نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الصداق
الأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] وقال تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وقال صلى الله عليه وسلم: " أدوا العلائق، قيل: وما العلائق يا رسول الله، قال: ما تراضى به الأهلون " (1).
وانعقد الإجماع على أن ما يصح جعله صداقاً يثبت بالتسمية الصحيحة، ثم ورد في الشرع لما يسمى في عقد النكاح على معرض العوض أسماء: الصدقة، والمهر، والصداق، والأجر، قال الله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء: 4]. وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24]
ثم الذي يجب تصدير الكتاب به أنَّ الصداق لم يثبت على قياس الأعواض؛ فإنَّ حظها في الاستمتاع منه حظُّه في الاستمتاع منها، وهما مشتركان في الاستمتاع، ويصح أن يقال: حظها أوفى، لما صح من توفر شهوتها، وعدم تأثير الاستمتاع فيها، ولكن لما اقتضت الحكمة الشرعية استحقاق الرجال باستحقاق منفعتهن- كما تقدم ذلك مقرراً- اقتضى الترتيب بعد ذللك اختصاصهن باستحقاق ما يثبت في معرض العوض، وضعف مُنَّتهنَّ وعجزهن عن التكسب، وما طُلب منهن من التخدُّر، وعدم الانتشار، ولزوم الحِجال (2)، يقتضي ذلك.
ثم الصداق الثابت لها ليس يثبت ركناً في النكاح/ ثبوت الثمن في البيع، والأُجرةِ 114 ي
__________
(1) حديث: " أدوا العلائق ... " رواه الدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عباس بلفظ: " انكحوا الأيامى وأدوا العلائق ... " وقد ضعفه الحافظ (ر. سنن الدارقطني: 3/ 244، السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 239 0 التلخيص: 3/ 286 ح 1672).
(2) الحجال: جمع حَجَلة وهي ساتر كالقبة يزين بالثياب والستور للعروس، وسترٌ يضرب للعروس. (المعجم) وهي هنا كناية عن لزوم البيت، ويسمى النساء ربات الحجال.

(13/5)


في الإجارة، ولكنه -وإن قوبل باستحقاق المنفعة عليها- لا يتمحض مقابلاً على حقيقة العِوضية، ولذلك لا يفسد النكاح بفساد الصداق على المذهب الصحيح، ولا يفسد أيضاً [بترك] (1) ذكره وتعرية النكاح عنه، وإذا رَدَّت المرأة الصداق، لم يرتد النكاح كما يرتد المعوض برد العوض في المعاوضات، وقال مالك (2): فساد التسمية في الصداق يفسد النكاح، وقيل: هذا هو قول الشافعي في القديم، فإنْ صح، فهو في حكم المرجوع عنه، ولا نعرف خلافاً أن ترك تسمية الصداق لا يفسد النكاح. وكذلك [لا خلاف أن النكاح] (3) لا يرتد برد الصداق، والصداق لا يُنكر كونه عوضاً؛ فإنه يثبت على صيغة العوضية، وارتداده بالفسوخ الواردة على النكاح يُقيمه مقام الأعواض، وحبسُها نفسَها إلى توفر الصداق عليها يُلحق الصداق بالأعواض، فالوجه أن نقول: الصداق عوض في النكاح، ولكنه ليس ركناً؛ من جهة أن العوضية ليست مقصودة في النكاح، والمقصود الأظهر منه المستمتَع. ويشهد لما ذكرنا قوله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] فسمى الصدقات نحلة وعطية، ليُشعر بخروجه عن كونه مقصوداً.
ومن المحققين من أئمتنا من قال: ليس الصداق عوضاً حقيقياً، وارتدادُه لزوال النكاح في بعض الأحوال سبيله سبيل التبعية، فكما يثبت تبعاً غير مقصود، فكذلك يزول بزوال النكاح- على تفاصيلَ معروفة، فحصل مسلكان: أحدهما- أنه عوض حقيقي، ولكنه ليس رُكناً في النكاح.
والثاني- أنه ليس بعوض على الحقيقة وإن أقيم مقامه، ولا يكاد يظهر لهذا التردد مزيد أثر.
8354 - وإذا زوّج الوليّ وليّته إجباراً بدون مهر مثلها؛ فالمذهب الأصح: صحة
__________
(1) في الأصل: ترك.
(2) ر. بداية المجتهد: 2/ 21. وفيه: " وعن مالك روايتان: إحداهما- فساد العقد وفسخه قبل الدخول وبعده، والثانية- إن دخل بها ثبت، ولها صداق المثل " ا. هـ بنصه.
(3) عبارة الأصل: " وكذلك الاختلاف لا يرتد برد الصداق" والتعديل والزيادة من عمل المحقق.

(13/6)


النكاح، وثبوتُ مهر المثل؛ جرياناً على ما قدمناه من أن الخلل في الصداق لا يؤثّر في النكاح.
وذكر أئمتنا قولاً آخر، واختلفوا في كيفية نقله، فقال قائلون: القول الثاني- إن النكاح لا يصح- وإليه أشار القاضي- ووجهه- على بُعده-، أن النكاح بدون مهر المثل لا يكون معقوداً على حكم الغبطة، والعقود إذا لم تتصف بالغبطة مردودة من الولي المجبِر.
وقال قائلون: [الأول] (1) في صحة النكاح، والقول الثاني في صحة الصداق، وإن كان قاصراً؛ فإن الأب لا يتهم في حق طفله.
ومن وجوه الرأي: إذا كان الخاطب كفؤاً مرغوباً فيه، [احتمل] (2) وَكْسُه في المهر. وهذا يخرج على قول الشافعي في أنَّ الذي بيدهِ عقدة النكاح هو الولي، وقد يجوز على هذا القول عفوه عن المهر وإسقاطه.
وإذا جمعنا وجوه تزويج الأب، قلنا: إذا زوّجها من كفئها بمهر مثلها، فقد نظر لها ولا معترض عليه، ولو كان يطلبها كفء بأكثر من مهر مثلها، فزوّجها الأب من كفء اَخر بمهر مثلها، فلا معترض عليه.
ولو طلبها كفء مماثل، ورجل نبيه شريف القدر، فزوّجها من مماثلها، جاز، ولا معترض، وليس هذا كالتصرف في المال؛ فإنه إذا طُلبت سلعةٌ للطفل بأكثر من قيمة المثل، لم يسُغ بيعُها إلا بالأكثر، والسبب في ذلك أن عقود المواصلات تنطوي
__________
(1) في الأصل: " الطلاق "، وهو تصحيف لا شك.
وعبارة العز بن عبد السلام في مختصره: " وإن زوج المجبر بأقلَّ من مهر المثل، فالمذهب صحة النكاح، ولزوم مهر المثل، وفيه قولٌ حمله بعضهم على بطلان النكاح، وحمله آخرون على صحة الصداق، وقطعوا بصحة النكاح، وبنَوْا ذلك على جواز عفو الولي عن الصداق ". (ر. الغاية في اختصار النهاية للعز بن عبد السلام: ج 3/ لوحة رقم 88 يسار).
هذا. ولم أصل إلى المسألة في وسيط الغزالي ولا بسيطه، ولا الشرح الكبير للرافعي، ولا الروضة للنووي.
(2) في الأصل: احتمله.

(13/7)


على أسرارٍ خفية، وأمور جِبِلِّيّة، فالوجه إحالتها على الأب الشفيق، وقد يرى المماثل أجدى عليها من الشريف الذي يسطو، أو يستطيل بشرفه، والنكاح دِقُّ. (1)
النظر في مراشده يدِق، والأموال لا يُبغى منها إلاَّ المالية؛ وعن هذا ينشأ كلام العلماء في تزويج الأب ابنته ممن لا يكافئها؛ فالأصح أنَّ النكاح لا يصح إجباراً، لما فيه من ظهور إلحاق العار بها.
وفي المسألة قول غريب، حكيناه أن النكاح [يصح] (2) ويلزم. وفي تزويجها بدون مهر المثل من التردد ما ذكرناه، فهذه مجامع القول في عقود الأب.
8355 - ثم إذا تمهّد ما قدمناه، فالصداق لا يتقدر شرعاً عند الشافعي، وكلُّ ما يجوز أن يكون ثمناً أو أجرة يجوز أن يكون صداقاً، والمعتبر في هذا أن [يكون] (3) الصداق متمولاً.
وقد قدمت فيما يتموّل كلاما واضحاً، وظني أني كررته في مواضع.
وذهب أبو حنيفة (4)، ومالك (5)، وابن شُبرمة، وطوائفُ من العلماء إلى تقدير الصداق بنصاب السرقة، ثم مذاهب هؤلاء مختلفة في نصاب السرقة، وقد نظر هؤلاء إلى تشبيه البضع المستباح باليد المقطوعة في السرقة.
والشافعي رأى المهر ليتميّز النكاح عن البدل في السفاح، وهذا المعنى يحصل بإثبات ما يجوز أن يكون عوضاً. ثم نص الشافعي في مواضعَ من كتبه على استحباب العشرة وترْكِ النقص عنها، وذلك للخروج من الخلاف.
__________
(1) دِقُّ النظر: أي دقيقه، وصغيره، وخفيه. ويدقُّ أي يغمض ويخفى، ولا يفهمه إلا الأذكياء (المعجم).
هذا. وكلمة (دِق) حرفت فى الأصل إلى (رق).
(2) في الأصل: صح.
(3) زيادة من المحقق.
(4) ر. الاختيار لتعليل المختار: 3/ 101، ومختصر الطحاوي: 184، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 252 - مسألة رقم 717.
(5) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 714 - مسألة رقم 1291.

(13/8)


ثم قال: السرف والمغالاة في المهر غير محبوب، والقصد هو المستحسن، ولو حصل التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في زوجاته وبناته، فنِعْم المتبع.
وقالت عائشة: " ما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة من نسائه، ولا زوّج واحدة من بناته بأكثر من اثنتي عشر أوقية ونَشٍّ، أتدرون ما النَّش؟ إنما هو
نصف أوقية " والأوقية أربعون درهماً، فمجموع ما ذكَرَت من الأواقي والنش خمسمائة " (1)، وقال عمر: " ألا لا تغالوا في مهور النساء؛ فإنه لو كان فيه مكرمة عند الله وعند الناس، لكان أحقكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقامت امرأة سفعاء الخدين وقالت: الله يعطينا، ويمنعنا عمر، فقال: أين ذلك، فقالت: قال الله تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فقال: كلُ الناس أفقه من عمر رجل أخطأ وامرأة أصابت " (2).
ويتعلق بمتنهن أمران: أحدهما- أنَّ المغالاة ليست مكروهة، وإنما ينهى عنها نهيَ استحباب، وقد بان أن مراتب النهي ثلاثة: تحريم وكراهة واستحباب. ومما نذكره أنَّ النزول إلى المبلغ الذي ذكرناه في مهور نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تخاطب به المرأة المالكة لأمر نفسها، والسيد في تزويج أمته. فأما الأب إذا كان يزوّج ابنته الصغيرة، فليس له أن ينزل عن مهر مثلها، وإن نزل، ففيه الترتيب القديم.
...
__________
(1) حديث عائشة رواه مسلم بلفظ: " كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشاً، قالت: أتدري ما النش؟ ... " (ر. صحيح مسلم: كتاب النكاح، باب الصداق، ح 1426).
(2) خبر نهي عمر عن المغالاة في المهور على النحو الذي ساقه إمام الحرمين، مركب من حديثين رواهما عبد الرزاق في مصنفه: 6/ 175، 180، ح 10399، 10420، وهما عند سعيد بن منصور، ح 594، 597، والأول عند أحمد: 1/ 301، وهو عند الحميدي:1/ 13).

(13/9)


باب الجُعل والإجارَة
8356 - مقصود هذا الباب مقصورٌ على الكلام في منافع يجوز إثباتها صداقاً، والقول الجامع فيها: إنَّ كل منفعة يجوز الاستئجار عليها، فيجوز فرضها على الجملة صداقاً.
ثم القول في المنافع التي يجوز الاستئجار عليها، مما أصلناه على (1) هذا الكتاب من كتاب الإجارة وغيره، والقول فيه منتشر، وضبط النفي والإثبات فيه عَسِرٌ، ولم يزد الأصحاب عن نقل مسائل مُرسلة، وما اعتنوا في ذلك بضابط، ولم يتشوف إلى الاهتمام به إلاَّ القاضي، فإنه حوّم على أطرافه ولم يستوعب، والقدر الذي ذكره: أنَّ كل عمل معلوم يلحقُ العاملَ فيه كلفةٌ ويتطوع به الغيرُ عن الغير؛ فالاستئجار عليه جائز، وإذا صح الاستئجار، صح إثباته صداقاً.
8357 - وليس ما ذكره شافياً للغليل، ونحن نرى أن نذكر مسائلَ مرسلةً، ثم ننبه فيها على الغرض المطلوب، وقد نذكر فنوناً وأقساماً.
فالعبادات البدنية المفتقرة إلى النية، إذا كانت النيابة لا تتطرق إليها، فلا يتصور الاستئجار عليها؛ فإنَّ مِنْ حُكْمِ الاستئجار وقوع فعل المستأجَر عن المستأجر، وامتناع النيابة ينافي هذا، والعبادة البدنية التي تجري النيابةُ فيها -وهي الحج لا غير- يجوز الاستئجار عليها؛ كما تفصَّل في كتاب الحج، وإذا قلنا: غسل الميت يفتقر إلى النية، فالاستئجار عليه جائز، [وإن] (2) كان [قربة] (3) بدنية، وذلك أنَّ النيابة
__________
(1) على هذا الكتاب: أي (في) هذا الكتاب، نظير قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102].
(2) في الأصل: فإن.
(3) في الأصل: قرينة.

(13/10)


جائزة فيه كما تجوز في الحج. فاعلموا ترشُدوا.
ووراء ذلك أمر سننبّه عليه في أثناء الكلام، إن شاء الله تعالى.
هذا قولنا في العبادات البدنية المفتقرة إلى النيات.
ومما نذكره في الأقسام التي نحاولها: أنَّ الأعمال التي لا تقع قربة، ولكنها تتعلق بأمور في المعايش، ومطرد العادات، فما لا يجوز منه فلا يجوز الاستئجار عليه، وما يجوز ولا ينهى عنه، فيجوز الاستئجار عليه، بحسب أن يكون معلوماً على ما يليق به، ويشترط أن يكون له وقع في النفع والدفع، حتى لو قل قدرُه، وكان لا يقع مثله في إثارة نفعٍ أو دفعٍ موقعاً؛ فلا يجوز الاستئجار عليه. وهو في [جنسه] (1) بمثابة الحبة من الحنطة في الأعيان.
ومما نشترطه أن يكون النفع من العمل راجعاً إلى المستأجِر، فلو كان يرجع النفع إلى الأجير، فالإجارة فاسدة، وذلك مثل أن يقول: استأجرت دابتك لتركبها أنت ولا تترجل، فهذا فاسد، فإذا كان العمل مباحاً معلوماً متقوماً عرفاً، وكان نفعه يرجع إلى المستأجِر فيصح الاستئجار، ومن جملة ذلك: الحمل والنقل وأعمال المحترفين، وما في معناها، وهذا بيان ما لا يقع قربة.
8358 - وأما ما يقع قربةً وإن لم نشترط فيه النية، فمنها ما يقع فرضاً على الكفاية، ومنها ما يكون شعاراً في الدين، ولا يقع فرضاً، فأما ما يقع فرضاً، فإنه ينقسم في نفسه، فمنه ما يخاطَب به المرءُ في ذاته إن اقتدر عليه، وإن عجز عنه، وجب على الغير كفايته، ومنه ما لا يخاطب به المرء على الخصوص في نفسه لغرضٍ يخصه.
فأمَّا القسم الأول، فمنه حفر القبور، ودفن الموتى، وحمل الجنائز، فهذه الأشياء مما يجوز الاستئجار عليها، والسبب فيه أنَّ من مات فتجهيزه من المؤن الواجبة المختصة بتركته، وهو مما يثبت في وضع الشرع على نعت الخصوص، فإن عجز من خصّه الشرع ابتداءً، فعلى الناس كفايته. وحَمْلُ الجنازة وما في معناه مما ذكرناه ينزل منزلة شراء الكفن، والتكفينُ من فرض الكفايات، وكذلك يجب على الإنسان أن ينفق
__________
(1) في الأصل: حب.

(13/11)


على نفسه إن وَجَد، فإن فَقَد، لم يجز تضييعه، ثم لو اشترى في حالة الضرورة طعاماً، صح ذلك منه [تنزيلاً] (1) لهذا على كون ذلك [خاصاً به] (2) في وضع الشرع، فهذا مسلك في فرائض الكفايات. ويلتحق بذلك تعليم القرآن؛ فإنَّ على الإنسان أن يتعلم من القرآن ما لا يخفى، فهذا مما يختص وجوبه، فلا جرم جاز الاستئجار عليه، وإن كان إشاعة القرآن ونشره وتعليمه فرضاً على الكفاية.
والقسم الثاني- ما يثبت في الأصل شائعاً، ولا يختص افتراضه بشخص، حتى يعد من مؤنه وواجباته الخاصة، ولكن يثبت إقامةً لشعار، أو ذباً عن البيضة، وذلك مثل الجهاد، فإنه أُثبت عاماً، والمقصود به حماية الحوزة وحفظ البيضة. فهذا القسم لا يجوز الاستئجار فيه إذا كان المستأجَر مندرجاً تحت الخطاب العام بالذب.
ويخرج مما ذكرناه أهل الذمة؛ فإنَّا لا نخاطبهم بالذب عن الملة، فلا جَرَم جوز الشافعي للإمام أن يستأجر طائفةً من أهل الذمة على قتال جماعة من الكفار، كما سيأتي شرح ذلك في كتاب السير، إن شاء الله عز وجل.
وسبب منع الاستئجار أنَّ الخطاب إذا كان متعلقاً بالمسلمين على العموم، فيكون الأجير فيه قائماً بإقامة ما خُوطب به، ويستحيل أن يقع فعله عن غيره. فهذا ما يقع فرضاً.
8359 - وأمَّا ما يقع شعاراً غيرَ مفروض، فهو كالأذان في الرأي الأصح، فهل يجوز الاستئجار عليه؟
حاصل ما ذكره الأصحاب في الطرق ثلاثة أوجه:
أحدها- أنه لا يجوز الاستئجار على الأذان أصلاً؛ فإنه وإن كان لا يجب، فهو راجعٌ إلى تعميم الشعار، ولذلك لا يؤذن كل واحد ممن [حضر] (3) الجماعة.
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة أعان عليها السياق.
(2) في الأصل: بإصابة.
(3) في الأصل: نص.

(13/12)


والوجه الثاني- وهو الأصح، أنَّ الاستئجار على الأذان جائز من الإمام ومن آحاد المسلمين؛ فإنه ليس عبادة مفتقرة إلى النية، ولا فرضاً يلابسه المكلف، وإن كان يرجع نفعه إلى المسلمين، فنفع القرآن كذلك يرجع إلى المسلمين.
والوجه الثالث- أن الإمام ومن يتولى الأمر من جهته يجوز أن يستأجر المؤذن، وليس يسوغ ذلك لآحاد الناس، وكثيرٌ من العقود يختص جوازه بالوالي إذا كان متعلقاً بالمصالح العامة.
ثم إذا جوزنا الاستئجار على الأذان، فقد ذكر شيخي وغيره خلافاً في أنَّ المؤذن على ماذا يأخذ الأجرة؟ وحاصل المذكور ثلائة أوجه: أحدها- أنه يستحق الأجرة على رعاية المواقيت.
والثاني- أنه يستحقها على رفع الصوت.
والثالث- أنه يستحقها على الحيعلتين، فإنهما ليسا من الأذكار، وسبب هذا الاختلاف أنَّ الأذان أذكار لله تعالى [يردّدها] (1) المؤذن، فبعُد عند الأصحاب استحقاق الأجرة على أعيانها.
والصحيح عند المحققين أنَّا إذا جوزنا الاستئجار على الأذان، فالأُجرة مستحقة على جميع الأذان بما فيه، ولا بُعدَ في استحقاق الأُجرة على ذكر الله تعالى، كما لا بُعد في استحقاقها على تعليم القرآن، وإن كان التعليم من ضرورته قراءة القرآن.
8360 - ومما نذكره: الاستئجار على تعليم العلم، وقد ذكر شيخي وغيره مَنع الاستئجار على التدريس، وردد الشيخ أبو بكر الطوسي فيما نقله عنه أبو بكر المفيد (2)
__________
(1) في الأصل: يبدّدها.
(2) لما نصل إلى شيء قاطع في ترجمة أبي بكر المفيد، فالطوسي الذي نقل عنه المفيد متوفى سنة 420 هـ. والمسألة في المذهب مشهورة عن أبي بكر الطوسي، ولكن لم نجد من صرح بناقلها عنه، وأنه أبو بكر المفيد -فيما نعلم- إلا الإمام.
والذى وجدناه بهذه الكنية واللقب (أبو بكر المفيد) هو محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب البغدادي الجرْجائي المتوفى سنة 378 هـ عن نيف وتسعين سنة، فهل يمكن أن يكون ناقلاً عن الطوسي المتوفى سنة 420؟؟ الله أعلم.=

(13/13)


جوابه في جواز الاستئجار على إعادة الدروس.
وهذا كلام ملتبس، والتحقيق فيه أنَّ من استأجر شخصاً ليعلمه مسألةً، أو مسائلَ من العلوم، فهو جائز، لا يجوز أن يكون فيه خلاف، وهو بمثابة الاستئجار على تعليم القرآن، وإن ظن أن ذلك يمتنع من قِبَل تفاوت الناس في الفهم والدرك، فهم متفاوتون في الحفظ أيضاً قطعاً، ثم لم يمنع الاستئجار في المحفوظات، والحفظُ في معنى الفهم.
والذي ذكره الأصحاب من مَنْع الاستئجار على التدريس محمولٌ على ما إذا استأجر [رجلٌ] (1) مدرساً حتى يتصدى للتدريس إقامةً لعلم الشريعة من غير أن يعيِّن له من يعلمه، فهذا إن امتنع، فسببه أنه تصدى للأمر العام المفروض على الكفاية، فكان بمثابة الجهاد.
ولو فرضنا استئجار مقرىء على هذه الصورة، لكان ممتنعاً، كما يمتنع استئجار المدرس.
ولكن جرى كلام الأصحاب في الدرس، ومن يعلّم القرآن على العادة الغالبة في كل نوع؛ فإنهم لم يصادفوا مستأجَراً على تعليم العلم في العادة، والاستئجار على تعليم القرآن [غالب] (2).
وفي النفس من الاستئجار على التدريس والتصدي له شيء؛ من [جهة أنه] (3) قد يشابه الأذان؛ فإنَّ الغرض من كل واحد منهما نفعٌ راجع إلى الناس عموماً من غير تخصيص أشخاص، وليس في امتياز الأذان عن التدريس -بالفرضية في أحدهما- فقه؛ فإنَّ المعتمد في منع الاستئجار على الجهاد أنه نزل على أهل الاستمكان نزولاً
__________
= ثم ما ذكره الذهبي، والحافظ عن المفيد هذا أنه محدث ضعيف متهم.
فهل هناك من يسمى بأبي بكر المفيد غير هذا أم أن في العبارة تصحيفاً؟ الله أعلم. (ر. سير أعلام النبلاء: 16/ 269، ميزان الاعتدال: 3/ 460، لسان الميزان: 5/ 43).
(1) في الأصل: رجلاً.
(2) في الأصل: غالبة.
(3) في الأصل: من جهته قد يشابه.

(13/14)


عاماً، ولا متعلق له إلاَّ الذب عن حريم الإسلام، والتدريس [و] (1) إن كان يعم من وجه، فهو في جهة [التعلّق] (2) بمن يتعلم خاص؛ إذ على كل شخص أن يتعلم في نفسه، كما على كل شخص أن يعتني بحفظ المواقيت في الصلوات، والمؤذن يكفي الناس ذلك، فليفهم الناظر ما يمر به من لطائف الفقه.
ولكن إن صار صائر إلى تجويز الاستئجار على التدريس، فلا بد فيه من إعلام على التحقيق، فإن الأذان بيّن في نفسه، والعلم عند الله تعالى.
8361 - ومما نذكره أنَّ القضاة إذا تراصدوا للقضاء، فلا معنى لاستئجارهم؛ فإنهم إذا انتصبوا للفصل بين المتحاكمين، تعلَّق أمر الخلق عموماً بهم، ولا يتصور أيضاً أن تنضبط أعمالهم بوجه من الوجوه. فهذا مجموع ما أردنا إيراده.
ثم جُوِّز استئجار القاضي على كتبة السجلّ وغيره مما يستدعيه الخصم، ولا يوجبه الشرع، مما يأتي موضحاً -إن شاء الله عز وجل- في كتاب أدب القضاء.
ومن تأمَّل ما ذكرناه، لم يخْف عليه ضوابط المذهب فيما يجوز الاستئجار عليه، وفيما يمتنع ذلك فيه.
8362 - ومما ذكره الأصحاب: الكلام على الاستئجار في الإمامة في الصلاة، فقالوا: لا يجوز ذلك في الصلوات المفروضة، وهل يجوز في النوافل كالاستئجار على الإمامة في صلاة التراويح؟ فعلى وجهين.
وهذا كلام ركيك؛ فإنَّ الإمامة لا معنى لها، ولا مزيّة على الإمام في قصد الإمامة، وإنما يكفيه أن يصلي ويقتدي به من يريد، وإن لم ينوِ الإمامة، فصحة القدوة على نيَّته. نعم، قد يتوقف على نية الإمامة إحراز فضيلة الجماعة، وهذا يخصه ولا يتعداه. وقد ذكرنا أنه لا يجوز الاستئجار على عمل لا يتعدى نفعُهُ العاملَ.
8363 - فإذا تمهد ما ذكرناه، فقد ذكر الشافعي في الباب أنَّ الزوج لو أصدق زوجته عملاً يعمله مما يجوز الاستئجار على مثله، فالصداق صحيح. ومنع أبو
__________
(1) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: التعليق.

