر خلافه وهو يسمى الإيماض بالعين. وقيل: كان يحرم عليه الإيهام، والختل بجميع وجوه الأفعال، حتى الخُدعة في الحرب. وهذا مزيف. فقد صح "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أرِاد سفراً وزَى بغيره" (2). وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الحرب خُدعة" (3). قال: لا أدري أخبرٌ هو عنه، أم أثر عن علي كرم الله وجهه لما قتل عمرو بنَ عبد ود؛ ولأن الإيماض والتلويح بالترامز يحط من قدر المتكلم، ويسقط من أبّهته؛ فأما الإيهام في الأمور العظام، فمعدود من الإيالات والسياسات. ومكائد الحروب لا تزري بأصحابها.
__________
= فالكلمة (الصدقة) مبتدأ مؤخر، خبره فمما حرم عليه، والله أعلم.
(1) دليله قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين" رواه أبو داود، والنسائي، والبزار، والحاكم، والبيهقي من حديث سعد بن أبي وقاص في قصة الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلهم يوم فتح مكة. وروى أبو داود والترمذي والبيهقي من طريق أخرى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليس لنبي أن يومض". وفي رواية لابن سعد في طبقاته: "الإيماء خيانة، وليس لنبي أن يومىء" (ر. أبو داود: الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، ح 2683، والجنائز، باب أين يقوم الإمام من الميت إذا صلى عليه، ح 3194، النسائي: تحريم الدم، باب الحكم في المرتد، ح 4067، مسند البزار: 3/ 350 - 351، الحاكم: 3/ 45، السنن الكبرى للبيهقي (7/ 40) (10/ 85)، طبقات ابن سعد: 2/ 107، التلخيص: 3/ 274 ح 1549.
(2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً وزى بغيره" متفق عليه من حديث كعب بن مالك (ر. البخاري: الجهاد، باب من أراد غزوة فوزى بغيرها ح 2947، مسلم، التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك ح 2769، التلخيص: 3/ 275 ح 1550).
(3) حديث "الحرب خدعة" متفق عليه من حديث جابر، ولمسلم أيضاً من حديث أبي هريرة (ر. البخاري: الجهاد، باب الحرب خدعة، ح 3030. مسلم: الجهاد، باب جواز الخداع في الحرب، ح 1739، 1740).

(12/13)


وكان يحرم عليه إذا لبس لأَمَة حربه، حرم عليه نزعها حتى يلقى العدو (1)، وقيل: هو مكروه. وهو بعيد.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا لا آكل متكئاً" (2)، فقيل: إنه حرام. والظاهر أنه لا يحرم؛ لأنه لم يثبت فيه ما يدل على التحريم، واجتنابه عنه واختياره غيره لا يدل على التحريم. ومن هذا اجتنابه أكل الثوم، وما له رائحة كريهة، ففيه هذا الخلاف.
7835 - أما محرمات النكاح، فقد صح أنه حرم عليه التبدل بأزواجه، وقد بيّناه.
وكان يحرم عليه استدامة نكاح امرأة تكره صحبته، لما روي أنه صلى الله عليه وسلم نكح امرأة ذات جمال فلُقِّنَتْ أن تقول له صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بالله منك". وقيل لها: إن هذا الكلام يعجبه. فلما قالت له ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: "لقد استعذت بمعاذ، الحقي بأهلك" (3).
__________
(1) حديث "كان يحرم عليه إذا لبس لأمة حربه، حرم عليه نزعها حتى يلقى العدو" علقه البخاري مختصراً، ووصله أحمد والدارمي، وغيرهما من حديث جابر: "أنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" وفيه قصة. وللحديث طريق أخرى بإسناد حسن عند البيهقي والحاكم من حديث ابن عباس. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ (ر. البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، أحمد: 3/ 351، الدارمي: ح 2159، البيهقي (6/ 304)، (7/ 41)، الحاكم (2/ 129)، (3/ 39)، التلخيص: 3/ 273 ح 1548).
(2) حديث "أنا لا آكل متكئاً" رواه البخاري، وأصحاب السنن عن أبي جحيفة رضي الله عنه (ر. البخاري: الأطعمة، باب الأكل متكئاً، ح 5398، 5399، أبو داود: الأطعمة، باب ما جاء في الاكل متكئاً ح 3769، الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء في كراهية الأكل متكئاً، ح 1830، النسائي في الكبرى: آداب الأكل، باب الأكل متكئاً، ح 6742، ابن ماجه: الأطعمة، باب الأكل متكئاً، ح 3262، التلخيص: 3/ 266 ح 1554).
(3) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم نكح امرأة ذات جمال، فلقِّنت أن تقول له ... " هذا الحديث أصله عند البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد، وعند البخاري من حديث أبي أسيد، وعند البخاري والنسائي وابن ماجه من حديث عائشة، وليس فيه أن المرأة (لُقِّنت)، بل هذه الزيادة قال عنها ابن الصلاح: إنها باطلة. وقد رواها ابن سعد في طبقاته، والحاكم في مستدركه بسند ضعيف. =

(12/14)


وقيل: إن نكاحه الحرة الكتابية كان لا يحرم عليه؛ فإن حل النكاح كان أوسع عليه من أمته. وقيل: كان يحرم عليه؛ لأن الغالب أنها كانت تكره صحبته ديناً، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "زوجاتي في الدنيا، زوجاتي في الآخرة" (1). ولا يحكم بهذا في الكافرة، ولأن قدره العلي لا يقتضي أن يضع ماءه في كافرة.
وكان يحرم عليه نكاح الأمة الكتابية كما يحرم على غيره.
قلت: فلا ينبغي أن تعد من خصائصه.
قال: ويحل للواحد من الأُمّة أن يتزوج الأمة المسلمة إذا عَدِم طَوْلَ حرّة، وخاف العنت، وفي تحريمها عليه صلى الله عليه وسلم وجهان: أحدهما - يحرم: لأن شرط إباحته خوف العنت، وهو الزنا، وقد عُصم صلى الله عليه وسلم. والثاني - يحل له، والشرط يعتبر في حق الأُمّة خاصة. وفي اشتراط عدم الطول وجهان؛ لأن حله أوسع باباً، ولهذا ينكح من غير عدد، فإن لم يعتبر فقدان الطول، جاز أن يتزوج الإماء بغير عدد، وإن اعتبرناه، لم يزد على واحدة، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم
__________
= (ر. البخاري: الطلاق، باب من طلق، وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق، ح 5254، 5255، 5256، 5257. مسلم: الأشربة، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكراً، ح 2007، النسائي: الطلاق، باب مواجهة الرجل المرأة بالطلاق ح 3446. ابن ماجه: الطلاق، باب ما يقع به الطلاق من الكلام، ح 2050، طبقات ابن سعد: 8/ 113 - 116 الحاكم: 4/ 37، مشكل الوسيط لابن الصلاح. بهامش الوسيط: 5/ 13، التلخيص: 3/ 278 ح 1553).
(1) حديث "زوجاتي في الدنيا زوجاتي في الآخرة" قال الحافظ: لم أجده بهذا اللفظ، وفي البخاري عن عمار أنه ذكر عائشة فقال: "إني لأعلم أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة" ا. هـ. وقال ابن الملقن في البدر المنير: هذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه في ترجمة علي رضي الله عنه من رواية ابن أبي أوفى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سألت ربي عز وجل أن لا أُزوج أحدأ من أمتي ولا أتزوج إلا كان معي في الجنة، فأعطاني". وقد ذكر الحافظ حديث الحاكم هذا، وقال إن في الطبراني في الأوسط عن عبد الله بن عمر مثله "وفي ملاقاته لحديث الباب تكلّف" (ر. البخاري: فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها، ح 3772، الحاكم: 3/ 137، البدر المنير: 7/ 457، التلخيص: 3/ 279 ح 1554).

(12/15)


تسرّى بمارية القبطية: أم ولده إبراهيم عليه السلام.
واختلفوا في جواز نكاح الأمة الكتابية، ويقرب من اختلافهم في جواز نكاحه الحرّة الكتابية. ومن نكح من الأُمّة أمة كتابية، فولده منها رقيق، فلو نكح صلى الله عليه وسلم أمة كتابية، فولده منها حرّ؛ إذ يستحيل أن يُسترق جزء منه. وقيل: إن جوزنا استرقاق العرب، ففي ولده صلى الله عليه وسلم وجهان، وهذا لا يحل اعتقاده، فلو تُصُوِّر أن غُرَّ بنكاح أمة، فولده منها حرّ، ولا قيمة (1) عليه؛ لأنه لا يَعْلق رقيقاً مع العلم، فظن الحرية يكون دافعاً للرق.
وسر ما حرم عليه دون أمته تكثير ثوابه في اجتنابه، لأن اجتناب المحرمات كفعل الواجبات، ووقعه أعظم من وقع اجتناب المكروه. قال صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل كان في البيت وقلبه متعلق بالمساجد، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، بحيث لم تعلم يساره ما أنفقت يمينه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين" (2).
7836 - أما التخفيف، فهو ما أبيح له دون غيره، فمنه: الصفيُّ (3) من المغنم، وخمس الخمس، والوصال في الصوم.
وأما في باب النكاح، فإنه كان له أن يزيد على أربع، وقيل: كان يباح له أن يجمع بين تسع نسوة من غير زيادة. وقيل: منكوحاته كالسراري في حق أمته.
__________
(1) أي قيمة المولود باعتباره رقيقاً، فإنّ من غرّ من الأمة فنكح أمة، فولده منها حر؛ لأنّ ظن الحرية بها يدفع الاسترقاق لولده، ولكن عليه قيمة المولود لسيد الأمة، فيقدّر رقيقاً، ويغرم قيمته لسيدها.
(2) حديث "سبعة يظلهم الله ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (ر. البخاري: الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة ح 660، مسلم: الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة، ح 1031).
(3) الصفيّ، ومثله الصفية: ما يصطفيه الرئيس لنفسه من المغنم قبل القسمة، والجمع الصفايا، مثل عطية وعطايا. (مصباح).

(12/16)


وفي انحصار طلاقه [في] (1) الثلاث الخلافُ في انحصار زوجاته.
وكان ينعقد نكاحه بلفظ الهبة. وفي اشتراط لفظ النكاح في حقه خلاف سيأتي.
7837 - وقيل: كان يفتقر نكاحه إلى الولي كغيره، والصحيح أنه لا يفتقر؛ لأنه شرط لحفظ الكفاءة، وطلب الحظ، وذلك مستغنى عنه؛ فإنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وعلى أبيه (2). ولما خطب صلى الله عليه وسلم أم سلمة اعتذرت بمعاذير، وقالت: إني امرأة مُصْبية، غيرَى، وأوليائي غُيّب. فقال صلى الله عليه وسلم: "أما الصبية فسنكفيكهم، وأما الغَيْرة، فأسال الله أن يذهبها، وأما الأولياء، فلم يكن أحد منهم يكرهني إذا حضر" (3).
والأصح أن نكاحه ينعقد بغير شهود؛ لأن الغرض دفع ما يتوقع من الجحود، وذلك مستحيل منه صلى الله عليه وسلم، ولو فُرض من جانبها، لكان تكذيباً له، ومن كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كفر.
وقيل: هذه المسائل تندرج تحت الخلاف في أن نكاحه كالتسرّي في حقنا، فإن جعلناه كذلك، لم يفتقر إلى الولي والشهود، ولم ينحصر العدد، وصح بلفظ الهبة من الجانبين، وفي حالة إحرامه. وإن قلنا: ليس كالتسري، فحكم هذه المسائل على العكس.
وقيل: إن القَسْمَ كان واجباً عليه، ويحمل قوله تعالى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ} [الأحزاب: 51] على إباحة التبدل. وكان يأمر في مرض موته أن يُطاف به على نسائه في بيوتهن (4)، وكان يستبطىء نوبة عائشة ويقول: أين أنا اليوم، أين أنا غداً؛ ففطِن
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) المراد "آدم" المذكور آنفاً، عليه الصلاة والسلام.
(3) حديث أم سلمة لما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم اعتذرت بمعاذير وقالت: "إني امرأة مصبية ... " رواه النسائي، وأحمد، وأصله عند مسلم (ر. مسلم: الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة ح 918، النسائي: النكاح، باب إنكاح الابن أمه، ح 3256، أحمد: 6/ 313، 317، 320، 321).
(4) حديث "أنه كان يأمر في مرض موته أن يطاف به على نسائه في بيوتهن" رواه الحارث بن أبي =

(12/17)


لمراده صلى الله عليه وسلم فحلّلنه، فكان يمرّض في بيت عائشة رضي الله عنها إلى أن قبضه الله، فقالت عائشة: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي، ورأسه بين سَحْري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه (1).
وقيل: ما كان يجب عليه القسم، وإنما فعله تكرّماً. وهذا يخرج على تشبيه زوجاته بالسراري.
ومن خصائصه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رمق امرأة، ووقعت منه موقعاً، وجب على زوجها أن يطلقها، وقصة زينب مشهورة تشهد بذلك، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] فقيل: إنه لم يباشر عليها عقد نكاح، وإنما حلّت له بهذه الكلمة الإلهية. وقيل: إنه عقد عليها. ومعنى قوله سبحانه {زَوَّجْنَاكَهَا} أبحنا لك أن تتزوجها (2).
__________
= أسامة في مسنده بسند رجاله ثقات إلا أنه منقطع. قاله الحافظ في التلخيص: (3/ 289 ح 1562).
(1) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كان يستبطىء نوبة عائشة ويقول: أين أنا اليوم ... " رواه الشيخان (ر. البخاري: فرض الخمس، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ... ح 3100، والمغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ح 4450، والنكاح، باب إذا استأذن الرجل نساءه في أن يمرض في بيت بعضهن فأذن له ح 5217.
مسلم: فضائل الصحابة، باب في فضائل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ح 2443).
(2) هذه الخصيصة، والاستشهاد لها بقصة زينب رضي الله عنها، تقوم على تفسير غير مرضيٍّ لآية سورة الأحزاب: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37]
فقد جاء فيما رواه القرطبي: "ذهب قتادة، وابن زيد، وجماعة من المفسرين -منهم الطبري وغيره- إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد، فيتزوجها هو، ثم إن زيداً لما أخبره بأنه يريد فراقها، ويشكو منها غلظةَ قول وعصيان أمر، وأذى باللسان، وتعظماً بالشرف، قال له: "اتق الله -أي فيما تقول- وأمسك عليك زوجك" وهو يخفي الحرصَ على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه، ولكنه لزم ما يجب من الأمر بالمعروف" ا. هـ ثم أتبع القرطبي ذلك بروايات توضح أو تؤكد أو تشهد لهذا التفسير، منها ما رواه مقاتل، قال: =

(12/18)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= زوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش من زيد، فمكثت عنده حيناً، ثم إنه عليه السلام أتى زيداً يوماً يطلبه، فأبصر زينب قائمة، وكانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها؛ وقال: "سبحان الله مقلّب القلوب"! فسمعت زينب بالتسبيحة، فذكرتها لزيد؛ ففطن زيد؛ ففال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها؛ فإن فيها كبراً، تعظُم عليَّ، وتؤذيني بلسانها، فقال عليه السلام: أمسك عليك زوجك واتق الله" انتهى ما حكاه القرطبي عن مقاتل. وأتبعها بروايات أخرى مثلها، مما قال عنه الألوسي في تفسيره: "وللقصاص في هذا كلامٌ لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول".
أما ابن العربي فبعد أن روى مثل هذا عن المفسرين، قال ثائراً غاضباً فيما سماه تنقيح الأقوال وتصحيح الحال. قال: "قد بينا في غير موضع عصمة الأنبياء صلوات الله عليهم من الذنوب ... وعهدنا إليكم عهداً لن تجدوا له ردّاً أن أحداً لا ينبغي له أن يذكر نبياً إلا بما ذكره الله لا يزيد عليه؛ فإن أخبارهم مروية وأحاديثهم منقولة بزياداتٍ تولاها أحد رجلين: إما غبيٌّ عن مقدارهم، وإما بدْعي لا أرب له في برّهم ووقارهم؛ فيدس تحت المقال المطلق الدواهي، ولا يراعي الأدلَة والنواهي ... فهذا محمد صلى الله عليه وسلم ما عصى قط ربّه في حال الجاهلية ولا بعدها ... فلم يقع قط في ذنب صغير -حاشا لله- ولا كبير، ولا وقع في أمر يتعلّق به لأجله نقصٌ، ولا تعيير ... فهذه الروايات كلها ساقطة". ثم قال بعد ذلك: " ... فأما قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رآها؛ فوقعت في قلبه، فباطلٌ؛ فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذٍ حجاب. فكيف تنشأ معه وينشا معها، ويلحظها في كل ساعة، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج ... حاشا لذلك القلب المطهر من هذه العلاقة الفاسدة". ا. هـ.
هذا ومن المعاصرين الذين قالوا بهذا التفسير الدكتورة بنت الشاطىء - عائشة عبد الرحمن -على علمها وفضلها- فقد جاهرت بهذا التفسير ودافعت عنه بقوة في خبط وتخليط حول تأكيد بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم.
والإمام السيوطي الذي أورد مثل هذا القصص في أسباب النزول، لم يعدّ هذه من الخصائص -على كثرة ما عدّد من الخصائص الكبرى- بل اقتصر في تفسير الآية على ما رواه البيهقي عن علي بن الحسين زين العابدين، وهو التفسير المرضي الذي سنورده بعد سطور.
أما التفسير الصحيح الذي قال عنه القرطبي: "قال علماؤنا -رحمة الله عليهم-: هو أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين والعلماء الراسخين كالقاضي بكر بن العلاء القشيري، والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم"، وهذا التفسير يقوم على أن الذي أخفاه النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه هو علمه بأن زيداً سيفارقها، وأنه صلى الله عليه وسلم سيتزوجها، فقد كان الله قد أوحى إليه بذلك، وليس أنه أخفى حبه لها!!

(12/19)


ومنها أنه أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها (1)، ووقع الاتفاق على أنه كان له في ذلك خاصية، فقيل: هي أنه لزمها الوفاء بالتزوج به، وغيره لو أعتق أمته على أن تتزوج به، لم يلزمها الوفاء وتلزمها قيمتها. وقيل: الخاصية أنه جعل عتقها صداقها مع الجهل بقيمتها، وفي جواز ذلك في حق الأمة خلاف.
ومنها أنه جاز له دخول مكة من غير إحرام، وفي جوازه للأُمّة خلاف.
__________
= "فحاصل العتاب -كما قال الألوسي-: لم قلتَ: أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك، وهو مطابق للتلاوة -أي يتفق مع نظم الآية- لأن الله تعالى أعلم أنه مبدي ما أخفاه عليه الصلاة والسلام، ولم يظهر غير تزويجها منه، فقال سبحانه {زَوَّجْنَاكَهَا} فلو كان المضمر محبتها، وإرادة طلاقها ونحو ذلك، لأظهره الله جل وعلا". انتهى كلام الألوسي.
أما ما كان يخشاه صلى الله عليه وسلم من الناس، فهو أن يرجف المنافقون بأنه نهى عن تزوّج نساء الأبناء، وتزوجّ بزوجة ابنه.
ويبقى بعد ذلك إشكال، وهو كيف يقول صلى الله عليه وسلم لزيد: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وقد أعلمه الله أنه مفارقها، وأنه سيتزوجها؟ وقد أجاب عن ذلك ابن العربي بقوله: "فإن قيل: كيف يأمره بالتمسك بها، وقد علم أن الفراق لا بدّ منه، وهذا تناقض؟ قلنا: بل هو صحيح للمقاصد الصحيحة، لإقامة الحجة، ومعرفة العاقبة. ألا ترى أن الله يأمر العبد بالإيمان، وقد علم أنه لا يؤمن، فليس في مخالفة متعلق الأمر لمتعلق العلم ما يمنع من الأمر به عقلاً وحكماً، هذا من نفيس العلم، فتيقنوه وتقبلوه" هذا ما قاله ابن العربي في (أحكام القرآن) ونقله عنه القرطبي في تفسيره.
وأخيراً نقول: لعل إمام الحرمين كان أول من قال بهذه الخصيصة من خصائصه صلى الله عليه وسلم، فإن ابن العربي وهو يعدد خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم ذكر هذه الخصيصة، ثم قال: "هكذا قال إمام الحرمين، ثم أشار إلى ما سبق من ردّه لذلك، وتبع الغزالي إمامه في ذلك. (راجع في هذه القضية: أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1541 - 1544، 1563) و (تفسير القرطبي: 14/ 188 - 192) و (تفسير الألوسي: 22/ 24 - 26) و (تفسير الماوردي: 326 - 328) و (الخصائص الكبرى للسيوطي: 2/ 246) و (الوسيط للغزالي: 5/ 17).
(1) حديث "أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" متفق عليه من حديث أنس (ر. البخاري: النكاح، باب من جعل عتق الأمة صداقها، ح 5086، مسلم: النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها، ح 1365، التلخيص: 3/ 281).

(12/20)


ومنها أنه لا يورث. قال صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" (1)، فكان ما خلفه على ما كان عليه في حياته وكان الصدّيق رضي الله عنه ينفق منه على أهله وخدمه، ويراه باقياً على ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ الأنبياء أحياء، وهذا هو الصحيح الموافق لسيرة الصديق.
وقيل: كان سبيله سبيل الصدقة، قال صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه فهو صدقة".
وقيل: كان إذا أمَّن كافراً لا يلزمه الوفاء بأمانه، وكان يجوز له قتله. وهذا مما أُجمع على تخطئة صاحب التلخيص (2) فيه. وكيف يليق بمنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخالف قولَه، ويخفر ذمته، ولو جاز، لكان فيه حط مرتبته، وتتبير (3) أمره، وعدم حصول الثقة به، ومن حرمت عليه خائنة الأعين كيف يجوز له أن يخفر ذمته؟
ومنها أنه كان يجوز له أن يلعن من شاء من غير سبب يوجبه؛ لأنه كانت لعنته رحمة. وهو غلط باتفاق الأئمة.
ومن هذا القبيل أنه كان يجوز له أن يدخل المسجد جنباً. وهذا هَوَسٌ لا مستند له.
ومن خصائصه شهادة خزيمة له، وإجازتها، وإقامتها مقام شهادة شاهدين عدلين، وفي هذا اضطراب؛ فإنه لم يصح ردّ شهادته في حقّ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى شهادته؛ لأنه معصوم عن الحلف، ومن كذّبه كفر.
__________
(1) حديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" متفق عليه من حديث أبي بكر رضي الله عنه بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة" (ر. البخاري: فرض الخمس، ح 3093، مسلم: الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا نورث ما تركنا فهو صدقة، ح 1759، التلخيص: 3/ 214).
(2) ر. التلخيص: 479.
(3) كذا في الأصل، وهي بدون نقط. والمعنى: هلاك أمره وفساده. ويلوح لي أنها مصحفة عن: "وتثبيج أمره"؛ فإن التثبيج هو الاختلاط والاضطراب والتعمية. وهو الأكثر مناسبة للسياق.

(12/21)


ومنها أنه أبيح له الوصال في الصوم، وكان حراماً على غيره، وقيل مكروهاً.
فصل
في أحكام نسائه
7838 - فنقول: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تسع، وكان يقسم لثمان، وهنّ: عائشة بنة الصديق، وحفصة بنة الفاروق، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وميمونة بنت الحارث خالة ابن عباس، وصفية بنت حيي بن أخطب، وجويرية بنت الحارث، وسودة بنت زمعة، وزينب بنت جحش، وهي التي كانت امرأة زيد. فهنّ اللواتي مات عنهن صلى الله عليه وسلم، وهنّ أمهات المؤمنين، محرمات على الأبد على غيره.
ولو فارق امرأة في حياته هل كان يحل لغيره نكاحها؟ قيل: لا يحل كالتي مات عنها، وقيل: كانت تحل؛ لأن النكاح لم ينته نهايته، وقيل: إن كان صلى الله عليه وسلم دخل بها، لم تحل لغيره، وإن لم يكن دخل بها حلّت لغيره. ولهذا روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه، فرفعت قصته إليه، فحبسه وهمّ برجمه، فذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان دخل بها، فكفّ عنه وتركها في حِباله (1).
ولا خلاف أن اللاتي خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو اختارت واحدة منهن الدنيا، لحلّ لها أن تتزوج؛ لأنها لو منعت ما تمكنت من غرضها من الدنيا.
__________
(1) أثر "أن الأشعث نكح المستعيذة في زمن عمر فحبسه وهمّ برجمه ... " قال الحافظ: هذا الحديث تبع [الرافعيُّ] في إيراده هكذا الماوردي، والغزالي، وإمام الحرمين، والقاضي حسين، ولا أصل له في كتب الحديث. نعم روى أبو نعيم في المعرفة عن الشعبي مرسلاً وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس موصولاً وصححه ابن خزيمة والضياء من طريقه في المختارة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق قُتيْلة بنت قيس أخت الأشعث، طلقها قبل الدخول، فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، فشق ذلك على أبي بكر فقال له عمر: يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه، لم يحزها النبي صلى الله عليه وسلم وقد برأها الله منه بالردة" ا. هـ ملخصاً (ر. التلخيص: 3/ 292 ح 1565).

(12/22)


وليس المراد بكونهن أمهات المؤمنين أنه يجوز لهنّ التكشف لهم، كتكشف الأم لأولادها، بل المراد به التشبه بالأمهات في التحريم.
7839 - وبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشبهن أخوات المؤمنين؛ لأنه لو كان كذلك، لحرمن كما حرم زوجاته، لكن يقال: هن بنات أمهات المؤمنين. ومن ذلك لا يقال: معاوية خال المؤمنين، بل نقتصر على ما جاء التوقيف به ولا نتعداه.
قال المزني رحمه الله: "إنّ الله تعالى لما خص به رسوله صلى الله عليه وسلم، وميز بينه وبين خلقه لما فرض عليهم من طاعته، افترض عليه أشياء خففها عن خلقه ليزيده بها إن شاء الله قربة إليه" (1).
والقراءة المشهورة (لِمَا) مخففة مكسورة اللام؛ ليكون بمعنى التعليل.
وفي الكلام خلل من وجوه، ينقدح في بعضها الذب (2) والتأويل، ولا يتجه في بعضها جواب، فمن وجوه الخلل أنه قال: "إنّ الله تعالى لما خصّ به رسوله من وحيه، وأبان (3) بينه وبين خلقه بما فرض عليهم من طاعته، افترض عليه أشياء" (4)، فجعل تخصيصه بما افترض عليه معللاً بما خُص به من الوحي، وفُرِض على الخلق من طاعته، فهذا [كلام] (5) مضطرب، نبيّن ما فيه من الخلل. قلنا: لفظ الشافعي على ما نقل المعتمدون عنه، قال رضي الله عنه: "إن الله تعالى لما خصّ به رسوله فأبان من فضله بالمباينة بينه وبين خلقه، افترض عليهم طاعته" (6) فجعل افتراض طاعته منوطاً
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 254 والكلام هنا بمعناه، وسيأتي قريباً بنصّه.
(2) كذا. والمعنى: يمكن في بعضها الدفع للخلل وتأويله.
(3) أبان: من المباينة والمخالفة.
(4) هذه عبارة المختصر بنصها.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) ر. الأم: 5/ 124 مع اختلاف يسير في اللفظ، فعبارة الأم: "إن الله تعالى لما خص به رسوله من وحيه، وأبان من فضله من المباينة بينه وبين خلقه بالفرض على خلقه بطاعته في غير آية من كتابه". [وذكر الآيات] ثم قال: "افترض الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم أشياء خففها عن خلقه، ليزيده بها -إن شاء الله- قربة إليه وكرامة، وأباح له أشياء حظرها على خلقه زيادة في كرامته، وتبيناً لفضيلته، مع ما لا يحصى من كرامته".

(12/23)


برسالته. ثم استأنف فقال: "وافترض عليه أشياء خففها عن خلقه". فإن تكلّف متكلّف وعلّل ما خص به بعلو منصبه [بما] (1) خص به من الوحي وافتراض الطاعة، أمكن تقريب القول فيه، لكن الأوجه ما ذكره الشافعي.
وقوله (2): "وأبان بينه وبين خلقه" غلط في اللغة والعربية لا يخفى دركه على الشادي (3)؛ فإن العرب لا تقول: أبنت بين فلان وبين فلان، بل تقول: أبنت الشيء عن الشيء، بمعنى القطع. وأبنت الشيء إذا أظهرته، وباينت بين فلان وفلان. ولفظ الشافعي "وأبان من فضله بالمباينة بينه وبين خلقه". وقوله "ليزيده بها قربة إن شاء الله" لا يرجع الاستثناء (4) فيه إلى نفس القربة، بل إلى جهتها؛ لأنه لا شك في حصول القربة له لما خصه به.
...
__________
(1) في الأصل: "فيما" والمثبت تصرف من المحقق اقتضاه السياق.
(2) وقوله: أي المزني.
(3) الشادي: أي المبتدىء.
(4) الاستثناء: أي قول الشافعي: "إن شاء الله".

(12/24)


باب ما جاء من الترغيب في النكاح
7840 - والنكاح على الجملة مرغوب فيه، والأصل فيه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وقوله سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] فوعد به الغنى، وكان الحسن بن علي منكاحاً مطلاقاً، فقيل له في ذلك، فقال: إنّ الله وعد الغِنى عليهما، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] فأنا أطلب الغنى بهما (1).
والأخبار في الترغيب فيه كثيرة، قال صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا، تكثروا". وقال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء" (2) و"من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه، فليتق الله في الثلث الباقي" (3) فقيل: المراد به أكل الحلال. وقال صلى الله عليه وسلم لعَكاف بن وَدَاعَة الهلالي: "أتزوجت؟ " فقال: لا، فقال: "إنك إذاً من إخوان الشياطين، أو من
__________
(1) أثر الحسن رضي الله عنه "إن الله وعد الغنى عليهما" لم نقف عليه.
(2) حديث "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ... " متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه (ر. البخاري: الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة، ح 1905، مسلم: النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة، ح 1400).
(3) حديث "من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه ... " قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: "لم نجد له ثبوتاً" ا. هـ. وقريب منه ما رواه الطبراني في الأوسط، والحاكم (واللفظ له) عن أنس مرفوعاً (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه، فليتق الله في الشطر الثاني) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وحسنه الألباني في سلسلة الصحيحة. (ر. المعجم الأوسط للطبراني: 7643، 8789، مستدرك الحاكم: 2/ 161، مشكل الوسيط لابن الصلاح - بهامش الوسيط: 5/ 24، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 2/ 160 ح 625).

(12/25)


رهبان النصارى، فإن كنت من رهبان النصارى، فالحق بهم، وإن كنت منا، فمن سنتنا النكاح" (1).
وقال عمر لأبي الزوائد: "أتزوجت؟ فقال: لا، فقال: لا يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور" (2).
ولما احتضر معاذ قال: "زوجوني، زوجوني؛ لا ألقى الله عزباً" (3).
وفي القرآن الثناء على المتعفف القاعد عن النكاح، قال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور: 60] وقال في صفة يحيى بن زكريا: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] فسّره بعض أهل اللغة بالذي لا يقدر على إتيان النساء، وفسره الشافعي بالذي لا يأتي النساء مع القدرة؛ لأنه ذكر في سياق المدح والإطراء، ولا يستحق المدح عاجزٌ.
ونظر الشافعي في الأخبار المرغّبة في النكاح، وما يعارضها من الحث على التخلي لعبادة الله تعالى، فسلك طريقاً وسطاً، فقال: من تاقت نفسه إليه، ووجد أهبته، فالمستحب له أن ينكح، ومن لم تتق نفسه إليه، فالأولى أن يتخلى للعبادة. ومن تاقت نفسه إليه ولم يقدر على أهبته، فالأولى له أن لا يتزوج؛ لأنه لو تزوج، لوقع
__________
(1) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم قال لعكاف بن وداعة "تزوجت ... " رواه أبو يعلى في مسنده والطبراني في مسند الشاميين من حديث عطية بن بُسر؛ قال في مجمع الزوائد "فيه معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف". والحديث أورده العقيلي في الضعفاء الكبير، وابن حبان في المجروحين، وابن الأثير في أسد الغابة، وأخرجه أحمد في مسنده من غير طريق أبي يعلى، ورواه ابن شاهين عن ابن عمر. قال الحافظ في الإصابة: والطرق كلها لا تخلو من ضعف واضطراب (ر. مسند أبي يعلى: 12/ 260، ح 6856، المجروحين لابن حبان: 3/ 43، الضعفاء الكبير للعقيلي 3/ 356، مسند أحمد: 5/ 163 - 164، أسد الغابة: 4/ 43، 68، 69، الإصابة: 7/ 34 - 35، مجمع الزوائد: 4/ 250).
(2) أثر عمر أنه قال لأبي الزوائد: "أتزوجت ... " قال ابن الصلاح: "رواه الشافعي في القديم بإسناده" ولم يتكلم على الإسناد، والحديث رواه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق، وسعيد بن منصور عن طاووس (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح - بهامش الوسيط: 5/ 25، مصنف ابن أبي شيبة: ح 15910، مصنف عبد الرزاق: ح 10384، وسنن سعيد بن منصور: ح 491).
(3) أثر معاذ "زوجوني، زوجوني ... " رواه ابن أبي شيبة في مصنفه (3/ 453 ح 15909).

(12/26)


في شغل شاغل عن العبادة. ثم يشتغل بما يكسر توقان نفسه وهو الصوم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء".
والمعنى فيه أن النكاح ليس من القربات، وتحصيل النسل به مظنون، وفي الحال يشتغل بالمُلهي عن عبادة الله تعالى بتوقع أمر لا يتحقق وجوده، ولو وُجد، فلا يدري أصالح أم طالح؟ والمعتبر ليس [إلا] (1) توقان النفس والحذار من الوقوع في المخازي الموبقات، فإن أمكن ذلك، فليأخذ المرء حذره (2)، وإن لم يمكن، فالوجه الاعتصام بالله، وكسر قوى النفس بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا معصوم إلا من عصمه الله، وكم من ناكح يفجُر، ومن عَزْبٍ يتقي.
فإن تزوج ولا أهبة له، فقد يجر ذلك خللاً في فى ينه.
7841 - وينبغي أن يقصد ذات الدين، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليك بذات الدين تربت يداك" (3).
ويطلب الحسيبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وخضراء الدِّمن، قيل: وما خضراء الدمن، قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء" (4) وقال صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم، لا تضعوها في غير الأكفاء" (5).
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، كما يفهم من كلام الشافعي المذكور أنفاً.
(2) أي إن أمكنه الأهبة، فليأخذ حذره ويتزوج.
(3) حديث "عليك بذات الدين تربت يداك" رواه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه، ولمسلم أيضاً، والبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ "فاظفر بذات ... ".
(ر. البخاري: النكاح، باب الأكفاء في الدين، ح 5090، مسلم: الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين ح 715، 1466).
(4) حديث "إياكم وخضراء الدمن ... " رواه عن أبي سعيد الخدري الرامهرمزي، والعسكري في الأمثال، وابن عدي في الكامل، والقضاعي في مسند الشهاب، والخطيب في إيضاح الملتبس كلهم من طريق الواقدي، قال الدارقطني: لا يصح من وجه. اهـ. (ر. أمثال الحديث للرامهرمزي: ص 188 ح 84، مسند الشاب: 2/ 96 ح 957، التلخيص: 3/ 303 ح 1580).
(5) حديث "تخيروا لنطفكم ... " رواه ابن ماجه، والدارقطني، والحاكم عن عائشة بلفظ: "تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكِحوا إليهم" والحديث صححه الألباني في سلسلة =

(12/27)


ويقصد البكر، لما روي أن جابراً تزوج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " تزوجت"؟ فقال: نعم. فقال: بكراً أم ثيباً؟ فقال: ثيباً. فقال صلى الله عليه وسلم: "فهلا بكراً تلاعبها وتلاعبك؟ "فقال: إنّ أبي قتل، وخلف بنات صغاراً، ولم أرد أن أدخل عليهن خرقاء مثلهن (1).
وصح الندب إلى نكاح الولود، لما روي عن معقل بن يسار أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني وجدت امرأة ذات منصب وجمال غير أنها لا تلد، أفأنكحها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا تنكح إلا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم" (2).
ويستحب ألا ينكح القرابة القريبة، فإن الولد يخلق ضاوياً، يعني ضئيلاً محمَّقاً هزيلاً. قال صلى الله عليه وسلم: "أغربوا ولا تضووا" (3).
__________
= الصحيحة (ر. ابن ماجه: النكاح، باب الأكفاء ح 1968، الدارقطني: 3/ 299، الحاكم: 2/ 163، سلسلة الأحاديث الصحيحة: 3/ 56 ح 1067).
(1) حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "هلا بكراً تلاعبها ... " متفق عليه (ر. البخاري: المغازي، باب 18، ح 4052 وأطرافه كثيرة، مسلم: الرضاع، باب استحباب نكاح ذات الدين، وباب استحباب نكاح البكر، ح 715).
(2) حديث معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح إلا الولود الودود ... " رواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (ر. أبو داود: النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، ح 2050، النسائي: النكاح، باب كراهية تزويج العقيم، ح 3229، ابن حبان: ح 4056، 4057، الحاكم: 2/ 162، البدر المنير: 7/ 495).
(3) حديث "أغربوا ولا تضووا" قال ابن الملقن: لم أر في الباب في كتاب حديثي ما يستأنس به إلا ما وجدتُ في غريب الحديث لأبراهيم الحربي من حديث عبد الله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة قال: قال عمر لآل السائب: "قد أضويتم، فانكحوا في النوابغ". قال الحربي: المعنى تزوجوا الغرائب قال: ويقال: "اغتربوا، لا تضووا". (ر. البدر المنير: 7/ 500).

(12/28)


فصل
7842 - لا يحل للرجل أن ينظر من الرجل إلى ما هو عورة، ولا يحل مسّ ذلك، ولا الإفضاء إليه من غير حائل.
ويحل أن ينظر إلى غير العورة إذا أمن منه الفتنة.
فأما الأمرد إذا خيف من ترديد النظر إليه الفتنة، فإن كان لشهوة، فهو حرام اتفاقاً، وإن لم يقصد قضاء وطر شهوة. وإن لم يمكن فتنة، فلا بأس، وإن أمكنت فتنة وظهر إمكانها، قال صاحب التقريب: لا يحرم. وقال طوائف: يحرم، لاجتناب الفتنة، ووجه نفيه (1) أن الأمرد الوضيء محل الفتنة، ولا يُمنع من الدخول بين الناس على أحسن بزّة وهيئة، والغالب من الشباب الافتتان، ثم لم يُضرب على المرد الحجاب، فالوجه نفي تحريم النظر، والأمر بالتقوى، وقد روي أن قوماً وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم غلام حسن الوجه، فأجلسه من ورائه، وقال: "إني أخشى على نفسي مثل ما أصاب أخي داود" (2)، وهذه القصة تستحث على الورع، ولا تقتضي التحريم؛ لأن ذلك الصبي كان بمرأى من الحاضرين الناظرين، ولم ينههم عن النظر.
ويكره تضاجع الرجلين في ثوب واحد، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوبٍ واحد" (3) والحديث صحيح أخرجه مسلم.
7843 - فأما نظر المرأة إلى المرأة، فقد ذكرنا أنه يجب على المرأة ستر جميع بدنها
__________
(1) أي نفي صاحب التقريب للتحريم.
(2) خبر الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم غلام حسن الوجه. قال ابن الصلاح: ضعيف غير صحيح. قال الحافظ: رواه ابن شاهين في الأفراد عن الشعبي، وذكره ابن القطان في أحكام النظر وضعفه (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح ج 2 ورقة 75/أ، التلخيص: 3/ 308 ح 1587).
(3) حديث "لا يفضي الرجل إلى الرجل ... " أخرجه مسلم -كما قال الامام- من حديث أبي سعيد (الحيض، باب تحريم النظر إلى العورات، ح 338)

(12/29)


إلا الوجه والكفين لأجل الصلاة، فجملة بدنها إلا ما استثني لأجل الصلاة بمثابة ما بين سرّة الرجل وركبته. وقيل: لا تنظر المرأة من المرأة إلا ما ينظر الرجل من محارمه.
ولم يَصِر أحد من أصحابنا إلى قصر النظر من المرأة إلى المرأة على الوجه والكفين.
وذهب المحققون إلى أن المرأة من المرأة كالرجل من الرجل في كل قسم، إلا ما يجب ستره في الصلاة؛ فإن ما يجب على الرجل ستره في الصلاة يجب في غير الصلاة، حتى في الخلوة عند طائفة من الأئمة.
وما يجب على الحرة ستره في الصلاة لا يجب عليها ستره في غير الصلاة، إلا ما بين السرة والركبة.
والذّميّة فيما تنظر من المسلمة كالمسلمة، إلا أنه يستحب البعد منها، وقيل: إنها لا تنظر من المسلمة إلا ما ينظره الرجل الأجنبي منها، لقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النور: 31] فخصّ نساء المسلمين بذلك.
7844 - أما نظر الرجل إلى المرأة التي تحل له، فجائز إلى جميع بدنها، وما وراء إزارها، وإلى الفرج على المذهب الصحيح، لأنه يباح له الاستمتاع به، وهو زائد على النظر، وأما الخبر (1)، ففيه ضعف، ويُحمل إن صحّ على الكراهية؛ لأن خبر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يوجد (2) خلافه. وقيل: يباح النظر إلى ظاهره دون باطنه، ولا معنى فيه، وقد روي أن ابن عمر رضي الله عنهما قال لجاريته: "تجردي، وأقبلي وأدبري ولك ألف درهم" (3).
ولا يحرم نظر الرجل إلى فرج نفسه، لكنه يكره من غير حاجة.
__________
(1) لعله يشير إلى الخبر المروي في النهي عن النظر إلى الفرج، وهو ما روي عن ابن عباس مرفوعاً "إذا جامع الرجل زوجته فلا ينظر إلى فرجها، فإن ذلك يورث العشا" رواه ابن حبان في الضعفاء، وابن عدي في الكامل، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات (ر. المجروحين لابن حبان: 1/ 202، الكامل لابن عدي: 2/ 507، الموضوعات لابن الجوزي: 2/ 271، التلخيص: 3/ 309 ح 1589).
(2) كذا. ولعلها: لا يجوز خلافه، فسبق قلم الناسخ.
(3) أثر ابن عمر رضي الله عنه لم نصل إليه.

(12/30)


7845 - وإن كانت المرأة لا تحل له، فإن كانت محرماً له بقرابة، أو رضاع، أو صهر، فله أن ينظر منها إلى ما يظهر عند المهنة، كالساق، والساعد، والعنق، والرأس، والوجه، ولا يحل له ما بين السرة والركبة. وفيما فوق السرة وتحت الركبة وجهان. وفي الثدي في زمن الرضاع طريقان، منهم من ألحقها (1) بمحل الوجهين، ومنهم من ألحقها بما يظهر عند المهنة في هذا الزمان، فما هو عورة من الرجل يجب أن يكون مستوراً [منها] (2) أبداً، وعليها وراء ذلك رعاية [هيئة، وأخذ ريبة] (3) وإذا لابست الصلاة، راعينا نهايته، ولا تكلف ذلك في تصرفاتها، فيشق عليها.
أما الأجنبية فلا يحل للأجنبي أن ينظر منها إلى غير الوجه والكفين من غير حاجة.
والنظر إلى الوجه والكفين يحرم عند خوف الفتنة إجماعاً، فإن لم يظهر خوف الفتنة، فالجمهور يردعون التحريم، لقوله تعالى: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال أكثر المفسرين: الوجه والكفان، لأن المعتبر الإفضاء في الصلاة، ولا يلزمهن ستره، فيلحق بما يظهر من الرجال.
وذهب العراقيون وغيرهم إلى تحريمه من غير حاجة. قال (4): وهو قوي عندي، مع اتفاق المسلمين على منع النساء من التبرج والسفور وترك التنقب (5)، ولو جاز النظر إلى وجوههنّ لكُنَّ كالمُرد (6)، ولأنهنّ حبائل الشيطان، واللائق بمحاسن الشريعة حسم الباب وترك تفصيل الأحوال (7)، كتحريم الخلوة تعمّ
__________
(1) ألحقها: أي المواضع والأجزاء.
(2) في الأصل: "عنها" والمثبت من المحقق رعاية للسياق.
(3) كذا قرأنا بصعوبة. والله أعلم بالصواب.
(4) "قال" أي إمام الحرمين.
(5) أي منعهن من ترك التنقب.
(6) هذا من التدليل على تحريم النظر إلى الوجه والكفين؛ إذ إباحة ذلك تسوِّي بين النساء والمُرْد، وهو غير جائز عقلاً.
(7) نقل هذا الرافعي عن إمام الحرمين، فقال: "اختار الشيخ أبو محمد والإمام التحريم، ووجّهه باتفاق المسلمين على منع النساء من أن يخرجن سافرات، ولو حل النظر، لنزلن منزلة المُرد، وبأن النظر إليهن مظنة الفتنة، وهن محل الشهوة، فاللائق بمحاسن الشرع حسم =

(12/31)


الأشخاص، والأحوال إذا لم تكن محرميّة. وهو حسن (1).
والمباح من الكف من البراجم إلى المعصم، ولا يختص بالراحة، وغلط من خصّ التحليل بالراحة دون ظهر الكف، وفي جواز ظهور أخمص قدمي المرأة الحرة وجهان في الصلاة، وقيل: هو في جواز كشفه والنظر إليه في غير الصلاة على الخلاف، والصحيح تحريم النظر إليه. ولا يجري ذلك الخلاف في ظهر القدم أصلاً، بخلاف ظهر الكف. وسئل أبو عبد الله [الخِضْري] (2) عن الأجنبي ينظر إلى قلامة ظفر المرأة، فأطرق طويلاً، فقالت زوجته -وكانت ابنة أبي علي الشَّنوي (3) -: لمَ تفكر؟ وقد
__________
= الباب، والإعراض عن تفاصيل الأحوال، كالخلوة بالأجنبية" (الشرح الكبير: 7/ 472).
(1) الذي يستحسن هو ابن أبي عصرون.
(2) في الأصل (الحصري)، ولما لم نجد من هو حصري يتفق تاريخه مع هذه الواقعة غلب على ظننا أنه (الخضري)، وصدق الواقع هذا الظن، فقد ذكر السبكي في ترجمة الخضري أنه زوج ابنة أبي علي الشنوي. والخضري سبقت ترجمته.
(3) كذا في الأصل (الشنوي). ولم نصل إلى أي ترجمة له على طول بحثنا، فلم يترجم له السبكي، ولم يزد على ما ذكره من صلة المصاهرة بينه وبين الخضري. وقد أحال محققا الطبقات، العلامة محمود الطناحي، والعلامة عبد الفتاح الحلو -رحمهما الله وأجزل ثوابهما- إلى اللباب، ولم نجد في اللباب إلا الضبط للفظ الشنوي، وذكر صاحب اللباب أكثر من شنوي ليس من بينهم صاحبنا، فكأنهما -رحمهما الله- أحالا إلى اللباب للضبط فقط.
ولما أعيانا البحث عن الشنوي، ولم نجد له ذكراً، لم نقنع بهذه النتيجة، ولم يقبل عقلنا أن مثل أبي علي الشنوي تتواطأ كتب التراجم والطبقات والرجال كلها على إهماله، فأخذنا نبحث في ترجمات صهره الخضري، وكان أن فتح الله لنا باباً، فوجدنا ابن خلكان في ترجمة الخضري يذكر القصة، ويسميه: أبا علي (الشبوي) [بالباء الموحدة].
وهكذا يصنع التصحيف والتحريف، فلو لم تصحف الكلمة (الشنوي) في طبقات السبكي لما جرّت كل هذا العناء. والله أعلم كم توارد على هذا التصحيف الذي رأيناه في مخطوطتنا المكتوبة سنة 570 هـ. والله أعلم بما كان في مخطوطات طبقات السبكي. والأعجب من هذا أن الكلمة صحفت عند الصفدي في الوافي إلى أبي علي التستري!
والشَّبُّوْي هو الشيخ الثقة الفاضل أبو علي محمود بن عمر بن شَبُّوْيَه الشَّبُّوِي المروزي، سمع صحيح البخاري من الفربري، وحدّث به بمرو. وهذه النسبة إلى شبُّويه، وهو اسم بعض أجداده، وهناك خلاف في ضبط نسبته، فابن خلكان ضبطها بفتح الشين المعجمة، وتشديد الباء الموحدة وضمها، وسكون الواو، وكذا السمعاني في الأنساب، أما ابن ناصر =

(12/32)


سمعت أبي يقول في جوابها: إن كانت قلامة أظفار اليد، جاز، وإن كانت قلامة أظفار الرجل لم يجز؛ لأن كفها ليس بعورة، بخلاف ظهر القدم، ففرح الخضري، وقال: لو لم أستفد من اتصالي بأهل العلم إلا هذه المسألة، لكانت كافية (1).
وقد قطع الأصحاب بتحريم النظر إلى العضو المبان من الأجنبية، كتحريم النظر إليها ميتة.
ونصّ الشافعي على تحريم النظر إلى شعر الأجنبية إذا وصلته الزوجة بشعرها.
والنظر إلى شعر الأمة من رأسها متصلاً ومنفصلاً جائز، فلو اختلط شعر حرة بشعر أمة ولم يتميز، فلا يليق بدأب (2) الفقه منع النظر إليه؛ لأن تحريم المناظر يبتني على تميز المنظور من غيره، وكذلك حكم جلده يسقط ويشكل. وهذا مقتضى الرأي
__________
= الدين في توضيح المشتبه فقال: بفتح أوله، وضم الموحدة المشددة، وكسر الواو، تليها ياء النسب، كذا قاله الجمهور، وقيل بسكون الواو، بعدها مثناتان تحت الأولى مكسورة والثانية ياء النسب. ا. هـ وبهذه الأخيرة ضبط ابن الأثير في اللباب (الشَّبُّوْيِيّ).
وقد أفادنا العلامة المحقق المحدث الشيخ عبد الرحمن المعلمي في حاشيته على الإكمال بتفسيرٍ لسبب اختلاف الضبط في النسبة لمثل هذا العلم المختوم بويه، فنذكره لفائدته - على طوله، قال: للعلم المختوم بويه طريقان، الأولى: ما جرى عليه أهل الحديث، وهو: ضم ما قبل الواو، وإسكانها، وفتح التحتانية. والثانية: ما عليه أهل العربية، وهو: فتح ما قبل الواو، والواو أيضاً، وسكون التحتانية، والنسبة إليه على هذا الأخير تكون بإبقاء ما قبل الواو مفتوحاً، وكسر الواو، تليها ياء النسبة وتسقط الياء التي كانت في المنسوب إليه. فأما على ما جرى عليه أهل الحديث فالوجه أن يكون كذلك أيضاً إلا أنّ ما قبل الواو يبقى مضموماً، وهذا هو الذي نسبه صاحب التوضيح إلى الجمهور".
ر. الإكمال لابن ماكولا: 5/ 108، الأنساب للسمعاني، اللباب لابن الأثر الجزري، وفيات الأعيان: 4/ 215، 216، سير أعلام النبلاء: 16/ 423، تاريخ الإسلام للذهبي: 8/ 497، طبقات السبكي: 3/ 100، الوافي بالوفيات: 2/ 72، توضيح المشتبه: 5/ 219).
(1) عقب ابن خلكان على هذه القصة فقال: "هذا التفصيل بين اليدين والرجلين فيه نظر، فإن أصحابنا قالوا: اليدان ليستا بعورة في الصلاة، أما بالنسبة إلى نظر الأجنبي فما نعرف بينهما فرقاً، فلينظر" (وفيات الأعيان: 4/ 215).
(2) كذا.

(12/33)


الكلي، ولأن أئمة الورع كانوا لا يغضون الطرف عن الشعور الملقاة في الطرقات، مع جواز كونه شعر من لا تحل رؤية شعرها لما ذكرناه.
ومن أصحابنا من فرّق بين الحرة والأمة، وجوّز أن ينظر من مملوكة غيره ما ينظر الرجل من محارمه، لما روي أن عمر رأى أمة مقنعة، فعلاها بالدرة، وقال: "يا لكعاء تتشبهين بالحرائر" (1) وهذا قد يتجه بأن حكم العورة في الحرائر أضيق منه في الإماء، ولهذا [افترقا] (2) فيما يجب ستره في الصلاة، فما لا يجب على الأمة ستره في الصلاة فهو منها بمثابة الوجه من الحرّة، لكنا بينا أن الظاهر أنه لا يحل النظر إلى وجوه الحرائر، وأولى الأعضاء بمنع النظر إليه الوجه، ومملوكته التي لا تحل له كأخته من الرضاع والنسب، والمجوسية والوثنية والمرتدة والمعتدة والمكاتبة والمزوجة كأمة غيره.
7846 - أما نظر المرأة إلى الرجل، فإن كان زوجها أو مالكها، فهو كنظر الزوج والمالك إلى زوجته ومملوكته، وفي فرجه ما قدمناه في فرجها.
وأما نظر الأجنبية إلى الأجنبي، فقيل: هو بمثابة نظر الرجل إلى المرأة، وقيل: لا يحل أن تنظر منه إلا الوجه والكفين، وقيل: إلى ما يظهر منه عند المهنة، وقيل: إلى ما فوق السرة وتحت الركبة، وهو القياس المحقق. وروي أن عبد الله بن أم مكتوم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة وحفصة، فقال: لمَ لمْ تحتجبا عنه، فقالتا: إنه أعمى. فقال صلى الله عليه وسلم: "أفعمياوان أنتما" (3).
__________
(1) أثر عمر رضي الله عنه رواه البيهقي في سننه الكبرى، وفيه قصة ليس فيها قول عمر "يا لكعاء تتشبهين بالحرائر" (ر. السنن الكبرى: 2/ 226، 227).
ولكعاء: بفتح اللام، وإسكان الكاف، وبالمد، قال الأزهري: هي الحمقاء، وقال أبو عبيد: اللكع عند العرب: العبد أو الأمة. (تهذيب الأسماء واللغات: 3/ 129).
(2) في الأصل حرفت؛ فرسمت هكذا "افرض".
(3) حديث "أفعمياوان أنتما ... " رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان من حديث أم سلمة، وأنّ القصة كانت معها، وميمونة.
هذا وقد تعقب سراج الدين ابن الملقن إمام الحرمين بأنَّ جعْلَ القصة لعائشة وحفصة لا يعرف. لكن تعقب الحافظ ابن حجر شيخه ابن الملقن وقال إنه وَجد في الغيلانيات من =

(12/34)


7847 - مسائل مفردة: إذا كان للمرأة عبد مملوك، فقد قيل هو محرم لها، لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور: 31]، وقيل: لا؛ لأن النفوس تتقاضى أربابها بالكف عن المحارم، فصار الإطباق عليه مانعاً من التهم، ولسنا نرى ذلك بين السيدة وعبدها، والآية محمولة على الإماء، وفيه نوع استكراه، واحتماله أهون من خلوة العبد بسيدته، ولا يحمل قوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَال} [النور: 31] على المخانيث المتشبهين بالنساء، بل حكمهم حكم الرجال.
وحكم العنِّين حكم المقتدر على الوطء. والشيخ الهِمّ بمثابة الشباب.
[وأما] (1) الخصيُّ الممسوح، فالأكثرون [نزَّلوه] (2) من الأجنبيات بمنزلة الرجل المَحْرَم، وقيل: هو كالفحل؛ لأنه يحل له نكاح التي ينظر إليها، ولو التحق بالمحارم، لسُدَّ عليه بابُ نكاحها. ولو كان [مسلولا] (3) سليم الذكر أو مجبوباً سليم الأنثيين، فحكمه كالفحول.
وقد حمل بعض أصحابنا قوله تعالى: {غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ} [النور: 31] على الخصي الممسوح، والإربة الحاجة. وقيل: المراد به الأطفال الذين لم يتشوفوا إلى الشهوة
__________
= حديث أسامة على وفق ما نقله القاضي حسين، والإمام، فيحمل الأمر على التعدد، ويؤيده أثر عائشة عند مالك أنها احتجبت من أعمى، فقيل لها: إنه لا ينظر إليك، قالت: لكني أنظر إليه، وقد يحمل الأمر كما قال ابن حجر "على أن الراوي قلبه، لأنّ ابن حبان وصف راويه (وهب بن حفص الحراني) بأنه كان شيخاً مغفلاً يقلب الأخبار".
فإمام الحرمين على أيٍّ من الحالين بريء من التعقب.
(ر. أبو داود: اللباس، باب في قوله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِن} [النور: 31]، ح 4112، الترمذي: الأدب باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، ح 2778، النسائي في الكبرى: عشرة النساء، باب نظر النساء إلى الأعمى، ح 9241، 9242، ابن حبان: ح 5549، التلخيص: 3/ 308 ح 1588).
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: تركوه.
(3) في الأصل: "مشكولاً" وواضح جداً أنها محرفة عن (مسلولاً) فمن الشائع تعبيرهم عن الخصي بقولهم: سُلّت خُصيتاه.

(12/35)


تشوف نزوان، ويحملون قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ} [النور: 31] على التأكيد. وهذا بعيد لا يوافق نظم القرآن.
واختلف في قوله سبحانه: {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] فقيل: لم يبلغوا مبلغاً يحكون ما يرون، وتحملهم الدواعي على حكايته. وقيل معناه: لم يتشوفوا على ما فسرناه، والمعتبر هو التشوف في المناظر واعتماد حكاية ما يواريه الإزار، فإذا لم يبلغ هذا المبلغ، فحضوره كغيبته، واعتماد الحكاية تقع قبل سن التمييز، والقول في الصبي المتشوف كالقول في الرجل في وجوب الاحتجاب. وإن لم يبلغ التشوف، نزل منزلة المحارم.
وأما الخنثى، فقيل: هو في نظره إلى المرأة كالرجل، احتياطاً، كما ثبتت أحكامه، ولم يطلق القفال فتواه بالتحريم استدامة لحكمه وحال طفوليته.
قال الإمام: وجه هذا إذا لم تَدْعُ حاجة للنظر، فإن دعت حاجة، أبيح له النظر، فمن الحاجة المبيحة معالجة الطبيب، ويباح له بها المسّ، ومنها تحمّل الشهادة، فقد تفضي إلى النظر إلى ما وراء الإزار، ومطلق الحاجة لا تبيح النظر المحرم، والضرورة المهلكة لا تشترط، فالضابط فيها المرض الذي يبيح الانتقال من الماء إلى التيمم، وقد سبق بيانه.
7848 - وجواز النظر إلى الأجنبية عند خطبتها مقصور على الوجه والكفين واليدين، إذا لم يُخف الفتنة، لعموم الحاجة في بناء النكاح على تمييزه، وبيان عمومها أنه ليس في [الخلق] (1) من يستوي عنده الدمامة والحسن، والحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الحاقة، وعليه يبنى جواز النظر إلى وجه المرأة عند تحمّل الشهادة عليها دون غيره.
فأما ما يحرم النظر إليه لغير خوف الفتنة كالعورة، فهو حجاب شرعي متاصل، فإزالته في حكم رفع الحجاب بين الرجل والمرأة، فيراعى فيه الحاجة التي ضبطناها، ولا يبعد أن يشترط بعد الوجه والكف مزيد حاجة في عضو دون عضو، ولهذا أبحنا
__________
(1) في الأصل: "الجنس". ولا معنى لها.

(12/36)


للمحارم النظر إلى ما يظهر في حالة المهنة، ولم نجوز للمحرمية النظر إلى ما تحت الإزار، وردّدنا القول فيما بينهما (1)، ولم تقتض المحرمية إباحة النظر إلى ما تحت الإزار لمزيد تغليظ من الشرع في ستره، ولذلك سوّي في منعه بين الذكر والأنثى. فما جاز الانتقال فيه إلى التراب (2) قطعاً يكون مُسلِّطاً على الكشف، وما اختلف القول فيه في جواز الانتقال هناك يسلط على الكشف هاهنا قولاً واحداً؛ لأن الانتقال إلى التراب من الأحوال النادرة، والحاجة إلى الكشف مما يعم بسبب الأمراض، فلا يرتب ما تعم حاجته وإن خف على ما تندر حاجته.
والأصل في حل النظر إلى من يريد نكاحها قوله صلى الله عليه وسلم "من أراد أن ينكح امرأة فلينظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينهما" (3) وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد أحدكم أن يتزوج بامرأة فلينظر إليها، فإن في أعين الأنصار سوءاً" وروي "شيئاً" (4).
وهذا النظر مستحب لندب الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، وقيل: هو مباح، وصيغة الأمر قد تحمل على الإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، والنظر مباح وإن خيفت الفتنة، فاستحباب التعرض إلى الفتنة بعيد عن قاعدة الشريعة.
ولا يحل النظر إلى ما سوى الوجه والكفين؛ فإن قصد التزوج، لم يحرم عليه النظر -وإن خاف الفتنة- إلى الوجه والكفين للخبر.
__________
(1) ما بينهما: المراد به ما فوق السرة، وما تحت الركبة ولا يظهر عند المهنة، ولكنه عبر عنه بقوله: "ما بينهما" لوضوح المقصود، وهذا التعبير وارد في ألسنة كثير من الفقهاء.
(2) أي المرض المبيح إلى التيمم.
(3) حديث "من أراد أن ينكح امرأة فلينظر إليها ... " رواه النسائي والترمذي وابن ماجه والدارمي وابن حبان من حديث المغيرة. قال في البدر المنير: هذا الحديث صحيح. (ر. النسائي: النكاح باب إباحة النظر قبل التزويج ح 3235، الترمذي: النكاح باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة ح 1087، ابن ماجه: النكاح باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها ح 1866، الدارمي: 2172، ابن حبان: 4032، البدر المنير: 7/ 503، التلخيص: 3/ 305 ح 1583).
(4) حديث "إذا أراد أحدكم أن يتزوج ... " رواه مسلم، وأحمد من حديث أبي هريرة وفيهما بلفظ "شيئاً". (ر. مسلم: النكاح، باب ندب من أراد نكاح امرأة إلى أن ينظر إلى وجهها وكفيها قبل خطبتها، ح 1424. أحمد: 2/ 299).

(12/37)


وينبغي أن يقدم النظر على الخطبة؛ لأنه إذا قدم الخطبة، ثم نظر، فقد لا تقع بغرضه، فَتَرْكُ الخطبة يؤدي إلى الإيحاش.
ولا يفتقر (1) إلى إذن المرأة، بل له أن يتغفّلها فينظرها، لأن استئذانها بمثابة تقديم الخطبة. ولو أمر امرأة تنظر إلى مجردها، فلا بأس، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتزوج امرأة، فبعث إليها أم عطية وقال لها: "شمي معاطفها، وانظري إلى عرقوبها" (2).
...
__________
(1) أي النظر.
(2) حديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يتزوج امرأة فبعث إليها أم عطية وقال لها: شمي معاطفها ... " رواه أحمد والطبراني في الأوسط، والحاكم، والبيهقي من حديث أنس، قال في البدر المنير: "هذا الحديث صحيح". وقد وقع في مسند أحمد، والطبراني تسمية المرأة: أم سليم، قال في البدر المنير: (وفي رواية أنها (أم عطية) وهو غريب".
(ر. أحمد: 3/ 231، المعجم الأوسط للطبراني: ح 6195، الحاكم: 2/ 166، البيهقي: 7/ 87، البدر المنير: 7/ 507).

(12/38)


باب ما على الأولياء وإنكاح الأب البكرَ بغير إذنها
7849 - إذا دعت الحرة البالغة العاقلة وليّها إلى تزويجها من كفء، وجبت عليه إجابتها، لقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنّ} [البقرة: 232] قال الشافعي: هذه [أبين آية] (1) في كتاب الله تعالى [دلالة] (2) على أنه ليس للمرأة أن تتزوج دون الولي؛ لأنها لو تمكنت من تزويجها نفسها، لما كان لمنع الولي وعضله معنى.
ولا تصلح عبارتها بعقد النكاح مطلقاً، فلا تزوج نفسها، ولا غيرها بولاية، ولا ملك، ولا نيابة، لا موجبة، ولا قابلة.
وقال أبو حنيفة (3): تلي عقد النكاح بنفسها، فإن تزوجت مَن لا يكافئها، اعترض الولي على عقدها.
وقال أبو يوسف ومحمد (4): إذا زوجت نفسها، انعقد موقوفاً على إجازة الولي، وإن زوّجها الولي انعقد موقوفاً على إجازتها.
وقال داود (5): الثيب تزوج نفسها، والبكر لا تزوج نفسها.
وقال مالك (6): الوضيعة تزوج نفسها، والشريفة لا تزوج نفسها.
__________
(1) في الأصل رسمت هكذا: "امرأته" وهو تصحيف عجيب. والمثبت من مختصر المزني: 3/ 257، وأحكام القرآن للشافعي: 1/ 175.
(2) الزيادة اقتضاها السياق، وهي في مختصر المزني، وأحكام القرآن، من الموضع السابق نفسه.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 247 مسألة: 713، مختصر الطحاوي: 171، المبسوط: 5/ 10.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 247 مسألة: 713، مختصر الطحاوي: 171، المبسوط: 5/ 10.
(5) ر. المحلى: 11/ 42، الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي: ص 645.
(6) ر. حاشية الدسوقي: 2/ 226، حاشية العدوي: 2/ 41.

(12/39)


7850 - وإذا أقرّت المرأة بالزوجية، فإن قالت: زوجت نفسي، فإقرارها مردود؛ لأنها لا يصح إنشاؤها له، ولو قالت: زوجني وليّي، قبل في الجديد، ويردّ في القديم، إلا أن تكون مع الزوج في بلد غربة، فيحكم به؛ لأنه يعسر استصحاب الولي في أسفارهما، فلو عادا إلى الوطن، لم يتبع ذلك الإقرار بالنقض. وقال شيخه (1): لا حكم له؛ تفريعاً على القديم، وزعم أن إقرارها في الغربة غير مقبول ولا يفرّق بينهما، للضرورة التي أشرنا إليها. قال (2): وإن اتجه هذا في القياس، فهو بعيد من المذهب. ولا شك أنه لا ينقض القضاء المتصل به.
وإن فرعنا على الجديد، فأقرت بالنكاح مطلقاً، انبنى على سماع دعواها بمطلق النكاح، فإن لم تصح دعواها المطلقة، لم يصح إقرارها المطلق.
وإن قالت: زوجني وليي، فإن كان غائباً، لم نتوقف على حضوره، بل تسلم إلى المقرّ له، وإن كان الولي حاضراً، فالوجه مراجعته، فإن صدّقها، فهو المراد، وإن كذبها، لم يقبل القفال إقرارها؛ لأنها مقرة على الولي. وقيل: يقبل إقرارها؛ لأنها أثبتت حقاً عليها لزوجها، فهي كالمقرة بالرّق لغيرها.
وإن قلنا: تكذيب الولي يبطل إقرارها، فجرى في غيبته، سلمت إلى الزوج، فإذا عاد الولي، فكذبها، فيخرج إلى أنّا إذا قبلنا إقرارها في الغربة، ثم عادت إلى الوطن، هل يستدام ذلك القبول؟ وإن قلنا: نقبل إقرارها على الإطلاق، فقال الولي: "لا ولي لك غيري، وما زوّجتك"، فهو على الخلاف الذي ذكرناه، والأظهر أنه لا يؤثر تكذيبه.
7851 - أما الولي إذا أقر بتزويجها، فإن لم يملك إجبارها، لم نقبل إقراره عليها؛ لأن رضاها شرط يجب اعتباره.
وإن كان مجبراً لها، فإن أقر في حالة يملك إنشاء العقد عليها، قُبل إقراره؛ لأن ملك الإقرار يتبع ملك الإنشاء نفياً وإثباتاً، وإن كان قد زال عنها الإجبار، فزعم أنه
__________
(1) شيخه: الضمير يعود إلى إمام الحرمين، وشيخه هو والده، الشيخ أبو محمد الجويني.
(2) "قال" أي إمام الحرمين، فهو يردّ توجيه شيخه، ويراه بعيداً من المذهب.

(12/40)


زوجها حال بكارتها، فإقراره مردود، وإن أضافه إلى حالة يملك إجبارها؛ لأن الاعتبار بحالة الإقرار.
فإن وكّل الولي المرأةَ أن توكّل رجلاً في تزويجها، فإن قال: وكّلي عن نفسك، لم يصح. وإن قال: وكّلي عنّي، فوجهان مبنيان على أن وكيل الوكيل وكيله، أو وكيل الموكِّل.
7852 - فإذا زوجت المرأة نفسها، ودخل بها الزوج، فهو وطء شبهة، يوجب المهر دون الحد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أصابها، فلها المهر بما استحل من فرجها" (1).
وقال الصَّيْرَفي (2): يجب الحد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الزانية من أنكحت نفسها" (3). قلت (4): الصيرفي شرط أن يكون الزوج شافعياً يعتقد تحريمه، ولا يحدّ الذي يعتقد حلّه. قال (5): والمذهب الأول، والحديث يتأول على أنها إذا تزوجت
__________
(1) قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن أصابها، فلها المهر ... " جزء من حديث عائشة رضي الله عنها "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها الصداق بما استحل من فرجها" رواه الشافعي، وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم. قال في البدر المنير: هذا الحديث صحيح (ر. الأم 5/ 13، أحمد: 6/ 47، 165، أبو داود: النكاح، باب في الولي ح 1083، الترمذي: النكاح باب ما جاء لا نكاح إلا بولي ح 1102، ابن ماجه: النكاح، باب لا نكاح إلا بولي ح 1879، البدر المنير: 7/ 553).
(2) الصَّيْرَفي: محمد بن عبد الله، أبو بكر الصيرفي، من أصحاب الوجوه في الفقه والأصول، تفقّه على ابن سريج، توفي سنة 330 هـ.
وهذه المسألة من غرائبه التي سجلها وحكاها عنه بعض الأئمة الذين ترجموا له. (ر. طبقات العبادي: 69، تهذيب الأسماء واللغات: 3/ 186، طبقات الشافعية لابن كثير: 1/ 264).
(2) حديث "الزانية من أنكحت نفسها" رواه ابن ماجه والدارقطني والبيهقي عن أبي هريرة (ر. ابن ماجه: النكاح، باب لا نكاح إلا بولي ح 1882، الدارقطني: 3/ 227 - 228، البيهقي: 7/ 110، التلخيص: 3/ 325 ح 1068).
(4) "قلت" القائل ابن أبي عصرون.
(5) "قال" القائل إمام الحرمين.

(12/41)


واستقلّت به، فقد فعلت فعل الزانية، وقد جاء مثل هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان".
ولو حكم بصحته حاكم، لم ينقض حكمه إذا وقع البناء؛ لأنه مجتهد فيه.
وقيل: ينقض، لمخالفته النص الذي لا يقبل التأويل. قلت: وذلك النص مفقود في هذه المسألة، والحديث الذي يرويه فيه عليه وجوه من التأويل كثيرة.
فرع:
7853 - ولا يملك الوصي التزويج؛ لأنه لا يلحقه عار الدناءة؛ فلم يفوّض إليه العقد الذي هو بسبب رعاية الكفاءة، ولا فرق بين أن يصرّح له الموصي بالتزويج، وبين أن يفوّض إليه القيام بمصالح الطفلة، وقصد [بذكره] (1) الرد على مالك، فإنه يجيز للوصي أن يزوجها (2).
فصل
7854 - الولي الكامل الشفقة هو الأب والجد، ويملكان إجبار البكر على النكاح في الحالة التي تجبر فيها الأبكار، وشرطه البكارة، ومعتمده قوله عليه السلام: "الثيب أحق بنفسها من وليها" (3) ومفهومه أن الولي أحق بالبكر من نفسها، وسواء في ذلك الصغيرة والبالغ. والثيب لا تجبر؛ فإن كانت بالغة عاقلة لا تزوج إلا بإذنها، ولو كانت صغيرة، لم تزوج حتى تبلغ وتأذن.
وإن كانت مجنونة صغيرة، فوجهان: أحدهما - لا تزوج حتى تبلغ، كالعاقلة، لعدم حاجتها. والثاني - تزوج، كالمجنونة البالغة، ولأن الجنون ليس له وقت معلوم يُرتقب زواله فيه، بخلاف الصغر؛ ولأنّ الجنون مع الصغر أبلغ في إبطال معنى الاستقلال من البكارة؛ فكان أولى بالتجويز.
__________
(1) في الأصل: بذكر. والذي قصد هو الشافعي رضي الله عنه.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 689، مسألة: 1230.
(3) حديث "الثيب أحق بنفسها من وليها" رواه مسلم وأبو داود والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنه (ر. مسلم: النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، ح 1421، أبو داود: النكاح، باب في الثيب، ح 2099، الدارقطني: 3/ 339، البيهقي: 7/ 115، التلخيص: 3/ 330 ح 1610).

(12/42)


فاما المجنونة البالغة، فإن بلغت مجنونة، لم تزُل ولاية الإجبار عنها، ولأن مع البلوغ والشهوة تمس الحاجة إلى النكاح، وهو من أسباب زوال الجنون، كما، أنّ العُزْبة من أسباب الجنون.
وإن بلغت عاقلة، ثم جنّت، انبنى على ولاية مالها، وفيه قولان: أحدهما - للأب والجد، كما قبل البلوغ. والثاني - للسلطان؛ لأنها ببلوغها عاقلة رشيدة زالت ولاية الأب، فلا تعود بالجنون. فإن قلنا: ولي مالها الأب، فهو ولي نكاحها كالصغيرة. وإن قلنا: السلطان ينظر في مالها، فالقول في تزويجه مع وجود الأب كالقول في تزويج البالغ المجنونة مع الأخ.
7855 - وكما يزوج الأبُ البكرَ الصغيرة يزوج ابنه الصغير، ولا تعتبر البكارة والثيوبة هاهنا، وإن اعتبرت في باب الإحصان في الزنا في الذكور، والمعتبر في تزويج الابن بالصغر والجنون العقلُ والبلوغ، فيزوّج الأب ابنه الصغير العاقل، فإذا بلغ عاقلاً، لم يجبره، فإن كان رشيداً، استقل بالعقد، وإن كان مبذراً، فقد ذُكر في الحجر، وسنعيد منه شيئاً، إن شاء الله عز وجل.
وإن كان الابن البالغ مجنوناً، نظر، فإن بلغ مجنوناً، زوجه الأب ناظراً (1)، وإن بلغ عاقلاً ثم جن، فعلى الخلاف في الثيب إذ بلغت عاقلة ثم جنت.
وإن كان المجنون صغيراً، فظاهر المذهب أن الأب لا يزوجه، بخلاف الثيب الصغيرة المجنونة؛ لأنه يستفيد به القيامَ بمؤنتها، والابن الصغير يكلّف المؤنة. وقيل في الابن والثيّب الصغيرين المجنونين أوجه: أحدها - يزوجان. والثاني - لا يزوجان. والثالث - تزوج البنت، دون الابن.
والبكارة عبارة عن جلدة العُذْرة، فإن زالت بجماع حلال أو حرام، أو وطء شبهة، صارت ثيباً، ولو زالت بقفزة أو وثبة، أو بأصبع، أو بطول التعنيس والتعزب، ففيها وجهان: أحدهما - أنها ثيب؛ لزوال البكارة. والثاني - أنها بكر؛ لأن البكارة عبارة عن عدم الممارسة واختبار الرجال، وذلك لم يحصل.
__________
(1) كذا. والمعنى بمقتضى نظره له.

(12/43)


وتردد الشيخ أبو محمد في دخولهن في وصية الأبكار والثُيَّب (1). وقال الشيخ أبو علي: لا يدخلن فيهما؛ لأنهن لم يجامَعْن، ولا معهن جلدة العذرة.
وقال صاحب التلخيص: يُقْسم (2) لهنّ حق العقد قسمة الأبكار وجهاً واحداً؛ لأن الغرض إيناسهن عن نفار الأبكار (3). وقال الشيخ أبو علي: هي على وجهين.
7856 - فأما الولي النسيب الذي لا يوصف بكمال الشفقة، وهم العصبة المدلون بالأب والجد، فليس لهم ولاية الإجبار؛ لعدم كمال الشفقة فيهم، فلا [يزوّجون] (4) صغيرة ولا كبيرة -وإن كانت بكراً- بإجبار، لكن يزوجونها والثيبَ العاقلة البالغة برضاهما وإذنهما، وفي إذن هذه البكر وجهان: أحدهما - أن إذنها بالسكوت، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذنها صماتها". والثاني - يعتبر صريح نطقها. قال: وهو القياس البيّن، ويُحمل الحديث على البكر التي يجبرها أبوها أو جدها، فإنه يكتفى بصماتها إذا استؤمرت. قلت: وفي نفس المسألة نصّ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمروهن، فإن سكتن، فهو إذنهن" (5) فلا يمكن
__________
(1) يعني إذا أوصى الموصي للأبكار أو للثيب من أقاربه مثلاً، ففي أي الصنفين تدخل من زالت بكارتها بغير الزواج؟
(2) انتقل الكلام هنا إلى حكم القَسْم بين الزوجات عند التعدد، وحق من يعقد عليها إن كانت بكراً، أو ثيباً، ومعلوم أنه يخص البكر بسبع ليال، والثيب بثلاث، فكم يخصها إذا زالت بكارتها بغير النكاح؟
(1) الذي في التلخيص الموجود بأيدينا عكس ذلك، ونصه:
"الثيب ثلاثٌ:
الثيب الأولى في التزويج - من ذهبت عذرتها بأي وجه: بأصبع أو مرض أو جماع.
الثيب الثانية في الرجم - من ذهبت عذرتها بجماع في نكاح صحيح دون غيره.
الثيب الثالثة في القسم للعروس - للثيب ثلاث، وللبكر سبع، وهي من ذهبت عذرتها بأي وجه كان. قلته تخريجاً. (ر. التلخيص: 494) ".
(4) في الأصل: "يجبرون" وهو سبق قلم واضح، لا يستقيم الكلام به.
(5) حديث "لا تنكحوا اليتامى حتى تستأمرونهن ... " رواه الحاكم بهذا اللفظ من حديث نافع عن ابن عمر. قال في البدر المنير: هذا الحديث صحيح، ورواه الدارقطني، وبنحوه رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة (ر. المستدرك: 2/ 167، الدارقطني: 3/ 229، البدر المنير: 7/ 573، التلخيص: 3/ 331 ح 1613).

(12/44)


تأويله بذلك، لأن اليتيمة لا تزوج حتى تبلغ.
7857 - وإذا أجبرها الأب على نكاح الكفء، كان له ذلك، وإن سخطته، ولو دعت الأب إلى تزويجها، فظاهر المذهب أنه تلزمه إجابتها إذا كان كفؤاً، واحتج به أصحاب أبي حنيفة (1) فقالوا: لو ملك الأب إجبارها، لما ملكت هي إجباره. والعذر عنه أنه أقيم لقضاء حاجتها، فإذا أعربت عنها، لزمه تحصيلها لها، كالطفل إذا طلب الطعام من وليه، يجب عليه إجابته، مع قصوره وعدم عبارته، فهذا أولى. وقيل بأن البكر مسلوبة العبارة في النكاح أصلاً. قال: وهذا غلط، نعم، لو عيّنت شخصاً، وأراد الأب تزويجها من غيره، قيل: لا يجوز، وقياس المذهب جوازه إذا كان كفؤاً؛ لأنه لا خِيَرة لها في العقد، فكذا في التعيين، والأول مزيّف.
7858 - وأما المزوِّج بغير القرابة، فهم ثلاثة: أحدهم - من له ولاء، فحكمه حكم القريب الناقص الشفقة، كالأخ والعم. والثاني - المالك يزوج أمته جبراً، ثيباً كانت أو بكراً، مميزة أو بالغة، مجنونة أو عاقلة. والثالث - السلطان ولا يزوج على مذهب الشافعي صغيرة؛ لأن ولايته متأخرة عن ولاية عصبات النسب، وهم لا يملكون تزويج الصغيرة.
والمواضع التي يزوج فيها السلطان خمسة: أحدها - إذا عضل الولي المناسب (2)، أو من له ولاء إذا دعت إلى كفء فامتنعا، زوجها السلطان. والموضع الثاني - إذا غاب الأخ، وحضر العم، زوّجها السلطان. والثالث - ألا يكون لها ولي ولا مولى، فالسلطان ولي من لا ولي له. والرابع - أن يريد الولي أن يتزوج مولاته، وليس له مشارك في الولاية، فيزوجه السلطان. الخامس - تزويج المجنونة البالغة إذا كان النظر في تزويجها، ولا أب لها ولا جد، ففي أحد الوجهين تزويجها إلى السلطان؛ لأنه هو الناظر العام، وليس لها قريب كامل الشفقة، ولأن السلطان يلي مالها في هذه
__________
(1) كما هو مشهور من مذهبهم أن الأب لا يملك إجبار البكر البالغة على النكاح (ر. المبسوط: 5/ 2، رؤوس المسائل: 371 مسألة: 247، طريقة الخلاف للأسمندي: ص 59).
(2) أي من النسب.

(12/45)


الحالة، فإذا مسّت حاجتها إليه (1)، زوّجها، بخلاف الصغيرة؛ فإنه لا حاجة بها، فتؤخر إلى حين بلوغها واستئذانها. والوجه الثاني - يزوج المجنونة البالغة عصباتها؛ لأن القريب النسيب أولى من السلطان؛ لأن مرتبة الولاية تقتضيه؛ فعلى هذا يراجِع السلطانَ، فإذا أذن له، زوّجها؛ فيقوم السلطان مقامها في الإذن عند عجزها عنه، ولأن عصبتها لا يستبد بتزويجها؛ لقصور شفقته، فإن امتنع العصبة، زوّجها السلطان، كما لو عضل.
وإن قلنا: يزوجها السلطان، استحب له مراجعة العصبة ذوي الآراء، وقيل: يجب؛ لأنهم أخبر [ببواطن] (2) الأحوال، وهو ضعيف. فإن تستّر (3) العصبة، استبد به السلطان.
ولا تقف معرفة حاجة المجنونة على قولها؛ لأنه لا حكم له، بل تُعرف حاجتها بمخايل لا تخفى، فإن لم تظهر مخيلة حاجتها، ورأى أهل الرأي تزويجها، زُوّجت.
وإن لم يرَ الأطباء تزويجها، ولا ظهرت مخيلة حاجتها، ورأى السلطان أو النسيب تزويجها لكفاية نفقتها ومؤونتها، فأصح الوجهين أنها لا تزوج؛ لأنه يكون إجباراً على النكاح، ولا يملكه غير الأب والجد. والسلطان قال: يثبت له حق الإجبار في المجنونة البالغة. قلت: ولا يصح تسمية تزويجها إجباراً؛ لأن الإجبار لمن يكون له اختيار.
قال: وإذا عُدِم الولي الخاص، زوج السلطان بحق الولاية، لقوله صلى الله عليه وسلم "السلطان وليّ من لا وليَّ له" فأما إذا زوج عند عضل الولي، فهو نائب عنه، لا بحكم الولاية؛ لأنه لو كان بولاية، لوجب إذا عضلها الأخ ولها عم ألا يزوجها السلطان إلا بإذن العم، والأمر بخلافه؛ فإن الولاية تقتضي تقديم العم على السلطان. وقيل: يزوجها بحكم الولاية؛ لأنه لا يجوز لغيره التزويج هاهنا.
__________
(1) "إليه": أي إلى النكاح.
(2) في الأصل: "المواطن".
(3) كذا تماماً رسماً ونقطاً.

(12/46)


والأولى أن يقال: تزويجه عند العضل نيابة قهرية أنتجتها الولاية [لاقتضاء] (1) الحق من الممتنع قهراً، لكن يبعد أن يقال: التزويج حق للمرأة على الولي، فيُشكل عند هذا تحقيق النيابة، وللولي معنى الولاية.
وقد أطلق الأصحاب معصية العاضل، قال: وليس كذلك؛ لأن تزويج السلطان إذا أمكن، فلا يتضح كون التزويج حقاً على الولي، إلا ألاّ يكون سلطان؛ فإنه يجب على الولي تزويجها، فإذا امتنع عصى. أما مع وجود السلطان، فلا. وعلى هذا التردد يخرج تزويج السلطان في غيبة الولي، وكذا تزويجه المرأة من وليها، وكذلك تزويجه المجنونة، وضابط محل التردد تزويجه مع قيام الولي الخاص، وعند عدمه تحقق (2) الولاية المحضة.
7859 - والولايةُ الحقيقية تقتضي أحكاماً على المَوْلِيِّ عليه، واستبداداً بالتصرف للنظر، فإن لم يكن المتصرَّف له أهلاً (3)، لصغر أو زوال عقل، فعليه نهاية الولاية، وإن كان أهلاً (4)، وامتنع من عليه الحق، استقلّ السلطان باقتضاء الحق قهراً، وإن انقطع نظرُ الأهل لغيبة، فهذا محل تصرف السلطان.
والولي الخاص يتصرّف في المال والبدن، أما في المال، فلا يثبت إلا للأب، أو أبيه، عند فقد الأب - في مال الصغير، والمجنون، والسفيه، قهراً واستبداداً.
وإذا غاب المستقلّ بالتصرف في ماله، وخيف عليه، لم يتصرف في حفظه إلا السلطان، ولو خلت البلدة عن سلطان، فليس للأب أن يتصرف فيه، ولو خيف ضياعه (5).
أما التصرف في البدن، فمنه الحضانة، ومنه التزويج، فما يَجْبرُ فيه الولي، فلا
__________
(1) في الأصل: "لا يقتضي" والمثبت تقدير منا.
(2) (تحقق) بحذف تاء المضارعة.
(3) "أهلاً" أي محلاًّ للتصرف.
(4) "أهلاً" أي محلاً للولاية.
(5) أي مال المستقل بالتصرف ليس للأب أن يتصرف فيه، ولو خيف ضياعه، وإنما ذلك إلى السلطان وحده.

(12/47)


يثبت إلا لأب أو جد، ولا يثبت إلا مع البكارة، والثيابة مع جنون، ولا يثبت لغيرهما من العصبة تزويج قهري، وكذا المال، لا تثبت ولايته لعصبةٍ غيرهما؛ لأنها ولايةٌ قهرية، فلا تثبت إلا لمن كملت شفقته؛ لأن طلب النظر مع العدالة لا يحصل إلا بكمال الشفقة الباعثة عليه.
وهل يسمى الأخ ولياً لأخته الصغيرة؟ قيل: لا؛ لأنه لا يملك تزويجها، وقيل: نعم؛ لأنه يملكه عند بلوغها، والبلوغ لا يؤثر في إثبات الولاية. قال: ولا حقيقة لهذا الاختلاف؛ لأن تزويج من لا يَجْبُر ليس على قياس الولايات، لما قدمناه، والسلطان يلي المال حق الولاية عند عدم الأب والجد.
قلتُ: ويفتقر إلى ذكر عدم الولي أيضاً؛ لأنه قائم مقامه (1)، وكان القياس يقتضي أن يزوج الصغيرة، كما يلي مالها، كما في المجنونة، إلا أنّ [ولاية النكاح تباين] (2) ولاية المال في قاعدتها، ولا تساويها نفياً وإثباتاً؛ فإن الأب يلي مال البنت الصغيرة، وإن كان لا يزوّجها، ويجبر البكر البالغة، ولا يلي مالها، وسرّه أنّ ولاية التزويج تخرج بعض الخروج عن قاعدة النظر؛ لأن مبناها على الإعفاف، وذلك يتعلق بالجبلات، ويقتضي ألا تزوج غيرُ بالغة، فلو زُوجت صغيرة ربما تبقى دهرها في رقّ النكاح، مع كراهتها لبعلها، فلا يدخل (3) تحت الولاية، كالطلاق. والمالُ لا يمكن تأخيره؛ فيضيع، ولذلك الوصي يتصرف في المال، ولا يتصرف في البضع، والسلطان يلي مال الصغيرة، ولا يملك تزويجها.
فصل
7860 - روى الشافعي عن الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لانكاح إلا بولي وشاهدي عدل" لكنه مرسل، والشافعي يستحسن مراسيل الحسن، قال المزني: رواه غير الشافعي عن الحسن عن عمران بن الحصين مسنداً
__________
(1) في الأصل: "مقامها".
(2) عبارة الأصل: "ولي النكاح يباين" والمثبت من تصرف المحقق.
(3) أي التزويج.

(12/48)


مرفوعاً (1). وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل" (2).
قال الأئمة: خالف أبو حنيفة الخبر من أربعة أوجه: أنه جوز النكاح بلا ولي، ولم يشترط عدالة الولي (3)، وقد اشترطها في الخبر؛ فإن المرشد بمعنى الرشيد، كالمسمع بمعنى السميع. وأجاز النكاح بحضور فاسقين (4). وفي الخبر اشتراط حضور الذكور وأبو حنيفة يجيزه برجل وامرأتين (5).
فنقول: كل صفة تسلب العبارة، وتسقط حكمها، فهي منافية للولاية، كالصبا والجنون، وكل محجور عليه لحقه، فليس بولي، والرق ينافي الولاية إجماعاً، أما المحجور عليه للفلس، فولايته ثابتة؛ لأن حجره ليس لحقه، بل لحق الغرماء مع صفات الكمال، وقد حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ بن جبل وباع عليه ماله (6).
وأما السفيه، فلا يلي؛ لأن الحجر عليه يطول لقصوره، ومن لا ينظر لنفسه كيف ينظر لغيره؟ قلت: وللعراقيين وجه في تولِّيه؛ لأن الحجر عليه في المال لخوف إضاعته، وقد أُمن ذلك في تزويج ابنته.
ولا يزوج مسلم كافرة بالولاية الخاصة، كما لا يزوج كافر مسلمة. والكافر
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 260.
وحديث عمران بن الحصين المرفوع رواه الدراقطني والطبراني والبيهقي، قال الحافظ: وفيه راوٍ متروك (ر. الدارقطني: 3/ 225، المعجم الكبير للطبراني: 18/ 142 ح 299، السنن الكبرى: 7/ 125، معرفة السنن والآثار: ح 4100).
(2) حديث ابن عباس: "لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل" رواه الشافعي، والبيهقي عن ابن عباس موقوفاً، ورواه البيهقي من طرق أخرى مرفوعاً، وقال: المحفوظ الموقوف (ر. الأم: 5/ 22، السنن الكبرى: 7/ 112، 124، التلخيص: 3/ 334 ح 1618).
(3) ر. مختصر الطحاوي: 72، رؤوس المسائل: 374 مسألة: 251.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 72، المبسوط: 5/ 31، رؤوس المسائل: 372 مسألة: 248.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 169، 172، المبسوط: 5/ 32، رؤوس المسائل: 372 مسألة: 248.
(6) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم حجر على معاذ وباع عليه ماله" سبق في كتاب التفليس.

(12/49)


يزوج ابنته الكافرة إذا كان عدلاً في دينه، قال الشافعي: "ولي الكافرة كافر".
وقيل: لا يزوجها. وقيل: هو كالفاسق.
ومن استولت عليه الغفلة والذهول، أو كان به ألم يلهيه عن النظر، فلا يلي.
وإذا دعت المرأة إلى التزويج مع قيام الصفات المانعة، تولى السلطان تزويجها، كما لو غاب أو عضل.
7861 - وإذا اتصف الولي بالفسق، فظاهر نصوص الشافعي في القديم والجديد أن الفاسق يلي عقد النكاح. وقال أيضاًً: لا ولاية للسفيه، واختار القفال كونَه ولياً.
والمعنيّ بالسفيه المخبَّل المحجور عليه لعدم رشده، وقيل: فيه قولان.
وقيل: شارب الخمر لا يزوِّج؛ لأن السكر والنشوة تغلبه على رأيه، فلا تعويل على نظره، وإن كان فسقه بغير الشرب، فإنه يلي، وقيل: إن كان نسبه يقتضي له ولاية الإجبار على النكاح، لم ينافه الفسق، وإن كان لا يُثبت له ولاية الإجبار، نافاه الفسق؛ لأنه إذا قوي سبب الولاية بعُد زوالها، فالأبوّة والجدودة لهما قوة؛ لكمال الشفقة فيهما، فلا يغالبهما الفسق، وإذا ضعف السبب، قرب زوال أثره.
وقيل بعكس هذا: إن الفسق ينافي ولاية الإجبار، ولا ينافي ولاية الاستئذان؛ لأن الخوف من نظر الفاسق يُؤْمَن بمراجعتها.
ولو زوجها العدل بغير كُفْءٍ برضاها، لم تعترض على عقده، وقيل: إن الأب إذا فسق، لا يجبر البكر، وإذا استأمرها، فالقياس يقتضي أن ينعقد نكاحه، فالفسق يسلب الإجبار، لا أصل الولاية.
وقال شيخه: السفه الذي يقتضي اطّراد الحجر، أو ابتداءه ينافي الولايةَ، أما إذا بلغ رشيداً، وعاد سفيهاً، فقد قيل: يعود الحجر من غير حجر حاكمٍ عليه؛ فيخرج عن الولاية. ومن قال: لا يعود الحجر عليه، لا يراه ولياً ناظراً لغيره مع جهله. ومن بلغ فاسقاً لا ولاية له، أمّا الفسق الطارىء بعد البلوغ، فالمذهب أنه لا يعيد حجراً، فإذا لم يُعدّ صاحبه قاصر النظر مضطرب الرأي، فالوجه القطع بكونه ولياً، مجْبِراً كان أو غير مجْبِر؛ لقيام سبب الولاية، ووجود الشفقة، وتمام النظر، وفسقه جناية على

(12/50)


نفسه، ولهذا كان ناظراً لنفسه، لكن يُلزَم (1) عليه الشهادة، فمن الفسقة من لا يكذب، وإن أشفى على الحتوف، ويؤثر الصدق تحت ظلال السيوف، وهو مردود الشهادة! ويجوز الانفصال (2) عن هذا بأن العدالة شرط قبول الشهادة كالحريّة، فالعبد وإن كان صادق اللهجة - مردودُ الشهادة، والتعبد غالب على أحكام الشهادات، ولذلك اعتبر فيها عدد مخصوص، ومجلسُ القضاء، وتقدُّم الدعوى. ومطلوب الولاية الشفقةُ، وهي منه محققة، ويعضدها أن الأولين لم يعترضوا على أنكحة الفسقة، ولا يرون قبول شهادتهم.
قال المحققون: ولاية المال تنزل منزلة ولاية النكاح، وهذا هو الذي لا يتضح غيره.
وإن قلنا: الفاسق يلي تزويج موليته، تولَّى تزويج أمته، وإن قلنا: لا يزوج مَوْليِّته، ففي أمته وجهان: أصحهما - أنه يزوجها. وإذا قلنا: الفسق ينافي الولاية، فوكّل الولي فاسقاً في قبول النكاح، فالطريقة المعتمدة جوازه، كما يجوز أن يقبل النكاح لنفسه، فأما توكيله في التزويج، ففيه وجهان: أحدهما - أن الفسق ينافي التزويج بالوكالة كما ينافي بالولاية، والثاني - يجوز؛ لأن عبارته صحيحة، وهو غير مستقل، ونظر الولي يعضده، والأول يقول: الفسق يمنع تقليد القضاء وإن عضده نظر الإمام. قال: وهذا لا يشبه الوكالة، لأن نظر القاضي ينتشر وتعسر مراقبته في التفصيل، بخلاف الوكيل.
7862 - ويجوز للخاطب أن يوكّل عبد نفسه في قبول النكاح له وفاقاً، وكذا لو وكل عبد غيره بإذنه، ولو وكّله بغير إذن سيده، فالجمهور أن النكاح ينعقد؛ لأنه لا يفوت [بكلمة] (3) القبول على مولاه شيء من منافعه، ولا عهدة عليه فيها كتسبيحةٍ منه، وقيل: لا يصح، وهو ساقط لا يعتد به.
__________
(1) أي يعترض عليه بالشهادة، بمعنى أننا نقول له: يلزمك قبول شهادة الفاسق، إذا عُرف بالصدق.
(2) "ويجوز الانفصال عن هذا" أي ويجوز الخروج من هذا الاعتراض، بإلزامه الشهادة.
(3) في الأصل: "بكملة".

(12/51)


ولو وكل الولي عبداً يزوج عنه، فوجهان مرتبان على الوجهين في توكيل الفاسق، والعبد أولى ألا يكون وكيلاً؛ لأنه مُجْمَعٌ على أنه لا يكون ولياً، وفي الفاسق الخلاف.
وفي كون الأعمى ولياً وجهان، وجهُ المنع قصور نظره. قال شيخه: لا خلاف في أنه يتزوج (1)، وفي شرائه قولان، وسببه أنّ في الرؤية أثراً في شراء الأعيان يمنع الصحة على قول، ويمنع اللزوم على قول، ولا أثر لها في النكاح بحال.
وفي فسق الوالي العام خلاف يترتب على أنه هل ينعزل بالفسق؟ فإن قلنا: ينعزل، فإذا فسق، انقطع تصرفه، وإن قلنا: لا ينعزل، فقد قيل: ينفذ تصرفه، وهو طرد القياس، وقيل: لا ينفذ إذا كان يتوقع إضراراً، وتكون حاله في الفسق كحاله لو أحرم بحج أو عمرة، فلا يخرج عن كونه ولياً، وإن امتنع عليه التزويج.
فصل
7863 - لا ينعقد النكاح إلا بحضور شاهدين، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، ولأنه عقد خطير يترتب عليه مقاصد يحتاط لها؛ فوجب صيانته عن التجاحد.
ولا ينعقد بحضور عبدين، وإن كانا من أهل الشهادة، لأنه لا ينعقد بشهادتهما.
قلت: قوله "وإن كانا من أهل الشهادة" بعيد من أصلنا؛ فإن العبد عندنا ليس أهلاً للشهادة، ولهذا قال: لأنه لا يثبت بشهادتهما.
وكذا حكم المراهقين.
ولا ينعقد بحضور فاسقَيْن خلافاً لأبي حنيفة. وظاهر النص أنه ينعقد بحضور مستورين في أمر العدالة، ويتسلّط به الزوج على استباحتها، فلو بان أنهما فاسقان حالة العقد، ففيه قولان يبتنيان على ما إذا حكم بشهادة اثنين ظاهرهما العدالة، ثم بان
__________
(1) قال النووي: "للأعمى أن يتزوّج قطعاً، وله أن يُزَوِّج على الأصح" (ر. الروضة: 7/ 64).

(12/52)


أنهما كانا فاسقين حالة الحكم، ففي نقض الحكم قولان. ولم يسمح المراوزة بذكر خلاف في انعقاد النكاح بمستورَيْن وتسلط الزوج به.
قال: والقياس الجلي أن ما يؤثِّر الفسق في إبطاله، فالجهل بالعدالة يوجب التوقف فيه، ومساق هذا ألاّ يتسلط به، حتى يتبين أمرهما، والممكن في تعليل التسليط أن الاكتفاء بهما يليق بحال العقد؛ لأنه يقع غالباً في مواضع يقل فيها المعروف العدالة، والبحث عنها يؤدي إلى طول الأمر، وترك الخِطبة، ولا حاجة ترهق إلى البينة في الحال، بخلاف حالة الحكم.
وكان شيخه يردد القول في مستوري الحال في الحريّة، فيجتمع من هذا ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا يتسلط ما لم تظهر الحرية والعدالة. والثاني - يتسلط. والثالث - الفرق بين العدالة والحرية.
7864 - ولا ينعقد عندنا نكاح مسلم على كافرة بحضور ذميين، خلافاً لأبي حنيفة (1).
وفي انعقاد النكاح بحضور أعميين وجهان: أحدهما - ينعقد، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "وشاهدي عدل" وهما شاهدا عدل. والثاني - لا ينعقد؛ لأنه لا يمكن إثباته بشهادتهما. قال: وأرى القطع بهذا؛ لأن الاكتفاء بهما يبطل مقصود شرط الشهادة في النكاح.
ولو حضر ابنا الزوجين، أو ابن له وابن لها (2)، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - أنه ينعقد بهما. قال: وهذا يضاهي انعقاده بحضور أعميين. قلت: إن هذا الوجه يضاهي حضور الأعميين، فكيف يضاهي القولُ الجزمُ ما فيه خلاف؟ وإن أراد أنّ أصل الصورة تضاهيه، فحضور الأعميين على ثلاثة أوجه، فلا تتحقق المضاهاة.
ثم زيّف الوجه وقال: هو في نهاية الركاكة. قلت: وليس لفظ الركاكة مما
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 373 مسألة: 250، المبسوط: 5/ 33.
(2) ترك صورة ثالثة، وهي ما إذا حضر ابنا الزوج، أو ابنا الزوجة، وهي مذكورة في الروضة للنووي: 7/ 46.

(12/53)


يستعمل في الجواز والمنع والصحة والإبطال، وعلة التزييف أنهما إن كانا ابنيهما، لم ينفكا أن يشهدا لأحد أبويهما (1) وإن كان ابن له وابن لها، لم يمكن إثبات النكاح بشهادتهما بحال (2).
قال: ولا مساغ لهذا الوجه إلا أن يسلك به مسلك أبي حنيفة وأصحابه في حمل شرط الشهادة على طرفٍ من التعبد، وله وجه؛ لأن النكاح هو المحتاط له، ولا يشترط له الإشهاد على رضا المرأة وإذنها، ولو جحدت، لم يثبت إلا بالشهادة على إذنها، فيشكل حمل الشهادة على الاحتياط، وإنما لم نكتف بحضور فاسقين؛ لأن ما لا يُعقل يتبع فيه مورد النص، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "وشاهدي عدل" والفاسق ليس بشاهد، وإن سمي به مجازاً، فليس بعدل.
ولا يُكْتفى بحضور الأصم؛ لأن حضوره كغيبته.
والوجه الثاني - أنه لا ينعقد بحضور ابنيهما وابن له وابن لها، لما ذكره في تزييف الوجه الأول.
والثالث - أنه [لا] (3) ينعقد بحضور ابنيهما، أو ابن له وابن لها؛ لأنه لا يتوقع إثباته بشهادتهما (4)، وينعقد بشهادة ابني أحدهما؛ لأنه يتعلق به إثباته إذا جحده [أحدهما] (5) فشهدا عليه (6).
__________
(1) فإذا جحد الزوج وشهدا عليه، كانا شاهدين لأمهما، وإذا جحدت الزوجة، فشهدا عليها، كانا شاهدين لأبيهما.
(2) لأنه إذا شهدا للزوج كان أحدهما شاهداً لأبيه، وإذا شهدا للزوجة، كان أحدهما شاهداً لأمه.
(3) زيادة اقتضاها السياق، وواضح أنها سقطت من الناسخ؛ فالصورة هي بعينها المذكورة في الوجه الأول.
(4) وضح هذا في تزييفه للوجه الأول.
(5) في الأصل: "أبوهما" ولا معنى لها.
(6) فإذا كان ابني الزوجة مثلاً، فجحدت، فشهدا عليها، فشهادتهما عليها مقبولة يثبت بها، أما إذا شهدا لها، فلا يعتد بشهادتهما.
وعبر الرافعي عن هذا قائلاً: "ينعقد لأنه يمكن الإثبات بهما في الجملة" أي فيما إذا شهدا (على أمهما) (ر. الشرح الكبير: 7/ 519، 520).
وأضاف النووي "أنه ينعقد بابنيها دون ابنيه؛ لأنه محتاج للإثبات دونها" الروضة: 7/ 46.

(12/54)


ولو حضر ابنان له، وابنان لها، انعقد النكاح قولاً واحداً؛ لأنه يمكن إثباته من الجانبين.
وهكذا لو حضره عدوّان لهما، أو عدو له وعدو لها، أو عدوان لأحدهما على أقسام البنين (1).
ولا ينعقد ولا يثبت برجل وامرأتين.
فرع:
7865 - إذا قال الشاهدان بعد العقد: كنّا فاسقَيْن حالة العقد، أو تعمدنا الكذب، لم يُنْقَض القضاء، وإنما القولان إذا قامت به البينة.
ولم يذكر في حكم الستر شيئاً. وعندي [أنه] (2) إن لم يعلم الزوجان بفسقهما حالة العقد، لم يزُل حكم الستر، فأما إذا تصادق الزوجان على أن الحاضرَيْن كانا فاسقَيْن حالة العقد، وعلما بذلك، فالوجه القطع بتبين فساد العقد؛ لأنهما لم يكونا مستورين عنهما، وعليهما التعويل في التحليل والتحريم، بخلاف ما لو ثبت بالبينة؛ فإن الستر قارن العقد [فجُرحا بالتبيّن] (3) على القولين. ولو قال الزوجان: لم نعرف أعيانهما، وقد تذكرنا أنهما كانا فاسقين حالة العقد، فيحتمل أن يخرج على القولين، كما في قيام البينة.
ولو أن الزوج سمع ممن يثق به أن فلاناً فاسق، ثم عقد النكاح بحضور المجروح، فهل يزول الستر وينحى به نحو الأخبار، فلا يشترط فيه العدد ولا الحرية؟ فيه تردد، والظاهر أن الستر يزول بأخبار من تقبل روايته وإن لم يثبت به الجرح في مجلس القضاء. ويجوز أن يقال: من لا يجرح في مجلس القضاء، فهو مستور، ومن استيقن الزوج فسقه، فعلمه في حقه كافٍ في زوال الستر.
وكان الشيخ أبو محمد يسْتَتِيب شهود النكاح إذا حضروا، ويعتاد ذلك في حق المستورين استظهاراً، وكان يتردد في المعلنين بالفسق إذا أظهروا التوبة في مجلس
__________
(1) أي صور العداوة هي بعينها صور البنين (عدوان لهما، عدوان لأحدهما، عدو له، وعدو لها) وفيها نفس الأوجه.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "فحرج بالتبيين".

(12/55)


العقد: هل يلحقون بالمستورين؟ فلو قلنا: يلحقون، فعاود الفجور على الفور، فالظاهر سقوط أثر توبتهم.
وإذا أقرّ الزوجان بالعلم بفسق الشاهدين حالة العقد، حكمنا بأنه لا نكاح بينهما، ولا ينتقص بذلك الطلاق، ولا يجب به المسمى؛ للحكم بأنه لا نكاح بينهما، لكن إذا كان قد وطئها، لزمه مهر المثل. وإذا تزوجها بعد ذلك، ملك عليها ثلاث طلقات.
ولو اعترف الزوج بذلك، وأنكرت المرأة، فيحكم بارتفاع النكاح، قال الصيدلاني: سبيله سبيل طلقة بائنة: فإن جرى ذلك قبل الدخول، لزمه نصف المسمى، وإن جرى بعده، فجميعه. ولو نكحها بعده عادت إليه بطلقتين؛ لأنها لم تصدقه فيه، ولا وُجد سبب يستحق به الفسخ، فهو في حكم الطلاق.
وحكي عن الشافعي أنّ الحرّ إذا تزوج أَمَة وقال عقيبه: كنت واجداً طَوْلَ حرة، بانت منه بطلقة، وهو مشكل، لكنه ينزل الفراق المحكوم به منزلة الطلاق في تنصيف المسمى قبل الدخول، وتكميله بعده، ولو عادت إليه، عادت بطلقتين.
قال (1): هذا لا وجه له؛ لأنه لم ينشىء طلاقاً، ولا في موجب إقراره ما يقتضي الطلاق.
فصل
7866 - من بلغ سفيهاً اطّرد الحجر عليه، ولم نُجز له أن يتزوج بانفراده؛ لأنه محجور عليه لنفسه، وذلك ينافي استبداده، ولا يملك الولي تزويجه من غير طلبه؛ لأنه يملك تطليق زوجته؛ فلا يصح إلا بإذن الولي، وطلبه (2). وقد نص الشافعي في موضع: "للولي تزويجه". وفي موضع "لا يزوجه". وليست على قولين، بل على اختلاف حالين، فحيث قال: "يزوجه"، يريد إذا كان أباً، أو جداً، أو قيّماً أذن له الحاكم في تزويجه. وحيث قال: "لا يزوجه"، يريد به القيّم الذي لم يؤذن له
__________
(1) القائل: إمام الحرمين.
(2) "طلبه": أي طلب السفيه.

(12/56)


في تزويجه. فإن تولى الولي تزويجه عند طلبه بإذنه، جاز، وإن فوضه إليه -عند وجود شرائطه- جاز؛ لأن عبارته صالحة للعقد.
ولوليه أن ينفرد بالتصرف المصلح لماله من غير مراجعته، كالطفل، ولو فوض إليه عقداً معيناً في المال، فالمذهب صحتُه، وقيل: لا يصح، وهو بعيد؛ لأنه مكلَّف، صحيح العبارة، وبه فارق الصبيَّ والمجنونَ، ويستثنى من ذلك المرأة؛ فإن عبارتها مسلوبة في النكاح خاصة، مع أنها مكلفة تستأذن وتراجع فيه، ولا يستند ذلك إلى معنى محقق.
ومتى أبدى السفيه حاجته إلى النكاح، صُدِّق ولا ينظر إلى بِنْيته (1)، ولا يرجع إلى قول الأطباء فيه؛ لأنه لا سبيل إلى الوقوف على حقيقة الداعي إليه؛ فلا يعرف إلا من جهته، فإذا أخبر عن حاجته إلى النكاح، وجبت إجابته، وقضاء حاجته.
فلو لم نجبه فللعراقيين وجهان: أحدهما - لا يتزوج، لقصوره، وعدم تفويض الولي إليه. والثاني - يستقلّ به، كما لو طلب الطعام. وهذا بعيد عن القياس.
ويتجه أن يقال: يرفع المحجورُ عليه أمره إلى الحاكم، كما لو عضل المرأةَ، وسَلْبُ عبارتها بمثابة منع السفيه من الاستقلال.
وجملةُ حاله إن احتاج إلى المطاعم، ولم ينته إلى الضرورة؛ فاشترى بنفسه، فقد تردد العراقيون فيه. وإن انتهى إلى حد الضرورة، قال: فالوجه عندي القطع بتجويز تصرفه لضرورته؛ لأنه من أهل العبارة، ونَصْبُ الناظر لمصلحته، فعند الضرورة منعُه لا مصلحة له فيه، لكن لا تُتصور الضرورة في النكاح وإن تناهت الحاجة فيه.
والمرضيُّ أنه إن أمكن رفع الأمر إلى الوالي، لم يجز أن يستقِلّ بنفسه، وإن تعذر الرجوع إلى الوالي، ترتب على ما ذكرنا في تحقق الحاجة إلى المطاعم والكسوة وما في معناه، والنكاح أولى بالمنع؛ لأنه لا تتحقق فيه الحاجة تحققها في الطعام ونحوه؛ ولذلك يجب على الأب نفقةُ ولده، ولا يجب إعفافه، وظاهر مذهب العراقيين إجراء الوجهين في استبداده من غير مراجعة السلطان عند امتناع الولي الحاضر.
__________
(1) كذا قرأناها، وهي بهذا الرسم تماماً لكن بدون أي نقط، ويشهد لصحتها قوله: "ولا يرجع إلى قول الأطباء".

(12/57)


وللأب تزويج ابنه الطفل [لمصلحة] (1) ظنية، مع العلم بعدم حاجته إلى النكاح.
وولي المحجور عليه يرعى في مصلحته هذا المعنى، لكن لا يجبره عليه، والخلاف في استقلاله إذا ذكر حاجة جلية داعية، فأما لمصلحة جلية من غير طلب، فلا خلاف فيه.
7867 - والأولى لولي السفيه أن يعيّن له امرأة، ويقدر مهرها، ويأذنَ له في العقد عليها، فإن عيّنها ولم يقدّر مهرها، صح الإذن، وعقد السفيه بمهر مثلها أو بأقلَّ منه، فإن زاد على مهر المثل، صح النكاح ولزم مهر المثل، وسقط [الزيادة] (2). ولو قدّر مهراً، فتخيّر به السفيه امرأة، جاز، إذا كان مهرَ مثلها، وإن كان أكثر منه، لزم مهر المثل، ورُد الزائد؛ لأنه تبرع، وتبرعه مردود.
ولو أذن فيه من غير تعيين امرأة ولا تقدير مهر (3)، صح الإذن على وجهٍ، فإن زاد على مهر المثل، رُدّت الزيادة، وقيل: لا يصح؛ لأنه قد يتزوج من يستغرق مهرُ مثلها مالَه، فالوجه أنه لا يصح نكاحها إذا لم يقع موافقاً لمصلحته، وإن أفسدنا الإذن، فالنكاح باطل، وإن وافق المصلحة، فكأنه لم يأذن.
7868 - وأما العبد، فإنه لا ينكح بغير إذن سيده، كالسفيه بغير إذن وليه، فلو قال له المولى: انكح من شئت بما شئت، صح الإذن، وينكح هذا، ويتعلق المهر بكسبه، بخلاف السفيه (4)، فلو لم يجد السفيه إلا من لا ترضى بمهر مثلها، وأخبر بحاجته إليها، ففيه احتمال.
ولو أذن السيد لعبده أن يتزوج بمهر المثل (5)، فزاد عليه، قال الشافعي: لا تثبت
__________
(1) في الأصل: "للمصلحة".
(2) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام.
(3) هذا هو ما يعبر عنه بالإذن المطلق.
(4) المعنى أن العبد إذا أذن له السيد إذناً مطلقاً ينكح من شاء بما شاء، ويتعلق المهر بكسبه. أما السفيه، ففي الإذن المطلق احتمال سبق آنفاً، عند الكلام على زواج السفيه.
(5) أي يتعلق مهر المثل بكسب العبد، وتتعلق الزيادة بذمته.

(12/58)


الزيادة في حق السيد، ولا تتعلق بكسبه، بل بذمة العبد، يُتْبع بها إذا عَتَق، فيصح المسمى، ويتبعض متعلقه.
ولو عين ولي السفيه له امرأة، فنكحها على أكثر من مهر مثلها، رُدَّت الزيادة، ولم يطالب السفيه بها ولو فك الحجر عنه لرشده؛ لأنا نرعى فيما لا يتعلق بكسب العبد حقَّ السيد، وفي حق السفيه حق نفسه، ولو طولب بها إذا رشد، لطولب بها في الحال، كما لو أتلف مالاً، أو جنى جناية توجب المال.
قال: وفي النفس مما حكيته متفقاً عليه (1) أثر؛ فإنّ السيد إذا قال لعبده: انكح هذه، فلو نكح غيرها، لم يصح، لمخالفة الإذن، وكذا لو علق إذنه بوقت أو صفة، وجب اتباع ما عيّنه، فإذا قال: انكح هذه بألف، فنكحها بألفين، فليس هذا النكاح المأذونَ فيه، فمثله في ولي السفيه.
ووجه الجواب عنه، أن النكاح قائم بنفسه دون العوض، فإذا أذن فيه، استقل الإذن، ومخالفتُه في مقدار المهر مخالفة في الإذن في المهر؛ ولأن الأمر في المهر مردود إلى مهر المثل، بخلاف ما لو عين امرأة، فنكح غيرها؛ لأنه ترك مقتضى الإذن بالكلية.
ويلزم إذا وكل في قبول نكاح امرأة بألف، فقبل الوكيل بألفين، قال: فالمذهب الصحيح أن النكاح لا ينعقد؛ لأنه لا مستند لنكاح الوكيل إلا الإذن، فإذا خالفه، لم يتبق له مستند، وقيل: بأن الوكيل إذا خالف في مقدار المهر، يصح نكاحه؛ لأنه غير مقصود في النكاح، فلا يؤثر الخلاف فيه. قال: وهو بعيد ومنقول (2).
ولو قيل: بأن نكاح العبد والسفيه إذا خالفا في المهر لا يصح، لكان أوجه في المعنى مما ذكره في الوكيل.
ولو قال السيد لعبده: انكح هذه بألف، فإن زدتَ ولو درهماً، فلا إذن فيه،
__________
(1) أي في النفس شيء مما حكاه عن صحة زواج العبد مع مخالفته لإذن السيد، كما سيتضح من السطور الآتية.
(2) كذا.

(12/59)


فكما (1) أذنت لك فيه بألف [نهيتك] (2) عنه بالزيادة، فالذي يقتضيه الرأي أنه إذا زاد، لا يصح نكاحه مع تصريحه بنفي الإذن فيه، والنكاح وإن كان حقَّ العبد، فلا بد من رعاية إذن المولى فيه، لتعلّق حقه به.
وقد نصّ الشافعي رضي الله عنه أن العبد إذا زاد على ما قدره السيد، تصح تسميتُه وتلزم ذمتَه، يُتبع بها إذا أعتق، وفيه [غوص] (3)؛ فنُقدِّم أن الجمهور على أن العبد إذا ضمن ديناً بغير إذن سيده، لم يصح، ولا يثبت في ذمته المال، وقيل: يصح، ويتبع به إذا أعتق، وهو منقاس، فتعلّق بما نصّ عليه؛ فإن الزيادة وما ضمن لم يأذن السيد فيهما، وعدم تضرر السيد بالضمان لا يوجب صحته؛ [بخلاف الزيادة] (4) لأن للسيد تعلقاً بها، ولهذا لو ضمن لسيده شيئاًً عن أجنبي، لم يصح، وإن أمكن مطالبته إذا عتق، فكذلك (5) [القيمة] (6) الصحيحُ أنها تتعلق بذمته إذا عتق، وقيل: لا يطالب بها بعد العتق، والفرق أن الإتلاف لا يمكن ردُّه، ولا إحباطُ حق المتلف عليه (7)، والضمان عقد نسيئة، وتصحيحه وإبطاله إلى الشرع.
ولو اشترى العبد شيئاً بغير إذن سيده، فالمذهب أنه لا يصح، وفي صحته قول غريب حكيناه، والفرق بينه وبين الضمان، أن الضمان التزام مجرد، والبيع عقد عهدة، وثبوت الملك فيه للسيد من غير عهدة محال؛ فإن وارث المشتري يملك المبيع إرثاً، مع التزام العهدة (8)، وإلزام السيد العهدة بعقد انفرد به العبد محال،
__________
(1) "كما" بمعنى عندما، وقد مضى الكلام فيها.
(2) في الأصل: "نفيْتك".
(3) في الأصل: "غموض" ولا معنى لها. والمثبت تقدير منا، نرجو أن يكون صواباً؛ فالمعنى: وفيه بحث.
(4) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، نرجو أن تكون صواباً.
(5) التشبيه بالزيادة.
(6) كذا قرأناها بصعوبة على ضوء صورة الحروف وفي ضوء السياق.
والمراد قيمة ما يتلفه العبد من مالٍ على أجنبي. (مع ملاحظة أنه لم يسبق ذكره للإتلاف. فلعل في الكلام سقطاً؟).
(7) ولذا كان تصحيح تعلق القيمة بذمته.
(8) هذا تصوير لانتقال العهدة والتزامها.

(12/60)


ولا يتحقق هذا في الضمان لو صح، بخلاف الزيادة (1)؛ فإنها وإن التزمها العبد بغير إذن سيده إلا أنها جارية في سياق عقد مأذون فيه، فكانت أقرب من الضمان؛ ولأن أصحابنا وإن اختلفوا في العبد إذا قبل هبة أو وصية بغير إذن السيد هل تصح؟ وإذا صح فهل يملك السيد؟ لم يختلفوا في أن العبد إذا خالع زوجته على مال أن المال يدخل في ملك السيد قهراً، لأنه جرى في سياق الطلاق، وهو خارج عن الحجر، ويجمُل في القياس ألا تلزم الزيادة في المهر أصلاً، كالضمان، والفرق بينهما عسر، ولا يكتفى فيه بالجهالات، كاكتفاء أصحاب الرأي، [ويؤيده] (2) أن الظن إذا كان أغلب في الاجتماع من الافتراق، وجب الحكم بالاجتماع، ولا عبرة بفرق بعيد.
ولو اشترى السفيه شيئاً بغير إذن وليه، فشراؤه فاسد، فلو قبضه وأتلفه، لم يضمنه؛ لأن بائعه هو الذي سلّطه على إتلافه، وما لا يضمنه محجوراً عليه، لا يضمنه إذا فك حجره؛ لأن المرعيّ في الحالين حقه؛ ولأن تسليطه على إتلافه واضح، وشرط ضمانه محتمل؛ فثبت حكم تسليطه، ولم يلزمه الضمان.
ولو باع سفيه من سفيه شيئاًً، فقبضه وأتلفه، قطعنا بوجوب ضمانه عليه؛ لأن البائع ليس من أهل التسليط، وقد وجد من المشتري الإتلاف، فهو كما لو أتلفه من غير بيع.
7869 - ولو تزوج السفيه امرأة بغير إذن، وحكمنا بفساد نكاحه، ووطئها، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يلزمه مهر مثلها؛ لأنه عوض منفعة البضع؛ فلا يسقط بالتسليط، بخلاف ما لو أتلف المبيع في البيع الفاسد، لما قدمناه. والوجه الثاني - لا يجب المهر، كما لا تجب قيمة المبيع في البيع الفاسد، والوجهان مبنيان على القولين في المرتهن إذا وطىء الجارية المرهونة بإذن الراهن ظاناً جوازه، ففي وجوب المهر قولان.
__________
(1) فهي إذاً مراتب ثلاث في الصحة، أعني التزام السيد: أدناها - الشراء بغير إذنه. وأقوى منها - الضمان، وأصحها - الزيادة في المهر.
(2) في الأصل كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا: "وسره" بهذا الرسم تماماً وبغير نقط، والمثبت تقدير منا.

(12/61)


والوجه الثالث - أنه يلزمه أقل ما يتمول ولا يلزمه كمال المهر، حتى لا يعرى الوطء عن بدل، وهذا لا وجه له؛ فإن زوج المفوضة إذا وطئها، لزمه كمال مهر المثل، فلا يكتفى بأقل المال، وكذلك المرتهن إذا وطىء بإذن الراهن لا مهر عليه في قول، وفي الثاني يجب تمام مهر المثل.
7870 - والمحجور عليه للفلس يصح نكاحه، والسفيهة المحجور عليها المبذرة، في النكاح كالمُطْلَقة التصرف الرشيدة، فلو تولى مالها قيّم من قِبل الحاكم، فزوّجها أخوها، صح، وسرُّه أن الرشيدة لا تستبد بالنكاح، ولو كانت ثيباً بالغاً، وإذا طلبت التزويج، وجب إجابتها، فالحجر وعدمه في حقها سواء.
قلت: ولأن الحجر عليها في المال خوف إضاعته، وفي تزويجها تكثيره، وتوفيره بالمهر والنفقة، بخلاف الرجل السفيه؛ فإن نكاحه سببٌ في إضاعة المال، ونظيره أن السفيه يجوز أن يخالع زوجته بغير إذن وليه، لما فيه من تكثير ماله، وتوفيره بسقوط النفقة عنه.
فصل
7871 - لا يملك السيد إجبار عبده البالغ العاقل على النكاح في قوله الجديد؛ لأنه يملك حلّه بالطلاق، فلا يجبره على عقد يملك حله؛ ولأنه يُلزمه به مالاً، فلم يجبره عليه، كالكتابة، ونصَّ في القديم أنه يجبره، وهو مذهب أبي حنيفة (1)؛ لأنه استصلاح لملكه، فهو [كالفَصْد] (2) ونحوه.
فأما العبد الصغير، فإن قلنا: إنه يُجبَر البالغُ، فالصغير أولى، وإن قلنا: لا يجبر البالغ، ففي إجبار الصغير قولان: إن شئنا، بنيناهما على المعنيين في
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 312 مسألة 809، مختصر الطحاوي: 174. رؤوس المسائل: 378 مسألة: 255.
(2) في الأصل: "كالقصد" وهو تصحيف واضح، والمعنى أن للسيد أن يجبر عبده على (الفصد) أي إخراج الدم الفاسد، استصلاحاً له؛ لأنه من ماله، فكذلك يجبره على النكاح إخراجاً (للماء) استصلاحاً له.

(12/62)


البالغ، فإن قلنا: لا يجبره؛ لأنه يملك الطلاق، فالصغير لا يملك الطلاق، وإن قلنا: يُلزم ذمته مالاً، فكذا الصغير؛ فإنه لا يملك إجباره على الكتابة، والأوْلى توجيه القولين في [الصغير بالصغر] (1): فإن قلنا: يجبره، اعتبرناه بالصغير الموْلي عليه، والسيد بالأب والجد، وإن قلنا: لا يجبره؛ فلأن السيد لا ينظر لعبده، وإنما ينظر لملكه، والنكاح لا يرد على محل ملكه، وكذا الحاكم في المجنون.
قال العراقيون: إن قلنا: السيد يجبر عبده على النكاح، فالعبد لا يجبر سيده على الإنكاح. وإن قلنا: السيد لا يجبر عبده على النكاح، فهل يجبر العبد سيده على الإنكاح؟ قولان. وتعليله أن الطباع مجبولة على التشوف إلى النكاح، والرق لا نهاية له، فلو منع هذا الجنس من النكاح لجر ضرراً عظيماً. وإن قلنا: لا يُجبَر عليه السيد، فهو منعٌ لا ينتهي إلى الضرورة؛ ولذلك لا يجب على الأب أن يُعفَّ ابنَه. فإن أجرينا القولين، فرعناهما على أن السيد لا يجبر عبده، وإن قلنا: يجبره، بَعُد إجراء الإجبار من الجانبين، ويجوز أن نجريهما على القول بأنه يجبره، ويكون للعبد أن يحمله على التزويج، كما أن الأب يجبر البكر البالغة على النكاح، وهي تحمله على أن يزوجها، فالإجبار جائز من الطرفين. فإذا قلنا: العبد يجبر سيده، فمعناه أنه يطلب منه التزويج، فإن أجابه، فذاك، وإن أبى، فعلى وجهين: أحدهما - أن العبد يتزوج بنفسه، والثاني - لا يتزوج، لكن يأثم السيد بالامتناع.
ومن نصفه حر، لا يملك مالكُ رقه إجباره اتفاقاً؛ لما فيه من الحرية، وهل يملك هو إجبار مالك رقه على إنكاحه؟ على القولين؛ لأن حريته تؤكد استحقاقه إجبار مالك رقه، وتمنع من إجبار السيد له؛ لأن التزويج يتناول جملته؛ فلا يَجبُر موصوفاً بالحرية من غير سبب.
7872 - ويملك السيد إجبارَ أمته على النكاح؛ لأنه يعقد على منافعَ مملوكةٍ له، وهي منافع بضعها، بخلاف العبد، فإن كانت تحل للسيد، لم يُجبَر على تزويجها؛ لأنه يُعطِّل حقه من الاستمتاع بها، ولا حجر عليه فيه، ولا تملك مطالبته به؛ فإن
__________
(1) زيادة من المحقق؛ فعبارة الأصل: "والأولى توجيه القولين في الصغر، فإن قلنا ... إلخ".

(12/63)


الزوجة لا تملك مطالبة زوجها بالجماع، فكيف الأمة؟
وإن كانت لا تحل لسيدها، ففي إجبارها إياه على تزويجها قولان، تقدم توجيههما من مسيس الحاجة.
7873 - إذا أذن السيد لعبده في النكاح، فإن المهر، والنفقة، والمؤن الراتبة تتعلق بأكْساب العبد، فالإذن له في التزويج إذنٌ له في ذلك، وأقرب شيء إلى العبد كسبه، فقد أذن في صرفه إلى مؤونته. والقول الجديد: إذا تزوج بإذنه، لا يصير ضامناً للمهر والنفقة، والقول القديم: يصير ضامناً، وإن لم يصرح بالضمان، فوجه الأول - أنه لم يضمن تصريحاً ولا تعريضاً، ووجه الثاني - أن العبد يؤدي ذلك من كسبه، وهو ملك السيد؛ فلا فرق بينه وبين سائر أمواله، ولم يتعرض لتعلق ذلك بالكسب في إذنه، وينبني القولان على القولين في المأذون له (1) إذا قلنا: تتعلق ديونه بما في يده، ففي تعلقها بالسيد قولان، ووجه البناية في قولٍ كأنه ضامن عهدة تصرفاته فيما سلمه إليه، وفي قول تتعلق بسائر مال الإذن، كذلك السيد إذا أذن في النكاح، وهل يتعداه حتى يطالب السيد به؟ على القولين: قال العراقيون: إن قلنا: يطالب السيد، فلا كلام. وإن قلنا: لا يطالب، فلا يلزمه الضمان.
فلو كان العبد عاجزاً عن الكسب، وذلك ظاهرٌ لسيده، ففي مصيرِه ضامناً على هذا القول قولان؛ لأنه إذا كان مكتسباً أمكن أن يقال: أحال السيد الغرم عليه، وإذا لم يكن كسوباً، لم يتحقق هذا المعنى، وظهر التزام السيد له، ولو كان له كسب لا يفي، فإلزامه [ما زاد] (2) على الكسب بمثابة الجميع، ولا يشترط علم السيد بعدم كسبه في جريان القول الثالث (3)، حتى لو لم يعلم لكنه كان قادراً على البحث، فتركه، فهو كما لو علم.
ولو كان العبد كسوباً حالة العقد، وطرأت عليه زمانةٌ، فهو على أصل القولين،
__________
(1) المراد العبد المأذون له في التجارة بمال سيده.
(2) ما بين المعقفين زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(3) القول الثالث هو الفرق في ضمان السيد بين حالة كون العبد كسوباً، وحالة كونه غير كسوب.

(12/64)


ولا يجري فيه القول الثالث؛ لأنا إذا وجدنا بدلاً نُحيل الضمان عليه حالة العقد، [فلا يغيره] (1) ما طرأ.
إذا أذن السيد لعبده أن يتمتع بالعمرة إلى الحج ففي لزوم دم التمتع للسيد قولان مرتبان على القولين في ضمان مؤن النكاح ومهره، ولزوم دم التمتع أولى بألا يطالَب به المولى؛ لأنّ له بدلاً، فعليه عوّل السيد، وهو الصيام، وليس ذلك في مؤن النكاح.
فلو قلنا: لا يضمن السيد بمجرد الإذن، فلو قيد الإذن به، لم يصر ضامناً؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
[فإذا] (2) ضمن السيد المهر بعد العقد، صح ضمانه، وإن ضمن النفقة في المستقبل، لم يصح؛ لأنه ضمان مجهول، فإن ضمن منها [مقداراً] (3)، ففيه قولان؛ لأنه ضمان ما وجد سبب وجوبه، وعلى القديم يصير السيد ضامناً للمهر والنفقة جميعاً مع الجهالة، ومأخذُه تعلق العهدة والطَّلِبة (4) بسائر ماله من غير اختصاص بكسبه، وعلى الجديد لا يتوجه الضمان على السيد في جميع ماله، بل ينحصر في الكسب فيخلِّي بين العبد وكسبه، فإن اكتسب مقدار نفقته، فذلك مصروف إليها، ويبقى المهر على العبد، فإن فضل عنها، صرف الفاضل إلى المهر، حتى يؤديه منها.
7874 - وإن كان مأذوناً في التجارة، وفي يده مال لسيده يتجر فيه، تعلق ما يلزمه بالنكاح بالأرباح اتفاقاً؛ لأنها من كسبه، ونسبتها إلى رأس المال كنسبة الكسب إلى رقبة العبد.
وفي تعلق لوازمه بنفس رأس المال وجهان مشهوران: أحدهما - لا يتعلق به، لأنه ليس من كسبه، فهي كرقبته، والثاني يتعلق به؛ لأنه معتمد في تعامله، ولهذا تعلقت ديون التجارة برأس المال.
__________
(1) في الأصل: "ولا".
(2) في الأصل: "إذا" وزيادة الفاء من المحقق.
(3) في الأصل: "مقدراً".
(4) بهذا الضبط وزان كلمة (بفتحٍ وكسر) وأيضاً تأتي بوزن كِلْمة بكسر فسكون.

(12/65)


7875 - فلو أراد السيد أن يستخدم العبد في حضره، أو يسافر به، قال العراقيون: ليس له أن يشغله عن الكسب ما بقي عليه واجبٌ في النكاح؛ لأن ذلك يشغله عن الكسب الذي تعلقت الحقوق به، وهو حسن متجه. والمراوزة أجازوا استخدامه والسفر به، وألزموه ضماناً.
والله أعلم أن أقوى مراتب تعلق الحقوق تعلّقُ الدين بالرهن، وهو مانع للراهن من التصرف في المرهون ما بقي عليه شيء من الدين، ويليه تعلق الأرش برقبة العبد الجاني، وهو دون الأوّلة (1)؛ لأنه لم يتعلق بقصد المالك، فلذلك اختُلف في بيع العبد الجاني قبل فدائه، ويليه في التعلّق ما نحن فيه؛ لأن الأكساب متوقعة غير حاضرة، والوثائق تتعلق بشيء كائن؛ فإذا بعد رهن الدين، فالكسب المتوقع أولى.
قال العراقيون: إذا ضمن السيد لوازم النكاح، لم يُمنع من استخدامه والسفر به، قال: وفيه نظر؛ فإنه وإن ضمن [فما لم] (2) يؤد، ينبغي أن لا ينفك التعلق بالكسب.
فإذا جوزنا له أن يستخدم أو يسافر، ففعل، أو منعناه، فاستخدمه يوماً أو أياماً، لزمه حقوق النكاح، كما يلزمه فداء العبد الجاني إذا باعه، وهو ما [يتجه] (3).
وما الذي يلزمه؛ قيل: يلزمه المهرُ بالغاً ما بلغ، والنفقةُ؛ لأنه قد كان يكسب هذه المدة مبلغاً كثيراً يفي بذلك. والثاني - يلزمه أقل الأمرين: من أجرة مثل العبد لمدة الخدمة، أو ما لزم من مؤنة النكاح، وهذان القولان يقربان من القولين فيما
__________
(1) أشرنا سابقاً أن تأنيث (أول) بالتاء لغة.
(2) في الأصل: "ما لم" [بدون فاء] والمثبت تقدير منا، أيدته عبارة الإمام الغزالي في البسيط -وهي من عبارة شيخه غالباً- ونصها: "وفيه نظر؛ لأنه وإن ضمن، فما لم يؤدِّ، فتسليطه على الاستخدام فيه بعد" (ر. البسيط: 4/ 27 ش- مخطوط بمكتبتنا) ومعنى العبارة: أن تسليط العراقيين للسيد على استخدام العبد إذا ضمن لوازم النكاح محل نظر؛ فإنه برغم ضمانه يظل التعلق بكسب العبد ما لم تؤدَّ لوازم النكاح.
(3) غير مقروءة في الأصل، ورسمت هكذا: "بيعه" تماماًَ. والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق، ذلك أن بيع العبد الجاني موضع خلاف: قيل: لا يصح بيعه، ويقع فاسداً، ولا ينتقل به الملك، وقيل: يصح، ويلتزم السيد فداءه.

(12/66)


يفدي به جناية العبد (1)، فلو قتل السيدُ العبد (2)، لم يلزمه إلا الأقل؛ لأن المتلف لا يلزمه إلا قيمة ما أتلفه (3)، وقيل: يُبنى على القولين، وهو بعيد (4)، واستخدام السيد العبد بمثابة قتله؛ لأنه أتلف متعلق حقوق النكاح، وهو منفعته (5).
ويتجه فيه أن السيد أحال بحقوق النكاح على الكسب، فإذا أفسده، فسائر أمواله ككسبه عنده، بخلاف جناية العبد؛ فإنها تجب من غير سبب صدر من جهته.
ولو استخدم العبدَ أجنبي يوماً أو أياماً، لزمه أجرة المثل بلا شك من غير مزيد، لأنه أتلف منافعه، ولم يورط العبد فيما ورطه المولى (6) من التزام حقوق النكاح.
ونظير استخدام السيد هذا العبد ما إذا استخدم مكاتَبه مدة، ففي قولٍ يلزمه أجرة مثل المدة، ويناظر إلزامنا السيد أقل الأمرين، وفي قول يمهله مثل المدة زيادةً على نجومه، فيناظر إلزامنا السيد أكثر الأمرين.
فإن قلنا: يلزم السيد أقل الأمرين، فلا إشكال فيه، وإن قلنا: يلزمه الأكثر، لزمه المهر ونفقة الأيام التي استخدمه فيها، وفي إلزامه النفقة لمستقبل الأيام وجهان: أحدهما - تلزمه؛ لجواز أن يكتسب في تلك المدة ما يكفيه لبقية حياته، والثاني - لا يلزمه إلا الواجبات في أيام الاستخدام، أما الحادث الذي لا يحصر، فلا.
__________
(1) في فداء السيد لعبده الجاني خلاف فيما يفديه به؟ قيل: يفديه بكمال أرش الجناية، وقيل: يفديه بأقل الأمرين: قيمة العبد أو أرش الجناية.
(2) المراد العبد الجاني الذي تعلق برقبته أرش جنايته.
(3) فإذا جنى العبد جنايةً أرشها خمسون من الإبل، كأن قطع يداً من حُرٍّ سليم الأعضاء، يتعلق أرش هذه الجناية برقبته، فإذا كانت قيمته أقل من الأرش، كأن يساوي أربعين من الإبل مثلاً، لم يغرم السيد للمجني عليه إلا قيمة العبد وهو الصحيح؛ لأن المُحلف لا يلزمه إلا قيمة ما أتلفه. على حين لو أراد السيد أن يفدي عبده الجاني كان في المسألة قولان: يفديه بالأرش بالغاً ما بلغ، وقيل: يفديه بالأقل من القيمة أو الأرش.
(4) المذهب أنه لا يلزمه إلا القيمة في حالة قتله العبد، وهو ما عبر عنه الرافعي بالصحيح. (ر. الشرح الكبير: 8/ 203).
(5) المعنى أن الأرجح أنه لا يلزم السيد بالاستخدام إلا أجرة مثله؛ فهي قيمة ما أتلفه، وهو منفعة العبد.
(6) ورّطه السيد في التزام حقوق النكاح عندما أذن له فيه.

(12/67)


قال العراقيون: إذا اشتغل العبد بالكسب نهاراً، لم يكن لسيده أن يستخدمه ليلاً؛ لأنه وقت راحته، وتجب التخلية بينه وبين زوجته؛ لأنه لا يجوز استخدامه طول زمانه، ولا منعه من الاستمتاع.
أما الأمة إذا زوجها مولاها، فلا يلزمه تسليمها إلا ليلاً، وله أن يسافر بها، ولا يمنعه الزوج اتفاقاً.
7876 - هذا كله إذا كان النكاح صحيحاً بإذن السيد، أما إذا نكح العبد نكاحاً فاسداً بغير إذن، فإن لم يطأ، لم يلزمه شيء. وإن وطِىء على شبهة (1)، ففي المهر قولان: أحدهما - يتعلق بذمة العبد؛ يطالَب به إذا عتق؛ لأنه لم يأذن له في العقد؛ فلم يتعلق بكسبه، ولزمه برضا مَنْ له الحق (2)، فلم يتعلق برقبته، ويخالف السفيه إذا نكح بغير إذنٍ ووطىء؛ حيث لا يلزمه المهر على ظاهر المذهب (3)، والفرق أن المرعي في السفيه حقُّه، وفي العبد حق المولى، ولا خلاف أن من باع من السفيه شيئاًً بغير إذن وليه، وأتلفه السفيه أنه لا يلزمه شيء أصلاً (4)، ولو كان ذلك مع العبد، تعلقت القيمة بذمته.
ونص الشافعي في العبد على قول آخر: أنه يتعلق المهر برقبته، كأرش الجناية (5)؛ (لأنه يدخله الإباحة) (6)، وقيل: إنه ليس مذهباً للشافعي إنما حكاه عن
__________
(1) أي على شبهة صحة العقد.
(2) مَنْ له الحق: أي الزوجة. وما يلتزمه العبد يختلف تعلّقه؛ فإن كان برضا مَنْ له الحق، تعلق بذمته، وإن كان بغير رضا من له الحق، تعلق برقبته، وإن كان برضا السيد، تعلق بكسبه.
(3) وهناك قول بأن المهر يلزم السفيه، قياساً على الإتلافات؛ فقد أتلف منفعة البضع، وعن هذا القول قيل في العبد الذي نكح بغير إذنٍ، أو أذن له السيد، فنكح نكاحاً فاسداً، ووطىء؛ قيل: يتعلق المهر برقبته كأرش جنايته؛ فكلاهما إتلاف. وعبارة الرافعي: "الثاني - يتعلق المهر برقبته؛ لأن الوطء إتلاف؛ فبدله كديون الإتلافات. (الشرح الكبير: 8/ 205) ".
(4) إذا اشترى السفيه المحجور عليه شيئاً بغير إذن وليه - وأتلفه، فلا غرم عليه، ولا يلزمه شيء؛ لأن البائع هو الذي سلطه عليه؛ بتمليكه إياه.
(5) أشرنا إلى هذا القول وتوجيهه في التعليق قبل السابق.
(6) ما بين القوسين بهذا الرسم تماماً، ولم يظهر لي وجه هذا التعليل، ولا علاقته بالمسألة، ولعل في الكلام سقطاً، أو تحريفاً. =

(12/68)


غيره ومن أنكر هذا في العبد؛ فإنه ينكر وجوب المهر على السفيه.
7877 - ولو أذن له السيد إذناً مطلقاً، فنكح نكاحاً فاسداً، ووطىء فيه، ففي تعلق المهر بكسبه قولان: الأصح أن لا يتعلق به؛ لأن الفاسد غير مأذون له فيه. والقول الثاني - يتعلق المهر بكسبه لوقوع اسم النكاح على الفاسد، فيندرج الفاسد تحت الإذن، وينشأ من هذا أن من حلف لا يبيع، فباع بيعاً فاسداً، فالمذهب أنه لا يحنث، ويخرج من هذا القول أنه يحنث، وهو مذهب أبي حنيفة (1). فإن قلنا: يتعلق المهر بالكسب، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتعلق بالكسب، ففيه القولان، أحدهما - يتعلق بذمته، والثاني - برقبته.
إذا أذن له في النكاح، فنكح نكاحاً صحيحاً، وفسدت تسمية الصداق، تعلق مهر المثل بالكسب قولاً واحداً؛ لأنه وجب في نكاح مأذون فيه.
__________
= ولم نجد فيما ساقه الغزالي في البسيط، والرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة، لم نجد فيها ما يعين على قراءة هذه العبارة، ولعل من المفيد أن نذكر ما قاله الرافعي، فهو أكثرهم تفصيلاً للمسألة، قال:
" إذا فسد نكاح العبد؛ لجريانه من غير إذن السيد، فيفرق بينه وبين زوجته، فإن دخل بها قبل التفريق، فلا حدّ، للشبهة، ويجب مهر المثل. وبم يتعلق؟ فيه وجهان:
أصحهما - أنه يتعلق بذمة العبد؛ لأنه وجب برضا المستحق؛ فصار كما إذا اشترى أو اقترض بغير إذن السيد وأتلف.
والثاني - أنه يتعلق برقبته؛ لأن الوطء إتلاف، فبدله كديون الإتلافات، وهذا القول منهم من نسبه إلى القديم. ومنهم من قال: هو مخرج من قولٍ لنا: إن السفيه إذا نكح بغير إذن الولي، ووطىء يلزمه المهر، والقول الأول يوافق قولنا هناك: لا يلزمه شيء؛ لأن المرعي هناك حق السفيه، فينتفي الوجوب أصلاً، والمرعي هاهنا حق السيد، ولا ضرر عليه في التعلق بالذمة؛ فعلقناه بها." ا. هـ
ثم أشار إلى ما قاله إمام الحرمين هنا، فقال: "وفي النهاية أن من الأصحاب من لم ينسبه قولاً للشافعي رضي الله عنه، وقال: إنه حكى مذهب الغير" (ر. الشرح الكبير: 8/ 205).
(1) ر. مختصر الطحاوي: 323، البدائع: 3/ 83.

(12/69)


فصل
7878 - إذا زوج الرجل أمته، لم يلزمه تسليمها إلا في الليل وحده، لكنه يستخدمها في النهار، فلو أراد عكس ذلك، لم يكن له؛ لأنه خلاف المعتاد، والليل وقت الاستراحة، وهو عماد القَسْم (1)، ويلزم الحرةَ تسليمُ نفسها إلى زوجها ليلاً ونهاراً، وإن ملكت منافع بدنها، كما ملك السيد منافع الأمة، لكن نكاح الأمة مقتطع عن نكاح الحرائر، ولهذا يملك الزوج أن يسافر بالحرة حيث شاء، ولا يملك زوج الأمة أن يسافر بها، ويملك سيّدها أن يسافر بها، وإن فوت حق الاستمتاع على زوجها.
ولو قال السيد لزوج الأمة: أتخذ لك بيتاً في داري؛ تكون معك فيه، فقولان: أحدهما - لا يلزمه قبوله؛ لأنه قد يتعذر عليه دخول دار السيد، ويمنعه من ذلك الحياء والمروءة. والثاني - يلزمه؛ لأنه لا يلزم السيد رفع يده عنها، وفي إخراجها من بيته رفع يده عنها.
فإن سلمها إلى الزوج ليلاً ونهاراً، وجبت عليه نفقتها، وإن سلمها في الليل دون اللهار، فوجهان: أحدهما - لا تستحق نفقة؛ لأنها مشروطة بتمام التمكين، ولم يوجد. والثاني - تستحق نصفها؛ لأنها مكنت في أحد الزمانين. وكان شيخه يقول: "تستحق جميع النفقة؛ لأن التمكين المستحق عليها هو هذا؛ لأنه زمانه المتعارف. ولو كان تسلمها في النهار مستحقاً، لزم الوفاء به كالليل".
أما الحرة إذا سلمت نفسها في الليل دون النهار، ففيها وجهان كالأمة.
[قيل] (2): وفي الأمة إذا كانت تحسن صنعة تعملها في بيت الزوج (3)، وجب
__________
(1) أي القَسْم بين الزوجات.
(2) في الأصل: "قلت" وهو غير صحيح من ناحية، ولا تستقيم العبارة معه من ناحية أخرى، أما أنه غير صحيح، فهذا قولٌ في المسألة معروف قبل ابن أبي عصرون، حكاه الغزالي وغيره من الأئمة.
وأما أنه لا تستقيم العبارة معه، فكيف يقول عن قول نفسه: "وهو ضعيف؛ لأنه قد يحتاج إلى خدمتها ... "؟ وقد عرفنا من الغزالي في (البسيط) أن صاحب هذا القول هو: أبو إسحاق المروزي. كما سنورده في التعليق الآتي بعد هذا.
(3) صورة المسألة أن تكون الأمة صاحبة حرفة كالنسيج مثلاً، ويمكن أن تحسن هذه الحرفة في =

(12/70)


تسليمها ليلاً ونهاراً، وهو ضعيف؛ لأنه (1) قد يحتاج إلى خدمتها في غير الصنعة (2).
وإذا سافر السيد بالأمة المزوجة، سقط جميع نفقتها، وإن كان السفر جائزاً. ولو أراد الزوج أن يسافر معها جاز.
فصل
7879 - إذا زُوِّج العبد حرة، وضمن سيده مهرها، أو قلنا: يصير ضامناً له شرعاً، فلو اشترت الحرة زوجها [بالصداق] (3)، انفسخ النكاح، لأنه لا يتصور أن يكون زوجها مملوكها؛ لأن الزوجية والملك يتنافيان.
وهل تكون الفرقة من جهة سيد الزوج، أو من الزوجة؟ فيه قولان: أحدهما - من جهة السيد؛ لأنه هو الموجب (4) والقبول يبتني عليه، والثاني - يضاف إليها؛ لأنها هي المالكة، وكذلك لو وهبه منها.
وفائدة القولين أنا إذا أضفنا سبب الفراق إلى البائع، فلو وجد ذلك قبل الدخول، فنصف الصداق (5)، كما في الطلاق، وإن وجد بعد الدخول، لم يسقط منه شيء.
ولو قلنا: يضاف إليها، وكان قبل الدخول، سقط جميع المهر (6)، كما لو
__________
= بيت زوجها، فتنتقل إلى بيته ليلاً ونهاراً، وتؤدي واجبها في حرفتها، وثمرة الحرفة إلى السيد، فلا ينقص من حقه شيء، بوجودها في بيت الزوج ليلاً ونهاراً.
(1) "لأنه قد يحتاج إلى خدمتها في غير الصنعة" المراد السيد.
(2) وعبارة الغزالي في هذه المسألة: "وإن كانت محترفة ممكنة من الاحتراف في يد الزوج ... فالظاهر أنه لا يجب التسليم في مدة العمل. وقال أبو إسحاق المروزي: يجب جمعاً بين الحقين، وله غرض في مواساتها، والنظر إليها" ا. هـ (ر. البسيط: 4/ 30 يمين) مخطوطة مصورة بمكتبتنا.
(3) زيادة اقتضاها السياق، كما سيتضح من ذكره للصورة المقابلة، وهي الشراء بثمن غير الصداق.
(4) المراد الإيجاب والقبول في شراء زوجها من سيده.
(5) أي: فنصف الصداق هو المستحق، ولكن في العبارة ما يشبه التضمين إشارة إلى قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237].
(6) قال الرافعي: "وهذا أصح القولين؛ لأن الفرقة حصلت بالزوجة والسيد، لا اختيار للزوج =

(12/71)


ارتدت، أو فسخت النكاح بعيب ونحوه.
وكذلك إذا اشترت الحرة زوجها بثمنٍ غير الصداق قبل الدخول (1).
وإذا تزوج العبد بإذن سيده، وضمن السيد المهر المسمى، فإن تزوج أمة، فاشترى مولاها زوجَها، فالنكاح دائم، كما لو زوج أمته من عبده، فلو اشتراه بالمهر، سقط المهر؛ لوقوعه عوضاً وملكاً لمن كان له رقبة العبد، ولو اشتراه بألف في الذمة، وكان المهر ألفاً في الذمة، فلكل واحد من السيدين ألف في ذمة الآخر، ويجري فيهما أقوال التقاصّ.
وإن كانت زوجة العبد حرة، فاشترته بغير الصداق، صح الشراء، وملكت العبد وانفسخ النكاح، وسقوط المهر أو تنصيفه على ما فصلناه.
فإن رأينا سقوط مهرها بنسبة التملك إليها، لزمها ثمن العبد بكماله، وإن قلنا بالتشطر، فاشترته بألف، وكان المهر ألفين، سقط ألف بالفرقة، وكان الألف الثاني في مقابلة الثمن، إن جرى التقاص.
[من مسائل الدور الحكمي] (2)
7880 - إذا اشترت الحرة زوجها بالصداق، وكانت مفوِّضة قبل الدخول، وفرعنا على الأصح في سقوط جميع المهر، فلو ملكته بهبة أو اشترته بغير الصداق، فقد قال الشافعي: لا يصح الشراء؛ لأن في تصحيحه إفسادَه؛ لأنه لو صح الشراء، ترتب عليه الملك، وانفساخ النكاح، وإذا انفسخ النكاح، سقط المهر بكماله، وهو الثمن، وإذا عري البيع عن الثمن يفسد، وهذا هو الدور الحكمي.
وإن قلنا: إن الفسخ مضاف إلى البائع، سقط نصف المهر، ولم يتجرد البيع عن
__________
= فيها؛ ولأن الزوجة هي المتملكة، والملك هو الذي ينافي الزوجية ويقطعها" ا. هـ فالمعنى أن الفرقة حصلت من جهة الزوجة. وبسبب شرائها، فيسقط جميع المهر، كما لو ارتدت.
(ر. الشرح الكبير: 8/ 207).
(1) أي عليها أن تردّ المهر كاملاً، وتدفع ثمن الزوج أيضاً.
(2) العنوان من عمل المحقق.

