نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب القَسْمِ والنشوز
قال الشافعي: " قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ... إلى آخره " (1).
8600 - للرجال حقوق على النساء، كالتمكين، والاستقرارِ في البيت، ويدخل تحت التمكين التنظُّف والاستعداد بالاستحداد وغيره.
ولهن على الرجال المهرُ والنفقة والسكنى والكسوةُ، على ما ستأتي حقوقُها مفصلةً -إن شاء الله تعالى-. قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة: 228] فاقتضى الظاهر تشبيه ما لهن بما عليهن، وهذا التشبيه في أصل الحق، والحقان متشابهان في التأكد ووجوب الوفاء به، وليسا متشابهين في الكيفية والصفة.
ثم فَسَّر الشافعي: المعروف المذكور في قوله تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، فقال: "وجماع المعروف بين الزوجين كفُّ المكروه، وإعفاءُ صاحب الحق من المؤنة في طلبه، لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيُّهما مطل [بتأخيره] (2)، فمَطْلُ الغني ظلم " (3).
ومعناه: جملة المعروف بين الزوجين أن لا يؤذي أحدُهما صاحبه، وينكفُّ عن إلحاق مكروه به، فالمرأة لا تؤذي الزوجَ بلسانها أو شراستها، والرجل لا يؤذِيها بوجوه الأذى، ويعفي كلُّ واحد منهما صاحبَه عن مؤنةٍ في طلب حقه، فيوفر الزوج الصداقَ عليها، ولا يحوجها إلى رفعه إلى القاضي، فقد تحتاج إلى بذلِ مؤونة ومعاناةِ مشقةٍ.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 41.
(2) زيادة من نصّ المختصر.
(3) ر. المختصر: 4/ 41، 42.

(13/225)


وكذلك القول في المرأة فيما عليها له، ولا يُظهر واحد منهما كراهيةً في تأدية حق صاحبه، فالرجل لا يعبس عند إيفاء حقوقها بل يؤديها كاملة على طلاقة، والمرأة لا تعبس إذا قَرِبَها الزوج.
ثم قال: " فأيهما مطَلَ فمطل الغني ظلم "، والمطل: مدافعة الحق مع القدرة على التأدية، ولفظ " الغني " لا يختص باليسار والثروة، بل كل متمكن من تأدية حق مستقلٍّ به، فهو في حكم الغني. وللغني في أسماء الله تعالى معنيان أحدهما: المقتدر، والثاني: البريء عن الحاجة.
ومن حقوق المرأة على الرجل القَسْم، وهذا الكتاب بأبوابه معقودٌ له لا غير، فإن تطرق إليه حكم آخر، لم يكن مقصوداً بالكتاب.
8601 - فنبتدىء، ونقول: الرجل لا يخلو إما أن يكون ذا زوجة واحدة، وإما أن يجمع بين زوجتين فصاعداً، فإن كان ذا زوجة واحدة، فلا يلزمه أن يبيت عندها، ولو لم يدخل عليها قط، فلا طَلِبةَ عليه إذا كان يوفيها حقوقها، والذي يقتضيه أدب الدين ألا يعطّلَها، فقد يُفضي تعطيلُها -إذا هي تاقت- إلى الفجور، وفي تعطيلُها إضرارٌ بها، ولست أُبعد إطلاَق لفظ الكراهية في تعطيلها، فإنَّا نسمح بإطلاق هذا اللفظ دون هذه الأمور التي أشرنا إليها.
وقد حُكي عن أبي حنيفة (1) أنه قال: ينبغي ألا يخليَ أربعَ ليالٍ عن ليلةٍ يقيم فيها عندها؛ فإنَّ أقصى ما يفرض من النسوة تحته أربع، ثم ينالُها من القَسْم ليلةً من أربع ليال.
وهذا غير مرضي عند أصحابنا؛ فإنَّ اعتبار أقدار الليالي حيث لا قَسْمَ محال، ولو نظر ناظرٌ إلى الإضرار ومؤنة أربعة أشهر، كان بعيداً، فإن كان الضرار لا يدفعه إلاَّ الاستمتاع، فهذا (2) غير مرعي في المبيت الذي نقرر القول فيه.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 190، البدائع: 2/ 333.
(2) في الأصل: وهذا.

(13/226)


8602 - وإن جمع بين نسوة [أو] (1) بين امرأتين، ثم أراد الإضراب عنهن؛ فلا معترض عليه، وهُنَّ بجملتهن -إذا أَعرض عنهن- كالزوجة الواحدة، فإن بات عند واحدة منهن، لم يكن له تخصيصها، بل عليه أن يَقسم بينهن ويسوي في المبيت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له امرأتان، فمال إلى إحداهما، حُشر يوم القيامة وأحدُ شقيه مائل " (2).
والذي ذكرناه من الأمر بالتسوية إنما هو فيما يتعلق بالأفعال، وأما القلوب، فلا يملكها إلاَّ مقلبُ القلوب، قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء: 129]. قال المفسرون: لن تستطيعوا أن تعدلوا بالقلوب، فلا تتبِعُوا أهواءكم أفعالكم؛ [فإن] (3) من أتبع هواه فِعلَه، فقد مال كل الميل، فكان ميل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة من نسائه بَيِّناً، وكان يحاول التسويةَ بينهن فعلاً، ويقول: " اللهم هذا قَسْمى فيما أملك وأنت أعلم بما لا أملك " (4). وكان ذلك مشهوراً في الصحابة رضي الله عنهم، حتى
__________
(1) في الأصل: وبين.
(2) الحديث: "من كان له امرأتان ... " رواه أحمد في مسنده: 2/ 347، والدارمي: 2/ 193، ح 2206، وأبو داود: كتاب النكاح، باب القسم، ح 2133، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، ح 1141، والنسائي: كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه، ح 8890، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب القسمة بين النساء، ح 1969، وابن حبان رقم 4194، والحاكم: 2/ 186، وانظر (التلخيص:3/ 408 ح 1711).
(3) في الأصل: قال.
(4) حديث: " اللهم هذا قسمي فيما أملك ... " رواه أحمد، والدارمي، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم عن عائشة، بلفظ: "هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " وأعلّه النسائي، والترمذي، والدارقطني بالإرسال.
(ر. المسند: 6/ 144، وسنن الدارمي: 2/ 193، ح 2207، وأبو داود: كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، ح 134، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في التسوية بين الضرائر، ح 1140، والنسائي: كتاب عشرة النساء، باب ميل الرجل إلى بعض نسائه، ح 3943، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب القسم بين النساء، ح 1971، وابن حبان: 6/ 203، ح 4192، والحاكم: 2/ 187، وانظر التلخيص: 3/ 290 ح1563).

(13/227)


إن الناس كانوا يحسبون ليلةَ عائشةَ وينتظرون ليلتها، فمن أراد أن يهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية، كان يُهديها في ليلتها، فشق ذلك على صواحبها، فأتين فاطمة وشكون إليها وحَمَّلْنَها رسالةً، فبَلَّغنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا تحبين ما يحب أبوك، إنَّ جبريل لا يأتيني وأنا في فراشٍ سوى فراش عائشة " (1). وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسعُ نسوة، وهو يقسم لثمان منهن؛ فإنَّ سودة طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: راجعني لأُحشر في جملة نسائك، وقد وهبتُ ليلتي لعائشة فراجَعَها (2)، وقيل:
__________
(1) حديث: "إن الناس كانوا يحسبون ليلة عائشة ... إلخ " رواه البخاري أتمَّ من هذا، ففيه استشفاع نساء النبي صلى الله عليه وسلم بأم سلمة أوّلاً، وقوله عليه الصلاة والسلام لها: "إن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة " ثم استشفعن ثانيةً بفاطمة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "يا بنية ألا تحبين ما يحب أبوك "، وليس نزول الوحي في ثوب عائشة في جواب فاطمة، وإنما هو في جواب أم سلمة، ثم إنهن أرسلن زينب بنت جحش ثالثة للرسول صلى الله عليه وسلم. كل هذا عند البخاري.
وهو عند مسلم مقتصراً على الاستشفاع بفاطمة وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم على نحو ما في البخاري، ثم الاستشفاع بزينب بنت جحش، وبدون ذكر لتحري ليلة عائشة بالهدايا.
وعند النسائي: مقتصراً على الاستشفاع بأم سلمة، بسبب تحري ليلة عائشة بالهدايا، والاستشفاع بفاطمة وزينب في أحاديث أخرى وعند أحمد من حديث أم سلمة وأن الاستشفاع كان بها والجواب على نحو ما في البخاري.
(ر. البخاري: كتاب الهبة، باب من أهدى إلى صاحبه، وتحرى بعض نسائه دون بعض، ح2580، وأيضاًً: 2574، 3775، ومسلم: كتاب الفضائل، باب فضل عائشة، ح 2442، والنسائي: كتاب عشرة النساء، ح 3396، 3403، وأحمد: 6/ 293).
(2) حديث هبة سودة يومها لعائشة متفق عليه، رواه البخاري: كتاب النكاح، باب المرأة تهب يومها من زوجها لضرتها وكيف يقسم ذلك، ح5212، وأيضاًً: 2593، ورواه مسلم: كتاب الرضاع، باب جواز هبتها نوبتها لضرتها، ح 1463.
وأما خوف سودة من الطلاق سبباً لهذه الهبة، فقد رواه أبو داود: كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، ح 1235، والترمذي: كتاب التفسير، باب ومن سورة النساء، ح 3040، وكذا عند الحاكم: 2/ 186.
أما تطليق سودة ومراجعتها، فهو عند البيهقي: 7/ 75، 297.

(13/228)


أمره الله تعالى بها، فقال: "راجع سودة فإنها صوَّامةٌ قوَّامة " (1).
8603 - وكان صلى الله عليه وسلم لا يُخلّ بالقسْم، ولا يألو جهداً في رعاية التسوية، حتى في مرض موته، قيل: كان يأمر حتى يطاف به على حُجَر نسائه (2) وكان يستبطىء ليلة عائشة، ويقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غداً؟ ففطِنّ مراده، وكان يُمرَّض في بيتِ عائشة إلى أن توفاه الله عز وجل. وعن عائشة أنها قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونحري في الليلة التي لم أظلم فيها أحداً " (3). أرادت أنه اتفقت الوفاة في نوبتها الأصلية التي لم تكن من قِبَل سودة.
وقد ظهر اختلافُ الأصحاب في أنَّ القَسْم هل كان واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو كان يفعله تكرماً، كما قدمناه في أول كتاب النكاح، فمن أحلّهن في حقه محل الإماء لم يوجب القَسْم، كما تقدم شرحه في ذكر خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل
قال: "وعماد القَسْم الليلُ ... إلى آخره " (4).
8604 - المعتمد في زمان القسم الليل، لأنه سكنٌ، قال الله تعالى: {يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} [القصص: 72]. وقال تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96].
__________
(1) حديث: "راجِعْ سودة، فإنها صوامة قوّامة " لما أصل إليه.
(2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل في ثوب يطاف به على نسائه، وهو مَريض يقسم لهن " قال الحافظ في التلخيص: رجاله ثقات إلا أنه منقطع (التلخيص: 3/ 290 ح 1562).
(3) حديث: "أنه صلى الله عليه وسلم، كان يسأل أين أنا اليوم، أين أنا غداً، وأنه استأذن أن يمرّض في بيت عائشة، وأنها قالت: توفي صلى الله عليه وسلم في يومي بين سحري ونحري" رواه البخاري حديثاً واحداً: كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، ح 4450، ورواه مسلم أيضاًً، بغير إشارة إلى الاستئذان أن يمرّض في بيت عائشة: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة، ح 2443.
(4) ر. المختصر: 4/ 43.

(13/229)


وقد سمى الله تعالى الأزواجَ سكناً، فقال عز وجل: {أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21]. وقولنا: "الأصلُ " (1) لا يتبين أثره الآن، وإذا انتهينا إلى تفريع المسائل، أوضحنا ذلك، إن شاء الله عز وجل.
ثم إنما يكون التعويل على الليل في حق معظم الناس، وعامة الخليقة؛ فإنهم ينتشرون في مآربهم وأوطارهم نهاراً، فإذا جنَّ الليل، ارتادوا السكونَ في مساكنهم والدَّعَة.
فلو فرض شخص يشتغل بالليل ويسكن بالنهار -كالحراس [ومن] (2) في معناهم، فعماد القسم في حقوقهم النهار؛ فإن المتبع فيه أن الأصل في القَسْم وقتُ السكون والدَّعةِ، فإن من ينتشر نهاراً لم يمنع منه، ولم يُلزم أن يدخل على صاحبة النوبة النهار، فإنا لو فعلنا هذا، لانقطع الناس عن معايشهم، ولصار الكافل العائل معولاً مكفولاً. وهذا أحد الآثار في الفرق بين الليل والنهار، كما سنجمعها في فصل بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو كان عند الرجل حرائرُ مسلماتٌ ... إلى آخره " (3).
8605 - غرض الفصل أن الكتابيةَ والمسلمةَ في القَسْم متساويتان؛ فإن حقوقهما متساوية، فإذا ساوى حقُّه على الكتابية حقَّه على المسلمة، فيجب أن يتساويا أيضاًً فيما تستحق كل واحدة على زوجها. وحقق الأئمة هذا فقالوا: استمتاع الرجل بالكتابية يتسع اتساع استمتاعه بالمسلمة، ولا ضِرار على ولده منها؛ فإن ولد المسلم من الكتابية مسلم.
8606 - فأما إذا اجتمعت الرقيقة والحرة تحت حر مثلاً بطريق اجتماعهما، فالقَسْم
__________
(1) أي قولنا: الأصل في القَسْم الليلُ.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) ر. المختصر: 4/ 43.

(13/230)


بين الحرة والأَمَة على [التفاضل] (1) عندنا وعند أبي حنيفة، خلافاً لمالك (2)، فإنه قال: لا فرق في القسم بين الحرة والأَمَة، وهذا غير سديد.
ومعتمدنا: أولاً: ما روى الحسن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " للحرة ثُلثا القسم وللأمة ثُلثه " (3). وفراشُ الأَمَة المنكوحة ناقص، وتمكُّنُ الزوجِ من الاستمتاع بها ناقصٌ، ويلحق الولدَ نقصُ الرق، فيليق بهذا ألا يسترسل الزوج في الاستمتاع بها توقياً من الولد، ولذلك لم يثبت نكاح الرقيقة في حق الحر إلا في محل الحاجة.
فإذا ثبت ذلك؛ فإذا كان تحته حرة وأمة، فالحرة على ضعف الأَمَة في القسم، فيقسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة.
8607 - ثم إذا فرض طريان العتق على الأمة؛ فأصل المذهب لا غموض فيه، ولكن قد تلتبس الصور، فالأَولى الاعتناء بتفصيل الصور، [فنبدأ] (4) بذكر التفصيل فيه إذا وقعت البدايةُ في نُوَب القَسْم بالحرة، ثم نذكر إذا ما وقعت البداية بالأَمة.
فإن وقعت البداية بالحرة، فعتقت الأمة، فلا يخلو إما أن تعتق في نوبة الحرة، أو في نوبة نفسها، فإن في نوبة الحرة، وكان يقسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة، فالجواب المجمل إلى أن يُفصّل -أنها إذا عتقت في نوبة الحرة، صارت بمثابة الحرة الأصلية في القَسْم في مستقبل الزمان، وكأنَّ الرقَّ لم يكن، والتفصيل أنها إذا أعتقت في الليلة الأولى من ليلتي الحرة، فيكملُ الزوج الليلةَ الأولى للحرة، ثم هو بالخيار إن شاء اقتصر في حقها على هذه الليلة، وأقام عند العتيقة ليلة، ثم استدار عليهما ليلة ليلة،
__________
(1) في الأصل: التفاصيل.
(2) ر. المدونة: 2/ 198، الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 7232 مسألة رقم 1307.
(3) حديث: "للحرة ثلثا القسْم وللأمة ثلثه ": "رواه البيهقي من حديث سليمان بن يسار بهذا المعنى، ورواه أبو نعيم في المعرفة من حديث الأسود بن عويم، وروي عن علي مرسلاً " كذا قال الحافظ في التلخيص: 3/ 409 ح 1716، وانظر السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 299، 300).
(4) في الأصل: "فنقول".

(13/231)


وإن أراد أن يقيم عند الحرة ليلتين [فإنه يقيم عند العتيقة ليلتين] (1) أيضاًً، فإنها التحقت بالحرة الأصلية، كما ذكرنا أولاً.
ولو عتقت في الليلة الثانية من ليلتي الحرة، فإن أراد أن يتم تلك الليلة، ويقيم في بقيتها عند الحرة، فله ذلك، كما تقدم، ثم يقيم عند العتيقة ليلتين أيضاًًً، وإن كانت تلك الليلة قد تشطرت، فأراد أن يخرج في وسط الليل إلى العتيقة ويقيم عندها ليلة ونصفاً، فيجوز ذلك، ولو كان وَضْعُ القَسْم ابتداءً على أنصاف الليالي، لم يجز؛ فإنَّ تبعيض الليالي يُفسد غرضَ السكن وما فيه من مستمتَع.
ولكن إذا طرأ العتق في أثناء الليلة الثانية من ليلتي الحرة، فربما يبغي الزوج أن يجعل القَسْم ليلة ليلة، ولو استتم نوبة الحرة ليلتين، لاحتاج إلى أن يقيم ليلتين عند العتيقة، فإذا لم يرد ذلك، فله أن يبعِّض هذه الليلة، ويرعى التسوية بينهما، وليس كما لو طرأ العتق في أثناء الليلة الأولى في نوبة الحرة؛ فإن نوبةَ القَسْم لا تنقُص عن ليلة في وضعه.
8608 - ومما ذكره الأئمة في ذلك أن العتق لو جرى في الليلة الثانية، فأراد الزوج أن يفارق الحرة في بقية تلك الليلة ويبيت عند صاحبٍ له، فإذا فعل ذلك، فأراد أن يبيت عند العتيقة ليلة ويدور إلى الحرة بليلة ويدير النوبتين كذلك؛ قال الصيدلاني: له هذا، وما مضى من الليلة غيرُ محسوبٍ عليه، وهو مختطفٌ من البَيْن؛ فإنَّ ما جرى من التبعيض أفسد تلك الليلة، حتى كأنه لم يُقم في شيء منها عند الحرة، وهذا يؤكده تمهيد (2) عُذر الزوج؛ فإنه كان يتمادى على موجب الشرع في تفضيل الحرة، ثم كما (3) بلغه أتلف.
وهذا الذي ذكره خارج عن القياس في وجوب رعاية النَّصَفة، وتعيّن اعتبار التعديل، وتنزيل العتيقة إذا طرأ عتقها على نوبة الحرة منزلة الحرة الحقيقية،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) تمهيد عذر الزوج: أي قبوله. يقال: مهّدتُ له العذر: أي قبلته.
(3) كما: بمعنى عندما أو لمّا وقد أشرنا مراراً أنه من الاستعمالات غير العربية ولا الصحيحة.