(13/15)


ْحنيفه (1) ذلك عموماً في جميع الأعمال التي يعملها الزوج. وكذلك منع أن يصدقها منفعة حر في جهة من الجهات، وإن جاز الاستئجار، وإن جوّز أن يصدقها منفعة عبد- في خبطٍ له طويل.
ثم ذكر الشافعي في الباب ثلاثة فصول بعد ذلك: أحدها - في تعليم القرآن، والثاني - في رد العبد الآبق، والثالث - في خياطة الثوب. فنذكر ما يتعلق بالاستئجار على تعليم القرآن.
8364 - ثم قد تمهد من قبلُ أنَّ ما يجوز الاستئجار عليه يجوز جعله صداقاً، فإذا أراد استئجار شخص ليعلّمه، أو يعلّم من يعينه، القرآنَ؛ فهو جائز، فأول مرعيّ فيه الإعلام، ثم إنه يحصل بوجهين: أحدهما- ذكر المقدار الذي يطلب تعليمه، والثاني - المدة، فلو قال: تعلِّمني سورة البقرة، ولم يذكر المدة، جاز، ووقع الاكتفاء بإعلام المقدار، ولو ذكر المدة، فقال: تشتغل بتعليمي شهراً، جاز. ثم إن ذكر المدة، كفى، وإن ذكر المقدار، كفى، ولو جمع. بينهما، فقال: تعلّمني سورة البقرة في شهر، ففيه وجهان مشهوران، ذكرهما في مواضع من كتاب الإجارة وغيرها، فمن قال بالجواز، قال: زيادة الإعلام غير ضائرة. ومن منع -وإليه ميل معظم المحققين- قال: المدة قد لا تفي وقد يفضل منها، وذكرها مع المقدار يزيد جهالة ويجر عسراً.
وكذلك لو استأجر من يَخيطُ ثوباً عيّنه في يوم، فالأمر على الخلاف الذي حكيناه.
ثم ذكر العراقيون خلافاً في أنه هل يجب تعيين القراءة التي يبغي التعليم بها، مثل قراءة أبي عمرو (2) أو غيرِه؟ فذكروا في ذلك وجهين.
__________
(1) ر. الاختيار لتعليل المختار: 3/ 105، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 270، 282، مسألة رقم 744، والمسألة رقم 764.
(2) أبو عمرو، هو أبو عمرو بن العلاء، زبّان بن عمار التميمي المازني البصري. في اسمه واسم أبيه خلاف، واعتمدنا هنا ما رجحه الزركلي في الأعلام، وهو أخذ برواية السيوطي في المزهر، فقد قال السيوطي: "هذا أصح ما قيل فيه".
وأشار إلى الخلاف في اسمه واسم أبيه ابن خَلكان في الوفيات، وهو في روايه عنده=

(13/16)


والوجه عندنا: القطع بأنَّ ذلك لا يعتبر ولا ينتهي التضييق إلى هذا الحد.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قصة الواهبة لذلك الأعرابي: " زوجتكها بما معك من القرآن " (1). ولم يقع للحرف والقراءة تعرُّضٌ.
8365 - ومما يتعلق بذلك أنَّ الإجارة إذا أوردت على عين شخص، فوقع الشرط على أن يكون هو [المعلّم، فلا يقيم غيرَه مقامه، كما إذا] (2) استأجر الرجل داراً معينة ليسكنها، فليس للمكري إقامةُ غير تلك الدار مقامها.
ثم لو كان المعيَّن يحسن ما وقعت الإجارة عليه، صح الاستئجار. وإن كان لا يحسن، ولكن كان يتأتى منه أن يتعلم ويعلِّم؛ فقد ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أن الإجازة صحيحة؛ فإنَّ تحصيل الغرض ممكن، والتعليم لا يقع دفعة واحدة في وقت واحد، فصار كما لو اشترى شيئاً بألف، وهو لا يملك درهماً، فالشراء صحيح، وإن لم يكن في الحال في ملكه شيء من الثمن.
والوجه الثاني - أنَّ الإجارة فاسدة؛ فإنها تضمنت استحقاق شيء، وهو في وقت الاستحقاق غير ممكن، وليس التعذر فيه إلى (3) التسليم؛ بل سبب الفساد أنَّ المنفعة في المسألة معدومة الجنس. وهذا الاختلاف يشير عندنا إلى سرٍّ في الإجارة، وهو أنَّ
__________
= (العريان) بدل (زبّان).
وهو أحد القراء السبعة، وأحد أئمة اللغة والأدب، وكان أعلم الناس بالقرَان، وباللغة والأدب، والشعر ت سنة 154 هـ (ر. وفيات الأعيان: 3/ 466 - 470، والأعلام للزركلي).
(1) الحديث بطوله متفق عليه، من حديث سهل بن سعد، رواه البخاري: كتاب النكاح، باب السلطان وليٌّ، ح 5135، ومسلم: كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم القرآن، ح 1425، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 389 ح 1677.
(2) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها، ويؤيدنا عبارة العز بن عبد السلام في مختصره للنهاية، ونصها: " ويجوز إصداق تعليم القرآن، والإجارة عليه، ولا يقيم غيره مقامه في إجارة العين، فإن لم يحسن ما التزمه، صح إن كانت الإجارة على الذمة (ر. الغاية في اختصار النهاية: جزء 3 لوحة 89 يسار).
(3) في الأصل: وليس التعذر فيه إلا إلى التسليم.

(13/17)


الإجارة إذا أُوردت على عينٍ ومنافعها، فكأن منافعها مع تعلقها بالعين، فيها معنى الالتزام، وكأنَّ المستأجر التزم تحصيلها من العين المعيّنة، فلا يمنع في الملتزَم أن يقع الاعتماد على إمكان التحصيل. ومن أبى ذلك يعتمد التعيينَ ومنافاته [لحكم] (1) الذمة، والوجهان فيه إذا كان يُحسن مقداراً يشتغل بتعليمه في الحال، أو كانت الإجارة مع تعلقها بالعين واردة على مدة تَسَعُ التعلّم والتعليم، فأما إذا لم تكن مدة، وكان لا يحسن شيئاً ألبتةَ، والإجارة تقتضي استحقاق الاشتغال بالتعليم، وتسليم المستحق على الفور؛ فلا وجه إلاَّ القطع بإفساد الإجارة لتحقق العجز عن المستحَق في الحال.
8366 - وكل ما ذكرناه في الإجارة يجري حرفاً حرفاً في الصداق، ونحن نرد باقي الصور إلى الصداق فنقول: لو أصدق امرأته تعليم مقدار يقع التوافق عليه، فقالت: علِّم فلاناً أو فلانة ما التزمت تعليمي إياه، ففي المسألة وجهان مشهوران ذكرهما العراقيون وغيرهم، وأثبت أئمة العراق للمذهب حداً وضبطاً وقالوا: الإجارة الواردة على العين تتعلق بمن يستوفي المنفعة، وبما تستوفى المنفعة منه، وبما تستوفى المنفعة به. فأما المستوفي للمنفعة، فيجوز أن يتبدل مع رعاية النصفة، وبيانه: من استأجر دابةً ليركبها، فله أن يُرْكِبها غيرَه، إذا كان في مثل جثته وثقله. فهذا مثال تبدل المستوفي.
وأما ما تستوفى المنفعة منه، فهو العين التي وردت الإجارة على استحقاق منفعتها، فلا سبيل إلى تعديلها، وهذا [مثل] (2) تعيين دابة للركوب، لا يجد المكتري سبيلاً إلى إبدالها، بحكم الإجارة المنعقدة، ولو أتلفت الدابة المعينة، انفسخت الإجارة، [وتعليل] (3) ذلك بيِّن؛ فإنَ المنافع متعينة بتعيّن مورد العقد، فإبدالها كإبدال المبيع المعيّن، وتلفها قبل استيفاء المنفعة كتلف المبيع قبل القبض،
__________
(1) في الأصل: بحكم.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: وتعيين.

(13/18)


وما ذكروه في تبدل المستوفي جارٍ على [القياس] (1)؛ فإنه استحق المنفعة وملكها، والشرع سلَّطَهُ على إحلال غيره محل نفسه بالإعارة والإجارة، ومن ضرورة ذلك تبدل المالك والمستوفي.
ثم قالوا: ما يقع به الاستيفاء بمثابة الثوب يعيَّن للخياطة، فيقول مالكه: استأجرتك لتخيط هذا الثوب، فاستيفاء المنفعة يقع بذلك الثوب. فلو أراد مالك الثوب أن يأتي بثوب مثلِه؛ فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنَّ له ذلك.
وتبديل الثوب كتبديل المستوفي؛ فإنَّ المستحَق خياطةٌ للأجير، ولا يختلف الغرض بتعدد الثياب مع تماثلها.
والوجه الثاني - أنَّ ذلك الثوب يتعيَّن؛ [فإن] (2) العقد كما عيّن العاملَ- حتى لا يجوز له أن يقيم غيرَه مقام نفسه، وإن كان عملُ غيره بمثابة عمله أو أفضل من عمله، فكذلك اقتضت الإجارة إيقاع عملٍ في عين، فيجب تعيّنها حتى لا [يقع] (3) إبدالها.
وهذا القائل يعسر عليه الفصل بين تبدل المستوفي -الممثَّل براكب الدابة- وبين تبدل الثوب: والممكن فيه أن منفعة الدابة لا تقع بالراكب، وإنما هو انتفاع من غير تأثر به، والثوب يتأثر بالخياطة ويقع فيه وتبقى ما يبقى، حتى اختلف قول الشافعي في أنها إجارة أو عين؟ كما ذكرنا القولين في كتاب التفليس.
وهذا المعنى يجري في المتعلم المستأجِر؛ فإنه يتأثر بالتعلم، وإن كان من وجه [مستوفياً] (4) للمنفعة، فقد ساوى مكتري الدابة؛ من حيث إنه يستوفي المنفعة المستحقة، وهو في التحقيق كالثوب الذي تقع الخياطة به، من جهة تأثره بالتعلم.
ثم حاصل ذلك يرجع إلى تعلق الأثر بهذه العين، والأعيان لا يدخلها الإبدال في العقود الواردة على الأعيان، فهذا مبلغ الإمكان في التوجيه، والأصحُّ الأول.
__________
(1) زيادة مكان بياضٍ بالأصل.
(2) في الأصل: أن.
(3) في الأصل: يمنع.
(4) في الأصل: مسبوقاً.

(13/19)


8367 - ثم اختلف مسلك أئمتنا في تنزيل الوجهين، فذهب العراقيون وطوائف من المراوزة إلى أنَّا [لو] (1) منعنا الإبدال، نمنعه مع التراضي أيضاً، إلاَّ أن يُفرض عقد صحيح في الاعتياض من منفعة بمنفعة، وهذا [كما] (2) لو استأجر رجل داراً وقبضها، ثم استأجر المستأجر بمنفعة تلك الدار دابةً، فلا يمتنع هذا. وهؤلاء يقولون: لو تلف الثوب المعيّن، انفسخت الإجارة، كما تنفسخ بتلف الدابة المعينة، وصار صائرون إلى أن الثوب لو أبدل بمثله باتفاقٍ منهما وتراضٍ، جاز بلا خلاف.
وإنما الوجهان فيه إذا أراد مالك الثوب أن يُبدِل، فأبى الخيّاط، وهذه طريقة القاضي.
وبالجملة: التفريع على منع الإبدال ضعيف في الطريقين.
وكل ما ذكرناه، فيه إذا ورد الإصداق والإجارة على عين المعلّم.
فأما إذا كانت الإجارة واردة على الذمة، مثل أن يُصدقها الزوج تعليم سورة البقرة، ولا يتعرض لتعليم نفسه، فلا شك أنه لا يتعين عليه التعليم بنفسه، وله أن يقيم غيره في ذلك مقام نفسه. وهذا بيِّن في أحكام الإجارات.
ولا يمتنع -والحالة هذه- أن يكون المتلزم جاهلاً بما التزم التعليم فيه، لأنه إذا كان لا يتعين [للتعليم] (3)، فلا معنى لاشتراط علمه.
8368 - ومما يدور في الخلد أنَّا هل نشترط تعيين السورة والجزء الذي يقع التوافق على التعليم فيه؟ هذا فيه تردُّدٌ: ظاهر كلام المشايخ: أنه لا بد من التعيين فيه؛ فإنَّ السور مختلفة، فمنها متشابهات، ومنها ما يصعب حفظها، والأمر في ذلك على تفاوت بيِّن.
وكنت أود في هذا المنتهى ألاَّ يصح الإصداق للاستئجار على التعليم قبل أن يَخْبُر حفظ المتعلم، كما لا يصح إجارة الدابة للركوب قبل أن يُعايَن الراكب.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة لاستقامة الكلام.
(3) في الأصل: للتعيين.

(13/20)


[ولأن] (1) تفاوت الحفظ والتوقف، يدنو من تفاوت الجثث أو يزيد عليها.
وظاهر كلام الأصحاب: أن هذا لا يشترط، وقد يتجه في عدم اشتراط هذا، التعلقُ بحديث الأعرابي والواهبة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بأن يخبُرَ حفظَها، لمّا قال: " زوّجتكها بما معك من القرآن ".
وقد ينقدح أن يقال: فيما قد كان أصدقها تعليم خَمس أو عَشر من أول سورة البقرة (2)، هكذا الحديث، ولعل الأمر كان يقرب في هذا المقدار ولا يتفاوت تفاوتاً محسوساً.
وليس يبعد أن يقال: يجوز اكتراء دابة تركب من الدار إلى السوق، من غير نظر إلى جثة الراكب، فإن التفاوت لا يحس في هذا المقدار، سيما إذا كانت الدابة [قويّة] (3).
فرع:
8369 - إذا أسلمت امرأة، فتزوجها رجل، وتعين عليها تعلم الفاتحة، ولا معلم بالحضرة [غير] (4) الزوج؛ فالمذهبُ الأصحُ أنه لو أصدقها تعلُّم الفاتحة، صح. وجبُن بعض أصحابنا، فمنع هذا في هذه الصورة، ومنع الاستئجار في مثلها أيضاً، وصار إلى أنَّ تعليم الفاتحة متعيَّن على الرجل، حقاً لله تعالى، فلا يجوز أن يأخذ على مقابلةِ تأدية المستحَق عليه عوضاً.
وهذا ليس بشيء، فإنَّ الأصل وجوب التعلم عليها، فإن تُصُوِّرت صورة تعين فيها تحصيل الغرض من شخص، فالقاعدة هي المرعيّة. وهذا بمثابة ما لو اضطر الرجل إلى تناول طعام غيره، فليس لمالك الطعام أن يمنعه مع استغنائه عنه، ثم تعيين بذل الطعام لا يمنعه بيعه منه. والعبارة الفقهية في هذا: أنَّا لا نطلق القول بتعيين بذل
__________
(1) في الأصل: ولا تفاوت ...
(2) ورد ذكر الآيات من سورة البقرة، في حديث أبي هريرة، عند أبي داود، بلفظ: " ما تحفظ من القرآن؟ قال: سورة البقرة أو التي تليها، قال: قم فعلّمها عشرين آية، وهي امرأتك " (ر. أبو داود: كتاب النكاح -باب في التزويج على العمل يعمل- حديث رقم: 2112).
(3) غير مقروءة في الأصل.
(4) في الأصل: عن.

(13/21)


الطعام، بل نقول: يتعين على مالك الطعام بيع الطعام من المضطر، وكذلك يتعين على الرجل تعليمها بالعوض.
وقد يمتنع المضطر عن الابتياع، فيتعين إذ ذاك على مالك الطعام إنجاده بالعوض على الرأي الأصح.
وفيه وجه آخر، أنَّ العوض لا يلزم. وسنأتي بغوائل هذا في كتاب الأطعمة، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
8370 - المسلم إذا تزوج كافرةً على أن يعلِّمها شيئاً من القرآن، فقد قال الأئمة: إذا كان يرتجي بذلك أن تسلم إذا تعلمت، فيجوز الإصداق، وعليه يدل قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] والاستماع والتعليم بمثابةٍ. ثم لا قطع بالقبول، فإنه تعالى قال: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: 6]
وإن كان لا يرتجي لها الإسلام بتعليم القرآن، فقد قال الأصحاب: لا يجوز أن تُعلَّم والحالة هذه.
وكذلك إذا أراد الرجل أن يعلِّم جاريته الكافرة القرآن، وكان لا يأمل أن تسلم، وإنما يبغي أن يثبت لها صفةً تزداد قيمتُها بسببها، فلا يجوز ذلك؛ فإنها قد تستخفّ بما تتلقف، ونزَّل الأئمة هذا منزلة بيع المصحف من الكافر.
وهذا فيه نظر؛ فإنه يلزم منه منع الكفار من التحويم على حِلَق القرآن؛ فإنهم قد يتلقنون من تدارس القرّاء الآية والآيتين، ولم ينته الأئمة إلى هذا، ولا بد منه إذا طردنا قياسهم.
فرع:
8371 - إذا أصدق المرأة تعليمَ القرآن، ثم علّمها الآية والآيات، فنسيت، فهل عليه إعادة ما نسيت [تعلمها] (1)؟ أم يخرج عن عهدة ذلك القدر، ويعلّمها البقية؟ وما التفصيل في ذلك؟ وكيف الضبط؟ وأين الموقف؟
قال العراقيون: اختلف أصحابنا، فمنهم من قال: الحدُّ الذي إليه الموقف
__________
(1) في الأصل: عليها. وتأنيث الضمير على أن المراد (الآيات).

(13/22)


[الآية] (1)، فإذا حفّظها آية، فقد خرج عن العهدة، فإن نسيت بعد ذلك، فليس عليه إعادة تلك الآية عليها، وأن يعلِّمها البقية، وإن علّمها دون آيةٍ، فنسيت، فيعيد عليها، إلى استكمال آية.
قالوا: ومن أصحابنا من قال: الحد المعتبر سورةٌ، على حسبا ما ذكرناه في الآية.
والوجهان عندي مدخولان: أمَّا السورة، فلا وجه للتقدير بها مع تفاوت السور، وقد يُصْدِقُها بعضَ السورة، وأمَّا التقدير بالآية، فلا وجه له أيضاً، ومن الآي قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] وآية المداينة، فالوجه إذاً [تحكيم] (2) العادة في هذا: والمتلقن المتلقف يحفظ الكلمات كما يسمعها، ثم [ينتشر] (3) عليه الحفظ، فيعيد عليه الملقن، وقد يجري ذلك مراراً، فلا يكون ما جرى أولاً من إعادة الملقن لتلك الكلمات متقناً. فهذا [بيّنٌ] (4) وفيه عُرفٌ يعرفه أهله.
وإذا تم التلقن، فيبقى وراء ذلك نظر، وهو أنَّ المتلقن مؤاخذ في العرف بأن يكرر ما تلقنه في نفسه، فإذا لم يفعل، عُدَّ ذلك تقصيراً منه، فليقع البناء على هذا الذي ذكرناه. ولا يقع التقدير بالمبالغ.
ولو قال قائل: التلقين يقع في مقدار يحويه مجلس، فإذا فرض القيام عنه، والعود إلى مجلس آخر، ثم ينسى المتلقن ما تقدم، فهذا يحمل على تقصيره، وقد يحتمل منه عثرات فيه.
والحكم المرجوع إليه العرف فيه، وينشأ منه أنَّ المتلقن إذا كان يلهو أو يسهو ولا يُكِبّ، لم يُحتمل هذا، وفي كل واحد من التلقين والتلقن عُرفٌ متبع بين طرفي الإغفال، ونهاية الإقبال.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: تحكم.
(3) في الأصل: ينشرم (ولا معنى لها).
(4) في الأصل: "أبين".

(13/23)


فرع:
8372 - إذا أصدق امرأته تعليم الفُحش من الأشعار، والخَنا في الحكايات، فهذا الإصداق فاسد، ولو أصدقها تعليم ما يجوز تعليمه جاز.
وإذا أصدق الذمي الذمية تعليم التوراة والإنجيل، فهذا عندنا كما إذا أصدقها الخمر والخنزير، فإنَّ تعليم التوراة وتعلّمَها غير سائغ، وإنْ ترجمت التوراة بلسان نعرفها، ولم يكن فيها ما ننكره، فهو كسائر أنواع الكلام.
وقد نجز القول في تعليمِ القرآن وأَصْدِقَتِه وما يتعلق به.
8373 - فأما القول في ردِّ الآبق؛ فإن كان مكانُه مجهولاً، فالاستئجار على رده باطل، وتصح معاملة الجِعالة في رد الإباق، والسبب في ذلك مسيس الحاجة، ثم احتملت الجهالةُ في الجِعالة جوازَها، وعورضت الجهالة بالتمكن من الفسخ متى شاء.
وإذا أثبت ردّ الآبق صداقاً، فيجب أن يكون موضع العبد معلوماً، بحيث يجوز الاستئجار على رده؛ فإن رد الآبق -لو أُثبت على الجهالة صداقاً-، لثبت لازماً؛ فإنَّ الصداق لا يثبت جائزاً، ولو ثبت على اللزوم بعُد عن قبول الجهالة، لما نبهنا عليه من أنَّ سبب احتمال الجهالة في الجعالة ما ثبتت المعاملة عليه من الجواز، فهذا هو الغرض من جعل رد الآبق صداقاً.
8374 - [فأما] (1) جعل خياطة الثوب صداقاً فبيّن، والوجه إثباتها بحيث يجوز الاستئجار عليها، كما تمهد.
8375 - ثم إنا نذكر بعد هذه الفصول الثلاثة في تعليم القرآن، ورد الآبق، وخياطة الثوب، نوعين من الكلام: أحدهما - في توفية هذه المسميات على الكمال، مع فرض الطلاق قبل المسيس.
والثاني - في طريان الطلاق قبل توفية هذه الحقوق، ويَعترض في أثناء الكلام تأكدُ المهر وتقرره بالمسيس قبل توفية المسميات. وإن أحببنا أفردناه بالذكر.
__________
(1) في الأصل: ما.

(13/24)


فأمَّا إذا أوفر ما سمّى، فعلّم ما كان شَرَطَ، أو ردّ الآبق، أو خاط الثوب، ثم طلقها قبل المسيس، فسيأتي -إن شاء الله تعالى- في مسائل الصداق أنَّ الطلاق قبل المسيس مشطّرٌ.
فإن كانت العين المصْدَقةُ باقيةً، ارتد شَطْرها إلى الزوج، فإن كانت فائتةً نُظر، فإن كانت من ذوات الأمثال غرِمت للزوج مثلَ نصف ما قبضت، وإن كانت من ذوات القيم، غرِمت له نصف القيمة، على ما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل.
فنقول: [ليس] (1) التعليم، ولا الرد، ولا الخياطة مما يمكن فرض رجوع نصفه إلى الزوج، فنَجعلُ هذه المسميات كالعين المقبوضة الفائتة، وهي من ذوات القيم، وقِيَمُ المنافع أجرتُها، فيغرم الزوج -إذا طلق قبل المسيس في جميع هذه المسائل- نصف الأجرة. وقد انفصل الغرض.
[وأما] (2) إذا طلقها قبل المسيس، وما كان وفَّى شيئاً مما سمّى في الفصول الثلاثة؛ فنقول أولاً: رد العبيد لا يتبعض؛ فإنَّ ردَّه إلى بعض الطريق ضائع.
وقال الأئمة: الخياطة لا يتبعض أيضاً، وألحقوا به التعليم، وقطعوا في الطرق بأنه لا يتبعض، وفائدة امتناع التبعض في هذه الأشياء أنَّا لا نُلزم الزوج توفيةَ الجميع على أن تغرم له نصفَ القيمة. هذا لا سبيل إليه، وقد اعتقدنا امتناع التبعيض.
فينتظم من ذلك كلِّه الحكمُ بتعذر توفية الصداق، فصار كما لو أصدق امرأته عبداً، وتلف في يده، ثم طلقها قبل المسيس، ولو جرى ذلك، لكان فيما يلزمه (3) في مقابلة نصف الصداق لزوجته قولان: أحدهما - أنه يلزمه نصف القيمة، والثاني - أنه يلزمه نصف مهر المثل، وحقيقة هذين القولين سرُّ كتاب الصداق ومرجوعُ المسائل. وسنصدّر الباب المعقود إثر هذا ببيان ذلك، إن شاء الله تعالى.
8376 - والذي يبقى من المباحثة في الفصل، تقدير التعذر في التبعيض، فنقول:
__________
(1) في الأصل: أليس.
(2) في الأصل: وما.
(3) في الأصل: فيما لم يلزمه.