(12/72)


جميع الثمن، بل عن نصفه، ونصفُه بمثابة إذا زوج الرجل أمته عبد غيره، فقبض جميع مهرها، ثم أعتق الأمة مالكها في مرض موته قبل الدخول بها، وقيمتها مقدار الثلث عَتَقت، ولا خيار لها برق زوجها؛ لأنها لو فسخت، ارتد المهر وصار ديناً على السيد، وينقص الثلث، لتقديم الدين على الوصية والميراث، ولأنه يُردّ العتق في بعضها؛ فلا يثبت الخيار لها، ففي إثبات الخيار إبطال الخيار.
وكذا لو لم يقبض المهر، وكان محسوباً من التركة، فإنما يكون ثلث التركة مع المهر، وكذلك لو قبض المهر، ولم تستهلكه، فلو ثبت الخيار في هذه الصورة، واسترد المهر، لنقص الثلث لا محالة؛ وبطل العتق في بعضها؛ فيبطل الخيار.
* إذا مات رجل وخلف عبدين وأخاً في ظاهر الأمر، فأعتق الأخ العبدين، وعُدِّلا، فشهدا أن فلانة كانت زوجة الميت، وأتت منه بولد لمدة الإمكان، فإن كان الولد ذكراً، لم يرث، وثبتت الزوجية والإرث لها، ويثبت نسب الابن ولا يرث؛ لأن توريثه يحجب الأخ، ويُبطل العتق، وإذا بطل، لم تثبت الشهادة (1)، ولا الزوجية، ولا النسب.
ولو كان الولد (2) أنثى وقلنا: إن عتق النصف يسري عاجلاً، وكان الأخ المعتق موسراً، ترتب على هذا أن البنت ترث؛ لأنها لا تحجب الأخ، وبقي بعضُ العبدين ملكاً له، فإذا نفذ العتق في بعضهما سرى (3).
وإن كان الأخ معسراً، لم ترث البنت لأن في توريثها ردّ بعض العتق، وكذلك الزوجة لا ترث في هذه الصورة، ويعايا (4) بها فيقال: ولدٌ للميت لو كان ذكراً، لم يرث، وإن كان أنثى، ورثت.
__________
(1) "لم تثبت الشهادة" لأن العبيد ليسوا من أهلها.
(2) المراد الولد المشهود بأن الزوجة أتت به.
(3) "سرى"؛ لأنه موسر، والموسر إذا أعتق حصته في عبد، سرى العتق إلى باقيه، وقوّم عليه لحساب شركائه.
(4) أي يُلغز بها.

(12/73)


* إذا أوصى لرجلٍ بابنه (1)، ثم مات الموصي، ومات الموصى له قبل القبول، وخلَّف أخاه، فقبل الأخ الوصية، صح قبوله وعتق الابن (2)، ولا يرثه، لأنه لو ورثه
__________
(1) صورة المسألة أن يملك عبداً، وقبل أن يموت يوصي بهذا العبد لأبيه (أب العبد)، ثم يموت الموصى له بعد موت الموصي وقبل القبول، ويخلِّف أخاه وارثاً له، فيرث حق القبول للوصية؛ فإذا قبل الوصية، عتق العبد الموصى به للقرابة، ولكنه لا يرث أباه؛ لأنه لو ورثه لحجب الأخ (أخ الأب)، وإذا حجب الأخ، لم يصح قبوله الوصية، وإذا لم تقبل الوصية، يظل (الابن) رقيقاً، وإذا ظل رقيقاً، لا يحجب الأخ (أخ الأب) وتدور المسألة. (على القول بانتقال الملك في الموصى به إلى الموصى له بموت الموصي) [كما سنوضح في التعليق الآتي بعد هذا] وانظر هناك أيضاًً في نهاية التعليق احتمال التصحيف، وأن الوصية (بأبيه) لا بابنه.
(2) "وعتق الابن" لأنه دخل في ملك أبيه بموت الموصي، على القول بأن الوصية تدخل في ملك الموصى له بموت الموصي. وهناك قولان آخران: أحدهما - يوقف ملك الموصى له، حتى إذا قبله الموصى له، دخل في ملكه بالقبول. والثاني - يوقف حتى إذا قبل، تبينا أنه دخل في ملكه بموت الموصي. فهذه أقوال ثلاثة في وقت انتقال ملك الموصى به:
1 - ينتقل إلى ذمة الموصى له بموت الموصي.
2 - يوقف على القبول، فإن قبل، تبينا أنه دخل في ملك الموصى له بموت الموصي.
3 - يوقف على القبول، فإن قبل، دخل في ملكه بالقبول.
وعلى قولي الوقف يكون الملك قبل القبول للميت أم للوارث؟ وجهان: أصحهما - أنه يكون للوارث.
* وإنما أطلنا بذلك لنؤكد أن المسألة لا تصح مثالاً للدور إلا على القول الأول في وقت انتقال ملك الموصى به إلى الموصى له، أما على القولين الأخيرين، فلا يعتِق (الابن) على من قَبِل الوصية؛ لأنه ابن أخيه؛ فلا يعتِق عليه عندنا؛ "فإن عتق القرابة عند الشافعية، يختص بقرابة البعضية، يعني الأصولَ والفروعَ، من الأجداد والجدات، والأولاد وأولاد الأولاد، ولا يعتِق غيرُ الأبعاض مع الأصول والفروع عندنا، وقال أبو حنيفةَ وأحمدُ رحمهما الله-: يعتق كلُّ ذي رحم محرم بالملك، كالأخ، وابن الأخ، والعم والخال."
انتهى ملخصاً من الشرح الكبير: 13/ 342، 343).
* وقد رأيت المسألة في (البسيط) للغزالي: "أوصى لرجلٍ بأبيه" وحينئذ تصح المسألة مثالاً للدَّور، على أي وقتٍ قدرناه لامتلاك الموصى به؛ لأنّ قابل الوصية سيملك (أباه)، وهو يعتق عليه عند جميع الأئمة.
* هذا والمسألة في وسيط الغزالي، ووجيزه، وفي الشرح الكبير، وفي الروضة، "أوصى لرجلٍ (بابنه) " فهل ما في (البسيط) هو الصواب، وما عداه تحريف وتصحيف =

(12/74)


لحجب الأخ، وإذا خرج الأخ عن كونه وارثاً، لم يصح قبوله، فلا يصح العتق.
ولو خلف الموصى له ابناً، وقبل الوصية، ففي ميراث الابن قولان ذُكرا في الوصية، من قال: لا يرث، قال: لأن القابل ليس جميع الورثة، ومن قال: يرث، قال: لأن القابل كان عند القبول مستغرقاً، ولم يخرج عن الورثة، وهو ضعيف والصحيح أنه لا يرث، ومن ورّثه فرّع على [أن] (1) الملك يحصل بموت الموصي، أو بناءً على الوقف (2)، لما قدمناه. فإن قلنا: إنما يحصل الملك وقت القبول، لم يرث أصلاً؛ لأنه لم يعتق في حياة الموصى له، وإنما يرث من كان حراً حالة موت الموروث.
* من اشترى أباه، أو ابنه في مرض موته، فإن وفى به الثلث، عتق عليه، ولا يرث من عتق عليه؛ لأن عتقه وقع وصية (3)، ولا تصح الوصية لوارث (4)، فسقط الإرث.
وإذا وُهب للمريض من يعتق عليه، فقبل الهبة، فلو نفذنا العتق، ففيه وجهان: فإن قلنا: العتق من الثلث، فلا ميراث، وإن قلنا: من رأس المال، ورث؛ لأنه لا يجمع بين الإرث والوصية.
7881 - ومن كان له دين على عبد غيره، أو أرش جناية، فملك رقبة العبد، ففي سقوط دينه وجهان: أحدهما - يسقط، كما يمنع الملك ابتداءه (5)، والمهر ثابت في ذمة العبد (6)، وهو في مرتبة الأصيل، وإذا برىء الأصيل، برىء الكفيل (7)، لأنه فرعه.
__________
= توارد عليه النساخ؟ لا سيما أن الفرق بين اللفظين (بابنه) و (بأبيه) مجرد النفط لا غير؟ الله أعلم.
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) "الوقف" أي وقف الملك انتظاراً لقبول الموصى له أو ردّه، كما شرحناه في التعليق قَبْل السابق.
(3) لأن شراءه من يعتق عليه يعتبر تبرعاً، والتبرع في مرض الموت محسوب من الثلث وصية.
(4) فكأنه أوصى له برقبته.
(5) "ابتداءه": أي ابتداء الدين.
(6) أي يعتبر ديناً.
(7) "الكفيل": المراد السيد؛ فهو ضامن لمؤن نكاح العبد بسبب إذنه.

(12/75)


والحرة إذا اشترت زوجها بغير المهر، أو ملكته بسبب غيره (1)، فهل يسقط المهر عنه، فإن قلنا: لا يسقط الدين عنه، فإذا اشترت الحرة زوجها بعد المسيس بمهرها، صح الشراء ولا دور، وإن قلنا: يسقط الدين، قال الفقهاء: تدور المسألة على هذا، ولا يصح الشراء؛ لأنه لو صح، أسقط المهر بملكه؛ لأنه يُسقط الثمن، فيسقط الملك، فيُفضي إلى الدور، وقال القفال: كنت أفتي وأحكي أن البيع يصح بناء على أن المهر لا يسقط، فرأيت في المنام أني سئلت عنها، فأجبت بأن البيع يفسد لسقوط الثمن بطريان الملك، والسيد البائع ضامن، وإذا برىء الأصيل برىء الكفيل، ثم انتبهت، فوجدت في المسألة وجهين مبنيين على العلتين (2).
فصل
7882 - إذا قال لأمته أنت حرة على زق خمر، فلا تعتِق ما لم تقبل الخمر، فإن قبلتها، عَتَقت بالقبول، ويرجع إلى قيمة الرقبة؛ لأنه لا سبيل إلى الوفاء بما التزمته.
ولا تلتزم العقود في الذمة، وإذا التزمت، لم يجب الوفاء بها.
__________
(1) كالهبة مثلاً.
(2) أورد الغزالي في البسيط قصة القفال هذه بصورة أكثر تفصيلاً، حيث قال:
"قال القفال: كان حفظي عن أصحابي أنه يصح العقد؛ بنا على أن المهر لا يسقط، ثم رأيت في المنام أني سئلت عنها، فقلت: لا يصح. وعلّلت بسقوط المهر، وبنيته على أصلين للشافعي رحمه الله: أحدهما - لا يسثحق المالك على عبده ديناً، والثاني - أنه إذا لم يستحق برىء عن المهر بشرائها إياه، وهو الأصل. ومهما برىء الأصيل، برىء الكفيل، وهو السيد؛ فيؤدي إلى ارتداد العوض. ثم انتبهت، فتصفحت الكتاب، فوجدته على وجهين مبنيين على أن من اشترى عبداً له دين في ذمته بجناية أو غيرها، فهل يسقط الدين بالملك الطارىء، كما يمتنع بالملك المقارن، فعلى وجهين" ا. هـ. (ر. البسيط: 4/ 21 شمال) مخطوطة مصورة بمكتبتنا.
قلت: (مهما) في كلام الغزالي بمعنى (إذا): أي إذا برىء الأصيل، برىء الكفيل.
وأيضاًً صورة المسألة في دين العبد: أن يجني حرٌّ -رجل أو امرأة- على عبد غيره، فيستحق العبد بسبب هذه الجناية مالاً على الجاني، يستقر ديناً في ذمته، فإذا اشتراه الجاني، وصار سيداً له، فهل يسقط دين العبد؟ بمعنى: هل يمنع الملك الطارىء الدين، كما يمنعه الملك المقارن؟

(12/76)


وإذا قال السيد لأمته: أعتقتك على أن تنكحيني، لم تعتِق بمجرد هذا القول، فإذا قبلت ما أراده، عَتَقَت، ولا يلزمها الوفاء به لما قدمته. ولا يصلح ما التزمته عوضاً، فهو عوض فاسد؛ فرجع إلى القيمة، فإن تزوجت به، فهو عقد مبتدأ، لا يقع عوضاً عن العتق، فإن أصدقها غير ما عليها من القيمة، ثبت الصداق، وله عليها قيمة رقبتها، وقد يقع فيه التقاصّ، ولو أصدقها القيمة التي عليها عالمين بقدرها، صح الصداق وبرئت عما عليها، وإن كانا جاهلين بها، أو أحدهما، ففي صحة الصداق وجهان: أصحهما - أنه لا يصح؛ للجهالة، والثاني - يصح؛ لأنه أضاف القيمة إلى رقبتها، والقصد براءتها منها، لا استيفاؤها، فكأنه أصدقها رقبتها، أو عبداً يجهلان قيمته، وهذا لا يصح (1)؛ لأن القصد القيمة وهي مجهولة، بخلاف رقبتها والعبد، فإنهما معلومان.
ولو أتلفت امرأة عبداً على رجل، فتزوّجها على قيمة العبد الذي أتلفته، فالصداق فاسد، ومهر المثل واجب، وتسمية العبد في إضافة القيمة إليه مع جهالتها لا تُغني.
ولو طُرد فيها الوجهان، فهو قياس، لكن الصحيح ما قدمناه.
ولو قالت الأمة: أعتقني على أن أتزوجك، فقال: أعتقتك، عَتَقَت، ولزمتها القيمة، كما تقدم، قال صاحب التقريب: إذا خاف ألا تفي، فقال: إن قدر الله بيننا نكاحاً، فأنت حرة قبله بيوم، فمضى يوم أو أكثر، فرضيت وتزوجها، صح النكاح، وتعتن وقوع العتق مقدماً عليه، وإن أبت، بقيت رقيقة.
وقيل: لا تصح هذه الحيلة؛ فإنه إثبات نكاح على الوقف، والنكاح لا يوقف على الصحيح، وقيل: يخرج على أن من تزوج جارية أبيه، ثم تبين أن أباه كان قد مات قبل تزوجه، وكانت مملوكة له، ولم يشعر، ففيها هذان القولان، وهذا نوع من الوقف، واختار شيخه صحة النكاح؛ لتبين وقوعه في حال الحرية، بخلاف من تزوج جارية أبيه؛ فإنه نكحها على غير بصيرة؛ فإن الأصل بقاء أبيه.
ولو قالت حرة لعبدها: أعتقتك على أن تتزوج بي، أو على أن أنكحك،
__________
(1) "وهذا لا يصح" إشارة إلى القول الثاني بتصحيح العقد مع جهل القيمة.

(12/77)


فالجمهور على أن العتق ينفذ بمجرد قولها، ولا يتوقف على قبول العبد؛ لأنها لم تشترط عليه شيئاًً يقوم به، بل وعدته خيراً، فهو كما لو قالت: أعتقتك على أن أُعطيك ألفاً، بخلاف قول السيد: أعتقتك على أن تتزوجي بي؛ فإنه قول يقصد به المال، بخلاف نكاحه؛ فإنه وإن كان مقصوداً لها، إلا أنه ليس مما يُقوّم لها، وقيل: لا ينفذ العتق فيما لم يقبل العبد، فإن قبل، لزمه قيمة رقبته؛ فإن المرأة تقصد الرجل، وقد تبذل خزائنها في الوصول إليه، وإن كان ذلك لا يتقوّم شرعاً، فهو مقصود بالمال عرفاً. ولا حاصل له؛ فإن الرجل لو قال لامرأته: طلقتك على ألا تحتجبي عني أبداً، فإنّ هذا لا يعدّ عوضاً، وإن كان مقصوداً لبعض الناس.
***

(12/78)


باب (1) اجتماع الولاة وتفرقهم
7883 - قال الشافعي: "ولا ولاية مع الأب ... إلى آخره" (2).
الغرض من هذا [الباب] (3) ترتيب الأولياء، وبيان منازلهم، وتقديم الأَوْلى منهم.
والوجهُ أن نذكر المراتب الكلية، ثم نذكر ترتيب الأشخاص في كل مرتبة، فنستثني الملك والتزويجَ به، ونقول بعده: الوِلاية تناط بالنسب، والوَلاء، والوِلايةِ العامة. وأهلُ النسب مقدمون على أهل الولاء، والولاية. ثم مستحقو الولاء، ثم بعدهم الوالي.
فأمّا أهل النسب، فلا شك أنهم لا يلي منهم أحد [إلا] (4) العصبات، ثم ترتيب الأولياء في التزويج، كترتيب عصبات النسب في الميراث، إلا في ثلاثة أشياء: أحدها - أن أوْلى العصبات الابن، ولا يتصور أن يكون مع الابن عصبة، ولا ولاية للابن في التزويج عندنا أصلاً، ولا يملك أحدٌ التزويج بسبب آخر؛ فإن القاضي يزوّج أمَّهُ بولاية القضاء، وللابن أن يزوّج [أمَّه] (5) بالولاء، إذا كان يستحق ولاءها.
والجملة أنّ البنوة لا تفيد الولاية، ولا تنافي الولاية بسبب آخر من الأسباب.
__________
(1) إلى هنا انتهى السقط الذي بدأ من أول كتاب النكاح. وسيبدأ هذا القسم معتمداً على نسخة وحيدة هي نسخة (ت 2). وسيلحق بها (ت 3).
والكتاب مائل للطبع جاءنا هذا الجزء من (صفوة المذهب)، فاتخذناه نصّاً مساعداً. والله المستعان.
(2) ر. المختصر: 3/ 263.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: إلى.
(5) في الأصل: ابنة.

(12/79)


والمعنى الذي نضبط به المذهب حدّاً أن الابن ليس منتسباً إليها، ولا هي منتسبة إليه، فانتسابها إلى أبيها، وانتساب ابنها إلى أبيه، وليس الابن أيضاً منتسباً إلى [أصل] (1) نسبها. فهذا مما فارق ترتيبُ الأولياء فيه ترتيبَ عصبات النسب [في الميراث] (2).
والثاني - أن الأخ من الأب والأم، أو من الأب يزاحم الجدَّ في الميراث، كما تقدم البابُ المشهور فيه. والجد مقدّمٌ في التزويج على الأخ؛ فإنه عند (3) عدم الأب يُنزّل منزلة الأب، وتثبت له الولاية الحقيقية؛ وهي الإجبار، ولا يثبت ذلك للإخوة.
والثالث - أنّ الأخ من الأب [والأم يقدّم على الأخ لأبٍ في الميراث] (4).
واختلف قول الشافعي في أن المرأة إذا كان لها أخ من أب وأم، وأخ من أب، كيف سبيلها في الولاية؟
[الأول] (5) - لا يتقدم الذي هو مُدلٍ بقرابة [الأب] (6) والأم على الذي هو مُدْلٍ بقرابة الأب على التمحُّض.
والقول الثاني - أن الأخ من الأب والأم أولى (7).
توجيه القولين: من رأى تقديمَ الأخ من الأب والأم، قاس الولاية على الميراث، ومن قال: إنهما يستويان، احتج بأنهما استويا في الإدلاء [بمن استفادة] (8) الولاية
__________
(1) في الأصل: أهل. والمثبت تقدير منا.
(2) زيادة من المحقق.
(3) عبارة الأصل: فإنه عذر عند عدم الأب ...
(4) زيادة من عندنا، لا يتم الكلام إلا بها، ولا يكون إلا كذلك.
(5) زيادة من عمل المحقق، لاستقامة الكلام.
(6) ساقطة من الأصل.
(7) وهذا هو الأظهر (ر. قليوبي وعميرة: 3/ 224)، وجعلهما النووي قديماً وجديداً، فقال: "أظهرهما وهو الجديد: يقدم الأخ من الأب والأم، والقديم يستويان" (ر. الروضة: 7/ 59).
(8) في الأصل: فمن استفاد.

(12/80)


منه؛ فإنّ قرابة الأم لا تفيد الولاية، وهما مستويان في قرابة الأب، وقرابة الأم تفيد الميراث على الجملة.
ومن نَصر القول الأول؛ أجاب بأن قرابة الأم لا تفيد العصوبة، والأخُ من الأب والأم إنما يحجبُ الأخ من الأب بطريق العصوبة. وقد ينقدح في هذا جواب، وما ذكرناه الآن كافٍ.
7884 - ثم يتصل ببيان ما نحن فيه أمور: منها - أنه لو اجتمع في المسألة ابنا عم، أحدهما أخٌ لأم، فلا يتقدم ابنُ العم الذي هو أخ من الأم على الذي ليس أخاً، ولكن للذي هو أخ من الأم السدس بالأخوّة، والباقي بينهما بالعصوبة. هذا حكم الميراث.
فأما حكم الوِلاية؛ فإذا رأينا تقديم الأخ من الأب [والأم] (1) فلو اجتمع ابنا عم، أحدهما أخ لأم، فالذي ذكره شيخي -وهو مذكور في بعض التصانيف- أن الذي هو أخ لأم مقدَّم (2)؛ فإن الأخوَّة من الأم لا تناسب الولاية أصلاً، وليس فيها إلا أنه مزيد قرابة، وهذا المعنى متحقق في أخوة الأم في ابن العم، وإن كانت لا تناسب قرابة العمومة.
وكان يقول: إذا كان للمرأة ابنا ابن عم: أحدهما ابنُها، فيخرّجُ هذا الخلافُ أيضاًً، وإنْ كانت البنوة لا تفيد الولاية أيضاً (3).
وقال ابن الحداد: إنْ كان للمرأة ابنا معتِق، وأحدهما ابنُها، فهو أولى بتزويجها، فرجَّح بالبنوّة في مرتبة الولاء، ولم أر هذا (4) لغير شيخي. وفيما ذكره ابن الحداد ما يوافقه.
وذكر بعضر المصنفين هذا على هذا الوجه.
ولست أرى الأمرَ كذلك؛ فإن من يقدِّم الأخ من الأبِ والأم؛ فمعتمده تقدُّمُه
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) وهو الراجح. (ر. قليوبي وعميرة: 3/ 224).
(3) أيضاً: أي كالأخوّة لأم.
(4) هذا. إشارة إلى تخريج الخلاف في ابني ابن العم إذا كان أحدهما ابنها.

(12/81)


[على] (1) الأخ من الأب بالعصُوبة وإن كان أُخوّة الأم لا تؤثّر في العصوبة؛ فالوجه (2) أن نخصص هذا بما يؤثّر في العصوبة لا غير، وأخوّة الأم في ابن العم لا تفيده قوةً في العصوبة أصلاً. [وأبعدُ] (3) من ذلك البنوّة؛ فإنه لا وقع لها أصلاً.
والذي ذكره ابن الحداد مأخوذٌ عليه عندي؛ فإن الولاء جنسٌ آخر مخالف النسب؛ فترجيح من يزوّج بالولاء بالبنوة في نهاية البعد، فالوجه إجراء [القولين] (4) في أخوين أحدهما من الأب، والثاني من الأب والأم. ثم نجري هذا في ابنيهما، كما ذكرناه في بني الإخوة.
7885 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن المزني اختار أن الأخ للأب والأم أولى بالصلاة على أخيه من الأخ للأب، واحتج في ذلك بالميراث، وبالصلاة على الميت؛ فإن الأخ من الأب والأم أولى بالصلاة على أخيه من الأخ من الأب.
وقد ذكر الأئمة في عصبات المعتِق أنه إذا كان للمرأة أخو المعتق من الأب والأم وأخوه من الأب، فكيف السبيل فيه؟ قالوا: في الميراث بينهما خلافٌ: من أئمتنا من سوى بينهما؛ فإن الميراث بالولاء يتعلق بمحض العصوبة، والأصح تقديم الأخ من الأب والأم في المواريث بالولاء أيضاًً. ثم أمرُ التزويج يترتب على هذا، فمن أئمتنا من قطع باستوائهما في ولاية التزويج، ومنهم من أجرى القولين، وسبب هذا الاختلاف، التردد الذي ذكرناه في الميراث.
وما احتج به المزني من الصلاة على الميت؛ فالمذهب القطع فيه بالسَمليم،
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) هذا غير معتمد في المذهب، بل نصّ النووي على مخالفة الإمام فيه حيث قال: "ولو كانا ابنا عم أحدهما أخوها من الأم، أو ابنا ابن عم أحدهما ابنها، فقال الإمام: "هما سواء". وطرد الجمهور القولين، وقالوا: الجديد: يقدم الأخ والابن" (ر. الروضة: 7/ 59). هذا وقد تعقب ابن أبي عصرون الإمامَ فقال في (صفوة الذهب): "لا وجه لردّ الإمام على شيخه، وعلى ابن الحداد، وقوله: إن قرابة الأم أفادت قوةً في التعصيب لا يصح ... إلخ".
(3) في الأصل: "وانعمد" والمثبت من صفوة المذهب.
(4) في الأصل: القول.

(12/82)


والفرق أن مزيد القرب يورث مزيد رقّة وتحنّن وشفقة، وذلك قد يؤثّر في صدق النية في الدعاء. وكذلك الوصية للأقرب يظهر فيها اعتبار قوة القرابة.
وقد ذكر بعض أئمّة المذهب أن من أصحابنا من أجرى في الصلاة والوصية أيضاًً قولين، كما ذكرناه في ولاية التزويج، ولولا أني رأيت هذا لمعتمَدِين، لما أوردته مع ظهور الفرق بين الصلاة والوصيَّة، وبين الولاية.
فهذا مجموع ما أردنا أن نذكره فيما تفارق فيه عصباتُ النسب في الميراث عصباتِ الولاية.
7886 - وإذا أردنا تجديد العهد بترتيبهم؛ قلنا: الأبُ أولى في الولاية.
ثم الجد أبو الأب أولى من غيره.
ثم الأخ، وقد قدّمنا القولين في أخوين؛ أحدهما من أب وأم، والثاني من أب، وأجرينا ذلك في ابني الأخوين.
ثم الأعمام، والترتيب فيهم كالترتيب في الإخوة. ثم كذلك بنو الأعمام، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم. وهذا على الترتيب المذكور في العصبات.
هذا بيان ترتيب الأشخاص في مرتبة أهل النسب.
7887 - فإذا لم تكن للمرأة عصبةُ نسب من الذين ذكرناهم واعتبرناهم؛ فالنظر بعد ذلك في الولاء.
ونحن نذكر مستحقي الولاء أولاً، وحُكمَهم في التزويج، ثم نذكر عصباتِ أصحاب الولاء.
فأما مستحقو الولاء، فالمعتِق يلي تزويج معتَقته إذا لم تكن لها عصبةُ نسب من الذين ذكرناهم.
ولو أعتقت المرأةُ جاريةً -ولا شك أن المعتِقة لا تزوج نفسها- ولكن قال الأصحاب: يُزوِّج مُعتَقَتَها من يزوجها. معناه: أن أولياءَ المعتِقة أولياءُ المعتَقة.
وهذا سديد؛ فإنهم عصبات المعتِق، وسنصفهم.
ثم قالوا: يزوج وليُّ المعتِقةِ المعتَقةَ ولا حاجة إلى إذن المعتِقة؛ فإنه لا احتكام

(12/83)


لها على [معتَقتها] (1)، ولا حاجة إلى إذنها، وهي ليست وليّة في العقد.
هذا ما ذهب إليه الجمهور (2). وليس ذلك كتزويج مملوكة المرأة، فإن وليَّ المالكة يزوجها بإذن المالكة، ولا حاجة إلى إذن المملوكة؛ فإن الحكم في المملوكة للمالكة.
ورأيت لبعض الأصحاب في المجموع الكبير للشيخ أبي علي، وهو في بعض التصانيفِ أيضاًً: أنه لا بد من مراجعة المعتِقة أيضاًً؛ فإنها مستحِقةٌ للولاء، وعصباتها إنما يزوّجون المعتَقَة لإدلائهم بالمعتِقة. وهذا متَجِهٌ لا بأس به.
ثم إن روجعت المعتِقة، فأذنت، فلا كلام، وإن أبت، كانت عاضلةً حينئذٍ، وقياس هذا الوجه يقتضي أن تراجِع السلطان.
ثم التزويج إلى السلطان، أم إلى عصبة المعتِقة، والسلطانُ يأذن؟ الوجه القطع بأن السلطان يأذن، والعصبات يزوّجون. فليتأمل الناظر ذلك.
ومما يتعلق بما نحن فيه أنه إذا أعتق الأمةَ طائفةٌ من الشركاء؛ فلا سبيل لأحدهم للانفراد بالتزويج؛ فإنهم - وإن [تعدّدوا] (3) بمثابة معتِقٍ واحد. فهذا ما اتفق عليه علماؤنا، وليسوا كإخوةِ امرأةٍ؛ فإن كل واحد منهم أخ على الكمال، وحالُه ومعه أمثالُه كحاله لو انفرد، وليس كذلك المشتركون في الإعتاق؛ فإن الولاء حقٌّ يثبت لهم على قدر أملاكهم. ثم إن رضوا وكلوا وكيلاً، أوْ (4) وكلوا واحداً منهم. فإن عضَلوا، زوّجها السلطان، وإن امتنع بعضهم، فهو كما لو امتنع جميعهم، فالسلطان يزوّج المعتَقة.
ولو أعتق الجاريةَ رجلٌ واحد، ومات، وخلّف ابنين، ثبت لكل واحد منهم حقُّ التزويج، ولا يكون الولاء مشتركاً بينهما؛ فإن الولاء لا يورث، [ولكن يورث به، ولسنا لتفصيل ذلك الآن، بل إلى كتاب الولاء، إن شاء الله، ولكن إن عرضت
__________
(1) في الأصل: "معتقها".
(2) وهو ما استقر عليه المذهب. (ر. قليوبي وعميرة: 3/ 225).
(3) في الأصل: بعدوا.
(4) في الأصل: ووكلوا.

(12/84)


مسألة] (1) أوضحناها. ونكتفي الآن بمسألةٍ واحدة، وهي حكمنا بأن الولاء للكبير (2).
وبيان ذلك؛ أن من أعتق مملوكاً ومات، ثم خلّف ابنين، ثم مات أحد ابنيه، وخلّف ابناً، ثم مات المعتَق وخلّف ميراثاً، فهو لابن المعتِق، وليس لابن ابنه منه شيء. ولو كان الولاء موروثاً، لكان لما مات أحد ابني المعتِق، رجعت (3) حصته إلى ابنه، ثم كان يقتضي ذلك أن يُصرف قِسطٌ من الميراث إليه، فوضح أن الولاء لا يورث؛ وموجَبُ ذلك أن ابني المعتِق بمثابة أخوين؛ فيتصور أن ينفرد كل واحد منهما بالتزويج. وهذا واضح [لا يحتاج] (4) إلى مزيد كشفٍ فيه.
ولو أعتق الجارية شريكان، ثم ماتا، وخلف كلُّ واحد منهما ابناً، فهما بمثابة المعتِقَين في الحياة. ولو خلف أحدهما ابنين، والثاني ابناً واحداً؛ فكل واحد من ابني أحدهما ينزّل منزلة المعتِق للنصف، لما ذكرناه من أنهما لا يرثان الولاء، بل يرثان به، وهذا بيّن.
وقد نجز ما أردناه في المعتِق، وما اتصل الكلام به في الأطراف.
7888 - ونحن نبتدىء الآن الكلامَ في عصبات المعتِق، ونستعين بالله تعالى، فنقول:
ترتيب عصبات المعتِق كترتيب عصبات النسب، إلا في مسائلَ نستثنيها:
أحدها - أن ابن المرأة لا يليها، وابن المعتِقة يلي تزويج المعتَقة؛ وذلك لأن ابنَ المرأة لا ينتسب إليها، وابنُ المعتِقة [تنتسب] (5) إليه.
__________
(1) عبارة الأصل: "فإن الولاء لا يورث، بل إلى كتاب الولاء - إن شاء الله أوضحناها ونكتفي الآن" وواضح أن بها سقطاً واضطراباً، فأقامها المحقق على ضوء السياق. والحمد لله صدّقتنا (صفوة المذهب).
(2) الكبير: المراد به الكبير في الدرجة والقرب، وليس في السن، وهو معنى ما روي عن عثمان رضي الله عنه: "إن الولاء للكُبر" بضم الكاف. (ر. الروضة: 12/ 175).
(3) رجعت: المعنى الواضح: انتقلت.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: تتسبب.

(12/85)


والثاني - أن جدّ المرأة أولى من أخيها، فإذا اجتمع جدُّ المعتِق، وأخوه من الأب والأم، أو الأب؛ ففي المسألة قولان: أحدهما: أنهما يستويان، لاستوائهما في الدرجة والقرب، هذا يقول أنا أبو أب المعتِق، وهذا يقول أنا ابن أب المعتِق.
والقول الثاني - أن الأخ أولى (1)؛ فإنه يُدلي إلى أب المعتق بطريق البنوة، والجد يدلي إلى أب المعتِق بطريق الأبوة، والبنوة أقوى في العصوبة من الأبوة، وليس جدّ المعتِق أصلاً للمعتَقَة التي تُزوَّج، حتى يجعل أولى بالقيام بولاية الفرع ممن يقع فرعاً في نسبها، وإذا كان كذلك؛ فالوجه تقديم من هو أقوى في جهة العصوبة.
ولو اجتمع جدّ المعتِق وابن أخيه؛ فيجري قولان فيهما على وجه واحد، وهما مأخوذان من المعنَيين اللذَيْن جرى القولان عليهما في الجد والأخ: فمن راعى الدرجةَ في الجد والأخ، وقضى باستوائهما، يقدّم الجدّ على ابن الأخ، [ومن يقدم الأخ، يقدم ابنه] (2)، فإنه [ينظر] (3) للقوة، ولا يلتفت إلى قرب الدرجة وبُعدها.
ومما يتعلق ببيان ذلك؛ أن من أعتق جارية، وكان للمعْتِق أبٌ وابنٌ، فلا شك أن واحداً منهما لا يلي تزويج المعتَقة في حياة المعتِق؛ فإن المعتِق هو الوليّ، وليس لأبيه ولا لابنه ولاء في حياته، وإذا مات، وخلف المعتَقَةَ وخلّف أباه وابنه، فالابن [هو] (4) الذي يزوّج المعتَقَة دون الأب؛ لأن الابن هو العصبة، والأب مع الابن صاحب فرض، وليسَ لأصحاب الفرض استحقاقٌ بالولاء، ولو ماتت المعتَقة، لم يرثها [إلا ابن] (5) المعتِق.
7889 - ولو أعتقت امرأةٌ جاريةً، ولها أبٌ وابن؛ فالذي ذكره شيخي وجماعةٌ [من] (6) الأئمة أن الأب يزوج المعتَقة في حياة المعتِقة، [أما بعد موتها] (7) فقد ظهر
__________
(1) وهو الأظهر. (ر. روضة الطالبين: 7/ 60).
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: الابن.
(6) زيادة من المحقق.
(7) ساقط من الأصل.

(12/86)


اختلاف أصحابنا، فذهب المحققون إلى أن تزويج العتيقة يثبت بعد موت المعتِقة لابن المعتِقة؛ فإنه الوارث بالولاء؛ فيجب أن يثبت حق التصرف بالولاء له، وليس للأب حق في الولاء مع الابن، وليس هذا كحالة الحياة؛ فإن الأب والابن استويا في أنهما لا حق لهما في الولاء ما دامت المعتِقة حية، ولكن الأب لما كان وليَّ المعتِقة، ملك تزويج عتيقها، وقد انقطعت ولاية الأب عن المعتِقَة بموتها، ولم يتجدد له حق في الولاء (1).
ومن أصحابنا من قال: ولاية تزويج العتيقة كانت ثابتة للأب في حياة المعتِقة؛ فتدوم تلك الولاية على ما كانت، وتبقى مستصحَبةَّ.
وهذا الوجه على اشتهاره ضعيف، ووجهه على ضعفه؛ أن الابن لو زوج لم يكن تزويجه باستحقاقه الولاء؛ فإنا ذكرنا أن الولاء لا يورَث، وإنما يورث به، من جهة العصبات، والعصبات ينتمون إلى مستحِق الولاء، وإذا كان الابن يزوّج عتيقة أمه لو انفرد، بسبب أنه ابن صاحبة الولاء، فاستصحاب الولاية التي كانت في حياتها أقربُ من إثبات الولاية بالانتساب إلى مستحقةِ الولاء. فهذا ما ذكره الأصحاب.
وذكر الشيخ أبو علي أن المعتِقة لو كانت حيّة، ولها أب وابن فمن يزوّج العتيقة؟
فعلى وجهين؛ أحدهما - أنه يزوجها أب المعتِقة؛ فإنه وليها، فكان إليه تزويج عتيقها.
والوجه الثاني - أنه إنما يزوج العتيقة في حياة المعتقة ابنها. وهذا غريب جداً؛ فإنه لا استحقاق له في حياة المعتِقة، وليس إليه تزويج المعتِقة، حتى يزوج العتيق تبعاً لتزويج المعتِقة. وهذا واضح.
ولكن وجهه -على بعده- أنا إذا كنا نذكر وجهاً في أن [الأب] (2) هو المزوِّج بعد موت المعتِقة، مع العلم بأنه لا استحقاق له في الولاء بعد موت المعتِقة؛ فلا يبعد أن يقال: الابن يزوج العتيقة في حياة المعتِقة، وإن لم يكن له استحقاق في الولاء.
__________
(1) وهذا هو المعتمد فعلاً في المذهب (ر. الروضة: 7/ 61).
(2) في الأصل: المعتق. (وهو تحريف مضلِّل، كم أرهقنا حتى اجترأنا على تغييره). والحمد لله أيدتنا صفوة المذهب.

(12/87)


والطريقة ضعيفة في وضعها لما قدّمنا ذكره. والمذهب المعتد به ما ذكره الأصحاب.
هذا ما أردناه، وقد بان به القول في عصبات المعتِق (1).
7890 - فإن مات المعتِق، ولم يكن له عصبةُ نسب، وكان لمعتِقه معتِقٌ؛ فولاية التزويج إلى معتِق المعتِق، [ثم إلى عصبة معتِق المعتِق] (2)، فإن كان قد مات معتِق المعتِق، فإن لم يخلف معتق المعتِق عصبة، لا من جهة النسب ولا من جهة الولاء؛ فلا شك أن ميراث المعتَقة لبيت المال. فقال (3): [فالولاء و] (4) حق التزويج للمسلمين، والنائب عنهم الوالي، وهذا مستغنىً عنه، مع أن السلطان ولي من لا ولي له.
ولو قيل: تزويج السلطان معلل بعلتين: إحداهما - أنه نائب المسلمين، فحق الولاء راجع إليهم، والسلطان نائبهم، والعلة الثانية: الولاية العامة. [فللقول في هذا مجال] (5)، وهو قليل الفائدة. وهو غرض الفصل.
وقد انتجز القول في ترتيب الأولياء في جهة الولاء.
وقد رسمنا في مبتدأ الفصل ثلاث مراتب، وأوضحنا أن مرتبة النسب مقدمة، وتليها مرتبة الولاء، ثم في كل مرتبة ترتيبٌ لأشخاص تلك الجهة، وقد تقدم بيان ذلك. فإن لم نجد نسيباً ولا منتمياً إلى ولاء، فولاية التزويج إلى السلطان. وقد مضى تفصيل القول فيه.
فرع:
7891 - إذا كان بين رجلين جاريةٌ مشتركة، فأعتق أحدهما نصيبه، وكان معسراً، فلم يسْر عتقُه، وبقي نصفُها رقيقاً، فمن يزوجها؟ وما التفصيل؟
__________
(1) لم يذكر إمامنا المسألة الثالثة المستثناة من تشابه عصبات النسب وعصبات الولاء، وهي كما ذكرها النووي: "إذا اجتمع أخو المعتق لأبويه، وأخوه لأبيه، فالمذهب القطع بتقديم الأخ للأبوين، وقيل بطرد القولين كالنسب، وقيل: يستويان قطعاً" ا. هـ (ر. الروضة: 7/ 60 - 61).
(2) في الأصل: فإنه عصبة المعتق.
(3) فقال: القائل هو الشيخ أبو علي، الذي بدأ النقل عنه قُبيل هذا.
(4) في الأصل مكان ما بين المعقفين: للأزواج. ولعل ما أثبتناه يكون لفظ المؤلف.
(5) في الأصل: "فالقول في هذا محال". وعسى أن يكون تصرفنا هذا هو مراد المؤلف.

(12/88)


نُقدم على ذلك تجديدَ العهد بالقول في الميراث، ومذهبُنا أن من نصفُه حر لا يرث. وهل يُورَث؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يورَث ويُستَحق بالإرث ما خلص له على مقابلة الحرية.
والثاني - لا يرثه قرابته.
فإن قلنا: يرثه قرابته، فلا كلام. وإن قلنا: لا ترثه؛ ففي مصرف ما خلفه وجهان: أحدهما - أنه يُصرف إلى [مالك] (1) الرق في نصفه؛ فانه أقرب الناس إليه.
والثاني - أنه يُصرف إلى بيت المال. وقد فصّلنا هذا في كتاب الفرائض.
فإذا تجدد ذكر هذا، عُدنا بعده إلى المقصود.
7892 - فإذا أردنا تزويج جارية نصفُها رقيق ونصفها حر، فلا يخلو: إما أن تكون لها عصبة من القرابة تصلح لولاية النكاح، أو لا يكون لها عصبة، فإن كان لها عصبة، فالمذهب أنه يزوجها عصبتها مع مالك [الباقي] (2)، وتزويجهم أولى من تزويج مالك الولاء (3)؛ فإن النسب متقدم على مستحق الولاء.
ومن أصحابنا من قال: ليس [للنّسيب] (4) ولايةٌ أصْلاً؛ فإن النسب لا يتبعض، فإذا لم يسلط على التزويج بالنصف (5) الرقيق، فقد بطل أثره؛ فعلى هذا يكون التزويج إلى صاحب الولاء [ومالك الرق] (6)؛ فإنه كما لا يمتنع التبعيض في الملك لا يمتنع التبعيض في حق الولاء، وإنما المستبعد التبعيض في حكم النسب.
وهذا ساقط لا أصل له، مع مصيرنا إلى [أن] (7) أهل النسب يرثونه في نصفه الحر
__________
(1) في الأصل: بالغ.
(2) في الأصل: الولاء. وهو خطأ يبين صوابه ما بعده من الكلام.
(3) أي مالك ولاء النصف المعتَق.
(4) في الأصل: النسب.
(5) بالنصف الرقيق: الباء بمعنى (في).
(6) عبارة الأصل مضطربة هكذا: "يكون التزويج إلى صاحب الولاء، وقال ملك الرق الرق؛ فإنه كما لا يمتنع ... إلى آخره". وعبارة ابن أبي عصرون بهذا المعنى نفسه. فإنه قال: "يزوجها المعتِق والشريك".
(7) زيادة من المحقق.

(12/89)


بسبب النسب، فإذا لم يبعد إفادة النسب الإرث، لم يبعد إفادته الولاية. وما ذكرناه تفريع على أن ما خلَّفه يستحقه أهل نسبه.
فأما إذا فرّعنا على أن أهل النسب لا يرثونه، فلا يثبت لهم ولاية التزويج؛ قال الشيخ أبو علي: يزوجها في ظاهر المذهب مالك الرق ومستحق الولاء، ولا ينظر إلى الميراث.
قال: وقد ذكر بعض أصحابنا في أصل المسألة وجهاً آخر: أن هذه الجارية لا تُزوَّج أصلاً لعسر الأمر فيها. وهذا قولٌ سيأتي في موضعه في "المستولدة لا تزوّج". وهذا الوجه بعيد.
7893 - وفي المسألة بقية نظر: وسبيل الكشف أنا إن أثبتنا الميراثَ لأهل النسب؛ فظاهر المذهب أنه يزوّجها عصبة النسب والمالك، وفيه وجهٌ بعيد؛ أن عصبة النسب لا تزوِّج. فعلى هذا؛ هل يزوِّج المولى (1) مع المالك؟ الظاهر أنهما يزوجانها، وإن كان صاحب الولاء [لا] (2) يرث مع عصبات النسب.
ومن أصحابنا من قال: يزوجها المالك والسلطان، ويُخرج المعتِقَ كما أخرج أهلَ النسب، من جهة أن صاحب الولاء محجوب في الميراث بأهل النسب. فيبعد أن يزوِّج. نعم، يجوز أن يقال: إذا تعذر التزويج من المتعلقين بالأسباب الخاصة، فالسلطان يزوج.
وذكر بعض الأصحاب أنها لا تزوج.
وهذا إذا ورّثنا أهل النسب.
فإن لم نُورّث أهلَ النسب، لم نورث صاحب الولاء أيضاًً؛ فينقدح في هذا المقام ثلاثة أوجه: [الأول] (3) - أن القاضي والمالك يزوِّجان، وهذا متجه في هذا المقام.
__________
(1) المولى: أي مولى العتاقة، صاحب الولاء.
(2) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(3) زيادة اقتضاها السياق.

(12/90)


والثاني - أن التزويج إلى المالك وصاحب الولاء، وكأن صاحب الولاء مالك؛ فإن الولاء تبعُ الملكِ والحالّ محله إذا زال الملك، غير أنه لا إجبارَ به. وهذا ضعيف.
والوجه الثالث - أنها لا تزوج أصلاً.
والصحيح (1) من جميع ما ذكرناه أنا إن ورثنا، فالتزويج للمالك [ولعصبة] (2) النسب، وإن لم نورّث، فالتزويج للمالك والقاضي.
هذا تحرير ما قيل في هذه المسألة.
فرع:
7894 - إذا أعتق المريض أمةً في مرض موته، لا مال له سواها؛ قال ابن الحداد: ليس لأوليائها الأحرار تزويجُها. فإذا كان للمعتَقة أخ حر، فزوجها الأخ [الحر] (3) على الوجه الذي ذكرناه، لم نحكم بصحة النكاح. واعتل بأن أمرها في عتقها موقوف، فربما لا تَعتِق كلها -وهذا هو ظاهر الحال- وربما تَعتِق كلها؛ بأن [يصح من مرضه] (4)، أو يستفيدَ من المال ما يُخرج هذه عن ثُلثه. وإذا كان الأمر على التردد؛ فالنكاح على الوقف مردود عند الشافعي. هذا كلام ابن الحداد.
واختلف أصحابنا في المسألة: فذهب بعضهم إلى أنا لا نحكم بصحة النكاح، كما قاله ابن الحداد.
ومنهم من قال: نحكم بالصحة في الحال، ونقضي بتسليط الزوج عليها؛ فإنا نراعي في تصرفات المريض الحال، ولا ننظر إلى ما يكون في المآل، والدليل عليه أنه لو وهب جميع ماله لإنسان، فالذي قبضه الموهوب له، نقضي فيه بملكه، ولو تصرف فيه تصرف الملاّك، لحكمنا بنفوذه في الحال، ولم نمنعه من الإقدام على تصرفه، وإن كنا قد نُتبع بعضَ التصرفات بالنقض في [المآل] (5) إذا مات الواهب ولم
__________
(1) الأمر كما قال الإمام، فقد جعل النووي هذا الوجه الأصحّ من وجوهٍ خمسة ذكرها (ر. الروضة: 7/ 62).
(2) في الأصل: للعصبة.
(3) في الأصل: المريض. (ولا معنى لوصف الأخ بالمرض هنا).
(4) في الأصل: بأن من يصح فرضه.
(5) في الأصل: الثاني.

(12/91)


يف ثلثه، وكذلك إذا مات المعتق في مسألة ابن الحداد، وأوجب [المآل] (1) فساد النكاح، بأن [بان] (2) لنا فساده إسناداً. وهذا لا يمنع من الحكم بالتسليط في الحال على الظاهر. وهو كما لو عقد النكاح بشهادة مستورَيْن، فالزوج يتسلط في الحال على الاستمتاع، وإن كنا نقول: لو بان من بعدُ فسقُهما حالة العقد، لكنا نحكم بفساد النكاح تبيُّناً.
قال الشيخ أبو علي: من وافق ابنَ الحداد فيما قاله: وهو أنا لا ننفذ النكاح في الحال لتردده - فيحتمل على [قياسه] (3) طردُ ذلك في هبة المريض؛ حتى يقال: لو [وَهبَ] (4) هذه الجارية التي فرضنا إعتاقها وسلَّمها، لا ينفذ التصرف من المتهب القابض، إذا كان التصرف لا يقبل الوقف، ولا يحل له الإقدام على وطئها لتردد الأمر، ولا يحتمل قياسه إلا هذا.
يحققه: أن من جملة ما يفرض من تصرفاته؛ أن يزوجها إذا قبضها بحكم الملك، ولا فرق بين أن يزوجها المتّهب بحكم الملك، وبين أن يزوجها أخوها إذا أعتقت بحكم الولاية.
هذا ما ذكره الشيخ على قياس ابن الحداد. ولم يُبعد أن يكون ذلك مذهباً له. ولو سلّم ابنُ الحداد الحكم بنفوذ تصرفات المتهب في الحال، لم يجد فرقاً بين ما يسلمه وبين النكاح الذي منعه. وإن طرد الخلاف في هذه المسائل -وهو الظن به- فلا شك أن مذهبه يقع مخالفاً لنص الشافعي.
التفريع:
7895 - إن حكمنا بصحة النكاح في صورة ابن الحداد، فهو حكم على الظاهر، وحقيقة الأمر موقوفة على ما سيبين في ثاني الحال، فإن بان نفوذ العتق، بأن يصح هذا المريض، أو بأن يستفيد مالاً يفي ثُلثُه بقيمة الجارية، ويموت على هذه الحالة، فنتحقق نفوذَ النكاح على الصحة. وإن مات على ما عهدناه حالة الإعتاق،
__________
(1) في الأصل: الحال.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: قياس.
(4) الأصل: ذهبت.

(12/92)


بقي النظر في إجازة الوارث وردّه، فإن رد الوارث العتق الزائد على الثلث، عَتَقَ ثلثها. وتبين فساد النكاح على الشبهة، ثم لا يخفى تفصيل ذلك.
وإن أجاز الوارث، خرجت الإجازة على قولين؛ في أن الإجازة من الورثة ابتداء تبرع منهم أم تنفيذ للوصية؟ فإن حكمنا بأنه ابتداءُ تبرع، فالنكاح مجرىً على الفساد؛ فإن العتق كان متبعضاً حالة النكاح. وإنما أنشأ الوارث الإتمامَ من بعدُ، وإن حكمنا بأن الإجازة تنفيذ، فيبين صحة النكاح.
وهذا القائل يجب أن يقول: إذا ثبت نفوذ العتق؛ بأن يصح المعتِق، فالحكم في النكاح على الصحة تنجيزاً وتبيّناً؛ فإنا تبينا الحكم صحة النكاح ظاهراً حال حياته، فإذا صح من مرضه، فقد اطرد ما بنينا صحةَ العقد عليه.
فأما إذا كان نفوذ العتق بسبب استفادة مال زائد، ثم تمادى المرض إلى الموت، أو كان سبب النفوذ إجازة الوارث، وقد جرى أمر جديدٌ سوى ما بنينا عليه نفوذ النكاح؛ فيحتمل أن يلتحق هذا بما لو زوج الإنسانُ جارية أبيه في غيبة أبيه، ثم تبين أن الأب كان ميتاً حالة التزويج، ويحتمل أن نحكم بالصحة في مسألة المريض في صورة استفادة المال [و] (1) في التفريع على أن إجازة الوارث تنفيذ؛ فإن ما يتجدد فهو موافق لما تقتضيه الحياة من تنفيذ التصرفات. وهذا بيّن.
وفيما مهدناه من تصوير وجوه الوقف في كتاب البيع ما يقرر هذا.
وإن فرعنا على مذهب ابن الحداد؛ فلو أعتق المريض الجارية، وفي يده مال يفي ثلثُه بقيمة المعتَقة حالة الإعتاق، وجرى تزويج الأخ على هذه الحال، ثم طرأت آفةٌ قللت ماله، وردّت ثلثه إلى مبلغٍ ما يفي بقيمة الجارية؛ ففي قياس ابن الحداد تردّدٌ في هذه الصورة: يجوز أن يقال: النكاح محمول على الصحة في الحال بناءً على كثرة المال، ويجوز أن يقال: لا يحمل النكاح على الصحة لنقصان تصرف المريض، والأموال عرضة الآفات. فهذا مجموع القول فيما فزعه ابن الحداد.
7896 - وقد ذكر الشيخ أبو علي في أثناء الشرح تفريعاً على وجه ابن الحداد - شيئاً،
__________
(1) الواو زيادة لاستقامة العبارة، فهما صورتان: استفادة مال وإجازة ورثة.

(12/93)


فقال: فحوى كلام ابن الحدّاد يدل على أن السيد لو أعتقها -كما صورنا، فزوجها بنفسه- نفذ ذلك منه؛ فإنها إن [رقّت] (1)، فهو سيدها، وإن عَتَقَتْ، فله ولاؤها.
كذا قال الشيخ.
وهذا مشكل؛ فإنا لو قدرنا نفوذ العتق، فالمعتِق لا يملك التزويج بالولاء إذا كان للمعتَقة أخ من أهل الولاية؛ فإن الأخ أولى بتزويج الحرة من المولى. ولعل الشيخ أبا علي إنما قال ما قال؛ من جهة أن التصرف الذي يصدر من المريض فهو محمول على النفوذ في نفسه، وإنما التوقف في تصرف غيره إذا بني على تصرفه.
وهذا ليس بشيء؛ فإنا إذا حكمنا بنفوذ عتقه [على] (2) ألاّ تنكح مع الأب (3)، فهذا التفريع إذاً مردود.
وقد انتهى الكلام في ترتيب الولاة وتزويجهم بحكم الولاية، وسيأتي تفصيل القول في تزويج الملاّك لإمائهم.
فصل
قال: "فإن زوّجها أحدهم دون أسنّهم وأفضلهم كفئاً، جاز ... إلى آخره" (4).
7897 - لما ذكر الشافعي ترتيب الولاة والمنازل التي يترتبون فيها، صوّر بعدها اجتماع الولاة في درجة واحدة.
فإن كان للمرأة إخوةٌ أولياء لا ترتب فيهم، فطلبت المرأة التزويج؛ فإن امتنع الأولياء عن التزويج وعضلوا، فالسلطان يزوجها.
ويتفرع في هذه الحالة أنهم لو تطابقوا على العضل، انتسبوا إلى المعصية، كما أوضحنا ذلك في صدر الكتاب.
__________
(1) في الأصل: وفت.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) أي ينفذ عتقها من السيد المريض لكن لا يزوّجها وليّها النسيب الأبُ أو غيره.
(4) ر. المختصر: 3/ 264.

(12/94)


وإن دعت واحداً من أوليائها إلى التزويج، وكان من الممكن أن يزوجها غيرُ هذا المدعو؛ فهل لهذا المدعوّ أن يمتنع، ويكل التزويج إلى أصحابه؟ فيه اختلاف؛ ينبني على أن الجماعة إذا تحملوا شهادة، فدعا صاحب الحق اثنين منهم إلى إقامة الشهادة، فهل يتعين عليهما أن يقيما ما تحملاه؟ فيه اختلاف مشهور، وسيأتي ذكره في كتاب الشهادة، إن شاء الله عز وجل. هذا إذا امتنعوا.
7898 - فأما إذا تنازعوا في التزويج، فكان يطلب كل واحد منهم أن يكون هو المزوج، نظر: فإن خصصت المرأة واحداً منهم بالإذن والتفويض، فهو المزوج لا غير؛ فإن الأولياء في حقها بمثابة الأجانب في حق من يريد أن يوكل واحداً منهم بالتصرف، وستزداد [المسألة] (1) وضوحاً في فصول الوكالة من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
وإن أذنت لجميع الأولياء، ولم تخصص بإذنها واحداً منهم، فإذا تنازعوا -كما صورنا- فإن كان فيهم من هو أسن وأفضل؛ فالأولى للأولياء أن يسلموا ذلك إلى أسنهم وأفضلهم. وهذا استحباب لا تنتهي مخالفته إلى حد الكراهة؛ من جهة أن تعاطي [التزويج] (2) حق لكل واحد من الأولياء، ولا ينتهي نَدْبُنا الإنسانَ إلى ترك حظه إلى حدّ الكراهة.
فإن استمروا على النزاع، فالأولى أن يقرع بينهم، ويفوض التزويج إلى من خرجت له القرعة.
فلو خرجت القرعة لواحدٍ، فابتدر [غيرُه] (3) وزوج، نفذ التزويج، إذا كانت المرأة مستمرة على الإذن للجميع، كما صورنا.
والذي أراه الآن أيضاًً أن تزويج المبتدِر لا ينتهي إلى حد الكراهية؛ لما حقَّقتُه، إلا
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: الزوج.
(3) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها. (راجع المسألة في الشرح الكبير: 8/ 3 - 4، والروضة: 7/ 87 - 88).

(12/95)


أن يكون الإقراع من سلطان، فيتجه أن نقول حينئذ: [استباق] (1) السلطان مكروه. والقول في ذلك محتمل.
وفي بعض التصانيف أنه إذا زوّج من لم تخرج له القرعة، لم ينفذ تزويجه (2).
وهذا بعيد غير معتد به. ولست أدري أن هذا القائل يخصص هذا الوجه البعيدَ بقُرعة ينشئها السلطان، أو يطرده في القرعة التي ينشئها الأولياء من غير ارتفاع إلى مجلس الحكم؟
7899 - ثم إنما ينفذ التزويج ممن يزوج إذا كان زوّجها من كفئها. فأما إن زوجها بإذنها بمن لا يكافئها، ولم يرض سائر الأولياء؛ فللذين لم يرضَوْا حقُّ الاعتراض على عقده.
ثم اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأن النكاح لا ينعقد إذا لم يكن صدَرُه (3) عن إذن كافة الأولياء؛ فإنا لو حكمنا بانعقاده، لكان مخالفاً لموجب الشرع؛ فإن التزويج من غير الكفء يُلحق عاراً بالنسب وأهله، وهذا لو صح، لكان متضمناً تنجيزَ ضرارٍ لا يزول، بأن نثبت للباقين حق الفسخ؛ فإن العار اللاحق لا ينغسل بتقدير الفسخ؛ إذ في تقدير نفوذ النكاح تسليط الزوج عليها. وهذا مما نقمناه من مذهب أبي حنيفة لمّا قال: إذا زوجت المرأة نفسها من لا يكافئها، فالنكاح ينعقد، والزوج يتسلط، وللأولياء حق الاعتراض. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: في انعقاد النكاح قولان: أحدهما - الانعقاد؛ فإن العاقد من أهل العقد، وقد أذنت المرأة، فينزل هذا منزلة ما لو اشترى الرجل شقصاً مشفوعاً وقبضه، ثم باعه، فبيعه نافذ، وإن كان للشفيع أن ينقضه.
__________
(1) في الأصل: كلمة مطموسة، تقرأ على استكراه (استصواب).
(2) عبارة النووي في هذه المسألة: "فإن بادر غيره، فزوجها، صح على الأصح، وقيل لا يصح"، فلم يحكم على هذا الوجه (بالبعد وعدم الاعتداد) كما فعل إمامنا (ر. الروضة: 7/ 87).
(3) صَدَرُه: أي صدوره. وهذه إحدى خصائص استعمال الإمام لهذا المصدر ونحوه، يأتي به على وزن (فَعَل) بفتح الفاء والعين.

(12/96)


والثاني - أنه لا ينعقد. وقد سبق توجيهه. وقطع الشيخ أبو حامد بالانعقاد.
فاجتمعت ثلاث طرق. وسبب التردد -أخذاً من النص- أن الشافعي قال: إذا زوجها أحدهم ممن لا يكافئها، فالنكاح مفسوخ، ففهم الأصحاب من الفسخ رفع نكاح منعقد.
فصل
قال: "وليس نكاح غير الكفء بمحرّم فأردّه ... إلى آخره" (1).
7900 - منع تزويج غير الكفء من حق المرأة والأولياء، فإذا رضيت المرأة بمن لا يكافئها، وأبى الأولياء، امتنع حصول مرادها؛ فإنّ رضاها بمن لا يكافئها يعيّر النسب، وإذا تعيّر ضرر أهل النسب بما يلحق النسب من عار [وشنار] (2). فكان لهم حق دفع العار. وقد قال الشافعي: "إن للولي في بضع المرأة شركاً" وأراد بذلك ما ذكرناه، ولم يرد أنهم يستحقون منها أمراً، فإذا رضي الأولياء ورضيت المرأة وهي من أهل الرضا بأن تزوَّج ممن ليس كفئاً لها، نفذ التزويج. والحق لا يعدوهم.
ولا تعبّد في الشرع بعد رضاهم بإسقاط حقوقهم.
وقد خالف في هذا الشيعة. وتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بناته من عثمان وعلي وأبي العاص بن الربيع -وما كان أحد كفئاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم- دليلٌ عليهم.
قال الشافعي: كيف يكافىء علي فاطمةَ وأبوه كافر وأبوها سيد البشر. فإن أشاروا أن أبا طالب كفءٌ لعبد الله، والد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قلنا: إن ارتقيتم إلى هذه المرتبة؛ فالناس أولاد آدم. وأمرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس -وهي قرشية- بأن تنكح أسامة بن زيد. وزيد كان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهمّ عمرُ بأن يزوج ابنته من سلمان الفارسي، فشق ذلك على ابنه عبد الله،
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 264.
(2) الشنار: الأمر المشهور بالشنعة والقبح، وصحفت في الأصل إلى (وشنان). (معجم).

(12/97)


وشكا إلى عمرو بن العاص. فقال عمرو: أنا أكفيك [ذلك] (1). فلما لقي سلمانَ، قال: هنيئاً لك، قد تواضع لك أمير المؤمنين! فقال سلمان: ألمثلي يقال هذا؟ والله لا أنكحها أبداً.
ومما يتعلق بهذا الفصل؛ أن المرأة إذا لم يكن لها ولي خاص وكان يزوجها السلطان أو من يأمره السلطان؛ فإذا دعت المرأة إلى تزويجها ممن لا يكافئها؛ فالذي نقله الصيدلاني أن السلطان لا يُجيبها إلى ذلك؛ [فإنه] (2) يزوج ناظراً لعامّة المسلمين فلا يدعُ النظر لهم.
وكان شيخي أبو محمد يقطع بأنه يزوّجها؛ [فإنه لا يرجع إلى عامة المسلمين عارٌ من تزويجها] (3)، والحق (4) لا يعدوها.
فإن قيل: فلتزوج نفسها إذا لم يكن لها وليّ خاص، قلنا: هي مسلوبة العبارة ووليها السلطان، والدليل على بطلان هذا التعلق، أن وليها الخاص لو رضي بأن تزوج المرأة نفسها، لم يصح. والتحقيق في ذلك، أن سلب العبارة تعبُّدٌ [بالشرع] (5) وليس يستقيم فيه معنى ورعاية الكفاءة تتعلق بحقوقٍ تسقط بالإسقاط.
7901 - ثم قال الشافعي: "وليس نقص المهر نقصاً في النسب"، والمراد بذلك أن الحق في المهر للمرأة. فلو رضيت بأن تزوج ممن يكافئها بأقلَّ من مهر مثلها،
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: بأنه.
(3) ما بين المعقفين تصرف من المحقق في عبارة الأصل التي كانت مضطربة هكذا: "فإنه يرجع إلى عامة المسلمين بغير من تزوجها والحق لا يعدوها".
هذا وقد أعاننا على هذا عبارة الرافعي حاكياً قول أبي محمد، ونصها:
"فلو كان الذي يلى أمرها السلطان، فهل له تزويجها من غير كفء إذا التمسته المرأة؟ فيه قولان، أو وجهان:
أحدهما - نعم، كالولي بالولاء والنسب، وقطع بهذا الشيخ أبو محمد، وقال: لا يرجع إلى المسلمين منه عار" (ر. الشرح الكبير: 7/ 579).
(4) والحق لا يعدوها: المراد حقها في الكفاءة.
(5) في الأصل: الشرع.

(12/98)


فعلى الولي أن يسعفها إذا كانت من أهل الطلب. وأبو حنيفة أثبت للولي الاعتراض لأجل نقصان المهر.
وكان يليق بهذا المنتهى الكلام في [الكفاءة] (1) ومعناها، ولكن المزني نقله بعد هذا، فلنلتزم الجريان على ترتيب (السواد) (2).
فصل
قال: "ولا ولاية لأحد وثَمَّ أولى منه ... إلى آخره" (3).
7902 - هذا الأصل يجمع بيانَ ما يُخرج الولي عن الولاية وذكْرَ ما لا يخرجه عنها، ولكن يقطع نظره، وينوب عنه السلطان، وذكْرَ ما لا يؤثّر أصلاً في قطع الولاية، ولا في إثبات نيابة السلطان.
فأما ما يخرجه عن الولاية، فكالصغر، والجنون المطبِق، والسفه، ويلتحق به سقوط الرأي؛ إما [لغَميزةٍ] (4) في غريزة العقل يَحْمُق بها صاحبه، وإن كان ذا ضبطٍ في المال وصلاحٍ بالبدن، أو إذا بُلي الرجل بأسقام مزمنة وآلام، فقد يضعف رأيه بها ويتبلّد من العجز والضجر، ولا يتحمل فكراً في أمر. ومثل هذا لا يكون وليّاً. نص عليه الشافعي.
ومما يُخرج عن الولاية اختلاف الدين إسلاماً وكفراً. وقطع أصحابنا بأن اليهودي مع النصرانية بمثابة المجتمعين في [كفر] (5) واحد، ولا يؤثر اختلاف أديان الكفار في الولايات، كما لا يؤثر في قطع الميراث. وهذه أصول متفق عليها.
__________
(1) في الأصل: الكفارة.
(2) السواد: كلمة بمعنى المتن أو الأصل، وهي من المفردات التي لم تحط بها المعاجم. والمراد بها هنا مختصر المزني. (وقد أشرنا إلى هذا مراراً).
(3) ر. المختصر: 3/ 264 - 265.
(4) الغميزة: ضعف في العمل، وجهلةٌ في العقل. (المعجم) هذا وقد صحفت الكلمة في الأصل إلى: تعميرُه.
(5) في الأصل: كفء.

(12/99)


ونذكر على معارضتها السَّفر.
ثم نُردِّد النظرَ في خصالٍ لا بد من النظر فيها. فنقول:
7903 - إذا سافر الولي القريب، فالسفروإن طال، لا يخرجه عن الولاية، وآية ذلك أن البعيد لا يلي التزويج في غيبة القريب، ولو كانت الغيبة تُخرج الغائب عن الولاية، لانتقلت الولاية إلى البعيد. ولو غاب الأب وزوّج في الغيبة (1) ابنته البكر، نفذ تزويجها، لأنه وليها.
ويتصل بذلك أمر؛ وهو أن البكر إذا كانت بالغة، وقد غاب الأب -كما صورنا- وكان لا يبعد من الأب الغائب تزويجها، فإذا جاءت إلى السلطان تطلب التزويج، ولم [يُبعد] (2) السلطان أن يزوّجها، وهي مزوَّجة الأب، فكيف السبيل (3)؟
نبنيه على نص الشافعي وتردُّدِ الأصحاب فيه. قال الشافعي: "إذا جاءت المرأة إلى السلطان تبغي منه أن يزوجها، لم يزوجها السلطان، حتى يشهد شاهدان أنه ليس لها وليٌّ حاضر، وليست في زوجية ولا عدة" فاختلف أصحابنا في ذلك. فمنهم من قال: هذا احتياط من جهته على طريق الرأي والاستصواب، ولا يتحتم مراعاة ذلك، ومن أصحابنا من قال: يتحتم (4) مراعاة هذا.
التوجيهُ: من أوجب ما ذكره الشافعي من الاحتياط، احتج بما تبتني [أحكام] (5) الأبضاع عليه من نظر الشرع واحتياطه، ومن أصدق الشواهد فيه توقف انعقاد النكاح على حضور شاهدين عدلين. والذي يعضد هذا من قاعدة الإيالة أن أمور السلطان
__________
(1) وزوّج في الغيبة: أي زوّجها وهو غائب، وهي بعيدة عنه.
(2) في الأصل: ينفذ. وهو تحريفٌ يبدو في مظهره هيناً، ولكنه أبهم المعنى وأرهقنا حتى هدينا إلى الصواب بفضل الله.
(3) هذا متصلٌ بما قبله ومبني عليه كما هو واضح، فالمعنى إذا كان الولي الغائب له حق تزويج ابنته وهو غائب، فإذا جاءت للسلطان تطلب منه أن يزوّجها، فكيف السبيل مع احتمال أن يكون الأب قد زوجها في غيبته؟
(4) قال النووي: الأصح أن هذا الاستشهاد مستحب (ر. الروضة: 69).
(5) زيادة من المحقق.

(12/100)


يجب أن تكون مرتبطة بالنظر، ولا يليق بمنصبه أن يبتدر إلى تزويج امرأة لا يدريها، ولا يحيط بحقيقة حالها. وأحق تصرف بالنظر تصرف السلطان.
ومن قال: يجوز التعويل على قولها، بنى ذلك على رجوعنا في العقود إلى قول أصحابها. فإذا صادفنا شيئاً في يد [أمين] (1) ثم إنه باعه، لم يتعرض القاضي للبحث عن حقيقة ملكه. وهذا قد ينفصل عنه بما يختص البضع [به] (2) من الاحتياط، ويرد عليه تزويج صاحب اليد على الجارية.
ومما يغمض وقعه في هذا المنتهى أنا إن أوجبنا على السلطان البحث، فالقول فيه يقرب مأخذه من احتياط السلطان في الإحاطة بأن لا وارث للميت سوى هذا الحاضر، ومن هذا القبيل حكمه بالإعسار.
ثم يتعلق بهذا الفن أنه لا يشهد للمرأة الطالبة للتزويج إلا من يطلع على بواطن أمرها، كما ذكرناه في الشهادة على الإعسار، والشهادةِ على ألا وارث سوى من حضر، وفيه تفصيل ذلك. وإذا أحلنا حكماً على حكمٍ ولم نستبن فرقاً بينهما، فليُعتقد مساواة التفريع للتفريع، كما استوى الأصلان.
وإن حكمنا بأن النظر [مستحبٌّ] (3)، فلو ابتدر السلطان، نفذ تزويجه، وكان مسيئاً.
ويتجه على هذا (4) أن المرأة لو ألحّت وطلبت التزويج ناجزاً، وقالت: إجابتي ممكنة، والإجابةُ الممكنة واجبة، والتأخير احتياط يجوز تركه، ولا يجوز تأخير واجبٍ لاحتياطٍ يجوز تركه. وهذا لا ينتهي إليه كلام الفقهاء وهو من محض أحكام الإيالة.
__________
(1) في الأصل: أمينا.
(2) في الأصل: عنه.
(3) في الأصل: مستحباً.
(4) على هذا: أي على القول بالاستحباب. أما على القول بوجوب البحث والاحتياط، فلا يجيبها القاضي. صرح بذلك العز بن عبد السلام (ر. مختصر النهاية المعروف بالغاية في اختصار النهاية: ورقة 56).

(12/101)


وقد اختلف أرباب الأصول فيه، فذهب قدوتنا (1) في الأصول إلى أنها لو ألحّت كذلك أجيبت، وأقصى ما يتمكن منه السلطان أن [يستمهلها] (2)، فإن أبت أجابها.
وذكر القاضي أبو بكر أن القاضي لا يجيبها إن رأى ذلك رأياً، ويقول: لا [يجب] (3) عليّ إجابتك ما لم [أحتط] (4).
وهذا لا يتضح بهذا المقدار، ولعلنا نجمع كلاماً شافياً في أحكام الأئمّة والولاة، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) وقفت طويلاً لأعرف من الذي يُعنَى بقوله: "قدوتنا في الأصول" وذهبت بادي الرأي إلى أنه الباقلاني، ولكن ردّني قولُه الآتي: "وذكر القاضي أبو بكر" فهذه هي عبارته عن الباقلاني.
فتوقفتُ إلى أن هداني الله إلى هذه المسألة منسوبة إلى إمام أهل السنة الشيخ أبي الحسن الأشعري، فهو الذي عناه إمام الحرمين بقوله: "قدوتنا في الأصول". فقد عرض التاج السبكي هذه المسألة في ثنايا ترجمة الأشعري تحت عنوان: ومن المسائل الفقهية عنه، فقال ما نصه: "قال الإمام إمام الحرمين في "باب اجتماع الولاة" من "النهاية" في المرأة تدّعي غيبة وليها، وتطلب من السلطان أن يزوجها وتلح في ذلك:
اختلف أرباب الأصول في ذلك، فذهب قدوتنا في الأصول إلى أنها تجاب، وأقصى ما يمكن السلطان أن يستمهلها، فإن أبت أجابها.
وذهب القاضي أبو بكر بن الباقلاني إلى أن القاضي لا يجيبها إن رأى التاخير رأياً، ويقول: لا تجب عليَّ إجابتك ما لم أحتط" ا. هـ.
هكذا أورد التاج السبكي المسألة، فأفادنا بأن المقصود "بقدوتنا في الأصول" هو شيخ أهل السنة الأشعري، وأن القاضي أبا بكر هو الباقلاني.
ثم استدرك السبكي على الإمام الرافعي، فقال: "وقد نقل الرافعي المسألة عن الإمام، وقال: فيها وجهان رواهما الإمام عن أهل الأصول. وأنت ترى عبارة الإمام، لم يفصح بذكر وجهين، وإنما حكى اختلاف الأصوليين، وأراد بقدوتنا في الأصول (الأشعري).
ثم حكى التاج السبكي عن والده الشيخ تقي الدين ما ينبغي أن يقال تصويباً وتصحيحاً لكلام الرافعي فقال: "قال الشيخ الوالد رحمه الله: الذي ينبغي أن يقال: إن اجتهاد القاضي إن أداه إلى أن مصلحة المرأة تفوت بالتأخير، وجبت المبادرة، أو أن المصلحةَ التأخيرُ، تعيّن، وإن أشكل الحال أو استوى أو كان في مهلة النظر، فهذا موضع التردد، وينبغي ألا يبادر" (ر. طبقات السبكي: 3/ 359، والشرح الكبير: 7/ 562).
(2) في الأصل يستميلها.
(3) في الأصل: ويقول: لا أجب.
(4) في الأصل: أحفظ.

(12/102)


7904 - عدنا إلى مقصودنا: إذا غاب الأب وخلّف ابنته البكر البالغة، ولم يبعد أنه في غيبته قد زوّجها، فهذا يخرّج على التردد الذي ذكرناه في [حكم احتياط السلطان واستشهاده على نفي الزوجية قبل تزويجه نائباً عن الوكيل الغائب] (1).
وكل ذلك ينبني على اختلاف القول في أن الدعوى هل تسمع مطلقةً على النكاح، أم لا بد من تقييدها بذكر شرائط الصحة؟ وهذا سيأتي مشروحاً في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل.
فإن قيل: أليس للسلطان أن يبيع مال الغائب إذا أشرف على الضياع مع جواز أنه (2) باعه بنفسه؟ قلنا: نحن وإن جوّزنا ذلك، فلا [أينخرم] (3) نظرُ القاضي، ويتصرف (4) على حكم المصلحة على كل مالكٍ يُفرض. فيجري هذا في ملك من نقدِّره مالكاً، وفي ملك من نقدِّره مشترياً منه. وهذا المعنى لا يتحقق في النكاح.
ومما يتصل بتمام القول في ذلك أن الولي إذا غاب، وانقطعت الغيبة، وعسر البحث بأسباب توجب تفسيرها، فالظاهر أن المرأة تجاب والحالة هذه. ثم إن بان أمرٌ يتضمن فساد النكاح، جرينا على موجبه، ولم يخف طريق (5) التدارك.
وهذا الذي ذكرناه إنما يظهر إذا كان الولي الغائب مُجبِراً (6)، فإن لم يكن مجبراً، فلا يتأتى تصوير انفراده بتزويجها (7). وإذا قالت: لم آذن له في تزويجي في الغيبة، صُدّقت. وإن أراد السلطان أن يحلّفها، فعل. وكلُّ تحليفٍ لا يتعلق بدعوى مدَّعٍ بل يرتبط باحتياط -يتعرض (8) له خلافٌ: أنه استحبابٌ أم استحقاقٌ؟ وقد تقدم لهذا
__________
(1) عبارة الأصل: "على التردد الذي ذكرناه في استدعاء الزوجية على نفي الزوجية، وأبعده والولي الحاضر" هكذا! وهي كما ترى عبارة مضطربة. استبدلنا بها ما بين المعقفين.
(2) أنه: أي الغائب.
(3) في الأصل كلمة غير مقروءة.
(4) في الأصل: ويتصرف معه على حكم المصلحة.
(5) في الأصل: لم يخف عن طريق التدارك.
(6) مُجبراً: بأن تكون طالبة التزويج بكراً.
(7) "لا يتأتى تصوير انفراده بتزويجها" بأن تكون ثيباً يجب استئذانها.
(8) في موضع خبر مبتدؤه: كلُّ تحليف، ثم هي في الأصل: فيتعرض.

(12/103)


نظائر، وتمام البيان في هذا يظهر في أثناء الفصل.
وكل ما ذكرناه في الغيبة البعيدة، وهي عند أصحابنا الغيبة إلى مسافة القصر فصاعداً (1).
7905 - ولو طلق الرجل امرأته ثلاثاً، فعادت وزعمت أن عدتها قد انقضت، وأنها نكحت وأصيبت، وطُلّقت واعتدت، وكان صدقُها ممكناً؛ فللرجل أن يعوّل على قولها. ولم يصر أحد من أصحابنا إلى إيجاب الاحتياط، وإنما ذلك التردد فيما يتعلق بالولي؛ فإن عماد أمره النظر، وسنذكر هذا الفصل الأخير مستقصىً في فروع النكاح إن شاء الله عز وجل.
7906 - وإن غاب الولي الأقرب غيبة تقصر عن مسافة القصر، فإن كانت على مسافة العَدْوى (2) -وهي مسافة يبتدىء الإنسان قطعها في [صبيحة] (3) يوم ويؤوب إلى منزله، فيرجع قبل أن يَجُنَّ الليل- فإن كانت المسافة على هذا الحد، لم يزوّجها السلطان، بل يراجعُ الوليَّ (4).
وإن كانت المسافة فوق ذلك، ودون مسافة القصر، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - أنه يراجع الولي، فإن السفر قصير (5).
والثاني - لا يراجعه؛ فإنا نُدبنا في الشرع إلى الابتدار إلى تزويج النساء من الأكفاء، وحقها واجب، وليس من حق الواجب أن يؤخر مع الطالب المستحِق.
وعلى هذا الوجه اختلف أصحابنا في مثل هذا في سماع شهادة الفروع مع غيبة الأصول إلى ما فوق المسافة التي وصفناها دون مسافة القصر. وكذلك اختلفوا في الاستعداء على الخصم على مثل هذه المسافة، ولا مطمع في كشف أحكام الشهادة
__________
(1) الذي اختاره النووي في مسألة الغيبة هو: أنه إذا غاب الولي الأقرب، فالأولى للقاضي أن يأذن للأبعد أن يزوّج، أو يستأذنه ليزوج القاضي (ر. الروضة: 7/ 70).
(2) لمعرفة اشتقاق كلمة (العدوى) وأصلها راجع تهذيب الأسماء واللغات للنووي والمصباح.
(3) في الأصل: صحة.
(4) هذا ما اختاره النووي (ر. الروضة: 7/ 69).
(5) هذا الوجه هو الأصح، قاله النووي (السابق نفسه).

(12/104)


والاستعداء هاهنا؛ فإن الكلام فيهما منتشرٌ، وسيأتي تفصيلهما في أدب القضاء والشهادات، إن شاء الله عز وجل.
فهذا بيان ما أردناه في السفر.
7907 - وقد قدمنا ذكر المعاني التي تنافي أصلَ الولاية وفاقاً. فإذا اتصف بها الأقربون، وخرجوا عن منصب الولاية، فحكم خروجهم أن تثبت الولاية للبعيد، وكل ما لا ينافي أصل الولاية، ولكن يؤخر النظر، فهو معتبر بالسفر، ثم طول السفر يُثبت [للسلطان] (1) حقَّ النيابة في التزويج، وإن أردنا سمينا نيابته ولاية؛ من حيث إنها تثبت قهرية، كما تقدم شرح ذلك عند ذكرنا قواعد الولايات، ولا تنتقل الولاية إلى البعيد، فإنها ثابتة للغائب، والسلطان نائب عنه.
وما لا يضاهي السفر الطويل ولا ينتهض مانعاً من النظر التام، فقد يكون كالسفر القصير، وفيه الخلاف والتفصيل الذي ذكرناه.
وهذه الجملة توضحها مسائل، نذكرها ونخرجها عليها.
7908 - منها: أن الولي القريب إذا أغمي عليه، فإن كان غشيته من هَيْج المِرّة الصفراء، وكانت مدتها لا تدوم، فلا مبالاة بها، وستنجلي على قرب، ومن جملة ذلك الصَّرَع.
وإن كان الإغماء بحيث يدوم يوماً ويومين، فقد اختلف أئمتنا؛ فذهب المحققون منهم إلى أنه لا ينافي أصل الولاية (2)؛ فإنه إلى زوال، أو إلى الإفضاء إلى الموت، وليس له أمدٌ يتمادى، بخلاف الجنون.
وذهب بعض الأصحاب إلى أن هذا ينزل منزلة الجنون، وهذا بعيد لا وجه له إلا ما سنشير إليه -إن شاء الله تعالى- عند ذكر تقطع الجنون والإفاقة.
فإن حكمنا بأن هذا الضرب من الإغماء ينافي الولاية، انتقلت الولاية إلى البعيد المستجمع للشرائط المرعية في الولاية.
__________
(1) في الأصل: المسافر.
(2) هذا الذي رجحه الإمام، قال عنه النووي: هو الأصح (ر. الروضة: 7/ 63).

(12/105)


وإن قلنا: إنه لا يزيل الولاية، فينبغي أن يُعتبر بطويل السفر وقصيره، فإن كانت مدته تبلغ مدة خروج من يخرج إلى الولي، لو قدّر غائباً في مسافة القصر ويعود على اعتياد واقتصاد في النهوض والعَوْد، فهذا على حد السفر الطويل، فلا يزوِّج البعيدُ، ويزوِّج القاضي، وإن كانت مدة الإغماء دون المدة التي ذكرناها في قطع مسافة القصر ذهاباً وإياباً، فالمعتبر فيه مسافة العدْوَى وما فوقها، ولا يخفى مع هذا التنبيه دَرْكُ محل الوفاق والخلاف (1).
وقد يعترض في هذا النظرِ أن الرجوع في مدة الإغماء إلى من؟ وهذا الاعتبار قبل انقضاء المدة، فلا وجه إلا الرجوع إلى قول أهل الخبرة، وذلك يختلف عندهم بنوع الإغماء والشخص المُغْمى عليه، وإنما تطول المدد في إغماء المُبَرْسم؛ فإن سبب اختلال العقل ورمٌ في الدماغ، والعقلُ يبقى على خبله ما بقي الورم، وقد يتمادى اليومين والثلاثة، هذا حُكم الإغماء.
7909 - ومما يتصل بذلك الجنون إذا تقطّع، فكان الشخص يجن يوماً ويُفيق يوماً، أو كانت النوب أكثر من ذلك أو أقل، فشرح هذا يأتي في كتاب الجزية، إن شاء الله عز وجل، وفيه نجمع جملة ما ذكره الأصحاب في الطرق، ولكنا نذكر هاهنا ما فيه مقنع.
اختلف أصحابنا في نوبة الجنون: فذهب ذاهبون إلى أن الولاية تزول فيها، وتنتقل إلى البعيد (2)، ومنهم من قال: إنها لا تؤثر في إزالة [الولاية] (3)؛ فإن الجنون الحقيقي هو الذي [يُطبق] (4) حتى لا يرجى زواله إلا على بُعد، فأما ما يطرأ ويزول على قرب أو على نُوَبٍ مضبوطة، فهو من فنّ الإغماء، وقد يُفضي الإغماء بالمغمى عليه إلى سقوط النطق والانتهاء إلى الهذيان. وذلك الذي وعدناه في الإغماء هذا
__________
(1) حكى الرافعي والنووي هذا التفصيل، واعتبار مدة الإغماء بزمن السفر القصير والطويل، ورضياه (ر. الشرح الكبير: 7/ 551، والروضة: 7/ 163).
(2) هذا هو الأصح. قاله النووي. (ر. الروضة: 7/ 62).
(3) في الأصل: البداية.
(4) في الأصل: يطالق.

(12/106)


أوان بيانه، فمن لم ير الجنون مزيلاً لأصل الولاية شبهه بالإغماء على ظاهر المذهب، ومن رأى الإغماء مزيلاً لأصل الولاية شبهه بالجنون المتقطع على ظاهر المذهب، فكل واحد من النوعين [يحمل] (1) على الثاني.
وينتظم من جمعها أوجه: أحدها - أنهما يزيلان الولاية.
والثاني - أنهما لا يزيلانها.
والثالث - أن الجنون يزيل والإغماء لا يزيل، وهذا هو الصحيح.
ثم إن قلنا: الجنون لا يزيل الولاية، فهو كالغيبة، فلنقس مدته بمدّتها وفاقاً بوفاق وخلافاً بخلاف.
ويتفرع على [هذا] (2) المنتهى أن زمان الإفاقة زمانُ الولاية، وهو بمثابة إياب المسافر، وزوال الغيبة.
وإن قلنا الجنون في غيبته مزيل الولاية، نظرنا في زمان الإفاقة، فإن لم يكن فيها شائبة من خبل، ومن ضرورة البقاء الذي وصفناه طول المدة، فتعود الولاية، وتنقطع عن البعيد بعد الانتقال إليه.
وإن كان في زمان الإفاقة آثار من الخبل يحتمل مثلها فيمن لا يعتريه الجنون، ويحمل على حدّةٍ وسوءِ خلق، فهل تعود الولاية والحالة هذه؟ أم تلتحق هذه المدة بالجنون؟ فيه اختلافٌ بين الأصحاب.
وحقيقة التردد أنّ من الأصحاب من لم يجعل ما سميناه (3) جنوناً على الحقيقة، ومنهم من أثبته جنوناً، [وأتبعه] (4) زمن الإفاقة في الصورة التي ذكرناها، ومنهم من أثبت الجنون في نوبته، وأثبت الإفاقة في نوبتها. وإن قلّت مدة الإفاقة، بحيث قد يتماسك في مثلها من يسمى مجنوناً مطبقاً مطلقاً، فذلك جنون، وإن قل زمان الهَيْج بحيث قد يطرأ مثله على اللبيب إذا تلظَّى غضباً، فذاك ليس بجنون، وهذه مرامز.
__________
(1) في الأصل: (مسلح) بهذا الرسم.
(2) زيادة من المحقق.
(3) ما سميناه: المراد ما رسمناه.
(4) في الأصل: واتبع.

(12/107)


وسيأتي استقصاؤها في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى.
7910 - فإن قيل: إذا لم تجعلوا الإغماء مزيلاً للولاية، وألحقتموه بالسفر، أوْ وَقَع الفرضُ في السفر وقصرت مدته؛ بحيث تزعمون أن الولي يراجَع، فلو ألحّت المرأة وقالت: التزويج [حقِّي] (1)، فلا أرضى بتأخيره ساعةً من نهار، ونظرك أيها القاضي قائم مقام النظر المنقطع، فلا تؤخر تزويجي، فهل يجيبها إلى مرادها؟
قلنا: لا يجيبها إلى مرادها؛ فإن القاضي يقول: ليس لك إرهاقي إلى هذا الحد، لو لم يكن لك ولي أصلاً، إلى أن أفهم ما تقولين وأنظر فيما تطلبين.
والمدة التي قطع الأصحاب فيها بالتأخير [لمراجعة] (2) الولي لو أخر في مثلها القاضي حيث لا ولي لها - لم يبعد؛ لنظرٍ وترديد رأي، فقد ذكرنا وجوهاً من الاحتياط غيرَ هذا، فإذا كانت لا تملك الإرهاق، حُملت على الصبر إلى المراجعة في التفصيل الذي ذكرناه.
فإن قيل: حيث يزوّج القاضي في غيبة القريب، فهلا قلتم: لو زوج القريب لم ينفذ منه، لاختلال نظره بسبب الغيبة؟ ولو قيل بهذا، لكان آمناً من ازدحام نكاحين! قلنا: هذا (3) يفرض في الأب المُجْبر إذا غاب، وقوة شفقته مع غيبته تعادل نظرَ القاضي إن لم تزد عليه، فليس المصير إلى أن الولي لا يزوج لينفذ تزويج القاضي ما ولي من عكس ذلك، فليجر كلُّ شيء على أصله.
ثم إن فرض نكاحان لم يخف أمرهما، وقد تمهد طريق الاحتياط في صدر الفصل، فإنه إذا وكّل الأب من يزوج ابنته ولم يعيّن كفئاً، [وصححنا] (4) التوكيل على هذا الوجه على ما سيأتي شرحه -إن شاء الله تعالى- من بعدُ، فلو غاب الوكيل غيبة بعيدة، فالمذهب أنه على الوكالة، وإن لم يكن ذا قرابة تثير شفقة؛ فإذاً الأصول لا تخرم ولا تصدم بالخيالات البعيدة.
__________
(1) في الأصل: خفي.
(2) في الأصل: لم أجعله.
(3) هذا: أي إثبات حق التزويج للولي الغائب.
(4) في الأصل: وصححت.

(12/108)


7911 - ومما يتعلق بمسائل الفصل؛ إحرام الولي، وسنذكر أن المحرم لا يَنكِح ولا يُنكِح، فإذا أحرم الولي بالحج أو العمرة، امتنع عليه الأنكاح والتزويج.
ثم ظهر اختلاف أصحابنا في أن الإحرام هل يُخرج الولي عن الولاية أصلاً؟ فمنهم من قال: يخرج بالإحرام عن كونه ولياً، كما لو جن؛ فإن الإحرام يمنع شرعاً من تعاطي التزويج مع كمال المحرم في عقله واستجماعه شرائط الاستقلال، ولفظ النكاح يتفق صدَرُه عنه، ولو فرض ذلك، لم يتعلق به حكم، فدل أن الشرع في زمن الإحرام أخرجه عن رتبة المزوِّجين بالكلية، فاقتضى ذلك انتقالَ الولاية إلى البعيد. وإذا قيل لهذا الإنسان: إن كان الإحرام بالحج قد يتطاول زمانه، فالإحرام بالعمرة ينتجز في لحظة، وهو إلى اختيار المحرم، فكيف يتجه خروجه عن كونه ولياً؟ فإذا ثبت كون الإحرام منافياً للتزويج بالكلية، وثبت أن المحرم مسلوب العبارة كالصبي، فلا نظر إلى قصر الزمان وطوله. والدليل عليه أن الصبي المميِّز لو بقي إلى أمد بلوغه ساعة، فليس هو وليّاً، وإن كان الباقي من أمد صباه لحظة، هذا وجه.
والوجه الثاني (1) - أن الإحرام لا يخرجه عن أصل الولاية؛ لأنه لم يسلبه عقله ورشده ونظره، غير أنه لا يتأتى منه إنشاء العقد، وهذا القائل يجعل الإحرام بمثابة الغيبة، وقد تمهد تفصيلها، فنجعل طول الزمان في الإحرام كطول المسافة، ثم نطبّق الخلاف على الخلاف والوفاق على الوفاق.
7912 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أنا وإن حكمنا بأن المحرم ولي، ولا يصحّ منه التزويج، كما لا يزوّج بنفسه لا يوكّل وكيلاً، فلو وكل وكيلاً بالتزويج، لم يصحّ، ولم ينفذ إنكاح وكيله. فإنا ذكرنا أن المحرم مسلوب العبارة في عقد لم يتأت منه الاستنابة فيه.
ولو كان وكَّل وكيلاً بالتزويج، ثم أحرم الموكّل؛ فقد قال الأئمة: ينعزل وكيله بالإحرام، حتى إذا تحلل من إحرامه، لم يصح من الوكيل التزويج بحكم التوكيل
__________
(1) هذا هو الوجه الصحيح في المذهب: (ر. الروضة: 7/ 67).

(12/109)


المتقدم على الإحرام، وإذا أحرم الوكيل، لم يزوِّج في حالة إحرامه ويُقضَى بانعزاله، فإذا تحلل، فليس وكيلاً.
ونحن إذا جعلنا الإحرام غير منافٍ لأصل الولاية، فكأنا ألحقنا الإحرام بالإغماء، وقد ذكرنا في كتاب الوكالة تردد الأصحاب في أن الإغماء إذا طرأ على الموكِّل أو على الوكيل، فهل يضمن انقطاعَ الوكالة وانعزالَ الوكيل؟ فلا يبعد خروج الإحرام على ذلك الخلاف في جانب الموكّل والوكيل جميعاً.
وقد ذكر الصيدلاني في مجموعه وجهين محكيين عن الأصحاب؛ في أن طريان الإحرام في الموكل والوكيل، هل يوجب الانعزال؟ ثم قال: إذا أحرم الموكِّل، وقلنا: لا ينعزل الوكيل، فإنه لا يزوج ما دام موكِّله محرماً؛ فإنه يستحيل أن يتصرف الوكيل عن موكله، ولكن إذا حلَّ الموكل، فيزوِّج الوكيل حينئذ.
7913 - ومما نذكره في مقاصد الفصل السكر إذا طرأ. فإن قلنا: الفاسق ليس وليّاً، فإذا فسق بالشرب، خرج عن كونه وليّاً. وإن قلنا: الفاسقُ وليّ، رجع النظر إلى تصرفات السكران في حالة سكره؛ قال الأصحاب: إن قلنا: السكران كالصاحي والفسق لا ينافي، فقد أطلق الأصحاب أنه يصح منه التزويج.
وذكر شيخي فيه مستدرَكاً حسناً، فقال: السُّكر إن لم ينافِ التصرفَ، فهو ينافي الرأي والنظر، وتصرف الولي مربوط بالنظر، فيستحيل أن ينفذ تصرفه على حكم النظر ولا نظر (1) له. وهذا يضاهي مذهباً لبعض الأصحاب في أن المرتد إذا سكر، فلا يُقبل عوْده إلى الإسلام في حالة سكره؛ فإنه لا يعقِل ما يقول. وهذا فيه نظر على حال، كما سيأتي شرحه في موضعه، إن شاء الله تعالى.
فأما نظره وهو في سكره الطافح غير (2) متصور، وهذا إذا قلنا: تصرف السكران نافذ. فأما إذا قلنا: لا ينفذ تصرفه، فالسكر إغماء، وقد مضى تفصيل القول في الإغماء بما فيه مقنع وبلاغ.
__________
(1) المذهب أنه لا يزوّج وإن بقي له تمييز ونظر. قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 63).
(2) جواب (أمّا) بدون الفاء، كدأب الإمام في كثير من الأحيان.

(12/110)


فقد بانت المسائل، واتضح خروجها على الأصول التي مهّدناها، وتميّز ما يقطع الولايةَ عما يقطع النظر، وبان أن ما يقطع الولاية ينقلها إلى البعيد، وما يقطع النظر ينقسم القول فيه إلى ما يطول، وإلى ما يقصر، وقد انتهى الغرض من الفصل تأصيلاً وتفصيلاً.
فصل
قال: "ووكيل الولي يقوم مقامه ... إلى آخره" (1).
7914 - مضمون الفصل: القول في توكيل الولي، وما يصح من ذلك، وما يفسد منه، [و] (2) القول في صفة إذن المرأة، وبيان صحيحه وفاسده، وذكر مقتضاه.
فأما التوكيل، فالولي لا يخلو إما أن يكون مجبِراً، وإما أن يكون غير مجبِر، فأما الولي المجبر، فهو الأب والجد، فلا خلاف أنه يصحّ أن يوكِّل [غيره] (3) بالتزويج، فإنه ذو ولاية على التحقيق، يثبت له الاستقلال، فصار كالمالك المتصرف في حق نفسه، وقد تقدم القول فيمن يصلح للوكالة وفيمن لا يصلح لها، في الأصل المشتمل على أن الفسق هل ينافي الولاية؟ ثم هل يجوز للولي أن يطلق الوكالة ويفوّضها إلى الوكيل من غير أن يعيّن زوجاً، أم لا بد وأن يختار الوليُّ الزوجَ، فيعيّنه للوكيل؟ في المسألة قولان: أحدهما - وهو الذي نص عليه في تحريم الجمع (4) أن التوكيل يصح مع الإطلاق، قياساً على التوكيل في المعاملات. فإنه لا يفتقر إلى ذكر مقدار الثمن، ولا إلى تعيين من يعامله الوكيل، ولكن تصرف الوكيل ينفذ بالغبطة ورعاية النظر، فليكن الأمر كذلك في التوكيل بالنكاح (5).
والقول الثاني - أنه لا يصح التوكيل من غير تعيين الخاطب، نصّ عليه في الإملاء.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 265.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: منه.
(4) كذا. ولعل فيها تحريفاً أو سقطاً.
(5) هذا القول هو الأظهر (ر. الروضة: 7/ 72)

(12/111)


ووجهه؛ أن الغرض الأظهر في تعيين الخاطب، وهذا مفوض شرعاً إلى الولي المتصف بكمال الشفقة. فلا يجوز أن يُحِلّ فيه أجنبياً محل نفسه، ويفوض إليه ما هو منوط بشفقة الولاة، بل حقه أن ينظر ويعيّن الخاطب، وينيب الوكيلَ مناب نفسه في العبارة عن العقد فحسب، وليس ذلك كالتوكيل بالبيع؛ فإن الغرض المطلوب منه البيع بثمن المثل، وليس يخفى درْك مقداره، ولهذا يستفاد التصرف في المال بالوصاية، ولا يستفاد بها التصرف في البضع.
هذا إذا كان الولي مجبِراً على النكاح.
7915 - فأما إذا لم يكن مجبِراً، وكان يفتقر إنكاحُه المرأةَ إلى استئذانها؛ فنقول: إذا أذنت المرأة وعيّنت كفئاً، صحّ إذنها. وإن أطلقت الإذن، وفوّضت طلبَ الكفء إلى الولي؛ ففي صحة الإذن على هذا الوجه، وجهان مرتبان على القولين في توكيل الولي المجبِر. فإن قلنا: يصح (1) التوكيل مع الإطلاق، فلأن يصح الإذن مع الإطلاق أولى، والفرق أن المرأة وإن أطلقت الإذن، [فهي] (2) مفوِّضة أمرها إلى وليها، وهو على حظٍّ صالح من القرابة ذابٌّ عن نفسه في طلب تبرئة النسب والحسب عما يَشينه، وليس كذلك التفويض إلى الأجنبي.
ثم إذا جوّزنا الإذن المطلق؛ فإذا قالت لوليها: "زوّجني"، تقيّد ذلك بالتزويج من الكفء، كما إذا وكل مالكُ المتاع إنساناً، فالتوكيل المطلق يتقيّد برعاية المصلحة في البيع بثمن المثل نقداً.
وإن قالت المرأة لوليها: زوّجني ممن شئت، كفئاً كان أو غير كفء؛ فيتخيّر الوليّ حينئذ؛ فإن التزويج من غير كفء جائزٌ شرعاً، والحق في ذلك لا يعدو المرأةَ والوليَّ. وهذا فيه إذا كان الولي واحداً. فإن كان الأولياء جمعاً، وقد استجيزوا، فقد سبق التفصيل فيه.
ولو قالت: "زوّجني من شئت" ولم تتعرض لذكر الكفاءة ونقيضها، هل يجوز
__________
(1) في الأصل: لم يصح.
(2) في الأصل: فهو.

(12/112)


للولي -والحالة هذه- أن يزوّجها من غير كفء؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه يجوز؛ فإن ظاهر قولها "ممن شئت" مشعر بهذا. وهو كما لو قال للوكيل بالبيع: "بع متاعي هذا بما شئت"، فللوكيل -إذا جرى التوكيل كذلك- أن يبيع بما عزّ وهان.
والوجه الثاني - أن الولي لا يضعها في غير كفء، إذا لم تقيد إذنها بتزويج ترك الكفاءة؛ فإن قولها "ممن شئت" يحتمل التفويض المطلق ويحتمل التفويض مع رعاية الكفاءة، فقولها "ممن شئت" نحمله على تفويض تخيّر (1) الزوج. وهذا من أهم ما يراعى في باب النكاح، وقول الرجل لوكيله "بما شئت" لا يحتمل إلا تفويضه مقدارَ الثمن فحسب، وقد يدخل تحته البيع بالعُروض. وإذا وجدنا في الإذن في النكاح محملاً يحمل عليه التفويض رعاية الكفاءة، فيتعين الحمل عليه رعايةً للاحتياط في الأبضاع.
ومن لطيف القول في ذلك أنها لو عيّنت زوجاً، ولم يكن كفئاً، ورضي الولي بالحطيطة؛ فقد ذكرنا أن النكاح يصح، وإذا فوضت إلى الولي، وتعرضت لتجويز ترك الكفاءة صريحاً، فلو حملنا قولها "ممن شئت" على ذلك، فهاهنا نظر على المتأمل، وذلك أنا ذكرنا وجهين في أنه هل يشترط في الإذن تعيين الخاطب؟ فليت شعري! ماذا نقول إذا فوّضت تفويضاً يقتضي إسقاط الكفاءة؟ ظاهر ما نقله الأصحاب؛ طرد الخلاف في اشتراط تعيين الخاطب، كما تقدم، وإن رضيت المرأة بترك الكفاءة. والقياسُ عندنا أن الخلاف إنما يجري حيث يجب رعاية الكفاءة، فأما إذا رضيت بمن يكون، وأسقطت اعتبار الكفاءة؛ فالوجه -والحالة هذه- أن يسقط اعتبار التعيين أيضاًً؛ فإنها بإذنها رفعت طلب [الحظ] (2)، وإنما يليق التعيين والقول به بالمحل الذي يجب فيه طلب الحظ في الآجل.
ثم يقع الكلام وراءه في تعيين الكفء، وما ذكرناه وإن كان يظهر بعض الظهور،
__________
(1) في الأصل: "تخيرّ عن الزوج".
(2) في الأصل: الحض.

(12/113)


فإجراء الخلاف في اشتراط [الحظ] (1) محتمل، والعلم عند الله تعالى. هذا كله تفصيل القول في إذنها المطلق والمقيد.
7916 - والكلام بعده في التوكيل، فإذا أذنت لوليها في التزويج، وأذنت له في أن يوكّل، فيصح من الولي التوكيل، فإن الاستنابة جائزة في هذه القاعدة. وقد اجتمع عليها المرأة والولي، وهو بمثابة ما لو وكّل الرجل وكيلاً بالبيع، وأذن له أن يوكل إن أراد التوكيل، فيسوغ التوكيل وفاقاً.
ولو أذنت المرأة لوليها في التزويج، ولم تتعرض للتوكيل أمراً أو نهياً، وإثباتاً أو نفياً، ففي جواز التوكيل -والأمر كذلك- وجهان مشهوران، أحدهما - أنه لا يجوز، كما لو وكل من يبيع متاعه، فإن ذلك الوكيل لو أراد أن يوكل من غير إذنٍ من الموكل، لم يجز له ذلك، إذا تعين التصرف. والولي إذا كان يحتاج إلى إذن المرأة، ولا يستقل بالتصرف، نازلٌ منزلة الوكيل، فإذا لم يجز للوكيل أن يوكل في التصرف المعيّن، فليكن الولي بمثابته.
والوجه الثاني - أنه يجوز للولي أن يوكل (2)، بخلاف الوكيل، فإن الوكيل يتصرف بالإذن المجرد والأمر المحض، لا معتمد لتصرفه غيرُه. فإذا تعلق الإذن على الاختصاص، لم يكن له أن يقيم غيره مقام نفسه. والوليّ وإن كان يفتقر إلى إذن المرأة، فمعتمد تصرفه كونه وليّاً، وله في تعاطي العقد حظٌّ، فساغ له التوكيل، كما يسوغ للمالك التوكيل، فينبغي أن يصير عند الإذن بمثابة الولي المجبِر، وقد تقدم أن الولي المجبر يوكِّل.
ولا خلاف أن المرأة لو أذنت بالتزويج لوليها، وصرحت بالنهي عن التوكيل، لم يكن له أن يوكل. والسبب فيه: أنا كما نرعى إذنَها في أصل التزويج، نرعى إطلاقها وتقييدها، فإذا نهت عن التوكيل، فإذنها [مختص] (3) بتعاطي الولي، فيثبت على هذا الوجه لا غير.
__________
(1) مكان بياض بالأصل.
(2) وهذا هو الأصح، قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 73).
(3) في الأصل: مخلص.

(12/114)


ولو قالت للولي: أذنت لك أن توكل بتزويجي، وليس لك في نفسك أن تتعاطى التزويج؛ فالذي ذهب إليه الأئمة أن الإذن على هذا الوجه لا يصح، فإنها منعت الوليّ من التزويج، وردّت التزويج إلى الوكيل الأجنبي، فكان ذلك بمثابة ما لو [فوضت] (1) تزويجها ابتداء إلى أجنبي، [فوكَّله] (2). وهذا لا مساغ له.
ثم إذا وكّل الولي بأذن المرأة وبغير إذنها، فهل يشترط تعيين الخاطب؟ هذا ينبني على الإذن للولي؛ فإن شرطنا فيه [التقيّد] (3)، بتعيين الزوج، [فالتوكيل] (4) مطلقاً لا يصح، وكذلك إن لم نشترط تقييد الإذن، ولكن اتفق منها التقييد بالتعيين، فيتعين ذكرُ ذلك المعيَّن للوكيل؛ فإن التوكيل لو وقع مطلقاً، [فلا يهتدي الوكيل] (5) إلى الشخص المطلوب المعين.
ولو جرى التوكيل مطلقاً، وقد عيّنت المرأة الزوج، فإن زوّج الوكيل غير ذلك المعيّن، لم يصحّ.
وإن اتفق منه التزويج منه؛ فالأظهر عندنا: أن تزويج الوكيل لا يصحّ على هذا الوجه؛ فإنه وإن صادف المعيَّن وفاقاً، فصيغة التفويض فاسدة في وضعها؛ فإن التفويض المطلق والمطلوب [معين] (6) فاسد، وإذا فسد التفويض، لم يترتب عليه صحة التصرف.
وهذا بمثابة ما لو قال وليّ الطفل للوكيل: بع هذا العبد من مال الطفل بما عزّ وهان، فالتوكيل باطل على هذا الوجه. ولكن لو اتفق منه البيع على وفق الغبطة؛ فالظاهر عندنا أن البيع لا يصح، لما أشرنا إليه من فساد صيغة التوكيل. والله أعلم.
7917 - ثم إن الأصحاب تكلموا بعد بيان ما ذكرناه في أحكامٍ تتعلق بالوكالة في
__________
(1) في الأصل: فوّض.
(2) فوكلت.
(3) في الأصل: التنفيذ.
(4) في الأصل: فالوكيل.
(5) في الأصل: فلا يبتدىء التوكيل.
(6) في الأصل: والمطلوب غير فاسد.

(12/115)


النكاح، فقالوا: إذا كان الوكيل من جانب القابل الخاطب، فهو جائز، كما يجوز التوكيل في جانب الولي المزوِّج. ثم إذا أراد الولي التزويج والقابل وكيلٌ، فلا مخاطبة بينه وبين الوكيل أصلاً. وسبيله أن يقول: زوجت فلانة من فلان بكذا، فيذكر الخاطبَ الحاضرَ أو الغائبَ، ولا يقول للوكيل: زوّجت فلانة منك؛ فإنه لو قال ذلك كان مزوجاً هذا القابل، ولو قبل المخاطب -والأمر على ما وصفناه- انعقد النكاح له.
ولو قال: نويت بالعقد الذي قبلتُه موكِّلي؛ فلا تعويل على النية في الباب، وليس كما لو وكّل الرجل وكيلاً حتى يشتري له شيئاً، فإن صاحب المتاع يخاطب الوكيل، ويقول: بعت منك. والوكيل يقول: اشتريتُ، وينوي موكِّله، فينصرف الشراء إليه بالنية، والفرق بين البابين في ذلك أن المشتَرَى قابلٌ للنقل بعد تقدير حصول الملك فيه؛ فإن من ملك شيئاً أمكنه أن يقيم غيره مقام نفسه بجهة من الجهات، ومن تزوج امرأة لم يتصور منه أن يُحِلَّ غيرَه محل نفسه، فإذا كان الملك في المشترَى -على الجملة- قابلاً للنقل، وقول الوكيل: اشتريت، صالحٌ ليحمل على إضافة صورة العقد إلى النفس، وصرف مقصوده إلى الموكِّل، والعقد عقد عهدة، وموجب تعليق العهدة بمن يتعاطى القبول، وشرط ذلك أن يكون للعقد إضافة إلى الملتزم، فينتظم من مجموع ذلك جواز إضافة العقد إلى الوكيل، وامتناعُ ذلك في النكاح.
وقد ذكرنا في كتاب الوكالة أن البيع لو عقد مضافاً إلى الموكِّل بالشراء على [صيغته] (1)، وعلى النحو الذي شرطناه في النكاح، فكيف السبيل فيه؛ فلا حاجة إلى إعادته الآن.
7918 - ومما يليق بغرضنا في النكاح؛ أن المزوّج إذا أضاف نكاح المرأة إلى الخاطب الموكِّل كما يجب، فقال وكيل الخاطب: "قبلت"، ولم يُضف قبولَه إلى موكِّله، ولم يزد على قوله "قبلت"؛ فهذا يترتب على أصلٍ سنذكره في ألفاظ عقد النكاح، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: صيغة.

(12/116)


[وهو] (1) أن الرجل إذا خاطب الخاطب بالتزويج، فقال: زوّجتك ابنتي فلانة، فقال الخاطب: "قبلتُ"، ولم يقل: "قبلتُها" ولا "قبلت نكاحها"، فقد نقول: لا ينعقد النكاح، ما لم يتعرض القابل لذكر النكاح، وذكر المنكوحة. وقد نقول يصح النكاح. والتعويل في توجيه ذلك على ابتناء القول على الإيجاب، من حيث إنه جواب له. ومن رتّب جوابه على خطاب من خاطبه، كان الخطاب في حكم المعاد في الجواب. وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل.
فنقول في الوكيل: إذا قال: "قبلت"، وقد قال الموجِب: "زوجت فلانةً فلاناً"، وذكر الخاطبَ؛ إن قلنا: لو جرى العقد بين الزوج والخاطب، لم ينعقد النكاح بقول الخاطب "قبلت"، فلا شك أنه لا ينعقد بقول الوكيل على هذا الوجه أيضاًً. وإن قلنا: إذا قال الخاطب: "قبلت"، كفى، فلو قال الوكيل: "قبلت"؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن النكاح يصح للموكل، تمسكاً بتنزيل الجواب على حسب الخطاب، وقد أضاف المزوِّج إلى الموكِّل، فكفت إضافته، وابتنى قبول الوكيل عليه، وتُرك على موجب الإضافة.
والوجه الثاني - أن النكاح لا يصحّ؛ فإن القابل ليس مخاطَباً حتى يكون قبوله مبنياً على حسبه، وإنما المسمَّى في النكاح الموكِّل، فليكن كلامُ الوكيل مستقلاً على ما تقتضيه سفارة النكاح. فإذا لم يكن مستقلاً، لم يصح العقد. وبهذا ينفصل قبول [الخاطِب] (2) بنفسه عن (3) المزوِّج (4)، فإنهما متخاطبان، ولا يمتنع أن يبتني جواب المجيب منهما على خطاب المخاطب.
__________
(1) في الأصل: فهو.
(2) في الأصل: المخاطب.
(3) عن: بمعنى من، أي قبول التزويج من المزوّج.
(4) "ينفصل قبول الخاطب بنفسه عن المزوِّج": المراد أن قبول الخاطب بنفسه إيجاب الولي (المزوِّج) ليس مثل قبول وكيله، فالمزوّج -ولياً كان أو وكيلاً عنه- مخاطب للخاطب، فيجوز أن يبنى قبوله على إيجابه بعكس وكيل الخاطب فالمزوِّج لا يخاطبه؛ فلا ينبني قبوله على إيجابه.

(12/117)


7919 - وبنى أئمتنا على ما ذكرناه من وجوب إضافة النكاح إلى الموكِّل الخاطب مسألةً في الأيمان، لم يقصدوها بعينها، وإنما راموا بإيرادها ما يثبت الغرض الحُكمي فيما نحن فيه، فقالوا: إذا حلف الرجل لا يزوج ابنته فلاناً، وسمى الوكيل من جهة الخاطب، ثم جرى العقد على صيغة السفارة، كما تقتضيه قضية النكاح، فلا يحنث المزوِّج؛ فإنه حلف لا يزوج الوكيل، ولم يزوجه، ولا خاطبه، وإنما تعرض لموكِّله وسماه في إضافة النكاح إليه.
وبمثله لو قال: والله لا أبيع عبدي من زيد، ثم إن زيداً توكل عن عمرو في ذلك البيع، على صيغة التخاطب من غير إضافة إلى الموكِّل، فيحنث الحالف؛ لأنه كان حلف لا يبيع من زيد، فقد باع منه؛ إذ قال: "بعت منك". وقال زيد: "اشتريت" أو "قبلت". والوكيل بالتزويج يقول: "زوجت فلانة منك"، إن كان يخاطب الخاطب، ولا حاجة به إلى إضافة التزويج إلى استفادته من الموكل، بل يصحّ أن يقول: "زوجت فلانة منك"؛ فإنّ ذكر الجهات التي منها استفادة التصرف [لا حاجة] (1) إليه؛ إذ لو احتاج الوكيل إلى إضافة تزويجه إلى جهة الوكالة، لاحتاج الولي إلى إضافته إلى جهة الولاية، ولاحتاج المالك إلى إضافته إلى جهة الملك، ولا حاجة إلى شيء من هذا.
ولو قال الوكيل بالتزويج: زوّجَ موكلي فلانٌ ابنته منك؛ كان ذلك خَلْفاً (2) من الكلام غيرَ منتظم. فالوكيل في جانب التزويج سفير (3)، مضيف إلى الموكل، فلا جَرَم نقول: لو حلف الرجل لا يزوِّج امرأة ثم زوّجها وكيلاً، حنث.
ولو قال الخاطب: والله لا أتزوج من فلان، فتزوج وفلان وكيل بالتزويج، فإنه يحنث؛ فإن الوكيل في جانب التزويج مزوِّجٌ لى الحقيقة، والوكيل في جانب [التزوج] (4) ليس متزوجاً على التحقيق، ولكنه معرب عن الغير، مضيف إليه، سفير
__________
(1) في الأصل: ولا حاجة.
(2) في الأصل؛ حلفاً. والخلف بفتح وسكون: الرديء والسقط من القول (المصباح).
(3) في صفوة المذهب: "مباشر" ولعلها الأوفق بدلاً من (سفير).
(4) في الأصل: التزويج.

(12/118)


عنه. ولو قال: والله لا أتزوج، فانتهض وكيلاً في التزوج لغيره، لم يحنث، ولو قال: والله لا أتزوج لفلان، فتزوج له وكيلاً عنه، حنث. فإن هذا معنى التزوج له.
فصل
قال: "وولي الكافرة كافر ... إلى آخره" (1).
7920 - الكافر يلي الكافرة بالقرابة والولاء، هذا هو المذهب المبتوت، والنص مصرِّحٌ به. وذهب بعض أئمة الخلاف إلى أن الكافر لا يزوج الكافرة، وإنما ارتكب (2) هؤلاء ذلك من عسر الفرق عليهم بين الشهادة والولاية، وهذا ليس معدوداً من المذهب، ولم يصر إليه أحد من المعتبرين في المذهب، إلا الحليمي (3). وهو رجل عظيم القدر، لا يحيط بكنه علمه إلا غوّاص. والنص عنده محمول على ترك التعرّض للكفار إذا زوّجوا بناتهم بين أظهرهم.
ثم يقول الحليمي: إذا أراد المسلم التزوج بيهودية أو نصرانية؛ فلا سبيل له إلى
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 265.
(2) ارتكب: يستخدم إمام الحرمين هذا اللفظ وما يشتق منه كثيراً، من ذلك قوله في خطبة كتابه هذا: "وإن ذكر أئمة الخلاف وجهاً مرتكباً نبهت عليه، بأن أقول: اتفق أئمة المذهب على كذا، فتجري وجوه من الاختصار، مع احتواء المذهب (أي هذا الكتاب) على المشهور والنادر". ا. هـ بنصه.
وقد رجحت أن هذا (الارتكاب) مصطلح من مصطلحات علم الجدل، ولكني لم أصل إليه في كتب الجدل ومجموعات المصطلحات، وواضح من السياق أن معناه: هو الوجه والرأي الذي يلجأ إليه صاحبه معتسفاً طريق الصواب، فراراً من إلزام الخصم إياه بما لا يراه.
فهؤلاء قالوا بعدم تزويج الكافر الكافرة بالولاية حتى لا يُلزموا قبول شهادته، (فارتكبوا) هذا الوجه الغريب فراراً من هذا الإلزام. والله أعلم.
(3) الحليمي، أبو عبد الله، الحسين بن الحسين بن محمد بن حليم الشيخ الإمام. أحد أئمة الدهر، وشيخ الشافعيين بما وراء النهر، وأنظرهم بعد أستاذيه أبي بكر القفال، وأبي بكر الأودني، الفقيه القاضي، توفي 403 هـ (طبقات السبكي: 4/ 333 - 343، والبداية والنهاية: 11/ 349، وشذراث الذهب: 3/ 167، وطبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 155، وطبقات الإسنوي: 1/ 404).

(12/119)


قبول النكاح من أبيها، وإنما [يقبل] (1) نكاحها من السلطان؛ فإن الولاية العامة تشمل المسلمين والكفار، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
ويلزمه أن يقول: إذا زوّج الكافر ابنته من كافر، ثم ارتفع الزوجان إلينا متنازعَيْن في نفقة أو مهر، فإنا لا نقضي بموجب النكاح بينهما، كما لا نقضي لمن يتلف خمراً منهم على صاحبه بقيمتها، ولا بمثلها، وإن كنا [لا] (2) نتعرض لهم إذا تعاملوا عليها، وهذا خرمٌ عظيم يقرِّب صاحبه من التهجم على الإجماع، وتضطرب [به] (3) أصول نكاح المشركات. فلا وجه إذن إلا القطع بأن الكافر يزوج الكافرة.
والمشكل فيه أنا إذا قلنا: الفاسق يلي التزويج، فينتظم الغرض في الكافر. وإذا قلنا لا يلي الفاسق التزويج؛ فلو كان الكافر فاسقاً [في] (4) دينه، لم [يزوِّج] (5) ولا يتبين أنه عدلٌ [في] (6) دينه -مع أنا لا نطّلع على شرائعهم- إلا من جهتهم. ونحن لا نثق بإخبارهم عن قواعد شرائعهم، فيغمض مُدرَك هذا، ويعسر بسببه تزويج الكافر، إلا أن يكون فينا مطلعٌ على شرعهم، أو كان قد أسلم منهم من هو عدل رضاً فينا، وهو خبير بشرع الكفار.
فإن لم نجد شيئاًً من ذلك، ومنعنا تزويج الفاسق، لم يخرّج تزويج الكافر المشكل الحال إلا على قاعدة؛ وهي: أن المستور يجوز أن يكون وليّاً، وتصرفاته تنفذ من غير بحث عن عدالته. وهذا متفق عليه بين الأصحاب، ويشهد له إطباق الخلق قاطبة على معاملة أولياء الأطفال، وإن لم تظهر عدالتهم في مقام التزكية، وإن كان ادعاء الوفاق في تزويج الفاسق يُحوج مدّعيه إلى تقريب، فما ذكرناه في المستور لا يأباه إلا
__________
(1) في الأصل: نقل.
(2) سقطت من الأصل.
(3) زيادة من المحقق، ساعدنا عليها حكاية السبكي لهذه القضية في ترجمة الحليمي (ر. الطبقات: 4/ 335، 336).
(4) عبارة الأصل: فلو كان الكافر فاسق دينه. (بالإضافة).
(5) في الأصل: يتزوج.
(6) زيادة من المحقق.

(12/120)


جحود. [فينبني] (1) نكاح الكافر على أنه مستور في دينه، ويخرج منه أنه لا يتبين فسقه في دينه إلا بقوله وإقراره على نفسه.
7921 - والكافر لا يزوج ابنته المسلمة؛ فإن اختلاف الدين يقطع العصمة والموالاة، وكذلك المسلم لا يزوج ابنته الكافرة، والسلطان يزوج الكوافر والمسلمات في منازل تزويج السلاطين.
ولو أراد المسلم أن يتزوج كافرة، ولم يكن لها ولي خاص، ولم يكن بذلك القطر والٍ من المسلمين، فهل يجوز قبول نكاحها من حاكم الكفار وقاضيهم؟ ما كان يقطع به شيخي: أنه لا يَقبل نكاحها من قاضيهم (2)؛ فإن قاضيهم لا ينفذُ شيء من أحكامه لنا ولا علينا، ولا نقبل كتابه في الحكومات قبولَنا كتُب القضاة.
وفي كلام صاحب التقريب إشارة إلى أنا نقبل النكاح من قاضيهم. وهذا كلام مضطرب لا تعويل عليه. وسيأتي شرح القول في أحكامهم في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل.
7922 - والمسلم لو أراد أن يزوج أمته الكافرة؛ [فالقول] (3) في ذلك يبتني على أن الكافر هل يستبيح نكاح الأمة الكافرة، حتى نقضي له باستباحتها؟ والعبد المسلم هل يحل له نكاح الأمة الكتابية؟ فيه خلاف، سيأتي مشروحاً من بعد (4)، إن شاء الله تعالى. ولكنا نكتفي الآن بحكاية تبين الغرض.
ظاهر النص أن الأمة الكتابية لا يحل نكاحها لأحدٍ، وحُكي عن أبي الحسن الماسَرْجِسي (5) أنه قال: كنت عند أبي علي بن أبي هريرة، فقال: الأمة الكافرة يحل
__________
(1) في الأصل: فينبغي.
(2) هذا ما اختاره الرافعي، حيث قال: والظاهر المنع من قبول النكاح من قاضيهم (ر. الشرح الكبير: 7/ 557).
(3) في الأصل: والقول.
(4) سيأتي في (باب الاستطاعة للحرائر وغير الاستطاعة).
(5) أبو الحسن الماسَرْجسي، محمد بن علي بن سهل بن مصلح (صحفت في تهذيب النووي إلى [مفلح]) وماسَرْجِس، بسين مهملة مفتوحة، وراء ساكنة، ثم جيم مكسورة. ثم سين مهملة =

(12/121)


[للمسلم] (1) إنكاحها، وذكر هذا الفصل من المختصر. فقلت: كيف يزوّجها، وهي لا تحل لمسلم؟ ومن لا تحل للمسلمين لكفرها، لم تحل للكافر، كالمرتدة والوثنية، فقال: أتستدرك على المختصر ما لم يستدركه أحد قبلك؟ فقلت: إني أرى من يفعل ذلك: أُعرِّض به، فسكتَ. ثم خرج من الغد، فقال: وجدت للشافعي أنها تحل للكافر، فقلت: كيف الوجه؟ قال: نجعل في [المسألة] (2) قولين (3)، في أنها هل تحل للكافر؟
وألحق أصحابنا العبدَ المسلم بالحر الكافر، وأجرَوْا الخلاف في أنها هل تحل للعبد المسلم؟ وسأذكر أصل القولين والوجهين، إذا انتهينا إلى نكاح الإماء، ومقدار غرضنا الآن ذكر الخلاف.
فإن قلنا: الأمة الكافرة لا تحل لكافر ولا لعبد مسلم، فلا يتصور من سيدها المسلم تزويجها.
وإن قلنا: إنها تحل للحر الكافر والعبد المسلم، فالسيد هل يزوج أمته الكافرة على ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يزوجها لاختلاف الدين، كما لا يزوج الأب المسلم ابنته الكافرة.
والثاني - أنه يزوج الأمة الكافرة، لأن تزويجه مستفاد من ملكه، وحق الملك يسلِّط المالك على التصرف في المملوك. والقائل الأول يتلقى منعَ التزويج من تشبيه
__________
= مكسورة. وهو منسوب إلى جد من أجداده لأمه، واسمه ماسَرْجس، كان إماماً من الفقهاء الشافعية من أعلم الناس بالمذهب، وفروع المسائل، تفقه بخَراسان والعراق والحجاز، صحب أبا إسحاق المروزي، وسمع من أصحاب المزني، وسمع منه جماعة منهم القاضي أبو الطيب الطبري، وكان خليفة القاضي أبي علي بن أبي هريرة في مجالسه. ت 384 هـ.
(تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 212، وفيات الأعيان: 4/ 202 ترجمة رقم 576، طبقات الشيرازي: 116، والشذرات: 3/ 110).
(1) في الأصل: للحرّ.
(2) في الأصل: المسلمين.
(3) أي تخريجاً، بمعنى أنه يخرّج على قوله المنصوص قولاً آخر، فيكون في المسألة قولان: قول بالنص وآخر بالتخريج، وسيصرح بهذا عند عَوْدِه للمسألة في باب (الاستطاعة للحرائر).

(12/122)


تزويج أمته بتزويج الأولياء، وعلى هذا يخرج اختلاف الأصحاب في أن السيد الفاسق، هل يزوج أمته؟ إذا فرّعنا على أن الفاسق لا يلي التزويج، فهذا التردد مأخوذ [من أصلٍ] (1) سيأتي، إن شاء الله عز وجل وهو أن الأمَة هل يثبت لها حقٌّ في التزويج؟ وقد أشرنا إلى طرف من هذا المنتهى؛ إذ حكينا الخلاف في أنها هل تجبر مولاها على التزويج؟ وسنذكر حقيقة ذلك في نكاح الأمَة، إن شاء الله تعالى.
7923 - ولو ملك الرجل أمَة مجوسية، فلا شك أنه لا يستبيح وطأها بملك اليمين، فإذا جوزنا تزويجها من حر مجوسي، فهل للمسلم تزويجها منه؟ فعلى وجهين مترتبين على الوجهين المقدّمين في تزويج الأمة الكتابية؟ وهذه الصورة الأخيرة رآها الأصحاب أولى بالمنع، واعتلّوا بأن السيد لا يستحل وطأها، فقد اجتمع فيها مخالفة دين السيد، وكونُها محرمة عليه. وهذا الترجيح لا فقه فيه؛ فإنا إنما نجوز للسيد تزويج أمته بحق الملك، وهو مالك لبضع الأمة المجوسية، ولا حاصل [للتعلّق] (2) بتحريمها عليه؛ فإن جواز الإنكاح لا يتلقى من إحلال المنْكِح غيرَه محل نفسه في الحِلّ؛ إذ الأصل على مناقضة هذا. والزوج المستحل لزوجته لا يُحلها لغيره بعقد نكاح، كما يكري الدار المكتراة.
وكان شيخي يقول: من ملك أخته من الرضاع [أو] (3) النسب، ملك تزويجها، وجهاً واحداً. وإن كان لا يستحل وطأها. وهذا حسن متجه. وقد رأيت لبعض الأصحاب تشبيباً (4) بمنع ذلك. وهذا لا يعتد به.
7924 - والكافر إذا ملك أمةً مسلمة، حيث يتصور ذلك؛ فلو أراد تزويجها، كان تزويج الكافر المسلمة بمثابة تزويج المسلم الأمة المجوسية إذا جوّزنا نكاحها للمجوسي؛ فإن [المسلمة] (5) لا تحل للكافر، كما لا تحل المجوسية للمسلم.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: للتعليق.
(3) في الأصل: والنسب.
(4) تشبيباً: أي تحسيناً وتعلّقاً يمنع ذلك.
(5) في الأصل: المجوسية.

(12/123)


7925 - وإذا ملك المسلم عبداً كافراً، ورأينا للسيد أن يجبر عبده على النكاح، فهل يُجبر المسلم [عبده] (1) الكافر؟ فعلى الوجهين المتقدمين في أن اختلاف الدين هل يمنع التزويج بملك اليمين؟ وإن لم نر الإجبار، فليس للعبد أن ينفرد بنفسه في التزويج.
وهل يتزوج بإذن المولى؟ والتفريع على أن اختلاف الدين يمنع حق التزويج بملك اليمين، الذي يقتضيه الرأي عندنا أنه يتزوج بإذنه، ويحمل ذلك على أنه بإذنه أسقط حق نفسه، فاستقل العبد ناكحاً. فليتأمل الناظر ذلك.
وهذا يعضده استشهاد مقصود في نفسه، وهو شاهد صدق فيما نحن فيه، وذلك أن المرأة لو ملكت عبداً، فله أن يتزوّج بإذنها، وإن لم تكن من أهل ولاية التزويج.
ولا نقول: عليه أن يستأذن وليها، وإن كنا نرى أن تزويج إمائها مفوّض إلى أوليائها، فدل ذلك على أن تزوج العبد بإذنٍ مبني على أن النكاح حق العبد على التمحض، وإذن السيد تصرف في محض الملك، فليُفهم ذلك؛ فإنه لطيف.
فصل
قال: "ولو قالت: أذنتُ في فلان، فأيّ وُلاتي زوّجني ... إلى آخره" (2).
7926 - فهذه مسألة منعوتة في المذهب، تواصفها (3) نقلتها، وما رأوه مشكلاً منها لا إشكال فيه؛ وإنما الغموض فيما أغفلوه لوضوحه عندهم، أو لإعراضهم.
ونحن نسرد مقالات الأصحاب في أركان المسألة، ونعقب كل ركن بما يحل مشكله، ويبين معضلَه؛ فنصور المسألة فيه.
7927 - إذا كان للمرأة مثلاً وليّان في درجة واحدة، وكانت المرأة مستأذَنة؛ فإنه
__________
(1) زيادة من المحقق. وعبارة الأصل: فهل يجبر المسلم والكافر؟
(2) ر. المختصر: 3/ 266.
(3) كذا. والمعنى واضح من السياق بدون قراءتها.

(12/124)


لا يتصوّر اجتماع مجبِرَيْن، إذ لا مجبر إلا [الأب والجد، وإذا اجتمعا] (1)؛ فالولي منهما أقربهما، وليقع التفريع على أنه يصح من المرأة الإذن في التزويج من غير أن تعيق زوجاً، فإذا قالت لوليَّيْها: يزوجني من شاء منكما كفئاً أو [غير كفءٍ] (2) فإذا ثبت الإذن في حق كل واحد منهما، فاتفق أنهما زوّجاها من زوجين، ولم يشعر أحدهما بصنيع الآخر؛ فالركن الأول في المسألة -بعد تصويرها- في بيان الحكم في التقاسيم، وذلك ينقسم إلى ما يشكل، وإلى ما لا يشكل. فأما إذا لم تشكل الواقعة، فلا يخلو؛ إما أن يقع العقدان معاً، أو يتقدم أحدهما، فإن وقعا معاً، لم ينعقد واحد منهما؛ إذ لا سبيل إلى اجتماع العقدين، وليس أحدهما أولى بالصحة أو الفساد، فالوجه أن يتدافعا. وهذه بمثابة قبول نكاح أختين في عُقدةٍ.
فأما إذا تقدم أحد العقدين والكلام مفروض فيه إذا تعيّن ولم يشكل، فالصحيح العقد المتقدم. فلو اتفق من الزوج الثاني دخولٌ، وكان على ظن أنه المتقدم، أو لا عقد إلا عقده، فالوطء الجاري وطء شبهة. والصحيح العقد المتقدم. وقد قصد الشافعي بذكر ذلك -على وضوحه- الردّ على مالك (3)؛ فإنه يقول: إذا جرى الوطء في النكاح الثاني، على نحو ما صورناه، فهو الصحيح.
هذا قولنا فيه إذا جرى العقدان، ولم يلتبس الحال.
7928 - فأما إذا أشكل الأمر؛ فالإشكال يقع من وجهين؛ أحدهما - أن لا يعهد الإشكال إلا قائماً من أول الأمر.
والثاني - أن يكون الأمر بيّناً أولاً، ثم يطرأ الأشكال من بعدُ.
فأما إذا اقترن الأشكال؛ فإنه يقع من وجهين: أحدهما - ألاّ ندري أن العقدين وقعا معاً، أو تقدم أحدهما على الثاني؟ فإن كان الإشكال على هذا الوجه، قال الشيخ القفال -فيما حكاه الصيدلاني-: النكاحان مفسوخان. قال الصيدلاني: الوجه
__________
(1) في الأصل: إلا الأب أو الجد إذا اجتمعا ...
(2) في الأصل: كفءاً أوزوجاً.
(3) ر. الأشراف على نكت مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب: 2/ 697 مسألة رقم: 1248.

(12/125)


عندي أن يقال: لا ينفسخ حتى يفسخ القاضي، لاحتمال أن أحدهما صحيح سابق، وإنما نعلم ارتفاع النكاح إذا فسخ القاضي.
وحقيقة هذا الفصل يستدعي أمرين، أحدهما - التأنق في التصوير، فليقع هذا الإشكال حيث يوءس من البيان فيه، فإذا تحقق اليأس من التبيين، ففيه ما ذكره الأصحاب.
وإن كان التبيين مأمولاً، فيجب البحث، وهذه المسألة تنتفي عن الشارع، فإن الغرض في هذا الركن بيان الحكم مع الاعتراف بحقيقة الحال، فهذا وجه التصوير.
أما الحكم؛ فقد اختلف أصحابنا في المسألة. فقال بعضهم: إذا تحقق الإشكال، ارتفع العقد، والأمر مفوض إلى علم الله تعالى. فإن وقع في علمه وقوعُ العقدين معاً، [فلا] (1) عقد، حتى يحتاج إلى فرض قطعه. وإن ترتبا في علم الله تعالى، واطرد الإشكال في حقنا، [بين] (2) وقوعهما معاً وبين ترتبهما (3)، فالعقد الأول يرتفع إذا تحقق اليأس من التبيّن فيه، ولا حاجة إلى إنشاء فسخ، وهذا يوجّه بأن إمضاء العقد غير ممكن. وإنما تمس الحاجة إلى إنشاء فسخ إذا كان تعذر إمضاؤه، وكان يمكن تيسّره بوجه من الوجوه؛ فإذ ذاك يُفرض إنشاء فسخ فيه، على ما يوجبه الشرع ويقتضيه.
وذهب آخرون إلى أنه لا بد من إنشاء الفسخ؛ فإن العقد يجوز أن يكون منعقداً إذا فرض الترتيب، فلا خلاص على [التحقيق] (4) إلا بإنشاء الفسخ. وهذا التردد يضاهي من وجه تحالفَ المتبايعين، فإن أئمتنا بعد التحالف، اختلفوا؛ فمنهم من قال: ينفسخ العقد. ثم القول فيمن [يفسخ] (5) العقد، قد استقصيناه في موضعه من كتاب البيع.
__________
(1) في الأصل: ولا.
(2) في الأصل: تبين.
(3) في الأصل: وبين ترتيبهما معاً.
(4) في الأصل: تحقيق.
(5) في الأصل: ينفسخ.

(12/126)


فإن قلنا: في مسألتنا يرتفع العقد من غير حاجة إلى رفع، فلا كلام. وإن قلنا: لابد من إنشاء الفسخ؛ فمن ينشئه؟ هذا فيه فضل نظر. فإن رفعوا الأمر إلى السلطان، وفوضوا إلى رأيه، ففسخ، نَفَذ، ولا كلام.
وإن طلق الزوجان، انبتَّ ما كنا نقدره من عقد إن كان، ولكن يُعقب هذا إشكالاً في المهر، سنذكره، إن شاء الله تعالى.
وإن لم يطلقها، وأراد كل واحد منهما أن يفسخ من غير رفع إلى مجلس الحكم، وإنما يؤثران الفسخ حتى يسقط المهر إذ ثبت، فكيف السبيل فيه؟ والمرأة بنفسها لو أرادت الفسخ، فإنها المطلوبة بالعقد المسترقة به، فكيف السبيل؟ من أصحابنا من قال: لا ينشىء الفسخ إلا الحاكم أو محكّم إن رأينا التحكيم؛ فإن هذا تعيين لمكان إشكال في مظنة لَبْس، والواقعة حَرِيَّةٌ بالاحتياج إلى مجتهد ناظر، ولأمثالها انتصب القضاة فياصلَ في الخصومات، هذا وجه. وإليه ميل الصيدلاني في مجموعه (1).
ومن أصحابنا من قال: للمرأة أن تفسخ من غير حاجةٍ إلى الرفع إلى السلطان؛ فإنها تفسخ النكاح بتعذر الاستمتاع بالجَبّ. وإن كان يبقى نوع من التمتع في المجبوب، فلأن نُثبت لها الفسخ بالإشكال الذي لا رفع له أولى.
ومن أصحابنا من قال: لها الفسخ كما ذكرنا.
وللزوجين أن يفسخا أيضاًً، كما يفسخان برقها؛ فإن الإشكال شمل جماعة، فانتظم من هذا خلاف: من الأصحاب من قال: الفسخ إلى القاضي لا غير.
ومنهم من قال: للمرأة أن تفسخ، وليس للزوجين الفسخ.
ومنهم من أثبت لها وللزوجين الفسخ، ولم يشترط أحد اجتماعهم، فيكون فسخَ تراضٍ. هذا منتهى القول في صورة واحدةٍ من القسم الذي نحن فيه، وهو إذا اقترن الإشكال ولم يطرأ (2) على بيان.
__________
(1) هذا الوجه هو المعتمد، قال عنه الرافعي: هو الأشبه (ر. الشرح الكبير: 8/ 6)، والنووي: الأصح (ر. الروضة: 7/ 89).
(2) لم يطرأ على بيان: المعنى أن الإشكال اقترن بوقوع العقدين، ولم يطرأ بعد معرفة سَبْق أحدهما ثم أشكل السابق بعد العلم.

(12/127)


7929 - فأما الصورة الثانية؛ فهي: أن نعلم أن أحد العقدين تقدّم، ولكن لم يتعين لنا المتقدم منهما قط، وتحقق اليأس من البيان؛ ففي المسألة قولان: أحدهما - إن هذا بمثابة الصورة الأولى، وهي: إذا أشكل الأمر، فلم ندر أوقع العقدان معاً، أو ترتب أحدهما على الثاني. وقد سبق التفصيل فيه.
والقول الثاني - أنا نتوقف، ويقف العقد بينهما أبداً حتى يطلقاها.
توجيه القولين: من ألحق هذه الصورة بالأولى، احتج بوقوع الإشكال وتعذّر إمضاء العقد، واستيقان التقدم لا يغني شيئاً مع اللبس في المتقدم. وإذا كنا نتسبَّب إلى رفع [العقدين مع] (1) إمكان وقوع أحدهما، فينبغي أن نفعل ذلك مع تحقق التقدم.
ومن نصر القول الثاني، فصل بين الصورتين، وقال: إذا تحققنا صحة عقد في الصورة الثانية، فالهجوم على رفعه أو الحكم بارتفاعه لا معنى له، إلا [بطريقٍ] (2) شرعي، وحكمُ الشرع أن نثبت [ما] (3) نتبيّنه، ونتوقف فيما يُشكل، فإن ترتب على صورة الإشكال ضرر، فكم من ضرر يحتمل إذا لم يوجد في الشرع له رافع، وإذا كنا لا نستبعد على الرأي الأصح أنه تحبس المعتدة التي تباعدت حيضتها إلى سن اليأس، مع أداء هذا إلى [أن] (4) يبطل (5) شبابها من مراهقتها وإعصارها (6) إلى انتهائها إلى أقصى أسنان الياس في بنات أعصارها، وهذا هو العذاب الحاقّ، ولكن لم نجد له دافعاً شرعياً؛ فألزمناه، وليس هذا كالصورة الأولى؛ فإنا لم نتحقق فيها وقوع عقد، فتسامحنا في الحكم بالارتفاع لو وقع، وهذا الفرق يتجه على طريقة القفال؛ فإنه يحكم بارتفاع العقد لو وقع في الصورة الأولى من غير حاجة إلى إنشاء رفع.
فلو قال قائل: لِم قال القفال في الصورة الأولى بتقدير ارتفاع العقد؟ وهلا قال:
__________
(1) في الأصل: إلى رفع العقد أم إمكان وقوع ...
(2) في الأصل: بطرق.
(3) في الأصل: فيما.
(4) زيادة من المحقق.
(5) ييطل: يضيع، من قولك: بطل الشيءُ يبطُل: ذهب ضياعاً (المعجم).
(6) أعصرت الفتاة: بلغت شبابها وأدركت (معجم).

(12/128)


الأصل عدمه؟ قلنا: ليس ما قاله القفال قولاً جازماً، ولكنه قال: لو قدرنا وقوعه، ارتفع.
ومن قال: ننشىء الرفع، قد يتوجه عليه السؤال الذي ذكرناه؛ فإنه أوجب رفعاً -على ما فصلناه- فيقال له: هلا أخذت بعدم العقد؟ وجوابه: إن العقد واقع، فإنا إن أشرنا إلى هذا، فقد جرى معه صورة العقد، وكذلك إن نظرنا إلى الآخر، وعدم الانعقاد أمر محال على تقدير وقوع العقدين معاً، وقد يتجه استبعاد تصور هذا، فلا يمكن البناء على أن لا عقد، وليس كما لو أشكل على المرأة أنها هل نكحت أم لا؛ فإن الأصل في هذا المقام أن لا عقد، فلا يجب التسبب إلى رفعٍ في هذه الصورة على تقدير وقوع العقد.
وكل ما ذكرناه فيه إذا اقترن الإشكال، ولم يطرأ على بيان.
7930 - فأما إذا تقدم أحد العقدين، وتعيّن، ثم أشكل ما تعيّن وأيس من التبيّن فيه؛ فالذي قطع به الأئمة أنا نقف العقد، ولا نوجب التسبب إلى رفعه، بخلاف ما إذا اقترن الإشكال، وليس يخفى الفرق على من يحاوله.
وسمعت شيخي -في آخر العهد به- يحكي عن بعض الأصحاب إجراء القولين في هذه الصورة -وإن طرأ الإشكال- إذا تحقق اليأس من الخلاص منه. وهذا غريب!
وذكر الأئمة نظير هذه الصور في الجمعتين إذا عقدتا في بلدة لا تحتمل إلا جمعة واحدة. وقد ذكرت تلك التقاسيم في مواضعها، ولا أذكر منها هاهنا إلا ما ينبه على فائدة.
قال المحققون: إذا تيقنا تقدم جمعة ولم تتعين لنا، فهذه الصورة الأوْلى بأن يؤخذ فيها بصحة جمعة، وحكم الأخذ بذلك أن نوجب على أهل البلدة إقامة الظهر، ونمنعهم عن إقامة جمعة أخرى. فإذا تقدم أحد النكاحين، وأشكل، يتجه رفع النكاحين، والفرق أن الجمعة بعد ما صحت لا تفسخ، والنكاح بعد انعقاده يتصور فسخه بأسباب. فإذا اعتقد المعتقد كون الإشكال من أسباب الفسخ، لم يكن مبعداً.
وهذا في الجمعة بعيد، فينتظم من ذلك أن الوجه القطع بأن إحدى الجمعتين إذا

(12/129)


تقدمت، فلا سبيل إلى عقد جمعة أخرى، وعلى الناس إقامة الظهر، فإن أحداً منهم ليس عالماً بأنه أقام الفرض الذي عليه. هذا وجه القياس، وإن كان طريق القولين في الجمعة مشهورة.
وقد انتجز ركن واحد من أركان المسألة، وهو بيان حكم الإشكال، عند تقدير الاعتراف به، من غير فرض نزاع.
7931 - ولم يبق في هذا الركن إلا الكلام في النفقة، وإذا انتهى التصوير إلى حالة لا يُحكم فيها بالانفساخ ولا يثبت فيها حق الفسخ إنشاءً، فتبقى المرأة محتسبة (1) في نكاح، ولسنا ندري أن الصحيح نكاحُ هذا، أم نكاحُ ذاك؟ وقد اعترفوا بالإشكال، وإذا رفعت الواقعة على هذه الصورة إلى الحاكم، وقع الاعتراف في موضعه بالإشكال، فعلى من يقع القضاء بالنفقة؟
قال الأئمة: إذا طلق الرجل إحدى امرأتيه، وأشكل عليه المطلقة منهما، فيلزمه أن ينفق عليهما جميعاً، فإن كل واحدة محتسبة عليه، وإن أخذ آخذٌ حكمَ النفقة من هذه المسألة، قيل له: كانت كل واحدة منهما مستحِقة للنفقة، ولم يتحقق في حق كل واحدة انقطاع النكاح، وزوال السبب الموجِب للنفقة، فلكل واحدة أن تطلب نفقتها. وينضم إلى هذا أن الزوج هو الذىِ طلق، فكان هو السبب في جرّ هذا الإبهام.
وقد يعترض للفقيه الالتفات إلى النشوز؛ فإنه إذا تعذر الاستمتاع [بها] (2)، سقطت النفقة، والاستمتاع متعذر على الزوج في المسألة. وإن طلب طالب الفرق، وقال: الناشز عاصية بنشوزها، عورض بجنون المرأة إذا كان يمتنع بسببه الاستمتاع بها، فإن النفقة تسقط، وإن لم تنتسب المرأة إلى معصية.
فهذا الذي ذكرناه وجوه التنبيه على الطلب، والممكنُ بعد ذلك وجهان: أحدهما - أن النفقة واجبة عليهما؛ إذ جرى في حق كل واحد منهما صورةُ عقد، ولم يوجد من
__________
(1) كذا. ولعل الصواب: "محتبسة".
(2) في الأصل: به.

(12/130)


جهتها امتناع ولا صفة ذاتية يعزى إليها الامتناع، ويستحيل أن نوجب نفقتين، وليس أحدهما أولى بالالتزام من الثاني، فلا وجه إلا فضُّ (1) النفقة عليهما. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: لا نفقة أصلاً؛ فإن كل [واحدٍ] (2) منهما يقول: إن نكحت وألزمتموني حكم نكاحي فمكّنوني من مستمتَع، ثم أَلْزموني النفقة، فإذا تعذر المستمتَع من كل وجه، فلا معنى لإيجاب النفقةَ.
والظاهرُ بعد هذه المباحثات الحكمُ بسقوط النفقة عن كل واحد منهما؛ فإن المرأة لا تستيقن استحقاق النفقة على واحد منهما، وكل واحد منهما ليس يستيقن وجوب النفقة عليه، والأصل براءة الذمة.
فإن قيل: قد جرى في حق كل واحد منهما صورة عقد، وهي موجبة النفقة على الجملة، فهذا ثابت في حقه، وطريان الشك من جهة عقد جرى مع آخر، ينبغي ألا يسقط حق النكاح عنه؟ فالجواب عن ذلك: أنه ليس من الإنصاف النظر إلى صورة العقد في كل واحد منهما، ولكن ينبغي أن يشمل النظر الواقعة بكمالها، ولا يكون العقد ملزماً مع عقد في مقابلته، هذه صورة الواقعة.
وهذا يناظر أصلاً سبق تمهيده؛ وهو أنا إذا فرّعنا على أن النجاسة وإن غلبت على الظن، فلا حكم لها ما لم تستيقن، فلو كان مع الرجل إناءان، أحدهما فيه ماء طاهر، والثاني فيه ماء نجس، وأشكل الطاهر منهما؛ فلو أفردنا استعمال إناء أخْذاً بأن هذا في نفسه غيرُ مستيقن النجاسة، لم يجز، ولكن يثبت الحكم من تقابل الإنائين، فصورة الواقعة إناء في مقابلة إناء، ويجوز أن يقال: إذا كان يثبت حكم النجاسة بسبب مقابلة نجس طاهراً، فينبغي أن يثبت حكم اللزوم بسبب مقابلة عقد صحيح عقداً فاسداً، ولكن هذا -على ما فيه من التخييل- فيه تلبيس؛ فإن المحكوم عليه شخص واحد، والإناءان محل الحكم، وهاهنا المحكوم عليه شخصان، كل واحد منهما متميز عن الثاني، فالوجه: إسقاط النفقة، ويترتب عليه أمر المهر، فالمرأة لا تعلم يقيناً استحقاق المهر على واحد منهما بعينه، وكل واحد منهما لا يعلم
__________
(1) فضُّ النفقة: أي قسمتها عليهما.
(2) في الأصل: "واحدة".

(12/131)


أن المهر يلزمه، والواقعة مشكلة، والاعتراف بالإشكال واقع، ولا سبيل إلى التزام مهرين، ولا إلى قسمة مهر، والنشوز لا مدخل له في المسألة، فالوجه: أن واحداً منهما لا يطالَب بشيء، مع القطع بأن مهراً واحداً وجب على أحدهما. فهذا ما لا ينقدح على قياس الأصول غيره.
ولا حاجة مع هذا إلى الاستشهاد بمسألة الطائر إذا طار، فقال زيد: إن كان هذا الطائر غراباً فامرأتي طالق، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق، فلا نحكم بوقوع الطلاق، مع العلم بوقوعه في علم الله تعالى على زوجة أحدهما. وإنما لم نؤثر الاستشهاد بهذه المسألة مع موافقة الحكم؛ لأن قول كل واحد منهما على صورة، لو استقلت وانفردت، لأوجبت المهر والنفقة، فهذا الفرق يقع بين المسألتين، والفقه المعتمد في نفي المهر والنفقة وراء ذلك، والأولى اعتماده والاكتفاء به.
وقد تم ركن واحد.
7932 - فأمّا الركن الثاني: وهو حريٌ بالاعتناء به - وهو القول في التداعي والتنازع، والذي قدمناه فيه إذا اعترف الجميع بالإشكال؛ فإذا كان يدّعي كل واحد من المتزوجَيْن أنه السابق؛ فأول ما تساهل الأصحاب فيه تحقيق القول فيمن توجه الدعوى عليه، وهذا سر الفصل ومنشأ الإشكال، وفيه اختبطت الطرق، ونحن نجري على طريقتنا في نقل ما ذكره الأصحاب، وذكر ما فهمناه من فحوى كلامهم، حتى إذا نجز، أتبعناه البحثَ وطلبَ التحقيق.
قال الشيخ أبو بكر الصيدلاني: إذا ادعى المتزوجان السبق، وكان كل واحد منهما يدعيه، ودار هذا التفاوض بينهما، ولم يعلّقا دعوييهما بالمرأة؛ فالقاضي يحلّفهما على ما سنصف كيفية التحليف. صرح بهذا في مجموعه وفرّع عليه.
وقال غيره (1): إذا تفاوض المتزوجان ولم يعلّقا دعوييهما بمحل. فلا يلتفت إليهما، ولا تسمع دعواهما؛ فإن وضع الدعوى في الشريعة يقتضي ارتباطاً
__________
(1) غيره: أي الجمهور، صرح بذلك النووي (ر. الروضة: 7/ 90).

(12/132)


بالمستحَق عليه، ثم [يقدَّرُ] (1) من المستحق عليه إقرارٌ أو (2) إنكار، وتطّرد الخصومة على نظامها، وليس واحد من المتزوجين مدعياً استحقاقاً على صاحبه، وليس في يد واحد منهما ما يدعيه صاحبه، وهذا منقدح حسن على قياس الدعاوى وقواعد الأصول.
7933 - ثم استتم هؤلاء هذا المسلك، وقالوا: إن وقعت الدعوى [على] (3) المرأة، سمعت، كما سيأتي تفصيلها.
وإن وقعت الدعوى على الولي المزوِّج، نُظر: فإن لم يكن الولي مجبراً، لم تسمع الدعوى، وإن كان الولي مجبراً؛ ففي سماع الدعوى عليه وجهان: أحدهما - أنها لا تسمع؛ فإن الولي ليس مستحقاً عليه، وإنما المدعى عليه قولٌ (4)، لو ثبت، لم يتعلق بالقائل استحقاق. وهذا هو القياس.
ومنهم من قال: تسمع الدعوى؛ فإن المدعى عليه لو أقر قُبل إقراره، إذ هو مجبِر، ومن يملك عقداً يملك الإقرار. والغرض من عرض الأَيْمان تحصيل الإقرار؛ فإن ذا الدِّين قد يرعوي عن اليمين، ولا يُقدم على اليمين الكاذبة. فإذا كان المجبِر مقبول الإقرار، ونحن نرعى أن نحمله على الإقرار بسبب التحليف، ساغ تحليفه.
وهذا الاختلاف لا يختص بمسألتنا في فرض عقدين، ولكن من ادعى على إنسان أنه زوّج ابنته البكر، ففي سماع الدعوى الخلاف الذي ذكرناه. فهذا ما ذكره الأصحاب.
7934 - ونحن نقول: طريقة الصيدلاني بعيدة عن قياس الأصول.
والذي أراه فيها أنهما إذا كان كل واحد منهما يدعي على المرأة ويعتقد ذلك، وكان الرجوع إليه ممكناً، فلا يسوغ لذي تحصيل، أن يقدر هاهنا تفاوضاً وتحالفاً من غير مراجعة.
__________
(1) في الأصل: تعذر.
(2) في الأصل: إقرار وإنكار.
(3) في الأصل: مع.
(4) قول: أي قوله: زوجتك ابنتي.