(13/232)


لا [تدرؤه] (1) التخاييل. فإذا كنا نقول: إذا أكمل للحرة ليلتين يبيت عند العتيقة ليلتين، فإذا بات عند الحرة ليلةً ونصفَ ليلة، ثم أراد أن يبيت عند العتيقة ليلة، فهذا قسْم على التفاضل، وسنذكر مناقشاتٍ (2) للأصحاب في أنصاف الليالي في المسائل التي ستأتي -إن شاء الله عز وجل-، فالوجه: القطع بأنه يُحسب عليه ما مضى من الليل.
فترتب من مجموع ما ذكرناه أن العتق إذا جرى في أثناء الليلة الأولى، فلا بد من إكمالها، ثم للزوج الخيار بين أن يدور بعد انقضائها إلى العتيقة، ويبيت عندها ليلة، فيردّ النوبة إلى ليلةٍ ليلة، وبين أن يبيت عندها إلى تتمة الليلتين، ثم يقيم مثلها عند العتيقة.
وإن جرى العتقُ في أثناء الليلة الثانية على الشطر مثلاً؛ فللزوج ثلاثة أحوال: إحداها - أن يتمها، ثم يمكث عند العتيقة ليلتين، والأخرى - أن يدخل على العتيقة في نصف الليل، ويقيم عندها ليلة ونصف، ثم يرتب من النوبة ما يريد، ويجتنب في وضع القَسْم تبعيضَ الليل في المستقبل، كما سنصفه، إن شاء الله عز وجل.
والحالة الثالثة - أن يخرجَ إلى صديق أو مسجد ويبيتَ (3) فيهما، قال الصيدلاني: إن ما مضى من الليل لا يحسب عليه، وقد أرى الأمر بخلاف ذلك، وكل هذا فيه إذا كانت البداية بالحرة وقد عتقت الأمةُ في نوبة الحرة.
8609 - فأما إذا انقضت نوبة الحرة بكمالها ليلتين، وانتهت النوبة إلى الأمة، فعتقت في أثناء ليلتها؛ فالعتق الطارىء على نوبتها يثبت لها كمالَ نوبة الحرة، فيبيت عندها ليلتين، وحكم الطارىء إذا كان يقتضي كَمَلاً أن يقتضيَه إذا جرى قبل استيفاء حظ العبودية، ولذلك قلنا: إذا عتق العبد وقد طلق امرأته طلقة واحدة، فالعتق يُملّكه تتمة ثلاث طلقات.
وهذه الصورة التي ذكرناها في القسم أبعد عن اقتضاء مساواة الحرة من الصورة الأولى، وذلك أن نوبتها دخلت وهي على الرق، ثم ألحقناها بالحرة للعتق الطارىء،
__________
(1) في الأصل: " تدرؤها " ولعل هذا من آثار عجمة قديمة لدى الناسخ.
(2) في الأصل: في منافسات.
(3) في الأصل: وبات.

(13/233)


وفي الصورة الأولى كملت الحرية فيها، وتقدمت على أول نوبتها، فوافاها أول النوبة وهي حرة فيها.
وما ذكرناه لم نقصد به الفرقَ بينهما؛ فإن الحكم في الصورتين واحد، ولكن أردنا التنبيهَ على حقيقة الحال، وترجح إحدى الحالتين من طريق المعنى على الأخرى.
ولو وفَّى الحرة نوبتها ليلتين، ثم وفَّى الأمة نوبتَها ليلة، ثم عاد إلى الحرة، فعتقت الأمة، فما مضى من النوبة في الرق لا التفات إليه، ولا يتوقع فيه مستدرك؛ فإنَّ العتقَ وقع بعد انقضاء تلك النوبة، وإنما يفيد العتقُ إلحاقَ الأمة بالحرة إذا طرأ في نوبة الحرة، أو في نوبة الأمة، فإذا انقضت نوبتان على رقها، ثم طرأ العتق في الثانية للحرة؛ فالنوبتان الماضيتان لا سبيل إلى تعقبهما بالتغيير، فإنا لو نقضناهما، لتعقبنا نُوَباً، وهذا يجرّ تغيير نُوَبَ الرق والحرية في سنين، ولا سبيل إلى التزام ذلك، نعم، إذا طرأ العتق في النوبة الثانية للحرة، فالعتيقة في هذه النوبة كالحرة.
وشبّه الفقهاء النوبةَ الأولى الماضيةَ في الرق أنها لا تعتبر، بما إذا طلق العبد امرأته طلقتين، ثم عتق وتحته زوجةٌ لم يطلقها، فالتي بانت البينونة الكبرى قبل العتق باستيفاء عدد العبيد فيها لا تتغير، وهي محرَّمة حتى تنكح زوجاً غيره، والعتق يفيده في الزوجة التي لم يطلقها، أو طلقها طلقة واحدة- تمامَ العدد.
8610 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت البداية بالحرة في أول النُّوَب.
فأما إذا وقعت البداية بالأَمة، ووضْع القَسْم على أن يقسم لها ليلة وللحرة ليلتين، فإذا فرضنا عتق الأمة؛ فلا يخلو إما أن تعتِق في نوبة نفسها، وإما أن تعتق في نوبة الحرة، فإن عتقت في نوبة نفسها، التحقت بالحرائر، وللزوج الخيار إن شاء اقتصر على هذه الليلة، ثم يقسم للحرة الأصلية ليلة واحدة أيضاًًً، وإن أراد أن يبيت عند العتيقة ليلتين، فلا معترَضَ عليه ويبيت عند الحرة الأصلية ليلتين.
والجملة في ذلك أن الأمة إذا أعتقت في نوبتها، قدَّرنا كأنَّ الرقَ لم يكن وصورناها كالحرة (1) الأصلية.
__________
(1) في الأصل: كالحرية.

(13/234)


فأمَّا إذا مضت نوبة الرقيقة على الرق، وانتهت النوبة إلى الحرة، فاُعتقت الأمة؛ قال الأئمة المحققون: يتعين على الزوج أن يوفيَ الحرةَ ضعفَ ما وفَّى الأمةَ، فإن قال: أوفّي الحرة ليلة، والعتيقة بعدها ليلة، وأردّ النوب إلى أفراد الليالي قلنا: لا، فإن شئت ذلك، فلا معترض عليك في الاستقبال، ولكن بعد توفية حق الحرة.
وإذا استوفت الأمة ليلةً، وانقضت نوبتها، استقر في الذمة للحرة ضعفُ ما كان للأمة، والليلة الواحدة في حق الأمة كالليلتين في حق الحرة. فإذا وفَّى الحرة ليلتين، فلو أراد بعد ذلك أن يرد القسْم إلى ليلة ليلة، فليفعل، ولا معترض.
8611 - وتحقيق ذلك أنه لو كانت تحت الزوج حرتان، فكان يقسم ليلتين ليلتين، فلو قسم لإحداهما ليلتين، ثم لما انتهى إلى الثانية قال: بدا لي أن أرد النوبة إلى ليلة ليلة؛ قلنا له: وفّ الثانية ليلتين، فإذا انقضتا، فافعل ما شئت، فالليلة الماضية في حق الرقيقة كالليلتين في حق الحرة. هذا تمام البيان.
وقد رأيت هذه الصور مستقلةً بإفادة المقصود على أحسن نظام.
8612 - ومما نلحقه بما تمهد؛ أن العتق إذا جرى في يوم الأمة كما لو جرى في ليلتها، وكل امرأة لها ليلة أو ليال، فلها مع كل ليلة يوم، وذلك اليوم محسوب من نوبتها، فإذا جرى العتق فيه كان كما لو جرى في ليلتها؛ فإن اليوم من النوبة.
8613 - والعتق في بعض الأمة لا حكم له ما لم يتم. وهذا كما أن العتق في بعض الأمة لا يثبت لها حق الفسخ إذا كان زوجها رقيقاً.
ثم قال: "وللأمة أن تُحلّله من قَسْمها ... إلى آخره " (1).
8614 - سنذكر على الاتصال فصلاً في هبة المرأة حقها من القَسْم، والذي يتصل بهذا المقام أن الأمة إذا أسقطت حقَّها من القَسْم؛ فلا معتَرَض عليها.
وليس للسيد بعد إسقاطها أن يطلب حقها، فإنَّ ذلك من حقوقها الآيلة إلى جبلّتها، وما كان كذلك فسبيله التفويض إليها، [وكذلك نقول إذا آلى الزوج عن
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 43.

(13/235)


زوجته الأمة] (1)، فحق الطلب للأمة، وكذلك إذا عنَّ عنها، فالطلب على التفصيل المعلوم يثبت لها، لا مدخل للسيد فيه.
فصل
8615 - المرأة إذا وهبت نوبتَها، فذلك صحيحٌ منها على ما سنفصل القول فيه.
والأصل في ذلك -مع اتفاق العلماء- حديث سودة إذ وهبت نوبتها لعائشة (2).
ثم قال الأئمة: إذا وهبت المرأة نوبتَها، فلهبتها ثلاثُ صيغ: إحداها - أن تُعيِّن لهبة نوبتها واحدةً من ضَرّاتها، والأخرى - أن تطلق الهبة ولا تعيِّن واحدةً، والثالثة - أن تقول: وهبت نوبتي لك أيها الزوج، فضعها حيث شئت، وإن أردت، فاقسمها على جميع ضراتي.
8616 - فأما الصيغة الأولى - وهي إذا عينت واحدة من ضرائرها، فأقل ما نذكره: أن هذه الهبةَ شرطُها أن يساعِد الزوج عليها، فلو أراد الزوج أن يقيم عند الواهبة كما كان يقيم عندها قبل الهبة، فله ذلك؛ فإنها تملك إسقاط حق نفسها، فأما إسقاط حق مستمتَعٍ للزوج، فمحال.
وإذا لاح هذا، هان أمر الهبة، ورجع إلى أنه لو لم يبت عندها برضاها، جاز.
ولكن إذا عيَّنت واحدة من الضرات، تعيَّن صرف الهبة إليها، فلو قال الزوج: أنت قد أسقطت نوبتك، وأنا أصرفها إلى من أشاء، قلنا له: ليس هذا إليك.
وهذا (3) فيه إشكال [يحتاج] (4) إلى أن يُجاب عنه. وذلك أن تركها نوبتَها ليس حقاً [يُبذل] (5)، بل هو حق يترك، [وتعيين] (6) الموهوبة يشعر بمضاهاة الهبةِ الهباتِ
__________
(1) في الأصل: وذلك نقول الزوج إذا آلى عن زوجته الأمة.
(2) مرّ آنفاً تخريج حديث سودة.
(3) في الأصل: وهذا ليس فيه إشكال.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: ببدل.
(6) في الأصل: وتعين.

(13/236)


التي تتعلق بما يجوز بذله. والجواب: [إنها] (1) لم تعينها [بهذا] (2)، ولكنَّ ترْكها حقَّها [هذا] (3) مشروط بهذا، [فكأنها] (4) رضيت بترك حقها على شرط أن يوضع في التي عَيَّنتها، والدليل عليه أنَّا لا نشترط قبولَ الموهوب [لها] (5)، بل لو أبت، فالزوج يبيت عندها على الرغم منها (6)، فهذا بيان هبتها من واحدة من ضراتها.
ومما يتعلق بذلك أنها إذا وهبت؛ فالهبة لا تلزم، فمهما أرادت أن ترجع رجعت، وهذا متفق عليه؛ لأن هبتها لم تشتمل على عينٍ تحتوي عليها يد، وإنما تركت حقاً يتجدد لها شيئاً فشيئاً.
8617 - ثم الذي أطبق عليه معظم المحققين أنها إذا رجعت؛ فالهبة مستمرة إلى أن يبلغ [خبرُ] (7) رجوعِها الزوجَ، فلو مضت نُوبٌ [و] (8) الزوج لم يشعر برجوعها، فتلك النوب لا مستدرك لها، ولذلك قالوا: لو أباح [رجلٌ] (9) لإنسان [ثمار بستان] (10) أو غيرها مما يقبل الإباحة، فكان المستبيح يتمادى على تعاطي ما أُبيح له، فلو رجع المبيح، ولم يبلغ رجوعُه من أبيح له؛ فالإباحة دائمة قائمة في حقه.
قال شيخي: إذا رجعت المرأة ولم يشعر الزوج، فالمسألة تخرج على القولين المعروفين في أن الموكِّل إذا عَزَلَ الوكيلَ ولم يبلغ العَزلُ الوكيلَ، فهل ينعزل؟ على قولين، وهذا الذي ذكره جار على ظاهر القياس، ولكن اشتراط بلوغ الخبر أغْوص
__________
(1) في الأصل: إنما.
(2) في الأصل: لهذا. والمعنى أنها لم تبذل لها هذا الحق، والذي ليس في حقيقته من الحقوق التي تبذل.
(3) في الأصل: وهذا.
(4) في الأصل: فكانت.
(5) زيادة اقتضاها السياق.
(6) أي على الرغم من الموهوب لها.
(7) في الأصل: جر.
(8) الواو مزيدة من المحقق لاستفامة المعنى.
(9) في الأصل: رجلاً.
(10) في الأصل: بيمارستان.

(13/237)


وأفقه؛ فإنَّ حقيقة القَسْم لا تؤول إلى حقٍّ مستحق يوفّى ويستأدى (1)؛ ولهذا قُلنا: لو أعرض الزوج عن جميعهن، فلا طَلِبة عليه، لكنه إذا بات عند واحدة، لزمه أن يبيت عند الباقيات، فالغالب على القَسْم اجتناب ما يتداخلُهن من الغضاضة والأنفة بالتخصيص، فإذا سمحت واحدة بإسقاط حقها، فلا يتحقق من الزوج قصد التخصيص ما لم يبلغه خبرُ رجوعها، وكل ما ذكرناه فيه (2) إذا وهبت [وعيّنت] (3).
8618 - فأما إذا أطلقت الهبة ولم تخصص بها ضرة، ولم تُضفها إلى مشيئة الزوج، فإذا رضي الزوج بهذا، كان حكم هبتها أن تخرج من حساب النُّوب، وتنزل -إذا وهبت- منزلتَها لو بانت (4).
فإذا كُنَّ أربعاً فوهبت واحدة نوبتها على الصيغة التي ذكرناها، وكان الزوج يقسم بينهن ليلة ليلة، أو كما يريد، فترجع فائدة هبتها إلى سقوط مزاحمتها وسرعة العود إلى كل واحدة.
8619 - فأما الصيغة الثالثة في الهبة وهي: إذا [قالت] (5) للزوج: وهبت نوبتي منك، فضعها حيث تشاء، وخَصِّصْ بها من تشاء، فهذا مما اختلف فيه جواب الأئمة. فالذي قطع به شيخي واشتمل عليه تعليقه: أنَّ الهبة تقع على هذا النسق، فالزوج بالخيار، فإن شاء فض (6) نوبتها عليهن، كما لو أطلقت الهبة، وإن شاء خصص واحدة منهن. ووجه ذلك أن صاحبة الحق وهبت ذلك.
وقطع الصيدلاني جوابه نقلاً عن القفال بأنَّ الزوج لا يخصص واحدة منهن، والهبة المنوطة بمشيئته بمثابة الهبة المطلقةِ أو المضافةِ إليهن.
وهذا الذي ذكره فقيهٌ حَسن؛ وذلك لأنها إذا أسقطت حقها، فالزوج لا يستفيد
__________
(1) ويستأدى: أي يطلب أداؤه.
(2) في الأصل: فيه أن إذا وهبت.
(3) في الأصل: عتقت.
(4) أي تصير كما لو طلّقت.
(5) في الأصل: قال.
(6) فضّ: قَسَم.

(13/238)


منها حقاً، وإنما هي تركت ما لها، فصار كأنها لم تكن، والحق الحقيقي للزوج، وليس لآحاد النسوة، إلاَّ ما أشرنا إليه من حق التسوية. فإذا أخرجت نفسها من البَيْن، صار كأنها لم تكن، واستعمل الصيدلاني في ذلك عبارة حسنةً واقعة، وذلك أنه قال: ليس له أن يقول: أجعل هذه الليلة [لواحدة] (1)؛ فأبيت عندها ليلتين؛ إذ ليس للزوج أن يعد نفسه كإحداهن، فيثبت له ليلة من الهبة، وحقيقة هذا أنَّ الحق له، والتخصيص للنسوة.
ووجه ما ذكره شيخي أنها لو قيَّدت هبتها بتعيين ضرتها، تقيدت على تأويل أن هبتها مقيدة بصيغة، فتثبت على مقتضاها، كذلك إذا وهبت على شرط تخير الزوج، فلتتقيَّد هبتُها بمقتضى لفظها.
وللصيدلاني أن يقول: إذا ارتفع الحجر عن الزوج، فوَضْعُه النوبةَ فيمن يختارها ميل، وهذا هو المحذور في شَرعْ أصل (2) القسم، وإذا خصصت الواهبة واحدةً، فلا ميل من الزوج.
8620 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن الواهبة لو خصصت واحدة من ضراتها واختصت، وكنا رتبنا نُوَبَهن بالقرعة، فإن كانت نوبة الواهبة إلى جنب نوبة الموهوبة، فالأمر قريب، فيجمع الزوج للموهوبةِ نوبتَها ونوبةَ الواهبة.
وإن كانت نوبة الواهبة منفصلة عن نوبة الموهوبة بليلة أو ليلتين، فإذا وهبت، فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يأتي في حق الموهوبة بالليلتين وِلاءً؛ فإنها إذا كانت تستحق ليلتين، فلا معنى لتفريقهما عليه. والوجه الثاني - أنه يأتي بالليلتين على ما يقتضيه ترتيب نوبة الواهبة والموهوبة، حتى إن كانت نوبة الموهوبة في أول النوب، فيوفيها نوبتها، ثم يوفي التي لم تهب، حتى ينتهي إلى نوبة التي وُهبت، فيعود ويبيت عند الموهوبة تلك الليلة.
86201 - ومما ذكره الشافعي في آخر هذا الفصل: أن الاعتياض عن حق القسم غير
__________
(1) في الأصل: الواحدة.
(2) في الأصل: أهل.