(13/25)


إذا كان أصدقها تعليم سورة، فالوصول إلى درك نصفها عسر، وإن تكلف متكلف عدَّ الحرفِ وتنزيلَ الشَّطر عليه، فماذا يصنع بنظم الكلام، وهو على تفاوت بيِّن؟ وفيه من اليسر والعُسر في التلقين والتلقن؛ فيتعذر ضبطُ هذا ودركُ نصفه.
وكذلك القول في خياطة بعض الثوب، وردِّ العبد إلى بعض الطريق.
فلو فَرَض فارضٌ خياطة لا [تعاريج] (1) فيها، في دروزٍ (2) مستقيمة [ويقع الاكتفاء بشَطْرها، بأن يشبكها كضِفّتي ملاءة تؤلفان] (3)، فالتنصيف في هذا مُدرَك.
وقد ينتفع صاحب العبد برده إلى نصف الطريق، وتسليمه إلى موثوق به من [أصحابها] (4).
وإذا فرض الفارض ذلك، أو تعليمَ سورة سهلة المأخذ من المفصّل، كسورة
__________
(1) كذا قدّرناها مع أنها رسمت هكذا [نعارت]. والذي سوّغ لنا هذا التقدير هو رعاية المقابلة مع كلمة: (دروز مستقيمة).
(2) دروز مستقيمة: الدروز جمع دَرْز، والدّرز موضع الخياطة، والدّرزي: الخياط (المعجم) والمعنى هنا أن الخياطة المستأجر عليها تكون في خطوط مستقيمة.
(3) هذه العبارة بين المعقفين فيها تصرف غير معهود منّا، فقد أخذنا أنفسنا بأن نقيم العبارات غير المقروءة، والمصحفة والمحرفة بأقرب صورة لألفاظها وكلماتها، بل وما بقي من ظلالها وأطراف حروفها، عندما تطمس أو تنمحي؛ وذلك حتى يبقى الباب مفتوحاً لمن يلهمه الله؛ فيقرأ هذه الكلمات القراءة الصحيحة التي أرادها المؤلف، والتي لم نُعَن نحن على قراءتها.
ومن أجل هذا نَصِفُ شكل الكلمات، وكيف رسمت، وكيف نُقِطت، مع وعدِ -إن شاء الله- أن نصوّرها من المخطوط ونضعها في قائمة خاصة بآخر الكتاب، هذا مع العلم بأن هذه الكلمات كثيراً ما تقل درجة وضوحها حتى يصعب تصويرها وطَبْعها. والله المستعان.
هذا، وأصل هذه العبارة في المخطوطة كانت هكذا: " فلو فرض فارض خياطة لا (نفارت) فيها، في دروز مستقيمة وقع الاكتفاء بشرطا وللشكها كضفي ملكه مؤلفان، فالتنصيف في هذا مدرك " ا. هـ.
فهنا عدّلنا كلمة (وقع) إلى: ويقع. وغيرنا كلمات (بشرط) إلى: بشطرها، و (ينشبك) إلى بأن يشبكها. فكأن (الألف) في شرطا تكون مع النون التي اتصلت خطأ بالكلمة بعدها، كأنهما يكونان كلمة (أن)، وأما كلمة (ملكة) فهي إما محرفة عن كلّة، أو هي اسم غير عربي لنوعٍ من ملابس ذلك العصر، ولذا غيرنا إلى: مُلاءة. والله أعلم. (انظر صورة العبارة كلها عسى أن يلهمك الله قراءتها).
(4) في الأصل: "أصحابنا" وهو سبق قلمٍ لا شك والمراد أصحاب الزوجة.

(13/26)


الرحمن وغيرها مما يتخيره الإنسان بعد وضوح الغرض، فقد يقرب دَرْكُ التنصيف.
وإذا أُضيف ما ذكرناه إلى تفاوت الناس في جودة الحفظ والبلادة، كان هذا أقربَ محتملاً وأسهلَ مُدركاً مما ذكرناه.
ولم يتعرض الأصحاب لذلك كما تقدم، وأطلقوا القول بأنَّ هذه الأشياء لا تقبل التنصيف، والوجه عندنا حمل كلام الأصحاب [على] (1) الغالب؛ فإنَّ الخياطة يغلب فرضها في القمصان والجباب والأقبية (2)، وما في معانيها، والتعليم يفرض في حزب من القرآن، فإن تكلف متكلف الفرض في الصور التي ذكرناها، لم يخف المصير إلى إمكان التشطير.
ثم القول في الرد بالخياطة -إن اعتقدنا إمكان التشطير- بيّن.
8377 - والقول في تعليم النصف مما سَمَّى صداقاً يتعلق بأصلٍ آخر، وهو أنَّ النكاح إذا تقيد بالمسيس وتقرر المسمى به، وما كان علَّمها شيئا، فإذا حَرُمَتْ عليه، وكان لا يتأتى التعليم إلا مع التعرض للفتنة؛ فهذا صداقٌ تعذر تسليمه، وإن أمكن التعليم [من] (3) وراء حجاب من غير تعرض للفتنة، فالتسليم ممكن، فيقع القول في الشطر على هذا النحو.
وتمام البيان أنه إذا تعذَّر تعليمها، فجاءت بغلام، وأحلَّته محل نفسها، ورضيت بأن يعلمه، فهذا يتصل بما قدمناه من أنَّ ما به استيفاء المنفعة هل يُبْدَل؟ وقد مضى موضحاً مُفَصَّلاً.
...
__________
(1) في الأصل: عن. والمراد أصحاب الزوجة.
(2) الأقبية: جمع قَباء.
(3) زيادة من المحقق.

(13/27)


باب
صداق ما يزيد وينقص
قال الشافعي: " وكلّ ما أصدقها، فملكته بالعقد، وضمنته بالدفع؛ فلها زيادته وعليها نقصانه ... إلى آخره " (1).
8378 - مذهب الشافعي ومعظم العلماء أنَّ النكاح إذا انعقد مشتملاً على مسمًى صحيح، فإنه يتضمن إثبات ملك جميع الصداق لها، ولا يتوقف ملكُها الصداقَ على المسيس، كما لا يتوقف ملكُ الزوج كلَّ البضع.
ثم لو فرض الطلاق قبل الدخول، تشطَّر من وقت الطلاق الصداقُ، من غير إسناد (2) ولا تبيُّن، كما سيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله عز وجل.
وقال مالك (3): لا تملك المرأة بالنكاح إلاَّ نصف المهر، وتملك النصف الثاني بالدخول.
فإذا تمهد ما ذكرناه، وقد أصدق الزوج امرأته عيناً من الأعيان، ولم يُسلِّمها إليها، فالصداق مضمون على الزوج قبل التسليم.
8379 - وفي كيفية الضمان قولان منصوصان في مسائل (السواد) (4): أحدهما - أنَّ الزوج يضمنه ضمان العقد؛ لأنه عوض في معاوضة، وكان مضموناً ضمان الأعواض، كالثمن في البيع.
والقول الثاني - أنَّ الزوج يضمنه ضمان اليد كالمستام والمستعير ونحوهما.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 19.
(2) سبق شرح الإسناد والتبين أكثر من مرة، وبإيجاز شديد هو وقوع الحكم الآن مستنداً إلى سبب سبق، أو تبيناه بعدُ.
(3) ر. الأشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 716 مسألة رقم: 1295، وجواهر الإكليل: 1/ 308، وفيهما أن المهر لا يتقرر إلا بالدخول، وليس فيهما إشارة إلى تقرر نصفه.
(4) السواد: هو مختصر المزني، كما تكرر أكثر من مرة.

(13/28)


توجيه القولين: من قال: إنه يَضمن الصداق ضمانَ الأعواض، احتج بأنَّ الصداق عِوضٌ، كما تقرر في صدر الكتاب، ولم يُثبت مقتضى الضمان سوى العقدِ؛ فيجب إثباتُ ضمان العقود.
ومن قال: إنه مضمون باليد، احتج بأن قال: الصداق إذا تلف في يد الزوج قبل تسليمه، فالنكاح لا ينفسخ بتلف الصداق، والبضع هو المعوَّض -إن كان الصداق عوضاً- ويبعد جريان الانفساخ في المعاوضات في أحد العوضين [دون الآخر] (1).
وحقيقة القولين ترجع إلى أنَّا إن قضينا بكون الصداق مضموناً ضمان العقود، فعقد الصداق على هذا ينفسخ، كما ينفسخ البيع بتلف المبيع قبل القبض.
ثم مِن حُكم انفساخِ البيعِ بهذه الجهة: أنَّ الثمن إن أمكن استرداده يُسترد، وإن كان فائتاً يُسترد بدلُه مثلاً إن كان من ذوات الأمثال، أو قيمتُه إن كان من ذوات القيمة.
كذلك إذا حكمنا بانفساخ عقد الصداق، فارتداد البضع غيرُ ممكن؛ للإجماع على بقاء النكاح، وإذا امتنع ارتداد البضع، ثبت بدلُه، وبدلُ البضع قيمته، وهي مهر المثل.
فهذا تحقيق هذا القول.
ومن قال: الصداق لا يُضمن ضمانَ العقود؛ فما يعضد جانبَه أنَّ الصداق والبضع لا يتقابلان تقابل الأعواض؛ ولذلك لم يكن الصداق ركناً في النكاح، ثم عقدُ الصداق لا ينفسخ عند هذا القائل كما ينفسخ النكاح، بل يقال: تسليم الصداق مستحَق على الزوج، فإذا فات تسليم العين، خَلَفتها القيمة، ويجب تسليمها.
ومما يتعلق به هذا القائل: أنَّ البضع مملوك للزوج [فيبعد] (2) أن يتقوّم عليه البضع الذي هو حقه وملكه؛ فكان الرجوع إلى قيمة العوض أولى من الرجوع إلى قيمة الملك.
وإنما تردد القول فيما ذكرناه؛ من جهة أنَّ الصداق لا يخرُج عن الأعواض، وليس هو على حقائقها، ومست الحاجة عند فرض تلف الصداق إلى إثبات شيء على
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: يبعد (بدون الفاء).

(13/29)


الزوج، فاقتضى أحد القولين التشبيهَ بضمان العقود التي تنفسخ من الجانبين، وإن كان النكاح لا ينفسخ. واقتضى القول الثاني التشبيهَ بضمان ما ليس عوضاً، وإن كان الصداق عوضاً، ورجع إلى إثبات الأَوْلى من قيمة البضع أو قيمة الصداق. وسنوضح هذا بأبلغ من ذلك في أثناء الفصل، إن شاء الله عز وجل.
8380 - والذي نراه الآن تعجيل مقدار من التفريع على القولين يتمهد به فهمهما، فنقول: إن حكمنا بأنَّ الصداق مضمون ضمان العقد، فإذا تَلِف في يد الزوج، انقلب إلى ملكه قُبيل التلف، وقُضي بأنه باق على ملكه، وإن كان عبداً، فعليه مؤنة التجهيز، وهذا بمثابة المبيع يتلف في يد البائع، ونقضي بانفساخ البيع، [هذا، ومما [(1) يتفرع على هذا القول أنَّ المرأة لو أرادت أن تتصرف في الصداق قبل القبض بالبيع، لم يصح ذلك منها، كما لا يصح بيع المبيع قبل القبض؛ فإنَّ الصداق على هذا القول مضمون بالعقد ضمان الأعواض، فلو باعته، لضمنت، [ولأدّى إلى] (2) أن تكون العين الواحدة [مضمونة] (3) لها وعليها، وهذا يُفضي إلى توالي الضمانين، وعليه مُنع بيع المبيع قبل التسليم.
وإن فرعنا على القول الثاني، فإنَّ بيعها ينفذ في الصداق قبل التسليم، كما ينفذ بيع [المُعير] (4) في العين المستعارة؛ فإنَّ ضمان اليد لا يجانس ضمان العقد، فلا يفضي تنفيذ بيعها إلى توالي ضماني عقدين.
وإذا تلف الصداق في يد الزوج، فإنَّه يتلف ملكاً لها، وإن كان عبداً، فعليها التجهيز (5)، والقول في ذلك كالقول في العبد المستعار يتلف في يد المستعير.
8381 - ثم إذا حكمنا بأنَّ الصداق مضمون ضمان اليد، وقد تلف، فإنْ كان من ذوات الأمثال، فعلى الزوج مِثلُه لزوجته، وإن كان من ذوات القيم فعليه قيمتُه.
__________
(1) في الأصل: وهذا مما يتفرع.
(2) في الأصل: والأولى أن تكون.
(3) في الأصل: مضمون، وهذا أثر من آثار عجمة قديمة عند الناسخ. أو من تسرّعه.
(4) في الأصل: المعين.
(5) أي إذا مات.

(13/30)


ثم اختلف قول الشافعي، فذكر في مسائل الباب قولين في كيفية اعتبار القيمة: أحدهما - أنَّ الزوج يضمنه ضمان الغصوب، فعليه أقصى القيمة من يوم الإصداق إلى يوم التلف، قياساً على الغصب.
والقول الثاني - إنه يضمن الصداق بقيمته يوم الإصداق. ووراء ذلك سرٌّ عظيم، هو مركز الفصل، فليكن هذا على ذُكْر الناظر حتى ينتهي إليه.
وقد اختلف قول الشافعي في أنَّ العين المضمونة على المستام على أي وجه تضمن؟ فقال في قول: تضمن ضمان الغصوب (1). وقال في قول: إنها تضمن بقيمة يوم القبض. ولا يُجري في المستام إلاَّ هذين القولين.
وفي المستعير هذان القولان أيضاً، وقولٌ ثالث- وهو أنَ الاعتبار بقيمة يوم التلف إذا (2)؛ لم يجر فيه من المستعير عدوان. وهذا القول يجري في المستعير؛ من جهة أنَّا لو اعتبرنا قيمةَ يوم القبض، والمستعارُ ثوب مثلاً، فالأجزاء التي انسحقت بالبِلي إلى يوم التلف لا تكون مضمونة على الرأي الظاهر، فلو اعتبرنا قيمةَ يوم القبضَ، لأدخلنا تلك الأجزاء في الضمان. وإن قلنا نعتبر قيمة الثوب منسحقاً يوم القبض، عَسُر ذلك، فتعين وقتُ التلف، وقيمةُ الثوب على ما يصادَف عليه.
وهذا ليس بمَرضيّ؛ فإنَّا إن ألحقنا هذه الأيدي بيد الغاصب، فهو قياس متجه؛ من قِبل أنَّ العين موصوفة بالضمان في كل وقت؛ فلا معنى لتخصيص وقت بالاعتبار، وهذا يفضي إلى إلزام الأقصى، ولا فرق بين الغاصب والمشبه به إلاَّ في المأثم.
وتحقيق ذلك أن وجوب ضمان الرد يجمعهما، فهذا وجه.
وإن لم نعتبر الأقصى في القول الثاني، فلا وجه إلاَّ أن نقول: كما (3) تثبت اليد يثبت الضمان، فنتمسك بأول معتبر، حتى كأن القبض إتلاف.
وإن قال قائل: هلاَّ وجهتم اعتبار يوم التلف في الأيدي كلِّها؛ لأنَّ رد العين بالتلف
__________
(1) أي أقصى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف.
(2) " إذا ": بمعنى (إذْ).
(3) " كما ": بمعنى (عندما).

(13/31)


يفوت، والقيمة تلوُ العين وبدلُها؟ قلنا: هذا يوجب نفي الضمان قبل التلف، وقد أجمع المسلمون على أنَّ العين مضمونة قبل التلف على القابض، فيستحيل قصر الضمان على وقت التلف، ويستحيل تأخيرها عن أول وقت الحكم بالضمان، وقد ذكرت قولاً بالغاً في هذا في كتاب العاريّة، واستوعبت ما قاله الأصحاب، وأتبعته بالبحث، على العادة.
وغرضنا الآن في الصداق إجراء القولين في اعتبار القيمة، أحدهما - أنَّا نعتبر يوم الإصداق، وفي هذا مزيد [نظر] (1) يقتضي تعيين يوم الإصداق، كما سنذكر الآية، إن شاء الله عز وجل.
8382 - ثم فرَّع الأصحاب على هذين القولين حكمَ الضمان في الزوائد التي تحدث في يد الزوج: المتصلة منها والمنفصلة. وقالوا: إن حكمنا بأنَّ الصداق مضمون ضمان الغصوب، فالزوائد بجملتها تدخل في ضمان الزوج -قياساً على الغاصب- مع ما يحدث في يده من الزوائد. وإن قلنا: لا يضمن الزوج ضمان الغصوب، فالزوائد لا تكون مضمونة عليه، وهي بمثابة الثوب تطيره الريح، فتلقيه في دار إنسان.
ومما فرّعه الأصحاب: أنَّ الزوج إذا انتفع بالصداق، فإن قلنا: إنه مضمون عليه ضمان اليد، فيلزمه أجر المثل. وعلى هذا القول، لو لم يستعمله وطال مكثه في يده، فالضمان يخرج على قولي الغصب ونفيه، فإن أثبتنا ضمان الغصوب ضَمَّنّا الزوجَ المنافعَ، كصنيعنا بالغاصب.
وإن قلنا: لا يضمن الزوج ضمان الغصوب، فالمنافع التي تفوت من غير تفويته، بمثابة الزوائد التي تحدث وتفوت.
وإن فرّعنا على أنَّ الصداق مضمون ضمان العقد، فالمنافع التي تفوت لا تكون مضمونة على الزوج، وكذلك ما يفوت من المنافع في يد البائع لا يكون مضموناً عليه. وإن انتفع الزوج بالصداق -على قولنا: إنه مضمون ضمان العقد- فهو كما لو انتفع البائع بالمبيع، وإن اتفق ذلك، ففي وجوب الأجر عليه جوابان مبنيان على أنَّ
__________
(1) زيادة لإيضاح الكلام.

(13/32)


جناية البائع على المبيع، بمنزلة آفة سماوية، أو هي كجناية أجنبي؟ وفيه قولان: فإن جعلناها كالآفة، لم يجب الأجر، وإن جعلناها كالجناية (1)، وجب الأجر بسبب الاستعمال.
وهذا جوابنا في الزوج إذا قلنا: ضمان الصداق ضمان العقود. فهذا تأسيس القولين وبيانهما بالتفريع في عقد الباب.
8383 - ومما أذكره -وبه يحصل تمام البيان- أنَّ الرجل إذا أصدق امرأته عبداً عيّنه، فخرج مُسْتَحَقَّاً مغصوباً، ففيما يجب مهراً قولان: أحدهما - أنَّ الواجب مهر المثل.
والثاني - أنَّ الواجب قيمة ذلك العبد المُصْدَقِ.
وهذا الاختلاف متلقًى مما قدمناه من اختلاف القول في تلف الصداق.
وتحقيق القول فيه، أنَّ الصداق إذا تلف، وقلنا: الواجب قيمته، فقد أبقينا عقد الصداق، كما أوضحنا فيما سبق، وإن كانت العين فائتة، فإذا استقل عقد الصداق دواما والعين فائتة؛ نزولاً على قيمة العين وماليتها، انعقد العقد على المالية ابتداءً، وإن لم يعتمد عيناً مملوكة. وآية ذلك، وفيه السر الموعود في أنَّا نعتبر يوم الإصداق- أنَّا نقدر أن العين لم تكن، والإصداق ورد على القيمة، والقيمة المسلَّمة هي الصداق، على القول الذي نفرِّع عليه.
وإن حكمنا بأنَّ العقد ينفسخ بتلف الصداق، فلا بقاء إذاً للعقد من غير ارتباطٍ بعين، فلذلك يفسد الإصداقُ ابتداءً، ويجب الرجوع إلى مهر المثل.
وكنت أود لو [قصروا] (2) التلف على القولين كما مضى، وقطعوا القول بأن الصداق إذا خرج مستحَقاً، فالرجوع إلى مهر المثل؛ فإنَّ صداق المغصوب فاسد؛ من جهة أنه لا متعلق له، وليس كما إذا ثبت الصداق، ثم تلف؛ فإنَّ التردد في الرجوع يُحمل على محاملَ ذكرناها.
__________
(1) أي جناية الأجنبي.
(2) في الأصل: قصر.

(13/33)


ولكن أطبق الأصحاب على ما ذكرته من إجراء القولين في الابتداء، والتصريح بأحدهما من التلف في الانتهاء.
8384 - وأنا أذكر الممكن وراء هذا، فأقول: النكاح لا يفسد بفساد الصداق، كما لا ينفسخ بتلف الصداق، فإذا فُرض في ابتداء النكاح [تسمية] (1) متعلقة بمغصوب، فقد اتفق العلماء على إثبات عوض، والعين لم تثبت، ولم يقصد المتعاقدان إثبات قيمة البضع، وإنما جرّدوا قصدَهما إلى إثبات هذا العوض المسمّى، فرجع حاصل الخلاف إلى أنَّ أحد القائلَيْن يقول: إثبات بدل المسمى أقرب؛ فإنهما رضيا به ماليةً، وقدراً، وعسر إثبات [عينه] (2)، ولو أثبتنا مهر المثل، لكان إثباتَ ما لم يقصداه.
والقائل الثاني يقول: نأخذ من [تسميتهما] (3) قصدَ العوض وعدمَ الرضا بالتفويض، ويفسد ما تعرضا له. ونقول: كأنَّ التسمية لم تكن، واضطررنا إلى إثبات عوض، وكان إثباتُ قيمة البضع أقربَ.
وهذان القولان يجريان في الخُلع، والمصالحة عن دم العمد، فإنهما لا يفسدان بفساد العوض، كالنكاح. فإذا جرى ذكر عوض فاسد، وامتنع إثباته، ففي قولٍ يثبت بدل ذلك العوض، ويُجعل ذكر العوض التزاماً، وفي قولٍ يُرجع إلى قيمة المقصود، إمَّا مهر المثل، وإما الدية في المصالحة عن الدم.
8385 - وكل ما ذكرناه فيه إذا عَيّنا عبداً، فخرج مغصوباً، فأما إذا خرج المعيّن حراً، فقد أجمع الأئمة على تنزيل ذلك بمنزلة ما لو خرج عبداً مغصوباً. وطردوا [القولين] (4) فيما يجب: أحدهما - أنَّ الواجب مهر المثل. والثاني - أنَّ الواجب قيمة ذلك الشخص لو قُدّر رقيقاً.
__________
(1) في الأصل: قسمة.
(2) في الأصل: " عينها " والضمير عائد على المسمى، كما هو واضح.
(3) في الأصل: تسميتها.
(4) في الأصل: القول.

(13/34)


وهاهنا يجب أن يتثبّت الناظر.
قال الشيخ أبو بكر في مجموعه، والقاضي في [طريقته] (1): إنما نُجري القولين إذا لم تفسد العبارة، فأما إذا فسدت، فالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً.
وبيان ذلك أنه لو قال: " أصدقتها هذا الحر ". فاللفظ فاسد، والعقد لا ينعقد باللفظ الفاسد، فالرجوع إلى مهر المثل. وإنما محل القولين فيه إذا قال: " أصدقتكِ هذا العبد "، وهذا يُضعف القولين فيه إذا قال: أصدقتكِ هذا العبد، فإذا تبيّنا بالأَخَرَة أنَّ اللفظ فاسد إذا بان ذلك الشخص حراً، ولا حكم للظنون بعد التبين، وتسمية الحر عبداً فاسد، ولم يَرِد العقد على عبد مرسل.
قال شيخي أبو محمد: هذا له التفات على مخالفة [اللفظ] (2) الإشارةَ في مثل قول القائل: " بعتك هذه الرَّمَكَة "، فإذا المشار إليه بقرة، فإنَّ من أصحابنا من يغلِّب الإشارة ويُصحح البيع، ومنهم من يغلّب العبارة ويفسدها. فإذا قال: أصدقتكِ هذا العبد، فالعبارة صحيحة، والمشار إليه فاسد غير صالح للعوضية.
وهذا الذي ذكره لا يشفي الغليل. وذلك أنَّ المشار إليه إذا فسد، فيجب تنزيل العبارة على حكم الفساد، والخلاف الذي ذكره، فيه إذا اقتضت الإشارة تصحيحاً لو فرض الاقتصار عليها، والعبارة تخالف الإشارة، فمن الأصحاب من يُحبِط العبارة ويغلِّب الإشارة.
وحاصل ما ذكره الأصحاب -بعد ما ذكرناه من وجوه الإشكال- أنه لو قال: " أصدقتكِ هذا الحر "؛ فالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً.
وإذا قال: " أصدقتكِ هذا العبدَ " -وهو حر- فقولان. هذا منتهى الإمكان.
8386 - ولو قال: " أصدقتك هذا العصير "، فتبين أنه خمر، أو قال: " أصدقتك هذه النعجة "، فإذا هي خنزير؛ فقد اضطرب طرق الأئمة. فالذي قطع به شيخي وطائفة من الأصحاب: أنَّا نحكم بالرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً من غير
__________
(1) في الأصل: طريقه.
(2) في الأصل: مخالفة لفظ الإشارة.

(13/35)


تفصيل، ولا ننظر إلى العبارة ما اشتملت عليه، وذلك لأنَّ الخنزير لا يقبل التقويم، وكذلك الخمر، فلو قوّمناهما، لاستحال، ولو قدرناهما نعجة وعصيراً، كان هذا [تقريراً] (1) لتقدير الصفة الخِلْقية، وليس كالرق نقدره في الحر؛ فإنه حكم، والتقدير أن يحتمل تقدير الحكم، فأما أن يبنى على تغيير الخلق، فهذا لا سبيل إليه، فصار تعذر التقويم في الخمر والخنزير بمثابة [تعذر] (2) التقويم في المجهول، ولا خلاف أنَّ من أصدق امرأته مجهولاً، فالرجوع إلى مهر المثل.
8387 - وذهب القاضي والصيدلاني إلى إجراء القولين في الخمر والخنزير، ثم بنى هؤلاء مسلكهم على العبارة؛ فقالوا: إذا قال: " أصدقتكِ العصير "، وهو من ذوات الأمثال، فخرج خمراً، ففي قولٍ نوجب مهر المثل، وفي قولٍ نوجب مثل العصير.
وإن قال: " أصدقتكِ هذه الخمر "، فاللفظ فاسد على رأيهم، والرجوع إلى مهر المثل. وعند ذلك تتفق الطرق.
ولست أدري ما يقوله هؤلاء فيه إذا قال: " أصدقتكِ هذا "، واللفظ لا فساد فيه، ولم يجر فيه ما نعتمده في تقويمِ أو اعتبارِ مِثْلٍ، والخمرة لا تتقوم، فيظهر هاهنا أن ذلك ينزّل منزلة قوله: " أصدقتكِ هذا الخمر "؛ فإنا لو لم نقل به، لم يمكننا أن نعتبر الخمر بالعصير، ولو فعلنا توجَّه أن نعتبرها خلاً، ولا ضبط.
ويبعد أن تُعتبر قيمتها عند من يرى لها قيمة- كما صار إليه بعض الأصحاب في أنكحة أهل الذمة إذا اتصلت بالإسلام، وقد جرى القبض في بعض الخمور المجعولة صداقاً.
وكل ذلك خبطٌ في هذا المقام، والوجهُ: القطع بالرجوع إلى مهر المثل في تسمية الخمر، وفي الإشارة المطلقة، وليس كالإشارة المطلقة إلى الحر؛ فإنّه قد يتجه تنزيلها منزلة قوله: " أصدقتكِ هذا العبد " فإنَّ تقويم الحر ممكن على حال.
__________
(1) في الأصل: تقديراً.
(2) في الأصل: تعذير.