(12/133)


فأما إذا اعترفا بأن الأمر مشكل عليها، فلا يتأتى منهما ربط دعوَيْهما بها، فإذا تفاوضا بينهما قُدِّرت المرأةُ كالشيء المدعى الذي لا يقر ولا ينكر، ففي هذا المقام قد يتعلق فكر الفقيه بالتحليف. وإن كانت اليد لا تثبت لواحد منهما عليها، ولكنهما إذا ارتفعا إلى مجلس القاضي، واعترفا بالتباس الحال على المرأة، وادعى كل واحد منهما السبق، فلو لم يحلّفهما، لتعطل حقاهما. فهذا في الصورة التي ذكرناها محتمل. يجوز أن يقال: يحلفهما القاضي، ويجوز أن يقال: لا يحلفهما، فإنه لا مرتبط لدعوييهما بمن يجب ربط الدعوى به، فهذا هو التحصيل في متعلق الدعوى، والله أعلم.
ثم إن جرينا على التحليف في الصورة التي ذكرناها؛ فإنه [يحلّفهما] (1)، وينقدح في البداية (2) تخير القاضي والإقراع؛ إذ لا مزية لأحدهما على الثاني، فإن حلفا أو نكلا، فقد أشكل الأمر، وعاد التفصيل إلى ما ذكرناه من اعترافهم بالإشكال. وإن حلف أحدهما ونكل الثاني، قضينا للحالف بالزوجية.
هذا تفريع تحليفهما إذا لم يعلِّقا دعوييهما بالمرأة [وعلمها] (3) بالسبق.
7935 - فأما إذا علقا دعوييهما بالمرأة وادعى كل واحد منهما علمها؛ فللدعوى صيغتان: إحداهما - أن يتعرضا للعقد، والعلم بالسبق فيه.
والثانية - ألا يتعرضا، ولكن يدّعي كل واحد منهما [عليها] (4) الزوجية المطلقة.
فأمّا إذا ادّعى كل واحد منهما علمَها بالعقد السابق، فهي لا تخلو: إما أن تقر إذا ادعى أحدهما، أو تنكر، فإن أقرت -وليقع التفريع على قبول إقرارها- فإذا أقرت لمن ادعى عليها ابتداء، نفد إقرارها، وحكم بأنها زوجة المقَرّ له.
وهل للثاني أن يحلفها؟ قال الأئمة: هذا يبتنى على أنها لو أقرت للثاني ورجعت
__________
(1) في الأصل: يحلّفها.
(2) في البداية: أي من يبدأ القاضي تحليفه منهما.
(3) في الأصل: وعلمهما.
(4) في الأصل: عليه.

(12/134)


عن إقرارها للأول، فلا يقبل رجوعها، ولكنها هل تغرَم للثاني شيئاً أم لا؟ فعلى قولين، مبنيين على ما لو قال صاحب اليد في الدار: غصبت هذه الدار من فلان، لا بل من فلان، فالدار مسلّمة إلى الأول، وهل يغرَم للثاني قيمة الدار، بسبب انتسابه إلى إيقاع الحيلولة بين الثاني وبين الدار؟ فعلى قولين، تمهد ذكرهما تأسيساً وتفريعاً في كتاب الغصوب وغيره.
فإن قيل: لو شهد شهود على الطلاق المُبين ونفذ القضاء بشهادتهم، [ثم] (1) إنهم رجعوا عن شهادتهم، فما قولكم في تغريمهم؟ قلنا: نغرِّمهم، قولاً واحداً؛ فإن التفويت الذي حصل بسبب شهادتهم لا مستدرك له، وليس كذلك الإقرار بالغصب؛ فإن المقَرَّ له الأول يُتصوَّر أن يصدِّق المقَرَّ له الثاني، فيسلِّم الدار له، وقد يفرض قيام بينة على وفق مراد الثاني، فلما تُصوّر مستدركٌ؛ اختلف القول.
فإن قيل: لم ألحقتم الإقرار بالزوجية بصورة القولين؟ قلنا: لأن الأول يتصور أن يصدق الثاني.
فإن قيل: فلو اتفق ذلك، فلم تصدق المرأة؟ وقد سبق منها ما يدل على تحريمها على الثاني، فهلا قلتم: إن هذا بمثابة ما لو ادعت المرأة رضاعاً محرِّماً، ثم كذّبت نفسها، وأرادت أن تنكح من زعمت أنها محرَّمةٌ عليه، فإن ذلك لا يقبل منها؟ قلنا: إذا ذكرت رضاعاً، فقد أقرت بحرمة ثابتة، والإنكار [والإقرار] (2) في مسألتنا يتواردان على كل ممكن. فإذا أقرت بعد الإنكار، سمع ذلك منها.
ولو ادعى رجل زوجية امرأة، فأنكرت، ثم أقرت، سمع إقرارها [مع أنها] (3) نفت حِلاًّ، ثم اعترفت به. وكانت كمن ينكر حقاً، ثم يعترف به. وستأتي أمثال ذلك مشروحة، إن شاء الله عز وجل.
وإن حكمنا بأنها تغرم للثاني لو أقرت [له] (4)، ففي المقدار الذي تغرمه قولان،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: بأنها.
(4) في الأصل: به.

(12/135)


وترتيب مذهب. والقول الوجيز الكافي هاهنا؛ أن مقدار ما تغرمه هاهنا، كمقدار ما نغرِّمه للشهود على الطلاق، إذا رجعوا بعد نفوذ القضاء.
7936 - ونعود إلى غرضنا فنقول: إن قلنا: إنها لا تغرم للثاني لو أقرت له، فلا نحلفها للثاني، لأنه لا يستفيد بتحليفها، لا زوجية ولا غيرها، ولا معنى للتحليف الذي لا يفيد.
وإن قلنا: إنها تغرم (1) للثاني؛ فله أن يحلِّفوها رجاء أن تقر أو [تنكل] (2) عن اليمين، فتردّ اليمين على الثاني، ويستحق عليها غرماً.
فإن قلنا: الثاني يحلِّفها، فلا يخلو؛ إما أن تحلف أو تنكل عن اليمين، فإن حلفت، انفصلت الخصومة، وثبتت الزوجية للأول، وانقطعت خصومة الثاني، وإن نكلت عن اليمين، ردت اليمين على الثاني، فإن نكل عن اليمين، كان نكوله بمثابة حلفها. وإن حلف يمين الرد؛ فقد حكى الصيدلاني قولين في نكاح الأول، هل ينفسخ ويثبت للثاني، أم لا ينفسخ، ولكنها تغرم للثاني؟ أحدهما -وهو محكي عن القديم- أن نكاح الأول ينفسخ، ويثبت النكاح في حق الثاني.
والقول الثاني - مخرج على القياس الجديد، وليس منصوصاً عليه، وهو أن النكاح لا ينفسخ أصلاً، ولكن فائدة يمين الرد، ثبوت الغرم.
ثم بنى أصحابنا هذين القولين، على أن يمين الرد كالبيّنة أو كالإقرار؛ قالوا: إن جعلناها كالبينة، ارتفع النكاح الأول، وثبت الثاني، كما لو قامت بينة على موافقة دعوى الثاني.
وإن قلنا: يمين الرد كالإقرار، فلو أقرت للثاني، لم يفد إقرارها ارتفاعَ النكاح الأول، ولكنه يفيد تغريمها.
قال الشيخ أبو بكر (3): الصحيح ما خُرّج في الجديد؛ لأنا وإن جعلنا يمين الرد
__________
(1) في الأصل: أنها لا تغرم.
(2) في الأصل: تنكر.
(3) الشيخ أبو بكر: أي الصيدلاني، صرح بذلك النووي (ر. الروضة: 7/ 92).

(12/136)


كالبينة؛ فذاك في حق الناكلِ والحالفِ لا يعدوهما، فأما تنزيل يمين الرد منزلة البينة في حق ثالث سواهما، فلا سبيل إليه.
وتحقيق ذلك: أن الثاني لا يحلف يمين الرد إلا بسبب نكولها عن اليمين، فلو قضينا بيمين الرد على المقر له (1)، لكان ذلك قضاء عليه بسبب قول المقرة؛ فإن عماد يمين الرد نكولها، ولا نأمن أن تواطئه، فيحلف وتنكل، ولا يلزمها من النكول شيء، فيحلف الثاني، وتثبت له الزوجية.
وإن ثبتت الزوجية للثاني أن يقول (2): اليمين حجة في الخصومة، والخصومة واحدة، والمتنازع زوجية واحدة، فلا يمتنع أن تكون يمين أحد الخصمين أولى وأقوى من إقرار المدعى عليه لأحدهما.
فهذا منتهى ما ذكره الأصحاب. وهو متجه حسن.
والذي [يردّده] (3) الأئمة من ذكر انفساخ النكاح الأول، كلام متجوَّزٌ به. ومعناه: أنا نتبين أن النكاح الأول منتف من أصله، وأن الصحيح هو النكاح الثاني.
7937 - والذي ينقدح في تتمة هذا الكلام؛ أنا إذا فرعنا على القديم، وحكمنا بأن النكاح في حق الأول ينتفي، ويثبت في حق الثاني، فلا يمتنع أن نقول: إنها تحلّف في حق الثاني، وإن قلنا: لا غرم عليها؛ فإنا نبغي بالتحليف فائدةَ ثبوت (4) النكاح في حق الثاني إذا كان ممكناً، فهو أظهر في الفائدة من تقدير غرم، وكأن إقرارها الأول لا يستقر ما لم تحلف للثاني؛ فإن يمين الثاني أقوى من إقرارها للأول.
وإنما يتجرد الإقرار نافعاً إذا لم يزدحم عليها خصمان، وقد جرى في حق كل واحد منهما عقد، هذا منتهى الكلام.
ثم قال الأئمة: إن كان الدعوى عليها في العقد والسبقِ فيه، فلا تنتظم الدعوى
__________
(1) على المقر له: أي الأول.
(2) أن يقول: أي الثاني هو الذي له أن يقول. والعبارة قلقة، ولعل فيها سقطاً.
(3) في الأصل: يرده الأئمة.
(4) في الأصل: فائدة وثبوت.

(12/137)


ما لم تربط بعلمها، وهذا جار على قياس ممهد، وهو أنها [لا] (1) تتعرض -لو أنكرت العلم- لنفي فعل الغير، ولا يتأتى نفي فعل الغير بتّاً، وإنما الممكن منه نفي العلم به. وهذا بيِّنٌ وكل ما ذكرناه إذا أقرت للأول.
فأما إذا أنكرت العلم في حق الأول، فتحلف؛ فإن حلفت، انفصلت بالخصومة مع الأول. ثم إذا قالت في يمينها: "بالله لا أعلم السابق بالعقد، ولا علم لي بتاريخ العقدين". فإذا جاء الثاني، وأراد أن يحلفها مرة أخرى، نُظر: فإن حضرا مجلس الحكم، ووقع تراضيهما على أن يحلفها أحدهما، فتعرضت في يمينها لنفي علمها بتاريخ العقدين، كفى ذلك؛ فلا تحلف مرة أخرى، ثم يؤول الأمر إليهما، وقد سبق الكلام في أنهما يتحالفان، وكيف السبيل في تحالفهما.
والذي نجدده أنا ذكرنا تردد الطرق في أن الرجلين لو تفاوضا بينهما ولم يعلقا دعوييهما بالمرأة، وأرادا أن يتحالفا؛ فهل يسوغ ذلك؟ وإذا علقا دعوييهما في الصورة التي انتهينا إليها بالمرأة، ثم حلفت، فيظهر في هذه الصورة أن يتحالفا بينهما؛ من جهة أن تحالفهما يقع بعد ارتباط الدعوى بالمرأة، والذي كنا نذكره أن يبتديا بالتحالف من غير تعرض لها، وفي كلام بعض الأئمة إشارة إلى أنها إذا حلفت، [ونفت] (2) علمها؛ فالرجلان لا يتحالفان، وقد أفضى الأمر إلى الإشكال.
وهذا زلل (3) عندي؛ فإن الحكم بانفصال الخصومة بمجرد يمينها لا معنى له، وقد قامت الخصومة أولاً معها، ولم تنكر جريان أحد العقدين على الصحة، فلا وجه لقطع تعلقهما بأيمان الإثبات بسبب حلفها على نفي العلم، هذا كلام فيه إذا اجتمعا، ورضيا بأن تحلف يميناً واحدة.
فأما إذا حضر أحدهما، وادعى علمها، فحلفت، ثم حضر الثاني، وأراد أن يحلفها في حق نفسه مرة أخرى؛ فإن حكمه متميز عن حكم الأول، ويتصور أن يرضى
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: وثبت.
(3) حكى النووي هذا عن الإمام، واختاره. (ر. الروضة: 7/ 91).

(12/138)


أحدهما بالمتاركة والإعراض، ويريد الثاني الرفع إلى القضاء، وهذا يجري في كل خصمين يدعيان على شخص شيئاًً.
ومن أصحابنا من قال: إذا حلفت أولاً - على أنه لا علم لها بتاريخ العقدين، فالذي مضى كافٍ، وليس للثاني أن يحلفها مرة أخرى؛ فإن الخصمين وإن تعددا فالواقعة لها حكم الاتحاد ونفيها علمها يشمل [العقدين] (1) والخصمين جميعاً، فلا معنى لتكرير التحليف.
والذي يحقق ذلك: أنها لو حلفت في حق الثاني، لكان يمينها مع الثاني على صيغة يمينها مع الأول. هذا إذا حلفت مع الأول.
فأما إذا نكلت لمَّا حلفها الأول؛ فالوجه أن يحلِف من يدعي عليها، ثم لا بد وأن يحلف أنه السابق بالعقد. والذي ذهب إليه المحقون: أن ذلك يكفيه، ولا حاجة إلى التعرض لإثبات علمها بذلك؛ فإنه إنما ربط دعواه بعلمها أولاً؛ من جهة أنه لا يتأتى تحليفها إلا على هذا الوجه، فكانت اليمين على صيغة الدعوى، والدعوى على موافقة اليمين، فإذا نكلت وانتهت الخصومة إلى تحليف المدعي يمين الرد، فينبغي أن يتعرض في يمينه لإثبات مقصوده.
ويتصل بهذا الطرف: أنهما لو كانا حاضرين، ووقع الرضا بأن تحلف لهما يميناً واحدة على نفي الدراية والعلم؛ فإذا نكلت، عاد الكلام في تحالفهما إلى ما ذكرناه فيه إذا حلفت.
فإن قيل: قد استوى أثر حلفها ونكولها؛ فإنهما في الصورتين يتحالفان؟ قلنا: نعم هو كذلك؛ فإن الأمر لا ينفصل بجهلها وإنما الغرض بربط الدعوى بها، توقع إقرارها لأحدهما، فإذا لم تقر، وأصرت على عدم العلم، رجع الكلام إلى تحالفهما لا محالة.
ولو أنها - لما ادعى أحدهما عليها العلم بالسبق، صرحت بالإنكار، وقالت للمبتدي منهما: لستَ السابق بالعقد؛ فهذا يكون إقرار للثاني بالسبق لا محالة (2)،
__________
(1) في الأصل: الحقين.
(2) حكى هذا النووي في الروضة واعتمده (السابق: 93).

(12/139)


فيعود الترتيب إلى إقرارها لأحدهما، وقد سبق في ذلك قول كاف.
وكل ما ذكرناه فيها إذا توجهت الدعوى متعلقة بما جرى من العقد، وترتب عليه التعرض لنفي العلم، كما تقدم.
7938 - فأما إذا ادعى كل واحد منهما عليها زوجية مطلقة، دعوى باتّة، فهذا القسم يستدعي تقديم أصل، وهو: أن من يدعي عقد نكاح على امرأة؛ فقد اختلف قول الشافعي في أنه هل يجب على المدعي تفصيل الدعوى، وذكر الشرائط المرعية في صحة العقد؟ [وسيأتي بيان ما يجب فيه تفصيل الدعوى وما يجوز إطلاق الدعوى فيه] (1)، وقدرُ غرضنا الآن إشارة إلى الخلاف.
ولو لم يتعرض المدعي للعقد ولكنه ادعى على المرأة أنها زوجته؛ فقد اختلف أئمتنا في ذلك: فقطع بعضهم بأن الدعوى مسموعة مطلقة على هذه الصيغة، ولا نكلف المدعي ذكر [الزوجية] (2) وتفصيلها واستقصاء شرائط الصحة.
وذهب آخرون إلى أن المدعي يُكلَّف إسنادَ الزوجية التي يدعيها إلى عقد، ثم يؤمر -على أحد القولين- بذكر شرائط الصحة، كما تقدم. وقد ذكرنا في صدر الكتاب أن المرأة إذا أقرت بأنها زوجة فلان، فهل يقبل إقرارها مجملاً، أم لا بد من أن تذكر صفة العقد في إقرارها؟ فإن شرطنا في الإقرار التفصيل وذكر العقد، فإنا نشترط على حسب ذلك التفصيل في دعوى الزوجية مطلقة. والمسألة مفروضة في الواقعة التي نحن فيها، فلا نكتفي من المرأة بأن تنفي علمها، بل عليها أن تجيب جواباً باتّاً.
ثم قال الأئمة: إذا كانت لا تدري، فلها أن تثبت قولها وتقول في جواب المدعي: "لست زوجتك"، ثم لها أن تحلف على حسب ذلك. وهذا من لطائف أحكام الدعوى؛ فإن الشرع يسوّغ القطع والبتّ في الجواب ممن لا يدري حقيقة الحال، والضابط في هذا الجنس: أنه إذا أمكن ربط الدعوى متعلقة بعلم المرأة،
__________
(1) في الأصل: وسيأتي ذلك فيه، وفيما يسوغ إطلاق الدعوى فيه. والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في الأصل: الزوجة.

(12/140)


فغيّر المدعي صيغة الدعوى وجزمها، وأتى بها مطلقة، فتغيير المدعي صيغةَ الدعوى من ادعاء العلم إلى الجزم لا يغير حكمها.
وهذا يناظر ما لو ادعى الرجل على وارث: أن مورّثك أتلف على مالاً، وعليك أن تغرم قيمته من التركة، فيحلف الوارث أنه لا يعلم أن أباه أتلف عليه، فإن لم يتعرض المدعي لذلك، وادعى على الوارث أنه يلزمه تسليم ألف من التركة إليه، فللوارث أن يحلف على البتّ؛ لا يلزمه تسليمُ ما يدعيه إليه.
وإن فرعنا على أن دعوى الزوجية لا تسمع مطلقة، فإذا أسندت إلى عقد، فيعود التفريع إلى أنه لا بد من دعوى علمها، وقد مضى القول في ذلك مفصلاً، وبان ما يفضي إليه الخصام آخراً.
وهذا نجاز الفصل، فإن نحن لم نذكر بعض الصور، فهو لدلالة ما ذكرناه عليه.
والله المستعان.
فصل
قال: "ولو زوجها الولي من نفسه بأمرها، لم يجز ... إلى آخره" (1).
إذا أراد الولي أن يتزوج وليته، وذلك يفرض في بني الأعمام من القرابة، وفي المعتِق والمعتَقة؛ فمذهبنا: أنه إذا أراد ذلك، ورضيت المرأة به زوجاً، فليس له أن يتولى طرفي العقد، فيزوّجها ويتزوجها. ولو وكل وكيلاً بتزويجها منه، فرام بذلك تصوير الإيجاب والقبول بين شخصين، أحدهما وكيله، والثاني هو؛ فهذا لا يسوغ عندنا أيضاً؛ فإن عبارة وكيله بمثابة عبارته، وعبارة الوكيل مستعادة في حق الموكِّل، فلا فرق بين أن يأتي هو بالعبارتين، وبين أن يفوّض لفظ الإيجاب إلى وكيله، فلا وجه إذا أراد التزوج؛ إلا أحد أمرين - أن يكون في درجته ولي إن كانت المسألة مفروضة في تزويج القرابات، أو في ورثة المعتقين، فيزوجها الولي الذي في درجته. هذا وجه.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 266.

(12/141)


والثاني في الإمكان -إن لم يكن في درجته ولي- أن يرفع الأمر إلى السلطان؛ حتى يزوجها منه. وهذا من منازل ولاية السلطان.
قال أبو حنيفة (1): للولي أن يتولى طرفي العقد. ثم له ولأصحابه تردد يتعلق بمقتضى الألفاظ. قال أبو حنيفة: إذا قالت المرأة: "زوجني"، فله أن يتزوجها وإن لم تصرح في إذنها بذلك. وقال بعض أصحابه: لا يزوجها من نفسه ما لم تقل "تزوجني" أو "زوجني من نفسك".
وإذا جوّزنا التوكيل بالتزويج على ما مضى، فلو أذن الولي والمرأة للوكيل حتى يتزوجها ويزوجها من نفسه، فهذا ممتنع عندنا؛ فإن التزويج إذا كان يقع من الولي، فهو أقوى، فإذا امتنع تولي الطرفين من الولي، فلأن يمتنع من [الوكيل] (2) أولى.
ومعتمد المذهب، الذي عليه مدار التفاصيل: أن وضع العقد على أن يتعلق بالإيجاب والقبول، وهما تخاطبٌ بين شخصين، وتولّي الرجل طرفي العقد في حكم مخاطبته لنفسه، وهذا غير منتظم.
7939 - ولكن استثنى الشرع من ذلك تصرف الأب في مال الطفل؛ فيجوز للأب أن يبيع مال نفسه من طفله، ويقبل العقد له، ويجوز أن يبيع مال الطفل من نفسه، ويجوز أن يبيع مال الطفل من طفل آخر له، ويقبل العقد، فهذا مسوَّغٌ لكمال شفقته، والحاجة أيضاًً قد تمس إلى ذلك، ويعسر حمل الأب على مراجعة الوالي فيما يجِلّ ويدِقّ من تصرفات الأموال؛ فاقتضى مجموعُ ذلك اختصاصَ الأب لما ذكرناه، والإجماع يغني عن تكلف ما ذكرناه. والجد أبو الأب عند عدم الأب ينزّل منزلة الأب فيما ذكرناه.
ثم اختلف أصحابنا في أن [الأب أو الجد إذا أراد] (3) أن يتولى العقد على -ما وصفناه- فهل عليه أن يأتي بشقّي العَقد، أم يكفيه الإتيان بأحدهما - بأن يقول: "اشتريت هذا من مال طفلي"، أو "بعت هذا من طفلي"؟ فمنهم من قال: لا بد
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 259 مسألة: 729.
(2) في الأصل: الولي.
(3) في الأصل: الأب والجد إذا أرادا.

(12/142)


من الإتيان بالعبارتين؛ فإنهما صورة، فلا يسوغ تغييرها. وإنما يختص الأب بأنه يتولاهما معاً. فأما إسقاط أحد الشقين؛ فإنه تغيير صيغة العقد بالكلية.
ومن أصحابنا من قال: يكفيه الإتيان بأحد الشقين. ووجه ذلك أن قول القائل: "بعت" من جهة الصيغة مستقل بنقل الملك، وقول القائل "اشتريت" مستقل في فحواه بإفادة التملك، وإنما شرطنا لفظين بين المتعاقدين؛ من جهة أن أحدهما لا يقدر على [إلزام] (1) الثاني ما يريده، فأقام الشرع تخاطبهما مشعراً بتراضيهما على موجب العقد.
فإذا كان الأب يستقل بنفسه في إيقاع العقد؛ فإيجابه قبول، وابتياعه بيع.
ويجوز أن يعترض على هذا، فيقال: لو صح هذا؛ للزم أن يقال: إذا قال الطالب لمالك المتاع: "رضيت بأن تبيع مني". فقال: "بعت"، وجب أن يكفي ذلك، وإن لم توجد صورة القبول، وينقدح في الجواب عنه؛ أنا على هذا بنينا صحة العقد بالاستدعاء والإسعاف على قول، فإذا قال الطالب: "بع مني عبدك هذا بألف" فقال: "بعت" ففيه الخلاف المعروف، وسيأتي مشروحاً في باب ألفاظ النكاح، فإن جعلنا الاستدعاء والإسعاف عقداً، فقوله: "رضيت بأن تبيع مني" لا يبعد أن يكون كقوله: "بع مني". وسنذكر هذا وأمثاله من بعدُ، إن شاء الله تعالى.
7940 - فإذا تمهّد هذا؛ قلنا بعده: إذا أراد الولي أن يتزوج امرأة، نُظر: فإن لم يكن الإمامَ الأعظم، فلا سبيل أن يتولى الطرفين، ولكن إن لم يكن للمرأة ولي خاص، يرفع أمره إلى والٍ آخر يملك التزويج.
وإن أراد الإمام الأعظم أن يتزوج امرأة بحكم الولاية، فهل له أن يتولى طرفي العقد؟
فعلى وجهين مشهورين: أحدهما -وهو القياس- أنه ليس له ذلك؛ فإن ولايته ليست على رتبة ولاية الأب، وكذلك لا يملك الإجبار إلا في محل الضرورة، كما ذكرناه فى المجنونة، بل ولايته مؤخرةٌ عن ولاية عصبات النسب الذين يقعون حاشيةً منه.
والوجه الثاني - أنه يملك تولي الطرفين؛ من جهة أنه والي الولاة. والناس قاطبة رعيته، من يلي منهم ومن يُولَى، وليس فوقه منصب حتى يفرض فيه وال، ويُقدر هو
__________
(1) في الأصل: التزام.

(12/143)


مَوْليًّا عليه، وليس كذلك الولاة الذين هم دونه؛ فإن فوق كل واحد منهم والٍ، والإمام والي الجميع، وإليه المنتهى.
فإن قيل: إذا أراد قاضٍ من القضاة أن يتزوج، فكيف سبيله؟ قلنا: لا يكفي أن يوكّل وكيلاً؛ فإن عبارة وكيله بمثابة عبارته، ولكن إن لم يكن في القطر حاكم غيره؛ فالوجه: أن ينصب حاكماً في ذلك.
ثم القول في أن الحاكم؛ هل يجوز أن يكون محكّماً في عقد خاص، أم يجب تفويض نوع إليه؟ يأتي مستقصى في أدب القضاء، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: هلا أوجبتم عليه رفع الأمر إلى من فوقه، على القياس الذي أشرتم إليه في [الوالي] (1) الأعظم؟ قلنا: إذا نصب الحاكم حاكماً، فليس ذلك الحاكم منصوبه، وإنما هو منصوب الإمام الذي فوَّض إليه أن يلي ويولِّي. وإذا كان كذلك؛ فذلك المولَّى منصبه أعلى في الواقعة التي فيها الحاجة؛ فإنه محتكم. وليس كذلك الإمام؛ فإنه إذا نصب حاكماً، كان ذلك الحاكم مستنداً إليه.
وهذا غير سديد؛ فإنا لم نختلف في أن الإمام يرفعه آحاد الناس إلى الحكام، ويقيمون عليه البينة، ويحلّفونه. وقد دُفع عليٌّ إلى مجلس شريح القاضي، فقضى شريح على علي. فقال علي: قضيت عليّ أيها العبد!
وينقدح أن يقال: إذا ولّى الإمام شخصاً، وكان المسلمون ولَّوْه، فإنه مُولَّى من جهتهم، فمولاه مولَّى من جهتهم أيضاًً. وليس يتجه التعلق بإعتاق رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية ونكاحه إياها؛ من جهة أن خصائصه غالبة في المناكح، وقد لا نرى التعلق بأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما تظهر فيه خصائصه.
7941 - والجد لو أراد أن يزوج بنت ابنه من ابن ابن له في أسلوب آخر، وكانا يقعان أولاد عمومة، والجد بينهما، فهل يتولى طرفي النكاح؟ فيه وجهان مشهوران. أحدهما - أنه يتولى الطرفين كما يتولاهما؛ من جهة أن النكاح مخصوص بتعبد شرعي في ألفاظه، ولهذا لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج عندنا. فكما
__________
(1) في الأصل: الولي.

(12/144)


يجب اتباع اللفظ في ذلك دون [المعنى] (1)، فكذلك يجب اتباع صورة العقد، وصورة العقد تستدعي لفظين في الإيجاب والقبول.
فإن قلنا: الجد لا يتولى الطرفين، فلو وكّل وكيلاً في أحد الطرفين؛ فعلى وجهين. ذكرهما الشيخ أبو علي في شرح التلخيص؛ أحدهما - أن ذلك لا يكفي.
فإن عبارة الوكيل عبارة الموكّل، كما مهدناه، فليرفع الأمر إلى الوالي حتى يتولى طرفاً، ويتولى هو طرفاً آخر.
ثم يتفرع على ذلك أمر بديع؛ وهو: أن السلطان يتولى طرف التزويج، أو طرف التزوج، أو يتخير، أو الأمر موقوف على ما يفوِّض إليه، ويستدعي منه؟ يحتمل أن يقال: الأمر إلى السلطان في تولّي أي طرف شاء، ويحتمل أن يفعل ما يستدعَى منه، ولا ينقدح تعيين [شيء] (2) بمسلك من المسالك. واللائق بمراعاة منصب الولاة التفويض؛ فإن الأمر لا يختلف والاحتكام على الوالي لا وجه له. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أن للجد أن يوكّل في أحد الطرفين؛ فإن الولاية تامة لا قصور فيها، وإنما منعنا التولي لتعبد راجع إلى صورة اللفظ. وهذا يحصل بتعدد العبارة من جهة الجد والوكيل، وهذا لطيف حسن.
وإن قلنا: الجد يتولى طرفي العقد، فقد ذكرنا خلافاً في أن الأب أو الجد إذا كان يتولى طرفي عقد من عقود الأموال، فهل يأتي بشقّي العقد، أم يكفيه أحدهما؟ فإذا فرض القول في النكاح، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قال: فيه وجهان كالوجهين في عقد المال.
ومنهم من قال: يقطع هاهنا بوجوب الإتيان بالعبارتين، لما حققناه من التعبد الراجع إلى لفظ النكاح.
7942 - ولو وكل خاطب المرأة وكيلاً في التزوج، فوكّله ولي المرأة في التزويج، فصار موكّلاً من الجانبين، فهل يجوز ذلك، حتى يتولى طرفي النكاح بحكم التوكيل من الجانبين؟
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: "شك".

(12/145)


في بعض التصانيف في ذلك وجهان: أحدهما - أنه لا يجوز، وهو الظاهر؛ فإنما يحتمل مثل ذلك من وليٍّ تشمل ولايته الشقين جميعاً، كما ذكرناه في الجد والحافدين، والوكالة ضعيفة. وهذا ما كان يقطع به شيخي. والوجه الثاني - أن ذلك يصح، كما نص الشافعي عليه في التوكيل في الخلع؛ فإنه جوّز أن يكون الشخص الواحد وكيلاً من جهة الزوج في المخالعة، ومن جهة الزوجة في الاختلاع، على ما سيأتي ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى. وهذا الوجه في نهاية الضعف.
والذي يُهوِّن الأمرَ في رده قليلاً؛ أن شِق القبول في الوكالة [ضعيف] (1). وهو سفارة محضة، وكأنه يكتفى فيه بإخبار وإعراب عن حقيقة حال، فلا يكون الوكيل مخاطباً نفسه في التزويج، وإنما المحذور في قاعدة الفصل أن يكون الرجل [خاطِباً] (2) مجيباً. وعلى هذا يمتنع التوكيل في جانب البيع والشراء جميعاً، فإنه لو سوغّ، لكان الوكيل ملزماً نفسه ملتزماً، وذلك غير منتظم. وأبو حنيفة وإن جوّز أن يتولى الوكيل في النكاح الطرفين، لم يجوز هذا في البيع. وقد يعترض للفقيه شيء من مسألة التوكيل في الخلع، وإذا انتهينا إلى تلك المسألة، أعدنا وكالة البيع، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ويزوج الأب أو الجد البنت التي قد أيس من عقلها؛ لأن لها فيه عفافاً ... إلى آخره" (3).
7943 - وقد قدمنا في مراتب تصرف الولاة قولاً بالغاً في تزويج المجنونة، ونذكر في هذا الفصل تمامَ الغرض مشروحاً؛ فإن الذي تقدم في حكم التوطئة والتمهيد، والتفاصيل أحلناها على المسائل، فالوجه أن نذكر في تزويج المجنونة صوراً، ونوضح في كل صورة ما يليق بها.
__________
(1) في الأصل: "ضعيفة" وهذا التصحيف على تفاهته أرهقنا كثيراً، فقد أوحى بأن هناك موصوفاً مؤنثاً ساقطاً رحنا نبحث في تقديره، حتى وجدنا الصواب في صفوة المذهب.
(2) فى الأصل: مخاطباً.
(3) ر. المختصر: 6/ 267.

(12/146)


فنقول: نفرض أولاً بنتاً مجنونة بلغت على الجنون، قال الأصحاب: إذا كان لها أبٌ أو جدٌّ، انفرد بتزويجها، ولم يراجع السلطان (1)، وهذا التفصيل (2) فيه نظر على المتأمل؛ وذلك أن الأب في حق الثيب العاقلة بمثابة الأخ؛ فإنه لا يجبرها، كما لا يجبرها الأخ. ثم إذا فرض الجنون، وجب ألا يختلف أمر النكاح والتزويج، ويكون الأخ والأب بمثابة واحدة، ومساق هذا يوجب أن يراجع السلطان كما يراجع الأخ السلطان، كما تقدم تفصيل ذلك، وظاهر النص يدل على أن الأب ينفرد بتزويج المجنونة إذا بلغت كذلك، من غير فرق بين أن تكون بكراً أو ثيباً، ولفظه في المختصر: "وسواء كانت بكراً أو ثيباً"، ولا خلاف أن الأب يكون أولى بمالها إذا بلغت مجنونة، ولا أثر للثيابة والبكارة في ولاية المال، وظهر اختلاف الأصحاب فيه إذا بلغت عاقلة ثم جنت، فمن أصحابنا من قال: ولاية المال للأب (3). ومنهم من أثبتها للسلطان.
وحاصل المذهب بعد هذا التنبيه: أن المجنونة البالغة إذا لم يكن لها أبٌ أو جدٌّ، فحكم تزويجها بين السلطان والأخ على ما مضى من غير مزيد.
وإن كان لها أب، نُظر: فإن بلغت مجنونة، تفصل الأمر، وانقسم إلى كونها بكراً أو ثيباً، فإن كانت بكراً، فلا يخفى أن الأب يتولى تزويجها؛ فإنه يزوجها وهي عاقلة إذا كانت بكراً إجباراً وقهراً، فكيف يخفى تزويجه إياها وهي مجنونة؟ وإن كانت ثيباً، وقد بلغت على الجنون؛ فظاهر النص أن الأب أولى، والتفويض إليه، وليس [عليه] (4) مراجعة السلطان.
وذهب طوائف من محققينا إلى أن الأب في هذا المقام كالأخ، وهذا ما اختاره
__________
(1) هذا هو الصحيح، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، بكراً أم ثيباً، قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 95).
(2) التفصيل: أي الفصل بين الأب والجد ومن دونهما من الأولياء.
(3) قال النووي: هو الأصح، وإن قلنا: إن ولاية المال للسلطان، فكذلك التزويج (ر. الروضة: 7/ 95).
(4) في الأصل: على.

(12/147)


الصيدلاني. ووجهه: ما ذكرناه من أن الأب والأخ بمثابة واحدة في تزويج الثيب.
وآية ذلك: أن الأب لا يزوج الثيب الصغيرة، صهان كان يلي مالها - كما [لا] (1) يزوجها أخوها. فالأب في التزويج يتميز عن الاخ في حق الأبكار فحسب، هذا وجه هذه الطريقة.
ومن تمسك بالنص؛ احتج بفقه أعْوَص مما ذكرناه، وهو: أن تزويج المجنونة البالغة ممكن، أو واجب إذا مست الحاجةُ إليه، ونحن إنما نُدير التزويج في حق المجنونة بين الأخ والسلطان، لقصور شفقة الأخ، وامتناع الطلب من المجنونة.
ولا بد في الولاية القهرية من شفقة كاملة تستحث صاحبَها على طلب الغبطة والنظرِ؛ فإذا صادفنا الأبَ، فشفقته كاملة، وتزويج البالغة العاقلة يُبعد أن يُراجَع في تزويج المجنونة.
ومن لطيف الكلام في هذا المنتهى، أن الأئمة قالوا: إذا بلغت عاقلة ثم جُنت، ففي عود ولاية الأب على [المال] (2) خلاف. ويظهر مما ذكرناه إجراء عود ولاية الأب على المال؛ فإنه أولى من غيره. ثم إن قلنا: ولاية المال للسلطان، فيظهر عندنا أن نقول: الأب ينفرد بالتزويج، لما نبهنا عليه من انفراده بتزويج البكر البالغة العاقلة، وإن كان ولاية المال إليها.
وعلى الجملة نظر السلطان قاصر في التزويج، والولاية لا تُفضي إليه إلا عند انقطاع الجهات كلها، أو قيام الحاجة الحاقّة، النازلة منزلة الضرورة؛ ولهذا - لم يملك السلطان تزويج الصغيرة البكر، والأب يملكه، نظراً واستصلاحاً. هذا منتهى القول في ذلك.
7944 - ونحن نبتدىء الآن أمراً مهماً، يجب الاعتناء به، ولا يُلفى مجموعاً للأصحاب، ولكني لقطته من كلامهم صريحاً وفحوى، وقواعد المذهب إنما تغمض على طالبيها بتفرق الكلام في أمثال ما سنذكره الآن، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: الأب.

(12/148)


فليعلم الطالب أن النكاح تعلق بسببين: أحدهما - النظر في الأصلح، من غير اعتبار حاجة.
والثاني - الحاجة الحاقة، فنذكر لكل قسم مثالاً، ثم نلحق به مواقع [اللبس] (1).
فالأب يزوج الصغيرة البكر استصلاحاً، من غير حاجة حاقّة، وكذلك يزوج البكر البالغة، وهي راغمة مبديةً إباءها وسخطها. ويزوج من ابنه الطفل استصلاحاً ونظراً، وإن لم تتحقق حاجة حاقّة إلى التمتع في حالة الصغر. وبناءُ الأمر على أن الحاجة وإن لم تكن، فالأب يتوقع كونها عند البلوغ، ويرى رأيه في الحال والاستقبال، ويرى له نظره لنفسه، ولا يخصص تصرفه بما ينتجز، بل ينظر في مغبّات الأمور على حكم الاستصلاح هذا مثالٌ في قسم.
ومثال القسم الثاني: أن الابن البالغ المجنون الذي طبق الجنون عليه، لا يزوج منه أبوه، إلا لحاجة داعية إلى التزويج، ناجزة في الحال، وهي التشوف أو طلب الشفاء، على ما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
والفرق أن الابن الصغير تمتُّعه استصواباً واستصلاحاً، مأمول عند بلوغه، فكان التزويج فيه مبنياً على ذلك، والابن البالغ المجنون لا منتهى لجنونه، والتزويج منه لا يقع موقع استصلاح، إلا إذا كان لدرء حاجة؛ على أن التزويج يلزمه مؤنة [دارَّةٌ] (2) وغرماً في المهر متنجزاً؛ فكان هذا النوع من التزويج مبنياً على الحاجة.
7945 - فإذا تبين القسمان، ألحقنا بهما ما نريد، فنقول: أما المجنونة البالغة إن كان يزوجها الأب، لم يعتبر في تزويجها تحقق الحاجة، بل يزوجها للمصلحة، كما يزوج الصغيرة للمصلحة؛ فإن في تزويجها كفاية مؤونتها، وإعفافها عما يتوقع من تشوفٍ إن كان.
وأما تزويج السلطان للمجنونة؛ فقد تردد الأصحاب فيه: منهم من لم ير له تزويجها مع الأخ إلا للحاجة؛ فإن نظره يقصر عما يتعلق به نظر الشفيق الذي هو على
__________
(1) في الأصل: اللبث.
(2) في الأصل: دارِه (بهذا الضبط). ودارّة: أي متجدّدة دائمة لا تنقطع (معجم).

(12/149)


كمال الشفقة، ولذلك لم يل تزويج الصغيرة.
ومن أصحابنا من قال: يزوجها السلطان بما يزوج الأب به - وهو منهاج الاستصلاح.
ويبتني على هذه القواعد أمور، منها: أن الأصحاب اختلفوا في أن الأب هل يزوج الثيب الصغيرة المجنونة؟ وقد ذكرنا الآن التردد في تزويج الثيب المجنونة البالغة على الاستقلال، والسبب فيه أن الثيابة وإن كانت لا تَقْصُرُ شفقة الأب؛ فإنها تحط ولايته وتُثبت للمرأة استقلالاً، إن كانت بالغة عاقلة، وتثبت لها وجوب انتظار استقلالها إن كانت صغيرة؛ فمن هذه الجهة قَصُرَت ولاية الأب مع كمال شفقته.
وهذا يبتني على قاعدة مهدناها في الأساليب. وهو: أن النكاح من الأمور [الجبلّية] (1) التي حقها أن يراجع فيها أصحاب الجبلات، فلا تُفوَّت حظوظهم [فيها] (2) عليهم؛ فإذا كانت الثيب مجنونة، فلا استقلال لها ولا منتهى يُرْبَط به توقع استقلالها. وإذا كانت بالغة، فهي في مظنة الحاجة، وإن كانت صغيرة، فلا حاجة في الحالة الراهنة؛ فكان اختلاف الأصحاب في الثيب الصغيرة المجنونة لذلك.
وكنت أود لو استنبط مستنبط من الخلاف في تزويج الأب الثيب الصغيرة المجنونة خلافاً، في أنه هل يراعي حاجتها بعد البلوغ، ويزوجها للمصلحة؟ ولكن اتفق الأصحاب على أنه يزوجها للمصلحة. فليتأمل الناظر هذه الغوائل.
7946 - ومما ينبني على قاعدة الحاجة والمصلحة؛ القول في عدد الزوجات. قال الأصحاب: لا يزوج الأب من ابنه المجنون إلا زوجة واحدة، بناء على أن التزويج منه مبني على الحاجة، والحاجة [تنسدّ] (3) بواحدة، فليس من النظر له تكثير المؤن عليه مع الاكتفاء بالواحدة. وظاهر المذهب أنه يزوج من ابنه الصغير المميز أربعاً (4)، إن رأى ذلك صلاحاً؛ فإن التزويج من الصغير مبني على الصلاح، لا على الحاجة.
__________
(1) في الأصل: الجليَّة.
(2) في الأصل: فيما.
(3) في الأصل: تنسل.
(4) قال النووي: هو الأصح في الصورتين (السابق نفسه).

(12/150)


وأبعد بعض أصحابنا، فمنع الزيادة على الواحدة، اجتناباً من ثقل المؤنة.
7947 - والتزويج عند طلب السفيه؛ مما ظهر فيه الاختلاف بين الأصحاب.
فمنهم من راعى فيه الحاجة، كالمجنون البالغ؛ فإن السفه لا منتهى له يُرْقَب زواله، ومنهم من بنى التزويج على المصلحة؛ فإن من كانت له غريزة العقل، فيتوقع أن تحنكه التجارب ويرشد بعد الغي، وليس كذلك المجنون؛ فإن إفاقته بعيدة.
ثم قد يبتني على هذا الخلاف الزيادة على واحدة، ولكن السفيه يختص بأمر؛ وهو أنه لا يزوَّج ما لم يطلب، لما مهدناه في فصل المحجور. وقد قال الشافعي: "لو كان السفيه مطلاقاً، لم أزوج منه، وملّكته جارية يتسراها، ثم لا ينفذ إعتاقها".
فهذا منتهى الفصل.
7948 - ونحن نختتمه بشيء، وهو أن الابن المجنون الصغير يجب أن يقطع بأنه لا يُزَوَّجُ منه؛ فإن التزويج من المجنون محمول على الحاجة، ولا حاجة في حق الصغير. وقد ذكرت في التزويج من الابن الصغير وجهاً لبعض الأصحاب، فإني ضممتُ الثيب الصغيرة المجنونة إلى الابن الصغير المجنون، ونظمتُ فيهما ثلاثةَ أوجه، كما تقدم. فلو كان على التزويج من الصغير المجنون معوّل، لاستنبطت منه أن التزويج من الابن البالغ المجنون مصلحة، ولكن لا أصل لذلك الوجه، وليس هو مما يعتد به، ولا يُلفى في الطرق إلا رمزاً. ومن صرح به زيّفه.
ولا ينتفع [بأمثال] (1) هذا الفصل -مع ما فيه من تعارض الأصول الملْتَفَّة- من لم يأنس بكلامنا في مآخذ الشريعة، والله ولي التوفيق وتعميم النفع بهذا المجموع.
7949 - ونحن نختم هذا الفصل بأمر كلي، فنقول: إن علقنا التزويج بالحاجة، فإن كان لصاحب الحاجة عبارة؛ رجعنا إليها، كالسفيه، وإن لم تكن له عبارة، كالمجنون، فالنظر إلى مخايل تشوفه وتوقانه.
__________
(1) في الأصل: بامتثال.

(12/151)


وإن كان التزويج مبنياً على المصلحة، فذاك مربوطٌ بنظر الناظر، فلو زوّج المحكَّمُ في المصلحة على خلاف المصلحة، فقد أساء، وفي نفوذ تصرفه كلام، سأذكره في تزويج الأب ابنته ممن لا يكافئها.
وقد نجزت المسائل بما فيها.
7950 - ثم إن المزني نقل فصولاً من كتبٍ لا تليق بهذا المجموع. ولو أردنا تقريرها، لم نتمكن منه في غير مواضعها، فلست أرى الزيادة على تراجم الفصول.
فمما ذكره: أن أب المجنون لا يخالع زوجته، ولا يضرب لامرأته أجل العنين، ولا يختلع ابنته المجنونة، وذكر أن نفقة المجنونة تسقط إذا امتنع على الزوج وقاعها بسبب جنونها، وذكر قذف الزوج زوجته المجنونة، وانتفاءه من ولدها باللعان، وما ذكره أصول الكتب، فكيف نخوض فيها؟
فصل
قال: "وليس له أن يزوج ابنته الصغيرة عبداً ولا غير كفء ... إلى آخره" (1).
7951 - هذا من أصول المذهب، وفيه نشرح الكفاءة ومعناها، والصفاتِ المرعية فيها، والمحالّ [التي] (2) يجب رعاية الكفاءة فيها، فنقول، والله المستعان:
الكفاءة -على الجملة- تتعلق بمناقبَ وفضائل لا يأباها الدين، ثم الفضائل لا نهاية لها، واعتبارُ جميعها عسير، وليس معنا توقيف ناصّ على المعتبر منها دون ما لا يعتبر، فالوجه في ربطها تقريباً، أن نقول: الصفات المرعية ثلاثة أقسام: أحدها - يتعلق بالبرء عن العيوب التي تُثبت حقَّ فسخ النكاح، والحريةُ ملحقة بها، كما أن الرق ملحق بالعيوب.
والقسم الثاني - ما يجرّ شَيْناً، لو كان، وإن كان لا يتعلق به فسخ النكاح.
والقسم الثالث - ما يَشِين أصحابَ الفضائل على طريق النسبة والإضافة.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 267، 268.
(2) في الأصل: الذي.

(12/152)


وبيان القسمين الآخرين بالمثال: أن الفسق يقدح في الكفاءة، وهو شيْن في حق الناس كافة، على اختلاف طبقاتهم.
ومثال القسم الثالث - النسب للقريب المتوسط؛ فإنه لا يعد شيناً، ولكن ذو النسب الرفيع يتعيّر بالاتصال بذي النسب الوضيع، فهذه القواعد الكلية.
ويجمعها تقسيم آخر أَوَّليّ، فنقول: هي منقسمة إلى ما يجر ضراراً أثبت مثلُه فسخاً، وإلى ما يجر عاراً وشناراً، [لا يأبى] (1) الشرع التوقِّي منه.
ثم عدّ الفقهاء الصفاتِ المرعية، فقالوا: إنها خمسٌ، وفي السادسة خلاف: البراءة من العيوب، والحرية، والنسب، والحرف الدنيئة ونقيضها، والصلاح في الدين.
واختلف الأصحاب في اليسار والغنى، فمنهم من اعتبره في الكفاءة - وهذا ضعيفٌ، لا أصل له، ومنهم من لا يعتبره (2). والصحيح عندنا تنزيل هذا الخلاف على المسكنة ومِلْكِ بلاغٍ.
[و] (3) لم يعتبر أحد من الأصحاب الجمالَ، ونقيضه في الكفاءة.
7952 - والمناقبُ والمثالب، والفضائل والرذائل، لا نهاية لها. ولو أخذنا في اعتبار جميعها، لم ننته فيها إلى ضابطٍ؛ فالوجه النظر إلى ما قدمناه في التقاسيم.
ثم من أصول هذا الصنف؛ أن تكون مقتضية لحق الفسخ، وإن وُجِد معها من ضروب الفضائل ما وجد.
وهذا أصدق شاهد في أن [الانتقاص] (4) بها لا يجبره شيء من الفضائل.
وكذلك نقص الرق لا يقابله فضيلة.
وأما القول في النسب؛ فلا اعتبار فيه بما يعتدُّ به بنو الدنيا، وإنما شرف النسب
__________
(1) في الأصل: لا يأتي.
(2) قال النووي: الأصح أن اليسار غير معتبر.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: الأشقاص.

(12/153)


يثبت من ثلاث جهات: أحدها - الانتماء إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، [و] (1) الاعتزاء إلى أرومته.
والثانية - الانتماء إلى العلماء؛ فإنهم ورثة الأنبياء.
والثالثة - الانتساب إلى أهل الصلاح والتقوى. واعتبارُ هذه الجهات الثلاث بشواهد الشرع وموجب العادات.
فأما الاعتزاء إلى القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا خفاء باعتباره، وعليه بنى أمير المؤمنين عمرُ ديوانه في المرتزقة. والانتسابُ إلى العلماء يقرب من ذلك؛ فإنهم عصام الدين، وقوام الشريعة، وقد ربط الله عز وجل بهم حفظَ الملة، كما ربط بالأنبياء أصلها.
وأما الانتساب إلى الصالحين؛ فقد شهد له كتاب الله عز وجل، إذ قال عز من قائل في قصة موسى والخضر عليهما السلام: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].
فأما الانتساب إلى عظماء الدنيا -وجماهيرُهم ظلمة استولَوْا على الرقاب- فهم يُعَظَّمون رغبة ورهبة، والشرع بائحٌ بحط مراتبهم في الدين، فلا تعويل إذاً على أنسابهم، وإن كانوا قد يتفاخرون بها.
7953 - وأما الحرف؛ فمنها الذي تدل ملابستُه على سقوط النفس، وحطيطةِ المروءة، والمعتبر في مثله العادات، ويختبر قدر الذي منها بملابسة القاذورات، وليس يحتمل هذا الموضع شرح ذلك، وسنستقصيه بما فيه كفاية، إن شاء الله عز وجل (2)، ولا يمتنع أن تؤثر هذه الحرف في الأنساب؛ فإنها وإن كانت في الآباء، فهي تؤثر في أحساب الأبناء.
وإن قال قائل: لا خيار [ولا اختيار] (3) فيها للأولاد، قلنا: هذا يعم جميع
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) سيأتي هذا الاستقصاء في كتاب الشهادات.
(3) في الأصل: والاختيار.

(12/154)


أبواب الأنساب، [وأولى] (1) الصفات بالاعتبار العيوب والتبري منها، وليس منها للمتصفين بها اختيار.
وممَّا راعيناه في الباب التقوى والصلاح، والمعتبر فيه ما يقتضي التفسيق وما لا يقتضيه، ثم يعتبر ذلك نسباً، ويعتبر اتصاف الشخص به في نفسه. وإذا لم يكن تفسيق؛ فلا نظر إلى التفاضل في أسباب الصلاح؛ فإن سرها التقوى، ولا يطلع عليها إلا الله تعالى. وقد تكلمنا في اليسار ووجه الخلاف فيه.
7954 - فإذا تمهدت هذه الأصول، رجعنا بعدها إلى الكلام في تقابلها، والنظر في جبران بعضها ببعض، فأما العيوب؛ فقد ذكرنا أنها لا تقابل بفضيلة، فلا يزوج الرجل ابنته ممن به أحد العيوب المثبتة [للخيار] (2)، على ما سيأتي شرحها في بابها، إن شاء الله عز وجل، وإن كان الموصوف بشيء منها أكملَ البرية عقلاً وفضلاً ونبلاً ونسباً (3).
وكذلك لا يزوج ابنته من رقيق، وإن كان على فضائلَ جمة.
وأما شرف النسب؛ ففيه فضل نظر؛ إذ لا يعارض الانتسابُ إلى العلماء والصلحاء، الانتسابَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشجرته، والصالحون هم المرموقون بالصلاح المشهورون به، بحيث ينتصبون أعلاماً في التفرد ولا [يُنسَوْن] (4) إلى تناسخ الدهر، فهؤلاء هم الذين يشرفون بالاعتزاء لهم. فأما الذين لا يبلغون هذا المبلغ، فلا تتأثر الأنساب بالانتماء إليهم. نعم، ما اعتبرناه في نفس الإنسان من رشاد وغيّ، وصلاح وفساد؛ فالمعتبر فيه التفسيق ونقيضُه، كما تقدم ذكره، حتى إذا
__________
(1) في الأصل: وأول.
(2) في الأصل: الحال.
(3) هذا التفصيل بين خصال الكفاءة، انفرد به الإمام، وقد حكاه النووي، وقال مقتضى كلام الجمهور أن خصال الكفاءة لا يقابل بعضها ببعض، ثم إن النووي رضي الله عنه توسع في النقل عن إمام الحرمين فقال: "إنه يرى أن السلامة من العيوب والحرية والنسب لا تقابل بسائر الفضائل" والصحيح أن الإمام متردد في النسب قاطع بالأوليين فقط (ر. الروضة: 7/ 83).
(4) في الأصل: ينتسبون.

(12/155)


انتهى نظر الناظر إلى المفاضلة بين المستور وبين المذكور بالعدالة، [تبينا] (1) أن نظره خارج عن قاعدة الفصل، فلم نر قبل اليوم مراجعة [المزكّين] (2) في تعديل من يعبتر خلافه في الكفاءة، وإنما اعتبرنا الاشتهار في جهة الانتساب، لما قدمنا ذكره من أن الإنسان يشرف محله وينبل قدره بان ينتسب إلى مرموق في التقوى والدين.
وهل تُجبر حطيطةٌ إن كانت في النسب بالصلاح الحاصل في الخاطب؟ هذا مما تردّد فيه الأئمة: فمنهم من رأى الجبر بذلك، وتعلق فيه بآثار منها: ما روي أن عبد الملك بن مروان خطب ابنةً لابن عمر، وأرسل إليه في مفاوضة بذلك رجلاً صالحاً من الموالي، فدخل المسجد، وصلى ركعتين، وأحسن أداء أركانها وبنيانها، ثم افتتح الخِطبة وأدى الرسالة، فقال ابن عمر: لا رغبة لي في عبد الملك، فإن أردتها لنفسك فخذها، فقد أحسنت أداء أمانة الله، ونظائر ذلك كثيرة.
وقد روي أن عمر بن الخطاب همّ أن يزوج ابنته سلمان الفارسي، فتداخل عبد الله من ذلك شيءٌ، على ما قدمنا ذكر ذلك. ثم الصلاح الذي يعارض النسب، صلاح ظاهر يثبت للموصوف به حكم التميز من الأضراب؛ إذ لو لم يكن كذلك، لما عارض نسباً معتبراً.
ومن أئمتنا من لم ير جبر النسب بالتفاوت في الصلاح؛ فإن النسب من [أصل] (3) الكفاءة، حتى إذا ذكرت الكفاءة، لم تبتدر الأفهام إلا إلى الأنساب؛ ولهذا يثبت حق الاعتراض للمولَّيْن (4) بالأنساب.
وأما الحرف الدنيئة ونقائضُها؛ فإنها تعارض الصلاح وفاقاً، ولا أثر لها في معارضة الأنساب إجماعاً بين الأصحاب؛ فإن الأمر فيها قريب، ومعتمدها عادةٌ محضة، حتى إذا اطّردت، دلّت ملابستها على سقوط النفس، وإلا فالكلام مفروض
__________
(1) كلمة غير مقروءة في الأصل.
(2) في الأصل: المركبين.
(3) في الأصل: لفظاه. وفي الهامش كلمة (تأمل) إشارة إلى توقف الناسخ فيها.
(4) المراد: الأولياء، أولياء المرأة في النكاح.

(12/156)


في حِرف تحل ملابستها، ولو ضربنا حجراً على من يلابسها، لاحتاج إلى معاناتها كثير من الخلق، وقد امتن الله تعالى على عباده بأن نزّلهم على منازل متفاوتة وقنّع كلاً بمنصبه، وما هو بصدده، فقال عز من قائل: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] وقال الحليمي في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة" قال: أراد بذلك اختلافهم في الدرجات والمراتب والمناصب.
[نجز] (1) القول في الحِرف وما يتعلق بالمروءات.
وأما اليسار؛ إن اعتبرناه، فيعارضه كل خصلة معتبرة في خصال الكفاءة.
وقد انتجز هذا الفن.
7955 - ونحن نأخذ الآن في ركن آخر من الفصل، فنقول: هذه الصفات المعتبرة في الكفاءة تنقسم؛ فمنها ما يعتبر في جانب الزوج والزوجة جميعاً، وهي العيوب والرق؛ فكما لا يزوّج الرجل ابنته من أبرصَ ومجنون ومجذوم ومجبوب، كذلك لا يزوج من ابنه مجذومة ولا مجنونة ولا برصاء ولا قرناء ولا رتقاء؛ فإن هذه العيوب تُثبت حق الفسخ من الجانبين، فكانت معتبرة فيهما.
ولو زوّج [مَنْ] (2) بها عيب من هذه العيوب، ممن به عيب منها: نُظر؛ فإن اختلف جنس العيب، لم يختلف أصحابنا في المنع، وهذا كتزويج برصاء من مجنون أو مجبوب. وإن اتفق جنس العيب، فزوّج برصاء من أبرص؛ ففي جواز ذلك وجهان: وقد اختلف أصحابنا في ثبوت الخيار في مثله، كما سيأتي موضحاً في باب العيوب، إن شاء الله عز وجل.
والتزويج من الرقيق لا يحتمل أيضاًً، وتزويج الرقيقة من الطفل لا يجوز أيضاًً؛ فإن نكاح الأمة مشروط بخوف العنت، والطفل لا يتصف بذلك.
وأما ما يعتبر في أحد الجانبين؛ فهو ما عدا العيوب والرق، فليس للرجل أن يزوج
__________
(1) غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها).
(2) في الأصل: وبها.

(12/157)


ابنته قهراً، ويحتمل فيها [خسة] (1) في نسب الخاطب، أو خصلة أخرى معتبرة.
ولو أراد أن يزوج من ابنه الطفل -وهو على شرفٍ من النسب، وكريم من الحسب- خسيسةً؛ فالذي صرح به الأئمة أن ذلك جائز؛ فإن الذي عليه التعويل في الباب العار والتنقي منه. والكريمة تتضع ويخس نسبها إذا تزوجها خسيس، ولا عار على الكريم بنكاح خسيسة؛ فإن المنكوحة مفترشة، في حكم المُهانة بالافتراش، فلا عيب على المفترِش من نقصانها (2). نعم، ما ذكرناه في العيوب من باب الضِّرار، لا من باب العار.
وذكر شيخي أن من أصحابنا من اعتبر هذه الصفات من جانبها أيضاًً، ومنع أن يزوج الرجل خسيسة من ابنه الكريم واعتل بأن الإنسان قد يتعير بخسة خليله، وقد ينظر لأولاده إن كانوا، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم" (3) وهذا يمكن توجيهه على حال، ولكنه بعيد في النقل. ولولا أني وجدت في نص الشافعي في تفريع الغرور بالنسب شاهداً على اعتبار النسب من الجانبين، كما سيأتي ذكر ذلك، لما عددت هذا من المذهب.
7956 - فإذا ظهر بما ذكرناه القواعد المرعيّة في الكفاءة، ابتدأنا بعد ذلك صنفاً من الكلام، وقلنا:
إذا زوج الرجل ابنته السليمة ممن به عيب من العيوب، فالأصح الذي كان يقطع به شيخي: أن النكاح باطل (4)؛ فإنَّ تصرّف الأب في حق ولده الطفل مقيد بشرط النظر؛ وإذا كان تصرفه في ماله مردود بعلة الغبن، [فلأن] (5) يُرَدَّ في نفسه على خلاف النظر أولى.
__________
(1) في الأصل: حسبة.
(2) قال النووي: هو الأصح (ر. الروضة: 7/ 85).
(3) حديث: "تخيروا لنطفكم" رواه ابن ماجه والبيهقي والحاكم، وصححه الألباني، وتتمته: "فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم" (ر. صحيح الجامع: 1/ 564 رقم 2928).
(4) وهذا هو المذهب. (ر. الروضة: 7/ 84).
(5) في الأصل: فلا يرد.

(12/158)


وذكر العراقيون وغيرهم من الأئمة قولاً آخر، أن التزويج يصح وينفذ، وفرضوا القولين في تزويج السليمة من المعيب، وإذا جرى القولان في ذلك، لم يشك الفقيه في جريانهما في سائر خصال الكفاءة.
أما وجه المنع؛ فلائح، وأما وجه التزويج، فالممكن فيه على خفائه، أن الغرض من التزويج أمور خفية لا تضبط، فليكن الأمر فيه موكولاً إلى الأب الشفيق، الذي هو من أهل النظر. وهذا مذهب أبي حنيفة.
ثم قال العراقيون: إن قلنا: لا يصح النكاح، وهو المذهب الأصح، فلا كلام.
وإن قلنا: يصح، فهل للأب أن يتلافى عقده، فيفسخَه، إذا كان زوّج ابنته السليمة من معيب؟ فعلى قولين، وكذلك إذا زوّج من ابنه الصغير السليم امرأة بها أحد العيوب، هذا ما ذكروه. [وللنظر في هذا مجال] (1)، فيجوز أن يقال: التردد في خيار الأب، فيه إذا فعل من غير علم منه بحقيقة الحال، فأما إذا أقدم على العقد عالماً بالعيب، فلا خيار له ولا مستدرك.
ويجوز أن يقال: له حق التلافي، وإن أنشأ العقد على علم، فإنه يتلافى (2) لغيره، وإنما كنا نلزمه حكم علمه لو كان عاقداً لنفسه، فالتفريع على الأصل البعيد يحمل على النأي عن مدارك المذهب؛ فإن هذا يؤدي إلى ثبوت نكاح مع استمرار الخيار فيه، وما عندي أن ذلك يحتمل. فالوجه القطع بتخصيص حق التدارك بحالة الجهل، وإنما ردَّدت قولي في ذلك لفحوى كلام العراقيين.
7957 - ثم ما يتفرع على هذا، أنا إذا صححنا النكاح على خلاف النظر من الأب، فإذا بلغت المرأة، فهل لها حق الفسخ؟ اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا خيار لها، وعقد الأب يلزمها، ويلزمها الرضا بموجبه. وهذا مذهب أبي حنيفة (3).
__________
(1) في الأصل: والنظر في هذا محال.
(2) في الأصل: لا يتلافى لغيره.
(3) ر. الاختيار: 3/ 97.

(12/159)


ومن أصحابنا من قال: لها الخيار [وإن] (1) حكمنا بانعقاد العقد حتى تستدرك ما يلحقها من الضرار (2).
ولو اشترى الأب عبداً معيباً بثمن مثله لطفله، ثم بلغ الطفل، واطلع على العيب، لم يثبت له حق الخيار؛ فإن حظ المالية ثابت لا نقصان فيه.
وما ذكره الأصحاب في العيب، لم يذكروه في حطيطة النسب، والقول فيها يحتمل؛ من جهة أن ما يكون عيباً، ليس مما يُثبت حق الفسخ على الجملة. والوجه عندي؛ أن نضم العيوب إلى غيرها من خصال [الكفاءة] (3)، ونطرد فيها أوجهاً:
أحدها - نفي الخيار عموماً.
والثاني - إثباته.
والثالث - الفرق بين العيوب وبين غيرها من الخصال المعتبرة، فإن الأب لم ينظر لها، وهذا يضاهي ثبوت الخيار بسبب التغرير بشرف النسب، مع اختلاف الشرط فيه على ما سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
ولو اكتفينا بما هو أصل المذهب، ومنعنا انعقاد النكاح، لاستغنينا عن هذه [الوجوه] (4) البعيدة.
7958 - ومما يليق بهذا المنتهى -وهو من أسرار المذهب- أنا منعنا التزويج من غير كفء، فلو اتفق ذلك من الأب على علم، فالعقد باطل، وإن لم يعلم الأب حقيقة الحال، ثم بان أن عقده لم يصادف كفئاً، أو جرى مشتملاً على عيب مثبتٍ حقَّ الفسخ؛ فالذي نرى القطع به: أنا إذا أثبتنا ذلك، بنينا عليه تَبيُّنَ فساد العقد؛ فإن الظنون لا تغير شرائطَ العقود؛ فإذا كنا نشترط في عقد الأب موافقةَ النظر، وظننا أنه
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) قال النووي: لها الخيار، ولم يذكر وجهاً غيره، ولكنه ذكر أن الإمام حكى الوجه الآخر، فكأنه اختار الأول. (ر. الروضة: 7/ 84).
(3) في الأصل: الكفارة.
(4) ساقطة من الأصل.

(12/160)


وافقه، ثم بان لنا خلافه، فنتبين فساد ما كنا نظن صحته؛ فإنا لم نَبْن الحكمَ بالصحة إلا على ظن حصول الكفاءة، ظناً مشروطاً.
وهذا يناظر ما لو باع الوكيل ما وُكِّل ببيعه مطلقاً بما حسبه ثمنَ المثل، فإذا تبين أنه لم يكن ثمن المثل، بأن فساد العقد. وكذلك الولي المتصرف في المال، إذا ثبت منه عقدٌ على نحو ما ذكرناه، فالجواب ما قدمناه.
[و] (1) لو اشترى الوكيل لموكله شيئاً، ثم فرض الاطلاع على عيب، فكان المشترَى يساوي الثمن المبذول مع ما به من العيب، فالملك يقع للموكل، وله حق الخيار في الفسخ والإجازة؛ فإنا نجعل شراء الوكيل في هذا المقام كشراء الإنسان لنفسه.
ومن عجيب ما يجري في هذه المسالك؛ أن الإنسان إذا اشترى شيئاًً، وبان كونه مغبوناً فيه، لم يثبت له حق الفسخ بالاطلاع على الغبن. ولو كان مغبوطاً، وكان المبيع يساوي أضعاف الثمن، ولكنه اطلع على عيب قديم، فله حق الفسخ.
والوكيل إذا اشترى لموكله بغبن، لم يصح عن الموكل، وإذا اشترى من غير غبن لموكله معيباً، وقع الملك للموكل، وله الخيار. وسنُجري سر ذلك -إن شاء الله تعالى- في أثناء الكلام.
7959 - وإذا كان التزويج موقوفاً على إذن المرأة، فأذنت لوليها في أن يزوجها من كفء، وجوزنا الإذن من غير تعيين الخاطب؛ فإذا زوجها ممن لا يكافئها؛ فالنكاح باطل؛ فإن الإخلال بالكفاءة في النكاح يضاهي العقد على غبن في المعاملات؛ فإن هذه الخصال المرعية بمثابة اعتبار المالية في البيع.
ولو عيّنت لوليها زوجاً، وقالت: زوّجني منه، فزوّجها، [وكانت] (2) على ظن الكفاءة، ثم بان عيبٌ بالزواج يُثبت الخيار، فنحكم بانعقاب النكاح الآن؛ فإن النكاح اعتمد تعيين المرأة، فانعقد، ثم إن فسخت، فذاك. وإن رضيت، فهل للولي حق
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: وكأنك.

(12/161)


الفسخ؟ هذا فيه كلام، وخبط عظيم، سيأتي مشروحاً في باب الغرور، إن شاء الله تعالى.
ولو بان أن المعيّن ليس كفئاً في النسب، ولم يثبت عيب من العيوب؛ فالمذهب الذي عليه التعويل: أنه لا يثبت حق الخيار، وفيه شيء سنذكره في باب الغرور، إن شاء الله عز وجل.
7960 - وقد نص الشافعي على أن من نكح امرأة، حسبها حرة، فبانت رقيقة؛ فلا خيار له. ولو نكح امرأة ظنها مسلمة، فبانت كتابية، قال: له الخيار. وللأصحاب تصرفٌ في النصين؛ وإنما ذكرت هذا القدر تنبيهاً على أن ما نحن فيه محل التصرف، والاستقصاءُ محال على باب الغرور؛ إن شاء الله عز وجل.
7961 - ومن لطائف المذهب؛ أن الموكل بالبيع مطلقاً، إذا باع بغبن، عالماً به أو جاهلاً؛ فالبيع فاسد لا خيار في إجازته، والموكل بالشراء إذا اشترى الشيء بأكثر من ثمن المثل؛ فالمذهب أن الملك لا يقع للموكل، وإن رضي به، بناء على القاعدة التي ذكرناها، ورأيت لبعض الأصحاب وجهاً في أنه لو رضي به، جاز على شرط الخيار، ولست واثقاً بهذا الوجه، ولو صح، فالمعتمد فيها: أن الأمر بالشراء مطلق، وهو متناول للشراء بالغبن والغبطة في وضع اللسان، غير أنا خصَّصْنا مُطلق اللفظ بالعادة، كما قررناه في الأساليب (1)، ثم مما لا ينكر في العادة رضا الموكل حملاً على حكم العموم، فهذا توجيه هذا الوجه، إن صح النقل فيه.
والولي إذا اشترى أو باع بغبن، فلا جواز له؛ فإن الغبينة لا تحتمل في تصرفات الأولياء؛ فإن المعقود له ليس من أهل الخيار حتى يوقف العقد على رضاه، وليست عقود الولي متلقاة من لفظ يعم أو يخص.
__________
(1) الأساليب: أحد كتب إمام الحرمين في الخلاف. ولما نعثر له على أثر للآن.

(12/162)


فصل
قال: "ويُنكح أمةَ المرأة وليُّها بإذنها ... إلى آخره" (1).
7962 - نصدر هذا الفصل ببقية من أحكام الكفاءة في حق الإماء، فنقول: ليس للسيد أن يزوّج أمته ممن به عيب من العيوب المثبتة للخيار، إلا أن ترضى إذا كانت من أهل الرضا، فإن لم ترض أو كانت صغيرة، لم ينعقد النكاح، فإن حظ الأمة يُرعى في النكاح، ويثبت لها حق القَسْم، ويسقط -بإسقاطها- حقُّها من القَسْم، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
فإن رضيت بمعيّن، فزوّجها سيدها منه، ثم اطلعت على عيب، فلها الخيار، فإن أجازت العقد، لم يثبت للسيد معترض.
ولو باع أمته ممن به العيوب، فالبيع نافذ، فإنه لا يُرعى في البيع حظها، ولهذا لا يثبت لمملوكةٍ حظٌّ في قَسْم.
وإذا حكمنا بصحة العقد، فهل لها الامتناع من تمكين السيد المعيب؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - ليس لها ذلك، فإنها مقتهرة بالملك والرق، وإذا لم يثبت لها حق، فلا يثبت لها منصب التخيّر والامتناع.
والوجه الثاني - أن لها أن تمتنع؛ فإن المثبت لحق الفسخ ما يفضي إليه العيب من العيافة والضرار الذي يداخل الجبلات والنفوس، وهذا المعنى يتحقق في الأمة تحققه في الحرة، على أن الوطء في ملك اليمين نزل منزلة النكاح نفسه.
وذكر بعض أئمة الخلاف أن الأمة مجبرة على التزويج ممن به العيوب، ولا خيار لها، وهذا وإن أجريناه في مسائل الخلاف - لا نرى عدّه من المذهب؛ فالأصل الذي دل عليه النص، واتفق عليه حملة المذهب، ما قدمناه من وجوب رعاية حقها في العيوب، والله أعلم.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 268.

(12/163)


7963 - ثم إن كان للمرأة أمة؛ فلا شك أنها لا تتولى تزويجها، ولكن يزوج أمتها من يزوجها، والمرعي إذنُ المالكة، كما تقدم ذكره.
وذكر صاحب التلخيص أن ولي المرأة لا يزوّج أمتها؛ فإنه لا يملكها ولا يليها، وليس بينه وبينها نسب ولا سبب، ثم قال: إذا أرادت المالكة تزويج الأمة، رفعت الأمة إلى السلطان، فيزوجها بإذن المالكة، وعدّ هذا من منازل تزويج السلطان، وقد اتفق الأصحاب على تغليطه (1) فيما ذكر، وأجمعوا على أنه يزوج أمتها وليُّها.
وقياس ما قال صاحب التلخيص أن يطّرد هذا في معتقة المرأة، ويقال: لا يزوجها إلا السلطان؛ فإن الولاء إنما يثبت للمرأة المعتَقَة، ولا يثبت التصرف لأوليائها في حياتها ما دامت حية، وهذا لا سبيل إلى عدّه من المذهب.
7964 - ومما يتعلق بذلك؛ أن الولي على الطفل أو السفيه، لو أراد أن يزوج جاريته، أو يزوج من عبده، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن ذلك يجوز؛ إذ قد يُفضي نظرُ المصلحة إليه، ولهذا يلي تزويجَ ابنته والتزويجَ من ابنه.
والوجه الثاني - أنه لا يزوج الأمة، ولا يزوج من العبد؛ لأن تزويجها ينقص قيمتها، والتزويج من العبد يشغل عن كسبه، ويعرضه لنزف القوة؛ فليس التزويج منهما من مصالح الملك؛ وإنما هو مصلحتهما في أبدانهما؛ وحق الولي أن يرعى في مال الطفل مصلحةَ المال، لا مصلحة أبدان العبيد والإماء.
والوجه الثالث - أنه يزوج الأمة ولا يزوج من العبد؛ لأن في تزويج الأمة إسقاط مؤنتها، وفي التزويج من العبد شَغْل [عن] (2) كسبه.
ثم إن جوزنا للولي أن يزوج جارية الطفل؛ فإنه يزوج جارية الثيب الصغيرة وإن
__________
(1) الذي رأيته في (التلخيص لابن القاصّ)، عكس ما حكاه عنه إمام الحرمين، ونص عبارته: "والأولياء خمسة: السلطان فيمن لا ولي له، والعصبة، ومن له ولاء العتاقة من الرجال، والسيد في أمته، وولي السيدة في أمتها وليُّها، قاله نصاً ما لم تعتق، فإن أعتقتها لم يزوجها ولي سيدتها، قلته تخريجاً". ا. هـ بنصه (التلخيص لابن القاص: 494) فهل للتلخيص رواية أخرى؟ أم ماذا؟
(2) سقطت من الأصل.

(12/164)


كان لا يزوجها؛ فإن تزويج الأمة -إذا قيل به- تصرفٌ بحق ولاية المال، والولي يلي مال الثيب الصغيرة، وإن كان لا يلي بضعها.
ولا يزوج الأب جارية البكر البالغة قهراً، وإن كان يجبر المالكة؛ لأنه لا يلى مالها، وإن كان يلي نفسها، ولكن لو أذنت لأبيها في التزويج، زوّجها حينئذ.
7965 - واختلف أصحابنا في أن أخ البكر إذا كان يزوّجها، هل يكتفى بصُماتها عند المراجعة؟ ولم يختلفوا أنه لا يكتفى بصمتها في تزويج أمتها؛ فإن سبيل تزويج الأمة سبيلُ التصرفات المالية في الوجوه كلها.
والسلطان إذا كان يلي مال الصغيرة، فالذي يقتضيه هذا القياس، أنه يزوج أمتها بحق النظر في المال؛ طرداً للقياس الذي مهدناه. فهذا ما يتعلق بالغرض فى هذا الفصل.
7966 - وقد انتظم من مجموع هذه المسائل أنه يجتمع في الأمة تزويجُها من جهة حُكم التصرف في الأملاك، ورعايةُ حظّها في التزويج: أما حكم الملك، فبيّن؛ فان تزويجها يصادف مملوكاً منها، ولذلك تُجبر ولا تراجع، أما رعاية حظها، فيشهد لذلك امتناع تزويجها ممن به أحد العيوب المؤثرة، ثم ثبوت الحق لها في النكاح يشهد لذلك.
والذي يقتضيه الفقه تمحيض حق السيد في تزويجها؛ فإنها مملوكة، والمتصرف فيها بالملك متسلط تسلط الملاك، ولكن لا يجوز الإضرار بها في تزويجها، ومن الإضرار بها أن تزوج ممن به أحد العيوب؛ وعن هذا قال بعض أصحابنا: لها أن تمتنع عن مالكها المعيب بالبرص والجذام، أو ما في معناهما.
وأما تزويجها، فيقع بمحض الملك من المالك، وبحق التصرف في المال ممن يلي المال ولا يلي البضع. وقد يقع التزويج من غير ملك، وذاك فيه ثبوت ولاية؛ فإن ولي المرأة يزوج أمتها بإذن المالكة، وإن لم يكن وليَّها في مالها، ولكنه يزوجها بحق ولايته على نفس المالكة، وفي هذا المقام قال صاحب التلخيص: إنه لا يزوجها؛ إذ لا ملك له عليها ولا ولاية؛ ويزوجها السلطان بحكم الحاجة.

(12/165)


ولو قال قائل: ولايته في التزويج في محل تحقق الحاجة، لكان قوله سديداً؛ ولذلك يلي حيث لا ولي، وهو المعني بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "السلطان ولي من لا ولي له" (1). وفحوى الحديث دال على أن تزويجه ليس على حقيقة الولاية؛ ولذلك يزوج بالنيابة القهرية في العضل والغَيْبة، فتزويج الأمة ومالكتها مُطْلَقَةٌ (2) -عندي- ينزل منزلة الحرة المجنونة، والعقد دائر بين أخيها والسلطان؛ فإن الأخ يبعد أن يزوج مُجبِراً، والسلطان يبعد أن يلي مع الأخ. ولكن يقع تزويجها بحكم الحاجة، وتردد الأصحابُ في أن الولي، السلطان أم الأخ؟ فهذا منتهى القول في ذلك.
ولتردد تزويج الأمة بين الولاية والملك التفت بعض أصحابنا إلى اشتراط صفات الأولياء في المالك المطلق المزوّج لأمته، حتى قال: الفاسق لا يزوج أمته، إذا قلنا لا يلي الفاسق، وهذا غلط صريح؛ فإن تزويج السيد أمته بمحض الملك، وإنما يتردد الرأي في تزويج ولي المرأة أمتها. نعم، إن ظن ظان ذلك؛ من ثبوت الحظ للأمة في التزويج، فله وُجَيْهٌ على البعد؛ فإنا أوضحنا أن حظ الأمة اندفاع الضرار عنها.
7967 - ومما أريد استتمام الفصل به؛ أن من نكح الأمة ثبت له حق استحلالها عموماً، ولكنه مزحوم بحق الموْلى في المنفعة، وليس الحِلّ منقسماً على الزمان، وإنما هو عام، ولكن السيد مقدم بحق المنفعة، فلو ترك السيد حقه من المنفعة، فحق الزوج في الاستحلال مطّرد، ولو انتهز الزوج فرصته في أثناء مدة انتفاع السيد واستمتع على وجهٍ لا ينقُص حقَّ الانتفاع، فلا بأس، وقد صادف مستمتَعاً مباحاً.
ولو كان انتفاع السيد بحرفة الأمة، وكان يتأتى منها الاحتراف بها في دار الزوج،
__________
(1) حديث "السلطان ولي من لا ولي له" جزء من حديث عائشة: "أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها، فنكاحها باطل"، أخرجه الشافعي في الأم: 5/ 3، وأبو داود برقم 1083، والترمذي، رقم 1102، وابن ماجه برقم 1879، وأحمد: 6/ 47، 165 - 166، والحاكم: 2/ 168، وقد صححه الألباني، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 324 برقم 1607.
(2) "مطلقة" أي غير محجورٍ عليها.

(12/166)


فالذي ذهب إليه جمهور الأصحاب أن السيد لا يكلَّفُ تسليمها إلى الزوج ليلاً ونهاراً، لتحترف عنده.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه أوجب تسليم الأمة إلى زوجها، إذا كانت على الصفة التي ذكرناها، وزعم أنا لو فعلنا ذلك كنا جامعين بين حق الزوج وبين حق الولي، وذكر أصحابنا نظير ذلك في الرهن، فقالوا: إذا رهن المالك عبده، وكانت منفعته في حرفة، فهل يجب تسليمه دائماً إلى المرتهن، ليحترف في يده، أم للسيد أن يرده إلى يد نفسه، ليحترف في يده؟ فيه الخلاف الذي ذكره.
والذي ذكره أبو إسحاق فيه إذا أراد السيد المزوِّج حمل الجارية على الاحتراف؛ وأراد الراهن حمل العبد المرهون على الاكتساب بحرفته، فأما إذا أراد السيد أن يستخدمها في وجهٍ آخر، فلا يمنع منه. والذي ذكره الأصحاب في الرهن أوجَه مما ذكره أبو إسحاق في الزوجية؛ إذ لا خلاف أن الراهن لو أراد المسافرة بالعبد المرهون بحق انتفاعه (1)، لم يكن له ذلك، وللسيد المسافرة بالأمة المزوّجة. وذلك لمعنىً؛ وهو أن اليد ركنٌ في الرهن، ولا ينكره منصف؛ إذ الغرض من الرهن التوثق، وهذا المعنى إنما يحصل باختصاص المرتهن باليد في متعلّق الوثيقة، وليست اليد متأصلة في الزوجية أصلاً.
7968 - ومما يتم به غرض الفصل؛ أنا قدمنا أن السيد لو كان لا يسلم الأمة في مدة الفراغ من العمل، ويقول للزوج: أُمَوِّلُك (2) موضعاً من داري، فاستَخْلِ بها فيه، واستوف حقك منها، وأبى الزوج إلا أن تسلّم إليه في نوبة الفراغ، فمَن المجاب [منهما] (3)؛ فيه اختلافٌ قدمته. وهذا يشير إلى أن حق السيد يبقى في اليد، وإن انتجز حقه في الانتفاع. والذي ذكرناه الآن يشير إلى تسليم الجارية في نوبة العمل، حتى تحترف في يد الزوج، وهذا يتضمن طرد اليد للزوج في زمن الانتفاع أيضاًً.
وإن أردنا الجمع بين الطرق، كان الوجه فيه أن نقول: اختلف الأصحاب في
__________
(1) أي بسبب حقه في الانتفاع.
(2) أُموِّلك: من قولهم: مالَ فلاناً: أعطاه المال. (معجم).
(3) في الأصل: منها.

(12/167)


وجوب تسليمها إلى الزوج في مدة الفراغ، فإن لم نوجب تسليمها إليه في مدة الفراغ، فهل نوجب تسليمها إليه في مدة العمل، إذا كان ذلك لا يؤدي إلى تعطيل حق السيد من المنفعة؟ فعلى وجهين. هذا ترتيب الكلام.
فإن قيل: إن كان للمرتهن غرضٌ في استمرار يده في مدة اكتساب العبد بحرفته، وهو دوام التوثيق، فأي غرض للزوج في استدامة يده على الزوجة، وهي دائبة في العمل، على وجه لا يتصور للزوج في تلك المدة مستمتَع؟ قلنا: قد تُفرض فرصة، ثم لا يَكرهُ مستمتِعٌ النظرَ والمؤانسة، وآية ذلك أن التعويل في القَسْم على المؤانسة وإمكان الوقاع؛ لا على [صدوره] (1).
فصل
قال: "وأمة العبد المأذون له في التجارة ... إلى آخره" (2).
7969 - القول في تصرف السيد في المال المسلّم إلى المأذون سبق مستقصىً في مسائل المأذون، والمقدار المتعلق بهذا الموضع تزويجُ الأمة في يد المأذون.
فالقول الوجيز فيه؛ أن التزويج تنقيصٌ، وهو في ترتيب المذهب نازل منزلة التبرع بجزء من المال، أما العبد؛ فلا يملك الاستقلال به؛ لأنه مأذون له في التجارة، وأما السيد؛ فتزويجه نافذ إن لم يركب العبد دينٌ، وإن ركبه دين وحجر عليه لمكانه، لم ينفذ تزويج السيد بعد اطّراد الحجر على المال الكائن في يد المأذون، فإن لم يُحجر عليه؛ فالتزويج من السيد ينفذ بإذن العبد والغريم وفاقاً؛ إذ لا حجر. والحق لا يعدوهم.
وإن زوج بإذن العبد دون الغريم، ففي المسألة وجهان بسبب انتفاء الحجر، والتصرف يتعلق بالعبد والسيد، فيصيران بمجموعهما كحر، في يده مال وعليه ديون، فإنَّ تصرفه ينفذ في ماله قبل اطراد الحجر عليه. ومن منع؛ أشار إلى كون
__________
(1) في الأصل: "صوره".
(2) ر. المختصر: 3/ 268.

(12/168)


المال متعلقاً للدين على الاختصاص، [ومال] (1): الحرُّ ليس متعلَّقاً للدين. هذا إذا كان التزويج من السيد بإذن العبد.
فلو وقع التزويج من السيد بإذن الغريم من غير مراجعة العبد، فهل يصح التزويج؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح؛ إذ لا ملك للعبد، وأصحاب الحقوق رضوا بالنقص الذي جرى.
والثاني - لا يصح، وهو الذي اختاره القفال؛ لأن العبد يقول: إذا بقي دين أو شيء منه، كنت المطالَب به إذا عَتقت، والاحتكام على ذمتي، وإنما التزمت من الدين ما التزمته تعويلاً على أدائه، [ممّا] (2) سلّمه إليّ. ومأخذ هذا الخلاف الأول، النظر إلى عدم الحجر، والتشبيه بالحر المعسر، على ما مضى، وهما مأخذان مختلفان لا تعلق لأحدها بالثاني.
7970 - ثم ذكر الشافعي فصلاً في شرائط النسب في النكاح مع اختلاف الشرط، والقول في هذا يتعلق بالغرور. وبين أيدينا باب معقود فيه، فرأيت تأخير هذا الفصل إلى ذلك الباب؛ حتى تُلْفَى قضايا الغرور منتظمة في مكان واحد.
وعقد الشافعي باباً مضمونه في أن المرأة ليست لها عبارة النكاح. وتكلم في الباب على أثرٍ لعائشة (3)، وليس شرط هذا المجموع التعرض له.
...
__________
(1) في الأصل: "وقال" والمثبت من ابن أبي عصرون.
(2) في الأصل: فما.
(3) ر. المختصر: 3/ 270.

(12/169)


باب ما جاء (1) في الكلام الذي ينعقد به النكاح
قال الشافعي رضي الله عنه: "سمى الله تعالى النكاحَ في كتابه باسمين ... إلى آخره" (2).
7971 - مذهبنا: أن انعقاد النكاح يختص بالإنكاح والتزويج، ومعناهما في كل لسان في أصل الوضع، ومبنى المسألة عندنا؛ على أنا تُعبّدنا باستعمال هذين اللفظين، وهما المشهوران عرفاً وشرعاً، وكل لفظ سواهما يقدّر استعماله في الباب؛ ينقسم إلى ما هو صريح في مقصود آخر، وإلى ما ليس صريحاً في مقصود آخر، ولكنه كنايةٌ عن النكاح.
فإن كان صريحاً في مقصود آخر، وقبِل المحلُّ نفوذَ ذلك المقصود فيه، كالهبة - والمزوّجةُ جارية- فاستعمال لفظ الهبة صريح في تمليك الرقبة، وكذلك التمليك والبيع بالعوض إذا أمكن بتقدير اللفظ فيما هو صريح فيه، فلا يجوز صرفه عنه بالنِّية، كما لو قال الرجل لامرأته: "أنت طالق"، وزعم أنه نوى ظهاراً، فيحصل الطلاق، ولا يحصل الظهار.
وإن كان اللفظ كناية في فنٍّ، ولم يكن صريحاً في فن، وكان محتملاً لمقصود النكاح؛ لم ينعقد به النكاح؛ فإنّ شرط انعقاده الإشهادُ عليه، ولا مطلع للشهود على النيات، والألفاظ مستقلة من جهة أنها كناية.
هذا معتمد المذهب في الباب.
7972/م- ولو عدل المزوِّج عن لفظ التزويج والإنكاح، وذكر معناهما الصريح
__________
(1) من هنا من أول (باب ما جاء في الكلام الذي ينعقد به النكاح) صار عدنا نصٌّ آخر مساعد، وهو الجزء العاشر من نسخة ت 3، فالحمد لله، نسأله العون، ونستلهمه الصواب.
(2) ر. المختصر: 3/ 271.

(12/170)


بلسانه، وأفهم المخاطَب؛ فللأصحاب في هذا تردد، ونحن نجمع مقالاتهم في نظمٍ واحد، فنقول: إن كان لا يحسن العربية، وكان لا يتأتى منه تعليماً؛ فالذي ذهب إليه أئمة المذهب: أن النكاح ينعقد بمعنى اللفظ، ولم يخالف فيه أحد إلا أبو سعيد الإصْطخري، فإنه قال: لا ينعقد النكاح إلا بلفظ العربية، ومن لا يحسنها، فليصبر إلى أن يتعلمها، أو ليكل الأمرَ إلى من يحسنها، وليوكّل بتعاطي العقد من يعقده بالعربية.
فأما إذا كان يحسن العربية، فعدل عنها قصداً إلى المعنى؛ ففيه اختلاف مشهورٌ بين الأصحاب: فمنهم من قال: يصح النكاح؛ فإن المتبع المعنى، وإنما يجب اتباع اللفظ فيما يتأكد التعبد فيه، ومحله العبادات.
ومنهم من قال: لا مَعْدِل عن اللفظ مع التمكن من استعماله، كما لا معدل عن الأصول المنصوصة في الزكاة، وإن كانت الأَبْدال تسد مسدها فى سد الحاجة.
والقائل الأول ينفصل عن الزكاة، فإنها (1) عبادة، ولذلك لا تقع الموقع من غير نية. هذا فيه إذا كان يحسن العربية، فعدل عنها.
فأما إذا كان لا يحسن العربية ولكن كان يتمكن من تعلّمها، فلم يتعلمها، واكتفى بالمعنى، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الأولى، والفرق لائح.
وقد قال العراقيون: إن كان يحسن العربية، لم يجز له العدول عنها، وجهاً واحداً.
وإن كان لا يحسنها، ويتمكن من تعلّمها على القرب؛ ففي المسألة وجهان. وإذا ضممنا من يحسن إلى من لا يحسن، وكان يتمكن من التعلم، اتسق في المسألتين ثلاثة أوجه: أحدها - المنع فيهما.
والثاني - الجواز فيهما.
والثالث - الفرق، كما نبّهنا عليه.
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها: "بأنها". وقد صدقتنا (صفوةُ المذهب).

(12/171)


7972/م- وحاصل القول في الألفاظ تتضمنها مراتب.
المرتبة الأولى: لفظ يُعنى لنظمه، ورد به الأمرُ في عبادة، وهذا كقراءة القرآن في الصلاة، ومن حكم هذه المرتبة التعيّن، حتى لو فرض عجز، لم يقم معنى اللفظ مقامه، وإن مسّت الحاجة إلى بدل، كان ذلك البدل ذكراً آخر، وإن لم يكن معنى اللفظ المعجوز عنه.
والمرتبة الثانية - في ألفاظ تُعُبِّدنا بها في عبادة، والغرض الأظهر في معناها، وليس نظمُها على خاصية تخالف مناظم الكلام، وهذا ممثل بالتشهد والتكبير، وهذه المرتبة محطوطة عن القراءة؛ من جهة أن من عجز عن ألفاظ التشهد وصيغة التكبير؛ فإنه يأتي بمعناها، ويتعين عليه ذلك، حتى لو أقام لفظاً آخر معناه مخالف لمعنى ما عجز عنه، لم يقم ما أتى به مقام ما عجز عنه؛ والسبب فيه أن الغرض الأظهر في القرآن نظمه المعجز، والغرض الأظهر في الأذكار معانيها، والرتبتان متساويتان في أنه لا يسوغ العدول عن اللفظ مع القدرة عليه، ويجب التعلم، وإنما افتراقهما في البدل عند تحقق العجز، كما ذكرناه.
المرتبة الثالثة: في لفظ النكاح. وحاصل ما ذكره الأصحاب فيه [ناشىءٌ] (1) من تردّدٍ في أصلٍ، وهو أن التعبد هل يرعى فيه أم لا؟ فمنهم من قال: لا تعبد فيه، وإنما يتعين الإنكاح والتزويجُ ومعناهما لمسيس الحاجة إلى الإشهاد؛ فإن الإشهاد على الكنايات غير ممكن، وهؤلاء يقولون: يجوز العدول إلى المعنى؛ فإنه صريح بين أهله، فيحصل الإشهاد عليه.
ومن أصحابنا من قال: للتعبد مدخل في لفظ النكاح، وسببه أن مقصوده يخالف مقصود كل عقد، على ما قررناه في الأساليب، ويتضح ذلك بأنه لا ينعقد (2) إلا بلفظ النكاح والتزويج، وهذا يشعر باختلاف المقاصد؛ فإذا كان وضع النكاح مخصوصاً، لم يبعد أن يكون لفظه مخصوصاً.
__________
(1) في الأصل: ينشأ. والمثبت من (ت 3).
(2) ت 3: لا ينعقد بلفظ النكاح والتزويج عقد.

(12/172)


والطريقة الأولى تضعف بمسألة، وهي: أن أهل قُطر لو استعملوا لفظة على الطرد في إرادة النكاح، وتواطؤوا عليه؛ فالنكاح لا ينعقد به.
ثم من طرَّق التعبد إلى اللفظ انقسموا: فمنهم من غلا في ذلك - وهو الاصطخري، ومنهم من اقتصد، وقد تفصل القول في ذلك نقلاً.
المرتبة الرابعة: في صرائح الطلاق، فإن الشافعي حصر صرائح الطلاق في ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأشار إلى اعتبار تكرر هذه الألفاظ في الكتاب والسنة، وهذا مستأخِر عن النكاح؛ من جهة أن النكاح يفتقر إلى الإشهاد، بخلاف الطلاق.
ومن أئمتنا من لم يخصص الصرائح، ورأى كل لفظ شاع في العرف في إرادة الطلاق صريحاً فيه، وهذا هو القياس، كما سيأتي شرحه في الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
ثم سبب حصر الصريح على مذهب من [يراه] (1) أنه حلٌّ غريبٌ، يرد على محلول غريب. وبيان ذلك: أن المحلول مختص كما ذكرنا، والحل ليس فسخاً، وليس في حكم العتق المتقرب به، فيقبل التعبد، لما ذكرناه.
ودليل القائل الآخر أن ألفاظ الفسخ في النكاح لا تنضبط، والمتبع فيها الشيوع واطراد العرف.
المرتبة الخامسة: في ألفاظ العقود، سوى النكاح، وهي تنقسم إلى ما يفيد الملك المحقق، وإلى ما لا يتمحض هذا المعنى فيه: فأما ما تمحض التمليك فيه؛ فلا حصر من طريق الشرع لصرائحه، بل المتبع فيه العرف، كما ذكرناه، ولكن في انعقاده بالمكاني (2) وجهان، وسبب ذلك أنها تشتمل على الإيجاب والقبول. وحق الموجِب أن يُفهم المخاطَب، وذلك (3) يتعذر في المكاني، ومن جوز العقد
__________
(1) في النسختين: يزيد.
(2) المكاني: أي الكنايات.
(3) ت 3: ذلك (بدون واو).

(12/173)


بالكنايات، عوّل على ما يقترن بها من قرائن الأحوال، هذا لا بد منه، وإن كنا قد نعدّ التعويل على قرائن الأحوال من مذهب أبي حنيفة.
فأما ما لا يتمحض التمليك فيه؛ فهو كالإجارة، وسبب اختلال التمليك فيه عند الفقهاء: أن المنافع معدومة، وسببه عندنا أن المنفعة مشكلة في نفسها، لا تقع على جنس من الأعيان أو صفاتها، كما تقرر ذلك في الإجارات. والذي يوضح هذا أنه ينعقد بالإجارة، وإن لم يكن لفظ الإجارة مُشعراً بإفادة التمليك، بل معنى الإجارة تخصيص المستأجر بالدار على وجه يلتزم به أجرة الدار، فلو عُقدت الإجارة بلفظٍ يقتضي التمليك، فإن أضيف اللفظ إلى الرقبة؛ لم يصح، وإن أضيف التمليك إلى المنافع؛ ففيه وجهان: مثل أن يقول ملّكتك منافع الدار شهراً.
المرتبة السادسة: لفظ يجري غير مفتقر إلى القبول في المعاملات، كالإبراء، والفسخ، وما في معناهما، فالكنايات تتطرق إليها بلا خلاف؛ إذ لا حاجة إلى إفهام قابل، ولا إلى إشهاد، وكان القياس يقتضي في جميعها جوازَ التعليق بالصفات، ولكن ليس يجري ذلك عندنا إلا في العتاق، وإطلاق الوصايا، وما يقبل المجاهيل كالجعالات ونحوها.
فهذه جُمل في مراتب الألفاظ يأنس بها من [يطلب الأغواص محل الإعواص] (1).
فرع:
7973 - إذا كان أحد المتناكحين يحسن العربية، وأتى بلفظ الإنكاح والتزويج، وقابله الثاني بالفارسية - والتفريع على أن النكاح ينعقد بالفارسية، فإن كان الآتي بالفارسية يحسن العربية ويفهمها، صح النكاح، وإن كان لا يفهم العربية، ولكن أخبره من يثق به أن معنى اللفظ الذي أتى به صاحبه النكاحُ، هل ينعقد العقد والحالة هذه؟ ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يصح؛ ثقةً بتفسير المترجم الموثوق به.
__________
(1) في الأصل: "من يطلبها والإعواض محل الإعواص" والمثبت من (ت 3). والمعنى من يطلب الغَوْصَ في مواضع الإِعْواص، حينما تُعْوِصُ المسائل.

(12/174)


والثاني - لا يصح. وهذا الوجه عندنا يجري فيه إذا لم يتعلم ذلك [القائل] (1) صيغة اللفظ، ولم ينته إلى حالة لو أراد استعماله، لتمكن منه، ولو سمعه مرة أخرى، لكان ذلك يخرج هذا الوجه، فأما إذا علّمه هذا المترجم؛ فقد التحق بمن يعلم، ووجب الحكم بانعقاد العقد.
فصل
قال: "أو يقول الخاطب: زوّجنيها. ويقول الولي: زوّجتكها ... إلى آخره" (2).
7974 - قد تكلمنا في التزويج والإنكاح ومعناهما. ونحن الآن نتكلم في القبول، فنقول: إن قال الموجِب: "زوجتكها". وقال المخاطب: "تزوجتها"، انعقد العقد وهذا، وإن سمي قبولاً، فهو عندنا ليس قبولاً على التحقيق، ولكنهما أتيا بشقي العقد. وكل واحد منهما صالح للابتداء به، وإنما القبول (3) على الحقيقة ما لايتأتى الابتداء به.
7975 - ولو قال المزوِّج: "زوجتك فلانة"، أو "هذه". فقال القائل: "قبلت نكاحها"، أو "قبلت هذا النكاح"، انعقد النكاح وفاقاً.
فإن قال: "قبلت" واقتصر على ذلك، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا ينعقد النكاح (4)؛ فإن المجيب لم يذكر لفظ النكاح في قبوله، ولم يضف القبول إلى المرأة أيضاًً، والنكاح يتطرق إليه الاعتناء باللفظ، كما سبق تقريره.
ومنهم من قال: يصح؛ فإن الجواب يترتب على الخطاب، حتى كأن الخطاب في حكم المعاد في الجواب.
__________
(1) ساقطة من النسختين.
(2) ر. المختصر: 3/ 272.
(3) ت 3: القول.
(4) الأظهر عدم الانعقاد. قاله النووي. (ر. الروضة: 7/ 37).

(12/175)


والدليل عليه: أن من قال لصاحبه: "أطلّقت امرأتك ثلاثاً؟ " فقال: "نعم"، كان ذلك إقراراً منه بالطلاق على ظاهر المذهب، كما سيأتي في مسائل الطلاق، إن شاء الله تعالى، وإن كان قوله "نعم" لو انفرد؛ لم يكن مستقلاً، ولا مفيداً معنى.
كذا إذا قال: "قبلت النكاح" ولم يضف النكاح إلى المرأة، ولا عيّنه بتقدير الإشارة إليه، مثل أن يقول: "قبلت هذا النكاح"، فالنكاح مشار إليه، فإذا لم يُشر، ولم يضف؛ ففي المسألة أيضاًً وجهان، مرتبان على الوجهين فيه، إذا قال: "قبلت" واقتصر عليه، وهذه الصورة الأخيرة أولى بالصحة، لتعرض القابل فيها لذكر النكاح.
ولو قال: "قبلتها"، فأضاف القبول إلى المرأة، ولم يذكر لفظ النكاح؛ ففي المسألة أيضاًً وجهان، مرتبان على الوجهين فيه؛ إذا قال: "قبلت" ولم يضف، ولم يذكر النكاح، ووجه الترتيب قريب مما سبق.
وضبط القول: أن القابل إذا ذكر النكاح، وأضافه إلى المرأة؛ فلا خلاف في الصحّة.
وإن ذكر القبول ولم يُضف إلى المرأة، ولم يذكر النكاح؛ فالمسألة مختلف فيها.
وإن ذكر النكاح، ولم يُضفه إليها، [أو] (1) أضاف القبول إليها، ولم يذكر النكاح؛ ففيه الخلاف الذي تقدم ذكره.
7976 - ثم ذكر الشافعي بعد ذلك استدعاء الإيجاب مع الإيجاب، وذلك أن يقول الخاطب للولي: "زوّج ابنتك هذه مني بكذا". فإذا قال الولي: "زوّجتها"، فهذا تصوير المسألة، وظاهر النص أن النكاح ينعقد بذلك.
ونقل الأئمة عن الشافعي قولين في أن البيع، هل ينعقد على هذه الصورة؛ إذا قال الطالب: "بع عبدك مني بألفِ". فقال المجيب: "بعتكه بالألف"؟ أحد القولين: أن البيع يصحّ.
__________
(1) في النسختين: وأضاف. والمثبت تصرف من المحقق.

(12/176)


والقول الثاني: أنه لا يصحّ. والوجه ترتيب المذهب نقلاً في العقود، ثم التعرض لتوجيه القولين، والتفريع عليهما.
قال الأئمة: إذا قالت المرأة لزوجها: "خالعني بألف"، أو "طلقني بألف".
فقال: "أنتِ طالق"، لزم (1) الطلاق، ولزم العوض، وبانت المستدعية، ولا حاجة إلى تقدير قبول منها، بعد ما تقدم الاستدعاء والإجابة.
وكذلك إذا قال العبد لسيده: "أعتقني على ألف"، فقال: "أعتقتك".
وكذلك إذا قال من عليه القصاص: "صالحني على ألف"، فقال مستحق الدم: "صالحتك". فهذه المسائل تثبت وتصح، ويستقل النفوذ فيها بالاستدعاء والإجابة، من غير حاجة إلى تقدير قبول بعد الإجابة بالإيجاب.
وفي البيع والإجارة قولان.
وفي النكاح طريقان: من أصحابنا من أجرى القولين فيهما، كما تقدم في البيع والإجارة، ومن أصحابنا من قطع القول بصحة النكاح واستقلاله بالإيجاب والاستيجاب، كما ذكرناه في العتاق والطلاق والصلح عن الدم.
وكان شيخي يُنزل الكتابة في معظم أجوبته منزلة الخلع والطلاق، ويقول: إذا قال العبد: "كاتبني على كذا"، فكاتبه (2)، صحّ على شرط الشرع، من غير حاجة إلى إعادة القول، وسمعته في آخر العهد به يقول: الكتابة حقها أن تنزل منزلة النكاح، حتى يخرج فيها قولان على إحدى الطريقين، وفيها احتمال على الجملة، وهذا أصل ما نقله رواة المذهب.
7977 - توجيه القولين في البيع: من قال: لا ينعقد (3) بالاستيجاب والإيجاب ما لم يترتب على الإيجاب قبول، احتج بأن صورة العقد تقع على وجهين: أحدهما - أن يأتي كل واحد من العاقدين بشق من العقد يليق به، ولا يكون أحدهما قبولاً،
__________
(1) ت 3: وقع.
(2) في النسختين: وكاتبه.
(3) ت 3: إنه لا ينعقد.

(12/177)


وليس واحد منهما بأن يسمى قابلاً أو موجباً أولى من الثاني.
والصورة الثانية - أن يتقدم إيجاب، ويترتب عليه قبول، فأما طلب الإيجاب؛ فإنه ليس شِقاً في العقد، ولا قبولاً مترتباً على الإيجاب، وكأن معناه: ابتدىءْ العقدَ (1)، فإذا ابتدأ العقد، قبله بطريق قبوله.
ومن قال: لا حاجة إلى القبول؛ احتج بأن الغرض من شِقّي العقد، صدورُ لفظين من الجانبين يدل على رضاهما بموجب العقد على جزم، وهذا المعنى يحصل بالاستيجاب والإيجاب، وأيضاًً؛ فإن اشتراط القبول، سببه ألا يدخل الشيء في ملك الإنسان قهراً، وإلا فالقياس الاكتفاء بالتمليك؛ فإذا استوجب؛ فقد تحقق ما اشتُرط القبول لأجله.
فإن قيل: لم قطعتم بصحة العتق والطلاق على مال والصلح عن دم العمد؟ قلنا: لأن الغالب على هذه المعاملات التعليق، ولذلك تصح مع صيغة التعليق، ولهذا يصح بذل المال على الطلاق والعتاق من أجنبي، فرجع حاصل الأمر في هذه العقود إلى [افتداءٍ] (2) مجرد. وآية هذا: أن المبيع إن قُبل (3)، كان قبوله تملكاً له، والطلاق لا يَقْبل ذلك، والعَتاق (4) والعفو عن الدم، والمقصود من هذه العقود العفو، والعتق، والطلاق، والأعواض تجري فيها على طريق التبعية.
وأما النكاح -والعوض وإن لم يكن مقصوداً فيه، بخلاف الثمن- فالعوض فيه ألزم منه في الطلاق والعَتاق والصلح، بدليل أن هذه المقاصد الثلاثة يمكن تحصيلها من غير عوض، والنكاح لا يخلو عن العوض في وضعه، إلا في مسألة شاذة، سيأتي الشرح عليها، إن شاء الله تعالى.
وأيضاًً، فإن الخاطب إذا قبل النكاح، فقد قبل لنفسه حقاً مستحقاً، فانتظم القبول فيه وإن لم يتأصل العوض فيه.
__________
(1) أي: ابتَدِىء العقدَ حتى أقبلَه بطريق قبوله. (هكذا بسط العبارةَ ابنُ أبي عصرون).
(2) غير واضحة بالأصل. والمثبت من (ت 3).
(3) ساقطة من (ت 3).
(4) ت 3: العتاق (بدون واو).

(12/178)


وتردُّدُ الإمام والدي - في الكتابة؛ سببه: تردد الكتابة بين المعاوضات وبين عقد العتاقة.
7978 - ثم قال الأصحاب: لو قال: "أتزوِّج ابنتكَ مني" (1)؟ فقال: "زوجتكها"، لم ينعقد النكاح، فإنه لم يجزم الاستدعاء، وإنما تردد فيه مستفهِماً.
وكذلك لو جرت هذه الصيغة في العتاق والطلاق والصلح، فلا حكم للاستفهام في هذه الصور كلها. وهذا متفق عليه.
وكان اتفق برزةٌ لشيخي إلى بعض الجهات، وأخذ يلقي المسائل، ثم أجرى في أثنائها طريقة عن بعض الأصحاب في تخريج مسألة العتاق والطلاق والصلح على قولين؛ طرداً لهذا في كل ما يفتقر إلى الإيجاب والقبول، وهذا حسنٌ متجه في القياس، ولكنه غريب في النقل، والمذهبُ التفصيل الذي ذكرناه، ولذلك أخرنا ذكره على عادتنا المعروفة.
فصل
7979 - إذا أخبر رجل بأنه وُلد له ولد، فقال الآخر: إن كان المولود بنتاً، فقد تزوجتها منك". فقد قال الأصحاب: لا ينعقد النكاح وإن بان المولود أنثى؛ وذلك لأنه عقد على صيغة التعليق، والتعليقُ ينافي عقدَ النكاح، وأيضاًً فإن العقد موقوف، والوقف ينافي صحة النكاح، فقد اجتمع فيه وجهان من الفساد.
وكذلك لو قال: "إن كان ابنتي طلّقها زوجها، وانقضت عدتها، فقد زوجتكها"، ثم بان أنه كذلك، لم يصح النكاح.
وهذا الذي أطلقه الأصحاب، فيه فضل نظر، تداركه المحققون، فنقول أولاً: إذا زوّج الرجل أمة أبيه في غيبته، أو باعها، وظاهر الأمر بقاء أبيه وحياتُه، ثم تبيّن أنه كان ميتاً وقت التزويج، وأن الجارية كانت رجعت إليه ميراثاً، ففي صحة العقد
__________
(1) ت 3: أتزوِّج مني ابنتك؟.

(12/179)


قولان، وهو من صور وقف العقود، على ما تقدم شرح الوقف في كتاب البيع، وشرط جريان هذين القولين، أن يكون العاقد على ظن في دوام بقاء الغائب، فأما إذا كان علم موته، وجزم البيع والتزويج؛ فلا شك في صحة العقد.
فإن قلنا: لا يصح العقد، وإن تبين أن الجارية كانت ملكاً للمتصرف فيها، فلا كلام.
وإن قلنا بصحة العقد إذا (1) بان كونها مملوكة للمتصرف، فلو علق، وقال: إن مات أبي وورّثني هذه الجارية، فقد زوّجتكها، ثم بان أنه كان ملكها حالة العقد -والتفريع على الحكم بصحة العقد على الوقف- ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن العقد يصح؛ فإنه لو جزمه، لكان تصحيحه على تقدير هذا التعليق، فإذا صرح بالتعليق، كان مصرحاً بمقتضى (2) العقد.
والوجه الثاني - أن العقد لا يصح؛ فإن صيغة التعليق فاسدة، ونحن متعبدون برعاية الصيغة، كما نُتعبد برعاية المعنى.
وهذا الاختلاف يناظر أصلاً كما (3) تقدم في أحكام المعاملات، وهو أن الرجل إذا اشترى زرعاً، واستأجر بائعَه على حصاده، وذكر عوضاً واحداً أجرة وثمناً؛ فهذا صنف من أصناف تفريق الصفقة، ولو عئر عن هذا المعنى بعبارة الشرط، فقال: اشتريت منك هذا الزرع بألف، على أن تحصده، فهل يصح العقد على هذا الوجه؟ والتفريع على أن الصفقة إذا جمعت عقدين مختلفين، صحت، فعلى وجهين، مهدنا ذكرهما، وضربنا في ذلك أمثلة.
هذا تمام النظر في الفصل.
__________
(1) ت 3: وإذا.
(2) ت 3: لمقتضى.
(3) ت 3: أصلاً تقدم ذكره في ...

(12/180)


فصل
7980 - إذا قال الرجل لوالد الثيب: "قل زوّجتُها منك". ولم يقل:
"زوِّجنيها"، فقد كان شيخي يرى أنه إذا قال: "زوجتكها"، لا بد من قبول المستدعي في هذه الصورة؛ وذلك أنه لم يستدع منه التزويج، حتى يقال كأنه ملّكه أن يُلزمه التزويج، ولكن قال له: "قل زوّجتك". فإذا قال ذلك، استدعى هذا القول منه ما كان (1) يستدعيه لو ابتدأبه، من غير فرض طلبٍ، واستدعاء فيه.
وهذا الذي ذكره حسن لطيف، وليس يخلو عن قبول احتمال، والعلم عند الله تعالى.
فصل
قال: "وأحب أن يقدّم بين يدي خطبته ... إلى آخره" (2).
7981 - ذكر الشافعي أنا نستحب لمن يبتدىء خِطبة امرأة، ويطلب نكاحها، أن يبتدىء بحمد الله والثناء عليه، وهذا محبوب في كل أمر له بال وخطر، والنكاح مخصوص منها بتأكد الاستحباب فيما ذكرناه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله، فهو أبتر". وروي "فهو أقطع" (3).
ويستحب معه الحمد والثناء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا
__________
(1) ت 3: منه كان (بدون [ما]).
(2) ر. المختصر: 3/ 273.
(3) حديث "كل أمرٍ ذي بال ... " هو من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو داود، ح 4840، والنسائي في الكبرى: كتاب عمل اليوم والليلة، ح 10328، 10329، وعند ابن ماجه، ح 1894، والدارقطني: 1/ 229 والبيهقي: 3/ 208، 209، وانظر التلخيص: 3/ 315 ح 1597، وهو عند ابن ماجه بلفظ أقطع، وكذا عند ابن حبان، وله ألفاظ أخر، هذا وقد حسنه العجلوني في كشف الخفا 2/ 119 رقم 1964.

(12/181)


تقديم الخُطبة على الخِطبة، فإذا حان (1) الوقت، ودخل وقت إنشائه، استحببنا تقديم خُطبةٍ على العقد على النسق الذي ذكرناه، ثم إن خطب الولي، فحسنٌ، وإن خطب الخاطب، فكذلك، وإن خطب ثالث، ثم تولى العقد [الولي] (2) والخاطب، فحسنٌ. وهذه عادة عرفت من عهد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم.
ثم إذا حمد الله الولي وصلى على المصطفى، ثم أوجب، وحمد الله [الخاطب] (3) وصلى ثم قبل؛ فقد قدم كل واحد منهما على قوله حمداً وصلاة.
ولكن يعترض في هذه المسألة أنه تخلل بين الإيجاب والقبول كلام، وهذا من الأصول التي يجب الاعتناء بها، فإن تخلل بين الإيجاب والقبول سكوت في زمن متطاول، يدل مثله على إعراض القابل أو نسيانه، أو غفلته، أو على اشتغاله بالفكر فيما هو بصدده؛ فهذا يقطع الإيجاب عن القبول. وإن قصر زمان السكوت، ولم يُشعر بما ذكرناه، لم يضرّ، وإن تخلل بين الإيجاب والقبول كلام في زمان: لو فرض في مثله (4) السكوت بدلاً عن الكلام، لما كان ينقطع الإيجاب عن القبول؛ فهذا موضع الغرض من المسألة.
قال الأئمة: إن كان ذلك الكلام غير متعلق بغرض العقد؛ ففي ترتب انقطاع العقد عليه وجهان: أحدهما - أنه ينقطع؛ لأن الكلام اليسير بمثابة السكوت الطويل، بدليل أن السكوت الطويل يقطع تلاوة الفاتحة، ويقطعها الذكر اليسير في أثنائها، كما يقطعها السكوت الطويل.
والوجه الثاني - أن العقد لا ينقطع؛ ونصُّ الشافعي في كتاب الخلع دليلٌ على ذلك؛ فإنه قال: لو قال الرجل لامرأتيه: "أنتما طالقتان على ألف"، فارتدّتا، ثم قبلتا الخلع، وذلك بعد المسيس، ثم عادتا إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، فالخلع
__________
(1) ت 3: جاز.
(2) في النسختين: "للولي".
(3) في النسختين: المخاطب.
(4) ت 3: في بدل مثله.

(12/182)


صحيح [وهذا تصريح بأن] (1) تخلّل كلمة الردة بين الإيجاب والقبول ليس ضائراً، هذا إذا لم يكن الكلام المتخلل متعلقاً بالعقد.
فأما إذا كان متعلقاً بالعقد، كحمد الله يقدمه الخاطب بعد تقدم الإيجاب، ثم يعقبه بالقبول، فالأصح صحة العقد؛ فإنّ تخلّل ما وصفناه ليس مُشعراً بإعراض المخاطب عن جواب ما خوطب به. قال الأئمة: هذا بمثابة تخلل الإقامة بين صلاتي الجمع؛ فإنه غير ضائر مع اشتراط التوالي بين صلاتي الجمع، [وهذا الاستشهاد تكلّف عندنا؛ فإنه لو تخلل بين صلاتي الجمع] (2) بمقدار الإقامة ما ليس من مصلحة الصلاة، لم يضرّ أصلاً. ما ذكرناه ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من ضيق الكلام، ومنع تخليل شيء بين الشقين [والطرفين] (3). فإذا جرينا على الأصح، ولم نمنع تخليل الحمد للتيمن به؛ فلا خلاف أن طويله يقطع الإيجاب عن القبول، ثم طويله معتبر بالسكوت الطويل المتخلل، على ما مضى.
7982 - ثم قال الشافعي: "وأحب أن يقول ما قال ابن عمر: زوّجتكها على ما أخذ الله للمسلمات على المسلمين من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (4).
ومعنى اللفظ أن كل زوج مؤاخذ في أدب الدين بأن يمسك خليلته بمعروف أو يسرّحها بإحسان، والأولى أن يُجريا ذكر ذلك قبل العقد، أو بعد انبرامه، حتى لا يقع شرطاً في العقد، فإن قبل الولي كلامه بذلك، فقال: "زوجتكها على أن تمسكها بمعروف أو تسرحها بإحسان"، فقبل الزوج النكاح مطلقاً، أو صرح بالتزام ما شرط عليه؛ فلأصحابنا وجهان في صحة النكاح: أحدهما - أنه لا يصح، وهو ما كان يختاره شيخي؛ لأن معناه اشتراط الطلاق في بعض الأحوال، وهذا لا سبيل إليه، وسنوضح أن اشتراط الطلاق مفسد للنكاح.
ومن أصحابنا من قال: يصح النكاح، وهو ما قطع به الصيدلاني نقلاً عن القفال.
__________
(1) زيادة من (ت 3). وعبارة الأصل: فالخلع صحيح، وإن تخلل ...
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(3) في الأصل: والطريقين، وغير واضحة في ت 3، والمثبت تقدير من المحقق.
(4) ر. المختصر: 3/ 273.

(12/183)


ووجهه: أن ذلك ليس شرطاً، وإنما هو تعرّض لذكر ما هو الأدب في الدين.
والذي أراه في ذلك: أنهما إذا أجريا هذا شرطاً، وصرحا بالتزامه؛ فالوجه القطع ببطلان النكاح، فإن ذكراه، وصرّحا بذكر [الوعظ] (1) به من غير التزام شرط وتطرق وفاءٍ به؛ فالوجه: القطع بصحة العقد، وإن أجريا هذا الكلام مطلقاً؛ احتمل أن يحمل على الشرط لصيغته، وموجبه الإبطال. واحتمل أن يحمل على الوعظ -وهو ما تدل عليه قرينة الحال- وموجبه الصحة.
فهذا كشف القول في ذلك.
...
__________
(1) في الأصل: الواعظ.

(12/184)


باب ما يحل من الحرائر ولا يتسرى العبد
قال الشافعي: "انتهى الله عز وجل بالحرائر إلى أربع ... إلى آخره" (1).
7983 - كان يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيد على الأربع. واختلف أصحابنا في أنه هل كان يجوز له الزيادة على التسع؟ وقد تقدم ذكر ذلك في خصائصه.
فأما من سواه؛ فللحر أربع من الحرائر بلا مزيد، والعبد ينكح اثنتين، وذهب بعض الشيعة إلى إحلال التسع لكل أحد، ولا مبالاة بخلافهم، والدليلُ على انحصار المستحلات في أربع: حديث غَيْلان ونوفل، كما سيأتي ذكره في نكاح المشركات، إن شاء الله عز وجل، وما أظهره هؤلاء من الخلاف مسبوق بالإجماع المنعقد قبلهم.
ثم قال الشافعي: "والآية تدل على أنها على الأحرار ... إلى آخره" (1).
7983/م- قصد بذلك الرد على مالك (2)؛ فإنه جوّز للعبد أن ينكح أربعاً، كالحر، والشافعي قال: الآية الدالة على الحصر واردة في الأحرار، بدليل قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 3]، وهذا في الأحرار، وقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} [النساء: 3] وكل ذلك يليق بالأحرار. وقال عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوه} [النساء: 4]. وذهب الخلفاء الراشدون إلى مثل ما ذهبنا إليه، وهو مذهب عبد الرحمن بن عوف، وقال الليث بن سعد: "قال الحكم: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا ينكح إلا اثنتين" (3).
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 273.
(2) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 700 مسألة رقم 1253. وكتاب تهذيب المسالك في نصرة مذهب مالك: 3/ 37 مسألة رقم 8.
وهذا هو المشهور عن مالك، وفى رواية لمحمد عن ابن وهب عنه أنه قال: لا يتزوج العبد إلا اثنتين (ر. المنتقى للباجي: 3/ 336، واختصار عيون المجالس: 47 و1) عن تهذيب المسالك: السابق هامش (1).
(3) حديث الحكم بن عتيبة رواه البيهقي: 7/ 158، وابن أبي شيبة: 4/ 145، والشافعي عن =

(12/185)


7984 - ثم قال: "وإذا فارق الأربع تزوج مكانهن ... إلى آخره" (1).
وقصد بذلك الرد على أبي حنيفة (2)، فمذهبنا أن من أبان امرأة؛ إما بأن خالعها، أو طلقها ثلاثاً، وجرت في العدة، حل للزوج أن ينكح أختها، وأربعاً سواها، ولا أثر [لبقائها] (3) في العدة، خلافاً لأبي حنيفة.
ولو طلق امرأته طلقة رجعية، لم ينكح أختها ما دامت في العدة، ولا أربعاً سواها. وهذا صحيح؛ فإن الرجعية زوجة. وستعود هذه المسألة بأطرافها وحقائقها، إن شاء الله عز وجل.
7985 - قال: "ولو قتل المولى أمته، أو قتلت نفسها، فلا مهر لها ... إلى آخره" (4).
الأمة المنكوحة إذا قتلها سيدها قبل التسليم إلى الزوج، وقبل إلمام الزوج بها؛ فالترتيب المشهور في المذهب ما نطرده أولاً، ثم نذكر بعده قولَ بعض الأصحاب، وحقيقةَ الفصل، فنقول: إذا قتل السيد أمته قبل التسليم، فظاهر المذهب -وهو المنصوص عليه- أنه يسقط مهرها في هذه الصورة، ثم ذكر أصحابنا في ذلك علّتين، تجريان مجرى حدّين، ينشأ عنهما الوفاق والخلاف.
فمنهم من قال: إنما يسقط المهر؛ لأن المقصود بالعقد قد فات قبل التسليم، فأشبه فواتَ المبيع قبل القبض.
ومنهم من قال: علة السقوط الفواتُ قبل التسليم، كما ذكرناه - مع خصلة أخرى، وهي: أن الساعي في تفويتها مستحق المهر؛ فعلى هذا لو قتلت الأمة نفسها
__________
= عمر، الأم: 5/ 41 قال في البدر المنير: إسناده صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة عن عطاء أيضاًً، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 355 رقم 1645.
(1) ر. المختصر: 3/ 273، وعبارة الشافعي فيه: "فإذا فارق الأربع ثلاثاً ثلاثاً تزوج مكانهن في عدتهن".
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 342 مسألة 835، مختصر الطحاوي: 176.
(3) غير واضحة في الأصل، وت 3: لإجابتها.
(4) ر. المختصر: 3/ 274.

(12/186)


أو ماتت حتف أنفها، أو قتلها أجنبي قبل التسليم (1 فإن عللنا بالعلة الأولى 1)، فيسقط المهر، وإن قيّدنا بصدور التفويت من المستحق، فالمهر لا يسقط في هذه الصورة.
فأما الحرة المنكوحة إذا ماتت أو قتلها أجنبي؛ فيستقر مهرها وفاقاً؛ وذلك أنها كالمسلّمة بنفس العقد، بخلاف الأمة، ولم يصدر منها انتساب إلى التفويت.
فأما إذا قتلت الحرة نفسها قبل التسليم؛ ففي سقوط مهرها حينئذ وجهان، من جهة انتسابها إلى التفويت. هذا هو الترتيب المشهور.
وفي أصل المسألة قول آخر، وهو: أن الأمة وإن قتلها سيدها، لم يسقط مهرها، وهذا وإن كان مخالفاً للنص، فهو قول منقاس، جارٍ على موجب نكاح يقبله المحقِّقون، ولم يرَوْا بين الحرة والأمة فصلاً.
7986 - وقد حان أن نذكر حقيقة الفصل، فنقول: القياس الكلي الجاري على القواعد، أن فوات المستَمتَع من المنكوحة يتضمن سقوطَ المهر كيف فُرض الفوات.
وهذا تستوي فيه الحرة والأمة، قياساً على فوات المبيع قبل القبض، وقياساً على انعدام الدار (2) قبل مضي المدة المضروبة.
ولكن اتفق المسلمون على أن النكاح في الحرة ينتهي نهايتَه بموتها، ولهذا يتعلق به الميراث. وهذا القياس يوجب الحكم بقرار المهر، ولا نظر إلى صورة الاستمتاع بعد ما ذكرناه من تصرّم العمر، وهو منتهى النكاح، وليس في النكاح ماليّة معتبرة في جانب المنكوحة، حتى يفرض فوات، وهذا في حكم النكاح يحتكم على العلة الكلية؛ فإن ما ينشأ من خاصية العقد، أولى بالاعتبار، فهذا هو المعنيّ بقول الأصحاب: الحرة المنكوحة مسلَّمة بنفس العقد. وليس للحرة (3) بهذا حقيقة التسليم؛ فإن لها أن تمنع نفسها حتى يتوفر عليها صداقها، كما يحبس البائع المبيع -
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من ت 3.
(2) أي الدار المؤجرة.
(3) ت 3: للمرأة. ولعل الصواب: وليس المراد بهذا حقيقة التسليم.

(12/187)


على قولٍ- حتى يتوفر عليه الثمن كَمَلاً، ولكن المراد بما ذكروه: إذا ماتت أو قتلت، فهذا بمثابة التسليم التام فيما يراعَى التسليمُ فيه. هذا قولنا في الحرة.
فأما الأمة، فظاهر القياس فيها أنها كالحرة؛ فإن النكاح فيها مربوط بالعمر كنكاح الحرة.
وذهب ذاهبون إلى الفرق بين الأمة والحرة؛ [من جهة أن] (1) يد السيد ثابتة على الأمة، ولهذا يقدَّم السيدُ بحق الانتفاع، فإذا انتجز حقه، ودخل وقت الدَّعة، فإذ ذاك لا يُمنع الزوج منها، فلا تمتنع والحالة هذه، وقد ضعف حق الزوج؛ إذ الحد الذي وصفناه، أن يقال: نكاح الأمة لا يصيّرها مسلّمةً بنفس العقد، بل الأمر موقوف فيها على ما يبين من تسليم السيد ومنعه. وهذا لسنا نرى الإطناب فيه؛ فإنه ليس مفضياً إلى تحقيق، مع ما ذكرناه من استواء النكاحين في الحرة والأمة، في أن كل واحد منهما [معقودٌ للعُمر] (2) لا غير.
ثم المصير إلى أن الحرة لو قتلت نفسها قبل إلمام الزوج بها، فسقوط مهرها مختلف فيه في نهاية الضعف؛ فإن الأمة إذا كان يتحقق فيها ما ذكرناه؛ فلا يتحقق في الحرة شيء منه، ولا حاصل لتسبّبها إذا كانت حرة؛ فإن العمر إذا انقضى، فلا تكون الحرة بإهلاكها نفسها متسبِّبةً إلى منع المعقود عليه في النكاح؛ فإن المعقود عليه مدة العمر، طالت أم قصرت.
فيخرج من مجموع ما ذكرناه: أن القياس إيجاب المهر كيف فرض الموت في الحرة والأمة، وهذا موافق قولاً ذكره الأصحاب، ولكن النص الظاهر على مخالفته.
فإن رأينا الفرق بين الحرة والأمة جرياً على النص، تكلفنا الفرق بين الحرة والأمة، كما سبقت الإشارة إليه، فأما الفرق بين أن تموت الحرة وبين أن تقتل نفسها، فلا سبيل إلى [احتماله] (3) أصلاً.
__________
(1) في النسختين: إلى جهة من أن يد السيد ثابتة.
(2) في الأصل: معقوداً بعمره، ت 3: معقوداً لعمره.
(3) ت 3: إحماله (بالحاء المهملة) وفي الأصل: "إجماله" والمثبت هو المناسب للسياق.

(12/188)


فصل
قال: "وإن باعها حيث لا يقدر عليها، [فلا مهر لها حتى يدفعها إليه ... إلى آخره" (1).
7987 - فنقول أولاً: إذا زوّج الرجل أمته، وصحّ النكاح على حكم الشرع] (2)، ثم إنه باع الأمة، فالبيع نافذ، والزوجية قائمة.
وقال ابن عباس: "بيعُها طلاقها"، ولعله أخذ ذلك من تجدد الملك على رقبة المزوّجة، وشبّه ذلك بما إذا سُبيت الزوجة، وجرى الرق عليها. والدليل على بقاء النكاح: حديث بريرة؛ فإن عائشة اشترتها وأعتقتها، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل أن النكاح لم يبطل ببيعها، والفرق بين السبي والشراء ظاهر؛ فإن السبي يغير صفة [الزوجة] (3) ويقلبها من الحرية إلى الرق، وصفةُ المزوَّجة إذا بيعت لم تتبدّل، وإنما تبدل عليها الملاك.
7988 - فإذا بان بقاء النكاح، فنقول بعده: إذا باع السيد الأمة المزوجة، وكان النكاح مشتملاً على مسمّىً صحيح؛ فهو للأول - يعني البائع، وإن كان الدخول بها حصل في ملك المشتري؛ لأن وجوب المهر مستند إلى العقد.
ولو صح النكاح وفسدت التسمية في المهر، واقتضى الأمر الرجوع إلى مهر المثل، فهو أيضاًً للبائع؛ فإن مهر المثل ثبت صحيحاً بالعقد، ولا نظر إلى فساد التسمية.
ولو كان زوّج أمته [وفوّض] (4) بضعها، وعرّى النكاح عن المهر أصلاً، وباعها، فوطىء الزوج في ملك المشتري، فالمهر (5) يجب، واختلَف القول في أنه يجب
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 274.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(3) في النسختين: الزوجية.
(4) في الأصل: وفرض.
(5) ت 3: فالملك.

(12/189)


بالعقد، أو يجب بالمسيس؟ على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
فإن حكمنا بأن المهر يجب بالعقد؛ فهو للبائع، كما لو كان أصدقها خمراً أو خنزيراً، وإن حكمنا بأن المهر لا يجب في نكاح التفويض بالعقد، وإنما يجب بالمسيس؛ فالمهر على هذا للمشتري؛ فإن المسيس جرى في ملكه.
7988/م- ومما يتفرع على ذلك: أنا إذا أثبتنا المهر للبائع؛ فليس له بعد البيع حقُّ [منع] (1) الجارية عن زوجها حتى يتوفر الصداق عليه؛ فإن ملكه قد زال عن رقبة الأمة، فلم يبق له متعلق، والمشتري ليس له منعها أيضاًً؛ فإن المهر ليس له، فيستفيد الزوج بتبدّل الملك الإلمامَ بالأمة من غير حبسٍ [ومنع] (2)، وهذا إذا قلنا: المهرُ للبائع في صورة التفويض.
وإن حكمنا بأن المهر للمشتري إذا وطئت عنده؛ فله أن يمنعها من زوجها حتى يفرض لها صداقها، ثم إذا فرض لها، فله أن يمنعها حتى يوفّر المفروض على المشتري.
وإذا فرّعنا على أن نكاح التفويض لا يوجب المهر بنفسه، فلو أراد المالك الأول أن يطالب بفرض مهر، كان له ذلك، على ظاهر المذهب، ثم كان يتوصل إلى منعها بهذه الجهة، فلو طلب الأول الفرض قبل البيع، فأجيب إلى ما طلبه (3)؛ فيكون المفروض ملكاً للبائع؛ فإنه ملتحق بالمهر المسمى على الصحة في النكاح، ثم من موجب هذه الحالة أن المشتري لا يملك منعها؛ فإن المهر ليس له، ولا يملك البائع منعها، فإن ملكه قد زال، كما تقدم تقريره.
7989 - ولو زوّج الرجل أمته، ثم أعتقها؛ فطريان العتق عليها ينزل منزلة طريان الشراء، فحيث نجعل المهر للبائع؛ فهو للمعتِق، وحيث نجعل المهر في صورة
__________
(1) في الأصل: مع.
(2) زيادة من (ت 3).
(3) ت 3: ما يطلبه.

(12/190)


التفويض للمشتري؛ فهو للمعتَقة، فطريان العتق في التفاصيل التي قدمناها كطريان الشراء. [وهذا] (1) منتهى المراد في ذلك.
7990 - ونحن الآن نذكر على أثر نجاز هذا المقصود، تفصيلَ المذهب في تجدد الملك على العبد الناكح، فنقول: إذا تزوج العبد بإذن مولاه؛ فقد ذكرنا أن المهر يتعلق بكسبه، فلو وفّى المهرَ من كسبه، ثم باعه سيده، وطلّق المرأة قبل المسيس، وحكمنا بتشطر الصداق، فالمذهب: أن شطر الصداق يرتد إلى البائع؛ من جهة أنه أدى المهر من ملك البائع؛ إذ كسب العبد ملكُه، فيرتد نصف الصداق إلى من خرج من ملكه.
ولو زوّج الأب من ابنه الطفل، وساق صداقها من ملك نفسه -متبرعاً على طفله- فإذا بلغ الطفل، وطلق زوجته، فنصف الصداق يرتد إلى الزوج المطلِّق؛ والسبب فيه أن الأب لما تبرع، وساق الصداق، فمن ضرورة وقوع ذلك الصداق [المَوْقع] (2)، تقدير دخوله في ملك الزوج أولاً، وإذا كان كذلك، فقد تقدم ملك الطفل له، فإذا طلق، رجع الشطر إلى ملكه، ولا يتحقق مثل هذا في العبد؛ فإن المهر وإن تعلق بكسبه، فلسنا نقدّر دخول كسب العبد تحت ملك العبد أولاً، حتى يتوفر الصداق من ملكه.
قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قال: إذا طلق العبد زوجته قبل المسيس، فشطر المهر يكون للمشتري؛ فإن الطلاق هو الذي يوجب رجوع شطر الصداق، وقد جرى الطلاق الموجبُ لذلك في ملك المشتري؛ فإذا كان الموجِب في ملكه، كان الموجَب له. وهذا وجه حكاه الشيخ وزيّفه، وهو لعمري مزيّفٌ.
7991 - ومما يتعلق بأطراف الكلام مما ذكرناه: أنا استشهدنا بتبرع الأب على ابنه بسوق الصداق من ماله، وقلنا: إذا طلق الابن بعد البلوغ، فشطر الصداق يرجع إلى الابن، وخرّجنا هذا على أن الملك يحصل للزوج أولاً، ثم ينتقل منه.
__________
(1) في النسختين: وهو.
(2) في الأصل: المتوقع.

(12/191)


ويجوز أن يقال: لا يتضمن سَوْقُ الصداق تمليكَ الابن، وهذا يوضحه ذكر مسألة مقصودة في نفسها، فنقول: إذا نكح الرجل المطْلَقُ امرأة على مال، ثم جاء أجنبي، وتبرع بأداء المهر عن الزوج، فيستحيل أن نقضي باقتضاء هذا الأداء تمليكَ هذا الرجل المُطْلَق من غير مراجعته، بل يقع الأداء [افتداءً] (1)، فإذا فرضنا من الزوج طلاقاً قبل المسيس، واقتضى ذلك تشطر الصداق، فالوجه أن يقال: يرتد شطر الصداق إلى الأجنبي المتبرع بالأداء؛ فإنه عن ملكه خرج، فيعود إلى ملكه، إلا على الوجه الضعيف الذي حكيناه في أن الاعتبار بوقت الطلاق.
7992 - فإذا تمهد هذا عُدنا بعده إلى تبرع الأب على طفله، وقلنا: ظاهر كلام الأصحاب أن التبرع يتضمن تمليكَه؛ فإن الأب يتملك (2) تمليك طفله بحق الولاية، فيُحمل ما جرى على ذلك، ثم يتجه رجوع شطر الصداق إلى الزوج، كما تبين من قول الأصحاب.
ويجوز أن يقال: تبرع الأب على ابنه لا يتضمن تمليكه؛ فإن الأجنبي إذا كان يملك الافتداء بطريق الأداء من غير أن يملّك، فليملك الأب ذلك في حق طفله.
وينتظم من هذا سَوْقُ أحوالٍ: أحدها - أن الأب لو قصد الفداء، ولم يقصد تمليك طفله؛ فيجب ألا يدخل الصداق في ملك الطفل، كما ذكرناه في الأجنبي، ثم موجب هذا: ألا يرتد شطر الصداق إلى الزوج إذا بلغ وطلّق، وفرّعنا على الصحيح.
وإن قصد بالتبرع تمليك طفله؛ فيجوز أن يقال: يدخل في ملك الطفل، كما ذكره الشيخ.
وإن أطلق الأب الأداء، ولم ينْوِ فداءً ولا تمليكاً، فهذه مسألة محتملة مترددة بين قصد الفداء وقصد التمليك. فهذا ما لا بد من تفصيله كذلك.
7993 - ومما يتفرع على هذا المنتهى؛ أن من تبرع بأداء دين أجنبي، فلمستحق
__________
(1) في النسختين: اقتداءً. (بالمثناة). والمثبت تقديرٌ منا. وقد صدقته (صفوة المذهب).
(2) كذا في النسخيتن، ولعلها "يملك" كما في (صفوة المذهب).

(12/192)


الدين أن يمتنع عن قبوله (1)، وإن كان الأداء من الأب، وزعم أنه يقصد الافتداء، فيجوز أن يقال: للمرأة أن تمتنع عن قبوله، طرداً للقياس الذي ذكرناه في الأجنبي.
فهذه أمور انتهى الكلام فيها، فلم نجد بداً من التنبيه عليها.
7994 - ويعود بنا الكلام إلى سَمْت المسألة: فإذا وفّى العبد الصداق في ملك البائع، ثم جرى البيع والطلاق؛ فشطر الصداق على ظاهر المذهب يرتد إلى البائع.
وإن لم يوفِّ العبد الصداق، حتى بيع، ثم إنه اكتسب في ملك المشتري، وأدّى الصداق؛ فأول مذكور في ذلك: أن المشتري ليس له منفعة غير الاكتساب؛ من جهة أن كسبه مستحَق الصرف إلى هذه الجهة، ثم إذا أدى الصداق مما اكتسبه في ملك المشتري، ثم طلق قبل المسيس، فهذا تنبيه على ما إذا اكتسب في ملك البائع، وأدى الصداق. فإن قلنا: الصداق إذا تشطر بالطلاق، فالشطر للمشتري، نظراً إلى وقت الطلاق، فلا شك في حصول الشطر للمشتري فيه إذا اكتسب في ملك المشتري.
فأما إذا قلنا: شطر المهر يرجع إلى البائع إذا اكتسبه في ملكه، فإذا اكتسب في ملك المشتري؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن شطر الصداق يرجع إلى المشتري، فإنه وفّاه مما اكتسبه في ملك المشتري.
والوجه الثاني - أنه يرجع الشطر إلى ملك البائع؛ فإنه وإن اكتسب في ملك المشتري، فذلك القدر كان في حكم المستحَق من كسبه، وكأنه كان مستثنى عن ملك المشتري، مفروضاً في ملك البائع.
فإذا تقرر ما ذكرناه في البيع، فلو جرى بدل البيع إعتاقٌ، فنقول: إن كان اكتسب قبل العتق، وأدى المهر، ثم عتق وطَلّق قبل المسيس؛ فالنصف يرجع إلى المالك المعتِق، على المذهب الصحيح. ومن اعتبر وقت الطلاق، قال: يرجع نصف الصداق إلى العتيق، نظراً إلى وقت الطلاق.
ولو عتق قبل توفية الصداق، واكتسب بعد الحرية، وأدى الصداق، ثم طلّق قبل
__________
(1) في النسختين: قبوله له.

(12/193)


المسيس؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن نصف الصداق يرجع إلى الزوج، نظراً إلى حالة الاكتساب.
والثاني - أنه يرجع إلى المعتِق؛ لأن ما بقي بالصداق مستحق على المعتق من كسبه، فكأنه في حكم المستثنى.
وهذا الوجه ضعيف عندي، لا ثبات له؛ فإن حق المهر إنما يثبت للزوجة، وقد توفر الكسب بكماله على السيد في زمن الرق، فتقديم حق له في الكسب حتى يفرض مستثنى بعد الإعتاق والانطلاق عن الرق، غير معقول؛ بل الأمر على العكس من هذا الخيال؛ فإن العبد كان يملك أن يؤدي ما التزمه من الصداق من كسب رقه، فلم يتفق. وبقيت ذمته مرتهنة بدينه، حتى عَتَق واستقل، فإذا اكتسب وأدى ما عليه، فرجوع شيء عند الطلاق إلى السيد لا وجه له. ولكن الشيخ أبا علي ذكر هذا الوجه في الشرح، ولم يطنب في الرد عليه، وما ذكرناه من التزييف فيما يكتسبه بعد الإعتاق يجري فيما يكسبه بعد البيع.
فصل
قال: "ولو وطىء رجل جارية ابنه وأولدها ... إلى آخره" (1).
الأب إذا وطىء جارية ابنه، فلا تخلو الجارية، إما أن كانت موطوءة الابن، أو لم تكن. فإن لم تكن موطوءة الابن، فوطئها الأب، لم يخلُ: إما أن يحبلها، وإما ألا يحبلها.
فإن لم تعلق [منه] (2)، فالكلام يتعلق بانتفاء الحدود، ووجوب المهر، وتحريم الموطوءة على الابن.
فأما الحد، فلا يجب أصلاً، لما للأب من الشبهة في مال الابن، فيما يتعلق بالإعفاف (3)، وهذا بمثابة درء حد القطع عن الأب والابن إذا سرق أحدهما من مال
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 275.
(2) زيادة من ت 3.
(3) فيما يتعلق بالإعفاف: حيث يجب على الابن إعفاف الأب، كما تجب عليه النفقة.

(12/194)


صاحبه؛ وسبب اندفاع "حق" (1) القطع من الجانبين عموم ثبوت النفقة في أوانها من الطرفين جميعاً، ولما اختص الأب باستحقاق الإعفاف على ابنه، اختص جانبه بانتفاء الحد عنه في هذا القبيل. وإذا كان الأب لا يقتل بقتل ولده، فيبعد أن يرجم بوطء جارية ابنه. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" (2). فهذا ما ذكره الأصحاب في انتفاء الحد.
فأما المهر، فالذي قطع به المحققون: وجوب المهر؛ فإن الوطء وطء شبهة.
وما أوجب درء الحد حرمة الوطء (3) في هذا المحل.
وذكر العراقيون تفصيلاً في المهر، فقالوا: إن كانت جارية الابن مكرهة؛ وجب المهر، وإن كانت مطاوعة؛ ففي وجوب المهر وجهان. وهذا غلط صريح؛ فإنهم قطعوا أقوالهم بانتفاء الحد؛ فلا معنى (4) مع ذلك التفصيل الذي ذكروه (5)، وإنما [يستدُّ] (6) هذا التفصيل في الجارية المغصوبة إذا زنا بها الغاصب - كرهاً أو طوعاً.
ثم تصير الجارية محرمة على الابن؛ فإنها موطوءة الأب وطئاً محترماً.
فلو قال الابن: اغرم لي قيمة الجارية، وخذها، لأنك حرمتها عليّ، لم يكن له
__________
(1) كذا في النسختين، ولعلها "حدّ".
(2) حديث: "أنت ومالك لأبيك": رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والبزار عن عمر، ورواه ابن حبان من حديث عائشة، وابن ماجه، وبقي بن مخلد، والطحاوي عن جابر، والطبراني في الصغير عن ابن مسعود، وفي الكبير عن ابن عمر، وسمرة، والحديث صححه الألباني (ر. أبو داود: البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده، ح 3530، ابن ماجه: التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، ح 2291، 2292، أحمد: 2/ 179، ابن حبان: 410، 4262، إرواء الغليل: 338، وتلخيص الحبير: 3/ 383 ح 1670).
(3) ت 3: للوطء.
(4) لا معنى: أي لا حكمة ولا علة مع هذا التفصيل تؤيده.
(5) الأمر كما قال إمام الحرمين، فقد قال النووي: المذهب أنه كوطء الشبهة، فعليه المهر للابن (ر. الروضة: 7/ 208).
(6) في النسختين: "يستمرّ". و (يستدّ) أي يستقيم، وقد أثبتناها لأنها الأوفق في هذا السياق، ولأنها معهودة في ألفاظ إمام الحرمين، ولأن تصحيفها واضح.

(12/195)


ذلك؛ لأن الوطء ليس بمقصود في ملك اليمين؛ فيستحيل أن يتعلق بتفويته وجوب القيمة.
ولو أرضعت امرأة الرجل جارية له؛ فليس له أن يغرّمها قيمة الجارية، فلو [اشترت] (1) امرأةُ الرجل رضيعةً من زوجها، وأرضعتها، حرمت على الزوج، ثم اطلعت على عيب قديم بها، لم يمتنع ردها بالعيب القديم، ولم يكن للمردود عليه أن يقول: كانت مباحة لي، فطرأ التحريم في يدك، فلا ترديها وقد طرأ التحريم فيها.
هذا كله إذا وطىء جارية الابن ولم يحبلها.
7995 - فأما إذا أحبلها؛ فالحد منتف، والمهر واجب، والتحريم واقع، كما تقدم في الوطء العريّ عن الإعلاق. وأبو حنيفة (2) لم (3) يوجب المهر، لمّا اعتقد ثبوت الاستيلاد، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى، ورأى أن المهر يندرج تحت القيمة، وعندنا المهر يتقدم وجوبه على ثبوت العلوق بعد تغييب الحشفة، ويقع الكلام في ثبوت الاستيلاد، والمسألة مشهورة في الخلاف؛ لذلك لم نطنب في إيضاح علة المذهب.
7996 - ثم إنا نتكلم وراء ذلك في ثلاثة أحكام: أحدها - النسب.
والثاني -[حرية] (4) الولد.
والثالث - الاستيلاد.
أما النسب: فإنه يثبت لحرمة الوطء، ولأجلها دفعنا الحد، وأوجبنا المهر.
وأما الحرية: فالولد يعلق حراً. ولو وطىء رجل جارية غيره بشبهة، فحبلت؛ فالولد يعلق على الحرية.
__________
(1) في الأصل: استرقت.
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 382، 383.
(3) ت 3: لا.
(4) في النسختين: حرمة.

(12/196)


وأما القول في ثبوت الاستيلاد؛ فالمنصوص عليه للشافعي أن الاستيلاد يثبت (1)، وهو مذهب أبي حنيفة.
واختار المزني أنها لا تصير أم ولد. وهذا هو القياس، وللشافعي ما يدل على ذلك؛ لأنه قال: "إذا ملك جارية وابنتَها، فوطىء الجارية، حرمت البنت عليه، فلو وطىء البنتَ (2)؛ فهل تصير أم ولد؟ فعلى قولين. وكذلك إذا وطىء جارية ابنه". هذا لفظ الشافعي.
فمن أصحابنا من ذكر قولاً مطلقاً للشافعي في أن الاستيلاد لا يثبت. ونحن نقول: هذا القول إن كان مخرّجاً، فهو منقاسٌ حسن؛ فإن جارية الابن ملكُه الخالص، لا شرك للأب فيها، ولو فرضنا شركاً، لما حلت للابن.
وإن كان هذا القول مأخوذاً من نص الشافعي -الذي نقلنا لفظه- فهو بعيد؛ فإن الشافعي ذكر [احتمال] (3) البنت المملوكة، بعد ما حرمت على الأبد بوطء أمها، وكان ذلك ترديد القول في محرمةٍ على التأبيد، ثم عطف، فقال: "كذلك الأب إذا وطىء جارية ابنه". وظاهر هذا دليل على أن صور وطء الأب في موطوءة الابن حتى تكون محرمة على الأبد [كما أن البنت محرمة على الأب] (4) بوطء الأم.
فحصل مما ذكرناه؛ أن ظاهر المذهب ثبوت الاستيلاد (5).
ومن أصحابنا من ذكر قولاً آخر: أن الاستيلاد لا يثبت. وهو مذهب المزني.
وحكى الأئمة عن صاحب التقريب قولاً ثالثاً وهو: أنه يفصل بين أن يكون الأب موسراً إذا وفَّى بقيمة الجارية، وبين أن يكون مُعسراً.
توجيه الأقوال: من نفى الاستيلاد، فقياسه ومتعلّقه بيّن، ومن أثبته، تعلق بما
__________
(1) وهو الأظهر، قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 208).
(2) أي وطىء البنت بعد ما حرمت عليه.
(3) في النسختين: آجال.
(4) الزيادة من ت 3.
(5) عبارة النووي: وهل تصير الجارية أم ولد للاب؟ فيه أقوال: أظهرها، نعم. (ر. الروضة: 7/ 208).

(12/197)


ذكرناه من الشبهة، وأوقعُ متعلَّقٍ انتفاء الحد، مع العلم بحقيقة الحال، ولا وجه لدفع الحد إذا وقع الفرض في العلم بالتحريم، مع انتفاء الريب والخلاف، إلا شبهة تقتضي الاستيلاد، إذا أفضى الوطء إليه.
ومن فرّق بين الموسر والمعسر؛ فوجه قوله: التشبيه بسريان العتق؛ فإن الشريك إذا أعتق حصته من عبد، وكان موسراً، سرى العتق إلى نصيب شريكه. وإن كان معسراً، لم يَسْر، وعَتَق منه ما عتق ورَقّ ما رق.
وهذا القول ضعيف، وليس يُشبه ثبوتُ الاستيلاد في حق الأب تسريةَ العتق؛ فإن المرعي في منع التسرية إذا كان المعتق معسراً حقُّ الشريك؛ فإنا لو سرّيْنا العتق، لأبطلنا حق الشريك ناجزاً، وأحلناه على ذمة معسر، والمتبَع في ثبوت الاستيلاد، أحد أمرين: إما حرمة الأبوة، حتى لا تبقى أم ولده رقيقة، وإما شبهة الملك.
فإن راعينا حرمة الأبوة، فهذا يعم الموسر والمعسر، وإن راعينا شبهة الملك، فليس ملك الشبهة جزءاً مملوكاً منها، حتى يقصر الاستيلاد عليه. نعم، قد يخرّج قولُ الفرق بين الموسر والمعسر في إعتاق الراهن العبدَ المرهون؛ فإن المتبع في رد عتقه تركُ الإضراب بالمرتهِن، والتوقِّي من تنجيز إبطال حقه من الوثيقة. وهذا يجوز أن يختلف باليسار والإعسار.
7997 - وهذا النوع من النظر يفصله ذكر ثلاث مراتب: إحداها - في إعتاق حصة من عبد مشترك. هذا ينقدح فيه الفرق بين اليسار والإعسار، لورود الخبر فيه بالفصل بين الموسر والمعسر، وهو أولى متبع.
وفيه طرف من المعنى، وهو: أن مقدار ملك المعتِق من الشريكين منفصل عن حصة الثاني، ولا حق له في نصيب صاحبه، ولا يمتنع أن يتوقف تسرية العتق إلى نصيب الشريكين على بذْل العوض -في قولٍ- أو على إمكان بذله.
المرتبة الثانية - في إعتاق الراهن. وظاهر المذهب إجراء القولين في تنفيذ عتقه، أو ردّه، من غير فصل بين أن يكون موسراً أو معسراً. والفرق بين هذه المرتبة وبين الأولى أن ملك الراهن ثابت في جميع المرهون، وثبوته أقوى من ثبوت حق الوثيقة؛

(12/198)


فلم يكن للنظر إلى الإعسار واليسار معنى، و [علّة] (1) نفوذ العتق صدوره من أهله في محل ملكه.
ومن خرّج قولاً في الفصل بين الموسر والمعسر؛ فوجهه مراعاة حق المرتهن، وهو مختارٌ في إعتاقه.
والمرتبة الثالثة: استيلاد الأب جارية ابنه، وهذه المرتبة بعيدة عن اعتبار اليسار والإعسار فيها؛ لأن المتبع حرمةُ الأبوة؛ فلا سبيل إلى إسقاطها في المعسر. فإن [عورضنا] (2) بأن الراهن المعسر مالكٌ أيضاًً، قلنا: لا يمتنع الحجر على المالك، [وأين] (3) يقع تنفيذ تصرف المحجور عليه من حرمة الأبوة؟
فهذا بيان هذه المنازل.
وقد رأيت لصاحب التقريب [القول الثالث في الفرق بين الموسر والمعسر في إعتاق الراهن، ورأيتُ هذا القول لغيره في الرهن، فأما الفصل بين الموسر والمعسر في ثبوت الاستيلاد في جارية الابن، فلم أره لصاحب التقريب] (4) مع اعتنائي بالبحث عن كتابه، ولم ينقل أصحابنا هذا القول إلا عنه. فهو قول مُخيل تعليلاً ونقلاً.
ويتفرع عليه أمر لا بد من إلزامه، وهو: أن الأب إذا كان موسراً؛ وجب أن تخرّج الأقوال الثلاثة في تعجيل الاستيلاد، أو تأخير الحكم به إلى بذل القيمة، أو الوقف، كما سنذكره -إن شاء الله عز وجل- في تسرية العتق من نصيب إلى نصيب.
ويجب أن يقال: إذا كان الأب مُعسراً حالة العلوق، ثم أيسر من بعدُ، لم يؤثّر طريان اليسار، وتكون الجارية فيه تباع (5)، وإن كان الأب يبذل قيمتها بيساره الطارىء. كل ذلك لا بد منه إذا فرّعنا على الفرق بين الموسر والمعسر. وهذا منتهى الكلام في هذا القول، فلا عود إليه.
__________
(1) في الأصل: وعليه، و (ت 3): وعامة.
(2) في النسختين: عورضا.
(3) في النسختين: وأن.
(4) ما بين المعقفين زيادة من: (ت 3).
(5) تباع: أي يجوز للابن بيعها، ذلك أن يده محتوية عليها.