(13/239)


جائز، والأمر على ما ذكره، ولا يجوز الاعتياض عن أمثال هذه الحقوق؛ فإنها في التحقيق تخصيصاتٌ تتعلق بالأَنَفةِ وطلبِ التسوية، ولا مسوِّغ للاعتياض عما هذا سبيله، وإذا منعنا الشفيع عن الاعتياض عن حقه من الشفعة، فلأن نمنع هاهنا من الاعتياض عن حق القَسْم أولى.
فصل
قال: "ولا يجامع المرأة في غير نوبتها ... إلى آخره " (1).
8622 - الفصل يشتمل على مقصودين: أحدهما - يتعلق بتحصيل قولنا: عماد القَسْم الليل.
والثاني - يتعلق بذكر ما لو جامع في نوبة إحداهن الأخرى.
فأما المقصود الأول فقد اشتهر من قول علمائنا أن عماد القسم الليل، وهو السكن، وعليه التعويل، والنهار التابع لليل يتعلق به حقُّ القَسْم أيضاًًً، ولكن لا يتأكد الحقُّ في النهار تأكده في الليل، ونحن نستعين بالله عز وجل ونبين حقيقة ذلك.
8622/م- فأما الليل فليس للزوج أن يخرج من دار واحدة ويدخل على أخرى، فلو [مرضت] (2) امرأةٌ ولم تثقل، فأراد أن يدخل عليها عائداً، فكيف السبيل، وما الوجه؟ أولاً: ليس [له] (3) الدخول على واحدة منهن من غير سبب، فلو فعل، باء بالإثم، وكان ظالماً، ثم إن كان الزمان الذي خرج فيه بحيث [يُحَسّ] (4) ويبين له قدرٌ من الليل، فعليه أن يقضيه لصاحبة النوبة.
وفي كلام من نقل عن القاضي أنه [لو] (5) بلغ ثلثاً من الليل، قضى، وهذا ليس
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 43.
(2) في الأصل: فرضت.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: يحسن.
(5) زيادة اقتضاها السياق.

(13/240)


بشيء. وإذا كنا نوبّخ خصومنا بالتحكم بالتقدير، فلا ينبغي أن نبوء بمثل ما ننكره، فالأصل عندي أن يكون مقدار المفارقة بحيث لو نسب إلى الليلة، لأمكن أن يقال: جُزءٌ منها. وإن كان في قفته بحيث لا يُدرك جزئيتهُ من الليل، فليس في هذا المقدار إلاَّ التأثيم.
ويحتمل على بُعد أن يقال: يقضي لصاحبة الليلة مثلَ تلك الخرجة، وإن قل زمانُها، حتى إذا انتهت النوبة إلى التي كان دخل عليها، فيخرج من عندها، ويدخل على صاحبة النوبة الأولى.
هذا بيان القول فيه إذا دخل في نوبة واحدة على ضرتها من غير عذر.
8623 - فإن مرضت له امرأةٌ وأشرفت على خوف الهلاك، فيجوز للزوج الانتقال إليها بالكلية للتمريض، حتى إذا بَرَأَت (1)، قضت من نوبتها بعد [الاستبلال] (2) للواتي لم (3) يدخل عليهن، كما سيأتي ذلك في فصل مفرد، إن شاء الله عز وجل.
8624 - فأما إذا مرضت واحدة ولم يتحقق انتهاؤها إلى الخوف، فالذي ذكره القاضي وطوائف من المحققين أن له أن يخرج إليها عائداً. قال صاحب التقريب: المذهب أنه لا يخرج إليها عائداً إذا لم تَنته إلى الخوف والثقل.
وذكر بعض الأصحاب قولاً أن له أن يخرج إليها عائداً، ثم قال: وهذا غلط والمذهب: أنه لا يجوز له الخروج. هكذا ذكر صاحب التقريب، والذي رآه صاحب التقريب غلطاً أفتى به طوائفُ من أئمتنا.
ثم إن خرج عائداً ومكث زماناً [يُحسّ] (4)، وجب القضاء فيه، وإن كان لا [يحسّ] (5)، فعلى الترتيب المقدم.
__________
(1) برأ المريض: يَبْرأ من باب (نفع) ويأتي أيضاًًً من باب (تعب) (المصباح: مادة: ب. ر. ى).
(2) في الأصل: الاستبدال. والاستبلال: معناه البرء والشفاء.
(3) في الأصل: للواتي التي لم يدخل.
(4) في الأصل: يحسن.
(5) في الأصل: يحسن.

(13/241)


والذي عندي أن المرض الذي أطلقوه لا بد فيه من ضبط أيضاًًً، فلا يجوز الخروج بكل ما يسمى مرضاً، ولعل الضبط في ذلك أن يكون المرض بحيث يجوز أن يقدّر مخوفاً، ودخوله عليها ليتبين، حتى يكون مبيته على فراغ (1).
وكل ما ذكرناه في الليل، وفيه بقية، ينعطف [عليها] (2) كلامنا في النهار.
8625 - فنقول: لا يتحتم على الرجل أن يلازم زوجته في نوبتها نهاراً؛ فإنَّا لو ألزمناه ذلك، لانقطع عن مكاسبه، فله أن ينتشر في بياض نهاره كما أشعر نصُّ القرآن بذلك، فقال عز من قائل: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]. فرجع قوله {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} إلى الليل، وقوله: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} إلى النهار.
8626 - ثم يتعلق بالنهار نوعان من الكلام: أحدهما - أن الزوج لو كان يخرج في نهارِ واحدةٍ وينتشر، وكان يلازم الأخرى في نهارها، فكيف الكلام فيه؟
فإن كان هذا عن اتفاق شغل، فلا مضايقة، وإن كان عن قصد، فهذا محتمل (3): ما يدل عليه ظاهر كلام الأئمة أن ذلك غير ممتنع، وفيه احتمال ظاهر مأخوذ من كلامهم أيضاًًً، ووجه الاحتمال أن مدار القَسْم على ترك التخصيص واجتناب إظهار الميل، وهذا إذا تكرر في النهار ميلٌ ظاهر، إذا لم يكن شغلٌ محمول على الوفاق، ووجه الجواز حسم الباب عن الرجال، [إذا أرادوا الانتشار بها] (4).
وهذا فصل.
والثاني - دخوله على التي ليست النوبة لها. أجمع الأصحاب على أنه لا يجوز له أن يدخل في نوبة واحدة على الأخرى ويجامعَها، هذا لا سبيل إليه؛ فإنه منتهى
__________
(1) حتى يكون مبيته على فراغ: أي يكون مبيته عند غير المريضة على فراغ بالٍ واطمئنان.
(2) في الأصل: عليه.
(3) فهذا محتمل: أي غير مقطوعٍ بحكمه، كما سيأتي بيانه، متصلاً به.
(4) كذا. بنفس هذا الرسم. انظر صورتها. ولعل في الكلام سقطاً، أوْ له وجهاً لم نهتد إليه.
والله المستعان.

(13/242)


المقصود، وفيه الميل الأظهر وإبطالُ الاختصاص بحق النهار بالكلية.
وهل له أن يدخل في نهار واحدة على الأخرى من غير جماع، أم هل يُرعى في ذلك عذرٌ؟ اضطربت طرق الأئمة، ففي كلام العراقيين ما يدل على جواز الدخول إذا لم يكن وقاع، وهذا مضطرب لا ضبط فيه، ويلزم منه أن يجوز له الكَوْن عند التي لا نوبة لها في معظم النهار، أو في جميع النهار، وهذا بعيد.
وقال قائلون: لا يدخل عليها إلا لحاجةٍ ومهمٍّ، وبان من كلام هؤلاء أن الدخول ليلاً للمرض لا غير، والدخول نهاراً لا يجوز من غير حاجة، ويجوز عند ظهور حاجة، وإن لم يكن مرض، ولفظ الشافعي في [السواد] (1) يدل عليه، فإنه قال: " ولا بأس أن يدخل عليها بالنهار في حاجةٍ، ويعودَها في مرضها في ليلة غيرها " (2)، وفي كلام صاحب التقريب ما يدل على تنزيل النهار منزلة الليل، والطرق محتملة وأبعدها رفع الحجر.
والذي أراه مقطوعاً به: أنه كما يحرم الجماع في نهار الليل؛ يحرم الدخول فيه على وجهٍ يغلبُ فيه جريان الجماع؛ فإن الذي يداخل صاحبةَ النوبة من ظهور جريان الجماع يداني جريانَه، والكلام في مثل هذا ينتشر، وأقصى الإمكان في الضبط ما ذكرناه.
8627 - وقد بقي من الفصل المقصودُ الثاني، وهو الكلام فيه إذا جامع واحدة في ليلة غيرها، وقد ذكر العراقيون في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها - أنه إذا جامع في ليلةٍ غيرَ صاحبة النوبة، فقد أفسد الليلةَ، فعليه أن يقضيَ لها ليلة؛ فإنَّا وإن كنَّا لا نوجب
__________
(1) في الأصل: السؤال، وهو تحريف. ثم المراد بالسواد المختصر، كما نبهنا عند وروده مراراً من قبل.
(2) ر. المختصر: 4/ 43.
هذا، وقد قال الرافعي: "لا يجوز أن يدخل في نوبة واحدة بالليل على أخرى، وإن كان لحاجة، كعيادة وغيرها، فالذي نقله المزني في المختصر أن الشافعي رضي الله عنه قال: " ويعودها في مرضها في ليلة غيرها " فهو سهوٌ عند عامة الأصحاب، قالوا: وإنما قال الشافعي رضي الله عنه: " في يوم غيرها ". (ر. الشرح الكبير: 8/ 365).

(13/243)


التسويةَ بين النساء في الجماع، ونقول: هو موضع تلذذ لا إجبارَ عليه، فمن الأصول بناء الأمر على إمكان الوقاع، وتزجية (1) كل واحدة نوبتها بذلك، فإذا جرى جماعٌ -والغالب أن الليلة الواحدة لا تحتمل أكثرَ من وطأة واحدة- ففي هذا إفسادُ الليلة عليها؛ فعلى هذا، وإن عاد إليها وبات عندها، فلا حكم لهذه البيتوتة.
والوجه الثاني - أنه عصى بما فعل، ولكن لا يلزمه قضاءُ الليلة إذا لم يتفق مكثٌ في زمان محسوس، كما تفصّل من قبل، وهذا متّجه إذا ثبت أنه غير مطالَبٌ بالوطء.
والوجه الثالث - أنه إذا وطىء في ليلتها غيرَها من النساء، فيلزمه أن يصيب المظلومةَ في ليلة تلك التي وطئها في هذه النوبة، وهذا طريق استدراك هذا النوع من الظلم، وهذا القائل يُلزمه الوطءَ، وهو بعيد عن قاعدة المذهب، وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى الوطء ليلاً.
8628 - فأما إذا وطىء واحدةً في نهار الأخرى، فقد ذكرنا أنه كان ممنوعاً عن ذلك، وإقدامه عليه مُحرم، فإن قلنا: الوطء في الليل لا أثر له، فلا أثر له في النهار أيضاًًً. وإن قلنا: الوطء في الليل يفسده، أو يجب تداركه بالوطء في نوبة الموطوءة، فماذا نقول في الوطء نهارً؟ هذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يكون النهار كالليل، ويجوز أن نقطع في النهار بالاقتصار على التعصية.
فصل
قال: "وإن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثاً ثلاثاً ... إلى آخره" (2).
8629 - أقل نوب القسم ليلة، فلو أراد أن يقسمَ الليلةَ في وضع القسم، لم يكن [له] (3) ذلك؛ فإنَّ الاستئناس المطلوب ينبتر (4) ويفسد نظامه بتبعيض الليلة، ولو أراد
__________
(1) تزجية كل واحدةٍ نوبتها بذلك: من زجّى الشيء ساقه، تقول: زجّيت أيامي دافعتها وأمضيتها برفقٍ، والمعنى هنا أن القسم على رجاء إمكان الوقاع من كل واحدة وقضاء ليلتها به.
(2) ر. المختصر: 4/ 43.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) ينبتر: ينقطع. وهذا اللفظ مستعمل كثيراً في كلام الإمام بهذا المعنى.

(13/244)


أن يقسم ليلة ليلة، فله ذلك، وكذلك لو أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، أو ثلاثاً ثلاثاً، فلا معترض عليه في اختيار مقدارٍ من هذه المقادير.
وإن أراد أن يزيد النوبة على الثلاث؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يجوز؛ إذ لا موقف بعد المجاوزة، والثلاث على حالٍ مدةٌ معتبرة في الشريعة في أصولٍ، ثم إذا لم نجد موقفاً وراء الثلاث، فربما نجعل النوبة ستة أو أكثر منها، وهذا يؤدي إلى مهاجَرةٍ في حق اللواتي تتأخر نُوبهن، ثم يترتب [عليها] (1) انتساج وحشة بين الزوج وبين المتخلفات، وإلى تأكد ألفة تنتهي إلى المِقَة، فيحصل من السرف في الازدياد مقتٌ ومِقَة (2)، وقطعهما جميعاً عسر.
فإن قلنا: لا تجوز الزيادة على الثلاث، فلا كلام، وإن جوزنا الزيادة، ففي المسألة وجهان، ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنا لا نقف في موقف، والثاني - أنا لا نتجاوز السبع؛ فإنه منتهى مدة روعيت في هذا الفن؛ لأن للبكر سبع ليال في حق العقد، فاتخذناه معتبراً.
8630 - وعندنا أنَّ رفعَ الضبط وتفويضَ الأمر في أقدار النُّوب إلى الزوج لا يجوز أن يكون معدوداً من المذهب إلاَّ على وجهٍ، وهو أن [تُرتّب] (3) النوب بالقرعة على ما سنصفه، فيجوز أن نتخيل -على بُعدٍ- أن المدة وإن طالت إذا كان المحكَّمُ القرعةَ، فمن [تخرج لها] (4) تقع البدايةُ بها، فلا ينتسب الزوج إلى التهمة في الميل والإيثار.
وهذا أيضاًًً ليس بشيء؛ فإن المقدار الذي يتحتم [على] (5) الزوج لا يضرُّ به الوفاء به، فلو بدا له أن يقلل أو يكثر بعد الوفاء بالتسوية، فلا معترض عليه، والتفريع على البعيد أبعدُ منه، فليخرج هذا الوجه من المذهب.
__________
(1) في الأصل: عليهن. والضمير في (عليها) يعود على تلك النوب الطويلة.
(2) المقة: من ومق يَمِق مقة إذا أحب وعشق (المعجم) ولا يخفى على الفطن ما في الكلام من محسنات البديع.
(3) في الأصل: ترتيب.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: عليه.

(13/245)


ولفظ الشافعي في المختصر: [وأكره] (1) مجاوزة الثلاث، وهذا هو الذي حمل بعض الأصحاب على جواز المجاوزة، والشافعي كثيراً ما يطلق الكراهية والمراد به التحريم.
ولم يتعرض أحد لذكر مدة الإيلاء، وإن كان زمانها معتبراً في الإضرار، ولو سبق إليه سابق، فشرْطُه ألا تزيد النوب على أربعة أشهر زيادة لا تنتهي النوبة إلى الواحدة بعد أكثر من أربعة أشهر.
وهذه احتمالات مختلطة.
فإن ثبت [أن] (2) [تعيين] (3) أقدار الزمان إلى الزوج على النسق الذي [ذكرناه] (4)، فإذا كان يفتتح توظيف النُّوَبِ؛ فالمذهب أنه يحكِّم القرعةَ [أم] (5) الابتداءُ بواحدة باختياره؟
[من] (6) أصحابنا من قال: هذا إليه أيضاًًً، ثم تنتظم النوب.
8631 - ومما يدور في الخلد أنَّا إذا منعنا الزوج من وطء زوجةٍ في نوبة زوجة، فهذا الوطء حرام، [أم] (7) ماذا نقول فيه؟ فإذا حرّمناه وقد صادف محل الحِلّ، كان بعيداً، وإن أحللناه، فهو ممنوع من الجماع بعينه، وليس كالصلاة في الدار المغصوبة، ومما يزداد به الغموض أنَّ الوطء ليس مُستحَقاً عليه لواحدة منهن، فإنه لو لم يطأ واحدة منهن، أو وطىء بعضَهن وانكف عن وطء بعضهن، فلا معترض عليه.
والذي أراه أن التحريم المضافَ إلى الوطء ينقسم: فمنه تحريم يرجع إلى عين
__________
(1) في الأصل: "ذاكره" وهو تصحيف عجيب يشهد بأن هذا الناسخ (يرسم) ولا يقرأ، والله المستعان.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: تعين.
(4) مكان بياض بالأصل.
(5) في الأصل: "والابتداء".
(6) في الأصل: ومن.
(7) زيادة لتوضيح المعنى.

(13/246)


الوطء على التحقيق من غير تعلُّقٍ بحق الغير، هذا هو الذي نُطلق فيه التحريم من غير محاشاة كالوطء في غير محل [الحل] (1)، ثم ينقسم هذا أقساماً لسنا لها، وفي وطء الحائض ما قدمته في بابه.
ومن الأقسام تحريمٌ يتعلق برعاية حق الغير إذا كان مُفضياً إلى إبطال حق له مستَحَق، وهذا كوطء الراهن المرهونة، حرمناه لإفضائه إلى هلاك المرهونة، أو إلى بطلان المالية الصالحة لوثيقة الرهن.
والقسم الثالث - ما نحن فيه، وهو تحريم الوطء لأجل إفضائه إلى إدخال مَغِيظَةٍ على الغير، وإن لم يكن ثَمّ حق مستَحَقّ.
فإذن لو (2) قال قائل: الوطء من جهة مصادفته محلَّ الحل ليس بمحرم، ومن جهة تضمنه جرَّ مغيظة وضراراً من هذا الفن، فهو محرم.
ثم اللائق بالتحقيق النظر إلى المحل والحل، والقطعُ بالإباحة وصرف التحريم إلى إيقاع المغيظة، لا إلى ما وقعت المغيظة به، والقول في هذا يغوص إلى مغاصات الأصول.
8632 - ثم نختم الفصل بذكر إجماع الأصحاب على أنه لا يجب على الزوج التسوية بينهن في الجماع، فإنَّ ذلك موضع تلذذ، لا يليق بمحاسن الشرع الإجبار عليه والتسوية.
فصل
معقود في ظلم الزوج بعضَ نسائه بالقَسْم وإقامته عند صواحباتها 8633 - فنقول: إذا ظلم واحدة، فبات عند ضراتها، ولم يبت عندها، يلزمه القضاء للمظلومة، وأول ما يتّضح القصد به أن نوبتها المستحقة وإن كانت ليلة من أربع ليال، فظُلْمها يقع على تفرق، فإذا ألزمنا الزوج القضاءَ، فإنه يوفيها حقها وِلاءً
__________
(1) في الأصل: المحل.
(2) جواب لو محذوف، تقديره: فقد أصاب، (أو نحوها).