(13/36)


ومن لطيف ما يجب التعرض له: أنه إذا قال: " أصدقتكِ هذا العصير "، فإذا الخمرُ مشوبةٌ بالماء، فنعتبر عصيراً على قدرها. والجملة أنَّا نقدر تلك الشدة حلاوة، إذ لو لم نفعل هذا، فالعصير مجهول، نص على ما ذكرتُه الصيدلاني.
وعلى هذا قد لا يكون العصير من ذوات الأمثال، فالرجوع إلى القيمة.
8388 - ووراء هذا غائلة، وهي: أنه إن انقدح في الخمر والعصير ما ذكرناه، [فما] (1) وجهه في الشاة والخنزير، وأنه شاةٌ ترعى؟ وكيف التقريب بين الشاة والخنزير؟ فإن فُهِم إبدال الشدة بالحلاوة في الخمر، وتقدير العصير؛ فكيف السبيل في الشاة والخنزير؟ وهذا وضَّح أنَّ الوجه: القطع بأنَّ الرجَوع إلى مهر المثل.
فهذا منتهى ما أردنا أن نذكره في حقيقة القولين في أنَّ الصداق مضمون بالعقد [أو] (2) باليد.
ورجع حاصل الكلام في الفوات الطارىء والفساد المقترن: أنَّ التقويم إن أمكن، فقولان: أحدهما - أنَّ الرجوع إلى مهر المثل.
والثاني - أنَّ الرجوع إلى القيمة. والحر مما يمكن تقدير تقويمه، والمجهول لا يمكن تقويمه، فإذا اضطررنا إلى إثبات عوض، فلا طريق إلاَّ الرجوع إلى مهر المثل.
وإن فرّعنا على أنَّ الصداق مضمون باليد [ففي] (3) الخمر والخنزير التردد الذي حكيناه.
ولا خلاف أنَّ الشقص إذا أُثبت [صداقاً] (4)، فالشفيع لا يأخذه بقيمته، وإن رجعنا في التفاصيل التي ذكرناها إلى قيمة الصداق؛ فإنَّ الشفيع أبداً يأخذ بعوض مقدر في مقابلة الشقص، فبابه ينفصل عما [نحن] (5) فيه، وهو بيِّن عند التأمل.
__________
(1) في الأصل: فيما.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: في.
(4) في الأصل: إصداقاً.
(5) في الأصل: يختص.

(13/37)


فصل
8389 - إذا تمهّد ما ذكرناه في تمهيد القولين، جاز بعده أن نذكر ما يلحق الصداقَ في يد الزوج من ضروب التغايير، فنذكر تقاسيمَ جامعةً، ونوضح في كل قسم ما يليق به، إن شاء الله عز وجل، فنقول:
الصداق لا يخلو: إما أن يبقى على صفته حتى يسلِّمه إليها، أو يطرأ مُغيِّرٌ، فإن بقي على هيئته حتى سلمه إليها، فقد تخلص عن العهدة، وإن تغير، لم يخل: إمَّا أن يتغير مع بقاء العين، أو يتغير بالتلف.
فإن تغيّر مع بقاء العين، لم يخل: إمَّا أن تغير بالزيادة أو تغير بالنقصان، فإن تغير بالزيادة، فالصداق مع الزيادة مسلمة إليها، سواء كانت متصلة أو منفصلة.
وإن كان التغير بالنقصان، فلا يخلو: إما أن يتغير بنقصان جزء أو نقصان صفة، فإن تغير بنقصان صفة، فلا يخلو: إمَّا أن ينتقص بآفة سماوية أو جناية، فإن انتقص بآفة سماوية فعمِيَ، أو عوِرَ، أو سقطت إحدى يديه، أو هُزِل وكان سميناً، فهذا يتفرع على القولين في أنَّ الصداق مضمون بالعقد أم باليد؟ فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، فلها الخيار بين الإجازة والفسخ، فإن فسخت، رجعت بمهر المثل، كالمبيع يتعيّب في يد البائع، فإنه يرده المشتري إن شاء ويسترد الثمن. وإن أجازت، رجعت بالصداق [معيباً] (1) ولم ترجع بشيء، كالمشتري يرضى بالعيب الحادث بالمبيع.
وإن قلنا: هو مضمون باليد، فيثبت الخيار للمرأة أيضا، فإن فسخت، رجعت بالقيمة، وإن اختارت [أَخْذ] (2) الصداق، كان لها أن تغرّمه أرش العيب؛ فإنَّ التفريع على أنَّ الصداق مضمون باليد، وما كان مضموناً باليد، فعيبه مضمون على صاحب اليد.
8390 - ومما يتصل بهذا المنتهى أنَّ المرأة إذا اطلعت على عيب قديم، وقلنا:
__________
(1) في الأصل: معيناً.
(2) في الأصل: أخذت.

(13/38)


إنه مضمون باليد، فإن فسخت، رجعت إلى القيمة، والاعتبار بقيمة العين وهي سالمة؛ إذ هذا فائدة الفسخ.
فإن قيل: هلاّ قلتم: إنها إذا ردت الصداق بالعيب، كان الرجوع إلى مهر المثل؟ وإن فرعنا على ضمان اليد؛ فإنَّ التعويل في ضمان اليد على أنَّ عقد الصداق قائم لا يرتفع بتلف المهر، والرد يتضمن الفسخ على كل حال، فكان يجب أن يقال: إذا فسخت، [فرجوعها] (1) إلى مهر المثل؟
قلنا: هذا وهم وغلط؛ فإنا إذا أجرينا القولين في خروج المسمى مغصوباً وحراً، مع العلم بأن الحرية والاستحقاق يخلفان المعيّن عن الإصداق، فالرد آخراً لا يزيد على اقتران الاستحقاق والحرية بالعقد أوّلاً، هذا إذا فسخت بالعيب القديم.
فأمَّا إذا أجازت، فالمسألة محتملة في أنها هل ترجع بأرش العيب، والتفريع على قول القيمة، وقد تردد جواب القاضي فيه، حتى لم ينقل عنه جواب باتٌّ، وسبب الاحتمال أنا إذا جعلنا الإصداق مضموناً باليد، فَيَدُ الزوج لم تثبت إلا على معيب من وقت الإصداق، فتغريمه الأرش -وقد قنِعت المرأة بالعين- لا معنى له، والأوجه في العقد أن تملك تغريمه؛ فإنها رضيت بالعين أولاً على تقدير السلامة، فكأنها استحقتها بالعقد، فإن تخلفت، كان ذلك كتخلف الرق عند بُدوّ الحرية في الشخص المسمى.
وكل ما ذكرناه فيه إذا انتقص الصداق بآفة سماوية.
8391 - فأما إذا انتقص بجناية جانٍ، فلا يخلو: إمَّا أن ينتقص بجنايتها، أو جناية غيرها.
فإن انتقص بجنايتها، يسلِّم الزوجُ العينَ ناقصةً إليها، وكانت بالجناية في تقدير القابضة لما نقص بالجناية.
وإن انتقص بجناية غيرها، فلا يخلو: إمَّا أن ينتقص بجناية أجنبي، أو بجناية الزوج.
فإن انتقص بجناية أجنبي، فلها الخيار على القولين، فإن أجازت، وقلنا:
__________
(1) في الأصل: رجوعها.

(13/39)


الصداق مضمون بالعقد، رجعت بالأرش على الأجنبي؛ فإنه جنى عليها، ولا طَلِبة لها على الزوج. وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، وقد أجازت، فهي بالخيار يعد الإجازة بين أن ترجع بالأرش على الأجنبي، وبين أن ترجع به على الزوج؛ وذلك أنَّ الصداق مضمون على الزوج ضمانَ اليد، ثم إن غرمت [الأجنبي] (1)، فلا رجوع له على أحد، وإن غرمت الزوج، رجع بما يغرَمه على الجاني الأجنبي. هذا إذا اختارت المرأة الإجازة، وقدمنا الحكم على القولين فيه.
فأمَّا إذا فسخت؛ فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، رجعت بمهر المثل، فحسب، وردّت العبد، ثم الزوج يرجع على الأجنبي بأرش الجناية.
وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فإذا فسخت، رجعت على الزوج بالقيمة مع تقدير السلامة عن هذا العيب، ثم يَتْبع الزوجُ الجانيَ بالأرش.
8392 - وإن انتقص الصداق بجناية الزوج، فإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فلها الخيار، فإن أجازت، أخذت العين ورجعت بالأرش، وإن فسخت، رجعت بالقيمة مع تقدير السلامة. وإن قلنا: الصداق مضمون بالعقد، وقد جنى الزوج، فهذا ينبني على أنَّ جناية البائع على المبيع يُنزَّل منزلة الآفة السماوية، أو يُنَزَّل منزلة جناية الأجنبي؟ وفيه قولان، فإن قلنا: حكمه حكم الانتقاص بالآفة السماوية، فقد ذكرنا حكم ذلك، وإن قلنا: حكمه حكم الانتقاص بجناية الأجنبي، فقد ذكرنا حكم ذلك أيضاً. وكل ذلك فيه إذا كان التغيير بنقصان الصفة.
8393 - فأما إذا نقص جزءٌ من الصداق، وذلك بأن يصدقها عبدين فيموت أحدهما، أو [قفيزين] (2) فتلف أحدهما، فهذا يلتحق بفروع تفريق الصفقة، وتخريجه على قواعد التفريق هيِّن. وظاهر المذهب أنَّ العقد لا ينفسخ في القائم، وينفسخ في التالف. والظاهر أنها إن أجازت العقد في القائم، أجازته بحصته من الصداق، ولا يخفى التفريع على الآخر.
__________
(1) في الأصل: للأجنبي.
(2) في الأصل: فقيرين.

(13/40)


فإن قلنا: إنه مضمون بالعقد، رجعت بحصة التالف من مهر المثل، وإن قلنا: مضمون باليد، رجعت بقيمة التالف.
8394 - وقد أفضت بنا التقاسيم بعد نجاز القول في التغايير إلى الكلام في تلف الصداق في يد الزوج، فنقول: إن تلف بآفة سماوية، فالقولان مشهوران، وهما أُمُّ الباب، وإن تلف الصداق بإتلاف مُتلِف، فلا يخلو: إمَّا أنْ يكون المتلِفُ هو المرأةُ، أو غيرُها.
فإن كانت هي المتلفة، جعلناها قابضة للصداق، وخرج الزوج عن العهدة.
وإن كان المتلف غيرَها، لم يخل؛ إمَّا أنْ يكون أجنبياً، أو يتلفه الزوج. فإن كان المتلف أجنبياَّ، وفرّعنا على أنَّ الصداق مضمون بالعقد، فالمرأة بالخيار، فإن فسخت، رجعت على الزوج بمهر المثل، ثم الزوج يَتْبع المتلفَ بالقيمة، وإن أجازت، اتّبعت المتلفَ بالقيمة، ولا طلبةَ لها على الزوج.
وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فإن فسخت، رجعت على الزوج بالقيمة، ثم الزوج يتبع المتلِف بها، وإن أجازت فلها الخيار بين أن ترجع على الأجنبي المتلف بالقيمة، وبين أن ترجع على الزوج، ثم يرجع على المتلف بما يغرم.
وإن كان المتلف هو الزوج، وقلنا: الصداق مضمون بالعقد، فهذا يبتني على القولين في إتلاف البائع، فإن جعلناه كالتلف بآفة سماوية، رجعت بمهر المثل، وإن قلنا: هو كإتلاف الأجنبي، فقد سبق حكمه، فإن فسخت، رجعت بمهر المثل، وإن أجازت رجعت بالقيمة.
وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، فهذا يتفرع على أنه على أي وجه يضمن؟ فإن قلنا: إنه يضمن ضمان الغصوب، فلا فائدة لها في الفسخ، بل لا معنى للفسخ؛ فإنها كيف فرضت الأمر، تُغَرِّم زوجها أقصى القيم. وإن قلنا: إنه يضمن باعتبار يوم الإصداق، فإن كانت قيمة يوم الإصداق أكثر، فلا فائدة في الفسخ أيضاً، ولها قيمة ذلك اليوم إذا قلنا: إتلاف البائع كالتلف بآفة سماوية.
وإن قلنا: إتلافه كإتلاف الأجنبي، فلو لم تفسخ، فليس لها إلا قيمته عند

(13/41)


الإتلاف، وإن فسخت غرّمت الزوجَ قيمةَ يوم الإصداق.
وإن كانت القيمةُ يومَ الإصداقِ أقل، وقلنا: جناية البائع كالتلف بالآفة السماوية، فلا فائدة في الفسخ؛ فإنه ليس لها إلاَّ قيمة يوم الإصداق، فإن جعلنا التلف بجناية البائع كالمتلَف بجناية الأجنبي، فلسنا نرى لها أيضاً فائدة في الفسخ؛ فإنها إن لم تفسخ، غرَّمته قيمةَ يوم الإتلاف، وهي أكثر، وإن فسخت رجعت إلى قيمة يوم الإصداق، وهي أقل. فلا ينبغي أن نُثبت لها الفسخ؛ إذ لا غرض فيه إلاَّ التنقيص والحط، وليس كما لو اطلع المشتري على عيب المبيع، وكانت قيمته أكثر من الثمن مع العيب، فإنَّا نثبت حق الرد لاختلاف جنس الثمن والمبيع المعيب، فقد يكون له غرض في رد المعيب. فهذا ما رأيناه في ذلك.
8395 - ومما يتعلق بتمام البيان في هذه الفصول، أنَّ المرأة إذا طلبت الصداق، فامتنع الزوج من تسليمه إليها حتى تلف، فالامتناع ظلم منه وعدوان، فإذا حصل التلف في يد عادية، فينبغي أن نجعل ذلك [كحصول] (1) التلف بإتلافه، ونقول: البائع لو منع المبيع، فتلف في يده بعد ما وجب عليه تسليمُ المبيع، فهو كما لو أتلفه، [فنذكر] (2) حكم المهر إذا فرض بعد العدوان بالامتناع، ونفرّع هذا على القولين في أنَّ الصداق مضمون بالعقد أم باليد؟ فإن جعلناه مضموناً بالعقد، فلها الخيار، فإن فسخت رجعت بمهر المثل، وإن أجازت، فبالقيمة، إذا جعلنا إتلاف الزوج كإتلاف الأجنبي.
فإن جعلنا إتلافه كالتلَف بآفة سماوية، فلا حاجة إلى الفسخ؛ فإنَّ الصداق ينفسخ ولها مهر المثل.
وإن قلنا: الصداق مضمون باليد، وفرعنا على أنه يُضمن ضمان الغصوب، فلا فائدة لترديد النظر في الفسخ والإجازة، ولها طلب أقصى القيم.
وإن قلنا: الصداق مضمون بقيمة يوم الإصداق، وكانت قيمة يوم الإصداق أكثر،
__________
(1) في الأصل: بحصول.
(2) في الأصل: فذكر.

(13/42)


فلا فائدة أيضاً، ولها قيمة يوم الإصداق وإن كانت أقل، ضمن أيضاً أكثر الأمرين، من قيمة يوم الإصداق، ومن قيمته من يوم المنع إلى يوم التلف؛ لأنه متعدٍّ بالمنع، فيضمن ضمان الغصب بعد المنع.
8396 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الصداق عيناً، فأما إذا كان الصداق دَيناً، فالذي يليق بهذا القسم الكلامُ في جواز الاستبدال، فإن فرّعنا على أنَّ الصداق مضمون باليد، كان [كالقرض] (1)، فإذا كان ديناً وقيمة المتلف (2)، فيجوز الاستبدال عنه قولاً واحداً، فإنا إذا كنا نجعل العين المُصْدَقَة مضمونة باليد غير مضمونة بالعقد، فنجعل الدين بمثابة ما يثبت لا على سبيل العوض.
وإن حكمنا بأنَّ الصداق مضمون بالعقد ومنعنا بيعه قبل القبض عيناً، فإذا كان ديناً كان كالثمن، لا كالمسلَم فيه، وقد ذكرنا اختلاف قول الشافعي في جواز الاستبدال عن الأثمان.
وقد نجز الغرض من تقاسيم الفصل، ونحن الآية نعقد فصلاً فيه إذا طلَّق الزوجُ زوجته قبل المسيس وبعده، ونذكر حكم تشطر الصداق، وما يلحقه من التشاطير في يده أو يدها.
فصل
8397 - إذا طلّق زوجته قبل الدخول، فقد استقر لها ملك الصداق، فإن كانت قَبَضَتْهُ على ما استحقته، فلا كلام. وإن كان في يد الزوج، فعليه تسليمه، فإن لحقه في يده تغيّر، فقد تقدم القول فيه مستقصًى.
وإن طلّقها قبل المسيس، فلا يخلو الصداق إما أن يكون عيناً أو ديناً، فإن كان عيناً
__________
(1) في الأصل: كالفرض.
(2) كذا. والكلام مستقيمٌ بدون قوله: " وقيمة المتلَف ". فالكلام هنا في الاستبدال عما في
الذمة، لا عن مُتلَفٍ، وقيمته أو مثله. وانظر المسألة في الشرح الكبير: 8/ 234،
والروضة: 7/ 250.

(13/43)


فالمذهب الأصح أن نفس الطلاق يُشطِّر الصداق، ويتضمن ارتداد نصفه إلى ملك الزوج سواء اختار ذلك أو لم يختره.
وفي المسألة وجه مشهور بأنه لا يرجع النصف إلى الزوج ما لم يختر تملكه، فإذا اختاره، رجع إليه إذ ذاك.
ووجه الوجه الأوّل ظاهرُ قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، وهذا حكم من الله تعالى، لا تعلُّقَ له بقصدِ الزوجِ واختيارهِ، وأيضاً فإنَّ موجِب رجوع ما يرجع انبتاتُ النكاح قبل استيفاء المقصود، حتى قيل: بقاء النصف عليها غير منقاس. وهذا المعنى يوجب حصول التشطر من غير قصد، كالفسوخ التي تتضمن ارتداد جميع الصداق.
ومن نصرَ الوجه الضعيف، احتج بأنَّ الطلاق ليس فسخاً للنكاح، ولكنه تصرفٌ فيه، غير أن الشرع أثبت له مستدركاً في مقدارٍ من الصداق. فليتعلق ذلك باختياره.
التفريع على الوجهين:
8398 - إن حكمنا بأنَّ الصداق يتشطر بنفس الطلاق من غير إحداث سبب آخر، فلو حدثت زيادة بعد الطلاق، فهي متشطرة بين الزوج والزوجة؛ لأنها حدثت على المِلكين. وإن قضينا بأنَّ رجوع الشطر يتوقف على اختيار التملك، فالزيادة الحادثة بعد الطلاق وقبل اختيار التملك خالصةٌ للزوجة، والمعنيّ بالزيادة ما ينفصل.
ولو حدث بين الطلاق وبين اختيار التملك نقصانٌ راجع إلى الصفة، نُظر: فإن كان الصداق في يده، فلا إشكال ولا تفريع، وإن كان في يدها، تفرع على الوجهين: فإن قلنا: الملك في الشطر لا يرجع إلى الزوج قبل اختيار التملك، فما حدث من عيب بعد الطلاق وقبل الاختيار، [فهو] (1) بمثابة ما يحدث من العيب قبل الطلاق، فإذا جرى ذلك في يدها، فللزوج التخيُّر بهذا السبب، كما سنصفه على الاتصال بهذا، إن شاء الله تعالى.
وإن حكمنا بأنَّ الملك بنفس الطلاق يتشطر، فإذا كان الصداق في يدها، فالذي
__________
(1) في الأصل: وهو.

(13/44)


ذهب إليه المحققون من أئمة المراوزة أن النصف الراجع إلى الزوج أمانة في يدها، ولا يلحقها بسبب ما يطرأ من العيب بعد الطلاق من غير عدوانها عهدة وضمان.
ولو تلف الصداق في يدها بعد الطلاق، ولم تنتسب إلى الاعتداء، لم تضمن [النصفَ] (1) الراجع إلى زوجها.
هذا ما ذكره القاضي والصيدلاني وجماعة المراوزة.
وقطع العراقيون قولهم بأنَّ النصف الراجع إلى الزوج مضمون عليها في يدها؛ فلو تلف ضمنته من غير تقصير.
وشبهوا هذا النصف في يدها بما لو باع عبداًً بجارية، ثم رُدت الجارية بالعيب ولزم رد العبد، فما لم يرده على صاحبه يكون مضموناً عليه، حتى لو تلف العبد في يده، ضمنه. فهذا مسلكهم، وهو مخالف لطريق المراوزة. وقد فرقوا بين النصف الراجع إلى الزوج، وبين المسألة التي استشهد بها العراقيون من بيع الجارية بالعبد، فقالوا: العبد عوض الجارية المردودة، فإذا رُدَّت، فمن حكم المعاوضة إثبات الضمان في العوض حتى يُردَّ، والنصف من الصداق لا يرتد في مقابلة عوض " فإنَّ النكاح لا ينفسخ بالطلاق، فالمسألة محتملة جداً؛ فإنَّ رجوع نصف الصداق في مقابلة انقلاب منفعة البضع إليها من غير استيفاء، ولولا هذا، لكان يجب ألاَّ [يرتد] (2) من الصداق شيء.
8399 - ولو كانت قبضت الصداق، ثم فسخ الزوج النكاح بسببٍ يتضمن استرداد جميع الصداق، فالذي يقتضيه قياس الطرق كلها: أنَّ الصداق يكون مضموناً [عليها] (3) حتى تردّه؛ فإنه في هذا المقام يرتد ارتداد الأعواض في الفسوخ.
وإذا ارتد الزوج قبل المسيس، وحكمنا بأنَّ ردته بمنزلة الطلاق في تشطير الصداق، فالعراقيون إذا ضمّنوها نصف الصداق عند الطلاق، فلا شك أنهم يطردون مذهبهم في هذه الصورة.
__________
(1) في الأصل: بالنصف.
(2) في الأصل: يزيد.
(3) في الأصل: عليه.

(13/45)


والذي يقتضيه قياس المراوزة أنَّ نصف الصداق لا يكون مضموناً على المرأة قياساً [على] (1) نصفه وقد طُلِّقت قبل المسيس، ولا نظر إلى الانفساخ؛ فإنَّ الصداق في ذمة الزوج لا يرتد ارتداد الأعواض في الفسوخ؛ إذ لو [كان] (2) يرتد ارتدادها، لارتد جميع الصداق.
ومما يتعلق ببيان الوجهين، أنَّا [إن] (3) جعلنا الطلاق بنفسه مشطِّراً، فلا خِيَرة.
8400 - ولو قال الزوج: طلقتك على أنَّ جميع الصداق متروك عليكِ، فلا حكم للفظهِ، وإن أراد ترك الصداق، فليهب منها النصفَ المرتد إليه، وإن حكمنا بأنَّ الارتداد يتوقف على اختيار التملك، فسبيل اختيارِهِ كسبيل الرجوع في الهبة. وسيأتي شرح ما يكون رجوعاً فيها، إن شاء الله تعالى.
8401 - والذي ترددت فيه مرامز كلام الأئمة: أنَّ المرأة بعد الطلاق هل تملك التصرف في النصف الذي يستحق الزوج تملكه قبل أن يختار التملك؟ يجوز أن يُقال: تملك التصرف فيه ملكَ المتهب، أو كما تملك قبل الطلاق التصرفَ في جميع الصداق، مع قدرة الزوج على أن يطلقها متى شاء. وهذا هو القياس.
ويجوز أن يُقال: لا تتصرف، بخلاف المتهب؛ فإنَّ الهبة معقودة للإفضاء إلى تمليك التصرف.
وكذلك القول فيما قبل الطلاق إذا طلقها الزوج، فالطلاق سبب متجدد يقتضي التسلط على [تشطير] (4) الصداق، فينبغي أنْ نُلْحقها بالملك في زمان الخيار.
ثم على هذا يطول النظر في العتق والبيع، وما يقبل التعليق وما لا يقبله، وقد مضى تفصيل ذلك في أول كتاب البيع. والظاهر تنزيلها -على اشتراط اختيار التملك- منزلةَ المتهب، ومنزلةَ المرأة قبل الطلاق، حتى تتسلط على التصرف.
ولا حاصل لقول من يقول: المتهب إذا تصرف في العين بإزالة الملك عنها، لم
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: كانت.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: تشطّر.