(12/199)


وكذلك؛ إن قلنا: لا يثبت الاستيلاد أصلاً، على ما اختاره المزني؛ فالجارية رقيقة، والولد حرّ نسيب، وسنتكلم في قيمته، إن شاء الله تعالى، والمهر واجب، والحد منتف.
وإن فرعنا على ظاهر المذهب، وهو: أن الاستيلاد يثبت؛ فيلزم الأبَ المهرُ وقيمةُ الجارية. والولد يعلق حراً، كما تقدم.
7998 - والقول الآن في قيمة الولد، فنقول: إن فرّعنا على أن الاستيلاد لا يثبت؛ فتجب قيمة الولد وقت انفصاله بتقديره رقيقاً، ثم إنما يجب ذلك إذا انفصل حيّاً، وسيأتي شرح ذلك في باب [الغرر] (1)، إن شاء الله عز وجل.
7999 - ولو ملك الأب هذه الجارية يوماً من الدهر، فهل تصير أم ولد له؟ فعلى قولين مشهورين، سيأتي ذكرهما في أمهات الأولاد، إن شاء الله تعالى، وهما جاريان فيما لو وطىء جارية أجنبي بشبهة، وعلقت منه بمولود، وحكمنا بحرية الولد، ونفينا الاستيلاد في الحال؛ فلو ملكها الواطىء يوماً؛ فهل تصير أم ولد؟ فعلى القولين.
8000 - وإن حكمنا بأن الجارية تصير أم ولد للأب؛ فهل يلتزم قيمة الولد مع قيمة الأم؛ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يلتزمها، كما يلتزمها الواطىء بالشبهة.
والثاني - لا يلتزمها؛ فإنه التزم قيمة الجارية والولد جزء منها؛ فاندرج الجزء تحت الكل، وليس كالمهر؛ فإنه يجب على مقابلة إتلاف المنفعة؛ وليست المنفعة جزءاً من الجارية، ولا ينقدح توجيه الوجهين، والوجهُ بناؤهما على أن الملك متى ينتقل إلى الأب في الجارية؟ وقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: ينتقل الملك إليه مع العلوق، لا يتقدم عليه، ومقتضى هذا إيجاب القيمة للولد؛ فإن العلوق يحصل مع النقل، وليس يتعلق أحدهما بالثاني.
ومن أصحابنا من قال: الملك ينتقل في الجارية قبيل العلوق؛ فعلى هذا لا يلتزم الأب قيمة الولد. وهذا الوجه معلوم؛ ومسلكه من طريق التعليل اللائق بهذا الفن
__________
(1) في النسختين: الغزو.

(12/200)


مفهوم وكأنا نبغي في تعظيم [حرمة الأب] (1) أن نقدِّم مسقط مائه ونطفته ملكاً له.
وهذا ليس بعيداً إذا أُثبت أصل الاستيلاد؛ فإن الإشكال في الأصل، وما ذكرناه بعد ثبوت الأصل قريب محتمل.
وأما المصير إلى أن العلوق ونقل الملك يحصلان معاً، فهذا متجه حسن، ولكنه لا يثمر (2) إيجاب قيمة الولد؛ فإن نقل الملك إذا قارن العلوق؛ فقد صادف العلوقُ الملكَ؛ فلا أثر لتقدم الملك بلحظة، فكيف يستفاد من هذا إيجاب قيمة الولد [وقد تحصلت بعد هذا البحث على مسلكين، أوقعهما وأفقههما أن نبني لزوم قيمة الولد] (3) على ثبوت الاستيلاد ونفيه؛ فإن أثبتنا الاستيلاد، لم نوجب قيمة الولد.
وذكرنا للأصحاب خلافاً في أن الملك متى ينتقل في الجارية؟ يجوز أن يقال: يتقدم بلحظة على العلوق، ليُشْرِف ورود الماء على ملك [عتيد] (4).
ويجوز أن يقال: يحصل العلوق والنقل معاً، وهذا هو الصحيح، والتقدير الأول ليس بمتين (5). ولو تناهيت في تقريره، وقعت في مذهب أبي حنيفة (6)، فإنه قال: ينقل الملك مع أول الوطء أو قُبيله. وهذا التردد على حال قريبٌ بعد ألا تُتلقى منه قيمة الولد وجوباً ونفياً، وإنما تُتلقى قيمة الولد من إثبات الاستيلاد [ونفيه] (7) كما ذكرناه هذا مسلك، وهو الذي لا معدل عنه.
والمسلك الثاني - أن من أصحابنا من قال: يحصل نقل الملك مع العلوق؛ فعلى هذا تجب قيمة الولد وقيمة الجارية. وهذا البناء متجه، ولكن نقل الملك بعد العلوق ليس بشيء؛ فإن المعلول لا يستأخر عن العلة إذا صادفت العلة محلها.
فإن قيل: إذا ملك الرجل من يعتق عليه، أليس يحصل الملك ثم يترتب العتق
__________
(1) زيادة من المحقق. والحمد لله صدقتنا (صفوة المذهب).
(2) ت 3: لا يتم.
(3) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(4) في الأصل: ملك الغير.
(5) بمتين: أي قوي، يقال: رأي متين: أي قوي محكم (معجم).
(6) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 382، 383.
(7) زيادة من ت 3.

(12/201)


عليه؟ والقرابة كانت مقترنة بالملك في الحالة الأولى، ثم تأخر أثرها إلى الحالة الثانية.
وفي هذا تخبّط شيخنا أبو إسحاق المروزي، حيث قال: يحصل العتق والملك في الحالة الأولى، فزعم أن جمع النقيضين في الحكم غير ممتنع، وإنما يمتنع اجتماع النقيضين حسّاً، وهذا من عثرات ذلك الشيخ.
والجواب عندنا أن العتق مشروط بحصول الملك، ومن ضرورة حصوله أن يفرض تقدّمه بلحظة واستعقابه العتقَ، وليس من الممكن أن يُقدّر إلا كذلك، ولا استحالة في الجمع بين حصول الملك في الجارية ووقوع العلوق حسّاً.
فليفهم الطالب أمثال ذلك، وليتثبت في زَلَق الأقدام.
فإذا تحقق ما ذكرناه، انتظم منه أن الذي يجب القطع به: حصول النقل والعلوق معاً، وتقديم الملك وتأخيره لا أصل له، على أن تقديمه يليق بحكم الفقه، وتأخيره لا وجه له، ثم كيف قُدر الأمر؛ فالوجه: بناء قيمة الولد على الاستيلاد، كما قد ذكرنا.
وقد أكرر معنى في فصل مراراً، ولا أبغي التطويل، ولكني أروم تنبيه الناظر، وقد يتخطى الفكر معنى ولا يفهمه، فإذا كُرّر عليه، ثبت فيه، والله المستعان.
8001 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك، أنا لو فرضنا نزول الماء مع تغييب الحشفة، فهذا تصوير العلوق مقترناً بموجب المهر، وقد ذكرنا أن الصحيح أن الملك ينتقل مع العلوق؛ هذا لم يتعرض له الأصحاب، بل أطلقوا القول بوجوب المهر، ولم يتعرضوا لهذا التفصيل.
والأظهر عندي: أنهم بنَوْا الأمر على الاعتياد، والغالب أن الإنزال يحصل بعد وجوب المهر، ولو صوّر الأئمة ما ذكرناه، لنزّلوا المهر منزلة (1) قيمة الولد، هذا ما نراه، والله أعلم.
__________
(1) ساقطة من (ت 3).

(12/202)


8002 - ومما يليق بهذا المنتهى؛ أنا إذا لم نثبت الاستيلاد، وحكمنا بأن الجارية رقيقة؛ فهي حامل بولد حر، والصحيح أن بيع الجارية الحامل بالولد الحر غير صحيح، فلو قال الابن: قد حِلتَ بيني وبين التصرف في الجارية، فاغرم لي قيمتها؛ فهل له أن يغرّمه؟ فعلى وجهين. وهذا لا يختص بالأب والابن، بل لو وطىء رجل جارية أجنبي بشبهة، وعلقت منه بمولود؛ فهل لمالك الجارية أن يغرّمه القيمة؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين.
توجيههما: من قال: تجب القيمة، احتج بما ذكرناه من الحيلولة، ومن قال: لا تجب، احتج بأن يد المالك مستمرة على الجارية، وهو يتمكن من الانتفاع بها، فلا تتحقق الحيلولة باستئخار البيع في أيام.
8003 - وكل ما ذكرناه كلام في قسم واحد، وهو إذا وطىء الأب جارية الابن، ولم تكن الجارية موطوءة الابن (1 أما إذا وطئها وهي موطوءة الابن 1)، فلا شك أنها محرمة على التأبيد على الأب، فأول ما نذكره أنه هل يلزم الأبَ الحدُّ أم لا؟
المنصوص عليه في الجديد: أنه لا يلتزم الحد لحرمة الأبوة.
والقول الثاني - نص عليه في القديم: أن الحد يجب، وهذا القول يجري (2) في كل وطء محرم لا اشتباه في تحريمه، ولا لبس على الواطىء. حتى لو وطىء جاريته المملوكة وهي أخته، فالحد في هذا يجب ولا يدرؤه الملك القائم، وكذلك إذا كانت مملوكة محرمة برضاع أو مصاهرة، وكذلك لو كانت مزوّجة. ومحل هذا القول وطء محرم لم يختلف العلماء في تحريمه، ولم يلتبس تحريمه على الواطىء، وكان شيخي لا يطرد هذا القول في وطء الحائض، ويقول: المحرّم من وطئها ملابسة الأذى، كما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222]، ويجب على قياس القول القديم إيجاب الحد على أحد الشريكين إذا وطىء الجارية المشتركة، لما ذكرناه.
فإذا تمهد هذا؛ رجعنا إلى غرضنا من الفصل.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 3).
(2) ت 3: مجرىً.

(12/203)


8004 - فإذا وطىء الأب جارية الابن، وكانت موطوءة الابن، فإن فرعنا على الجديد، فلا حد، والقول في وجوب المهر، وثبوت حرية الولد إن ثبت العلوق، وفي الاستيلاد، كما تقدم في الجارية التي ليست موطوءة الابن.
ولكن إذا لم تكن موطوءة الابن، وثبت الاستيلاد على ظاهر المذهب؛ فتصير الجارية مستحلّة للأب، وإذا كانت موطوءة الابن، فهي محرمة على الأب على التأبيد، وإن حكمنا بثبوت الاستيلاد، فإن التحريم المؤبد لا يزول بشيء.
وإن فرّعنا على القديم، وجب الحد على الأب، كما لو وطىء أخته المملوكة.
وهاهنا موقف على الناظر؛ وذلك أنا [إن] (1) طردنا القول القديم في وطء السيد جاريته المزوّجة وإن لم تكن محرمة على التأبيد؛ فيترتب على الأب أن جارية الابن وإن لم تكن موطوءة الابن، فهي محرمة على الأب قطعاً بشبهة، ويجب أن يخرّج في وطء الأب جارية الابن قولٌ في وجوب الحد عليه وإن لم تكن موطوءة الابن، وإنما لم نذكره فيما تقدم؛ حتى يجري المذهب على ترتيبه، ثم [نُلحق] (2) به ما ينبغي أن نُلحق به، ولا شك في خروج هذا القول، وإن ذكره المرتبون في الجارية الموطوءة.
فأما القول في المهر، مع المصير إلى إيجاب الحد، فقد قال الأئمة: هذا بمثابة وطء الغاصب الجارية المغصوبة، فإن كانت مستكرهة، وجب المهر، وإن كانت مطاوعة، ففي وجوب المهر وجهان، وهذا التفريع مستقيم هاهنا، لا حيد فيه.
8005 - وإذا أفضى الوطء إلى الإعلاق، فهذا سرّ هذا الفصل ولُبابه، فالذي ذهب إليه المحققون: أن الوطء الموجب للحد زناً لا حرمة له، وإذا أنزل الواطىء، فلا حرمة لمائه؛ فيترتب عليه انتفاء النسب، ثم الولد لا حرمة له، ولا حرمة لماء الزاني، ومن طرد هذه الطريقة على حقها، لزمه أن يقول: إذا وطىء الرجل جاريته المملوكة، وكانت محرمة عليه بنسب، أو رضاع، أو صهر، وعلقت منه بمولود؛ فلا تصير أم ولدٍ له؛ من قِبل أن الماء لا يُنسب إلى الزاني، وهو كالمفقود في حقه،
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: نلتحق.

(12/204)


وإنما تثبت أمية الولد إذا ثبت نسب الولد؛ فإن أم ولد الإنسان منسوبة إلى ولده المنسوب إليه، فإذا لم يُثبت الشرع له ولداً، فكيف تثبت أمية الولد؟ وهذا مسلك لا ينساغ اعتقاد خلافه.
وارتاع بعض الأصحاب من ذلك، وعظم عنده أن يطأ (1) الرجل مملوكته، وتحبل منه، ولا تصير أم ولد! فقال: إن أوجبنا الحد، [فلنثبت] (2) النسب، ثم إذا ثبت النسب ترتب عليه أمية الولد، ثم طرد بعض المصنفين ثبوت الاستيلاد مع وجوب الحد في الأب إذا وطىء جارية ابنه الموطوءة.
ومن نفى الاستيلاد؛ فإنه يلقى في جريانه مسلكاً وعراً، وتلقاه مسألة لا يجترىء على طرد نفي الاستيلاد فيها إلا جسور، وهي: أن الجارية المشتركة إذا أحبلها أحد الشريكين؛ فقد أطلق الأئمة أقوالهم بأن الاستيلاد يثبت في حصته، وتردَّدوا في إثباته في حصة الشريك عاجلاً، ولم يختلفوا في أنه يسري إلى حصة الشريك، وإنما ترددهم في وقت النفوذ والسريان.
وقد ذكرنا أن الحد يجب في القديم على من يطأ الجارية المشتركة بينه وبين شريكه، ونحن بعون الله وتوفيقه نذكر تحقيق القول في ذلك.
8006 - فأما الجارية المشتركة؛ فيجوز أن يقال فيها: الوطء يصادف ملك الواطىء وملك شريكه، وينزل عليهما جميعاً، فلا يتمحض تحريمه، ولكن لا يتأتى تبعيضه، فنطلق تحريمه على معنى النهي عن الإقدام عليه؛ من جهة أن من ضرورة الاستمتاع [بملك] (3) الواطىء مصادفته ملك غيره، فكان ذلك مشبَّهاً بطعام جاورته نجاسة أو سم، فالطعام ليس محرماً، ولكن لا يجوز الإقدام على تناوله؛ من جهة أنه لا يتأتى تعاطي شيء منه إلا مع جزء مما هو محرم، وقد ينفصل وطء المشتركة عن هذا، بأن الطعام والسم متجاوران، ولنا أن نقول: من أكله فقد أكل حلالاً وحراماً، ولا يتأتى مثل ذلك في الملك الشائع.
__________
(1) ت 3: يطالب.
(2) في النسختين: فانثبت.
(3) في النسختين: ملك.

(12/205)


فيخرج بعد هذا التنبيه أنا لو لم نُجر القول القديم في الحد في الجارية المشتركة، لكان متجهاً؛ فإذا لم يجب الحد، اتّسق وانتظم ثبوت [التسبّب] (1) إلى المنع من المحرم المحض، ويكون هذا بمثابة إتيان مالك الغلام مملوكَه، فالحد يجب؛ فلا أثر للملك. وكذلك لو شرب الرجل الخمر التي لا تراق -وهي خمر الخلّ- حُدّ. وإن كان له حق الاختصاص بها؛ فعلى هذا يتميز الحد في حكمه ومجراه عن قياس النسب والاستيلاد.
فينتظم مما ذكرناه أن الوجه القطعُ بثبوت الاستيلاد في الجارية المشتركة، ثم يخرّج هذا على تقديرين: أحدهما - نفي الحد، وإن فرّعنا على القديم.
والثاني - تمييز مسلك الحدّ عن مسلك الاستيلاد، ومهما (2) حكمنا بالاستيلاد في البعض أو الكل، فمن ضرورته الحكم بالنسب. هذا ما لا بد منه.
وأما إحبال الرجل أختَه المملوكة؛ فقول الحد فيها منصوص، لا يمكن إنكاره، فلا تردد في الحد على القديم، ويبقى التردد في الاستيلاد، وثبوت النسب. وهذه الصورة قابلة للاحتمال، بخلاف الجارية المشتركة؛ فإن الأخوة قائمة لازمة لا تحول ولا تزول؛ فلا يمكن تقدير انفصالها عن الملك، ولكن قد يتجه إثبات النسب وأمية الولد بسبب الملك، مع إثبات الحد وصرفه إلى التحريم المطلق، كما ذكرناه في إتيان الغلام المملوك وتعاطي الخمرة المحرّمة.
فأما وطء الأب جارية الابن - إذا أوجبنا عليه الحد، فالظاهر: أنه لا يثبت الاستيلاد؛ فإنه ليس بين الأب والابن إلا حرمة قائمة، فإذا أوجبنا الحد، زالت، ثم لا نجد أصلاً نحيل عليه أمية الولد.
8007 - فانتظم مما ذكرناه ثلانة منازل: المنزلة الأولى - في الجارية المشتركة، والقطع فيها بثبوت الاستيلاد، ووجوب الحد على قياس القول القديم متردد، كما نبهت عليه.
__________
(1) في الأصل: النسب، والمثبت من (ت 3).
(2) "مهما" بمعنى (إذا).

(12/206)


والمنزلة الثانية - في وطء الأخت المملوكة: أما الحد، فمنصوص عليه، وفي الاستيلاد تردد لمكان الملك.
والمنزلة الثالثة - في وطء الأب جارية الابن إذا كانت موطوءة الابن: أما الحدّ، فيثبت، والأصح أنه لا يثبت النسب ولا الاستيلاد إذا أثبتنا الحد. وهذا ما ذكره الصيدلاني.
ومن أصحابنا من أثبت النسب والاستيلاد وإليه أشار بعض المصنفين، ثم إن لم نثبت الاستيلاد؛ فالمهر يفصّل أمره ويفرق بين أن تكون الجارية مستكرهة أو مطاوعة، كما تقدم.
وإن قلنا: يثبت الاستيلاد مع وجوب الحد؛ ففي المهر طريقان: منهم من قطع بإيجابه كالاستيلاد، ومنهم من فصل بين أن تكون الجارية مستكرهة أو مطاوعة، فإن الوطء ساقط الحرمة. ولسقوطها وجب الحد بها، والاستيلاد وراء الوطء.
وهذا منتهى تحقيق الفصل.
فصل
يشتمل على القول في الإعفاف وتزوّج الأب بجارية الابن
8008 - فعلى الابن الموسر أن يُعف أباه المحتاج. هذا هو المذهب (1).
وقال أبو حنيفة (2): لا يجب على الابن إعفاف أبيه، ولا خلاف أنه لا يجب على الأب إعفاف ابنه، واختار المزني نفيَ وجوب الإعفاف، وذكر ابن خَيْران قولاً في المسألة، مثلَ مذهب المزني، فأجرى العراقيون والمراوزة ما ذكره قولاً؛ من جهة أنه لا يستدّ في إيجاب الإعفاف خبرٌ، ولا مسلكٌ من القياس، وغاية الإمكان فيه التعلق بثبوت الاستيلاد. هذا هو المذهب.
ولا ينفصل جانب الابن عن جانب الأب في ثبوت الاستيلاد ونفيه إلا بالفرق
__________
(1) هو المذهب كما قال، وقد عبر عنه النووي بالمشهور. (ر. الروضة: 7/ 214).
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 383.

(12/207)


بينهما بوجوب الإعفاف على أحدهما ونفيه عن الثاني.
وهذا لا ينفع مع المزني مع مصيره إلى أن جارية الابن لا تصير مستولدة الأب.
ثم إذا فرّعنا على ظاهر المذهب، فلا شك أن الأب المستغني بثروته لا يستحق على ابنه أن يعفه، وإنما يستحق ذلك على الابن الأبُ المحتاج. ثم سيأتي في النفقات -إن شاء الله تعالى- أن الأب الفقير يستحق النفقة على ابنه الموسر، إذا كان زمِناً غير كسوب مع فقره، فإن لم يكن زَمِناً، وكان يتأتى منه أن يكتسب ما يقوته؛ ففي وجوب النفقة قولان، سيأتي أصلهما وفرعهما، إن شاء الله تعالى.
8009 - ثم اختلف أصحابنا في المسألة على طرق: فمنهم من قال: الإعفاف يتبع النفقة ثبوتاً وانتفاء، وفاقاً وخلافاً، فمهما استحق الأبُ الإنفاق على ابنه، لم يبعد أن يستحق عليه أن يُعفه، وإذا لم يكن [بحيث يستحق] (1) النفقة، فلا يستحق الإعفاف.
فمن أصحابنا من قال: إن وجبت النفقة، وجب الإعفاف، وإن لم تجب النفقة -على أحد القولين- بسبب كون الأب قويّاً سويّاً؛ فهل يجب إعفافه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يجب.
والثاني - يجب؛ فإن الإعفاف في غالب الحال يليق بحال السويّ، والحاجة في هذا الفن تطابق حالة قوة من المحتاج.
وذكر الشيخ أبو علي طريقة ثالثة على العكس من ذلك، فقال: إذا أوجبنا النفقة قولاً واحداً، فلا يبعد أن نوجب الإعفاف، وإن جعلنا المسألة على قولين - في وجوب النفقة في بعض الصور، رتبنا الإعفاف عليه، وقلنا: إن لم نوجب النفقة، لم نوجب الإعفاف، وإن أوجبنا النفقة، ففي وجوب الإعفاف وجهان؛ فإن الحاجة في النفقة تُفضي إلى الضرورة، والحاجة في الإعفاف لا تُفضي إلى حكم الضرورة؛ ولهذا يجب على الإمام أن ينفق على المحتاجين إذا لم يكن لهم من يختص بهم وينفق عليهم، ولا يجب على الإمام أن يُعف من بيت المال أحداً؛ فدل ذلك على أن الأمر في الإعفاف دون وجوب الإنفاق.
__________
(1) في النسختين: بحيث لم يستحق.

(12/208)


فهذا ما ذكره الشيخ أبو علي (1)، ولا يحصل بما ذكرناه بيان؛ فإنا نقول: النفقة وإن كانت واجبة، فإذا كان الأب لا يحتاج إلى الإعفاف أصلاً، فلا يجب الإعفاف، فلا بد إذن مع وجوب النفقة [من] (2) اعتبار الحاجة.
8010 - ثم لم أر له في ذلك ضبطاً، فينقدح أن نقول: يعتبر فيه خوف العنت، وسأصف ذلك -إن شاء الله عز وجل- بما يضم نشره ويقرّبه من الضبط، والإحالة هاهنا كافية. ويجوز أن يقال: لا يشترط خوف العنت، وهذا ما يدل عليه ظاهر كلام الأصحاب.
ثم أشاروا إلى مسلكين: أحدهما - أن الحاجة الحاقة وإن كان لا ينضم إليها [ظن الوقوع] (3) في السفاح، وشرط هذه الحاجة أن يتضرّر صاحبها بالتعزّب، ولا تعويل على الشهوة المحضة؛ فمعظم من يشتهي الوقاع يضره الاستمتاع، ثم هذه الحاجة لا تتميز عن حاجة صاحب العنت، إلا أن خوف العنت يفرض فيمن لا تكمل مُنّته في التقْوَى، وما ذكرناه في التردد يرجع إلى هذا وجوداً وعدماً.
وذكر معظم الأصحاب أنا لا نعتبر الحاجة، ولكنا نُتبع وجوبَ الإعفاف وجوبَ النفقة؛ فمهما طلب الأب المستحقُ النفقةَ الإعفافَ، لزم إسعافه وإعفافه، وظاهر هذا الكلام لا يكشف الحق، فلا يجوز للأب أن يطلب الإعفاف وهو لا يحتاج إليه، هذا (4) لا يسوغ أصلاً، ولكن التردد في معنى الحاجة، كما تقدم. ثم يجب تصديق الأب فيه؛ فإنه لا يُعرف تحقق الحاجة إلا من جهته، ولا يليق بمنصبه أن يُحلّف؛ فرجع حاصل الكلام إلى التردد في خوف العنت، والقطع بتصديق الأب، إذا أخبر عن نفسه.
ثم إن كان الأب لا يحتاج إلى النفقة، وكان معه بلاغ على قدر النفقة من غير فضل، وكان يحتاج إلى الإعفاف؛ ففي كلام الأصحاب تردد ظاهر في ذلك.
__________
(1) ذكر النووي هذه الطرق، ولم يرجح أيّاً منها ولا من وجوهها (ر. الروضة: 7/ 214).
(2) في الأصل: مع.
(3) في النسختين: ظنٌّ في الوقوع.
(4) ت 3: وهذا.

(12/209)


قال قائلون: لا يستحق الإعفاف إذا كان لا يستحق النفقة، والقياس عندنا أنه يستحق الإعفاف إذا احتاج إليه، وكانت يده لا تصل إلى ما يكفيه في ذلك؛ فإن المتبع هو الحاجة، وليس هذا كالفِطرة؛ فإن النفقة إذا سقطت، سقطت الفطرة، وإن كان لا يفضل من قوت القريب ما يخرجه فطرةً؛ والسبب فيه أن وجوب الفطرة لم يُنَط بحاجةٍ [واقعةٍ] (1) في الجبلّة، والإعفاف منوط (2) بحاجة، فإذا وقعت؛ فلا أثر لسقوط النفقة ووجوبها، ولو سقط وجوب النفقة أياماً، لاستغنى الأب عنه لسقوط شهوته، وكان يحتاج إلى الإعفاف، فلا يجوز أن يكون هاهنا في وجوب الإعفاف خلاف.
وقد اشتمل ما ذكرناه على أصل إيجاب الإعفاف، وعلى من يستحق ذلك، وعلى من يستحق عليه، وعلى الحالات المرعية في ذلك.
8011 - واتفق أصحابنا على أن الجد -أبا الأب- يستحق من الإعفاف ما يستحقه الأب، وكذلك الجد أب الأم، وليس ذلك كتردد الأصحاب في أن الرجوع في الهبة هل يختص بأبِ الدِّنية؟ وذلك أن الرجوع في الهبة لا يجري فيه معنىً أصلاً، وإنما ورد الرجوع في الخبر في حق الأب؛ فأما الإعفاف؛ فتَدْاورُه على المعنى وسد الحاجة، فهو يجري مجرى النفقة في جهتها.
ولو اجتمع أب وجد، وكان ذاتُ يد الابن لا تفي إلا بإعفاف أحدهما، فالأب مقدم.
ولو كان في المسألة أب أب، وأب أم؛ فقد قطع العراقيون ومعظم المراوزة بتقديم أب الأب؛ فإنه مع أب الأم مستويان في القرب، وأب الأب يختص بمزيد القوة في جهة قرابته.
وذكر الشيخ أبو علي في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكره الأصحاب.
والثاني - أنهم سواء، نظراً إلى القرب المحض، وهذا بعيد، لم أره إلا له.
__________
(1) في النسختين: واقفة.
(2) في النسختين: منوطة.

(12/210)


نعم، قال العراقيون: إذا اجتمع أب أب الأب، وأب أم؛ ففي أحدهما قوة وبُعد، وفي الثاني ضعف وقرب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القرب أولى.
والثاني - أن القرب ومزيد القوة يعتدلان، ومقتضى ذلك الاستواء؛ وكان ينقدح تقديم الأقوى، كما أنا في قول - نقدّم ابن الأخ (1) في عصوبة الولاء على الجد. من جهة اعتقادنا أن الإدلاء بطريق البنوة أقوى في استفادة العصوبة.
ثم حيث نحكم بالاستواء، فمؤنة الإعفاف لا يمكن قسمتها على الرجلين؛ فإنا لو فعلنا ذلك، لم ينتفع واحد منهما بما يخصه، ولم يتبلغ به إلى غرضه في الإعفاف؛ فلا وجه إلا تخصيص أحدهما.
وما طريق التخصيص، وهما مستويان؟
بعض أصحابنا أشار إلى القرعة، وذكر الشيخ أبو علي أن القاضي يجتهد، فيقدم من يرى منهما، والوجه فيه: أنهما إذا ادعيا الحاجة، فمن رأى ردَّ الأمر إلى الحاكم، قال: الحاكم ينظر في صفاتهما، وما يغلب على الظن من ظهور الحاجة من أحدهما، ثم يُقدم على هذا الوجه من يراه أولى. ولا شك أن الحاكم لا يحكم، فإن استوى الأمران عنده، فلا يتجه حينئذ -مع التنافس والظن الغالب في الاستواء- إلا القرعة.
وحاصل المذهب في هذا الطرف خلافٌ في أن القرعة هي المحكّمة إذا استويا في دعوى الحاجة، أم نظر السلطان؟ فإن حكّمنا القرعة، لم نرفع الأمر إلى السلطان، (2 وإن لم نُحكّم القرعة، رفعنا الأمر إلى السلطان 2)، فإن اجتهد، اتبعنا اجتهاده، وإن استويا في ظنه، فلا رجوع إلا إلى القرعة. وهذا بمثابة ما لو ازدحم رجلان إلى فوّهة معدن، وكان يعسر قسمة الحاصل فيه، وليس أحدهما بأن يخصص به أولى من الثاني، والحاجة ماسة في الحال، فقد نقول: يقرع بينهما، كما مضى.
8012 - ثم يجب على الابن أن يعف أباه بما حصل به الغرض، فلو زوّجه عجوزاً
__________
(1) ت 3: نقدم الأخ. وهما صحيحتان معاً، (راجع ما سلف في ترتيب الأولياء).
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 3).

(12/211)


لا تشتهى، أو امرأة [شوهاء] (1) فلا يسقط الفرض بذلك، كما إذا جاء في النفقات بطعام فاسد لا ينساغ ولا يسد مسداً، والرجوع في ذلك إلى ما يعدّ في [العرف] (2) سِداداً وكفاء.
ثم الابن لو أراد أن يشتري لأبيه جارية حتى يتسراها؛ جاز، ويسقط بذلك فرض الإعفاف، ولو زوّج منه حرة كتابية، فيها مستمتع، جاز.
ولو أراد أن يزوّج منه أمة، فهل يجوز ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يجوز؛ فإن الأب مستغنٍ بمال ابنه في باب الإعفاف. فإذا كان نكاح الحرة ممكناً من مال ابنه، وجب ألا يجوز للأب نكاح الأمة، كما لو كان في ملكه طَوْل حرة؛ فإنه لا ينكح الأمة، ومالُه بمثابة مال ابنه في هذا الأصل.
ومن أصحابنا من قال: للأب أن ينكح أمة من مال ابنه، وللابن أن يكتفي بهذا القدر في حق أبيه. ووجه ذلك: أن هذا النكاح موقوف على الحاجة، فينبغي ألا يجب على الابن إلا أقل ما يسد به الحاجة، على ما سيأتي ذلك مشروحاً بعد ذلك، إن شاء الله عز وجل.
8013 - ولو كان الأب مطلاقاً؛ فإذا تكرر ذلك منه مراراً، بحيث يُعدّ مطلاقاً عرفاً؛ فنقول في ذلك: إن أعف أباه بزوجة في ذلك، فماتت، فالذي ذهب إليه المراوزة أنه يجب على الابن أن يعفّه مرة أخرى.
وذكر العراقيون هذا ووجها آخر معه، وهو: أنه لا يجب الإعفاف إلا مرة واحدة في العمر، فإن اتفق موت الزوجة، لم نَعُدْ إلى إلزام الابن إعفافاً مرة أخرى؛ فإن ذلك وظيفة العمر وطريحته، وهو مما لا يتكرر مراراً.
ولم يفرقوا في ذكر هذا الوجه بين أن يتفق إلمام الأب بها وبين ألا يتفق.
وهذا الوجه لا أصل له؛ من قِبل أن وجوب الإعفاف يستند إلى اعتبار حاجة
__________
(1) في النسختين: بنوها. والمثبت تقدير من المحقق.
(2) في النسختين: القرب.

(12/212)


الأب. فإذا ماتت الزوجة [وقامت] (1)، فيتعين على الابن كفايتها (2).
ولو سلّم النفقة إلى من يجب عليه الإنفاق عليه، فتلف ذلك الطعام في يده، فعلى المنفق أن يبذل ما فيه الكفاية مرة أخرى، فبان أن الذي عليه التعويل؛ تكرير إيجاب الإعفاف إذا ماتت الزوجة، ثم لا موقف ينتهي إليه، ويقف كلامنا عليه، حتى لو فرض الإعفاف مراراً وكان الغرض يفوت؛ فيتجدد الأمر بتكرير الإعفاف إذا دامت الحاجة إليه.
8014 - ولو طلّق الزوج زوجته؛ فهل يجب على ابنه أن يُعفّه بأخرى؟ فإن قلنا: لا يتكرر الإعفاف إذا ماتت الزوجة، فلا شك أنه لا يتكرر إذا بانت بالطلاق.
وإن قلنا: يتكرر الإعفاف [إذا] (3) انتهى النكاح بموت الزوجة؛ ففي الطلاق وجهان: أحدهما - أنه يجب، تعلّقاً بالحاجة.
والثاني - لا يجب؛ فإن الأب قصد قطع النكاح.
وقال علماؤنا: لو فسخ الأب النكاح، بمعنىً يوجب الفسخ؛ فهذا بمثابة ما لو ماتت الزوجة، ولو طلّق لغرضٍ صحيح، مثل أن يبدو له منها ما يريبه، ففي هذا ترددٌ: منهم من ألحقه بالفسخ بما يوجبه، ومنهم من خرّج هذا على الخلاف.
ثم لم يختلف أصحابنا في الطرق أن الطلاق إذا تكرر منه، بحيث انتسب عرفاً إلى كونه مَلولاً مِطلاقاً، فلا يلتزم الإبدال.
وهذا ليس خالياً عن احتمال، تخريجاً على ما لو سلّم النفقة إليه، فأتلفها، ثم كرّر التسليم مرة أخرى؛ فإنا قد نقول: يجب تكرير الإنفاق، على ما سيأتي ذلك في النفقات، إن شاء الله تعالى، وهذا احتمال، والمذهب المبتوت ما قدمناه.
__________
(1) مكان بياضٍ بالأصل. ثم إن الضمير في قوله: "وقامت" يعود على الحاجة. وبهذا المعنى جاءت (صفوة المذهب).
(2) الصحيح وجوب تكرار الإعفاف إذا ماتت الزوجة، كما قال الإمام. (ر. الروضة: 7/ 217).
(3) في النسختين: فإذا.

(12/213)


8015 - ثم ما أوجبناه على الابن، فهو مهر زوجة، إن أراد الإعفاف بهذه الجهة، ثم إنه يلتزم مؤنة النكاح في مستقبل الزمان: وله الخيار؛ إن شاء سلّم الصداق إلى الأب، حتى يتزوج، وإن شاء سلّطه على التزويج، ثم ساق الصداق بعد النكاح.
وإن أراد أن يملّكه جارية، حتى يتسرى بها، فله ذلك، وليس إلى الأب تعيين إحدى الجهتين.
ولو عيّن الأب زوجة رفيعة المهر؛ كان للابن ألا يرضى بذلك، ولا يبذل إلا مهر امرأة فيها كفاف وإعفاف، ثم إذا بان المقدار الذي يبذله؛ فلا خيار إلى الابن في تعيين زوجة، بل يتخير الأب زوجة، والمرعي فيما (1) يبذله الابن مقداراً (2) لائقاً بالاقتصاد. فهذا إتمام المراد في ذلك.
8016 - ولم يختلف علماؤنا في أنه لا يجب على الأب أن يُعفّ ابنه.
وأما إعفافُ الأم (3)، فليس يتصور؛ إذ لا مؤونة عليها ابتداء ودواماً (4)، حتى يجب على الابن بذلها.
وقد ذكرنا معنى وجوب الإعفاف.
8017 - فإذا انتجز ذلك، عدنا بعده إلى حكمٍ مقصود، مترتب على ما قدمناه، وهو: القول في أن الأب، هل يجوز له أن ينكح أمة ابنه؟ وقد اختلف طرق أصحابنا في ذلك: فذهب بعضهم إلى أنه لا يحل له نكاحها، وعلّل بأن قال: مِنْ شَرْط نكاح الأمة، العجزُ عن طَوْل الحرة، فإذا كان الابن قادراً على أن يُعفّ أباه بحرة، وجب عليه [ذلك] (5)، وإذا تعيّن الإعفاف بحرّة، لم يحلّ نكاح الأمة، وهذا خرّجه هذا
__________
(1) ت 3: فيها.
(2) كذا بالنصب، على تقدير أن يكون مقداراً لائقاً.
(3) ت 3: الإمام.
(4) ت 3: ولا دواماً.
(5) زيادة من (ت 3).

(12/214)


القائل على أحد الوجهين، في أن الإعفاف بالأمة لا يجوز من الابن القادر على الإعفاف بالحرّة.
فإن قلنا: يجوز للابن أن يُعفّ أباه بأمةٍ، أو كان يملك الابن جارية مستغرقة بخدمته، وكانت ذاتُ يده لا تتسع لطَوْل حرة، فسقط اعتبار هذا المجنى، فهل يجوز -والحالة هذه- للأب أن ينكح تلك الأمة؟ فعلى وجهين مبنيين على أن جارية الابن، هل تصير أم ولد إذا وطئها، وعلقت منه بمولود؟ فإن حكمنا بأن الاستيلاد يثبت - وهو ظاهر المذهب، لم يجز للأب أن ينكح أمة ابنه.
وإن قلنا: لا يثبت الاستيلاد، فله أن ينكح أمة ابنه.
8018 - ولو (1) كان الأب عبداً، فأراد أن يتزوج بإذن مولاه بأمةٍ لابنه الموسر أو المعسر، يصح ذلك منه على الطرق كلها؛ فإن نكاح الأمة للعبد جائزٌ، كيف فرض الأمر، وليس في هذا النكاح -إذا جوزناه- توقع الاستيلاد؛ فإن العبد لا يثبت في حقه استيلادٌ أصلاً؛ من جهة أنه لا يثبت له ملك، ومن ضرورة الحكم بالاستيلاد، انتقال الملك في الرقبة.
ولا يتفرع ثبوت الاستيلاد في مثل هذه الصورة على القول القديم -في أن العبد يملك بالتمليك؛ فإن ذلك فيه إذا ملّكه مولاه شيئاًً، فقد نقول: إنه يملكه- على ما سنوضح ذلك في شراء العبد -إن شاء الله عز وجل- على إثر هذا الفصل.
8019 - ومن أسرار هذا الفصل أن الأب إذا تزوج بجارية الأجنبي -عند جواز ذلك- ووقع الحكم بانعقاد النكاح، ثم إن الابن ملك تلك الجارية، فقد قال الأئمة في الطرق: طريان الملك للابن على زوجة أبيه لا يوجب انقطاع النكاح، وإن كنا نمنعه من ابتداء نكاح أمة الابن، وذاك أنا بنينا [منع] (2) النكاح على أحد أصلين، المنع من نكاح الأمة عند التمكن من طَوْل الحُرة، وقد وقع النكاح في أمة الأجنبي، مفروضاً
__________
(1) ت 3: وهو.
(2) في النسختين: مع.

(12/215)


على موافقة شرط الشرع، فما يطرأ في الأثناء، فلا حكم له، كما سيأتي شرح ذلك في نكاح الإماء، إن شاء الله عز وجل.
ومما اعتبرناه في نكاح أمة (1) الابن ما للأب من الحق في مال الابن، وليس هذا الحكم بإثبات حقيقة الملك للأب في جارية الابن، وإنما القاطع للنكاح طريان ملك حقيقي للزوج على زوجته، وهذا بمثابة حُكمنا بأن زوج المرأة لو كان مكاتَباً لموروثها، فمات الموروث، وورثته؛ فينقطع النكاح؛ لأنها ملكت رقبة زوجها إرثاً، فلما كان ذاك حقيقة الملك، قطع طارئُه النكاح، وليس الأمر كذلك في حق الأب إذا طرأ ملكُ ابنه على زوجته.
8020 - ثم السرّ الذي وعدناه في ذلك أن الشيخ أبا علي قال: إذا طرأ ملك الابن على ما فرضناه، وحكمنا ببقاء النكاح، فلو علقت بمولود عن الأب، في النكاح الذي حكمنا بدوامه، وذلك بعد ثبوت الملك للابن عليها - قال: لا تصير أم ولد للأب، وإن فرّعنا على أن الأب إذا استولد جارية ابنه ابتداء، أنها تصير أم ولد له، واعتل بأن قال: الوطء في النكاح ليس مما يوجب الاستيلاد، وإذا نكح الأجنبي جارية الغير وأولدها، لم نحكم بحرية الولد، والاستيلادُ تبعٌ للحكم بحرية الولد أولاً، هذا ما ذكره.
وكان شيخي يقطع بأن الأب إذا أولد زوجته بعد ما ملكها [الابن] (2)؛ تصير أم ولد له. وهذا الذي ذكره قد يظهر؛ فإنا إذا منعنا الأب من التزوج بجارية الابن، وبنينا على أنها عرضة لأمية ولده، والنكاح قد يقصد به ابتغاء الولد، وطلب النسل؛ فيؤدي تجويز النكاح إلى إفضائه بمقصوده إلى ما يتضمن دفعه؛ فهذا وجه التعويل في منع نكاح أمة الابن، بناء على مصيرها أم ولد.
ولو صح ما ذكره الشيخ أبو علي، لبطل اعتماد هذا المعنى، ولقيل: لا يثبت الاستيلاد في النكاح، ولا يمتنع بسببه على الأب نكاح أمة الابن، وكان يرجع القول
__________
(1) ت 3: الأمة للابن.
(2) في الأصل: للابن.

(12/216)


في منع نكاح جارية الابن إلى الوجهين؛ في أنه هل يجب على الابن إعفاف أبيه بحرة، أم له أن يعفه بنكاح أمة؟ وهذا التردد إنما يجري عند يسار الابن، واقتداره على أن يُعف بالحرة، فإن لم يقتدر على ذلك؛ وجب القطع بجواز إعفافه بنكاح أمة.
ثم يجب في هذه الصورة القطع بأن للأب أن ينكح أمة ابنه. هذا التفريع لا بد منه، وفي كلام الشيخ أبي علي التزام هذا. وهو بعيد عن مذهبنا - إذا فرّعنا على أن جارية الابن تصير أم ولد للأب (1) إذا حبلت منه في النكاح، فهذا كنا نعرفه مذهباً لأبي حنيفة (2)، أو لبعض أصحابه.
فإذا تمهد المراد في ذلك، وبان من مذهب شيخنا وغيره أن النكاح لا يمنع نفوذ الاستيلاد، فلو طرأ ملك الابن على زوجة الأب -فنقول (3): لو علقت منه بمولود، صارت أم ولد؛ ثم يترتب عليه انفساخ النكاح إذا وقع؛ فعلى هذا، لو قيل لنا: هلا حكمتم بانقطاع النكاح- لمصيره إلى المعنى المحذور، وهو تعرض النكاح للزوال بما هو من مقاصده، وهذا قد اعتمدناه في منع ابتداء النكاح؟ قلنا: الذي رأيناه للأصحاب: أن دوام النكاح لا ينقطع؛ فإن الملك الطارىء ليس [للزوج] (4)، ولا يبعد الفرق بين الدوام والابتداء.
وسمعت شيخي -في مسألة ميراث الزوجة وملكها رقبةَ زوجها المكاتَب- يقول -وقد أُلزم طريان ملك الابن على زوجة الأب- فقال: قد أقول بانفساخ النكاح.
وقد رأيت هذا لبعض أئمة الخلاف، ولست أعده من المذهب؛ فإني لم أره لموثوق به في نقل المذهب، ولم يذكره شيخنا في سياق المذهب، ولعل ما ذكره كان جرياناً منه على طريقة الخلافيين.
8021 - ويتصل بهذا المنتهى، القول في نكاح أمة المكاتِب. فنقول أولاً: إذا
__________
(1) في الأصل: أم ولد له.
(2) ر. طريقة الخلاف للأسمندي: 55 مسألة: 23، إيثار الإنصاف: 109، فتح القدير: 3/ 407.
(3) ت 3: فسنقول.
(4) في النسختين: للمزوج.

(12/217)


وطىء سيد المكاتَب جارية المكاتَب، وعلقت منه بمولود، فإنها تصير أم ولد للسيد - لما له فيها من حق الملك.
وعندي أن هذا أجراه الأصحاب على ظاهر المذهب في أن جارية الابن تصير مستولدة الأب، فإن قلنا: لا تصير مستولدة له، فليس يبعد أن نقول: يبقى الاستيلاد في جاربة المكاتب.
وقد رأيت للشيخ أبي علي رمزاً إلى ذلك؛ فإن جارية المكاتب ملك المكاتب، [وإن] (1) كان في ملكه بعض الضعف، وهذا ليس نقلاً، فلا أعتمده.
فإذا تبين أن الاستيلاد يثبت؛ فلو كان نكح السيد جاريةً، فملكها مكاتَبُه؛ ففي انفساخ النكاح بطريان ملك المكاتَب وجهان. سنذكرهما في الكتابة، إن شاء الله عز وجل، فلا يبعد تنزيل طريان ملك الابن على زوجة الأب هذه المنزلة، والله أعلم.
وقد انتجز الغرض في الفصل.
فصل
قال الشافعي: "قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُون} [المؤمنون: 5] ... إلى آخره" (2).
8022 - غرض الفصل: الكلامُ في تسرّي العبد. وهذا يبتني على القول في أنه هل يملك العبدُ إذا ملّكه مولاه؟ وفيه قولان، تقدم ذكرهما.
فإن قلنا: إنه لا يملك، لم يُتصور منه التسري. وإن قلنا: إنه يملك إذا ملّكه المولى؛ فنفس تمليكه إياه جارية لا يسلّطه على وطئها، كما لا يسلّطه على سائر جهات التصرفات، فإن أذن له في التسرّي، فالذي عليه الجريان، وبه قطع الأئمة: أن له أن يتسرى بإذن مولاه، وقد روي أن ابن عمر (3) كان يسرّي [عبيده] (4) جواريَه.
__________
(1) في النسختين: فإن.
(2) ر. المختصر: 3/ 275.
(3) أثر ابن عمر رواه ابن أبي شيبة: 4/ 174.
(4) في الأصل: عبده.

(12/218)


وكان شيخي يحكي عن الأستاذ أبي إسحاق أن العبد لا يتسرى، وإن أذن له مولاه؛ لضعف ملكه، وتعرضه للانتزاع [والوطء] (1) يستدعي ملكاً قوياً، واحتج على ذلك بما روي عن ابن عمر أنه قال: لا يطأ الرجل إلا وليدة، إن شاء باعها، وإن شاء وهبها، وإن شاء صنع بها ما شاء. والعبد المملّك لا يملك البيع والهبة، وقد حمل أصحابنا هذا -من قول ابن عمر- على النهي عن الوطء في زمان الخيار؛ فإنه لم يتعرض في قوله هذا للعبد، ولم يجر ذكره.
ثم إذا جوّزنا للعبد أن يتسرى بإذن المولى، فلو علقت منه بمولود؛ لم يثبت الاستيلاد؛ فإن حرية الولد غير متوقعة، والاستيلاد [يتبع] (2) حرية الولد، إذا صادف ملكاً أو حقَّ ملك؛ فولده إذن قن، والجارية عرضة الاسترداد، وإنما يثبت حق العبد على اللزوم في النكاح -إذا صح له- بإذن المولى.
8023 - ثم قال الشافعي: نكاح الزانية جائز على كراهة.
مذهبنا: أن نكاح الزانية صحيح، ولكنا نكره ذلك، ولا خفاء بوجه الكراهية.
وعن الحسن أن نكاح الزانية باطل، وقد تعلق بقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَان} [النور: 3]، وقد قيل: الآية منسوخة، وقيل: أراد بالنكاح الوطء من غير حل، وقيل: أراد (3) الزجر عن اقترابهن، وقد تجري في الزجر مبالغات. فإن كان المراد به الكراهية، فالزنا (4) لا يوجب العدة على المزنيّ بها.
والحامل من الزنا يحل نكاحها؛ فإن الحمل من الزنا لا حرمة له.
وإذا صححنا النكاح وهي حامل، فقد اشتهر خلاف الأصحاب في أنه هل يحل وطؤها في زمان الحمل؟ فذكر ابن الحداد أنه لا يحل وطؤها ما دامت حاملاً.
والأصح أنه لا يحرم، ولفظ الشافعي دال على نفي التحريم؛ فإنه قال: "وأُحب
__________
(1) في الأصل: والملك.
(2) في النسختين: تبع.
(3) ت 3: المراد.
(4) في النسختين: الزنا (بدون الفاء).

(12/219)


أن يمسك عنها حتى تضع" (1). وليس لتحريم القِربان وجهٌ أصلاً، مع الحكم بانعقاد النكاح، وقد ظهر أن ماء الزاني لا حرمة له، والكراهية: يدل [عليها] (2) ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسقِ بمائك زرع غيرك" (3). وقد حمل أصحابنا هذا على ما ذكرناه.
8024 - ثم عقد الشافعي باباً (4) في نكاح العبد وطلاقه. وذكر فيه أنه ينكح اثنتين، ويملك طلقتين، وقد تقدم النكاح، وسيأتي الطلاق، إن شاء الله تعالى، وأجرى في الباب نكاح العبد بغير إذن السيد، وقد أشبعنا القول فيه بما يغني عن الإعادة.
...
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 276.
(2) في النسختين: عليه.
(3) حديث: "لا تسق بمائك زرع غيرك" رواه أحمد: 4/ 108، 109، وأبو داود: النكاح، باب في وطء السبايا: 2/ 248 ح 2158، والترمذي: النكاح، باب ما جاء في الرجل يشتري الجارية وهي حامل: 3/ 437 ح 1131، وقال: حسن، وابن حبان: 7/ 169 ح 4830، كلهم عن رويفع بن ثابت، ورواه الحاكم: 2/ 56، 137، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال في البدر المنير: هذا حديث صحيح، وانظر (تلخيص الحبير: 3/ 464 ح 1800).
(4) ر. المختصر: 3/ 277.

(12/220)


باب ما يحل ويحرم من نكاح الحرائر ومن الإماء
قال الشافعي: "أصل ما يحرم به النساء ضربان ... إلى آخره" (1).
8025 - أسباب التحريم كثيرة، لاسيما ما لا يتأبد منها، والغرض من عقد هذا الباب ذكر المحرّمات بالنسب والرضاع والصِّهر، وتفصيل القول فيما يحرم من الجمع، وفيما يحل. وهذه القواعد مذكورة في كتاب الله تعالى؛ فإنه عز من قائل ذكر أربعَ عشرةَ من المحرّمات - سبع بالنسب، وسبع بالرضاع والصهر، وينساق تحريم ثلاثَ عشرةَ منهن في آية، وذكر واحدة من المحرمات قبلها. أما الآية الشاملة؛ فقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} [النساء: 23] فأما السبع المحرمات بالنسب؛ فقد احتوى عليها قوله تعالى: {أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُم وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْت} [النساء: 23] فهذه سبع. ثم ذكر أمهات النساء، والربائب، وحلائل الأبناء، والأمهات، والأخوات من الرضاعة، والجمع بين الأختين؛ فهذه ست جهات. وذكر حلائل الآباء في قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22].
8026 - ونحن نقول: التحريم المؤبد - المقترن بالمحرميّة يتعلق بالنسب والسبب، فأما بيان المحرمات بالنسب؛ فنتيمّن بالجريان على ترتيب القرآن.
قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُم} [النساء: 23] فالأم المحرمة: هي كل أنثى [انتسبت] (2) إليها بالولادة، بواسطة، وبغير واسطة، ولا فرق -إن كانت
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 278.
(2) في النسختين: "انتهيت" والمثبت من ابن أبي عصرون. ولعلها الأوفق، وإن كانت الأخرى صحيحة أيضاً.

(12/221)


وسائط- بين أن يكنّ إناثاً وذكوراً [أو] (1) مختلطين، ويدخل تحت ذلك: الأم الوالدة، والجدات في الجهات.
ثم قال تعالى: {وَبَنَاتُكُم} [النساء: 23]، فبنتك المحرمة: كل أنثى انتسبَتْ إليك بالولادة من غير واسطة [أو] (2) وسائط، لا فرق بين أن تكون الوسائط ذكوراً، أو إناثاً، أو مختلطين، فيدخل تحت ذلك بنات الصلب، وبنات البنين، وبنات البنات، وإن سفلن.
ثم قال تعالى: {وَأَخَوَاتُكُمْ} [النساء: 23] فكل امرأة ولدها أبواك، أو أحدهما؛ فهي داخلة تحت اسم الأخوات، وبنات الأخ وبنات الأخت محرمات، وإن سفلن، وجدّ بنات الأخ والأخت منهما كجد بناتك منك.
وكل من ولدها أجدادك وجداتك من قبل الأب فهي عمة، والعمة محرمة، ولا تحرم بناتها.
وكل امرأة ولدها أجدادك وجداتك من قبل الأم، فهي خالة، والخالة محرمة، ولا تحرم بناتها، كما لا تحرم بنات الأعمام والعمات، كذلك لا تحرم بنات الأخوال والخالات. وإن أوجزت قلت: كل امرأة بينك وبينها قرابة؛ فهي محرمة عليك، إلا أولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات.
8027 - ثم قال تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] فالرضاع محرِّم، وفيه كتاب سيأتي، إن شاء الله تعالى. وكل ما ينتظم من النسب، ينتظم من الرضاع، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" (3) فتحرم الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات، وفي ذكر شرائط الرضاع وأصوله وفصوله وجهة انتشار الحرمة فيه، كتابٌ، فلا معنى للخوض في تراجم لا تستقل.
__________
(1) في النسختين: إذ.
(2) في النسختين: ووسائط.
(3) حديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 919).

(12/222)


وقد ذكر الله تعالى الأمهات والبنات من اللواتي يحرمن بالرضاع، فألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهن غيرَهن. فقال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب".
8028 - وأما المحرمات بالمصاهرة؛ فأربعة: أم المرأة، وابنتها، وجد أمها منها [كجدة] (1) أمك منك، وكذلك جد بنتها منها [كجدة] (1) بنتك منك. ويخرج منه أن أمها - وإن علت، فإنها تحرم، وكذلك أمها من الرضاع تحرم عليك، كما تحرم عليك [جدتك] (2) من الرضاع.
وزوجة الأب محرمة، وكذلك زوجة الابن، ولا تتعدى الحرمة من زوجة الأب وزوجة الابن إلى الأمهات والبنات؛ فإن الرجل يتزوج بأم زوجة أبيه، وبنت زوجة أبيه، وكذلك يتزوج ببنت زوجة ابنه.
ثم تحرم أم الزوجة، وزوجة الابن وزوجة الأب بالنكاح الصحيح، وإن عري عن المسيس.
ويتوقف تحريم بنت الزوجة أبداً على الدخول بالزوجة. قال الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ} [النساء: 23] فقيّد تحريم الربيبة بالدخول بالأم.
وعن علي بن أبي طالب (3) أن الأم لا تحرم إلا بالدخول بالبنت (4)، كما أن البنت لا تحرم إلا بالدخول بالأم، وكأنه حمل قوله تعالى: {مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنّ} [النساء: 23] على الأمهات والربائب. وهو غير مرضي؛ فإنه لا يقال: وأمهات نسائكم من نسائكم وإنما ينافي صرف الكلام إلى شيئين إذا أمكن تقدير صرفه إلى كل واحد منهما، ولو قُدر منفرداً.
__________
(1) في النسختين: كجد.
(2) زيادة من المحقق.
(3) أثر علي رواه ابن أبي شيبة في مصنفه: 4/ 171.
(4) أخذ بمذهب علي رضي الله عنه أبو الحسن أحمد بن محمد الصابوني من الأصحاب، نقله النووي عن أبي عاصم العبادي وابنه أبي الحسن (ر. الروضة: 7/ 111، 112).

(12/223)


وعن زيد بن ثابت (1) أن الأم إن ماتت قبل الدخول، حرمت عليه الربيبة. فأقام الموت فيه مقام الدخول، كما [يقام] (2) مقامه في تكميل المهر.
وقال مالك (3): "الربيبة إنما تحرم، إذا كانت صغيرة يوم التزوج بالأم، فتحصل في حجره وتكفُّله"، وإنما صار إلى ذلك لقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23].
وحكم بأنها لو كانت كبيرة يوم النكاح، لم تحرم. [ورأى الشافعي] (4) حمل هذا التقييد على الغالب في الوجود والعادة، كما حمل قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِه} [البقرة: 229] على التقييد بمجرى العادة، وصحح الخلع إذا اتفق جريانه من غير منازعة.
وقوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُم} [النساء: 23] لا يتضمن
__________
(1) أخرج أثر زيد بن ثابت ابن أبي شيبة في مصنفه: 4/ 171، 172 ولكن بلفظ أنه كان لا يرى بأساً إذا طلق الرجل المرأة أن يتزوج أمها، ويكرهها إذا ماتت عنده (قلتُ: أي قبل الدخول. وانظر التلخيص: 3/ 343 ح 1632).
(2) في النسختين: يقدم.
(3) لما أصل إلى قول مالك هذا، بل العجب أني وجدت النص على خلافه، وأوضح ما رأيناه في كتاب القاضي عبد الوهاب (الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 702 مسألة رقم 1262) حيث نص على تحريم الربيبة، وعلى أنه لا اعتبار (للحجر) وأنه لا تأثير له في التحليل والتحريم. ثم هذا الكتاب من كتب الخلاف التي تعنى بما خالف فيه المذهبُ غيره، وتدفع عن المذهب وتقرره. وقد جعل القاضي عبد الوهاب هذه المسألة في خلاف داود وحده، فهي إذاً موضع اتفاق بين المذاهب، وكذلك نص ابن جزي في (القوانين الفقهية: 210) على حرمتها سواء كانت في حجره أو في غير حجره، خلافاً لداود، فهل اطلع إمام الحرمين على ما لم نصل إليه مما روي عن مالك؟ أم أن في العبارة التي بين أيدينا تحريفاً ووهماً صوابها: "قال داود".
هذا وقد حكى الرافعي في (الشرح الكبير: 8/ 35) خلاف مالك على نحو ما حكاه إمام الحرمين، فهل تبع فيه الإمام؟ أم اطلع عليه من مذهب مالك؟ الله أعلم.
(4) في النسختين: "لما رأى الشافعي" وفيها تصحيف لا شك، والمثبت قراءة ابن أبي عصرون في (صفوة المذهب).

(12/224)


تخصيص التحريم بحليلة الابن النسيب [، فكما] (1) تحرم حليلة ابن النسيب تحرم حليلة ابن الرضاع.
والغرض من هذا التقييد أن حليلة ابن التبني لا تحرم، ولعله كان للتبني حكم، وكان تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة قبل أن بعث نبياً.
وقال تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37].
فتحصّل من تحريم المصاهرة أنه يحرم بسبب المصاهرة أربع: الزوجة، وابنتها، وحليلة الابن، وحليلة الأب. والتحريم يحصل في ثلاث بمجرد النكاح، ويتوقف تحريم الأبد في واحدة على الدخول، وهي الربيبة.
قال الأصحاب: الأم مبهمة، والربيبة حرمت بشرط، وعنَوْا بذلك أن تحريم الأم يحصل بمطلق النكاح، من غير تقييد بشرط الدخول.
فهذا بيان المحرمات بالنسب والرضاع والمصاهرة.
8029 - ثم قال تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن} [النساء: 23] وهذا النوع من التحريم مخالف لما انتجز الآن، فإن الذي تقدَّر الفراغ منه تحريم مؤبّد مع محرميَّة.
وهذا ليس من التحريمات المؤبّدة. ولكن إذا نكح الرجل امرأة، حرم عليه أن ينكح أختها ما دامت هذه في زوجيَّته. والمنصوص عليه في الكتاب: تحريم الجمع بين الأختين.
وألحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك جميعَ محارم المرأة، فقال: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، لا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى" (2). وأراد بالصغرى ابنة الأخ وابنة الأخت. وبالكبرى العمة والخالة. ولم
__________
(1) في النسختين: كما (بدون فاء).
(2) حديث: "لا تنكح المرأة على عمتها ... " رواه أبو داود: النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، 2/ 224، ح 2065. والترمذي: النكاح، باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها 3/ 433، ح 1126، وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي: النكاح، باب الجمع بين المرأة وعمتها 6/ 98 ح 3296، وأصله في الصحيحين، البخاري - فتح الباري: =

(12/225)


يُرد صِغر السن وكِبره. فقد تكون ابنة الأخ أكبر سناً من العمة.
ثم قال الأصحاب في ضبط ذلك: كل امرأتين بينهما قرابة، أو رضاع، يقتضي المحرميَّة. فلا يجوز الجمع بينهما.
وإن أحببت، قلت: كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع، لو كان بينك وبين امرأة، حرمت عليك، حرم الجمع بينهما.
وإن أردت قلت: كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع، ولو قدر أحدهما ذَكراً، لحرمت المناكحة بينهما؛ فيحرم الجمع بينهما. وفيما ذكرناه من المحرمية كفاية.
فلا يجمع الرجل بين أختين، ولا بين العمة وابنة أخيها، وبين الأم وابنتها، وإن كانت البنت لا تحرم على الأبد بنفس النكاح على الأم. فمن نكح امرأة -لم يدخل عليها-[تحرم عليه] (1) بنتها بسبب تحريم الجمع، ولو نكحها، اندفع النكاح المعقود عليهما فيهما معاً، كما لوجمع بين أختين.
8030 - والاجتماع في الصهر المحرم لا يوجب تحريم الجمع، فيجوز الجمع بين المرأة وبنت زوجها، أو أم زوجها، وإن كان بينهما سبب يوجب الحرمة والمحرمية.
وإنما قلنا ما قلنا في النسب، لما نبّه عليه صاحبُ الشرع؛ إذ قال -لما نهى عن الجمع بين الأختين- "إنكم لو فعلتم ذلك، قطعتم أرحامهن". والرضاع ملحق (2) بالقرابة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم"؛ فكان الرضاع في معنى القرابة، والمصاهرة ليس فيها رحم، حتى يفرض إفضاء الجمع إلى قطعه.
وقد انتهى القول في المحرمات، وأحلنا تفصيل ذكر الرضاع على كتابه.
__________
= 9/ 64 ح 5109، 5110، ومسلم: ح 1408، وانظر التلخيص: 3/ 344 ح 1635).
(1) في الأصل: لم تحرم عليه. وهي ساقطة أصلاً من: ت 3.
(2) ت 3: ملتحق.

(12/226)


فصل
قال: "ونهى عمر عن الأم وابنتها ... إلى آخره" (1).
8031 - مقصود الفصل: أنه لا يمتنع الجمع بين أختين، أو أم وابنتها في ملك اليمين، ولا يمتنع اجتماعهما في ملك مالكٍ واحد، فأما إذا أراد المالك أن يجمع بين أختين مملوكتين في الوطء؛ فلا يجوز له ذلك، ولكن إذا سبق إلى إحداهما، فوطئها، حرم عليه وطء الأخرى.
فلو وطىء الثانية بعد ما وطىء الأولى، [فقد أساء وتعدّى. ولا يتغير ما كان بسبب وطء الأولى، فالثانية] (2) محرمة كما كانت، والأولى مستباحة كما كانت، ولا تحرم الأولى بسبب وطء الثانية، والثانية محرمة لا تحل، حتى تخرج الموطوءة الأولى عن الملك، أو عن الحل. أما خروجها عن الملك؛ فبأن يبيعها أو يهبها، ويتحقّق زوال الملك، وأما خروجها عن الحل، فبأن يزوّجها، أو يكاتبها.
ولا شك أن طريان الحيض والإحرام لا يؤثر في تحليل الثانية؛ فإن هذا ليس إزالةً للحل، وألحق [الأئمة] (3) الردّة بالإحرام.
وتردد الأئمة في شيئين: أحدهما - الرهن. والثاني - البيع بشرط الخيار. أما الرهن، فإنه يحرّم الوطء، ولا يُثبت استقلالاً كالكتابة، ولا يُثبت للغير حلاً، حتى يقال: ثبوت [الحل] (4) للغير يدل على انبتات الحل الأول، وقد يزحم شيءٌ الحلَّ ولا يزحم الحلُّ.
ولو وُطِئت الأولى بشبهة، فشرعت في العدة؛ لم تحل الثانية؛ فإن هذا من
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 278.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(3) في النسختين الإمام، ولم أجد لها وجهاً، والذي يفهم من كلام الرافعي والنووي أن هذا رأي (الأئمة)، ثم هما ينسبون الآراء التي ينفرد بها صاحبها إليه عادة (ر. الشرح الكبير: 8/ 43، والروضة: 7/ 119).
(4) في الأصل: الحد.

(12/227)


الطوارىء التي تزول، والعدّة والردّة والإحرام على قضيةٍ واحدة.
والتزويج والكتابة بمثابة إزالة الملك باتفاق (1) الأصحاب، والتردّدُ في الرهن، والأوجه (2) أنه لا يؤثّر في تحليل الثانية؛ لأنه من الطوارىء (3 المتوقع زوالها 3) أيضاًً.
وأما إذا باع الأولى بشرط الخيار، [وحكمنا] (4) بزوال الملك إلى المشتري؛ فهذا مما تردد فيه الأئمة أيضاً؛ من جهة أن زوال الملك لم يلزم، وإنما ترددهم فيه إذا لم يكن للبائع خيار، فإن (5) كان له خيار، فالمذهب أنه يحل له وطء المبيعة في زمان الخيار، وإذا كان الحل قائماً، فيستحيل تقدير تحليل الأخت - والحالة هذه.
نعم؛ إن لم يكن له خيار، وإنما الخيار للمشتري؛ ففيه التردد، والوجه عندي: القطع بتحليل الأخت؛ فإن ملك البائع قد زال، ولم يبق له مستدرك، وتصرفات المشتري نافذة من جميع الوجوه، فإن تُصُوِّرت المسألة بهذه الصورة، وفرّعنا على أن ملك البائع لا يزول؛ فإجراء الاحتمال هاهنا أوجه.
ولو اشترى الرجل أمة (6) وابنتها؛ فإن وطىء الأم، حرمت عليه (7) البنت على الأبد. وإن وطىء البنت، حرمت الأم أيضاً على الأبد.
8032 - وكل حرمة في [الصهر] (8) تتعلق بالنكاح، فهي متعلقة بالوطء في ملك اليمين، ومنها أن موطوءة الرجل في ملك اليمين تحرُم على أبيه وابنه، اعتباراً بحليلة الأب والابن.
وأصحاب الظاهر لم يحرموا الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين. وقال ابن
__________
(1) ت 3: لاتفاق.
(2) ت 3: ولا وجه.
(3) ما بين القوسين سقط من ت 3.
(4) في الأصل: وحكما.
(5) ت 3: فإنه.
(6) ت 3: أُمّاً.
(7) سقطت من: ت 3.
(8) في النسختين: الصهير.

(12/228)


عمر: وددت لو كان أبي أشد في ذلك، وسُئل عثمان، فقال: أحلّتهما آية، وحرّمتهما آية. وقال عمر: أما أنا؛ فلا أحب أن أفعل ذلك. فقال الأصحاب أشار عثمان -بما (1) ذكر- إلى قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 3]. فعموم الآية يقتضي الإباحة، وأراد بالآية الأخرى، قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْن} [النساء: 23] وقول عثمان هذا يدل على أن ترديد القول في الشرع ليس بدعاً. وفي مساق قول (2) عمر ما يدل على مثله. وبالجملة لا يُنكِر ترددَ المجتهد في المظنونات إلا أخرقُ، لا يعرف مسالك الاجتهاد.
فأما قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَف} [النساء: 23]، فمما اختُلف في معناه. قيل: معناه: إلا ما مضى من الجمع بين الأختين قبل نزول الآية، فذلك عفو، كقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَف} [النساء: 22] وكقوله تعالى في صيد الإحرام والحرم: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف} [المائدة: 95].
وقيل: معناه: أن نكاح الأخت الذي تقدم، لا ينقضه طريان صورة النكاح على الأخرى. بل تلك تبقى على مقتضى النكاح. فعلى هذا يلتحق قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَف} َ بالاستثناء من غير الجنس. والتقدير: لكن النكاح السالف مستباح كما كان.
فصل
قال: "وإذا تزوج امرأة، ثم تزوج عليها أختها ... إلى آخره" (3).
8033 - إذا جمع بين أختين في عقد واحد؛ فنكاحهما باطل، وإن [رُتّب] (4)؛ فنكاح الأخيرة باطل.
8034 - وذكر ابن الحداد صورة لا خفاء (5) بها على من أحكم الأصول، ولكنها
__________
(1) ت 3: فيما.
(2) ت 3: قولي.
(3) ر. المختصر: 3/ 278.
(4) في الأصل: رنث، وفي ت 3: زنت. وهذا من بلاء التحريف والتصحيح.
(5) هذه الصورة من المولّدات لابن الحداد، وانظر عَرْضها في الشرح الكبير: 8/ 38، =

(12/229)


تهذّب القريحة، وتبيّن للمبتدىء مسلك النظر.
وهي: أنه إذا نكح الرجل امرأة ونكح ابنه ابنتها، فغلط كل واحد منهما إلى زوجة صاحبه (1)، فوطئها بشبهة؛ فالتفصيل فيه أن يقال: إن غلط الأب أولاً، فوطىء زوجة الابن، فقد بطل نكاح الابن؛ فإنها صارت موطوءة الأب، فحرمت على الابن، [ويبطل] (2) نكاح الأب على زوجته أيضاًً؛ فإن من وطىء امرأة بشبهة حرم عليه أمها.
ثم حكم هذه الصورة بعد ذلك: أنه يغرم لزوجة الابن مهرَ مثلها؛ فإنه وطئها بشبهة، وأما امرأته؛ فقد ارتفع نكاحها. والمسألة مفروضة فيه إذا لم يصب امرأة نفسه، وغلط إلى الأخرى، فقد ارتفع نكاح امرأته قبل المسيس؛ فيلزمه لها نصف المسمى - لا شك فيه؛ لأنه المتسبب إلى ما رفع نكاحَها.
وأما زوجة الابن؛ فلو قال الابن لأبيه: قد تسبّبت إلى رفع نكاحي، وأفسدته، فاغرم لي كما تغرم المرضعة لزوج الصبية؛ فله ذلك.
ثم كم يغرم لابنه؟ فعلى ثلاثة أقوال، ستأتي مشروحة في الرضاع: أحدها - أنه يغرم له نصف مهر مثلها.
والثاني - أنه يغرم تمام مهر مثلها.
والثالث - أنه يغرم له ما يغرمه هو لزوجته، والقدر الكافي هاهنا أن الأب في حق الابن بمثابة المرضعة في حق زوج الرضيعة، ثم تفصيل ما تغرمه المرضعة يأتي تأصيلاً وتفريعاً في كتاب الرضاع، إن شاء الله تعالى.
ولو قالت زوجة الابن للابن: قد ارتفع نكاحي قبل المسيس، فاغرم لي نصف المسمى. قال ابن الحداد: لا شيء لها عليه؛ فإنه ارتفع نكاحها من غير قصد صدر من الزوج، والزوج إنما يلتزم شطر المهر إذا ارتفع النكاح بسببه.
__________
= والروضة: 7/ 114، وسترى أثر إمام الحرمين واضحاً في أسلوبيهما.
(1) ت 3: إلى ابنة صاحبها.
(2) في الأصل: ويحرم.

(12/230)


ومن أصحابنا من خالفه، وقال: يلزمه نصف المسمى؛ فإن المرأة لم يوجد منها قصد أيضاً؛ إذ المسألة في الغلط. واستدل هؤلاء بمسألة، وهي: أن الرجل إذا كانت تحته كبيرة وصغيرة، فأرضعت الكبيرةُ الصغيرةَ، وانفسخ نكاحها؛ فقد قال الأصحاب: للصغيرة نصف المهر المسمى على الزوج، وإن لم يوجد من جهته قصد.
قال الشيخ أبو علي: ينبغي أن يقال: المرأة إذا (1) كانت نائمة، فوطئها الأب، أو ضبطها (2) فأكرهها؛ فينبغي أن تستحق نصف المسمى في هذه الصورة على زوجها، كما ذكرناه في المرضعة.
وإن جرى الأمر على قصد منها، وإن لم تكن عالمة بصفة الحال؛ فينبغي أن يقال في هذه الصورة: إنه يسقط مهرها، لِما وُجد منها. ونظير ذلك من الرضاع ما لو دنت الصغيرة إلى ثدي الكبيرة، والكبيرة راقدة، فارتضعت خمساً؛ فيسقط مهرها في هذه الصورة.
فالذي تحصَّل إذن في مسألتنا: أن المرأة إن [نزت] (3) على المرء، واستدخلت منه وهو نائم؛ فيسقط مهرها. وإن كانت هي نائمة أو مكرهة، فوطئها؛ فلها نصف المسمى على زوجها، لا خلاف فيه.
وإن كانت غير نائمة ولا مُكرَهة، والحال مشتبهة، فهذا موضع تردد الأصحاب، قال قائلون: لا مهر لها، لِما صدر لها من قصد، وقال آخرون: لها المهر، كالرضيعة.
ولم يختلف الأصحاب أن الصبية لو كانت ترتضع وتمتص؛ فالحكم لإرضاع الكبيرة، وتستحق الصغيرة نصف مسماها. ولا أثر لارتضاعها في إسقاط ذلك.
فهذا بيان حكم وطء الأب زوجة ابنه.
__________
(1) ساقطة من ت 3.
(2) ضبطها: أي سيطر عليها، ومنعها من الحركة والمقاومة.
(3) في النسختين: نزلت.

(12/231)


8035 - فإذا وطىء الابن بعد ذلك -والمسألة على حالها- زوجةَ أبيه بشبهة؛ فيلتزم لها مهر مثلها، ولا يلزمه لها شيء سواه؛ فإنه ما تسبب إلى فسخ نكاح، بل أقدم على وطء الثانية، والمرأتان جميعاً محرمتان عليه تحريمَ التأبيد قبل وطئه.
هذا إذا سبق الأب بالوطء.
8036 - فأما إذا سبق الابن، فوطىء زوجة أبيه؛ فينقلب الحكم، ولا يختلف الترتيب فيما ذكرناه، فما كان على الأب في الصورة الأولى، يكون على الابن في هذه الصورة؛ فلا نطوّل بالإعادة.
8037 - فأما إذا وطئا معاً على الغلط؛ فأمر التحريم على ما قدمناه.
وإنما الذي نزيد في هذه المسألة أنه حرم على كل واحد زوجُه بفعله وفعل صاحبه، فإنا لو قدرنا من كل واحد منهما فعلَه وحدَه، لحرمت به زوجتُه وزوجةُ صاحبه جميعاً، فإذا اجتمعا، فهل يغرم أحدهما لصاحبه شيئاً، بسبب تفويته زوجتَه عليه؟ قال شيخي: قال القفال: هذه الحالة كالاصطدام في تفريعه، فيغرم كل واحد منهما لصاحبه نصف الغرم، الذي كان يغرمه لو انفرد بفعله، ويهدر نصفه لمكان صاحبه، ثم ربما تقع أقاويل التقاصّ (1). هذا ما ذكره شيخي.
وقال الشيخ أبو علي: ليس ذلك كالاصطدام، ولا شيء لواحدٍ منهما على صاحبه في هذه المسألة؛ إذ قد وُجد من كل واحد منهما ما لو استقل، [لحرمت عليه زوجته به. وليس كالاصطدام؛ إذ لا يمكننا أن نقول في الاصطدام فعلَ كل واحد منهما ما لو استقلّ] (2) به، لأفضى إلى التلف، [بل حصل التلف بالفعلين جميعاً] (3) وهذا الذي قاله هو الوجه (4).
__________
(1) ت 3: النقاض.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، والمثبت من: ت 3.
(3) ما بين المعقفين زيادة من: ت 3.
(4) لم يرجح الرافعي، ولا النووي أيَّ وجهِ، بل أوردا المسألة على نحو ما جاء بها إمام الحرمين، وتكاد عبارات الرافعي تكون عبارات إمام الحرمين، ولكن لم يقل أي منهما بترجيح وجه الشيخ أبي علي، كما فعل إمام الحرمين؛ إذ قال: هو الوجه. (ر. الشرح =

(12/232)


8038 - فرع آخر لابن الحداد في هذا الفن:
إذا نكح الرجل امرأة في عقد، ثم نكح امرأة أخرى في عقد آخر، ووطىء إحداهما مثلاً، ثم بان أن إحداهما أمٌّ للأخرى؛ فهذه المسألة لها أقسام. ونحن نذكرها قسماً قسماً.
فمن أقسامها: أن ينكح الأم أولاً، ثم البنت، ويطأ الأم، ويتضح له ذلك من غير إشكال؛ فحكم هذا القسم: أن نكاح الأم ثابت، لا شك فيه، ووطء الأم لا [يقدح] (1) في نكاحها، وقد حرمت البنت على التأبيد؛ فإنها ربيبةُ امرأةٍ مدخول بها، ولم ينعقد نكاحها ابتداء؛ فإنها أدخلت على الأم.
ومن الأقسام: أن ينكح البنت أولاً، ثم الأم، ثم وطىء البنت -كما سبق التفصيل -؛ فنكاح البنت ثابت، فإنها السابقة، ووطؤها لا يحرّمها، وأما الأم، فقد حرمت بالعقد على البنت.
وإن نكح الأم أولاً، ثم البنت، ووطىء البنت؛ فأما الأم، فتحرم بوطء البنت على الشبهة، وأما البنت، فلم ينعقد نكاحها (2 ابتداء؛ فإنها أدخلت على الأم.
وإن نكح البنت 2) أولاً، ثم الأم، ووطىء الأم؛ فتحرم البنت لوطء الأم بالشبهة، والأم محرمة بالعقد السابق على البنت، فحرمتا على التأبيد. وكل ذلك سهل المُدرك.
ولو أشكل عليه أنه وطىء الأولى أم الثانية، وعلم أن الأولى في النكاح هي الأم، فالحكم فيه أن نقول: لو قدرنا وطء البنت في هذه الصورة، لارتفع نكاح الأم. ولو قدرنا وطء الأم، لحرمت البنت على التأبيد. فنقول: قد صح نكاح الأم أولاً، ولم يستيقن ارتفاعه، فالأصل بقاؤه. وهو محمول على الصحة، وأما البنت،
__________
= الكبير: 8/ 38، 39، والروضة: 7/ 114، 115).
(1) في النسختين: ينقدح.
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 3).

(12/233)


فمحرمة في الحال؛ فإنه لا يدخل نكاحها على نكاح الأم أصلاً.
ولو طلق الأم [أو ارتفع] (1) نكاحُها بسبب من الأسباب، فهي مع ابنتها (2) امرأتان، نعلم قطعاً أن (3) واحدةً منهما محرمة على الأبد، وأشكل عليه عينُها؛ فلا سبيل له إلى نكاح واحدة منهما، وهو كما لو علم أن إحدى هاتين المرأتين أخته من الرضاع، ولم يدر (4) عينها، فليس له أن ينكح واحدة منهما، وهذا في نهاية الحسن، ولا وجه إلا ما ذكره، وهو من بدائع المذهب؛ فإن الأم كنا حكمنا بتحليلها؛ فلما طلقها، لم يجد سبيلاً إلى تجديد العقد عليها.
وهذا إذا أبانها، فإن طلقها طلاقاً رجعياً، ارتجعها.
8039 - ومن أقسام المسألة: أن تتعين الموطوءة، ولكن لم تتعين التي سبقت بالنكاح، فكان يجوّز أن تكون الأم هي السابقة، ويجوّز أن تكون مسبوقة، وقد علم أنه وطىء البنت، فالحكم في ذلك أن غير الموطوءة محرمة على الأبد، وأما الموطوءة -وهي البنت- فلا نحكم بثبوت نكاحها؛ لأنه لم يستيقن ثبوته. بل يجوز أن تكون منكوحة سابقة، ويجوز ألا تكون منكوحة؛ لكونها مسبوقة، ولا نخلّيها حتى تنكح (5)، بل الأمر موقوف فيها، وعلى الزوج البيان، فإن حلف على نفي العلم، أو اتفقا على الإشكال، قال الشيخ: لها أن تستدعي من القاضي حتى يفسخ نكاحها.
هذا منتهى كلام الشارحين.
وإن رضيت بالمقام في الإشكال، ففي نفقتها ومهرها كلام - قدمته في نظير لهذه، وهو: إذا زوّج وليّان امرأة من زوجين، وقد تقدم بما فيه إقناع وبلاغ.
__________
(1) في الأصل: وارتفع.
(2) ت 3: ابنتان.
(3) ت 3: أن كل واحدة منهما.
(4) ت 3: ولو نذر عينها.
(5) حتى تنكح: أي تتزوج بآخر.

(12/234)


فصل
قال: "وإذا اجتمع النكاح وملك اليمين ... إلى آخره" (1).
8040 - إذا وطىء جارية بملك اليمين، ثم نكح أختها الحرة، انعقد النكاح عليها، وحلّت المنكوحة، وحرمت الموطوءة بملك اليمين؛ وذلك لقوة النكاح وسلطانه فيما يتعلق بإحلال البضع، وإذا انعقد النكاح، فمن ضرورة انعقاده إفادته للحل، وهذا معنى قول الأصحاب: النكاح أقوى من الوطء بملك اليمين؛ فإن الحكم للنكاح، سابقاً كان أو مسبوقاً.
8041 - فرع ذكره ابن الحداد في التباس العقد الوارد على أعداد من النسوة.
إذا نكح امرأة في عقد، واثنتين في عقدة، وثلاثاً في عقدة، وأشكل عليه تاريخ العقود؛ قال ابن الحداد: لا يثبت إلا نكاح الفردة التي نكحت وحدها.
فنقول: أما ثبوت نكاح الواحدة، فلا شك فيه؛ فإنا كيفما قدرنا في التواريخ، فنكاحها صحيح.
وأما العقدتان الباقيتان، فلا تصحان جميعاً، قطعاً، وقد صحت إحداهما في معلوم الله تعالى. فيقال للزوج: بيّن المتقدم منهما، فإن بيّن وعيّن، فذاك، وإن قال: لا أدري، فربما يَتوجه (2) عليه يمين في ذلك - على تفاصيلَ مشهورة في نظير هذا.
ثم إذا أشكل الأمر، فإن طلبت النسوة فسخ النكاح؛ فينفسخ نكاحهن. وقد ذكرتُ نظير ذلك في تزويج المرأة من رجلين.
8042 - وإن رضين بالصبر تحت الإشكال، فلا يرفع نكاحهن.
وما دمن في الإشكال؛ فكيف السبيل في الإنفاق عليهن؟
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 289.
(2) ت 3: يتوجد.

(12/235)


قال الشيخ أبو علي: [على الزوج] (1) أن ينفق على جميعهن، كما ذكرناه في الذي يُسلم وتحته ثمان نسوة، أسلمن معه، ولم يختر أربعاً منهن؛ فإنه ينفق على جميعهن.
وهذا فيه احتمال ظاهر، من جهة أن الزوج تقاعد عن اختيار أربع منهن؛ فهو حابسهن مع القدرة على إزالة ذلك، [و] (2) في مسألتنا أشكل (3) تاريخ العقد، وثبت الإشكال إما بتوافق، وإما بيمين.
ويجوز أن ننفصل عن هذا، فيقال: إنه منسوب إلى ترك التحفظ والاحتياط؛ وعلى هذا بنينا حرمان القاتل خطأً ميراثَ المقتول، وبهذا السبب أوجبنا الكفارة على المخطىء.
8043 - فأما الميراث، فإذا مات؛ [نفرز] (4) من تركته ميراث زوجة: الثمن، أو الربع، عائلاً أو كاملاً -على ما تقتضيه الفريضة- ثم يسلّم إلى الفردة، التي تعيّنت ربع ذلك؛ فإنها تستحق هذا المبلغ بلا شك ولا مِرْية؛ إذ أقصى ما في المسألة: أن تزاحمها ثلاث؛ فلها الربع؛ فإنها تكون رابعتهن، ثم نقف ثلاثة أرباع الحصة.
ثم الطريق أن نقول: من يحتمل أن يكون له من الموقوف شيء، فيوقف في حقه ذلك الشيء، ومن لا يحتمل أن يكون له من الموقوف شيء، فلا يوقف في حقه ما يقطع؛ فإنه لا يستحقه.
فعلى هذا نقول: أقصى ما تستحقه الفردة ثلث ما أفرزناه؛ فإن أحسن أحوالها أن تزاحمها اثنتان، ويبطل النكاح المشتمل على الثلاث. فلا تستحق الفردة أكثر من ذلك. وقد أخذت الربع، فبقي إمكان استحقاقها في نصف السدس، فنقف لها نصف السدس، بينها وبين الثلاث اللاتي في عقد واحدٍ.
وأما الاثنتان؛ فإمكان حظهما في الثلثين؛ فإن أحسن أحوالهما أن تزاحمهما
__________
(1) في النسختين: للزوج.
(2) الواو زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(3) ت 3: إشكال.
(4) في النسختين: تقرر.

(12/236)


الواحدة. وأما الثلاث؛ فأقصى ما يفرض هن ثلاثة أرباع ما أفرزناه. ثم لا يخفى النظر بعد ذلك على من أحكم قواعد الفرائض، ومسائل الخناثى.
8044 - وأما مهورهن، فلا يخلو: إما إن كان دخل بهن على الشبهة والالتباس، أو لم يكن دخل بهن. فإن دخل بهن، وكان مهر كل واحدة مائة، وقد سمى في عقد [الاثنتين] (1) ألفين، وفي عقد الثلاثة ثلاثة آلاف، فنقف أكثر (2) ما يتصور استحقاقه، وطريق الأكثر فيه أن نقول: نعلم أن المسمى في أحد العقدين واجب، مع مهر المثل [للّواتي] (3) في العقد الثاني، فنأخذ بالأكثر. والأكثر في الصورة التي فرضناها، المسمى في عقد الثلاث، ومهر المثل في عقد الاثنتين، وذلك ثلاثة آلاف ومائتان، ثم نسلم إلى كل واحدة مهر مثلها من هذا المبلغ؛ فإنه الأقل قطعاً، إما من المسمى، وإما من مهر المثل، ثم نقف الباقي. فإن بان بطريق من الطرق أن الصحيح عقد الاثنتين، فنتمّ لهما مع ما قبضتا ألفين، ونترك على الثلاث مهور أمثالهن، ونسترد الباقي، ونرده على الورثة.
وإن بان أن العقد الصحيح عقد الثلاث، فلا نرد شيئاًً، ونكمل المسمى للثلاث، ونقر مهر المثل في أيدي الاثنتين.
وإن كان مهور أمثالهن أكثر من المسمى؛ فلا يخفى تفريعه.
وإن لم يكن دخل بهن، فنقف ثلاثة آلاف، ولا ندفع إلى واحدة منهن شيئاًً؛ فإنا لا نستيقن استحقاق واحدة منهن بعينها. ولا معنى للإطناب مع وضوح أطراف المسألة.
ولو نكح واحدة، فاثنتين، وثلاثاً، وأربعاً، في عقود متفرقة، وأشكل التاريخ؛ فلا تتعيّن مع الإشكال الواحدة في هذه الصورة أيضاً، لجواز أن نكاحها وقع بعد الأربع. فهذا ما يتجدد في هذه، وتفريعها سهل.
...
__________
(1) في النسختين: الابنتين، والمثبت اختيار من المحقق.
(2) ت 3: أكثرها ما يتصور.
(3) في النسختين: اللواتي.

(12/237)


باب الزنا لا يحرم الحلال
8045 - ذكر المزني في الباب مناظرة طويلة، ثم تبرّم بها وقطعها (1). والفقه المقصود من الباب نوعان: أحدهما - بيان الأجناس [التي] (2) يتعلق تحريم المصاهرة بها.
والنوع الثاني - في صفاتها على تنوعها، حراماً وحلالاً.
فأما القول في الأجناس التي يتعلق تحريم المصاهرة بها؛ فمنها: النكاح. ويتعلق به تحريم أم الزوجة، وتحريم الزوجة على الأب، والابن. ولا يتعلق التحريم إلا بالنكاح الصحيح.
ومما يتعلق به تحريم المصاهرة: الوطء. ويتعلق به التحريم في جميع جهات المصاهرة؛ فتحرم أم الموطوءة، وابنتها، وتحرم الموطوءة على أب الواطىء وابنه، فالوطء إذن يحرم النسوة الأربع اللواتي يلحقهن تحريم الصهر، [والنكاح] (3) لا يحرم إلا ثلاثاً منهن.
8046 - فأما الملامسة والنظر، فنقول: في تعلق الحرمة بالملامسة قولان: أصحهما - أنها لا تتعلق الحرمة بها، وإنما تتعلق بالوقاع التام.
والقول الثاني - إن الحرمة تتعلق بالتقاء البشرتين، كما يتعلق بها وجوب الفدية في الإحرام، وانتقاض الطهارة.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 280 - 282. وهي مناظرة -على طريقة الإمام الشافعي- يذب فيها عن رأيه في هذا الباب.
(2) في النسختين: الذي (ولعل لها وجهاً لم أعرفه).
(3) في النسختين: فالنكاح.

(12/238)


وأما النظر إلى الفرج، فظاهر النص أنه لا تتعلق به حرمة المصاهرة، وعند أبي حنيفة (1) تثبت الحرمة به.
وحكى العراقيون قولاً للشافعي مثل مذهب أبي حنيفة. وهذا غريب لا تعويل عليه. وقد حكى هذا القول طوائف من المراوزة أيضاً. ولست أرى في توجيهه متعلقاً إلا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، لم ينظر إلى فرج امرأته وابنتها" (2) وهذا الحديث لم يصححه الأثبات.
ثم علينا تأمل في الملامسة ومزيد بحث في النظر، فأما الملامسة؛ فقد قيّد شيخي والصيدلاني الملامسة بكونها واقعة بالشهوة، وأرسلها بعض المصنفين وطوائف من العراقيين، وفي هذا احتمال: يجوز أن يقال: ما يتفق من غير شهوة، لا يعد [استمتاعاً] (3)؛ فيبعد عن مشابهة الوقاع، ويجوز أن يقال: تكفي صورة الملامسة، كما تكفي في نقض الطهارة. ولم أر أحداً من الأصحاب يشترط قصد الشهوة في الملامسة عند إيجاب الفدية على المحرِم. هذا قولنا في الملامسة (4).
فأما النظر، فنتكلم في محله وصفته. فأما محله، فقد خصص أبو حنيفة بالتحريم النظر إلى الفرج، وعنى بذلك القبل من الرجل والمرأة. وفي بعض التصانيف إضافة هذا إلى الشافعي قولاً مع التخصيص بالفرج، كما ذكرناه، وكان شيخي يقطع بأنه لا فرق بين النظر إلى الفرج وبين النظر إلى غيره في هذا القول الغريب.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 309 مسألة رقم 804، البحر الرائق: 3/ 105.
(2) لم أجده بهذا اللفظ، ولكن روى الدارقطني: 3/ 269، والبيهقي في السنن: 7/ 170: "لا ينظر الله عزّ وجلّ إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها" قال الدارقطني موقوف: فيه ليثٌ وحماد ضعيفان، ثم يقول هو محمول على ما إذا جمعهما نكاحه، أو زناه، وقد ورد في هذا المعنى أكثر من أثرٍ كلها لا تصح، (ر. مع ما سبق مختصر خلافيات البيهقي لأحمد بن فرج اللخمي: 4/ 140، 141) لترى أن الأمر كما قال إمام الحرمين: "ليس لهذا متعلَّق يصححه الأثبات".
(3) في النسختين: استمتاعها.
(4) حكى الرافعي والنووي ترجيح البغوي التحريم بالملامسة ونحوها، وترجيح إمام الحرمين عدم التحريم، ولم يرجحا بينهما (ر. الشرح الكبير: 8/ 36، 37، والروضة: 7/ 113، 114).

(12/239)


وفي هذا تأمل عندي. ولعل الوجه أن نلحق ما يواريه الإزار بالسوأة؛ فإنه عورة من الأجناس (1)، ولا يحل النظر إليه إلا لمستمتع.
فأما ما يحل النظر إليه، فلا يجوز أن يتعلق به تحريم المصاهرة، وقد فصّلنا في تحريم المناظر وتحليلها ذلك، وما يحرم النظر إليه، وهو فوق السرّة وتحت الركبة، ففيه ترددٌ. هذا قولنا فيما يتعلق النظر به.
فأما اشتراط الشهوة، فقد رأيت ألفاظ الأصحاب بأجمعهم مقيّدة بالشهوة هاهنا، ومن أبهم ذِكْر الملامسة، ولم يقيّدها بالشهوة، [قيّد] (2) النظر بالشهوة؛ ولعل ذلك لضعف النظر؛ فإنه ليس من قبيل الاستمتاعات، فإن اقترن به قصدٌ، كان إلحاقه بالاستمتاع متخيَّلاً. هذا قولنا في الأجناس التي يتعلق بها تحريم المصاهرة.
8047 - والنوع الثاني في ذكر أحوال ما يوجب المصاهرة: أما النكاح؛ فلا انقسام فيه، ولا تتعلق المصاهرة إلا بصحيحه، كما ذكرناه.
وأما الوطء؛ فإن وقع زناً، وحراماً محضاً، فلا يتعلق به تحريم المصاهرة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (3).
وللوطء أحوال: أحدها - أن يكون حلالاً؛ فيتعلق به النسب، والعدة، وتحريم المصاهرة، [وأحكام النكاح] (4).
وإن كان حراماً محضاً؛ لم يتعلق به هذه الحرمات.
وإن كان واقعاً على الشبهة، فالمذهب الذي عليه التعويل: أنه تتعلق به حرمة المصاهرة (5). وفي بعض التصانيف حكاية قول آخر: إن حرمة المصاهرة لا تتعلق [به] (6)،
__________
(1) "من الأجناس" كذا في النسختين، ولعل المراد بها من الرجال والنساء.
(2) في الأصل: قبل.
(3) ر. رؤوس المسائل: 381 مسألة 259، طريقة الخلاف: 53 مسألة: 22.
(4) في النسختين: وأحكام في النكاح.
(5) استقر المذهب على هذا (ر. الروضة: 7/ 112).
(6) سقطت من النسختين.

(12/240)


وقد جمع الأستاذ أبو إسحاق مسائل خلافية وفرض الخلاف مع أبي حنيفة في وطء الشبهة، وهذا مما لا يعتد به.
ثم قال من حكى هذا القول: إذا قلنا: يتعلق تحريم المصاهرة بوطء الشبهة؛ فهل تتعلق به المحرمية؟ فعلى قولين، وهذا أقرب (1)؛ من جهة أن المحرمية إنما تثبت في المصاهرة لمسيس الحاجة إلى تداخل البيوت؛ وهذا المعنى لا يتحقق في وطء الشبهة. والمذهب الذي عليه التعويل أنه يتعلق بوطء الشبهة الحرمة والمحرمية (2). ولست أعرف خلافاً أنه يتعلق به النسب والعدة.
فإن طلب طالب فرقاً، فالماء محرم، وحرمة المصاهرة تتبع المحرمية، والمحرمية تتبع حاجة المداخلة، فينفصل الباب عن الباب.
ولو تحققت الشبهة في أحد الطرفين دون الثاني، والتفريع على أن الشبهة إذا عمّت الطرفين تثبت الحرمة والمحرمية، وهذا هو الأصل. فلا عود إلى غيره.
فإذا لم تعم الشبهة الجانبين؛ فحاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها - أن التحريم لا يثبت، لسقوط الحرمة من أحد الجانبين.
والثاني - أنه يثبت لثبوته في أحد الجانبين.
والثالث - أن الاعتبار بجانب الواطىء (3)؛ فإن الله تعالى قرن بين الصهر والنسب، فقال عز من قائل: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]. ثم الاعتبار في النسب بالواطىء.
وجمع الأئمة الحرمات، فقالوا: هي النسب، والعدة، والمهر، وسقوط الحد، وحرمة المصاهرة. فإذا كانا عالمين بتحريم الوطء؛ فلا يتعلق بذلك شيء.
وإن كانا جاهلين؛ ثبتت الحرمات، ولا تعويل على القول البعيد.
__________
(1) وهذا أقرب: أي التردد في إثبات المحرمية مع حرمة المصاهرة في وطء الشبهة.
(2) اقتصر الرافعي والنووي على حكاية رأي إمام الحرمين والجمهور، فقال الرافعي: "وفي إيجاب وطء الشبهة المحرمية مع الحرمة وجهان ويقال قولان: أحدهما - نعم، والثاني - لا".
ا. هـ ملخصاً (ر. الشرح الكبير: 8/ 36، والروضة: 7/ 113).
(3) في النسختين: الوطء.

(12/241)


وإن كانت المرأة جاهلة والرجل عالماً، ثبت المهر، ولا نسب ولا عدة؛ لأن النسب ثبت في ماء محترم، [وعليه الحدّ دونها.
وإن كانت المرأة عالمةً والرجل جاهلاً، ثبت النسب] (1) والعدّة، ولا حدّ عليه ولا مهر لها وعليها الحد، وفي المصاهرة ما قدّمناه (2).
وإذا حكمنا بأن الملامسة تقتضي تحريم المصاهرة، فلو كانت حراماً محضاً، لم يتعلق بها شيء، وكذلك القول في النظر. وإن وقعا في حل أو في شبهة، فهما كالوطء فيما قدمناه.
ولو لمس الأب زوجة ابنه من غير شبهة، لم تحرم على الابن. ولو لمس جاريته حرمت عليه، لما له من الشبهة في ملك الابن. وهذا خارج على القواعد المقدمة.
...
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) ما قدمناه: أي من الوجهين في أن الاعتبار بالرجل (الواطىء) أو الاعتبار بالاشتباه في أيهما.
وعلى هذا فوجهان: أحدهما - أنها تختص بمن اختصت به الشبهة، حتى لو كان الاشتباه يحرم عليه أمَّها وبنتها، ولا تحرم هي على أبيه وابنه، ولو كان الاشتباه عليه، حرمت على أبيه وابنه، ولا تحرم عليه أمها وابنتها.
والوجه الثاني - أنها تعم الطرفين كالنسب.
والأصح -كما أشرنا آنفاً- أن الاعتبار بالرجل. (ر. الشرح الكبير: 8/ 35، 36، والروضة: 7/ 112).

(12/242)


باب نكاح حرائر أهل الكتاب وإمائهم
قال الشافعي: "وأهل الكتاب الذين يحل نكاح حرائرهم؛ اليهود والنصارى، دون المجوس ... إلى آخره" (1).
8048 - الكفار على ثلاثة أضرب: أحدها -أهل الكتاب، فيحل نكاح حرائرهم- على شرائطَ وتفاصيلَ ستأتي من بعد، إن شاء الله عز وجل، وهم اليهود والنصارى.
ثم قال الأصحاب: لا كراهية في نكاح الذمية، وعن مالك (2) أنه كره نكاح الكافرة الذمية، وإن صححه. وهو مذهب ابن عمر.
وتردد أصحابنا في إطلاق الكراهية في نكاح الحربية - إذا كانت يهودية أو نصرانية، فذهب الأكثرون إلى الكراهة؛ لأنها تسكن دار الحرب؛ ومساكنة الكفار في دارهم محذورة، وقد نخاف منه الافتتان، والحربية قد تسبى، وقد تكون حاملاً من زوجها بولد مسلم، والكراهيةُ تثبت بدون هذه الأسباب.
وكان شيخي يقول: إن لم نُطلق الكراهيةَ في نكاح الذمية، نَدبنا إلى الانكفاف عنه، وقد تمهّد في مأخذ الأدلة أن اللهي إذا لم يكن [حاظراً] (3) محرِّماً، فإنه ينقسم إلى نهي كراهية، وإلى نهي أدب، والذي ذكره ليس مخالفاً لما قاله الأصحاب، وقد قال الرسول عليه السلام: "عليك بذات الدين، تربت يداك" (4).
هذا تمهيد الأصل في مناكحة اليهود والنصارى.
ومن الكفار من ليس لهم كتاب ولا شبهة، وهم أهل الأوثان، وعبدة
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 282.
(2) ر. جواهر الإكليل: 1/ 295، الشرح الصغير: 2/ 420.
(3) في النسختين: حاضراً.
(4) متفق عليه بلفظ: "فاظفر بذات الدين" وهو جزء من حديث مشهور على الألسنة، عن أبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان: ح 928).

(12/243)


ما استحسنوا، والزنادقة، والدَّهرية، فلا يحل نكاح نسائهم، ولا تحل ذبائحهم.
ومنهم المجوس، فمذهبنا الصحيح ومذهب عامة الفقهاء أنه لا تحل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم. وعن أبي ثور تحليل مناكحتهم وذبائحهم، ومن أصحابنا من نقل هذا قولاً في المذهب، أوْرده بعض المصنفين، وحكاه لي من اثق به عن الشيخ أبي بكر الطوسي (1). والتعويل على تحريم المناكحة والذبيحة، والجزيةُ مأخوذةٌ منهم.
وقد روى عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب، [غير آكلي ذبائحهم، وناكحي نسائهم] (2) " (3).
8049 - فالكفار إذاً ثلاثة أقسام: منهم من تحل مناكحتهم وذبائحهم ويُقرون بالجزية لا محالة -إذا بذلوها- في ديار الإسلام، وهم اليهود والنصارى، ولا استرابة في تمسكهم بالتوراة والإنجيل، وإن حرفوها.
والقسم الثاني من الكفار - عبدة الأوثان والمعطَّلة (4)، فهؤلاء تحرم مناكحتهم وذبيحتهم، ولا يُقَرون بالجزية.
__________
(1) هو المشهور في رجال المذهب وأئمته بالنوقاني. سبق التعريف به في كتاب الوصايا.
(2) في الأصل: في الجزية وذبائحهم، ونكاح نسائهم. وفي ت 3: عبارة غير مقروءة، والتصويب من التلخيص الحبير، وهي رواية الرافعي في الشرح الكبير: 8/ 73.
(3) حديث: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" أخرجه مالك في الموطأ: 1/ 278، والشافعي، ترتيب مسند الشافعي: 2/ 130، وأبو عبيد في كتاب الأموال: ص 35 ح 78، كلهم عن عبد الرحمن بن عوف، أما الاستثناء "غير ناكحي نسائهم وآكلي ذبائحهم" فقد رواه عبد الرزاق في مصنفه: 6/ 69، 70 ح 10028، وأيضاًً: 10/ 326 ح 19256، وابن أبي شيبة: 12/ 242 ح 12691، 12/ 246 رقم 12706، والبيهقي: 9/ 192، 285.
وعقب الحافظ على الكلام في الحديث بتنبيه قال فيه: "تبين أن الاستثناء في حديث عبد الرحمن مدرج" ثم نقل عن الحربي الإجماع على المنع (أي من التزوج بنسائهم) إلا عن أبي ثور. (ر. التلخيص: 3/ 352 - 354 ح 1642، 1643).
(4) لا يذهبنّ بأحدٍ الوهمُ أن المراد (بالمعطّلة) هم المعتزلة!! كما أُشيع عنهم، ونبذهم بهذا اللقب مخالفوهم، وحاشى إمام الحرمين بل أي مسلم أن يعد المعتزلة من الكفار. وإنما المعطلة (هنا) من لا يثبتون الباري سبحانه وتعالى (كما قال شارح المقاصد، ونقله عنه صاحب كشاف اصطلاحات الفنون/مادة: ك. ف. ر) وستجد هذا المعنى في كلام الإمام قريباً.

(12/244)


والقسم الثالث - المجوس، وهم يقرون بالجزية. والمذهب الذي عليه التعويل تحريم مناكحتهم وذبيحتهم.
واختلف قول الشافعي في أنه هل كان لهم كتاب، فرفع من بين أظهرهم، أو لم يكن لهم كتاب أصلاً (1)؟ وأحد القولين أنهم لم يكن لهم كتاب، ويشهد له قوله "سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب"؛ فدل أنهم ليسوا أهل كتاب. والقرآن يدل على أنه كان قبل نزول القرآن كتابان لا غير، قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] وشهدت الأخبار على ذلك، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "مثلكم ومثل من كان قبلكم ... الحديث " (2).
وروي أن نوفل الأشجعي قال: علامَ تؤخذ الجزية من المجوس، وليسوا أهل كتاب؛ فقال له المستورد العجلي: أترد سنة الشيخين؟ ثم لبّبه (3)، فأتى به علي بن أبي طالب، فقال: أنا أعلمكم بأمر المجوس، فإن لهم كتاباً كانوا يدرسونه وعلماً يتعلمونه حتى واقع ملكهم أخته، فأرادوا رجمه، فقال: أنا على دين أبيكم آدم، وكان يزوّج بناته من بنيه، فأصبحوا وقد أُسْري (4) على كتابهم" (5). وهذا يشهد
__________
(1) وعلى القولين لا تحل مناكحتهم، فهذا هو المذهب، كما قال إمام الحرمين. ر. الشرح الكبير: 8/ 72 والروضة: 7/ 135، 136.
(2) يشير بهذا إلى حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ضرب فيه المثل لأجر المسلمين في مقابلة أجر اليهود والنصارى، إذ جاء فيه: "وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى، كمثل رجلٍ استأجر أجراء، فقال: من يعمل من غُدوة إلى نصف النهار على قيراطٍ قيراطٍ؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين قيراطين؟ فأنتم هم ... إلخ". فالحديث يدل بإشارته على أنه كان قبلنا كتابان فقط.
ثم الحديث رواه أحمد في المسند، ومالك، والبخاري، والترمدي (ر. صحيح الجامع: 1/ 458 ح 2315).
(3) لبَّبه: أخذه بثيابه من حول عنقه.
(4) أُسْريَ على كتابهم: يقال: أسرى عليه: أتاه ليلاً، والمعنى أن كتابهم رُفع بليل (المعجم).
(5) هذا الأثر عن نوفل الأشجعي، رواه البيهقي عن فروة بن نوفل، بهذا السياق نفسه مع اختلافٍ في بعض اللفظ (السنن الكبرى: 9/ 188، 189).

(12/245)


للقول الثاني. ثم قد نطق القرآن بصحف إبراهيم، وورد في الأقاصيص نزول كتب على الأنبياء الأولين، ومن تعلق بشيء منها فلا حكم له؛ وإنما أهل الكتاب على الإطلاق، اليهود والنصارى. وأما المجوس؛ منزّلون (1) على ما ذكرناه. وهذا مما أجمع الأصحاب عليه.
8050 - فإذا بان القول في أقسامهم؛ فنعود بعد ذلك إلى الصفات المرعية في أهل الكتاب، فمن كان منهم من أولاد إسرائيل -وهو يعقوب عليه السلام- وآباؤه كانوا مستمسكين بالتهود، من غير تقطع؛ فهؤلاء يُنكحون، وتستحل ذبائحهم.
ومن لم تكن من نسل بني إسرائيل، فإن انتمت إلى أقوامٍ أوّلهم تهوّدوا أو تنصروا بعد المبعث، فلا يجوز نكاحها.
وإن انتمت إلى أقوام أوّلهم دخلوا في اليهودية والنصرانية قبل المبعث، ولم يكونوا من نسل بني إسرائيل، ففي جواز نكاحها قولان. وللأصحاب في محل القولين طريقان: فمنهم من قال: إن دان أول آبائها بالدين قبل التبديل، فيصح نكاحها، قولاً واحداً. وإن دان أولهم بعد التبديل وقبل المبعث، ففي جواز نكاحها قولان.
ومنهم من قلب الترتيب، وقال: إن دان أولهم بعد التبديل، فلا تحل المناكحة.
وإن دان أول [آبائها] (2) بالدين قبل التبديل، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها تحل، وهو القياس؛ فإن سبب التحليل التمسك بالتهود والتنصر، وسبب تخصيص الدينين بهذه الفضيلة انتماؤهما إلى الكتابين.
والقول الثاني - إنها لا تحل؛ لأن تحليل المناكحة والذبيحة أثبتت فيهم تعظيماً لنبي الله تعالى إسرائيل عليه السلام.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه: إن كان من بني إسرائيل فاستمر التهود في آبائه، فتحل مناكحته وذبيحته. ومن ضرورة كونه من ولد إسرائيل أن يكون أول آبائه قد دان بالدين، وهو غير محرف، فيجتمع شرف النسب والتعلق بالدين في أول الآباء قبل التغيير.
__________
(1) منزلون: هكذا بدون (الفاء) في جواب أما، كدأب إمام الحرمين في هذا الاستعمال.
(2) في النسختين: آبائهما.

(12/246)


ومن لم يكن من بني إسرائيل، وقد دان أول آبائه بالدين قبل التغيير؛ فهذا عري عن شرف الانتساب إلى إسرائيل، ولكن [له] (1) مزية الانتساب إلى من دان بالدين قبل التغيير؛ ففي مناكحته وتحليل ذبيحته طريقان: منهم من قطع بالتحليل، نظراً إلى الدين. ومنهم من جعل في التحليل قولين.
ومن كان انتماؤه إلى من دان بالدين قبل مبعث المصطفى، وبعد التغيير؛ ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بالتحريم.
والثاني - إجراء القولين.
ولو كان أول آبائه قد دان (2) بعد التغيير بالدين غير مغير، وتبرأ عما فيه من تحريف على علم به؛ فهذا كما لو كان أول آبائه قبل وقوع التغيير.
وإن دان أول آبائه -بعد التغيير- بالدين المغيّر؛ فهذا محل الطريقين الأخيرين: أحدهما - القطع بالتحريم.
ولو عرفنا أن أول آبائه دان بالدين قبل مبعث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأشكل علينا أنه دان الأول منهم قبل التغيير أو بعد التغيير؛ فهذا متردد بين القسمين المعلومين قبل التغيير وبعد التغيير. ويتطرق إليه احتمال في الالتحاق بأحد القسمين.
8051 - وإن أردنا جمع مقالات الأصحاب على نسق، قلنا: من كان من نسل بني إسرائيل ولم يتغير أول آبائه عن دينه تحل مناكحته وذبيحته.
ومن لم يكن من نسله، وقد دان أول آبائه قبل التغيير، أو بعد التغيير، ولكن تبرأ عن التحريف، وتعلق بما كان حقاً؛ فقولان: أصحهما وأقيسهما - جواز المناكحة.
ومن دان أول آبائه قبل المبعث، وأشكل أن الأول دان بالمغيّر أو بالدين القويم؟
فقولان، مرتبان على الصورة الأولى. وهذا أولى بالتحريم من التي تليها.
وإن دان أول آبائه بعد المبعث، فنقطع بتحريم المناكحة والذبيحة؛ فإنه لا عصمة
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) سقط من (ت 3): "قد دان".

(12/247)


[بحرمة] (1) بعد نزول الفرقان، إلا لمن يدين بالإسلام.
ومن أشكل أمره، فلم ندر؛ أدان آباؤه قبل المبعث أو بعده؟ فلا خلاف في تحريم المناكحة والذبيحة. ويقر هؤلاء بالجزية تقرير المجوس، والسبب فيه أن عصمة الدم وما يتبعه من المال، قد ثبت بشبهة كتاب، فأما تحليل المناكحة والذبيحة، فلا يثبت إلا بتحقق.
8052 - ومما يتم به غرض الفصل: أن من كان يدين بدين (2) موسى أولُ آبائه بعد نزول (3) عيسى عليه السلام، فهذا تعلَّقَ بالدين بعد النسخ؛ فكيف السبيل فيه؟
اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هذا بمثابة ما لو دان (4) أول الآباء بعد مبعث نبيّنا صلى الله عليه وسلم، وهذا القائل إنما يقول ذلك في تحريم المناكحة والذبيحة، فأما أخذ الجزية؛ فلا خلاف فيه، كما ذكرناه في المجوس وفي الذين أشكل الأمر في أن أول آبائه دان قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم أو بعد مبعثه.
ومن (5) أصحابنا من قال: إذا دان أول الآباء بدين موسى بعد مبعث عيسى، فهو [في] (6) ترتيب المذهب بمثابة ما لو دان أول الآباء بالدين المغيّر؛ فإن دين موسى لو لم يكن مغيّراً [لاستحثَّ على الإيمان بعيسى، ولم يناف تصديقه] (7)، ولو كان كذلك، لكان يدين أول آبائه بدين عيسى مصدقاً لموسى، ومن قَبْل عيسى من النبيين.
8053 - ومما نتكلم فيه: السامرة والصابئون. وقد ظهر اختلاف نص الشافعي في تحريم مناكحتهم وذبيحتهم.
__________
(1) في الأصل: " ـحر ـه " [كذا بدون نقط] ورسمت في (ت 3) هكذا " ـحر ـه " [وبدون نقط أيضاً].
(2) ساقطة من (ت 3).
(3) نزول عيسى: كذا في النسختين، والمراد مبعثه، وليس نزوله قبل الساعة.
(4) ت 3: ما لو أراد أن أول آبائه ...
(5) متصل بالتفريع السابق، بقوله: "اختلف أصحابنا: فمنهم من قال ... ".
(6) في النسختين: عن.
(7) في الأصل: لا مستحث على الإيمان بعيسى، ولم يتأت تصديقه.

(12/248)


والذي ذهب إليه معظم الأصحاب: أن اختلاف النصين محمول على اختلاف حالين: فحيث حرّم، ظن أنهم مخالفون لليهود والنصارى في أصول دينهم، وحيث نص على التحليل، ظن أنهم ليسوا مخالفين لهم في أصول دينهم، وإنما خالفوهم فيما يجري من دينهم مجرى الفروع من ديننا، ولم يُجر أحد من الأصحاب قولين على [ظاهر] (1) اختلاف النصين إلا الشيخ أبو علي؛ فإنه حكى أن من الأصحاب من أجرى القولين.
وحاصل القول في ذلك: أنهم إن لم يخالفوا اليهود والنصارى في أصول الدين، فهم ملتحقون بالذين وافقوهم في أصل الدين، ولا يجوز أن يكون في ذلك خلاف.
وإن صح أنهم خالفوهم مخالفةً لو فرض مثلها في ديننا، لأوجب [تكفيراً] (2)، فليسوا من اليهود ولا من النصارى، ولا تحل مناكحتهم وذبيحتهم.
وإن جرت مخالفتهم [لهم] (3) مجرى مخالفة أهل البدع لعصابة الحق في ملة الإسلام، فهذا محتمل، وعليه ينزّل ما حكاه الشيخ أبو علي من القولين، وليس هذا تعريضاً منا بتحريم مناكحة أهل البدع؛ فإن الذي أقطع به: جواز مناكحتهم، والقول في التكفير والتبري غائصٌ بعيد الغور، ولسنا له الآن.
وسر المذهب أن البدع فينا وإن لم تحرِّم، فهي في الأولين على التردد، والسبب فيه: أنا لم نكفر أهل البدع فينا - تعلقاً بالسمع، ولم يتحقق لنا مثل هذا السمع من الأولين، ثم الذي بلغنا من مذهبهم: أنهم خارجون عن ضبط [المِلَل] (4) إلى اعتقاد إضافة الآثار إلى الأنجم، ومصيرهم إلى التعطيل، ونفي الإله المختار. هذا ما نقله النقلة عنهم، فإن صح، فهم معطلة يجرون مجرى الزنادقة. ولا نقبل منهم الجزية.
وإن لم يصح هذا، ورأيناهم ينتمون إلى اليهود، أو إلى النصارى، وتعارض لنا في حقهم التعطيل وقبول المسألة، فلا مناكحة، وسبيلهم في قبول الجزية منهم كسبيل
__________
(1) زيادة من (ت 3).
(2) في النسختين: تكثيراً. والمثبت اختيار منا.
(3) في الأصل: له.
(4) في الأصل: "الملك".

(12/249)


الذين أشكل أمرهم، فلم ندر أدان أولهم قبل المبعث، أو بعد المبعث؟ فهذا تمام القول فيهم.
8054 - والسر الذي هو ختام الفصل: أن من نجري الكلام في مناكحته نقطع بأنه كافر في دين موسى؛ فإن موجب دينه الإيمان بعيسى، وبمحمد بعده، ولكن هذا النوع لا يؤثر في تحريم المناكحة؛ إذ لو أثّر، لما حل نكاح يهودية. ولو كان اليهودي مستمسكاً بالدين الحق قبل المبعث، ثم فُرض انبعاث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته، لكان يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم لا محالة.
وما ذكرناه من التغيير في ذكر موسى وعيسى عند ذكرنا أول الآباء، أردنا به أن أولهم إن دان بالدين على وجه يقتضي الإيمان بما يأتي من الأنبياء عليهم السلام، فما يقع من التحريف المانع من الإيمان بعد موسى في الأولاد، فهذا غير مؤثر، بعد التعلق بالانتماء إلى ما وصفناه. وإن لم يكن في آبائه من يقتضي دينه الإيمان بمن بعد موسى وعيسى، فهذا الذي ترددنا في مناكحته.
فهذا بيان الفصل وخاتمته. ولا يحيط بحقيقة الفصل من لم يحط بما ذكرناه.
8055 - وما ذكرناه من مخالفة السامرة، فذاك مخالفة في قاعدة سوى الامتناع [عن الإيمان] (1) بمن بعد موسى. وبيان ذلك أن السامري لو كان إسرائيلياً، فقد لا نرى مناكحته إذا تحقق لنا أنه مخالف في القاعدة، كما تقدم وصفها.
وقد انتجز بهذا غرض الفصل.
فصل
مشتمل على ما إذا تهوّد النصرانيّ، أو تنصّر اليهوديّ، أو فُرض انتقالُ آخر من كفر إلى كفر
8056 - فنقول: الوثني إذا تهوّد، أو تنصّر، لم يستفد بما تعلّق به أمراً أصلاً، وهو على ما كان عليه من توثّنه؛ وعلتُه أن من لا عصمة له ديناً، لا يستفيد بعد نزول
__________
(1) زيادة من (ت 3).

(12/250)


القرآن (1) عصمة، إلا بالتزام الإسلام، وهو موجب قولنا في الفصل السابق؛ إذ قلنا: من تهوّد بعد مبعث المصطفى، لم يناكَح، ولم تحلّ ذبيحته، وكما لا يستفيد كما ذكرناه الآن، لا يستفيد التقريرَ بالجزية على ما اختاره. هذا متفق عليه بين الأصحاب (2).
8057 - ولو تهوّد النصرانى، أو تنصّر اليهوديّ؛ ففي المسألة قولان مشهوران:
أحدهما - إنه يُقرّ على الدين الذي انتقل إليه.
والثاني - إنه لا يُقر عليه (3).
توجيه القولين: من قال: لا يقرّ المنتقل على الدين الذي انتقل إليه، احتج بأن هذا استحداث دين بعد ابتعاث محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يقبل، وحكم رده ألا يقر عليه بوجهٍ.
ومن قال: إنه يقر، احتج بأن التنصّر والتهوّد جميعاً باطلان، وهما في جميع الأحكام متساويان في ديننا؛ فلا أثر للانتقال بعد استواء الدينين في المقتضى، وإنما نُنْكِر استفادة عصمةٍ لم تكن، كما لو تهوّد وثني، وهذا المعنى غير متحقق في تهوّد النصراني وتنصّر اليهودي.
التفريع على القولين:
8058 - إن حكمنا بأنه يقر على ما انتقل إليه، فنجعل الذي تنصّر وكان يهودياً، كمن لم يزل نصرانيّاً، وكذلك عكسه، وحظ النكاح منه أن هذه تنكح، ولو تنصرت يهودية تحت مسلم، فلا أثر لما جرى منها.
8059 - وإن قلنا: لا يقر المنتقل على دينه الذي انتقل إليه، فماذا يُصنع به؟ القول في ذلك يتعلق بفصلين: أحدهما - في بيان ما يطالب به، وفيه قولان: أحدهما - أنه
__________
(1) ت 3: الفرقان.
(2) الروضة: 7/ 141.
(3) قال النووي: الأصح أنه لا يقبل منه إلا الإسلام. (ر. الروضة: 7/ 140).

(12/251)


لا نقنع منه بشيء غير الإسلام؛ فإنه بدّل (1) ما كان عليه، ولسنا نُقره على ما انتقل إليه، فلا عاصم إلا الإسلام، وهذا أصح (2) القولين.
والقول الثاني - إنه لو عاد إلى الدين الذي كان عليه، أزلنا الاعتراض عنه، ونجعل كأن الانتقال الذي جرى منه لم يكن أصلاً.
والتعبير عن هذا القول يحتاج إلى تأنق، فلا ينبغي أن يقال: هو مطالب بالإسلام أو العود إلى التهوّد؛ فإن طلبَ الكفر كفر، ولكن الوجه أن يقال: هو غير [مُقرّ] (3) على التنصّر الذي انتقل إليه، ونطالبه بالإسلام، فإن عاد إلى التهود، فهل نكف عنه؟ فعلى قولين كما تقدم ذكرهما، وليس [للانكفاف] (4) عنه إذا عاد إلى ما كان عليه وجه عندي؛ فإن ذلك الدين زال بتركه إياه، فعوده إليه انتقال منه إليه، ولو كنا نقرر على دين منتقل إليه، [لقررناه] (5) على التنصر، هذا ما تسقط به الطَّلِبة، فإن وُفق وتمسك بالإسلام، أو بما يقطع الطلبة عنه، فذاك، وإن أبى إلا الإصرار على ما انتقل إليه، ففي المسألة قولان: أحدهما -أنا نغتاله- إذا تبين إباؤه، ونقتله قتل المرتد، [ونقطع العصمة] (6) عن دمه وماله وذريته؛ لأنه كان على عصمة، فأبطلها؛ فهو كافر، لا عصمة له.
والقول الثاني - إنه لا يُغتال، ويبلّغ مأمنه (7)؛ فإنه كان على عهدٍ فينا، فصار كذمّيّ ينقض عهده، ويبغي اللحوق بدار الحرب.
وللقائل الأول أن ينفصل عن هذا، ويقول: الذمّي إذا أراد الالتحاق بدار الحرب لم نمنعه منه، وإذا تهوّد النصراني، فهو ممنوع عن انتقاله هذا، وهذا يناظر ما لو نقض الذمّي العهد بجناية على الإسلام، فإنا قد نقول: إنه يُقتل، كما سيأتي شرح
__________
(1) ت 3: ترك.
(2) الأمر كما قال إمامنا (ر. الروضة: 7/ 140).
(3) في الأصل: مفسر.
(4) في النسختين: الانكفاف.
(5) في النسختين: لقررنا.
(6) في النسختين: وقطع عصمة.
(7) هذا هو الأشبه، قاله النووي (السابق نفسه).

(12/252)


ذلك في كتاب الجزية، إن شاء الله عز وجل.
8060 - وقد بقي من مقصود الفصل حظ النكاح. فإذا قلنا: لا يقر المنتقل على ما انتقل إليه، فإن أصرت اليهودية التي تنصرت، لم ننكحها.
ولو كانت تحت مسلم، وفرضنا إصرارها؛ كانت بمثابة المسلمة ترتد تحت مسلم.
وإن قلنا: لا يقتل اليهودي إذا تنصّر، ولا يقر على التنصر، فاليهودية تحت المسلم إذا تنصّرت وأصرّت، فهي كالمرتدة، وإن كنا نبلّغها المأمن، فلا يتوقف تغير النكاح على اغتيالنا المنتقلة، فليفهم الناظر هذا.
وإن كنا نكتفي بالعود إلى ما كانت عليه، فإذا تنصرت اليهودية، وكان تنصرها كالردة؛ [فعودها] (1) إلى التهود كعود المرتدة إلى الإسلام.
8061 - ومما يتعلق بما نحن فيه: أن اليهودي إذا توثّن، فلا شك أنه لا يُقر، فإن الوثني الأصلي لا يقر، ثم بماذا تسقط الطَّلِبة عنه؟ ذكر الصيدلاني والعراقيون ثلاثة أقوال مقتضبة من الأصول التي ذكرناها: أحدها - أنه لا نقنع إلا بالإسلام.
والثاني - أن الطلبة تسقط عنه بالعود إلى التهود. وهذا متفرع على أن اليهودي إذا تنصر، يقنع منه بالعود إلى التهود.
والقول الثالث - إنه لو تنصر، اكتفي منه بذلك. وهذا متفرع على قولنا: إن اليهودي إذا تنصر، يقر على تنصره. وهذا القول أضعف الأقوال الثلاثة؛ فإنا وإن كنا نرى تقرير اليهودي على النصرانية - إذا انتقل إليها، فإنا لا نقر وثنياً على التنصر، ولا نثبت له عصمة النصرانية، وإذا توثن اليهودي ثم تنصّر، فهذا تنصّر عن توثّن، وبمثل هذا يضعف قول العود إلى التهود.
__________
(1) في الأصل: وعودها.

(12/253)


فصل
قال: "فإن نكحها، فهي كالمسلمة فيما لها وعليها ... إلى آخره" (1).
8062 - المسلم إذا نكح يهودية، أو نصرانية، فيثبت لها من حقوق النكاح ما يثبت للمسلمة من النفقة والكسوة، وحق القَسْم - إن كان معها ضَرَّة، وعليها من بذل الطاعة للزوج في توفية حقه من المُسْتَمْتَع ما على المسلمة. ويمنعها الزوج من البروز إلى الكنائس والبِيع، كما يمنع المسلمة من البروز إلى المساجد ومشاهد الخير، وإذا حاضت، وطهرت عن الحيض، فالزوج يُلزمها الاغتسال؛ فإن الاستحلال موقوف على الاغتسال، ويمنعها من التضمخ بالنجاسات إذا [كانت] (2) تلابسها.
وذكر أئمتنا قولين في أنه هل يُلزمها الاغتسال من الجنابة؟ وإلزامُ الاغتسال عن الجنابة غير متجه. وقد ذكر العراقيون في مجامع القول في هذا الفصل تفصيلاً حسناً، فقالوا: كل ما يمنع من أصل الاستمتاع، فهي مجبرة على إزالته وتغييره. وذلك مثل أن تحيض وتطهر، فتُجبر على التطهر؛ فإنّ ترك الغسل مانع من الاستمتاع، وكذلك لو تضمخت بالنجاسة، والزوج لو لابسها، لتضمخت ثيابه؛ فهي ممنوعة من ذلك، وكذلك لو تركت الاستحداد حتى تفاحش الأمر، وبلغ مبلغاً يتعذر معه الاستمتاع؛ فيجب عليها إزالة ذلك.
فأما إذا وجد منها ما لا يمنع من أصل الاستمتاع، ولكن يمنع من كماله؛ فهل تجبر على إزالته؟ فعلى قولين، وهذا كالاستحداد - إذا لم يبلغ المبلغ الذي ذكرناه، ومثله شرب قليل الخمر الذي لا يسكر، ومنه أكل لحم الخنزير مع الغسل، لما فيه من التقذر والعيافة.
ويتصل بذلك أكل الثوم والأشياء ذوات الروائح الخبيثة، وهذا الفن والاستحداد يجري في المسألة على التفصيل الذي ذكرناه.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 283.
(2) في النسختين: كان.

(12/254)


وهذا -وإن كان [يضبطُه] (1) مقصود الفصل؛ ففيه بقية- لا بد منها، وهي تقرر في الاستحداد، ثم يقاس عليه غيره.
فنقول: إذا كان ترك التنظّف والاستحداد، بحيث يؤثر في غض شهوة التوّاق، فهذا مما نقطع به في إلزام التنظف، وإن كان لا يغض شهوة التواق، ولكن قد يورث المتوسط في شهوته عيافة، فهذا محل القولين.
فأما ما يُحرّم الوقاع شرعاً، فلا شك في وجوب إزالته.
والقول في أن غسل الذمية: هل يعتد به - إذا أسلمت، وكيف سبيل الحكم بتصحيحه، ولا تصح النية من الذمية؟ مما تقرر في كتاب الطهارة.
...
__________
(1) في الأصل: يضبط.

(12/255)


[باب الاستطاعة للحرائر وغير الاستطاعة] (1)
فصل
قال الشافعي: "قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِح الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات} [النساء: 25]. وفي ذلك دليل أنه ... إلى آخره (2) ".
8063 - لا يحل للحر المسلم أن ينكح الأمة، إلا بشرطين فيه، وشرط فيها، فأما الشرطان المعتبران فيه: فخوف العنت، وفقدان طَوْل الحرة. وأما الشرط المرعي فيها، فالإسلام.
وحقيقة مذهب الشافعي ترجع إلى أن نكاح الأمة في حق الحر ينزل منزلة الرُّخَص، ونصُّ الشافعي فيما نقله المزني - دالٌّ على ذلك، وقد استدل الشافعي على هذا بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} إلى قوله تعالى: {ذَلِك لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَت} [النساء: 25]. وقد قررنا في (الأساليب) (3) وجهَ ذلك، وإنما نذكر من مساق الأساليب -ما نذكر- المسلكَ، وئجري ضابطاً لتفصيل المذهب.
ولو وجد طَوْل حرة كتابية، فهل له أن يتزوج الأمة؟ فعلى وجهين: أحدهما -وهو أقربهما إلى طريق المعنى- أن ليس له أن يتزوج أمة (4)، لقدرته على طوْل حرة، والحرة الكتابية لا تنحط رتبتها في حقوق النكاح -فيما لها وعليها- عن رتبة الحرة المسلمة.
__________
(1) هذا العنوان من وضع المحقق أخذاً من مختصر المزني الذي أعلن الإمام التزامه الجريان على ترتيبه.
(2) ر. المختصر: 284.
(3) الأساليب: اسمٌ لأحد كتب إمام الحرمين في الخلاف، كما أشرنا مراراً من قبل.
(4) هذا الذي اختاره الإمام هو الأصح، قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 129).

(12/256)


ومما يتعلق بأطراف الكلام (1) اجتناب (2) التسبب إلى إرقاق المولود، فإن ولد الحر من زوجته الرقيقة رقيق، وولده من الحرة الكتابية كولده من الحرة المسلمة (3)، ونقص دين الكتابية لا يلحق المولود.
والوجه الثاني -وهو الأليق بقاعدة المذهب- أنه ينكِحُ أَمة إذا لم يجد طوْل حرة مسلمة، وإن وجد طوْل كتابية، فإن المعتمد في القاعدة تنزيل نكاح الإماء منزلة الرخص، واتخاذ مواقع النص في الكتاب قدوة النفي والإثبات، وقد قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} [النساء: 25] فقيّد بالإيمان، فدل التخصيص به على الحكم في الكوافر بخلاف ذلك (4)، وقد يشهد لهذا قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221].
وقد أرسل الأصحاب مسائل هذا الفصل، ونحن نأتي بها على وجوهها، ثم ننعطف على مواقع النظر فيها.
8064 - فمما ذكروه (5) أن القادر على أن يشتري أمة ويتسراها، لا يجوز له أن ينكح أمة. هذا ما قطع به الجماهير، وفي بعض التصانيف أن المذهب هذا (6).
وفيه وجه آخر أن له أن ينكح أمة؛ فإن التسرّي لا يسد مسد النكاح، ولذلك لا يثبت لهن حق في القَسْم، فكأنهن مخرجات من الاعتبار، ومن كان تحته حرة، أو
__________
(1) في النسختين: بأطراف الكلام به.
(2) ت 3: احتساب.
(3) كولده من الحرة المسلمة: أي في الحرية.
(4) يرى الإمام أن التقييد بالإيمان على وجهه، وليس جرياً على الغالب، كما رآه النووي، ولذا يرى أن الجري على قواعد المذهب يجعل له أن ينكح أمة مع القدرة على الحرة الكتابية، على حين يرى أن "الأقرب إلى طريق المعنى أنه لا ينكح الأمة إذا وجد الحرة الكتابية". وانظر الروضة: 7/ 129.
(5) عبارة النسختين: فمما ذكروه على أن القادر على أن ...
(6) المذهب -حقاً- كما قال النووي: أن من قدر على التسرّي لا ينكح الأمة. (ر. الروضة: 7/ 131).

(12/257)


حرائر، وكان يملك أمة، فعكف عليها (1)، وعطّل الحرائر؛ فلا معترض عليه من [جهتهن] (2)، ويعتضد هذا الوجه -على بعده- بالآية؛ فإليها الرجوع، وليس فيها للتسري ذكر.
8065 - ولو كان للرجل حرة منكوحة، وهي غائبة عنه، وهو يخاف على نفسه العنت، ولا يتوصل إلى الحرة لعائقٍ ناجز، فليس له أن ينكح أمة؛ فإن الأمة لا سبيل إلى إدخالها على نكاح حرة - إذا كان صاحب الواقعة حراً. فإن أراد التوصل إلى نكاح أمة، فليُطلّق الحرة (3).
8066 - وكذلك لو كانت (4) الحرة، ولكن كانت هِمَّةً (5) هرمةً، لا يتأتى [التمتع] (6) بها، فلا يجوز أن ينكح أمة، ما دامت الحرة في حِبالته (7). فإن أراد نكاح الأمة، فليطلّق الحرة.
8067 - ولو وجد مالاً ولم يجد حرة ينكحها؛ فله أن ينكح أمة؛ فإن المال لم يعتبر في هذا الباب لنفسه، وإنما اعتبر لجهة كونه ذريعة موصِّلة إلى نكاح الحرة، فإذا كان لا يتأتى هذا، فوجود المال كعدمه.
8068 - ومما ذكره الأصحاب: أنه لو لم يجد الرجل حرة، ولكن لو سافر، لوجد حرة، قال الأصحاب: إن كان يناله مشقة ظاهرة في المسير إليها؛ فلا نكلفه
__________
(1) عبارة ت 3: فعكف عليها لا يتزوج وعطّل ...
(2) في النسختين: جهتين. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.
(3) لم يرجح النووي بين الوجهين، ولكنه اكتفى بقوله: "الأصح عند صاحب المهذب والقاضي حسين أنه له أن ينكح الأمة، وبه قطع ابن الصباغ وجماعة من العراقيين، وأما الإمام (إمام الحرمين) فقد قطع بالمنع وكذا الغزالي والبغوي". (ر. الروضة: 7/ 129).
(4) لو كانت الحرة: كان هنا تامة، فالمعنى: لو وجدت.
(5) همة: الهِمّ: الشيخ الفاني، والأنثى همّة، وهما بكسر الهاء (المصباح).
(6) في النسختين: التعطف.
(7) حِبالته: أي في عقدة نكاحه وميثاقه. والحبالة بكسر الحاء في الأصل: شبكة الصائد ومصيدته، عبر بها مجازاً (المعجم).

(12/258)


ذلك، وله أن ينكح أمة، وإن كان لا يناله مشقة معتبرة، فلا ينكح أمة؛ فإن اراد النكاح، قصد الحرة (1).
8069 - ولو كان للحر مال غائب، وهو لا يتوصل إليه إلا بعد زمان متطاول، والحاجة ماسة، والعنت غير مأمون، فله أن ينكح أمة، وليس وجود المال بمثابة وجود الحرة في حِبالته؛ فإن الحرة يتأتى تطليقها، والمال الكائن في [ملكه] (2) لا نكلفه قطع ملكه عنه. وقد تعسر فرض طريق شرعي.
8070 - ومن قواعد الفصل: أنه لو لم يجد طَوْل حرة، ولكنه صادف حرة تسمح ببعض المهر، أو ترضى بمقدار من المهر؛ فلو ثقلت عليه المِنّة، فهل له أن ينكح أمة؟ فيه اختلاف مشهور بين الأصحاب: فمنهم من لم يوجب عليه تقلّد المِنّة، وأباح له نكاح الأمة.
ومنهم من لم يبح له نكاح الأمة (3). وهذا هو الذي اختاره الصيدلاني، واعتل بأن العادة قد جرت بالتزويج بأقل من مهر المثل، لأغراض في المواصلات، وليس هذا مما تعظم المِنّة فيه، بخلاف بيع [الماء] (4) بالغبن؛ وذلك أن الغرض [من] (5) الأموال، المالية المحضة؛ فالمحاباة في الثمن حط من عين المقصود، وفي النكاح أغراضٌ سوى المال؛ فيخف قدر المال.
ولو كانت الحرة ترضى بمهرها مؤجلاً، وكان صاحب الواقعة معسراً، فنجعله فاقداً لطَوْل الحرة (6)؛ فإن الطَّلِبة -وإن كانت لا تتوجه [بالمهر] (7) في الحال-
__________
(1) قصد الحرة: أي سافر إليها.
(2) في النسختين: في ملك.
(3) وهذا الوجه هو المذهب (ر. الروضة: 7/ 130).
(4) في النسختين: "المال"، والمثبت من تقدير المحقق؛ فإنه يشير إلى ما قرره في التيمم من أنه لا يُكَلّف الإنسان تقلّد مِنَّة إذا وجد من يرضى ببيع الماء له بأقلَّ من ثمنه.
هذا، وقد جاءت (صفوة المذهب) بما في النسختين. فالله أعلم بما أراده الإمام.
(5) في النسختين: عن.
(6) وهذا أيضاً هو المذهب (السابق نفسه).
(7) زيادة من (ت 3).

(12/259)


فستنقضي المدة، وسيطالب عند حلول الأجل.
فإن قدّر مقدّر له يساراً، فذاك متوقع، ولا نكلفه [الالتزام] (1) على توقع اليسار.
وكذلك إذا وجد السافر الماء معروضاً على البيع (2)، وكان يباع بالثمن المؤجل، وليس له مال؛ فلا نكلفه ابتياع الماء بالثمن المؤجل، بناء على انتظار وجدان وفاء في الثمن.
فهذه المسائل نقلناها على وجوهها، ونحن الآن نرجع إلى تتبع مواقع السؤال ونبحث عن مواضع الإشكال جهدنا، والله ولي التوفيق.
8071 - فأول ما نوجه البحث عليه، القول في العنت وخوفه، وقد فسر الفقهاء العنت بالزنا. وهذا يستدعي مزيد كشف. فإن كانت الشهوة فاترة، وكان (3) صاحب الواقعة يُبعد من نفسه -لدينٍ أو حياءٍ، أو رعاية مروءة- اقتحامَ السفاح؛ فهذا غير خائف من العنت، فلا يحل له نكاح الأمة.
وإذا لاح ذلك، فحيث ينحسم إمكان الوقاع أولى بالتحريم.
والحر المجبوب لا يتصوّر منه الوطء -لا مستباحاً ولا سفاحاً- فلا يحل له نكاح الأمة قط.
ولو اغتلمت النفس (4)، وتشوّفت الشهوة ورقّ عصام التقوى، فهذا خائف من العنت.
وإن تاقت النفس، وكان الرجل مستمسكاً بالتقوى عليه، وأَمِن وألِف صنع الله تعالى في عصمته، فهذا يبعد منه أن يتمضخ بوضر الزنا، ولكنه قد (5) يتأذى، وقد يُفضي الأمر إلى إعلال، فهذا محل التردد: يجوز أن يقال: لا يحل له نكاح الإماء؛ لأنه يفضي إلى إرقاق المولود؛ فلا يجوز التسبب إليه بسبب قضاء وطر، أو غضّ
__________
(1) في النسختين: الإلزام.
(2) المراد ابتياع الماء للوضوء والاختيار بينه وبين التيمم.
(3) كذا في النسختين، ولعل الصواب (أو).
(4) ولو اغتلمت النفس: اغتلم: أي اشتدت غُلمته، وهي الشهوة للجماع (المعجم).
(5) ت 3: كان يتأذى ولكنه يفضي الأمر.

(12/260)


شهوة. وإن كان يخاف الوقاع في السفاح، [فوقْعُ] (1) هذا المخوف عظيم، والإيلاد ليس مستيقناً، فأثبت الشرع نكاح الإماء مع ما فيه من الإفضاء إلى إرقاق الأولاد.
هذا وجه.
ويجوز أن يقال: إذا كان ترك الوقاع يجرّ ضرراً، وقد يجلب مرضاً، فيسوغ نكاح الإماء، وإن كان الغالب على الظن عدمُ الوقوع في السفاح، والعنت في حقيقة اللغة هو المشقة، وهو كناية في الزنا.
وإن لم يكن خوفُ مرض ولا خشية بالوقوع في الزنا؛ فمحض التوقان وغلبة الشهوة لا يسلط على نكاح الإماء، لما فيه من [التسبب] (2) إلى إرقاق الأولاد.
وما ذكرناه من خوف الزنا؛ لم نعن به غلبة الظن في وقوعه، بل المعنيُّ به توقع وقوعه، لا على سبيل الندور، والشهوة إذا اغتلمت [غلاّبة] (3) للعقل، والذي لا نصفه بالخوف لا نبغي تقدير العصمة فيه على علم، ولكن غلبة الظن بالتقوى والانكفاف ينافي الخوف، وغلبة الظن ليست شرطاً في تحقيق الخوف من الوقوع في الزنا.
وهذا يتضح بضرب مثال: فإذا غلب الأمن في بعض الطرق، وُصف به، وإن كنا لا نقطع به، وإن كان وقوع المحذور يعارض السلامة، فهذا يعدّ مخوفاً، وإن كان لا يغلب على الظن الخوفُ. فهذا وجه البحث عن خوف العنت.
8072 - ومما يجب البحث عنه ما أجريناه في أثناء المسألة في تصوير غيبة الحرة المطلوبة المخطوبة، فإن الذي ذكره الأصحاب فيه أنه إن كان يناله مشقة، فلا نكلفه السفر، ويجوز له أن ينكح الأمة، وهذه المشقة مبهمة، ونحن نقول فيها: إن كان يخاف الوقوع في السفاح في المدة التي يقطع فيها المسافة؛ فينكح ناجزاً. وإن كان لا يخاف ذلك -على ما مضى تفصيل الخوف نفياً وإثباتاً- ولكن كان يناله مشقة في
__________
(1) في النسختين: فموقع.
(2) في النسختين: السبب.
(3) في النسختين: علامة العقل.

(12/261)


بدنه، ويمكنه أن يتماسك في المدة التي يقطع في مثلها تلك المسافة، غير أنه يتضرر في بدنه؛ فهذا محل التأمل. فلا مطمع في ربط هذا بالسفر الذي يتوفر عليه الرخص، حتى يقال: إذا كان يحتاج إلى قطع مسافة القصر، لم نكلفه ذلك؛ مصيراً إلى أن السفر مظنة المشاق فيه؛ ولذلك تعلقت الرخص بها جمعاً وقصراً وإفطاراً؛ فإن معنى المشقة ليس معتبراً في الرُخص في تفصيل المسائل.
وإنما نذكر [هنا] (1) معنىً كلياً، والمعاني المعتبرة فيما (2) نحن فيه مرعيّة في آحاد الأشخاص، وحق الفقيه أن يفرق بين ما يعتبر فيه صفة كل شخص، والأمر مبني على انقسام الأشخاص لاختلاف صفاتهم، وبين معنى كلي لم يلتفت فيه على الأشخاص، فعين السفر لا نعتبره، بل نعتبر ما ينال كلَّ شخص من المشقة، وذلك يتفاوت تفاوتاً بيّناً.
8073 - فإذا وضح هذا، رجع النظر إلى المشقة المعتبرة، وتقريب القول فيها.
والغرض لا يبين منه إلا بتقديم أصل عليه، مقصودٍ في نفسه؛ فنقول: إذا كان الرجل ذا يسار وثروة، وكانت ذات يده وافية، ولكن كانت الحرة تغالي بمهرها، ولا ترضى بمهر مثلها؛ فهل يجوز نكاح الأمة بسبب مسيس الحاجة إلى بذل مزيد في مهر المثل؟ [وقد] (3) تمهد في باب التيمم أن الماء إذا كان يباع بوكيسة (4) درهم فأقل؛ فيجوز الانتقال إلى التيمم. ولا ينبغي أن ينظر الناظر إلى هذا الأصل، ويُنزل الأمة مع الحرة منزلة التراب مع الماء، والسبب فيه أن الغرض الأظهر من النكاح المستمتَع [و] (5) المواصلة؛ ولا يعد مَنْ بذل أدنى مزيد على مهر المثل مغبوناً، بل قد يحتمل هذا لأغراض في مقابلته؛ فإذا وفت الثروة، فكان المقدار الزائد على مهر المثل بحيث يعدّ [باذله متكرّماً] (6)، ويحمل على الأغراض الصحيحة؛ فلا يسوغ نكاح الأمة
__________
(1) في النسختين: هذا. والمثبت تقدير منا.
(2) ت 3: في أمثال ما نحن فيه.
(3) في النسختين: فقد.
(4) بوكيسة درهم: أي بغبينة درهم، فمن معاني الوكس الغبن، وهو المراد هنا (المعجم).
(5) زيادة من المحقق.
(6) في النسختين: نازلة تكرّماً.

(12/262)


ببذل هذا المقدار في مهر الحرة مع وفاء القدرة والثروة.
فإن كان ما تطلبه الحرة [المغاليةُ] (1) خطيراً بحيث يعدّ بذله سرفاً، فلا يحال على إمكان غرضٍ [يعدل] (2) المبذول، فإذا انتهت المغالاة إلى هذا الحد، فالوجه تجويز نكاح الأمة، وإن وفت ذات اليد بإجابة المغالية.
وينشأ مما نحن فيه أمر كثير الوقوع في الوقائع: فالأب إذا زوّج ابنته بدون مهر مثلها، فالذي أطلقه الأصحاب أنه يثبت مهر مثلها كَمَلاً بالعقد، وليس يبعد عن الاحتمال عندنا أن يُحتمل الحط القريب إذا أمكن حمله على رعاية غرض.
وكذلك إذا زوّج من ابنه امرأة بأكثر من مهر مثلها، وكان لا يبعد حمل ذلك الزائد، فلا يمتنع الحكم بثبوته.
ولست قاطعاً بما ذكرته من جهة النقل، ولكنه احتمال بيّن. وكيف يمتنع خروجه على المذهب، وقد نقلنا قولاً أن الأب إذا زوّج ابنته ممن لا يكافئها، فنقضي بلزوم تزويجه؟ وهذا أبعد من حطيطة قريبة في المهر.
فإذا تمهد هذا عدنا إلى بيان المشقة التي أبهمها الأصحاب عند الحاجة إلى السفر إلى الحرة، فنقول: حقها أن تعتبر بالزائد في المهر. والتقريبُ فيه: أن المشقة إذا كانت بحيث لا ينتسب محتملها إلى مجاوزة الحد في طلب زوجة، فهي محتملة.
وإن طالت الشُّقة، وعظمت المشقة، وكان مثلها لا يحتمل في طلب حرة، فهذه المشقة معتبرة، وهذا يحتاج (3) إلى مزيد نظر، وهو: أن من يبغي حرة بمبلغ زائد على مهر المثل، فتلك الزيادة تقابل بغرض مطلوب. وفي مسألة الحرة والأمة غرض مطلوب مع إضرار يلحق الولد، وهذا يشعر باشتراط مزيد في ترتيب هذا التقريب.
فهذا منتهى الإمكان.
وما نحن فيه ينقسم إلى ما يتم فيه [انحسام] (4) النظر، وإلى ما يُبقي فيه لنا
__________
(1) زيادة من (ت 3).
(2) في النسختين: "بعد".
(3) سقطت من (ت 3).
(4) في النسختين: انقسام. والمثبت تقدير منا.

(12/263)


مضطرباً، ولنا حق السبق بالإرشاد إلى الطريق.
8074 - ثم نختتم الفصل بما صدرناه [به] (1) ونقول: نكاح الحر الأمةَ مخصوص بظهور الحاجة، وإذا كان كذلك، لم يجز للحر أن يزيد على أمة واحدة؛ فإنها يُكتفى بها وتنسد حاجته [بالتمكن] (2) منها، ثم لا يقع الاكتفاء برعاية الحاجة المحضة؛ فإن الحر إذا كان تحته حرة، وبقي لا يتمكن من وقاعها، فليس له أن ينكح أمة، وإن كانت الحرة الرتقاء لا تسد حاجة [فلسنا] (3) ننكر امتناع إدخال الأمة على الحرة.
ولو نكح أمة فإذا هي رتقاء، فما قدمناه من القياس يمنعه من نكاح أمة أخرى، حتى يطلّق الأولى؛ فليس يسمح أحد من أئمة المذهب بإدخال أمة على حرة، كيف فرضت الأمة. وإدخال الأمة على الأمة بهذه المثابة. فإذا أراد نكاح أمة أخرى، فليطلّق الأولى.
وكل ما ذكرناه، في الحر إذا أراد أن ينكح أمة.
8075 - فأما العبد، فله أن ينكح أمة بإذن مولاه وإن تمكن من نكاح حرة، لم يختلف المذهب فيه، وتعليله مشكل فيه؛ [فإن] (4) الحر مأمور بالنظر لولده، وإنما يتوجه مثل هذا الخطاب على من يجوز أن يكون ناظراً، والعبد ليس من أهل النظر لولده الموجود، فكيف يناط به النظر للمفقود؟ وينضم إلى ذلك أن العبد لا خِيَرة له.
فلا [احتكام] (5) للشرع عليهِ من أن يتخير، ثم الحرة في حق العبد كالأمة، فله أن ينكح أمة على حرة، وله الجمع بينهما في عقدة، وله نكاح أمتين، ولا فرق في حقه بين الحرائر والإماء.
والمكاتَب كالعبد إذا كان ينكح، ومن نصفه حر ونصفه عبد كالعبد القن، كما أن من نصفها حرة ونصفها رقيق كالأمة.
__________
(1) في النسختين: فيه. ولعل ما أثبتناه الصواب، فهو اختيار منا.
(2) في النسختين: التمكين.
(3) في النسختين: ولسنا.
(4) في النسختين: أن.
(5) في الأصل: أحكام.

(12/264)


ولو نكح الحر -الذي يجوز له نكاح الأمة- جارية نصفها حر ونصفها رقيق، فحكم ولده منها في الحرية والرق كحكمها، فولد الحرة حر، وولد الرقيقة رقيق، وولد المتبعضة في الرّق والحرية متبعض؛ إذ ولد كل ذي رحم بمثابتها.
8076 - وإذا تمكن الحر من نكاح جارية - نصفها حر، فهل له أن ينكح أمة كاملة الرق؟ هذا فيه تردد؛ من جهة أن إرقاق بعض الولد أقرب من استغراقه بالإرقاق (1).
والعلم عند الله تعالى.
ومن نصفه حر ونصفه عبد، ينكح أمةً مع القدرة على نكاح حرة. اتفق عليه الأصحاب؛ لأن ما فيه من الرق حطَّه (2) عن الكمال وأخرجه عن الولاية، وليس من أهل النظر، فلا يؤاخذ بتخير حرة.
فلينظر الناظر فيما نلقيه إليه، فإن كان يخطر له أن منع الحر من الأمة لكمال الحر حتى لا يقدم على ناقصة، وبنى عليه أن فيمن نصفه حر بعض الكمال، قيل له: هذا.
غير سديد مع تجويزنا للحرة أن تنكح عبداً على كمالها، وجانبها أولى برعاية هذا المعنى، ولهذا حصرنا اعتبار الكفاءة في جانبها، فمنعنا تزويج كريمة من خسيس، ولم نمنع تزويج خسيسة من كريم، ومع هذا لم يمتنع نكاح العبد الحرة إذا رضيت ورضي أولياؤها.
8077 - الحر (3) إذا جمع في عقد واحد بين حرة وأمة، نظر: فإن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء، فلا شك في بطلان نكاح الأمة، فأما نكاح الحرة، فقد قطع الشافعي قوله في القديم بصحة نكاحها. وقال في الجديد: "وقد قيل: يثبت نكاح الحرة وينفسخ نكاح الأمة. وقيل: ينفسخان معاً" (4)؛ فحمل الأصحاب هذا على ترديد القول في الجديد؛ واتفقوا على طرد قولين في المسألة: أحدهما - أن النكاح
__________
(1) هذا هو الأظهر عند الإمام، والنووي حكى تردّد الإمام، وحكى عن بعض الأصحاب أنه كالرقيق، ولم يرجح أيهما (الروضة: 7/ 132).
(2) ت 3: حظه عند.
(3) في هامش الأصل: كلمة (فصل) إشارة إلى أن هذا بدء فصل جديد.
(4) ر. المختصر: 3/ 285.