(13/247)


تباعاً، وليس له أن يفرِّق القضاء. وهذا بمثابة ما لو أتلف أموالاً في أزمنة متفرقة على إنسان، فإنه يغرَمُها له دفعة واحدة. وإذا ترك صلوات في مواقيتها عاصياً بتركها، قضاها وِلاءً وإن تركها مفرقة.
ثم صورة الظلم والقضاء ما نَصِفه، فلو كانت تحته أربع نسوة، فبات عند ثلاث ستين ليلة، عند كل واحدة منهن عشرين، فإنه يقضي للمظلومة عشرين ليلة تباعاً.
ولو بات عندهن ثلاثين ليلةً، قضى للمظلومة عشر ليال، ولو كنَّ ثلاثة (1)، فبات عند اثنتين عشرين قضى للمظلومة عشراً.
8634 - وإن تصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها آخراً، فنكح جديدة، فالوجه أن يخص الجديدة بحكم الزفاف -كما سيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى-، إن كانت بكراً، فسبع، وإن كانت ثيباً، فثلاث، وهذا لا يحسب في حساب.
ثم هذه المظلومة تستحق عشر ليال، وإنما يقضي لها من حقوق [اللتين] (2) ظلم الزوجُ هذه بهما، والجديدة لم يظلم الزوج بها.
فقال الأئمة: الوجه أن نُدير الليالي بين المظلومة وبين الجديدة، فنقسم للجديدة ليلة، وللمظلومة ثلاثَ ليال، فتمضي ثلاث نوب، وقد وفّى المظلومة من العشر التي استحقتها تسعاً، فبقي ليلة واحدة، فلو وفاها، جرَّ ذلك عسراً على الجديدة في حقها؛ فإنَّ القضاء إذا انقضى يجب إعادة النوب، وربما لا تنتهي النوبة إلى الجديدة إلاَّ في الخامسة مع احتساب الليلة العاشرة، وحقها أن ترجع النوبةُ إليها في كل أربع ليال إن كانت النوبة ليلة، وهذا إذا وقع أفضى إلى ظلم الجديدة.
وكان شيخي يرتبك في هذه المسألة وتختلف أجوبته، ثم كان يستقر على [أن] (3) هذا تَحَيُّفٌ لازم لا بد منه؛ فإنه لا مستدرك فيه إلا بالتبعيض، وتبعيض الليل مفسد، ولو بعَّضنا، لأضررنا لأجل التبعيض بالأُوليين والمظلومة، وهذا يجر خبلاً، ونحن
__________
(1) ثلاثة: بالتاء، مع أن المعدود مؤنث، ولكن هذا جائز لتقدم المعدود.
(2) في الأصل: الليلتين.
(3) زيادة اقتضاها السياق.

(13/248)


قد نعدل عن المنصوص عليه في الزكاة إلى القيمة حذاراً من التشقيص.
وهذا الذي ذكره محمول على [مسلكٍ من] (1) إعمال النظر في صرف الكلام إلى تمهيد الوجه البعيد.
والذي [قطع] (2) به الأصحاب أن هذا التحيّف يجب استدراكه، ولا طريق في استدراكه إلاَّ التبعيض، ولا يقع ضرر التبعيض موقعاً إذا كان في معارضة إحباط حق.
فإذا ثبت هذا، فالوجه: أن يقضي للجديدة ثُلثَ ليلة؛ فإنَّ الليلة العاشرة دارت بين ثلاثٍ: المظلومة والأُولَيَيْن، فانقسمت عليهن أثلاثاًً، فليثبت للجديدة مثلما ثبت لكل واحدة، وهذا لطيف في مجاري الحساب؛ فإنَّ الظلم وقع في ليلة، والقسمة وقعت من ليلة وثلث ليلة، فإنَّ الذي يقتضيه الإنصاف التسويةُ بينهما، ولا سبيل في طلب التسوية إلا هذا، فإذا قضى لها ثلث ليلة، فالوجه: أن يخرج ويبيت عند صديق في بقية الليل، فإنَّ تخلل الفُرَج في النّوَب ليس ظلماً، إنما الظلم في الإقامة عند بعضهن تخصيصاً وترك بعضهن.
ولو كان يدير عليهن النُّوبَ ليلة ليلة، وكان يخلل في أثناء النوب فرجات، فلا بأس عليه.
فإن قيل: في أصل المسألة سؤال؛ فإن المظلومة إذا كانت تستحق قضاء عشرٍ وأدرنا النوبَ بينها وبين الجديدة على أربع، فكما نُثبت للجديدة في كل أربع ليلةً متجددة، فنثبت للمظلومة أيضاًًً ليلة متجددة، فما لنا نحسب لياليها من محض الظلم، ولا نثبت لها مما يتجدد في الزمان مزيداً؟ قلنا: هذا خيال؛ فإن اللتين وقع الظلم بهما (3) كانتا تستحقان من تلك الأيام شيئاً، فقد جرى [التدارك] (4) على نحو الظلم، وهذا متجه لا خفاء به.
__________
(1) في الأصل: ملك عن.
(2) في الأصل: وقع.
(3) اللتين وقع الظلم بهمات المراد الزوجتين اللتين بات عندهما، وظلم الثالثة قبل أن يتزوج الرابعة.
(4) في الأصل: بالتدارك.

(13/249)


8635 - ولو طلَّق المظلومة، فقد سقط حقُّها في الحال، ولكن بقيت مظلمتُها في القيامة وإن سقطت طَلِبتُها، ولو راجعها، فهي على حقها؛ فإن النكاح واحد، ولو أبانها ثم جدد النكاح عليها، قال القاضي: عليه قضاء ما ظلمها به في النكاح الثاني، وهذا متجه، وكأنَّا نقول: لم يسقط حقها، ولكن تَعذَّر إمكانُ إبقائه، فإذا عاد الإمكان، فالحق قائم كما كان.
ويتجه جداً تخريج هذا على القولين في عَوْد الأحكام في النكاح الثاني.
وأقربها شبهاً بما نحن فيه طَلِبة المُولَى عنها في النكاح الثاني. وقد ينقدح في ذلك فرق؛ فإنَّ عود [الحق] (1) في الطلاق فيه بُعدٌ، من جهة أنه [قطع] (2) حِلَّ نكاح مضى، وإيلاء المولي في وضع اليمين باقٍ، [بدليل] (3) أنه لو وطئها في النكاح الثاني، حنث.
وليس قضاء الظلم من هذه المآخذ، وإنما هو من المأخذ الذي ذكره، وهو عُسر التوفية، فإذا زال العسر، فالطلبة قائمة.
8636 - ووراء ما ذكرناه غائلةٌ، وهي أن هذا إنما يتجه إذا جدد النكاح على المظلومة، واللواتي وقع الظلم بهن باقيات تحته، فإن استبدل بهن، فلا يقضي الظلم أصلاً؛ فإنه لو قضاه، لظلم الجديدات.
ولو لم يُفرض بينونة، ولكن ظلم واحدةً بعشرين ليلة، ثم لم يُبنها، بل أبان اللواتي وقع الظلمُ بهن، واستبدل عنهن جديدات، فلا يتصور القضاء؛ فإنَّ القضاء لا معنى له إلاَّ أن ينقطع عن اللواتي وقع الظلمُ بهن، ويشتغل بتوفية حق المظلومة، وهذا بيّن لا إشكال فيه.
__________
(1) في الأصل: الحث.
(2) في الأصل: "علّق" والمثبت اختيارٌ منا لأن الحديث عن نكاحٍ ثانٍ بعد بينونة قطعت الحل.
(3) في الأصل: بذلك.

(13/250)


فصل
قال: "ويقسم للمريضة والرتقاء ... إلى آخره" (1).
8637 - حق القَسْم يثبت للنسوة، وإن كان بهن موانعُ طبيعيةٌ أو شرعيةٌ من الوقاع، فيقسم للمريضة، والرتقاء، والحائض، والنفساء، والتي ظاهر عنها -وإن كان لا يقربها حتى يُكَفِّر- وكذلك يقسم للصائمة، والمُحْرِمة؛ والسبب فيه أن المقصود الظاهر من القَسْم الإيناس، ولسنا ننكر أن المقصود الأقصى الوقاعُ، أو تزجيةُ الوقت على [رجائه] (2)، ولكن عماد القَسْم الإيناسُ، واجتنابُ التخصيص، والحذرُ من الإضرار، بإظهار [الميل] (3) وهذا يتضمن إشراكَ اللاتي ذكرناهن، والتي آلى عنها زوجُها إذا انقضت مدة الإيلاء، فلها المطالبة بالطلاق، والمطالبة بحق القَسْم على البدل، وإليها الخِيَرةُ.
8638 - ثم إن كان الزوج يسكن منزلاً، وكان يدعوهن في نُوَبهن، فعليهن أن يحضرنَه، ومن امتنع منهن، فهي ناشزةٌ، ويسقط حقها من القسم في نوبة امتناعها.
وإن كان يدور عليهن في مساكنهن، فليفعل من ذلك ما يراه.
وإن كان يُساكن واحدة منهن، وكان يدعو إلى دارها ضَرّاتِها، فلهن أن يمتنعن؛ فإنَّ مُساكنة الضَّرَّة لا تجب.
والقول في تفصيل المساكنة، واشتمالِ دارٍ على حُجَر يأتي مستقصًى في كتاب العِدد، إن شاء الله عز وجل، ومحل غرضنا: منْزِلٌ مُتحد لا يجوز للزوج أن يُسكنه ضرتين (4).
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 43.
(2) كذا قدرناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف.
(3) في الأصل: المثل.
(4) خالف ابنُ أبي عصرون الإمامَ في هذا، فعقَّب قائلاً: "قلت: وهذا الإطلاق لا يصح؛ فإنهما إذا رضيتا بذلك، جاز" ا. هـ.

(13/251)


ولو كان يدعو بعضَهن ويصير (1) إلى بعضهن في منزلها، فقد قال القاضي: ليس هذا من العدل والتسوية.
ولست أرى [الأمرَ] (2) في هذا بالغاً مبلغ [الحظر] (3)، وإنما هو ممّا يُفرض من التفاوت في [التهلّلِ] (4) والاستبشارِ والوقاعِ نفسِه- وإن استُثْني الوقاع بخروجه عن الاختيار، فالاستمتاعات الاختيارية كالقبل [واللثم والالتزام] (5) لا تشترط [فيها] (6) التسوية.
وقد ينقدح في ذلك فرق، فإنَّ تخصيص البعض بالمسير إليها، وتخصيص البعض بالاستدعاء، قد يورث [ضغينةً] (7) وإظهارَ تفاوت في الميل والتقديم والتأخير، ومع هذا يجب القطع بأنَّ هذا القدر من التفاوت محتمل؛ لأنَّ تفاوت الأقدار والمناصب قد يقتضي هذا القدر، فلا ينتهي الأمر فيه إلى التحريم.
8639 - ثم قال الشافعي: "وإن سافرت بإذنه ... إلى آخره " (8).
إذا سافرت المرأة، ففي سفرها ثلاث مسائل: إحداها - أن تسافر دون إذن الزوج، فهي ناشزة، لا قَسْمَ لها ولا نفقة.
والمسألة الثانية - أن تسافر [الزوجة] (9) بإذن الزوج، بأنْ كان أشخصها في شغل من أشغال نفسه فنفقتها دارّة، وحقها من القسم ثابت، فإذا عادت وكان أقام في غيبتها عند ضراتها، فيجب عليه أن يقضيَ حقَّها، كما بيِّنا كيفية القضاء فيما مضى.
__________
(1) يصير: أي يمضي إلى بعضهن، كما عبر بذلك الرافعي والنووي.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "الحصر". والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون.
(4) في الأصل: التملك.
(5) في الأصل: والقيم والإلزام.
(6) زيادة من المحقق.
(7) فى الأصل: مريضة.
(8) ر. المختصر: 4/ 44.
(9) في الأصل: الزوج. وهي صحيحة، ولكن جرى الفقهاء في الأبواب كالميراث والنكاح على استعمال (الزوجة) بالتاء لدفع اللبس.

(13/252)


والمسألة الثالث - أن تخرج بإذن الزوض في حاجة نفسها ومُهمٍّ سَنَحَ لها، فإذا كان ذلك، فالمنصوص عليه في الجديد: أنه يسقط حقها من القَسْم ونفقتِها، وقال في القديم: لها القسم والنفقة؛ لأنها خرجت بالإذن والرضا. والصحيح: القول الجديد؛ فإنها اشتغلت عن الزوج بما هو خالص حقها، فيبعد أن يثبت حقها على الزوج وهي مشتغلة عنه، وهذا في القَسْم على نهاية الوضوح؛ من جهة أن طمعها في استمرار حقها من القسم مع اشتغالها بغرضها عن استيفاء الحق طمع في غير مطمع، فالإذن لا يفيدها إذاً إلا سقوطَ المأثم.
8640 - ثم قال: "وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه ... إلى آخره" (1).
ذهب أئمة المذهب إلى أنَّ الزوج إذا جُنَّ، فإنَّ حق القَسْم ثابت، كما كان من قبل، وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه، مع رعاية التسوية، وإن رأى، دعاهن إليه في نُوَبهن. ثم قالوا: لو ترك الوليُّ حقَّ واحدة، وخصَّ الزوجَ بالباقيات، فهذا ظلمٌ يجب تداركه بطريق القضاء كما تقدم، فإنْ تداركه الوليُّ بنفسه جاز. وإن أفاق المجنون، وقامت البينة على ما جرى من الظلم، واعترف به اللواتي وقع الظلم بهن، فيجب عليه أن يقضي إذا [استبلَّ] (2) واستبد (3) به.
وإن لم تقم بيِّنة، ولم يثبت اعتراف، فقول الولي غيرُ مقبولٍ في دعوى ظلمٍ جرى؛ لأنَّ الولاية قد انقطعت بالإفاقة؛ فلم يبق للولي سلطان. وإذا زال سلطان الولاية، زال بزواله قبولُ القول. هذا مسلك الأئمة المعتبرين.
8641 - وذكر بعض المصنفين وجهين: أحدهما - ما ذكرناه.
والثاني - أن حق القسم يسقط بالجنون، فلا مطالبة على الولي برعايته؛ فإنَّ الغرض الأظهر من القَسْم الإيناسُ، والمحذورُ من التحيف فيه إظهارُ الميل،
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 44.
(2) في الأصل: استقل. ومعنى استبل أي شفي.
(3) استبدّ به: أي ملك القضاء وانفرد بالتصرف.

(13/253)


والإضرارُ بهذه الجهة بالتي يقع التخلف عنها، وهذان المعنيان مفقودان من المجانين.
وهذا لا بأس به، وإن لم أرَه إلا في هذا التصنيف ومؤلفه مجهول (1) عثورٌ (2) في المذهب.
وعندي وراء ذلك نظر، وهو أن مخاطبة الولي بأنْ يطوف به عليهن لا وجه لها؛ فإنَّ الزوج العاقل لو أراد التخلف عنهن، فلا مطالبة عليه، وإنما يُطَالَبُ الوليُّ بما يُطَالَبُ به الزوجُ لو لم يكن مَوْلياً [عليه] (3).
ولو أدخل الوليُّ واحدةً على الزوج، فهل يجب عليه أن يُثبت لكل واحدة مثلَ هذا؟ هذا محل النظر، فالذي ذكره معظم الأصحاب: أنه يجب؛ تنزيلاً للولي منزلة الزوج. والذي ذكر في هذا التصنيف أن ذلك لا يجب على الولي؛ فإنَّ عماد القَسْم ما ذكرناه من اجتناب إدخال المغايظ على المحرومات بتمخصيص المخصَّصات، وهذا إنما يُفزع قلوبَهن من جهة الزوج، فأما الولي، فلا يتعلق بفعله هذا.
وما ذكره الأصحاب أظهرُ؛ طرداً للقياس الذي مهدناه من أن الولي مُخاطبٌ في المجنون بما يُخاطب به الزوجُ لو كان عاقلاً. ونحن وإن راعينا ترك الإضرار واجتناب المغايظ، فلسنا ننكر كونَ القسم حقاًً مطلوباً.
وبقي في المسألة نظر في أنهن لو جِئْنَ وقُلنَ: للزوج أن يتخلف عنا بجملتنا لو كان عاقلاً، بناءً على الاختيار والإيثار، ونحن في أثناء ذلك نرجو عودَه إلى القَسْم، وإذا
__________
(1) مجهول: أخشى أن تكون (جهول). فبعض المصنفين الذي يقصده الإمام ليس مجهولاً! وقد صرّح النووي بأن صاحب هذا الوجه هو الفوراني. (الروضة: 7/ 347). وغفر الله لإمامنا إمام الحرمين، فليس أبو القاسم الفوراني جهولاً، ولا مجهولاً، ولكنه "استيلاء النقص على البشر".
(2) عَثور: أي كثير العثرات. وقد أشرنا أنه يقصد بقوله: "بعض المصنفين" أبا القاسم الفوراني، وأنه كثير الحطّ عليه. ولكن لم يبلغ ذلك إلى الوصف بأنه (مجهول عثور) إلا هذه المرة. ومع ذلك يُظهر إعجابه بقوله، ويثبته في كتابه. ويا للعجب كيف يصنع الغضب حتى بالكبار!!
(3) في الأصل: عنه.

(13/254)


جُن الزوج وأطبق الجنون، فلا إيثار له، فلو منعْتَه عنا، لكان ذلك إضراراً [بنا] (1)؛ فقد يتجه إذا لم يكن على الزوج ضرر من الوقاع أن تجب إجابتهن، فظاهر النص دال عليه، فإنَّ الشافعي قال: وعلى ولي المجنون أن يطوف به على نسائه، وفحوى كلام الأئمة دالةٌ على حمل ذلك على التسوية، حتى لو فرض الامتناع عن إدخاله عليهن [جملةً] (2)، فالمسألة محتملة جداً. وقد أشرنا إلى وجوه الكلام في أطراف المسألة، وما حكيناه من الوجهين في بعض التصانيف يمكن حمله على هذا الطرف أيضاًًً.
8642 - ثم إن كان يُجن يوماً، ويُفيق يوماً، فليس من العدل أن نجعل نوبة الجنون لواحدة، ونوبةَ الإفاقة لواحدة، ولكن الوجه: أن [نبني] (3) نوبة الجنون ونوبة الإفاقة إمَّا على التناوب، وإمَّا على الجميع.
وحكى الأئمة أيضاًً للشافعي [قولاً] (4) في أنَّ الرجل إذا كان مفيقاً في نوبةِ واحدةٍ، مجنوناً في نوبة الأخرى، فأيام الجنون غيرُ محسوبة على التي كان الزوج مجنوناً في نوبتها، ونجعلُ كأنَّه غاب عنها، فإذا أفاق، وفّاها حقها مثلما وفَّى للأولى في حالة الإفاقة.
وهذا [يُحوج] (5) إلى تدبر؛ فإنَّ أيام الجنون على الجملة أيام قَسْم على ظاهر النص. وقول الأصحاب، [بإخراج] (6) أيام الجنون عن الاعتبار فيه بعضُ النظر: يجوز أن يُقال: إن لم ترض بالإقامة عندها في أيام الجنون وانتظرت الإفاقة، فلها ذلك؛ فإنها تقول: أقام عند صاحبتي عاقلاً والتسويةُ مرعية، فأما إذا [أقام عندها] (7) في الجنون، فهذا منها بمثابة الرضا بعيبِ ما يجوز رده بالعيب، فإن لم يكن بأيام
__________
(1) في الأصل: بينا.
(2) في الأصل. بجملته.
(3) في الأصل: بين.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: يخرج.
(6) في الأصل: فإخراج.
(7) في الأصل: أقامت عنده.