(13/46)


يغرمْ للواهب شيئاً إذا رجع. والمرأة إذا أتلفت الصداق قبل اختيار التملك، ثم اختار الزوج الرجوع إلى نصف الصداق، فإنه يرجع عليها بشطر القيمة؛ وذلك أنَّ هذا المعنى يتحقق قبل الطلاق، ثم تصرفها نافذ، وإن كانت لو أخرجت العين، رجع الزوج عليها بنصف قيمتها إذا طلقها.
8402 - ومن تمام القول في ذلك أن الزوج إذا طلق قبل المسيس، ولم يصادف عين [الصداق] (1)، والتفريع على اختيار التمليك، فهذا فيه عُسر في هذه الحالة، ولكن وجهه أن يثبت له اختيار الرجوع إلى شطر الصداق، فإذا اختاره، رجع عليها بنصف القيمة. ولا عود بعد ذلك إلى هذا الوجه الضعيف، والتفريع على أنَّ الطلاق بنفسه يشطّر الصداق.
8403 - وقد ذكر الشافعي في فصول (السواد) لفظةً أشكلت على المراوزة، فنذكرها ونذكر ما قيل فيها.
قال: " وهذا كله ما لم يقضِ له القاضي بنصفه، فتكون ضامنةً لما أصابه في يدها ... إلخ " (2)، فتقييد الشافعي الكلام بقضاء القاضي لا يليق بظاهر المذهب؛ فإنَّا أوضحنا أنَّ الظاهر تشطير الصداق بنفس الطلاق.
فقال الأئمة: معنى قوله: " هذا كله ما لم يقض له القاضي ". أي: لم يدخل وقت يقضي القاضي فيه بارتداد شطر الصداق إلى الزوج، وكأن المراد أنَّ ذلك إذا لم يطلق الزوج، فإذا طلق، فقد حان وقت القضاء للزوج بنصف الصداق إذا التمس ذلك من القاضي.
وقد ذكر شيخي في دروسه أنَّ من أصحابنا من قال: يتوقف تشطّر الصداق على قضاء القاضي، وكان لا يحكي اختيار التملك كما ذكره الأصحاب، بل كان يذكر المذهب الظاهر في التشطر، ثم يقول: مِن أصحابنا من قال: لا يتشطر حتى يقضي القاضي بالتماس الزوج.
__________
(1) في الأصل: الطلاق.
(2) ر. المختصر: 4/ 19.

(13/47)


وهذا وإن كان يعتضد بظاهر النص، فهو وهمٌ وغلطٌ لا شك فيه، ولا يليقُ بمذهب الشافعي ألبتة.
ومما أشكل على المراوزة من هذا اللفظ أنَّ الشافعي قال: " فتكون حينئذ ضامنة ". وهذا تصريح بأنَّ النصف الراجع إلى الزوج مضمون عليها في يدها، وهذا يطابق مذهب العراقيين. وقد ذكر المراوزة فيه تأويلاً مستكرهاً، وقالوا: هذا مفروض فيه إذا امتنعت من رد الشطر مع طلب الزوج، فتصير متعدية.
وهذا التأويل فيه بعد، والممكن في التوجيه أنَّ الشافعي ذكر قضاء القاضي تحقيقاً للامتناع، وتصويراً لمسيس الحاجة إلى الرفع إلى الحكام، فإذ ذاك ذَكر الضمان، وهذا يَقْوَى مع مصير الأصحاب إلى أنَّ قضاء القاضي لا أثر له، فحصل بالحمل على ما ذكرناه من الامتناع صرفُ قضاء القاضي إلى الحاجة عند تقدير الحاجة.
8404 - فإذا تبين ذلك، عدنا بعده إلى التفريع على ظاهر المذهب، وهو أن الطلاق يُشطّر بنفسه، فنقول: الصداق لا يخلو، إما أن يكون عيناً، أو ديناً. فإن كان عيناً، فلا يخلو: إما أن يكون قد تغير أو لم يتغير، فإن لم يتغير، فلا إشكال أنَّ الشطر راجع إلى الزوج، وإن كان قد تغير، فلا يخلو: إمَّا أن تغير بالزيادة، أو بالنقصان، أو بما هو نقصان من وجه، وزيادة من وجه.
فإن تغير بالزيادة: فالزيادة لا تخلو: إمَّا أن تكون متصلة أو منفصلة، فإن كانت منفصلة؛ فهي خالصة لها إذا حصلت قبل الطلاق، ويرجع الزوج في نصف العين سواء حصلت في يده أو يدها.
وإن كانت الزيادة متصلة، فالمرأة بالخيار بين أن تسمح بالزيادة على الزوج، وإذا هي سمحت، رجع الزوج في نصف العين زائداً، وليس له أن يكلفها القيمة- ذاهباً إلى الامتناع من قبول [مِنّتهَا] (1)؛ فإنَّ الزيادة المتصلة ليست مما يُفرد بمنْحه، وهي تجري على أقضية التبعية.
ويتصل بهذا المكان أنها إذا رضيت، كفى رضاها، ولا حاجة إلى قبولٍ من جهة
__________
(1) في الأصل: مسّها. وهو تصحيف عجيب.

(13/48)


الزوج (1)، ولابد من تصريحها بالرضا، ولا حاجة إلى منحةٍ وهبة في تلك الزيادة (2).
وإن لم ترضَ رَدَّ [نصفِ] (3) العين زائداً، [استمسكت] (4) بها، وللزوج نصفُ قيمة العين. وهاهنا نبحث عن وقت القيمة.
قال الأئمة: نعتبر أقل قيمة من يوم الإصداق إلى يوم التسليم إلى المرأة، ولا نعتبر زيادة -إن كانت- بين الإصداق وبين التسليم، ولا نعتبر زيادة بعد التسليم، واعتل الأصحاب بأنَّ قيمة وقت الإصداق إن كانت أقل، فما فرض من زيادة، فهو في ملكها وحقها، فلا تؤاخذ به. وإن فرض نقصان القيمة بعد الإصداق وقبل التسليم، فهذا من ضمان الزوج، فلا تؤاخذ المرأة به.
وكنت أود لو قيل: إذا لم يطرأ عيب، وإنما وجد تفاوت القيمة بارتفاع السعر، فالاعتبار بقيمة يوم الطلاق؛ فإنَّ الشطر إنما يرتد إلى الزوج يومئذ والعين قائمة، ولكنه لا تردها لمكان الزيادة، فالوجه أن نقول: ما قيمة هذه العين لو لم تكن زائدة، فنعتبرها. نعم، لو تلفت العين قبل الطلاق، فيتجه إذ ذاك اعتبار أقل قيمة من وقت الإصداق، إلى وقت التسليم، كما سنشرحها، إن شاء الله عز وجل.
8405 - ولو ازداد المبيع زيادة متصلة، ففُلِّس المشتري قبل توفر الثمن، فالبائع يرجع في المبيع، وإن كان زائداً، ولا تصير الزيادة سبباً لإبطال حق الرجوع في العين.
ولأصحابنا مسألتان في محاولة الفرق بين الصداق وبين المبيع في حق المفلس.
فالذي حكاه العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال في الفرق: لو أبطلنا حق
__________
(1) في الأصل: من جهة أن الزوج. والمعنى أنه لا حاجة إلى قبولٍ من جهة الزوج لهذه الزيادة المتصلة.
(2) عبّر عن هذه المسألة العز بن عبد السلام بإيجاز شديد، قائلاً: " وليس له أن يطلب القيمة دفعاً للمنة؛ إذ لا وقع لها " (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة 92 ش).
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: استمسك.

(13/49)


الرجوع للبائع في المبيع، فهذا يُثبت للغرماء حق المضاربة، وليس في قطع حق الزوج [عن] (1) عين الصداق ما يُحبط حقه في المالية؛ فإنه إن لم يرجع في نصف العين، يرجع في نصف قيمة العين، حتى لو فرض الطلاق وهي مفلسة والحجر مطّرد، فللزوج الاستبداد بنصف الصداق وإن كان زائداً؛ فإنه لو لم يرجع بالعين (2)، لضارب بالقيمة.
وهذه الطريقة غير مرضية، والوجه أن يقال في الفرق: البائع يرجع إلى المبيع بسبب فسخ البيع، وهذا يستند إلى استحقاق متعلق بالعقد، وإن كان الفسخ قطعاً للعقد في الحال، وذلك أنَّ العوضية تقضي ألا يُسلَّمَ عوضٌ من أحد الجانبين ما لم يسلَّمْ مقابله في الجانب الثاني، فلما كان حق فسخ البائع مستنداً إلى حالة العقد، والزيادة حدثت بعد العقد، يجوز أن يقال: لا اعتبار بها وتقع تابعة.
وأما رجوع نصف الصداق إلى الزوج بالطلاق، فليس يستند إلى أصل العقد استنادَ استحقاق يوجبه مقتضى العقد، وإنما هو أمر جديد لا ارتباط له بالاستحقاق السابق.
فعلى هذا إذا كانت المرأة محجوراً عليها، نظر، فإن تقدم الطلاق على الحجر، فنصف الصداق قد ارتد إلى الزوج، فطَرَيان الحجر لا يسقط ملك الزوج.
وإن جرى الحجر ثم طرأ الطلاق، فظاهر كلام الأصحاب أنَّ الزوج لا يكون أولى بنصف الصداق، [فإنَّ سبب استحقاقه تَجَدَّدَ بعد تعلّق حقوق الغرماء بعين الصداق] (3). فهذا ما نقوله ولا زيادة.
فحاصل المذهب إذاً أنَّ البائع يرجع بالعين المبيعة وإن زادت زيادةً متصلةً.
والزوج هل يرجع [إذا جرى الطلاق] (4) بعد الحجر؟ فيه ترددٌ ظاهر للأصحاب، منهم من قال: لا يرجع، وإن لم تزد العين. ومنهم من قال: يرجع.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) واضحٌ أن المقصود: بنصف العين.
(3) ما بين المعقفين مكان عبارة الأصل المضطربة هكذا: " فإن سبب استحقاقه تجدد بعد التعلق بحقوق الغرماء تعين الصداق ".
(4) في الأصل: إلى اجرا الطلاق.

(13/50)


ثم الذين أثبتوا حق الرجوع اختلفوا في أن الصداق لو كان زائداً زيادة متصلة والمرأةُ محجور عليها، فهل يمتنع رجوعه بسبب الزيادة؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، منهم من قال: يمتنع رجوعه إلا أن ترضى ويرضى الغرماء، ومنهم من قال: لا يمتنع رجوعه بسبب الزيادة، كما لا يمتنع رجوع البائع في البيع وإن كان زائداً.
8406 - ولو زاد الصداق في يد المرأة زيادة متصلة، ففسخ الزوج النكاح بعيب بها، فالزيادة في هذا المقام لا تمنع الرجوع إلى العين، ولا أثر لها، كما لا أثر لها في الرد بالعيب والرجوع بسبب الإفلاس إلى المبيع؛ والسبب فيه أن فسخ النكاح يستند إلى استحقاق السلامة، وهو مستند إلى أصل العقد.
ولو زاد الصداق في يدها، فارتد، فقد ذكرنا أن الارتداد يوجب تشطير الصداق كالطلاق، فإذا كان كذلك؛ فالزيادة المتصلة تُثبت للمرأة الخيار كما يثبت لها الخيار إذا كانت مطلقة.
وإذا ارتدت المرأة، فردتها قبل المسيس توجب سقوط جميع المهر بطريق الانفساخ، وفي كلام العراقيين تردد في أن الزيادة المتصلة في هذه الصورة هل تمنع الزوج من الرجوع إلى العين؟ والمسألة محتملة؛ من حيث إن النكاح ينفسخ [بالرّدّة] (1)، ولكن هذا الانفساخ لا استناد له إلى العقد، بخلاف الفسخ الذي يجري بتخلف [السلامة] (2) المستحقة بالعقد، فيجوز أن يقال: الزيادة المتصلة تُثبت لها الخيار في الاستمساك بالعين، كما تقدم ذكره في ردة الزوج، ويجوز أن يقال: لا خِيَرة لها؛ فإنها منتسبة إلى ما يوجب قطع النكاح؛ فنَبتُّ حقَّها عن التعلق بالزيادة، كما [بتتناه] (3) عن أصل الصداق، والمسألة محتملة مما يليق بأسرار الفقه.
8407 - ولا إيضاح لمقصود المسألة ما دام يختلج ما ذكرناه في الصدر؛ وذلك أنا
__________
(1) في الأصل: ينفسخ بالزيادة.
(2) في الأصل: الزيادة. والمثبت تصرف من المحقق.
(3) في الأصل: " بتّناه " بدون فك الإدغام.

(13/51)


إذا أثبتنا الخِيَرة للمرأة، فيمتنع ارتدادُ شطر الصداق ما دامت المرأة مستمرة على خِيَرَتها، وبمثل هذا المعنى يعسر من الزوج مطالبتها بنصف القيمة؛ فإن التخير من جانبها يوجب تفويض الأمر إلى رأيها، ورأيُها ليس على الفور، فكيف السبيل، وما الوجه؟ وبأي طريق ينفصل الفقه في هذه المسألة؟ فنقول:
إن أعرضا جميعاً عن الطلب والرد؛ فالأمر موقوف في حق الزوج، متردد بين القيمة وبين العين وإن وجّه الزوج الطَّلِبة، فحق عليها أن ترد نصف العين مع الزيادة أو تغرَمَ نصفَ القيمة، وليس لها التسويف والمدافعة، فإن دافعت رُفعت إلى القاضي، ثم لا يَجزم الزوج دعواه في القيمة ولا في العين؛ فإن إثبات الخِيَرةِ لها يمنع الجزم في كل واحد من الوجهين، والقاضي لا يقتضي منها على أن يحبسها لتبذل القيمة أو العين إذا كانت العين عتيدة (1)؛ فإنّ تعلُّق الزوج بالعين يزيد على تعلّق المرتهن بالرهن، وتعلق الغرماء بالتركة التي أحاطت الديون بها، فنقول لها: إن كان شطر القيمة أقلَّ من نصف العين، فيُصرف إلى الزوج نصف القيمة، ويُدفع الفاضل إليها، وإن كانت العين لا تزيد على القيمة؛ ففي هذا احتمال، يجوز أن يقال: لا يسلّم القاضي نصف العين إلى الزوج، بل يبيعُه رجاءَ أن يجد زَبوناً فيشتريه بما يساوي، ويتجه في هذا أن يقال: يسلم العين إليه إذا لم يكن فضل في القيمة؛ لأن حق الزوج متأكد في مالية العين، فالطلاق على المذهب الظاهر يملّكه شطر الصداق من غير اختيار.
هذا منتهى القول فيه.
8408 - ومن بدائع الأشياء اضطراب الأصحاب في معنى قول الشافعي: " وذلك كله ما لم يقض له القاضي "، وكلامه متصل بذكر زيادة الصداق، ويتعين عندي حملُ كلام الشافعي في أن القضاء على امتناعها عن [التسليم] (2) قد يقضي القاضي بتسليم العين في الصورة التي ذكرناها، وظاهر كلام الشافعي دليل على أنه لا يسلم العين إلى
__________
(1) عتيدة: أي حاضرة.
(2) في الأصل: التحريم.

(13/52)


الزوج مطلقاً؛ فإنه جعلها ضامنة إذا تلفت العين.
هذا كله تفصيل القول فيه إذا تغير الصداق بالزيادة.
8409 - فأما إذا تغير بالنقصان، فلا يخلو، إما أن يكون في يده، أو يدها، فإن اتفق تعيب الصداق في يده، ثم طلقها، فحق الزوج في نصف العين، فإن النقصان محسوب [عليه] (1) وقد حدث في ضمانه لها، والحق ردُّ العين، كما فصلناه في تغير الصداق في يد الزوج بالتعيب.
ومما يتصل بهذا أن الصداق لو تعيب في يد الزوج بسبب جناية أجنبي فغرّمت [الأجنبي] (2) الأرشَ، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، فلو كان هذا التعيب بآفة سماوية، لم يكن للزوج إلا نصف الصداق، وهو معيب، والآية العيب الكائن بالصداق على صورة العيب بالآفة السماوية ولكنها فازت بالأرش، وغرّمت الأجنبي، فهل يرجع إلى الزوج نصف ذلك الأرش؟
هذا مما روجع القاضي فيه، فلم يُحر جواباً جازماً، ووجه التردد في المسألة نبهنا عليه في أن هذا العيب جرى والصداق في ضمان الزوج، وهي أخذت الأرش بحق ملكها، كما تأخذ الزوائد، والرأي الظاهر أن الزوج يرجع بنصفٍ من ذلك الأرش؛ فإن النقصان استخلف الأرش، وقيمة الشيء في الماليات تنزل منزلته، فكأن العيب لم يقع، فهذا إذا حدث العيب في يد الزوج.
8410 - وإن حدث النقصان في يدها ثم طلّقها الزوج، فهو بالخيار بين أن يرضى بنصف العين ناقصاً، ويرجع فيها مع النقصان ولا يغرّمها الأرش، وبين أن يترك عين الصداق عليها لمكان العيب، ويغرّمها نصف القيمة، وهذا بناه المراوزة على أن ما يرتدّ إلى الزوج أمانة في يدها، فلا تؤاخذ بأرش النقص.
ويجوز أن يقال: وإن حكمنا بأنها مؤاخذة بالتعيب والتلف بعد الطلاق في نصيب الزوج، فلا يلزمها أرشٌ أيضاً؛ فإن التعيب قد جرى والصداق مِلكها، وليس كما إذا
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: الزوج. والمثبت تصرّف منا ليناسب التفريع الآتي بعده.

(13/53)


قلنا الصداق مضمون باليد، ثم عاب في يد الزوج؛ فإنا نثبت للمرأة تغريم الزوج الأرشَ، والفرق أن الزوج ممسكٌ ملكَها بيدٍ ضامنةٍ، على القول الذي نفرع عليه، وموجب ذلك أن يغرَم لها أرش النقصان كما يغرَم المستعير والآخذُ على سبيل السوم، والمرأة ليست حافظة للزوج ملكاً قبل الطلاق.
فهذا ما ذكره الأئمة وفيه على حالٍ احتمال، من جهة أن الصداق لو تلف قبل الطلاق، لغرمت له نصفَ القيمة، ومن يغرم القيمة بجهةٍ، لا يبعد أن يغرَم أرشَ النقص بتلك الجهة.
وإذا اشترى الرجل عبداً بجاريةٍ وجرى التقابض، ثم وجد قابض العبد بالعبد عيباً، فرده، فإذا الجارية قد عابت عيباً حادثاً في يد قابضها، فقد جرى العيب في دوام ملك قابض الجارية، كما جرى العيب في الصداق في دوام ملك المرأة، ثم إذا رَدَّ قابضُ العبدِ العبدَ، فقد ظهر مصير الأصحاب إلى أنه يسترد الجارية مع أرش العيب الحادث؛ فإنها لو تلفت، لرد العبد واسترد قيمتها. وهذا قد ذكرته في أحكام العيوب في البيع، وذكرت مضطرب الأصحاب فيه.
ويجوز أن يقال: ليس الصداق كالمسألة التي استشهدنا بها؛ من قِبل أن من ردّ العبد إنما ردّه لتخلّف سلامةٍ استحقَّها بالعقد، [فعهدةُ] (1) التقابل في العوضين بيّنةٌ، وهذا لا يتحقق في الصداق.
فقد تحصل مما ذكرنا أن الذي ذكره الأصحاب في الطرق أن الزوج بالخيار إن شاء رضي بالنصف من غير أرش، وإن شاء طالب بنصف القيمة، وهذا بمثابة تعيّب المبيع في يد البائع من وجه. فإنا نقول: إن شاء المشتري ردّ المبيع بالعيب، وفسخ البيع، واسترد الثمن، وإن شاء رضي به معيباً.
فهذا ما رأيته للأصحاب ولم أر غيره، وقد أومأت إلى وجه الاحتمال، والظاهر ما ذكره الأصحاب في المعنى أيضاً، هذا منتهى القول في تغير الصداق بالزيادة، وتغيره بالنقصان.
__________
(1) في الأصل: فعهد.

(13/54)


8411 - فأما إذا تغير بما يكون زيادة من وجه ونقصاناً من وجه، وذلك مثل أن يكون العبد المصدَقُ صغيراً فكبر، وازدادت قوته التي هي مادة العمل، وسببُ تكثير المنفعة، وانتقص من حيث القيمة لمجاوزته نضارةَ المراهقة. وقد يفرض في هذا القسم زيادةٌ محضة ليست في عينها نقصان مع عيب ليس فيه زيادة، مثل أن يتعلم العبد المصدَقُ صنعة، ولكن اعورّت عينه، فقد اجتمع فيه النقص والزيادة.
ومن صور هذا القسم أن يصدقها [أشجاراً] (1) فتصير [قِحاماً] (2) وتُرقل (3)، فكِبرُها زيادة، ولكن يقلّ ثمرها.
والحكم في هذا القسم أن الخيار يثبت من الجانبين جميعاً، فإن رضيت المرأة برد النصف، فللزوج أن يأبى لمكان النقصان، وإن طلب الزوج العين، فللمرأة أن تأبى لمكان الزيادة.
وليس لنا أن نقول: إذا لم ترد القيمة لمكان النقص، ولم تُنْتَقَص القيمة لمكان
__________
(1) في الأصل: " شجرة " والمثبت تصرفٌ منا لكي يستقيم الكلام مع قوله " قِحاماً"؛ فإنها جمع قَحْمة، كما سيأتي في التعليق الذي بعد هذا.
(2) (قحاماً): رسمت في الأصل هكذا (لحاما) وقدرنا هذا الرسم تصحيفاً عن (قِحاماً) لما رأيناه في عبارة الإمام الشافعي في الأم، والمزني في المختصر. وهكذا جاءت (صفوة المذهب).
و (قِحاماً): جمع قحْمة، وِزان نعجة ونعاج، والقحمة: النخلة الكبيرة الدقيقة الأسفل، القليلة السعف (المعجم والمصباح).
ثم لنا هنا ملاحظتان:
الأولى - أن ما رأيناه من معاجم (الأساس، والقاموس المحيط، والمصباح، والوسيط) إما تذكر (القحم) صفةً للنخل خاصة من بين الأشجار، وإما أن لا تذكر ذلك أصلاً، عند تصريف مادة (ق. ح. م) وذكر معانيها.
على حين وجدنا وصف الشجرة (بالقحمة) والأشجار (بالقحام) عند المزني والشافعي.
الثانية - أن إمام الحرمين ذكر صيرورة الأشجار قحاماً وإرقالها، من باب التغير بالزيادة، على حين يفهم من معناها، ومن عبارة الإمام الشافعي في الأم، والمزني في المختصر أن هذا من باب التغيّر بالنقص. (الأم: 5/ 56، والمختصر: 4/ 20).
(3) ترقل: أرقل الشجر طال. (القاموس، والمعجم، والمصباح).

(13/55)


الزيادة، فيجعل كأن لا زيادة ولا نقصان، هذا لا سبيل إليه ولا قائل به؛ فإن الزيادة قد تُعنى لعينها، وإن فرض نقصان، فالنقصان قد يُجتنب، وإن كانت زيادة، فلا طريق إلا إثبات الخيار من الجانبين لوجود العلتين، فالنقص علّة خيار الزوج، والزيادة علةُ (1) خيار المرأة، فإن اتفقا على الرجوع في نصف العين، فذاك، وإن أبى أحدهما، فالرجوع إلى نصف القيمة، ثم لا تكفي الزيادة في صورتها؛ فإن الزيادة التي لا تُطلب ليست زيادة كالسِّلْعة (2) تطلع واللحية تنبت.
8412 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الصداق عيناً، فإن كان ديناً؛ فإذا طلقها، فلا يخلو: إما أن كان سلم الصداق إليها [أو] (3) لم يسلم، فإن لم يسلم الصداق إليها، وطلقها قبل المسيس، فتبرأ ذمته عن نصف الصداق، وهو مطالب من جهتها بالنصف الباقي، وإذا فرّعنا على الوجه الضعيف في أن رجوع الشطر إلى الزوج موقوف على اختياره، فيجب طرد هذا في الدين أيضاً، حتى يتوقف سقوط النصف عن ذمته على اختياره، والعلم عند الله تعالى.
ولو أصدقها ديناً -كما صورناه- وسلم إليها ما التزم لها على الصفة المذكورة، فإن طلقها قبل المسيس، فله الرجوع بالنصف، فإن كانت تلك الأعيان المقبوضة فائتة، غرِمت للزوج نصف البدل، وإن كانت تيك الأعيان باقية فهل يتعين حق الزوج في المقبوض، [أم] (4) لها أن تغرم حقّ الزوج من مال آخر؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يتعين حقه، لأن العقد لم يتعلق بهذه العين ابتداءً وإنما اعتمد الوصف.
والثاني - أن حقّه يتعيّن؛ لأنه تعين بالقبض، وهذا يكون سبيل كل دين يوفَّى على مستحقه.
وكان شيخي يطرد هذين الوجهين في الثمن الواقع في الذمة إذا وُفِّر ووُفّي، ثم طرأ
__________
(1) في الأصل: عليه.
(2) السِّلْعة: خرّاج كهيئة الغدة تتحرك بالتحريك، وقال الأطباء: هي ورم غليظ غيرُ ملتزق باللحم، يتحرك بتحريكه، وله غلاف (المصباح).
(3) في الأصل: ولم.
(4) في الأصل: إذ.