(12/265)


يصح في الحرة (1)، وهو القياس؛ لأن الفساد إن اعتقد مجيئه من جهالة الصداق، فهو محال؛ فإن النكاح لا تفسده جهالة الصداق، وإن قدّر مقدِّر الفساد من الجمع في لفظ واحد بين ما يفسد ويصح، فهذا غير صحيح؛ فإن العقد ينعقد بمعنى اللفظ لا بصورة اللفظ، والحرة متميزة في معنى اللفظ عن الأمة.
وعبّر المزني عن هذا، فقال: نكاح الحرة قائم بنفسه، أراد أنه لا تعلق له بنكاح الأمة؛ فإذا [قام] (2) بنفسه، لم يفسد بفساد غيره، وآية هذا: أن النكاح لا تفسده الشروط الفاسدة، على ما سيأتي تفصيلها في بابها، إن شاء الله عز وجل؛ وأثر الجمع في اللفظ دون أثر الشرط؛ فإن الشرط متعلق بالمشروط، ولا تعلق للشيء بما ينضم إليه ذكراً.
والقول الثاني - إن النكاح يفسد في الأمة والحرة جميعاً؛ لأن العبارة عنهما جميعاً واحدة؛ والمعنى لا يتأدى إلا بالعبارة، والعبارة الشاملة لو أسقطت بعضها لم يستقل الباقي، ففساد بعضها كسقوط بعضها. وهذا [خيال] (3).
والأصح: القول الأول. والوجه (4) عندي القطع بما قطع به في القديم؛ لما ذكرناه في توجيهه.
ويتجه حمل قول الشافعي: "وقيل" على حكاية مذهب [الغير] (5)؛ إذ لا يليق بمسلكه في الجديد ترديد القول في صحة النكاح في الحرة مع قيامه بنفسه، كما تقدم تقريره.
هذا إذا جمع بين الحرة والأمة، وهو ممّن لا يجوز له نكاح الأمة.
__________
(1) قال الرافعي هذا الوجه هو الأصح، وقال النووي هو: الأظهر. (الشرح الكبير: 8/ 13، والروضة: 7/ 133).
(2) في النسختين: أقام.
(3) في النسختين: احتيال (بالمهملة) ولعل ما أثبتناه هو الصواب، فهو الأشبه بلغة الإمام.
(4) ت 3: والأوجه.
(5) زيادة من (ت 3).

(12/266)


8078 - فإن رضيت الحرة بمهر أمة، وقلنا: يجوز له نكاح أمة، فهذا (1) حر يتأتى منه الإقدام على نكاح الحرة ويحل له نكاح الأمة.
فإذا جمع بينهما، فلا شك أن النكاح لا ينعقد على الأمة؛ إذ لو انعقد النكاح عليها، لا نعقد على الحرة؛ ثم هذا يؤدي إلى الحكم بانعقاد [نكاح] (2) الأمة مع ثبوت نكاح الحرة. ولو جاز هذا، لجاز إدخال الأمة على الحرة.
فإذا بان أن النكاح لا ينعقد على الأمة، فهل ينعقد على الحرة؟ ذكر أصحابنا طريقين: منهم من قطع القول بفساد النكاح على الحرة؛ لأن الجمع بينهما غير [سائغ] (3) والإقدام على نكاح كل واحدة منهما جائز، وكأن الجمع بينهما بمثابة الجمع بين الأختين.
وهذه الطريقة مزيفة؛ فإنا إنما نحكم بإبطال نكاح الأختين؛ إذ ليست إحداهما أولى من الأخرى، والجمع غير ممكن. والحرة إذا جمعت مع الأمة، فهي ممتازة عن الأمة، بدليل أن الحرة تنكح على الأمة، والأمة لا تنكح على الحرة.
ومن أصحابنا من أجرى في صحة نكاح الحرة قولين، ورتبهما على القولين في الصورة الأولى.
والأصح (4) عندنا: القطع بانعقاد النكاح على الحرة في الصورتين.
__________
(1) ت 3: فهو.
(2) زيادة من (ت 3).
(3) في النسختين: ضائع.
(4) لم يرجح الرافعي والنووي -شيخا المذهب- بين الطريقين، ولا بين القولين، فقد قال الرافعي: "وفي نكاح الحرة طريقان: أظهرهما عند الإمام، وبه قال صاحب التلخيص أنه على قولين كما في القسم الأول.
وقال ابن الحداد، وأبو زيد، وآخرون: يبطل جزماً؛ لأنه جمع بين امرأتين لا يجوز له الجمع بينهما، ويجوز له نكاح كل واحدة منهما وحدها، فيبطل النكاحان، كما لو جمع بين الأختين". (ر. الشرح الكبير: 8/ 63، 64).
وقال النووي: وفي الحرة طريقان: أظهرهما عند الإمام وبه قال صاحب التلخيص أنه على القولين. وقال ابن الحداد، وأبو زيد وآخرون: يبطل قطعاً ... إلخ (ر. الروضة: 7/ 134).

(12/267)


ولم أتعرض لمهر الحرة، إذا حكمنا بانعقاد النكاح عليها؛ فإن ذاك من الأصول الحسابية في الصداق، وكتابه بين أيدينا، إن شاء الله عز وجل.
8079 - ولو قال: زوّجتك ابنتي وبعتك هذا الزق [من] (1) الخمر بألف درهم، فالذي قطع به المحققون صحة النكاح (2)، لامتيازِ البيع في وضعه عن النكاح، ولأن النكاح خُص بعبارة مستقلة مفردة، ولا يتأتى التعبير عنهما إلا كذلك، وقد ذكرنا أنه لا وجه لإفساد النكاح في الجمع بين الحرة والأمة إلا اتحاد العبارة، كما تقرر، فإذا انفرد النكاح بصيغة، لم يبق [للإفساد] (3) وجه.
ومن الأصحاب من أجرى في فساد النكاح قولين. وهذا ساقط من الكلام غير معتد به.
ولو قال: زوّجتك ابنتي هذه، وزوجتك أمتي هذه. فقال المخاطَب: قبلت نكاح ابنتك، وقبلت نكاح أمتك؛ فلا خلاف في انعقاده على البنت؛ لأن تزويجها وقبولها متميزان عن تزويج الأمة وقبولها.
ولو فصل المزوج كما صوّرنا، فأتى المخاطَب بعبارة واحدة في قبولهما، وقال: قبلتهما؛ أو قبلت نكاحهما، فالأصح القطع بصحة النكاح على الحرة. ومن أصحابنا من أجرى هذا مجرى ما لو قال المزوّج: زوجتكهما، وقد مضى الكلام فيه.
8080 - ثم ذكر الأصحاب صوراً في الجمع وفاقاً وخلافاً لا يخفى مُدركها: فإذا نكح الرجل خمس نسوة أجنبيات في عقدة، بطل النكاح بهن بالتدافع، كما لو جمع أختين أو أخوات في عقدة.
ولو تزوج أربع نسوة وفيهن أختان؛ فنكاح الأختين باطل، وفي نكاح الأخريين قولان، على ما ذكره الأصحاب تخريجاً على التفريق، كما قدمناه في الجمع بين الحرة والأمة، والقولان يجريان فيما لو جمع بين خلية من العدة [ومعتدة] (4) في عقدة.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) هذا هو المذهب، قاله النووي (ر. الروضة: 7/ 135).
(3) في النسختين: إلا فساد.
(4) في الأصل: معدّة.

(12/268)


ولو نكح خمساً فيهن أختان، بطل النكاح في الأختين، وفي الثلاث القولان. وليس يخفى قياس ذلك، ولسنا للإطناب في مثله.
ولو جمع بين أم وابنتها، فهو كذلك، كما لو جمع بين أختين.
فإن قيل: الأم تحرم بالعقد على البنت، والبنت لا تحرم بالعقد على الأم؟ قلنا: ذاك افتراق في تحريم الأبد، ولسنا نحتاج إليه، وبين الأم وابنتها من تحريم الجمع ما بين الأختين؛ فالافتراق -وذلك فيما يتعلق باثبات الصهر والمحرمية- لا وَقْع له في هذا المقام.
فصل
8081 - قد ذكرنا أن الأمة الكتابية لا يحل للحر المسلم نكاحها، وظاهر نص الشافعي أنها كما لا تحل للحر المسلم، لا تحل للعبد المسلم. قال الشافعي: "العبد كالحر في أنه لا يحل له نكاح أمة كتابية". وقد ذكرنا في ذلك تخريجاً عن ابن خَيْران (1) في الحكاية التي أثبتناها عن الماسَرْجِسِي، ومسلك التخريج: أن الرق غير معتبر ولا مؤثر في حكم العبد، فلتكن الأمة الكتابية، في حقه بمثابة الحرة الكتابية، وهذا متجه على هذه القاعدة من طريق المعنى.
وذكرنا هذا التخريج في تزويج الأمة الكتابية من الحر الكتابي، ووجهه أخفى قليلاً في حقه منه في حق العبد المسلم؛ فإن الذي نذكر في هذه الصورة أن كفرها لا يؤثر في حق الكافر، وهذا ليس بذاك؛ فإنا كما لا نتزوج الوثنية لا نزوّجها من وثني. ولو أراد مسلم أن ينكح أمة مسلمة لكافر إذا كان عادماً للطوْل خائفاً من العنت، فالمذهب
__________
(1) الموضع الذي يشير إليه هو: فصلٌ "ولي الكافرة كافر" والمذكور هناك هو (ابن أبي هريرة)، وليس ابن خَيْران!! فأيهما الصواب؟
قلتُ: وقد رأيت الرافعي توقف في هذه القضية كما توقفنا، فقد قال ما نصه: "ورأيت الإمام (أي إمام الحرمين كما قد صار معروفاً) نقل الخلاف في الصورتين في حكايةٍ أسندها إلى أبي الحسن الماسَرْجسي عن تخريج ابن أبي هريرة تارة، وابن خيْران أخرى، والله أعلم". ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 8/ 62).

(12/269)


الصحيح [النظر] (1) إلى صفة المنكوحة.
ومن أصحابنا من منع ذلك، صائراً إلى أن نكاحها يفضي إلى إرقاق الولد المسلم (2). وهذا ليس بالقوي، وأجمع المحققون على أن الحر المسلم لا ينكح أمة كتابية لمسلم، وإن كان النكاح يفضي إلى إرقاق الولد [لمسلم] (3).
وذكر الخلافيون في ذلك وجهاً، نظراً إلى من يحصل الولد رقيقاً له، فانتظم من مجموع ما ذكرناه مسلكان: أحدهما - أن الأمة الكتابية كالمرتدة، لا يحل لأحد نكاحها.
والثاني - أنها ليست كالمرتدة، وقد تحل لبعض الناس. ونصُّ الشافعي فيما مضى دليل عليه؛ فإنه قال: "لا يلي المسلم كافرة إلا أن تكون أمة". ومن ضرورة هذا تصور نكاحها على الجملة. ونصَّ هاهنا على أن العبد المسلم لا ينكح أمة كتابية، ولعل ابن خَيْران (4) ذكر ما حكيناه من القولين عن اختلاف هذين النصين. ثم إن جوّزنا نكاحها على الجملة، فقد ذكرنا التفصيل فيمن يُنكحها.
فصل
قال: "ولو تزوّجها، ثم أيسر ... إلى آخره" (5).
الحر إذا خاف العنت، وعدم الطَّول، فنكح أمة، ثم أيسر واستغنى، لم تحرم عليه الأمة، ولم ينقطع نكاحها.
8082 - وذهب المزني إلى أنه إذا طرأ اليسار بعد نكاح الأمة، بطل النكاح، وكما يشترط في العقد ألا يكون واجداً للطول، فكذلك يشترط في دوام النكاح دوام هذا
__________
(1) في الأصل: نظر، و (ت 3): ينظر. والمثبت تقدير منا.
(2) إرقاق الولد المسلم: أي للكافر.
(3) في النسختين: المسلم، والمثبت تصرّفٌ منا.
(4) ت 3: ابن حيان.
(5) ر. المختصر: 3/ 285.

(12/270)


المعنى (1). وقياسه أن من [نكح] (2) حرة على أمة، انقطع نكاح الأمة كما (3) انعقد نكاح الحرة.
[ولا] (4) خلاف أن زوال خوف العنت لا يقطع نكاح الأمة؛ فإن النكاح إنما يُعنى [لذلك] (5)، فيستحيل أن ينقطع بما هو مقصود منه.
وذكر بعض المشايخ أن طريان الغنى مما يتوقع بالنكاح، اعتصاماً بوعد الله تعالى؛ إدْ قال عز من قائل: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه} [النور: 32].
ثم ذكر (6) في آخر الباب محاجّة في الأمة الكتابية، وأشار إلى كراهية التزوج بالحربية، وقد تقدم القول فيهما.
...
__________
(1) لم أصل إلى هذا من كلام المزني في المختصر.
(2) في النسختين: ينكح.
(3) كما: بمعنى عندما، وقد تكرر هذا في الأجزاء الأولى كثيراً، وهو استعمال قال عنه النووي: ليس بصحيح، وليس بعربي، وقد بينا ذلك أكثر من مرة.
(4) في النسختين: فلا.
(5) في النسختين: "كذلك". والمثبت تقدير منا.
(6) أي المزني في المختصر (ر. جزء 3 ص 285).

(12/271)


باب التعريض بالخطبة
8083 - التعريض بالخِطبة جائز في عدة الوفاة، ولا يجوز للأجنبي أن يعرّض بخطبة الرجعية في العدة. وذكر الأصحاب في تحريم ذلك معنيين: أحدهما - أنها زوجة، فلا يجوز للغير التعرض لها، تعريضاً ولا تصريحاً.
والثاني - أنها تكون متغيرة حنقة على زوجها، فقد يحملها ذلك على خُلفٍ (1) في ادعاء انقضاء العدّة.
وأما المعتدة عن الطلاق المُبين، فقد ذكر أصحابنا في جواز التعريض وجهين مبنيَّين على المعنيين المذكورين في الرجعية؛ فإن قلنا: المعنى في الرجعية أنها زوجة، فهذا المعنى مفقود في الثانية، فيجوز التعريض بخطبتها، وإن قلنا: المعنى في الرجعية أنها حنقة متغيظة، فهذا المعنى يتحقق في الثانية؛ فيحرم التعريض معها.
وهذه مراسم يذكرها الأصحاب في ضبط المسائل، وإلا فالغرض أن الرجعية لا يجوز التعريض بخطبتها؛ لأنها زوجة، وهذا المعنى كافٍ مستقل لا حاجة معه إلى آخر، والثانية فيها تردد. والوجه: توجيه الوجهين فيها بقياسها في أحدهما على المعتدة عدة الوفاة. والفرق بينها وبين المتوفى عنها في الوجه الثاني بما أشرنا إليه؛ فإن المتوفى عنها لا تكون حنقة على زوجها، وعدتها أيضاًً بالأشهر والأيام وتاريخ الموت لا يخفى، فلا يفرض في عدتها لبس إلا على بُعد.
ثم (2) صفة التعريض: ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت
__________
(1) الخلف بضم الخاء: اسم من أسماء الكذب. (المعجم).
(2) ت 3: إلا على تقديم صفة التعريض.

(12/272)


قيس: "إذا حللت فآذنيني" (1) أي إذا انقضت عدتك، فظنت أنه يريد أن ينكحها.
ومِن صيغ التعريض أن يقول: "ربّ طالب لك" أو "رُبَّ راغب فيك" أو "من يجد مثلك؟ ". والمرأة تجيبه تعريضاً إن أرادت، فتقول: "لستَ بمرغوب عنك" أو ما في معناه.
والصريح أن يقول: أريد أن أنكحك.
والتصريح بالخطبة ليس مكروهاً، ولكنه محرّم باتفاق من الأصحاب.
ثم يجوز التعريض سراً وعلانية، وقال داود: لا يجوز سراً لقوله تعالى: {وَلَكِن لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] قال الشافعي: معناه: لا تذكروا صريح اسم الجماع، والسر من الأسماء المشتركة، ومن معانيه الجماع نفسه؛ أورده ابن السكيت (2) في الإصلاح (3)، وهو مشهور عند أهل اللسان.
...
__________
(1) جزء من حديث فاطمة بنت قيس، رواه مسلم: الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، ح 1480، وانظر (التلخيص: 3/ 314 ح 1596).
(2) ابن السكيت: يعقوب بن إسحاق، أبو يوسف، إمام في اللغة والأدب ت 244 هـ (الأعلام للزركلي).
(3) الإصلاح: المراد به كتاب إصلاح المنطق لابن السكيت، وهو مطبوع معروف.

(12/273)


باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه
8084 - روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" (1) وقد روي هذا النهي مقروناً بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه". فالخطبة على الخطبة محرّمة في النكاح، والسَّوْم على السوم محرم في البيع. وقد مضى في كتاب البيع السوم على السوم، وطرف من الخطبة على الخطبة، ونحن نستقصي، إن شاء الله عز وجل - في هذا الباب تحريم الخطبة على الخطبة، ونذكر ما يتعلق منها بالسوم [على السوم] (2) فنقول:
8085 - الخطبة والسَّوْم قد يتفقان وقد يختلفان: فاتفاقهما في أن الرجل إذا خطب امرأة، فأجابت؛ حرم على الغير خطبتها، وكذلك إذا ساوم رجلاً سلعة بمبلغ من الثمن، وأجابه (3)، حرم على الغير السوم على سومه. هذا إذا طلب المشتري، فأجيب.
ومن هذا القبيل: أن يعرض الرجل سلعته على إنسان بمبلغ من الثمن، ويتوافقا على المقدار، فإذا دخل آخر وعلم ما جرى، فعرض سلعة أخرى بمثل ذلك الثمن، أو بأقلّ، فقد يرغب المشتري في السلعة الثانية، فيكون ذلك إفساداً لمقصود الأول، فيحرم ذلك، ويندرج كل هذا تحت النهي عن (4) السوم على السوم.
وقد يختلف البابان لاختلاف الصور.
__________
(1) حديث ابن عمر: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 327 ح 892).
(2) زيادة من (ت 3).
(3) ت 3: فأجابه.
(4) ت 3: على.

(12/274)


فإذا صادف الرجل سِلعة بيد (1) من يريد بيعها، فإذا طلبها مستام، فقد يزيد غيرُه، فيعلم أنه على المزايدة (2 فلا يمنع 2) ولا يتصور مثل هذه الصورة في الأبضاع.
ولو طلب الرجل سلعة مستاماً (3 فرضي مالكها 3)، ثم إن المشتري فارقه لا عن عِدَةٍ، فقد قال أصحابنا: للغير أن يستام في هذه الصورة، لأن مفارقته دليل على أنه أعرض عن طلبه، ولو استمر عليه، لواعد صاحبَه، وأوصاه بألا يبيعه.
وإذا خطب الرجل امرأة، فأجيب وأُسعف، فسكت (4) وانصرف إلى منزله، فليس للغير أن يخطب على خطبته.
وكل واحد من البابين مُقَرٌّ على العادة المعتادة فيه؛ فإن من يُسعَف بالخطبة فقد [يستأخر] (5) اليوم واليومين، ولا يعدّ ذلك إعراضاً، ثم إن طال انقطاعه -بحيث يعد ذلك إعراضاً- فحينئذ نحكم ببطلان الخطبة الأولى، ويجوز للغير أن يخطب.
ولو خطب امرأة فرُدّ، فللغير أن يخطبها.
ولو خطب امرأة ولا يُدرى أنه أجيب أو رُدّ، فللغير (6) أن يخطبها؛ فإنه إذا لم يتبين أنه أجيب [أو] (7) قطعت الخطبة، لما ازدحم الخطّاب على المرأة، والدليل على ذلك من جهة الخبر ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس - وهي معتدة "إذا حللت فآذنيني"، قالت: فلما حللتُ أخبرتُه، وقلت: إن أبا جهم ومعاوية خطباني، فقال: "أما معاوية، فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، انكحي أسامة". قالت: فكرهت ذلك، ثم لم أجد بداً من أمر
__________
(1) عبارة ت 3: فإذا صادف الرجل سلعة فيمن يريد فإذا طلبها ... إلخ وهكذا كانت نسخة الأصل، غير أنها صوّبت بقلم مخالف، وهذا يرد بها كثيراً مما يدل على أنها عورضت من قبل قارىءٍ آخر غير ناسخها.
(2) ساقط من (ت 3).
(3) ساقط من (ت 3).
(4) سقط من (ت 3).
(5) في الأصل: يسعف. والمثبت من (ت 3).
(6) ت 3: فيجوز للغير.
(7) في الأصل: لو.

(12/275)


رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنكحته، فجعل الله فيه خيراً، واغتبطت به" (1).
وإنما كرهت لأحد أمرين: إما لأنها كانت طمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن ينكحها، فلما لم يفعل، كرهت، أو لأن أسامة كان ابن مولى، ولم يكن من قريش، وإنما هو من بني كلب (2).
وفي حديث زيد بن حارثة دليل على جواز استرقاق العربي.
وهذا الحديث يتعلق به فوائد: منها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرّض بالخطبة وهي في العدة، لما قال "إذا حللت فآذنيني"، ثم صرح بعد انقضاء العدة، فدل ذلك على جواز التصريح بعد العدة، وجواز التعريض في العدة.
ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم على خطبة معاوية وأبي جهم، فاتجه أن يحمل هذا على أنه لم يعلم ما كان منهما، أو علم خطبتهما وعلم ترددهما، وهذا يفيد أصلاً في الباب، وهو: أن المرأة إذا كانت متوقفة في إجابة من خطبها، فلا يحرم على الغير خطبتها، وما كانت ردت الرجلين؛ فإنها لو ردتهما، لما ذكرتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويبتني على ذلك أن الثيب المستقلة إذا خُطبت، فأجابت؛ لم يكن للغير أن يخطُبها على الخِطبة الأولى.
وإن ردّت، فللغير الخِطبة.
وإن سكتت، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فقال الصيدلاني: في المسألة قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد- أن خِطبتها لا تحرم لذلك؛ فلا تعويل على سكوتها المتردد بين الرد والقبول، وحديث (3) فاطمة دالّ على ذلك؛ فإن الظاهر أنها ما ردّت وما أسعفت.
__________
(1) جزء من حديث فاطمة السابق.
(2) في حاشية الأصل: وقيل: إنها كرهت لسواده، والله أعلم.
(3) هنا خلل في ترتيب صفحات المخطوط. حيث انتقلنا من آخر (152 ي) إلى أول (153 ش) ثم يستمر إلى آخر (162 ي) فيرجع إلى أول (152 ش).

(12/276)


قال: والمنصوص عليه في القديم (1): أنها إذا سكتت، تحرم الخِطبة على الغير، وهذا يعتضد بالعادة في الباب؛ فإن الغالب أن المرأة إذا خُطبت، لم تبادر بالإسعاف، وإنما تسكت، ثم تُراجَع مرة أخرى، أو مراراً.
8086 - ثم الاعتبار في الرد والإجابة بمن العقد إليه على سبيل الإجبار، أو بالمرأة - إن كانت مستأذَنة، وكان النكاح يفتقر إلى إذنها؟
وبيان ذلك أن [أَبَ البكر] (2) لما كان مُجبِراً، [فالمخاطَب بالخِطبة هو] (3)، ثم العبرة به في الرد والإجابة والسكوت، ولا أثر للمرأة في ذلك.
وإن كانت ثيّباً؛ فهي المخطوبة، وإن كانت لا تتولَّى العقد، من جهة أنها الأصل. وإذا رضيت بكفءٍ [طلبها] (4)، حصل غرضها، فإن ساعدها الولي، فهو المراد، وإن خالفها، توصلت إلى غرضها من جهة القاضي، وكان الولي عاضلاً.
8087 - ثم حاصل المذهب أن من يُعتبر -على ما ذكرناه- إن صرح بالرد، فللغير أن يخطب. وإن صرح بالقبول، حرمت الخطبة على الغير. وإن سكت: فوجهان، أو (5) قولان. وإن لم يُدْرَ أخطبت أم لا؟ فليس على الذي يريد الخطبة أن يبحث؛ بل له الهجوم على الخطبة. وإن خُطبت، ولم يدر أن الخاطب أجيب أو رُدّ، فظاهر ما ذكره الصيدلاني أن الخطبة لا تحرم؛ فإنه استدل بحديث فاطمة، وهذه الحالة تتميز عما إذا فرض السكوت في مقابلة الخطبة؛ فإن ذلك (6) محقق والحالة التي ذكرناها - فيه إذا جوّزنا الرد وجوّزنا غيره. فهذا منتهى التفصيل.
8088 - فإن قيل: قد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد من خاطبَي
__________
(1) حكى الرافعي والنووي القولين، ولكن الرافعي عكس الأمر، فوضع القديم مكان الجديد والجديد مكان القديم. (ر. الشرح الكبير: 7/ 485، الروضة: 7/ 31).
(2) في الأصل: أن أبا بكر.
(3) في النسختين: فللمخاطب بالخطبة ثم العبرة.
(4) في النسختين: طلبه.
(5) في الأصل: والقاضي قولان.
(6) ت 3: دالّ محقق.

(12/277)


فاطمة بعيب، فما الفرق بين هذا وبين الغِيبة؟ وفي الحديث " أن الغيبة: أن تذكر الإنسان بما فيه مما يكره ذكره، فإن ذكرته بما ليس فيه، فقد بهتّه" (1). وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تتبع عورة أخيه، تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته، فضحه، ولو في جوف رحله" (2). فكيف سبيل الجمع بين هذه الأخبار؟
قلنا: إذا ذكرتَ ما في الإنسان لغرض صحيح - وهو أن يكون إلى ذلك حاجة، أو طلبتَ نصيحةَ مسلم لتحذِّره، أو أردت مخايرةً بين شخصين، فلك في هذه المواضع أن تذكر ما في الشخص، ولك أن تتعرض لأمثال هذا وأنت تنفذ وراء الأحاديث في ردٍّ أو ترجيح (3)، ولا شك في ذلك وأنت تُجرِّح الشاهد.
فخرج من ذلك: أن من ذكر في الإنسان ما هو فيه، وصدق، وكان لغرضٍ [ممّا] (4) ذكرناه، فليس مغتاباً، وإنما المغتاب من يقصد أن يفضح إنساناً، أو يهتك ستره، أو يتعلل بذكر الناس تفكّهاً؛ فهذا محرّم.
ويلتحق به من (5) يتقرب إلى إنسان بذكر عدوّه بالسوء. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس" (6).
__________
(1) حديث الغيبة رواه مسلم عن أبي هريرة، بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه، فقد بهته" (ر. مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الغيبة، ح 2589).
(2) حديث "من تتبع عورة أخيه ... " هذا جزء من حديثٍ عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر؛ فنادى بصوتٍ رفيع، قال: "يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يُفض الإيمان إلى قلبه ... الحديث" رواه الترمذي: كتاب البر، باب ما جاء في تعظيم أمر المسلم، ح 2032، وصححه الألباني: صحيح الترمذي: ح 1655، وصحيح المشكاة 5044، التعليق الرغيب: 3/ 277.
(3) أي يجوز ذلك (أي ذكر الرجال بسوء) إن في مجال التضعيف والتصحيح للحديث، وفي مجال ردّ الشهود.
(4) في النسختين: فيما.
(5) في النسختين: ويلتحق به أن من يتقرب إلى إنسان ...
(6) حديث: "اذكروا الفاسق ... " ذكره العجلوني في كشف الخفا، بلفظ: اذكروا الفاجر ... وقال: رواه ابن أبي الدنيا وابن عدي والطبراني، والخطيب، وقال في التمييز: "أخرجه أبو =

(12/278)


ثم قوله صلى الله عليه وسلم "لا يضع عصاه عن عاتقه" قيل: معناه: إنه سيء الخلق. يضرب أهله. وقيل: معناه: إنه كثير الأسفار. والعرب تقول: ألقى فلان عصاه - إذا أقام. ومنه قول القائل:
[فألقت] (1) عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر (2)
...
__________
= يعلى وغيره ولا يصح" (ر. تمييز الطيب من الخبيث: 24 رقم 106، وكشف الخفا: 1/ 106 رقم 305).
(1) في النسختين: فقرّت. والمثبت هو المحفوظ، والذي رأيناه في "لسان العرب".
(2) البيت لعبد ربه السلمي هكذا قال ابن بري. ويقال لسليم بن ثمامة الحنفي، وذكر الآمدي أن البيت لمعفِّر بن حمار البارقي (ر. لسان العرب - مادة: ع. ص. و) وفيه قصة البيت وطرف مما قيل قبله.

(12/279)


باب نكاح المشرك ومن يسلم وعنده أكثر من أربع
8089 - ومقصود الباب: بيان الحكم فيه إذا نكح المشرك في الشرك امرأة، أو نسوة، ثم يسلم ويسلمن، أو يختلف الدين بينهم، فيسلم ويتخلفن، أو يسلمن ويتخلف الزوج. ثم نفصل المسائل، ونعرض فيها نكاح المشرك الإماء وإسلامه مع بقائهن (1) على الرق، ونفرض عتقهن في الشرك أو في الإسلام، ونجري في الباب إسلامه على حرةٍ وإماء، ثم يكون اختتام الباب ببيان النفقة والمهر، والاختلاف في تاريخ تقدم الإسلام وتأخره.
8090 - فنقول: إذا أسلمت الكافرة، وتخلّف زوجها؛ فلا شك أنها لا تُقر في حِبالة الكافر، ولكن إن كانت غير مدخول بها، انقطع النكاح بنفس إسلامها وتخلّفه، ثم إسلام الزوج بعد إسلامها لا يردها إلى النكاح.
وإن جرى الاختلاف كما ذكرناه بعد تقيّد النكاح بالمسيس، فالأمر موقوف ما دامت في العدة، فإن أصر الزوج على تخلّفه [حتى] (2) انقضت عدتها، تبيّنّا آخراً أن النكاح ارتفع بنفس إسلامها، والواقع [بعده] (3) عدة، فإذا انقضت، فقد [تعلَّت] (4) عن العدة وحلت للأزواج.
__________
(1) عبارة ت 3: نكاح المشرك الإماء وإسلامه معنى على الرق.
(2) في النسختين: حين.
(3) في النسختين: بعد.
(4) في النسختين: "نقلت"، وهو تصحيف، صوابه "تعلّت" جاء في حديث سُبَيْعة: أنها وضعت بعد وفاة زوجها بثلاثةٍ وعشرين يوماً أو خمسةٍ وعشرين يوماً، فلما تعلّت، تشوّفت للنكاح، ... فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إن تفعل فقد حل أجلها" رواه الترمذي -كتاب الطلاق واللعان- باب ما جاء في الحامل المتوفى عنها زوجها تضع.
تعلّت: خرجت من نفاسها، وفي القاموس المحيط: تعللت المرأة: خرجت من نفاسها، وتعالّت (بألف مدّ بعدها لام مشدّدة) كذلك: أي خرجت من نفاسها، وفي المعجم الوسيط: (تعالّت): خرجت من نفاسها.

(12/280)


وإن اتفق إسلام الزوج في مدة العدة قبل انقضائها؛ فالنكاح قائم بينهما، ونتبيّن أنه لم يرتفع بإسلامها وتخلفه عنها في المدة التي تخلف فيها.
والقول فيها بمثابة القول فيه إذا ارتد أحد الزوجين -كما سيأتي ذلك في بابه- إن شاء الله تعالى. هذا مذهب الشافعي، فنكتفي به.
ونحن لا نذكر الخلاف إلا في غرضٍ لنا، ولم نبن هذا المجموع إلا لبيان محض مذهب الشافعي وقياسه.
هذا إذا أسلمت وتخلف، ثم كان من الأمر ما وصفناه.
فإن أسلم الزوج وتخلفت، نظرنا؛ فإن كانت كتابية يجوز للمسلم ابتداء نكاحها، فالنكاح قائم بينهما، ولا أثر لإصرارها في قطع النكاح. وإن كانت مجوسية، أو وثنية؛ فلا سبيل إلى تقريرها في نكاح هذا الذي أسلم، لو أصرت، فيرجع الأمر إلى الفرق بين ما قيل المسيس وبعده - كما مضى في إسلامها وتخلفه.
ولو أسلما معاً أُقِرّا على النكاح، كما سنصف ذلك، إن شاء الله عز وجل.
فهذا أحد الأصلين.
8091 - الأصل الثاني: أن الكافر إذا نكح عدداً في الشرك زائداً على الأربع، ثم أسلم وأسلمن، فيتعين عليه أن يختار أربعاً منهن. فإن كان نكحهن في الشرك في عقد واحد، ثم اجتمعوا إلى الإسلام، وجب عليه أن يختار منهن أربعاً، ولا معترض عليه إن كان نكحهن في عقود متفرقة ثم اجتمعوا في الإسلام، [فهو] (1) كما لو نكحهن في عقد واحد، فيختار أربعاً منهن، فإن شاء اختار الأوائل، وإن شاء اختار الأواخر، ولا حكم لتواريخ العقود الماضية في الشرك، ولا أثر لتقدم ما يتقدم وتأخّر ما يتأخر.
وإذا قلنا: هن كالمجموعات في عقد، كان ذلك نهاية البيان في أنه يختار من يشاء منهن، ويتعين اختيار أربع.
__________
(1) زيادة من: (ت 3).

(12/281)


فلو كان أسلم وأسلمن وهن أربع، [فهن] (1) منكوحات ولا حاجة إلى الاختيار، وكذلك إذا كُنّ دون الأربع.
وممَّا يتعيّن التصريح به -وإن اندرج تحت ما قدّمناه- أنه لو نكح أربعاً في عقدة، ثم نكح بعدهن أربعاً [أُخر] (2)، وقد جرى كل واحد من العقدين على شرط الإسلام، فلو فرضنا مثل هذين العقدين في الإسلام، لقلنا: المنكوحات هُنّ [الأوائل] (3)، والعقد باطل على المتأخرات، وإذا جرى مثل ذلك في الشرك، ثم اجتمعوا في الإسلام، فهو كما لو نكحن في عقد واحد.
ويجب أن يتنبه الناظر لأمرٍ هاهنا، ويعتقده المذهبَ، وذلك أنه لو نكح عشراً في الشرك في عقد واحد، فهذا العقد فاسد على شرط الشرع، وإذا اتصلوا بالإسلام، فنكاح أربع منهن ثابتٌ على خلاف موجب العقود التي تنشأ في الإسلام، فلا نظر إلى ما جرى في الشرك، وإذا جرى عقد على أربع، فهذا على شرط الصحة في الإسلام، ثم لم تقع به مبالاة، ويخرج منه أنا نضرب عن صفات العقود إذا [انعقدت] (4) في الشرك، ولا ننظر إلى ما يصح منها في شرط الشرع وإلى ما يفسد، بل نقول: إذا أسلم وأسلمن، فهن مجموعات، فليختر منهن عددَ الإسلام.
ونذكر أصول مذهب أبي حنيفة والغرض من ذكرها أن يكون تقييداً لمذهبنا في الحفظ؛ فإن الشيء قد يحفظ بذكر ضده.
قال أبو حنيفة (5): إن نكح أكثر من أربع في الشرك، وأسلم وأسلمن، وكان نكحهن في عقد واحد؛ فنكاحهن باطل؛ [رداً] (6) إلى حكم الإسلام، ولا يختار منهن واحدة إلا أن يبتدىء نكاحها، ولو نكح أربعاً في عقد، ثم أربعاً، وأسلم
__________
(1) في النسختين: فهي.
(2) في الأصل: أجرى.
(3) في الأصل: الأولات.
(4) في النسختين: انقضت.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 180، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 335 مسألة رقم 830.
(6) في النسختين: رُد إلى حكم الإسلام.

(12/282)


وأسلمن، فيتعين عليه نكاح [الأربع] (1) الأوائل على موجب الشرع.
8092 - وما ذكرناه في العدد يجري في جمع الأختين وتفرقهما، فلو كان نكح في الشرك أختين، وأسلم وأسلمتا، فيتعين عليه أن يختار إحداهما. ولو نكح واحدة في عقد، ثم نكح أختها في [عقد آخر، وأسلم معها، فيختار أيتهما شاء عندنا، كما لو كان نكحها في] (2) عقد واحد.
وأبو حنيفة (3) يقول: إن كان نكحهما في عقد واحد، وأسلم وأسلمتا (4)، لم يختر واحدة في استدامة النكاح. ولو نكحهما ترتيباً، تعيّن عليه نكاح السابقة.
والشافعي اعتمد الأخبار الصحيحة فيما صار إليه، فنتيمّن بذكرها، ثم نذكر غرضاً لنا بعدها.
[روي] (5) أن غَيْلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، فأسلمن معه، فقال صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعاً وفارق سائرهن" (6) ولم يتعرض لجمعهن وتفريقهن في عقود الشرك. وأسلم الضحاك (7) بن فيروز الديلمي وتحته أختان، فقال صلى الله عليه وسلم: "اختر أيهما شئت وفارق الأخرى" (8). وأسلم نوفل بن
__________
(1) زيادة من (ت 3).
(2) زيادة من (ت 3).
(3) ر. مختصر الطحاوي، ومختصر اختلاف العلماء (نفسه).
(4) ت 3: وأسلم معهما.
(5) في الأصل: وروي، وت 3: فروي.
(6) حديث غَيْلان أخرجه الشافعي، (ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/ 16 ح 43)، وابن حبان في صحيحه (6/ 181، ح 4144 - 4146)، والترمذي في السنن: (النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشر نسوة، ح 1128)، وانظر (تلخيص الحبير: 3/ 346 ح 1637).
(7) عامة روايات الحديث أنه عن فيروز، ولكنا وجدنا رواية عند البيهقي بلفظ: عن الديلمي أو ابن الديلمي (7/ 184).
(8) رواه الشافعي (ترتيب مسند الشافعي: 2/ 16 ح 45)، وأحمد في مسنده (4/ 232) وأبو داود (الطلاق، باب فيمن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع، ح 2243)، والترمذي: (النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان رقم 1129، 1130)، وابن ماجه (النكاح، باب الرجل يسلم وعنده أختان رقم 1951)، وابن حبان (6/ 181 رقم 4143)، =

(12/283)


معاوية، وعنده خمس، فقال صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعاً وفارق الخامسة"، قال: فعمدت إلى أقدمهن صحبة، ففارقتها (1).
هذا ما ذكره الشافعي من الأخبار.
وروى الأثبات حديثاً آخر لم يذكره الشافعي، وهو أن الحارث بن عمر الأسلمي أسلم وتحته ثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعاً. وفارق أربعاً" (2). فقال: فكنت أقول لمن أريد: تقدمي، ولمن لا أريد: تأخري، ولن تناشديني بالرحم والولد.
فإذا ثبت متعلق المذهب؛ فإنا نقول بعد ذلك: لو رددنا إلى القياس، لم ينتظم مذهبنا على هذا النسق، وكان يتجه أن نقول: إن نكح أكثر من أربع في عقد، وأسلم وأسلمن؛ فلا يثبت نكاح واحدة منهن، وكان ينقدح في هذا وجهان من القياس:
أحدهما - أن الإسلام إذا كان يدفع نكاح البعض -وإن قدّرنا الحكم بالإعراض (3) قبلُ- فكان يجب أن يندفعن؛ إذ ليس بعضهن بالبقاء أولى من بعض، وطريان هذا يضاهي جمع أختين أو أكثر من أربعٍ في عقدة في الإسلام.
ولو نكح الرجل رضيعتين، فأرضعتهما مرضع وثبتت الأخوة بينهما، يندفع نكاحهما جميعاً، ولا نقول: يندفع نكاح إحداهما وللزوج الخيار، ونجعل ما يطرأ من استحالة الجمع مع التساوي في الدوام بمثابة الجمع بين الأختين عقداً، هذا وجه من القياس بيّن.
والوجه الثاني - أن أَولى العلماء بالحكم (4) على الكفار بالإسلام الشافعي؛ فإنه يستتبعهم في موجب الشرع، ولا يتبع عقائدهم، وعليه بنى نفي الضمان عمن يريق
__________
= وصححه البيهقي: (السنن: 7/ 184)، وانظر (التلخيص: 3/ 360 ح 1652).
(1) حديث نوفل أخرجه الشافعي (ترتيب مسند الشافعي: 2/ 16 رقم 44)، وانظر (التلخيص: 3/ 349 ص 1638).
(2) حديث الحارث بن عمر الأسلمي لم أصل إليه بهذا الاسم، ولعله تصحيف لما رواه البيهقي عن الحارث بن قيس بن عميرة الأسدي (ر. السنن الكبرى: 7/ 183).
(3) الإعراض: أي عدم الحكم لا بالصحة ولا بالفساد.
(4) ت 3: بالعلم.

(12/284)


خمراً على ذمي، ثم اقتضى المذهب إلحاق ما يصح على شرط الإسلام في الشرك بما يفسد على شرط الإسلام، كما تقدم شرحه.
فتبين أن الشافعي لم يبن قواعده في الباب على قياس مذهبه في الأصول، ولكن صادف أخباراً صحيحة ونصوصاً صريحة لم يعتقد تطرق التأويل إليها، فترك القياس لها.
وفي السواد (1) ذكر مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن. وقد احتج الشافعي بالأخبار، واستاق احتجاجَه بها أحسنَ استياق، وقال: لما لم يسال النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن العقد، كان عفواً له [لفَوْته] (2)، كما حكّم الله رسولَه صلى الله عليه وسلم [بعفو الربا إذا] فات بقبضه. فقال محمد بن الحسن: ما علمتُ أحدا احتج بأحسنَ مما احتججت به، ولقد خالفتُ أصحابي فيه منذ زمان، وما ينبغي أن يدخل على حديث النبي صلى الله عليه وسلم القياسُ.
[فبان] (3) من فحوى كلامهما تَرْكُ القياس واتباعُ الخبر، وأشعر كلام الشافعي مُضاهاة هذا الباب أبوابَ العفو والصفح تحقيقاً ورخصة، فهذا ما أردت التنبيهَ عليه في عقد الباب.
8093 - ثم لا أثر عندنا في شيء مما ذكرناه لاختلاف الدار، فإذا أسلم أحد الزوجين، والدار جامعة لهما، أو اختلف بهما الدار، فالحكم لا يختلف عندنا.
والذي عليه التعويل ما قدمناه من الفرق بين ما قبل المسيس وبعده، وأبو حنيفة (4) يعتمد اختلاف الدار، ويجعله بمجرده قاطعاً للنكاح، ويقول: إذا تعلقت الكافرة بدار [الكفر] (5) مصرة على كفرها، انقطع النكاح بينها وبين زوجها بنفس اختلاف الدار.
وكذلك إذا تعلق الزوج بدار الإسلام وسكنها.
__________
(1) السواد: هو مختصر المزني، والمناظرة في الجزء 3 ص 292.
(2) في النسختين: "لقوته، كما حكّم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعفو الربا إذا فات بقبضه" والتصحيح من مختصر المزني: 3/ 292.
(3) في النسختين: "فإن" والمثبت تقدير من المحقق.
(4) ر. رؤوس المسائل: 390، مسألة 268، الاختيار: 3/ 113.
(5) في النسختين: الإسلام، والمثبت تقدير منا.

(12/285)


فصل
قال الشافعي: "ولو أسلم ونكح أماً وابنتها ... إلى آخره" (1).
8094 - هذا الفصل يستدعي تقديم أصول لا يستقل مقصود الفصل دونها، وهي أركان الباب؛ فالوجه أن نذكرها على نهاية البيان، ثم نعود إلى الفصل، ونُتبعه بعد نجازه مسائل الباب.
8095 - الأصل الأول في بيان القول في أنكحتهم التي يرونها أنكحة في مللهم، وبيان إطلاق الصحة فيها والفساد، والإعراض، وهذا أم الباب، وقاعدة المسائل ومرجوعها، ولو رددنا إلى مقتضى الرأي فيها -وقد انتهى الحكم إلينا- لصحّحنا ما يقتضي الشرع تصحيحه، وحكمنا بفساد ما يوجب الشرع فساده، جرياً على ما تمهد من استتباع حقنا باطلَهم إذا اتصلت الوقائع بنا، ورُفعت إلينا، ولكن صدّنا عن هذا الأخبارُ التي صدّرنا الباب بها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم خيّر من أسلم بين أختين، وهذا إن حُمل على جواز (2) جريان الجمع بين الأختين في الشرك، فالجمع في الإسلام باطل، وإن حُمل على إيراد عقدين في أختين، فالتخيير بينهما يتضمن تصحيح اختيار الثانية لا محالة، والأخت الثانية المُدْخلَة على الأولى لا ينعقد نكاحها في الإسلام؛ فلم يمكنّا -والحالة هذه- أن نطرد استتباعهم ودعاءهم إلى ما يصح ويفسد في شرعنا؛ فينشأ من هذا تردد عظيم بين الأصحاب لا نعهد في مسائل الفقه مثلَه؛ حتى كاد كثير (3) من الأصحاب يرتبكون في عماية، ويَنفون ويُثبتون من غير دراية، ولا نجد بداً فيه من النقل والحكاية؛ فإن المجموعات مشحونة بطرق فاسدة، ولن يتبين وجهَ الصحة من لم يطلع على مسالك الفساد.
8096 - وقال قائلون: اختلف المذهب في أنا هل نحكم بصحة أنكحتهم؟ فذهب
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 289.
(2) ساقطة من (ت 3).
(3) في النسختين: كثيراً بالنصب، ولم أدر لها وجهاً.

(12/286)


بعض الأصحاب إلى أنا نحكم بصحتها (1)، ثم إن اتصلت بالإسلام -وكانت في دوامها موافقة- فإنا نقررهم عليها، وإن جرت في الشرك على خلاف شرط الشرع، إذا لم يلحق [بها في] (2) الإسلام أسباب الفساد، كما سيأتي تفصيل هذا الفن على أثر هذا الفصل.
وإن كانت في الدوام لا توافق الشرع لأمر يؤول إلى العدد والجمع - مثل أن يسلم الكافر على عشر، أو على أختين، فنقول: قد صحت الأنكحة على العشر والأختين في الشرك، ثم الإسلام يدفع إحدى الأختين والنسوة الزائدات على الأربع؛ فيقع ارتفاع نكاح المدفوعات بالإسلام على الإبهام، وخيرة التعيين إلى الزوج، وهذا هو الذي رآه الأصحاب ظاهرَ المذهب.
ومن آثار هذا أن الزوج يلتزم مهور اللواتي يدفع الإسلامُ نكاحَهن، وهذا دالٌّ على ثبوت نكاحهن، وترتب الارتفاع على الثبوت، ولسنا نستقصي الآن المهر والقول فيه، وإنما نذكر أطرافاً من آثار الأصول إيناساً بها وتوطئة لها، هذا ما رآه الأصحاب المذهب الظاهر.
ومن أصحابنا من قال: نحكم بفساد الأنكحة في الشرك، وهذا ساقط خارج عن قاعدة المذهب.
8097 - وفرّع كثير من المعتبرين على تقدير التردد في الصحة والفساد أمرَ الطلاق، حتى قالوا: إذا نكح الكافر كافرة في الشرك، ثم طلقها، فوقوع الطلاق يخرّج (3) على الصحة والفساد: فإن حكمنا بصحة نكاحهن، نحكم بنفوذ الطلاق، حتى إذا طلق
__________
(1) قال الرافعي: هذا هو الأصح. (ر. الشرح الكبير: 8/ 97).
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) هنا بدأ سقط في النسختين معاً، ووقع في أثناء الصفحة في كليهما، مما يدل على أنهما مأخوذتان عن أصلٍ واحد. ولكن -الحمد لله- استدرك مالك نسخة الأصل هذا السقط على حواشي نسخته، وإن جاء ذلك بصورة عجيبة جداً، فقد كتب -هذا السقط- بقلم رفيع وخطٍّ دقيق، غاية في الدقة، حتى استطاع أن يكتب أربع ورقات كاملة على حواشي ورقة واحدة من نسخته، ولولا عون الله وتوفيقه ما استطعنا قراءة هذه المنمنمات، والله المستعان.

(12/287)


امرأته ثلاثاً ثم أسلم، حكمنا بأنها محرمة عليه حتى تنكح زوجاً غيره، وإن حكمنا بفساد أنكحتهم؛ فطلاقهم غير نافذ؛ فلو طلق الواحد منهم امرأته، واتصل الأمر بالإسلام؛ فالطلاق المقدم لغو، لا التفات إليه.
وقد أورد هذا الخلاف بعض المصنفين، وذكره شيخي رضي الله عنه، وهذا على غاية من الفساد، لا يستريب فيه ذو عقل، والمصير إلى أن طلاق المشرك لا يقع في حكم المناكرة للحقائق.
وقد عُزي هذا المذهب إلى مالك (1) رضي الله عنه.
ومما يُفسد هذا قطعاً: أن من أسلم على امرأة كان نكحها، ولم يتصل بالإسلام مفسد، فهو مُقَر على نكاحها، والتقرير على الفاسد محال، وانقلاب الفاسد صحيحاً محال، ولا يتصور أن يجاب عن هذا مع إطلاق القول بفساد أنكحتهم.
وقد قطع الشافعي رضي الله عنه بأن المسلم إذا طلق ذمية ثلاثاً، فنكحها كافر، ودخل بها وأبانها؛ حلّت للأول؛ فله أن ينكحها إذا خلت عن العدة، والمذهب الذي عليه التعويل: أن التحليل لا يحصل إلا بالوطء في نكاح صحيح.
وقد قطع الشافعي رضي الله عنه بأن الكافر الحر العاقل البالغ إذا كان وطىء في نكاح الشرك، ثم زنى، ورضي بحكمنا؛ فإنا نرجمه، وحديث اليهوديين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رجمهما لما اعترفا بالزنا (2)، ينافي ذلك (3)، فبطل المصير إلى الحكم بفساد أنكحتهم.
__________
(1) عند مالك رضي الله عنه أن أنكحة الكفار فاسدة، وإنما يصحح الإسلام منها ما لو ابتدؤوه بعده جاز. (ر. الإشراف على نكت الخلاف: 2/ 709 مسألة 1278).
(2) حديث رجم اليهوديين رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، والحاكم من حديث ابن عباس، والبيهقي من حديث عبد الله بن الحارث الزبيدي، وأصل قصة اليهوديين في الزنا والرجم دون ذكر الإحصان في الصحيحين من حديث ابن عمر (ر. أبو داود: كتاب الحدود، باب رجم اليهوديين: 4/ 156 ح 4451، والمستدرك: 4/ 365، والسنن الكبرى: 8/ 215، والبخاري: كتاب الحدود، باب الرجم، ح رقم 6819، ومسلم: كتاب الحدود، باب رجم اليهود، ح 1699).
(3) أي ينافي الحكم ببطلان أنكحتهم.

(12/288)


8098 - ومن تمام القول في هذا: أنا في قاعدة الباب لا نفرق بين عقد جرى في الشرك على شرط الشرع، وبين عقد جرى مخالفاً لشرط الشرع.
وآية ذلك أن من نكح امرأة بولي وشهود، ثم نكح بعد ذلك أختها، فالنكاح الأول صحيح على شرط الشرع، ولا مزية للنكاح الأول على النكاح الثاني إذا اتصل النكاحان بالإسلام، وإذا كان كذلك؛ فمن حكم بفساد أنكحتهم يلزمه ألا يفصل بين ما يقع منهما على شرط الشرع وبين ما يخالف الشرع، والمصير إلى أن نكاحاً يعقدونه على شرط الشرائع كلها فاسد، مذهب لا يعتقده ذو تحصيل، وما الذي يمنع من صحة نكاحهم؟ ولا خلاف في صحة بيعهم وتصرفاتهم. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وُلدت عن نكاح، لا عن سفاح" (1). وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان النكاح في الجاهلية على أنحاء، ونكاح واحد منها بولي وشهود" (2).
ولما تبين فساد هذا الوجه للمحققين؛ قال قائلون منهم: لا نطلق الفساد على أنكحتهم، ولا نحكم فيها بصحة ولا فساد. وهذا أقرب قليلاً من إطلاق الفساد، ولكن ليس فيه شفاء وبيانٌ كاف.
8099 - وإذا أردنا أن نذكر التحقيق بعد انتجاز النقل، فالرأي عندنا أن نذكر مسألة لابن الحداد - وهي مقصودة في نفسها وبها يبين تحقيق المراد.
قال ابن الحداد: إذا نكح الرجل أختين، وطلق كل واحدة منهما في الشرك ثلاثاً ثلاثاً، ثم أسلم وأسلمتا. قال: يخير بينهما، ويقال له: اختر إحداهما، كما كنت تختار لو لم يسبق منك طلاق أصلاً، فإذا اختار واحدة منهما، فالتي اختارها يثبت نكاحها.
__________
(1) حديث: "ولدت من نكاح". رواه الطبراني في الكبير: 10/ 329 رقم 10812، والبيهقي في السنن: 7/ 190، قال الحافظ: وسنده ضعيف (ر. التلخيص: 3/ 361 ح 1653).
(2) حديث عائشة: رواه البخاري: كتاب النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بولي، ح 5127، ورواه أبو داود: كتاب الطلاق، باب وجوه النكاح التي كان يتناكح بها أهل الجاهلية، ح 2272، وسنن البيهقي: 7/ 190.
هذا. والمذكور هنا جزء أو اختصار للحديث، فقد ذكرت عائشة رضي الله عنها أنحاء أربعة من نكاح الجاهلية ...

(12/289)


ثم إذا ثبت نكاحها بَعُدَ الطلاق فيها، والأخرى قد تعينت للفراق بحق الإسلام؛ فلا ينفذ فيها الطلاق.
وفائدة ذلك أنه لو أراد أن ينكح التي لم يخترها من غير أن تنكح زوجاً غيره، صح.
قال الشيخ أبو علي: هذا الذي ذكره ابن الحداد حقه أن يفرع على أنا هل نحكم لأنكحة الشرك بالصحة أم لا؟ فإن قلنا: نحكم بصحة أنكحتهم، فنقول على موجب ذلك: صح النكاح في الشرك على الأختين، وإن كان على مخالفة الشرع في العقود التي [نقيمها] (1) في الإسلام، وإذا حكمنا بصحة النكاح؛ فإنا نحكم بوقوع الطلاق على الأختين جميعاً. وموجب ذلك أنه إذا أسلم معهما، فهما محرمتان، فلا معنى للتخيير والاختيار.
والوجه أن نقول: من نكحت منهما وحللها زوجها، جاز للمطلِّق نكاحها. ولو نكحتا جميعاً، فهما بمثابة أختين أجنبيتين، وهذا الذي أسلم ينكح من شاء منهما.
هذا إذا حكمنا بصحة النكاحين.
وإن لم نحكم بصحة أنكحتهم على الإطلاق، فلا سبيل إلى الحكم بفساد أنكحتهم؛ فإن ذلك يبطل بالطرق التي قدمناها.
ولكن [نقول] (2) إذا أسلم وأسلمتا في مسألة ابن الحداد: لو لم يكن طلاق، لكان يختار إحداهما، فإذا اختار، تبين أن النكاح في الشرك كان صح على هذه التي وقع الاختيار عليها، ولسنا نتعرض قبل الاتصال بالإسلام لصحة ولا فساد (3). فإذا اتصل الأمر بالإسلام، فالحكم ما ذكرناه.
ثم يصار مع [الإسلام إلى أن الجمع بين الأختين] (4) في حكم شيء فاسد لا يصح
__________
(1) في الأصل: نقيسها. والمثبت تقدير منا.
(2) في الأصل: لا نقول.
(3) أي نتوقف في أنكحتهم - وكان هذا ميلَ ابن الحداد. (ر. الشرح الكبير: 8/ 99).
(4) مكان كلمات غير مقروءة بالأصل. إلا على استكراه.

(12/290)


النكاح معه في الإسلام، كالنكاح في العدة أو بشرط الخيار، كما سيأتي ذلك في المسائل.
وقد تمهد لنا أن تفاصيل تعبدات الشرع [غير] (1) مرعية في عقودهم، ولهذا لاتنقض عقود الربا إذا تبايعوا فيها، ثم أسلموا، فيبقى الإبهام بين الأختين، وإزالته محال في الشرع على اختيار الزوج، وهذا لم نقله عن رأي، وإنما اتبعنا فيه الأخبار، فانتظم من ذلك أن من نكح في الشرك امرأة ثم طلقها فطلاقه نافذ؛ فإنا لا نستجيز إطلاق القول بفساد أنكحتهم على هذا المسلك.
وإذا نكح أختين، فطلقهما -كما فرضه ابن الحداد- فالطلاق يقع على المنكوحة منهما (2). وقد تبيّنا أن المنكوحة واحدة؛ فيكون وقوع الطلاق على هذا القياس.
وينتظم جواب ابن الحداد فيما ذكره.
هذا منتهى كلام الشيخ أبي علي. ولا خروج بجواب ابن الحداد إلا على التفصيل الذي ذكره.
وقد نقل المزني في مسألة نكاح الأم والبنت قولاً لا خروج له إلا على بُعد في المسلك.
ويخرج من مجموع ما ذكرناه مذهبان: أحدهما - الحكم بصحة عقودهم على الأخوات، ثم الإسلام يدفع ما يدفع. وكذلك القول في النسوة الزائدات، ثم الإسلام يدفع اللواتي زدن على أربع، [و] (3) على رأي ابن الحداد نُعرض عن عقودهم، فإذا اتصلت بالإسلام، فالذي ينفيه الإسلام نقول: لم يصح أولاً، والذي يثبته الإسلام (4) نقول فيه: تبينا صحته.
__________
(1) ساقطة من الأصل الذي هو اللحق بهوامش الورقة (160) وهو ساقط كله من (ت 3).
(2) ويحتاج نكاحها إلى محلل لها دون الأخرى (ر. الروضة: 7/ 152) والتعليل واضح، فإن الأخرى لم يصح فيها نكاح ولا طلاق؛ فكانت كأجنبية لا تحتاج إلى محلل.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) عبارة الأصل: والذي يثبته الإسلام فيه فنقول.

(12/291)


فأما الحكم بفساد عقودهم (1) [ ... ] (2) وذكر، فهو على القطع باطل والمصير إلى أن طلاقهم لا يقع [عديم] (3) الوجه بالكلية؛ فإنا إذا كنا نحكم بصحة نكاحهم في الإسلام استدامة وتقريراً عليه، فالطلاق أولى بالنفوذ من النكاح. وان لغا طلاقهم، فليلغ نكاحهم.
8100 - ثم يبقى وراء ما ذكرناه إشكالان:
أحدهما - أن ابن الحداد قال فيمن نكح أختين وأسلم معهما (4): إذا اختار واحدة منهما، فتعينت الثانية للفراق، وذلك قبل المسيس، فللتي فارقها نصف المهر، واعتل بأن الفراق فيها حصل باختيار الزوج، وكان هذا بمثابة ما لو طلّق امرأته قبل الدخول.
وهذا الذي ذكره يناقض الأصل الذي مهدناه بجوابه في مسألة الأختين وطلاقهما؛ فإنا خرّجنا ذاك على أن النكاح تتبين صحته في إحداهما، ونتبين أنه لم يصح في الأخرى، وإذا كان كذلك؛ فإذا اختار الزوج إحدى الأختين، فإيجاب نصف المهر للثانية مع الحكم بأن النكاح في حقه غير منعقد محال. وهذا لا جواب عنه.
والأشكال الثاني - أنا إذا حكمنا بصحة النكاح في الأختين، وقضينا بأن الإسلام يدفع نكاح إحداهما بعد ثبوته على الصحة، فيستقيم على هذا إيجاب نصف المهر للتي فارقها الزوج؛ فإن الفراق يضاف إلى الزوج إذا كان السبب صادراً منه ومن الزوجة. وهذا بمثابة الخلع إذا جرى قبل المسيس. وسيأتي شرح القول في المهر من بعدُ، إن شاء الله عز وجل.
ومحل الإشكال أنا إذا حكمنا بصحة النكاح على الأختين؛ فلو جاء كافر وتحته أختان، وطلب منا أن نفرض لهما النفقة، فماذا نصنع ونحن نحكم بصحة النكاح عليهما! وإنما يندفع النكاح في إحداهما عند الاتصال بالإسلام؟ هذا فيه تردد ظاهر؛
__________
(1) هذا هو المذهب الثاني.
(2) ما بين المعقفين مكان كلمتين استحالت قراءتهما.
(3) مكان كلمة مطموسة تماماً.
(4) آخر السقط المنقول من حاشية الأصل.

(12/292)


من جهة أن الفرض للأختين إنشاء حكم منا يخالف حكم الإسلام.
فالذي أرى القطع به: أنه لا نفرض لهما النفقة، والدليل عليه أنا لو فرضنا لهما، للزم قاضينا أن يزوج أختين من كافر بحكم الولاية، وهذا لا يجترىء عليه من يتوفر الفقه في صدره. فكأنا -وإن حكمنا بالصحة- نَكِلُ الأمرَ إليهم ولا ننشىء فيهم شأناً، هذا ما نراه. ولمن ينظر في هذا الكتاب فضل الرأي بعدنا.
وقد نجز قدر غرضنا الآن من القول في عقودهم، وحُكمنا بصحتها وفسادها.
8101 - الأصل الثاني -وهو أيضاًً من أقطاب الباب- قال الأصحاب: إذا جرى نكاح في الشرك، واقترن به ما يفسد النكاح في الإسلام، ثم اتصل النكاح بالإسلام، وقد انقضى المُفسد؛ فإنا نقرر ذلك النكاح. وبيانه: أن من نكح معتدة في الشرك، ثم انقضت العدة، وأسلم وأسلمت، فهو مُقر على النكاح، وذلك المقترن بالعقد لا حكم له. وأبو حنيفة -وإن خالف في جمع الأختين وجمع أكثر من أربع- لم يخالف فيما ذكرناه.
وكذلك إذا جرى النكاح على شرط الخيار، ثم انقضى الخيار، وأسلم الزوجان؛ فهما مقران على النكاح.
ولو جرى النكاح من غير حضور شاهدين، وكانوا يرون صحة النكاح من غير شهود، فإذا أسلم الزوجان أُقرا على النكاح.
والجامع لغرض هذا الفصل أنا لا نؤاخذ الكفار [بتفاصيل] (1) التعبدات المرعية في عقودنا، وإذا عقدوا أنكحتهم على مفسد، ثم انقضى قبل الإسلام، فلا حكم لتيك (2) الأشياء المقترنة بالعقد.
ولو اقترن بالعقد مفسد، ثم أسلم الزوجان والمفسد قائم بعدُ، مثل أن يجري النكاح في العدة، أو بشرط الخيار، ثم يسلم الزوجان وبقية العدة ثابتة بعدُ؛ فنحكم بفساد النكاح؛ فإنا لو صححناه، لكان ذلك إنشاء حكم منا بالنكاح في العدة، فلا
__________
(1) في النسختين: بتفاضل.
(2) ت 3: لتلك.

(12/293)


سبيل إليه، فإذا انقضت في الشرك ولم يصادفها الإسلام، فلا مؤاخذة بما مضى، ولا يُتبع أصلاً.
وهذا الذي ذكرناه في العدة مستقيم.
وأما بقاء مدة الخيار؛ ففيه نظر عندنا؛ من جهة أن (1) الخيار أمر [يقدّر] (2) ثبوته، فإذا كان فاسداً شرعاً، أمكن أن يقال: إنه غير ثابت؛ فإن الفاسد هو المنتفي، والمنتفي شرعاً لا ثبات له، فلا يبقى إلا شرط الخيار. وهذا هو الذي اقترن بالنكاح، وهو متقدم على الإسلام، فينتقض قبل حدوث الإسلام.
وهذا الفقه يرد على أبي حنيفة في مسألة اشتراط الخيار في اليوم الرابع؛ فإنهم قالوا: إن لم يحذف الخيار الزائد، أفسد العقد، وإن حذف لم يفسد. فقيل لهم: الخيار الزائد فاسد محذوف شرعاً، فلا ينبغي أن يكون بخوفهم اعتبار.
هذا احتمال ما ذكرناه.
والذي قطع به الأئمة في الطرق: أن اتصال بقية من زمان الخيار بالإسلام بمثابة اتصال بقية من العدّة. ووجه ما ذكره الأصحاب -ولا مذهب غيره- أن النكاح لم ينعقد على صفة اللزوم في هذه الأيام؛ فلا يثبت اللزوم فيها؛ فإن المتعاقدين لم ينشئاه.
ونحن وإن كنا لا نرعى شرائط الإسلام في ابتداء عقود أهل الشرك، فلا نثبت ما لم يثبتوه، وإذا عقدوا الإلزام وراء هذه المدة، لم يثبت قبل انقضائها.
فهذا يقتضي أن يقال: إذا اتصل زمان الخيار بالإسلام؛ فلا إلزام في تلك المدة.
وحكم الإسلام يقتضي مثل هذا، [وهذا] (3) هو الممكن عندنا في تعليل هذه الطرق.
وإذا تبين أن اتصال بقية العدة بالإسلام يتضمن الحكم بفساد النكاح، فلا يخفى أن الكافر إذا نكح واحدة من محارمه، ثم أسلما، فالنكاح مردود؛ فإن إدامة النكاح على
__________
(1) هنا خلل في ترتيب صفحات الأصل. حيث سنعود إلى (152 ش).
(2) في الأصل: يتعذر.
(3) زيادة اقتضاها السياق.

(12/294)


المحارم يستحيل استحالة ابتدائه عليهن. وإذا كان يفسد النكاح ببقاء بقية من [المفسد] (1)، فاستمرار المحرمية باقتضاء الإفساد أولى.
8102 - ثم أطلق أئمتنا عبارة، ونشأ من إطلاقها كلام، وذلك بأنهم قالوا: إذا أدرك الإسلام والمرأة (2) على حالة لا يجوز ابتداء نكاحها، [فلا] (3) يجوز استدامة النكاح عليها، وإن كانت المرأة عند إدراك الإسلام على حالة لا يمتنع ابتداء نكاحها، فلا يبعد استدامة نكاح [الشركِ] (4) عليها، وخرّجوا على مقتضى هذه العبارة استحالة إدامة النكاح على المحارم. وخرّجوا أيضاً امتناع دوام (5) النكاح على التي هي في بقية من العدة، إذا لحق الإسلام.
واستثنى صاحب التقريب من طرد هذا الكلام مسألتين: إحداهما - أن الكافر لو أسلم، وكما (6) أسلم أحرم، ثم أسلمت المرأة قبل انقضاء العدة، والزوج محرم حالة الاجتماع في الإسلام، قال: إنه يمسك زوجته، وإن كان لا يبتدىء على هذه الحالة نكاحها، وكذلك لو أسلمت وأحرمت، ثم أسلم الزوج في العدة وصادفها محرمة؛ فإنه يقر على نكاحها. وإن كان لا يثبت نكاح المُحرمة ابتداء.
فهذا أحد الاستثنائين.
والثاني - أن الكافر لو نكح في الشرك، ثم إن المرأة وُطئت بشبهة بعد جريان النكاح، وجرت في العدة، فلحق الإسلام النكاح والمرأة في عدة الشبهة، فالنكاح قائم، لا يدفعه ما بقي من عدة الشبهة، وإن كانت لا تنكح ابتداء.
هذا ما ذكره صاحب التقريب وقد قطع بموافقته الصيدلاني، ولم يشبّب بخلاف، ووجه ذلك بيّن؛ فإن الإحرام الطارىء عارض بعد تصرّم النكاح، وليس من
__________
(1) في النسختين: للمنفسد.
(2) في النسختين: فالمرأة.
(3) في النسختين: ولا.
(4) في الأصل: "المشرك" وفي (ت 3). " الشريك" والمثبت اختيارٌ منا.
(5) آخر الخلل في ترتيب صفحات الأصل.
(6) وكما: أي وعندما.

(12/295)


المفسدات المقترنة بالعقد. وطريان الإحرام وعدة الشبهة لا يقدح في نكاح المسلمين، فكيف يفرض قادحاً في نكاح المشرك؟ ونحن قد نحتمل في أنكحتهم ما لا نحتمل في أنكحة الإسلام.
فإذا كان لا ينافي الإحرامُ وعدةُ الشبهة دوامَ نكاح الإسلام، فكذلك وجب ألا يقطع دوامَ نكاح المشرك، وليس ذلك كما لو نكحت المعتدة وبقيت من العدة مدة، وقد لحق الإسلام؛ فإن هذه العدة اقترنت بالعقد واقترانها يفسد نكاح الإسلام، فإذا لحق الإسلام والمفسد قائم، جعلنا هذا كما لو أنشأ العقد مقترناً بالمفسد في الإسلام.
وهذا المعنى الذي وقع به الفرق صحيح.
8103 - ولكن يعترض عليه أصلٌ في الباب، اتفق الأصحاب عليه، وهو: أن الحر إذا نكح أمة على شرط الشرع، ثم طرأ على النكاح يساره واقتدارُه على طَوْل الحرة، وأسلم وأسلمت الأمة، فيبطل نكاح الأمة، ولا سبيل للحر إلى إمساكها، واليسار طارىء بعد النكاح، ولم يقترن بالعقد اقتران المفسدات به، فكان يجب أن يجعل طريان اليسار بمثابة طريان عدة الشبهة والإحرام.
ولما نظر القفال إلى ما ذكرناه، لم يجد فصلاً (1)، وارتكب طرد القياس في المسألتين اللتين ذكرهما صاحب التقريب، وقال أولاً: إنه حكى [فيهما] (2) نصَّ الشافعي وقد تتبعت النصوص، فلم أجد ما حكاه من المسألتين منصوصاً. وأنه قال: إذا أحرم الزوج بعد ما أسلم، ثم أسلمت الزوجة الوثنية والزوج محرم، فينقطع النكاح، ونحكم بفساده، وطرد هذا في طريان عدة الشبهة على كلام ذكره بعض النقلة عنه فيها، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى. هذا مما حكاه أصحاب القاضي عن القفال على هذا النسق، وأورده بعض المصنفين عنه على هذا الوجه، ولم يورده الصيدلاني في طريقه المقصور على مذهب القفال ومسلكه فيه، بل أورد عنه ضد ما أوردناه، والذي أشار إليه من كلامه في العدة عريّ عن التحصيل. ولكنا نأتي به.
__________
(1) فصلاً: أي فرقاً.
(2) في النسختين: فيها.

(12/296)


قال من نقل عن القفال: ما ذكرناه من طرد القياس في عدة الشبهة في زمن العدة تلبيس؛ من جهة أن أحد الزوجين إذا أسلم، اقتضى ذلك الجريان في عدة النكاح، وعدة النكاح مقدمة على عدة الشبهة، فلا يتصور اقتران عدة الشبهة بلحوق الإسلام.
وهذا عندي كلام مضطرب؛ إذ يمكن فرض إسلامهما معاً، حتى لا يقدر جريانها في العدة بسبب اختلاف الدين.
ثم يلتزم أن تقترن عدة الشبهة بهذه الحالة أيضاًً؛ فإنه إذا أسلم أحد الزوجين، فلسنا نقطع بأن المرأة جارية في العدة؛ من قِبل أن المتخلف منهما إذا وافق وأسلم قبل زمان انقضاء العدة، فنحكم بأن النكاح قائم دائم، وأن ما كنا نقدر عدة [ليس عدة] (1)؛ فإن العدة عن الشخص يستحيل ثبوتها في صلب النكاح من غير وقوع سبب لا يستدرك، وليس كعدة الرجعية؛ فإنها تعقبت الطلاق الواقع، [والرجعية] (2) وإن ارتجعها زوجها، فالطلاق الذي وقع عليها لا يزول.
وذكر بعض المصنفين على قياس القفال: أن المرأة لو وطئت بالشبهة، وعلقت بمولود من الواطىء بالشبهة، واتصل الإسلام وبقي كذلك؛ فينقطع النكاح من قِبل أن عدة الشبهة في هذه الصورة تتقدم على عدة النكاح. فلا جرم يطرد القفالُ قياسَه.
8104 - ثم حكى القفال عن نص الشافعي مسألة توافق القانون، وهي: أن الشافعي قال: إذا أسلم أحد الزوجين، وارتدّ، فالأمر على ما ذكرناه. وقال القفال: الردة تمنع [النكاح] (3) كما تمنعه العدة والإحرام، فإذا انقطع دوام النكاح بطريان الردة بعد الإسلام؛ فليكن الإحرام والعدة عن وطء الشبهة بهذه المثابة.
هذا تمام الحكاية عن القفال.
وكان شيخي يحكي عن القفال ما ذكرناه أيضاًً، وإنما رابني ترك الصيدلاني هذه
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في النسختين: الرجعة.
(3) في النسختين: بالنكاح.

(12/297)


الحكاية، ونقلُه عن القفال نقيضَها، مع شدة [اعتنائه] (1) [بنقل] (2) خواص القفال.
ولا شك أن القياس يخالف ما نقله الناقلون عن القفال، لما تقدم ذكره من أن طارىء الإحرام وعدة الشبهة لا ينافي دوام النكاح، [وليسا] (3) مقترنين بالعقد الذي جرى في الشرك.
والذي أوردناه من طريان اليسار في نكاح الأمة مشكل جداً، واردٌ [على] (4) الفقه الذي اعتمدناه؛ من أن الإحرام وعدة الشبهة طرآ بعد انقضاء النكاح. وهذا يوضحه أن اليسار الطارىء لا يقطع عندنا نكاح الحر المسلم على الأمة إذا كان جرى النكاح في حالة الإعسار والعجز عن طَوْل الحرة. وسنذكر ما يمكن في الفرق بين طريان اليسار وبين طريان الإحرام وعدة الشبهة في أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل.
وأما ما تمسك به من الردة، ففيها إشكال -والحق أحق ما قيل- فإن الردة الطارئة على نكاح مدخول بها لا يتضمن تنجيز القطع، بل مقتضاها انتظار الإصرار عليها إلى انقضاء العدة، هذا هو القياس ولكن لاطريق إلا اتباع ما نقله هذه الإمام عن النص.
ويمكن أن نفرق بين العدة والردة والإحرام [فنقول] (5): الردة على الجملة من قواطع النكاح، وإنما التفصيل في وقت قطعها، كما سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
والإحرام الطارىء لا يتصور أن يقطع دوام نكاح.
ومن الدليل على تحقيق الفرق: أن الرجعية لو ارتدت، فارتجعها، لم تصح الرجعة (6)، وإن عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة.
__________
(1) زيادة من (ت 3).
(2) في النسختين: "بنقض" والمثبت من اختيارنا رعاية للسياق.
(3) في الأصل، وكذا (ت 3): ولسنا.
(4) في النسختين: عن.
(5) في النسختين: "فقال".
(6) ت 3: الرجعية.

(12/298)


ولو أحرمت الرجعية، فارتجعها زوجها، صحت الرجعة مع الإحرام، كما سيأتي ذلك في باب الرجعة (1)، إن شاء الله عز وجل.
هذا منتهى القول في هذه الحكايات.
والذي ارتبكنا فيه غمرة إشكال نكاح المشركات، ولكنا بعون الله تعالى لا نغادر جهداً في كل ما يمكن من مواقع هذا الإشكال. والله الموفق للصواب.
8105 - ومما نلحقه بهذا المنتهى: أن الرجل إذا أسلم والمرأة في بقية من العدة التي كانت مقترنة بالنكاح المعقود في الشرك -وقد تمهد أن ذلك مفسد للنكاح- وإنما غرضنا الآن الأخذ في نوع آخر من الإشكال: وهو أن الصيدلاني قطع جوابه بأن الرجل إذا أسلم وقد بقيت بقية من العدة المقترنة، فإنا نحكم بالفساد، وإن انقضت تلك البقية، ثم أسلمت، ولم يبق من العدة شيء وقت اجتماعهما في الإسلام. وكذلك القول في بقية مدة الخيار. والغرض من ذلك أنا لا نعتبر (2) في بقاء العدة ومدة الخيار ليفسد النكاح حالة الاجتماع في الإسلام. وقد صرح بذلك الصيدلاني. وقال: إذا أسلم والمفسد قائم، كفى ذلك في إفساد النكاح، وإن كانت متخلفة، وكذلك لو أسلمت وهو متخلف، والعدة باقية ومدة الخيار، فالنكاح يفسد إذا اتصل بالإسلام منهما أو من أحدهما بقية المفسد.
8106 - ولم يختلف من يبالَى به في أن الحر إذا نكح في الشرك [أمةً] (3) ثم أسلم وهو موسر، والأمة [متخلفة] (4) ثم زال اليسار، وأسلمت، وكان على شرط نكاح الإماء حال الاجتماع في الإسلام؛ أنه يمسكها. والنظر في هذا إلى حالة الاجتماع، لا يعتبر ما قبله ولا ما بعده.
وهذا القياس يقتضي أن نقول: إذا اتصل المفسد بإسلام أحد الزوجين، ثم زال،
__________
(1) ت 3: باب الاحرام.
(2) لا نعتبر: بمعنى: لا نشترط.
(3) في النسختين: أمته.
(4) في النسختين: ملتحفة.

(12/299)


فأسلم الآخر ولا مفسد حالة الاجتماع في الإسلام؛ فلا ينقطع النكاح.
هذا موجب القياس الذي ذكرناه في اعتبار شرائط نكاح الإماء، ولم يصر إلى التسوية بين البابين معتبر من أئمة المذهب. وكان ذلك إشكالاً عظيماً.
وإن ظن أنه يتأتّى الانفصال من هذا الإشكال بأن يقال: اليسار طارىءٌ على نكاح الأمة، وطريانه لا يوجب قطع النكاح، والعدة مقترنة بالعقد، وقد لحقها الإسلام، فهذا لا يحل الإشكال من أوجه: منها - أن ذلك لو كان صحيحاً، لوجب ألا يؤثر اليسار الطارىء حالة الاجتماع في الإسلام، فإنا إذا لم نجعل الإحرام مؤثّراً في النكاح، طردنا ذلك حالة الاجتماع في الإسلام أيضاً، وقضينا بأنه لا يؤثر، وكذلك الكلام في عدة الشبهة، إذا لم نجعلها مؤثّرة. هذا وجه.
والوجه الثاني - أنا لو قدرنا اقتران اليسار بالعقد الذي جرى في الشرك، للزم أن نقول: إذا دام اليسار حتى أسلم أحد الزوجين؛ فسد النكاح، من جهة الاقتران الذي صورناه، وكما نشترط في الإسلام خلو المنكوحة عن العدة حالة النكاح، فكذلك نشترط في نكاح الحر الأمةَ العجزَ عن طَوْل الحرة حالة العقد، فلا فرق. وقد بطل التعويل على الاقتران والطريان.
والوجه الثالث - في الإشكال: أن الشافعي وأصحابه اتفقوا على أن الحر إذا نكح في الشرك حرة وأمة، ثم أسلم وأسلمت الحرة، وتخلفت الأمة، وماتت الحرة بعد ما أسلمت، ثم أسلمت الأمة ولا حرة، ولا قدرة على طَوْل الحرة؛ فلا سبيل إلى إمساك الأمة؛ فقد جعل الأصحاب الحرةَ دافعة لنكاح الأمة المتخلفة.
فهلا قالوا: إذا نكح أمة ثم أسلم، وتخلفت الأمة، فكان الزوج موسراً لما أسلم، فنجعل يساره دافعاً لنكاح الأمة كما [دفعته] (1) الحرة!
8107 - فهذه وجوه من الاعتراضات لا يستقل بأدناها الغواصون، ونحن نبتغي أن نجمعها، ثم نستعين بالله عز وجل في محاولة الانفصال عنها، وطردها على أبلغ وجه مع استفراغ الوسع والإمكان.
__________
(1) في الأصل: دفعه.

(12/300)


فنقول -والله المستعان-: ما ارتكبه القفال -إن صح النقل عنه- في طريان الإحرام وعدة الشبهة، لا سبيل إلى ارتكابه، فيخرج هذا من أثناء الكلام، وليردِّد الإنسان نظره إلى نكاح الأمة وما يفرض فيه من يسار طارىء أو مقارن، فنقول أولاً: لا ينبغي أن يظن الفقيه أنا نفرق به بين اليسار المقترن بنكاح الأمة وبين اليسار الطارىء بعده، مصيراً إلى أن المقترن مُخِلٌّ (1) بالعقد قادح في الشرط المرعي فيه، بخلاف الطارىء؛ فإن هذا تفصيل لم يصر إليهِ أحد من الأصحاب، ولم يتعرض له النص، فلا فرق عندنا إذاً، (2 وانحسم هذا المطمع.
ونحن نقول بعده: قد ثبت اشتراط العجز عن الطول في حق الحر المسلم، ولم يثبت عندنا 2) اشتراط في نكاح الكافر الأمة، والذي يوضح الحق في ذلك: أن العبد ينكح الأمة عند الشافعي وإن لم يكن خائفاً على نفسه من العنت؛ من جهة أنه غير مؤاخذ بالنظر لولده [وتبعيده] (3) عن الإرقاق؛ فإذا كان كذلك، فلا يتجه مؤاخذة الكافر بتبعيد ولده عن الرق، وهو وزوجته وذراريه عرضة لاسترقاق السابين.
والذي يعضد هذا أنا أثبتنا العجز عن الطَّوْل وخوف العنت بالنص، ولم نحكم بهما قياساً، وإذا كان كذلك؛ والنص مختص بالمؤمنين، فإنه عز من قائل قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25] وكان هذا خطاباً للمؤمنين. فإن أنكر [منكر] (4) ذلك، وزعم أن الكفار يندرجون تحت قوله تعالى: {مِنْكُمْ} إذا قضينا بأنهم مخاطبون بخطاب الشرع، قلنا له: لا سبيل إلى تقدير ذلك وتخيّله مع قوله تعالى: {أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَات} ولا يتصور نكاح المؤمنات إلا من مؤمن.
فيخرج مما ذكرناه أن اشتراط الإعسار غير ثابت في نكاح الكفار للإماء؛ فلا أثر للاقتران بالعقد، ومقترن اليسار بالعقد كطارئه عليه.
__________
(1) ت 3: مخلي.
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 3).
(3) في النسختين: وتبعده.
(4) زيادة من (ت 3).

(12/301)


وإن ألزم ملزم على هذا المنتهى نكاح الحرة؛ فإن الحرة تدرأ الأمة قبل الاجتماع في الإسلام مع الأمة، كما تقدم تصويره. ومذهب الشافعي أن الحرة والقدرة على طَوْلها يجريان مجرىً واحداً في نكاح الأمة نفياً وإثباتاً، وشرطاً وإسقاطاً؛ فإنا لما حكمنا بصحة نكاح العبد للأمة من غير اشتراط خوف العنت، قلنا مع ذلك: له أن يُدخل [أمة] (1) على حرة، وله (2) الجمع بينهما في عقدة، فلئن كان الكافر بمثابة العبد في نكاح الأمة، فليكن بمثابته إذا كان تحته حرة، وقد فرض منه (3) نكاح الأمة.
وهذا هو المنتهى في هذا المساق.
8108 - ونحن نقول فيه بعون الله تعالى: الحرة لا تنزّل منزلة اليسار، بل الأمر فيها وفي اشتراط عدمها أعظم وأطم، والدليل عليه أن من كان في حِبالتهِ حرة غائبة، أو رتقاء لا تؤتى ولا توطأ؛ فليس له أن ينكح أمة ما لم يطلّقها، ولو وجد الرجل من المال ما ينكح به حرة غائبة، ولكنه لا يتوصل إليها إلا بعد زمان متطاول؛ فلا نجعل القدرة على نكاح غائبة بمثابة كون الغائبة في الحِبالة.
وكذلك لو وجد الرجل طَوْل حُرة رتقاء، ولم يجد طَول حرة سليمة؛ فله أن ينكح أمة، بخلاف ما لو كانت الحرة الرتقاء في زوجيته وحبالته، فاستبان أن (4) الحرة تدرأ إدخال نكاح الأمة عليها، من غير نظر إلى معنى العفاف والكفاف، والمال في [غيبته] (5) لا يمنع نكاح الأمة.
8109 - ولن (6) يحصل شفاء الغليل فيما [نحن له] (7) إلا بأمر نصرّح به تلقياً من
__________
(1) في الأصل: أمته.
(2) ت 3: أما الجمع.
(3) ت 3: له.
(4) ت 3: فاستبان غير الحرة تدرأ ...
(5) في النسختين: غيبه.
(6) ت 3: وأن يحصل.
(6) في النسختين، "يخاف له" والمثبت من تصرف المحقق، والمعنى: فيما نحن بصدده؛ فهذا أقرب إلى المعهود من أسلوب الإمام.

(12/302)


كلام الأئمة، فنقول: بان لنا من مساق النصوص، وكلام الأصحاب أن العجز عن الطول ليس مرعياً في أول نكاح الكافر الأمةَ، لما قدمناه، ثم تمهد لنا اعتباره عند إمكان الإمساك في الإسلام، فكأن الشرط المشروط في نكاح الحر المسلم الأمةَ مستأخَر في نكاح الكافر إلى وقت الاجتماع في الإسلام، وليس ذلك أمراً بدعاً، ونحن قد نلقى من معاصات (1) الفقه في محالّ الاستغراق ما هو أغمض من هذا. ثم نرى اشتراط الحرة أعلى، ونجعلها مؤثرة قبل الاجتماع في الإسلام في دفع نكاح الإماء [المتخلفات] (2)، لما أشرنا إليه من أن الحرة تدفع إدخال الأمة عليها بعينها، [فغاية] (3) هذا الفصل فَرْقُنا بين الحر المسلم في نكاح الأمة، وبين الكافر في نكاح الأمة -فيما يتعلق باليسار- في أنا نعتبر في نكاح المسلم حالة العقد العجزَ (4)، ولا نعتبر ذلك في نكاح المشرك، بل (5) نعتبره حالة الاجتماع في الإسلام. وهذا متضح على حسب ما يليق بهذا الباب. ثم وراء ذلك الفرقُ الذي ذكرناه بين اليسار وبين الحرة.
8110 - ومن لطيف المذهب ما نذكره الآن -وهو مقصود في نفسه- وبه يعتضد ما ذكرناه: أن الأصحاب أجرَوْا في أثناء المسائل اختلافاً في أن الاختيار في النكاح الذي مضى في الشرك إذا اتصل بالإسلام يجري مجرى ابتداء النكاح، أو يجري مجزى الاستدامة؟ وربما أطلقوا قولين -وليسا منصوصين عندهم، وإنما هما مستنبطان من قضايا الأحكام- أحدهما - إنه بمثابة الاستدامة، وهو قول أبي ثور، ودليل هذا القول أنه مقرر على النكاح الذي مضى في الشرك، ولا حاجة إلى إفساخ عقد، وليس بين الاستدامة والإفساخ مرتبة. فإذا لم يكن ابتداءٌ، تعيّن الحكم بالاستدامة. والشرائط المرعية في ابتداء النكاح ليست معتبرة في الاختيار.
__________
(1) ت 3: مغاصات.
(2) في النسختين: المختلفات.
(3) في النسختين: فغايته.
(4) (ت 3): تعتبر في نكاح المسلم حالة العقد الجمع لعجز، ولا.
(5) ت 3: لم نعتبره.

(12/303)


والقول الثاني - إن الاختيار بمثابة ابتداء النكاح، ودليله أنا نراعي في اختياره الأَمة أن يكون عادماً لطَوْل الحرة، خائفاً على نفسه من العنت، وإنما يراعى هذان الشرطان في ابتداء العقد، وهذا القائل لا يزعم أن الاختيار ابتداء على الحقيقة؛ إذ لا يصير إلى هذا محصّل مع القطع بأن ابتداء النكاح ليس مشروطاً، وأن المرة [ممسَكَةٌ] (1) بنكاح الشرك، ولكنه يقول: الاختيار كابتداء النكاح وحالّ محله، ودليله ما ذكرناه في نكاح الإماء.
فإذا تبين هذا من كلام الأصحاب، فالتحقيق عندنا أن هذا التردد إنما ينشأ من مسألة الأمر (2)، ومن اشتراط العجز عن الطَّوْل وخوف العنت عند الاجتماع في الإسلام. ولولا هذه المسألة، لما خطر للفقيه أن الاختيار مشبه بالابتداء.
ومن أحاط بما قدمناه، تبين له أن هذا الاختلاف لا حاجة إليه، ولكن الوجه القطعُ بموجب الاستدامة، والمصيرُ إلى أنا لا نرعى في نكاح المشرك الأمةَ العجزَ وخوفَ العنت، كما قررناه، ولكن لا نرفع اعتباره من البين.
ويزدحم على هذا المقام المعنى الذي حمل المُزنيَّ على المصير إلى أن اليسار الطارىء يقطع نكاح الأمة. فكأن الأصحاب وإن لم يرَوْا ذلك مذهباً في النكاح الذي جرى على الصحة مستجمعاً لشرطَي العجز وخوف العنت، لم يُبعدوا اعتبار مذهبه في الجريان في نكاح المشرك الأمةَ إذا اتصل بالإسلام، وانضم إليه تأخير شرط لم نعتبره في النكاح إلى حالة الاختيار، فأي حاجة إلى ترديد القول؟ وإنما شذت هذه المسألة، لا من جهة أن الاختيار ابتداء، أو نازل منزلة الابتداء؛ فلا وجه إلا القطع بأن الممسك مستديم؛ لأنه كذلك حقاً، ثم ينظر الناظر في مسألة الأَمة بطريق النظر فيها. وإذا كان الذي يدّعي التشبيه بالابتداء لا يستمسك إلا بمسألة الأمة -وهي مسلّمة، وعليها كلام لا بأس به على ما يضيق بالمضايق- فالوجه ذِكر هذه المسألة وبيان شذوذها وذكر التفصِّي (3) عنها.
__________
(1) في النسختين: ممسكته.
(2) الأمر: أي الأمر بالاختيار.
(3) تفضى -بالفاء- من الشيء وعنه: تخلّص منه، يقال: تفصَّى من الديون خرج منها (معجم ومصباح).

(12/304)


وإن تكلف متكلف وفرض طريان الحرة على الأمة، وطلب أن يلحق طريانها بطريان عدة الشبهة؛ كان جوابه أن الشرع أبطل اعتبار تواريخ عقود الشرك، وكفانا مؤونة النظر فيه، ودلت عليه الأخبار الناصّة، فجعلنا المتقدم والمتأخر بمثابة العقد الواحد الشامل، كما تمهّد.
8111 - ونحن ننظم الآن تراجم لما تقدم، حتى تكون ضابطة لها، ونقول: المفسد المقترن بعقد الشرك إذا انقطع قبل الإسلام، فلا مبالاة به. وإن دام إلى إسلام أحد الزوجين، حكمنا بفساد النكاح.
وما يطرأ بعد النكاح -كعدة الشبهة- لا مبالاة بها، وإذا دامت إلى الإسلام -كما نقله صاحب التقريب- ففيه الكلام البعيد الذي حكاه بعض الأصحاب عن القفال.
وما يطرأ بعد الإسلام كالإحرام لا مبالاة به، ولا أثر له في منع الإمساك والاستدامة إلا على المسلك البعيد المحكيّ عن القفال.
وفي طريان الردة بعد الإسلام نص وتردد - كما قدمناه.
وأما اعتبار العجز والخوف في نكاح الأمة، فليس من قبيل الشرائط التي تدوم من النكاح إلى الإسلام، وقد أوضحنا أن لا نشترط في نكاح المشرك الأمة عجزاً ولا خوفاً، وإنما اعتبرناهما في الدوام لا على قياس الشرائط، بل هو أصل مستفتح كما مهدناه.
والحرة مع الإماء في نكاح الإماء تنزّل منزلة العدة المقترنة إذا دامت إلى الإسلام؛ فإنها تدرأ بنفسها نكاح الأمة.
وقد طرّقنا إلى كل [طريق] (1) أسئلة، وأتينا بالممكن في الجواب [عنها] (2).
وإنما اضطربت هذه الفصول بعض الاضطراب؛ لأن الأخبار - التي هي أم الباب، حسمت مسالك القياس في قواعد نبّهنا عليها، ولسنا نترك جميع القياس؛ وإذا
__________
(1) في النسختين: طرق (ولعل الصواب ما أثبتناه).
(2) في النسختين: عنهما. والمثبت تصرف من المحقق.

(12/305)


تركّبت المسائل من مراعاة الأقيسة والأصول المستثناة عنها، كانت كذلك، ونهاية الفقه الإحاطة بالشيء على ما هو عليه، فمن طلب من هذه المسائل ما يطلب من المسائل القياسية، فليس يبغي العلم بمسائل المشركات؛ فإنه يطلب منها ما يخالف وضعها. وقد تم الغرض من هذا الأصل.
8112 - الأصل الثالث: في بيان ما يراه الكفار نكاحاً، وما لا يرونه نكاحاً.
قال علماؤنا: [إنا] (1) نقرهم إذا أسلموا على ما كان نكاحاً فيهم، فأما إذا كان يختص بعضهم بامرأة مسافحاً زانياً من غير عقد، فإذا أسلم، فلا حكم لما كان في الشرك.
وإن جرى في الشرك ما يعد فيهم نكاحاً، فقد يُقَرر عليه - على ما مهدنا الأصول فيه. وستأتي تفاصيلها في مسائل الباب، إن شاء الله عز وجل.
ثم إن كانت تلك العقود فاسدة في حكم شرعنا، فقد فصّلنا القول في المفسد ودوامه وانقطاعه.
8113 - ثم قال الأئمة: لو أجبر الكافر ابنته على النكاح، حيث لا يجوز الإجبار في الإسلام، ثم إنهم كانوا يجوّزون ذلك فيما بينهم؛ فإذا فرض إسلام الزوج معها، فالنكاح لازم، ولا خيار لها، ولا نظر إلى مخالفة إجبارهم لموجب شرعنا، كما لا نظر (2) إلى اعتبار شرائط الإسلام في الوجوه التي ذكرناها.
ولو غصب كافر امرأة لتكون مفترشة له، لا ليسترقها، فقد حُكي عن القفال فيما حكاه الصيدلاني: لا نقر هذا المغتصب (3) إذا اتصل النكاح [بالإسلام] (4)، وإن كانوا يرون ذلك نكاحاً؛ إذ لا بد من جريان صورة عقد، ثم النظر في تفصيله على ما تقدم.
وقال الأصحاب بأجمعهم: إذا كانوا يرون ذلك نكاحاً، فهو نكاح. قال
__________
(1) في النسختين: إما.
(2) ت 3: نضطر.
(3) ت 3: لمغتصب.
(4) زيادة اقتضاها استقامة المعنى.

(12/306)


الصيدلاني: القياس يخالف ما ذكره القفال. ولم أر هذه الحكايةَ عن القفال إلا من جهته؛ فإن أصحاب القفال أجمعوا على أنهم إذا رأوا ذلك نكاحاً، فهو نكاح، واعتلّوا بأنهم إن (1) أقاموا الفعل مقام القول في عقدهم، فقد تركوا اللفظ، وهو شرط عندنا بمثابة تركهم سائر الشروط.
ومما ذكره الأئمة أن الكافر إذا نكح نكاح متعة - وهو النكاح [المتأقت] (2) ثم اتصل النكاح بالإسلام؛ فلا تقرير على ذلك؛ فإن المدة المضروبة إن كانت قد انقضت قبل الإسلام، فإنهم لم يعقدوا النكاح وراء المدة، وإن كانت المدة باقية، فالتقرير على النكاح المؤقت محال، إلا أن يروا في دينهم أن مؤقّت النكاح مؤبّد، كما نرى مؤقّت الطلاق مؤبّداً؛ فحينئذ يقر على النكاح، وإن كان الإسلام بعد انقضاء المدة.
8114 - ولو جرى نكاح في الشرك وكانوا يرونه نكاحاً، ولكنهم اعتقدوه فاسداً فيهم؛ فهذا مما كان يتردد فيه شيخي -وهو لطيف- سمعته يقول: لا يُقَر عليه؛ فإنهم لم يروه صحيحاً؛ والفاسد ليس بعقد، وسمعته يذكر في مجالس الإفادة والإلقاء أن [ما رأوه] (3) فيهم بمثابة نكاح الشبهة فينا، فإذا أسلموا عليه أقررناهم، وإنما لم نقرّهم إذا لم يجدوا ما يكون من قبيل النكاح عندهم.
والذي أراه أنهم لا يُقرّون [على] (4) ما اعترفوا بفساده فيهم، إذا كان فاسداً في ديننا أيضاًً، وأما ما اعترفوا بفساده، وهو صحيح في ديننا؛ فيتجه تقريرهم إذا أسلموا. فإن أصل النكاح جرى، ثم انتهى [إلى] (5) الإسلام، وهو يتضمن تصحيحه.
وهذا يتطرق إليه احتمال ظاهر؛ من جهة أنا لم نفرق في العقود المشتملة على الأعداد الزائدة على مبالغ الحصر الشرعي بين العقد السابق وبين العقد المتأخر، وإن
__________
(1) ت 3: أنهم أقاموا ...
(2) في الأصل: المتوقف، ومثلها (ت 3).
(3) في النسختين: أن ورآه فيهم.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: إلا، والمثبت من (ت 3).

(12/307)


كنا في الدين نصحح المتقدم ونبطل المتأخر، فكان التعويل في نكاحهم على اعتقادهم.
8115 - ثم قال الشافعي في هذا الأصل: لو نكح المشرك امرأة بغير صداق، فأسلم، فلا صداق لها. وصورة المسألة: أنهم يعتقدون أن الصداق لا يثبت إذا لم يذكر، ويرون سقوط اعتباره وإن أفضى النكاح إلى الوطء.
ثم نقول على موجب ذلك: إذا أسلما، فمسّها في الإسلام، لم يلتزم مهراً، بناء على اعتقادهم في التفويض وتعرية النكاح [عن] (1) الصداق.
وإن كانوا يعتقدون مثل اعتقادنا في أن النكاح وإن عري عن التسمية؛ فالمهر يثبت الوطء، [فيثبت] (2) موجب عقدهم.
ولعلنا نعود إلى ذلك في باب مُفرد معقود في نكاح أهل الذمة.
وإذا انتهى [الناظر] (3) إلى هذا المنتهى، فليتأمل انعكاس الأمر؛ فإنا في القواعد نستتبعهم ونكلّفهم أن يتبعونا، وقد صرنا نتبعهم في عقدهم، كما نبهنا عليه.
وتمام البيان في ذلك في الباب الذي ذكرناه.
8116 - وقد نجزت الأصول الموعودة المقدمة على نكاح أم وابنتها، ولا اختصاص لهذه الأصول بهذه المسألة، ولكني رأيت تقديمها على مسائل الباب؛ فإن منشأ الغموض منها، ومن أحكم ما قدمناه، هانت عليه المسائل بعدها.
8117 - فنعود إلى مسألة الكتاب، ونقول: إذا نكح الكافر أماً وابنتها، إما في عقد واحد وإما في عقدين؛ فلا فرق، لما قدمناه من سقوط اعتبار تواريخ عقود الشرك، فإذا أسلم وأسلمتا، فلا يخلو، إما أن يكون دخل [بهما] (4)، أو لم يدخل بهما، أو دخل بإحداهما.
__________
(1) في الأصل: على.
(2) في النسختين: "ويثبت".
(3) في النسختين: المناظر.
(4) في الأصل: بها.

(12/308)


فإن دخل بهما؛ فهما محرّمتان عليه على الأبد؛ إذ وطْءُ كل واحدة على الشبهة يحرّم الأخرى، وقد بيّنّا أن التقرير على نكاح المحارم محال.
ولو لم يدخل بهما، فقد نقل المزني عن الشافعي أنه قال: قلنا: اختر من شئت منهما، فإن اختار الأم، اندفعت البنت، وإن اختار البنت، اندفعت الأم، فهذا هو الذي نقله المزني من جواب الشافعي في صدر المسألة.
ثم قال: وقال في موضع آخر: يمسك البنت ويفارق الأم، فيتعين للبنت الإمساك وللأم التحريم، واختار المزني هذا القولَ الأخير، واعتلّ بأن النكاح على الأم لا يحرم البنت إذا لم يجر دخول، والنكاح على البنت يحرم الأم، فقد صارت الأم بنكاح البنت محرمة، فتعينت للتحريم، وتعينت البنت للإمساك.
وهذا الذي ذكره المزني على نهاية الوضوح.
واضطرب أصحابنا بعد هذا النقل والاختيار: فذهب الجماهير إلى بناء القولين على أن لنكاح الشرك حكماً أم لا؟ فإن قلنا: له حكم، لم يمسك إلا البنت، لما تقدم من أن العقد على البنت يحرم الأم. وإن قلنا: لا حكم لنكاح الشرك، فيتخير فيهما. هكذا نقل الصيدلاني وغيره ممن يوثق بنقله.
وهذا على هذه الصيغة فاسد؛ فإنه لم يصر محقق [إلى] (1) قوله، فلا تعويل [على] (2) أن نكاح الشرك لا حكم له، وكيف يستجيز المستجيز هذا مع التقرير عليه، والمصير إلى إيجاب الإمساك، إلا أن يُطلِّق، والكلام في التضعيف والتزييف بعد الانتظام.
ومن قال: يُقَر على نكاح الشرك، ثم قال: لا حكم له، كان كلامه متناقضاً، فلا وجه لتنزيل القولين إلا ما مهدناه في الأصل الأول من أن (3) الكافر إذا نكح أختين، فنحكم بصحة النكاحين، أو نُعرض: فلا نحكم بصحة ولا فساد قبل الاتصال بالإسلام؟
__________
(1) في النسختين: على.
(2) في النسختين: إلى.
(3) سقطت من: (ت 3).

(12/309)


فإن حكمنا بانعقاد النكاحين، فنقول بحسبه: ينعقد النكاح على الأم والبنت (1)، ثم يدرأ الإسلام نكاحَ الأم ويحرّمها بنكاح البنت.
وإن أعرضنا عن عقودهم، فحقيقة هذا القول أنا عند الاتصال بالإسلام نتبين تصحيح ما يقع الاختيار عليه، مستنداً إلى حالة النكاح في الشرك؛ فعلى هذا لا نثُبت القول بصحة النكاح على البنت، كما لا نقطع به في نكاح الأم. فإذا أسلموا خيّرناه. فإن اختار الأم (2)، اندفعت البنت، وليست محرَماً، ولكنها تندفع اندفاع الأخت. فإن اختار البنت، تبيّنّا صحة النكاح فيها، واندفع نكاح الأم بالمحرمية.
وهذا القول هو المذهب الذي أجاب به ابن الحداد، حيث قال: إذا نكح المشرك أختين، وطلّق كل واحدة منهما ثلاثاً، ثم أسلم وأسلمتا، وقد مضى جوابه، وبان خروجه على الأصل الذي ذكرناه، وفائدة تقديم الأصول الإحالة عليها.
8118 - ثم قال ابن الحداد في مسألة الأم والبنت: إن فرّعنا على قول التخيير، فإذا اختار إحداهما، التزم نصفَ مهر التي فارقها؛ فإنّ تعيّنها للفراق محال على اختياره؛ وكان تسبّبه إلى الفراق بمثابة الطلاق قبل المسيس.
قال القفال: هذا الذي قاله غلط، والأمر بالضد؛ لأنا إذا قلنا: يتخير، فإنما ذلك لأن نكاح الشرك لا حكم له؛ فكيف يجب الصداق (3)؟ وإن قلنا: البنت تتعين للإمساك، فيجب نصف مهر الأم، لأن هذا تفريع على أن نكاح الشرك يصح. فقد صح النكاح على الأم، ثم اندفع.
وهذا الذي ذكره القفال من الاعتراض في [صيغته] (4) خلل؛ لأنه زعم أن التخيير مبني على أن نكاح الشرك لا حكم له، وهذا كلام فاسد لما ذكرناه. نعم، يتوجه الاعتراض على ابن الحداد على صيغةٍ أخرى - قدمناها في تمهيد الأصل الأول، وعددناها من الإشكالات على ابن الحداد.
__________
(1) ت 3: على الأم والشرك في البنت.
(2) ت 3: فإن اختار الإسلام.
(3) ت 3: فكيف يجب الصداق للأم؟
(4) في النسختين: صيغة.

(12/310)


وأما ما ذكره القفال من أنا إذا عيّنّا البنت للنكاح، فيثبت نصف المهر للأم، ففي نفسي من هذا شيء، وهو أن النكاح إذا صح على البنت، فقد صارت الأم محرماً (1). ونحن وإن صححنا أنكحتهم، فليس ينقدح تصحيح النكاح على محرم.
ويبعد عندي كل البعد أن نقول: الكافر إذا نكح أُمَّه، ثم أسلما وما كان مسها؛ أنه يجب عليه نصف مهرها، وإنما ينقدح تصحيح النكاحين على الأختين؛ فإن كل واحدة منهما قابلة للنكاح، والجمع بينهما في حكم الشرط الفاسد المفسد في الإسلام، فإن أوجبنا مهر التي يفارقها من الأختين، فهو متجه [تخريجاً] (2) على تصحيح أنكحتهم، فأما إيجاب نصف مهر المحرّمة من غير مسيس فبعيد.
8119 - والذي ينتظم لنا من مجموع ذلك في المهر: أن من نكح أختين، ثم اختار إحداهما في الإسلام، ولا مسيس؛ ففي وجوب نصف (3) المهر للمفارَقة قولان مأخوذان من تصحيح الأنكحة والإعراض عنها وردّ الأمر إلى [التبيّن] (4) آخراً. فإن حكمنا بالصحة، أوجبنا نصف المهر للمفارَقة. وإن أعرضنا ثم تبيّنّا، فالمفارَقة ما كان انعقد عليها نكاح، فلا مهر لها. وهذا يطّرد في الزيادة على الأربع.
فأما إذا نكح محرَماً؛ فالذي ذكره القفال أن وجوب نصف المهر لها قبل المسيس، وقد اتصل النكاح بالإسلام، فيخرّج على قولي الصحة والفساد. والذي أراه: القطع بأنه لا شيء لها من المهر، ولا نقول: انعقد عليها نكاح في الشرك، ثم انفسخ بالإسلام.
وذكر الصيدلاني وشيخي طريقة أخرى في [المسألة] (5)، فقالوا: البناء على أن نكاح الشرك لا حكم له فاسد، فالوجه أن نأخذ اختلاف القولين من أصل آخر، وهو ما قدمنا ذكره من أن الاختيار ينزّل منزلة ابتداء النكاح أم هو على حقيقة الإمساك؟ وقد قدّمنا تردد الأصحاب في هذا. وإنما الذي نحتاج إلى ذكره تلقّي القولين من هذا
__________
(1) ساقطة من (ت 3).
(2) في الأصل: تصريحاً.
(3) سقطت من (ت 3).
(4) في الأصل: التبيين.
(5) في الأصل: البناء.

(12/311)


الأصل، فنقول: إن اختار البنت، صح بكل حال قدَّرناه: مبتدئاً أو مستديماً، والعقد في الأم باطل.
وإن اختار الأم، فإن قلنا: ذلك استدامةٌ، صح. ونقدّر كأنه نكح الأم، ثم أدخل على نكاحها نكاح البنت، فليقع التمسكُ بدوام النكاح في الأم.
وإن قلنا: الاختيار كالابتداء، فلا سبيل إلى اختيار الأم؛ وكأنه يبتدىء النكاح عليها، وقد عقد على ابنتها أولاً؛ [فإن] (1) نكاح البنت صحيح من غير اختيار، واختيار الأم بمثابة نكاح عليها بعد تقدم النكاح على بنتها. وهذا كلام خسيس؛ فإنا أوضحنا في الأصول أن ترديد القول والرأي في أن هذا ابتداءٌ أو (2) إمساكُ، لا حاصل له.
ثم ليس ينتظم بناء هذه المسألة على ذلك إن صح ترديد القول فيه؛ فإن النكاح إذا صحّ على البنت، فأي أثر لاعتقاد الإمساك في الأم؟ وصحةُ النكاح على البنت يثبت المحرمية، وسقوط هذا الكلام منتهٍ إلى خروجه عن العقل ودرك الفهم. ومن ظن أن هذه المسألة تؤخذ من غير صحة النكاح، أو الإعراض عنه، فليس مطّلعاً على المسألة.
ثم تبرم الصيدلاني بالطريقين، وقال: الوجه - القطع بتعيّن البنت للنكاح، وتعين الأم للمحرمية، كما اختار المزني، ونجعل القول الآخر (3) حكايةَ مذهب الغير، كأنه حكى مذهباً، ثم اختار مذهباً غيره، ولا يلزمه أن نجعل قولَه: "قد قيل كذا" مذهباً له. هذا لفظه في كتابه.
ولست أدري على ما يُحمل هذا؟ وليس في [السواد] (4): قد قيل، وهو صدّر هذا الفصل بلفظ (المختصر) ولفظه: "إذا نكح أماً وابنتها وأسلموا، قلنا له: اختر
__________
(1) في الأصل: كان نكاح البنت ...
(2) في النسختين: وإمساك.
(3) في النسختين: ونجعل القول في الآخر.
(4) في النسختين: "السر"، (والسواد) الذي ذكرناه هو المختصر: مختصر المزني كما كررنا الإشارة إلى ذلك من قبل.

(12/312)


أيتهما شئت" (1). ثم لم ينقل المزني في هذا الموضع إلا هذا. فلما استكمله نقل بعده نصاً آخر، فكيف يتجه هذا الذي ذكره؟
ثم إنما تبرم بما ذكره الأئمة؛ من جهة أنه اعتقد أن في الأصحاب من يقول: لا حكم لنكاح الشرك، وهذا غير (2) سديد، والأمر على ما قدره. ولكن هذا القول ليس على هذا الوجه، وإنما هو على الإعراض والتبيّن، كما مضى.
وقد نجز هذا الغرض على وجه لا يبقى بعده غائلة على ناظر.
وكل ما ذكرناه فيه إذا وطئهما، أو لم يمسهما جميعاً.
8120 - فأما إذا كان دخل بإحداهما، فإن وطىء الأم، ثم اختار البنت، لم يجز.
وإن اختار الأم، جاز على أحد القولين، وهو إذا لم نجعل العقد على البنت محرِّماً، وإن جعلنا العقد على البنت محرّماً للأم؛ فقد حرمتا جميعاً: حرمت الأم بالعقد على البنت، وحرمت البنت بوطء الأم.
وإن كان وطىء الابنة، فلا يجوز اختيار الأم على القولين؛ فإن العقد إن حرم الأم، فذاك، وإلا فالوطء حرمها. وإن أراد اختيار البنت، فهي معيّنة له، ولا حاجة إلى اختيار؛ فإن الأم - إذا تعينت البنت للنكاح، فلفظ الاختيار فيها مجاز.
فصل
قال: "وإذا أسلم وعنده أربع زوجات إماء ... إلى آخره" (3).
8121 - الحر إذا نكح إماءً في الشرك، ثم أسلم وأسلمن؛ فأصل الفصل أنا نعتبر حالة (4) الاجتماع معهن في الإسلام، فإن كان على شرط نكاح الإماء، بأن كان عادماً
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 289، ونصه: "فإن أسلم وقد نكح أماً وابنتها معاً، فدخل بهما، لم تحل له واحدة منهما أبداً، ولو لم يكن دخل بهما، قلنا: أمسك أيتهما شئت، وفارق الأخرى، وقال في موضع آخر: يمسك الابنة، ويفارق الأم" ا. هـ.
(2) ساقطة من (ت 3).
(3) ر. المختصر: 3/ 289.
(4) ت 3: تعتبر حالته حالة اجتماع.

(12/313)


لطَوْل الحرة خائفاً على نفسه من العنت، فله أن يختار واحدة منهن، والعبرة بحالة الاجتماع لا غير، حتى لو أسلم الزوج أولاً، وكان على شرط نكاح الإماء، ثم أسلمت وقد أيسر؛ فلا يختار الأمة؛ لأنه حالةَ الاجتماع ليس على شرط نكاح الإماء (1) بأن كان موسراً حالة الاجتماع.
ثم إنه [إن] (2) أعسر من بعد، فاجتماع شرائط جواز نكاح الإماء بعد الاجتماع في الإسلام لا يفيد (3) شيئاًً.
ولو كان على شرط نكاح الإماء حالة الاجتماع في الإسلام، ثم أيسر من بعدُ، لم يضر، وله إمساك الأمة.
فالتعويل إذاً في اعتبار الشرائط بحالة الاجتماع في الإسلام لا غير، والسبب فيه أنه لما عسر اتباع الشرائط حالة العقد، كان أولى الأوقات باعتبارها حالة إمكان الاختيار، وذلك حالة الاجتماع في الإسلام؛ فإن الأمة لو تخلفت، وأسلم الزوج، فاختيارها غير ممكن؛ فإن الأمة الكتابية لا تكون منكوحة المسلم. وإن أسلمت الأمة، فاختيار الكافر المسلمة محال؛ فيتعين اعتبار أول حالة الاجتماع في الإسلام؛ فإنه أول الإمكان، ثم إذا لم تثبت الشرائط في هذه الحالة، اندفع نكاحها، فإذا اندفع، لم ينفع استجماع الشرائط من بعدُ. وإذا كانت الشرائط مجتمعة، ثبت النكاح. فطريان اليسار بعده بمثابة طريان اليسار على ناكح أمةٍ، وقد صح له نكاحها؛ فتبين أن المرعي حالةُ الاجتماع، والمعتبر أول حالة الاجتماع من الجليات التي يتعين ذكرها، فكم رأيت المنتمين إلى التحقيق يزلّون فيها في أثناء المسائل، [ويقولون] (4) - إن الاعتبار في الاجتماع في الإسلام بمدة العدة، حتى لو فُرض إصرار أحد الزوجين على الكفر حتى انقضت العدة، تبيّنا انبتات النكاح.
__________
(1) ت 3: على شرط نكاح الإماء للاجتماع بأن كان موسراً ...
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) ت 3: يفيد (بدون لا).
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(12/314)


فلو قال قائل: إذا فرض الاجتماع في الإسلام في العدة، وشرائط نكاح الإماء غير مجتمعة، فارتقبوا اجتماعها في العدة. قلنا: لا أثر لأمد العدّة إلا في الاجتماع في الإسلام فحسب، فهو المتعلق بالعدة، ثم ليس بعد ذلك إلا اندفاع النكاح شرعاً أو تقرره. فإن كانت الأمة واحدة، تعينت، ولا معنى لذكر الاختيار فيها.
وإن أسلم وأسلمت معه إماء والشرائط مجتمعة، ثبت نكاح واحدة، وإنما إلى الزوج تعيينها، فلو لم يعيّنها حتى انقضت العِدة، لم يضر تأخير التعيين عن انقضاء العدة؛ فإنا (1) نحصر أثر اعتبار العدة في الاجتماع في الإسلام.
وإنما ذكرت هذا على وضوحه؛ فإن الفقيه قد يسبق فكره في [انغماره] (2) في طرق النظر أن الأمة إذا أسلمت مثلاً، ثم أسلم الزوج بعدها، وكان موسراً؛ فإن الإسلام (3) مع اليسار في عدم إفادة النكاح كالإصرار على الكفر، وهذه النادرة لا تعويل عليها. فإذا تمهد ما ذكرناه، فليعتقد أنه الأصل والمذهب.
8122 - وحكى صاحب التقريب قاعدة المذهب -كما ذكرنا- ومهّدها أحسن تمهيد، ثم نقل عن أبي يحيى البلخي (4) أنه قال: يعتبر في الإعسار واليسار وخوف العنت حالة إسلام من تقدم بالإسلام من الزوجين، ولا يعتبر حالة اجتماعهما، حتى لو نكح أمةً واحدة مثلاً في الشرك، ثم أسلم وهي متخلفة، ولما أسلم كان معسراً خائفاً من العنت، ثم أسلمت وهو موسر - وذلك في العدة، قال: فله إمساكها (5)
__________
(1) ت 3: فانحصر.
(2) في النسختين: الغمارة.
(3) ت 3: فالإسلام.
(4) أبو يحيى البلخي، زكريا بن أحمد بن يحيى بن موسى خَتّ بن عبد ربه بن سالم القاضي الكبير، قاضي دمشق في خلافة المقتدر بالله، من كبار الشافعية وأصحاب الوجوه، سافر إلى أقاصي الدنيا في طلب الفقه، وكان حسن البيان في النظر، عذب اللسان في الجدل. توفي بدمشق سنة 330 هـ (ر. طبقات السبكي: 3/ 298، وطبفات ابن قاضي شهبة: 1/ 81، وشذرات الذهب: 3262، وسير أعلام النبلاء: 15/ 293).
(5) ت 3: اختيارها.

(12/315)


اعتباراً بحالة إسلامه، وكذلك لو أسلمت هي أولاً وهو معسر خائف (1) من العنت، ثم أسلم في العدة وهو موسر، فله إمساك الأمة، اعتباراً بالصفة التي كان الزوج عليها لما سبقت بالإسلام.
وهذا الذي ذكره سخف لا يساوي الذكر، ولا حاجة إلى ذكر وجه الرد عليه.
نعم، لو قال: إذا أسلم الزوج، وتخلفت الأمة وكان الزوج موسراً، فيندفع نكاح الأمة بيسار الزوج، لكان هذا متجهاً بعض الاتجاه؛ مصيراً إلى أن اليسار إذا اتصل بالإسلام، كان اتصاله بمثابة ما لو أسلم الزوج وأسلمت معه حرة وتخلفت أمة، فنكاح الأمة يندفع بإسلام الحرة مع الزوج، وإن لم يكن إسلامها معه في حالة اجتماع الزوج والأمة في الإسلام. وقد تمهّد أن اليسار في حق الحر ينافي نكاح الأمة منافاة الحرة لنكاحها. وكان يعتضد ذلك باتصال بقية العدة المقترنة بالنكاح بالإسلام، كما سبق إيضاحه وتمهيد الأصول.
هذا طرفٌ لو قال به واقتصر عليه، لوجد مستمسكاً. فأما إذا ضم إلى ذلك أنه لو أسلم وهو معسر خائف من العنت، والأمة متخلفة، ثم أيسر، فأسلمت والزوج موسر، فله أن يمسكها اعتباراً بالإعسار المتقدم على الاجتماع في الاسلام، فلا يخفى اضطراب هذا المذهب.
8123 - ومما نذكره: أنه لو أسلم وتحته حرّة وأمة، فتنقسم المسألة أقساماً، ونحن نأتي على جميعها، إن شاء الله عز وجل.
فإن أسلمت الحرة وقد أسلم الزوج وتخلفت الأمة، تعيّنت الحرة واندفعت الأمة، وكذلك لو أسلمت الأمة مع الحرة، فيندفع نكاحها، وتثبت الحرة متعينة.
ولو أسلمت الحرة، وماتت، ثم أسلمت الأمة والزوج معسر خائف ولا حرة؛ فإن التي كانت ماتت قد تعينت قبل هذا، فليس له أن يمسك الأَمة. وهذا مما مهدناه قبلُ.
والقول الوجيز فيه: أن الحرة إذا تعينت، انبتَّ نكاح الأمة؛ إذ لو كانت مسلمة،
__________
(1) ت 3: مكان قوله "خائف من" كلمة غير مقروءة هكذا (لـ ـعر).

(12/316)


لاندفعت، فتوقع إسلامها لا يزيد على حقيقة إسلامها، وإذا اندفع نكاحها، لم [يَعُد] (1) بموت الحرة، فلو أسلم وهو موسر والأمة متخلفة، لم يندفع نكاحها؛ فإن اليسار إنما يدفع نكاح الإماء ممكناً (2). فيقال: إذا أمكن التوصل إلى نكاح الحرّة؛ فلا يجوز التوصل إلى نكاح الأمة. وإذا كانت متخلفة؛ فلا اعتبار بها، والمال في عينه لا يدفع نكاح الأمة، وقد تقدم في هذا ما فيه كفاية، وهذا مما يعد غمرة في الباب. وقد انتجز الفراغ منه.
8124 - ولو أسلم الزوج وأسلمت الأمة معه، وتخلفت الحرة، لم نقطع بإمساك الأمة. وكيف نقطع به ونحن نجوّز أن تكون تحته حرة، وذلك بأن تسلم المتخلفة.
فإن قيل: هذا ينقض اعتبار حالة الاجتماع! قلنا: حاش لله! هو طرد ذلك الأصل؛ فإن من شرط نكاح الأمة ألا يكون تحت الحر حرة، وهذا لا نتحققه ما لم تنقضِ عدة الحرة على إصرارها، فإن أصرت، تبيّنّا أن نكاح الأمة ثبت قبلُ، ولا نقول: نتبين ثبوتَه حالة الاجتماع، بل إذا اتفق الاجتماع، تبيّنّا النكاح أصلاً، وحكمنا أن النكاح لم يزل قائماً دائماً.
ولو تخلفت الحرة وأسلم الزوج والأمة، وماتت الحرة في العدة، تبينّا ثبوت نكاح الأمة (3)؛ فإن الحرة لما ماتت، انتهت العدة بموتها، وأُيس من نكاحها، وكان انتهاء العدة بالموت بمثابة انقضائها وهي مصرة على الشرك.
ولو أسلمت الحرة وتخلف الزوج، فماتت الحرة، ثم أسلم الزوج، وأسلمت الأمة في العدة، أو كانت أسلمت من قبل، فيثبت نكاح الأمة؛ فإن إسلام الحرة مع تخلف الزوج لا يثبت نكاحها، وما (4) لم يثبت نكاحها، لم (5) يندفع نكاح الأمة.
وكل ذلك واضح لمن أحكم الأصول.
__________
(1) في النسختين: يعتد. والمثبت تقديرٌ منا رعايةً للسياق.
(2) ممكناً: أي إذا كان موجوداً عند العقد، والإمام فسرها بما يعدها.
(3) ت 3: الحرة.
(4) ت 3: ومن لم.
(5) ت 3: لا يندفع.

(12/317)


فصل
قال: "ولو أسلم بعضهن بعده فسواء، وينتظر إسلام البواقي ... إلى آخره" (1).
8125 - هذا الفصل يجوز أن يكون مفروضاً في نكاح الإماء؛ لأنه منعطف على الفصل المتقدم. ولكن غرضه لا يختص بالإماء، ونحن نذكر المقصود في الحرائر، ثم نوضح جريانه في الإماء، إن شاء الله عز وجل.
فنقول: الحر إذا أسلم وتحته حرائر، فإن أسلمن في العدة، أو أسلمن معه، وكن أربعاً، ثبت نكاحُهن قطعاً، ولا حاجة إلى الاختيار؛ فإمساك العدد المتبوع واجب؛ وقول الرسول صلى الله عليه وسلم "أمسك أربعاً" محمول على الإلزام، وطريق المعنى فيه متضح؛ فإن الشرع إذا سوّغ الإمساك، فمعناه أنه أبان دوام النكاح، فإذا كان نكح أربعاً، وأسلمن معه؛ فهن منكوحات.
وإن كان نكح عشراً، فأسلم وأسلمن، فيتعين عليه اختيار أربع منهن، وهذا واجب، والبدار إليه محتوم؛ فإن النسوة يبقين محصورات، والمنكوحات منهن بعضهن. وسيأتي هذا الفصل، إن شاء الله تعالى بما فيه.
ولو كان نكح عشراً، فأسلم منهن أربع، وتخلفت الباقيات، لم (2) تتعين المسلمات للنكاح؛ فإنا نجوّز أن تسلم البواقي، ولا يلزم الزوج -والحالة هذه- أن يبتدر إلى تعيين المسلمات؛ فإنه ربما يبغي تعيين (3) من ستسلم من المتخلفات؛ فلو أسلمت أربع، فتوقف الزوج -كما بيناه- ثم أصرت البواقي حتى انقضت عِددهن، فالآن نتبين أن المسلمات قد تعيّنّ، ولا حاجة إلى الاختيار فيهن.
وكذلك لو أسلمت أربع، وتخلّفت البواقي، ثم مُتن على الشرك في العدة؛ تعيّنت المسلمات.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 289.
(2) في النسختين: ولم تتعين.
(3) ت 3: تعليم.

(12/318)


ولو أسلمت أربع وتخلفت البواقي، فقال: رددت نكاح المسلمات، وسأختار من المتخلفات إذا أسلمن؛ فنقول: لا ينفذ ردك؛ فإن المتخلفات ربما لا يسلمن؛ فلا نحكم بتنجيز الرد.
ولو أسلمت خمس، فله أن يرد نكاح واحدة منهن بعينها؛ إذ ليس في رد نكاحها ما يخرم العدد المعتبر؛ فإنه إذا رد (1) الخامسة، بقيت من المسلمات أربع، وفيهن مقنع.
ولو أسلمت أربع، فقال: فسخت نكاحهن؛ فقد ذكرنا أنا لا ننفذ الفسخ؛ فإنه ربما لا يسلم غيرهن، فإن أصررن، فالأمر على ما ذكرنا، والمسلمات متعيّنات، والفسخ فيهن لغو. وإن أسلمت الباقيات -وهن أربع فصاعداً- فهل نقول الآن: الفسخ المتقدم في السابقات بالإسلام نتبين نفوذه الآن، ويلزمه أن يختار من البواقي اللاتي أسلمن أربعاً؟ فعلى وجهين؛ ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا نتبين نفوذه.
والثاني - أن المقدم مُلغى، فإن أراد فسخاً، فلينشئه الآن. وهذا خارج على أصل الوقف، وفي وقف الفسخ من التردد ما في وقف العقد؛ فإن الفسخ لا يقبل التعليق بالصفة، كما أن العقد لا يقبله، وهو تلْو (2) العقد، [فكان] (3) في معناه. وسيأتي لذلك نظائر في مسائل الباب، إن شاء الله عز وجل.
ولو أسلم من النسوة واحدة، لم يفسخ نكاحها، كما لم يفسخ نكاح الأربع.
ولو أسلمت أربع، ثم مُتن، ثم أسلمت البواقي، وقال: اخترت نكاح الميتات؛ فله ذلك؛ فإن الاختيار بيان، والمختار أن يبين أنهن لم يزلن منكوحات من وقت العقد، فيرثهن.
ولو أسلمن ومُتن ولم تسلم المتخلفات، ورث (4) الميتات من غير حاجة إلى
__________
(1) ت 3: فإنه أراد الخامسة.
(2) تِلْو العقد: أي تابع للعقد.
(3) في النسختين هكذا "كامى" (بدون نقط وغير واضح الحرف الذي بعد الألف) والمثبت من (صفوة المذهب).
(4) في النسختين: ورثت.

(12/319)


الاختيار؛ فإنهن تعيّنّ من غير اختيار منه للزوجية.
8126 - ولو فُرضت أحكام الاختيار في الإماء وصوّبنا اجتماع شرائط نكاح الإماء؛ فالتفريع على حسب ما ذكرناه. غير أن المختارة من الإماء واحدة، فالقول في أمة واحدة تُسلم، كالقول في أربع من الحرائر يُسلمن؛ إذ لا مزيد للحر على أمة واحدة، إذا (1) استجمع شرائط نكاح الإماء.
فرع:
8127 - إذا نكح الرجل في الشرك جمعاً من الإماء، ثم أسلم، وأسلمت واحدة، وكان في حالة الاجتماع معها في الإسلام من أهل نكاح الإماء، فأسلمت ثانية وهو موسر عند إسلامها، وأسلمت الثالثة وهو معسر خائف (2)، وأسلمت الرابعة وهو موسر، قال أئمة المذهب: يعتبر حكمه مع كل أمة على الاستقلال؛ فإن حكم كل واحدة لا يتعلق بحكم غيرها، فإذاً يتخير [بين] (3) الأولى والثالثة، ويندفع نكاح الثانية والرابعة؛ فإنه (4) كان موسراً عند إسلام الثانية والرابعة.
ورأيت في بعض التعاليق المعتمدة عن شيخي، أنه إذا حل له نكاح أمة، فأمة أخرى في معناها؛ والخِيَرة إليه فيهن، وكأنّ تجويز نكاح أمة يفتح عليه في جنس الإماء؛ إذ لا فرق بين أمة وأمة. وهذا وإن أمكن توجيهه، فليس معتداً به.
والمذهب ما قدمناه.
فرع:
8128 - إذا نكح حرائر في الشرك، فأسلمت واحدة منهن، أو أربع، ومُتن، ثم أسلم الزوج بعدهن، وأسلمت البواقي، فأراد الزوج أن يختار الميتات، لم يكن له ذلك؛ فإن التي أسلمت وماتت قبل إسلام الزوج، قد فاتت، ولم تكن في حياتها في محل إمكان التعيين للزوجية.
واللفظ الوجيز فيه: إنها لما ماتت، انتهت عدتها؛ فوقع إسلام الزوج وراء عدتها، والأسلام وراء العدة لا يفيد النكاح، والضابط في ذلك أن الزوج في تخلفه لو
__________
(1) في الأصل: فإذا، ت 3: وإذا وكلاهما خطأ.
(2) خائف: أي من العنت.
(3) في النسختين: يتخيرهن.
(4) ت 3: فإن.

(12/320)


اختار المسلمة، كان اختياره باطلاً، كما سيأتي الشرح في أمثال ذلك، إن شاء الله عز وجل.
وإذا كان الأمر كذلك، فإذا ماتت قبل إسلام الزوج، فقد فات أمرها، ولم يصادف إسلامُها حالة يتصور فيها [إمساك] (1) الزوج إياها على حكم النكاح، ووقع إسلام الزوج وراء انتهاء عدتها بموتها، وإذا كانت لا تفرض منكوحة في حياتها، فاختيارها بعد موتها لا يُلحقها بالزوجات، حتى يتصور به التوريث منها بالزوجية.
ووضوح ذلك يغني عن بسطه.
فصل
قال: "ولو أسلم وأسلمت الإماء معه، وعتقن، وتخلفت حرة؛ وُقف نكاح الإماء ... إلى آخره" (2).
8129 - هذا الفصل متصوَّر (3) في حرّ نكح في الشرك حرّة وإماءً، ثم نفرض إسلامهن وإسلامه، وطريان العتق عليهن.
والقول الضابط في الأصل تخريجه على الأصل الذي تقدم تمهيده، وهو: الرجوع إلى حالة الاجتماع في الإسلام. فإن كن عتيقات حالة الاجتماع، فقد التحقن بالحرائر في جميع الأحكام. وإن كن حالة الاجتماع في الإسلام رقيقات، فهن ملحقاتٌ بالإماء من كل وجه. وإن عتقن من بعدُ، فلا عبرة بعتقهن.
ثم نعتبر حالة الاجتماع في الإسلام في اليسار ونقيضه، والخوف من العنت والأمن منه. هذا هو الضبط، وفيه كفاية. ولكنا نصوّر صوراً، ونفرض المسائل.
8130 - فلو لم يكن فيهن حرة أصلية وكان معسراً، فأسلم، وأسلمن، ثم عتقن، فإن كان حالة الاجتماع من أهل نكاح الإماء، اختار واحدة منهن، كما لو بقين
__________
(1) في النسختين: امتثال.
(2) ر. المختصر: 3/ 289.
(3) ت 3: مصوّر.

(12/321)


رقيقات، ولا أثر لما طرأ عليهن من العتق. وإن لم يكن حالة الاجتماع في الإسلام من أهل نكاح الإماء، لم يكن له أن يختار واحدة منهن، وإن كن حرائر حالة تقدير الإقدام على اختيارهن.
ولو أسلم الزوج وعتَقَن في الشرك، ثم أسلمن، أو سبقن إلى الإسلام، وعتقن، ثم أسلم الزوج، أو عتقن في الشرك، ثم أسلم وأسلمن معاً، فقد كن في الصور التي ذكرناها حرائر في أول الاجتماع في الإسلام؛ فسبيلهن سبيل الحرائر الأصليات، فيتعين على الزوج نكاح أربع منهن إن بلغن هذا العدد.
ولو أسلم وأسلمت واحدة، ثم عتقت بعد الإسلام، فلا أثر لعتقها. فلو أسلمت البواقي على الرق يخيّر الزوج بين التي عتقت قبلُ وبين البواقي اللواتي أسلمن على الرق؛ وذلك لأن (1) الأُولى عَتَقَت بعد الاجتماع في الإسلام؛ فلم يكن لحصول الحرية بعد الاجتماع في الإسلام اعتبار أصلاً؛ طرداً للأصل الذي قدمناه.
ولو أسلم الزوج وعتَقَت واحدة في الشرك، ثم أسلمت، فقد حصل الاجتماع في الإسلام وهي حرة، فلو أسلمت الإماء بعد ذلك على الرق، اندفع نكاحهن بالتي سبقت إلى الإسلام وكانت عتقت في الشرك. وتعينت تلك للنكاح.
8131 - ومما يجب التأنق فيه: أن الأُولى إذا عتقت في الشرك وقد أسلم الزوج، ثم أسلمت، فقد ذكرنا أنها ملتحقة بالحرائر الأصليات، ولا نطلق القول بأن نكاح الإماء المتخلفات يندفع في الحال؛ فإنا نجوّز أن يعتقن في الشرك، ويُسلمن في العدة حرائر. ولو اتفق ذلك على هذا الترتيب، لكان يتخير فيهن، حتى إن زدن على أربع، اختار منهن أربعاً.
وما أطلقناه في الفصول المتقدمة من أن من نكح في الشرك حرة وإماء، وأسلم، وأسلمت الحرة الأصلية، وتخلفت الإماء، فقد اندفع نكاحهن بالحرة، وتعينت الحرة، فذاك مفروض فيه إذا بقين رقيقات، وأسلمن كذلك على الرق، فلو عتقن - وقد سبقت الحرة بالإسلام، ثم أسلمن بعد العتق، فهن كالحرائر الأصليات؛ فللزوج
__________
(1) ت 3: بأن.

(12/322)


أن يختار منهن أربعاً، ويندفع إذ ذاك نكاح الحرة السابقة بالإسلام. وإن اختار الأولى مع ثلاث من العتيقات، واستكمل العدد بهن؛ جاز. ولا تكاد تخفى هذه الصورة على من أحاط بالقواعد التي مهدناها.
8132 - ولو كنّ إماء لا حرة فيهن، فعتقت واحدة منهن، وأسلمت، ثم أسلم الزوج مع بقاء الأخريات رقيقات، (1 ثم أسلمن على الرق 1)، تعيّنت الأولى للإمساك.
وإذا فرضنا معهن حرة أصلية، انتظم الترتيب على ما تقدم. فلو أسلم وأسلمت الإماء، وتخلفت الحرة، فلا يختار واحدة من الإماء، ما دامت الحرة متخلفة، ومدة العدة باقية. فلو أسلمت قبل انقضاء عدتها من يوم إسلام الزوج، تعيّنت، وانفسخ نكاحهن. ولو ماتت في الشرك أو أصرت على شركها، حتى انقضت عدتها، اختار واحدة من الإماء.
8133 - ولو اختار واحدة منهن قبل وقوع اليأس عن الحرة، ثم ماتت الحرة، أو أصرت على كفرها حتى انقضت عدتها، فما حكم ذلك الاختيار الذي جرى في حال تخلف الحرة؟
نقل المزني في جواب المسألة ما نذكره، قال: "يثبت". يعني التي اختارها؛ فإنا تبيّنّا آخراً أن نكاح الحرة المتخلفة كان زائلاً في وقت اختياره الأمة. فاختلف أصحابنا: فمنهم من غلّط المزني، وقال: إنه أجاب في المسألة على أصله؛ فإنه يجوّز وقف العقود. وقد قال من بعدُ: إذا أسلم الزوج وتخلّفت امرأته، فنكح الزوج بعد الإسلام أختها، قال: فالنكاح بعدُ موقوف على ما يتبين من حال المتخلفة، فإن أسلمت، بان أن النكاح لم ينعقد على أختها، وإن بقيت على التخلف؛ بان أنه انعقد العقد على أختها. ومذهب الشافعي أن النكاح الذي أورده على الأخت باطل، وإن تخلفت المشركة إلى انقضاء العدة وماتت في الشرك، كذلك مذهب الشافعي أن الاختيار السابق في الأمة في حال تخلف الحرة باطل؛ لأنه على التردد والوقف،
__________
(1) ساقط من (ت 3).

(12/323)


والاختيار لا يقبله، كما (1) لا يقبله العقد على الأخت، فلا بد إذاً بعد تبيّن الأمر واندفاع الحرة بالإصرار والموت على الشرك - من اختيارٍ جديد.
وليس هذا معنى عندنا؛ فإن اختلاف قول الشافعي في وقف النكاح وغيره من العقود -في مثل هذه الصورة التي ذكرناها- معروف. وقد ذكرنا صور الوقف في كتابِ البيع. ونحن نعيد منه مقدار الحاجة.
فمن عقد عقداً من نكاح أو بيع بناه على تقديرٍ، وظاهرُ الأمر بخلافه، مثل أن يبيع مال أبيه، أو يزوج إماءه، فالظاهر أنّه متصرف في ملك غيره، فلو تبين أن أباه كان ميتاً في تلك الحالة، وأنه ورّثه ما تصرف فيه، ففي نفوذ العقود قولان، لم ينكرهما أئمة المذهب في الطرق.
والصورة الأخرى في الطرق: أن يبيع الإنسان مال غيره بغير إذنه، أو يزوّج جاريته كذلك من غير إذنه؛ فالذي قطع به العراقيون أن البيع والنكاح فاسدان، لا ينعقدان موقوفَين على إجازة المالك. وهذا موضع خلاف أبي حنيفة. وحكى المراوزة قولاً في وقف العقد على الإذن، مثل مذهب أبي حنيفة. وهذا القول على الحقيقة ليس يلائمه مذهبُ الشافعي وقياسُه.
فإذا بان ذلك، فالاختيار ونكاح الأخت في الصورتين المتقدمتين يناظران التصرف الذي (2) يجري في عقده على الوقف قولان باتفاق الطرق.
8134 - والذي يتطرق إليه من السؤال أن نصوص الشافعي في الجديد تميل إلى منع الوقف. وما ينقله المزني -إذا أطلقه- محمول على النصوص الجديدة، فإن أراد نقل شيء عن القديم صرّح به، ولا ينبغي أن يُغلَّط بتركه نسبةَ قول إلى القديم، فقد اتفق له مثل ذلك كثيراً في السواد، من غير تعرض لذكر القديم.
وقد ذكر بعض الأصحاب طريقةً حسنة فيما أشرنا إليه من ترتيب القديم والجديد،
__________
(1) عبارة ت 3: كما لا يقبل القول كما لا يقبله العقد على الأخت.
(2) في الأصل: "الذي يجري وفي عقده" (بزيادة الواو).

(12/324)


فقال: [مسلك] (1) الاختيار في صورة الوقف يخرّج على أصلٍ تقدم، وهو أن الاختيارَ غير (2) مشبه بابتداء العقد، وهو على حكم الإمساك؛ فيحتَمِل أن نُجري فيه قولين في الجديد، فمعوّل (3) المزني على أحدهما؛ فإن الاختيار -وإن لم يكن قابلاً للتعليق بالأغرار والأخطار- فإذا نُجِّزت [صيغته] (4) لا يمتنع أن يُحَط عن مرتبة العقود، ويقضى بقبوله للوقف. وإن نزّلنا الاختيار منزلة ابتداء النكاح، فيبعد حينئذ على قياس الجديد تصحيحه على حكم الوقف، ويجوز أن يكون كمسألة نكاح الأخت من الذي أسلم وزوجته متخلفة.
فإن قيل: ألستم زيّفتم ترديد القول في أن الاختيار هل ينزّل منزلة ابتداء العقد؟ قلنا: لسنا ننكر كلام الأصحاب. والذي نجريه مباحثاتٌ عن المعاني مع الوفاء بالنقل، ثم حملنا ما قاله الأصحاب على مسائل الإماء، ونحن الآن فيها نضطرب (5)، فليس يبعد ترديد الرأي فيه على هذا النسق.
وقد أكثر الأصحاب في الكلام على ما نقله المزني، وأتَوْا فيه بما لا يُحتاج إليه.
والمقدار الذي ذكرناه أوقع وأدل على الغرض من جميع ما أتَوْا به.
فصل
قال: "ولو كان عبدٌ عنده إماء، وحرائر مسلمات وكتابيات ووثنيات ... إلى آخره" (6).
8135 - إذا نكح العبد في الشرك إماءً، وحرائر: وثنيات وكتابيات، ثم أسلم
__________
(1) في الأصل: "مسألة".
(2) ت 3: أن الاختيار مشيه.
(3) ت 3: فقول.
(4) في الأصل: صيغة. والمثبت من (ت 3).
(5) نضطرب: معناها هنا: أي نتكلم، ونتخاوض، ونتفاوض.
(6) ر. المختصر: 3/ 289. وليس في نص المختصر "وثنيات" ثم إنه عبّر بلفظ "أو".

(12/325)


وأسلمت الإماء (1)، والوثنيات (2) ولم يخترن فراقه، فله أن يمسك اثنتين: إن شاء أمتين، وإن شاء حرتين مسلمتين، وإن شاء كتابيتين، وإن شاء حرة وأمة، وإن شاء كتابية وأمة؛ لأن الكتابية بمنزلة المسلمة في النكاح، والأمة بمنزلة الحرة في حق العبد.
ثم إن الشافعي شرط (3) في إمساكه اثنتين منهن ألا يخترن فراقه، وعطف ذلك على الإماء والحرائر؛ فاقتضى ظاهر الكلام أن الحرة إذا أسلمت وزوجها العبد؛ فلها الخيار، كما يثبت الخيار للأمة إذا أعتقت تحت زوجها القنّ.
وقد اختلف الأصحاب في تنزيل المسألة: فمنهم من قال: ذكر الشافعي الإماء (4) يَعْتِقن والحرائر، وذكر الخيار؛ فرجع جوابه فيه إلى الإماء. وهذا قد يسوغ في نظم الكلام.
والذي أراه أن هذا الفن لا مساغ له؛ وإنما يعتاد الفقهاءُ إطلاقَه، وهو غير سائغ في نظم الكلام. ولفظ الشافعي: "ولو كان عبد عنده إماءٌ، وحرائر مسلمات [ووثنيات] وكتابيات، [ثُم أسلم وأسلمن] ولم يخترن فراقه، أمسك اثنتين" (5).
وقطعُ الاختيار عن اللواتي ذكرن آخراً - وهن الكتابيات، وردُّه إلى الإماء المذكورات في صدر الكلام غيرُ منتظم، ولا يمكن حمل الكتابيات على الإماء؛ فإن العبد المسلم لا يحل له نكاح الأمة الكتابية على النص.
ثم الكلام مع ذلك لا يتسق؛ فإنه أفرد الإماء بالذكر أولاً، ثم أخذ في ذكر الحرائر وقسمهن مسلمات ووثنيات (6) وكتابيات. فهذا ما يتعلق بظاهر (السواد) (7).
__________
(1) وأسلمت الإماء: أي سواء كن وثنيات أو كتابيات.
(2) والوثنيات: أي الحرائر، فأصبحت الصورة عبد أسلم وعنده إماء أسلمن، وحرائر أسلمن، وحرائر كتابيات.
(3) (ت 3): شرك.
(4) أقحمت (أن) قبل لفظ الإماء في نسخة الأصل. ولا حاجة لها.
(5) هذا لفظ الشافعي في المختصر وما بين المعقفين في موضع الشرح والبسط من المؤلف. (ر. المختصر: 3/ 289، 290)
(6) سقطت من (ت 3).
(7) السواد: المراد به مختصر المزني، والمعنى بظاهر نص السواد.

(12/326)


والمذهب أن الإماء إذا أعتقن، فلا شك أنه يثبت لهن الخيار تحت العبد.
فأما إذا أسلم العبد وتحته حرائر، فأسلمن أو كن كتابيات، فقد ظهر اختلاف أصحابنا: فذهب بعضهم إلى أنه لا خيار للحرة. وهذا هو المذهب والقياس؛ لأنها رضيت برقّه لدى العقد، فلا خيار لها من بعدُ. ومن أصحابنا من قال: لها الخيار إذا اتصل نكاح الشرك بالإسلام، وذلك لأن للرق نقائص يظهرها الإسلام، فتصير الحرة عند اتصال عقد الشرك بالإسلام بمثابة الأمة تعتق تحت زوجها العبد.
وهذا تمويه لا حاصل له. والوجه في قياس المذهب نفيُ خيار الحرة، ويبقى مع ذلك إشكال لفظ المختصر.
فصل
قال: "ولو عتقن قبل إسلامه، فاخترن فراقه، كان لهن ذلك ... إلى آخره" (1).
8136 - صورة المسألة: عبد نكح في الشرك أمة، ثم أسلم، وعتقت الأمة، ثم أسلمت، فالمسألة لها أطراف، ولا بد فيها من تقسيمٍ ضابط.
فنقول: لا يخلو - إما أن تسلم هي وتعتق والزوج متخلف، أو يسلم الزوج وعتقت هي وهي متخلفة.
فإن سبقت إلى الإسلام، وجرى العتق، والزوج متخلف؛ فلا يخلو وقد سبقت بالإسلام (2) وجرى العتق؛ إما أن يتقدم عتقها على إسلامها، أو إسلامها على عتقها.
فإن أسلمت أولاً، ثم عتَقَت والزوج متخلف، فلها ثلاثة أحوال: إما أن تختار المقام، وإما أن تختار الفسخ، وإما أن تتوقف. فإن اختارت المقام، بطل اختيارها ولغا؛ من جهة أن إقامتها تحت كافر غيرُ سائغ؛ وأيضاًً فإنها جارية إلى البينونة لو فرض إصرار الزوج، فإنا نتبين أن النكاح ارتفع باختلاف الدين، والاختيارُ
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 290.
(2) ت 3: إلى الإسلام.

(12/327)


[تعيين] (1) خصلة من غير تردد، وأثر بطلان اختيارها الإقامةَ ظاهرٌ (2)؛ فإنها لو اختارت الإقامة، ثم اختارت بعدها الفسخ، كان لها ذلك.
فأما إن اختارت الفسخ، فإنه ينفذ فسخها، ونحكم بارتفاع النكاح في الحال، وجريانُها إلى البينونة، غير مناف للقطع بارتفاع النكاح في الحال؛ فإن ما تجرى إليه من البينونة يلائم قصدَها في الفسخ، وليس كما لو اختارت الإقامة؛ فإن الإقامة تنافي الجريان إلى البينونة، ثم إنها تستفيد بتنجيز الفسخ قطعَ تطويلٍ موهوم، لأن الزوج ربما يسلم في آخر جزء من العدة، فتحتاج إلى أن تختار الفسخ عند إسلامه إذا كانت تبغي الفسخ، ثم تستقبل العدة من وقت الفسخ؛ فيطول عليها أمد التربص، وإذا نجّزت الفسخَ في أوائل العتق مثلاً، استقبلت العدة. فإن لم يسلم الزوج، تبيّنّا انفساخ النكاح عند انقضاء العدة، وهي محتسبة من وقت اختلاف الدين. وإن أسلم الزوج في العدة، تبيّنّا نفوذ فسخها وشروعها في العدة على أثر الفسخ. وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
وفيه دقيقة يجب التنبه لها، وهي: أن الفسخ الذي تُنشئه متردد في ظاهر الأمر بين أن ينفذ وبين أن لا ينفذ؛ من جهة أن الزوج لو أصر حتى انقضت العدة، تبيّنّا أن الفسخ لم ينفذ، وأنها بانت من وقت إسلامها وتخلفِ الزوج عنها، ولكن هذا النوع من التردد لم يُثر خلافاً بين الأصحاب مأخوذاً من الوقف. والسببُ فيه أن الوجه الذي يقدّر فيه عدم نفوذ الفسخ تنفذ البينونة بدلاً عن الفسخ، وقد يجري مثل هذا في الوقف في العقود.
ولو أرادت أن تتوقف، فلا تفسخ ولا [تختار] (3)، فلها ذلك. وإن كان القول الأصح أن خيار المعتقة تحت زوجها العبد على الفور، والسببُ فيه أنها ترتقب الجريان إلى البينونة تبيّناً، وإذا كان كذلك، فليس في تأخيرها الفسخ ما يشعر بالرضا بالإقامة، وكيف يقدر ذلك، ولو صرحت بالرضا بالإقامة، لم يكن لرضاها حكم،
__________
(1) في الأصل: تعين.
(2) ساقطة من (ت 3).
(3) في النسختين: تختر.

(12/328)


وإذا كان لا يصح اختيار الإقامة، فلا وجه إلا القطع ببقاء حقها في الفسخ.
8137 - وقد قال الأصحاب: العبد إذا طلق زوجته الأمة طلقة رجعية، فَعَتَقت في خلال العدة، فلها أن تختار الفسخ؛ فإنها زوجته، ولها أن تؤخر الاختيار إلى أن تتبين الزوج هل يراجعها أم لا؟ من جهة أنها جارية إلى تقدير البينونة لو فُرض من الزوج تركُها، حتى تتسرح بانقضاء العدة، فهي غير منسوبة إلى إرادة الإقامة مع توقعها البينونة.
ولو اختارت الإقامة؛ فقد اختلف أئمتنا: فمنهم من قال: يلغو اختيارها. وهذا اختيار قاضينا الحسين. وهي [مشبهة] (1) بالمسألة المقدمة في اختيار المسلمة إذا أعتقت الأمة والزوج عبد متخلف.
والفقه أن الرجعية محرمة، فلا يكون اختيارها للإقامة اختيار حِلٍّ ناجز، ولا يرتفع باختيارها أيضاً توقعُ البينونة.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن اختيارها للإقامة يصح، ويفيد ردَّ الأمر إلى رأي الزوج، حتى إن راجعها، انقلبت إلى صلب النكاح. وهذا القائل يفصل بين الرجعية وبين العتيقة المسلمة وزوجها عبد كافر، فيقول: رضا الرجعية بالإقامة محمول على إثباتها للزوج سلطانَ الرجعة إن أرادها، ولا امتناع في ثبوت رجعة على رجعية، وأما الإقامة تحت كافر من مسلمة، فلا مساغ لها.
فإن قيل: لو نفذنا رضاها، لكان يفيد تفويض الأمر إلى الزوج، فإن أسلم، استقر النكاح، وإن أصر، تثبت البينونة. قلنا: ليس الإسلام أمراً يناط بالاختيار، وليس هو من التصرفات في النكاح، فالرجعية تُثبت للزوج سلطاناً في النكاح إذا رضيت بالإقامة، والمسلمة لو نفذ رضاها تقديراً، لم يُفد نفوذُه للزوج تصرفاً في النكاح.
8138 - فإذا تبيّن أن للمرأة المسلمة تحت العبد الكافر أن تؤخّر الاختيار إلى أن تتبين حال الزوج، فإن أخرت، فلا يخلو الزوج: إما أن يسلم في العدة، أو يبقى
__________
(1) في الأصل: مستملة.

(12/329)


على التخلف حتى انقضت العدة، فإن أسلم، فلها أن تختار الفسخ، فإن فسخت، نفذ فسخها، وصادف محرماً، واستقبلت عدةَ حرةٍ من وقت فسخها؛ فإن الفراق بالفسخ يقع، وقد زال ما كنّا نتوقع من البينونة باختلاف الدين، ولما أنشأت الفسخ كانت حرة، فاستقبلت عدة الحرائر.
8139 - والرجعية لو عتقت في خلال العدة، فراجعها زوجها، فاختارت الفسخ بعد المراجعة، فإنها تستقبل عدة حرة أو تبني على العدة التي كانت فيها؟ وكيف السبيل في ذلك؟
ولو أنشأت الفسخ في العدة من غير فرض رجعة، فللشافعي قولٌ: إنها تبني على عدة الإماء، ولا تستأنف عدةً أخرى، فالقول في ذلك يترتب.
فإذا طلّق الرجل زوجته طلقة رجعية وجرت في العدة، ثم أتبع الطلاق طلاقاً رجعياً؛ فالأصح أنها تتمادى على العدة الأولى، ولا تستفتح عدةً جديدة. وللشافعي قول: إنها تستفتح عدة جديدة، وسيأتي التوجيه في كتاب العدّة.
ولو طلق الرجعية [بائناً] (1) وحرَّمها، فخروج قول استئناف العدة في هذه الصورة أوجَه؛ لأن البينونة قطعت عصام الرجعة؛ فكان ورودها على الرجعية في قطع الرجعة بمثابة ورود الطلاق الأول على الزوجة في قطع الحِلّ. وإذا عتَقَت الرجعية، وفسخت النكاح، فاستفتاح العدة في هذه الصورة أوجَه؛ من جهة أن الفسخ ضربٌ آخر من البينونة، وهو مخالف لجنس الطلاق وحكمِه.
وبالجملة: ليست الرجعية في مراتبها بمثابة المسلمة إذا أسلم زوجها المتخلف؛ فإنا نتبين أنها ما كانت في العدة، وأن الذي كنا نقدره عدة لم يكن [عدة؛ فهذه حرة ورد فسخها على صلب النكاح، ولم تقدِّم على فسخها] (2) عدة.
ولو طلّق الرجل زوجته طلقة رجعية، ثم راجعها، وطلقها طلقة أخرى، فتستفتح عدةً، أم تبني على بقية العدة التي كانت؟ فيها اختلاف قول سيأتي مشروحاً -إن
__________
(1) في النسختين: ولو طلق الرجعية الثانية. وهذا المثبت من هامش (ت 2).
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 3).