(13/255)


الجنون اعتبار، فهذا يؤكد سقوطَ حكم القَسْم في أيام الجنون بالجملة، كما نقلنا التردد [فيه] (1)، والله أعلم.
8643 - ثم قال الأئمة: إن كان الزوج محجوراً سفيهاً، فهو في نفسه مخاطب بالتسوية بينهن؛ فإنه عاقل مكلف، ولا مدخل للولي في هذا.
8644 - ثم قال: "وإن خرج من عند واحدة في الليل أو أخرجه السلطان ... إلى آخره" (2).
إذا كان الزوج عند واحدة في نوبتها، فخرج في بقية الليل باختيارٍ، أو أخرجه السلطانُ، فقد تبعض على صاحبة النوبة حقُّها في هذه الليلة، فيجب على الزوج قضاءُ ما فاتها من حقها، ولم يصر أحدٌ من الأصحاب إلى أن ما مضى من الليل يبطُل ويتعطل حتى يجب قضاء الليلة بتمامها، وإن كنَّا ذكرنا وجهاً في أنه لو جامع في نوبةِ واحدةٍ ضرّتها، فقد بطلت الليلة، وهذا الوجه حيثما ذكرناه ضعيف. ثم الفرق لائح؛ فالذى يجب قضاؤه المقدارُ الذي فات.
ثم إذا أراد قضاءه وتحته امرأتان مثلاً، فالوجه: أن يبيت المقدار الذي كان فيه عند تلك الزوجة عند صديقٍ، أو في مسجدٍ، فإذا انتهى إلى الزمن الذي خرج فيه، عاد إليها وأقام عندها، ولا يضر تخلفه عن ضرتها في ليلة تامة؛ فإنّ تخلل التفريق والفُرَجُ في خلَلَ القسم ليس ظلماً، إذا لم يكن فيها مقيماً عند واحدة؛ فإذاً المقدار الذي كان فيه [ثاوياً] (3) عند صديق مستثنى من حساب نُوَبِ القَسْم، وإنما المحسوب المقدار الذي [يقضيه] (4).
ثم التبعيض في هذه الصورة محتملٌ على الضرورة، وإن كنا نمنع من وضع القَسْم على أنصاف الليالي؛ فإنما نمنع ذلك على الاختيار، وإذا حَمل عليه اضطرارٌ في القضاء، فلا بد من احتماله.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/ 44.
(3) في الأصل: ثابتاً.
(4) في الأصل: يقتضيه.

(13/256)


وإن أراد الذي يبغي قضاء نصفِ ليلة أن يبيت في النصف الأول عند زوجتيه؛ فهو ممكن، فليجعله نصفين في المقدار متساويين، يقيم في أحد النصفين -وهو ربع الليلة - عند إحداهن، ويبيت في الربع الآخر عند الأخرى، وقد حان وقت القضاء. والأشبه أن يقيم عند التي يقضي لها ثلاثةَ أرباع ليلةٍ ليلةً وِلاءً حتى [لا] (1) يحتاج إلى الانتقال.
8645 - ثم قال: "وليس للأماء قَسْمٌ، ولايُعطَّلْن" (2)، [لا] (3) خلاف أنه لا قَسْم للإماء، ولا قَسْم للمستولدات أيضاًًً، وإن ثبت لهن أحكام الفراش عند بعض العلماء، ثم كما لا قَسْم لهن مع الزوجات، لا قسم بينهن [والمولى] (4) بالخيار فيهن -وما ينشأ من إسقاط حكمهن، وهو عظيم الوقع على الحرائر المنكوحات-[أن] (5) الزوج لو أقام عند أَمَةٍ دهراً، فلا اعتراض عليه، مع العلم بما يتداخل الزوجات من ذلك، ولكن مقتضى الشرع أنهن مخرجات من الاعتبار نفياً وإثباتاً، وإنما يُطلب حق القسم إذا دخل على واحدة من المنكوحات، فللباقيات جينئذٍ أن يُطالبنه بالتسوية.
8646 - ثم ذكر الشافعي فصلاً في إضرار الرجل بامرأته، ورفْعِها شكواها إلى مجلس القاضي، ونحن نرى تأخير ذلك إلى باب الحَكَمَيْن، وفيه نذكر إضرارها ونشوزَها عليه، والتباسَ الأمر بينهما، وقد عقد الشافعي في النشور باباً مُفرداً.
8647 - ثم قال: "وله منعها من شهود جنازة أمها وأبيها، وما أحب ذلك ... إلى آخره" (6).
للزوج أن يُلزم المرأةَ لزومَ البيت، ويمنعَها من الخروج حسماً (7)، ويمنعها عن
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ر. المختصر: 4/ 44.
(3) في الأصل: في.
(4) في الأصل: والأولى.
(5) في الأصل: لهن.
(6) ر. المختصر: 4/ 44.
(7) حسماً: أي قطعاً (المعجم).

(13/257)


عيادة الوالدين إذا مرضا فضلاً عن زيارتهما، ويمنعها عن شهود تجهيزهما إذا ماتا، هذا الحق ثابت له إجماعاً.
ولكن قال الشافعي: "وما أحب ذلك". أراد: أني لا أستحب للزوج الغلوّ إلى هذا الحد؛ فإنه سرف يُفضي إلى الحمل على قطيعة الأرحام، ثم فيه حملُها على ما تمقُت به الزوَج وتفرَكُه (1) لأجله، ثم يتنغص العيش عليه، فيؤدي الأمر إلى قطع الوُصلة، والمسلك المستقيم رعايةُ القصد على التعميم، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، فلا ينبغي أن يأذن لها في التبرج، ولا يمنَعها عن زيارة الأبوين وعيادِتهما، وشهودِ تجهيزهما، أو زيارةِ القبر، فأمَّا اتباع الجنازة إلى المقبرة؛ فإنه هُتكة وتكشف؛ فالأولى منعها.
...
__________
(1) تفرَكُه: أي تبغضه.

(13/258)


باب الحال التي يختلف فيها حال النساء (1)
8648 - مضمون الباب الكلامُ في حق [الزِّفاف] (2). فنقول: إذا نكح الرجل بكراً أو ثيّباً، وعنده زوجات، فتُخَص المزفوفةُ إليه بحقٍّ في العقد غيرِ محسوب في نُوَبِ القَسْم، فإذا انقضى ذلك، كما سنصفه، عاد إلى ترتيب النُّوَب، فإن كانت الجديدة بكراً، خَصّها بسبع ليالٍ، وإن كانت ثيِّباً خَصّها بثلاث ليالٍ، ثم لا تحسب السبع والثلاث على الجديدتين، ولا يلزمه قضاؤهما في حقوق المتقدمات.
وأبو حنيفةَ (3) يجوِّز التخصيصَ، ويُلزم القضاءَ في البكر والثيب. ومعتمد الشافعي ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام عند أم سلمة لما زُفت إليه ثلاثَ ليال، فلما انقضت، فارقها، فتعلقت برسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أهلك هوان! إنْ شئت سبَّعتُ عندك وسبَّعت عندهن، وإن شئت ثلّثت عندك ودُرت " (4). وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للبكر سبع، وللثّيبِ ثلاث" (5). فالباب موضوع على الخبرِ، ومقتضاه ما ذكرناه، فللبكر سبعٌ، فإنها نفورةٌ، فلا يزول ما بها من الحشمة والحياء إلاَّ بمدة، والثيِّبُ في ذلك دونها، ثم الرجوع في المقادير إلى التوقيف.
8649 - ثم لو أقام عند الثيِّب سبعاً بطلبها ورضاها، أقام عند كل واحدة من
__________
(1) في الأصل: " باب الحال التي يحلف فيها منع النساء " والتصويب من المختصر.
(2) في الأصل: الرقاب.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 190، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 295 مسألة رقم: 785.
(4) رواه مسلم: 2/ 1083 كتاب الرضاع، ح 1460، ومالك في الموطأ: 2/ 529 كتاب النكاح رقم 14، وانظر التلخيص: 3/ 410، ح 1718.
(5) حديث أنس أخرجه البخاري: كتاب النكاح، باب إذا تزوج الثيب على البكر، ح 5214، ومسلم: 2/ 1084، كتاب الرضاع، ح 1461، وانظر التلخيص: 3/ 410 ح 1717.

(13/259)


صاحباتها سبعاً سبعاً، وبطل حقُّ اختصاصها بحق العقد. وإن أقام عندها ثلاثاًً، لم يقض الثلاث.
وإن أقام عندها سبعاً من غير طلبها، لم يبطلُ اختصاصُها بالثلاث، ولم يقض لصواحباتها إلا الأربع الزائدة على مقدار حقها، والتعويل فيما ذكرناه على الخبر، فإنه قال صلى الله عليه وسلم: "إن شئت سبَّعت لك وسبعت لهن -وهذا تصريح بقضاء السبع- وإن شئت ثلثت عنك ودُرت". معناه: عدت في الأدوار إلى أحسابها، ولم أقض الثلاث. وإنما قال هذا، إذ طلبت منه أم سلمة أن يقيم، فإذا لم يكن منها طلب، لم يملك الزوج إبطالَ حقِّ عقدِها بإطالة المقام عندها.
وذكر الأصحاب لِمَا ذكرناه من بطلان حقِ العقد نظيراً، وفي ذلك النظير كلامٌ، ولكنا نذكره، قالوا: لو قطع الجاني يدَ إنسانٍ من المرفق، فقطع المجنيُّ عليه يدَه من الكوع في القصاص، فليس له حكومة في الساعد؛ فإنه قَطَعَ ما لم يكن له قَطْعُه، وعدل عن حقه. وكذلك الثيب إذا عدل عن حقها إلى ما هو حق غيرها.
8650 - ولو أقام عند البكر أكثرَ من سبع، لم يقض لضراتها إلاَّ مقدار الزيادة.
ولسنا نفي بمعانٍ جامعة فارقة، وإنما ندور على مقتضى الخبر، فإذا لم نجد متعلقاً فيه، رجعنا إلى التمسك بالقياس. ومن القياس الجلي ألاَّ يبطل حقُ صاحبِ الحقِ إذا أخذَ أكثرَ من حقه، فأجرينا الزيادةَ على حقِّ البكرِ على هذا القياس، وتركنا ما ذكرناه في حق الثيب من بطلان حقها -إذا طلبت الزيادةَ وأُجيبت- على موجب الخبر.
8651 - ولو طلبت الثيب أن يقيم عندها خمسَ ليال، فهل يبطلُ حقُها بهذا المقدار من الزيادة أو بما دونها؟ أم يتوقف بطلانُ حقِها في الثلاث على أن تطلب السبعَ أم ببعض هذا؟ لم أرَ فيه نصاً، وفي المسألة احتمال تشيرُ إليه الترديداتُ التي ذكرناها.
8652 - ومما يتعلق بالباب أنَّ المنكوحةَ إذا كانت أَمَة؛ فكيف القول في حق عقدها إذا زُفت؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: هي كالحرة، وإن كانت (1) أعلى منها في القسم المستمر في دوام النكاح؛ لأنَّ حقَّ العقدِ لغضِّ الحياء وكسر
__________
(1) وإن كانت أعلى: المراد الحرة.

(13/260)


الحشمة، وهذا يرجع إلى الجِبلَّة، وما يتعلق بالجبلات من المُدد لا يختلف بالرق والحرية [ولذا لم يتطرق إليه فرقٌ في مدة العُنَّة والإيلاء] (1) وفيما ذكرناه احتراز عن العدّة.
ومن أصحابنا من رأى تنصيف حق العقد بالرق؛ فإنَّ هذا على مضاهاة القَسْم، وإن اختص بمزيد غرض، فإلحاقه بقاعدة القَسْم أولى.
فإنْ فرعنا على هذا الوجه الأخير، فلا وجه إلاَّ التنصيف، فللأَمَةِ البكر ثلاثُ ليال ونصف، والأيام على حسب ذلك، وللأَمَةِ الثيب ليلةٌ ونصف، والأيام كما ذكرناه، وليس ذلك كالأقراء، فإنَّا لا نثبت للأَمة في العدة قرءاً ونصفاً؛ فإنَّ القروء لا تتبعض، والليلة تتبعض.
فإن قيل: أليس تردَّدَ الأصحاب في الاعتداد بالأشهر، فقال قائلون: تعتد الأمة بشهرين، قلنا: سبب ذلك أنهم رأوا الأصل الأقراء، فأثبتوا شهرين في مقابلة قرأين.
والأصح أنَّ اعتداد الأمة بشهر ونصف. وهاهنا قطعوا بالتنصيف؛ إذ لا أصل يمتنع التبعيض فيه.
8653 - ثم قال الشافعي: "ولا أحب أن يتخلف عن صلاة ولا عن شهود جنازة ... إلى آخره" (2).
أراد بهذا أنَّ الزوج في إقامته أيام الزفاف عند زوجته ينبغي أن لا يترك إقامة الجماعات والخروج لها، وهذا إنما ذكره الشافعي على ظهوره؛ لأنَّ أهل الحجاز يعتادون لزومَ بيت العرس إلى انقضاء أيامٍ، لا يرون البروز فيها، فأبان أنَّ تلك العادة لا أصل لها.
...
__________
(1) عبارة الأصل: "وإذا لم يتطرق إليه بعد المدة العُنَّة والإيلاء" والمثبت تصرف من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/ 45.

(13/261)


باب القَسْمِ للنساء إذا حَضَرَ سفرٌ
8654 - نقول في صدر الباب: إذا أراد الانتقال إلى بلدة أخرى، فهو بين أمرين، إمَّا أن يستصحبَ جميعَ زوجاته، وإمَّا أن [يخلّفهن] (1)، ولا معترض عليه في ظاهر الحكم في واحد من الأمرين.
وأمَّا إذا أراد أن يستصحب بعضَهن، وينتقلَ معها، ويخلِّف الباقيات، فهذا حرامٌ محض.
وإذا كنا نُحرِّم تفضيل امرأة بلحظة من القَسْم؛ لما فيه من إثبات التخصيص والميل، فالانتقال ببعضهن وتعطيل الباقيات أعظم من هذا.
والذي يدور في الخَلَد أنه إذا انتقل إلى بلدة أخرى، وأزمعَ إدامةَ الإقامة، وخلّف الزوجات بجملتهن، فقد يخطِر للفقيه أنهن يتضررن باحتباسهن عمرَهن. وليس كما لو كان يمتنع من الدخول عليهن وهو حاضر؛ فإنهن كنَّ يرجون أن يعود إلى المألوف من معاشرتهن، والعَوْدُ ممكن، [وأما] (2) إذا انتقل وخلّفهن، فهذا ضرر بيِّن، وليس ينتهي الأمر إلى التحريم.
8655 - فإنْ لم يكن سفرُه سفرَ نُقلةٍ، فهو في الخِيرَتين المذكورتين في سفر النُّقلة على ما ذكرناه، فإنْ شاء خلّفهن ولم يستصحب واحدة منهن، وإن شاء سافر بهن.
ولو أراد أن يسافر ببعضهن ويخلِّفَ الباقيات، فليس له أن يفعل ذلك بانياً على تخيّره وإرادته؛ إذ ذلك لو فعله مناقضٌ لوضع القَسْم، من المنع عن إظهار الميل.
وحقه إذا أرادَ المسافرةَ ببعض نسائه أن يقرع بينهن، فيسافرَ بمن تخرجُ القرعةُ
__________
(1) في الأصل: يخلفن.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(13/262)


عليها، وإذا فعل ذلك، فالأيام التي تنقضي في سفره لا يلزمه [قضاؤها] (1) للمخلّفات إذا رجع إليهن.
والأصل في الباب، ما روي عن عائشة أنها قالت: "كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتُها سافر بها" (2). ثم صح بطريق الاستفاضة أنه كان إذا رجع يجري على النوب في القَسْم.
وذكر الأئمة معنى كلياً -والتعويل على الخبر- ونحن نذكر منه ما ينضبط به المذهب إذا تفرعت مسائل الباب، فنقول: المرأة التي تخرج مع زوجها مسافرة، وإن كانت تحظى بصحبة الزوج، فإنها تشقى بما تلقى من محن السفر، وينضم إلى هذه سقوطُ اعتبار الرجل في تحكيمه القرعة. والمخلّفةُ وإن كانت تشقى بفُرقة الزوج، فهي على حظٍّ بالتردد والتودع (3) في البلد. فهذا أصل الباب. وأبو حنيفة (4) يُلزم قضاء أيام السفر للمخلّفات، ولا يجعل للقرعة أثراً في إسقاط القضاء.
8656 - ثم ذكر أئمتنا مسائلَ مرسلةً تأتي على أطراف الباب، ونحن نأتي بها، ثم نجمعها في ربقة جامعة.
__________
(1) في الأصل: قضاؤه.
(2) حديث عائشة رواه البخاري: كتاب النكاح، باب القرعة بين النساء إذا أراد سفراً، ح 511، ورواه مسلم: كتاب فضائل الصحابة، ح 2445، وانظر (تلخيص الحبير: 3/ 412 ح 1721).
(3) التودع: الإقامة والدّعة.
(4) لم أر هذا عند الأحناف، لا في مختصر الطحاوي، ولا في مختصر اختلاف العلماء، ولا في حاشية ابن عابدين. بل وجدت عكس ذلك في الاختيار لتعليل المختار: 3/ 117، قال ما نصه: "ويسافر بمن شاء، والقرعة أولى ... ومن سافر بها لي عليه قضاء حق الباقيات؛ لأنه كان متبرعاً، لا موفياً حقاًً" ا. هـ. وحكى الرافعي عن الغزالي في الوسيط أنه قال: إن أبا حنيفة رحمه الله، قال بوجوب القضاء (ر. الشرح الكبير: 8/ 380، والوسيط: 5/ 300). قلتُ، عبد العظيم. تبع الغزالي شيخه في هذا النقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو مخالف لما رأيناه عند الأحناف، فهل هو وهم في النقل، أم هو قول مهجور لأبي حنيفة رضي الله عنه؟ وانظر أيضاًًً (البدائع: 2/ 333، والهداية: 1/ 222) لترى أنهما أيضاًً يقولان بعدم القضاء للمخلّفات، وانظر أيضاًً: المبسوط: 5/ 219، وابن عابدين: 2/ 401.