(13/56)


فسخ يوجب استرداد الثمن، ورأيته مرة يطلب الفرق بين ما ذكرناه في الصداق وبين ما أشرنا إليه في الفسوخ، ويقول: الفسخ وإن كان قطعاً في الحال، فهو مستأصل للعقد، بخلاف ما يقتضيه الطلاق من التشطير، وقد أجرينا في أجزاء الكلام ما يشير إلى قريب من هذا فيما نفيناه وأثبتناه.
فرع:
8413 - إذا أصدق الرجل امرأته جارية، فبقيت في يد الزوج، وعلقت بولد حادث وولدته، ثم ماتت الجارية قبل القبض، وطلقها قبل المسيس، قال العراقيون: هذا يُخرّج على القولين في أن الصداق مضمون بالعقد أم باليد؟ وأنه بماذا يرجع؟ فإن قلنا: إنه يرجع بنصف القيمة فالولد بتمامه لها؛ فإنه حدث في ملكها، وجرى الطلاق بعد انفصاله واستقلاله، ونحن على قول القيمة لا نحكم بانفساخ الصداق بالتلف، بل نقضي ببقاء العقد، قالوا: وإن قلنا: الصداق مضمون بالعقد وهي ترجع عليه بنصف مهر المثل، نقلوا عن الشافعي أنه قال: الولد للزوج، ولا حظ لها فيه، فإنا إذا أوجبنا نصف مهر المثل، فقد أوجبناه قبل العقد ونقضْنا الملك استئصالاً.
وفي المسألة قول مخرّج على أن الولد يكون لها؛ فإن الفسخ والانفساخ لا يستند إلى زمان متقدم، بل يقطع الملك في الحال، وقد تقدم حصول المولود على سبب الانفساخ، وقد ذكرنا مثل هذا الاختلاف فيه إذا اشترى الرجل جارية، فولدت أولاداً في يد البائع، ثم ماتت في يده وحكمنا بانفساخ العقد، فالأولاد للبائع أو للمشتري؟ فيه خلاف قدمته، وقياس المذهب أن الأولاد للمشتري، لما نبهنا عليه.
فرع:
8414 - قال العراقيون إذا أصدق الرجل جاريةً حبلى، ثم ولدت، وقلنا: إن الولد يثبت في حكم المعاوضة، ولو كان في البيع، لقوبل بقسط من الثمن، فإذا ولدت، وطلقها قبل المسيس، ورضيت برد عين الصداق، فهل للزوج حظُّ في الولد؟ وما حكمه؟ ذكروا فيه وجهين: أحدهما - له حظ فيه، ولكن زاد الولد بعد الولادة، فتغرم له قيمة نصف الولد يوم الولادة. ووجه هذا بيّن في القياس.
والوجه الثاني - أنه لا حظّ للزوج في الولد؛ فإنه كان حملاً يوم العقد، ولا يمكن معرفة قيمته وهو حمل، ولما انفصل، فهو زيادة في ملكها بعد الإصداق، ولا يمكننا

(13/57)


أن نضبط ما بين الحمل والولادة، ولا طريق إلا أن يسقط حظ الزوج من الولد بالكلّية.
وإن فرّعنا على أنه مقابَلٌ بقسطٍ من العوض؛ فإن الصداق ليس يتمحض عوضاً.
وهذا الذي ذكروه، فيه اضطراب، وحاصله: أن الزيادة المتصلة لا حكم لها في البيع، فإذا قلنا: الولد يقابله قسط من الثمن، فانفصل، لم تُغير تلك الزيادة التي حصلت بالولادة حكمَه، والزيادة المتصلة لها حكم في الصداق، ثم عَسُر اعتبارها بين احتساب الحمل وبين انفصاله، فكان ترددهم لذلك.
وإذا قلنا: الحمل لا يقابله قسط من الثمن، فالوجه: القطع بأنه لا حظّ للزوج في الولد، وهو بمثابة ما لو حدث العلوق به بعد العقد.
فصل
قال الشافعي: " والنخل مُطْلِعة ... الفصل " (1).
8415 - ذكر الشافعي تفصيل القول فيه إذا أصدق امرأته نخيلاً، فأطلعت، ثم طلقها قبل المسيس، وهذه المسألة كثيرة الأقسام منتشرة الأحكام، والرأيُ أن نمهد في أولها ما يدخل تحت التمهيد، ثم نرسل المسائل ونذكر في كل مسألة ما يليق بها، ونطلب الاستيعاب جهدنا، ثم نتُبع المسائل بما يضبطها، والله ولي التوفيق.
فنقول: أولاً الطلع قبل التأبير زيادةٌ محضة لا نقصان فيها، وحمل الجارية زيادة من وجه، نقصان من وجه، لما فيه من الإفضاء إلى الغرر، والحمل في البهائم، فيه وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - زيادة من كل وجه؛ فإنه لا يفضي إلى الخطر في غالب الأمر.
والثاني - أنه زيادة ونقصان، كما ذكرنا في الحبالى، فإن كل حامل تلد، فلا بد من أن يدخلها نقص في البنية.
8416 - فهذه مقدمة ذكرناها، ونعود بعدها إلى رسم المسائل على أقرب ترتيب،
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 20.

(13/58)


فنقول: إذا أصدقها نخيلاً، فأطلعت، وأُبّرت، ثمّ [طلقها] (1)، فالثمار بعد التأبير في حكم زيادة منفصلة، فلو أراد الزوج أن يكلّف المرأة قطع الثمار، لم يكن له ذلك، فإنها ظهرت، والملكُ ملكها، فلا سبيل إلى إجبارها على قطع ثمارها، ولو قال: أرجع في نصف النخيل ونصف الثمار، لم يكن له ذلك؛ فإن جميع الثمار لها؛ من أجل أنها ظهرت وملكُها كامل في الصداق.
ولو قال الزوج: أرجع في نصف النخيل وأترك ثمارك إلى الجداد، فلا ينفصل الأمر بهذا المقدار؛ فإنها تحتاج إلى تتمة ثمارها بالسقي، ثم فائدة السقي لا تنحصر على الثمار، بل يرجع الحظ الأوفر إلى النخيل؛ فلا سبيل إلى تكليفها السقي، وفائدته ترجع إلى ما يُقدّر راجعاً إلى الزوج بحكم التشطر.
ولو قالت المرأة للزوج المطلق: اصبر حتى آخذ ثماري، ثم ارجع، لم يكن لها أن تكلف الزوج ذلك؛ فإن فيه إلزامَه تأخير حقه وهذا لا سبيل إليه.
ولو [قالت] (2): ارجع في نصف النخيل وبقِّ ثماري إلى الجِداد، واسق ما رجع إليك، لم يكن لها ذلك؛ فإن سقيه يرجع فائدته إلى ثمارها، فتكليف الرجل تنمية ثمارها لا وجه له.
فهذه مسائل اتفق الأصحاب عليها. وعلى الناظر في المسألة أن يفهمها ويودعها حفظه مفصلة.
ولو قالت: ارجِع في نصف النخيل، وقد تركتُ عليك نصف الثمار، نُظر، فإن كانت الثمار مؤبّرة؛ فهل يلزم الزوج ذلك؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا يلزمه قبول الثمار؛ فإنها زوائد في حكم المنفصلة؛ فإلزامه قبولها وتقلُّد مِنَّتِها بعيدٌ.
والثاني - يلزمه؛ فإن الثمار وإن كان لها حكم الانفصال؛ فهي كالمتصلة في هذه المسائل. لعسر الأمر، وتعذر إمضائه مع رعاية الجانبين، فصار تعذر الأمر بمثابة تعذر فصل الزوائد المتصلة.
__________
(1) في الأصل: " ثم طلعها ". والمثبت من (صفوة المذهب).
(2) في الأصل: قال. وهو واضح من السياق، وقد صدّقته (صفوة المذهب).

(13/59)


وإن كانت الثمار بعد طلعها غيرَ مؤبّرة، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب: أنها قبل التأبير بمثابة السِّمن، وسائر الزوائد المتصلة، حتى لو تركت على زوجها نصف الطلع، لزمه قبوله.
وذكر العراقيون وصاحب التقريب طريقة أخرى من تنزيل الثمار قبل التأبير منزلتها إذا هي أُبِّرت، حتى تُخرَّجَ المسألةُ على وجهين في أن الزوج هل يُجبر على قبولها إذا سمحت بها؟ وسبب ذلك أن الثمار قبل التأبير تقبل الإفراد بالبيع على رأيٍ ظاهر، خلاف السِّمَنِ وغيرِه من الزوائد المتصلة.
8417 - ومما يتعلق بذلك أن الزوج لو قال: أرجع في نصف النخيل وألتزم السقي، فهل يجاب إلى ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجاب؛ [فإنه] (1) كفاها مؤونة السقي وهذا هو الذي كنا نحاذره في إلزامها بسقي نخيل الغير، والثاني - لا يلزمها إجابته؛ فإنه لا يجد بداً من مداخلة [البستان] (2) في سقي النخيل وتعهدها، وقد لا ترضى المرأة به، فإن لم نوجب إجابته إلى ما يلتمس من ذلك، فلا كلام، وإن [أوجبنا] (3) إجابته، فالتزامه السقي وعْدٌ منه، إن وفى به، استقر الأمر، وإن بدا له، فلا معترض، ولكن يبين أن رجوعه في نصف النخيل باطل.
فتبين مما ذكرناه أن هذا الرجوعَ في حكم الموقوف على ما يتبين من الوفاء بالسقي أو الإخلاف في الموعد.
وألحق الأئمة بهذه الصورة ما لو أصدقها جارية، فولدت في يدها ولداً مملوكاً، واقتضى الحكم أن يكون الولد لها، فقال الزوج: أرجع بالجارية، وأمنعها من إرضاع المولود، فليس له ذلك؛ فإن فيه إضراراً عَظيماً بالولد. و [لو] (4) قال: أرجع في
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) في الأصل غير مقروءة (انظر صورتها) والمثبت تقدير منا على ضوء عبارة الرافعي؛ فإنه قال: " ... لأنها قد لا ترضى بيده ودخوله البستان" (الشرح الكبير: 8/ 300). وهي كذلك في (صفوة المذهب).
(3) في الأصل: أجبنا.
(4) زيادة من المحقق. وقد صدقته (صفوة المذهب).

(13/60)


نصف الجارية وأرضى أن تُرضع الولد؛ فهل يجب إسعافه؟ فعلى الوجهين المذكورين في النخيل والتزام سقيها، ونصُّ الشافعي في مسألة الولد يدل على [أن] (1) الرجل لا يجاب [بما يعد] (2)؛ فإنه لا يلزمه الوفاء بالموعود.
8418 - ومما نذكره مرسلاً، أن الزوج والزوجة لو تراضيا في النخيل على أن يؤخر الزوج حقَّه ولا يتعرض له إلى أوان الجِداد، ثم إذ ذاك يطلب حقه من نصف النخيل، فإذا وقع التراضي على هذا الوجه، لم نعترض عليهما، ولم نتعرض لهما، ولكن ليس يلزمهما الوفاء بما تراضيا عليه، فإن الزوج رضي بتأخر حقه، وتأجيل ما لا يلزم فيه الأجل، فله الرجوع عما قال.
ولو أصر الرجل على موعده، فأرادت المرأة الرجوع، كان لها ذلك؛ لأنها تحتاج إلى السقي والتعهد، ثم يرجع النفع إلى النخيل، ومآل الأمر مصير نصف النخيل إلى الزوج، [فلها] (3) أن ترجع عن رضاها بذلك، فإنهما لم يُذكر بينهما في الصورة التي ذكرناها إلا تواعداً على تأخير الحق غيرَ لازم، كما ذكرنا.
ولو تراضيا على أن يرجع الزوج إلى الملك في نصف النخيل عاجلاً، ويترك الثمار لها إلى وقت الجِداد، فإذا ثبت تراضيهما على هذا الوجه، لزم الوفاء به؛ فإن بدا للزوج، وقال: أحتاج إلى سقي النخيل، والنفعُ يرجع إلى ثمارها، قلنا: قد رضيت، فإن شئت فاترك السقي، ونحن حملنا رضاك على التزام الضرر، إن كان ضرر.
ولو قالت المرأة: رجعت عن رضاي، فإني أحتاج إلى السقي لأجل الثمار،
والنفع يرجع إلى النخيل، قلنا: اتركي السقي، فإن كان يلحقك ضرر، فقد رضيتِ به.
__________
(1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها. وهي في (صفوة المذهب).
(2) في الأصل: ما يعد. وقد حكى هذا الرافعي نقلاً عن إمام الحرمين، قال: " قال الإمام (أي إمام الحرمين): ونصّ الشافعي رضي الله عنه يدل على أنه لا يجاب " (ر. الشرح الكبير: 8/ 301).
(3) في الأصل: فله.

(13/61)


ويخرج منه أن كل واحد منهما لا يرجع عما رضي به، ولا يجب على واحد منهما السقي، فمن أراده، لم يمنع منه.
فهذا بيان هذه المسائل المرسلة، ولم نذكر بعدُ عند تنازعهما ما نحملهما عليه؛ لأن ذلك يبين آخراً.
8419 - ونحن نذكر نوعاً من الضبط، ثم نختم المسألة بما فيه تمام البيان، إن شاء الله عز وجل.
فنقول: هذه المسائل تجرى على ثلاثة أصناف: أحدها- مفروض فيما يقوله الرجل، والمرأة تأباه.
والثاني - فيما تقوله المرأة، والرجل يأباه.
والثالث - فيما يتراضيان عليه.
فأما ما يقوله؛ فمنه أن يقول: اقطعي الثمار، فلا يجاب. ومنه أن يقول: أرجع إلى نصف النخيل مع نصف الثمار، فلا يجاب. ومنه أن يقول: أرجع إلى نصف النخيل، ولا ألتزم السقي والتعهد، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنه لا يجاب إلى ذلك، ولا تكلف المرأة الرضا به، لما قدمنا ذكره من تضررها بمداخلته. فهذا بيان ما يذكره الزوج مبتدئاً.
فأما ما تذكره المرأة والزوج [يأباه] (1)، فمن ذلك أن تقول: أخِّر حقك إلى الجِداد، فلا تجاب؛ فإن حقَّ الزوج معجّل، ولو قالت: ارجِعْ في نصف [الشجر] (2)، وثمرتي تبقى، فالرجل لا يجيبها إلى مرادها، فإن الثمار [تمتص] (3) من رطوبات الأشجار، إن لم تُسق، فإن سُقيت، فالنفع يرجع بعضَ الرجوع إلى الثمار، ولو أنها ابتدرت وجدَّت الثمرة عاجلاً، فحق الزوج يثبت في نصف العين إذا لم تُنْتَقَص الأشجار بالثمار (4) ولم تُكسر سَعفها وأغصانها.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: الشجرة.
(3) في الأصل: تختص.
(4) كذا. ولعلها " بالجداد ".

(13/62)


ولو قالت: خذ نصف النخيل ونصف الثمار، فهل يجبر الزوج على قبول ذلك؟ فيه وجهان: وذكر تفصيل في المؤبرة وغير المؤبرة، فهذا بيان قسمين.
القسم الثالث: فيما يتراضيان عليه، وفيه مسالتان: إحداهما- أن يتراضيا على أن يسقي الزوج حتى تُجدّ الثمرة، فهذا تواعد، ولا يجب على واحد منهما الوفاء بما وعد. والمسالة الثانية - أن يتراضيا على أن يختار الزوج نصف النخيل في الحال، وتبقى الثمرة [إلى] (1) الجداد، فعلى كل واحد منهما ضرار من وجه، وقد بيّنا ابتداء كل واحد منهما بذكر هذا القسم، وأوضحنا أنه لا يُجاب إلى مُلْتَمَسِه، فإذا وقع التراضي منهما، فقد رضي كل واحد بما يناله من الضرر في هذا القسم. وليس ما وقع التراضي به تواعداً على تأخير حق، ولكن مضمون ما تراضيا عليه تعجيل حق لزم.
فهذا بيان تزاحم الأقسام.
وليعلم الناظر أنا لم نغادر من البيان شيئاً ولكن طباع هذا الفصل تقتضي أن يكرره الناظر مراراً.
ثم وراء ذلك المقصودُ؛ فإنا ذكرنا ابتداء كل واحد منهما، وأوضحنا ما يُجاب إليه وما لا يُجاب، ثم ذكرنا تراضيهما.
8420 - والمقصود الأظهر أن نبيّن ما يجب تحصيله إذا ارتفعا إلى مجلس الحكم متنازِعَين، فلم تسمح تيك بالثمار، [وروجعنا] (2) في حق الزوج، فنقول: حقه الناجز نصف القيمة؛ فإن في الرجوع إلى العين من العُسر ما نبّهنا عليه، ولا سبيل إلى تأخير حق الزوج، وإن عادت فرضيت ببدل المهر، ففيه الكلام السابق. وإن رضيت بمداخلته، ففيه اضطراب السقي. وإن قال الزوج: رضيت بتأخير حقي، ففيه اضطراب السقي، وإن تراضيا، وقعنا في قسم التراضي [والتزام] (3) نصف القيمة، هذا هو اللائق بمحل التنازع لا غير.
__________
(1) في الأصل: في.
(2) في الأصل: ورجعنا.
(3) في الأصل: وألزم.

(13/63)


8421 - ثم وراء نجاز هذا أمور مرسلة يجب التنبه لها، منها: أنا وإن كنا نفرّع على أن نفس الطلاق يشطر الصداق من غير احتياج إلى اختيار التملك، فذاك فيه إذا لم يعترض مانعٌ ما. أما إذا اعترض في الصداق أمثالُ ما ذكرناه من فرض لحوق الضرر بالجانبين، فجريان الملك في عين الصداق أو/الرجوع إلى القيمة يتوقف على ما سبق التواطؤ عليه، أو يُفرض الإرهاقُ إليه عند التنازع. وهذا وإن كان بيِّناً، فلا يضير التنبيه له.
8422 - ومما نرى ذكره أنا أجرينا ذكر الثمار، وهي طلعٌ حالة الطلاق، ولم تؤبّر، وأدرنا فيه التفاصيل والأقسام، وقد ذكرنا في كتاب التفليس أن النخيل إذا أطلعت في يد المشتري، ثم استمر الحجر -والثمار غير مؤبرة- فقد نرى رجوعها إلى البائع إذا آثر فسخ البيع، وقد يجرى مثل هذا في الحمل أيضاً إذا حدث، وكان الحمل قائماً وقت الرجوع.
وهذا لا يجري في الصداق؛ والسبب فيه أن الطلع والحمل لا ينحطان عن زيادة متصلة، وقد ذكرنا أن الزيادة المتصلة تُثبت للمرأة حق الاستسماك بعين الصداق، والزيادة المتصلة لا أثر لها في المبيع الذي يرجع فيه البائع، [فإنا] (1) جعلنا الطلع والحمل كزيادة متصلة، تعلق بهما رجوع البائع، ولا يتحقق مثل هذا في حق الزوج.
8423 - ومما نذكره في اختتام الفصل: أنه لو أصدق امراته نوعاً آخر من الأشجار سوى النخيل، فانعقد نَوْرُها في يدها، فظهور النَّوْر ينزل منزلة بدوّ الطلع، وانعقادُ الثمار مع تناثر النَّور ينزل منزلة التأبير.
وقد بان الغرضُ في كل واحد من الأصلين، وهذا نجاز الفصل.
__________
(1) في الأصل: "فإذا".

(13/64)


فصل
قال الشافعي: " وكذلك الأرض تزرعها أو تغرسها أو تحرثها ... إلى آخره " (1).
رأى المزني هذه الأمور مجتمعة في كلام الشافعي، ونقله على [إثر] (2) مسألة الطلع، وظن أن الشافعي يُجري الغراس والزرع والحراثة مجرى الطلع في كل تفصيل، وأخذ يعترض ويبيّن أن الزراعة في الأرض نقصٌ من جميع الوجوه، في كلام طويل له، وكلامه في بيان تفاوت الزرع والغراس والحراثة صحيح، ولكن [ظنّه أن الشافعي] (3) أجراها مجرى الطلع خطأ، وفي نظم كلام الشافعي تعقيدٌ لا يطلع عليه إلا من جمع إلى فهمه أوفر حظ من اللغة، والشافعي ذكر فيما تقدم من المسائل ما يكون نقصاً محضاً، وذكر ما يكون زيادةً من كل وجه، وأبان الحكم فيما يكون زيادة من وجهٍ ونقصاناً من وجه، ثم ذكر الزراعة والغراسة والحراثة عطفاً على الأقسام المختلفة، ولم يعطفها على الطلع خاصة، ونحن نذكر الآن التفصيل في المسائل التي جمعها المزني في الفصل.
8424 - أما الزرع فنقصانٌ في الأرض من كل وجه، فلا نكلف الزوج الرضا بنصف الأرض مزروعة، وله نصف القيمة والأرض بيضاء، فإن رضي بها مزروعة، لزم إجابته، وليس كما قدمناه في الثمار؛ من جهة أن الزوج إذا رضي بنصف النخيل وتَبْقِيَةِ الثمار للمرأة، فالسقي الذي يُنمِّي الثمار يزيد في الأشجار، والسقي الذي ينمي الزرع لا ينفع الأرض، فإذا رضي الزوج بنصف الأرض، وجبت إجابته؛ فإن الأرض لا تزداد بتعهد الزرع.
فعلى هذا لو تبرعت على الزوج بنصف الزرع -إذا كان لا يرضى بنصف الأرض لمكان الزرع- فقد ذكرنا وجهين في أنها لو تبرعت بنصف الثمار المؤبّرة في مسألة
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 21.
(2) في الأصل: أكثر.
(3) في الأصل: ظن أنه بان للشافعي.

(13/65)


النخيل، فهل يُجبر الزوج على قبوله، والزرع في حكم الثمار المؤبرة؟ فتخرج المسألة على وجهين في إجبار الزوج على القبول.
وهذا الذي ذكره صاحب التقريب غلط مأخوذ عليه؛ من جهة أن الثمار زيادة لا تنقص النخيل، والزرعُ وإن كان زيادة، فالأرض منتقِصةٌ به، وقد ذكرنا أنه إذا اجتمعت زيادةٌ ونقصانٌ، لم يملك واحد منهما إجبار صاحبه.
ومما يتعلق بالزرع: أن الزوج إذا طلّقها، فابتدرت واقتلعت الزرع؛ فالغالب أن النقص يبقى في الأرض إلى مدة؛ فإن الأرض فيما ذكره الحرّاثون تضعف بالزراعة، ولذلك يعسُر [موالاة] (1) الزراعة في كل سنة، فإن فرض زرع لا يُعقب نقصاً في الأرض، فإذا ابتدرت وقلعت الزرع؛ فحق الزوج [انحَصَر] (2) في نصف الأرض، فإن [أعقب] (3) الزرعُ نقصاناً، فالزوج على خِيَرته، فإن رضي بقبول نصف الأرض مزروعة، فعليه أن يُبقي الزرع فيها بالأجرة؛ [لأنها] (4) زرعت -لما زرعت- ملكَها الخالص. هذا قولنا في الزرع.
8425 - أما الغراس؛ فإنه بمثابة الزرع في جميع ما ذكرنا؛ فإن الأرض مفردةً ناقصةُ القيمة، والغرس لا يزيدها شيئاً، فإن بذلت نصف الغراس، فهو كما لو بذلت نصف الزرع، فلا معنى للإعادة، فهو كالزرع في كل وجه.
8426 - وأما الحرث فإن كانت الأرض معدّة للزراعة، فهو زيادة متصلة من كل وجه، ثم لا يخفى حكم الزيادة، وإن كانت مهيّأة للبناء، فهو نقصان، لأنه [لا يتأتى] (5) البناء على الأرض المحروثة إلا ببذل مؤونة في تنضيدها، ولا معنى للإطناب بعد وضوح المقصد.
__________
(1) في الأصل: " مواراة" بهذا الرسم تماماً. والمثبت تصرف من المحقق. صدقته (صفوة المذهب).
(2) في الأصل: نقص.
(3) في الأصل: أعقبت.
(4) في الأصل: أنها.
(5) في الأصل: لا يأتى. والمثبت تصرفٌ من المحقق.

(13/66)


فصل
قال: " ولو ولدت الأمة في يديه أو نُتجت الماشية ... إلى آخره " (1).
8427 - إذا أصدق الرجل امرأته جاريةً حاملاً، أو شاة ماخضاً، فهذا يبنى على أن الحمل هل يقابله قسط من العوض في البيع؟ وفيه اختلاف مذكور في موضعه. فإن قلنا: للحمل قسط، فهو كما لو أصدقها عَيْنَين، فإذا طلقها قبل الدخول يرجع في نصف الأم، ولا يخلص الولد لها.
ثم يتصل بذلك أن الولد إذا انفصل، فهذا في حكم زيادة متصلة، والجارية قد تُعيّبها الولادة، فيقع التفصيل في عيبٍ بأحد العينين، وزيادة العين الثانية. وقد تمهّد التفصيل في القاعدتين.
والذي نزيده الآية: أن من أصحابنا من جعل نفس انفصال الولد [زيادة] (2)؛ فإنه كذلك؛ إذ التفاوت بين الجنين وبين الولد المنفصل أكثر من التفاوت بين العبد السمين والهزيل، وهذا في ظاهره إخالة وإشعار بالفقه، ولكنه يغمض بالتفريع؛ فإنا إذا جعلنا الولادة زيادة، فيثبت للمرأة حق الاستمساك بالولد، ثم بناؤنا على أن الزوج يرجع في قسط من الولد، فكيف يقدّر رجوعه في نصف قيمة الولد، وهو مجتنٌّ، والجنين لا يتقوَّمُ في البطن؟ فأول إمكان تقويمه، إذا انفصل. وإذا أثبتنا للزوج نصفَ قيمته منفصلاً، ففيه نَقْضُ المصير إلى أن الولد زيادة، وإذا جاز أن تغرَمَ له نصف قيمة المولود حالة الانفصال، فينبغي أن نُسلِّم إليه نصف المولود. وإن قال هذا القائل: تُقوم الجارية حاملاً، ونصرف إليه نصفَ قيمتها، وإذا فعلنا ذلك، فقد أشركناه في الحمل، فهذا محال؛ فإن التفريع على أن الحمل يقابله قسط من العوض، كما يقابل أحدَ العبدين قسط من الثمن إذا اشتمل العقد على عبدين.
والذي يوضح ذلك: أنا إذا ألزمنا المغرور بحرية زوجته قيمة الولد، اعتبرنا حالة
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 22.
(2) في الأصل: بزيادة.