(12/330)


شاء الله تعالى- في كتاب العدة. فإن قلنا: إنها تفتتح عدةَ حرة على أثر الطلاق الثاني، فإذا عتَقَت الرجعية تحت زوجها العبد، فارتجعها الزوج وفسخت، فلا شك أنها تستفتح عدة. وإن قلنا: الرجعية إذا طُلّقت، اكتفت ببقية العدة - فإذا فسخت، فهل تكتفي ببقبة العدة أم تستأنف؟ فيها اختلاف؛ من جهة أن الفسخ أولى [باستئناف] (1) العدة من الطلاق، لما نبهنا عليه في ذكر المراتب.
هذا إذا أسلم الزوج ففسخت.
8140 - وإن أسلم الزوج في مدة العدة فأقامت، لا يخفى حكمه.
8141 - وإن بقي الزوج على التخلف حتى انقضت العدة، تحسب من وقت إسلامها، ثم طرأ العتق، فتتم عدة الحرائر لطريان الحرية، أم تكتفي بعدّة الإماء ويقال لا أثر لطريان العتق؟
نقدم على هذا أصلاً على إيجاز، ونحيل استقصاءه على كتابه، فنقول: الأمة الرجعية إذا عتَقَت في أثناء العدة، فالمنصوص عليه في الجديد: إنها تكمل عدة الحرائر، وفي القديم قولان. ولو كانت الأمة في عدة البينونة، فعتَقَت، فالمنصوص عليه في القديم: إنها تعتد عدة الإماء، وفي الجديد قولان.
فإذا ظهر ذلك، فقد اختلف أصحابنا في أن الأمة إذا أسلمت، فتخلّف زوجها، فعتَقت، فكيف الترتيب فيها؟ فمن أصحابنا من قال: هي كالرجعية؛ من جهة أن الزوج مهما (2) أسلم، ثبت النكاح، وذلك إلى إيثاره واختياره، كما أن [الرجعة] (3) إلى اختيار الزوج.
ومن أصحابنا من قال: ترتيب المذهب في طريان العتق على عدة اختلاف الدين، كترتيب المذهب في طريان العتق على عدة البينونة؛ من جهة أن عدة الرجعة إذا انقضت، لم تنعكس عليها البينونة تبيّناً، وإنما تتبين مع انقضاء العدة، وإذا انقضى
__________
(1) في النسختين: "بإسعاف" والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.
(2) "مهما" هنا بمعنى: (إذا).
(3) في النسختين: الرجعية.

(12/331)


أمد عدة اختلاف الدين، تبيّنا أن البينونة حصلت في ابتداء العدة، ووقعت العدة بعد البينونة، فيجب إلحاقها في ترتيب المذهب بالبائنات.
ومما نجريه في أقسام الكلام: أن الأمة إذا أعتقت وزوجها متخلف رقيق، فلو اختارت الفسخ، فلا يخلو: إما أن يسلم، أو يبقى على التخلف، فإن أسلم، بان أن الفراق وقع من يوم اختيارها الفسخ، وعليها عدة حرة؛ لأنها وجبت وهي حرة، وبان أن ما كنا نقدره عدة اختلاف الدين لم تكن عدة؛ فتستقبل عدةً كاملة.
وإن بقي الزوج على التخلف، فالعدة من يوم الإسلام، والبينونة وقعت بالإسلام، والفسخ مردود؛ فإنه مسبوق بالبينونة المترتبة على اختلاف الدين، فهذه وإن فسخت، فكأنها لم تفسخ، فليس عليها استئناف عدة (1)، بخلاف الرجعية إذا عتقت في خلال العدة، واختارت الفسخ؛ فإن فسخ الرجعية ينفذ على كل حال من غير توقف، وفسخ هذه التي عتقت بعد اختلاف الدين موقوف؛ فإذاً [لا استئنافَ] (2)، وعدتها عدة الإماء أو عدة الحرائر؟ فعلى الخلاف الذي قدمناه.
وهذا كله إذا تخلف الزوج، فأسلمت هي وعتقت.
وقد بانت الأقسام، وثبتت الأصول، فإن أغفلنا شيئاً، [فما] (3) ذكرناه مُرشد (4) إليه ودال عليه.
8142 - فأما إذا أسلم الزوج وتخلفت الأمة، وعتقت، فلا تختار الإقامة؛ فإن الإقامة غير ممكنة مع [كفرها] (5)، ولو أخّرت الفسخ، فلا شك أن لها ذلك، فلو أسلمت في العدة واختارت الفسخ، نفذ فسخها، وتعتد عدة الحرة من يوم الفسخ.
__________
(1) ت 3: استئناف هذه.
(2) في النسختين: فإذاً الاستئناف.
(3) في النسختين: مما.
(4) في الأصل: مرشداً، ت 3. من مرشد.
(5) في الأصل: مع اختيارها.

(12/332)


وإن لم تسلم، وبانت باختلاف الدين، فحكم العدة على ما ذكرنا، غير أن الظاهر هاهنا إلحاقها بترتيب [البائنة] (1) إذا أعتقت؛ لأن الزوج ليس إليه شيء إذا كانت هي المتخلفة.
ولو فسخت في الكفر أو اختارت المقام، فظاهر نص الشافعي أنه لا يصح منها واحد منهما. فمن أصحابنا من قال بذلك، وعلّل بأن قال: أما [اختيار] (2) المقام، فلا يلائم حالها؛ فإنها جارية في البينونة، وهي أمة كافرة لا تقر تحت مسلم.
وأما اختيار الفسخ، فلا ينفذ أيضاًً، لأن فسخ النكاح بحكم العتق من قضايا الإسلام، وليس لها أن تعمل بأحكام الإسلام وتستوجب حقوقها بموجب دين لا تعتقده؛ ولأن الإسلام بيدها، فلتسلم، ثم لها أن تختار الفسخ، وليس كما لو أسلمت وعتقت وتخلف الزوج؛ فإن لها الفسخ لما تقدم تقريره؛ فإنها التزمت الإسلام، وعملت بموجبه، وإسلام الزوج ليس بيدها.
وقال صاحب التقريب: لها أن تختار الفسخَ والمقام جميعاً. هكذا حكاه بعض الأئمة عنه، ولم أره في طريقته (3). وهو على نهاية السقوط في اختيار الإقامة؛ فإنا إذا لم نصحح من [المسلمة] (4) اختيار الإقامة، فيجب ألا نصحح من الكافرة أيضاًً اختيار الإقامة.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن لها أن تختار الفراق دون المقام، وهذا هو الذي لا يجوز غيره، قياساً على [المسلمة] (4)، وما ذكره الأولون من أنها لا تفسخ بحكم الإسلام مردودٌ (5)؛ فإنا نحكم للكفار وعليهم بحكم الاسلام.
__________
(1) في النسختين: الثانية.
(2) في الأصل: اختار. وت 3: ما اختار المقام.
(3) في النسختين: طريقه.
(4) في النسختين: المسألة.
(5) ت 3: بحكم الإسلام هو فإنا نحكم.

(12/333)


فصل
قال: "ولو اجتمع إسلامه وإسلامهن، وهن إماء، ثم عتقن، واخترن فراقه، لم يكن ذلك لهن، إذا أتى عليهن أقل أوقات الدنيا ... إلى آخره" (1).
8143 - هذه المسألة ليست من مسألة نكاح المشركات، ولكن صوّر الشافعي إسلام العبد والإماء معاً، ثم قدر نكاح من يثبت نكاحه منهن، ثم صوّر عتقاً تحت عبد، وفرّع على أن خيار المعتقة على الفور، ثم عبّر عن الفور بعبارة فيها مبالغة؛ حيث قال: إذا مر عليها أقل أوقات الدنيا، فلم تفسخ، بطل نكاحها.
واعترض المزني على هذا، وضرب الأمثلة.
والقول القاطع فيه أن المعنيَّ بالفور في خيارها -إذا فرّعنا على الفور- كالمعنيّ بالفور إذا ردّ بالعيب. وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع؛ فلست للإطناب في مثل هذا.
فصل
قال: "ولو اجتمع إسلامه وإسلامهن، ثم عتقن، [اختار] (2) حُرتين في العدة ... إلى آخره" (3).
8144 - قد اشتمل الباب على فصولٍ، فوقع الاعتناء في أوائلها بالحر يسلم على حرائر، ثم تلاه التفصيل في الحر يسلم على إماء يبقَيْن على الرق، ثم اتصل بحكمهن التفصيلُ في الإماء يعتِقن وزوجهن حر، وجرى بعد ذلك القول في العبيد يسلمون على إماء، واتصل به عتقهن تحت العبيد، وما يثبت لهن من الخيار، وبيان اختيارهن للفسخ والإجازة، والتفَّ بذلك أحكام العدة، واتصل القول في صنفين: أحدهما - استفتاح العدة. والثاني - في إكمال عدة الحرائر أو البناء على عدة الإماء.
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 290.
(2) في النسختين: واخترن.
(3) لم أصل إلى هذا بلفظه في المختصر. وإن كان موجوداً بمعناه (السابق نفسه).

(12/334)


8145 - وهذا الفصل من بقايا أحكام العبد يُسْلِم على نسوة. والغرض منه يحويه ثلاثة أقسام: أحدها - أن يسلم العبد على إماء منفردات.
والثاني - أن يكن حرائر منفردات.
والثالث - أن يكن حرائر وإماء.
فإن أسلم وتحته إماء منفردات، فأسلمن معه، أو أسلمن قبل إسلامه، أو بعد إسلامه -الكل في العدة- فللعبد أن يختار اثنتين منهن، فلا يُرعى في حقه خوف العنت، ولا يلزمه الاقتصار على واحدة، بخلاف حكمنا في الحر؛ فإن الإماء في حق العبد بمثابة الحرائر في حق الحر، فلو كان تحته أربع إماء، فأسلمت ثنتان، ثم أسلم العبد قبل تَقضِّي عدتهما - وابتداء العدة محسوب من يوم إسلامهما؛ فإن سبب الفراق اختلاف الدين، وذلك يحصل بالإسلام والتخلف، فلما أسلمتا وتخلف العبد، حصل بإسلامهما صورة الاختلاف، فكان ابتداء مدة العدة من وقت إسلامهما، ثم إذا اتفق إسلام العبد قبل انقضاء زمان عدتهما، فلو أسلمت الأخريان قبل تقضّي عدتهما وعدتهما محسوبة من يوم إسلام العبد؛ فإن الاختلاف في الدين معهما حصل بإسلامه.
فنقول: للعبد أن يختار الأوليين، أو الأخريَيْن، أو واحدة من الأُوليين؛ وواحدة من الأُخْريين؛ لما سبق تمهيده من أن الإماء في حق العبد بمثابة الحرائر في حق الحر، غير أن أقصى عدد العبيد في الزوجات -حرائر كن أو إماء- ثنتان.
ولو أسلم العبد وأسلمن، فحصل الاجتماع في الإسلام على الرق، ثم عتق وعتقن، فلا حكم لهذا العتق، والحكم كما إذا لم يعتِقن، فيختار منهن ثنتين؛ لأن تغير الحال من الرق إلى الحرية حصل بعد الاجتماع في الإسلام، وقد ذكرنا أن ما يحدث بعد الاجتماع في الإسلام لا معتبر به، ولا معوّل عليه.
ولو عتق العبد وعتقن في الشرك، ثم أسلم وأسلمن؛ فله أن يختار أربعاً منهن؛ لأنه حصل الاجتماع في الإسلام وهو حر وهن حرائر، فلا ننظر إلى ما تقدم، ونعتبر حالة الاجتماع في الإسلام، وهذا أصل يطّرد ولا يتناقض في أحكام الرق والحرية، وهو اعتبار حالة الاجتماع في الإسلام.

(12/335)


وكذلك لو أسلمن، وتخلف الزوج، ثم عتق في الشرك، وعتقن في الإسلام، ثم أسلم، وكذلك لو أسلم وعتق، [وعتقن] (1) في الشرك ثم أسلمن (2)، فمهما كان حراً وكن حرائر حالة الاجتماع في الإسلام، فالحكم ما ذكرناه.
8146 - ولو عتق العبد، ثم أسلم وأسلمن وهن رقيقات، فليس له أن يختار إلا واحدة منهن، على شرط أن يكون عادماً للطَّوْل خائفاً من العنت، نظراً إلى حالة الاجتماع في الإسلام، وقد كان فيه حراً، فيجعل كما لو لم يزل حراً وكن إماء، فالتحق هذا بما لو نكح الحر في الشرك إماء، فإن كان على شرط نكاح الإماء، اختار منهن واحدة.
وكذلك لو أسلمن وهو في الشرك، ثم أسلم، فلا يختار إلا واحدة.
وكل ذلك يندرج تحت اعتبار حالة الاجتماع في الإسلام.
8147 - ولو أسلم العبد وأسلمت واحدة منهن، وعتق العبد، ثم أسلمت البواقي، فقد حُكي عن القاضي أنه يختار الأُولى، وهي متعينة للزوجية في هذه الصورة، حتى لا يجوز له إمساك أخرى من البواقي. قال: وذلك بخلاف الحر إذا كان تحته إماء، فأسلم الحر، وأسلمت الإماء على الترتيب - واحدة واحدة؛ فلا تتعين الأُولى للإمساك، بل له أن يمسك أيتهن شاء. هذا كلام القاضي.
والأصحابُ بجملتهم على مخالفته، وهو هفوة منه لا يستريب فيها فقيه؛ وذلك لأنه لما عَتق بعد الاجتماع مع الأولى في الإسلام، فعتقه الطارىء لا يثبت له درجة تزيد على درجة الحر الأصلي، ولا شك أن [الأُولى] (3) لا تتعيّن في حق الحر الأصلي. ولو عتق العبد أولاً، ثم أسلم، لم تتعين الأولى، وأي فرق بين أن يعتق قبل الإسلام أو يعتق بعد الإسلام؟ فلا ينبغي أن يشك الفقيه فيما ذكرناه.
ولو أسلم وأسلمت ثنتان، ثم عتق، ثم أسلمت الأخريان؛ فقد قال القاضي في
__________
(1) في النسختين: وعتقهن.
(2) ت 3: أسلم.
(3) في الأصل: الأول.

(12/336)


هذه الصورة: له أن يختار ثنتين: إما الأوليين، وإما الأُخريين، وإما واحدة من الأوليين وواحدة من الأُخْريَين، واعتلّ بأن قال: تغيّرُ (1) الحال بعد استيفاء عدد العبودية لم يتغير به الحكم، بخلاف ما لو عتق بعد إسلامه وإسلام واحدة.
وهذا خبطٌ لا تعويل على مثله، ولا ينبغي الآن أن نفرع على عثرات الأئمة.
8148 - فإن قيل: إذا أسلم العبد وأسلمت الإماء، ثم عتق وعتقن بعد الاجتماع في الإسلام، فقد قلتم: لا يختار منهن أكثر من ثنتين، وينفسخ نكاح البواقي، وله أن يبتدىء نكاح الأخرييْن منهن أو نكاح ثنتين سواهن، فلا معنى للحكم بانفساخ النكاح مع التسليط (2) على أن يبتدئه بعده؟ قلنا: لما حصل الاجتماع في الإسلام على الرق؛ فقد دفع الشرع نكاح اثنتين، وقرر نكاح اثنتين، والانفساخ لا يتوقف على الاختيار، [وإنما] (3) يُعين المختارُ نكاحاً تقدم ثبوته، وفسخاً تقدم نفُوذُهُ، فإذا كان كذلك، فقد جرى الانفساخ في حالة الرق، والجاري حالة الاختيار [تعيين] (4) لما كان واقعاً قبلُ على طريق [التبيّن] (5).
والدليل عليه: أنه لو تقدم اجتماع في الإسلام بين الزوج ونسوة، ثم إنهن مُتن، وأسلمت البواقي؛ فللزوج أن يختار الميّتات، مع العلم بأن الميتة غير قابلة لابتداء النكاح، ولكن الاختيار تبيُّنٌ، كما قدمناه.
وكذلك لو أسلم الحر مع إماء، وكان حالة الاجتماع على شرط نكاح الإماء، ثم أيسر من بعدُ؛ فله أن يختار نكاح أمة وإن لم يكن حالة الاختيار ممن يجوز له نكاح الإماء؛ فإن الأمر مستند إلى حالة الاجتماع في الإسلام. وهذا واضح متمهّد.
ثم ضرب الأصحاب في ذلك [أمثالاً] (6) من الكتب لا حاجة إليها؛ فإن المعنى
__________
(1) ت 3: يعتبر.
(2) ت 3: التسلط.
(3) ت 2: وإن.
(4) في النسختين: تعين، والمثبت تقدير منا.
(5) في النسختين: البين، والمثبت تقدير منا.
(6) في الأصل: أمالاً.

(12/337)


الذي ذكرناه مستقل كامل، غيرَ أنهم قالوا: لا يمتنع أن يُمنع الشخص من استدامة (1) ما يجوز له ابتداؤه، وهذا بمثابة ما لو اصطاد المحرِم صيداً، واستدام اليد عليه ثم تحلل ويده قائمة دائمة على الصيد، فعليه رفع يده، وإن كان يجوز له أن [يصطاده] (2) ابتداء في حالة التحلل (3)، ولكن لما استندت يده إلى اعتدائه السابق، قلنا: عليه إزالة هذه اليد. وإن كان لا يمتنع عليه إثبات مثلها.
ولو غسل المتوضّىء إحدى رجليه، وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف (4)؛ فإنه لا يمسح إذا أحدث؛ لأنه ابتدأ، فلبس الخف الأول قبل تمام الطهارة، فإن أراد التسبّب إلى المسح، فلينزع الرجل الأولى، وليُعدْها، كما تقرر في موضعه، وهذا مُغنٍ (5) بوضوحه عن الإبعاد في الاستشهاد.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان تحت العبد إماء منفردات.
8149 - فلو كان تحته حرائر منفردات، فلا يخفى تفصيل المذهب؛ فإن الحرائر في حق العبد كالإماء، فيتخير منهن اثنتين إذا أسلم وأسلمن معه.
8150 - ولو أسلم وأسلمت اثنتان ثم عتق، ثم أسلمت الأخريان، قال الأئمةُ [أجمعون] (6): له أن يمسك اثنتين من غير مزيد، واعتلوا بأن قالوا: عِتْقُهُ وقع بعد استيفاء عدد العبودية.
ولو أسلم وأسلمت واحدة، وعتق العبد، ثم أسلمت البواقي؛ فله أن يُمسك أربعاً، لأن عتقه وقع قبل استيفاء عدد العبيد. واستشهد الأصحاب على هذا فقالوا: العبد إذا طلق امرأته طلقةً، ثم عتق؛ فإنه يملك طلقتين أُخريين تتمة الثلاث. ولو طلق امرأته طلقتين، ثم عتق، لم يملك الثالثة؛ لأنه استوفى عدد
__________
(1) في النسختين: استدامته.
(2) في النسختين: يصطاد.
(3) ت 3: التحليل.
(4) سقطت من (ت 3).
(5) في النسختين: معني.
(6) في النسختين: أجمعين.

(12/338)


العبودية في حالة العتق، ولم يؤثّر طريان الحرية من بعد.
وكذلك الأمة إذا أعتقت في خلال العدة قبل استكمال قرأين؛ فإنها -على قولٍ - تكمل ثلاثة أقراء، ولو عتقت بعد استكمال القرأين، لم يلزمها القرء الثالث.
والأمة إذا عتقت في أثناء ليلتها في القَسْم؛ فالزوج يكمل لها ليلتين فيلحقها بالحرة، ولو عتقت بعد مضي ليلتها، لم يزدها الزوج في هذه النوْبة على قَسْم الإماء، على ما سيأتي تفصيل ذلك في كتابه، إن شاء الله عز وجل.
8151 - وفرّع (1) ابن الحداد مسألة على هذه القاعدة، فقال: الذمي إذا طلق امرأته طلقةً واحدةً، ثم نقض العهد، والتحق بدار الحرب، ووقع في الأسر، وضرب صاحبُ الأمر عليه رقاً، فأراد أن ينكح تلك التي طلقها في حالة الحرية قبل نقض العهد؛ فإذا نكحها، فهو على طلقة واحدة منها، فإنه الآن رقيق، والطلاق الأول محسوب، فألحقناه برقيقٍ استوفى طلقة، وبقيت له طلقة.
وبمثله لو طلق الذمي زوجته طلقتين ثم طرأ ما وصفناه من النقض والالتحاق والوقوع في الأسر وجريان الرق، ثم أراد أن ينكح تلك المطلقة، فله أن ينكحها على طلقة ثالثة، والسبب فيه أنه لما طلق امرأته طلقتين في حال الحرية، لم نحكم بوقوع الحرمة الكبرى المُحْوِجة إلى التحليل، فإذا طرأ بعد ذلك الأحوالُ التي وصفناها، فلا نُحدث تحريماً لم يتقدم، ويجوز النكاح، ثم لا يخلو نكاح عن طلقة.
وهذا الذي ذكره ابن الحداد على التحقيق ناشىء من الأصل الذي مهدناه، وليس يخالفه في المعنى.
وذكر الأصحاب في ذلك عبارة ضابطة، فقالوا: الجامع للمسائل [أن نقول] (2): إذا تغير الحال بعد جريان الحكم، وهناك أصل باق في [حق] (3) المغيّر، فالمغير الطارىء يؤثر - إما بالزيادة وإما بالنقصان على ما يقتضيه الحال؛ لأن المغير يجد (4)
__________
(1) ت 3: ففصل.
(2) زيادة من (ت 3).
(3) في الأصل: حكم.
(4) ت 3: يحل.

(12/339)


أصلاً يتشبث (1) به، و [يستند] (2) إليه ويعمل فيه. فإذا طرأ الطارىء، وليس ثَمَّ أصلٌ باق، لم يؤثر المغيّر، ولم تظهر فائدة، وعلى هذا تخريج المسائل.
فإذا عَتَقَ العبد بعد إسلامه وإسلام واحدة من الحرائر، ثم عتق البواقي، فإنه يختار أربعاً؛ لأن الحرية طرأت وهناك أصل باق.
ولو عتق بعد إسلامه وإسلام حرتين، لم يمسك إلا اثنتين؛ لأن المغيّر الطارىء لم يصادف أصلاً يعمل فيه بعد تمام عدد العبد.
وكذلك العبد إذا عتق بعد استيفاء طلقتين، لم يملك الثالثة، لأن العتق لم يطرأ على أصل باق له في الطلاق، وإن عتق بعد استيفاء طلقة، [ملك] (3) بعدها طلقتين؛ لأن الحرية وردت مع بقاء أصل، وعلى هذا يخرّج أمر العدة.
وكذلك القول في مسألة ابن الحداد في الذمِّي؛ لأنه إذا طلق طلقتين، ثم طرأ الرق، لم يبق في قياس العبيد عدد بعد الطلقتين حتى يؤثر طريان الرق؛ فسقط أثر الرق الطارىء، وإذا كان طلقها طلقةً واحدة وأثّر الرق الطارىء في الرد إلى طلقتين [فتحسب] (4) منهما الأولى، فقد جرت هذه المسائل على الضبط الذي ذكرناه نفياً وإثباتاً، فهذا ما ذكره الأصحاب.
8152 - ووراء ذلك مباحثة في المعنى، بها تمام البيان، فنقول: المسائل التي الاستشهاد بها -نظيرَ المسألة التي نحن فيها- قد تنفصل في نظر الفقيه عن هذه المسألة، وبيان ذلك: أنَّ العبد إذا طلق امرأته طلقتين، فقد وقع الحكم بالتحريم الذي يتوقف ارتفاعه على التحليل، فطريان العتق بعد ذلك لا يؤثر في رفع التحريم الواقع الممدود إلى حصول التحليل، وإذا انقضت عدة الأَمَة، وقع الحكم ببراءتها وخلوّها عن العدة، وأنها تحل للأزواج، فإذا عتقت، استحال ارتفاع الحل المحكوم به.
وفي مسألتنا إذا أسلمت حرتان مع إسلام العبد، لم يصر العبد مستوفياً حقه،
__________
(1) ت 3: ليتسبّب به.
(2) في النسختين: يسند.
(3) في النسختين: تلك.
(4) في النسختين: وتحتسب.

(12/340)


والمسلمتان ما تعيّنتا لزوجيته (1)، بدليل أنه لو لم يخترهما حتى أسلمت البواقي، فله أن يختار اثنتين من البواقي، فلم يوجد إذاً في حال رقه إلا التمكن من اختيار اثنتين، والتمكن من التي لا تحل محل [الثُّنيا] (2).
فهذا ما يخطر للفقيه في انفصال هذه المسألة عن نظائرها، وكان لا يبعد من طريق الاحتمال أن يقال: يتوقف إلى إسلام البواقي، ثم إن فرض عتقٌ في بقية العدة نلحقه بالأحرار، وهذا احتمال لا قائل به، ولا صائر إليه، والغرض بذكره التنبيه على طريق من طرق الاحتمال، وإلاَّ، فالحكم المبتوت به والمذهب المقطوع به ما ذكره الأصحاب (3).
__________
(1) في النسختين: لزوجية.
(2) محل الثُّنيا: بضم المثلثة وسكون الموحدة بعدهما ياء مثناة: معناه الاستثناء، يقال: حلفت يميناً ليس فيها ثُنيا، أي استثناء، وهذه هبة ليس فيها ثنيا: أي استثناء. (ر. الأساس، والقاموس المحيط، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، والمختار، والمصباح).
ومعنى العبارة: أن العبد إذا أسلم وأسلم معه عدد، فليس له في حال رقه إلا التمكن من اختيار اثنتين. أما العبد الذي يطلق زوجته طلقتين، فقد بانت منه، فإذا عتق لا يتمكن منها بزعم أن العتق جعله من الذين يملكون ثلاث طلقات. "فالتمكن من التي لا تحل محل الثنيا" أي تمكينه منها بعد أن صارت لا تحل هو موضع الاستثناء، هذا وقد رسمت الكلمة هكذا (السثى) في (ت 2) وفي (ت 3) (الشى) فقدرناها (الثنيا) بعد طول تأمل. والله وحده يهدي إلى الصواب.
(3) إلى هنا انتهى الجزء الحادي والعشرون من النسخة التي رمزنا لها (ت 2)، وبدأ هذا الجزء من أول (باب اجتماع الولاة وتفرقهم) وكان هو الأصل من أوله إلى نهايته، وهو أحد أجزاء هذه النسخة التي قدر لنا الحصول عليها، فلم تقع لنا كاملة، لا هي ولا غيرها، كما أشرنا في المقدمة. وهذا الجزء برقم 327. وقد جاء في خاتمته:
تم الحادي والعشرون من نهاية المطلب في دراية المذهب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد نبيه وعلى آله وصحبه وسلم وشرّف وكرّم وعظّم.
يتلوه في الجزء الثاني والعشرين -إن شاء الله تعالى- فصل: قال الشافعي: ولو أسلم وأسلم معه أربع، فقال: فسخت نكاحهن، سئل
ا. هـ. بنصه.

(12/341)


فصل (1)
قال الشافعي: "ولو أسلم، وأسلم معه أربع، فقال: فسخت نكاحهن، سئل؛ فإن أراد طلاقاً، فهو ما أراد ... إلى آخره" (2).
8153 - نجزت فصول العبد والإماء، وأحكام الرق، وطريان العتاقة، وأخذ الشافعي في ذكر أحكام باقية من نكاح المشركات تجري منه مجرى الأركان، وقد ذكرنا أن الرجل إذا أسلم وتحته نسوة، وليقع الفرض في الحر والحرائر [لئلا] (3) نقع في مضايق أحكام الرق.
فإذا أسلم وأسلمن وهن زائدات على الأربع، فالإسلام يدفع نكاح الزائدات على الإبهام، وتبقى في الزوجية أربعٌ مبهمات، والتعيين إلى الزوج، وهذا قد سبق تمهيده.
فإن قيل: فما أصَّلتموه أنه لو اتصل بالإسلام مفسد، تضمن ذلك الحكمَ بفساد العقد، وعليه بنيتم بقاء بقية العدة وزمان الخيار، ومعلوم أن الجمع بقي إلى الإسلام، فهلا قضيتم بفساد العقود فيهن جُمع؛ من قِبل اتصال العقد بالإسلام؟
قلنا: هذا تلبيس؛ فانَّ العدة المقترنة بالنكاح تبقى مع الإسلام وبعده، فيقع الحكم على النحو الذي مهدناه، والجمع لا يجامع الإسلام؛ فإنَّ الرجل كما (4) أسلم وتحته عشر أو أكثر، اندفع نكاح الزوائد بنفس الإسلام، فلم يجتمع مع الإسلام زائدٌ على العدد المحصور شرعاً. ولا نقول: يطرأ الإسلام ثم يفسخ العقد في الزوائد، بل يقع الإسلام مع الفسخ، ويضاد الإسلامُ نكاحَ الزوائد مضادةَ السواد البياضَ، فالضدان يتعاقبان، وليس بينهما تخلل زمان، كذلك القول في نكاح الزوائد مع الإسلام.
__________
(1) من هذا الفصل بدأ العمل عن نسخة وحيدة، هي (ت 3) وبدأ هذا من أواخر ورقة 54 ش. والله المستعان.
(2) ر. المختصر: 3/ 290.
(3) في الأصل: لا.
(4) كما: بمعنى عندما (وقد تقدم التعليق على ذلك مراراً).

(12/342)


ومما تقدم ذكره، أنه إذا أسلم على أكثر من أربع وأسلمن معه، أو في العدة، فيتعين اختيار أربع منهن، والزوجية ثابتة في أربع، ولا يحصل بالاختيار الزوجيةُ، وإنما يحصل به تعيين الزوجات المبهمات، ولو أراد الزوج أن يفارقهن من غير طلاق، لم يمكنه، جرياً على ما أوضحناه.
8154 - ولو أسلم وأسلمت أربع، فقال: فسخت نكاحهن، لم نحكم بنفوذ الفسخ إذا أراد بذلك فراقاً من غير طلاق، فلو أصرَّت المتخلفات؛ فالذي عليه الجماهير: أن الفسخ الموجه على الأربع الأوائل لاغٍ مردود، ووجودُه كعدمه.
وقد حكينا عن العراقيين وجهاً في وقف الفسخ (1) الموجه على الأوائل، وتفريع ذلك يقتضي أن نقول: إذا كُنَّ ثمانياً، فأسلم أربع، ثم بعدهن أربع، وقد فسخ نكاح الأوائل، فنتبين الآن أن نكاح الأوائل ارتفع بما تقدم من الفسخ، وتعينت الأواخر للزوجية.
ولو أسلمت الأوائل وهن أربع - في الصورة التي ذكرناها؛ فاختارهن، صح، واندفع نكاح المتخلفات، فإنْ أصررن، فاندفاع نكاحهن بإسلام الزوج، وإن أسلمن في العدة، فقد تبين أيضاًً اندفاع نكاحهن باختلاف الدين، ولكنا تبيّنّا تعيّنهن من وقت تعيينه الأوائل للزوجية (2).
ولو طلّق الأربع الأوائل، نفذ، وكان توجيه الطلاق عليهن متضمناً اختيارهن؛ فإن الطلاق حَلٌّ، ومن ضرورته تقدير العقد في محلّه.
ولو قال: الأوائلُ فسختُ نكاحهن، ثم زعم أنه أراد بذلك طلاقاً، قُبل قوله؛ فإنّ اللفظ يحتمله، والطلاق يقع بالصريح تارة وبالكناية أخرى.
وإن زعم أنه أراد حلَّه [بلا طلاق] (3)، فقد لاح أنَّ ذلك لا ينفذ في
__________
(1) حكى النووي قول الوقف، ولم يتعرض له بتصحيح ولا تضعيف (ر. الروضة: 7/ 168).
(2) قال النووي: هذا هو الموافق لأصول الباب، وحكى عن البغوي أنه قال: "تقع الفرقة باختيار الأوليات" (ر. الروضة: 7/ 167).
(3) في الأصل: حلّه بالإطلاق، وهو تصحيف، أعان على تصويبه عبارة الروضة (السابق نفسه).

(12/343)


الحال (1)، وإنما الكلام في صحة الوقف. وقد ذكرت اختلافاً ذكره العراقيون.
8155 - ولو أسلم وتحته ثمان، ثم قال: من أسلم منهن، فقد اخترت نكاحها؛ فمن أسلم منهن لم تتعين للزوجية، ولم يصح الاختيار فيها؛ فإنَّ الاختيار لا يقبل التعليق (2)؛ فإنه إن كان بمثابة ابتداء عقد من طريق التشبيه لم يقبل التعليق، وإن نزلناه منزلة الاستدامة، فالاختيار على حالٍ لفظٌ معتبر في الاستدراك، فلا أقل أن ننزله منزلة الرجعة، وهي لا تقبل التعليق أيضاًً، والذي يغني عما ذكرناه أن الاختيار تعيين، وذكره على التعليق إيراده على صيغة الإبهام، وهذا يناقض التعيين المأمور به.
ولو قال: من أسلمت فقد فسخت نكاحها، وأراد تعييناً للفراق وحلاً [بلا طلاق] (3) فمن أسلمت، لم تتعين للفراق لمعنيين: أحدهما - أنَّ التعيين للفراق أحد موجبي الاختيار، فينافيه التعليق، كما ذكرناه في الإجازة.
والمعنى الثاني - أن التعيين للفراق قبل العدد التام غير مسوغّ، كما قدمناه.
ولو قال: من أسلمت، فهي طالق، فمن أسلمت تُطلّق، ويتضمن وقوعُ الطلاق اختيارَها للزوجية أولاً، كما تقدم، [و] (4) اختيار الزوجية، وإن كان لا يقبل التعليق مقصوداً، فقد تحصل ضمناً لما يقبل التعليق.
والدليل عليه أن السيد لو أبرأ المكاتب عن نجوم الكتابة يعتق، والإبراء لا يقبل التعليق، ولو قال لمكاتبه: إن دخلت الدار، فأنت حر؛ فإذا دخل؛ عتَقَ وبرىء، فتحصل البراءة ضمناً، وإن كانت لا تُعلّق وحدها صريحاً.
8156 - ولو قال: من أسلمت، فقد فسخت نكاحها، وزعم أنه أراد بذلك الطلاق، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن ذلك مقبول منه. ثم القول في الطلاق المصرح به ما ذكرناه.
__________
(1) قال النووي: "الصحيح أنه يلغو" (السابق: 168).
(2) قال النووي: تعليق الاختيار باطل (ر. الروضة: 7/ 166).
(3) في الأصل: بالإطلاق.
(4) "الواو" مزيدة لاستقامة الكلام.

(12/344)


وحكى العراقيون وجهاً، أن تفسيره الفسخ بالطلاق مردود، وهذا لا وجه له.
فإن تكلف متكلف وقال: الفسخ في نكاح المشركات صريح في الفراق الذي هو من خصائص الباب، وما كان صريحاً في موضوعه لا يجوز أن يُعدل به عن موضوعه [بالنية] (1)، وهذا كما أن الطلاق لا يصير بالنية ظهاراً، والظهار بالنية لا يصير طلاقاً (2).
وهذا بعيد؛ فإنَ الفسخ قبل الإسلام لا يقال له على صيغة التعليق، والطلاق ينفذ، فكان استعمال الفسخ في وقت لا يجد نفاذاً في موضوعه.
8157 - ولو كُنَّ ثمانياً، فأسلمت واحدة، فقال: فسخت نكاحها، ثم هكذا: أسلمن بجملتهن واحدة واحدة، والتفريع على الأصح (3) -وهو إلغاء الفسخ- ففسخه مردود في الأربع الأوائل، وهو نافذ في الأربع الأواخر، والسبب فيه أن فسخ الأربع الأواخر وقع وراء العدد الكامل، وهو الأربع، فكان نافذاً.
وكذلك لو أسلمت أربع دفعة واحدة، ثم أسلمت أربع أخرى، فينفذ الفسخ في المتأخرات؛ فإنه وراء العدد الكامل - وهو الأربع؛ فينبني على هذا ما نريد الآن.
فإذا أسلمن مترتبات واحدةً واحدةً، وهو كان يفسخ نكاح كل من تُسلم، فلا ينفذ الفسخ في الأولى والثانية والثالثة والرابعة، وينفذ في الخامسة إلى الأخيرة، ثم إذا نفذ الفسخ في المتأخرات، تعنيت الأوائل للزوجية، إذ لا بد من أربع.
وإن فرّعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه العراقيون، فنقف الفسخَ في الأربع الأوائل، وننظر إلى ما يكون، فإن أسلمت الخامسة فقال: فسخت نكاحها، فنقدم على ذلك فرضَ الكلام في إسلام أربع جميعاً، وإسلامِ أربع بعدهن، والنسوة ثمان، وقد قال لما أسلمت الأوائل: فسخت نكاحهن، وقال لما أسلمت الأواخر: فسخت نكاحهن، فإن فرعنا على ظاهر المذهب؛ ففسخه الأُول لاغٍ، ولما فسخ نكاح الأربع المتأخرات حالة إسلامهن، نفذ الفسخ فيهن، وتعينت الأوائل للزوجية، [وعلى قول
__________
(1) في الأصل: بالبينة.
(2) هذا الوجه قال عنه النووي أيضاً: إنه ضعيف. (ر. الروضة: 7/ 167).
(3) قال النووي في هذه الصورة: الصحيح أنه هذا الفسخ لغو (الروضة: 7/ 168).

(12/345)


الوقف] (1) لو فسخ نكاح الأوائل، وقفنا فسخه، وانتظرنا العاقبة، فلما أسلمت الأواخر معاً، ثبت نكاحهن كما (2) أسلمن، وتبيّنّا نفوذ الفسخ في الأوائل. ولو فسخ نكاح الأواخر، لم ينفذ فسخه؛ فإنا نفذنا على وجه الوقف فسخَه في الأوائل، فاقتضى ذلك تعيين الأواخر للزوجية، وإذا تعيّنّ، بطل تقدير الفسخ فيهن إذا أسلمت أربع معاً، ثم أسلمت أربع.
8158 - فأما إذا أسلمت أربع على الترتيب واحدة واحدة، وفرّعنا على الوقف، فالفسخ في الأربع المترتبات موقوف، فلما أسلمت الخامسة، فقد تمكّنّا من [التنفيذ] (3) لفسخ نكاح واحدة من الأوائل، فإنَّ الإجازة والاختيار في الخمس لا وجه له، فننفذ فسخاً؛ ويتعين [للتنفيذ] (4) الفسخُ في الأولى؛ فإنه أول فسخ صدر، فيتبين نفوذه بأول التمكن، ثم لما نفذنا الفسخ في الأولى يبطل الفسخ في الخامسة وتعيّنها للزوجية إذا كانت المسألة مفروضة في ثمان، ثم إذا أسلمت السادسة، نفذنا الفسخ في الثانية للقياس الذي ذكرناه في الخامسة والأولى، وإذا أسلمت السابعة، ففسخ نكاحها، نفذنا الفسخ في الثالثة، وأثبتنا زوجية [السابعة، وإذا أسلمت الثامنة، ففسخ نكاحها، نفذنا الفسخ في الرابعة، وأثبتنا زوجية] (5) الثامنة، وصار إسلام الأربع الأواخر ترتيباً مع تقدير الفسخ فيهن مؤدياً إلى ما اقتضاه فسخ نكاح الأربع الأواخر جميعاً لو أسلمن معاً بعد تقدم الفسخ في الأوائل جميعاً لما أسلمن معاً.
والمذهب إلغاء الفسخ في الأوائل، وإبطال مذهب الوقف، وليس يخفى التفريع عليه.
8159 - ولو أسلمت أربع من الثمان، فآلى الزوج، لم يصر بالإيلاء مختاراً لهن، بخلاف ما لو طلقهن (6)، والسبب فيه أن الإيلاء يمين على الامتناع عن الوطء،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) كما: عندما.
(3) في الأصل: التقييد.
(4) في الأصل: للتقييد.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وهو النسخة الوحيدة، وزدناه على ضوء السياق.
(6) هذا هو الأصح، قاله النووي (ر. الروضة: 166).

(12/346)


والحلف [على] (1) الامتناع عن الوطء يلائم الأجنبية المعينة للفراق، وليس كالطلاق؛ فإن من ضرورته حَلٌّ بعد تقدير عقد، وكذلك لو أسلمت أربع، فظاهَرَ عنهن، لم يجعل الأصحاب الظهار تعييناً للزوجية؛ فإن معنى الظهار المبالغة في وصف المرأة بالتحريم، من حيث تشبيهها بالمحرمات، وهذا يلائم حال الأجنبية بخلاف الطلاق.
هذا ما وجدته للأصحاب.
8160 - ومما ذكروه واتفقوا عليه؛ أنه لو أسلم من النساء خمس أو ست، فقال الزوج المسلم: أوقعت الأربع المختارات فيهن؛ فالاختيار ينحصر فيهن، وتندفع الباقيات لو قدر إسلامهن.
وقد يتطرق إلى هذا سؤال، وذلك بأن يقال: الاختيار تعيين، وحصره الزوجات في جمع من النسوة زائداتٍ على العدد المعتبر شرعاً لا تعيين فيه؟
وسبيل الجواب عنه: إن التعيين على معنى الحصر في هذا الجمع محقق كائن، وفيه تعيين الباقيات تعييناً للفراق، فصح ذلك.
ولو أبهم رجل طلقة بين أربع نسوة، ثم أشار إلى اثنتين، وقال: من أردته بالطلاق فيهما، كان ذلك ضرباً من التعيين، وترتب عليه تعيين الأخريين للزوجية، وانحصار الطلاق في اللتين ذكرهما للطلاق إبهاماً، ثم يتعين عليه تعيين المطلقة منهما، كذلك القول في اختيار الأربع من الست اللواتي حصر المختارات فيهن، فنقول: عيِّن أربعاً منهن وفارق اثنتين. هذا ما ذكره الأئمة.
8161ـ ولم يتصل بأطراف الكلام أن الزوج إذا أسلم وتخلفت الزوجة، وطلقها وهي متخلفة، فلا شك أن الطلاق لا ينتجز في تخلفها، مع جواز أن تصرّ على شركها حتى تنقضي العدة؛ إذ لو اتفق ذلك، تبيّنا ارتفاع النكاح بنفس اختلاف الدين، وذلك سابق على تنجيز الطلاق.
ولكن لو طلقها، ثم أسلمت، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في تنفيذ ذلك الطلاق
__________
(1) في الأصل: عن.

(12/347)


تخريجاً على الوقف، وسبب ظهور الخلاف أن الطلاق أقبل [للغرر] (1) من غيره.
ولو كان تحته نسوة زائدات على العدد المحصور، فأشار إلى أربع منهن في الشرك، فقال: أجزت نكاحهن، [فلا شك] (2) في بطلان اختياره إذا أبطلنا قول الوقف، فأما إذا فرعنا على قول الوقف، فهذا الاختيار فاسد أيضاًً؟ فإنها على ثبوتها (3) لا يصح اختيارها، ومن أجاز وقف العقود، لم يجوّز بيع الخمر على تقدير المصير إلى حموضة الخل.
وفي القلب من هذا أدنى شيء؛ من قِبل أنَّ الخمر ليست مملوكة ويثبت الملك مع تخللها غير مستند إلى حالة الشدة، وإذا أسلمت الوثنية، تبينا أنها كانت زوجة وهي وثنية، وهذا الإسناد محكوم به شرعاً، فيتطرق إمكان القول بالوقف على بُعدٍ في الإجازة. والعلم عند الله تعالى.
فرع:
8162 - إذا أسلمت نسوة زائدات مع إسلام الزوج، فقد ذكرنا أنه يختار أربعاً منهن، فلو وطىء، فهل يكون وطؤه اختياراً للزوجة؟ فيه وجهان ذكرهما العراقيون، وهما كالوجهين في أن الرجل إذا أبهم طلقة بين امرأتين ثم [وطىء] (4) إحداهما أو أبهم إعتاقاً بين أمتين ثم وطىء إحداهما، فهل يكون الوطء تعييناً للملك والزوجية؛ حتى تتعين الأخرى للعتق وللطلاق؟ فعلى اختلاف (5) مشهور، سيأتي مشروحاً في كتاب الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
8163 - ظاهر النصوص أن عدة المتعينات للفراق تحتسب من وقت تقدم الإسلام ممن تقدم به، وإن أحببنا قلنا: أول العدة يُحتسب من وقت اختلاف الدين، هذا مقتضى النصوص، وعليه أجرينا المسائل.
وللشافعي نص في كتاب العدة "أن الرجل إذا نكح امرأة نكاحاً فاسداً، فكان
__________
(1) في الأصل: للغزو.
(2) في الأصل: لا ينفك. والمثبت تقدير منا.
(3) ثبوتها: أي البقاء على الشرك.
(4) في الأصل: أبهم.
(5) قال النووي: المذهب أن الوطء لا يكون اختياراً (ر. الروضة: 7/ 167).

(12/348)


يغشاها، فالعدة تحتسب من وقت التفريق بينهما، لا من آخر وطئه"، وفيه اختلاف وتفصيل سيأتي -إن شاء الله تعالى- في كتاب العدة، والغرض من ذلك أن معظم أئمتنا قالوا: ابتداء العدة محسوب من وقت اختلاف الدين، فإن فرّعنا على ابتداء عدة الشبهة من وقت التفريق بين الزوجين، والسبب فيه [أن] (1) الزوج في النكاح الفاسد يخامر زوجته ويخالطها مخالطة الأزواج، وإن كان لا يغشاها، فيجوز ألا يقع الاعتداد بذلك الزمان من العدة، فالزوج لا يغشى المتخلفات في مسألتنا ولا يخالطهن مخالطة من يتسلط على الغشيان، فكان ذلك فرقاً بين المسألتين.
ومن أصحابنا من قال: إذا حسبنا ابتداء عدة الشبهة من افتراق، فنحسب ابتداء العدة في المتخلفات من وقت التعيين [للفراق] (2)، وكذلك القول فيه إذا أسلمن وتخلف، وهذا القائل يعتل، فيقول: إذا كان ظن [الزوجية] (3) على الفساد يمنع الاحتساب بالعدة في النكاح الفاسد، فتقع الزوجية في المتخلفات أو في المسلمات تحت الزوج المتخلف أولى بأن تمنع الاحتساب من العدة. وحقيقة هذا سيأتي في كتاب العدة، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو أسلمن معه، فقال: لا أختار، حُبِسَ حتى يختار ... إلى آخره" (4).
8164 - إذا أسلم وتحته أكثر من أربع أسلمن، فالزوج مأمور بأن يختار أربعاً منهن، والاختيار حتم عليه؛ فلا يجوز له أن يتركهن مبهمات؛ فإنه لو فعل ذلك، لكان حابسَهن على غير تعيين للفراق والزوجية. وكذلك القول فيه إذا أبهم طلاقاً من نسوة.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: فللفراق.
(3) في الأصل: الزوجة.
(4) ر. المختصر: 3/ 291.

(12/349)


ثم قال الشافعي: "إذا امتنع من التعيين، حبسته ليُعيّن، فإن امتنع مع الحبس يُعزر ويضرب حتى يختار" (1). هذا كلام الشافعي. وفي هذا أدنى تأمل على الناظر. والحبس في وجوه (2) من ثبت عليه دين نوعٌ من العقوبة، ونحن لا نحبس في الدَّين إلا بعد ثبوته، ولا تعويل على قول القائل: لسنا نقطع بصدق الشهود؛ فإنَّ البينة إذا قامت، أرقنا الدماء بها، وهجمنا على العظائم، ثم حكمنا بالظاهر، ووكلنا الأسرار إلى الرب تعالى، وليس الحبس بأعظم من القتل والرجم، ولكن إنما اختار ولاة المسلمين وقضاةُ الدِّين من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحبسَ لسرٍّ، وهو أنه عقوبة دائمة إلى الوفاء بالحق، ولا يتصور إدامةُ عقوبةٍ غيره.
وفيه مع ما ذكرناه لطيفة أخرى، وهو الاستيثاق بمن عليه الحق؛ فاجتمع في الحبس هذان المطلبان.
ثم ذكر الشافعي أن الرجل إذا امتنع من الاختيار، فرأى القاضي أن يعزره، عزّره، وهذا مضموم إلى الحبس، فلا اكتفاء بالتعزير، وإنما رأى الشافعي [ذلك] (3)؛ لأنه ما [لم] (4) يتطرق إلى الذي وجب عليه الاختيار إمكانُ عذر؛ فإن (5) الأمر إلا إليه، فتركه للاختيار نكاح (6).
فقال الأئمة: لو فرض مثل هذا في الحقوق المتوجهة، ورأى القاضي التعزير [ضمّاً] (7) إلى الحبس، فله ذلك، وإنما يتصور هذا إذا أقر بالحق واعترف بقدرته
__________
(1) السابق نفسه.
(2) كذا. ولعلها: "حق".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة من المحقق.
(5) (إن) نافية.
(6) كذا (تماماًَ بكل وضوح في الرسم) ولا أدري لها وجهاً. ولعل في الكلام سقطاً أو تصحيفاً.
هذا، ولم يفد في ذلك الإشكال، عبارة العز بن عبد السلام في مختصره، ولا الرافعي، ولا النووي، ولا الغزالي في وسيطه وبسيطه. والله المستعان. ولعل صوابها: "نكال" أي تنكيل بهؤلاء النسوة.
(7) في الأصل: ضمناً.

(12/350)


[على أدائه، وأخر مماطلةً، من غير أن يكون له وطر] (1)؛ فللقاضيَ أن يعزره، فأما إذا قامت البينة وهو [رادٌّ] (2) ولكنا أوضحنا له: "أن القضاء نفذ عليه ولا يقبل منه تكذيبُ البينة"، فإن كان يدعي إعساراً، فلا سبيل إلى المزيد على الحبس، وإن اعترف باليسار؛ فالظاهر عندنا امتناع التعزير، وفي الحبس مقنع. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن للقاضي أن يعزره.
ثم ما ذكرناه من التعزير ليس حتماً، بل هو إلى رأي الوالي، على ما سيأتي شرح ذلك في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل.
ثم إن كرر السلطان التعزير حيث يراه، فلا بأس، ويخلَّلُ بين التعزيرين زمانٌ يبرأ فيه عن التعزير الأول؛ فإن الموالاة في العقوبة عظيم.
فإن قيل: هلا قلتم: إذا امتنع الزوج من التعيين، فللقاضي أن يعيّن عليه، كما يطلّق زوجة المُولي بعد المدة إذا امتنع عن الفيئة، على أحد القولين؟ قلنا: المرأة مطالِبة بحقها وهي مضرورة من جهة الزوج، فإنْ قطع الحاكم نكاحاً لإزالة الضرر، لم يبعد، وفي مسألتنا واحدة من النساء لا تتعين لطلب حقها، فلا سبيل إلى تفويض ذلك إلى القاضي.
ثم قال الأصحاب: إذا امتنع الزوج -وتحته ثمان، وأسلم وأسلمن- عن اختيار أربع منهن، وحبسناه، فلا نعزره على الفور، فلعل أ [له في التعيين فكراً] (3)، وأقرب معتبر في ذلك مُدَّة الاستتابة (4).
8165 - ثم عليه أن ينفق على جميعهن ما دام ممتنعاً عن اختيار أربع، أجمع
__________
(1) عبارة الأصل: "على أداء الحق به وأخر بما طلبه وطر".
(2) في الأصل: أراد.
(3) في الأصل: "عليه في التعيين فكرة" وكنا قدرنا الصواب من عندنا هكذا: "فلعله يُعمل في التعيين فكره" ولكنا آثرنا إثبات ما رواه الرافعي في الكبير: 8/ 123. وفي (صفوة المذهب): "فلعل له في التأخير فكرة".
(4) مدة الاستتابة: أي استتابة المرتد. صرح بذلك الغزالي في البسيط: 4/ 50 شمال.

(12/351)


الأصحاب عليه، واعتلّوا بأنهن محبوسات بسببه، والزوج قادر على تخليصهن من الحبس، فإذا أدام حبسهن أُلزم نفقتهن.
وهذا المقدار لا يستقل، والوجه أن نقول: إنما تجب النفقة لأن كل واحدة منهن تزعم أنها مستحِقة، والنفقة من حيث إنها كانت من قبلُ مستحقة، ولم يتحقق في حقها على الخصوص ما يوجب إسقاط النفقة؛ فهي على مطالبتها بحقها من النفقة إلى أن يتبين ما يسقطها.
والذي يوضح ذلك: أنه لو لم تثبت لكل واحدة منهن نفقة، فلا سبيل إلى إسقاط نفقتهن بالكلية، ولو أوجبنا نفقة أربع نسوة، فلا يمكن تعيين المستحقة، ولا سبيل إلى وقف النفقة إلى البيان؛ فإنَّ النفقة أُثبتت شرعاً لحاجة ناجزة لا تقبل الوقف. ولو فُضّت (1) النفقة التي ذكرناها عليهن من غير وقفٍ، لما وصلت واحدة منهن إلى نفقة تسد مسداً، فإذا تعذر الوقف، وتعذر إسقاط أصل النفقة، ولم يتجه الفضُّ [والتعيين] (2)، فالرجوع إلى اعتبار كل واحدة في نفسها؛ نظراً والتفاتاً إلى الاستحقاق القديم، حتى كأنه لا طَلِبة إلا منها ولا مستحقة غيرها - أولى (3) معتبرٍ وأحقُّ مرجوع إليه.
ومما يعضد ذلك أن الجاريات في العدة بسبب اختلاف الدين ينزلن عند معظم الأصحاب منزلة الرجعيات في عدة الرجعة، على ما سنقرر ذلك في آخر الباب، إن شاء الله عز وجل. والرجعية تنزل منزلة الزوجة في استحقاق النفقة ما دامت في عدة الرجعة. فقد وضح ما ذكرناه من إيجاب النفقة على الزوج من كل وجه.
8166 - ثم الكلام وراء ذلك يُفرض في موت الزوج قبل اتفاق التعيين والاختيار، فإذا اتفق ذلك، تعلق الكلام بفصلين: أحدهما - في العدة، والثاني - في الميراث.
فأما القول في العدة، فليس يخفى أن الزوجة تعتد عدة الوفاة: أربعة أشهر
__________
(1) فضّت: أي قسمت.
(2) في الأصل: "والقيمة". والمراد التعيين عليه من القاضي.
(3) أولى: خبر مبتدؤه (فالرجوع إلى ... ).

(12/352)


وعشراً، التي مات عنها زوجها، والتي تبيّن أنها بانت عن زوجها تعتد بالأقراء، إن كانت من ذوات الأقراء، وتعتد بثلاثة أشهر إن كانت من ذوات الشهور. ونحن نعتبر في حق كل واحدة مسلك الاحتياط، ولا نحلّها للأزواج إلا على ثَبتٍ، وتعيُّنُ هذا المساق يقتضي لا محالة أن يُرعى في حق كل واحدة منهن أقصى الأجلين، فإن كانت العدة بالأشهر، لم يخف وجه الاحتياط، فإن الأربعة أشهر والعشر تشتمل على ثلاثة أشهر وتزيد، وإن كن حوامل؛ فإذا وضعت الحامل بعد الموت حملها، فقد حلت عن العدة، فإنها سواء فرضت زوجة، أو قدرت بائنة (1) عن زوجها، فوضع الحمل يبرئها إذا وضعت بعد الموت.
وإن كانت من ذوات الأقراء، فينبغي أن تأتي بثلاثة أقراء فيها أربعة أشهر وعشر.
وإن أحببتَ قلتَ: تعتد بأربعة أشهر وعشر، وإن أحْببت قلت: تعتد بأربعة أشهر فيها ثلاثة أقراء، فأي الأجلين انقضى انتظرت الأجل الآخر، وهذا معنى أقصى الأجلين، واليقين يحصل بهذه الطريقة.
ثم عدة الوفاة يعتبر ابتداؤها من وقت موت الزوج لا محالة.
والبينونة، من أي وقت يعتبر ابتداؤها؟ فعلى وجهين، مهدناهما قبلُ: أحدهما - أنا نعتبر ابتداءها من أول الإسلام، إن كان الإسلام على الترتيب، ويعتبر في حق كل واحدة إسلامها وإسلام زوجها، ولا يخفى درك هذا على الفقيه، ولا يضر التعرض للجليات في أثناء الخفيات.
والوجه الثاني - أنا نعتبر ابتداء عدة البينونة في حقوقهن من وقت موت الزوج، فإنهن من قبل ذاك في حال الزوجية والتباس الحال، فشابهن المنكوحة نكاح الشبهة والزوج كافر.
ومن أسرار القول في العدة -وإن كان متّضحاً- أن وجوب العدة قد يحال على اختلاف الدين، كما تقدم، وذلك يستدعي ترتيباً في الإسلام، وتقديرَ سبقٍ من أحد الزوجين إليه، فإذا أسلم الزوج وأسلمن معاً، فالعدة تحال على دفع الإسلام نكاح
__________
(1) في الأصل: نابية.

(12/353)


الزوائد، فإنا أوضحنا أن الإسلام يتضمن انتفاء أنكحة تزيد على حد الشرع. ثم المختارات في الزوجية والمندفعات بحكم الزيادة يبنين على الوجه الظاهر من وقت الإسلام الواقع؛ فالعدة إذاً تحال مرة على اختلاف الدين، ومرة على الدفع. ثم الدفع قبل البيان على لَبْسٍ، كما أن تبين الارتفاع باختلاف الدين موقوف على ما يُبيِّن، فهذا حاصل الكلام في العدة.
8167 - فأما القول في الميراث؛ فإذا مات الزوج [وبقين] (1) [فنفرز] (2) من تركته ميراثَ زوجة من غير مزيد، وهو ربعٌ أو ثمن، عائلٌ أو كامل.
ثم الذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن هذا القدر يوقف بينهن، فلنفرض ثمانياً، ونقول: ميراث الزوجة الواحدة موقوف بينهن؛ فإن اصطلحن، فذاك، وإن لم يصطلحن، استمر الوقف.
ثم قال الأصحاب: لو جاءت واحدة أو اثنتان أو ثلاث أو أربع يطلبن من الربع أو الثمن، فلا نجيبهن إلى شيء؛ من جهة أنا نجوّز أن تكون الزوجات من الباقيات اللاتي لم يطلبن شيئاًً من الموقوف، وقد صورنا تحته ثمانياً. ولو جاءت خمس يطلبن، فنسلم إليهن ربعَ الموقوف؛ فإنا نستيقن أن فيهن زوجة. فأقل ما يقدر لهن هذا.
وقد قال الشافعي: لو كان فيهن طفلٌ (3)، فليس لوليها أن يرضى لها -إذا طلبن [الاصطلاح] (4) - بأقلَّ من ثُمن الموقوف، وعلل بأن قال: إذا وُقف بينهن وهن ثمان
__________
(1) في الأصل: "وتعزين" والمثبت تقدير منا.
(2) في الأصل: نقرر. والمثبت اختيار منا.
(3) كذا بلفظ "طفل" بالتذكير، وهو صحيح؛ فهو دال على المذكر والمؤنث (المصباح)، وهو لفظٌ غير معهود في هذا المقام، وقد جاءت عبارة الرافعي في (الشرح الكبير) والنووي في (الروضة) والعز بن عبد السلام في مختصره بلفظ "صغيرة" مكان (طفل). لكن جاء في الوسيط بلفظ (طفلة)، ونقل العبارة ابن الصلاح عن النهاية بلفظ (طفلة)، وبمثله -طفلة- جاءت (صفوة المذهب). (ر. الوسيط، وبهامشه مشكل الوسيط لابن الصلاح: 5/ 151).
(4) زيادة للإيضاح مما نقله ابن الصلاح عن النهاية في مشكل الوسيط.

(12/354)


مقدارٌ، [فيدُ] (1) كل واحدة منهن ثابتة على ثُمن الموقوف، فلا يقع الرضا بأقلَّ من ثُمن الموقوف على موافقة ثبوت الأيدي.
ومما ذكره الأئمة؛ أن الخَمس إذا جئن يطلبن، فقد ذكرنا أنا لا نسلم إليهن إلا رُبع الموقوف في الصورة التي صورناها، فهل يشترط عليهن الإبراء عن الباقي؟ فعلى وجهين: أحدهما - وهو القياس الذي لا جريان لغيره، أنا لا نشترط ذلك؛ فإنهن لم يطلبن فوق حقهن، بل اقتصرن على المقدار المستيقن [لهن] (2)، فيبعد كل البعد أن نكلفهن إسقاط حق يتوقع لهن، بل يجب أن يُجَبن إلى القدر المستيقن فحسب.
والوجه الثاني - أنا لا ندفع إليهن شيئاًً، بل نديم الوقف إلا أن يسقطن حقوقهن من الباقي؛ فإنَّ سبب إجابتهن في مقدار من الموقوف لهن قطعُ خصومة عاجلاً وآجلاً، وهذا لا يحصل إلا بالإبراء، وهذا وجه لا اتجاه له عندنا.
ويتعلّق بتمام البيان في ذلك أنهن إن كن يطلبن أن يقتسمن الربع المسلّم إليهن، فذاك، وإن كن على أن يقفن ذلك الربع بينهن، فهذا خلي عن الفائدة؛ فإن الوقف كائن قبل ذلك، ولكن إذا أردن هذا، فغرضهن الاختصاص باليد.
ويتفرع عليه أن الخَمس إذا أخذن رُبع الموقوف، فثلاثة أرباعه تبقى تحت أيدي ثلاث نسوة، فإن أسقطت الخَمسُ حقوقهن من الباقي، فتختص به الثلاث الباقيات، وهذا خيال في التفريع لا حاصل له، فإنا إذا اشترطنا في إجابتهن أن يسقطن حقوقهن من الزائد على الرُبع المسلم إليهن، وهن أيضاًً يقفن الربع ولا يقتسمنه، فما استفدن شيئاًً، إلا أن الربع موقوف بين خَمس - يدُ كل واحدة منهن ثابتة على خُمس الرُبع، وهو يقع سهماً من عشرين سهماً من جميع الحصة الموقوفة لهن، وقد كانت يد كل واحدة قبل هذا الاستدعاء ثابتة على سهم من ثمانية أسهم من جملة الحصة.
وإذا وضح ذلك، فليس لاستدعائهن مقصود مطلوب إلا أنهن يملكن الاستبداد بأنفسهن من غير مراجعة الباقيات إذا تراضين بالاقتسام، فَتُبْنى إجابتهن إلى ما يطلبن
__________
(1) في الأصل: "قبل". وهو تصحيف ظاهر.
(2) في الأصل: "لها".

(12/355)


على ملكهن الانفراد بأنفسهن من غير مراجعة إلى الباقيات.
وإن قلنا: لا يشترط على الخَمس الطالبات من الثمان إسقاط حقوقهن من الباقي، فيظهر الغرض بأنهن ملكن الانفراد بالتصرف في الربع المسلم به، وحقوقهن بعد حط الربع لهن قائمة في الباقي الموقوف.
ولو زدن على الثمان وكن تسعاً مثلاً، فجاءت خَمسٌ وطلبن أن نقدر لهن شيئاًً، لم نجبهن؛ فإنا نجوز أن يكن الأربع الباقيات هن الزوجات.
ولو كنَّ ستاً، فجاءت أربع منهن يطلبن، فنسلم إليهن نصفَ الموقوف؛ فإنا نعلم أن في [الأربع] (1) زوجتان، ولو جاءت ثلاث يطلبن، فنسلم إليهن ربع الموقوف، فإنا نعلم أن في الثلاث زوجة، وإنما نأخذ هذا الاعتبار من عدد اللواتي لا يطلبن أن [يخصصن] (2) بشيء، وليس يخفى مُدرك الغرض في ذلك على من له فكر.
8168 - [ومما] (3) ذكره الأصحاب في ذلك أن الزوج إذا كان تحته أربع وثنيات وأربع كتابيات، فأسلمت الوثنيات معه، واستقرت الكتابيات؛ فالنكاح متردد بينهن، من جهة أن المسلم يقرر على نكاح الكتابية، فإذا مات، ولم يختر منهن أربعاً، فلا نقف لهن شيئاًً؛ فإنا نقف المقدار المستيقن، ونحن نجوّز أن تكون الزوجاتُ الكتابيات؛ إذ لو اختارهن في حياته، لجاز له ذلك. ثم لا ميراث للكتابيات، فإذا أمكن تقرير هذا، فقد زال تحققُ الاستحقاق وثبوتُه على قطع، وهذا سديد على مذهب الشافعي في اعتبار اليقين في المواريث عند وقوع اللبس.
وقد ألحق الأئمة بهذه الصورة، أن الرجل لو نكح مسلمة وكتابية ثم قال: "واحدة منكما طالقة ثلاثاً"، ومات قبل البيان، ولم نُقم بيانَ الورثة مقام بيانه، فلا نقف لهما شيئاًً، للعلة التي ذكرناها؛ فإنه كان يجوز أن يعيّن المسلمة للفراق، ثم لا ترث الكتابية لو فعل ذلك ومات.
__________
(1) في الأصل: "الست". وهو سبق قلم.
(2) في الأصل: يخصص.
(3) في الأصل: وما.

(12/356)


وذكر صاحب التقريب هذه المسألة، وأجاب فيها بجواب الأصحاب، وحكى وجهاً آخر، أنَّا نقف ميراث زوجة بين المسلمة والورثة إذا وقع بينهما الطلاق المبهم، وطلب أن يفصل بين هذه المسألة وبين المسألة التي ذكرناها في نكاح المشركات من فرض أربع وثنيات يسلمن وأربع كتابيات يصررن على الكفر، ولم يأت بما يقبل الحكاية، ولا يتوقع الفقيه في ذلك فرقاً ممكناً أصلاً.
فهذا ما ذكره جماهير الأصحاب في الميراث طردناه على وجهه.
8169 - وذكر صاحب التقريب طريقةً عن ابن سريج وعدَّها خارجة عن قياس الأصحاب. ولا يستقر على المسلك الحق عندنا غيرُها (1)، وذكر أنه حكي عنه أنه قال: إذا لم يختر المسلم الزوجات، ومات قبل اتفاق ذلك، واتفقت (2) النسوة على صورة الحال، ولم يختلفن، ولم تدّع واحدةٌ منهن كونها مختارة، بل اعترفن بصورة الحال، فالربع أو الثمن مفضوض عليهن بالسوية؛ فإنَّ التوقع في البيان منقطع، وكل واحدة منهن في سبب الاستحقاق بمثابة صاحباتها، وليس ذلك لبساً يُنتظر زواله.
والذي يكشف الغطاء في ذلك: أن محل اللبس ينتظم أن يقال فيه: ما هو مشكل علينا معلوم لله تعالى، فهذا التقدير لا يمكن إجراؤه في هذه المسألة؛ إذ لا وجه في البيان، فيفرض معلوماً لله تعالى.
ولو قال: إن كان هذا الطائر غراباً، فأنت طالق، وقال لزوجته زينب: إن لم يكن غراباً، فأنت طالق، فتطلق إحداهما. فإن أشكل الطائر، وأشكل تسميةُ الطالق منهما، فهذا الإشكال يختص بنا، والرب تعالى عليم بالطالق، ومثل ذلك لا يتأتى تقديره في المسلمات الزائدات على العدد الشرعي إذا مات الزوج قبل اختيار الزوجات منهن، فلا وجه إلا التسوية بينهن قسمةً وتوزيعاً.
__________
(1) هذا الذىِ اختاره الامام غير ما استقر عليه المذهب، فقد قال الرافعي بعد أن نقل هذا عن الإمام: "والمشهور الأول" أي الوقف (ر. الشرح الكبير: 8/ 124) أما النووي، فقد قال: "ومال الإمام إلى هذا الوجه، والصحيح الذي عليه الجمهور هو الأول" (الروضة: 7/ 171).
(2) في الأصل: "اتفقت" بدون واو.

(12/357)


وهذا حسن منقاس، وإن كان مخالفاً لما عليه جماهير الأصحاب، وهذا يخالف ميراث الخناثى، فإنا لا [نأيس] (1) بياناً فيهم، والبيان غير متوقع في المسألة التي ذكرناها، ولا بد من صرف الميراث إليهن، فلا معنى للتوقف إذاً والحالة هذه.
وقد نجز الغرض من هذا الفصل.
فصل
قال: "وإن أسلم وعنده وثنية، ثم تزوج أختها ... إلى آخره" (2).
8170 - إذا كان نكح في الشرك وثنية، ثم أسلم وتخلفت الوثنية، وذلك بعد الدخول، فقد بان أنا ننتظر إسلامها في مدة العدة، فلو نكح بعد الإسلام أختها المسلمة، فلا شك أن المتخلفة لو أسلمت في العدة، فنكاح الأخت مردود، فإنا عرفنا أن المسلم بعد التزام الأحكام أدخل نكاح أخت على أخت.
ولو نكح أختها كما فرضنا، ثم أصرت المتخلفة حتى انقضت العدة؛ فقد بان أن نكاح أختها وقع بعد بينونة المتخلفة.
فالذي نقله المزني عن الشافعي أن النكاح مردود، واختار لنفسه صحة النكاح.
وعلل الأصحاب فساد النكاح بما اقترن به مما يقتضي الوقف، والنكاح لا يقبل الوقف، وهذا أجراه الأصحاب على منع وقف العقود، وقد ذكرنا للشافعي قولاً في وقف العقود في كتاب البيع، وأوضحنا فيه مراتب الوقف، وطرق المذهب في كل مرتبة، فهذا نكاح جرى في وقتٍ كان لا يمكن أن نقطع فيه بانعقاد النكاح. فلم ير الشافعي -فيما نقله المزني- تصحيح النكاح.
8171 - وهذا الفصل فيه سر؛ فإن الوقف الذي اتفق الأصحاب على إجراء القولين فيه مصور فيما إذا زوّج الرجل جارية أبيه في غيبته مثلاً، بناء على تزويج ملكه بغير إذنه، ثم بان أن أباه كان قد مات في وقت التزويج، وأنها كانت مملوكة للمزوّج في
__________
(1) في الأصل: نأنس.
(2) ر. المختصر: 3/ 291.

(12/358)


الوقت، فهذا في انعقاده قولان عند كافة الأصحاب.
فإذا وضح ذلك، رجع الكلام إلى نكاح الأخت وأختُها متخلفة، وقد اختلف الأصحاب في ذلك، فذهب جمهورهم إلى إفساد النكاح، وإن تخلفت الوثنية إلى انقضاء العدة.
وأجرى بعضهم القولين كما ذكرناه في الصورة المتقدمة، فأما إجراء القولين؛ فقياسه أنا نتبين آخراً أن الأخت تزوجها المسلم، والوثنية بائنة (1) في تلك الحالة.
ومن رأى القطع (2) أظهر فرقاً بين هذه المسألة وبين مسألة الميراث، وقال: إذا زوّج جارية أبيه في غيبته، ثم بان أنها كانت ملكاً له بالميراث، وأن أباه كان قد مات؛ فالسبب المجوِّز للنكاح كائن في الحال، ولكنه لم يعلمه المزوّج، وأما إصرار المتخلفة إلى انقضاء العدة فليس أمراً واقعاً حالة العقد، ولكنه متعلق بما يكون في الاستقبال، وهو غيب لا مطّلع عليه، ولا يعلمه إلا الله عز وجل، فهذا وجه الفرق.
ومما يتضح به الفرق عند الفارقين أن من الأئمة من جعل المتخلفة بمثابة الرجعية في العدة، ونكاح الأخت في عدة الأخت الرجعية غير سائغ، والمزني لما اختار صحة النكاح بناء على ما تبين في المآل استدلّ بالطلاق، وقال: إذا تخلفت الوثنية [وطلقها] (3) زوجها المسلم، فلو أصرت حتى انقضت عدتها، فقد تبين أن الطلاق لم يصادفها؛ [فإنها] (4) بانت بإسلام الزوج، ولو أسلمت في العدة، لحقها الطلاق، وهذا مما تردد الأئمة فيه، فذهب الأكثرون إلى وقوع الطلاق، وهو الذي لا يسوغ غيره؛ فإن الطلاق يقبل التعليق بالغرر، ومنتهى ما يحذر في الوقف [تقدير] (5) التعليق، والنكاح وما في معناه من العقود لا يقبل التعليق، فلم ينعقد على تقديره، والطلاق إذا كان يقبل صريح التعليق، فيقبل تقديره على حكم الوقف، ومن أصحابنا من أجرى في الطلاق حيث ذكرنا قولَ الوقف.
__________
(1) في الأصل: ثابتة.
(2) القطع: أي القطع بإفساد نكاح الأخت الثانية.
(3) في الأصل: يطلقها.
(4) في الأصل: في أنها.
(5) في الأصل: تقديره.

(12/359)


وعلى هذا النحو اختلف الأصحاب فيه إذا أعتق الرجل عبداً لأبيه، ثم بان أنه كان مِلْكَ الابن بالميراث؛ فالذي ذهب إليه المحققون: الحكم بنفوذ العتق قطعاً، ومنهم من رأى تخريج ذلك على قول الوقف، وقد أشرت إلى هذا الاختلاف من طلاق المتخلفة.
والذي أراه إبطال مذهب من يصير إلى تخريج خلاف في الطلاق لما ذكرناه الآن.
والفقيه من [يميز] (1) عثرات الأئمة عما يعد من أصل المذهب.
8172 - ومما يتعلق بمضمون الفصل أن المرأة لو أسلمت وتخلف الزوج، ونكح أختها في الشرك، وكانوا يرون نكاح الأخت على الأخت، فلو جرى ذلك في الشرك وقد أسلمت الأخت التي كانت زوجته قديماً، ثم أسلم الزوج بعد ما تزوج الأخت، فقد قال الأئمة: نجعل ما جرى بمثابة ما لو نكح في الشرك أختين، ثم أسلم عليهما وأسلمتا، فإنا نخيره بينهما، وهذا مفروض إذا أسلمت الأخت [التي] (2) تزوجها حديثاً، فالحكم أن يتخير. فإن اختار القديمة، تبين اندفاع الجديدة بعد الحكم بثبوت نكاحها، على الرأي الظاهر في ثبوت أنكحة الشرك، وإن اختار الجديدة، اندفع نكاح القديمة، هذا ما ذكره الأصحاب.
وفي ذلك أدنى مراجعة؛ فإنه لو كان نكح في الشرك أختين ثم أسلم وأسلمتا، فاختار إحداهما، فقد استمر النكاح عليهما في الشرك، ثم اتصل النكاح فيهما بالإسلام، وفي هذه المسألة جرى نكاح إحداهما بعد إسلام الأخرى، ولكن لا يختلف الحكم بهذا الاختلاف؛ فإن اندفاع نكاح إحدى الأختين إنما يحصل ويتبين عند الاجتماع في الإسلام، فإذا أسلم في العدة وهما [مسلمتان] (3)، جرى الأمر في اختيار إحداهما على القياس المعلوم. فإن اختار الجديدة، بان اندفاع نكاح القديمة من وقت إسلامها، فإن اختار القديمة، بان اندفاع نكاح الحديثة، إما من وقت إسلامهما إن أسلما معاً، أو من وقت إسلام من تقدم بالإسلام منهما إن ترتبا في
__________
(1) في الأصل: يحسن.
(2) في الأصل: الذي.
(3) في الأصل: مسلمان.

(12/360)


الإسلام؛ وهذا خارج عن الأصول الممهدة؛ فإنهما إن أسلما معاً، فلا اختلاف بينهما، وسبيل اندفاع الجديدة بدفع الإسلام نكاحها عند اجتماع الأختين في الإسلام، فيتأرخ اندفاع نكاحها بوقت الاجتماع في الإسلام لا بوقت الاختيار؛ فإن الاختيار بيان وليس [بقطع] (1).
وإن أسلم الزوج مثلاً أولاً ثم أسلمت الجديدة من بعد، [فاختار] (2) القديمة، فهو كما لو نكح أختين في الشرك فأسلم الزوج وأسلمت واحدة فاختارهما، فنكاح المتخلفة يتأرخ زواله بوقت اختلاف الدين لا محالة.
وقد نجز مقصود نكاح المشركات أصلاً وتفريعاً، ولم يبق منه إلا الكلام في المهر، وما يفرض من اختلافٍ بين الزوجين في التقدم والتأخر، وادعاء الاجتماع في الإسلام على ما تقتضيه أغراض المختلفين، ونحن نعقد في كل غرض من هذه الأغراض فصلاً.
فصل
قال: "ولو أسلمت قبله ثم أسلم في العدة ... إلى آخره" (3).
8173 - إذا أسلم أحد الزوجين بعد المسيس قبل الثاني، فلا يخلو إما أن تسلم هي أو يسلم هو، فإن أسلمت هي أولاً، وتخلف الزوج، نُظر: فإن جمعها الإسلام قبل انقضاء العدة، استحقت النفقة لما مضى من الزمان بعد إسلامها. وإن أصر الزوج على تخلفه حتى انقضت العدة، فقد تبيَّنا انبتات النكاح بينهما، وهل تستحق النفقة لما مضى، يعني لأمد العدة؟ قال الأئمة: الصحيح أنها تستحق، لأنها بالإسلام أدت فرضاً عليها، والنفقة لا تسقط بأداء فرض.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً آخر: أنها لا تستحق النفقة من وقت اختلاف الدين،
__________
(1) في الأصل: بقطيع.
(2) في الأصل: فاختيار.
(3) ر. المختصر: 3/ 291.

(12/361)


وعلل بأن قال: هي التي (1) أحدثت سبباً منعت (2) به الاستمتاع، ثم تمادى الأمر إلى تبين الانبتات. هذا ما ذكره المعتبرون.
وذكر بعض الأصحاب فيه -إذا أسلمت أولاً ثم الزوج في العدة- وجهاً أنها لا تستحق النفقة لما مضى في زمان الاختلاف، وإن استقر النكاح بينهما في الاجتماع في الإسلام؛ لأنها بإسلامها -وإن أحسنت- تسببت إلى منع نفسها من الزوج وسد طريق الاستمتاع.
فهذا نقل ما قيل.
8174 - والذي أراه: أنها إذا أسلمت، وتخلف الزوج إلى انقضاء العدة، فإيجاب النفقة لمدة العدة بعيد عن القياس، وإن صحح الأصحاب إيجابها وعدّوا الوجه [الآخر] (3) ضعيفاً (4)؛ وذلك أنا نتبين أنها كانت بائنة، والبائنة لا تستحق النفقة إذا كانت حائلاً. وهذا لا ينقدح عنه جواب القاضي، [بأن] (5) الخلاف في النفقة ينبني على تردد الأصحاب في أن سبيل الجارية في عدة اختلاف الدين سبيل الرجعيات أو سبيل البائنات، وهذا مما ظهر فيه اختلاف الأصحاب: فمنهم من قال: هي كالرجعيات؛ من جهة أن الزوج يتمكن من إثبات النكاح بنفسه بأن يسلم، وتمكُّنه من ذلك بمثابة تمكُّن الزوج من رجعة المطلقة الرجعية. ومن أصحابنا من قال: المرأة بمثابة البائنة.
وهذا التردد غير صادر عن ثبت [وتحقُّقٍ؛ من] (6) جهة أن الكلام مفروض فيه إذا انقضت العدة من غير اجتماع في الإسلام، وإذا جرى الأمر كذلك؛ فالتردد في البينونة
__________
(1) في الأصل: الذي.
(2) في الأصل: مبعث.
(3) في الأصل: للآخذ.
(4) هكذا يصرح الإمام بمخالفة الأصحاب، والمختار في المذهب قول الأصحاب، وسماه النووي "الصحيح" (الروضة: 7/ 172) أما الرافعي، فقد قال: إنه المذهب (ر. الشرح الكبير: 8/ 127).
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: وتحققوه عن. وقد صدقتنا (صفوة المذهب).

(12/362)


غير معقول، والدليل عليه أنه لو طلقها الزوج وقد أسلم وهي المتخلفة، فالطلاق لا يلحقها إذا أصرت، والطلاق يلحق الرجعية، فلا متعلق لمن يقول: عدتها بمثابة عدة الرجعية، إلا ما أشرنا إليه من تمكن الزوج من إثبات النكاح بالإسلام، وهذا لا حاصل له؛ فإن الإسلام ليس تصرفاً في النكاح حتى يُستشهد به على صفة العدة، وإنما حالٌ يجري، ثم يُبتنى عليه حكمٌ في النكاح، وهذا بمثابة قول الفقهاء: المرأة لا تقدر على رفع النكاح من غير ضرار مخصوص تدفعه بالفسخ، ونتصور منها أن ترتد ولا يكون هذا تمكناً منها من فسخ النكاح.
ثم الذي يقتضيه التوجيه الذي ذكره الأصحاب: الفرق بين أن تكون هي المتخلفة وبين أن يكون هو المتخلف، فإنَّ الزوج إذا تخلف وسبقت بالإسلام، فهو متمكن من إثبات النكاح بالإسلام، فهذا يضاهي الرجعة، والزوج المتخلف بمثابة المطلِّق المرتجع من حيث يتمكن من الإسلام تمكن الزوج من الرجعة، فإذا كانت هي المتخلفة والزوج مسلم؛ فليس يتعلق إثبات النكاح باختيار الزوج؛ فإن الأمر معلق بإسلامها وتخلفها، وهذا يوضح أن التعويل على الإسلام في المعنى الذي ذكرناه غير مستقيم؛ فإن البائنة والرجعية لا اختيار لهما في الاستبداد بالرجوع إلى النكاح، والمتخلفة متمكنة من الإسلام، وهو سبب ثبات النكاح.
ولو جرى في مدة العدة، فالذي لا يتجه (1) عندنا غيره: أن العدة إذا انقضت في تخلف الزوج، فلا نفقة لها، وذكر الأئمة أن الأصح وجوب النفقة، وعليه تدل النصوص، وهذا إذا سبقت بالإسلام وتخلف الزوج ثم أسلم في العدة أو أصر.
8175 - فأما إذا أسلم الزوج وتخلفت المرأة؛ فالذي ذكره الأئمة: أنا ننظر: فإن
__________
(1) هذا الذي لا يتجه عند الإمام غيره، مخالف لما عليه أئمة المذهب، وتدل عليه النصوص، كما قال الإمام نفسه. وعبارة النووي: "وإن أصر حتى انقضت العدة، استحقت نفقة مدة العدة على الأصح عند الجمهور، وهو المنصوص في (المختصر) ". ا. هـ (ر. الروضة: 7/ 172) وعبارة المختصر: "ولو أسلمت قبله ثم أسلم في العدة أو لم يسلم حتى انقضت العدة، فلها نفقة العدة في الوجهين جميعاً". ا. هـ. (ر. المختصر: 3/ 291) أما الرافعي، فقد حكى الوجهين، ولم يرجح بينهما، (ر. الشرح الكبير: 7/ 127).

(12/363)


لم يجمعهما الإسلام قبل انقضاء العدة، فلا نفقة لها لما مضى؛ فإنها المتسببة في تخلفها، فكانت كالناشزة على زوجها، انضم إلى ذلك أنا تبيّنا حصول البينونة مستندة إلى وقت اختلاف الدين.
وإن تخلفت وأسلم الزوج، ثم إنها أسلمت في العدة واستمر النكاح، فهل تستحق النفقة لمدة تخلفها؟ المنصوص عليه في الجديد: أنه لا نفقة لها لتلك المدة، لأنها بالتخلف ممتنعة عن زوجها متسببة بامتناعها فكانت كالناشزة، ونص في القديم على أن لها النفقة لما مضى من الزمان إذا أسلمت في العدة؛ لأن النكاح استقر آخراً، وهي لم تُحدث أمراً، وإنما الزوج هو الذي أحدث سبب امتناع الاستمتاع، وإذا هي أسلمت فلا، يبعد أن نحمل [تخلّفها] (1) على التفكر في قبول الدين.
[ولا] (2) خلاف أن الزوج إذا أسلم وتخلفت، وكان ذلك قبل المسيس يشطر المهر، وهذا دال على إحالة الفراق على إسلام الزوج، فلا يبعد إحالة امتناع الاستمتاع على إسلامه، وناصرُ القول الجديد ينفصل عن المهر، ويقول: المهر في مقابلة العقد، وقد مضى على الصحة، وتعلقت الفرقة بسبب صدر عن اختيار الزوج، واستقرار النفقة في مقابلة التمكين، وهي بتخلفها مانعة من التمكين، فكانت كما لو سافر الزوج، فامتنعت من الخروج معه.
هذا تفصيل القول في النفقة.
8176 - ثم الذي نراه أن نذكر ما يتعلق بالنفقة من اختلاف الزوجين، ثم نذكر على إثر فصل المهر ما يتعلق بالمهر من اختلافهما، فنقول - هاهنا تفريعاً على الجديد في الصورة الجديدة: إذا أسلم الزوج أولاً وتخلفت المرأة، ثم أسلمت في العدة، والتفريع على أنها لا تستحق نفقة زمان التخلف، فإذا قال الزوج: أسلمتِ بعد [إسلامي] (3) بخمسين يوماً، وقالت المرأة: بل أسلمتُ بعدك بثلاثين يوماً، فالقول قول الزوج مع يمينه؛ لأن الأصل بقاؤها على الكفر، ودوام سقوط النفقة، وكانت
__________
(1) في الأصل: تحليفها.
(2) في الأصل: فلا.
(3) في الأصل: إسلامهن.

(12/364)


كما لو أقرت بالنشوز، ثم ادعت أنها عادت إلى الطاعة منذ شهر، وقال الزوج: بل منذ عشرة أيام، فالقول قول الزوج؛ لأن الأصل بقاء النشوز.
ولو اختلف الزوجان في أصل السبق، فقال الزوج: أسلمت أنا قبل إسلامك، فسقطت نفقتُكِ بالتخلف، وقالت المرأة: لا بل أنا أسلمت قبلك، فالقول قولها؛ لأن الأصل وجوب النفقة وكفر الزوج، فصار هذا كما لو اختلف الزوجان في أصل النشوز، فادعى الزوج نشوز [امرأته] (1)، وأنكرت المرأة، فالقول قولها.
وحكى العراقيون وجهاً آخر وهو أنَّ القول قول الزوج؛ فإنه ادعى إصرارها على الشرك، والأصل بقاء الشرك، وهذا وجه بعيد، لم يعرفه المراوزة.
وقد نجز الكلام في النفقة، وما ذكرناه منفصل عن النفقة التي تكلمنا فيها إذا أسلمن وأسلم -وعددهن زائد على العدد الشرعي- وامتنع الزوج من الاختيار، فتلك النفقة وجبت بسبب حبس الزوج إياهن مع قدرته على إزالة اللبس، فإذا ضممنا تلك النفقة إلى ما ذكرناه في هذا الفصل، انتظم من المجموع تمام القول في النفقة.
فصل
قال: "ولو أسلم قبل الدخول، فلها نصف المهر ... إلى آخره" (2).
8177 - إذا أسلم أحد الزوجين فلا يخلو: إما أن يكون قبل الدخول، وإما أن يكون بعده، فإن كان بعد الدخول، فلها المهر المسمى إنْ كانت التسمية صحيحة؛ فإن النكاح قد تأبد وتقرر بالمسيس، وكذلك لو ارتدت أو أرضعت رضاعاً يوجب فساد العقد بعد الدخول؛ فالمهر المسمى باقٍ مستقر، [وسنعقد] (3) في باب الغرور -إن شاء الله عز وجل- وعيوب النكاح فصلاً جامعاً فيما يتضمن سقوط المسمى قبل
__________
(1) في الأصل: امرأة.
(2) ر. المختصر: 3/ 291.
(3) عبارة الأصل مضطربة، وفيها سقط هكذا: "فالمهر المسمى باقٍ مستقر إن شاء الله عز وجل في باب الغرور إن شاء الله عز وجل، وعيوب النكاح فصلاً ... إلخ.
والصيغة المثبتة محاولة منا لإقامة العبارة بأقل تغيير ممكن. والله أعلم.

(12/365)


المسيس أو يوجب تشطره، وفي الحكم بعد المسيس، والقدرُ الذي ننجزه هاهنا أن النكاح ارتفع باختلاف الدين والإصرار بعد المسيس، فالمسمى الصحيح ثابت بكماله.
وإن كان اختلاف الدين قبل المسيس، نُظر: فإن أسلمت المرأة، سقط مهرها وإن أحسنت بإسلامها؛ لأن الفسخ ترتب على سبب من جهتها.
ولو أسلم الزوج قبل المسيس، فيتشطر المهر؛ لأن الفراق متعلق باختيار الزوج، وليس هذا كما لو فسخ الزوج النكاح بعيب المرأة، فإن جميع المسمى يسقط وإن كان الفسخ صادراً من جهته.
ولو صدر الفسخ من جهتها بعيب فيه، سقط المسمى أيضاًً، فلم نفرق بين أن تكون هي الفاسخة وبين أن يكون هو الفاسخ، وفي الإسلام [فرقنا] (1) بين إسلامها وإسلامه قبل المسيس، وكذلك نفرق بين ردته وردتها، فيسقط المهر إذا ارتدت قبل المسيس، ونوجب تشطره إذا ارتد الزوج قبل المسيس. فهذا ما أردناه الآن.
والفرق على الجملة بين الفسخ بالعيب وبين ما نحن فيه، أن الزوج إذا فسخ، فسبب فسخه أنه استحق سلامتها عن [العيوب] (2)، فإذا صادفها معيبة، انعكس استحقاق الفسخ على أصل العقد، واختلافُ الدين طارىء على العقد، لا استناد له إلى ما تقدم.
وما ذكرناه من ثبوت المسمى فيه إذا كانت التسمية صحيحة، فلو ذكر في الشرك صداقاً فاسداً؛ فالرجوع إلى مهر المثل بكماله بعد المسيس، وإن كان قبل المسيس، فالرجوع إلى نصف مهر المثل، فهذا بيان حكم المهر.
8178 - ثم نذكر الآن -وفاءً بالموعود- في اختلاف الزوجين، وإذا اختلفا في تاريخ الإسلام، فلا يخلو إما أن يكون ذلك قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول، ففيه أربع مسائل: إحداها - أن يقول الزوج للمرأة: أسلمتِ قبلي، ويسقط
__________
(1) في الأصل: فرقاً.
(2) في الأصل: القبول.

(12/366)


مهرك، وقالت المرأة: بل أنت أسلمت قبلي فلي نصف المهر، قال الأصحاب: القول قولها، وعليه نصف المهر؛ لأن الأصل بقاء مهرها، والزوج يدعي سقوطه.
والمسألة الثانية - أن يقول الزوج: أسلمتِ قبلي وسقط مهرك، وتقول المرأة: لا أدري، أسلمتُ قبلك أو بعدك، فلا يقضى لها بشيء في الحال؛ لأنها ليست تدعي شيئاًً عليه.
والمسألة الثالثة - أن يقول الزوج: أسلمنا معاً، وغرضه بهذا استمرار النكاح بينهما، وقالت المرأة: أسلم أحدنا قبل صاحبه، فلا نكاح بيننا، ففي المسألة قولان: أحدهما - إن القول قوله؛ لأن الأصل بقاء النكاح، والمرأة تدعي انقطاعه، والقول الثاني - إن القول قولها؛ فإن ما ادعاه الزوج من وقوع الإسلامَيْن معاً بعيد في الوقوع وفاقاً، فلم يُصدَّق في أمر يبعد وقوعه.
وقد قال الأئمة: القولان في هذه المسألة خارجان على اختلاف الأصحاب في حد المدّعي والمدّعى عليه، وفيه خلاف سيأتي مبيناً في كتاب الدعاوى، إن شاء الله عز وجل، فمن أصحابنا من قال: المدعى عليه من ينكر أمراً ظاهراً جلياً، والمدعي من ينكر أمراً خفياً، فعلى هذا القول قولها؛ لأن الظاهر معها.
ومن أصحابنا من قال: المدعى عليه من إذا سكت لم يُترك وسكوته، فعلى هذا، القول قول الزوج.
والمسألة الرابعة - أن يقول الزوج: أسلمتِ قبل إسلامي، فلا مهر لك، وهي تقول: لا، بل أسلمنا معاً ومهري بحاله، فنقول: النكاح بقول الزوج مفسوخ لا محالة؛ فانه مؤاخذ بموجب نفسه فيما يتعلق بزوال النكاح؛ فإنه المستحق للاستمتاع، وفي وجوب المهر لها جوابان: أحدهما - إنها تستحق نصف المهر؛ لأن الأصل بقاء مهرها، والزوج يدعي سقوطه. والقول الثاني - إن القول قول الزوج؛ لأن المرأة ادعت أمراً بعيداً في العادة نادر الوقوع، وهو وقوع الإسلامين معاً. وقد ذكرنا أنها لو ادعت تقدم إسلامه لينتصف مهرها، والزوج ادعى تقدم إسلامها ليسقط مهرها، فالقول قولها، وإنما اختلف القول فيه إذا ادعت وقوع الإسلامين معاً بسبب

(12/367)


ادعائها اجتماعَ الإسلامين، ووقوعَ هذه الحالة النادرة في العادة كما ذكرنا، وكل ذلك والنزاع بينهما قبل المسيس.
ومما أجريناه في أثناء الكلام وقوع الإسلامين معاً، ولم نعن بذلك أن يبتديا كلمتي الإسلام معاً، وإنما عنينا وقوع انتهاء الكلمة منهما معاً، هذا هو الاجتماع. ولا يضر أن يتقدم أحدهما بصدر الكلمة إذا كان الفراغ من آخر حرف منهما معاً، وسنذكر أصل ذلك في مسائل الطلاق، إن شاء الله عز وجل.
8179 - فأما إذا كان الاختلاف بعد الدخول، فلا يظهر أثره في المهر، فإن المهر واجب بكماله بعد الدخول، وإنما يظهر أثر الاختلاف في النكاح وبقائه وارتفاعه: فإذا قال الزوج: أسلمتُ قبل انقضاء عدتك، فالنكاح قائم بيننا، وقالت المرأة: لا بل أسلمتَ بعد انقضاء العدة، فالنكاح منفسخ، فقد ذكر المراوزة: فيه مسائل: إحداها - أن يتفقا على وقت انقضاء العدة، ويختلفا في وقت الإسلام، والأخرى - نقيضها، والمسألة الثالثة - ألا يتعرضا لتاريخ الإسلام ولا لتاريخ انقضاء العدة، بل يُطلِقا، وهذا الاختلاف في هذه المسائل الثلاث يجري في دعوى الرجعة وانقضاء العدة جريانه هاهنا، وقد اضطربت الطرق في ذلك اضطراباً بيّناً، فرأيت تأخير ذلك إلى كتاب الرجعة، وسأستقصي -إن شاء الله عز وجل- فيه الطرق، وأبين المختار الحق ثَمَّ.
وقد انتجز الباب والحمد لله رب العالمين.
ثم عقد الشافعي باباً مشتملاً على مناظرة له مع محمد في إمساك الأواخر (1)، وليس من شرط هذا المجموع ذكره.
...
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 292، والمناظرة سبق وأن ذكر الإمام طرفاً منها في أول الباب.

(12/368)


باب
ارتداد أحد الزوجين، أو هما إلى الشرك
8180 - المرتد لا ينكح أبداً مسلمة ولا مرتدة ولا كتابية، والمرتدة لا ينكحها أحد: لا مسلم ولا كافر؛ لما فيها من حرمة الإسلام، ولا ينكحها مرتد، هذا هو القول في امتناع ابتداء النكاح مع الردة.
8181 - فأما إذا طرأت الردة على النكاح، فلا يخلو: إما أن يكون قبل الدخول أو بعده، فإن كان قبل الدخول، تنجزت الفرقة من غير توقف، ولا فرق بين أن ترتد، أو يرتد الزوج، أو يرتدا معاً، فعلى أي وجه فُرض طريان الردة، فالنكاح ينفسخ على الفور، ثم العود إلى الإسلام لا يرد النكاح، وليس كملك اليمين؛ فإنا وإن حكمنا بأن ملك المرتد يزول عن ماله، فإذا عاد إلى الإسلام عاد ملكه، وهذا لا يتصور في النكاح، وخالف أبو حنيفة (1) فيه، إذا ارتدا معاً (2)، وحكم بأن النكاح لا ينفسخ إذا ارتدا معاً.
فأما إذا طرأت الردة بعد الدخول، فلا فرق بين أن ترتد المرأة أو يرتد الرجل، وبين أن يرتدا جميعاً، فالحكم لا يختلف عندنا فيما يتعلق ببقاء النكاح وارتفاعه.
فنقول في هذه الصور الثلاث: إذا جرت الردة، ثم فرض الاستمرار عليها إلى انقضاء العدة، فنتبين أن النكاح ارتفع وانفسخ من وقت الردة، وما جرى بعد الارتداد اعتداد محسوب؛ وإن فرض زوال الردة الطارئة قبل انقضاء مدة العدة، فالنكاح قائم بين الزوجين.
هذا مذهب الشافعي، فلو ارتدت المرأة مثلاً والزوج مسلم وهي مدخول بها، فلو
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 181، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 360 مسألة رقم: 860.
(2) في الأصل أُقحمت كلمة "فقال" هكذا: "وخالف أبو حنيفة فيه، فقال: إذا ارتدا معا، وحكم ... إلخ".

(12/369)


وطئها الزوج في أثناء العدة، فإن اتفق زوال الردة قبل انقضاء مدة العدة، فلا مهر على الزوج بسبب ما جرى؛ فإنا تبينا آخراً أن وطْأه صادف زوجته لا يُلزمه مهراً جديداً.
ولو جرى الوطء، ثم أصرّت المرأة على الردة حتى انقضت العدة، وقد تبينا أن الوطء جرى مع بائنة، فعلى الزوج مهر المثل. هذا مقتضى النص في الردة.
ونص الشافعي على أن الزوج المطلق إذا وطىء زوجته الرجعية في أثناء العدة، فإنه يلتزم مهرها وإن راجعها بعد الوطء، وهذا يخالف ما حكيناه عن النص فيه إذا وطىء الزوجُ المرتدةَ، ثم عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة.
والكلام في هذا الفصل يأتى مستقصى في كتاب الرجعة، وفيه نستقصي حكم ثبوت المهر في الرجعية -إن شاء الله عز وجل- إذا وطئها الزوج ثم راجعها أو لم يراجعها وتركها حتى انسرحت بانقضاء العدة، فإذا نحن ذكرنا ثَمّ حكمَ المهر في الرجعة، فنذكر بعد نجاز الغرض منه كلام الأصحاب فيه إذا ارتدت المرأة ووطئها الزوج ثم عادت إلى الإسلام، وإنما رأيت تأخير ذلك لشدة تعلقه بأحكام الرجعية.
8182 - ونحن نذكر الآن حكمَ المهر المسمى في النكاح وأنه متى يسقط؟ وكيف السبيل فيه؟ إن شاء الله عز وجل.
فنقول: إذا ارتد أحد الزوجين أو ارتدا جميعاً، نُظر: فإن كان ذلك [بعد] (1) النكاح [والدخول] (2)، فالمسمى ثابت بكماله، كما قدمنا ذكره في نكاح المشركات.
وإن لم تكن المرأة مدخولاً بها، نظر: فإن كانت هي التي ارتدت، سقط المهر بكماله، [كما] (3) إذا سبقت إلى الإسلام وكانت مشركة تحت مشرك، فالحكم بهذا أولى إذا ارتدت عن الإسلام.
8183 - وإن ارتد الزوج قبل المسيس، تشطر الصداق، لم يختلف أصحابنا فيه، ونزل ذلك منزلة الطلاق قبل المسيس، وذلك القول فيه إذا أسلم الزوج المشرك
__________
(1) في الأصل: "بُعيد". ولا معنى للتصغير هنا.
(2) في الأصل: "بالدخول".
(3) زيادة اقتضاها السياق.

(12/370)


وتخلفت المشركة الوثنية، وذلك قبل المسيس، فالحكم تشطر الصداق.
ولو ارتد الزوجان معاً قبل المسيس -على ما أوضحنا تصوير الوقوع معاً-، فلا شك في ارتفاع النكاح، واختلف أئمتنا في المهر: فمنهم من قال: يجب لها نصف المهر، وقد وجد سبب الفرقة من جهة الزوج، فيحال الحكم عليه ويضاف وقوع الفراق إلى ما وجد منه، وإن أتت المرأة بمثله، كما لو خالعها، فإنه يجب لها نصف المهر، وإن كانت المرأة قد شاركت زوجها فيما وقعت به الفرقة.
والوجه الثاني - لا يجب لها نصف المهر؛ لأن المرأة أحدثت ما يستقل باقتضاء الفرقة لو انفردت، فيسقط مهرها وإن [أتى] (1) الزوج بمثله، وليس كالاختلاع؛ فإن المرأة لا تستقل به والزوج في الحقيقة هو المطلق، ولم يوجد منها مشاركة في الطلاق، وإنما شاركت في قبول عوض الطلاق، [فظهر] (2) الفرق.
والاختلاف في ارتدادهما يقرب من الاختلاف الذي حكيناه فيه إذا اشترى الزوج زوجته، فهل نقول يسقط المهر إذا جرى ذلك قبل المسيس، أو يجب نصف المهر للمَوْلى؟ فيه تردد؛ لأن البيع يتعلق على نسق واحد بالبائع والمشتري جميعاً، وليس كالخلع، وكأن [البيع] (3) شبيه بارتداد الزوجين؛ من حيث إن أحدهما لا يختص بكونه مفارقاً بخلاف الخلع؛ فإن المطلق هو الزوج.
8184 - ومما يتعلق بقاعدة المذهب، أن النكاح مهما (4) ارتفع قبل المسيس أو بعده بردة أحد الزوجين، أو بردتهما جميعاً، فسبيل ارتفاعه عندنا الانفساخ لا غير، وأبو حنيفة (5)
__________
(1) في الأصل: إلى.
(2) في الأصل: وظهر.
(3) في الأصل: البائع.
(4) "مهما": بمعنى (إذا).
(5) عبّر إمام الحرمين فيما حكاه عن أبي حنيفة بلفظ (قد) التي توحي بالتقليل، ولم نصل إلى هذا عن أبي حنيفة، بل ما وجدناه في كتب الأحناف أن أبا حنيفة يجعل ارتفاع النكاح بالرّدة (من الزوج والزوجة) فسخاً، ولكن الذي فرّق فيه أبو حنيفة بين الزوج والزوجة في الحكم هو إباء الزوج الإسلام فقد جعله طلاقاً، أما إباء الزوجة فجعله فسخاً. وأما محمد فقد سوى بين الردة والإباء فجعلهما طلاقاً، وأبو يوسف جعلهما فسخاً، ولم يفرّقا في الحكم بين الزوج والزوجة =

(12/371)


قد يجعل [ارتفاع] (1) النكاح بسبب ردة الزوج طلاقاً.
8184/م- ومما يتعين إجراؤه في قاعدة المذهب سؤالاً وجواباً، أن المرأة إذا ارتدت فهي بردتها متسببة إلى فسخ النكاح وتفويته على الزوج، فلو قال قائل: هلا غرمتموها قيمة البضع لزوجها لانتسابها إلى تفويت البضع عليه، وهلا نزلتموها منزلة الأجنبية تفسد النكاح بالرضاع، أو منزلة الشهود إذا شهدوا على الطلاق، وبعد القضاء بشهادتهم رجعوا عن الشهادة؛ فإنه يجب الغرم على الشهود، وعلى الأجنبية المرضعة، على تفاصيلَ ستأتي مشروحة -إن شاء الله عز وجل- في مواضعها.
قلنا: المرأة لا تغرم لزوجها شيئاًَ إذا هي ارتدت فانتسبت إلى فسخ النكاح؛ لأنها عاقدة، ولو غرمت، لغرمت بالعقد، وسبيل الغرامة بالعقد أن يسقط العوض المستحق، فإن أسقطنا جميع المهر -وقد جرى وطء- لأدى ذلك إلى تعرية الوطء عن العوض، وهذا لا سبيل إليه، وإن أسقطنا بعضاً، لم نجد إلى درك ما يصيب الوطاة الواحدة سبيلاً؛ فإن التوزيع إنما يمكن إذا كان ما عليه التوزيع مضبوطاً متناهياً، وهذا -على إشكاله- قد أوردنا الممكن فيه في مجموعاتنا في الخلاف (2).
ومما يتعلق بتحقيق القول في ذلك، أن الشافعي نص على أن النكاح إذا فسخ بعيب بعد المسيس فيسقط المسمى بكماله، وللمرأة مهر المثل؛ لأنها قد وطئت، وذكر الأصحاب قولاً آخر أن المسمى لا يسقط بعد تقرره بالدخول، وسيأتي شرح ذلك -إن شاء الله عز وجل- في باب العيوب والغرور.
8185 - وأنا أقول: إن كانت الردة من الزوج فالمسمى بعد الدخول لا يسقط قولاً واحداً؛ من جهة أن ما يشطر المسمى لو جرى قبل المسيس، فإذا جرى بعده تقرر المسمى كالطلاق، فأما المرأة إذا ارتدت، فمعلوم أن ردتها قبل المسيس تسقط المهر
__________
= (ر. المبسوط: 5/ 46، 47، فتح القدير: 3/ 296، حاشية ابن عابدين: 2/ 392).
(1) في الأصل: ارتفاعه.
(2) مجموعاتنا في الخلاف: أي كتبه التي ألفها في الخلاف، وهي: الدّرة المضيّة فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية، والأساليب، والعمد، وغنية المسترشدين. ولم يصلنا منها إلا الدّرة المضية.

(12/372)


بكماله، وإن ارتدت بعد المسيس، ففي كلام الأئمة تردد، وهو محل الاحتمال، فمنهم من يلحق الانفساخ الحاصل بردتها بما إذا فسخ النكاح بعيب؛ حتى يخرَّج قولٌ في سقوط المسمى والرجوع إلى مهر المثل، ومنهم من قطع بأنَّ المسمى لا يسقط قولاً واحداً، وهو ظاهر النص، وإليه ميل الجماهير؛ فإن ردته إذا لم تسقط المسمى وإن كان النكاح يرتفع بها انفساخاً؛ فيجب ألا يسقط أيضاًً بردتها، والفسخ بسبب العيب لما تضمن سقوط المسمى بعد الدخول -على القول المنصوص- استوى فيه الجانبان، وهذا - وإن كان ظاهر المذهب، فالقياس إجراء القول المنصوص إذا كانت الردة صادرة من جهتها، ولا يمتنع الفرق بين الجانبين كما فرقنا بينهما في الردة قبل المسيس.
8186 - ثم ذكر الشافعي بعد ذلك التحول من ملة إلى ملة (1)، وقد قدمنا في ذلك قولاً بالغاً.
وعقد باباً في طلاق الشرك (2)، وقد استقصينا القول في أنكحتهم، وذكرنا أن المذهب الذي عليه التعويل ينفذ طلاقهم في الشرك، وحكينا في ذلك خلافاً بعيداً، وليس ذلك مما يعتد به من المذهب، ولم أجد في مضمون الباب مزيداً، فلم أعقده، واقتصرت على ما تقدم.
...
__________
(1) ر. المختصر: 3/ 292.
(2) السابق نفسه.

(12/373)


باب عقد نكاح أهل الذمة
8187 - قد ذكرنا في نكاح المشركات أن أنكحتهم التي عقدوها في الشرك على وفق اعتقادهم منفّذةٌ في الإسلام إذا لم يتصل بالإسلام مفسد، وقد تفصّل ذلك على أبلغ وجه في البيان، ومقصود الباب الكلام في مهورهم إذا اتصلت العقود بالإسلام، فنذكر ذلك، ونذكر معه حكم عقودهم في الأموال وتعاملهم على الخمور والخنازير، فنقول:
إذا أصدق المشرك زوجته خمراً أو خنزيراً، ثم اتصل النكاح بالإسلام، فالمذهب الذي عليه الجريان: أن المرأة إن قبضت صداقها الفاسد في الشرك، ثم فرض الإسلام بعد ذلك، فليس لها طلب المهر، ويجعل كما لو كان أصدقها الزوج مهراً صحيحاً وقبضته.
ولو أسلمت قبل قبض المهر، فلها طلب مهر مثلها في الإسلام؛ وذلك لأنها ما رضيت بالنكاح عارياً عن الصداق، ولما أسلمت وهي على استحقاق المهر ويستحيل أن تطلب الخمر، فلا مرجع إلاَّ إلى مهر المثل، وتنزل هذه الحالة منزلة ما لو نكح مسلم مسلمة على خمر، فالخمر لا تثبت، ولكن يثبت مهر المثل.
8188 - وذكر شيخي مسألتين غريبتين بعد تمهيد أصل المذهب وكنت أستبعدهما حتى رأيتهما لصاحب التقريب. فقد حكاهما عن نصوص الشافعي في سير الواقدي، إحدى الطريقين - أنها [إن] (1) لم تقبض الصداق في الشرك، وأسلمت، طلبت مهر المثل، كما ذكره الأصحاب، وإن قبضت الصداق الفاسد؛ ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها لا تطلب شيئاًً، وهو ما صار إليه جماهير الأصحاب؛ فإنها أسلمت (2)
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: فإنها ما أسلمت.

(12/374)


بعد انفصال الأمر وانتهاء النكاح إلى حالة لا يبقى لها فيه طَلِبة على موجب عقدها، وقد ذكرنا أن عقدهم متبع في تفاصيل الأنكحة وأحكامها، فصار انتهاء النكاح إلى هذه الحالة قبل الإسلام بمثابة ما لو جرى في الشرك عقد تفويض، ومعتقدهم [أن التفويض] (1) يعرّي العقد عن المهر ولا يتضمن وجوبه وإن اتصل بالمسيس (2). هذا أحد القولين، وهو الذي لم يعرف معظم الأصحاب غيره.
والقول الثاني - أن لها طلب المهر إذا اتصل النكاح بالإسلام؛ فإن القبض الجاري في الشرك فاسد، فوجوده كعدمه، وهذا يعتضد باقتضاء دوام النكاح للمهر. هذه طريقة واحدة.
والثانية - أنَّ القبض إذا جرى في الشرك، ثم اتصل النكاح بالإسلام فلا طلبة لها، وهذا هو الذي قطع به الجمهور.
وإن لم تقبض المهر الفاسد حتى أسلمت؛ ففي المسألة قولان: أحدهما -وهو ظاهر المذهب- أنها تطلب مهر مثلها، وقدمنا توجيه ذلك، والقول الثاني - أنه لا شيء لها؛ فإنها رضيت في الشرك بالخمر، وحكم رضاها ثابت عليها في الإسلام، وقد عسر عليها قبض الخمر، فسقطت طلبتها.
فهذا ما حكاه شيخي وأورده صاحب التقريب معزيّاً إلى النصوص، وليس للمتصرف في المذهب أن يلحق ما ذكرناه بالقانون، فالأصل الذي عليه التعويل ما سبق، وهو قطع القول بالفصل بين أن يجري قبض وبين ألا يجري، كما ذكرناه في صدر الفصل قبل حكاية المسألتين الغريبتين.
8189 - ومما يتصل بذلك أنهم إذا [ترابوا] (3) فباعوا درهماً بدرهمين، فإن تقابضوا
__________
(1) في الأصل: "أن لا تفويض" وهو مناقض للسياق. والتصويب من المحقق مستأنساً بعبارة الرافعي (ر. الشرح الكبير: 8/ 102).
(2) المعنى: أن الكافر لو نكح على صورة التفويض، بناء على اعتقادهم "أن المفوّضة لا مهر لها، دخل بها أو لم يدخل" فلو أسلم فلا مهر لها، وإن كان الإسلام قبل المسيس؛ لأنه قد سبق استحقاق وطء بلا مهر.
(3) في الأصل: "توانوا" بدون نقط. وهو تصحيف غليظ، والتصويب من المحقق ثم أيدتنا =

(12/375)


ثم أسلموا، أو ترافعوا إلينا ورضوا بحكمنا؛ فالذي أجرَوْه لا نتبعه بالنقض.
وإن أسلموا أو ترافعوا قبل القبض، فلا طلبة بينهما، والذي أجرياه من العقد يسقط، وتنقطع عهدته وآثاره.
فإن قيل: ما حكيتموه من الطريقين هل تجرونه في تعاملهم على الربا وفي شرائهم [الخمر و] (1) أثمانها؟ قلنا: ليس من الرأي التفريع على الضعيف الشاذ، وإن أردناه، فلا ينبغي أن يكون للطريقين جريان في تعاملهم على الخمور والخنازير والربويات، وذلك أن النكاح يبقى بعد الإسلام مستمراً مقتضياً دوام أحكامه، والمهر من أحكامه وحقوقه، وقد يطرأ في الإسلام على النكاح ثبوت مهر لم يقترن بالعقد وجوبه، ولذلك نوجب المهر للمفوِّضة بالمسيس، وإن فرعنا على أنها تستحق بالعقد مهراً ونثبت للمفوضة أيضاًً المطالبة بالفرض على تفصيل سيأتي موضحاً في بابه من كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
فهذا سبب جريان الطريقين على بعدهما.
فأما التعامل على الخمور والربويات إذا اتصل [بالقبض]، (2) وانفصل الأمر، فيبعد تتبعه في الإسلام، ومن اجترأ على تتبع أثمان الخمور بعد ما قبضت في الشرك، كان هاجماً على خرق الإجماع، وقد قال أمير المؤمنين عمر: "ولّوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها" (3).
8190 - ولو أتلف كافر على كافر خمراً، ثم غرم للمتلَف [عليه] (4) عوضها دراهم، ثم أسلم، لم يرجع بما بذله في الشرك عوضاً ولو أسلم قبل أن يغرم، فلا
__________
= عبارة الرافعي والنووي (ر. الشرح الكبير: 8/ 102 والروضة: 7/ 153).
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: إذا اتصل بالخمر لقبض.
(3) روى عبد الرزاق في مصنفه: "أنه بلغ عمر أن عماله يأخذون الخمر في الجزية، فناشدهم ثلاثاً، فقال بلال: إنهم ليفعلون ذلك. فقال: فلا تفعلوا، ولكن ولّوهم بيعها، فإن اليهود حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا أثمانها" (المصنف: 6/ 23 ح 9886، 10/ 369 ح 19396) ورواه البيهقي عن ابن عباس، بسياقة أخرى (ر. السنن الكبرى: 9/ 206).
(4) في الأصل: عليها.

(12/376)


شك أن المتلَف عليه لا يطالبه بشيء، سواء كان مُصراً على شركه، أو أسلم.
ولو أتلف الكافر على الكافر خمراً ثم ألزمه حاكمُهم قيمةَ الخمر، فبذلها محكوماً عليه قهراً، فلا يخلو إمَّا أن يبقيا على الشرك ويترافعا إلى حاكمنا، وإما أن يسلما، فإنْ ترافعا إلى حاكمنا وهما كافران؛ ففي المسألة قولان (1): أحدهما - أنا لا نتبع ما جرى من حكمهم [بالنقض] (2)، ولا نُلزم قابض قيمة الخمر ردها؛ جرياً على ما مهدناه من أن معاملاتهم إذا اتصلت بالقبض، [انفصلت] (3) عن تتبع [حاكم] (4) الإسلام، [ولا خلاف] (5) في أن المتلف لو بذل القيمة طوعاً، ثم أسلم [لا] (6) يرجع، وكذلك إذا ارتفع إلى مجلسنا على كفره؛ فإنه لا يجد مرجعاً. ومن عقدهم نفوذ حكم حاكمهم، كما أن من عقدهم جريان حكم بذل الثمن طوعاً على الصحة والاستحقاق.
والقول الثاني - إنا نكلف [المتلَف] (7) عليه رد القيمة؛ لأنا إنما لا نتعرض لهم فيما تقابضوه بالتراضي، وهذه القيمة مأخوذة من المتلِف بغير رضاه قهراً، فلا حكم له.
هذا قول ضعيف لا اتجاه له، ولكن حكاه الأئمة في الطرق، ولم يخل كتاب مبسوط عن حكايته عن أن بعض الأئمة ذكر قولين، وذكر صاحب التقريب وجهين (8).
__________
(1) وقيل وجهان (ر. الشرح الكبير: 8/ 102).
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: انفصل.
(4) في الأصل: حُكم.
(5) في الأصل: العبارة مضطربة ومتداخلة هكذا: خلافاً في أن المتلف لو بذل القيمة.
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: المحكوم عليه.
(8) لعل من المفيد هنا -إيضاحاً للمسألة- أن نخرج عما ألزمنا أنفسنا به من إيجازٍ في التعليقات، وعدم إثقال الكتاب بالنفول من المراجع المتاحة للجميع، فنورد هنا هذه المسألة بعبارة الرافعي في الشرح الكير، قال: "ولو ترابى كافران، فباع هذا درهماً من ذاك بدرهمين، أو أقرضه درهماً بدرهمين، ثم أسلما أو ترافعا إلينا قبله (أي قبل الإسلام)، فإن جرى التقابض من قبلُ، لم نتعرّض لما جرى، ولم يلزم الرد.
وإن كان قبل القبض ألغَيناه. وإن كان بعد قبض الدرهمين راجعنا المؤدي وسألناه: أقصد =

(12/377)


ولو جرى الإتلافُ والحكمُ وتغريمُ حاكمهم المتلِفَ القيمة - كما سبق تصويره، ثم أسلم المتلَف عليه، قطع المحققون بأنا لا نغرِّم المتلَف عليه في الإسلام ولا نلزمه رد القيمة التي قبضها في الشرك، وإسلامه يقطع عنه هذه التبعة بخلاف الرافع.
وطرد شيخي الخلاف في الإسلام والرافع جميعاً، وهذا منقاس؛ لأن التزامهم أحكامنا بالرفع أضعف من التزام الأحكام بالإسلام، فإذا كنا نلزمهم حكم الإسلام بسبب [الرفع] (1) والرضا بحكمنا، فلأنْ نُلزم المسلمَ حكمَ الإسلام أولى.
فصل
قال: "ولا تحل ذبيحة من وُلِدَ من وثني ونصرانية ... إلى آخره" (2).
8191 - الولد المتولد من بين من تحل ذبيحته ومناكحته ومن لا تحل ذبيحته ومناكحته، تفصيل المذهب فيه: أن أباه [إن] (3) كان مجوسياً أو وثنياً [فلا] (4) تحل ذبيحته ومناكحته نظراً إلى أبيه قولاً واحداً.
__________
= أداءه عن الربح أو عن رأس المال؟ وقد ذكرنا التفصيل فيه في أواخر كتاب الرهن.
وجميع ما ذكرناه إذا جرى القبض عن تراضٍ.
فأما إذا جرى القبض بإجبار قاضيهم في ترابيهم، وفي تسليم الصداق الفاسد وفي ثمن إذا باعوها، ثم أسلموا لم نوجب الرد، فالإسلام يجبّ ما قبله.
وإن ترافعوا إلينا وهم على كفرهم، فقولان، وقيل وجهان:
أحدهما - أنا نكلفهم الرد؛ لأن المؤدي كان مجبراً، والترافع لا يجب ما قبله.
وأصحهما - أن الحكم كما لو جرى القبض عن تراضٍ، وكما لو أسلموا.
وعن الشيخ أبي محمد طردُ الخلاف فيما إذا أسلموا، وقد جرى القبض بإجبار قاضيهم.
وقال الإمام: وهو منقاس، لأن الالتزام بالترافع أضعف من الالتزام بالإسلام، وإذا ألزمنا المترافعَيْن حكم الإسلام، فلأن نلزمه للمسلميَنْ، كان أولى" ا. هـ بنصه (ر. الشرح الكبير: 8/ 102) وانظر أيضاًً (الروضة: 7/ 153)، و (الوسيط: 5/ 137، 138).
(1) في الأصل: الرافع.
(2) ر. المختصر: 3/ 293.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: ولا.

(12/378)


ولو كان أبوه ممن تحل ذبيحته ومناكحته وكانت أمه مجوسية أو وثنية، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن مناكحة الولد مباح ومذكاه مستباح، نظراً إلى أبيه؛ فإنه إليه ينتسب وبه يعرف.
والقول الثاني -إن هذا الولد يلتحق بمن لا يناكح ومن لا تُستحل ذبيحته- تغليظاً عليه وتشديداً للحكم في حقه.
وعبّر بعض الأئمة عن هذين القولين بعبارة مرسلة تؤدي هذا الغرض المفصّل، فقال: في الولد المتولد من بين من تحل ذبيحته ومن لا تحل ذبيحته قولان: أحدهما - أن الاعتبار بأبيه فيه، والثاني - أنا نأخذ بالتغليظ ونحكم بتحريم الذبيحة والمناكحة إذا كان أحد أبويه ممن لا يناكح ولا تستباح ذبيحته، سواء كان أباً أو أماً، وهذا بعينه ما ذكرناه مفصلاً قبل.
8192 - وقد ذكر صاحب التلخيص جملاً من أحكام الأولاد رأيت معظمها مذكوراً مكرراً في الكتب، وأنا أذكر منها ما أراه مفيداً.
أما الإسلام، فيلحق الولد من كل واحد من أبويه لقوته واستعلائه؛ فإنه يعلو ولا يعلى (1)، هكذا قاله المصطفى، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم "الإسلام لا يشركه الشرك، والشرك يشركه الشرك" (2).
__________
(1) إشارة إلى الحديث الشريف: "الإسلام يعلو ولا يعلى" رواه الروياني، والدارقطني والبيهقي، والضياء المقدسي، وقد حسنه الألباني (ر. صحيح الجامع الصغير: 1/ 538 ح 2778، والإرواء: 5/ 106 ح 1268) وانظر أيضاًً (سنن الدارقطني، ح 395، والبيهقي 6/ 205 - والسياق له).
(2) حديث "الإسلام لا يشركه الشرك"، لم أجده حديثاً، وإنما هو من كلام إمامنا الشافعي، فيما قاله التاج السبكي في ترجمته للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، حيث قال: "تكلم الأستاذ الإسفراييني في كتاب (الحَلْي في أصول الدين) على قول الشافعي رضي الله عنه: "الإيمان لا يشركه الشرك، والشرك يشركه الشرك" بما حاصله، أن الإيمان لو قارنه اعتقاد قدم العالم، أو نحوه من الكفران، ارتفع بجملته، والكفر كالتثليث مثلاً، لو قارنه خروج الشيطان على الرحمن ومغالبته، كما يقول المجوس، لم يرتفع شركه بالنصرانية، بل ازداد شركاً بالمجوسية". انتهى ما حكاه عن الأستاذ أبي إسحاق. =

(12/379)


وأما الجزية فلا يخفى مأخذها من النكاح والسفاح وملك اليمين ووطء الشبهة، ولسنا لتفصيلها على وضوحها.
واختلف أصحابنا في دية المتولد من اليهودي والمجوسية، فالذي ذهب إليه صاحب التلخيص أنا نوجب أعلى الديتين نظراً إلى أعلى الأبوين دية، وذلك لتغليظ الجناية وتشديد أثرها على الجاني. هذه طريقة اختارها صاحب التلخيص.
ومن أصحابنا من قال: القول في دية المتولد يجري على القولين المذكورين في تحليل الذبيحة والمناكحة؛ فإنه إن كان يتجه التغليظ على الجاني فقد يتجه الالتفات (1) على أن الأصل براءة الذمة، فلا ينبغي أن تشغل إلا بثبت.
وأما حكم الجزية، فالذي ذهب إليه المحققون أن المتولد من بين من يؤخذ منه، ومن لا يؤخذ منه الجزية -وهذا أصل مهدناه مراراً وسيأتي تمامه في كتاب الجزية إن شاء الله تعالى- فالميل إلى تغليب أخذ الجزية؛ [ولذلك] (2) أُخِذت من المجوس مع تحريم المناكحة والذبيحة، وأخذت الجزية من الذي ترددنا في أن أول آبائه دان بالتهود قبل المبعث أو بعده.
ومما أجراه القفال في الشرح أن المتولد من بين يهودي ومجوسية إذا بلغ، وأراد الاستمساك بالتمجس، فلا معترض عليه ولا نلزمه التمسك بالتهود، كما نقول في المسلم المتولد من بين المسلم واليهودية: إنه يلزمه التمسك بالإسلام، ولكن إذا أظهر التمجس، فله حكم المجوس، وإنما ترددنا فيه قبلُ.
هذا مسلك القفال، وليس يمتنع أن نقول: إذا أثبتنا له حكم التهود في تحليل المناكحة والذبيحة، نمنعه من التمجس إذا منعنا الانتقال من ملة إلى ملة، وهذا سيأتي مستقصى في كتاب الجزية، إن شاء الله تعالى.
__________
= ثم عقب التاج السبكي قائلاً: قلتُ: فيؤخذ منه أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن الكفر يزيد وينقص، فتأمل" (ر. الطبقات: 4/ 259، والأم: 5/ 8).
(1) في الأصل: والالتفات.
(2) في الأصل: وكذلك.

(12/380)


والنسب إلى الآباء، وكل حكم يناط بالنسب [فالاعتبار] (1) فيه بجانب الأب، فإذا أعطينا بني هاشم وبني المطلب فالمولود بين هاشمي وتيمية يستحق السهم. والكفاءة بالأب؛ فإنه [معتمد] (2) النسب في هذا المعنى ولا غموض فيه.
فصل
قال: "ولو تحاكموا إلينا، وجب أن نحكم بينهم ... إلى آخره" (3).
8193 - إذا ارتفع إلى مجلس حاكمنا ذمي راضٍ بحكمنا، والتمس أن نحكم له أو عليه، فهل يجب على حاكمنا أن يحكم بينهم بموجب دين الإسلام؟
تفصيل المذهب في ذلك أن الكلام يتعلق بأهل الذمة، ثم بالمعاهدين.
فأما أهل الذمة إذا ارتفعوا إلى مجلس حاكمنا، فإن كان خصم المرتفع إلينا مسلماً، وجب على حاكمنا الحكم، سواء كان مدعياً أو مدعى عليه، أما إن كان مدعياً؛ فلا يجوز تعطيل حقه، وإن كان مدعىً عليه، فيجب الانتصاف منه للذمي، إن اقتضى الحكمُ عليه حقاً له، وإن لم يتبين ذلك، فعلينا أن ننظر، ونفصل الخصام، ونتبين مساق الأحكام، حتى نعلم أن المسلم ظالم أو بريء، هذا إذا كان خصم الكافر مسلماً.
فأما إذا اختصم كافران ذميان، فلا يخلو: إما أن يكونا على ملة واحدة، وإما أن يكونا على ملتين، فإن كانا على ملة واحدة، فهل يجب على حاكمنا أن يحكم بينهما؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه لا يجب عليه أن يحكم، لقوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُم} [المائدة: 42]، والقول الثاني، وهو الأصح - أنه يجب علينا أن نحكم بينهم إذا ترافعوا إلينا؛ فإنا أُلزمنا أن نكف عنهم عادية الظَّلمة، ويتعين علينا بحكم الذمة أن نذبّ (4) عنهم ذبَّنا عن المسلمين، فكيف ينساغ أن نتركهم يختصمون
__________
(1) في الاصل: بما لا اعتبار.
(2) في الأصل: يعتمد.
(3) ر. المختصر: 3/ 293.
(4) في الاصل: نداب.

(12/381)


ويتغالبون؟ أما الآية، فلم يتبين لنا ورودها في أهل الذمة، ولما رضي اليهوديان بحكمه صلى الله عليه وسلم ورجمهما، لم يكونا ملتزمين الجزية، [ولذا] (1) كانت الآية مبهمة. هذا بيان القولين.
ثم مما يتفرع عليهما أنا إن قلنا: يجب علينا أن نحكم لهم وعليهم حُكْمَنا على المسلمين، فإذا أتانا واحد [منهم] (2) مستعدياً على خصمه الذمي، فيجب علينا أن نُعْديه ونستحضره المجلس، كما نفعل في المسلمين.
وإن حكمنا بأنه لا يجب على حاكمنا أن يحكم بينهم، فإذا جاءنا واحد منهم يستعدي على خصمه، لم يجب علينا أن نُعديه، فإنا كما لا نوجب على الحاكم أن يحكم بينهم لا نُلزم من لم يرض بحكمنا حكمَ الإسلام، فوجوب الإعداء (3) عند الاستعداء على الخصم المتخلف عن المجلس مبني على وجوب الحكم على حاكمنا.
وإذا شهدا (4) ورضيا بحكمنا، فمن لم يوجب الحكم على الحاكم، لم يمنعه منه.
[و] (5) لا شك أنه إذا أراد [الحكم] (6) جرى على معالم الإسلام، واستتبعهم في حق الدين، ولم يتبعهم في عَقْدهم (7)، إلا أن يترافعوا إلينا وقد انفصل الأمر فيهم بتقابضٍ، كما سبق؛ فإذ ذاك لا يخفى الحكم، كما أوضحناه من قبل، ثم إذا حكمنا عند رضاهم، نفذ [الحكم] (8)، ولا خيرة لهم بعد نفوذ الحكم.
وما ذكرناه فيه إذا كان الخصمان على ملة واحدة.
__________
(1) في الأصل: إذا.
(2) في الأصل: منهن.
(3) الإعداء: النصرة، من قولهم: استعديت الأميرَ على فلانٍ، فأعداني، أي استنصرته، فنصرني.
(4) شهدا: أي حضرا مجلس الحكم.
(5) الواو زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: يحكم.
(7) عَقْدهم: أي عقيدتهم ودينهم.
(8) في الأصل: حكم.

(12/382)


8194 - فأما إذا كانا على ملتين مختلفتين، فإذا ترافعوا إلينا؛ فالذي ذهب إليه معظم الأئمة: أنه يجب (1) على الحاكم الحكم عند اختلاف الملل، والسبب فيه أنا لو لم نوجب ذلك، لبقيت الخصومة [ناشبة] (2) بينهم؛ فإن كل واحد من الخصمين المختلفين في الدين لا يرضى بحكم حاكم أهل دين خصمه، فيفضي ذلك إلى اشتجارٍ في ديار الإسلام، لا قاطع له، ولا فيصل فيه.
وذكر العراقيون هذه الطريقة وارتضَوْها، وذكروا طريقة أخرى [هي] (3) إجراء القولين في الخصمين المتعلقين بملتين: أحدهما - أنه لا يجب علينا الحكم كما لا يجب بين متفقي الملة.
ومما يجب التنبه له أن من فرّق بين المتفقَيْن [والمختلفَيْن] (4) عوّل في الفرق على أن المختلفَيْن قد لا يجتمعان على حاكم، فيؤدي ذلك إلى أن تبقى الخصومة فاشية (5)، وهذا لا يتحقق بين المتفقَيْن.
وفي ذلك فضل نظر، وهو أنه إذا لم يكن لأهل الذمة في بلدة الخصومة حاكم، فما قرره الأصحاب من دوام الخصام في المختلفَيْن يتحقق هاهنا، فيلزم على موجَب ذلك أن يجب على حاكمنا الحكم إذا لم يكن لهم حاكم، وكذلك إذا كان لهم حاكم وامتنع أحد الخصمين، فيجب أن يقال: يتعين على حاكمنا أن يحكم؛ إذ يبعد أن نلزمهم حكم الكفر [ونكون] (6) وزير حاكمهم حتى يُعدي من جهته. ومن تأمل ما نبهنا عليه، استبان ضعف القول إنه لا يجب علينا الحكم بينهم.
__________
(1) وقال النووي: إن وجوب الحكم هو المذهب. (ر. الروضة: 7/ 154).
(2) في الأصل: "ناشية". وكأنها محرفة عن "فاشية" والمعهود في وصف الخصومة هو "ناشبة". والله أعلم.
(3) في الأصل: "في" وهو تصحيف واضح.
(4) في الأصل: والمتخلفين.
(5) التعبير بلفظ (فاشية) أنسب هنا من (ناشبة)؛ فهناك (ناشبة) بين الخصمين، وهنا (فاشية) في المجتمع، في ديار الإسلام. والله أعلم.
(6) في الأصل: "ويلون وزير حاكمهم" والمثبت من تصرف المحقق على ضوء السياق والسباق. وبمثله جاءت (صفوة المذهب).

(12/383)


وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المتحاكمان إلينا ذميين.
8195 - فأما إذا كانا معاهدين فقد أجمع الأصحاب في الطرق على أنه لا يجب علينا أن نحكم بينهم؛ والسبب فيه أنا لم نلتزم الذب عنهم وأن نسوسهم برأينا سياسَتنا لرعايا الإسلام، وإنما فائدة العهد ألا نتعرض لهم، والسر فيه أن الذمة أوجبت الذبَّ لمكان الجزية التي يبذلونها، ولا جزية على معاهد. وإن بذلوا شيئاًً، فلا حكم لما يبذلونه إذا لم يكن عن استحقاق، وهذا إذا كان المعاهدان متفقي الملة.
فأما إذا كانا مختلفي الملة، فقد قال طوائف من محققينا: يجب علينا أن نحكم بين المعاهدَين المختلفَي الملة، كما ذكرنا في الذمييَّن المختلفَين، وعولوا على ما ذكروه من دوام الخصام.
وقد ذكر بعض الأصحاب في المعاهَدين المختلفَين في الدين خلافاً، ورتبوا فيه المذهب، فقالوا: في الذميين المتفقين قولان، وفي الذميين المختلفين قول واحد في وجوب الحكم، وفي المعاهدين المتفقين قول واحد إنه لا يجب، وفي المعاهدين المختلفين قولان.
وهذا عندي ذهول عن حقيقة العهد ومقتضاه؛ فإنا قد أوضحنا أنا لم نثبت للمعاهدين إلأَ أن نؤمّنهم في دمائهم وأتباعهم وأموالهم، فأما أن نليَهم ونسوسَهم، فلا، فإذا اختصم مختلفان منهم، لم يلزمنا أن نفصل الخصومة؛ جرياً على ما نبهنا عليه من مقتضى العهد.
ولكن اشتهر عن الأصحاب القول بوجوب الحكم بين المختلفَين منهم، وقطع بهذا معظم المحققين من الأصحاب، وهذا محمول عندنا على أصلٍ، وهو أن طائفة من أهل العهد إذا دخلوا ديارنا، ثم ثاروا وأخذوا يصطدمون وينتطحون ويتجالدون بالسيوف، فهل يجوز تركهم على هذه الحالة؟ ما ذهب إليه أهل الإيالة (1) أن ذلك لا يسوغ؛ فإن السيوف إذا شهرت، خرج الأمر عن الضبط، وأَحْكَمت السيوفُ على
__________
(1) الإيالة: السياسة. كما أوضحنا من قبل.

(12/384)


الطُّلَى (1)، وقد يجر ذلك خرماً للهيبة، وانتهاء إلى اهتتاك (2) محارم الإسلام، ومَنْ [إلى وامل] (3) عليه، تبين له أن الرجل المستكين تحت الطاعة إذا ثار وشهر السيف، استوى عنده الإمام الأعظم وآحاد الناس، فعلى هذا القانون يجوز أن يجب فصل الخصومات بينهم إذا اختلفوا في الدين، حتى لا يؤدي للمحذور الذي أشرنا إليه.
فهذا منتهى الإمكان.
والمذهب عندي القطع بأنه لا يجب الحكم بينهم، اتفقوا في الدين أو اختلفوا.
8196 - وإذا كان أحد الخصمين مسلماً والثاني معاهداً، فلا خلاف أنه يجب علينا الحكمُ مدعياً كان المسلم أو مدعًى عليه، وتعليله بيّن لمن أحاط بما مهدناه.
8197 - وإذا كان أحد الخصمين ذمياً والثاني معاهداً، فهذا مرتب عند نقلة المذهب على اختصام الذميين، فإن لم نوجب الحكم بينهما، فلأن لا نوجب وأحدهما معاهداً أولى. وهذا عندي من الترتيب الركيك؛ فإنا إذا أوجبنا الحكم على [الذمي] (4) لم ننظر إلى خصمه كالمسلم، وإن لم نوجب الحكم على الذمي، فلا فرق بين أن يكون خصمه معاهداً أو ذمياً.
هذا بيان معاقد المذهب في الحكم بين الكفار.
8198 - ونحن نذكر الآن جملاً في أحكامنا عليهم إذا رفعوا إلينا عقودهم،
__________
(1) كذا. تماماً بهذا الرسم، (والطُّلى): الأعناق، مفردها: "طُلاة" (المعجم)، فالمعنى: أطبقت السيوف على الأعناق.
(2) اهتتاك مصدر اهتتك، ومن معاني هذه الصيغة من صيغ الزوائد المبالغة في معنى الفعل، مثل: اقتدر.
(3) كذا. ولما نعرف لها وجهاً لإقامة ما فيها من تصحيف (انظر صورتها)، ومع ذلك فالمعنى واضح من السياق، فهو يقول: من تأمل واقع المجتمع تبين له ...
هذا، وننبه إلى تلك الإشارة الواضحة من الإمام إلى ما عبر عنه علماء الاجتماع المحدثون (بالعقل الجَمْعي) وأن المستضعفين المستذلين إذا ثاروا وحملوا السلاح لا يردعهم رادع، ويستصغر قوة الدولة والسلطان. وهذا ما سجله التاريخ، وصاغه نظرياتٍ وقوانين علماء الاجتماع.
(4) في الأصل: الذي.

(12/385)


فنقول: مبنى الحكم لهم وعليهم أن نقضي بموجب الإسلام، ولا ننشىء حكماً مخالفاً لقاعدة الإسلام، ولكن لا نتتبع ما مضى منهم وانفصل، وعليه خرّجنا انفصال معاملاتهم بالتقابض، ومن أراد تخريج أنكحتهم على هذا القياس، فقد طمع في غير مطمع؛ فإنا أوضحنا في أول نكاح المشركات ابتناء قواعد الباب على الأخبار، وبيّنّا خروج أحكامنا في كثير من مسائل الباب عن القياس، [ولسنا] (1) لإعادة تلك القواعد، والقدر الذي نجريه هاهنا على هذا المساق أنه إذا اتصل بالإسلام مفسد أفسدناه، وإن تحققنا مفسداً مقترناً بالعقد حالة الشرك وقد انقضى، فلا نلتفت إليه، كما مضى.
8199 - ثم اتصل بهذا المنتهى أنهم إذا ارتفعوا إلينا والتمسوا منا أن نفرض نفقة مجوسية على يهودي، وكان تزوج يهودي مجوسية؛ فالذي قطع به المراوزة أنا لا نجيبهم إلى ذلك أبداً؛ فإنا لا نحل المجوسية والوثنية لأحد.
وذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أنا لا نتعرض لهم إذا نكح اليهودي مجوسية، وإن ارتفعوا إلينا قررنا لهم، وفرضنا النفقة، وهؤلاء يقولون: إنما تحرم المجوسية على المسلم ولا تحرم على الكتابي، وهذا بعيد عن قياس المذهب.
ولا خلاف أن المجوسي إذا نكح واحدة من المحارم، ورفع الحكم إلينا، ورضي بحكمنا في التقرير والبت على موجب الدين؛ فإنا نفرق بينهما؛ إذ لا مساغ في الإسلام لنكاح المحارم.
ومما يجب البت فيه أن المجوسي إذا ارتفع إلينا، وطلب أن نفرض النفقة للتي يعتقدها زوجة، وكانت من محارمه - فلا شك أنا لا نجيبه إلى مُلْتَمسه، ولكن هل نفرق بينها وبين زوجها؟ الذي يقتضيه الرأي في ذلك أنهما إذا لم يرضيا بحكمنا في التفريق، لم نفرق بينهما؛ فإنا إنما نجري أحكامنا عليهم إذا رضوا بها، ولم يوجد في الصورة التي ذكرناها رضاً منهم بالتفريق.
ورأيت في كلام الأئمة ميلاً إلى التفريق في هذا المقام -على بعده- وقد يتجه
__________
(1) في الأصل: وأسفاً.

(12/386)


لسببين: أحدهما - أن موجب النفقة النكاح، فإذا كان ينفذ [حكمنا] (1) فيما وقع الرضا به، فلنملك قطع خيالهم في كون هذا النكاح موجباً للنفقة، وهذا تسلط على التفريق لا محالة، وأيضاًً فإنهم إذا ارتفعوا إلينا، فقد [أظهروا] (2) لنا ما يخالف الملة، وربطوا بعض مقتضياته بحكمنا، فكان هذا بمثابة ما لو أظهروا خمورهم، ولو فعلوا ذلك، أريقت عليهم.
وما ذكرته [احتمال] (3). والوجه أنا لا نفرق ما لم يرضَوْا بحكمنا في التفريق.
8200 - ومما يتعلق بما نحن فيه أن الأيّم منهم إذا التمست من حاكمنا أن يزوجها، ملك تزويجها على شرط الشرع إذا كانت حرة كتابية - على ما تمهدت الأصول.
وإن لم يكن لها ولي، فهل يجب على قاضينا أن يزوجها؟ خرّج الأئمة هذا على الخلاف في أنه هل يجب لنا أن نحكم لهم وعليهم؟ وهذا على نهاية البعد عندي، نعم إذا كان لها ولي [فعضل] (4) فارتفعت إلى مجلس الحكم. فهذا يشبه صورة الاستعداء والخصام، وهو لعمري صورة القولين. والذي قدمناه فيه إذا كانوا لا يرون الانفراد بالتزويج وإن لم يكن للمرأة من يزوجها.
فصل
8201 - قد بنينا قاعدة المذهب على أن المُشْركة إذا قبضت صداقها الفاسد، ثم أسلمت، لم تملك مطالبة الزوج بشيء، وهذا الفصل معقود فيه إذا [قبضت] (5) البعض -والبناء على قانون المذهب- فنقول: إن قبضت بالجزئية مقداراً من الخمر المصدَقة، سقطت طَلِبتها بذلك المقدار من مهر المثل؛ حتى إن كانت قبضت نصفاً وأسلمت، فإنها تطلب نصف مهر مثلها، وسقط بقبض النصف النصفُ.
__________
(1) في الأصل: حكمه.
(2) في الأصل: أظهر.
(3) في الأصل: اختيال.
(4) في الأصل: فغفل.
(5) في الأصل: قبض.

(12/387)


8202 - ولو جرت كتابةٌ على خمر في الشرك، وقبض السيد البعض، واتصل [العتقُ] (1) بالإسلام، فإذا قبض تمام الخمر في الإسلام، عتق العبد، ورجع السيد عليه بتمام قيمته، ولا حكم لما قبضه في الشرك، وإن كان قد قبض تمام الخمر في الشرك، وجرى الحكم بالعتق، ثم أسلم، لم يطالب العبد [بشيء] (2) من قيمته؛ بناءً على ما مضى في الكفر، ولا أثر لقبض البعض في عوض الكتابة، هكذا قال الأصحاب ونص الشافعي.
والفارق أن [حكم] (3) العوض في الكتابة لا يتبعض، لأن الكتابة نازعة إلى التعليق بعض النزوع، ومن حكم التعليق أن وجود بعض الصفة لا أثر له، والعوض في المعاوضات المحضة يتوزع على المعوض، والصداق وإن كان لا يقابل البضع على حقيقة مقابلة الأعواض، فهو في نفسه منقسم، ووقوعه على مقتضى الانفراد أولى بتحقيق التبعيض فيه، والفرق يتضح بنفي حكم التعليق في الصداق.
8203 - ومما يتعلق بمضمون الفصل أنه لو أصدق امرأته أجناساً فاسدة، واشتمل كل جنس مثلاً على أعداد [مثل] (4) أن [يُصدقها] (5) في الشرك كلاباً وخنازير ومقداراً من الخمر، ثم أقبضها بعض الصداق، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على أوجه: فذهب بعضهم إلى اعتبار عدد الأجناس، وذهب آخرون إلى اعتبار الأعداد في أنفسها، وصار صائرون إلى اعتبار القيمة عند من يرى لها قيمة، وإيضاح الخلاف بالتصوير: أنه إذا أصدقها ستة كلاب، [وثلاثة] (6) خنازير، وزقَّ خمر، وأقبضها في الشرك الكلاب، فإن اعتبرنا الأجناس، فقد استوفت ثُلث المهر؛ لأنها ثلث
__________
(1) في الأصل: "العقد" والمثبت تقديرٌ منا. والمعنى أن السيد أسلم قبل قبض تمام نجوم الكتابة، فالعتق يكون في الإسلام.
(2) في الأصل: بالشيء.
(3) في الأصل: الحكم.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: يعدمها.
(6) في الأصل: أو ثلاث.

(12/388)


الأجناس، وإن اعتبرنا الأعداد فقد استوفت ثلاثة أخماس المهر؛ فإن الأعداد عشرة، والكلاب منها ستة، ومن اعتبر القيمة، لم يخف المسلك عنده.
ولو أصدق امرأته في الشرك أعداداً من جنس واحد كالكلاب وقبضت [بعضها] (1)، فينقدح في هذه الصورة وجهان: أحدهما - اعتبار القيمة عند من يرى لها قيمة، والآخر - اعتبار العدد.
وذكر بعض أصحابنا عبارة حاصلها يرجع إلى القيمة، فقال: تعتبر منافع الكلاب، وما يقدّر لها من أجرة إذا جوّزنا استئجارها، ويقع التوزيع على هذه الستة، وهذا قريب من اعتبار القيمة؛ فإن قيمها عند من يرى لها قيماً على مقدار منافعها، ولكن هذا القائل أحب أن يذكر معتبراً سائغاً في الدين.
ولو أصدقها زِقَّين من الخمر، فقبضَ أحدهما، فهذا محل النظر، يجوز أن يقال: يعتبر العدد، ولا ينظر إلى الكثرة والقلة، وقد صرح بهذا طائفة من الأصحاب. ويتجه اعتبار الوزن إن أمكن الوصول إليه، أو [الكيل] (2)، فإن جرى القبض من غير كيل ولا وزن، [يخرّج] (3) أيضاًً اعتبار القيمة، ولذلك مخرجان: أحدهما - الرد إلى المقدار إذا اتحد النوع، والآخر - النظر إلى اختلاف النوع؛ فإن [القيم] (4) تتفاوت بتفاوت الأنواع. هذا منتهى ما أردناه في ذلك.
[ومما] (5) أجراه بعض من ينتسب إلى التحقيق تفريعاً على اعتبار القيمة أنا إذا صادفنا الصداق خنزيرين مثلاً وقد قبضت أحدهما [فنقدرهما] (6) شاتين ونعتبر قيمتهما، وهذا كلام سخيف لا يصدر إلا عن زلل، وكيف ينتظم تقدير الخنزير شاة، فلا وجه إلا اعتبار قيمة الخنزير عند من يرى له قيمة.
...
__________
(1) في الأصل: بعدها.
(2) في الأصل: الكسل.
(3) في الأصل: ويخرّج.
(4) في الأصل: القسم.
(5) في الأصل: "وما".
(6) في الأصل: فتقديرها.

(12/389)


باب إتيان الحائض
8204 - مضمون هذا الباب قد سبق مستقصىً في كتاب الحيض، ولكنا نعيد ما يليق بهذا الباب إقامةً لرسم الترتيب، فالحائض يحرم وقاعها، والأصل فيه قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222].
ثم الاستمتاعات على ثلاثة أقسام: أحدها - الاستمتاع بالفرج، وهو الوطء، فهو حرام بنص التنزيل والسنة وإجماع الأمة، ومن أقدم على وقاع حائض؛ فالمنصوص عليه في الجديد: أنه لا يغرَم شيئاًً، ويبوء بالمأثم إن تعمد، ونص في القديم على أنه يغرَم شيئاًً، ثم فيما يغرمه تردُّد للعلماء وأئمة الدين: فروي عن عمر أنه كان يأمر بإعتاق رقبة، وفي بعض الأحاديث: إن كان الدم عبيطاً، تصدق بدينار، وإن كان في أواخر الدم تصدق بنصف دينار، والحديث مروي عن ابن عباس (1). وقد ذهب بعض أصحابنا إلى إجراء مذهب عمر وابن عباس وجهين مفرعين على القول القديم، فهذا هو الاستمتاع بالفرج.
وعن الأستاذ أبي إسحاق أنه حمل الدينار على مواقعتها في زمان الدم، وحمل نصف الدينار على مواقعتها بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال. وهذا رديء لا تعويل عليه.
والنوع الثاني من الاستمتاع - التمتع بما فوق الإزار من جهة السرة وتحته من جهة الركبة وهو مسوغ.
والثالث - الاستمتاع بما تحت السرة وفوق الركبة مع [تجنب] (2) الوقاع، وفيه قولان أو وجهان، سبق ذكرهما في كتاب الحيض.
__________
(1) سبق تخريج هذا الحديث في كتاب الحيض. وانظر أيضاًً مصنف عبد الرزاق: 1/ 328 باب إصابة الحائض.
(2) في الأصل: توقّع. وما أثبتناه عبارة الإمام في كتاب الحيض. وهي المناسبة للسياق.

(12/390)


ومما يجب التفطن له أنه لا يسوغ للفقيه أن [يجبن] (1) عن إطلاق تحريم وطء الحائض؛ مصيراً إلى أنَّ المحرم ملابسة أذاها؛ فإن التضمخ بذلك الأذى بعد الانفصال غير محرم، ويحرم وقاع الحائض وإن طهرت عن الأذى وغسلت المنفذ، فدل أن وطأها محرم.
فصل
قال: "وإن كان له إماء، فلا بأس أن يأتيهن معاً ... إلى آخره" (2).
8205 - إذا كان تحت الرجل حرائر، فلا يتأتى منه الجمع بينهن في الوطء إلا أن يرضين، فإن حق القَسْم يوجب عليه ألا يطأ واحدة في نوبة الأخرى، ثم لو وطئهن، فلا ينبغي أن نقضي بتحريم الوطء، ولكنه من جهة الانتساب إلى [الانقضاض] (3) على حق الغير يعصي. وسيأتي (4) تحقيق القول فيه في كتاب القَسْم، إن شاء الله تعالى، فلو رضين، فلا بأس أن يدور عليهن بغسل واحد، ولكن الأولى أن يخلل بين الوطء والوطء غُسلاً، فإن لم يفعل، فوضوء، فإن لم يفعل، فيغسل فرجه، ولعل المرعي فيه ألا تتصوّن (5) المأتيّة الثانية عيافة وتقذّراً، ومن ذكر الوضوء، فهو مع غسل الفرج، ولولا ورود أثر في الوضوء، وإلا فلا معنى له مع قيام الجنابة وحصول تنظيف الفرج بالغَسل.
...
__________
(1) في الأصل: يحس.
(2) ر. المختصر: 3/ 293.
(3) في الأصل: الانقراض.
(4) ما قاله الإمام في كتاب القَسْم هو: "اللائق بالتحقيق النظر إلى الحل والمحل، والقطع بالإباحة وصرف التحريم إلى ما وقعت المغايظةُ به".
(5) تتصوّن: يقال: تصوّن: تكلّف صيانة نفسه ووقاها (المعجم).
هذا: وقد كانت الجملة: "ألا تتصوّن المأتية الثانية" كانت هذه الجملة غير مقروءة في الأصل، وبفتحٍ من الله قرأناها هكذا، بعد عناء أجهدنا، وتأملِ طال بنا أسابيع. والله وحده المستعان.

(12/391)


باب إتيان النساء في أدبارهن
8206 - هذا محرم عند الشافعي وأكثر العلماء، وحكي عن مالك إنه كان يبيح ذلك ثم رجع عنه، وقد راجعت في ذلك مشايخ من مذهب مالك يوثق بهم، فلم يرَوْا هذا مذهباً لمالك، وقال صاحب التقريب: من الناس من يضيف إلى الشافعي قولاً في القديم إنه لم يقطع بتحريم إتيان النساء في أدبارهن وتوقف فيه، وقال: ليس عندي دلالة في تحريمه. وقال محمد بن عبد الحكم: قال الشافعي: في تحريم ذلك حديث غير صحيح، والقياس عندي أنه حلال، وحكَى ذلك [عن] (1) الربيع، فقال: كذب والله الذي لا إله إلا هو. ولقد نص على تحريمه في ستة مواضع من كتبه. وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأبهم السائل السؤال، فقال صلى الله عليه وسلم: "في أي الخُرْبتين أو الخَصَفَتين أو الخُرزتين؟ أمن دبرها في قبلها فنعم، أمّا من دبرها في دبرها فلا. إن الله لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن" (2). وقيل: سبب
__________
(1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام ولا يصح إلا بها. وقد أيدتنا عبارة العز بن عبد السلام في مختصره، حيث قال: "وحكى محمد بن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال: في تحريمه حديث غير صحيح، والقياس عندي جوازه، فحكى ذلك عن الربيع فأكذبه" ا. هـ. بنصه (الغاية في اختصار النهاية: 3/لوحة 77 شمال).
(2) حديث الإتيان في الدبر رواه الشافعي من حديث خزيمة بن ثابت على نحو سياقة إمام الحرمين له. قال في خلاصة البدر المنير: "رواه الشافعي، والبيهقي من رواية خزيمة بن ثابت بإسناد صحيح، وصححه الشافعي، ورواه بنحوه أحمد والنسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان" ا. هـ كلام ابن الملقن في الخلاصة. وقد صححه الألباني في الإرواء (ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/ 29 ح 90، والسنن الكبرى للبيهقي: 7/ 196، وابن ماجه: النكاح، باب التستر عند الجماع، ح 1924، وابن حبان 1299، 1300، والإرواء: 7/ 65 - 68، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 367 ح 1661).
وقد أتبع الحافظ الحديث بتنبيه شرح فيه غريبَ الألفاظ، نأتي بخلاصته قال: =

(12/392)


نزول قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم} [البقرة: 223] أن اليهود كانت تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها خلق الولد أحول. فنزلت الآية {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُم} والتلذذ بالدبر من غير إيلاج جائز؛ [فإن] (1) جملة أجزاء [جسد المرأة] (2) محل استمتاع الرجل إلا ما حرم الله تعالى من الإيلاج.
8207 - ثم ذكر الأئمة ما يتعلق بالإيلاج في هذا المأتى من الأحكام، فقالوا: ما فيه تغليظ (3)، فهو متعلق به (4)، فيجب الحد إذا لم يصادف ملكاً أو شبهة، وسيأتي القول [فيه] (5) في اللواط، إن شاء الله عز وجل، ويتعلق به فساد العبادات، ووجوب الغسل، والكفارة. وإن جرى على وجه الشبهة، تعلق به المهر، وإذا أتى الزوج زوجته في هذا المأتى، تقرر المهر، هذا ما اتفق عليه المراوزة.
وقال العراقيون: يتعلق بإتيان المرأة في دبرها مهر المثل، إذا جرى على وجه الشبهة على ما ذكره المراوزة، وهل يتعلق به تقرر المسمى من المهر في النكاح، فعلى.
وجهين، وما ذكروه من الوجهين في التقرير حسن، ولكن ينقضه القطع بوجوب مهر المثل في النكاح الفاسد.
[وقد] (6) اضطرب الأئمة في أنه هل يتعلق به ثبوت النسب إذا جرى من السيد في
__________
= الخربتين: تثنية خربة بضم المعجمة، وسكون الراء بعدها موحّدة. وكل ثقبةٍ مستديرة خُرْبة.
والخرزتين: تثنية خرزة، بخاء معجمة مضمومة وسكون الراء وبعدها زاي مفتوحة، والخُرزة هي الثقب الذي يثقبه الخراز.
والخصفتين: تثنية خَصَفَة بفتحات والخاء معجمة أيضاًً، والصاد مهملة بعدها فاء.
والخصفتين من قولك: خصفتُ الجلد على الجلد إذا خرزته مطابقاً. ا. هـ ملخصاً.
(1) في الأصل: وإن.
(2) زيادة من المحقق.
(3) ما فيه تغليظ: أي ما فيه تغليظ من الأحكام، أي ما يترتب على الوطء من عقوبات وتحريم وإيجاب.
(4) متعلق به: أي بالإيلاج.
(5) زيادة من المحقق. وفيه: أي في الحد.
(6) في الأصل: وإذا.