(13/263)


فمما ذكروه: أن الرجل إذا بلغ المقصد، فلو نوى مقام أربعة أيام، فعليه قضاؤها للمخلَّفات إذا رجع؛ فإنه في إقامته خرج عن حكم المسافرين، وهذا مما أجمع عليه أئمة المذهب، القاضي، والصيدلاني وغيرهما.
ثم إذا ابتدأ الرجوعَ، فهل يلزمه قضاءُ مدة الرجوع؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - يلزمه؛ فإنه من وقت الخروج عن حد المسافرين، انقطع حكم السفر المُسقط للقضاء، فتلتحق أيام رجوعه بأيام إقامته.
والوجه الثاني - أنه لا يقضي للمخلفات أيام الرجوع؛ فإنه من وقت ابتداءِ الرجوعِ تركَ ما لابَسَهُ من الإقامة، وعاد إلى حكمِ السفر، وقد اقتضى السفر سقوطَ القضاء، وهو من وقت الرجوع مسافر.
وناصر الوجه الأول يقول: الظاهر يقتضي أن يقضي للمخلَّفات إذا خصص واحدة من الضَرَّات بالصحبة، ولكن القرعة اقتضت جواز التخصيص من غير قضاء، فإذا انقطع حكم القرعة بالإقامة، لم يعد حكمُها، ولا بد من استفتاح قرعة أخرى، ولا سبيل إلى ذلك إلاَّ عند العَوْد، وفرضِ إنشاء سفر، وابتداء إقراع عنده، وهذا بمثابة ما لو اعتدى المودَع وضمن، فإذا ترك العُدوان، لم يعد أميناً؛ [إذ] (1) جرى الائتمان أولاً مطلقاً.
ثم إن حكمنا بأنه يقضي أيام رجوعه للمخلفات، فلا كلام، وإن حكمنا بأنه لا يقضي؛ فالذي قطع به الأئمة: أن الأيام التي لا يقضيها أولها من وقت خروجه متوجهاً إلى الوطن الذي به المخلّفات.
8657 - وفي بعض التصانيف أنَّ أول الوقت [عند] (2) عزمه على [الانكفاء] (3) وقصده. وهذا غلط [صريح] (4)؛ فإنَّ حكم الإقامة إذا ثبت لا يزول إلا بمزايلة المكان الذي ثبت حكم الإقامة فيه.
__________
(1) في الأصل: إن.
(2) في الأصل: عن.
(3) في الأصل: الانكفاف. والانكفاء: هو الرجوع.
(4) في الأصل: صحيح.

(13/264)


وإنما وقع لهذا المصنف هذا من قول الأصحاب: إنه إذا قصد الإقامة، لزمه القضاء من هذا الوقت؛ فظن أن قصد الرجوع في قطع الإقامة كقصد الإقامة في قطع السفر، وهذا ظاهر السقوط، ولا مصدر له عن فكرٍ؛ فإنَّ الإقامة تحصل بمجرد القصد، كما تحصل [القِنية] (1) في البضائع لمحض النية، ولا تنقطع الإقامة إلاَّ بفعل السفر، كما لا ينعقد حول التجارة إلا بإنشاء عقد التجارة، فليس هذا إذاً معدوداً من المذهب.
وقد ذكر العراقيون اختلافاً للأصحاب على مناقضة هذا، فقالوا: إذا سافر الرجل ببعض نسائه عازماً على الانتقال إلى البقعة المقصودة، فهذا ظلم منه، وإذا انتهى إلى البقعة [المأمومة] (2)، فالأيام التي تتفق الإقامة فيها (3) بها مقضية، والأيام [التي] (4) قطع [فيها] (5) المسافة من الوطن إلى البقعة، فعلى وجهين: أحدهما - أنها لا تُقضى؛ فإنها أيام سفر، والمسألة مفروضة في الإقراع واتباع خروج القرعة لا محالة.
والثاني - أن تلك الأيام مقضية؛ فإنها قصدُ ظلم، فكانت في معنى الظلم، وهذا [أوجه] (6)، والوجه الأول مزيف، وليكن ميل الفقيه في الباب إلى القضاء، مهما وجد فيه مستمسكاً.
8658 - وإذا أقام في البقعة التي قصدها، وثبت له حكم الإقامة، وانقطعت رخص المسافرين، ثم إنه أنشأ سفراً من تلك البقعة قُدُماً، وهو مُستدبر وطنَه مثلاً، فإن قلنا: أيام رجوعه إلى الوطن مقضية- فهذه الأيام مقضية، وإن قلنا: أيام الرجوع
__________
(1) غير مقروءة بالأصل. والقِنية: الاقتناء، يشير الإمام بها إلى أن من يملك عروضاً للتجارة، إذا نوى القِنية، أي نوى اقتناءها، واتخاذها لنفسه، ينقطع حول التجارة بمجرد نية القِنية.
(2) في الأصل: المأمونة.
(3) فيها: أي في البقعة المأمومة. وبها: أي بالزوجة التي معه. فالمعنى: الأيام قضاها في البقعة بهذه الزوجة.
(4) في الأصل: الذي.
(5) زيادة من المحقق.
(6) في الأصل: الوجه.

(13/265)


لا تُقضى، فالحال ينقسم في تقدمه بالسفر، فإن بدا له هذا السفر الآن، ولم يكن [عازماً] (1) عليه في خروجه الأول، فهذه الأيام مقضية؛ فإنه أنشأ السفر عن إقامةٍ، وما كان عزم عليه قبلُ.
وإن كان نوى أن يمتد إلى بغداد، فأقام بالرَّي الإقامة التي وصفناها، ثم استتم سفرته إلى بغداد؛ فهذا فيه احتمالٌ، على قولنا: أيامُ الرجوع غيرُ مقضية، والأوجه هاهنا: وجوب القضاء.
ويجوز أن نَفْصل بين أن يقطع نيةَ السفر، ثم تبدو له فيعود، وبين أن يكون مستديماً لنية السفر الأقصى، ولكن نوى إقامة أيامٍ في بقعة، فتنتظم أوجه، وجهان عامَّان في النفي والإثبات، ووجه مُفَصَّل، كما نبهنا عليه.
ولو نوى مُقام المسافرين، فهو مسافر، لا يتغير من الحكم الذي ذكرناه في القسم شيء.
8659 - وذكر العراقيون أنه إذا سافر ببعض نسائه سفراً قصيراً، فيلزمه القضاء، وزعموا أن القضاء إنما يسقط في السفر الطويل عند فرض القرعة المسقطة للاختيار، وكأنهم عدُّوا سقوط القضاء في مقابلة المشقة التامة.
وكان شيخي يتردد في هذا ويقول: من الرخص ما يتعلق بالسفر القصير والطويل وفاقاً، أو على قولٍ، وأحراها بالذكر الجمع بين الصلاتين تقديماً وتأخيراً.
والوجه عندي: القطع بما ذكره العراقيون (2)؛ فإنَّ ما نحن فيه يضاهي إسقاط العبادات، أو تخلية الأوقات منها. وهذا الفن لا يثبت إلا في السفر الطويل، والله أعلم.
فهذه المسائل أطلقها الأصحاب وما أحوجَها إلى رباط يحويها.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) لم يرجح الرافعي ولا النووي أياً من الوجهين، ولكنهما نقلا ترجيح صاحب التهذيب وصاحب التتمة للتسوية بين السفر الطويل والقصير (ر. الشرح الكبير: 8/ 381، والروضة: 7/ 363).

(13/266)


8660 - وقد أجرى الأصحاب في صدر الباب النُّقلة، وهذا قد يخيِّل أن إقامة أيام وإن جرى العزم عليها لا توجب القضاء، ثم صرحوا بأنه لو أقام أربعة أيام على قصد وعزم- فهذه الأيام مقضية. وكل ما [ذكروه] (1) صحيح.
والضبط فيه أنَّ سفر النُّقلة ببعض النساء محرَّم، يعني تخصيصَ المخرَجة.
والسفرُ إذا لم يكن سفرَ نُقلة، وكانت الحاجة تَمَسُّ إلى إقامة أيام بالقصد، فهذا النوع من السفر مما يسوغ فيه تخصيص بعض النسوة بالقرعة، وليس كسفر النقلة، ويجب قضاء أيام الإقامة؛ لمكان التودّع (2) وزوال المشقة.
وإن كان السفر عرياً عن قصد النقلة، ولم تكن [فيه] (3) إقامة تزيد على مدة المسافرين؛ فيجوز الخروج ببعض النسوة بالقرعة ولا يلزمه القضاء.
8661 - فالأسفار إذن على ثلاث مراتب.
[المرتبة الأولى:] (4) سفر النقلة، وهذا هو الذي لا يجوز الخروج فيه ببعض النسوة؛ فإنه لا يتصور أنْ يجمع من يقصد الانتقال بين قصد الانتقال وقصد القضاء، فيجرد قصدَه ظلماً، فكان مقصودُه محرماً.
والمرتبة الثانية: سفرةٌ (5) فيها تودّع يُسقط رخص المسافرين، فالخروج ببعض النسوة على شرط تحكيم القرعة جائز، ثم أيام الإقامة إذا انقضت مقضيةٌ؛ لما فيها من التودّع.
والمرتبة الثالثة -[هي] (6) سفرة طويلة لا [يتخللها] (7) ولا يتصل بمنتهاها،
__________
(1) في الأصل: ذكره.
(2) التودّع: أي الدعة والراحة من السفر.
(3) في الأصل: فيها.
(4) هذا العنوان من وضع المحقق.
(5) في الأصل: لسفرة.
(6) في الأصل: في.
(7) في الأصل: يتخيلها.

(13/267)


[إقامة] (1) في أيام تزيد على مدة إقامة المسافرين، فيجوز تخصيص بعض النسوة [بالإقراع] (2)، والقضاءُ منتفٍ في جميع الأيام، فإنَّ حكم السفر مطرد فيها.
8662 - ثم ننعطف ونقول: إذا خرج بالبعض وقصدُه النقلة، وأقرع، فعلى أيام خروجه إلى الانتهاء إلى المقصد خلاف، ذكره العراقيون وإذا كان على قصد إقامة أيام في منتهى السفر مثلاً، فأيام خروجه إلى الانتهاء إلى المقصد غيرُ مقضية بلا خلاف.
وأما المرتبة الثالثة، فلا كلام فيه؛ فإنَّ جُملة الأيام عرية عن التودّع، وفيها دقيقة لطيفة، وهي: أنَّ المسافر [إن] (3) كان لا يقيم بمقصده إلاَّ يوماً واحداً؛ فإنه لا يقصر في المقصد ولا يفطر؛ إذ لو عُدَّ ذلك منزلاً، لكانت مرحلة واحدة كافية؛ لأجل أنها إذا حسبت ذهاباً ومجيئاً، صارت مرحلتين، [فإنا نميز] (4) الرخصة في السفر من غرض القَسْم؛ فإنَّا لا نوجب القضاء إذا لم يُقم في مقصده، وإن كان لا يقصر، لأن [مبنى] (5) هذا الباب على زوال التودّع، ومبنى الرخص على انتهاء السفر، والرجوع ابتداءٌ آخر.
والذي يقتضيه هذا القياس أنَّ السفر إذا كان مرحلة واحدة، فيجب أن يكون في إسقاط القضاء [كمرحلتين] (6) في التقصير (7)، فإنَّ مدة الكون في خاصية الباب في منتهى السفر كالإقامة في مرحلة من المراحل، وهذا لطيفٌ حسن، والاحتمال مع ذلك قائم.
8663 - ومما بقي في الفصل: الكلام في أيام الرجوع، فنبدأ بالمرتبة الثالثة، ونقول: أيام الرجوع في السفرة التي لا تودّع فيها كأيام الذهاب، وأيام الرجوع من
__________
(1) في الأصل: أقام.
(2) في الأصل: "بالإخراج".
(3) في الأصل: وإن.
(4) في الأصل: "فإنا نامن الرخصة".
(5) في الأصل: منتهى.
(6) في الأصل: لمرحلتين.
(7) كذا. ولعلها في القصر.

(13/268)


السفرة المبنية على قصد النقلة على وجهين، والأصح فيها: القطع بوجوب القضاء؛ فإنه لم يجر إقراع له حكمٌ في ابتداء الأمر، ولست أرى لنفي القضاء وجهاً، ولكنه مشهور.
فأما أيام الرجوع من المقصد الذي أجرى فيه قصدَ الإقامة لا قصدَ الاستيطان، ففيه وجهان: أصحهما - أنَّا لا نقضي؛ فإنَّ السفرة جائزة بسبب القرعة، وإذا اطَّرد الجواز؛ فلا يُستثنى من سقوط القضاء إلاَّ أيام التودع.
8664 - ومما يعترض في الباب أنَّ المسافر إذا قصد بقعة ولم يُزمع الإقامة في مدة، ولكن ربط أمره بانتجاز حاجة، فالقول في أنه هل يترخص إذا زادت إقامتُه على مدة المسافرين مذكور في الصلاة.
فإن أدمنا الرُّخَصَ، فالأيام غير مقضية، وإن أسقطناها وألحقناه بالمقيم؛ فالقول فيه كالقول في إبرام العزم على الإقامة أربعة أيام، فإن قيل: لا تودّع بمن يبرم عزمه [على الرحيل بانتجاز حاجته] (1)، قلنا: أُلحق هذا الشخص بالمتودّع [بدليل] (2) سقوط الرخص.
8665 - ومما يجري ركناً في الباب أنه لو خرج بواحدة من غير قرعة، فإذا آب، قضى للمخلفات إجماعاً، وينضم إلى وجوب القضاء عصيانُه بالخروج بالتي اختارها؛ فإنه أظهر الميل إليها، فاقتضى ذلك تعصيتَه وإلزامَه بالقضاء، فلا نظر -مع ما ذكرناه- إلى مقاساتها المشقة.
8666 - ولم يختلف العلماء في أنه إذا أقام عند واحدة من نسائه في الحضر ليمرضها، فهذه الأيام مقضيةٌ للأخريات، فإن ماتت المريضة، خرجت من البين (3)، ولم يظهر أثرُ وجوبِ القضاء في حق الباقيات، فالوجه أنْ نقدر كأنَّ التي
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: بالمتودّع به ليل سقوط الرخص.
(3) البَيْن: هذه من ألفاظ إمام الحرمين التي رأيناها في البرهان وغيره، ثم ترددت هنا كثيراً، ومعناها واضح من السياق، وإن لم نجدها منصوصة في المعاجم بهذا المعنى.

(13/269)


ماتت لم تكن. وإن استبلّت وبرئت، قضى تلك الأيام [للباقيات] (1)؛ فإنَّ قيامه بتمريضها يقع [محضاً] (2) لها، وليس كذلك الخروج ببعضهن سفراً؛ فإنها وإن حظيت من وجه، شقيت من وجه.
ثم لا يجوز للرجل أن يقوم بالتمريض ويقطع النُّوبَ إلاَّ عند حاجة. وقد رأيت في هذا تردداً للأئمة، فالذي ظهر من كلام المعظم أنَّا نشترط أن يكون المرض مخوفاً، وأشار مشيرون إلى أنَّ الحاجة الحاقّة كافية، حتى إذا عظمت الآلام -وإن لم تبلغ مبلغ الإخافة [ولم] (3) تجد ممرضاً- فللزوج أن يقوم بتمريضها.
وإذا كان المرض مخوفاً، ووجدت المرأةُ من يقوم بتمريضها ففي جواز قيام الزوج بتمريضها تردد.
وحاصل المذهب أنَّ المرض إذا اشتدَّ ألمُه، [ولم تجد] (4) المرأة غيرَ الزوج، فللزوج تركُ النوب لتمريضها، [وإن وجدت] (5) غيرَه، فعلى التردد.
وللزوج القيام بتمريضها في المرض المخوف إذا لم تجد من يقوم مقامه، فإن وجدت، فعلى التردد.
وقد نجز مضمون الباب تأصيلاً وتفصيلاً، ونحن نذكر على إثر ذلك فروعاً مرتّبة المآخذ ..
فرع:
8667 - إذا سافر بواحدة بالقرعة -حيث يسقط القضاء- فلو تزوج بجديدة في خلال الطريق، فإنه يخصها بحق العقد ثلاثاًً أو سبعاً، ثم يَقْسِمُ بينها وبين التي سافر بها، فلو أراد أن يخلّف إحداهما ببلد، لم يجز إلا بالقرعة، وإذا فعل ذلك بالقرعة، فالتفصيل على ما قدمناه.
__________
(1) في الأصل: الباقيات.
(2) في الأصل: محض.
(3) في الأصل: إذ لم.
(4) في الأصل: ووجدت.
(5) في الأصل: وإن لم تجد.

(13/270)


ولو خرج بامرأتين بالقرعة، جاز، فلو بدا له أن يخلِّف إحداهما ببلد، لم يجز إلاَّ بالقرعة.
ولو ظلم إحداهما في الطريق لصاحبتها، قضاها في الطريق، فإن لم يتفق القضاء حتى رجع، قضى للمظلومة من حق [التي] (1) ظلمها بها دون حق صاحبتها المتخلفتين.
ولو خرج منفرداً، ثم تزوج في الطريق، لم يلزمه أن يقضي للمخلَّفات [كل الأيام] (2) التي صحب فيها المُتَزَوَّجَةَ في السفر؛ لأنه خرج ولا حقَّ لهن، ثم تزوج في السفر، ولا يتصور عليه القَسْم بينهن، وإنما يجب الإقراع في اللواتي يجتمعن تحته حالة السفر، فإذا كان الإقراع يُسقط حق المتخلفات، فابتداء [الزواج] (3) بذلك أولى.
فرع:
8668 - إذا كان تحته زوجتان، فنكح جديدتين، فقد ثبت لهما حق العقد، فلو أراد سفراً وأقرع، فخرجت القرعة على إحدى الجديدتين، فإذا سافر [بها] (4)، فلا شك أن أيامها تندرج تحت صحبة السفر، إذا كان يصحبها.
فإذا عاد، فهل يلزمه أن يوفي الجديدةَ الأخرى حقَّ العقد -إذا لم يكن وفاها من قبل؟ والمسألة فيه إذا زُفَّت إليه، فلم يُقم عندها؟ اختلف أصحابنا في المسألة فيما نقله العراقيون، فمنهم من قال: لا يوفيها حق العقد؛ فإنَّ أيام حق العقد قد انقضت في سفره، كما انقضت نُوبُ القديمتين، ثم لا يجب قضاءُ نوب القديمتين، فلا يجب تدارك حق العقد.
ْومن أئمتنا من قال: يجب أن يوفيها حقَّ العقد، ولا يقاس حقُّ العقد في ذلك بالقَسْم، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي؛ والسبب فيه أن معنى التوحش قائم، وحق القَسْم قد يسقط بأسباب، وهو يجب شيئاً شيئاً، فإذا كان الرجل مسافراً على
__________
(1) في الأصل: الذي.
(2) في الأصل: بكل للأيام.
(3) في الأصل: الزوج.
(4) زيادة من المحقق.

(13/271)


شرط الشرع، فلا يجب للمخلَّفات حقُّ القَسْم. وحق العقد يجب دفعةً واحدة، لا على قياس القسم؛ فإنَّ القسم [للتسوية] (1)، وحق العقد حق مستَحقٌّ في الذمة، فلابد من الوفاء به.
وعندنا أنَّ ما ذكروه في المزفوفة. فأمَّا التي لم يزفها بعدُ إذا أدخلها في القرعة، ولم تخرج القرعة عليها، فإذا عاد وزفها؛ فيجب القطع بأن حقها -والحالة هذه- قائم.
ولو نكح جديدةً وزفها على قديمة، وخرج مسافراً، ولم يستصحب واحدة منهما، فإذا عاد، فالذي أراه أنه يلزمه أن يوفي المزفوفةَ حق العقد هاهنا، فإن مضت أيام في السفر غيرُ محسوبة عليه، وفي المسألة احتمال على حال، والعلم عند الله تعالى.
...
__________
(1) في الأصل: التسوية.