(13/67)


الانفصال. وإن كان تفويت الرق مستنداً إلى حالة الاختيار؛ فالصحيح إذاً أن الولد إذا انفصل، وجرى الطلاق [بعد] (1) انفصاله -والتفريع على أنه يُقابَل بقسطٍ من العوض- فالزوج يرجع في نصف الولد. نعم، إذا مضت أيام من الانفصال، والصبيّ ينمو فيها، لا محالة، فيتصل الكلام بالزيادة (2).
وكل ما ذكرناه فيه إذا قلنا: للولد قسط.
وإن قلنا [لا] (3) قسط له من العوض، فإذا ولدت، ثم [طَلّق] (4) الزوج، فحكمها [حكم] (5) ما لو كانت [حائلاً] (6) يوم الإصداق، فحبلت في يد الزوج وولدت، فلا حظ للزوج في الولد، ويقع النظر في الأم، وقد [انتقصت] (7) بالولادة.
ثم الفرق بين أن يجري ذلك في يده أو يدها، [قد] (8) مضى مستقصًى، ونحن بنينا كتابنا هذا على رفض المعادات جهدنا، سيّما إذا قرب العهد، ونعيد البسط لمواقع الإشكال.
8428 - وقد يتصل بما انتهينا إليه أن نقصان الولادة في يد الزوج مضمون عليه، كما بيّنا أثر ذلك، وما يحصل من النقص في يدها يُثبت للزوج حق الخيار في الرجوع من العين إلى القيمة.
فلو كانت حاملاً في يد الزوج، ثم ولدت في يد الزوجة، وانتقصت بالولادة، فهذا نقصان حدث في يدها، ولكنه مترتب على سبب كان في يد الزوج؛ فإن لكل جنين اتصال، ولكل حاملةٍ تمام، فيجب بناء هذا على المبيع إذا [جُرح] (9) في يد
__________
(1) في الأصل: مع.
(2) أي أنه لا يرجع بنصفه لزيادته.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: طلقت.
(5) في الأصل: "حكمه ".
(6) في الأصل: حائلة.
(7) في الأصل: انقضت.
(8) في الأصل: "وقد" بزيادة (الواو).
(9) في الأصل: خرج.

(13/68)


البائع، ثم سرت الجراحة في يد المشتري، فقد ظهر الاختلاف في ذلك: من أصحابنا من جعل السراية من ضمان البائع؛ لأن سببها الجراحة، فعلى هذا نقصان الولادة من ضمان الزوج، وإن حدث في يدها؛ لأن الحمل كان موجوداً في يده.
ومن أصحابنا من قال: نقصان السراية من ضمان المشتري؛ لأنه حدث في يده، فعلى هذا نقصان الولادة من ضمانها.
وقد بان حكم ضمانه وضمانها وإبراءُ كل واحد من الضمانين.
8429 - ثم إن المزني اختار من القول في كيفية الضمان، أن الصداق مضمون بالعقد، واحتج بنصوص الشافعي في مسائلَ، وأخذ يُعدّدها، ونحن نتبع ما أورد، ونذكر في كل مسألة ما يليق بها، مع اجتناب التكرير جهدَنا.
فمما استشهد به: مسألة من مسائل الصداق، ذكرها الشافعي في كتاب الخلع - وهي: أن الزوج إذا أصدق امرأته داراً، فاحترقت، قال الشافعي [في] (1) جواب المسألة: المرأةُ بالخيار بين أن تفسخ وترجع بمهر المثل، وبين أن ترضى بالعَرْصَة [وتجيزَها] (2) بحصتها من المهر.
وهذه المسألة لها مقدمة مذكورة في الكتب، ونحن نذكر منها قدر الحاجة، ثم نرمز إلى تخريج المسألة على الأصول وتنزيلها عليها، فنقول: إذا اشترى الرجل عبدين، فتلف أحدهما في يد البائع، فالقول الأصح: أن العقد لا ينفسخ في القائم، وينفسخ في التالف، والقاعدةُ أن العقد إذا ورد على ما يقبل العقد وعلى ما لا يقبله، وبطل فيما لا يقبله، ففي بطلانه فيما يقبله القولان المعروفان. ثم إن صححنا العقد، فالخيار معروف، فإن اختار المشتري الإجازة؛ فإنه يجيز العقد فيما قَبِل العقدُ بجميع الثمن أو بقسطه؟ فعلى قولين.
وإذا تلف أحد العبدين، فالأظهر أن الانفساخ في التالف لا يوجب الانفساخ في
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: "وتحيزها". وأصر الناسخ على تأكيد هذا برسم حاء صغيرة تحت حرف الحاء.

(13/69)


القائم؛ فإن العقد قد ورد عليهما، وكان سبب ارتفاعه في التالف تلفَه، ثم إذا فُرضت الإجازة، فالمذهب: أن العقد يجاز في الباقي بقسطٍ، بخلاف ما ذكرناه في أول العقد. والفرق أن الثمن في أول العقد لم يقابل أحدهما، وقد قابل الثمن [العبدين،] (1) ويستحيل إذا تلف أحدهما أن يقابل [بتمامه] (2) الثاني، على مناقضة المقابلة التي جرت، وهذا مذكور في تفريق الصفقة، فهذا أصلٌ جدّدنا العهد به.
ومن الأصول أن أطراف العبد أوصافٌ، ولا يثبت لها حكم الانفراد في المقابلة بالعوض، وإذا اشترى الرجل داراً، فانهدمت، نظر: فإن كان النقضُ قائماً؛ فالذي فات، أوصافٌ لا تقابل بقسطٍ من العوض، وإن فات النقضُ باحتراق أو [جرف] (3) سيل، وبقيت العَرْصَةُ بيضاءَ، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في أعيان النقض، فمنهم من أجراها مجرى أطراف العبد، حتى تقدّر أوصافَ العبد، ومنهم من أجراها مجرى عبدٍ مع عبدٍ إذا فرض التلف. في أحدهما، وقد تقدم تمهيد ذلك في المعاملات.
ونحن نرجع بعد هذا إلى غرض المسألة، فإذا أصدق الرجل امرأته داراً فانهدمت، نُظر: فإن فات النظم والتآلف، والنقضُ قائم؛ فلها الخيار إذا جرى ذلك في يد الزوج. ثم القول في الفسخ والإجازة، وما يقع الرجوع به [من] (4) مهر المثل والقيمة على ما تفصّل في نقصان الصداق بالآفة السماوية.
وإن فات عين النقض، خرج هذا على أن النقض صفةٌ أو عين مقصودة، فهو كما إذا أصدقها عبداً، فسقطت أطرافه.
ومحل تعلق المزني أنه نقل عن الشافعي رجوعها إلى مهر المثل، وطريق الجواب في مثل هذا بيّن.
__________
(1) في الأصل: للعبدين.
(2) في الأصل: لتمام.
(3) في الأصل: خرق.
(4) في الأصل: في.

(13/70)


فصل
قال: "ولو جعل ثمر النخل في قواريرَ وجعل عليها صَقَراً من صقَر نخلها ... إلى آخره " (1).
الصَّقَر (2) قُطارة الرطب من غير أن يعرض على النار، فإن عُرض على النار، فهو دِبْس، وإنما صور الشافعي هذه المسألة على عادة الحجازيين، فإنهم يجتنون الرطب، ويتركونه في قوارير ويصبّون عليه من القَطْر استبقاءً لرطوبة الرطب، وقد يسمونه كذلك.
فصورة المسألة: أنه إذا أصدقها نخلة [فجعل] (3) على رطبها صقراً، ويفضي الأمر إلى التفصيل في انتهاء التغير إلى التعيّب، وفي نقيض ذلك.
واختلف أصحابنا في وضع المسألة وتصويرها. فمنهم من قال: صورتها إذا كانت الثمرة صداقاً، وكانت كائنةً حالة الإصداق؛ فإن أصدقها نخلة عليها ثمرةٌ مؤبرة أو غير مؤبرة، ثم فعل بالثمرة وصقْرها ما وصفناه. وإنما حمل هؤلاء النصَّ على هذه الصورة؛ لأن الشافعي أثبت لها الخيارَ [لما] (4) يلحق الثمرةَ وعصيرها من التغير.
وهذا يتضمن كونها صداقاً، فتفريع هذه المسألة عند هذا القائل أن يقول: إذا كانت الثمرة وصقرها موجودةً حالة العقد [ووقعت] (5) صداقاً، فلا يخلو، إما ألا ينتقص الرطب والصقر، فإن كان ذلك، فلا خيار لها، والزوج كفاها شغل الاجتناء، وتحمل المؤنة. وإن انتقص، فلا يخلو إما أن يكون ذلك انتقاص صفةٍ أو انتقاص عَيْن. فإن كان نقصانَ صفةٍ، وذلك بأن كان العصير يساوي ثلاثة دراهم، فعاد إلى درهمين، والمكيلة بحالها لم تنتقص، فلها الخيار. فإن فسخت، لم يخفَ تفريعُها
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 24.
(2) بفتح القاف وسكونها.
(3) سقطت من الأصل.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: " وقعت ".

(13/71)


على اختلاف الأحوال، فالمسألة مفروضة في نقصٍ ثبت بسبب فعلٍ من الزوج، وهو بمثابة عيب لحق المبيع بجناية البائع، ولسنا لإعادة تلك الفصول. [فإن] (1) أجازت العقد، فتخريج أرش النقصان على قولي اليد والعقد كما مضى.
8430 - وإن كان النقصان نقصانَ عين- مثل أن كان أخذ من الصقر مكيلتين، فشربت الأرطاب مكيلةً، وبقي مكيلةٌ، فحكم ذلك حكمُ ما لو أصدقها عبدين، ثم أتلف الزوجُ أحدَهما. ولا يخفى تفريع ذلك.
ثم يتصل الكلام: إذا رأينا -على قول اليد- لها الرجوع إلى بدل الفائت، لا إلى بدل البضع، فالنظر في المِثْل والقيمة، والقول في أن الرطب هل هو من ذوات الأمثال، وكذلك الصقر إذا طبخ ومازجه ماء، أو كان صِرْفاً، كل ذلك مما تقدم.
وهذه المسألة وأمثالها يطولها المتكلّفون بإعادة الأصول، ثم لا يعتنون بالغوص على جليّات المسائل فضلاً عن [مُعوصاتها] (2).
وقد يطرأ في أمثال هذه المسألة ما يجب التنبه له، فقد تزلّ عنه القريحة، وذلك أن الرطب إذا تشرب بعض الصقر، وصار مستهلكاً فيه وزناً، ولكن ازدادت قيمةُ الرطب، [فما] (3) نقص من مكيلة الصقر مضمون، وإن ازدادت قيمة الرطب بسبب ما تشرب من الصقر، وهذا بمثابة ما لو أصدق امرأته قضيماً (4) ودابة، ثم عُلفت الدابةُ القضيمَ، فانتفعت الدابّة وسمنت، فتلك الزيادة حق المرأة، والقضيم مضمون على الزوج.
8431 - ومن أصحابنا من قال صورة المسألة فيه إذا لم تكن (5) للمرأة صداقاً، وما كانت موجودة حالة العقد، بل كان أصدقها نخلة، ثم أثمرت في يده، فالثمرة
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) في الأصل: مغضاتها.
(3) في الأصل: فيما.
(4) القضيم: فعيلٌ من قضم. والمراد به هنا العلف.
(5) لم تكن: أي الثمرة.

(13/72)


تحدث ملكاً لها. وليست من جملة الصداق. ونص الشافعي مصرِّحٌ بهذا في الكبير.
فإذا كانت الصورة مفروضة على هذا الوجه، فليست المسألة من مسائل الصداق، ولكنها من مسائل [الغصوب] (1)، فهو كما لو غصب رجل رطباً وعصيراً، وصب العصير على الرطب، فالقول في ذلك ينقسم وينفصل، وقد يتعفن الرطب تعفناً سارياً غير متناهي العفن، وقد مضى ذلك مستقصًى في كتاب الغصوب. فلا معنى للخوض فيه.
وقد يقع الفرْضُ فيه إذا صب على التمر الذي ليس بصداق صقْراً من عند نفسه، فيكون كنظائره في الغصوب، مثل أن يغصب ثوباً فيصبغه بصبغ من عند نفسه، وهو من أصول الغصوب، ولست أوثر أن أذكر في هذه المسائل إلا مراسمها، ولا ينقطع ترتيب فصول [السواد] (2)، وإلا فلا معنى لإعادة الأصول. وقد تمس الحاجة إلى إعادة أطرافٍ منها، والمقصودُ غيرُها، أما إعادتها بأعيانها، فلا يليق بغرضنا.
8432 - ومما ذكره الأصحاب أن الثمرة لو كانت صداقاً، فصب عليها الزوج من صقْر نفسه، وجعلها في قارورة، فإن لم تنتقص، فلا خيار لها، فالزوج ينزع صقره. وإن انتقص الثمرة، فهذه مسألة نقصان الصداق بجناية الزوج، وقد مضى تفصيله. وإن كانت الثمرة تنتقص لو نزع الصقْر منها، ولا نقص مع الصقر، أو كانت تنتقص لو أزيلت مع الصقر عن القوارير؛ فقال الزوج: تركت صقري والقوارير على الزوجة، فهذا بمثابة مسألة النَّعل (3)، وفيها التفصيل المفرد في البيع، والظاهر أن المرأة تجبر على القبول، وكذلك القول في مسألة [النّعل] (4)، ثم لو فُرّغت القارورة وزايل النعلُ، فهل يستردهما من كان مالكهما؟ فيه وجهان. والخلاف راجع إلى أن
__________
(1) في الأصل: " الصداق " وهو سبق قلم.
(2) في الأصل: " الشواذ " وهو تصحيف لى (السواد) الذي يعني به مختصر المزني، كما تكرر ذلك مراراً.
(3) يشير إلى مسألة من مسائل الرد بالعيب، فيمن اشترى حصاناً ونعله، ثم وجد به عيباً قديماً، فأراد ردّه، فما حكم نزع النعل إذا أثّر أو لم يؤثر؟ وقد بسطها الإمام في موضعها من البيوع.
(4) في الأصل حرفت إلى (البغل) هنا وفي الموضوع السابق.

(13/73)


التَّرك تمليكٌ أو (1) ليس بتمليك. ويمكن أن يقال: إن لم نجعله تمليكاً، فلا يمتنع الإجبار عليه، وإن جعلناه تمليكاً؛ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نُجبرها عليه؛ لأنه تبعٌ، ولا مِنّةَ فيه؛ إذ للزوج غرض ظاهر سوى [الامتنان] (2). والوجه الثاني - أنا لا [نجبرها] (3)؛ لأن الإجبار على التمليك -وهي مطلقة- بعيد.
فصل
قال: " وكل ما أصيب في يده بفعله أو فعل غيره ... إلى آخره " (4).
8433 - نصُّ الشافعي في هذا الفصل يدل على أن الصداق مضمون ضمان المغصوب؛ فإنه قال: " فهو كالغاصب ". ثم استثنى مسألة، وهي: إذا كان الصداق [أَمةً] (5) فوطئها، وادعى الجهالة، وقال: كنت أظن أنها لا تَملِك قبل الدخول إلا النصف، فيُصدّق في دعوى الجهالة، وكيف لا وقد صار إلى ذلك مالك (6)، ثم لا يخفى حكم ثبوت النسب، أو فرض علوق وحكم الحرية، ولا تثبت [أُميَّة] (7) الولد في الحال، ولو ملكها يوماً من الدهر؛ ففي ثبوت أمومة الولد قولان مشهوران.
ومن غصب جارية، وأصابها، وادّعى الجهالة، لم يصدق. وقد سبق صدرٌ صالح في دعوى الجهالة حيث تُحتمل وحيث يبعد احتمالها، فلا حاجة إلى شيء مما ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: تمليك وليس بتمليك.
(2) في الأصل: " الايتمان " بهذا الرسم تماماً.
(3) في الأصل: نجبره.
(4) ر. المختصر: 4/ 24.
(5) في الأصل: مجهولاً.
(6) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 716 مسألة 1295.
(7) في الأصل: " أم".

(13/74)


فصل
قال: " ولو أصدقها شقصاً من دارٍ ففيه الشفعة ... إلى آخره " (1).
8434 - هذا من أصول الشفعة، فالشقص المذكور صداقاً، أو بدلاً في الخلع، أو في المصالحة عن دم العمد مستحَقٌ بالشفعة، فيأخذه الشفيع بمهر المثل في النكاح والخلع، وببدل الدم من الصلح عن الدم.
وإذا ذُكر الشقص صداقاً، وفُرض الطلاق، ففي المسألة ثلاث صور: إحداها - أن يأخذ الشفيع، ثم يُفرض الطلاق؛ فهو كما لو باعت الشقص، ثم طلقها الزوج، فالرجوع بنصف القيمة.
وإن طلق الزوج واتصل به طلب الشفيع، فحضرا معاً؛ فهذه المسألة المعروفة بين المروزي وابن الحداد تعارضها مسألة الإفلاس، وتردد الشقص بين رجوع البائع وأخذ الشفيع، فلتطلب هذه المسألة في موضعها.
والمسألة الثالثة: أن يجرى الطلاق والشفيع غائب، ثم يحضر ويبتدىء الطلب، فإن قدمنا الزوج في المسألة الأولى على الشفيع، فلا شك في تقدمه في الأخيرة، وإن قدمنا الشفيع إذا جاء والزوج معاً، ووقع الطلاق، وطلب الشفعة على اجتماع، فإذا تقدم الطلاق على طلب الشفيع؛ ففي المسألة وجهان.
وفصَل بعض أصحابنا بين أن يأخذ الزوج، ثم يجيء الشفيع، وبين ألا يأخذ، وقال: إذا أخذه لم ينقض عليه.
فانتظم في المسألة الأخيرة ثلاثة أوجه بعد الترتيب على الثانية.
والفصلُ بين أن يأخذه قبل مجيء الشفيع وبين ألا يأخذ- التفاتٌ (2) على أصلٍ في الشفعة، وهو أن الشفيع إذا لم يشعر بالشفعة حتى باع الشقص الذي هو شريك به؛ ففي بطلان حقه من الشفعة قولان، والفرق بين أن يأخذ وبين ألا يأخذ لا حاصل له،
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 25.
(2) " التفاتٌ " خبرٌ للمبتدأ: " والفصل بين أن يأخذه ... ".

(13/75)


إذا كان التفريع على الظاهر في أن نفس الطلاق يشطّر الصداق، فإن كان وجه الفصل تفريعاً على أن ملك الزوج يتوقف على اختيار التملك، فقد يتجه ذلك.
فصل
قال المزني: " اختلف قوله في الرجل يتزوجها بعبد يساوي ألفاً على إن زادته ألفاً ... إلى آخره " (1).
8435 - إذا جمع بين النكاح والبيع مثل أن يقول: " زوجتك ابنتي هذه وبعت منك هذا العبد بألف درهم، وقيمة العبد ألف "، فقال: " تزوجتها واشتريت العبد على هذا ". أو قال (2): " قبلت النكاح والعقدَ في العبد " والغرض ألا يُغفلا لفظ النكاح والتزويج. وقد يكون العبد من جانب الزوج، فيقول: " تزوجت ابنتك على هذا العبد، على أن تعطيني ألفاً "، ومهر المثل ألف، وقيمة العبد ألف، فنصف العبد المبيعُ والنصف صداق، فهذه صفقة جمعت عقدين مختلفي الحكم، وللشافعي قولان، أظهرهما - الصحة. والقول الثاني - أن الصفقة لا تصح.
وقد ذكرنا هذا في ترتيب تفريق الصفقة، فنذكر ما يليق من هذا الأصل بالنكاح والصداق.
فإن قلنا: الصفقة صحيحة، فلا يخلو، إما أن يكون العبد من جانبه وردُّ الألف من جانبها، أو يكون الألف من جانبه والعبد من جانبها. فإن كان العبد من جانبه، فالنصف منه صداق، والنصف مبيع بالألف، فلو اطلعت على عيب به، وفسخت، استردت الألف الذي كان ثمناً لنصف العبد، وترجع بسبب الصداق بمهر المثل في قول، وبنصف قيمة العبد في قول - كما سبق. ولو أرادت أن ترد النصف بالعبد -إما المبيع وإما الصداق- ففي المسألة قولان، كالقولين في العبدين إذا اشتراهما ووجد بأحدهما عيباً، فأراد ردَّه، وإمساكَ الآخر. ووجه الشبه أن العقد هناك وإن اتحد،
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 25.
(2) في الأصل: وقال.

(13/76)


فقد تعدد المعقود عليه، وهاهنا اتحد العبد وتعددت الجهة والعقد.
ولو جرى فسخ قبل المسيس يوجب رد الصداق، يرتد نصف العبد إلى الزوج، فإنه كل الصداق -والفرض في فسخٍ يوجب رد جميع الصداق- ويبقى النصف الآخر من العبد بحكم الشراء.
ولو طلقها قبل الدخول، رجع ربع العبد إلى الزوج، وبقي ثلاثة أرباعه- الربع منه بحكم الصداق، والنصف بحكم الشراء، ولو فرض التفريق على الوجه الآخر، لم يخف تفريع المسألة، وقصاراها التَّدْوارُ على التفريع وما ترجع المرأة به.
فصل
قال: " ولو أصدقها عبداً فدبّرته ... إلى آخره " (1).
8436 - إذا دبّرت المرأة عبد الصداق، وطلقها زوجها قبل المسيس؛ فالذي نقله المزني: أنه لا يرتد إلى الزوج نصف العبد، وأن رجوعه إلى نصف القيمة، فاقتضى النص كونَ التدبير مانعاً من الرجوع إلى الزوج، واختار المزني أن النصف من العبد يرتد إلى الزوج وينتقض الترتيب فيه.
وفي المسألة طرق للأصحاب، منهم من قال: القول في ذلك على قول الشافعي: إن التدبير وصية، أو تعليق عتق بصفة؟ فإن قلنا: التدبير وصية، يُشَطَّر الملك في العبد بالطلاق، كما لو أوصت بأن يعتق ذلك العبد عنها بعد الموت، ثم طلقها الزوج؛ فالوصية تنتقض في النصف، ويرتد إلى الزوج ملكاً. وإن قلنا: التدبير تعليق، فالتعليق لا يقبل الرجوع، بخلاف الوصية، فكان مانعاً من الارتداد إلى الزوج بلزومه.
وهذا غير سديد؛ من قبل أن التعليق بالصفة لا يمنع إزالة الملك، وللمعلِّق أن يبيع العبد الذي علق عتقه بالصفة، كما له أن يبيع العبد الموصى بعتقه، فافتراق التعليق والوصية في أنه يتصور الرجوع عن الوصية صريحاً، ولا يصح الرجوع عن
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 26.

(13/77)


التعليق صريحاً، لا يوجب فرقاً بينهما في جواز البيع والهبة وغيرهما من جهات التصرفات التي تستدعي الملك التام.
ومن أصحابنا من قال: التدبير في عبد الصداق يمنع الارتداد إلى الملك التام.
ومن أصحابنا من قال: التدبير في عبد الصداق يمنع الارتداد إلى الزوج قولاً واحداً، سواء حكمنا بأن التدبير وصية، أو قلنا: إنه تعليق عتق بصفة؛ وذلك لأنها إذا دبّرت وقد قصدت التصرف بعقد عتاقة، وعلّقت ذلك العقدَ بالعبد، فينبغي ألا ينتقض قصدها؟ فإنا إذا كنا نمنع الزوج من الرجوع إلى نصف الصداق إذا زاد أدنى زيادة، مع علمنا بأن الزيادة المتصلة لا أثر لها في الفسوخ والعقود والردود، فتعلُّقُ غرضها بعقد العَتاقة لا ينقص عن الزيادة المتصلة.
ثم من سلك هذه [الطريقة] (1)، إذا قيل لهم: لو لم تدبره، ولكنها صرحت بالوصية بعتقه، أو علقت عتق عبد الصداق بصفةٍ، فماذا تقولون؟ فقد اختلف جواب هؤلاء. فقال قائلون: التصريح بالوصية وتعليق العتق يمنعان مع التدبير. وقال آخرون: المنع يختص بالتدبير؛ فإنا وإن أحللناه محل الوصية أو محل التعليق، فلسنا [ننكر] (2) أن التدبير عقدُ عتاقة في الشرع، وبه يتحقق تجرّد القصد إلى التقرّب.
وأما التعليق بالصفات؛ فإنه من أحكام المعاملات، والوصية لا يُقْدم عليها الموصي إلا وهو يثبت لنفسه مستدركَ الرجوع.
فإن قيل: فالتدبير مع ذلك [يقبل] (3) الرجوعَ في قولٍ - والإبطالَ بإزالة الملك في قول؟ قلنا: إنما يَقْبله ممن أنشأه، [فأما إبطاله عليها لحق الزوج] (4)، فهو بعيد.
ومن اشترى عبداً بثوب، وقبض العبد ودبّره، ثم ردّ صاحبه الثوب عليه بعيب قديم، فالمذهب الأصح: أن العبد يرتد، والتدبير ينتقض، قولاً واحداً، لقوة الفسخ واستيلاء سلطانه. ولذلك لا تؤثر الزيادة المتصلة في منع الارتداد بالفسخ،
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل: نذكر.
(3) في الأصل: قبل.
(4) في الأصل: "فلها أن تبطل عليه الحق للزوج" والمثبت من (صفوة المذهب).