(12/393)


أمته؟ فإن الوطء إنما يعتبر في ملك اليمين، ونفس إمكان الوطء في فراش النكاح يثبت النسب، فمنهم من قال: يتعلق به ثبوت النسب، فقد يسبق الماء منه إلى الرحم، ومنهم من قال: لا يتعلق به ثبوت النسب، أورده بعض المصنفين، وهو غير بعيد؛ فإن من أئمتنا من قال: إذا وطىء وعزل، لم يثبت النسب في ملك اليمين، والإتيان في هذا المأتى أبعد عن إمكان العلوق عن الوطء مع العزل؛ إذ [قد] (1) يسبق بادرة من الماء لا يشعر العازل بها، والمأتى المحرم لا يفضي إلى الرحم.
وقال الأصحاب: يتعلق بالإتيان في هذا المأتى وجوب العدة والمصاهرة (2).
فهذا يندرج تحت ما يقتضي التغليظ.
ولا يتعلق به التحليل للزوج الأول، ولا الإحصان، وقطع أئمة المذهب بأنه لا يثبت للمأتية حكم الثيب مع بقاء العُذْرة، وأبعد بعض الأصحاب.
فزعم أنه يتعلق به حكم الثيابة، وهذا كان يحكيه شيخي، فلم أحكه -لبعده- في موضعه، ثم وجدته لطائفة من الأصحاب.
فهذا بيان ما يتعلق بذلك، وما لا يتعلق به.
8207/م- ووراء ما نقلناه نظر على المتأمل في بعض الأحكام: كنت أود لو لم يتعلق تقرير المهر بما ذكرناه، حتى نقرر أن هذا النوع ليس مما [يُستحل] (3)، وحتى يلتحق إتيان النساء في هذا المأتى بإتيان الرجال، ولكن الأصحاب اتفقوا على ما ذكرته من إيجاب المهر وتقريره، ولعل السبب فيه أنه على الجملة وطء في محل الاستمتاع، ولذلك لا يجوز أن يتعلق به الحد (4)، ومن يأتي غلامه المملوك أُلزم الحد بإتيانه، وكأنّ إتيان المرأة في غير المأتى يشابه إتيانها في المأتي إذا كانت حائضاً، ولهذا قال الشافعي: إذا كان يحرم إتيان الحائض لما بها من الأذى، فيجب أن يحرم الإتيان في غير المأتى، لأن الأذى دائم، وما قال الشافعي هذا قياساً، وإنما قاله تلقياً من قوله
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) والمصاهرة: أي ما يتعلق بها من تحريم المحرمات.
(3) في الأصل: يستحيل.
(4) أي في الزوجة وملك اليمين.

(12/394)


سبحانه وتعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى} [البقرة: 222] ففهم منه الشافعي التعرض لما ذكرناه، فجرى كلامه استنباطاً من القرآن لا قياساً.
8208 - فإن قيل: إذا جريتم على القول القديم في إيجاب الحد على من يطأ مملوكته المحرمة عليه بالرضاع، فهل يتجه إجراء هذا القول في إيجاب الحد على الذي يأتي زوجته في غير المأتى؟ قلنا: لم يشر إلى هذا أحد من الأصحاب، لا تعريضاً ولا تصريحاً، بل صرحوا بنفي الحد، ولمَّا فرعوا على القول القديم، قطعوا بأن وطء الزوجة في حالة الحيض لا يوجب الحد، والإتيان في غير المأتى بين وطء الحائض وبين وطء المملوكة المزوجة، وتشبيهه بوطء الحائض أقرب، والعلم عند الله تعالى.
وهذا التردد في الاحتمال من طريق المعنى، والذي نقلناه قطعاً من قول الأصحاب نفيُ الحد، وإيجاب المهر.
ولم يختلف علماؤنا في أنه تتعلق به العدة؛ فإنَّا نعلق وجوب [العدة] (1) بالتغييب من غير إنزال، وبإتيان الصبية التي لا تحبل.
ومما يدور في الخلد قَطْع الأصحاب بأنه لا يتعلق به التحليل (2) والإحصان.
وسيأتي قول غريب -إن شاء الله تعالى- في أن التحليل يتعلق بالوطء في النكاح الفاسد، وكان لا يبعد أن يلحق الإتيان في هذا المأتى في النكاح الصحيح بالإتيان في المأتى المستقيم في النكاح الفاسد، ومن عادة الأئمة ترك التفريع - على الأقوال البعيدة في غير محالها.
وقد انتجز المراد من مضمون الباب.
...
__________
(1) في الأصل: "الحد"، ولعل ما أثبثناه هو الصواب.
(2) التحليل: أي لزوجها الأول إذا بانت منه عن ثلاث تطليقات.

(12/395)


باب مختصر الشغار
8209 - نكاح الشغار باطل، وهو أن يزوج الرجل ابنته من رجل على أن يزوجه ذلك الرجل ابنته، وبُضع كل واحدة منهما صداقُ الأخرى. هذه صيغة نكاح الشغار.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار، وراوي الحديث ابن عمر: روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار، وهو أن يقول الرجل: "زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك، ويكون بضع كل واحدة منهما صداقاً للأخرى" (1). فيجوز أن يكون هذا تفسيراً عن ابن عمر، ويجوز أن يكون هذا منقولاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
والشغار من قولهم: شغر الإقليم عن الوالي، إذا خلا عنه، وقيل: هو من قولهم شغر الكلب، إذا رفع إحدى رجليه ليبول، فمن أخذه من المأخذ الأول سمى النكاح شغاراً لخلوه عن المهر، ومن أخذه من المأخذ الثاني، فمعنى الشغار عنده أن المزوج يقول: لا ترفع رجل ابنتي مستمتعاً بها إلا وأرفع رجل ابنتك.
وهذا الضرب باب من أبواب أنكحة العرب، وهو من الأنحاء التي ذكرتها عائشة، وقالت: كان النكاح في الجاهلية (3) على أربع أنحاء، والعرب لها أنفة وغيرة وحمية جاهلية، وهي التي حملتها على الوأد، وكانوا إذا زوّجوا لم يرضوا أن يزوجوا ما لم يتزوجوا.
فإذا تبين الخبر، ومعناه التصوير على الجملة، فإنا نذكر بعد ذلك الترتيبَ
__________
(1) حديث النهي عن نكاح الشغار. متفق عليه من حديث ابن عمر. رواه البخاري: كتاب النكاح، باب الشغار، ح 5112، ورواه مسلم: كتاب النكاح، باب تحريم الشغار وبطلانه، ح 1415، (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 318 ح 1602).
(2) هذا التردد في تفسير الشغار مأخوذٌ من قول الشافعي: "لا أدري تفسير الشغار: في الحديث، أو من ابن عمر، أو نافع، أو مالك" الأم: 5/ 68.
(3) سبق تخريج حديث عائشة.

(12/396)


المشهورَ في المذهب [و] (1) غيرَه، بذكر طريقة مأثورة عن القفال.
8210 - فأما الطريقة المعروفة، فقد قال الأصحاب: إذا قال: زوّجتك ابنتي هذه على أن تزوّجني أختك -ولا اختصاص بصنف- والغرض مقابلة تزويج بتزويج، فإذا اجتمع شرطُ التزويج في التزويج، وتخليةُ العقد عن الصداق؛ [والتصريح] (2) بجعل البضع صداقاً، فهذه صورة القطع بالفساد عند جماهير الأصحاب، ولا معتمد عندنا من طريق المعنى، والتعويل على الخبر مع الاتفاق على أن النواهي في هذه الأبواب محمولة على الفساد.
ولو رددنا إلى المعنى، لما أدركنا فساد النكاح الذي صورناه. فإنا إن نظرنا إلى الخلو عن المهر، لم نجد ذلك مفسداً للنكاح، وإن نظرنا إلى شرط عقد في عقد، لم نجد ذلك مفسداً للنكاح أيضاًً؛ فإنه لو قال: زوجتك ابنتي هذه على أن تبيعني دارك؛ صح النكاح، وسنوضح أن أمثال هذه الشرائط لا تؤثر في إفساد النكاح، إن شاء الله تعالى.
وأما قول المزوج: على أن يكون بضع كل واحدة صداقاً للأخرى، مع تمسك الأصحاب بأن هذا تشريك في البضع، فليس فيه ما يوجب إفساد النكاح؛ فإن التشريك على حكم الزوجية في البضع هو المستند، وليس المذكور في هذا النكاح تشريكاً في الزوجية، وإنما هو إضافة البضع من طريق العوضية والتمليك إلى شخص، فقد بطل هذا من طريق المعنى.
وقد قال الأصحاب: إذا تزوجت الحرة عبداً، وشُرط في النكاح أن تكون رقبة الزوج صداقاً لها، فالنكاح يفسد لفساد الصداق في هذه الصورة؛ فإن مقتضى التسمية أن يكون الزوج مملوكاً لزوجته، وهذا محال. وإذا اشترت الحرةُ زوجَها أو ملكته بجهة أخرى، اقتضى ذلك انفساخ النكاح؛ فإذا شُرط جعل الزوج صداقاً، [فسد] (3) النكاح، وهذه مسألة لم أسمع فيها خلافاً، وكان يمكن من طريق الاحتمال أن يقال:
__________
(1) الواو زيادة اقتضاها السياق. ومعنى "وغيره": أي الترتيب غير المشهور الذي ذكره القفال.
(2) في الأصل: فالتصريح.
(3) في الأصل: فافسد.

(12/397)


النكاح يصح والتسمية تفسد، ولكن لم يسمح بهذا أحد من الأصحاب في مبلغ بحثي، ولعلي أعود إلى هذه المسألة في بقية النكاح، أو كتاب الصداق.
8211 - فإذا تبين أن فساد نكاح الشغار ليس مأخوذاً من جهة المعنى، وإنما التعويل فيه على الخبر، فنعود بعد ذلك إلى ترتيب المذهب. فإذا قال: "زوجتك ابنتي هذه على أن تزوجني ابنتك"، فقد اختلف أصحابنا في هذه الصورة، فذهب الأكثرون إلى الصحة؛ من جهة أنه لم يقل: وبضع كل واحدة صداق الأخرى.
ومن أصحابنا من حكم بالإفساد، غير معوِّل على المعنى، ولكن في بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح الشغار، وهو أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه صاحبُه ابنته، فَرُوي هذا القدر من غير مزيد.
ولو قال: زوجتك ابنتي هذه بألف على أن تزوجني ابنتك، فالنكاح يصح في هذه الصورة، لا لجريان ذكر المهر، ولكن لم يرد تفسير الشغار بهذه الصورة على هذا النحو، واشتمال النكاح على المهر يخرجه عن معنى الشغار إذا أخذ من الخلوّ، فليكن التردد على اللفظ ومعناه، وما جاء في تفسيره، ولن يفلح من يتلقى تفاصيل هذه المسائل من طرق المعنى.
ولو قال: زوجتك ابنتي هذه بألف على أن تزوجني ابنتك وبضع كل واحدة صداقُ الأخرى، ففي صحة النكاح على هذه الصيغة وجهان: أحدهما - الصحة لاشتمال النكاح على المهر وخروجه من معنى الشغار.
والوجه الثاني - إنه لا يصح لما في اللفظ من الاشتراك في البضع، وهذا من هذا القائل مشعر [بالتحويم] (1) على معنى [الاشتراك] (2)، وهو باطل لا يصلح للتعويل، كما قدمت ذكره.
فالخارج إذن من هذه المسائل أن النكاح إذا خلا عن ذكر المهر، واشتمل على
__________
(1) في الأصل: بالتحريم.
(2) في الأصل: الإشراك.

(12/398)


مقابلة النكاح بالنكاح، وجعل البضع صداقاً، فالقطع [بالفساد] (1)، وإن شُرط نكاح في نكاح وعَرِي عن المهر، فوجهان، وإن ذُكر مهرٌ وجعل البضع صداقاً، فوجهان.
هذا هو الترتيب المعروف بين الأصحاب.
8212 - وحكى أصحاب القفال عنه مسلكاً آخر في الباب، وهو أن نكاح الشغار إنما يبطل من جهة تعليق انعقاد النكاح الأول بعقد الثاني، فيقول المزوّج: زوجتك ابنتي هذه إن زوجتني ابنتك، فتعلق انعقاد النكاح الذي ينشئه بالعقد الذي يشترطه، وكانت العرب تفعل ذلك لما نبهنا عليه من أنفتها وغيرتها، وكانت لا تعقد على الجزم عقداً، بل كانت تعلّق، فجاء فساد النكاح من جهة التعليق؛ فإن جرى التعليق، فسد النكاح، وإن لم يجر، لم يفسد النكاح بالتخلية عن المهر، ولا بجعل البضع صداقاً.
وهذه الطريقة منقاسة حسنة، وليست بعيدة عما نقله الأثبات من عاداتِ الجاهلية. ثم إن كانوا وضعوا لمعنى التعليق لفظاً يقيمون منه هذا الغرض، فاللغة لغتهم، ومن استعمل ذلك اللفظ ولم يفهم المراد منه، فالقول في إطلاق اللفظ من غير فهم معناه يأتي في مسائل الطلاق، إن شاء الله عز وجل. وقد نجز غرض الباب.
وأحسن الطرق في المعنى طريقة القفال، ولكن لم أرها لغيره من أئمة الأصحاب، ولم ينقلها عن القفال شيخنا.
...
__________
(1) في الأصل: بالصحة.

(12/399)


باب نكاح المتعة والمحلِّل
8213 - ترجم المزني البابَ بالمتعة والمحلل (1)، ثم لم يجر ذكر المحلل.
فنقول أولاً: نكاح المتعة فاسد، وذلك أن ينكح الرجل نكاحاً مؤقتاً إلى أمد معلوم، وإذا انتهت المدة، ارتفع النكاح. هذا معنى المتعة. واشتقاقها أن الغرض من النكاح المؤقت تمتع في أيام معدودة من غير طلب تواصل [وأمدٍ] (2) يعتاد إدامته، فهذا فاسد، وقيل: كان مباحاً في ابتداء الإسلام، وكان لا يتعلق به طلاق، ولا ظهار، ولا إيلاء، ولا توارث، ثم نُسخ، وذهب إلى نسخه معظم العلماء.
وعن ابن عباس وجماعة من أهل مكة -حرسها الله- أن نكاح المتعة ثابت بعدُ (3)، وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر عن نكاح المتعة وأكل لحوم الحمر الأهلية، وقال: هما حرام إلى يوم القيامة" (4).
فهذا بيان ما كان في نكاح المتعة، وذكر ما استقر عليه الشرع، فمن نكح الآن
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 4.
(2) في الأصل: وأمرِ.
(3) حديث ابن عباس عن المتعة رواه الطبراني في الأوسط على هذا النحو: قيل لابن عمر: "إن ابن عباس يأمر بنكاح المتعة، فقال معاذ الله!! ما أظن ابن عباسٍ يفعل هذا!! فقيل: بلى.
قال: وهل كان ابن عباس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا غلاماً صغيراً ... " ا. هـ قال الحافظ في التلخيص: "إسناده قوي" (ر. تلخيص الحبير: 3/ 320 ح 1603).
(4) حديث علي رضي الله عنه في تحريم المتعة متفق عليه، رواه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، ح 4216، ومسلم في صحيحه: كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، ح 1407.
(وانظر تلخيص الحبير: 3/ 320 ح 1603) واقرأ فيه للحافظ بحثاً قيماً عن نكاح المتعة، وجملة ما ورد فيه من أحاديث، وما فيها من فقه.

(12/400)


نكاحاً مؤقتاً ووطىء مع العلم بالتحريم، فظاهر المذهب أنه لا حد عليه، ولا تعويل على قول ابن عباس فيه، وسيأتي تأمل في ذلك في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل.
فصل
في المحلِّل
8214 - إذا طُلقت المرأة ثلاثاً، حرمت على المطلق حتى تنكح زوجاً غيره، ويطؤها الزوج، ثم تبين وتخلو عن العدة؛ فإذ ذاك يحل للأول نكاحُها.
والوطء في ملك اليمين لا يحلل إجماعاً.
ولو جرى الوطء في نكاح شبهة، فظاهر المذهب أنه لا يفيد التحليل، وذكر بعض أصحابنا قولاً غريباً أنه يفيد التحليل. ثم قال أئمة العراق: هذا القول إنما يخرج إذا جرى نكاح وكان فاسداً، فيحسب صحيحاً على الشبهة، فأما إذا وطئها الرجل على ظن أنها زوجته، فلا يحصل التحليل بذلك. هكذا قالوه. ولا ذكر له فيما بلغني من طريق المراوزة، ولكن ما نقلته عنهم في ذلك صحيح عندي على مأخذ المراوزة؛ فإنه عز من قائل قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَه} [البقرة: 230] فلا بد من جريان نكاح، ثم قد يحمل لفظ النكاح على الفاسد على بعد.
فأما المصير إلى [التحليل] (1) من غير نكاح، فبعيد.
...
__________
(1) في الأصل: التحريم.

(12/401)


باب [فيما يفسد النكاح من الشروط] (1)
8215 - ثم تكلم الأئمة في الشرائط التي لا تُفسد النكاح والتي تفسده.
فنقول: إذا نكح الرجل امرأة، وشرط ألا يتزوج عليها ولا يتسرّى، وشرط ألا يسافر بها، أو ما جرى هذا المجرى، فشيء من هذه الشرائط لا يؤثر في صحة النكاح؛ والسبب فيه أن ما ذكرناه ليس مما يتعلق به مقصود النكاح، والشرط إنما يؤثر في العقد إذا كان قادحاً في مقصوده، وقول القائل: زوجتك على أن تهب من فلان شيئاًً، فلا تعلق للهبة بالتزويج، وهو بمثابة ما لو قال: بعتك هذا العبد على ألا [تكسوَه] (2) إلا الخز، فالشرط فاسد والبيع صحيح. وشرْطُ عدم التزوج في النكاح بمثابة اشتراط ترك المسافرة فيما نحن فيه.
والتأقيت في النكاح يفسده، لأنه في عين مقصوده؛ ففسد النكاح.
ولو شرط في النكاح أن يطلّقها، فظاهر المذهب أن النكاح لا ينعقد، وذكر بعض أصحابنا قولاً غريباً، إن النكاح ينعقد والشرط يفسد.
التوجيه: من قال بالقول الأول احتج بأن شرط الطلاق بمثابة التأقيت، وكأن الشارط يقول: زوجتك إلى أبد، ثم الطلاق حتم عليك، فهذا في التحقيق تأقيت، ووجه قول من قال: إن الشرط يفسد ويبقى النكاح أن النكاح عُقد على الأبد، ثم شرط شرط فاسد لا بد فيه من طريق التقدير من إنشاء الطلاق، وليس كذلك نكاح المتعة؛ فإن نكاح المتعة معقود إلى أمد، ثم لا عقد بعد انقضائه.
ولو زوج الرجل ابنته أو أمته وشرط ألا يطأها، أو لا يطأها إلا مرة واحدة، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أن النكاح هل يفسد بهذا الشرط؟ فمنهم من قال:
__________
(1) هذا العنوان من عمل المحقق أخذاً من مختصر النهاية للعز بن عبد السلام.
(2) في الأصل: تكسوه.

(12/402)


لا يفسد، ويفسد الشرط ويلغو، كما لا يفسد بالاقتراحات التي ذكرناها من نحو المنع عن التزوج والتسري والمسافرة وغيرها.
ومن أصحابنا من قال: يفسد النكاح؛ لأن شرط المنع عن الوطء تعرّضٌ لمقصود العقد، وعقد النكاح قابل للفساد كعقد البيع وغيره، وإنما تنفصل العقود بالتفاوت في القصود، فالمرعي في البيع ما يؤثر في المالية أو يجر لبساً وجهالة في العوض، والنكاح لا يفسد بجهالة العوض وفساده؛ فإن العوض ليس من أركانه، فأما ما يتعرض للمقصود وهو الحل؛ فيجب أن يؤثر.
ويجب أن يلتحق بهذا الخلاف ما لو قال: زوّجتك ابنتي على ألا تحل لك، فهذا في معنى شرط الامتناع عن الوطء.
ثم كل شرط لم نره مؤثراً، فلا كلام فيه، وكل شرط رأيناه مؤثراً، فلو ذكر بين الإيجاب والقبول، فسد النكاح به، ولو ذكر متقدماً على إنشاء العقد، فالمذهب أنه لا يؤثر.
وذكر بعض الأصحاب فيما نقله القاضي وجهاً بعيداً، أن التواطؤ قبل العقد بمثابة المذكور مع العقد بين الإيجاب والقبول، وهذا الوجه الضعيف مأخوذ من مسألة مهر السر والعلانية في الصداق، وسنذكر هذه الطرق على الاستقصاء ثَمَّ، إن شاء الله عز وجل.
8216 - ثم مما يتعلق بذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له" (1). فأراد بالمحلِّل الزوج الثاني، وأراد بالمحلَّل له الزوج الأول. واللعن محمول على فساد النكاح بشرط الطلاق، أو على تأقيته إلى أول
__________
(1) حديث "لعن الله المحلل والمحلل له" رواه الترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في المحلل والمحلل له، ح 1120، وقال: حسن صحيح. والنسائي: كتاب الطلاق، باب إحلال المطلقة ثلاثاً، وما فيه من التغليظ، ح 3416 كلاهما من حديث ابن مسعود. قال الحافظ: "صححه ابن القطان، وابن دقيق العيد على شرط البخاري" وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق: 6/ 269 ح 10793. (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 349 ح 1640 - وفي الباب أحاديث أخرى أشار إليها الحافظ وخرّجها، فراجعها إن شئت).

(12/403)


وطأة؛ فإنه لو أقت كذلك، فسد النكاح من أصله وجهاً واحداً؛ فإنه نكاح متعة.
وفي شرط الطلاق الخلاف المقدم، ولم يقع التعرض للمرأة الموطوءة؛ لأنه يغلب عليها الجهل بحكم الواقعة، وقال بعض أصحابنا: النكاح وإن صح، فإذا جرى عن استدعاء من المحلَّل له، فإنهما يتعرضان للعن، ولا يسوغ في مروءة الدين ذكر ذلك في معرض الالتماس والاستدعاء، وإن لم يتعلق باستدعاء من الزوج الأول، فلا يحصل التعرض للعن. وفي بعض الألفاظ في المحلِّل أنه التيس المستعار، وهذا يشير إلى ما ذكرناه من استدعاء الزوج الأول، وهذا القائل يستدل بظاهر الحديث، فإن فيه اللعن مع التحليل، فدل أن واقعة اللعن في صورة صحة النكاح.
وكان شيخي أبو محمد يحمل اللعن على صورة فساد النكاح، ويقول: المحلِّل والمحلَّل له محمولان على الاعتقاد لا على التحقيق، وكان لا يُلحق استدعاء ذلك على وجه الصحة بالمحظورات، فإنه استدعاء أمر جائز في الدين. والأصح تحريم الاستدعاء كما ذكره الأولون، ولو لم يكن فيه إلاَّ خرق حجاب الهيبة والخروج عن سمت المروءة مع التماس الطلاق، لكان ذلك كافياً، وفيه أيضاًً صرف النكاح عن موضوعه؛ فإن النكاح ليس موضوعاً في الشرع للتحليل، بل هو موضوع لاستباحة المناكح على التأبد.
ثم إذا فسد النكاح، فظاهر المذهب أن الوطء الجاري فيه لا يفيد التحليل. وفيه القول البعيد الذي ذكرناه.
ثم لم يختلف المذهب في أن التحصين لا يحصل، والفرق أن التحصين إكمال واستجماع خصال في الفضائل، والتحليل في حكم الإرغام للزوج الأول، والإتيان بما تأنف منه النفوس ليكون ذلك كالمانع من استيفاء [الطلقات] (1).
فرع:
8217 - لا بد فيه من حقيقة الوطء، وهو إيلاج الحشفة، فلو استدخلت المرأة [العضوَ منتشراً] (2)، حصل الغرض، ولو استدخلت ولا انتشار، فقد قال العراقيون: إن كان الانتشار في ذلك العضو، ولكن لم يكن منتشراً في ذلك الوقت
__________
(1) في الأصل: المطلقات.
(2) في الأصل: استدخلت المرأة والعضو منثر.

(12/404)


الذي حصل فيه الاستدخال، ثبت حكم الوطء، ومن أحكامه فيما نحن فيه حصول التحليل. وإن كان العضو بحيث لا يتوقع انتشاره، فلا يحصل المقصود باستدخاله.
وكان شيخي يقطع بحصول الوطء بالاستدخال كيف فرض الأمر؛ فإنَّ العضو ليس خارجاً عن كونه فرجاً، فليقع الحكم عند حصوله في باطن فرج المرأة.
فرع:
8218 - قد ذكرنا أن الاعتبار بتغييب الحشفة، فلو كانت الحشفة مقطوعة، فظاهر المذهب أن الجماع يحصل بتغييب قدر الحشفة من الباقي. وذكر العراقيون وجهاً آخر أنه لا بد من الإيعاب، فإن الباقي من العضو في مقابلة الحشفة لو كانت.
التفريع:
إن اكتفينا بمقدار الحشفة، اعتبرنا التي كانت لهذا العضو المخصوص، وإن اشترطنا الإيعاب، وكان الباقي من العضو قدر الحشفة، فلا ينبغي أن تكون به مبالاة. واتفق الأئمة في الطرق على أن وطء الصبي في إفادة التحليل كوطء البالغ، كما أن الصبية إذا طلقت، فوطؤها في صباها كوطئها بعد بلوغها في إفادة التحليل.
***

(12/405)


باب نكاح المُحرِم
8219 - مذهب الشافعي أن الإحرام ينافي عقد النكاح في المزوِّج والمتزوج والمزوَّجة، ولو كان الولي محرماً لم يزوِّج، وكذا لو كان وكيلاً، أو كان الوالي الأعظم، أو كان دونه. والإحرام يمنع [الزواج] (1)، ولا فرق بين أن يكون القابل ولياً أو وكيلاً أو زوجاً، وإن كان القابل عن الزوج في حكم السفير.
وظهر اختلاف الأصحاب في أن الإحرام في الشهود هل يؤثر؟ فالأظهر أنه لا يؤثر.
وذهب الإصطخري في طائفة من الأصحاب إلى أن النكاح لا ينعقد بحضور محرمين، وهذا لا ينقدح له وجه من طريق المعنى، ولكن في بعض الروايات: "لا ينكح المحرم ولا يُنكِح" (2) ولا يشهد. وهذا رأيته في كتب الفقهاء، وما عندي أنه يبلغ مبلغ الصحة (3).
8220 - ثم المذهب الصحيح أن الاحرام لا يمنع من الرجعة، فلو كان طلق ثم أحرم في عدة الرجعة، فله الارتجاع مع الإحرام؛ فإن الرجعة في حكم استدامة النكاح، والإحرام لا ينافي دوام النكاح.
__________
(1) في الأصل: الزوج.
(2) حديث "لا يُنكح المحرم ولا ينكح" رواه مسلم عن عثمان بن عفان، من حديث أبان بن عثمان، وزاد فيه: "ولا يخطب" (ر. صحيح مسلم: كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم، ح 1409) وانظر التلخيص: 3/ 334 ح 1619.
(3) الأمر كما قال إمام الحرمين، فهذه الزيادة: "ولا يشهد" قال عنها النووي في شرح المهذب: قال الأصحاب: "هذه الرواية غير ثابتة" حكى هذا عنه الحافظ في التلخيص، وزاد: "وبهذا جزم ابن الرفعة، والظاهر أن الذي زادها من الفقهاء أخذها استنباطاً من فعل أبان بن عثمان، لما امتنع من حضور العقد، فليتأمل" انتهى كلام الحافظ (ر. التلخيص: 3/ 334، 335 عقب حديث 1619).

(12/406)


وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر في أن الإحرام يمنع الرجعة كما يمنع ابتداء النكاح، حكاه القاضي وغيره، وهو مذهب أحمد بن حنبل (1)، ويمكن بناء هذا الاختلاف على القولين في أن الرجعة هل تفتقر إلى الإشهاد؟ وسيأتي ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ثم إذا ظهر منافاة الإحرام للنكاح من الجهات الثلاث: المزوِّج والمتزوج والمزوَّجة - فإلى متى يدوم الامتناع؟ في المسألة قولان: أحدهما - إنه يدوم إلى تمام [التحلُّلَيْن] (2) وسبيله سبيل حل الوطء.
وفي المسألة قول آخر: إنه يزول بالتحلل الأول. وهذا يقرب عند هذا القائل من التطيّب، والقول في التحللين وأسبابهما مستقصى في كتاب المناسك.
8221 - ومما يتعلق بأحكام الإحرام ما تفصَّل من قبل في أن الإحرام [هل يُخرج] (3) الوليّ من الولاية (4)، أو يتنزل منزلة الغَيْبة، وقد مضى في ذلك قول بالغٌ في أحكام الولاية.
...
__________
(1) نصَّ الخرقي في مختصره على جواز ارتجاع المحرم زوجته، وقال ابن قدامة في الشرح: "وعن أبي عبد الله رحمه الله رواية أخرى في الارتجاع ألا يفعل" (ر. المغني: 3/ 337) فما نسبه الإمام هنا إلى مذهب أحمد هو رواية، وليس الذي عليه المذهب.
(2) في الأصل: المتحللين.
(3) في الأصل: "يحل بخروج". وهو تصحيف عجيب غريب.
(4) الولي: واضح أن المراد به ولي نكاح المرأة.

(12/407)


باب العيب في المنكوحة
8222 - النكاح يفسخ بالعيوب القادحة في مقصود العقد، وهي محصورة عند حملة المذهب. قالوا: ثلاثة من العيوب يشترك فيها الزوجان: الجنون، والجذام، والبرص، ويثبت اثنان في حق المرأة [وهما] (1): الرَّتَق، والقَرَن. ويثبت اثنان في حق الزوج وهما: الجَبّ، والعُنة. وإذا ثبت بأحد الزوجين عيب من هذه العيوب، ثبت للثاني حق الفسخ. ولا حاجة إلى الكشف في معظم العيوب.
أما الجذام فَعِلَّة عظيمة تقطع الأعضاء، ويتصور في كل عضو، ويغلب ثبوته إذا ثبت في الوجه، والعياذ بالله تعالى، والعضو يحمرّ منه ثم يسودّ ثم ينتثر اللحم ويتقطع ويتقاذف إلى ما وراء، والبرص [بياضٌ] (2) بيّن، وليس البهق منه. وكان شيخي يقول: أوائل الجذام والبرص قبل الاستحكام لا تثبت الخيار، وإنما يثبت الخيار إذا استحكمت. وكان يقول: لا يثبت استحكام الجذام إلاّ إذا أخذ العضو في التقطع، وهذا فيه بعض النظر، فيجوز أن يقال: إذا اسودّ العضو، وحكم أهل البصائر باستحكام العلة، كفى ذلك في إثبات الفسخ، وإن لم يتقطع بعد من العضو شيء.
فأما ما عدا هذه العيوب من العمى والقرع والتقرح؛ فالذي ذهب إليه الأئمة: أنه لا أثر لشيء منها، والذي يجب التأمل فيه أن حق الفسخ لو اختص بما يمنع الوطء على الحقيقة كالجَبّ والعنة والرتَقِ والقَرَن، لكان ذلك وجهاً في الحصر والاقتصار، وتخصيص الفسخ بهذه الموانع، وليس الأمر كذلك؛ فإن حق الفسخ تعلّق بالجذام والبرص والجنون، ولم يستند الحصر إلى توقيف من جهة الشارع، فأورث ذلك
__________
(1) في الأصل: وهي.
(2) في الأصل: والبرص بين بين.

(12/408)


اضطراباً في نفوس فقهاء المذهب، حتى حكى بعض الأصحاب خلافاً في البخراء (1) إذا تفاحش بخرها. والعِذْيَوْط (2)، وكذلك الصنَّاء وهي التي بها صنان مفرط لا يقبل العلاج، وكنا نعد هذا الخلاف بعيداً، ثم لم ننقله إلا مخصوصاً بما ذكرناه.
ورأيت القاضي استجرأ على فتح الباب، وخرم التخصيص؛ فإنه قال: كل عيب يؤثر في حق عامة الناس في المنع عن الاستمتاع والوقاع عيافة ونَفَراً (3)؛ فإنه يثبت الخيار، وقد يتوقف حصول هذا المعنى على اجتماع عيوب، وإن كان لا يؤثر آحادها، فإذا اجتمعت فيثبت الخيار عند اجتماعها.
وهذا الذي ذكره قياس لما مهدناه في البرص والجذام، ولكن لم يصر إليه أحد من الأصحاب على هذا الوجه غير القاضي، وكنا نحكي ما ذكرناه في البخر وغيره عن زاهر السرخسي (4)، والساعة اتسع الخرق على الراقع فيما ذكره القاضي، والعلم عند الله تعالى.
وعلى الإنسان أدنى نظر في الجنون؛ فإن الأصحاب أطلقوا كونه مثبتاً للخيار، ولم يراجعوا فيه أهل البصائر، حتى إذا قالوا: إنه مرجوّ الزوال، فلا يثبت الخيار، وإذا قضَوْا بأنه مستحكم يبعد توقع الزوال فيه، فيثبت الخيار إذ ذاك، وهذا لو قيل
__________
(1) البخراء: من بخر الفم بخراً. أنتنت ريحه، وهو أبخر، وهي بخراء (المعجم).
(2) العِذْيَوْط بكسر العين وسكون الذال وفتح الياء: وزان فِعْيَول: الذي يحدث عند الجماع رجلاً أو امرأة، وهي عذيوطة. (المصباح).
(3) نفر من الشيء: فزع وانقبض غير راضٍ به. ينفر نفوراً ونفاراً. وإمام الحرمين هنا استعمل المصدر بوزن (فَعَل) بدلاً من فعول، كما يستعمل صَدَر بدلاً من صدور. فهذه إحدى لازماته اللغوية.
(4) زاهر السرخسي: زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى أبو علي السرخسي، الفقيه المقرىء، أحد الأئمة، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وسمع أبا لبيد محمد بن إدريس السامي، وأبا القاسم البغوي، ومؤمَّل بن الحسن الماسَرْجسي، وغيرهم، وروى عنه أبو عثمان الصابوني، وكريمةُ الكُشْمِيْهَنِيَّة، وخلقٌ. وأخذ الكَلام عن الشيخ أبي الحسن الأشعري. قال عنه الحاكم: فقيه محدّث، شيخ عصره بخراسان توفي سنة 389. (ر. طبقات الشافعية: 3/ 293، 294، والبداية والنهاية: 11/ 326، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 192، وشذرات الذهب: 3/ 131، وطبقات العبادي: 86).

(12/409)


به، لكان قريباً؛ نظراً إلى مبادىء الجذام والبرص، والعلم عند الله تعالى.
والعنة من [بين] (1) العيوب مخصوصة بمباحثة وضرب مدة، وفي ذلك باب معقود سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
8223 - ومما يتصل بذلك أن الزوج إذا خرج خنثى، فهل يثبت الخيار لها؟ أو إذا خرجت خنثى، فهل يثبت الخيار له؟ فمن أصحابنا من قال: إن تبين أن الزوج رجل قطعاً، فلا خيار ولا حكم لثُقبٍ زائد عليه، ثم يقع النظر في أنه هل يقدر على الجماع أم لا؟ فإن قدر، فذاك، وإن عجز فعنّين.
فأما إذا وقع الحكم بالذكورة عن علامة -على ما أوضحنا الكلام في العلامات في كتاب الطهارة وميراث الخناثى- فللأصحاب اضطراب، وحاصل ما ذكروه أوجه:
أحدها - إنه لا خيار إذا [ظهرت] (2) علامة معتبرة في إثبات الذكورة.
والثاني - يثبت الخيار؛ فإن الأمر مظنون، وقد يتبين بخلاف ما نظن. ومن أصحابنا من قال: إن كان التعويل على إقرار الخنثى بالذكورة وإقراره عن نفسه، فيثبت الفسخ، وإن ثبتت علامة عليها تعويل، فلا فسخ، هذه طريقة. وإن استيقنّا ذكورة الزوج، ففي ثبوت الخيار خلاف، حملاً على الشهوة والعيافة، وهذا يقرب من مأخذ القاضي.
وقد ذكر صاحب التقريب والعراقيون جميع الطرق التي أشرنا إليها.
8224 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن الرجل إذا اطلع على عيب بها، وكان به عيب أيضاًً، فهذا مما سبقت الإشارة إليه، فإن اختلف جنس العيب، ثبت الخيار لكل واحد منهما، وإن اتفق الجنس، ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما - أنه يثبت؛ فإن الإنسان لا يعاف من نفسه ما يعاف من غيره.
والذي أراه أن الجب في الزوج إذا عارضه الرتق من المرأة، فيظهر ذكر الخلاف فيه؛ فإن الرتق لا يخبث النفس ولا يشين، وإنما فيه الامتناع عن الوقاع، ولا يظهر
__________
(1) في الأصل: ثبوت.
(2) في الأصل: أظهرت.

(12/410)


أثر الامتناع عليه وهو مجبوب، وكذلك لا يظهر إحالة الامتناع على الجب وهي رتقاء، فلا أقل من إلحاق ذلك بالقول في الرضا تحت الأبرص.
وقد انتجز القول فيما يؤثر من العيوب، وما لا يؤثر.
وقد طمع الأصحاب على تردداتهم فيما ذكرناه أن يطَّرد لهم في اعتبار العيوب ما يؤثر في المقصود، وهذا لا [يستدّ] (1) إلا للقاضي ومن سلك مسلكه.
8225 - ثم نذكر بعد ذلك أن الخيار يثبت لها إذا اطلعت على عيب -مما ذكرناه- بالزوج، ويثبت له الخيار إذا بدا عيبٌ قديم مستند إلى حالة العقد، وإن كان الزوج قادراً على الطلاق. وخالف أبو حنيفة (2) في إثبات الخيار له، وأثبت الخيار في الجب والعنة فحسب، وقد يثبت الخيار للأولياء، كما سنعقد فيه فصلاً في آخر الباب، إن شاء الله تعالى.
وإذا ثبت الخيار، كان على الفور، بمثابة خيار الرد بالعيب في البيع، ولا يتوقف نفوذ الفسخ على قضاء القاضي وشهود مجلس الحكم، قياساً على العيوب في البيع، وتختص العنة من بينها بالافتقار إلى مجلس الحكم، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
ولا يتصور انتهاء الأمر في عيوب النكاح إلى الرجوع بالأرش؛ فإنَّ العوض غير معتبر فيه، وإنما يفضي الأمر إلى الأرش في البيع، [لأن] (3) العيب يقتضي غضَّ شيء من الثمن المسمى لانحصار الغرض في البيع على الماليّة، ووضوح ذلك يغني عن بسط القول فيه.
8226 - ثم إنا نذكر بعد ذلك التفصيلَ فيما يفرض متصلاً من العيوب المقترنة بالنكاح، الموجودة عنده، ثم نذكر التفصيل فيما يطرأ من العيوب بعد انعقاد النكاح على الزوجين.
__________
(1) في الأصل: "يستمر". وما أكثر ما تصحف هذا اللفظ.
(2) ر. الاختيار لتعليل المختار: 3/ 115.
(3) في الأصل: أن.

(12/411)


فإذا كان العيب مقترناً بالنكاح لدى العقد، فلا يخلو: إمَّا أن يكون العيب بها أو به، فإذا كان العيب بها، وفسخ الزوج، فيتعلق الكلام بالمهر ونفقة العدة، والسكنى، والمتعة.
فأمَّا المهر؛ فإن جرى الفسخ قبل المسيس؛ يسقط المهر بكماله، وإن كان الفسخ صادراً من جهة الزوج، وهو على تردده وخِيَرته، وذلك لأنه يفسخ العقد [لعيب] (1) فيها - كان بناء العقد على السلامة منه. وهذا متفق عليه بين الأصحاب، وليس كما لو ارتد الرجل قبل المسيس، فإنَّا نقضي بتشطر الصداق، والفرق بين البابين لائح.
وإن كان الفسخ بعد المسيس، فالمنصوص عليه للشافعي: أنَّ المهر المسمى يسقط، ويثبت لها مهر مثلها؛ لمكان الوطء الذي جرى.
وخرَّج أصحابنا قولاً آخر ظاهراً -رأوه قياساً- وهو؛ إن المهر لا يسقط إذا جرى الفسخ بعد [التقييد] (2) بالمسيس.
التوجيه: من قال بثبوت المسمى وتقرُّره احتج بأنه إذا لم يكن من إثباتِ مهر بُدٌّ، فالمسمى أولى به، ومن وجَّه النص استمسك بقياس الفسوخ؛ فإنه يقتضي رد الأعواض، فليرتدّ العوض المستحق بالعقد، ثم لا سبيل إلى إعراء الوطء عن المهر، وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن الفسخ عندنا قطع للعقد في الحال، وليس رافعاً له من أصله؛ استناداً إلى ما تقدم، وإذا كان كذلك، فالوطء يكون جارياً في وقت الاستحقاق، فمقابلته بالمهر الذي يجب على الواطىء بالشبهة (3) بعيد.
وقد عبّر أصحابنا في توجيه القول المنصوص عليه بعبارتين نذكرهما لمسيس الحاجة إليهما في التفريع: قال قائلون: سبب سقوط المسمى، تعلق الفسخ بسبب كان موجوداً حالة العقد، فاستند إلى حالة العقد بالحكم، وإن لم يرتفع به العقد
__________
(1) في الأصل: لمعنىً.
(2) في الأصل: "التنفيذ". وهو تصحيف لا شك.
(3) المراد هنا: أن الواطىء بشبهة يلزمه مهر المثل، لأن وطأه لم يصادف موضعاً مستحقاً، والواطىء في عقدٍ جرى وطؤه في وقت الاستحقاق، ففسخه بالعيب لا يساويه بالواطىء بشبهة. هذا هو الإشكال.

(12/412)


من الأصل، وجُعل كان الدخول وُجد في غير العقد.
وقال آخرون: الزوج بذل المسمى، وأُلزمه على أن يسلم له البضع زمن العمر من غير ضرر، فإذا لم يحصل ذلك، سقط المسمى، وسيظهر أثر هذا التردد من بعدُ.
هذا قولنا في فسخ الزوج.
8227 - فأما إذا فسخت الزوجة بعيب فيه، فسبيل سقوط المهر على نحو ما ذكرناه. فإن كان الفسخ قبل المسيس، سقط المسمى، وإن كان بعد المسيس، فعلى المذكورَيْن المنصوص والمُخَرَّج.
ولا بد وأن يختلج في نفس الفقيه الآن نزاع، من جهة أنَّا إن أسقطنا المهر قبل المسيس -وهي الفاسخة- بسبب إنشائها الفسخ، فقياس هذا يقتضي أن يتشطر المهر إذا كان الفاسخ الزوج، اعتباراً بالردة، وإن زعمنا أن إنشاء الزوج لا يشطر؛ لأن الفسخ لعيب فيها، فظاهر هذا يقتضي أن تُعذر المرأة إذا فسخت لعيب فيه.
وليس الأمر كذلك، فلا فرق بين فسخه وفسخها. والسبب فيه [أنّا] (1) نُسقط المهر استناداً لعيب إلى العقد (2). فإن كان هو الفاسخ، اتضح هذا المعنى، وإن كانت هي الفاسخة، وهَى العقد وضعُف وقعه، وشطر المهر في مقابلة العقد (3)، [وهو] (4) شبيه بالمتعة؛ ولهذا لا يجتمع شطر المهر والمتعة في الرأي الأظهر، كما سيأتي -إن شاء الله عز وجل- وليس هذا مأخوذاً من مأخذ الردة؛ فإنَّ الردة إذا طرأت، لم نتبين بها القطع في أصله، وإنما الذي طرأ قاطع جديد.
ثم رأى الفقهاء الفرق بين الزوجين، وتنزيل ردة الزوج منزلة طلاقه، ونسبوا المرأة إلى قطع العقد، وأسقطوا حقها من حق العقد لما كانت هي القاطعة للعقد، والفرق نوعان: أحدهما - يقع بين مسألتين. والثاني - يقع بين موضوعين وجاحدين، فما
__________
(1) في الأصل: أن.
(2) أي أن العيب يسري إلى العقد ذاته؛ لأن العيب مقترن به.
(3) وشطر المهر في مقابلة العقد: أي أن العقد هنا ضعف ووهَى؛ فلا يجب به شطر المهر.
(4) في الأصل: وهي. والضمير على شطر المهر، وتشبيهه بالمتعة يوحي بضعف وجوبه إذا ضعف العقد.

(12/413)


[يقع] (1) بين مسألتين يثبت وينتفي، وينعكس ويطرد، وما يقع بين جاحدين يتبين مأخذ كل جهة، ثم ذلك يوجب الانفصال بنفيين وإثباتين، فهذا ما أردناه.
8228 - والمتعة لا مطمع في ثبوتها مع ما قررناه من انبتات النكاح، واستناد الأمر إلى أول العقد.
وأما النفقة والسكنى إذا نفذ الفسخ، [فإن] (2) كانت حاملاً، ففي ثبوت النفقة قولان مبنيان على أن النفقة إذا ثبتت مضافة إلى المطلقة البائنة الحامل، فالنفقة لها أو للحمل؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما مشروحاً في كتاب النفقات.
والذي يجب الإحاطة به: أنَّ المطلقة البائنة تفارق التي فُسخ نكاحها من وجهين: أحدهما - أنَّ المطلقة تستحق السكنى في زمن العدَّة قولاً واحداً، وإذا كانت حاملاً تثبت النفقة قولاً واحداً، والاختلاف في أنَّ وجوبها يعزى إلى الحامل، أو إلى حملها. والتي تفسخ نكاحها لا تستحق السكنى إذا كانت حائلاً، وفي استحقاقها النفقة والسكنى إذا كانت حاملاً قولان، فإن حكمنا بأنَّ النفقة للحامل، لم تستحق؛ لانقطاع أثر النكاح عنها بالكلية، وإن قلنا: النفقة للحمل، فتثبت النفقة حينئذ، والسكنى في معنى النفقة.
وإنما ينفصل الطلاق [عن] (3) الفسخ؛ من جهة أن الطلاق تصرف في النكاح، والفسخ موضوع لرفعه وقطعه. وسيأتي بيان ذلك في كتاب النفقات.
وجميع ما ذكرناه في العيوب المقترنة بالنكاح.
8229 - فأما العيوب الطارئة بعد انعقاد النكاح على السلامة، فإنا ننظر فيها، فإن طرأت على الزوج، فيثبت الخيار لها، وهذا يعتضد بقياس جلي وعضَدٍ له، فأما القياس فحق الاستمتاع وما يطرأ عليه من تعذر يضاهي حق الانتفاع في الإجارة، ثم ما يطرأ من العيب على العين المستأجرة يُثبت حق الخيار، كما يثبته العيب الذي يطلع
__________
(1) في الأصل: يثبت.
(2) في الأصل: وإن.
(3) في الأصل: على.

(12/414)


عليه، ولقد كان موجوداً حالة الإجارة. هذا بيان القياس.
والذي يعضده أنها لو لم تختر، لبقيت في ضرار العيب ما عاشت؛ إذ ليس بيدها مخلص سوى الفسخ، هذا إذا طرأ العيب عليه.
فأما إذا طرأ العيب عليها، ففي ثبوت الخيار للزوج على الجملة قولان: أحدهما - يثبت الخيار وهو اختيار المزني- كما يثبت لها الخيار، وذلك أنها مستحقة المنافع، وهي حَرِيّة بأن تشبه بالمستأجرة في غرضنا. ولا يظن ظان فرقاً بينهما في العيب الطارىء لا نَعْكس مثله في المقارن.
والقول الثاني - إنه لا خيار للزوج إذا طرأ العيب؛ فإن الطلاق بيده، وقد [سلم] (1) أصل العقد، ولزم على موجب السلامة، والمرأة في وضمع النكاح كالمقبوضة، ومنافعها لا تتبعض تبعّض منافع الإجارة. والمزني إن استدّ (2) له اختيار القول الأول، فقد لا يجري لنا ما يجري له؛ فإنا نقول: اليسار الطارىء على نكاح الأمة لا يوجب قطعَه، بخلاف اليسار المقترن بنكاح الأمة، وذلك لأنّا نعتقد الأمة مسلّمة مقبوضة بالنكاح، ونجعل ما يطرأ بمثابة ما يقع بعد تمام الاستيفاء.
ثم ما أطلقناه من حدوث العيب، فهو -مما يجري عليها- جارٍ بلا تفصيل.
وأما ما يطرأ عليه؛ فلا بد من استثناء العُنَّةِ منه؛ من جهة أن الزوج إذا وطىء ثم عنّ، فلا خيار للمرأة، وتفصيل ذلك يأتي -إن شاء الله تعالى- في باب العُنَّة، فإنها بطباعها ووضعها تنفصل عن العيوب بوجوه ستأتي مشروحة في بابها، إن شاء الله عز وجل.
فيخرج عنه أن العنَّة إذا طرأت بعد الدخول، فلا خيار، وإن طرأت قبل الدخول وبعد النكاح؛ ففيها نظر على الضدّ، فيتجه أن [نلحقها] (3) بما يقترن بالعقد، بخلاف البرص والجذام والجنون، فليتأمل الناظر هذا المحل. ويحتمل أن يكون طارئها بعد الدخول كطارىء البرص.
وإذا طرأ الجَبُّ بعد الدخول، فالمذهب أن طريانه كطريان البرص. ومن أصحابنا
__________
(1) في الأصل: أسلم.
(2) استدّ: استقام، كما شرحناه مراراً.
(3) في الأصل: نلحق بها.

(12/415)


من ألحق طريانه بطريان العنة، وهذا غير سديد وإن حكاه القاضي.
8230 - فإذا تبين ما يتعلق بالخيار في العيب الطارىء عليها، فإنَّا نتكلم بعد ذلك في سقوط المهر ونقول: إن جرى الفسخ قبل المسيس، فلا شك في سقوط المسمى، سواء كانت هي الفاسخة، أو كان الزوج هو الفاسخ على أحد القولين. وإن كان ذلك بعد المسيس، فإن قلنا: يجب المسمى والعيب مقترن بالعقد، فلا شك أنّا نوجب المسمى في العيب الطارىء، بل إيجاب المسمى هاهنا أولى، وإن فرّعنا على النص في العيب المقترن، وأوجبنا مهر المثل؛ ففي المسألة ثلاثة أوجه في العيب الطارىء: أحدها - أنّا نوجب مهر المثل طرداً للقياس، ومصيراً إلى أن الفسخ يقتضي ارتداد العوض المسمى في العقد.
والوجه الثاني - أنه يجب المسمى في العيب الطارىء؛ لأن الذي اعتمدناه في توجيه النص والفسخ مستندٌ إلى العيب المقترن أن العيب المقترن بالعقد يُلحق العقد بالذي لم يكن، فإذا لم يتحقق الاقتران، فلا شيء لإسقاط المسمى في [العقد] (1) وأنه لا بدّ من إثبات مهر.
والوجه الثالث - أن العيب إن طرأ بعد المسيس، وجب المسمى وامتنع سقوطه، فإنَّه تقرر على السلامة، فيبعد سقوطه بعد التقرر، وإن طرأ العيب قبل المسيس، فيجب حينئذ مهر المثل، ونجعل اقتران العيب بالوطء المقرر بمثابة اقترانه بالعقد.
وقد انتجز القول في الفسخ المقترن والطارىء وسقوط المهر قبل المسيس وبعده.
ونعقد نحن وراء ذلك فصلاً هو غائلة الباب، ويتوقف على دركه سر القول في المهر.
فصل
8231 - إذا غرِم الزوج المهر بعد المسيس -على ما سبق التفصيل فيه- فهل يثبت له الرجوع على [الولي] (2) بما غرم؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يثبت له الرجوع عليه، والثاني - يرجع، والقولان في هذا الباب يستندان إلى قولين سيأتي ذكرهما في باب
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "القول".

(12/416)


الغرور، إن شاء الله تعالى، وهو أن المتعاطي التزويج إذا غرّ الزوج بحرية الزوجة، وانعقد النكاح على الغرور -على أصح القولين- وغرِم المهر -لما وطىء- للسيد، فهل يرجع بالمهر على العاقد الغارّ؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا: لا يرجع المغرور بما غرمه من المهر على من غرّه، فلا يرجع الزوج في هذه المسألة على الولي. وإن قلنا: يرجع المغرور على الغارّ، فهل يرجع الزوج بما غرمه على الوليّ الذي زوّج من بها عيب؟ فعلى قولين: أحدهما وهو القياس -أنه لا يرجع؛ فإنه قد شرع في النكاح على أن يتقوم عليه البضع، وقد استوفاه وتقوَّم عليه، فكان رجوعه على الولي وهو مطالب بعوض ما التزم عوضه، وقد استوفاه- بعيداً.
والقول الثاني - إنه يرجع على الولي المزوج، وهذا القول لا يوجه بمعنًى، وإنما التعويل فيه على ما رواه الشافعي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب أن (1) عمر بن الخطاب قال: "أيما رجل تزوج امرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها، فلها صداقها، وكذلك لزوجها غرم على وليها" (2).
8232 - ثم قال الأئمة: القولان يجريان إذا كان الولي عالماً بالعيب، فلم يتعرض له، وعقد العقد مطلقاً، فلو كان جاهلاً بالعيب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - القطع بأنه لا رجوع على الولي؛ لأنه لم يوجد من جهته تصريح بالتغرير ولا كتمان، ومن أصحابنا من أجرى في هذه الصورة القولين المذكورين، واعتل بأنه إذا بطل والغرم إلى الولي، فلا معنى للفصل بين العلم والجهل، فإنَّ الأسباب المقتضية لضمان المال والمرجع به لا يفرق فيها بين علم الغارم [وجهله] (3).
التفريع على هذين الوجهين: إن حكمنا بأن الولي إذا كان جاهلاً بعيب المرأة؛ لم
__________
(1) بلغ من تصحيف هذا الناسخ أنه كتب: "عن أبي المسيب بن عمر بن الخطاب" والله المستعان وحده.
(2) هذا الحديث رواه مالك في الموطأ: كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق والحباء، ح 9، ورواه الشافعي في الأم: 5/ 75، وابن أبي شيبة في مصنفه: 4/ 175.
(3) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.

(12/417)


يثبت الرجوع عليه قولاً واحداً، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الرجوع على الولي يثبت مع كونه جاهلاً بعيب المزوّجة، فالقولان يجريان فيه إذا كان الولي مَحرماً، وهل يجريان إذا لم يكن محرماً للمزوجة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنهما لا يجريان في غير المحارم؛ فإنه إنما يتحقق للانتساب إلى التفريط ترك البحث في حق المحارم، فيصير ترك البحث في حق المحرم تقصيراً حالاًّ محل إنشاء العقد مع العلم بالعيب، فأما من ليس محرماً؛ فإنه يبعد اطلاعه، فلا ينتسب إلى التقصير بترك البحث عن حقيقة الحال.
والوجه الثاني - إن القولين يجريان في غير المحرم جريانه في المحرم؛ فإنَّ التعويل في إثبات الرجوع على الولي على الأثر الذي نقله الشافعي عن عمر في صدر الباب، وليس فيه فصل بين ولي وولي، كما ليس فيه فصل بين العالم والجاهل.
8233 - ومما يتعلق بهذا المنتهى، أنا إذا قلنا: إنما يغرَم الولي إذا كان عالماً بالعيب وزوّج، ولو كان جاهلاً، لم يثبت عليه مرجع، فلو كتمت المزوَّجة عيبَ نفسها، فهي بكتمانها حَالَّةٌ محل الولي المزوِّج مع العلم بالعيب، ففي ثبوت الرجوع فيها القولان المذكوران في الولي العالم بالعيب. وسنذكر في باب الغرور أن المرأة إذا كانت هي الغارَّة، ففي الرجوع عليها من الكلام ما في الرجوع على المزوِّج الغارّ.
ثم إن رأينا الرجوع، والمرأة هي الكاتمة، وهي التي وطئها زوجها، فإذا أثبتنا الرجوع عليها، فلا معنى للغرم [لها] (1)، وذكرنا الرجوع تقدير يُفضي معناه إلى أنه لا يغرم لها؛ فإنها حلت محل من ثبت الرجوع عليه، والجمع بين الغرم [للشخص] (2) وبين الرجوع بما يغرم له متناقض.
8234 - فإذا أحللناها محل من يرجع عليه، فهل نقول: يدع إليها شيئاًً من المهر يستحل به البضع؟ فعلى وجهين: أحدهما - إنه يجب ذلك؛ فإنها لو لم تستحق شيئاًً من المهر، لكان إعراء الوطء عن العوض إحلالاً له محل السفاح.
__________
(1) في الأصل: بها.
(2) في الأصل: "والشخص".

(12/418)


والثاني - إنه لا يغرم لها شيئاًً؛ لانتسابها إلى التغرير بالكتمان، واقتضاء التغرير الرجوع لا يختص بجزءٍ من المهر دون جزء، وخلو الوطء عن المهر لا يعدم [نظيراً] (1) في الشرع.
فإن قلنا: يترك إليها مقداراً، فهو أقل ما يتمول، وقد تكلمنا في ذلك في مواضع من الكتاب، وإن قلنا: لا يترك إليها شيئاً، فللأصحاب نوع من الكلام في التقدير والإسقاط في مثل تزويج الرجل أمته من عبده، فلا شك أن السيد لا يثبت له مهر أمته على عبده ثبوتاً يطالب به في الحال، أو في المآل، ولكن هل نقول: هل يثبت المهر تقديراً أو سقط كما (2) ثبت؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي وغيره، وهذا يضاهي اختلاف الأصحاب في أن الأب إذا قتل ابنه، فهل نقول: يلزمه القصاص؟ ثم يسقط بتعذر استيفائه، أو نقول: لا يلزمه القصاص أصلاً؟ تردد فيه الأصحاب.
فإذا كان لهذا النوع من الخلاف جريان، فأحرى المواضع بها ما نحن فيه من تصدي المرأة للغرور، أو لما في معناه؛ فإن حق الرجوع إذا ثبت وتضمن تقدير المطالبة بما به الرجوع، فهل يقدر الوجوب فيما يثبت به الرجوع به أولاً؟ فعلى وجهين. وجريانهما في هذه الصورة أوجه من جريانهما في الأمة يزوّجها مولاها من عبده. ويكاد يكون الثبوت في المهر مع ثبوت الرجوع حالاًّ محل ما يجري فيه التقاصّ من الحقوق المقابلة.
فهذا حاصل القول في الرجوع على المولى وما يتصل به. ولولا أثر عمر بن الخطاب، لما انتظمت هذه المسائل؛ فإن المعنى لا يشير إلى تنزيل الولي المزوّج منزلة الغارّ المصرِّح بالتغرير.
8235 - ثم أجمع الأصحاب على أن ما ذكرناه من إجراء القولين في الرجوع على الولي المزوّج فيه إذا كان العيب المثبت للخيار مقترناً بالعقد، فأما إذا عري العقد عن اقتران عيب به، وانعقد على سلامتها، ثم طرأ عيب، وجرينا على إثبات الخيار
__________
(1) في الأصل: نظراً.
(2) كما ثبت: أي عندما ثبت.

(12/419)


للزوج، فإنه لا يرجع بما يغرم في هذا المقام، قولاً واحداً؛ من جهة أن الولي إن كان ينتسب إلى مضاهاة الغارّ، فذاك إنما يتصور حالة إنشاء العقد، فأما ما يطرأ على العقد من العيوب، فلا يتقرر معنى الرجوع في حق الولي تقديراً ولا تحقيقاً.
ويتصل بهذا الفصل ضبط وتنبيه، سيأتي مشروحاً في باب الغرور، إن شاء الله تعالى.
فرع:
8236 - المرأة إذا اطلعت على عيب من زوجها، وأثبتنا لها الخيار لمكان ذلك العيب؛ فلو رضيت بالمقام تحت زوجها، فهل يثبت لأوليائها حق الاعتراض على العقد بالفسخ؟
ذكر بعض أئمتنا ثلاثة أوجه: أحدها - لهم الفسخ من غير فصل بين عيب وعيب؛ فإن العار يلحقهم بكونها تحت معيب، من غير فرق.
والوجه الثاني - إنه لا يثبت لهم حق الاعتراض إذا رضيت؛ فإن العيوب المثبتة لحق الفسخ إنما تؤثر في حق الزوجة، وهي المختصة بالتضرر بها، وإنما ينال الأولياءَ العارُ من خساسة الأنساب، وما يقع فيها من غض وحطيطة.
والوجه الثالث - إنه يفصل بين الجب والعنة وبين غيرهما، فلا يثبت الخيار للأولياء في الجب والعنة؛ فإن ضررهما مختص بالمرأة، فأما الجنون والجذام والبرص، فيثبت للأولياء حق الاعتراض بسببها إذا ثبت شيء منها.
وسلك العراقيون مسلكاً آخر، فقالوا: لهم الاعتراض بسبب الجنون،
ولا اعتراض لهم بسب الجب والعنة، وهل لهم الاعتراض بسبب الجذام والبرص؟ فعلى وجهين. وهذا التفصيل الذي ذكروه أحسن ما وقع.
ثم كل ما ذكرناه في العيب المقترن بالعقد، فأما ما يطرأ بعد العقد، فإذا رضيت المرأة به، واختارت المقام تحت الزوج معه (1)، فلا اعتراض للأولياء، اتفق الأصحاب عليه، وزعموا: إنما يثبت للأولياء حق الاعتراض بما يستند إلى حالة العقد ويقترن به، فأما ما يطرأ عليه؛ فلا حق لهم فيه.
__________
(1) معه: أي مع العيب.

(12/420)


8237 - ومن تمام التفريع فيما ذكرناه أنا حيث نثبت للولي الاعتراض وإن رضيت المرأة، فلو [دعت] (1) المرأة ابتداء إلى التزويج من شخص عيّنته، وكان به أحد العيوب، فإن قلنا: للولي حق الاعتراض وإن رضيت، فلا يجيبها إذا طلبت ودعت إلى التزويج منه، وحيث قلنا: لا يثبت حق الاعتراض في بعض العيوب التي فَصَّلناها، فإذا دعت المرأة وليَّها إلى التزويج ممن به مثل ذلك العيب؛ فعلى الولي إجابتها، فإن لم يجبها كان عاضلاً.
ثم ذكر الشافعي لفظة في السواد (2)، فتعرض الأصحاب لها، وذلك أنه قال: "الجذام والبرص -فيما زعم أهل العلم بالطب- يُعدي، فلا تكاد نفس أحد تطيب بأن يجامع من هو به، وأما الولد، فقل ما يَسلَم، وإن سلم، أدرك ذلك نسلَه، فنسأل الله العافية". هذا ما نقله المزني من لفظ الشافعي. فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا هامة ولا صفر" (3) فنفى العدوى وقد أثبتها الشافعي، [فكان] (4) ذلك مخالفاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم؟
قلنا: إنما نفى الرسول صلى الله عليه وسلم العدوى من شخص إلى شخص، ومن جليس إلى جليس، والذي ذكره الشافعي تعرض للعدوى إلى النسل والولد، وفي الحديث ما يدل على أن فعل ذلك غير ممتنع على طرد العادة، والدليل عليه ما روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسودَ، فكان ما قاله تعريضاً بها وبإتيانها الولد لا عن رِشْدة، فقال صلى الله عليه وسلم: "هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حُمر، فقال: هل
__________
(1) في الأصل: ادعت.
(2) السواد: هو مختصر المزني كما قلنا مراراً وتكراراً. وانظر المختصر: 4/ 7، لترى هذا اللفظ بنصه من (السواد).
(3) حديث: "لا عدوى ولا هامة ولا صفر" متفق عليه، رواه البخاري: كتاب الطب، باب لا هامة، ح 5757، ورواه مسلم: كتاب السلاب، باب الطيرة والفأل، ح 2223، 2224، وعند البخاري زيادة "ولا هامة" عما رواه الإمام وعند مسلم بدون "ولا صفر" كلاهما عن أبي هريرة، وفي الباب عن أنس بن مالك بنحوه.
(4) في الأصل: وكان.

(12/421)


فيها من أَوْرق؟ قال: نعم. قال: ذاك من أين؟ قال السائل: لعل عرقاً نزعه. فقال صلى الله عليه وسلم: فلعل عرقاً نزعه" (1)، فبيّن أن العرق [نزّاع] (2)، وأن العدوى في الخِلقة وصفات البدن من الأصل على الفرع ليس بمستنكر.
فصل
قال: "ولو تزوجها على أنها مسلمة، فإذا هي كتابية، كان له فسخ النكاح ... إلى آخره" (3).
8238 - نقل المزني عن الشافعي أن من نكح امرأة، وشرط كونها كتابية، فخرجت مسلمة؛ قال: لا خيار للزوج. ثم كان المزني سمع الشافعي يقول: لو اشترى عبداً وشرط كونه كتابياً، فخرج مسلماً، له الخيار، فأخذ ينكر ذلك في البيع، يصير إلى أن لا خيار، واستشهد بما نقله عن نص الشافعي في النكاح، فقال الأصحاب: أما إذا اشترط الإسلام في التي تزوجها، فخرجت كتابية، فهذا من باب الخُلف في الوصف. وسنذكر في باب الغرور -إن شاء الله تعالى- أن الخلف في الوصف هل يمنع انعقاد النكاح؟ وفيه قولان، فإن حكمنا بأن الخلف في الوصف يوجب فساد النكاح، فلا فرق بين أن يشترط الإسلام، فيظهر أن الزوجة كتابية، وبين أن يشترط كونها كتابية، فيظهر أنها مسلمة.
والقولان في الفساد والصحة يجريان في الخُلف من فضيلة إلى نقيصة ومن نقيصة إلى فضيلة.
وإن حكمنا بأن النكاح ينعقد، فالنص دال على أنه إذا شرط كونها مسلمة فخرجت
__________
(1) حديث: "لعل عرقاً نزعه" رواه البخاري: كتاب الطلاق، باب إذا عرّض بنفي الولد، ح 5305، عن أبي هريرة، وساقه على نحو سياقة إمام الحرمين. ورواه مسلم: كتاب اللعان، ح 1500، عن أبي هريرة أيضاًً. وعلى نحو ما ساقه البخاري. كما رواه أبو داود والنسائي في الطلاق، وابن ماجه في النكاح، وأحمد: 2/ 234، 239، 409.
(2) في الأصل: زاغ.
(3) ر. المختصر: 4/ 8.

(12/422)


كتابية؛ فله الخيار، ولو شرط كونها كتابية، فإذا هي مسلمة؛ فلا خيار له.
فاستدل المزني بنص الشافعي في النكاح وقال: إذا اشترى عبداً على أنه كتابي، فإذا هو مسلم؛ وجب أن لا يثبت له الخيار بخُلف هذا الشرط، وإنما يُثبت الخلفُ الخيارَ إذا اشترى عبداً وشرط أنه مسلم، فخرج كتابياً، وقد نقل عن الشافعي إثبات الخيار في شراء العبد في الطرفين - إذا تحقق الخلف في الشرط، من غير فرق بين أن يكون المشروط هو الإسلام أو الكفر.
8239 - واختلف أصحابنا فيما ذكره المزني، وفيما استشهد به فقالوا أولاً: إذا شرط في النكاح كون المرأة كتابية، فخرجت مسلمة؛ فلا خلاف أنه لا خيار للزوج فإنها خرجت خيراً مما شرط، وكل غرض يستباح بالنكاح في الكتابية، فهو مستباح من المسلمة.
وإذا اشترى عبداً وشرط كونه مسلماً، فخرج كتابياً؛ فلا خلاف في ثبوت الخيار.
وإذا اشترى على شرط أن يكون كتابياً، فخرج مسلماً، فهذا موضع تردد الأصحاب، وحاصل ما ذكروه ثلاثة أوجه: أحدها - أن الخيار يثبت؛ فإن المقصود في الرد راجع إلى المالية، وقد يكون الكفر في المملوك من الأغراض المالية بأن يُبضع (1) المشتري العبدَ في جهة ديار الكفر، ويقدّر أنه [يروج] (2) عليه. وقد يتعلق الفكر بنوع آخر وهو أن الكافر يطلبه المسلم [وغير المسلم] (3)، والمسلم لا يطلبه إلا المسلم، ولو طلبه غيرُ المسلم لم يُسْعَف ولم يُبَع منه، ورواج الشيء بكثرة الراغبين، كما أن وقوفه بقلة الراغبين، هذا وجه.
ومن (4) أصحابنا من قال: إن كان الموضع الذي جرى فيه الشراء قريباً من ديار
__________
(1) يُبْضع العبدَ: أي يجعله بضاعة. من أبضعت الشيءَ فلاناً: جعلته له بضاعة. فالمعنى: أن المشتري يجعل العبد بضاعة جهة ديار الكفر (انظر المصباح).
(2) في الأصل: يزوج.
(3) زيادة لاستقامة المعنى.
(4) هذا هو الوجه الثاني.

(12/423)


الكفر، فكان يُتوقع أن يطرقوا ذلك الموضع، [فيرغبوا] (1) في العبد الذي يوافق دينهم؛ فيثبت الخيار، وكذلك إن اتفق ذلك في بلد يكثر فيه أهل الذمة، فأما إذا جرى في موضع بعيد عن ديار الكفر، [ولا يكثر الكفار وأهل الذمة فيه] (2)، فإذا كان شَرَط الكفر في العبد، فخرج مسلماً، فلا خيار - والحالة هذه. وهذا ما اختاره القاضي.
ومن (3) أصحابنا من وافق المزني ورأى مذهبه قولاً مُخَرَّجاً معدوداً من النظر إلى الأغراض المالية؛ فإنَّ القيمة إن كانت تزيد، من جهة رغبة الكفار، فتيك رغبة باطلة مستندها الكفر وتحسينه، واعتقاد كونه حقاً، فيكاد أن يكون ذلك المزيد بمثابة ثمن الخمر.
هذا بيان الأوجه.
8240 - وبقية الكلام أن هذا العبد لو أُتلف، فمذهب جماهير الأصحاب أنه يجب على المتلِف أن يغرم قيمته اعتباراً بما يقف (4) به، وإن كان بأكثر مما يُشترى به المسلم.
وذهب المزني ومن يوافقه أن ذلك المزيد لا يُضمن لما أشرنا إليه، وهو بمثابة ازدياد قيمة الجارية بأن تصير عوّادة (5). فلا يخفى أن القَيْنة (6) تُشترى في العادة بضعف ما تشترى به الجارية الناسكة، ومن اشتراها لم [يتعرّض] (7) إليه، فإن الشراء يرد على
__________
(1) في الأصل: فرغبوا.
(2) عبارة الأصل: "ولا يكثر من الكفار أهل الذمة فيه".
(3) هذا هو الوجه الثالث.
(4) اعتباراً بما يقف به: أي ليس اعتبارً بما يروج به.
(5) عوّادة: أي تحسن الضرب بالعود، وهذا اللفظ مستعمل في أيامنا هذه في هذا المعنى نفسه.
(6) القينة: المراد هنا: المغنية.
(7) في الأصل: لم يعترض إليه: والمعنى لم يتعرض لضربها على العود وغنائها، وإنما يقع الشراء على عينها.

(12/424)


عينها، ولكن لو [أتلفت] (1) لم يضمن مُتلِفها إلا قيمة مثلها لو كانت لا تحسن الغناء.
وقد ذكرنا طرفاً من هذا في المعاملات، وستكون لنا عودة إليه في الجنايات، إن شاء الله تعالى.
...
__________
(1) في الأصل: أتلف

(12/425)


باب الأمة تغرّ من نفسها
8241 - قد ذكر الأصحاب حكم الغرور بالنسب فيما تقدم، ونحن أخرناه إلى هذا الباب؛ حتى نأتي بأحكام الغرور مجموعة، والرأي أن نذكر حكم التغرير بالحرية ونستوعب ما فيه، ثم نذكر التغرير بالدين مع ما يتعلق به، ثم نذكر التغرير بالنسب وما يتعلق به من الصفات المرعية في الكفاءة.
8242 - فإذا غُرَّ أحد الزوجين بحرية صاحبه، فلا يخلو إما أن يُغر الرجل بحريتها، أو تغر المرأة بحرية الرجل، فإن غُرّ الرجل بحريتها، ولا يتصور ذلك، أولاً من جهة المولى؛ لأن المولى إذا ذكر حرية أمته، عَتَقَت، فالوجه فرض التغرير من وكيل الولي، بأن يزوّج وكيلُ الولي بأمر المولى، فيذكر الوكيل من تلقاء نفسه أن المزوّجة حرة. فهذا الأصل لا تتضح الأغراض فيه إلا بتقاسيم، وإذا رتبنا التقسيم في حقه، أَحْوَجَنا الترتيبُ إلى إعادة أحكام؛ حتى تجري الأقسام على انتظام، فليحتملها الناظر؛ [فإنا لا نُخلي معاداً مما هو مستجد] (1) مستفاد، إن شاء الله تعالى.
8243 - والذي نرى تصدير الفصل به -قبل الخوض في التفاصيل- الاعتناءُ بتصوير التغرير؛ فإنه لم يهتم بهذا أئمة المذهب، ولعل الأولين عولوا على فِطَن الطلبة وأبهموا، ثم تناسخت الأعصار، [فصار] (2) ما استهانوا به معضلةً في صدور أهل الزمان، ونحن لا نجد بداً من تقرير الإشكال، وتوجيه فنونٍ من السؤال، ومعارضتها بما يمكن من طريق الانفصال، حتى تنفتح نواظر البصائر، وإذ ذاك نأتي بالحق المبين، والله ولي الإعانة.
فنقول أولاً: التغرير في ظاهره شرط حرية الزوجة، وقد تمهد في أحكام العقود،
__________
(1) عبارة الأصل: "فا لا نحلى معاداً هو مستجد". والمثبت محاولة منا لإقامة العبارة.
(2) زيادة من المحقق.

(12/426)


ومقتضى المعاملات أن الشرائط إنما تؤثر إذا ذكرت في صلب العقود، فلو أجرى المتعاقدان شرائط قبل الإقدام على العقد، ثم لما عَقدا العقد بالإيجاب والقبول، عرّياه عن التعرض عما كانا [تفاوضا] (1) فيه من الشرط فيما تقدم، [فالشرط] (2) لاغٍ، والعقد مجرى على الإطلاق بالاتفاق.
وموجب هذا الأصل يقتضي أن يجري شرط الحرية بين الإيجاب والقبول في النكاح، ولكن لا سبيل إلى القول بذلك، وقد نص الشافعي على أن الأمة إذا كانت هي الغارّة، فيثبت الحكم بتغريرها، ويترتب على ذلك من أحكام الغرور ما سنصفه، إن شاء الله عز وجل.
وإذا كان يتصور التغرير منها وليست عاقدةً، ولا يتعلق بها من شِقّي العقد شيء، فيتبين بهذا أن التغرير ليس مما يجري إجراؤه في صلب العقد؛ إذ لو كان ذلك مرعياً، لما صدر التغرير إلا من عاقد.
وإن تكلف متكلف وفرض [ذكرَ] (3) الوكيل في التزويج تغريرها في معرض الحكاية، كان ذلك هذياناً؛ فإنه وكيل من جهة المالك بحق الملك، فكيف ينتظم منه ذكر الحرية حكايةً؟ وقول الأمة -وهي مجبرة على النكاح- كيف يغيّر العقد، وليس إليها من العقد شيء؟ [أفلا] (4) يتضح لكل ذي فهم أن تصوير التغرير من الأمة والمكاتبة، يُبيِّن أنا لا نقف صورة التغرير على إجرائه بين الإيجاب والقبول؟ ويجوز أن يذهب ذو الذكاء والفطانة من طريق المعنى إلى أن اشتراط كون العبد المبيع كاتباً لا يرعى فيه الإقرار بالعقد، وذلك أن الغرض من شرط كون العبد كاتباً إعلام المشتري بذلك؛ فإن العقود مبنية على ظاهر العلم بالسلامة، فكفى ذلك، وكان سبباً في إثبات الخيار عند ظهور نقيض السلامة، والفضائل ليست تنضبط بعادة مطردة، فيصير ذكر البائع لها بمثابة اطراد العادة في حِسْبان السلامة من العيوب، وإذا كان كذلك
__________
(1) في الأصل: يتفاوضا.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: ذلك.
(4) في الأصل: فلا.

(12/427)


[فقد] (1) يخطر في مجاري فكر الفطن أن ذكر مَنْقبةٍ في العقد على الاتصال بالعقد قبل الإقدام على شقيه يثبت الخيار إذا تحقق الخُلف فيه، وقد يشهد لذلك التصريةُ والتحفيل؛ فإن ما ترتب عليه من ظن غزارة اللبن يضمن الخيار إذا أخلف الظن، والتصرية متقدمة إنشاءً وفعلاً.
ثم من أساليب الكلام في هذا الفن أن يقول الفقيه: الشرط الذي يُرعى اقترانه بالعقد هو الشرط المفسد؛ فإنه إذا قرن بالعقد، صار كيفيةً في العقد وصفةً فيه، وليس هو من قبيل الإعلام حتى يُكتفى فيه بسابق يغلب على الظن [تحققه. هذا] (2) مسلكٌ. وقد يتصل به أنا إذا منعنا شراء الغائب؛ ثم أقمنا تقدم الرؤيةٌ مقام الرؤية المقترنة، وقلنا: لو تقدمت رؤيةٌ وتخلل بينها وبين العقد زمن لا يغلب فيه تغير المبيع، ثم اتفق أن المشتري [الباني] (3) على الرؤية المتقدمة صادف المبيع متغيراً؛ فله الخيار، وإن لم يكن التغير إلى عيب، ونزّل المحققون الرؤية المتقدمة منزلة اشتراط المناقب والفضائل مع اختلاف الشرط، فهذه رؤية تقدمت، وهي مشبّهةٌ بالشرط، فأشعر هذا الترتيب بما ذكرناه من حِسبان تقدم الشرط في مناقب المبيع مؤثراً. هذا نجاز هذا النوع من الكلام.
8244 - وقد يعارض هذا كلامٌ أفقهُ منه، وهو أن الفضيلة المشروطة لا تنزل منزلة السلامة الغالبة المعتقدة في المبيع؛ فإنَّ التعويل في هذه المنقبة على قول المخبر، وقوله متردد بين الصدق والكذب، ولو كان سمع مشتري (4) العبدِ عُدولاً يُخبرون عن كتابة عبدٍ، فبنى الشراء عليه، ثم تبين اختلاف الظن؛ فلا خلاف أنه لا يملك الفسخ.
وقول العدول الذين لا غرض لهم في ملك الغير أحرى بتغليب الظن من قول الفاسق البائع المتهم [بأنه] (5) يُروِّج متاعَه، وهو على شفا (6) وغارّ، فلا يحصل الإعلام
__________
(1) في الأصل: قد.
(2) زيادة من تقديرنا. نرجو أن تكون صواباً.
(3) في الأصل: الثاني.
(4) عند ابن أبي عصرون: "مُسْتامُ" وهي أولى من "مشتري".
(5) في الأصل: أنّ.
(6) عند ابن أبي عصرون: "على شفا وِفاز" والوفاز جمع الوَفَز، وهو العَجَلة.

(12/428)


بهذا، وإن قال القائل: [ألسنا] (1) نعتمد في صحة البيع قولَ البائع في أن المبيع [ملكُه] (2)، وقولَه في أن ما يبيعه لحم مُذَكَّاةٍ، قلنا: لأجل هو كذلك، وليس هو لإثارة قوله علماً وظناً، ولكن اضطررنا إلى تنزيل العقود على أقوال العاقدين؛ فإنا لو كُلِّفنا غير ذلك في العقود؛ لعظم الأمر، وشقَّ المأخذ.
والذي يقتضيه الفقه أن الفضيلة إنما تصير مشروطة بالتزامها وإنما يتحقق التزام صفة المبيع حالة البيع، فسبيل اقتضاءِ الشرطِ الخيارَ هذا لا غير.
8245 - فإذا تنبه الناظر لهذه المسالك، جاز أن نقول بعدها: أما الشرط المفسد للعقد، فإنما يؤثر إذا اقترن بالعقد لما ذكرناه، ولو قُدِّم على الاتصال، فالمذهب أنه لا يؤثر، وفيه وجه بعيد: إنه يؤثر؛ أخذاً من مسألة مهر السر والعلانية. وشرطُ الخيار في العقد، وكذلك شرط الأجل وقتها وقت الشرط المفسد، فأما شرط فضيلة في المبيع، فالذي قدمناه من الإعلام ترديد القول فيه توطئةً لطرق الكلام، والمذهب المبتوت أنه لا بد من الالتزام، ولو قدم شرط الفضيلة في النكاح، انقدح فيه الوجه الضعيف المذكور في مهر السر والعلانية.
وأما ما مهدنا به في تمهيد الكلام من التصرية، فلا متمسك به من وجهين: أحدهما - أن مسألة المصراة [خبرية] (3)، فلا ينبغي للقياس أن يبسط فيها، والآخر أن كثرة [اللبن] (4) محسوس في الحال، والنظر [مَزْوِيّ] (5) مطوي عما يفرض من تحفيل وتصرية، وأما مسألة تقدم الرؤية في تفريع الغائب؛ فسبب الخيار ضعف الرؤية وانحطاطها عن إفادة العلم حالة العقد بسبب ما طرأ من التغير، فَلْيُقرَّرْ كل أصل على موضوعه. هذا قولنا في البيع وما شرط فيه، وكذلك ما في معناه من عقود المعاملات.
__________
(1) في الأصل: لسنا.
(2) في الأصل: "لكمه" صحفت بقلب الحروف، والمثبت من ابن أبي عصرون.
(3) في الأصل: جبرية، ومعنى خبرية أن معتمدها الخبر لا القياس.
(4) في الأصل: "اللبس".
(5) مزويّ: من قولهم: زوى السرَّ عنه: طواه، وزوى الشيء عنه: صرفه، ونحاه. (المعجم) ثم هي في الأصل: بالراء المهملة.

(12/429)


8246 - وأما النكاح؛ فالقول في الشرائط المفسدة له كالقول في الشرائط المفسدة للبيع، لا يختلف وقت الشرطين في العقدين. وأما الغرور، فلست أراه -أحسن اللهُ إرشادكم- من باب الشرائط. ومن وُفِّقَ لرُشده، تبين له من ترجمة الباب ذلك؛ فإنَّ الباب مترجم بالغرور، فلا ينبغي أن يلحق في وضعه بالشرائط وأحكامها ومواقيتها، ويجب أن يقال: إذا جرى التغير قبل العقد متصلاً، ارتبط به حكم الغرور، وسأصف الاتصال ومعناه. ويخرّج على ذلك صدَرُ (1) التغرير من الأمة والمكاتبة.
ثم ليعلم الناظر أن أجنبياً لو ذكر حرية أمة، وابتنى العقد عليه، فلا يتعلق بقول ذلك الأجنبي مرجع في غرم، وإنما يثبت حكم التغرير على الكمال إذا صدر من عاقدٍ أو معقود عليه، أما العاقد، فهو الذي غرر، ثم أوقع المغرور في العقد، وكان محقِّقاً تغريرَه، وأما المنكوحة فبها اتصال العقد، فلها حظ في مستمتع العقد، فظهر تصديها للتغرير من حيث دعت إلى نفسها.
والذي يحقق ذلك أنا قدّرنا قولين في باب العيوب في الرجوع على الأولياء، ولم يصدر منهم شرط والتزامه، وقاعدة التغرير مشهورة، ومن صورها أن يقول صاحب اليد في الطعام لمن يقدمه إليك: "دونك فكُلْه"، أو "هذا طعامي فتناوله"، فهذا تغرير ولا عقد. ثم إذا وجهنا قولاً على قول في التغرير بتقديم الطعام، استمسكنا بالتغرير في النكاح. هذا تمام ما أردناه.
ولو أنصفنا لقلنا: الرأيُ لا يُسلّطُ على الرجوع على الغارّ في النكاح، ولكن إنما صرنا إلى ما صرنا إليه لقضاء عمر واتفاق الناس على اتباعه، والنكاح أيضاً على حال مُخطرٍ (2)، وهو معقود للأبد، معدود من أسباب النسل، فخُصّ في الشرع بالتغليظ على [المغرِّر] (3) فيه، وأمّا البياعات؛ فإنها معاملات تجري يداً بيد، فمدارها على الالتزامات.
__________
(1) صَدَر: أي صدور.
(2) مخطر: من قولهم: بادية مخطِرة، أي من يدخلها بين السلامة والتلف. (المعجم) هذا ويحتمل أن يكون الصواب: "على حالٍ خطرة: أي عظيم الشأن والأثر والخطر".
(3) في الأصل: المغرور.

(12/430)


والذي يحقق الغرض من ذلك أن الوكيل مُزوِّجَ الأمة إذا ذكر حريتها من عند نفسه، فقوله هذا لغو ولا يتحقق منه التزام، على خلاف إذن المالك، ففي مُقرَنه من الإشكال ما في متقدمه، فهذا في غاية البيان.
8247 - وتمامه بذكر الاتصال وشرحه، فإذا ذكر الرجل أن فلانة حرة، ولم يقصد بهذا تحريضَ سامعٍ على نكاحها، ثم اتفق من ذلك السامع نكاحها بعد أيام، وقد تعاطى تزويجَها من كان يذكر حريتها بتوكيل المالك إياه؛ فلست أرى هذا تغريراً، والرجوع فيه إلى العُرف.
ولو جرى ذكر الحرية في معرض الترغيب في النكاح، ثم اتصل به التزويج، بحكم الوكالة من المغرِّر، فهذا هو التغرير في حقه.
وإن اقترن ذكر الحرية، وشرطُها بالعقد، فهو الذي لا كلام فيه؛ فإنه على أقصى نهايات الاتصال.
ولو جرى ذكر الحرية لا في معرض تحريض الحاضر على [الزواج،] (1) ثم اتفق على القرب العقدُ، فهذا فيه تردد. وكذلك لو جرى ذكر الحرية في معرض التحريض، ثم جرى عقد النكاح بعد تخلل زمان يُعدّ مثله فاصلاً لما مضى عما أتى به من العقد؛ فهذا على تردد. ومهما (2) نيط الأمر بمجاري العادات، فمحل القطع فيها على النفي والإثبات بيّن، ومحل التردد فيها يفضي إلى التردد في الحكم، والأمة إذا ذكرت حرية نفسها، فالقول في اتصال كلامها وانفصالها على ما ذكرناه.
وقد انتجز المقصود في تصوير الغرور، ولم يبق منه شيء إلا أمر واحد، وهو أن الأئمة ذكروا قولين في أن شرط الحرية إذا أخلف، هل يوجب فساد النكاح؛ على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى- وهذا مخصوص بالشرط المقترن لا محالة؛ لما مهدناه من أن الشرائط المؤثرة في الإفساد لا بد وأن تفرض مقترنة بالعقد؛ فإنهم ذكروا التغرير وقرنوه بإجراء القولين في فساد العقد، ولكن يمكن حمل هذا على ما إذا جرى
__________
(1) في الأصل: الزوج.
(2) (مهما): بمعنى إذا.

(12/431)


التغرير مقترناً. وإن جرى متقدماً، لم ينقدح فيه الفساد إلا على الوجه الضعيف في مهر السر والعلانية، وهذا التردد لا يعارض ما ذكرناه من تغرير الأمة بنفسها، وليست عاقدة.
هذا مضطربي في تصوير التغرير، وقد نبهت للنظر في ذلك كلَّ فطن، فمن عثر على مزيد، فليلحقه بحاشية كتابنا مأجوراً، إن شاء الله عز وجل.
8248 - وقد عاد بنا الكلام إلى حكم التغرير فإذا غرّ وكيلُ المولى في تزويج الأمة بحريتها، فلا يخلو المزوَّج بها إما أن يكون حراً أو عبداً، فإن كان حراً، نُظر إن كان ممن لا يحل له نكاح الإماء؛ فالنكاح باطل، وإن كان ممن يحل له نكاح الإماء، وقد جرى التغرير شرطاً؛ ففي انعقاد النكاح قولان إذا تحقق الخُلف في الشرط. وهذان القولان يجريان في كل خُلف يفرض في حقه مشروطاً من الناكح أو المنكوحة، ولا فرق بين أن يتفق الخُلف من كمال إلى نقصان، وبين أن يتفق الخلف من نقصان إلى كمال، أو من صفة إلى أخرى تماثلها في مراتب الفضائل.
توجيه القولين: من قال: يصح النكاح -وهو الأصح- وإليه صار أبو حنيفة (1) واختاره المزني، احتج بأن اختلاف الشرط لا يثبت فساد البيع مع تعرضه لقبول الفساد بكل شرط فاسد متعلق ببعض مقاصد البيع، ثم لم يفسد باختلاف الشرط؛ فلأن لا يفسد النكاح أولى، وفقه التوجيه أن المعقود عليه متعيَّن في البابين، فالمنكوحة متعينة وهي ذات صفات، والعين لا تتبدل بفرض خُلف في الصفة، وكذلك العبد متعيَّن في البيع لا يفرض تبدله باختلاف شرط متعلق بصفة.
ومن قال بفساد النكاح استدل بأن مدار النكاح في العادات على الصفات؛ فإن المرأة لا [تُعايَن] (2) عرفاً، وإنما يَتوصَّل طالبُ الحظ منها إلى غرضه بالوصف، فإذا فرض الخُلف في الوصف، كان ذلك اضطراباً في الطريق المعتاد في درك الأغراض من المعقود عليه، وإن كان مورد العقد المرأة، ذات صفات، ولكن التعويل في العادات
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 175، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 353 مسألة رقم: 848.
(2) في الأصل: "تغاير" والمثبت تقديرٌ منا، وفي (صفوة المذهب) "تُشاهد".

(12/432)


على الصفات؛ فإذا اضطربت، جرَّ اضطرابها فساداً.
وقرّب بعض الأئمة اختلاف القولين في ذلك من الإتيان باسمٍ يخالف اسمَ المبيع مع الإشارة إليه، مثل أن يقول: "بعتك هذه الرّمَكَة (1) والمبيع بقرة: من أصحابنا من حكم بإفساد العقد لاضطراب اللفظ، ومنهم من صححه تغليباً للإشارة والتعيين.
وهذه المسألة بعيدة عما نحن فيه؛ من جهة أن الرَّمَكة لفظة تشعر بموصوف وصفات، وليس تعرضاً لصفة فحسب، فإذا خالف اللفظ بالكلية محلَّ الإشارة، اتجه فيه خلاف على بعد، وآية ذلك أن الجنس يختلف في المفهوم من اللفظ المشار إليه، والمنكوحة متعينة، وإنما المذكور صفة من صفاتها، اختلف الشرط فيها أو لم يختلف، فليس عند الفقيه لإفساد النكاح توجيهٌ عليه معوّل.
وقد يقال لموجه هذا القول: إنما يستقيم التعويل على فصل الصفات لو كان شرط ذكرها في النكاح، فإذا لم يشترط ذكرها و [كفى] (2) التعيين، فيبعد أن يؤثر الخلف في الإفساد.
غايةُ الإمكان في ذلك أنا قد لا نشترط ذكر شيء، وإذا فرض ذكره اشترطنا الاستداد والإصابة فيه. وهذا كما أنا لا نشترط في المبيع المشار إليه ذكر اسم جنسه، بل يكفي أن نقول: بعتك هذا؛ فلو وقع التعرض لذكر جنسه، فلا بد من الإصابة فيه عند بعض الأصحاب.
هذا بيان القولين والتفريع عليهما.
8249 - فإن حكمنا ببطلان النكاح، فسد النكاح، وألحق التفريع بما إذا كان الحر الخاطب ممن لا يحل له نكاح الإماء.
فإن لم يكن دخول، فرقنا بينهما، وإن جرى دخول على الظن، فوطء شبهة يتعلق به وجوب مهر المثل، والعدّة، ولا نفقة إن كانت حائلاً، وإن علقت منه بمولود، ففي وجوب النفقة قولان مبنيان على أن النفقة إذا وجبت مضافة إلى المطلقة البائنة
__________
(1) الرَّمَكة: الفرس البرذونة تتخذ للنسل. (معجم).
(2) كذا. ولعلها: واكتفى بالتعيين.

(12/433)


الحامل، هي [للحامل أو للحمل] (1)، وقد مضى ذلك.
8250 - وإن فرّعنا على القول الصحيح، وهو قول تصحيح العقد، فأول ما نذكره في التفريع على هذا القول، الخيار الذي ذكره أئمة المذهب أن الزوج المغرور يثبت له خيار فسخ النكاح إذا كان حراً.
وذكر صاحب التقريب والعراقيون في الزوج الحر المغرور، وفيه إذا كان الزوج عبداً وقد غُرّ ثلاثة أقاويل: أحدها - إنه لا خيار للزوج أصلاً، فليطلق إن شاء، وهذا القائل يقول: إنما يثبت الخيار للزوج بسبب عيوب المرأة فحسب، فإن النكاح على الجملة بعيد عن قبول الخيار، وجانب الزوج أبعد عن قبول الخيار من جانب الزوجة، فإنَّ الخيار إن ثبت، فالذي يليق به ألا يثبت إلا عند الضرورة لمضطر، وإنما يتحقق نعتُ الاضطرار في حق المرأة، فإنها في ربقةٍ لا تملك حلها اختياراً، والزوج ممكَّن من الطلاق؛ وبهذا المسلك لم يُثبت أبو حنيفة للزوج حق الفسخ بجب الزوج وعنته.
والقول الثاني - إنه يثبت الخيار بالتغرير في الحرية، سواء كان الزوج حراً أو عبداً، وهو الذي تدل عليه الآثار وأقضية الصحابة رضي الله عنهم.
والقول الثالث - إنه يُنظر، فإن كان الزوج حراً، فله الخيار، وإن كان عبداً، فلا خيار له؛ فإن العبد وإن كان مغروراً، فالأمة مع رقها مثله، وسنذكر في خُلف الشرائط في الأنساب أن الزوج إذا بان في نسبه أحط مما شرط، ولكن كان مع ما هو عليه أعلى نسباً من المرأة، أو كان مثلها، فهل يثبت الخيار للمرأة؟ فعلى قولين، فالزوجة إذا جرى شرط حريتها، فبانت رقيقة، فهي وإن بانت دون ما شرط مماثلة لزوجها العبد، فشابه ذلك الصورة التي ذكرناها الآن في اختلاف الشرط في النسب مع التساوي في المنصب.
8251 - فهذا أصل الكلام في الخيار، والتفريع في الزوج الحر. فإنَّا فيه نتكلم على الأصح وهو أن الخيار يثبت، ثم الزوج لا يخلو إمَّا أن يفسخ أو يُجيز، فإن
__________
(1) في الأصل: الحامل أو الحمل.

(12/434)


أجاز النكاح، استمر ولا رجوع، وعليه المهر المسمى.
ولو فرض بعد البيان (1) علوق بأولاد، فهم أرقاء لمالك الأمة.
8252 - وإن فسخ، فلا يخلو إما أن [يفسخ] (2) قبل الدخول، أو بعده، فإن جرى الفسخ قبل الدخول، فلا نصف مَهر ولا متعة، وحكم العدة والنفقة والسكنى [بيِّن] (3)، فإن العدة منفية، فلا تُتوقع نفقة ولا سكنى.
وإن جرى الفسخ بعد الدخول، فالمنصوص عليه للشافعي أن المسمى يسقط، ويجب لها مهر المثل على زوجها. وفي المسألة القول المخرج المنقاس، وهو أن الواجب هو المسمى؛ فإن النكاح تأكد بالمسيس، وشابه (4) تقرير المهر. وهذا بقية ما تقدم في باب العيوب. وحكم العدة والسكنى والنفقة على ما ذكرنا.
وأما الأولاد الذين انعقدوا في زمان الغرور، فإنهم أحرار، وانعقادهم على الحرية، وهذا متفق عليه، وعلى المغرور قِيَمُهم يوم ينفصلون أحياء، وسبب ذلك مع الوفاق المغني عن البحث أن اتصاف الزوج بظن حرية زوجته هو الذي اقتضى انعقاد الأولاد على الحرية، فكان في حكم السبب إلى منع جريان الرق عليهم، فصار منع الرق بمثابة قطع الرق، وهذا يناظر إيجاب الغرة على الجاني، فإنا بين أن ننسبه إلى منع انسلاك الروح بهدم بنية الجنين، والتسبب إلى إجهاضه [أو إلى منع اكتمال خَلْقه بإحراضه] (5).
ثم الاعتبار بقيمته يوم الانفصال على صفة الحياة، ولو فرض التمكن من اعتبار حالة العلوق، لاعتبرناها، ولكن لا قيمة للجنين في ذلك الوقت، ولا وصول إليه، وهو أيضاًً على أحكام من البعضية، فاعتبرنا وقت الخروج؛ لأنه أول حالة لاقاها
__________
(1) بعد البيان: أي بعد معرفته رقها.
(2) في الأصل: فسخ.
(3) في الأصل: بينة.
(4) أي أنه بعد المسيس أشبه تقرير المهر في النكاح الصحيح.
(5) زيادة اقتضاها السياق.

(12/435)


[إمكان التقويم] (1) وأبو حنيفة (2) يعتبر قيمته يوم الترافع، ثم إذا غرم المغرور قيمة الولد رجع بها على الغارّ إجماعاً، وقد نطق بذلك قضاء عمر.
والمهر الذي يلتزمه بالوطء في زمن الغرور هل يرجع به على الغارّ؟ فيه قولان مشهوران: أحدهما - إنه يرجع به كما يرجع بقيمة الولد، والثاني - لا يرجع به، وهو الأصح؛ لأنه شرع في عقد النكاح على أن يتقوم البضع عليه، ثم استوفى منفعة البضع بجهةٍ وطّن نفسه على التقوّم فيها، فكان كما لو اشترى طعاماً مغصوباً وأتلفه، فإذا غرِم قيمة الطعام لمستحقه، فلا يرجع بما غرمه على الغاصب.
8253 - ثم إذا ثبت أنه يرجع بالقيمة قولاً واحداً، أو بالمهر على أحد القولين؛ فالمذهب الذي عليه التعويل: أنه لا يرجع ما لم يغرَم، وكذلك إذا شهد الشهود على أن فلاناً قتل فلاناً خطأ، ونفذ القضاء بشهادتهم، وضرب القاضي العقلَ على عاقلة المشهود عليه، فإذا رجع الشهود عن الشهادة، فإنهم يغرَمون للعاقلة ما غرِمته العاقلة، فلو أراد العواقل أن يغرّموا الشهود قبل أن يغرموا ما ضرب عليهم، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً.
ولذلك إذا ضمن رجل عن رجل ديناً على وجهٍ يُثبت له حقَّ الرجوع على المضمون عنه، فليس له الرجوع قبل أن يغرم للمضمون له، هذا أصل المذهب.
وقد ذكرنا في رجوع الضامن على المضمون عنه قبل أن يغرم وجهاً في كتاب الضمان ليس بالقوي، وذلك الوجه يجري في مسألتنا وفي مسألة الشهود، وفي كل من يجد مرجعاً إذا غرم، إذا كان الغرم ديناً مستحقاً على من له حق الرجوع إذا غرم.
ثم الحكم بيّن إذا كان الغار وكيل سيد الأمة.
8254 - فأما إذا صدر الغرور منها -كما سبق تصوير ذلك- فالغرور منها يثبت حق
__________
(1) ما بين المعقفين مأخوذ من كلام الرافعي؛ إذ قال: "وتعتبر قيمة الأولاد يوم الولادة، فإنه أول حالات إمكان التقويم" (ر. الشرح الكبير: 8/ 150) وعبارة الأصل: "فإنه أول حالة لاقاها حكم ... " ثم كلمة مطموسة بعد (حكم).
(2) ر. مختصر الطحاوي: 175، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 354 مسألة رقم: 850.

(12/436)


الرجوع عليها، والكلام في متعلّق الحق. ومتعلقُ الحقوق المالية في العبيد الكسب أو الذمة أو الرقبة، فأما الكسب، فلا مطمع في تعلّق حق الرجوع به؛ من جهة أن التعلق بالكسب إنما يثبت في الحقوق التي تثبت بإذن المولى في المعاملات والضمان [والاستدانة] (1) ونحوها، ولم يوجد من السيد في ذلك إذن.
وأمّا الرقبة، فلا يتعلق بها حق الرجوع؛ من جهة أنه إنما يتعلق بالرقبة موجَب الإتلافات وأروش الجنايات، والإتلاف والجناية يردان على مملوك أو مستحق مضمون شرعاً، كالحر المحترم. والغارَّة ليست متلفة رقّاً، ولكنها متسببه إلى إثبات ظن في نفس الزوج، فيترتب عليه اندفاع الرق، فيبعد عن قياس الجنايات، ثم اندفاع الرق بظن يعتري الزوج ليس إتلافاً، بل هو متعلق بموجب معاملة ومعاقدة، وإذا كان كذلك، فالغارّة تسببت إلى ما ليس جناية، فلا يكون تسبّبها جناية، والطرق متفقة على هذا، وكأن الغرور منها بمثابة ضمان، إن صححنا الضمان من المملوك بغير إذن المولى، فإذا لم يتعلق حق المرجع بكسبها ولا برقبتها، لم يبق إلا أن يتعلق بذمتها. وسبيل ما يتعلق بالذمة [الاكتساب] (2) بعد زوال الرق بالعتق.
ثم إن كان الغرور من الوكيل، وأثبتنا [للمغرور] (3) الرجوع بالمهر، فإنه يرجع بكمال المهر على الوكيل، ولا يدع إليه شيئاًً، وإن كان الغرور من الأمة، وقد عتقت، فيرجع عليها بتمام المهر على القول الذي فرعنا عليه؛ فإنه غرِم المهر لمستحقه، وهو المولى، وإنما رجوعه الآن على من لم يكن مستحقاً للمهر.
8255 - وإن صدر الغرور من المُكاتبة، وأثبتنا الرجوع بالمهر، فهل يترك إليها شيئاًً من المهر، يجوز أن يكون صداقاً؟ فعلى الوجهين المذكورين من قبل، وسبب هذا التردد، أنها المستحقة للمهر، وعليها الرجوع على القول الذي نفرع عليه، فلو وقع الرجوع بتمام المهر؛ لخلا وطؤها عن استحقاق المهر، ولاقتضى ذلك اشتباه وطء النكاح بالسفاح؛ إذ هي المستحقة وعليها الرجوع.
__________
(1) في الأصل: والاستدامة.
(2) في الأصل: الاتساع.
(3) في الأصل: من المغرور.

(12/437)


وكل ما ذكرناه فيه إذا كان المغرور حراً.
8256 - فإن كان المغرور عبداً، ففي انعقاد النكاح القولان، فإن قلنا: لم ينعقد، نظر: فإن كان قبل الدخول، فلا نِصْفَ مهر ولا متعة، وإن كان بعد الدخول، فيجب مهر المثل. وفي محله أقوال: أحدها - إن محله الكسب، وهذا قول ضعيف، وخروجه على أن النكاح الفاسد يدخل تحت مطلق الإذن في النكاح، وقد ذكرنا فيه قولاً ضعيفاً فيما تقدم.
والثاني - إنه يتعلق بالذمة.
والثالث - إنه يتعلق بالرقبة، وكل ذلك فيما سبق مفصلاً في صدر النكاح.
وإن فرعنا على القول الصحيح، وهو أن نكاح المغرور منعقد، ففي ثبوت الخيار للعبد قولان، حكاهما الأئمة بأجمعهم، وهما مندرجان تحت الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في صدر التفريع على الغرور.
فإن قلنا: لا خيار للعبد، أو قلنا: له الخيار، فاختار الإجازة، فعليه المهر المسمى في الكسب. وإن اختار الفسخ، فهذا يتفرع على المنصوص [و] (1) المخرّج. فإن فرعنا على القول المخرج، وهو أن المسمى يجب بعد الدخول؛ فإنه يتعلق بالكسب أيضاً؛ فإنه دين ثابت على موجب إذن المولى في معاقدةٍ، فأشبه ما ذكرناه من المسمى في بقاء النكاح.
وإن فرّعنا على النص، وهو أن الواجب مهر المثل، فإذا فسخ، ثبت مهر المثل، [وفي] (2) محله الأقوال الثلاثة التي ذكرناها فيه إذا نكح نكاحاً فاسداً، وقد أذن له في النكاح مطلقاً، وإنما التحقت هذه الصورة بتيك؛ لأن مهر المثل يجب في النكاح الفاسد على موجب إذن المولى، ويجب مهر المثل على خلاف موجب الإذن أيضاًً؛ فإن العقد المأذون فيه قد زال، وزال بزواله أثر الإذن، فبقي مهرُ مثلٍ متعلق بوطء محترم.
__________
(1) الواو زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: ففي.

(12/438)


وكان شيخي يقوي في هذه الصورة قول التعلّق بالكسب؛ لأن المهر الواجب مهر نكاح صحيح مأذون فيه، ولكن أقمنا مهر المثل فيه مقام المسمى لحالة اقتضت ذلك، وإلا فالأصل أن النكاح وقع مأذوناً فيه، وانعقد على الصحة، وجرى الوطء في اطراد الإذن، والفسخ ليس ينعكس يقيناً على الأوقات المتقدمة على الفسخ.
8257 - ثم إذا كان المغرور هو العبد كما صورناه، فإذا علقت المرأة بمولود منه مع اطراد الإشكال، فمذهب الشافعي أن الولد حر، وإن كان الوالدان رقيقين، وذلك أن المغرور إذا كان حراً، فولده إنما ينعقد على الحرية لمكان الغرور، لا لحرية المغرور، إذ لو كانت حريته تقتضي حرية الولد، لكان ولد الحر من زوجته الرقيقة حراً، مع العلم بحقيقة الحال، فإذا ثبت الحال، فإذا ثبت أن المتبع هو الغرور، فالغرور في العبد كالغرور في الحر.
8258 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن المنكوحة لو كانت مكاتبة، وقد جرى الغرور بحريتها، نظر؛ فإن لم يكن الغرور منها، وإنما كان من الوكيل المزوّج، فالرجوع على الوكيل على نحو ما ذكرناه، غير أن الذي نزيده هاهنا تفصيلُ القول في ولد المكاتبة لو لم يكن غرور.
وقد اختلف قول الشافعي في ولد المكاتبة من سفاح أو نكاح عري عن الغرور: أحد قوليه - إن ولدها في الموضعين قِنٌّ.
والقول الثاني - إنه بمثابة الأم يعتِق بعتقها إذا عَتَقَت، ويرِق برقها، فإن قلنا: إنه رقيق، فهو للمولى أم هو بمثابة سائر مالها تستعين به على أداء النجوم؟ فعلى قولين.
وسيأتي شرح الأقوال توجيهاً وتفريعاً في كتابها، إن شاء الله عز وجل.
ثم إذا فرضنا الغرور، فالولد حر من الزوج المغرور في دوام الغرور، وينتظم مما ذكرناه من الأقوال قولان في أن المغرور يغرَم قيمة ولد [المكاتبة] (1) للمكاتبة أو
__________
(1) في الأصل: "المكاتب".

(12/439)


لمولاها، فإذا كان الغارّ وكيل المولى، فيغرم الزوج القيمة للمولى والمكاتبة، وذلك غُرمٌ على الوكيل [الغار] (1).
وإن كان الغرور صادراً من جهة المكاتبة، فإن جعلنا القيمة للمولى غرم المغرور له، ورجع على المكاتبة، وإن قلنا حق القيمة للمكاتبة، فلا معنى للغرم لها؛ من جهة أنها الغارّة، ولو غرم لها، لرجع عليها، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.
8259 - وأما المهر، فإنه للمكاتبة قولاً واحداً. وفي الرجوع بالمهر القولان، فإن لم نثبت رجوعاً به، فلا كلام، وإن أثبتنا الرجوع به، فتقدير الرجوع على المكاتبة.
وهل يجب أن نترك لها مقداراً من المهر؟ فعلى الخلاف المقدم. ولا شك أن مثل ذلك لا يجري في قيمة الولد إذا جعلناها حقاً للمكاتبة، وإيضاح ذلك يغني عن مزيد البسط.
ثم حيث نثبت الرجوع على المكاتبة مثلاً إذا أثبتنا القيمة للمولى، وكانت هي الغارّة، فإذا أراد الرجوع عليها، طالبها بما يرجع به عليها من المال الذي في يديها، فإن لم يصادف في يديها شيئاًً، تعلق بكسبها، فإن فضل فضل، ففي ذمتها، يتبعها به بعد العتق، وجاء في لفظ الشافعي تشبيه ما يرجع به على المكاتبة بالجناية، ولم يشبهه بالجناية من جميع الوجوه؛ لأنها تتعلق بالرقبة إذا لم يف الكسب بها، وهذا الدين الذي نحن فيه لا يتعلق بالرقبة بحال. وإنما شبهه بالجناية من حيث إنه يؤدى من الكسب بعد العجز.
والقول في متعلق الديون على أقسامها غمرة كتاب [الجناية] (2)؛ فلا سبيل إلى الخوض في بيانها الآن، وإنما غرضنا هاهنا أن سبيل ما يرجع به عليها لكونها غارّة كسبيل ديون المعاملات في أنه يتعلق تعلقَ ديون المعاملات. ولفظ الشافعي في التشبيه بدين الجناية محمول على ما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: للغار.
(2) في الأصل: الكناية.

(12/440)


فصل
قال: "فإن ضربها أحد فألقت جنيناً ... إلى آخره" (1)
8260 - مضمون هذا الفصل من بقية أحكام التغرير بالحرية، وليقع فرضه فيه إذا كانت الزوجة مملوكة فيه، وقد قدمنا أن الولد على حكم الغرور حر. ثم ذكرنا أنه يجب على المغرور قيمة الولد للمولى يوم انفصاله حياً، ولو انفصل ميتاً، لم يغرَم بسببه شيئاًً اعتباراً بحالة الانفصال، وتعليله أن سبب تغريم المغرور [انتسابه] (2) إلى تفويت حق الرق على المولى بسبب ظنه الذي اتصف به، ولو قدرنا الولد رقيقاً وانفصل ميتا من غير جناية جانٍ، فيكون حق المولى في هذه الصورة فائتاً بسبب انفصال الولد ميتاً؛ فلا ينتسب المغرور إذاً إلى تفويتٍ في هذه الحالة.
8261 - ولو انعقد الولد بسبب الغرور حراً، ثم جنى جانٍ على الأم، فألقت الجنين المحكوم بحريته؛ فهذا الطرف مما يجب الاعتناء بفهمه، والاطلاع على حقيقته، فلا تخلو الجناية إما أن تكون من أجنبي وإما أن تكون من المغرور نفسه، وإما أن تكون من مولى الأمة ومالكها.
فإن كانت الجناية من أجنبي، فلا شك أن الغرة تجب، وهي عبدٌ أو أمة، ثم الغرة مضروبة على عاقلة الجاني لا محالة؛ إذ لا يتصور تعمد الجنين بالجناية عليه، وشبه العمد مضروب على العاقلة كالخطأ المحض.
ثم إذا تبين أن الجنين لم ينفصل ميتاً هدراً، بل انفصل مضموناً، فالضمان فيه يثبت على المغرور لا محالة، وليس كما لو انفصل ميتاً من غير جناية جانٍ، ثم الغرة إلى من تصرف؟ وما القدر الواجب على المغرور لسيّد الأمة بسبب [انفصال] (3) الجنين مضموناً؟
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 10.
(2) في الأصل: انقسامه.
(3) في الأصل: اتصال.

(12/441)


فأما مصرف الغرة، فإن لم يكن للجنين وارث سوى أبيه المغرور، فالغرة بكمالها مصروفة إليه، وإن كان للجنين وارث غيرُه، صرف قسط من الغرة إلى من يرث معه على ما تقتضيه قسمة المواريث، ولا يتصور أن ترث معه [الأم، فإنها] (1) رقيقة، [فلا يرث معه] (2) إلا جدة حرة هي أم أم الجنين، فلها السدس من الغرة والباقي للأب. هذا بيان مصرف الغرة وذكر مستحقها.
فأما القول فيما يغرمه المغرور لسيد الأمة، فنقول: حاصل ما ذكره الأئمة وجهان: أحدهما - إنه يغرم لسيد الأمة أقل الأمرين من عُشر قيمة الأم أو قيمة الغرة، فإن كان عشرُ قيمة الأم أقلَّ، غرِمه للمولى، وربما يفضل من الغرة إذا لم يكن للغرة وارث غيره، وإن كانت قيمة الغرة أقلَّ من عُشر قيمة الأم، لم يلتزم المغرور إلا قيمةَ الغرة، هذا أجد الوجهين.
والوجه الثاني - إن المغرور يغرَم للمولى عُشر قيمة الأم بالغاً ما بلغ، وإن كانت قيمة الغرة أقل منه. ولا يخفى أن ما ذكرناه من عُشر قيمة الأم هو واجب الجنين الرقيق عند الشافعي، على ما سيأتي موضحاً في موضعه، إن شاء الله عز وجل. وكأن أحد القائلَيْن يَعتبر الأقلَّ من واجب جنين رقيق أو قيمة الغرة، والقائل الثاني يعتبر واجب الجنين الرقيق بالغاً ما بلغ.
ثم زعم الأئمة أن هذا الاختلاف يقرب من القولين في أن العبد الرقيق إذا جنى وأراد المولى أن يفديه [فبكم يفديه؟] (3) ففيه قولان: أحدهما - إنه يفديه بأقل الأمرين من الأرش أو قيمة العبد الجاني. والقول الثاني - إنه يفديه بأرش الجناية بالغاً ما بلغ إن أراد أن يسلم له العبد، وإن أبى بيع العبد في الجناية.
ثم أصح القولين: أن السيد يفديه بأقل الأمرين، فقال الأصحاب في مسألة المغرور والغرة: أصح الوجهين أنه يغرم للمولى أقلَّ الأمرين من عُشر قيمة الأم أو قيمة الغرة. واختار القاضي أنه يغرَم للمولى عُشر قيمة الأم بالغاً ما بلغ، وإن كانت قيمة
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: "فلم يَفْدِه".

(12/442)


الغرة أقل منه. ولا شك أن القاضي يختار في مسألة الفداء أنه يفدي السيد العبد بأقل الأمرين. والأصح عندنا ما اختاره القاضي، وسيتضح بتوجيه اختياره، وما يذكره الأصحاب في مقابلته حقيقة الفصل ومداره.
8262 - فنقول: المعتبر فيما يغرمه المغرور للمولى تفويته عليه، فإنا قلنا: إذا انفصل الجنين الحر حياً، فيجب على المغرور قيمته يوم الانفصال، والسبب فيه أنه لو كان رقيقاً، لكان يسلم للمولى، فإذا قلنا: [صار] (1) العبد يسبب الغرور حراً، وقد انفصل الجنين الحر حياً، فقد فوت المغرور الرِّق على السيد.
فإذا بان أن معوّل الضمان ما ذكرناه من التفويت، فنعود ونقول: إذا انفصل الجنين بجناية الأجنبي الجاني، فلو كان رقيقاً، لكان الجاني يغرم عُشر قيمة الأم، فالغرور فَوّت في هذه الحالة عُشرَ قيمة الأم؛ فليجب هذا المقدار على المغرور للسيد، ولا ننظر إلى الغرة. كما أنّا عند انفصاله حياً نوجب قيمته، وإن زادت على مقدار الدية؛ نظراً إلى ما صار المغرور سبباً في تفويته.
وهذا القائل يقول: أَخْذ هذا من فداء العبد الجاني محال؛ فإنَّ ذلك مفروض في عبد يتعلق الأرش برقبته، والسيد يبغي أن يستبقيَه، فيتجه ألا نلزمه أكثر من قيمته؛ فإنه لو سلمه للبيع، لم يتحصل المجني عليه إلا على ثمنه، وما يضمنه المغرور في مسألتنا ليس مأخوذاً من مأخذ الفداء، وإنما هو مأخوذ من التفويت الذي قررناه.
ومن نصر الوجه الثاني وهو المشهور، وإليه ميل جمهور الأصحاب، احتج [بأن، (2) سبب تغريم المغرور ما وجب على الجاني من الغرة؛ إذ لو انفصل ميتاً من غير جناية، فلا ضمان، [و] (3) ما ضمن المغرور للسيد شيئاًً، فإذا كان سبب التضمين ما يجب على الجاني، فيبعد أن يزيد ما يضمنه المغرور على ما يضمنه الجاني له؛ إذ لو زاد، لكان المسبَّب زائداً على السبب.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: بأنه.
(3) (الواو) زيادة من المحقق.

(12/443)


وهذا ليس على وجهه، فإنا إذا اخترنا الوجه الأول، فمعولنا فيه أنه جرت في الجنين حالة [لولا] (1) الغرور، لكان يسلم للمولى عُشر قيمة الأم، فقد صار الغرور سبباً في تفويت ذلك. والتعويل في النفي والتثبيت على التفويت، فإن الجاني غرم الغرة، وقد جرت [جنايته] (2) بعد تحقق الحرية، فينبغي أن يكون النظر إلى الحالة التي جرت الجناية فيها؛ فإن من قتل جاريةً مزوّجة، لم يلزمه قيمتُها خليّة عن الزوج، وإن كان تقدير ذلك فيها ممكناً لو بقيت، ولكنا نعتبر الصفة التي كانت الجارية عليها حالة الإتلاف.
[وهذا] (3) الكلام عري عن التحصيل، فإنه مقبول في حق الجاني على هذا النسق، ولكن [لا وقع له] (4)، ولا أثر في حق المغرور، مع ما قررناه من تركه (5) التفويت.
8263 - فإذا تبين الوجهان ومأخذُهما، وما صار إليه الجمهور، واتجه ما اختاره القاضي، وانفصال هذا الأصل عن مأخذ فداء العبد الجاني.
فما نفرعه على هذا المنتهى أنا إن قلنا: يغرم المغرور للسيد أقلَّ الأمرين، فإنه لا يغرمه له ما لم تسلم له الغرة؛ فإنا نأخذ تضمينه من الغرة السالمة، ثم نعتبر الأقل بناء عليها.
وإن سلكنا المسلك الآخر، غرّمنا المغرور عُشرَ قيمة الأم في الحال، ولم ننتظر حصول الغرة له اعتماداً على التفويت، ونظراً إليه.
فعلى هذا لو كان للجنين وارث سوى الأب المغرور، فقد ذكرنا أنه لا يتصور أن ترثها [الأم] (6) مع الأب إذا (7) كانت الأم رقيقة، أما الجدة أم الأم [فترث] (8)، فإذاً للجدة السدس والباقي للأب.
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(2) في الأصل: جناية.
(3) في الأصل: "فهذا".
(4) في الأصل: لا يتوقع.
(5) أي تَرْكه النظر إلى التفويت والبناء عليه.
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) إذا: بمعنى (إذ) وهو استعمال عربي فصيح. سبق أن بيناه، بأمثلته ومصدره ومرجعه.
(8) زيادة لاستقامة الكلام.

(12/444)


وإذا لاح ذلك؛ بنينا على هذا الغرض، وقلنا: إن أوجبنا على المغرور أقلَّ الأمرين، فنعتبر مع الجدة الأقل من عُشر قيمة الأم، أو خمسة (1) أسداس الغرة، فإنه لم يسلم للأب إلا خمسة أسداس الغرة، والسدس الذي تستحقه الجدة غير محسوب على الأب المغرور.
وإن فرعنا على أنه يجب على المغرور عُشر قيمة الأم بالغاً ما بلغ، وإن زاد أضعافاً على قيمة الغرة، ثم قلنا: لا يتوقف تغريم المغرور على سلامة الغرة له، فنقول على موجب هذا: [على] (2) المغرور عُشر قيمة الأم، وإن كان السالم له من الغرة خمسة أسداسها؛ فلا ننظر إلى المقدار الذي يسلم له، ولا نجعل ذلك من بالنا، وإنما ننظر إلى التفويت. وهذا بيّن.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الجاني هو الأجنبي.
8264 - فأما إذا كان الجاني هو المغرور المستولد، فأول ما نذكره أنه لا يرث الجنينَ في هذه الحالة؛ لأنه قاتِل، وليس للقاتل من الميراث شيء. ثم إذا حجبه القتل، فيتصور للجنين ورثة مع الجدة، كالأخ والعم ونحوهما؛ فإن القاتل كما لا يرث، لا [يحجب] (3).
وإذا اتضح هذا، عدنا إلى غرضنا، وقلنا: لا شك أن هذا المغرور إذا كانت له عاقلة، لم يغرم بنفسه الغرة، بل هي مضروبة على عاقلته، وأما الذي يغرَمه المغرور للسيد، والحالة ما وصفناها. نقل (4) بعض الأصحاب [المعتمدين] (5) عن القاضي أنه قال: ما تغرمه عاقلةُ المغرور من الغرة مصروف إلى ورثة الجنين سالمٌ لهم، وعلى
__________
(1) المعنى: أننا مع وجود الجدة نوجب على المغرور الأقل من عشر قيمة الأم أو خمسة أسداس الغرة، فأيهما ظهر الأقل غرمه. وذلك أن الجدة تأخذ سدسها ميراثاً، قبل أن يغرم الأب.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: يحجبه.
(4) نقل بعض الأصحاب: جواب (أما) بغير الفاء. وهي لغة كوفية، يجري عليها الإمام غالباً، كما نبهنا مراراً. ومثاله قول عائشة رضي الله عنها: وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة، طافوا طوافاً واحداً. (ر. شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: 195).
(5) في الأصل: معتمدين.

(12/445)


المغرور في نفسه أن يغرَم عُشر قيمة الأم لسيد الأمة.
ثم قال هذا الناقل: هذا غلط منَّا في النقل أو سهوٌ جرى على لسان ذلك الإمام.
والوجه أن يقال: يصرف من تلك الغرة مقدارُ عُشر القيمة إلى السيد، وما فضل، فهو مقسوم على الورثة، على فرائض الله تعالى.
وفي هذا وقفة وتأمل على الناظر، ونحن وراء التنبيه عليه، فإن كان هذا الاستدراك على القاضي رداً عليه وتغليطاً له، ونسبةً إلى الخروج عن قياس ما اختاره في قاعدة المسألة، فالغلط من المستدرِك، والقاضي مستدٌّ على اختياره تعويلاً على [نكته] (1) التفويت.
فنقول: اجتمع في هذه المسائل تفويتٌ من [المغرور] (2)، وهو سببٌ يضمّنه، والمقدار المفوَّت في صورة الجناية عُشر قيمة الأم، وحصل في المسألة جناية المغرور في نفسه على جنين حرّ، [فخرج] (3) عن كونه وارثاً، فاقتضى التفويتُ تغريمه عشرَ قيمة الأم للسيد، واقتضت جنايته الناجزة تغريمَ عاقلته غرة الجنين، وإذا تعدد السبب لا يبعد تعدّد المتسبَّب، فهذا توجيه ما ذكره القاضي.
والذي يوضح ذلك أنا على موجب هذه الطريقة نُلزم المغرور إذا كان الجاني أجنبياً تمامَ عُشر قيمة الأم، وإن كان لا يسلم له إلا خمسة أسداس الغرة، فاتجه ما أردناه.
وقياس مذهب الجمهور المستدرِك على القاضي ما ذكره، فإنَّا نتخذ ما يحصل من الغرة أصلاً فيما يغرمه المغرور للسيد، والذي تغرمه عاقلةُ هذا المغرور الغرة، فلا مزيد على مقدارها، ولا يجمع بين وجوبها للورثة وبين تغريم المغرور، بل نجعل رجوعنا إلى الغرة، فنؤدي منها حق السيد، فإن لم يفضل شيء، أو كانت الغرة أقل، فلا مزيد، وليس للورثة شيء، وإن كانت الغرة أكثر من عُشر قيمة الأم، فالفاضل مصروف إلى الورثة.
__________
(1) في الأصل: نكثه.
(2) في الأصل: الغرور.
(3) في الأصل: فزوجه.

(12/446)


ولم يذكر الصيدلاني في كتابه إلا هذا الوجه على النسق الذي ذكرناه، فتكون الغرة ممثلة بالدّية في صورة نذكرها الآن، وهي أن الجاني إذا جنى على عبد مملوك بقطع يديه، [ثم] (1) عتقَ العبد المجني عليه، ومات حراً، فالواجب على الجاني الدية؛ فإن الاعتبار في المقدار [المغروم] (2) وجنسه بالمآل، ثم يصرف من الدية إلى السيد حقه، وفيه تفصيل عظيم في مسألة منعوتة من كتاب الجراح، وقدرُ غرضنا -الآن- منها أنا نصرف قسطاً من الدية إلى السيد. هذا مسلك الأصحاب.
وفي الاستشهاد بما ذكرنا بعض النظر؛ من جهة أن الجناية اتصلت بالعبد وهو رقيق، ثم تلك الجناية بعينها [سرت] (3)، وليست مسألة الغرور كذلك؛ فإن سبب غرمه للسيد منفصل عن سبب غرم العاقلة للغرة، ولكن من حيث إن الجماهير يعتبرون الغرة قدراً ولا يوجبون الغرم قبل حصولها يتجه ما ذكره الأصحاب.
فهذا بيان تصويب القاضي على موجب اختياره، والرد على من استدرك عليه.
وإن كان الاستدراك على القاضي؛ من جهة أنه لم [يحك] (4) في المسألة خلافاً، وقطَعَ الجواب بأن المغرور يلتزم عُشر قيمة الأم للسيد، وعاقلتُه يغرمون الغرة بكمالها للورثة، فإن حكى في ذلك إجماع الأصحاب، ففي حكاية الإجماع نظر؛ فإنَّ قياس الجماهير ما ذكرناه من ربط الغرم بالغرة، وما ذكره القاضي صحيح على قياسه.
ثم الأصحاب يقولون: إتلاف المغرور الجنين في حكم استيفائه الغرة إذا حصلت الغرة لمستحقها.
وكل ما ذكرناه إيضاح لما قبلُ، والأصح في المسألة وتفريعها ما اختاره القاضي، وقد نجز الكلام في جناية الأجنبي، وفي جناية الأب المغرور.
8265 - فأما إذا علقت الجارية بالولد الحر، فجنى السيد، وأجهضت الأمةُ
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "المغرور".
(3) في الأصل: سريت.
(4) في الأصل: يجد.

(12/447)


الجنين، فعلى [عاقلته الغرة] (1) لا محالة، ثم يتفرع في هذه الصورة مذهب القاضي وطريقة الجماهير.
فأما ما اختاره القاضي، فمقتضاه في هذه المسألة أن ما تغرمه عاقلة المالك -وهو الغرة- مصروف إلى ورثة الجنين. ولا يتصور في هذه الحالة للجنين ورثة إلا الأب [والجدة] (2)، ثم يغرَم المغرور للسيد عُشرَ قيمة الأم.
وفي هذا الموضع عندي نظر؛ فإنا نعوّل في طريقة القاضي على التفويت، والسيد هو الذي فوّت الجنين، [فلو كان الجنين] (3) رقيقاً، لكان التفويت منسوباً إلى مالك الرق في الجنين، فيبعد أن يكون المفوت من طريق إتلاف المالك، ويجب الضمان على المغرور؛ فينبغي أن يقال: انفصاله بجناية المالك، كانفصاله من غير جناية، غير أن الغرة وجبت لمكان حرية الجنين، فالسيد يقول للمغرور: لولا تفويتك عليَّ، لما وجبت على عاقلتي، فينقدح والحالة هذه أن يصرف إليه من الغرة شيء، والأوجه عندنا على قياس القاضي أن تصرف الغرة إلى الورثة، [ولا] (4) يغرم له المغرور شيئاًً. والعلم عند الله تعالى.
وهذا مشكل في النهاية بسبب كون الغرة على غير الجاني مع انتساب الجاني إلى الإتلاف.
وأما قياس جماهير الأصحاب، فهو ما ذكرناه أن المغرور لا يغرم للسيد شيئاًً قبل حصول الغرة، فإذا حصلت، اعتبرت الغرة كما تقدم، فإن كانت مقدار عُشر القيمة أو أكثر، صُرف عُشر القيمة إلى السيد، ولا تخفى الطرق الأُخر، وهو إذا كانت الغرة أقل، وفي القلب من هذه المسألة حسيكة (5)، وإن فرعناها على قياس الأصحاب؛
__________
(1) في الأصل: عاقلة الحرة.
(2) في الأصل: والجد.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: فلا.
(5) حسيكة: الحسيكة في الأصل: العداوة والحقد، والمراد هنا، الضيق والألم، وعدم الرضا، وعدم الشعور ببرد اليقين، بل بألم الشك. (المعجم وأساس البلاغة).

(12/448)


من جهة أنَّا لو صرفنا الغرة، وكانت مقدار عُشر قيمة الأم إلى المالك الجاني، لكان هذا الحكم مؤدياً إلى إيجاب مال على عاقلة الجاني للجاني، وهذا قبيح مضطرب، والذي يتجه عندنا في كل قياس أن لا يغرم المغرور شيئاًً للسيد.
وقد انتجز القول على أقسام الجناة.
8266 - فإن قال قائل: لو كان الجاني على الجارية الحامل بالولد الحر عبدَ الزوج المغرور، فنقول: الغرة في رقبته في وضع المسألة، والمقدار الذي يرثه المستولد لا يتعلق برقبة [عبده] (1)، حتى لو لم يكن وارثٌ سواه، فلا يتعلق برقبة العبد شيء، ولكن يجعل كأنه استوفى الغرة؛ فإنّا رأينا [ .... ] (2) لمكان ملكه في رقبته، وكان هذا كاستيفاء الغرة (3).
ثم ينقدح بعد ذلك سؤال [وجواب] (4) عنه، وهو أن قائلاً لو قال: هلا جعلتم إتلاف عبد المستولد بمثابة [إتلاف المستولد] (5)، قلنا: إذا كان الجاني هو المستولد، فليس له في الميراث نصيب، والجنين حر، فلا نجعله جانياً على حقه، وإذا كان الجاني عبدَه، فحق المستولد من طريق التقدير قائم، وقد أثبتناه له، ثم إنا حططناه عن ملكه، فانفصلت المسألة عن المسألة. وما عندي أن باحثاً يزيد على هذا، ليتقرر الذي ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: عبد.
(2) ما بين المعقفين كلمة غير مقروءة في الأصل، ورسمت هكذا (ـحده) (انظر صورتها)، وواضح أن في العبارة خرماً، فلم تستوف التخريجين: اعتماد الغرة، والنظر إلى التفويت.
(3) عبارة الإمام الرافعي في المسألة هكذا: "الثالث: أن تصور الجناية من عبد المغرور، فإن اعتمدنا التفويت، فحق سيد الأمة على المغرور، ولا تتعلق الغرة برقبته -أي رقبة عبده-، إن كان المغرور حائزاً لميراث الجنين؛ لأنه لا يستحق على عبده شيئاًَ. وإن اجتمعت جدة الجنين معه، تعلق نصيبها برقبته.
وإن قصرنا النظر على الغرة، تعلّقت الغرة برقبته، ليؤدي منها حق السيد، فإن فضل شيء، فعلى ما بيّنا". (ر. الشرح الكبير: 8/ 155).
(4) في الأصل: أو جواب.
(5) في الأصل: الإتلاف المتولد.

(12/449)


8267 - ومن صور المسألة أن المغرور لو كان عبداً، وهو الذي جنى، فالغرة تتعلق برقبته للورثة، هذا قياس واضح. وأما حق سيد الجارية، فإنه يتعلق بذمة العبد، فإنَّا أوضحنا أنَّ المغرورَ إذا كان عبداً وانفصل الولد حيّاً، فقيمةُ الولدِ يوم الانفصال تتعلّق بذمة العبد، لا تتعلق بكسبه، ولا برقبته. فنفذ ذلك القياس على قانونه.
ونحن نقول: حقُ السيدِ عُشْر قيمةِ الأم، وهو المتعلق بذمة العبد. وهذا إذا لم يلتفت على مقدار الغرة، فإنْ نظرنا إلى مقدارها، لم يخف قياسُ سائر الأصحاب.
وهذا مُنتهى القول في التغرير بالحرية في حق الحر والعبد. ونحن نعقد وراء ذلك فصلاً في الاغترار بالحرية ظناً من غير تغرير. وأمَّا تغرير المرأة بحرية الزوج، فسنذكره في آخر الباب، إن شاء الله عز وجل.
فصل
8268 - نقل الأئمةُ عن الشافعي أنه قال: "إذا نكحَ المسلمُ امرأةً حسبها مسلمةً، فبانت يهودية أو نصرانية؛ فللزوج الخيار في فَسْخِ النكاحِ.
ونصَّ أنَّ من نكح امرأةً ظنَّ أنها حرةٌ، فبانت أَمَةً، فلا خيارَ للزوج ... إلى آخره".
واختلف الأئمة على طُرق، فمنهم من جعل في المسألتين قولين، نقلاً وتخريجاً: أحد القولين - إنَّ الخيار يثبت في الموضعين؛ لأنَّ الغالبَ في الزوجةِ الإسلامُ والحرية؛ فصار اطراد العادة فيهما بمثابة الشرط المصرح به.
والقول الثاني - إنه لا يثبت الخيار فيهما لبعد النكاح عن الخيار، وعروّ العقد في الموضعين عن الشرط.
ومن أئمتنا من قطع بنفي الخيار في ظن الرق كما ذكرناه، وحَمَلَ نصَّ الشافعي في مسألة الكتابية على نقل مذهب الغير.
وقد تكرر ذلك في نصوص الشافعي في مسائل النكاح.
ومن أصحابنا من أقرَّ النصين قرارهما وحكم بموجبهما، وفرَّق بأنَّ الرقَّ ليس له

(12/450)


علامة حتى يُنَزَّل ظهورها منزلة ذكره، وكذلك الحرية لا أمارة لها، والكافرة لا يزوجها إلاَّ وليها الكافر؛ ولا يخفى ذلك، فإن فُرض خفاؤه، فسببه تلبيس معمود، ولا يبعد أن يكون التلبيس بمثابة التصريح بالشرط. هذا ما ذكره الأصحاب.
8269 - والذي أراه في ذلك أنَّ المسألتين حقهما -في إطلاق العقد- أن يؤخذا من مأخذ آخر، وهو أنَّ الكفر هل يلتحق بالعيوب التي تُثبت حق الفسخ؟ وهذا محتمل؛ من جهة أنَّ البرص والجذام إذا اقتضيا حق الفسخ لما فيهما من نفار الزوج عن الاستمتاع، فقد يتحقق مثل ذلك في الكافرة.
وليس في الرق من معنى النفار ما في الكفر، ولذلك لا يستشعر المرء تكرهاً في تسري الجواري. وإتيانُهن في النكاح كإتيانهن في ملك اليمين.
وقد ينقدح في الرق التحاقه بالبرص؛ من جهة أنَّ من المعاني المحذورة أيضاًً في الجذام والبرص -فيما قيل-[التعدي] (1) إلى النسل، وقد أشار الشافعي إلى ذلك.
وهذا إن صح، فهو مظنون لا يرتبط بتحقيق، والرق يتعدى إلى الولد لا محالة.
فينتظم من الكفر والرق في المأخذ الذي ذكرته ثلاثة أوجه: أحدها - أنهما من العيوب.
والثاني - أنهما ليسا من العيوب المثبتة للفسخ.
والثالث - أنَّ الكفر عيب والرق ليس بعيب.
وإذا أجرينا الترتيب على هذا النظم، لم نتعلق بالعادة وادعاء اطرادها.
وقد بقي من سر هذه الفصول كلام لا يبين إلاَّ في نجاز الباب. وكنَّا أخرنا التغرير بالأنساب وغيرها إلى هذا الباب، وقد حان الوفاء بالموعود.
__________
(1) في الأصل: العدى.

(12/451)


فصل
مشتمل على التغرير بالنَّسَبِ وما في معناه.
8270 - فنذكر تغرير الزوج الزوجة بشرفِ نَسَبِ نفسِهِ، ثم نذكر تغريرها زوجهَا بشرف نسبها.
فإذا قال الرجل: أنا عربي أو قُرَشي، فانتسب إلى النسب كاذباً، ثم بان كذبه، نُظر، فإن بان أنه دونها في النسب، وقد تحقق الخُلف في الشرط، فالقول في انعقاد النكاح على ما قدمناه في التغرير بالحرية. وقد أوضحنا جريان القولين في كل خُلف يُفرض في شرط الصفات، والتفريع على صحة النكاح، فنقول: إذا حكمنا بالصحة، وقد بان الزوجُ دونها في النسب، وظهر الخلف في الشرط؛ فالذي أطلقه الأصحاب: أنَّ الخيار يثبت لها. فإن فسخت النكاح، لم يخف تفريع المهر والنفقة وغيرهما من الأحكام.
والقول الجامع أنَّ فَسْخَها قبل الدخول وبعده بمثابة فسخها النكاح بعيب في الزوج يُثبت الخيار. وقد تقدم ذلك مستقصى في بابه.
وإن اختارت الإجازة، فلأوليائها حق الفسخ، دفعاً للعار عن النسب.
ولو أخلف شرط الزوج في شرف النسب، فبان دون ما شرط، ولكن كان مثلها أو فوقها -وإن ظهر كونه دون ما شرط- فهل يثبت لها الخيار -والحالة هذه- أم لا؟ فعلى قولين: أحدهما - لها الخيار؛ للخُلف في المشروط.
والثاني - لا خيار لها؛ فإنَّ خيار الفسخ في النكاح يجب أن يكون مستنداً إلى ضررٍ ظاهر، وإلاَّ فالنكاح بعيد عن قبول خيار لا يتعلق بدفع ضرر، ولو جاز ثبوت الخيار من غير دفع ضرر، لثبت في النكاح خيار التروي، وهو خيار المجلس والشرط، فإن لم يثبت الخيار، فلا كلام، وإن أثبتنا الخيار، فإن فسخت؛ نفذ الفسخ، وإن أجازت، فلا يثبت الفسخ للأولياء؛ فإنَّ الشرط لا يُثبت لهم شيئاًً، وإنما حقهم في دفع العار عن النسب، فإذا كان الزوج كفؤاً لها -وإن أخلف شرطه- فلا عار على الأولياء في نكاحه.

(12/452)


8271 - قال الأئمة: إذا زوّج السيد أَمَتَهُ من إنسان، وقد جرى في النكاح شرط حرية الزوج، ثم بان عبداً، والتفريع على صحة النكاح، ففي ثبوت الخيار قولان.
فإنَّ الزوج -وإن خرج عبداً- فهو مثل زوجته، فكان ذلك بمثابة ما لو خرج الزوج كفؤاً لها، وإن بان دون ما شرط.
وكان شيخي أبو محمد يرى مسألة العبد أولى بالخيار؛ فإنَّ العبد، وإن كان كفؤاً للأَمَة، ففي نكاحه ضرار وتضييق في النفقة وغيرها، وهذا المعنى لا يتحقق في الخلف في النسب مع الكفاءة.
والذي يتعلق بهذا المنتهى أنَّا إذا أثبتنا الخيار في مسألة العبد، فالخيار لا يثبت إلاَّ للسيد؛ فإنَّ الأمة مجبرة على التزويج من العبد، وكيف ينتظم إجبارها على التزويج من عبد مع إثبات الخيار. وأيضاًً فإنَّ الإضافة (1) بضيق أمر النفقة ثَمَّ، ضرره يرجع على السيد، وليس كالجَبّ والعُنَّة والجنون والبرص والجذام؛ فإنَّ حق الفسخ يثبت في هذه العيوب للأَمَة، لا للسيد؛ فإنَّ الغرض منها يتعلق بالجبلات وشهوات النفوس، فكانت أولى بها.
وأمَّا أمر النفقة في الأمة، فيتعلق ضراره بالسيد؛ فإنَّ الزوج إذا أعسر، فعلى السيد الإنفاق على أمته.
8272 - وإذا وضح ما ذكرناه، فالكلام بعده في طلب التحقيق والبحث عن حقيقة الباب. فنقول أولاً:
أمَّا العيوب التي تكون بالزوج، فتُثبتُ لها الخيار كيف فرضت، ولا حاجة إلى تقدير الشرط؛ فإنَّ وجود تلك العيوب يُثبت حق الفسخ من غير تقدير شرط، وكان القياس يقتضي ألا نُثبت خياراًّ متعلقاً بخُلفٍ في شرط، ولكن اشتهر [اختلاف] (2) القول في إثبات الخيار المتعلق بالخلف في الشرط.
وأنا أذكر على الاتصال تفصيل الغرور من جانبها والمغرور الزوج، ثم آتي
__________
(1) كذا. وستتكرر هذه اللفظة قريباً.
(2) في الأصل: اخلاف.

(12/453)


[بفصلين] (1)، بهما تتحقق أبواب وأحكام في الفسوخ.
8273 - فإذا غَرَّت زوجَها بشرفِ نسبها، والتفريع على أنَّ النكاح يصح وإن أخلف الشرط، فإذا غرّت الزوجَ بشرف النسبَ، ثم أخلف الشرط، فقد قال الأصحاب: إنْ بانت دونه ودون ما شرطت، ففي ثبوت الخيار قولان: أحدهما - يثبت الخيار، وهو اختيار المزني.
والقول الثاني - لا يثبت الخيار.
توجيه القولين: من قال: يثبت الخيار، [قاس] (2) خلف الشرط وهو المغرور، على خلف الشرط وهي المغرورة، وأكد بأنَّ الخيار ينبغي أن يثبت من الجانبين؛ اعتباراً بالفسخ المتعلق بالعيوب.
ومن قال: لا يثبت الخيار، احتج بأنَّ نقصان نسب الزوج عن نسبها يشينها ويعير حسبَها، والرجل لا يتعير بنكاح خسيسة.
وقد قال الأئمة: القولان في ثبوت الخيار له إذا كان مغروراً - كالقولين في ثبوت الخيار لها إذا كانت مغرورة، وقد بان الزوج مثلها ودون ما شرط.
ووجه التسوية أنَّ الرجل إذا بان مثلها، فلا معرَّة عليها من جهة نسب زوجها، ولكن أخلف الشرطُ المقتضي مزيداً في الشرف، وجرى القولان بخلف الشرط من غير ضرار، ولحوق عار. وهذا المعنى يتحقق فيه إذا بانت المرأة خسيسةً؛ فإنَّ الزوج، وإن كان لا يلحقه عار من دناءةِ نسبها، فقد تحقق خلف الشرط المتضمن مزيد شرف فيها.
وما ذكرناه فيه إذا كان هو المغرور وقد بانت دونه.
فإن كان كذلك، ولكنها بانت مثله ودون ما شرطت، ففي ثبوت الخيار للزوج قولان، كان يرتبهما شيخي على الصورة الأولى، وهي: إذا بانت دونه ودون ما شرطت، وهذا الترتيب ضعيف؛ من جهة أنا إنما نثُبت الخيار للزوج
__________
(1) في الأصل: بتفصيلين.
(2) في الأصل: قياس.

(12/454)


[بخلف] (1) الشرط فحسب، وهذا المعنى لا يختلف بأن تبين مثله أو دونه، وسأشير إلى ما حمل شيخي على هذا الترتيب إذا خضت في الفصلين الموعودين [وها هما] (2).
[الفصل الأول في قاعدة الفسخ] (3)
8274 - فنذكر فصلاً في قاعدة الفسخ أولاً فنقول:
نُبيّن قواعد الفسخ من جانبها، ثم ننعطف على جانب الزوج، فأمَّا فسخها النكاح بموانع الزوج من الوطء [مما] (4) لا يتعلق بالعيافة وخوف العار واستشعار العدوى، فهو بمثابة فسخها النكاح بجَبِّ الزوج وعُنَّته، فهذا النوع يجري على قاعدة كلية؛ فإنَّ المقصود من النكاح تعففها بالمستمتَع في الزوج، وكذلك المقصود الأظهر في جانب الزوج التعفف بالزوجة، فإذا فقدت المستمتع منه على اليأس، فقد تعذر الغرض الأظهر من النكاح، ولم يُثبت الشرع للنساء سبب اختيارٍ يفضي إلى الفراق، فإذا انضم انحسام المستمتَع إلى اطراد قهر النكاح عليها، كان ذلك بالغاً في الضرر، والشرعُ لا يحتمل أمثال هذا، سيما وهي حرة، وإنما رضي الشرع لها النكاح رقاً (5) لما لها فيه من حق المستمتع.
فإن عارض معارض ما ذكرناه بأنَّ الزوج هو مستحق منفعتها، وهي لا تستحق من الزوج مستمتعاً تملك المطالبة به، قلنا: هذا لا يصفو عن خلاف، كما سيأتي الشرح عليه في باب العُنة. ثم من تأمل حِكَم الشرع، تبيّن له اندفاع هذا السؤال؛ وذلك أنَّ صورة الاستمتاع من الجانبين على وتيرة واحدة، وغرض الشرع في إعفاف الرجل
__________
(1) في الأصل: وبخلف.
(2) في الأصل: وما هما.
(3) العنوان من عمل المحقق، أخذاً من كلام الإمام.
(4) زيادة من المحقق.
(5) يعبر الفقهاء عن وضع المرأة في عقد النكاح بألفاظ مثل: حِبالة الزوج، قيد الزوجية، ربقة الزواج، رق النكاح، وكلها على المجاز، كما هو واضح لا يحتاج إلى بيان.

(12/455)


بالمرأة كغرضه في إعفاف المرأة بالرجل، وهذا لا ينكره ذو عقل، غير أنّ الشرع لو أثبت لهن حق الطلب، لَمَا كان ذلك على موافقة الجبلّة؛ فإنَّ الرجال لا يواتيهم الإمكان على مطّرد الزمان، وتشوفهن دائم ولا فتور فيه، فرأى الشرع إثبات الطلب للرجل؛ فإنه لا عسر من جانبهن في التمكين. ثم لما أثبت الطلب لهم أقامهم مقام من يستحق معوَّضاً، وألزمهم كفايتهن كي يلزمهن الحجاب، فانتظمت المحاسن، ثم اكتفى باقتضاء جِبلاَّت الرجال الاستمتاع بهن مع تهيُّئهن وقيام الرجال بمؤنتهن؛ وهذا [يُقيم] (1) أغراضهَن في الاستمتاع.
فإذا كان الرجل مجبوباً، وانقطع إمكان الإعفاف، أثبت الشرع لها مخلصاً، وعلى هذا حرم أصل الإيلاء، فإنَّ الرجل وإن كان ينكف عن وقاع امرأته، فهي تزجي أحوالها بتوقع الوقاع، فإذا آلى الرجل لا يواقعها في مدة يظهر فيها الضرار عليهن بالانكفاف عن وقاعهن، أثبت الشرع حق رفع النكاح بالطلاق، حتى يبقى مستدرك إن أراده الزوج. فإذاً جرى فسخ المرأة للنكاح بجَب الزوج وعُنته على هذه القاعدة.
ثم من لطائف وضع الشرع، الفرق بين الجب والعُنة؛ فإنَّ الجب موئسٌ متعلقٌ به تنجيز الفسخ على البت، من غير احتياج إلى رفع الواقعة إلى مجلس الحكم.
والعُنة مرجوة الزوال، فبُني أمرها على التأخير، كما سيأتي حكمها في بابها.
8275 - فأما فسخها للنكاح بسبب البرص والجذام والجنون، فحائدٌ بعض الحيد؛ فإنَّ الاستمتاع لا ينحسم بهذه الأشياء إلاَّ من طريق العيافة. ووضعُ النكاح على اللزوم، [فكان] (2) الفسخ بهذه الأشياء مائلاً عن الأمر الظاهر الذي مهدناه، على أنه حالٌ يسهل مأخذه من فسخ المبيع بالعيوب المؤثرة في المقاصدة المالية؛ فإنها لما أثبتت حق الفسخ، لم تنحصر في الموئسات، بل ثبتت ثبوتاً متسعاً، فابتعد أن يكون البرص [مانعاً] (3) من الاستمتاع، كما أومأنا إليه في المالية.
__________
(1) في الأصل: تقسيم.
(2) في الأصل: وكان.
(3) زيادة من المحقق.

(12/456)


ولكن اعترض في هذا المقام اضطرار الأصحاب، فارعوى معظمهم عن تعدي ما ورد فيه النص عن الشافعي ولم يثبتوا حق الفسخ في غير محل النص، [وجرى] (1) المحققون على تنزيل ما يظهر أثره في الاستمتاع منزلة البرص وما في معناه، وإليه مال القاضي، ومن لطيفِ ما جاء به أن قال: ما أُثبت الخيار به -مما عدا المنصوص- قد يكون فرداً كالبَخَر المفرط، وقد يكون [معانٍ] (2) متضامّة.
ولا ينقدح إلاَّ هذا المسلك؛ فإنَّ البرص والجذام والجنون لم يثبت فيها توقيف تعبدي، كما سبق تمهيده في باب العيوب.
8276 - ومما يُثبت للمرأة حق الفسخ ما يتعلق بالشرط وإخلافه؛ فالذي لا خلاف فيه: أن تشترط الحرة حرية زوجها، فإذا أخلف الشرط، ثبت لها الخيار، وهذا منقاس، لأنّا نثبت للمعتقة تحت العبد الخيار شرعاً، ومعوّلنا فيه الخبر، كما سنشرحه في الباب الذي يأتي على أثر هذا، إن شاء الله تعالى.
فإذا [تأملنا] (3) ذلك، لم يبعد ثبوت الخيار للحرة الأصلية إذا شرطت الحرية في زوجها، وكأن الشرعَ ألحق الرق في الزوج بالعيوب، وليس لنا إلاَّ الاتباع وترك النزاع.
8277 - ولو [ظنت] (4) الحرة زوجها حراً، ولم تشترط الحرية، فأخلف ظنها؛ فقد تردد الأصحاب في هذا. وقد نبهت على اختلاف الطرق، وبيَّنت أنَّ مأخذ هذا التردد أنَّ رقَّ الزوج هل هو ملتحق بالعيوب من غير شرط؟ وفيه الكلام المقدم.
8278 - ومما يتصل ببابها أن تشترط شرف النسب، فيخلف الشرط، وهذا ينقسم إلى خُلف يخرجه عن كفاءتها وإلى خُلف لا يخرجه عن كفاءتها، فقد أطبق الأصحاب
__________
(1) في الأصل: وأحرى.
(2) في الأصل: متعان.
(3) في الأصل: تأمل.
(4) في الأصل: وطبت.