(13/272)


باب نشوز المرأة على الرجل
8669 - للمطيعة المنقادة النفقةُ والقَسْمُ على زوجها. والناشزة هي الممتنعة من التمكين، والأصل في الباب قوله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34]. وقد ذكر الشافعي [للآية] (1) تأويلين: أحدهما - أنَّ هذه الخصال مرتبة على أحوالٍ تصدر منها، فإن خاف الزوج نشوزَها، ولم يبدُ بعدُ عينُ النشوز، بل بدت أماراته، [فيعظها] (2) حينئذٍ.
فإن لم تتعظ وأبدت النشوز، هجرها في المضجع، فإن أصرت وتمادت ولم تحتفل بالهجر في المضجع، ضرَبَها، واقتصد، عالماً بأنه لو أفضى الضربُ إلى الهلاك، أو إلى فساد عضو، ضمن.
وقد يرد لفظُ الجمع والمراد به ذكْرُ المراتب، والتخييرُ فيها على حسب وقوعها، قال الله تعالى في آية المحاربة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]، فاللفظ للتخيير، والمراد به الترتيب على قدر الجرائم، هذا أحد التأويلين.
والثاني - أن [يحصر] (3) معنى الآية فيما بعد وقوع النشوز، وعند ذلك يجمع بين الوعظ والهجر والضرب، فإذا أمكن حمل هذه الخصال على الجمع -وظاهر الصيغة مُشعرٌ بالجمع-، فالأولى أن يحمل على ذلك، فعلى هذا معنى قوله: تخافون، أي: تعلمون النشوز. وقد يرد الخوف والمراد به العلم.
__________
(1) في الأصل: الأئمة.
(2) في الأصل: فيعظلها.
(3) في الأصل: يحضر.

(13/273)


8670 - واختلفت الأخبارُ في ضرب النساء، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تضربوا إماء الله" (1) فجاء عمر وقال: "يا رسول الله [ذَئِر] (2) النساء أي [نشزن] (3) واجترأن، فأذِن في ضربهن، فبسط الرجال أيديهم إلى ضرب النساء، وجاوزوا الحد، فأطاف بآل محمد أي: بحُجَرِ نسائه وأهل بيته صلى الله عليه وسلم نساءٌ كثيرات كلهن يشتكين أزواجهن، فخرج صلى الله عليه وسلم وقال: لقد أطافَ الليلة بآل محمد سبعون امرأة كلُّهن يشتكين أزواجهن!! خيارُكم خيارُكم لنسائكم، لا يضربن أحدُكم ظعينتَهُ ضربه أَمَته" (4).
ثم تكلم الشافعي في ترتيب الكتاب والسنة، فذكر وجهين: أحدهما - أنه يحتمل أن تكون الآية وردت بإباحة الضرب، ثم نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه تنزيهاً، ثم لمَّا استطالت النسوة [بأذاهن] (5) على الأزواج أذنَ في ضربهن، فلما بالغوا، قال آخراً: خياركم خياركم لنسائكم، واستحث على الصبر على أذاهن والإعراض عن مجازاتهن على شكاسة الأخلاق وشراستهن، وهذا [لعمري] (6) هو الأصل.
__________
(1) حديث " لا تضربوا إماء الله " رواه أبو داود: كتاب النكاح، باب في ضرب النساء، ح 2146، والنسائي كتاب عشرة النساء، باب ضرب الرجل زوجته، ح 9167، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب ضرب النساء، ح 1985، والحاكم: 2/ 188، 191، والبيهقي: 7/ 354، (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 413).
(2) في الأصل: دَبُرَ. بهذا الرسم وهذا الضبط.
وذئر النساء: من قولهم: ذئر يذأر ذأراً: أنف وغضب، واستعد للمواثبة، فذئر النساء: أي نشزن على أزواجهن، وذئرت المرأة على بعلها: نثزت، فهي ذئر وذائر (المعجم).
(3) في الأصل: خسرن. وأرها محرفة عن (نشزن).
(4) هذا الحديث مع ما قبله: "لا تضربوا إماء الله" أخرجه البيهقي على نحو سياقة إمام الحرمين تماماً إلا بعض ألفاظ، وفي آخره قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "وايم الله لا تجدون أولئك خياركم" مكان رواية الإمام: "خياركم خياركم لنسائكم، لا يضربن أحدكم ظعينته ضربه أمته" (ر. السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 354).
(5) في الأصل: "بذلتهن"، والمثبت اختيار منا على ضوء السياق، ويساعدنا على هذا الاختيار ورود الكلمة بعد ذلك بسطور.
(6) غير مقروءة في الأصل.

(13/274)


8671 - فإذا تبيَّن أصل الباب، فَسِرُّه وأهمُّ ما فيه: تصوير النشوز، ونحن نذكر فيه ما يشفي الغليل -إن شاء الله عز وجل-، ثم نذكر طرفاً من الكلام في ضربهن، ثم نذكر حكم النشوز.
8672 - فنقول أولاً: لسنا نشترط في النشوز أن تمتنع المرأةُ امتناعاًً لا يدخل في إمكان الزوج ردُّها إلى الطاعة قهراً، بل إذا نشزت وتمكن الزوج من ردها، فهي ناشزة، هذا طرف أطلقناه، ويعارضه أنها لو كانت تمتنع امتناعاً يمكن عده من فنون التدلل والمجاذبة لتكون أشهى، فليس هذا من النشوز، وليس من شرط طاعتها المبادرةُ التي تُخرج من [خَفَر] (1) الحياء إلى تشوُّف التوقان، فما المعتبر إذن في تصوير النشوز؟
فنقول: إن خرجت عن مسكنه، فهي ناشزة على تحقيق، وإن استمكن من ردها. وإن كانت معه، ولكن كانت تمتنع على الزوج امتناعاً يحوجه إلى تأديبها، فقد يتعرض الرجل بسبب امتناعها لضررٍ؛ بسبب تخلف قضاء النَّهْمة والشهوة، فهذا نشوز؛ فإنَّ النشوز ضدُّ الطاعة.
والطاعة معلومة في المنقادة على حسب العادة، وقد تختلف بالبكارة والثيابة، وعلو المنصب، والتوسط في الدرجة، وهذا على تصوير لزوم المرأة أُبهة الحياء، والامتناع هو الذي يلحق إضراراً بالرجل بسبب تأخر الحاجة، أو يحوجه إلى أن ينتصب مؤدِّباً، والنكاح للإيناس والاستئناس، والذي يحقق ذلك: أن الطاعة تمكينٌ منها، وهي تستفيد به تقرير حقها، فإذا احتاج الزوج في تحصيله إلى تضرر أو مقاساة [كُلفة] (2)، فله أن يتركها حتى يضيع حقها.
8673 - والترتيب في ذلك أنها إذا خرجت من مسكن النكاح، فهي ناشزة كيف فرض الأمر، وإن لم تخرج وعُدّت مطيعةً، والزوج لا يحتاج في تحصيل الغرض منها إلى مقاساة كلفة، أو تعرض لضرر أو إقدام على ضرب؛ فهي مطيعة. وإن كان
__________
(1) في الأصل: خفة.
(2) في الأصل: كلفته.

(13/275)


يحتاج إلى كُلفة أو ضرب أو تعرض لضرر، فهي ناشز.
ولو كانت تمكن من الوقاع، وتمنع مما عداه من جهات الاستمتاع، فكيف السبيل وهي ممكِّنةٌ من المقصود؟ فهذا نوع من النشوز، وأقرب أصلٍ إلى ذلك ما ذكرناه في الأَمَة، إذا كان السيد يسلمها ليلاً ولا يسلمها نهاراً، فذاك أولاً سائغ للسيد. ثم في وجوب النفقة خلاف، وما ذكرناه في الحرة غير سائغٍ لها، وهي مُمكَّنةٌ (1) من المقصود، ففي استقرار النفقة تردد، ولكنها مجبرة على ما يحاوله الزوج منها إذا كان لا يكلفها ما لا يسوغ.
فهذا قولنا في تصوير النشوز.
8674 - وليس من النشوز أن تبذو (2) على زوجها، وتستطيل عليه سبَّاً وشتماً، فإنها إذا كانت تُمكِّن مع ذلك، فالتمكين [جارٍ] (3) ولا نشوز، وهي ممنوعة عن المسابّة مزجورة عنه، وإنْ أفضى الأمر إلى التعزير عُزِّرت، وفيه فضل نظر أذكره في فصل الضرب.
8675 - فأما القول في الضرب؛ فالأولى ألاَّ يضرب، وليس كالولي في حق الطفل [العرِم] (4)، فإنَّا نؤثر له أن يؤدبه، والفرق أنَّ الولي يؤدبه لاستصلاحه، والزوج يؤدب زوجته لتصلح له، والضرب ليس فيه توقيف، والجبلاَّت تختلف باختلاف الأحوال في احتمال الضرب، فالأولى ألاّ يتعرض للضرب المفضي إلى الغرر لحظّ نفسه [ففيه] (5) الحيدُ عن الصفح وحُسن المعاشرة.
__________
(1) ممكَّنة: بفتح الكاف هنا، والمعنى أنّ الحرة ليس لديها مانع يسوّغ لها عدم تمكين الزوج من أي جهة من جهات الاستمتاع، بخلاف الأمة لا يسلمها السيد إلا ليلاً.
(2) تبذو عليه: من قولهم: بذُو بذاةً وبذاءة، وبذَوْتُ عليهم وأبذيتهم، من البذاء وهو الكلام القبيح. (القاموس المحيط).
(3) في الأصل: جازٍ (بالزاي).
(4) العرم: من قولك عَرَم فلان يعرُم عَرْماً: اشتدّ وخبث، وكان شريراً (المعجم).
(5) في الأصل: فيه.

(13/276)


وإذا أراد الضربَ، ففي وقته تردد، ذكر العراقيون وجهين في أنَّ الزوج هل يُبادر الضرب بأول نشوز، أم لا يجوز له الضرب حتى يستمر أو يتكرر منها النشوز؟ [وتلقَّوْا] (1) ما حكَوْه من الاختلاف عن ظاهر القرآن؛ فإنَّه عز من قائل قدم ذكرَ الوعظ، ثم عقّبه بالهجر، ئم اختتم بالضرب، فنبّه سياقُ الخطاب على رعاية تدريج، ثم ظاهر كلامهم -[في] (2) هذا إذا نصروا المنع من الهجوم على الضرب- يشير إلى أنَّ الضرب يقع في الثالثة، [فإنهم] (3) لما نصروا الوجه الثاني رأَوْا هذه الخصال مجموعة كما (4) ظهر النشوز.
8676 - وتحقيقُ القول في هذا يعطف الفقيه على النظر في حال من يقصد الإنسان في بدنه أو ماله، فإنَّ الدفْعَ يقع على التدريج، على ما سيأتي مشروحاً -إن شاء الله تعالى- حتى إذا كان الدفع ممكناً بتهييبٍ وزجرٍ في المنطق، لم يجُز الانتهاء إلى الفعل، ثم الأفعال تترتب على أقدار الحاجة، والقول في ذلك متيسرٌ سنضبطه في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
ويجوز أن يقول القائل: المنع من النشوز يجري على ترتيبِ دفع الصائل في رعاية التدريج، [ونهايته] (5) في أنَّ الصائل لا يُدْفع إلا بما يأتي عليه، فيجوز دفعه إلى ما يُفضي إلى هلاكه، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا، فانَّ [للتأديب] (6) موقفاً من طريق التقريب، لا يُتعدّى، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
ويجوز أن يقال: ليس ضربُ الناشزة في معنى الدفع، وإنما هو في معنى إصلاحها في مستقبل الزمان. وإذا كانت تنزجر في كل نوبة من النشوز، نقول: فقد تعتاد ذلك؛ فلا يمتنع أن يقال: إذا نشزت وظن الزوج أنَّ الوعظ يصلحها والهجرَ،
__________
(1) في الأصل: وتلقَّوه.
(2) في الأصل: وفي.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) كما: بمعنى عندما.
(5) في الأصل: "ونياهته". هكذا بدون نقط (انظر صورتها).
(6) في الأصل: التأديب.

(13/277)


فيقتصر. وإن ظن أنها ستمرن (1) وسيفسد حقه منها، فيضربها لتصلح له في المستقبل، وهذا هو الحق لا غير، وعليه يجري تأديب الأب ابنه، غيرَ أن الأب يصلحه له، والزوج يصلحها لنفسه.
8677 - ثم المتبع في ذلك الظن، فإن ظهر للزوج سوء خلقها بنشوزٍ واحدٍ، ضربها، وإن قدر النشوز الواحد نادرة، لم يضربها، ويختلف هذا باختلاف الأحوال والأشخاص، ولا نطلب في ذلك يقيناً، ولا يجوز الإقدام على الضرب من غير ظن في أنَّ الاستصلاح يحصل به.
وإنْ أبت المرأةُ وتمادت؛ وكانت لا تنكفّ [إلا] (2) بالضرب المبرِّح، فليس للزوج أن يبرِّح بها، وينتهي إلى حالة توقع الخوفَ عليها؛ فإنَّ الغرض إصلاحُها، فإذا ظن أنها لا تصلح فَضَرَبَها، كان ذلك [حَنَقاً] (3) وشفاءَ غليل، وهو غير مسوّغ، هذا هو السر المتبع، ولو أفضى الضرب إلى الهلاك، وجب الضمان، وإنْ أفضى إلى نقيصةٍ ثبتت لمثلها حكومة، فعلى الزوج أن يضمنه.
وإن جرَّ الضرب شيئاً، ثم زال نوجب على الجاني (4) في مثل ذلك شيئاً على وجهٍ بعيد، والوجه هاهنا: القطع بأنه لا يجب على الزوج شيء.
فإن قيل ضرب الزوج إذا أفضى إلى نقيصة، فالبعض من هذا لو اقتصر عليه، لما كان موجِباً ضماناً، فهلاَّ جعلتم النقيصة بمثابة أثر يترتب على مستحِق وغير مستحِق؟ قلنا: إذا جاوزَ الزوجُ الحد، أَخرجَ بآخر فِعْلِه أوّلَه عن كونه إصلاحاً، فصار جميع ما صدر منه جناية، وسنصف هذا في أبواب التعزيرات من كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ستمرن: أي ستعتاد النشوز، من قولهم: مَرَنَ وجهه على الأمر: تعوّد تناوله بدون حياء أو خجل. (معجم).
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: حقاًً.
(4) على الجاني: أي في الجنايات، غير ضرب الزوج كما هو واضح.

(13/278)


8678 - ومما أطلقه الأئمة ونطق به القرآن الهجرُ، وكان شيخي يهجرها في المضجع، ولا يترك [مناطقَتَها] (1) وراء ثلاث ليال؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
وهذا فيه نظر عندنا؛ فلو رأى استصلاحها في مهاجرتها في المنطق، فلست أرى ذلك ممنوعاً، وهو أهون من الضرب. والذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو تَهَاجُر الأخوين من غير سبب يقتضيه في الشرع.
هذا بيان الهجر والضرب.
8679 - [ويتصل] (2) به أنها إذا كانت تؤذيه في المنطق ولا تمتنع عليه، فهل له أن يؤذيها، أو يرفعها إلى السلطان؟ فيه ترددٌ بين الأصحاب، قال قائلون: هي فيما تأتي به وراء التمكين من موجبات التعزير، كالأجنبية، كما أنها في منعها حق الزوج من مال أو غيره مما يتعلق بحقوق الزوجية كالأجنبية.
وقال قائلون: يؤذيها الزوج على استطالتها، وبذاءة لسانها؛ فإنها وإن كانت ممكِّنةً مع ذلك، فهذا ينكِّد المعاشرة، ويكدّر الاستمتاع، ولسنا ننكر تعلقه بما يوجب استصلاحَ الزوجة في الحقوق الخاصة في النكاح.
فأما الحكم في سقوط النفقة، ففيه (3) تفاصيل تتعلق بكتاب النفقات.
...
__________
(1) في الأصل: مناطقها.
(2) في الأصل: ويبطل.
(3) هنا خلل في ترتيب صفحات الأصل. ولذا انتقلنا إلى ص201 شمال، بدلاً من 200 شمال.

(13/279)


باب الحكمين في الشقاق بين الزوجين
8680 - الأحوال الدائرة في هذه الفنون بين الزوجين تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها - أن يصدر العدوان من الرجل في إيذائها والإضرار بها، فإذا تحقق ذلك منه، منعناه من الإضرار، واستوفينا منه ما يمتنع عنه من الحقوق، وإن كان جسوراً لم نأمن أن يضربها ضرباً مبرِّحاً، وقد يفضي ذلك إلى هلاكها، فنحول بينها وبينه؛ فإنَّا إنْ ضربناه لضَرْبه إياها تعزيراً، فقد يضم لذلك [حنقاً] (1) ويبلغ منها مبلغاً لا يستدرك.
ثم إذا استشعر الوالي ذلك وضَربَ الحيلولة، لم يردّها إليه حتى تلين عريكتُه، وتظهر عاطفته، وذلك لا يتبين بقوله، وإنما يتضح بأن يُختبرَ ويوكلَ به في السر من يبحث عن مكنون ضميره فيها، فإذا غلب على الظن أنه مأمون في حقها رُدَّت إليه، وهذا يُضاهي البحثَ عن الإعسار وغيره من الأمور الباطنة المتعلقة بالنفي، ويتصل به استبراؤنا الفاسقَ إذا تاب.
وإن لم يتحقق إيذاؤه إياها، بل ظننا ذلك ظناً، فالوجه أن يأمر الحاكم من يراقبهما في السر والعلن، ولا يشترط أن يتحقق ذلك، ولا يضرب القاضي حيلولة بينهما بمجرد الظن إذا لم تبدر منه بادرة، فإذا بدرت، فقد يديم الحيلولة إلى ظهور الظن بالأمر، وإذا تحققنا الإضرار بها، فليس إلاَّ الحيلولة، فأما إلزام الطلاق، فلا.
8681 - وإن تحقق العدوان منها، فهو النشوز، وقد مضى فيه باب، وإن توهمنا نشوزاً، فلا يدَ للقاضي، ويدُ الزوجِ متسلطة عليها، فإن بلغ الأمرُ مبلغاً يُعجز الزوجَ، استعان بالسلطان.
__________
(1) في الأصل: حقاً.

(13/280)


8682 - وإن نشبت خصومة بين الزوجين، وأشكل الأمر، فلم ندر من (1) الظالم منهما؟ وكان الزوج لا يصفح، والمرأة لا تفتدي، واشتبه حال الزوجين، فهذا موضع بعثة الحكمين، فيبعث الإمامُ حكمين عدلين حَكَماً من أهله، وحَكَماً من أهلها، حتى يخلوَ كل واحد من الحَكَمين بصاحبه، فيستطلعَ رأيه، ويعرفَ مكنونَ غرضه، ورغبته في صاحبه أو عنه، ثم [يلتقيان] (2)، ويُثبتُ كلُّ واحد ما عنده؛ وإنما استحببنا أن يكونا من الأهلين؛ لأن انبساطهم أكثر، واطلاعهم على حقائق الأمور أمكن.
فهذا تصوير بعثة الحكمين.
والأصل في الباب نص الكتاب لقوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35]، [وفي الآية] (3) وجهان من التأويل. قيل: معناه إن [يُرد] (4) الزوجان إصلاحاً، يوفق الله بينهما.
وقيل: معناه إن يُرد الحكمان إصلاحاً وجرَّدا قصدَهما في ذلك يوفق الله بين (5) الزوجين ببركةِ قصدِهما. وهذا ما فهمه عمرُ من الآية (6)، فروي أنه بعث حكمين فرجعا، وقالا: لم يتم الأمر بينهما، فَعَلاَهُمَا بالدِّرةِ وقال: "الله أصدقُ منكما، لو أردتما إصلاحاًً، لوفَّق الله"، فرجعا واعتقدا إصلاحاً، فلما بلغا مكانهما، كانا قد أغلقا الباب [وتلاوما] (7) واصطلحا (8).
8683 - ثم [إن] (9) اتفق التئام الحال واصطلاح الزوجين، فذاك.
__________
(1) في الأصل: أن.
(2) غير مقروءة في الأصل، لذهاب معظم حروفها، وقدرناها على ضوء السياق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: يريد.
(5) في الأصل: يوفق الله ذلك بين الزوجين.
(6) في الأصل: الأئمة.
(7) مكان كلمة ذهب بها التصوير من طرف السطر.
(8) أثر عمر رضي الله عنه لم نصل إليه.
(9) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

(13/281)


وإن [رأيا] (1) الحال بينهما [أبعد] (2) عن قبول الصلاح ورأيا الخصومة [ناشبة] (3) لا تنفصل، وظنا أن الوجهَ التفريق [بينهما] (4)، فهل ينفذ الفراق بينهما إذا رأياه؟ للشافعي قولان في أن التحكيم من الولي [تولية] (5) أو هو توكيل من الزوجين، أحد القولين- أنهما وكيلان لا ينفذان أمراً إلا [برضا] (6) الزوجين، فالذي هو من جانب الزوج وكيله لا يطلِّق ولا يخالع ولا [يثبت أمراً بغير] (7) إذن الزوج، والذي من جانب المرأة لا يختلع عن المرأة بشيء من مالها إلا بإذنها.
وهذا [أحد] (8) القولين، وهو اختيار المزني، ووجهه أن الطلاق للرجال، ولا يتعلق به تصرف [متبرع] (9) دون الزوج، إلا في حق المولَّى كما سيأتي -إن شاء الله تعالى-. وهو في حكم [المستثنى] (10) المخصوص الذي لا يقاس عليه، هذا في جانب الطلاق.
أما بذل مالها من غير [إذنها] (11) [بطلقة] (12) فعلى نهاية البعد عن قاعدة القياس.
8684 - ومن قال بالقول الثاني قال: للحكمين أن يفرقا [إن] (13) رأيا التفريق،
__________
(1) في الأصل: رأينا.
(2) تقدير من المحقق، حيث ذهب التصوير بأطراف السطور.
(3) في الأصل: ناشئة.
(4) تقدير منا مكان كلمة ذهبت من طرف السطر.
(5) تقدير منا مكان كلمة ذهبت.
(6) اختيار من المحقق بدلاً من كلمة سقطت.
(7) كذا قدرناها مكان كلمة غير مقروءة، وأخرى ذهبت من طرف السطر (انظر صورتها، وغيرها من الكلمات التي قدرناها في هذه الصفحة).
(8) تقدير منا مكان ما ذهب.
(9) كذا قرأناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف.
(10) تقدير منا مكان الساقط.
(11) تقدير منا مكان الساقط.
(12) في الأصل: مطلقة.
(13) اختيار من المحقق.

(13/282)


وهو الذي نصّ عليه في أحكام القرآن (1)، واحتج بأن الله تعالى سماهما [في كتابه] (2) حكمين، والحكم هو الذي يحكم وينفذ ما يراه قهراً، ووكيلا الزوجين لا يسميان [حكمين] (3). فإن قيل: قيَّد اللهُ تنفيذَ الأمرِ بإرادتهما، قال: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35]، قلنا: إن حملناها على الحكمين، سقط السؤال، وإن حملنا قوله: {إِنْ يُرِيدَا} على الزوجين فالمعنى: إن [لاحت] (4) إرادةُ الصلاح مِن الزوجين، وفّق الله (5) بينهما.
وعن علي أنه بعث الحكمين بين [الزوجين] (6) وقال: "أتدريان ما عليكما، ما عليكما إن رأيتما أنْ تُفَرِّقا أَنْ تُفرقا، وإن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا [قالت المرأة: رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي] (7)، فقال الزوج: أمَّا الطلاق فلا، فقال عليٌّ: كذبت حتى تقر [بما أقرّت به] (8) " (9). ووجه التعلق بقول علي: أتدريان ...
__________
(1) الذي في أحكام القرَان للشافعي يؤيد القول الأول ونص عبارته: " ... بعث حكماً من أهله
وحكماً من أهلها، ولا يبعثهما إلا مأمونين وبرضا الزوجين. ويوكلهما الزوجان بأن يجمعا أو
يفرّقا إذا رأيا ذلك.
ثم قال: ولو قال قائل: يجبرهما السلطان على الحَكَمين كان مذهباً" (أحكام القرَان: 1/ 212، 213، والأم: 5/ 103، 104) هذا ولم نجد فيما رأينا من كتب المذهب من عزا الأقوال إلى كتب الشافعي إلا الرافعي، فقد عزا القولَ الثاني إلى (الإملاء) وليس إلى (أحكام القرآن) فلعل في الكلام سبق قلم أو وهماً. (الشرح الكبير: 8/ 391).
(2) اختيار من المحقق.
(3) تقدير منا على ضوء السياق.
(4) تقدير منا على ضوء السياق.
(5) في الأصل: يوفق الله ذلك بينهما.
(6) تقدير منا.
(7) هذه الزيادة من نصّ رواية الشافعي في الأم.
(8) غير مقروء في الأصل، وأثبتناه من رواية الأم.
(9) حديث علي بهذه السياقة وبهذه الألفاظ، هو نص ما رواه الشافعي في الأم: 5/ 177، إلا أن إمام الحرمين قدّم " إن رأيتما أن تفرقا ... " على " إن رأيتما أن تجمعا ... " ورواه أيضاًًً النسائي في الكبرى: ح 4678، والدارقطني: 3/ 295، ح 189، والبيهقي: 7/ 305، 306، وعبد الرزاق: 6/ 512، رقم: 11885، 11887، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 414 ح 1723.

(13/283)


الحديث، [أنه] (1) فوض الفراق إلى [رأي الحكمين] (2) ولما قال الزوج: أمَّا الطلاق فلا، رد عليٌّ عليه وقال: كذبت. فما معنى تكذيبه؟ لعله أبدى في الابتداء رضاً بما يستصوبه الحكمان، ثم رجع عنه، [فكان] (3) ذلك [منه] (4) خُلْفاً في الوعد فورد التكذيب عليه.
وإنْ تعلَّق ناصرُ هذا القول بأنَّ [الضرر] (5) مدفوع، ولسنا نرى للخصومة [الناشبة] (6) الملتبسة مدفعاً، وترك النزاع [والشقاق] (7) (8) يخالف مبنى الشرع، فهذا كلام كلي لا يتعلق به على السداد غرض جزئي في محل النزاع.
والذي يقتضيه القياس تقرير النكاح وضرْب الحيلولة بينهما؛ حتى لا يتنازعا.
ولا معتمد لهذا القول إلاَّ التمسك بظاهر القرآن والأثر.
التفريع على القولين:
8685 - إن قلنا: الحكمان كالوكيلين، فسيأتي -إن شاء الله تعالى- تفريعُ القول في الوكالة في الخلع والطلاق، والفدر الذي ننجزه لإيضاح التفريع: أنَّا إذا جعلنا الحكمين في منزلة الوكيلين، فإذا لم يجر من الزوجين توكيل، فليس إليهما من الأمر شيء، إلاَّ التفقد والبحث عن محل اللبس، حتى يتبين للقاضي الظالمُ منهما من المظلوم، ثم مضى حكم الإنصاف (9) والانتصاف.
ولو وكَّلاَ ثم عَزَلا، أو عزل أحدهما، انعزل المعزول، ولو جُنَّا أو جنَّ أحدهما،
__________
(1) في الأصل: وأنه.
(2) تقدير منا مكان الساقط.
(3) في الأصل: وكان.
(4) اختيار منا مكان الساقط.
(5) اختيار منا مكان الساقط.
(6) في الأصل: الناشئة.
(7) تقدير منا.
(8) هنا خلل في ترتيب صفحات الأصل. ولذا سننتفل إلى ص 200 ش.
(9) في الأصل: حكم في الإنصاف والانتصاف.

(13/284)


فمن جُنَّ ارتفع التوكيل في حقه، وإذا أفاق عن الجنون، فالتوكيل زائل، فإن أراد أن ينفذ أمراً، فليبتدىء توكيلاً.
8686 - وإن فرَّعنا على القول الثاني، وجعلنا ابتعاث السلطان تحكيماً، فلهما أن ينفذا ما يريان الصلاحَ فيه، فإنْ رأيا الطلاقَ، طلَّقَا على السخط من الزوج.
وذكر الأئمة أنهما يختلعان المرأةَ بشيء من مالها، وإنْ لم ترض. وهذا متفق عليه في التفريع على هذا القول.
فإن أنكر مُنكر بذلَ مالِ مطلقة في الافتداء بغير إذنها، فهو كتطليق زوجة إنسان من غير إذنه، والأموال قد تدخل تحت الحجر، والطلاق لا يدخل تحت الحجر، فإذا احتكم الحَكَمُ في الطلاق، لم يبعد فرض الاحتكام على مال الزوجة في طلب الصلاح.
8687 - ثم نتكلم وراء هذا في أمور مهمة بها تمام البيان، فنقول أولاً: نصُّ القرآن مشعر ببعثه الحكمين، وهذا فيه تأمل على الطالب، فإنَّا إن اعتقدنا التحكيم [منهما في مرتبة] (1) الولاية، فالعدد يبعد اشتراطه في الوالي، وإن نزّلناهما منزلة الوكيلين، فالعدد ليس بشرط أيضاًً، وسنذكر في وكالة الخلع -إن شاء الله تعالى- أنَّ الشخصَ الواحدَ يجوز أن يكون وكيلاً في الخلع من الجانبين على أحد الوجهين، فإن كان يتجه رعاية العدد على قول التوكيل عند مسيس الحاجة إلى الخلع، فيلزم من مساق هذا الاكتفاءُ بوكيل من جانبه إذا كانت هي تختلع بنفسها.
فإذا جعلنا ذلك تحكيماً، ففي المسألة احتمال ظاهر، يجوز أن نتبع القرآن ولا نعقد لظاهره تأويلاً، ونشترط حكمين، ويجوز أنْ نحملَ العدد على الاستحباب، بدليل اتصاله بوصفٍ ليس مشروطاً، وهو قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِهِ}. {مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35] وهذا مستحَب غيرُ مستحَق إجماعاً. وقد يشهد للاكتفاء بالحاكم الواحد حديثُ حبيبة (2) بنت سهل، فإنَّ الرسول قطع النكاح بينهما بتّاً لما اطلع على
__________
(1) في الأصل: فيهما ومرتبة.
(2) حبيبة بنت سهل الأنصارية هي زوجة ثابت بن قيس التي اختلعت منه فيما يرويه أهل المدينة،=

(13/285)


أمرهما، كما سنذكر ذلك في صدر كتاب الخلع -إن شاء الله عز وجل-، ويقوى التمسك بتلك القصة في تنفيذ الطلاق حكماً وفي [الاتحاد] (1) الذي أشرنا إليه، والله أعلم.
8688 - ومما يجب النظر فيه أنَّ الحكمين ينبغي أن يكونا على عقلٍ ودراية واستقلال بالاطلاع على خفايا الأمور، هذا لا بد [منه] (2).
والعدالة لا شك مشروطة، فلا ثقةَ بمن يخون نفسَه ودينه.
ثم لم يشترط أحدٌ من أصحابنا أن يكونا مجتهدين، وكيف سبيل اشتراط ذلك؟ وقد لا يتصدى للفتوى في سعةِ رقعة إقليم إلاَّ الشخص الواحد، فكيف نرقبُ مجتهداً من أهله ومجتهداً من أهلها.
ولكن لا بُدَّ أن يكونا عالمين بحكم الواقعة، فالعقل يرشدهما إلى وجه الرأي والتحويم على الأسرار والخفايا، وحكم الواقعة تقريرٌ أو تفريقٌ على حسب الاستصواب.
وينشأ من هذا أنَّ الحاكم إذا ولّى حاكماً، وكان ما يتعلق به أمورٌ خارجة عن الضبط والنهاية، فلا بد من كون مولاّه مجتهداً؛ فإنه بالإضافة إليه بمثابته بالإضافة إلى الإمام الأعظم، فأمَّا إذا كان الحاكم خاصاً، فلا يشترط الاجتهاد من المحكّم، ويشهد له الحكمان، وهذا رمز إلى مراتب الولاة، وسنأتي فيها بالعجائب والآيات في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل.
فالذي تَنَخَّلَ من مجموع ما ذكرناه القول في العدد وصفة الحَكَمَيْن.
8689 - ثم قال الأئمة: لا يبعث الحكمين بمبادىء الشر والشقاق، حتى يظهر
__________
=وسيأتي حديث ثابت بن قيس قريباً، في أول الخلع. (ر. الإصابة: ترجمة حبيبة بنت سهل).
(1) غير مقروءة في الأصل. (انظر صورتها) وهذا تقدير منا.
(2) في الأصل: فيه.

(13/286)


التشاتم والتواثبُ والأمورُ المستكرهةُ المنكرة، وتنشب الخصومة على [التباسٍ] (1) لا يُفك ولا يُدرك في ظاهر الأمر.
ثم إذا كان رأي الحكمين أن يُفَرِّقا، فالتفريق يقف على استدعائهما، وإن كانت هي [المعنة] (2) فهذا ما يجب الوقوف عليه.
ثم إنْ قدرناهما وكيلين، لم يقف نفوذ حكمهما على حضور الزوجين، قياساً على تصرف الوكلاء. وإذا جعلناهما حَكَمين وقد اطلعا على حقيقة الحال، فلو رأى الحكمان الطلاق، فغاب الزوجان، فهل ينفذ تطليقهما مع قطعهما بشكايتهما؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا يشترط هذا والمتبع الصواب الذي يريانه.
ومنهم من قال: لا قطع إلاَّ إذا كانا مكبين على الشكاية، ولا يشترط أحدٌ استدعاء الطلاق والاختلاع؛ فإن هذا لو شرط، فهو تنفيذ الفراق على حسب إذنهما، بل يكفي قيام الشكاية.
8690 - ولو تراضيا وأظهرا الوفاق، فقال الحكمان: إنهما لا يفيئان، وسيرجعان إلى التنازع الذي ألفناه منهما مراراً، فلا تعويل على هذا، ولا سبيل إلى [الفراق] (3).
8691 - فالأحوال إذاً ثلاثة: إحداها - إبداء الوفاق، فلا فراق معه. والثانية - في إدامة [التلاوم] (4) والتخاصم، عند ذلك للحكمين أنْ يُطلّقا إذا رأيا.
والحالة الثالثة - أن [يغيبا] (5) بعد الشكاية أو يسكتا مع الحضور، وفيه التردد، والمسألة فيه إذا راجعهما الحكمان فآثرا السكوت.
__________
(1) في الأصل: القياس. وهو تصحيف سخيف أرهقنا أياماً حتى ألهمنا الله الصواب.
(2) كذا بهذا الرسم والنقط. ولم أعرف لها وجهاً، مع طول البحث والمعاناة.
(3) مكان كلمة ذهبت فيما ذهب من أطراف السطور.
(4) مكان كلمة غير مقروءة.
(5) في الأصل: يُعينا (بهذا الرسم وهذا الضبط).

(13/287)


فصل
قال: "ولو استكرهها على شيء أخذه منها ... إلى آخره " (1).
8692 - هذا الفصل من مسائل الخلع، ولكنه اتصل بتنازع الزوجين [بأخراه] (2).
وصورة المسألة: أنَّ المرأةَ إذا قبلت الطلاقَ على مالٍ في ظاهرِ الحال، ثم ادعت [على] (3) الزوج أنه يلزمه ردُّ ما أخذ منها؛ لأنها كانت مُكرهة على الاختلاع، والزوج [ساكت] (4)، وأقامت بيِّنة على الإكراه، وإنما فرضنا سكوته لغرض [يبين] (5). قال: فالمال مردود عليها، والطلاق يُحكم بوقوعه رجعياً؛ لأنه لم يقر بطواعيتها.
ويمكن فرض المسألة فيه إذا كانت الدعوى على الوكيل من جهة الزوج، فأنكر الطواعية (6) [فالزوج] (7) لا يلزمه حكم إنكار الوكيل، وهذا فيه إذا قامت بيِّنةٌ على إكراهها على الخُلع قصداً.
فأمَّا إذا لم يكرهها على الخلع ولكن [كان] (8) يُسيء العشرةَ معها، ويؤذيها بالمشاتمةِ والضرب، فلو اختلعت وزعمت أنها كانت تبغي الخلاصَ من أذى الزوج، فلا يكون هذا إكراهاً، وإن كان ما يجريه الزوج من الضرب لو خوَّف المرأةَ به، لكانت مُكرهةً، وهذا بيِّن. وستأتي حقيقة هذه المسألة في كتاب الخلع، إن شاء الله عز وجل (9).
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 50.
(2) كذا قدرناها على ضوء ما بقي من أطراف الحروف.
(3) تقدير منا على ضوء السياق، وما بقي من أطراف الحروف.
(4) تقدير منا على ضوء السياق، وما بقي من أطراف الحروف.
(5) في الأصل: تبين.
(6) عبارة الأصل: فأنكر واذكر الطواعية.
(7) تقدير من المحقق.
(8) زيادة اقتضاها السياق.
(9) انتهى هنا الجزء العاشر، الذي اعتمدناه هنا أصلاً (نسخة وحيدة) من أول (باب الاختلاف في=

(13/288)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
...
__________
=إمساك الأواخر) وجاء في خاتمة هذا الجزء ما نصه:
تم الجزء العاشر من نهاية المطلب في دراية المذهب. يتلوه الجزء الذي يليه -إن شاء الله تعالى- كتاب الخلع. والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وصحبه وسلم تسليماً.
فرغ من نسخه عبد الصمد بن مرتضى بن رحمة بن رفاعة الكندي بتاريخ العشر الأول من شعبان المكرم سنة اثنتين وعشرين وستمائة.

(13/289)