(12/457)


على أنه يثبت الخيار لها، والتفريع على أن [النكاح] (1) ينعقد، وسبب ذلك أنَّ عدمَ الكفاءة سببٌ يؤثر في الاعتراض على العقد، ولذلك قلنا: إذا زوَّجَ المرأةَ واحدٌ من أوليائها ممن لا يكافئها، فالنكاح فاسد، أو مُعْتَرضُ الفسخ لبقية الأولياء، فإذا كان هذا مثبتاً للفسخ من غير شرط، فإذا اتصل الشرط به وظهر الخلف المسقط للكفاءة، فثبوت الخيار ليس بدعاً.
8279 - ولو كان للمرأة وليٌّ واحد، فزوّجها برضاها من رجل مجهول الحال، ثم بان أنه ليس كفؤاً، فلا خيار باتفاق الأصحاب. وليس كما لو بان الزوجُ عبداً، ففيه التردد المقدم.
والفارق أنَّ الرقَّ في الزوج لا يمتنع أن يكون كالعيب، ومِن حُكمِ العيب أن يُثبت الفسخ، وإن جرى العقد عليه مطلقاً من غير تعرض لشرط السلامة؛ فإنَّ الرق يعد من النقائص، والأصل السلامة عنه بالحرية الأصلية، وأمَّا شرف النسب ودناءته؛ فإنها بمثابة المناقب المطلوبة [التي يحتمل التحلّي بها] (2) والعروّ عنها، والعقود المطلقة لا تُثبت خياراً في أبوابها عند اختلاف الظنون من غير شرط، فإذا [شُرطت] (3)، التحقت بالسلامة التي تَثبتُ ضمنَ العقد المطلق؛ إذ مراتب الإنسان تنضبط، والرفعة والضِّعة فيها تتعلق بالنسب والإضافات (4)، فكان انفصال النسب عن الرق لهذا الذي ذكرناه في العقد المطلق.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) عبارة الأصل مضطربة غير مستقيمة، وما بين المعقفين وضعناه مكان كلمتين هما: "من العبيد". ولا ندري موقعهما من الكلام، ولعل هناك سقطاً أو خللاً آخر من تصحيف وتحريف. والله المستعان. ومن عجب أن تأتي نسخة (صفوة المذهب) بنفس ما في نسخة الأصل. والله أعلم.
(3) زيادة اقتضاها السياق. وصدقتنا (صفوةُ المذهب).
(4) الإضافات جمع إضافة، والإضافة عند الحكماء نسبة بين شيئين يقتضي وجود أحدهما وجودَ الآخر: كالأبوة والبنوة (ر. المعجم الوسيط، والمعجم الفلسفي: مادة/أ. ض. ف) ويبدو أن إمام الحرمين غلب عليه ألفاظ الحكماء -من طول المدارسة- فقفزت هنا هذه الكلمة. والله أعلم.

(12/458)


فهذا منتهى القول فيما يثبت الفسخ لها على قياس.
8280 - وأمَّا ما يخرج عن القانون، فهو أن تتبين الزوج دون ما شرط ولا يخرج عن مكافأتها.
وقد ذكرنا في ثبوت الخيار لها قولين: أحدهما على القواعد - أنه لا خيار لها، فعلى هذا الشرطُ لاغٍ لا أثر له، فإنه لم يُفسد العقد ولم يُثبت الخيار، فليكن التعيين فيه أنه شرط لاغ غير مُفسد ولا مؤثر.
وإن حكمنا بإثبات الخيار لها، فهذا بعيد عن قاعدة النكاح؛ من قِبَلِ أنَّ وضع النكاح أنَّه لا يُرفع إلاَّ بضرر ظاهر يؤثر في المقصود، كالعيوب، والرق الملتحق بها، وفقدان الكفاءة، وهذه المعاني غير متحققة في الصورة التي انتهينا إليها.
ولكنَّ المزني اختار ثبوت الخيار، وهذا يقتضي تشبيه النكاح بالبيع في كل وجه إلاَّ في تباعد المقاصد واختلافها، وهذا بمثابة اتفاق الإجارة والبيع في قواعد الفسخ، فإن كانت الإجارة تمتاز عن البيع بمقاصدها اللائقة بها، والبيع يمتاز عنها [بمقاصده اللائقة به] (1) والعقدان مجتمعان في قبولهما للفسخ على أصل واحد، فيلتحق النكاح على هذا بالبيع. وهذا ليس بعيداً لو كان مألوفاً بين الأصحاب، ولا يبقى بعد هذا [من الفروق] (2) إلاَّ أن البيع يقبل خيارَ التروي -وهو خيار المجلس- وخيارَ الشرط، وخيارَ الرؤية، إن جاز بيع خيار الرؤية، والنكاح لا يقبل شيئاًً منها؛ والسبب فيه أنَّ البيع قَبلها عن نصوصٍ تعبدية اقتضتها اقتضاء الرُّخَص، فلم يبعد اختصاصُها [بمواردَ] (3) النصوص، ومثلُ البيع يغلب وقوعه بغتةً، ويتفق صدوره ممن لم يصادم التجارب، وهذا المعنى قد لا يتحقق في النكاح. ولا حاجة إلى هذا مع ما قدمناه.
وإذا حكمنا بأنَّ النكاح [يقبل] (4) الفسخ تراضياً كالبيع، ولا غرض [يُرجى] (5) في
__________
(1) زيادة من المحقق لتوضيح العبارة.
(2) ما بين المعقفين مكان بياض بالأصل، قدر كلمتين نرجو أن يكون تقديرهما كما توقعنا.
(3) في الأصل: موارد.
(4) في الأصل: قبل.
(5) في الأصل: يرضى.

(12/459)


فسوخ التراضي، قوي المسلك الذي ارتضاه المزني، وقد انتهى القول في الفسخ الذي يثبت في جانبها.
8281 - أما الفسخ الثابت في جانبه، فأصل بابه الفسخ بعيوبها. ولا شك أنَّ فسخه أبعد عن القاعدة الكلية من فسخها؛ فإنّ [الضرار] (1) لا يعظم؛ من جهة تمكنه من حل النكاح بالطلاق؛ ولهذا لم يثبت أبو حنيفة (2) للرجل الفسخ، ولكن قيام الرجل مقام المستحِق، وقيامها مقام المعقود عليه المقصود يقوي حقَّه من الفسخ، ويعتدل في هذا المعنى الجانبان؛ فإنها ليست مستحِقة، فحق الفسخ لها مربوط بالضرار، وهو مستحق، فحق الفسخ في جانبه مربوط بعيب المستحَق.
ثم يقوم النظر في خصلةٍ، وهو أنَّ حقَّ الزوج يرتبط بأمر الصداق؛ من حيث إنه يستفيد بالفسخ إسقاطه عن نفسه، والطلاق لا يفيده ذلك، [و] (3) في هذا موقف بين المتناظرين لا يليق بهذا المجموع شرحه، مع ما يتصل به سؤالاً وانفصالاً.
ثم عيوبها تنقسم إلى ما يمنع المستمتع حسّاً، وإلى ما يؤثِّر فيه عيافة، والقول في ذلك كالقول في جانبها، فلا معنى لإعادته.
8282 - فأما ما يتعلق بالخُلف في جانب الزوج، فينقسم قسمين: أحدهما - يتعلق بضرار يلحق الزوج.
والثاني - ما يلحق بخُلفٍ في الشرط لا يجر ضرراً.
فأمَّا ما يتعلق بضرر، فقد حصره الأصحاب في الكفر والرق، فإذا اشترط الرجل كونها مسلمةً، فخرجت كتابيةً، أو اشترط كونها حرةً، فخرجت رقيقة، ففي ثبوت الخيار للرجل أقوال: أصحها - ثبوت الخيار، وهو ظاهر المذهب.
والثاني - أنه لا خيار أصلاً، وجانبه ينفصل عن جانبها بما أشرنا إليه في القاعدة من بُعد جانب الزوج عن الفسخ.
__________
(1) في الأصل: "الغرار" وهي مناسبة أيضاًً.
(2) ر. رؤوس المسائل: 395 مسألة: 272، الاختيار لتعليل المختار: 3/ 115.
(3) الواو زيادة من المحقق.

(12/460)


والقول الثالث - إنه يثبت الخيار للحر، ولا يثبت للعبد، وقد قدمنا هذا.
ويجري فيما ذكرناه قولان في اختلاف شرط الإسلام وهذا النوع لا يتصور في جانبها.
ويتصل بهذا المقام ظن الرق من غير شرط، وقد قدمت في ذلك تفصيلاً، ولا خروج لثبوت الخيار إلاَّ على إلحاق الكفر والرق بالعيوب التي تمنع المستمتَع مع عيافة.
ومن فصل بين الكفر والرق، أجرى ذلك؛ فإنَّ الكافرة تُعاف والرقيقة لا تُعاف، فهذا خُلف الشرط فيما يجر ضراراً معتبراً.
فأمَّا خُلف الشرط في النسب؛ فإنه ينظر فيه؛ فإن أخرجها عن مكافأة الرجل، فالذي ذهب إليه الجماهير أنَّ هذا ليس من باب الخُلف الذي يجر ضراراً؛ فإنه لا عار على الشريف بغشيان خسيسة، وعلى هذا بنى أئمة المذهب جواز تزويج الخسيسة من الطفل الشريف.
وذهب بعض الأصحاب إلى إلحاق هذا بالخُلف الذي يجر ضراراً، ومنع هؤلاء تزويج الخسيسة من الطفل الشريف، وصاروا إلى أنَّ النكاح من مقاصده ابتغاء النسل، ولا يخفى تفاخر الخلق بالانتماء إلى الشريفة على قربٍ من تفاخرهم بالانتساب إلى الآباء الشرفاء، ومما شاع في العرب -وهم أخبر الخلق بالمناسب والمناصب- الذم بأن يكون الرجل ابن أَمَة، والمدح بأن يكون ابن حرة.
فأمَّا الخُلف الذي لا يخرجها عن المكافأة، ففي إثبات الخيار فيه قولان أيضاًً، ولا خروج له إلاَّ على القاعدة التي ذكرناها في جانبها في مثل هذه المنزلة، وبه وصلنا [إلى] (1) التزام إلحاق النكاح بالبيع، وقد نجز الغرض في أحد الفصلين الموعودين.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(12/461)


[الفصل الثاني] (1)
8283 - فأما الفصل الثاني، فمضمونه ثبوت المسمى وسقوطه عند جريان الفسوخ، أو الأسباب المفضية للانفساح.
وقد تمهد حكم الطلاق وأمر المهر معه، وبان أنه إن جرى قبل المسيس تشطر الصداق، وإن جرى بعد المسيس، لم يسقط من المهر شيء، وأطلق الفقهاء أنَّ المسيس يقرر [الصداق] (2)، وعنَوْا بذلك أن الطلاق لا يؤثر في [إسقاط] (3) شيء من المسمى بعد المسيس.
وغرضنا الآن جمعُ معاقد المذهب في الفسوخ، والكلام يتعلق بقسمين: أحدهما - في الفسوخ المنشأة لأسباب تقتضي إثباتها.
والثاني - في انفساخ العقد بأسباب تطرأ على النكاح.
فأمَّا الفسخ الذي ينشأ، فينقسم إلى ما يصدر من الزوجة، وإلى ما يصدر من الزوج، فأمَّا ما يصدر من الزوجة، فينقسم، فمنه ما يستند إلى سبب كائن حالة العقد، ومنه ما يستند إلى سبب طارىء بعد العقد.
فأمَّا ما يستند إلى سبب كائن حالة العقد كالفسخ بالعيوب الثابتة يومئذ، ومنه الفسخ المترتب على خُلف مترتب على شرط مذكور في العقد. فكل ما يكون كذلك؛ فإنه يتضمن إسقاط المهر قبل المسيس، فإذا فرض بعد المسيس، فالمنصوص سقوط المسمى والرجوع إلى مهر المثل، والقول المخرج استقرار المسمى.
وما يستند إلى سبب طارىء، فإذا جرى قبل المسيس، فحكمه ما ذكرناه من إسقاط المهر وهذا كالفسخ بالعيوب الحادثة.
__________
(1) عنوان الفصل من عمل المحقق.
(2) في الأصل: "الطلاق". وهو سبق قلم واضح.
(3) في الأصل: "إسقاطه".

(12/462)


وإن جرى الفسخ بعد المسيس حيث يجري، فإن رأينا ثبوت المسمى إذا كان العيب مقترناً بالعقد، فلا شك أنَّ المسمى بالثبوت أولى إذا كانت الأسباب طارئة.
وإن جرينا على النص في إسقاط المسمى والأسباب مقترنة بالعقد، ففي الطارئة ثلاثة أوجه تقدم ذكرها.
هذا في الفسخ الذي تنشئُه المرأة.
فأمَّا الفسخ الذي يُنشئه الرجل، فهو [في] (1) غرضنا من حكم، المهر كالفسخ الذي تنشئه المرأة، فلا فرق قبل المسيس وبعده.
8284 - فأمَّا الأسباب التي يقتضي طريانُها انفساخَ النكاح، كالردَّة وما في معناها، فكل ما لو فرض قبل المسيس تشطر الصداق به، كردة الزوج، فإذا فرض بعد المسيس، لم يؤثر في إسقاط المسمى كالطلاق.
وقد ذكرنا أنَّ هذه الأسباب لو حدثت من المرأة قبل المسيس، تضمنت إسقاط المهر، فإذا صدرت منها بعد المسيس، فهل تتضمن إسقاط المسمى؟ وكيف السبيل فيه؟ هذا يترتب على الفسوخ المنشأة بالأسباب الطارئة على النكاح.
وهذه الأسباب التي انتهينا إليها أولى بأن يتقرر المسمى معها من الفسوخ المترتبة على العيوب الحادثة، والسبب فيه أنَّا نقول: المرأة تستحق سلامة الزوج على دوام النكاح بحكم العقد، فأمَّا إذا طرأ ما ينافي هذا الدوام -ومقصودُ العقد منفعة- جاز أن يلتحق بالعيوب المقترنة بالعقد، وأمَّا الردَّة إذا طرأت، فلا استناد لها، ولا تتضمن قطعَ مستحق بالعقد يُثبت الفسخ، ولكنه كما (2) يرد يقطع، ولهذا نصَّ الشافعي على ثبوت المسمى إذا ارتدت المرأة بعد المسيس، ونصَّ على القرب منه بسقوط المسمى إذا فرض فسخ بعيب، ولم يفرِّق بين المقترن والطارىء.
وقد رأيت في تعليقي عن شيخي، وفي تعليقه عن شيخه ذكرَ سقوط المسمى إذا
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) كما: بمعنى عندما، وأشرنا من قبل إلى قول النووي: إنه غير صحيح وغير عربي.

(12/463)


ارتدت بعد المسيس، وإني لأخشى ألاَّ يصح فيه نقل المذهب، فالموثوق به ثبوت المسمى لما نبهت عليه.
وقد نجز الغرض في الفصلين، وتهذب بهما فصول أبواب [وأحكام الفسوخ] (1) والله المستعان.
...
__________
(1) زيادة أكملناها بنفس ألفاظ الإمام في بدء الفصلين.

(12/464)


باب الأمة تعتق وزوجها عبد
8285 - الأمة إذا عتقت تحت زوجها القن، فلها خيار فسخ النكاح، وهذا مما لا نعرف فيه خلافاً بين العلماء.
ولو عتقت تحت زوجها الحر، فلا خيار لها عند الشافعي.
ونَصُّ الشافعي ومجرى كلامه دال على أنَّ تخيير المعتقة تحت العبد القِن مأخوذ من الخبر، وليس مما يناط بمعنىً جارٍ على شرائط أهل السبر والنظر. وقد قررت هذا في الأساليب (1).
وتعلَّق الشافعي بحديث بَرِيرَة، وصحّح أنَّ زوجها كان عبداً (2).
ثم أخذ يقطع الحرّ عن العبد في مقصود الباب، وليس يبغي فرقاً، وإنما غرضه أنَّ خيار المعتقة تحت العبد بالخبر، وليس في معنى الرقيق (3) حتى يلتحق بالمنصوص عليه إلحاقَ الأَمَة بالعبد في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن أعتق شركاً له في عبد قُوّم عليه" (4). فهذا عقد الباب.
__________
(1) الأساليب: أحد كتب الإمام في علم الخلاف. ولم نصل إليه بعد.
(2) حديث بريرة، وتخييرها، وأن زوجها كان عبداً على الصحيح، رواه البخاري: كتاب الطلاق -باب خيار الأمة تحت العبد- حديث رقم: 5282، وهو عن عكرمة عن ابن عباس، وانظر أيضاً رقم: 5280، 5283، وهما عن ابن عباس كذلك.
ورواه مسلم: كتاب العتق - باب بيان أن الولاء لمن أعتق: حديث رقم: 1504، وهو عنده من حديث عائشة رضي الله عنها.
والحديث تعدد رواته، وتعددت طرقه، وقد أشبع الحافظ في التلخيص الموضوع بحثاً وتخريجاً. (انظر تلخيص الحبير: 3/ 363 - حديث رقم: 1657.
(3) أي ليس الحر في معنى الرقيق، فتخير الأَمة إذا أعتقت تحته، ولا يُلحق الحر هنا بالعبد كما ألحقت الأمة بالعبد في حديث: "من أعتق شِرْكا له في عيد قُوم عليه".
(4) حديث "من أعتق شركاً له في عبد ... " متفق عليه. رواه البخاري: كتاب العتق -باب إذا أعتق عبداً بين اثنين أو أمة بين الشركاء- حديث رقم: 2522. ورواه مسلم: كتاب العتق - حديث رقم 1501.

(12/465)


ويلتحق به أنَّ العتق الكامل تحت العبد هو الذي يثبت لها الخيار إذا طرأ، فإذا كانت مكاتبة أو مستولدة، أو كان بعضها رقيقاً، فطرأ عليها العتق التام، أو تناول العتقُ الرقيقَ منها؛ فلها الخيار، وقيل: كانت بريرة مكاتبة، وقيل: اشتُريت على أن تعتق. وتتميم العتق في التي بعضها رقيق في معنى توجيه العتق على [الكل] (1)، والجزء من الرق في الزوج يُلحقه بالقن؛ من حيث إنه سلبه الاستقلال. فانتظم الباب على أنَّ المؤثر طريان تمام العتق، ولا نظر إلى ما كان قبله في صفة الرق وتبعّضه.
ولا يشترط في الزوج كمال الرق ليثبت الخيار، بل البعض من الرق كافٍ.
8286 - فإذا تمهد أصل الباب فأول ما نذكره بعدُ، أن الخيار الثابت للمعتقة على الفور أم يتطرق إليه التراخي؟ وقد ردد الشافعي جوابه في هذا، وقال (2): "ولا أعلم في [تأقيت] (3) الخيار شيئاًً يتبع، إلاَّ [خبراً عن] (4) حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لم يمسها" (5).
وحاصل ما نقله الأئمة من أقوال الشافعي ونصوصه في الكتب ثلاثة أقوال:
أحدها - أنَّ خيارها يثبت على الفور، بمثابة خيار الرد بالعيب في البيع وما في معناه. وهذا أظهر الأقوال عند الأصحاب.
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة. (انظر صورتها).
(2) ر. المختصر: 4/ 11.
(3) في الأصل: "تأخير" والمثبت من نص المختصر.
(4) ما بين المعقفين مكان كلمتين، هما من مستبشع التصحيف، فعبارة الأصل: ولا أعلم في التأخير شيئاًً يتبع، إلا [قرار في] حفصة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم. والتصويب من المختصر. وفي (صفوة المذهب): "تأخير" مثل نسخة الأصل.
(5) خبر حفصة: رواه مالك في الموطأ: 2/ 563: كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخيار، ح 27، وفي الحديث عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما: "أن مولاةً لبني عدي يقال لها: زبراء. أخبرته أنها كانت تحت عبدٍ، وهي أمة يومئذٍ، فعتقت. قالت: فأرسلت إلي حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فدعتني. فقالت: إني مخبرتُك خبراً، ولا أحب أن تصنعي شيئاً، إن أمرك بيدك، ما لم يمسسك زوجك، فإن مسَّك، فليس لك من الأمر شيء.
قالت: فقلت: هو الطلاق، ثم الطلاق، ثم الطلاق ففارقته ثلاثاً" ا. هـ بنصه. ورواه الشافعي، وهو في مختصر المزني كما أشرنا آنفاً.

(12/466)


والقول الثاني - إنه يثبت خيارها على التراخي من غير أن يُناط بأمَدٍ، ويدوم لها حقها إلى أن تُصَرِّح بإسقاطه، أو بالرضا بالمقام، أو يغشاها زوجها على طواعيةٍ منها، وعلم بحقيقة الحال، فما لم يجر ما وصفناه، فهي على خيارها.
والقول الثالث - إنَّ خيارها يمتد ثلاثة أيام.
توجيه الأقوال: من قال بأنَّ خيارها على الفور، شبَّهَهُ بخيار العيب، والجامع، أنَّ المقصود من الخيارين الاستمكان من دفع الضرار الناجز [فرِقُّ] (1) الزوج إذاً مع [عتقها] (2) في معنى العيب الكائن في المعقود عليه، وتأملٌ على الناظر في المعنى الذي لأجله كان خيار العيب؛ إذ لو قال قائل: هلا دام ذلك الخيار إلى أن يُسقطه مستحقه؟ كان الجواب عنه أنَّ معنى عقد البيع وما في معناه على اللزوم، فإفضاؤه إلى جواز يدوم يخالف موضوعه، فبعد تأبيد الخيار لذلك، وقيل لمستحق الخيار: اقطع العقد حتى لا يُلفى في الشرع دوامُ جوازٍ في عقدٍ حقُّه اللزوم، أو نَرضى به، وإن لم نرض به، ألزمنا الشرع العقدَ، وهذا يعتضد بمجرى كلامنا في أسلوب مسألة البراءة من العيوب، حيث قلنا: سببُ الرد زوال جهالة خفية، فإذا انكشف الأمر، فلا وقوف بعد الانكشاف، فمن شبه خيار المعتقة بخيار العيب، اعتمد ما ذكرناه من وجوب لزوم النكاح؛ فإنه عن الجواز أبعد من البيع.
ومن صار إلى أنَّ خيارها لا يثبت على الفور، استمسك بأنَّ هذا حقٌّ جديد لا استناد له إلى العقد الماضي، حتى كأنها برضاها تبتدىء عقداً، ولهذا كان [الجواز] (3) خارجاً عن القانون، كما نبهنا عليه في وضع الباب.
ثم من قال: يتأبد الخيار، فمتعلقه ما ذكرناه، مع أنه لا منتهى له يقف عنده، فلا وجه إلاَّ الحكم بثبوته إلى أن يبطله مستحِقه.
ثم يستأنس هذا القائل بحديث حفصة، فإنها قالت: "للمعتقة الخيار ما لم يمسها زوجها".
__________
(1) في الأصل: فوق.
(2) نفقتها.
(3) في الأصل: الجار.

(12/467)


ومن أقَّت بثلاثة أيام علّل في الفور بما ذكرناه، ثم بعُد عنده التأبد، فتمسك بطرفٍ من قياس الشبه، واعتبر أَمَدَ خيارها بالأمد الذي حصره الشرع في خيار التروِّي.
وفي مرامز كلام الشافعي مسلك آخر في الفرق بين خيار العيب في البيع، وبين خيار المعتقة، وذلك أنه قال: "الغرض من الرد في البيع مستدركٌ ماليّ (1)، والأمر فيه قريب، فليبتدروه، والغرض في النكاح خطير، فلا يبعد أن يكون فيه متنفس من غير إرهاق"، فليكن هذا على الحفظ إلى أن نستثمره.
التفريع على الأقوال:
8287 - إن أثبتنا خيارها على الفور، فتفريعه كتفريع خيار الرد بالعيب، وقد مضى مستقصى في كتاب البيع.
وإن أثبتنا الخيار على التراخي؛ فإنه يبطل بإبطالها، ويلزم العقد [بإلزامها] (2)، وليس كحق مُطالبةِ التي آلى عنها زوجها -على ما سيأتي في كتاب الإيلاء- فإنَّ المدة إذا انقضت، وثبت حقُ الطَّلبةِ للمرأةِ، فلو أبطلته ورضيت المُقَامَ تحت زوجها المولي -على إضراره بها-، فلها أن ترفعَهُ إلى القاضي بعد رضاها؛ والسبب فيه أنها وإن رضيت بالمقام على إضراره بها، فليست قاطعةً بأنَّ امتناعَهُ يدوم، ففد تستحثُ الجِبلَّةُ على الفيئة، فلا يتصور وقوع الرضا منها مبتوتاً، ولفظُها -وإن كان صريحاً في البت- في حكم [الخُلف] (3).
والرضا بالمقام تحت العبدِ يقعُ مبتوتاًَ لا يعارضه توقُعُ دافع [للضرار] (4). وليس ارتقابُها زوالَ الرِّقِ عن الزوج -الأصل بقاء الرق- في معنى ارتقابِها عودَ الزوج إلى الفيئةِ.
ومما يتفرعُ على هذا القول: أنها لو مكَّنت، فلم يغشها الزوج، لم يبطلْ حقُها،
__________
(1) عبارة الأصل: " .... مستدكٌ ماليٌّ، والأمر مالي، والأمر فيه قريب".
(2) في الأصل: "إلزامها".
(3) في الأصل: "الحلف" بالمهملة.
(4) في الأصل: "الضرار"

(12/468)


وإن قيل: فعلت ما في وسعِها، فإنَّ التمكينَ من الوطءِ إنما يتحققُ عند وقوعِ الوطء.
ولو وطئها الزوجُ على اقتهارٍ، فهذا فيه ترددٌ عندنا؛ من قِبَلِ أن كانت متمكنةً من الفسخِ إذْ وطئها الزوج، فسكوتُها في حكم التمكين، وهذا له التفات من طريق الشبه على أنَّ الزوجَ إذا وطىء امرأتَه قهراً، فهل يبقى لها حق حبسها نفسها حتى يتوفر الصداق عليها؟ وسيأتي مأخذُ ذلك في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
ولو غشيها قابضاً على فيها، فلا خلافَ في أنَّ حقَّهَا لا يبطلُ والحالة هذه. وهذا يناظرُ تفصيلَ الأصحابِ فيه إذا أُخرجَ أحدُ المتبايعين من مجلسِ العقدِ قهراً وهو متمكنٌ من الفسخ أو غير متمكن.
وقد نجزَ ما أوردناهُ من التفريع على قولِ التراخي.
وإذا أقتنا الخيارَ بالثلاث، فمبتدأُ المدَّةِ من وقتِ ثبوت الخيار، لا من وقتِ نفوذِ العتق، وذلك إذا أُشعرت بالعتق والخيار.
8288 - فإذا تمهد ما ذكرناه، فإنَّا نقول بعد ذلك: ما قُطع به في الطرق أنَّ الخيار الثابتَ في النكاح بسبب العيوب يكون على الفور؛ اعتباراً بخيار العيبِ في البيع، ولم يذكروا الأقوال التي ذكرناها في خيار المعتقة.
وذكر الشيخُ أبو علي في شرح التلخيص أنَّ من أئمتنا من أجرى هذه الأقوالَ في خيارِ العيب في النكاح، وهذا لم أره له، وليس ما ذكره بعيداً عن مسلك المعنى، والذي أجريناه من كلام الشافعي في أقوال خيار المعتقة يشهد بذلك؛ فإنه فَرَّقَ بين خيار المعتقة وخيار العيب في البيع، لِعظم خطر النكاح، فلا يبعد أن يطرد هذا المعنى في خيار العيب في البيع؛ إذ غرض الخيار في البيع استدراك مالية، ولذلك قد يقابل بأرش العيب، ولا مدخل لأرش العيبِ في النكاح؛ حتى يقدر استرداد جزءٍ من الصداقِ إذا كانت هي معيبة، فالمدار على الضرار، وليس يبعد امتداد الخيار مما يتعلق بالضرار.
وكنت أود لو فصلَ فاصلٌ بين خيار العنَّة وخيار الجبِّ في هذا المعنى؛ فإنَّ التي عنَّ عنها زوجُها على رجاءٍ من زوال المانع بخلاف الجَب. ولم أر إلى هذا منتهىً

(12/469)


للأصحاب فصلاً بين خيار العُنّة وانقضاء المدة. وفي هذا سرٌّ لطيف: مدة العُنَّة تُضرَبُ مع الإقرار بالعُنَّة كما سيأتي -إن شاء الله عز وجل- فكأنَّ الشرعَ أسعف بالفرق بين البابين وأقامَ مُدَّة العنَّةِ أجلاً في الخيار، وإن كان لا يثبت بها خيار. وسيأتي تقرير ذلك في باب العنة، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قالَ: "فإنْ أصابَها فادعَتِ الجهالةَ، فيها قولانِ ... إلى آخره" (1).
8289 - هذا الفصلُ مُفرَّعٌ على القول الظاهر في أنَّ خيارَ المعتقةِ على الفور، ويمكن تفريعُهُ على أنَّه على التراخي، ولكن يبطلُ حقُّها بالمطاوعةِ والتمكنِ إذا جرى الوطء.
ثم صورةُ المسألةِ أنها إذا عتَقَت وطاوعت، فوطئها الزوج الرقيق، ثم أرادت الفسخَ وادعت الجهالة، فقد نقل المزني قولين مطلقين عن الشافعي في أنَّ قولَهَا هل يُقبَل؟ واختلف أصحابنا في محل القولين على ما ننقله، ثم نبحث على [عادتنا] (2).
فمن أصحابنا من قال: القولان فيه إذا ادعت الجهالةَ بالعتق، وهذا ساقطٌ؛ من جهةِ أنَّ دعوتَها الجهالةَ بالعتقِ قولٌ يمكن الصدقُ فيه، فأيُّ معنًى في ترديد القولين في قبولها، وهي صاحبةُ الواقعةِ؟ فإنْ قيل: يبطلُ حقُّها وإن صدقت في دعوى الجهالةِ بالوطء، كان بعيداً.
فإذا استحال المصير إلى بُطلانِ الخيار بصورة الوطء، ودعواها الجهالة مُحْتمل؛ فلا وجه للتردد والحالة هذه.
ولو صار صائرون إلى أنَّ صورة الوطء تُبطل حقها، لكان ذلك خارجاً على مسلكٍ -وإن كان بعيداً- وهو أن نجعل نفس الوطء بعد العتق قاطعاً لحق الاستدراك؛ فإنه إذا جرى وطء واحد، فالوطء الواحد كوطئات العمر، ولكن لم يسمح بهذا أحدٌ من
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 12.
(2) في الأصل: عادتها.

(12/470)


الأصحاب، فأَبَوا أن يأخذوا القولين إلا من الجهل بالعتق، وهذا لا معنى له.
ومن أصحابنا من قال: القولان فيه إذا اعترفت بجريان العتق، وادعت الجهل بثبوت الخيار لها. وهذا المسلك أقرب قليلاً على ما بينته في توجيه القولين: وأحد القولين - إنها لا تُصَدَّق، كما لا يُصَدَّق المُطَّلِع على العيبِ في البيع إذا ادعى أنَّه لم يعلم بثبوت الخيار له شرعاً.
والقول الثاني - إنه يقبل قولُ المعتَقةِ؛ فإنَّ الخيار مما لا يبعد الجهلُ به في حق عوامِّ الناس، وأما الرد بالعيب، فإنه شائعٌ في العام والخاص، فادعاء الجهل فيه غير مقبول.
8290 - والذي يجب الاعتناء بفهمه بعد ما نقلناه أنَّ التأخير، أو الوطء، أو غيرَه مما يشعر بالرضا إذا استند إلى دعوى الجهل؛ فعَقْدُ المذهب فيه أنه إذا غلب على الظن كذب المدعي، فلا يُقبل قوله -وإن أمكن صدقه على بعد-[لأنَّ] (1) مبنى العقد اللازم على اللزوم، وهذا أبلغ في وضع العقد من تصديق مَن يمكن تصديقه، ولهذا قال الشافعي: إذا اختلف المشتري والبائع في قِدم العيب، فالقول قول البائع، وللبائع أنْ يحلف على البت على نفي العيب، وإن لم يكن عالماً بانتفائه قطعاً، ولم يبنِ هذا على تغليب الالتزام. فإذا تبين لنا ظهور خيار الرد بالعيب في القياس، لم يصدّق من ادعى الجهل به، وإن أمكن تصديقه. وعلى هذا بنينا ثبوت خيار العيبِ على الفور.
ولو ادعى المشتري الجهلَ، وصدّقه البائع، فله الخيار وفاقاً. وهذا يناظر ما سيأتي في باب العُنَّة -إن شاء الله تعالى- من أنَّ الزوجَ إذا ادعى الوطء في مُدة العُنّة؛ فإنه يصدق، وإن كان الأصل عدم الوطء، مُحافظةً على تبقية النكاح، وهذا أصل مستغنى بتقريره، إن شاء الله تعالى.
فأما خيار المعتقة؛ فليس يظهر ظهور خيار العيب؛ فإنَّ النفوس مجبولة على استدراك الغبائن في البيع. والأصل في النكاح على خلاف ذلك، [فترددت] (2)
__________
(1) في الأصل: "فلأن". والصواب بدون فاء، فإنها ليست جواباً للشرط.
(2) في الأصل: فتردد.

(12/471)


دعوى الجهل بين ظهور الصدق وبين المحافظة على تثبيت النكاح، كما رمزنا إليه في العُنة.
والذي أراه أنَّ المرأة إذا ادعت الجهل بالخيار بالبرص والجنون، أو ادعى الزوج الجهل بالخيار في الرتق والقرن، خرج على القولين في خيار المعتقة؛ فإنَّ هذا مما يظهر الجهل به. فهذا ما يجب تنزيل الفصل عليه.
...
ثم قال الشافعي: "فإن اختارت فراقَهُ ولم يمسها، فلا صداق لها ... إلى آخره" (1).
8291 - نقدم على ذلك القولَ في مستحِق الصداق فنقول: إذا زوّج أَمَته من عبده، فالصداق لسيد الأَمَة إذا اشتمل النكاح على تسميته، فإذا عتقت الأمَةُ ورضيت بالمقام، فالمهر مسوق إلى مولاها، وليس لها من زوجها إلاَّ النفقة والكسوة، والمؤن الدارّة على مكرّ الزمان في المستقبلِ.
ولو كان زوَّجها مفوِّضةً، ثم أعتقها، نُظر، فإن جرى المسيس قبل العتق، فالمهر لمولاها، وإن جرى المسيس بعد العتق يفرّع ذلك على القولين في أنَّ المهر هل يثبت بالنكاح (2) المشتمل على التفويض، أم يثبت بالمسيس؟ وسيأتي ذكرهما، إن شاء الله عز وجل.
فإن حكمنا بأنَّ المهر يثبت بالنكاح، فالمهر للمولى، وإن حكمنا بأنَّ المهر يثبت بالمسيس، ففيه اختلاف بين الأصحاب: فالذي اختاره المحققون: أنَّ المهر يثبت للمعتَقة. وسيأتي شرح ذلك -إن شاء الله عز وجل- في باب التفويض من كتاب الصداق.
8292 - عاد بنا الكلام إلى القول في سقوط المهر بالفسخ، فنقول: إذا فسخت المعتَقة قبل المسيس، سقط المهر، وإن حكمنا بأنَّ المهر للمولى، ولم يوجد منه
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 12.
(2) أي بالعقد.

(12/472)


الفسخ حتى يُقدَّر مسقطاً، ولكن القياس أنَّ المهر يسقط إذا ارتفع النكاح قبل المسيس، واستثنى الشرعُ من هذا الأصل الطلاقَ قبلَ المسيسِ وما في معناه، فاستقر الشرع على أنَّ الصداق إنما يتنصف إذا كان الفراق صادراً من جهة الزوج المستدرِك [يتعلق بها] (1).
فإذا فسخت الأَمَة، [استحال] (2) مطالبةُ الزوج بشيء من الصداق، ولم يوجد منه فراق.
ولو فسخت المعتَقة بعد المسيس؛ فقد قطع الأئمة بأنَّ المسمى لا يسقط، ولم يجروا فيه القول المنصوص في العيوب، وهو أن المسمى يسقط، والرجوعُ إلى مهر المثل؛ والسبب فيه أن هذا الفسخ محال على سبب طارىء، وليست هي مستحقة للمهر، وإنما المهر لغيرها، فيبعد سقوط المسمى.
والتردد الذي ذكرته في رِدَّةِ الزوجة بعد المسيس لا يجري هاهنا؛ فإنَّ الردَّة طرأت على عين النكاح المعقود، وتضمنت انفساخه، والعتق [طرأ على عين] (3) الزوجة أولاً، ثم ترتب الفسخ على تغيير طارىء، وأحكام مستجدة، لم تعهد حالة العتق.
فالقطع باستقرار المسمى إذا جرى فسخ المعتقة بعد المسيس موثوق به نقلاً وتعليلاً.
...
ثم قال: "ولو كانت [في عدَّة] (4) طلقة، فلها الفسخ ... إلى آخره" (5).
8293 - الرجعية إذا عتقت تحت زوجها العبد في أثناء العدة، ثبت لها حق الخيار؛ فإنها زوجة، فإن شاءت الفسخ، نفذ ذلك منها، واستفادت به [قطع] (6) حقِّ
__________
(1) ما بين المعقفين كما ترى لا موضع له، فلعل في الكلام سقطاً، أو هو مقحمٌ من الناسخ. والله أعلم.
(2) في الأصل: واستحال.
(3) عبارة الأصل: "والعتق عن الزوجة أولاً" والمثبت تقدير منا على ضوء السياق.
(4) في الأصل: "ولو كانت هذه طلقة، فلها الفسخ" والتصويب من المختصر.
(5) ر. المختصر: 4/ 12.
(6) زيادة من المحقق على ضوء السياق والسباق.

(12/473)


سلطان الزوج ناجزاً، وتستفيد أيضاًً تقصير العدة، فإنها لو صبرت حتى تتبين أنَّ زوجها هل يراجعها أم لا؟ فقد [يراجعها] (1) في آخر مدة العدة. فإذا أنشأت فسخاً بعد الرجعة، احتاجت إلى استفتاح عدةٍ من وقت الفسخ، فإذا هي نجّزت الفسخ في الحال، لم يلحقها من الطول ما وصفناه.
ثم إذا فسخت فتكتفي بالعدة التي هي ملابستها أم تبتدىء الخوض في عدة الفسخ؟
فيه قولان أشرنا إليهما في نكاح المشركات، وأجَّلنا استقصاءهما على العِدد، وشبَّهنا ذلك بما لو طلق الزوج الرجعية في أثناء العدة، وقد ظهر اختلاف القول في أن الطلاقَ الذي يلحق الرجعية هل يستعقب عدة جديدةً أم لا؟
هذا إذا أرادت [التنجيز] (2)؛ فإن أرادت التأخير لتتبيّن ما يكون، فلا بأس، ولا نجعل تأخيرها مبطِلاً لخيارها وإن كان على قول الفور، وهذا مما قدمته في نكاح المشركات أيضاً.
8294 - وإن اختارت المقام لمّا عتَقَت، فاختيارها باطل، لا حكم له؛ والسبب فيه أنها جارية في حالة التحريم، وقد يفضي إلى البينونة، فاختيار المقام لا يليق بحالها. هذا ما أطلقه الأصحاب وزعموا أن إجازتها لا تخَرَّج على وقف العقود شَرْطَ أن يكون (3) مورد العقد قابلاً لمقصود العقد. ولم نجوّز بيع الخمر على تقدير مصيرها خلاًّ من حيث لم تكن في حالها قابلة للخل، ولا متصفة بالمالية. وسمعت شيخي غير مرة يحكي [تقرير] (4) إجازتها عن طوائفَ من الأصحاب.
وهذا متجه غيرُ بعيد؛ فإن إجازتها إن لم تتضمن إحلالَها، فهي متضمنة قطعَ
__________
(1) في الأصل: راجعها.
(2) في الأصل: تنجيز.
(3) عبارة الرافعي في هذه المسألة وقد حكاها عن الإمام، قال: "قال الإمام: ولم يخرّجوه على وقف العقود، لأن شرط الوقف أن يكون موردُ العقد قابلاً لمقصود العقد، ألا ترى أن بيع الخمر لا يوقف إلى أن يتخلل، وهي على حالتها غير مستحيلة" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 8/ 158).
(4) في الأصل كلمة رسمت هكذا: (ـ ـعدر) بدون نقط.

(12/474)


خيارها وسلطانَها في ملك الفسخ، وإذا كانت مستحقة للفسخ إن أرادته، فلتملك قطعَ ذلك، وإذا قطعته، كانت رجعية مستمرة على ما كانت عليه قبل أن عتَقَت.
ثم إن أخرت ولم تختر، ولم تفسخ، فراجعها زوجها، ثم أرادت الفسخ بعد المراجعة، فلها ذلك.
8295 - ثم القول في أنها تبني على بقية العدة أم تستأنف عدةً جديدةً؟ كالقول فيه إذا راجعها زوجها ثم طلقها بعد المراجعة، وكل ذلك مما سبقت الإشارة إليه مع إحالة الاستقصاء على موضعه.
ومما يتولد في أثناء هذه الفصول أنَّا حيث نحكم باستفتاح عدةٍ بعد الفسخ، فلا شك أنها عدةٌ تامة؛ فإنَّ الفسخ يجري بعد الحرية. وإذا ابتدأت الحرةُ اعتداداً كان كاملاً.
وإذا قلنا: تبني ولا تستأنف، فتكمل عدة الحرائر أو عدة الإماء؟ فيه اختلاف وتفصيل سبق ذكره في نكاح المشركات مع الإحالة على كتاب العِدَد.
8296 - ولو طلق العبدُ زوجتَه الأَمَة طلقةً مبينة، بأن خالع مولاها، ثم عَتَقت، فلا خيار لها؛ فإنَّ أثر الخيار في قطع النكاح، والبائنة ليست منكوحة. والقول في أنها تكمل عدة الإماء أم عدة الحرائر، على ما تقدم.
...
ثم قال: "وإن كانت صبية، فحتى تبلغ ... إلى آخره" (1).
8297 - الأمة إذا عتقت في صباها تحت زوجها القن، فإنها لا تتخير في صغرها، ولا ينوب عنها أحد بطريق الولاية، لأن هذا خيار تشهِّي، فلا يسوغ تفويته.
ثم إذا بلغت، فلها الخيار، وهذا قياس لا حاجة إلى الإطناب في شرحه، وهو يطّرد في خيار العُنَّة والإيلاء عن الصغيرة.
...
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 12.

(12/475)


ثم قال: "ولا خيار لأَمَة حتى تكمُل فيها الحريةُ ... إلى آخره" (1).
8298 - وهذا مما صَدَّرنا فيه الباب، والضابط للمذهب في الزوجين أنَّ العتق في البعضِ لا حكم له في الباب. فإذا كان جزءٌ من الزوجِ رقيقاً، فهو كما لو كان رقيقاً، وإذا كان جزءٌ من الزوجة رقيقاً، فهو كما لو كانت جملتُها رقيقةً.
ومما يجب التنبُّهُ له أنَّ الفسخ الذي أثبته الشرع للمعتَقة تحت العبد ليس منوطاً بجريان النكاح على القهر منها في الرق، فإنَّ المُكَاتَبَةَ إذا زُوِّجت بإذنها -ونكاحها مفتقرٌ إلى رضاها- فإذا عتقت وزوجها عبد أو مُكَاتَب، فلها الخيار، وإن جرى النكاح بإذنها المعتبر؛ فإنَّ إذنها محمولٌ على رضاها [بالعبد] (2) ما دامت هي مكاتبة، فإذا استحدثت كمال الحرية، ثبت لها حق الفسخ.
ولو قالت قبل العتق: إن أعتقت، فقد رضيت بالمقام تحت زوجي على رِقِّه، فهذا قولٌ لاغٍ؛ فإنَّ الرضا بالمقام في حال ثبوت الخيار لا يقبل التعليق، فكيف يقبله قبل ثبوته.
فرع:
8299 - إذا عتقت الأَمَةُ تحت زوجها القِن، فَعتِق الزوج قبل اتفاق الفسخ، فالمذهب الصحيح أن حقها من الخيار يبطل؛ فإنه كان معَلَّلاً بما ينالها من الضرار [بالإقامة] (3) تحت القِن، وقد زالت العلة، فيجب زوال الحكم بزوالها.
وخرَّج بعض أصحابنا وجهاً - أنَّ خيارها لا يبطل بعد ثبوته، وهذا بعيدٌ لا اتجاه له. والمذهب: أنَ من اشترى شيئاً واطلع على عيب قديم به، ثم اتفق زوال العيب قبل التمكن من الرد؛ فيقطع خيار الرد، وفيه الوجه المخرج الذي ذكرناه.
والخلاف بين الصورتين ينبني على قاعدة ذكرناها في كتاب الشفعة، وهي: أنَّ من ثبت له حق الشفعة، فلم يشعر بها حتى باع ملكه الذي استحق الشفعة به، فهل له طلب الشفعة فيه؟ فيه اختلاف وتردد، استقصينا ذكره في كتاب الشفعة.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 12.
(2) في الأصل: فالعبد.
(3) في الأصل: فالإقامة.

(12/476)


فإن قيل: هل يتوجه الوجه الضعيف بشيء يمكن التمسك به؟ قلنا: أقصى الإمكان فيه أنَّ العيب إذا زال، فهذا محسوب لمن له حق الرد؛ فإنه حصل ذلك في استمرار حكمه ودوامِ يدهِ، فينبغي أن يكون له لا عليه، فالعيب القديم أثبت حق الرد، والسلامة الطارئةُ ثابتة للمشتري، ولو أبطلنا حق الرََّد بها، لكُنَّا صرفنا فائدة السلامة الطارئة في يد المشتري إلى البائع إذا كنا نقول: العيب الحادث في يد المشتري يؤثر في منعه من الرد، فقياس الفقه أن نقول: ما يطرأ من العيب فعليه، فما يطرأ من السلامة له. وهذا يجري ذكره في مسألتنا، والأصح ما قدمناه.
فرع:
8300 - إذا ثبت حق الخيار للمعتقة تحت العبد، فطلقها زوجها قبل أن تفسخ النكاح، نُظر: فإن كان الطلاق رجعياً، فهي على حقها من الخيار، لا شك فيه. وإن كان الطلاق مُبِيناً، فقد نص الشافعي في الأم على "أنَّ الطلاقَ موقوفٌ، فإن فسخت، بان لنا أنَّ الطلاق لم يقع، وإن لم تفسخ، بان أنه وقع".
وقد اضطرب أئمتنا في هذا النص، فذهب المحققون إلى مخالفة (1) النص وقطعوا بنفوذ الطلاق؛ من جهة أنَّ الطلاق صدر من أهله في محله، والفسخ إن فُرض ليس ينعكس على ما تقدمه، وإنما يتضمن قطعَ النكاح في الحال، فيستحيل أن يؤثر في الطلاق السابق. وهؤلاء رأَوْا ما نُقل عن الشافعي نقلاً منه لمذهب غيره، وهذا كثير الوقوع في كلام الشافعي؛ فإنه يخرّج مذهبه بمذهب العلماء، وقد يذب عن مذهب العلماء ذبّه عن مذهب نفسه، وفي كلامه [ـعقيد ـعـ ـنى المهر] (2). هذا هو المسلك الحق.
وذهب بعض أصحابنا إلى الجريان على ظاهر النص، وهذا بعيد، ولكن الذي تمسك [به] (3) الصائر إليه أنَّ الطلاق تصرفٌ من الزوج في ملكه، فلا ينحسم (4) إذا تأكد حق الغير، وهذا كما أنا نرد إعتاق المالك لتأكد حق الغير في ملكه، فالطلاق في
__________
(1) في الأصل: إلى أن مخالفة النص.
(2) ما بين المعقفين رسم هكذا تماماً، ولم أعرف له وجهاً. (انظر صورتها).
(3) زيادة من المحقق.
(4) فلا ينحسم: أي لا يتم ولا يُمضى.

(12/477)


معنى العَتاق. وإذا ثبت للمرأة حق الفسخ وتأكد، امتنع تصرف الزوج. وهذا ضعيف، ولكنه أقصى الإمكان.
ولكن ما ذكرناه يجري في فسخ العيب في النكاح حتى لو فرض من الزوج المعيب تطليق زوجته قبل أن تفسخ، ففي نفوذ الطلاق ووقوعه على ما يكون من فسخ أو إجازة ما ذكرناه.
فإن قيل: إذا فَرَّعتم على الوجه الضعيف، فلو عَتَقت الأمة تحت زوجها القن، فوطئها الزوج قبل أن تفسخ، ثم فسخت، فهل [تعطّفون] الفسخ على هذا الوطء (1)؟ قلنا: هذا سرفٌ لا يصير إليه محصل، فإنَّ الذي وجهنا به ردَّ الطلاق تشبيهه بالعتق، الذي قد لا ينفذ بحق الغير، وهذا المعنى لا جريان له في الوطء، ولا مساغ له فيه أصلاً.
فرع:
8301 - العبد إذا عتق وتحته أَمَة، فالمذهب أنه لا خيار له، بخلاف الأَمة إذا عتقت تحت زوجها العبد. وذكر العراقيون هذا ووجهاً بعيداً معه أنَّ الخيار يثبت له كما يثبت لها، وقربوا ذلك من الخيار الذي حكيته في العيوب الطارئة عليها، وإنما هل يثبت للزوج حق الفسخ؟ فهذا بعيد لا اتجاه له، فإنَّ أصلَ البابِ معدولٌ عن القياس، مبنيٌّ على الخبر، وليس الزوج في مقصود الباب في معنى الزوجة.
...
__________
(1) أي تجعلون هذا الوطء في غير حقه؛ لأنها كانت تملك حق الفسخ، كما قلتم الطلاق لم يقع لأنه بان بفسخها أنه لم يصادف محلا، ولم يكن من حقه.

(12/478)


باب أَجَل العِنِّين
8302 - العِنِّين هو الذي يمتنع عليه وقاع امرأته. وليست العُنَّةُ معنى مأيوسَ الزوال، وليست أيضاًً ثابتة على العموم، فلا يمتنع أن يعِن الرجل عن امرأةٍ، ولا يعِن عن أخرى.
وقيل: العُنةُ في اللسان: اسمٌ للحظيرة التي تحبس فيها الإبل. ومما أرسلته العرب قولهم في الذي يهرف بكلامٍ لا قبولَ له: إنه "كالمهدِّر في العنة" (1). أي: كالإبل [التي] (2) طال احتباسها، فهي تهدر من طول المقام.
وقيل: "عِنانُ الدابة" سُمِّي بما سمي لأنه يمنعها من ركوبها رأسَها.
فالعنين: العاجزُ عن مواقعة امرأته.
ومبنى الباب على [مكان] (3) العُنة بين العيوب الواقعةِ التي لا دفع لها، ولا رجاء في زوالها، وبين المضارة التي يُفرض وقوعها.
ثم قاعدة الباب تبتني على قسمين من الكلام: أحدهما - أن تدعي المرأة عجز زوجها عن الغِشيان.
والثاني - أن تدعي اقتداره، وتزعم أنه ممتنع من وقاعها مضار بها في الانكفاف عنها.
فلتقع البداية بالقسم الأول، فهو مضمون الباب ومقصوده.
__________
(1) مثلٌ سائر، يضرب لمن لا ينفُذ قوله ولا فعله، فهو يهدِّر في محبسه. (ر. اللسان: مادة ع. ن. ن.، ومجمع الأمثال للميداني: 3/ 21.
(2) في الأصل: الذي.
(3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل، رسمت هكذا (ـزايد) بهذا الرسم وهذا النقط (انظر صورتها).

(12/479)


8303 - فإذا رفعت المرأةُ زوجَها إلى مجلس الحكم، وزعمت أنه عاجزٌ عِنِّين، فالزوج لا يخلو؛ إما أن يُقرَّ بالعُنة كما ادعتها، وإمَّا أن يدعي القدرة على الوقاع.
فإن اعترف بالعنة، أو أنكرها، ولكن قامت بيِّنة عادلةٌ على إقراره بالعُنة؛ فلا يثبت للمرأة حقُ الفسخ وإن ثبت الإقرار بالعُنة. وتبيَّن في مفتتح هذا الكلام أنَّ العنة [لا] (1) تجري مجرى الجَب؛ فإن نفس وقوع الجب يُثبت الخيار، والعنة في ظاهر الحكم قد ثبتت بإقرار الزوج، ولا خيار باتفاق أئمة المذهب، ولكن يضرب القاضي للزوج المدة، وهي سنة، يمهله فيها، ويُبيِّين له: أنك إن أصَبْتَ في المدة المضروبة، انفصلت الخصومةُ وانقطعت الطَّلِبة، وإن لم تُصِبْ، ثبت الخيارُ في فسخ النكاح بعد تَصَرُّمِ المدة.
والحكمة في إمهاله هذه المدة أنَّ العُنة قد تحال على أسباب [يقتضيها] (2) بعض فصول السنة، فإذا جرى هذا المهَل، وتَصَرَّمت الفصول على اختلافِ طبائعِها، تحقق العجزُ إذ ذاك، وكأنّ العُنَّة، وإن جرى الاعتراف [بها] (3) لا يتبيّن تحققها إلا بما ذكرناه.
وهذا احتياط رآه الشرع، وتشوّفٌ إلى إدامة النكاح لتعرض العُنّة للزوال لتغايير تلحق الضعف والمُنَّة، وقد صح أن عمر أجّل العنين سنة (4)، وأجمع المسلمون على اتباع قضائه في قاعدة الباب.
وما ذكرناه فيه إذا اعترف الزوج بالعُنة، أو شهدت بيّنة على اعترافه بها.
فإن ادعت المرأةُ العُنةَ، فأنكر الزوج، فشهدت بيِّنة على العنَّة نفسها ولم يتعرضوا لإقراره بها؛ فالبيِّنَةُ مردودة؛ فإنه لا اطلاع للشاهدين على ما شهدوا به، ولو كانوا سمعوا إقراره، فليس لهم أن يشهدوا بالمقرّ به، بل عليهم أن يتعرضوا للإقرار نفسه.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: يقضيها.
(3) في الأصل: بما.
(4) تأجيل العنين سنة، رواه البيهقي في السنن: 7/ 226.

(12/480)


وإذا أقرَّ زيدٌ لعمرو بدار، فليس للذين سمعوا إقراره أن يشهدوا لعمرو -المقر له- بالملك.
فإذاً لا تثبت العنة بشهادة البينة بها على الإطلاق.
8304 - فإذا أنكرَ الزوجُ، حَلَّفَتْهُ الزوجةُ، فإن حلفَ على قدرتهِ على الوقاع، انقطعت عنه الطّلبة وانفصلت الخصومة، وبطَلَ توصلها إلى حق الفسخ، فلا معنى -والحالة هذه- لضرب المدة.
وأمثال هذا وإن كانت جليّة عند فقهاء المذهب، فلا يضر التعرض للتصريح به، فقد يظن ظان أنَّ للسلطان أن يقول: إن كنت صادقاً في ادعاء القدرة، فحققها بوطأة، ولستَ مرهقاً، فالسنة مهلتك ومدتها فسختك؛ فهذا لا سبيل إليه؛ إذ يلزم منه مطالبة القادرين بالوقاع، حتى إن لم يواقعوا في مهلة السنة، طلقت عليهم نساؤهم، أو فسخت الأنكحة عليهم. وهذا لا سبيل إلى اعتقاده في قاعدة المذهب.
وما ذكرناه فيه إذا أنكر العجز وحلف على القدرة، فإن نكل عن اليمين المعروض عليه؛ فالمذهب الذي عليه التعويل: أنَّ اليمين مردودة على المرأة، ثم هي لا تخلو، إمَّا أن تحلف، وإمَّا أن تنكُل، فإن حلفت، ثبتت العُنة في ظاهر الحكم.
والتحق الترتيب بما إذا اعترف الزوج بالعُنة، والحكم أنَّ السلطان يضرب المدة كما تمهد قبل، وإن نكلت، كان نكولها عن اليمين بمثابة حلف الزوج، وقد بان أنَّ الزوج لو حلف، لانفصلت الخصومة بحلفه. هذا هو المذهب المشهور.
8305 - قال الشيخ أبو علي: ومن أصحابنا من قال: لا تثبت العُنَّة بحلفها؛ فإنها مخبرة عن عجز [غيرها] (1)، وهذا لا اطلاع عليه، فكما لا تثبت العنة بشهادة الغير بها، فكذلك لا تثبت العنة بحلف الزوجة.
وهذا ليس بشيء؛ فإنها قد تطلع بالمخايل الظاهرة على عجزه، وهي صاحبة الواقعة، والأيمان [يُكتَفَى] (2) فيها بأمثال ذلك، فإذا جرت نِيط بها حكمها، والدليل
__________
(1) في الأصل: غيره.
(2) في الأصل: يكفي.

(12/481)


على ما ذكرناه أنَّ الزوجَ إذا ذكر لفظةً من كنايات الطلاق، وزعم أنه لم ينوِ؛ فالقول قوله مع يمينه، فإن نكل عن اليمين المعروضة عليه، رددنا اليمينَ على المرأة، واطلاعُها على قصده الطلاق أبعدُ عن اطلاعها على عجزه. والمعتمد في الموضعين المخايل وقرائن الأحوال.
ثم من يحكم بأنَّ اليمين لا تردّ على المرأة، فلا معنى عند هذا القائل لتحليف الزوج؛ فإنَّ الغاية المتوقعة أن ينكُل، والقضاء عليه بالنكول لا وجه له، والتحليف لا يُفضي إلى رد اليمين، فلا معنى لفرضها أول مرة.
والوجه أن نقول: لا سبيل إلى ضرب المدة ما لم [يُقر] (1) الزوج بالعجز، أو يثبت اعترافُه بالبيّنة، وهذا يكاد يقرب من الخُرْق والهجوم على إفساد حكمه؛ فإنَّ الزوجَ إذا عَنَّ وقلنا: إنه لا يحلف، فلا يعجز عن الصمت والسكوت إذا راجعه القاضي، فإذا كان أصل المرافعة ثابتاً كما ذكرناه، وليس فيه حملٌ على يمين، فلا ثمرة للمرافعة، ولا فائدة للمحاكمة.
وللأصحاب في بعض المسائل تشوف إلى القضاء بالنكول، وقد قدمنا صوراً منها في كتاب الزكاة، وسنذكر أمثالها في مواضعها، إن شاء الله تعالى.
فلا يمتنع على الوجه البعيد أن نقول: نكول الزوج يغلّب على الظن عُنَّته، فنجعل ضرب المدة فسخته، وهذا كلام متناسب، فإن عجزه يظهر بامتناعه عن الوقاع في المدة فعلاً، فلا يبعد أن يستند ابتداء الضرب إلى امتناعه عن اليمين، وكل ذلك خبط.
والوجه: القطع برد اليمين على المرأة، كما صار إليه أئمة المذهب.
والوجه الضعيف لم يأت به الشيخ أبو علي تخريجاً، وإنما نقله عن أبي إسحاق المروزي، وهو -كما ذكرناه- بالغٌ في الضعف.
8306 - فإذا تمهَّدَ محلُّ ضربِ المدة، وانفتح على الناظر تصورُ مسائلِ الباب؛ فإنَّا نقول بعد ذلك: مُدَّةُ العنةِ لا تختلف بالرق والحرية؛ فإن كان الزوج عبداً، فالمدة
__________
(1) في الأصل: يقترن.

(12/482)


سنة، كما إذا كان حُرَّاً؛ إذ الغرض من ذلك امتحان الطبيعة، واستبانة عجزها وقدرتها. وما يرجع إلى الطباعِ ولا يتعلق بالتعبد، يستوي فيه العبد والحر، قياساً على مدة الإيلاء، وعلى الحولين في سنِّ الإرضاع، لمن أراد أن يُتم الرضاعة. وفيما ذكرناه احتراز عن [العدة] (1) بالأقراء؛ فإن الغالب عليها التعبد، كما سنبين، إن شاء الله عز وجل.
8307 - ومما يجب التصريح به أن المرأة إذا رفعت زوجها إلى مجلس الحكم وانتهى الأمرُ إلى أوان ضرب المدة؛ فالقاضي لا يضربها ما لم تلتمس المرأةُ ضربَها.
فلو أنها -لما ثبتت العنة- انكفت عن الطَّلِبة وسكتت، فالقاضي قد يحمل سكوتَها على الدهشةِ والبرق (2) وعدمِ الإحاطة بإجراء الكلامِ في الطلبات وإجراء الخصومات، فينبهها على ما لها وعليها، فإن سكتت على ما ذكرناه، لم يبتدىء ضربَ المدة.
وهذا لا خفاء به.
وكذلك لا يعرض القاضي اليمين على الخصم ما لم يطلبه المدعي.
ولو كانت لا تدري حكم الواقعة، فلا يحسن استدعاء ضرب المدة، ولكنها [إن] (3) كانت مصرّة على طلب حقها على موجب الشرع، فالقاضي يضرب المدة، ويبيّن أن هذا هو المسلك المرضيّ إلى دفع الضرار بوقوع الوقاع [أو] (4) قطع النكاح، وليست هذه المدة كمدة المُولي؛ فإنَّ مستندها إيلاء الزوج، وهو مقطوع به، لا مساغ للاجتهاد به. وكذلك الأجل المرعي في ضرب العقل على العاقلة، لا حاجة فيه إلى قضاء وضرب مدة؛ فإنه مستند إلى القتل الواقع حساً.
8308 - ثم إن انقضت المدة، فإن كان أصابها في السنة، فقد وفّاها حقَّها، وزال الضرار، واستمر النكاح، وإن لم يصبها، فيثبت حقُ الفسخ.
__________
(1) في الأصل: المدة.
(2) البرَق: بفتح الباء والراء، من بَرِق يبرق برَقاً (باب تعب) إذا فزع ودهش فلم يبصر (المعجم).
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: وقطع.

(12/483)


ثم لم يختلف أصحابنا في أنها لو انفردت بالفسخ بعد انقضاء المدة، ولم ترفع أمرها إلى مجلس الحكم، لم يُحكم بنفوذ فسخِها، بل لَغَا قولُها؛ والسبب فيه أنَّ مدار الباب على الدعوى والإقرار والإنكار، والنظر والاجتهاد، فلا تملك الاستبداد أصلاً.
وإن رفعت الأمر إلى مجلس الحكم، وتبيّن بإقرار الزوج أنه لم يصب في المدة المضروبة، فقد حان الفسخ.
وظهر اختلاف الأئمة في [أنه] (1) هل يفسخ بنفسه؟
وإنْ فوّض إليها، كانت مأمورة مستنابة في تنفيذ الفسخ المفوّض إلى الحاكم.
ومن أئمتنا من قال: إذا انتهى الأمر إلى الموقف الذي ذكرناه، ترتب عليه ثبوت الفسخ على الاستقلال، وتلتحق العُنَّة حينئذ بالجَبِّ، ثم لها الفسخ بالجبِّ على الانفراد، كذلك هاهنا؛ فإن حكمنا بأنها تنفرد، فهل يكفي أن يقول الزوج بعد المدة: لم أطاها في المدة، أم لا تتسلط المرأة ما لم يقل القاضي: ثبت لكِ حقُّ الفسخِ فتخيَّري؟
[من] (2) أصحابنا من قال: لا بد من تصريح القاضي بما ذكرناه، وبعده تملك المرأة الانفراد بالفسخ، كما لا بد بعد قيام البيّنة في الخصومات وتعديلها من أن يقول القاضي: ثبت الحق عندي؛ فإنَّ المجتهدات في مفاصل الخصومات لا تنفصل ما لم يُخبِر القاضي عن انتهاء نظره فيها نهايته.
ومن أصحابنا من قال: لا حاجة إلى ذلك في هذا المقام أصلاً؛ فإنَّ القاضي لا مجالَ لاجتهاده إذا اعترف الزوج بأنه لم يطأ في السنة، وقد مضت على كمالها.
نعم، إن ادعى جريان الوطء، فيحلف حينئذ وتُدرَأ الخصومات: فإن حلف، فلا فسخ، وإن نكل، رُدّت اليمين على المرأة، فإن حلفت، عاد الكلام إلى ما إذا أقَرَّ الزوج بعدم الوطء، وفيه الخلاف الذي حكيناه.
__________
(1) في الأصل: أنها.
(2) في الأصل: ومن.

(12/484)


8309 - ثم إذا طلبت الفراق، فهو فسخ باتفاق الأصحاب، وليس كما إذا انقضت مدة الإيلاء، وتوجهت الطَّلِبة على الزوج بالفيئة؛ فإنَّ النكاح لا يفسخ، بل يُحبسُ الزوجُ ليطَلِّقَ في قول، أو [يطلق] (1) القاضي في قول؛ والسبب فيه أنَّ الزوج لم يتصف بعيب، وإنما أضَرَّ بها، والفسوخ إنما تُناط بالعيوب وما في معانيها.
وهذا فيه بعض الإشكال من جهة المعنى؛ فإن [الطلاق] (2) تصرفٌ لا يدخل تحت حجر حاجر، والفسوخ مألوفة في [رفع] (3) الضرار، فكان لا يبعد عن المعنى أن يفسخ القاضي نكاح المولي من غير طلاق؛ حتى يندفع الضرار، ولا ينتقص عدد الطلاق، ولكن الإيلاء في الشرع طلاقٌ عند بعض العلماء، وهو مفضٍ عندنا إلى الطلاق إذا امتنع الزوج عن الفيئة، ولعل السبب فيه أنَّ الفيئة من الزوج ليست مأيوسة، بل هي ظاهرة الإمكان، والقدرة عتيدة؛ فقَطْعُ حالة النكاح غيرُ لائق بالنظر للجانبين، ولا مستدرك بعد الفسخ، [فأجيز] (4) الطلاق، وانقطعت الطَّلِبة بالرجعي، ليلائم ذلك إمكانَ الفيئة، فهذا هو المرعي.
8310 - ومن لطيف الكلام أنَّ الجب لما كان موئساً سلََّطَ المرأةَ على الفسخ الناجز، والعُنة على تردد، ولكنه مع حكم، وللشرع ترتب في أثنائها، فإذا ثبتت وتحقق ثبوتها بالاجتهاد، التحقت بالجَبّ، والرفعُ المنوطُ به فسخٌ (5)، فكانت العنة بعد الاجتهاد كالجب، ولذلك سقط حقها برضاها بعد ثبوت العنة، ولا يسقط حق التي آلى عنها زوجها بالرضا. وأما المولي، فإنه يُظهر ضراراً حاصله قطع طمعها عن الوقاع في مدة تتضرر في مثلها بالانقطاع عن الاستمتاع. وأبو حنيفة (6) رأى فرقة العُنة كفراق الإيلاء، ورأى فراق الجَب فسخاً.
__________
(1) في الأصل: يطلّقه.
(2) في الأصل: الحلاف.
(3) في الأصل: وقع.
(4) غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها).
(5) أي رفعُ النكاح المنوط بالجب فسخٌ وصارت العنة مثله.
(6) ر. مختصر الطحاوي: 183.

(12/485)


8311 - ومما يُنبّه على سر الباب. أنَّ العنَّة الطارئة بعد جريان وطء لا تثبت أصلاً، وليست كالجب، فإنَّ الزوج إذا وطىء مرةً أو مراراً، ثم جبَّ؛ فحق الخيار يثبت لها على التفصيل المقدم في باب العيوب.
8312 - فتنخّلّ من هذه الأسباب أنَّ العُنّة إذا ثبتت مع المهْل (1)، وامتحنت بعروّ المدة عن الوطء، وانضم إلى ذلك عرو النكاح عن الوطء؛ فتجمُّع هذه الأسباب يُلحقها بالجب.
فأمَّا الاعتراف المجرد بالعنة من غير مدة وضرب أجل، فلا يُثبت حق الفسخ، ولذلك إن جرى وطءٌ، فلا تعويل على عنَّة إن كانت؛ لأنها غير موئسة، وجريان وطء يقرّب الرجاء في زوالها، فلا تلتحق بالجب.
وليس يخفى في مبادىء النظر الإشكالُ في هذا، ولكنه إذا اعتضد بالإجماع، لم يبالَ به.
وكل ما ذكرناه توطئةٌ للباب في أحد القسمين الموضوعين في صدره، وذلك أنَّا قلنا: الكلام يتعلق بادعاء المرأة العجز، وباعترافها بالقدرة، وطلبها الوطءَ، فإن ادعت العجز، فقد مضى صدرٌ من الكلام، وسيأتي باقيه، إن شاء الله تعالى.
8313 - وإن اعترفت بقدرة الزوج على الوطء، وذكرت أنه لم يصبها في النكاح، وطلبت الإصابة؛ فهذا يبتني على خلافٍ مشهور في أنَ الزوج القادر على الوطء، هل يُجبر على أنْ يصيبَ امرأتَه مرةً واحدة؟ فظاهر المذهب: أنه لا يُجبر؛ لأنَّ الاستمتاع حقه، وهو مستحَق عليها، ولذلك يختص الزوج ببذل الصداقِ المقامِ عوضاً عن البضع.
ومن أصحابنا من قال: يجب على الزوج وطأةٌ بلا واحدة، واستدل ناصرُ هذا الوجه بمعنيين، يبتني عليهما تفريع مسائل: أحدهما - أنها تُطالب بوطأة يتقرر مهرُها بها (2).
__________
(1) بسكون الهاء وفتحها.
(2) لأنه إذا لم يطأها يتنصف المهر إن طلق قبل المسيس، ويسقط إذا فسخت.

(12/486)


والمعنى الثاني - أنها تطالب بحصول الاستمتاع؛ فإنَّ النكاح شملهما، وغرض الشرع إعفافُهما به، فينبغي أن تكون على حظٍّ من الاستمتاع تملك طلبه.
وخَرَّجَ الأئمةُ على هذين الوجهين مسائلَ: منها: أنَّ المرأة إذا أبرأت عن المهر قبل الدخول، فهل تملك بعد الإبراء طلب الوطء؟
هذا يخرج على المعنيين، فإن قلنا: إنما تَطلُب الوطءَ لتقرير المهر، لم تملك طلبه، وقد أبرأت عن المهر. وإن قلنا: إنها تطلبه بحصول حقها في المستمتع، فلها الطلب في هذا المقام.
ومن المسائل المفرعة: أنَّ السيد إذا زوَّج أمته من عبده، فلا مهر. وهل تملك الأَمةُ طلبَ الوطء تفريعاً على الوجه الضعيف؟ فعلى وجهين مبنيين على المعنيين.
وكذلك إذا زوَّج أَمَتَهُ من حُرّ، أو عبد ليس له، وثبت المهر، فإن قلنا: طلبُ الوطء لاستحقاق مستمتع؛ فهو للأمة. وإن قلنا: طلبُ الوطء لتقرير المهر، فهو للسيد؛ لأن المهر له.
وقاعدة المذهب أنَّ المرأة لا تَطلب طلبة المهر قطّ (1). وكنت أُقرّر هذا الوجه في الأوجه الضعيفة التي ينفرد [بنقلها] (2) الخلافيون (3)، حتى رأيته موجّهاً مفرّعاً على النسق الذي ذكرته في [الكلام] (4).
8314 - ثم إذا فرّعنا، وملكت المرأة طلبَ الوطء؛ فلو قال الزوج: أمهلوني مهلة العنين، لم نفعل؛ فإنه قادر على الوطء، وتلك المدة مضروبة لامتحان [عجز] (5) الزوج وتبيّن عنته.
__________
(1) أي ما يقرر المهر، ويثبته على الزوج كاملاً.
(2) في الأصل: بنقله.
(3) يشير بهذا إلى أحد خصائص منهج علم الخلاف، وأنه يذكر الوجه الضعيف، ويقرره وينصره في مقابلة الخصم، لا إيماناً بهذا الوجه الضعيف، ودعوة إلى العمل به، ولكن رغبة في امتحان الأدلة، والتدرّب في المناظرة، والقدرة على الاستنباط.
(4) في الأصل: "كلام".
(5) في الأصل: غير.

(12/487)


وكان يليق [بالقادر] (1) مدةُ الإيلاء، إن فرعنا على أنها تطلب حقاً من المستمتع؛ فإنَّ الإضرار في وضع [الشرع] (2) منوط بهذا. ولم يتعرض لهذا الأئمةُ، ولم يصر إلى [الإمهال] (3) أيضاًً أحد. فإن استمهل أحدٌ أمهلناه، ريثما يتهيّأ في الاعتداد لهذا الشأن.
ولو ذكر مرضاً، أو عجزاً ليس بالعنة، وكانت مَخيلةٌ لائحة، أخَّرناه بلا خلاف، وما [ذكرناه] (4) في استمرار الاقتدار.
ثم إذا توجهت الطَّلِبة، وامتنع الزوج نَكلاً (5)، حُبس، ولم ينته الأمر إلى حبس المولي بعد انقضاء المدة، حتى يخرّج قولٌ في أنَّ القاضي يطلِّق، لم أرَ أحداً من الأصحاب يصير إلى ذلك، أو يرمز إلى احتمالٍ فيه، ولم أر هذا (6) القول أيضاًً مصرَّحاً به. وكان لا يبعدُ أن نجعل المُطالَب بالوطء كالمولي إذا انقضت المدة وتوجهت عليه الطلبة بالفيئة. ونحن قد نفرق عند ظهور الضرار وتعسُّر الحَكَمين، كما سيأتي، إن شاء الله عز وجل.
[فصل]
قال: "فإنْ قُطعَ [من] (7) ذكره فبقي منه ما يقعُ موقعَ الجماع ... إلى آخره" (8).
8315 - نقول في صدر الفصل: الأحكام الشرعية المتعلقة بالوطء تثبت جميعها بتغييب الحشفة، ولا فرقَ بين ما يستدعي الكمال (9) وبين ما لا يستدعيه، فيحصل به
__________
(1) في الأصل: بالفلا. والمعنى: كان اللائق إمهال القادر مدةَ الإيلاء.
(2) في الأصل: الشرط.
(3) في الأصل: الأرمان. (بهذا الرسم وهذا النقط).
(4) في الأصل: ذكرنا.
(5) نَكلاً: نكل عن الأمر نكلاً (وزان تعب): جبن ونكص. (المعجم).
(6) في الأصل: ولم أر في هذا القول.
(7) في الأصل: منه. والتصويب من نص المختصر.
(8) ر. المختصر: 4/ 13.
(9) يستدعي الكمال: أي صفات الكمال، كالتحصين ونحوه، ويقابله ما يستدعي العقوبة، كالحدّ، ووجوب المهر.

(12/488)


التحصين، والتحليل، والحد في محله، ووجوب الكفارة، وفساد العبادة، ووجوب الغُسل، وتحريم المصاهرة، وسقوط الطّلبة بالفيئة، وحق المرافعة لسبب العنَّة. وهذا أصلٌ لا استثناء فيه.
ومعنى التغييب أن يشتمل الشفران وملتقاهما ورؤية (1) الحشفة، ولو انعكس الشفران وانقلبا إلى الباطن وكانت الحشفة لا تَلقى إلاَّ ما انعكس من البشرة الظاهرة، فهذا عندي فيه تردد؛ فإنَّ الحشفة حصلت في حيز الباطن، إن التف بها الشفران المنقلبان.
وكان شيخي أبو محمد [يحكم] (2) بأنَّ فطْرَ المرأة يحصل بتغييب الحشفة، وكان لا يقيم لما يغيب من بعض الحشفة حكماً، وسفّه الزيادي (3) في علته (4) المعروفة؛ إذ قال: أَفْطَرتْ بغير [جماع] (5). ورأيت للقاضي القطع (6) بأنها تفطر قبل غيبوبة الحشفة، ولا ينقدح عندنا غيرُ ذلك؛ فإنَّ وصول الواصل إلى حيّز الجوف متحقق حساً، ولو فُرض إيصال إصبع إلى وراء ملتقى الشفرين على قدر نصف الحشفة، لكان ذلك مفطراً، فما الذي يوجب الفصل؟
8316 - والمشكل في ذلك أنَّ هذا إذا استدّ (7)، وجب القطع بأنها لا كفارة عليها
__________
(1) "كذا" تماماًً بالأصل. والمعنى أن تغيب الحشفة بين الشفرين، فلا تُرى. والله أعلم.
(2) في الأصل: يحصل.
(3) الزيادي، محمد بن محمد بن محمِش، أبو الفضل، إمام المحدّثين والفقهاء في زمانه بنيسابور، وكان شيخاً أديباً عارفاً بالعربية، له اليد الطولى في معرفة (الشروط) وصنف فيه كتاباً، أخذ الفقه عن أبي الوليد وأبي سهل، وعنه أخذ أبو عاصم العبادي، توفي سنة 410 هـ، (ر. طبقات السبكي: 4/ 198 - 201، وطبقات العبادي: 101، وشذرات الذهب: 3/ 192).
(4) علّته. هكذا رسمت تماماًً، ولعل المعنى: في تعليله للفطر، والله أعلم.
(5) في الأصل: إجماع.
(6) حكى هذا القطعَ عن القاضي، ونقل كلامه في (التعليقة) التاجُ السبكي، في ترجمة الزيادي (ر. الطبقات: 4/ 201).
(7) استد أي استقام، وصح، واعتُمد.

(12/489)


على أصل الشافعي (1). ولم يختلف أئمة المذهب في أنَّ أقيس القولين وجوب الكفارة عليها. وكيف يُظن بالشافعي أن يغفل عن درك هذا، وهذا ما يعتصم به شيخي أبو محمد إذا عارضناه بتقرير وصول الواصل إلى الجوف. ولا ينبغي للفقيه أن [يستهين] (2) بالكلام في هذا المقام.
ورأيت شيخي كان يبني [على] (3) ذلك شيئاً، ويقول: تردُّدُ الأصحاب في نجاسة بلل باطن فرج المرأة مأخوذٌ من اعتقاد بعضهم أنَّ ما وراء ملتقى الشفرين لا يثبت له حكم البطون، ويلتحق بداخل الفم إلى قدر حشفة معتدلة. وهذا عندي خبطٌ؛ فإنَّ ما وراء الملتقى من باطن الفرج؛ فلا معنى لإبداء المراء في ذلك.
والممكن مع ما ذكرناه في تنزيل القول المنقاس أنَّ بعضَ الحشفة وإن كان يغيب ويصل إلى الباطن، فحكم الجماع أغلب، فلم يقع الاكتراث بالتغييب الذي يتعلق بوصول واصل من الظاهر إلى الباطن، وكان الحكم للوقاع.
وإذا قال القائل: لمَ عَلَّقَ الشرعُ أحكام الوطء بتغييب الحشفة؟ انقدح فيه بعد الاتباع أنه الآلة الحساسة، وبها الالتذاذ، ولهذا سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم العُسَيلة في الحديث المعروف.
8317 - فإذا تبيَّنَ ما ذكرناه، فلو قُطعت الحشفةُ؛ فالذي صار إليه جمهورُ
__________
(1) تصوير الإشكال: أننا إذا قلنا: أفطرت بغير جماع، فتكون عند شروعها في الجماع، وبدخول بعض الحشفة يحصل الإفطار، فإذا تمّ تغييب الحشفة، واكتمل الجماع، تكون قد جومعت بعد أن أفطرت، أي أنها لم تفطر بالجماع، وإنما أفطرت قبله، ويجب على هذا أن نقول: لا كفارة عليها. وهذا لم يقل به أحد. (هذا تصوير الإشكال).
وسيجيب عنه إمام الحرمين في الفقرة الآتية: "بأن بعض الحشفة، وإن كان يغيب ويصل إلى الباطن، فحكم الجماع أغلب، فلم يقع الاكتراث بالتغييب الذي يتعلق بوصول واصل من الظاهر إلى الباطن، وكان الحكم للوقاع" ا. هـ
وعلى هذا لو أدخل بعض الحشفة ثم نزع تكون قد أفطرت، فعليها القضاء، ولا كفارة، لأنه لم يحدث جماع. والله أعلم.
(2) في الأصل رسمت هكذا (يستهن) فيحتمل أن تقرأ أيضاً: يستهزىء.
(3) في الأصل: من.

(12/490)


الأصحاب أنه [يتعلّق] (1) بتغييب مقدار الحشفة مما بقي [ما] (2) يتعلق بتغييب الحشفة من الأحكام.
وذكر العراقيون وجهاً، أنَّ الحشفة إذا قطعت، لم تتعلق الأحكام إلاَّ بإيعاب الباقي. قال القاضي: هذا ظاهر النص، والمذهب خلافه.
ثم إن فرض قطع الحشفة مع إمكان الوقاع بالباقي، فسبيل هذا الشخص كسبيل من لا قطع به، وإن امتنع عليه الوقاع، فالقول فيه كالقول في العنين.
وإن كان الباقي أقل من مقدار الحشفة، فلا حكم له أصلاً، وسبيل ما جرى من القطع كسبيل الجب المتأصل.
ثم وصل (3) بهذا القولَ في الخنثى، وقد قدمت فيه طرق الأصحاب على أكمل وجه في البيان.
8318 - ومما يتعلق بهذا المنتهى: أن المرأة إذا ادعت على [زوجها] (4) العجزَ، فأنكره الزوج، وادعى القدرة؛ فقد ذكرنا أن القول قول الزوج.
ولو قطعت الحشفة، وبقي من الذكر ما يحصل به الوقاع التام، وادّعت المرأة العجز -والحالة هذه- فالذي ذهب إليه الأصحاب: أن القول قول الزوج - كما لو كان صحيح الذَّكر.
وقال أبو إسحاق المروزي: القول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر معها؛ فإنّ قطع بعض الذَّكر حريٌّ بأن يضعف ويورث العجز.
[و] (5) المروزي يقول هذا عند [استئصال] (6) الحشفة، فإذا قطعت قطعة منها، فما أراه يقول ما حُكي عنه.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: مما.
(3) ثم وصل بهذا: المراد المزني في المختصر: 4/ 13.
(4) غير مقروءة بالأصل.
(5) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.
(6) في الأصل: استقبال.

(12/491)


ولا يمكننا أن نحتكم على قياس من لا يتبع القياس.
8319 - ومما ذكره الشافعي: أن الرجل إذا كان لا يعنّ عن نسوة، ويعنّ عن امرأة على الخصوص، فحكم العُنة ثابت؛ وذلك أن الامتناع من الوقاع قد تحقق.
وهذا قد يؤثر في فكر الفقيه؛ من جهة أن تصوير هذا يعسُر، وإن فرض، فإلحاق هذا بالعُنة مشكل. ولو أُلحِق بمرضٍ حاجزٍ، أو مانعٍ غيرِه، وقُطِعَ عن العُنّة، لكان كلاماً جارياً في مسلك الاحتمال، ولكن لا قائل به. والأصحاب - يُجمعون على ثبوت حكم العُنة على النسق الممَّهد.
ويلتحق بذلك ما هو أبعد منه، وهو أن الرجل إذا أصابها في الدبر، وادعى العُنّة عن المأتى! قال الأصحاب: هو عنين في مبدأ أمره ومنتهاه، على النسق الذي قدمناه.
وهذا على ما فيه من الإشكال يمهد قطباً عظيماً في الباب، وهو أن العنة تُفرض على وجهين: أحدهما - يرجع إلى عجزٍ، وهو ينقسم إلى ضعف في الحركة - سببه ضعف الدماغ، وإلى ضعفٍ سببه ضعف الكبد، وقد يرجع إلى خلل في الآلة وآفة، فهذه هي من ضعف القلب، فهذه هي العُنة الحقيقية -ولعمري- من الأمراض، ولكنها خاصة بالمقصود، وليس كمرض لا اختصاص له.
وكان شيخي أبو محمد لا يفصل بين المرض الخاص في الوجوه التي ذكرناها، وبين الأمراض التي ليست مختصة إذا تحقق امتناع الوقاع.
وفي هذا فضل نظر، والرأي ما ذكره. هذا وجه في تصوير العُنّة.
والوجه الثاني - أن [تفتر] (1) شهوة [الإنسان عن امرأةٍ وكان لا يتشهاها، وعلى هذا يخرّج ما قدمناه من اقتداره على وطء ضراتها، مع أنه قد عنّ عنها، وعليه يخرج تشوّفه إلى غير المأتى، وتجنب قصده اعتياداً أو جبلّة، مع أنه لا ينتشر للمأتى] (2).
__________
(1) في الأصل: تتلف.
(2) ما بين المعقفين امّحى تقريباً وقرأناه عن الفيلم بالجهاز القارىء، وقدرناه على ضوء ظلال الحروف والكلمات. وهو صحيحٌ إن شاء الله.

(12/492)


فيتحصل من مجموع ما ذكرناه أن لا يمتنع الفتور كما أومأنا إليه، لا غير.
ولا شك أن زوج البكر إذا عجز عن افتراعها -وإن كان يأتي الثيب- في حكم العنين.
8320 - ومما نحسم به هذه الفصول المتفرقة: أن العُنة إذا ثبتت بالإقرار أولاً، ثم امتُحِن استمرارها بالمدة وخلوها عن الوقاع، ثم رضيت المرأة بالمُقام، سقط حقها وفاقاً؛ والسبب فيه أن العنة شابهت الجَبَّ في منتهى الأمر؛ حيث أثبتت حق الفسخ، فالرضا في وقت ثبوت حق الفسخ يُسقِط الحقَّ.
ولو أقر الزوج بالعنة، ولم تنقضِ المدة بعدُ، فرضيت بالمُقام، فهل يسقط حقها برضاها؟ فعلى قولين، ذكرهما القاضي والصيدلاني: أحدهما - أن حقها يسقط، كما لو رضيت بعد انقضاء المدة، وثبوت حق الفسخ.
والقول الثاني - إن حقها لا يسقط؛ فإنها لم تتحقق منه العُنة بعدُ، فَحُمل رضاها على توقع عوْد القدرة.
والدليل عليه: أنها لو أرادت الفسخ قبل انقضاء المدة، لم تتمكن من ذلك.
فإن قيل: هل يبتني هذا على إسقاط الحق قبل ثبوته إذا وجد سبب الثبوت؟
قلنا: هذا تشبيه من طريق اللفظ. والوجه: أخذ القولين من مأخذ الباب، وكأن أحد القولين راجع إلى أن العيب لم يتحقق، فكان رضاها بمثابة رضاها تحت زوجها المُولي.
وإذا تحققت العنّة، [فالرضا بالعيب] (1) لازم مُلزِم.
هذا مأخذ ترديد القولين.
ومما يتعلق بتمام ذلك: أنها لو فسخت النكاح بعد تحقق العنة، فإذا أرادت أن تعود إلى المطالبة، فقد ذكر بعض المحققين أن هذا يُخرَّج على القولين الذين ذكرناهما. وهذا حسن. وإن كان ينقدح بين هذه الصورة وبين الصورة المتقدمة
__________
(1) في الأصل: بالرضا فالعيب.

(12/493)


فرق؛ من جهة أن العنة لم تتحقق في الصورة المتقدمة.
والذي يحقق هذا: أن الزوج لو وطىء امرأة في نكاح، ثم عُنّ [لاحقا] (1)، فلا خيار. ولو وطىء في نكاح، ثم زال ذلك النكاح، وفرض نكاح جديد، وعُنّ [عنها فيه] (2)، فيثبت حكم العنة مُطَالبةً وإمهالاً ثم فسخاً. وهذا مسلك القفال، واختياره في هذه المسائل ثبوت الخيار لها.
فصل
قال: "فإن فارقها بعد ذلك، ثم راجعها ... إلى آخره" (3).
8321 - إذا رضيت المرأة بالعنة بعد تبيّنها، واختارت المقام، وبطل حقها، ثم طلقها زوجها؛ نظر؛ فإن كان الطلاق رجعياً؛ فارتجعها الزوج (4)، لم يكن لها مطالبتُه، ولا يثبت لها خيارُ الفسخ؛ لأنها أسقطت حقها فيه برضاها، والنكاح واحد.
ولو طلقها طلاقاً بائناً [أو] (5) انقضت عدةُ الرجعي، ثم جدد نكاحها، ففي عَوْد حقها ومطالبتها قولان مبنيان على عَوْد الحنث، والإيلاء، والظهار، وفي البناء (6) نظر؛ لأن هذه الأحكام كانت لها في وجود النكاح الأول، وبقيت لها [عُلقة] (7)، وفي مسألتنا لم يبق لها عُلقة، وإنما نبني على الأصل المقدم أنها تلحقه على علمٍ بعُنَّته، فإن أثبتنا لها الحقَّ وهو الأصح، لم تبادر بالفسخ اكتفاءً بعلمها السابق، ولو ثبتت هذه على تعلق النكاح الثاني بالأول، لاكتُفي بالمدة السابقة، وليس الأمر
__________
(1) في الأصل: "حقا" والمثبت تقديرٌ من المحقق.
(2) في الأصل: عنه فيها.
(3) ر. المختصر: 4/ 13.
(4) اللوحتان: 104، 105 استحالت قراءتهما تماماًً، وقد سددنا هذا الخرم من (صفوة المذهب). اللوحتان: 130، 131.
(5) في الأصل: إذا.
(6) أي البناء على عود الحنث.
(7) علق.

(12/494)


كذلك، بل ترفعه (1)، وتُضرَب له المدة، ويثبت حق الفسخ بعدها إن خلت عن الوطء، ولا التفات إلى ما مضى؛ فإن العُنّة مرجوّةُ الزوال، فاستفتح حقَّ الطلب في هذا النكاح.
8322 - قال المزني بعدما ذكر جواب الشافعي: "هذه (2) المسألة لا تُتصوّر؛ لأن الرجعة تكون بعدما دخل بها، وإذا وُجد الدخول في نكاحٍ، لم تثبت المطالبة بسبب العُنَّة ... إلى آخره" (3).
قال الأصحاب: يمكن أن يكون فرّعَ الشافعيُّ على القديم في أن الخُلوةَ توجب العِدّةَ، ولا تنزل منزلة الإصابة في إسقاط حق الطلب بسبب العُنّة، وتجب العِدة لسَبْق (4) الماء إلى الرحم، وقد قدمنا أن الوطء في الدبر يوجب العدّة، ولا يُسقط حق الطلب بسبب العُنّة، والمزني أفطنُ من أن تزول هذه اللطائف عن نظره، ولكنه يبادر للاعتراض، والأولى به ألاّ يستفتحه إذا وجد للكلام محملاً.
فصل
8323 - إذا قال الزوج ما أصبتك، وقالت: بل أصبتني، [أخذنا] (5) كلاًّ منهما بموجَب قوله فيما عليه. ولو قالت: أصبتني، فتقرّر مهري، فلا يخفى [الخلاف] (6) وانتظام الخصومة في الحَلِف والنكول والرد، وعلى المرأة العدّةُ مؤاخذةً [لها] (7) بقولها، ولا نفقة لها ولا سُكنى، وللرجل أن ينكِحَ أختها، وأربعاً سواها وابنتها.
قلتُ (8): إن لم يكن دخل بالأم؛ لأن قولها غيرُ مقبولٍ عليه.
__________
(1) أي إلى الحاكم.
(2) في الأصل: في هذه المسألة بزيادة (في).
(3) المختصر: 4/ 13.
(4) أي لاحتمال سبق الماء إلى الرحم.
(5) في الأصل: وأخذنا.
(6) في الأصل: المختلف.
(7) زيادة من المحقق.
(8) القائل ابن أبي عصرون موضحاً كلام الإمام.

(12/495)


8324 - وإن ادعى الزوج الإصابةَ ونفتها، فالأصل النفيُ، فلا عدة عليها، وتنكح غيرَه في الحال، ولا تطالبه بأكثرَ من نصف المهر وإن كان مُقراً بجميعه؛ لأنها لا تدّعيه، ولو كانت قد قبضت جميعَ المهر، لزمها ردُّ نصفه، لكن الرجل لا يأخذه؛ لأنه مقرٌّ بأنها تستحقه، فهو دائرٌ بينهما، وله نظائر:
وعلى الرجل النفقة والكسوة إذا كان الطلاق رجعياً، لكنها لا تدّعيها، فلا تطلبهما، ولا ينكح أختها في عدتها، ولا ابنتها، ولا أربعاً غيرها.
8325 - واستُثني من تغليب النفي ثلاثُ مسائلَ وفاقيةٍ، وأربعٌ خلافية: إحداها - إذا اختلف الزوجان في السَّنة المضروبة للعُنة، فقال الزوج: أصبتك فيها، وقالت: لم تصبني، فالقول قولُ الزوج مع يمينه، وإن كان الأصل النفيَ؛ تغليباً لجانب من يُغلِّب بقاء النكاح، لأن مبناه على اللزوم والدوام، والوطء الذي ادعاه ممكن، وليست العُنّةُ ضربةَ لازب؛ فترجيحُ جانبها في النفي لا يعارِض (1) [استبقاءَ] (2) النكاح، ولأن الزوج في حكم صاحب اليد، والأيدي لا تُزال بترجيحاتٍ.
المسألة الثانية - إذا قال الزوج: قد أصبتها -في مدة الإيلاء- وأنكرت، فالقول قول الزوج؛ لما قدمناه.
المسألة الثالثة - إذا نفى الزوج الإصابة ليشطِّر الصداقَ، فالقول قوله، فلو أتت المرأة بولدٍ يلحقه بحكم الإمكان، لحق به، ويصير مصدِّقاً لها في دعوى الإصابة، فلو كان حلف الزوج من قبْل على نفي الإصابة، واقتصر منه على شطر الصداق، فالقول الآن قولها مع يمينها؛ لأن لحوق الولد لا يورث يقيناً، لكن يغلِّب ظنَّ صدقها، فهذه يمين تعقّبت يميناً ونقضتها، ولكن أقيس وجه أنه لا يكمل لها الصداق؛ لأن النسب يثبت بمجرد النكاح والإمكان، فهذا مستثنى؛ لأنا صدقناها، والأصل عدم الإصابة.
__________
(1) أي لا يقوى في ردّ تغليب القول الذي يؤدي إلى استيفاء النكاح.
(2) في الأصل: استيفاء.

(12/496)


8326 - أما [المسائل] (1) الخلافية:
فإذا خلا الزوج بزوجته -وقلنا: الخُلوةُ لا تقرر الصداق- فادعت أنه أصابها في الخُلوة، وأنكر الزوج، فقولان: أحدهما -وهو الأصح- أن القول قول الزوج.
والثاني - القول قولها، وإذا أتت المرأة بولد كما ذكرناه، فنفاه الزوج باللعان لم تصدّق المرأة في دعواها الإصابة، ويصير اللعان معارضاً لما ادّعته من النسب، ويستمر الأمر على ما تقدم.
وإذا (2) ادعى الرجل الإصابة في مدة العُنّة أو مدة الإيلاء وأنكرت المرأة، فلما هممنا بتحليف الزوج، قالت: إني بكرٌ، وشهد بها أربع نسوة، فإنا نغلّب جانبها؛ لأن بقاءَ العُذرة دالٌّ على عدم الوطء، لكنا نحلفها، ونجعل العذرةَ -دلالة قوة جانبها - مفيدةً غلبة الظن في صدقها؛ لأن الطلبة بحق العُنة تسقط بتغييب الحشفة، وقد قيل: إذا لم يُمعن في الوقاع تعود العذرة، فنحلفها لهذا الإمكان، فإن حلفت، ثبت غرضُها، ولها الخيار في الفسخ، وإن نكلت رُدّت اليمين على الزوج، فإن نكل، كان نكوله كحلفها.
وهذا ضعيف غير متجه مع تكرر حكايته.
وإن حلف، ثبتت الإصابة، وانقطعت الطلبة.
وإذا (3) ضُربت مدّةُ العُنّة فحيل بينهما حيلولة ضرورته، لم تحتسب هذه المدة (4)؛ فإن أثر المهلة يظهر فيه إذا كان الزوج مخلىً مع زوجته، فإذا لم يكن، فلا حكم للمدة.
فلو قال الزوج: لا تمهّدوا لي عذراً، فإني لم أستشعر من نفسي قدرةً في المدة.
قلنا: لا تعويل على ذلك؛ فإن للنفس نهوضاً مع ممارسة المرأة، كما لها في
__________
(1) زيادة للإيضاح.
(2) هذه هي المسألة الثانية من الخلافية.
(3) هذه هي المسألة الثالثة.
(4) عدنا إلى نسخة الأصل (اللوحة 106).

(12/497)


التعزّب واستمرار العُزْبة (1) [فتوراً] (2) هذا إذا كانت الحيلولة ضرورية.
فإن (3) ضربنا المدة، فغاب الزوج باختياره، ثم زعم أنه لو كان معها، [لغشيها] (4)، فهذا فيه بعض التردد. والأظهر أن المدة محسوبة عليه؛ من جهة أنه اختار الانعزال، فيحمل ذلك على عجزه، ولا خلاف أنه لو انعزل عن زوجته في البلدة الواحدة، حسبت المدة عليه.
فصل
قال: "وللمرأة الخيار في المجبوب وغير المجبوب من ساعتها ... إلى آخره" (5).
8327 - قال الأصحاب: أراد بقوله "وغير المجبوب" الخصي؛ فإنه قال على الاتصال بذلك: فإن الخصي ناقص عن الرجال. والمجبوب لا يجامع أبداً.
وغرض الفصل قد تقدم بيانه. ولكنا رسمنا الفصل بمزيد كشف في مقصوده.
فإذا اطلعت المرأة على الجَب المستأصِل، فلها الخيار من ساعتها، كما تقدم بيانه في باب العيوب.
وإذا جرى الجَب طارئاً قبل الدخول، فلها الخيار أيضاًً، كما تقدم. ولو كان أصابها، ثم جبّ، فقد ذكرنا أن الزوج إذا عُنّ بعد إصابة واحدة؛ فليس لها حق الطلب بسبب العنة.
فأما إذا جرى الجب بعد الإصابة، ففي ثبوت حق الفسخ وجهان مشهوران: أحدهما -وهو الأقيس- أنه يثبت؛ فإن الجب موئس، والنكاح للأبد، فإذا انقطع
__________
(1) عُزبة: عزَب الرجل يعزب، من باب قتل (عُزبة) وزان غرفة، و (عزوبة) إذا لم يكن له أهل. (المصباح).
(2) زيادة من المحقق لاستكمال العبارة.
(3) هذه هي المسألة الرابعة.
(4) في الأصل: فغشيها.
(5) ر. المختصر: 4/ 14.

(12/498)


توقُّعُ الوقاع -ومقصودُ النكاح يضاهي المنافع في الإجارة- فيقتضي هذا إثباتَ الخيار.
ومن أصحابنا من قال: لا خيار، والوطأة الواحدة كما تُقَرِّر المهرَ، تُقَرِّرُ النكاح، [وتؤمن] (1) من إجراء الفسخ بسبب التعذر.
ولهذا الخلاف التفات على ما قدمناه - من أن المرأة هل تستحق وطأة واحدة؟ [وإن استوفتها، فلا خيار لها، وسقط استحقاقها] (2).
ومما يتصل ببيان هذا أنه إذا [أقرّت] (3) بوطأة واحدة، ثم طرأ البرص والجذام؛ فيجب تخريج ذلك على الوجهين، فإنا إذا أجريناهما في الجَبّ، فجريانهما فيما يمنع من الإصابة عِيافةً أولى.
ولو أصاب الزوج زوجته، ثم إنها اطلعت على برص قديم مقترن بعقد النكاح - فإن كنا لا نرى لجريان الوطء أثراً في العيب الطارىء، فلا أثر للوطء الذي جرى والعيب مقترن، وإن جعلنا للوطء أثراً في العيب الطارىء، فهذه المسألة فيها احتمال.
والظاهر أنه يثبت لها الخيار لورود النكاح على العيب.
8328 - ثم تعرض الشافعي للكلام على الخَصي وغيره. أما المجبوب، فقد تقدم [الكلام] (4) فيه. وأما الخَصي -وهو المسلوب الأنثيين، والذكرُ باقٍ- ففيه قولان: أحدهما - أن الخيار يثبت للمرأة من ساعتها، وعليه يدلّ ظاهر النص -كما نبهنا عليه في صدر الفصل- فإن نقصان ذلك في الرجال مما يتعلق بالفحولة.
والقول الثاني -وهو القياس- إنه لا خيار لها بسبب الخِصاء، فإن آلة الجماع عنده، وقد يكون الخَصيّ أقدر من الفحل - من حيث إنه لا يعروه فتور، وهذه الحالة
__________
(1) في الأصل: "وهو" وعبارة (صفوة المذهب): "تقرر النكاحَ وتؤمن من فسخه بتعذّر الوطء".
(2) ما بين المعقفين مكان عبارة في الأصل مضطربة، ونصها: "وإن استحقتها، فلا، ومعنى تستحقها" هكذا تماماًً. لو وضعت هذا مكان ما بين المعقفين، رأيت نسخة الأصل بعينها.
(3) في الأصل: "جرت" والمثبت تقديرٌ منا على ضوء السياق.
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(12/499)


لا تورث عِيافة، ولذلك رأينا هذا القول أقيس. فإن كان الخَصي يعجز عن الضَّربان (1)، فحكمه حكم العنين، على هذا القول، فلا بد من ضرب المدة، والجريان على المناظم المقدمة.
ومما يتصل بذلك: أن المرأة إذا ادعت عدم الإصابة في مدة العنة - والزوج خَصي، وادعى الزوج الإصابة، فهذا فيه تردد بين الأصحاب.
فذهب الأكثرون إلى أن القول قول الزوج.
وذهب أبو إسحاق المروزي إلى أن القول قولها؛ لأن الظاهر معها. وقد قدمتُ ذكر هذا.
8329 - ثم ذكر الشافعي خروج الزوج على صورة الخناثى، وقد استقصيت القول في ذلك في باب العيوب، ولكني اطلعت على علامات -ذكرها الأصحاب في الطرق- تثبت بها الذكورة والأنوثة. وغالب ظني أني لم أستقصها كذلك في باب الطهارة، فلا يضر ذكرها، وإن كانت معادة، احتملناها.
وقد قدمنا أن الخنثى إذا كان يبول بالمسلكين، فلا حكمَ للبول، ولا بيان فيه.
وذكر العراقيون: من أصحابنا من اعتبر قلة البول وكثرته، وهذا كنا نعرفه مذهب أبي يوسف (2)، وأنه [دلّنا] (3) عليه حكايةٌ بينه وبين أبي حنيفة.
وحكى القاضي قولاً في القديم: أنا نعتبر السبق في [المبالين] (4)، حتى إذا كان يسبق إلى أحدهما، فعليه التعويل. وحكى أيضاًً عن القديم اعتبار الكثرة والقلة، ومما حكاه أن البول إذا كان يسبق إليهما جميعاً معاً، ولكن كان [يحدث] (5) الانقطاع
__________
(1) الضربان: من ضرب يضرب ضرباً وضراباً وضَرباناً. والمعنى هنا النكاح (المعجم والمصباح).
(2) ر. الاختيار لتعليل المختار: 3/ 38، حاشية ابن عابدين: 5/ 464، والبدائع: 7/ 328، والمبسوط: 30/ 104، 105، والبحر الرائق: 8/ 539.
(3) في الأصل: دنا.
(4) في الأصل: المالين.
(5) زيادة اقتضاها السياق.

(12/500)


عن أحد [المبالين] (1) أيضاًً، ففي القديم اعتبار ذلك.
وقد يتفرع عليه: أن البول إذا كان يسبق إلى أحدهما، ثم يلحقه الثاني، وكان أبطأ على الثاني، فهذا -وإن لم نحكه- متردد، وكل ذلك خبط. والمذهب أنه لا اعتبار بشيء من هذا.
فرع:
8330 - قد قدمنا حكمَ المهر واستقرارَه بالمسيس، والقولَ المنصوصَ والمخرَّجَ إذا فسخت المرأة النكاح بعيب من العيوب، وضبطنا فيه المذهبَ وسقناه أحسن سَوْق. وإنما رتبت هذا الفرع الآن لأمر غريب، وذلك أنَّ صاحب التقريب حكى عن الإصطخري شيئاًً بديعاً، وذلك أنه قال: إذا فسخت المرأة النكاح بسبب العُنة قبل المسيس، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها تستحق كمال المهر؛ [فإنها] (2) كانت تستحق عليه أن يكون بصفة من يتصور منه تكميل المهر، فإذا لم يكن، [وجب تكميل] (3) المهر.
والقول الثاني - إنها تستحق نصف المهر (4)، ولا عِدَّة عليها في القولين؛ فإنها غير مدخول بها. هكذا ذكره الأصطخري، وهو في نهاية البعد، ولولا أنَّ صاحب التقريب نقل ذلك على إتقانٍ وتثبت، وبالغ في الرد عليه وتزييف ما جاء به، لما استجزت حكايته.
والمذهب المقطوع به أنها إذا فسخت النكاح قبل المسيس بسبب العنة، لم تستحق شيئاًً من المهر. ولا ينبغي أن ننتهي إلى [نقل] (5) هذا إن لم نَعُدُّه من المذهب،
__________
(1) في الأصل: المالين.
(2) في الأصل: فإذا.
(3) عبارة الأصل: "فإذا لم يكن لتكميل المهر". والمثبت تصرف منا. وصدقته (صفوة المذهب).
(4) حكى الإمام الرافعي هذا عن صاحب التقريب، فقال: "وعن صاحب التقريب أن الإصطخري حكى قولاً آخر، أنه يجب عليه كمال المهر؛ لأنها كانت تستحق عليه أن يكون بصفة من يتصوّر منه تكميل المهر.
وقولاً آخر أنه يجب نصف المهر" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 8/ 171).
(5) في الأصل: أصل.

(12/501)


ولست أجد بداً من نقل ما يبلغني من كلام الأئمة.
ثم قال المزني: قال الشافعي: "وإنْ لم يجامعها الصبي أُجِّلَ ... إلى آخره" (1).
8331 - نقل المزني تأجيل الصبي، وهذا غلط باتفاق الأصحاب، فإنه أراد بالتأجيل ضرب مدة العُنّة، وكيف يتحقق ذلك ممن لا يخاصَم ولا يطالَب بإقرار أو إنكار، وضَرْبُ المدةِ مبني على هذه المقدمات.
قال الأصحاب: قال الشافعي: إن لم يجامعها الخَصي أُجِّل. وكان هذا تفريعاً على أنَّ الخِصاء لا يثبت الخيار بنفسه ناجزاً، أو أنَّ الخَصي إن عنّ بمثابة الفحل يعن.
...
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 14.

(12/502)


باب الإحصان الذي يُرجَمُ به من زنى
8332 - شرائط إحصان الرجم: الحرية، والعقل، والبلوغ، والإصابة في النكاح الصحيح، ولا ترتيب في الحرية والعقل والبلوغ، فإذا تحصَّلت، تعلَّق بها الغرض المطلوب، ولا نظر إلى ما يتقدم ويتأخر.
واختلف أصحابنا في الإصابة في النكاح الصحيح، فذهب بعضهم إلى أنا نشترط وقوعها بعد حصول الخصال الثلاث قبلها، حتى لو وقعت الإصابة قبلها، أو قبل واحدة منها، فلا اعتبار بتلك الإصابة.
ومن أصحابنا من لم يرع هذا الترتيب، وهو الأصح، وقال: إذا جامع العبدُ في النكاح، ثم عتق أو جامع مجنوناً، ثم عقل، أو جامع وهو صبي، ثم بلغ، وتوافت الخصال الأربع، حصل الإحصان.
ولم يختلف أصحابنا في أنَّ الرجل يتحصن بإصابة التي لا يكمل إحصانها بالإصابة، فإذا أصاب الحر البالغ العاقل منكوحته الرقيقة، تحصن، وإن لم تتحصن، خلافاً لأبي حنيفة (1).
والقول في أطراف الإحصان يأتي مستقصًى في كتاب الحدود، إن شاء الله تعالى. وإنما ذكرنا هذا القدر للجريان على ترتيب (السواد) (2).
فصل
في العَزْل
8333 - قال الأئمة: إذا وطىء الرجل أمته، [فعزل] (3) الماء لأنها مملوكة، فله
__________
(1) ر. المبسوط: 9/ 39، 41، ومختصر اختلاف العلماء: 3/ 279 مسألة رقم: 1394، ورؤوس المسائل: 489 مسألة: 354.
(2) السواد: هو مختصر المزني، كما تكرر مراراً.
(3) في الأصل: فأعزل.

(12/503)


ألا يعرضهما لبطلان ملكه فيها، ويصونها عما يُبطل الملكية [ويحسم] (1) التصرُّف.
ولو أراد أن يعزل عن منكوحته الحرة، فقد اختلف طرق الأئمة وترتيبُهم. فقال قائلون: لا يجوز العزل [إن لم] (2) ترض به المرأة، وإن رضيت فوجهان: أحدهما - يجوز؛ لرضاها، والحقُّ لا يعدوهما. والثاني - لا يجوز؛ رعاية لحق المولود.
وفي الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن العزل، وقال: "إنه الموءودة الصغرى" (3).
وذكر العراقيون ترتيباً على العكس من هذا فقالوا: العزل بإذن الحرة جائز، وجهاً واحداً. وفي جوازه بغير إذنها وجهان.
وذكر الأئمة في العزل عن المنكوحة الأمة وجهين: أحدهما - لا يجوز العزل؛ لأنها مستفرشة، ولها الحق في كمال الاستمتاع كالحرة.
والثاني - يجوز؛ محافظة على الامتناع من إرقاق الولد، وهذا متجه.
وذكروا في العزل عن المستولدة طريقين، فقال قائلون: نرتبهما على الأمة المنكوحة، وهي أولى بألاّ يجوز العزل عنها، [فلا] (4) ضرار على [التنجز] (5) بالملك، والولد حر.
وقال قائلون: نُجري فيها وجهين مرتبين، ونجعلها أولى بجواز العزل عنها؛ فإنها ليست راسخة في الاستفراش، ولهذا لا تستحق القَسْم، وإتمام الاستمتاع يليق بالمنكوحات. ولم يتعرض أحدٌ من الأصحاب لإذن المستولدة وعدم إذنها؛ من جهة أنه لا استحقاق لها في القَسْم وحقوق الافتراش.
__________
(1) مكان كلمة مطموسة وغير مقروءة، وهذه أقرب صورة إليها. (انظر صورتها). ومعنى ما أثبتناه: يمنع التصرف بسبب أُمّية الولد.
(2) في الأصل: وإن لم.
(3) رواه مسلم بلفظ "العزل هو الوأد الخفي" (ر. صحيح مسلم: كتاب النكاح، باب جواز الغيلة، وكراهية العزل، ح 1442).
(4) في الأصل: ولا.
(5) في الأصل: التجدد. ومعنى ما أثبتناه: فلا ضرار ناجزاً على ملكه، ولا على الولد، فهو حر.

(12/504)


وما ذكرناه في الأَمَة المنكوحة، وعرَّيناه عن ذكر إذنها؛ فإنَّ سببه رق الولد، ويمكن إدراج اعتبار إذنها في الترتيب، لما لها من حقِّ الفراش.
8334 - هذا ما ذكره الأصحاب، وفي جميع ما ذكروه غائلة عظيمة؛ وذلك أنهم قطعوا بأنَّ العزل لا يحرم عن الأمة، ورددوا الخلاف في أنَّ العزل هل يحرم عن المنكوحة؟ وكان شيخي يقطع بأنَّ العزلَ لا يحرم قط، ولكن يكره. وكان ينزل الكراهية على مضمون الأحاديث. وكان لا يفرِّق بين الأمة والمنكوحة، ويستدل بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا وطئتم فلا تعزلوا، فإنه ما مِنْ نسمةٍ قضى الله بأنها كائنة إلاَّ وهي كائنة إلى يوم القيامة" (1).ولمّا قال في العزل: إنه المؤودة الصغرى، لم يفرق بين محل ومحل.
8335 - ونحن نقول وراء ذلك كله: إنَّ المصيرَ إلى تحريم العزل لا شك أنه حائد عن القياس، وإنَّ المصير إليه ظاهر في كلام الأصحاب، والدال عليه التشبيه [بالوأد] (2)، وهو من الوعيد، ويبعد التوعد على ما ليس محرماً.
ثم الذي أراه أنَّ الذي حرمه الأصحاب قصد العزل، فأمَّا إذا عَنَّ للإنسان أن ينكف عن امرأة من غير أن يجرد قصداً إلى العزل، فهذا مما يجب القطع بأنه لا يحرم.
والوارد في الحديث لفظ العزل وهو مُشْعِرٌ بما ذكرته.
وطريقة شيخي في أنَّ العزل لا يحرم حسن بالغ، وما ذكره من التسوية بين الأمة والمنكوحة معتضد بظاهر الخبر، وقول الأصحاب في الفصل أمثل؛ لما أومأنا إليه.
ومما أجراه الأصحاب -وفيه اضطراب عندي- التعرض لإذن المرأة، وهذا يشعر بمراعاة حقها في تمام [الاستمتاع] (3). ولست أرى لهذا وجهاً، سيَّما إذا حُكِمَ بالتحريم فيه؛ إذ لا متعلَّق إلاَّ الخبر، ولا تعلق فيه للإذن. فهذا منتهى البحث عن
__________
(1) حديث "إذا وطئتم فلا تعزلوا فإنه ما من نسمةٍ ... الحديث"، متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري مع اختلاف يسير في اللفظ (البخاري: النكاح، باب العزل، ح 5210. مسلم: النكاح، باب حكم العزل، ح 1438).
(2) في الأصل: بالمواد.
(3) في الأصل: الامتناع.

(12/505)


هذا. وقد نجزت فصول (السواد) من كتاب النكاح. ونحن نرسم بعد هذا فروعاً من موئدات ابن الحداد وغيره.
فرع:
8336 - الثيب المالكة لأمر نفسها إذا أذنت لوليها حتى زوّجها من رجل عيَّنَتْه، ثم إنها بعد الحكم بانعقاد النكاح ظاهراً - ادعت أنها أختُ الزوج من الرضاع، فلا يقبل قولها، والإذنُ السابق يكذبها فيما ادعته.
والبكر إذا زوّجها من لا يُجبرها، كالثيب، في التفصيل الذي ذكرناه.
وأمَّا إذا أجبرها أبوها، أو كانت صغيرة فزوّجها، فلما بلغت، ادعت مَحْرَمِيِّة بينها وبين زوجها، قال ابن الحداد: يقبل قولها مع يمينها؛ فإنَّ قولها محتمل، والأمر في ذلك ممكن، فكانت مصدَّقة فيما يرجع إلى نفسها. وإنْ اتهمها الزوج حلّفها. هذا اختيار ابن الحداد، ووافقه على ما قاله معظم الأصحاب.
وحكى الشيخ أبو زيد عن ابن سريج وجهاً آخر، أنه لا يقبل قولها في ذلك، وإن كانت مجبرة على النكاح. هذا ما نقله الشيخ في الشرح.
8337 - وعلى الناظر في أطراف الكلام تأمل: فلتقع البداية بالكلام في المجبرة إذا ادعت مُفسداً في النكاح بعد أن استقلّت وأعربت عن نفسها. فنقول: ما حكاه أبو زيد موجه بجريان النكاح على الصحة ظاهراً، واستنادِه إلى تصرف وليٍّ، فإذا ادعت ما يتضمن قطع هذا الظاهر المحكوم به، لم تُصَدَّق. ووجه ما ذكره ابن الحداد أنَّ ما ادعته من الأمور الباطنة، والنكاح إن جرى إجباراً، فهي المعينة المنظور لها، فإذا استقلت، انعطف استقلالها على الإجبار الماضي.
وهذا الخلاف عندي يبتني ويترتب على ما إذا باع القاضي مالاً على إنسانٍ بحق اقتضى بيعَه، ثم رجع مالك المال؛ وزعم أنه كان قد باعه قبل بيع القاضي أو حبّسه، ففي قبول قوله قولان: أظهرهما - أنه لا يُقبل، وفيه قول آخر معروف: إنَّ قوله مقبول، فإعراب المرأة عن نفسها كإعراب المالك المطْلَق (1) عن ماله وقد جرى حكم الحاكم ببيعة.
__________
(1) المالك المطلق: أي غير المحجور عليه بفَلَسٍ أو غيره.

(12/506)


ثم قد قدمنا في صدر الفرع أنها أذنت، فهي ثبّتت النكاح (1)، ثم ادعت محرمية، [فلم] (2) يُقْبل ذلك.
وهاهنا وجهان من النظر: أحدهما - أنَّ ما ذكرناه من مذهب ابن الحداد في المجبرة من أنها تُصَدَّق (3)، أردنا به أنَّا نُحلّفها (4) اكتفاءً بيمينها، والدعوى مقبولة، فإن أقامت على ما ادعته بيِّنة سُمعت.
وما رَدَدْناه من قول الثيِّب، فهو ردٌّ على التحقيق؛ فإن قولها الأخير يناقض إذنها.
ولكن يعرض هاهنا أصلٌ آخر، وهو أنها إذا أتت بكلام منتظم، وزعمت أنها أذنت على ظاهر الحال، ثم تبيّن محرميِّةٌ، لم تكن عالمةً بها حالةَ الإذن، فهل نقبل دعواها على هذا النسق؟
قد قدمنا هذا في المرهون: أنَّ الرجلَ إذا أقرَّ بالرهن والإقباض، ثم زعم أنه اعتمد فيه كتاباً، ثم تبيَّن له أنَّ الكتابَ كان مزوراً؛ ففي قبول دعواه على مناقضة إقراره الأول تفصيل طويل أتى الشرح عليه، وهذا يناظر ذاك، بل قولها بالقبول أولى؛ لأنَّ ما أتت به ظاهرُ الاحتمال مُتسقٌ في مجال العرف.
ثم إنْ لم نقبل ذلك منها، أو إذا أطلقت الدعوى ولم تُفصِّل، فلا نقبل أيضاًً وإن قبلنا هذا مفصلاً، فهل نقبل ذلك منها مطلقاً من غير تقديم تمهيد عذْر؟ فيه اختلاف قدمته أيضاًً.
ومما يجب البحث عنه أنَّ الأخ إذا زوّج البكر البالغة، واكتفى بصمتها تفريعاً على أظهر الوجهين، فإذا زُوِّجت وهي ساكتة، ثم ادعت محرمية؛ فقد تردد الحُذّاق في ذلك، فذهب ذاهبون إلى أنَّ صمتها تصريح بالإذن، كما أنَّ صمتها بمثابة نطق الثيِّب في عقد النكاح، والذي ارتضاه العراقيون أنَّ دعواها مسموعةٌ، وعندي أنَّ الدعوى مسموعة ولا تصدق باليمين. فهذا منتهى القول.
__________
(1) في الأصل: في النكاح.
(2) في الأصل: لم.
(3) في الأصل: لا تصدق. وهو خلاف ما جاء عن ابن الحداد آنفاً.
(4) في الأصل: "لا نحلّفها". ولا يستقيم الكلام بهذا النفي.

(12/507)


فرع:
8338 - إذا نكح الرجل جارية أبيه على صداق، ثم مات الأب، وورث الزوج زوجته، فلا شك في انفساخ النكاح.
ثم إن كان دخل بها -وعلى المتوفَّى دين، فالمهر مأخوذ منه، مصروف إلى الدين، وإن لم يكن دَين ولا وارثَ غيرُه، سقط المهر، وإن كان معه وارث، فعليه من المهر حصةُ ذلك الوارث.
وإن لم يكن دخل بها، قال ابن الحداد: سقط جميع المهر، حتى إن كان دَين، لم يطالبه مستحقه بشيء من المهر، واعتل بأن قال: ارتفع النكاح قبل المسيس، لا بسبب صادر من جهة الزوج، فكان هذا كما لو ارتفع النكاح بردتها، وإنما يتشطر الصداق إذا كان من جهة الزوج قصدٌ في الفراق.
ومن أصحابنا من قال: يتشطر الصداق؛ فإنه كما لم يكن من جهة الزوج قصد، لم يكن من مستحق المهر أيضاً قصد.
8339 - ونحن نقول في هذا: إذا ارتفع النكاح بسبب من جهة الزوجة المستحِقة للمهر، أو بسبب منها وليست مستحِقة- كالأمة المنكوحة، ثم فرض ذلك قبل المسيس، فالمهر يسقط.
ولو فسخت النكاح بعيب فيه قبل الدخول، سقط المهر، وهذا هو الذي يلزم الفقيه فيه فضلُ تأمل؛ من جهة أنها معذورة؛ إذ فسخت لمعنًى في الزوج، وآية هذا أن الزوج إذا فسخ بعيب فيها، سقط المهر كله، وذلك بسبب تعلق الفسخ بعيبها، وإلا فالفراق من جهة الزوج، فجعلنا العيب بها كإنشائها الفسخ.
وهذا في الظاهر يناقض فسخها بعيبه، ومساقه يقتضي أن نجعل العيب به كإنشائه الفراق، ولكن الفرق بين الجانبين أنَّ فسخه بعيبها يستند إلى استحقاقه سلامتها بالعقد على قياس العيوب في البيوع، فكأنه بذل العوض على شرط السلامة، وفَسْخُها ليس لاستحقاقها عليه شيئاً، وإنما هو لدفع الضرار، فأُرضي بسقوط المهر.
وإذا طلَّق الزوج، فحكم الشرع [تشطّر] (1) الصداق، ولو رُددنا إلى القياس
__________
(1) في الأصل: متشطر.

(12/508)


اللائح، لما استحقت شيئاً؛ من جهة أنَّ الزوج لم يستوف بضعها، ولم ينته النكاح نهايته، [ولكنه] (1) بطلاقه متصرف في ملكه، وليس فاسخاً للنكاح، فحَكَم الشرعُ بقسطٍ وعدل، ونظر إلى تصرفه، ثم إلى عود البضع إليها، فانقسم النظر في شعبتين؛ فأوجب تشطر الصداق، ثم رِدَّة الزوج ملتحقة بطلاقه؛ لأنها ليست إنشاء فسخ، وإنما يترتب الفسخ عليها، وارتفاع النكاح محال على الزوج من غير فوت مستحق منها.
وأما القول في الخُلع -إذا جعلناه طلاقاً أو فسخاً- سيأتي (2) في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
8340 - وإذا اشترت المرأة زوجها بصداقها، فهذا فيه تردد؛ من جهة ارتباط البيع بها وبمن عليه المهر، وقد ذكرنا ذلك مفصلاً في موضعه من النكاح.
وليس الشراء كالخُلع؛ فإنَّ المغلَّب في الخلع جانبُ الزوج؛ إذ هو المطلِّق، وهو المعلِّق طلاقه بقبولها، فقوي جانبه، وشِقَّا العقد في البيع مستويان، [و] (3) يجري القولان في البيع، كما سبق ذكره.
8341 - ومما يتصل بذلك أنه لو زوّج الرجل ابنته من عبده بإذنها، ثم مات سيد العبد وورثت الزوجةُ من زوجها نصفَه، فينفسخ النكاح، فإن كان مدخولاً بها، فتسقط طَلِبتها في نصف المهر؛ فإنها ملكت نصفه. ولا طلبة للمالك على مملوكه في الحال، ولو عتق العبد، فهل تطالبه بذلك النصف؟ فعلى وجهين مشهورين قدمنا ذكرهما، ولها طلب نصف المهر تعلقاً بالنصف الذي لم ترثه.
ولو كانت غير مدخول بها، فمذهب ابن الحداد أنَّ المهر يسقط بجملته؛ إذ لا صنع للزوج في ارتفاع النكاح، ومن أصحابنا من لا يرى ذلك، ويقول: أولاً القياس التشطر، ثم هذا النصف يتنصف كما يتنصف أصل المهر إذا كانت مدخولاً بها.
__________
(1) في الأصل: ولكن هو بطلاقه.
(2) "سيأتي": جواب أما بدون الفاء، وهو صحيح.
(3) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.

(12/509)


فرع:
8342 - إذا زوَّج الرجل أمته من عبده، فلا شك أنه لا يثبت مهر مطلوب، ولكن ذكر الشيخ وجهين في أنَّا هل نقدِّر ثبوت المهر ثم سقوطه؛ أحدهما - أنه لا يثبت أصلاً، وهو الوجه؛ لأنَّ المعنى الذي يوجب [سقوطه] (1) دواماً مقترن بالعقد؛ فيجب امتناع الوجوب به.
والوجه الثاني - أنه يثبت تقديراً، ثم يسقط، لينفصل النكاح عن صورة البدل.
وهذا لا حاصل له؛ فإنَّ التقدير إذا ناقضه التحقيق، بطل. فلو قدَّرنا مهراً، أَحْوجنا التقديرُ إلى إثبات مستحِقٍّ للمهر، ومستحَقٍّ عليه، ومساق ذلك يُلزم استحقاق السيد على عبده ديناً ابتداءً، وهذا محالٌ تخيّلُه. ومن قدر ما ذكرناه، فلا أثر لهذا التقدير، حتى لو زوّج [أمته] (2) من عبده، ثم باع الأمة، فوطىء العبد الأمة ابتداءً في ملك الغير، لم يُلزَم مهراً، وإن رأينا إثبات المهر للمفوضة قبل المسيس مع تفريعنا على أنها لا تستحق المهر بالعقد.
وإنما أوردت هذا؛ لأنَّ أئمة المذهب لا يحكون الوجه الضعيف، ولم يحكه غير الشيخ أبي علي.
فرع:
8343 - إذا زوّج الرجل إحدى بنتيه من رجل، ثم لما بلغتا، فنفرض نوعين من الخلاف: أحدهما - أنَّ كل واحدة منهما لو قالت: أنا المزوَّجَة دون الثانية.
والوجه الثاني - أن يقول ذلك الشخص زوّجني هذه، فتنكر كل [واحدة] (3) منهما الزوجية.
فأما إن كان صدَرُ (4) الدعوى منهما ولا بيِّنة، رجعنا إلى الزوج، فإن عيّن الزوجُ واحدة منهما، ثبت النكاح فيما بيَّنها (5) لتقارّهما (6)، والتفريع على ثبوت النكاح بالإقرار.
__________
(1) في الأصل: سقوط.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: واحد.
(4) صَدَر الدعوى: أي صدور الدعوى.
(5) في الأصل: فيما بينهما.
(6) كذا. والمعنى لإقرارهما بالزوجية.

(12/510)


ثم إذا ادعت الثانية أنها الزوجة، وقصدت بذلك طلب المهر، فقد اختلف أصحابنا في ترتيب المذهب، فقال بعضهم: في جواز تحليفها إياه قولان، وهؤلاء شبّهوا هذين القولين في هذه الصورة بالقولين فيه إذا ادعى رجلان نكاح امرأة، فأقرَّت لأحدهما بالنكاح، فهل للثاني أن يحلّفها؟ فيه قولان مشهوران.
وهذه الطريقة ضعيفة، والصحيح الذي ذهب إليه الجمهور: أنَّ للمرأة أن تحلِّفه لقصد المهر قولاً واحداً. والفرق بين هذه المسألة وبين ما إذا أقرَّت المرأة لأحد المدعيَيْن بالنكاح، أنَّ المرأة في هذه المسألة ليست تطمع في إثبات النكاح مع إنكار الزوج وجحده، وإنما غرضها يتوجه إلى إثبات المهر، وهذا سائغ، لا امتناع فيه؛ إذ لا خلاف بين الأصحاب أنَّ المرأة إذا ادعت على رجل زوجيةً على مهر، فأنكر المدعى عليه، فدعواها مسموعة؛ فإنها ادعت مالاً وأسندته إلى سبب، وليس كذلك المسألة التي وقع الاستشهاد بها؛ فإنَّ المرأة إذا أقرَّت لأحدهما بالنكاح، فالثاني ليس يدعي عليها مالاً، وإنما يبغي إرهاقها إلى الإقرار أو النكول عن اليمين، حتى يغرّمها بحكم التفويت.
وقد قال المحققون: القولان ثَمّ مأخوذان من الغرم، فإن قلنا به، صححنا الدعوى، فإذا كانت الدعوى تتجه ثَمَّ أخذاً من الغرم -وفي الغرم قولان- فهاهنا لا اختلاف في إمكان ادعاء الصدق منها، فلا وجه لترديد القول فيه.
ومما يطرأ عليَّ أنَّ الشيخ أبا علي رجل عظيمُ القدر في المذهب نقلاً [وفقهاً] (1) وإحاطة، وقد يتفق له في الشروح نقل وجوه بعيدة، لو ذكرها غيره لم أنقلها، وهذا الذي ذكرته منها.
8344 - فالوجه: القطع بأنَّ لها أنْ تحلِّف هذا الرجل، فإن حلّفته، لم يخل الرجل إما أن يحلف على نفي الزوجية، أو ينكُل عن اليمين، فإن حلف على نفي الزواج [من] (2) هذه المدعية الثانية، فقد سقطت طلبتها بالكلية من المهر وغيره، وإن
__________
(1) في الأصل: "ولقه" بهذا الاسم وهذا النقط.
(2) عبارة الأصل: "فإن حلف على نفي الزوج هذه المدعية الثانية" والزيادة والتعديل من المحقق. =

(12/511)


نكل عن اليمين، رددنا اليمين عليها، فإن نكلت، كان نكولها كحلفه. وإن حلفت، فقد قال الشيخ أبو علي في هذا المنتهى: اختلف الأصحاب في منزلة يمين الرد في الخصومات، فمنهم من قال: هي كالبيّنة، ومنهم من قال: بل هي كإقرار المدعَى عليه، ثم قال: إن قلنا: حكمه حكم البيّنة، فقد اختلف أصحابنا على هذا القول، فمنهم من قال: يبطل نكاح الأولى، ويثبت نكاح الثانية؛ فإنه ثبت في حق الثانية ما حل محل البيّنة، والبيّنة وإن تأخرت، فهي أولى من الإقرار، ثم هذا القائل يقول: ينتفي نكاح الأولى، ونحكم بانقطاع نكاح الثانية أيضاًً؛ لإنكار الزوج.
وهذه الطريقة لا ثبات لها؛ فإنَّ يمين الرد لا تكون بمثابة البيّنة في حق غير المتنازعَيْن، وقد أوضحنا هذا في مسائل النكاح. ولسنا نلتزم [إشباع] (1) القول في ذلك، حتى ننتهي إلى الدعاوى والبينات، إن شاء الله تعالى، فالوجه هاهنا أنها تستفيد بيمين الرد ثبوت ما تدعيه من المهر وإنْ حكمنا بأنَّ يمين الرد كالبيِّنة.
8345 - ثم قال الشيخ: إن قلنا: سبيل يمين الرد سبيل الإقرار، فعلى هذا القول اختلافٌ أيضاً بين الأصحاب، فمنهم من قال: نحكم بارتفاع النكاحين؛ فإنه لما أقر للأولى، انتفى نكاح الثانية، [ولو تحقق الإقرار؛ لتضمن إبطال نكاح] (2) الأولى بعد ما ثبت بالإقرار السابق.
والنكول ورد اليمين لا يتضمن رفض ذلك الإقرارِ إذا لم يوجد من الزوج لفظٌ موجبه رفع النكاح في حق الأولى، وقولنا: يمين الرد إقرار أو بيّنة تقديرٌ، ولسنا نجعل يمين الرد كحقيقة الإقرار ولا كحقيقة البيّنة بما يتعلق بثالث، وفي هذا لطفٌ؛ فإنَّ الفطن قد يتوهم أنَّ هذا حكم يتعلق بالزوج، ومن هذا [ينشأ] (3) الخلاف الذي حكاه.
ولكن سر الفقه فيه أنَّ يمين الرد تكون كالبيِّنة أو كالإقرار في مقصود المدعي من
__________
(1) في الأصل: اتباع.
(2) عبارة الأصل مضطربة هكذا: "فإنه لما أقر للأولى، انتفى نكاح الثانية لو تحقق لتضمن نكاح إبطال الأولى" والتقديم والتأخير والزيادة وتعديل العبارة من عمل المحقق.
(3) في الأصل: انتشأ.

(12/512)


المُدَّعَى عليه دون غيره، وانتفاء زوجية الأولى ليس مقصوداً [للمدّعية] (1)؛ فإنها لو قصدته، لم تصل إليه؛ إذ غرضها [زوجيةُ] (2) نفسها، [وإذا] (3) كانت تقصد ذلك، فلا يتصور ثبوت زوجيتها مع إنكار الزوج.
ثم إذا فرعنا على المذهب وهو أنَّ النكاح لا ينتفي في حق الأولى، ولا يقدر ثبوته في حق الثانية، فإذا حلفت الثانية يمين الرد، فالمذهب الذي يجب القطع به أنها تستحق من المهر ما يليق بتصديقها، وهذه فائدة اليمين.
وذكر الشيخ هاهنا قولاً غريباً: إنَّ المهر لا يثبت؛ فإنَّ المهر فرع النكاح، فإذا لم يثبت النكاح، لم يثبت المهر، وهذا كلام مضطرب، والذي حكاه في هذا الموضع هو القول الضعيف الذي ذكرناه في أول [الفرع] (4) حيث قلنا: لا تُقبل دعواها؛ إذ لا فائدة فيها، ثم إذا أثبتنا المهر، فلها نصف المسمى؛ فإنَّ الزوج أنكر نكاحها، فحل ذلك محل الإبانة. وإذا بانت قبل المسيس، فلها نصف المسمى. وفي هذا تثبُّت على الناظر سنذكره في أول كتاب الخلع -إن شاء الله تعالى-. والتنبيه عليه أنَّ إنكار النكاح هل نجعله إيقاع فراق؟ ظاهر النص أنه إيقاع فراق، وهو مشكل. فإن لم نجعله إيقاع فراق، اتجه أن نقول: لها طلب جميع المهر إلا أن يطلقها تنجيزاً.
وسيأتي هذا حيث ذكرناه، إن شاء الله تعالى، وقد نجز الكلام في صورة واحدة.
8346 - الصورة الثانية أن يزوّج الأب إحدى بنتيه كما سبق، ثم قالت كل واحدة منهما لست بزوْجِهِ، وإنما الزوجة صاحبتي. فالأمر موقوف على قول الزوج، فنقول له: عيِّن زوجتَك منهما، فإن عيّن الزوجية على إحداهما، فقد انقطعت الطَّلِبةُ عن الثانية؛ إذ الزوجةُ إحداهما.
ثم القول قول التي يدعي الزوجية عليها مع يمينها، فإن حلفت على نفي الزوجية، انتفت الزوجيةُ في ظاهر الحكم عنهما جميعاً، فإن نكلت رُدَّ اليمينُ على الزوج، فإن
__________
(1) في الأصل: المدّعية.
(2) في الأصل: زوجيته.
(3) في الأصل: "إذ" كانت ...
(4) في الأصل: الفراغ.

(12/513)


حلف، ثبتت الزوجية في حقها لهذا الزوج، وإنْ نكل، كان نكوله عن اليمين بمنزلة حلفها.
قال الشيخ: قد رأيت بعض أصحابنا الشارحين يقول في هذه الصورة: إنَّ الزوجَ إذا عيَّن إحداهما، تعيّنت، فكان القول فيه قولَ الزوج، فإنه قد ثبت أنَّ إحداهما منكوحة، والزوج أعرفُ لمحل حقه.
وهذا ليس بشيء، ولو لم يحكه الشيخ، لما ذكرناه.
ثم إن ابن الحداد ذكر في تصوير المسألة شرطاً، وهو أنْ يزوّج إحدى بنتيه، ثم يموت الأب، وقصد بذلك ألاَّ يُرجَع بالبيان إليه، فقال الأصحاب: لو كان الأب باقياً، فبلغت البنتان واستقلتا، وقالت كل واحدة منهما: أنا الزوجة، فالإقرار مقبول وإن أنكر الأبُ.
وهذا فيه فضل نظر؛ من جهة أنَّ المسألة مفروضة في دوام النكاح، وقد تردد ذكرنا القول في قبول إقرار المرأة بالنكاح، فإن فرّعنا على القبول -وعليه بناء المسألة- فللأصحاب تردّدٌ؛ ظاهرٌ في قبول إقرار البكر، ومعها من يجبرها، ويظهر في وجه القياس ألاَّ نقبل إقرارها لكونها مجبرة، والشاهد فيه أنَّ إقرار الأب مقبول عليها؛ من جهة [ملكه] (1) إجبارها، ويبعد أن نقبل إقرار الأب عليها، ونقبل إقرارها على مضادة أبيها، فعلى هذا لا اعتبار بإقرارها، مع دوام البكارة في بقاء الأب.
ومن أصحابنا من قال: نقبل إقرارها إذا استقلت بالنكاح.
وفي تفريع هذا [إشكال] (2) فإنها لو أقرَّت بأنها زوجة فلان، وأقرَّ الأب بأنه زوّجَهَا من غيره، فإذا فرّعنا على قبول إقرارها، فكيف نقول؟ وما الوجه؟ وقد جرى الإقراران على التنافي؟ يجوز أن يقال: الحكم للإقرار السابق، ويجوز أن نحكم ببطلان الإقرارين إذا اجتمعا. ولو رددنا إقرارها، لتخلصنا من هذا الخبط.
فأما إذا أنكرت كلُ واحدة منهما الزوجية والأب باق؛ فإقرار الأب بزوجية إحداهما
__________
(1) في الأصل: "تركه".
(2) زيادة اقتضاها السياق، نرجو أن تكون صواباً. وفي (صفوة المذهب): "عُسرٌ" مكان "إشكال".

(12/514)


مقبول، ولا حكم لإنكارها. وهذا بيِّن لا خفاء به.
فجرى تقييد ابن الحداد فَرْعيه بموت الأب، لما ذكرناه.
فرع:
8347 - إذا قبل الرجل نكاح أمةٍ من سيدها، ثم قال السيد: زوجتها وأنا محجور أو محصور، وقال الزوج: بل كان ذلك في حال نفوذ التصرفات، فالقول في هذه الصورة قول الزوج.
هكذا قال ابن الحداد. ثم يحلف، واعتل بأنَّ العقد قد جرى، والأصلُ صحة العقد.
قال الشيخ: هذا إذا لم يعهد من السيد جنون أو حجر ينافي صحة العقد، فأما إذا تمهد منه في ماضي الزمان ما ذكره، ووقع الاختلاف على ما وصفناه، ففي المسألة وجهان: ذكرهما الشيخ أبو زيد، أحدهما - أنَّ القول قول الزوج، وهو الذي اختاره أبو زيد. والثاني - أنَّ القول قول السيد المزوِّج. وهذا الاختلاف يترتب على قاعدة، وهي: أن المعترف به نكاحٌ على الإطلاق، فإذا فرض بعده ما ينافي صحته، نفرض حمل الإقرار بالعقد المطلق على الفاسد. وقاعدة المذهب أنَّ العقد المطلق محمول في الألفاظ على الصحيح، ولذلك جعلنا الحلف المتعلق بالعقد المطلق في البِرّ والحِنث محمولاً على الصحيح، فهذا هو الأصل المعتبر؛ فلزم منه الحكم بحمل العقد على الصحة، فإن ظهرت حالة تُصدّق السيد وتُغلِّب على الظن صدقه، فوجه بدوّ الخلاف أن [المانع] (1) السابق مانع من العقد صحةً وانعقاداً، وليس يمنع من إجراء صورة العقد، فقد يظن الظان أن من يدعي صحة العقد [عليه] (2) إثبات سبب الصحة حالة العقد، وزوال المانع المقدّم معترف به، فهذا حقيقة القول.
وقد نصَّ الشافعي على أن الولي إذا وكَّل وكيلاً في تزويج وليته، ثم أحرم، واختلف الزوج والولي، وقد جرت صورة النكاح، فقال الوليُّ: "ما قبلتَ النكاح من الوكيل حتى أحرمتُ، فانعزل وكيلي. وقال الزوج: بل قبلتُ قبل إحرامك، قال الشافعي: القول قول الزوج". هذا نصه. ولم يحك الشيخ في هذه المسألة تردداً،
__________
(1) زيادة من المحقق، نرجو أن تكون في موضعها.
(2) زيادة لاستقامة الكلام.

(12/515)


والسبب فيه أنَّ الإحرام لاحق والأصل إسناد العقد إلى الحِلِّ المتقدم، فلينظر الناظر في ذلك.
فرع:
8348 - إذا علم الرجل أنَّ له في بلده أختاً محرّةً عليه برضاع أو نسب، وكان لا يعرف عينها، قال الأصحاب: إن كانت نسوةُ البلدِ بحيث لا يمكن ضبطهن لكثرتهن؛ فله أن ينكح من شاء منهن؛ فإنَّا لو لم نجوّز ذلك، لانحسم عليه باب النكاح في هذه البلدة، ثم لو ألزمناه المُسَافَرة إذا أراد النكاح، [فيجوز] (1) أن تكون تلك المرأة قد سافرت في جهة سفره وأنها التي اتفق نكاحه لها، فرفعنا هذا من البين، وعلى هذا قال الأصحاب: إذا أفلت صيدٌ مملوكٌ من مالكه، فاختلط بالصيود المباحة التي لا تحصر، فيحل الاصطياد، كما كان يحل قبل جريان الإفلات.
8349 - وما ذكره الأصحاب من نسوة البلد، فيه تأمل، فالوجه: الفرض حيث يعم اللبس، ويُفرض جريان الرضاع مثلاً، مع استبهام الأمر، فلو كان يمكنه أن ينكح امرأة لا يتمارى فيها من أهل البلدة، فنكح أخرى في محل [الريب] (2) والمراء، [وكانت] (3) اللواتي يلتبسن عليه غير منضبطات، ففحوى كلام الأصحاب أن ذلك جائزٌ، ولا حجر أصلاً، وقد يَظن من يتشوف إلى الاحتياط أنَّا إنما نجوِّز ذلك إذا كان يؤدي إلى حسم النكاح، ولا ينبغي أن يبالى بهذا، فالأصل ما ذكره الأصحاب والذي أشرنا إليه إيراد وجه احتمال على عادتنا في المباحثة.
ومما يجب التنبه له أن المعنيَّ بخروج النساء عن الضبط عُسر [عدّهن] (4) لكثرتهن على آحاد الناس، وإلا فلو أرادوا أكبر بلدة أن يُعدّ سكانُها، لتمكن منه، فهذا ما يجب الإحاطة به.
ولو أشار إلى نسوةٍ معدودات وقال: واحدةٌ منهن محرَّمةٌ عليّ، ولست أعرف عينَها؛ فالمذهب: أنه لا ينكح منهن واحدة. وذكر الشيخُ وجهاً ضعيفاً أنه لو نكح
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: الترتب.
(3) في الأصل: فكانت.
(4) في الأصل: عندهن.

(12/516)


واحدة منهن محرّمة، حلت له مع شدة الكراهية؛ فإنَّ التي نكحها لم يثبت فيها محرِّم، والأصل عدم المحرِّم.
وهذا الاختلاف هو الذي حكيناه في التباس إناء من الماء بإناء من البول.
ولكن يبين الغرض بالإشارة إلى ذكر ثلاث مراتب، المرتبة الأولى - فيه إذا فُرض لبسٌ، وأمكن الاجتهاد، والأصل في الباب الحل، وهذا كالتباس إناء من ماء نجس بإناء من ماء طاهر، فالاجتهاد سائغ؛ فإنَّ العلامة على الجملة ممكنة، وقد تمهد في الباب أنا رُدِدْنا إلى الأخذ بأصل الطهارة. هذا بيان مرتبة، وقد سبق استقصاء أطرافها في كتاب الطهارة، والعلامة في هذه المرتبة خفية، ولهذا يعتضد بالرجوع إلى الأصل.
المرتبة الثانية - فيه إذا أمكنت العلامة الخفية، ولم يثبت التمسك بأصل الحل والجواز، ومن ذلك الإناء من البول مع الإناء من الماء، [ففي] (1) جواز الاجتهاد وجهان، أصحهما المنع؛ لخفاء العلامة، وغلبة التحريم، ولم نُرَدّ إلى أصل الحل، [المرتبة الثالثة] (2) وذلك كاشتباه المُذكَّى بالميتة، والأخت بالأجنبية. فالأصل التحريم عند الحصر الذي ذكرناه، ولا علامة يقدر التعلق بها، والتحريم غالب في الباب، فالوجه: القطع بالتحريم، ولكن حكى الشيخ الوجه الضعيف، ومن نظر إلى المراتب التي ذكرناها، بان له أن الوجه الذي حكاه الشيخ على نهاية الضعف.
فرع:
8350 - إذا زوَّج الذمي ابنته الصغيرة الذمية من ذمي، ثم أسلم هو، [أو] (3) أسلمت أم الصغيرة، وحكمنا لها بالإسلام تبعاً، ولا دخول، انتجز الفراق. وفي الصداق وجهان؛ من جهة أنَّ الفراق لم يأت من جهة الزوج، ولم يصدر من جهتها مباشرةُ الإسلام، بل ثبت الإسلام لها من غير اختيارها، وقد ذكرنا أنَّ المرأة إذا أسلمت تحت زوجها الكافر قبل المسيس، انبتّ النكاح وسقط مهرها، كما يسقط مهر المسلمة بالردة.
__________
(1) في الأصل: في.
(2) زيادة اقتضاها تريب المؤلف وسياقته للمسألة.
(3) في الأصل: وأسلمت.

(12/517)


ومما [يلحق] (1) بهذا أنَّ الذمي لو زوّج امرأةً من ابنه الصغير الذمي، ثم أسلم أحد أبوي الزوج قبل المسيس، يرتفع النكاح، ثم قال الشيخ: في المهر وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة المتقدمة، وهذه الصورة أولى بأن يتشطر الصداق فيها؛ من جهة أنَّ ارتفاع النكاح أتى من صفةٍ ثبتت للزوج، وارتفاع النكاح في الصورة الأولى جاء من صفة ثبتت للمرأة.
فرع:
8351 - إذا ادعت المرأة نكاح رجل، وأنكر الزوج النكاح، فأقامت المرأة بيّنة عادلة أنه نكحها بألف درهم، وجرى الحكم بموجب الشهادة، ثم رجع الشهود عن الشهادة؛ فهل يغرَمون للزوج؟ وذكر الشيخ وجهين: أحدهما - أنهم لا يغرمون؛ فإنهم ما غَرَّمُوه شيئاً، بل شهدوا على ملك بضع بعوض، فلم تتضمن شهادتهم تغريمه الألف مجاناً، ولكنه لما أنكر النكاح، صار شطر المهر غرماً عليه. والوجه الثاني - أنهم يغرمون؛ فإنه أنكر النكاح وشهدوا مع إنكاره، وعلموا أنَّ النكاح لا يخلص له مع إنكاره، فإنا لو قدرنا نكاحاً، [لا ينتفي] (2) بنفيه.
التفريع:
8352 - إن قلنا: لا يغرمون، فإنما ذاك فيه إذا شهدوا أنه أصدقها ألفاً، وكان مهر مثلها ألفاً أو أكثر، فأمَّا إذا كان مهر مثلها خمسمائة، فيلزمهم الغرم في الخمسمائة؛ فإنهم ألزموه ذلك، ولا مقابل له من البضع.
وإن قلنا: يغرمون - فلا يغرمون في هذه الصورة مهر المثل، ولكنهم يغرمون ما ألزموا الزوج، وإنما ألزموه نصف المسمى.
وما ذكرناه مقدمة لمسألة ابن الحداد، وصورة مسألته: أنَّ المرأة إذا ادعت نكاحاً بألف درهم على رجل فأنكره، وشهد شاهدان بأنه نكحها، وادعت الإصابة، فشهد شاهدان أنه أصابها، أو أقرَّ بإصابتها، ثم ادعت بعد ذلك كله طلاقاً، فشهد شاهدان أنه طلقها، ثم رجع الشهود كلهم فيه.
قال ابن الحداد: لا غرم على شهود النكاح ولا على شهود الإصابة، وإنما الغرم على شهود الطلاق، فيغرمون نصف مهر المثل. هذا جوابه.
__________
(1) في الأصل: يليق.
(2) في الأصل: لا ينفى.

(12/518)


واختلف أصحابنا على طرق، فذهب بعضهم إلى تصويب ابن الحداد، وقال: فرّع على أن لا غرم على شهود النكاح، وتعليله ما قدمناه في صدر المسألة، ولا غرم على شهود الإصابة؛ فإنهم شهدوا على استمتاع في نكاح، فإذا لم يلزم بسبب النكاح غرم، فكذلك لا يلتزم بسبب الإصابة.
وأمَّا شهود الطلاق، فقد فوّتوا ملكاً بلا عوض، ثم رجعوا.
ومن أصحابنا من قال: ما ذكرناه من تغريم شهود الطلاق غلط من أوجه، منها أثهم ما شهدوا على مخالفة الزوج؛ فإنَّ حاصل شهادتهم انتفاء النكاح، وكان المدعى عليه منكراً للنكاح مقترناً بنفي الزوجية، فلا يتحقق تفويت عليه.
وهذا هو الذي لا يتجه غيره.
والوجه عندي: [أن] (1) ما ذكره ابن الحداد من عثراته.
ثم في شهود النكاح وشهود الإصابة نظر، أما وجه (2) النظر في شهود النكاح، فعلى ما تقدم، وأما شهود الإصابة، فإن شهدوا على النكاح أيضاً ثم على الإصابة بعده، فالوجه تغريمهم، ثم يشتركون في الغرم الذي يتعلق بالنكاح، ويختصون بالغرم في النصف الآخر من المسمى؛ فإنَّ الزوج إنما غرم ذلك النصف الثاني بسبب شهادتهم. ومَن ذكر نفي الغرم عن شهود الإصابة فقد أبعد، ولكنه وجه حكاه الشيخ، وتوجيهه ضعيف؛ فإنَّ الذي تخيله من نفي الغرم في شهود النكاح أنهم شهدوا بحق في مقابلة عوض، والوطء إتلاف منافع البضع في كل حساب، ولصاحب ذلك الوجه الضعيف أن يقول: وطؤه انتفاعه، كما أنَّ النكاح حقه.
فأما إذا شهد شهود الإصابة على الإصابة مطلقاً من غير تعرض للنكاح، فينظر فيه؛ فإن تأرخ النكاح على وجه تأرخ الوطء بتاريخ متأخر عن النكاح، فعلى شهود الإصابة ما ذكرناه؛ فإنهم تسببوا إلى إثبات تقرير ذلك المسمى؛ وإن كانت الشهادتان مطلقتين، فشهود الإصابة لا يغرمون للمدعى عليه شيئاًً؛ فإن الإصابة قد تكون زنا، فإذا لم يغرِّموه، لم يغرموا إذا رجعوا.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: وجه الزوجة النظر.

(12/519)


فرع:
8353 - إذا ادعى زيد على امرأة أنها زوجته، فانكرت، فأقام على ذلك بيِّنة، وادعت تلك المرأة أنها زوجة عمرو، فأنكر عمرو، وأقامت المرأة بيِّنة؛ قال ابن الحداد: بيِّنة زيد أولى، وتثبت زوجيتها في حقه. ومن كلامه في ذلك: أنَّ دعواه في الزوجية أقوى من دعوى المرأة؛ إذ حق الزوجية في جانب الزوج أثبت. قال الشيخ: هذه المسألة فيه إذا أنكر عمرو الزوجية، فأما إذا لم ينكر، ولكن سكت، فأقيمت عليه البينة؛ فيجوز أن يقال: تتقابل البيِّنتَان في ذلك، والكلام على تقابل البيِّنتَين يأتي إن شاء الله تعالى.
هذا منتهى كلام الشيخ، وفيه توقف على الناظر، قال ابن الحداد: [إن] (1) لم تتعرض في دعواها نكاح عمرو لذكر المهر، فالوجه أن نقول: إن أنكر عمرو النكاح، وما ذكرت المرأة صداقاً، فلا معنى [لإقامتها] (2) البيّنة، إلاَّ على مسلك بعيد في أنَّ الإنكار لا يقطع النكاح، فيكون غرضها ثبوت النفقة في مستقبل الزمان، وثبوت غيرها من حقوق النكاح، وهذا -وإن كان منقاساً- بعيدٌ عن مذهب الشافعي، وسنشبع القول فيه في كتاب الخُلع، إن شاء الله عز وجل.
فأما إذا سكت عمرو، وقد ادعت المرأة النكاح؛ فظاهر ما ذكره الأصحاب: قبول دعواها، وإن لم تذكر مهراً، فإنها ادعت سبباً في استحقاق حقوق، ولم يوجد من الزوج ما يتضمن قطعه.
ثم إذا سُمعت الدعوى والبينة، فالأظهر تقديم بينة زيد -كما قال ابن الحداد- لموافقة بيّنة زيد لدعواه، وحق النكاح لزيد، والمرأة لا يقوى حقها في نفس النكاح، وإنما تبغيه ذريعة إلى حقوقٍ في الاستقبال، ومن له الحق في النكاح ساكت.
فهذا وجه، وإليه ميل ابن الحداد ومعظم الشارحين، وقد ذكر الشيخ وجهاً من عند نفسه في مقابل البيِّنتين، ولم يختره، والله أعلم.
...
__________
(1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(2) في الأصل: لإقامته.

(12/520)


إن غرضي الأظهر في هذا الكتاب التنبيه على قواعد الأحكام ومثاراتها؛ فإن صور الأحكام والمسائل منها غير معدومة في المصنفات، فهذا أصل الباب، ومنه تتشعب المسائل.
الإمام
في نهاية المطلب

(13/4)