(13/78)


بخلاف الارتداد إلى الزوج بحكم الطلاق، أو بما يحل محل الطلاق مما يوجب التشطير قبل المسيس.
وأبعد بعض الأصحاب فجعل التدبير مانعاً من الارتداد بالفسخ، كما يكون مانعاً من التشطير بالطلاق، وهذا بعيد غير معتد به.
ومن أصحابنا من قطع بأن التدبير في عبد الصداق لا يمنع تشطيره، وهذا هو القياس الظاهر، ولكنه مخالف للنص، ويقبح ترك النص الصريح، والوجه: إثباته قطعا أو قولاً، وتوجيهه بما يمكن، والله أعلم.
8437 - والذي جرى في المسالة بعد طرق الأصحاب سببان: أحدهما - التردد في أن التصريح بالوصية والتعليق هل ينزل منزلة التدبير؟ والثاني - أن التدبير إذا رأيناه مانعاً من التشطير، فقد يمنع من الارتداد في الفسوخ، ومن الرجوع في الهبة، فيه الوجهان المذكوران. فمن أصحابنا من عمّم المنع في هذه الأبواب، وجعل التدبير بمثابة زوال الملك في جميعها. ومنهم من خصص المنع بالتشطير؛ لما ذكرناه من تنزيل التدبير منزلة الزيادة المتصلة فاختص بباب التشطر في الصداق. فهذا حاصل القول في المسألة.
8438 - ثم إن جعلنا التدبير مانعاً من التشطير؛ فلو دبرت عبد الصداق، ثم أبطلت التدبير بالرجوع في التدبير صريحاً، فهل يكون هذا بمثابة ما إذا زال ملكها عن عبد الصداق، ثم عاد إليها ملكاً، ثم طلقها الزوج قبل المسيس؟ فعلى وجهين. من أصحابنا من جعل طريان التدبير وزواله بمثابة طريان زوال الملك وعوده قبل الطلاق.
ومنهم من قال: ليس كزوال الملك، وإن جعلناه مانعاً من التشطير إذا كان ثابتاً عند الطلاق، قياساً على الزيادة المتصلة؛ فإنها وإن كانت مانعة في ثبوتها عند الطلاق، فلو طرأت وزالت، وعاد الصداق إلى ما كان عليه حالة العقد، فما تقدم من الطريان والزوال لا أثر له في منع التشطير.
وهذا نجاز المسألة. وسيأتي القول في حقيقة التدبير في كتابه، إن شاء الله تعالى.

(13/79)


8439 - ثم تكلم الأصحاب في زوال ملك المرأة عن الصداق وعوده إلى ملكها، وهذا مما تكرر في كتاب التفليس، والرد بالعيب، والضابط للأبواب أن الملك الزائل فالعائد، بمثابة الملك الذي لم يعد، أم بمثابة الملك الذي لم يزُل؟ فيه قولان. ثم ينفصل كل باب على حسب ما يليق به.
والقدر الذي يتعلق بهذا الكتاب طرد الخلاف في الشطر من غير فرق بين جهةٍ في العود [وجهةٍ] (1)، وإنما تختلف [التفاصيل] (2) في المبيع إذا خرج ثم عاد ببيع، ثم فرض الاطلاع على العيب، فهذا يضطرب الرأي فيه لإمكان الرد في البيع الجديد، [وتحمله] (3) في البيع القديم، على ما مضى مستقصًى في موضعه.
أما في الصداق؛ فإذا تحقق الزوال والعود، فلا نظر إلى تفاصيل الجهات، وبالجملة: زوال الملك أظهرُ أثراً في منع التشطر منه في منع الفسوخ، لما مهدناه من ضعف التشطر، والشاهد فيه منع الزيادة المتصلة [له] (4) وإثبات الخِيَرة لها، ثم حيث جعلنا زوال الملك مؤثراً في المنع، فهو فيه إذا زال زوالاً لازماً، فإن كان الزوال على نعت الجواز، مثل أن يبيع بشرط الخيار -والتفريع على زوال الملك- فإذا انتقض البيع وارتد الصداق إليها؛ ثم طلقت؛ ففي هذا النوع من الزوال وجهان. وطريان الرهن وزواله لا يؤثر.
وإذا كاتبت عبدَ الصداق، ثم عجَّز المكاتبُ نفسَه، وانقلب رقيقاً؛ فهذا أجراه القاضي مجرى زوال الملك على اللزوم، وطرد الخلاف على ما ذكرناه، وهو مرتب عندنا على زوال الملك؛ فإنّ المكاتب مِلْكُ المولى إلى العتاقة، وإن تضمنت الكتابة حيلولة، فالرهن يتضمنه أيضاً، ثم لا يؤثر طريان الرهن.
8440 - ثم قال الشافعي: " ولو تزوجها على عبد، فَوُجِد حراً، فعليه قيمته ...
__________
(1) في الأصل: وجهته.
(2) في الأصل: التفاصل.
(3) في الأصل: وتخيله.
(4) في الأصل: به. والضمير في (له) يعود على التشطِّر.

(13/80)


إلى آخره " (1). وهذا نص من الشافعي على الرجوع إلى القيمة في اقتران الفساد بالصداق، وقد فصلنا هذا في تمهيد القواعد على أحسن الوجوه، فلا حاجة إلى إعادتها.
فصل
قال: " إذا شاهد الزوجُ الوليَّ والمرأةَ أن المهر كذا ... إلى آخره " (2).
8441 - صورة المسألة: إذا تواطآ على مقدار من المهر سراً، واتفقا على أن يُظهرا أكثر، فإذا جرى العقد علانية بالمبلغ الكثير بعد تقدم التواطؤ، قال المزني: اختلف قوله في ذلك. فقال في موضعٍ: السرّ، وقال في موضع العلانية. ثم قال: هذا عندي أولى؛ لأنه إنما ينظر إلى العقود، وما قبلها وعدٌ، هذا نقل المزني واختياره.
وقد اختلف أصحابنا على طريقين، فمنهم من قطع بأن الاعتبار بمهر العلانية، وما جرى من التواطؤ في السرّ لا حكم له، فهو [وعدٌ] (3) كما قاله المزني، والمعوّل على ما جرى العقد به لا غير، وهؤلاء يحملون نص الشافعي على فرض إجراء عقد في السر بالمبلغ الذي وقع التراضي عليه، ويشهد لذلك قوله " إذا شاهد الزوج الولي " فذكر الولي يشعر بجريان العقد، وهذا وإن كان قياساً، فهو مخالف للنص.
ومن أصحابنا من أجرى القولين، كما نقله المزني- ثم هؤلاء اختلفوا على طريقين، فمنهم من قال: القولان مفروضان فيه إذا قالا: المهر ألف، وقد تواضعنا بيننا على أن نجعل ذكر الألفين علانيةً عبارة عن الألف الذي وقع التراضي به، فإذا جرى ذلك كذلك، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الاعتبار بمهر السرّ؛ فإنهما جعلا الألفين عبارة عن الألف، واللغات اصطلاحات، وليس يبعد عن القياس تحريفها؛ فإنها لا معنى لأعيانها، وإنما المقصود معانيها، وما يقع التفاهم به فيها.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 26.
(2) ر. المختصر: 4/ 27. وفي الأصل: " ... الزوج والولي والمرأة " والمثبت عبارة المختصر.
(3) زيادة من المحقق.

(13/81)


والقول الثاني - أن الواجب مهر العلانية؛ فإنهما أجريا لفظاً صريحاً في العقد، والصرائح لا تحال ولا تُزال عن حقائقها بما يفرض من تواطؤ وتواضع. وهؤلاء يقولون: لو وقع التراضي سراً على خلاف هذا الوجه، وقالا المهر مهر السر، ولم يتعرضا لتعيين اللغة، كما نصصنا عليه؛ فالذي تقدم وعد، والتعويل على المذكور في العقد، كما ذكره المزني.
ومن أصحابنا من طرد القولين، وإن لم يجر تعرض لتغيير اللغة بطريق المواضعة والاصطلاح، وذلك أنه وإن لم يقع لتغيير اللغة تعرض، فالمراد آيلٌ إلى ذلك.
ثم بنى الأئمة على هذه القاعدة جملةَ الأحكام المتلقاة من الألفاظ، فإذا قال الزوج لزجته: إذا دخلت أنت طالق ثلاثاً، لم أرد به الطلاق، وإنما غرضي أن تقومي أو تقعدي، أو غرضي بالثلاث الواحدة، فظاهر المذهب: أن ذلك لا يقبل منه.
وفي هذه المسألة الوجه البعيد الذي ذكرناه في مهر السر والعلانية، وسنبسط القول في هذا في مسائل الطلاق، عند اعتنائي بذكر الصرائح والكنايات، والأمور الظاهرة والباطنة ومسائل التدبير.
فصل
قال: " وإن عقد عليها النكاح بعشرين يوم الخميس ... إلى آخره " (1).
8442 - إذا ادعت المرأة أنه نكحها يوم الخميس بعشرين، ويوم الجمعة بثلاثين، وطلبت المهرين؛ فدعواها مسموعة. فإن ثبت العقدان بإقراره وبالبينة، أو نكل عن اليمين، فرُدّت اليمين عليها، فحلفت، ثبت المهران.
فإن ادعى الزوج بعد ثبوت النكاحين أنه لم يصب في النكاح الأول، فالقول في هذا قوله مع يمينه بناءً على الأصول التي مهدناها؛ إذ قلنا: إذا اجتمع النفي والإثبات في تداعي الزوجين في الإصابة، فالقول قول النافي إلا في المسائل التي استثناها.
ثم ما ذكره الأصحاب أن الزوج لو لم يتعرض لنفي الإصابة في النكاح الأول،
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 27.

(13/82)


فللمرأة طلب المهرين على الكمال، ولا حاجة بها إلى إثبات المسيس في النكاح الأول، وإن كان المهر لا يتقرر إلا به، ونفس النكاح الثاني يدل على ارتفاع النكاح الأول، فكأن النكاح الأول ثبت وارتفع، ولم يثبت فيه المسيس، وطلب جميع المهر من غير مسيس على استمرار النكاح ممكن، فأما إذا ارتفع النكاح، فلا يمكنها طلب المهر على قياس استمرار النكاح، والأصل عدم المسيس، ولكن يعارض هذا أن المهر ثبت بالنكاح على الكمال، فعلى من يدعي سقوط شطر منه أن يتعرض له، ولكن يتطرق إلى هذا أن الزوج لو ادعى نفي الإصابة صُدِّق مع يمين، ولم يطالَب بأمر آخر.
فليتأمل الناظر هذا، وليفهم لطفَ مأخذه، فالأصل ثبوت المهر، وهذا يستمر في سكوت من عليه المهر.
فإن ادعى عدمَ المسيس صُدِّق مع يمينه، وإن لم يدّع طولب بتمام المهر، بناء على ثبوته. فإذاً على الزوج إثبات مقتضى التشطر بيمينه.
وحجج الخصومات منقسمة، وهذا كما أن المودَع مطالَب بالوديعة، محبوس إذا سكت، فإن ادعى تلفاً أو رداً، صُدّق.
ولو قال الزوج: كان النكاح الثاني تجديداً للإشهاد (1) ولم يكن عقداً جديداً، فلا ينفعه هذا القول، بل إذا قال ذلك، استغنت المرأة عن إقامة البينة، وكان ما صدر منه إقراراً بالعقدين: أما الأول فقد اعترف به، وأما الثاني فقد اعترف بصورته، وادعى فيه الإعادة، وهذا يُشبه إذا ادعى رجل على رجل عيناً، وقال المدعى عليه للمدعي: بعها مني، فالاستباعة تتضمن إقراراً للمدعي بالملك، وليس للمدعى عليه أن يقول: طلبت منه صورة البيع ولم أعترف بصحة بيعه، فإنَّ طلبَ البيع محمول على البيع الصحيح، وكذلك كل من اعترف بعقد، فاعترافه المطلق محمول على الاعتراف بالعقد الصحيح.
__________
(1) كذا. ولعلّها: للإشهار (بالراء).

(13/83)


فصل
قال: " ولو أصدق أربع نسوة ألفاً ... إلى آخره " (1).
اختلفت نصوص الشافعي في مسائل متناظرة، ونحن ننقل أجوبته فيها، ثم نذكر طرق الأصحاب.
قال: إذا نكح نسوة في عقدة واحدة وأصدقهن مالاً واحداً سمّاه؛ فلا شك في صحة النكاح، وفي صحة الصداق قولان [نص] (2) عليهما.
ونص أيضاً على مثل هذين القولين إذا خالع امرأته، أو نسوة بعوض واحد، فالخلع واقع، والبينونة حاصلة، وفي فساد العوض قولان.
ولو ملك أشخاصٌ عبيداً، فملك كل واحد عبداً أو أكثر، فباعوا عبيدهم بمال يقع [التراضي] (3) عليه من رجل، فقد نص الشافعي على فساد البيع، وقطع قولَه به.
ولو كاتب عبيداً على عوض واحد نجَّمه عليهم، فقد نص على صحة الكتابة، وقطع قولَه بها.
فاختلف أصحابنا على طرق؛ فمنهم من ضرب بعض هذه النصوص ببعض، وجعل في المسائل كلِّها قولين: أحدهما - أن العقد باطل لجهالة العوض؛ فإن كل واحد ليس يدري ما ثبت له بالعقد، ولكل واحد حكمٌ في نفسه، وانضمام غيره إليه لا يغيّر من أمره شيئاً، فلا أثر لكون جملة المسمى معلومة إذا كان كل واحد منهم جاهلاً بما يطالب به، وهذا بمثابة ما لو قال الرجل: " بعتك داري هذه بما باع به فلان عبده "، فالبيع باطل، وإن كان الوصول إلى ما [باع] (4) به فلان عبده ممكناً، وما نحن فيه أولى بالبطلان؛ فإن درك ثمن ذلك العبد ممكن على يقين، وسبيل درك
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 27.
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: اعتراضي. (وهو من غرائب التصحيف).
(4) في الأصل: يباع.

(13/84)


العوض في حق كل واحد بالتقويم والفضِّ (1)، وهذا مظنون لا يتوصل إلى مسلك التعيين فيه. وما يجري في النكاح والخلع والبيع والكتابة على نسق واحد؛ فإن هذه العقود -وإن اختلفت أحكامها- فهي متساوية في اشتراط الإعلام في عوضها.
والقول الثاني - أن العقود بجملتها صحيحة؛ فإن المقدار المسمى معلوم وقد قوبل بمعلومات، فاشتملت الصفقة على مقابلة معلوم بمعلوم، ثم الاجتهاد وراء ذلك في القسمة، والنص يخصص القول الأول. هذه طريقة.
8443 - ومن أصحابنا من أقرّ النصوص قرارها، وطرد القولين في بدل الخلع والصداق، وقطع بالفساد في البيع، وبالصحة في الكتابة، وهؤلاء يحتاجون إلى فرقين: أحدهما - بين البيع والخلع وبين الكتابة، أما الفرق بين البيع وغيره؛ فهو أن العوض ركن في البيع، وحكم فساد الركن فساد العقد، ثم موجب فساد البيع إلغاؤه، والبدل ليس ركناً في الخلع والنكاح، وفقه ذلك أنا لا نفسد النكاح والخلع بفساد العوض، وإذا لم نفسدهما، فلا بد من إثبات عوض، وذلك العوض هو مهر المثل الذي نريد توزيع المسمى عليه، وإذا كنا لا نجد بداً لإثبات مهر المثل، فلا يمتنع توزيع المسمى عليه، ومثل هذا لا يتحقق في البيع.
وأما الكتابة، فهي أقل [احتمالاً] (2) لأمثال هذه الأمور؛ فإن عوضها أُجمل على صيغة تَفْسُد عليها الأعواض في العقود؛ فإنها مقابلة الملك بالملك، ثم كان سبب احتماله تشوف الشرع إلى تحصيل العتاقة، فإذا أمكننا أن نقدر وجهاً في الصحة، لم يَلِقْ بوضع الكتابة أن تفسُد لتخيير السيد. ومن فهم ما ذكرناه، لم يفسد عليه الكلام العام في اشتراط الإعلام في أعواض هذه العقود.
ومن أصحابنا من ألحق البيع بالنكاح والخلع، وخصص الكتابة بقطع القول فيها بالصحة، والسبيل ما قدمناه، ولا يمتنع عكس هذه الطريقة على من يحاول؛ فإن الكتابة مضمونها العتق، وهو على النفوذ كالطلاق، والبيع يختص من بين هذه
__________
(1) والفضِّ: أي والتوزيع والتقسيم.
(2) زيادة من المحقق.

(13/85)


العقود بمزايا وتأكيدات في رعاية صفات الأعواض.
فأما القول في الصداق، فإن أفسدناه، رجعنا إلى مهور أمثال النسوة، فإن كل فساد يرجع إلى الجهالة فالرجوع إلى مهر المثل، وهذا مقطوع به.
8444 - ووراء ما ذكرناه غائلة؛ فإنا على قول القيمة وضمان اليد نقدر للخمر قيمة، ونقدر الخمر عصيراً، ومساق هذا يقتضي ألا نصير إلى مهر المثل إلا في المجهول الذي لا يمكن تقويمه. وإذا كان النص على مهر المثل ممكناً، فليس هذا بأبعدَ من تقدير قيمة الحر.
فإن وفّينا حق هذا الأصل، قلنا: إذا رأينا الرجوع إلى القيمة في قاعدة الصداق عند طريان التلف أو اقتران الفساد، فالوجه: تصحيح الصداق. وإن لم نر ذلك، جرى القولان، وهذا تكلّف منا، والأصحاب طردوا القولين على القولين.
وحق من يريد الاعتناء بالمذهب أن يفهم ما قيل ويتثبت في النقل، ثم يحيط بالمشكلات، ويستمسك بها في نصرة قول على قول.
وإن حكمنا بصحة الصداق، فلا وجه إلا فضّ المسمّى على أقدار مهور أمثال النسوة، فإن استوين في مهور الأمثال استوت حصصهن، وإن تفاوتن في المهور، تفاوتت الحصص.
وفي طريقة القاضي قول غريب أن المسمى [مفضوضٌ] (1) على رؤوسهن من غير نظر إلى تفاوت المهور، وهذا وهم غير معدود من المذهب، لا يُحتمل إلا من رجل له قدرٌ وقدمُ صدق في المذهب. وما ذكرناه من التفريع في النكاح يجري مثله في بدل الخلع، [حرفاً بحرف] (2).
8445 - وأما [البيع] (3) -إن أفسدناه- لم يخف حكم فساده، والسبب فيه جهالة العوض، كما قررناه في التوجيه، ثم نقول: لو كان بين أربعة أشخاص أربعة أعبد،
__________
(1) في الأصل: مفضض.
(2) في الأصل: فانحرف. والمثبت من (صفوة المذهب).
(3) في الأصل: المبيع.

(13/86)


لكل واحد منهم ربع الجميع، فإذا باعوا الأعبد من شخص بثمن واحد، صح بلا خلاف؛ فإن لكل واحد ربع الثمن، ولا جهالة، وإنما الحكم بالفساد، أو ترديد القول حيث ينفرد كل واحد بعبد أو عبيد، بحيث تمس الحاجة إلى فضّ المسمى على أقدار القيم.
ومما نفرعه أن الرجل لو قال: اشتريت عبدك بما يخص العبد من الألف لو وزع عليه وعلى عبد زيد، ولم يجر عقد مع زيد؛ فالبيع فاسد على هذا الوجه، وإن كان لو فرض عقد مشتمل على عبديهما بمقدار من المسمى، لخرجت المسألة على قولين؛ والسبب فيه أن معتمد الصحة النظر إلى صيغة الصفقة المشتملة على معلومين من الجانبين على الجملة، مع رد الجهالة إلى القسمة.
ومما يتفرع على البيع أيضاً أنا إذا صححناه، فلا وجه إلا فَضُّ المسمى على قيم العبيد، وذلك القول البعيد الذي حكيناه في النكاح والخلع وهو الفض على الرؤوس لا يتأتى في العبيد؛ فإنهم أموال قوبلوا بأموال في عقد يقصد منه المالية، وحقائق المالية لا تجري في الأبضاع، وهذا تكلفٌ منا؛ فإن ذلك القولَ فاسدٌ، حيث ذكروا ما للعبد في الكتابة، فلا بد من فض العوض عليهم بما ذكرناه في البيوع، نص الشافعي عليه في الكتابة، وأجمع عليه الأصحاب، وهذا نجاز الفصل.
فصل
قال: " ولو أصدق عن ابنه ودفع الصداق من ماله ... إلى آخره " (1).
8446 - قد ذكرنا في كتاب النكاح صيغة قبول النكاح للأطفال، وصيغة التزويج منهم، وغرضنا من عقد هذا الفصل أمور تتعلق بالمهر.
منها: أن الأب لو أصدق امرأة ابنه الطفل شيئاً من أعيان ملك نفسه عند قبول النكاح، فهذا جائز، والعين المذكورة تثبت صداقاً. والتقدير فيها أن يفرض دخولها تحت ملك الطفل، ثم ملك زوجته يترتب على ملكه، فتلحق العين بأموال الطفل،
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 28.

(13/87)


ويجب الإصداق من ملك الطفل، وهذا متفق عليه.
ثم إذا بلغ الغلام، وطلّق زوجته قبل الدخول، والعين باقية في يدها؛ تشطّرت، ورجع نصفها إلى الزوج -وهو الابن- فإنا قدّرنا دخول العين في ملكه، وأوضحنا ترتّب ملك المرأة على ملكه، فيرجع الشطر إلى الجهة التي منها الخروج.
ثم الأب إن قال: قصدت هبةً، فالأمر منزّل على قصده، وإن قال: قصدت إقراضاً، فالظاهر عندنا أن قصده متبع؛ لاحتمال الأمر. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن مطلق إصداقه يتضمن الهبة لا محالة، وصرحوا [أنه] (1) إذا قال: لم أنو شيئاً، كان محمولاً على الهبة، ثم إذا حملناه على الهبة، ثم فُرض رجوع شطر تلك العين إلى الابن، فهل يملك الأب الرجوع فيما رجع إلى الابن؟ فعلى الخلاف المعروف في أن ملك المتهب إذا زال وعاد، فهل يثبت للأب حق الرجوع فيه؟
ولو ارتدت المرأة، أو جرت حالةٌ غيرُ الردة، مقتضاها رجوع جميع الصداق إلى الزوج، فالجميع يرجع إلى الابن رجوعَ النصف عند فرض الطلاق قبل الدخول، ثم القول في رجوع الأب، على ما ذُكر.
8447 - وذكر الأصحاب مسألة عدّوها من اللغز والمغالطة، فنذكرها على صورتها، فقالوا: إذا قبل الأب النكاح لابنه الصغير، وأصدقها أمّ الصغير (2)، فكانت في ملكه، ثم بلغ الغلام، وطلقها، فإلى من تعود الأم أو بعضها؟ وكيف الطريق بهذا [اللغز] (3)؟ لأن الأم لو دخلت في ملك الابن، لعَتَقَتْ، فإذا عتقت، لم يصح الإصداق، وإذا لم يصح الإصداق، لم يحصل العتق، فيلتحق هذا بالمسائل الدائرة. فهذا ما ذكره الأئمة.
وينشأ من هذا سؤال، وهو: أن الأب لو قبل لابنه الصغير نكاح امرأة مهرُ مثلها
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) ويتصور ذلك بأن يتزوج أمة غيره، فيستولدها، ويكون ولدها رقيقاً تبعاً لها، ثم تدخل في ملكه هي والولد، فيعتق الولد عليه دونها، فإذا زوج ابنه هذا وجعلها صداقاً تكون هذه الصورة.
(3) في الأصل: " الغار ". ولا معنى لها، فليس هنا غرور، ولا غارّ ولا مغرور.

(13/88)


مائة، فأصدقها من خالص ماله ألفاً، فكيف يكون الرأي؟ وهل يكون هذا كما لو أصدقها من مال الطفل ألفاً، مع العلم بأنه لو فعل ذلك من مال الطفل، لكان متبرعاً من ماله، والتبرع من مال الطفل مردود، وهذه المسألة في نهاية الحسن.
وأول ما يجب قطعه أن يظن ظان أن الملك يثبت للطفل، ويبطل الإصداق؛ فإن سبيل ثبوت الملك له الإصداق، وإذا كان بقصد الإصداق، كيف يصح التمليك؟ فوجه الكلام أن يقال: يحتمل أن يصح الإصداق: فإن كان مع تقرير ملك الطفل، فإن هذا تبرع حصل بتبرع الأب بمال نفسه، ولم يثبت للطفل ملك متأثل حتى يفرض منع [التبرع] (1) فيه.
ويجوز أن يقال: يفسد الصداق رأساً؛ لأن في تصحيحه تثبيتٌ لملك الطفل مع التبرع به. وما وجدناه منصوصاً للأصحاب من منع إصداق الأم يشهد لإفساد هذا الإصداق، فإن انقدح لفقيهٍ نظرٌ في الفرق، فلا حرج عليه، ولا يَطْمَعَن في تخريج في العتق؛ فلا وجه فيه غير ما ذكره الأصحاب.
فإن قيل: قد حكيتم عن أبي إسحاق أنه قال: من يشتري من يعتِق عليه، حصل الملك والعتق معاً، فقياسه أن يحصل ملك الطفل في الصداق وملك المرأة معاً، ثم حصول ملكها يمنع حصول العتق، فهل يخرّج على هذا جواز إصداق الأم؟ قلنا ليس ما قاله أبو إسحاق مما يحل التفريع عليه، سيما في هذه المضائق، وحق كل ناظر في مضيق أن [يقطع] (2) فكره عن الأصول البعيدة.
فهذا منتهى ما ذكرناه في ذلك.
8448 - ومما يتصل بهذا: أن الرجل إذا نكح امرأة [و] (3) أصدقها ألفاً، وجاء أجنبي وأدّى الألف من غير رضا الزوج، وطلقها قبل المسيس، فحكم الطلاق تشطير الصداق، ويبعد كل البعد أن نقدّر للزوج ملكاً فيما أدّاه الأجنبي؛ فإنه لا يملك
__________
(1) في الأصل: المتبرع.
(2) في الأصل: يقتطع.
(3) في الأصل: أو.

(13/89)


الأجنبيُّ تمليكَ الزوج شيئا قهراً، وهو ما يليه (1)، أما التشطير، فلا شك فيه، وحكى شيخي وجهين فيمن ينقلب الشطر إليه، أحد الوجهين: أنه يرجع إلى الأجنبي؛ فإنه من ملكه خرج، ولا وجه عندنا غيره، وإن استبعد مستبعد رجوع نصف الصداق إلى غير الزوج، فسببه أداء الصداق من غير الزوج.
والوجه الثاني - أنه يرجع إلى الزوج، وهذا القائل يضطر إلى أن يقول: يدخل في ملك الزوج تقديراً أولاً، وقد يتفق مثل هذا.
وقد ذكرنا أن العبد إذا خالع زوجته على مال، فالعوض يدخل في ملك السيد، ولم يجر الخلع بإذنه، ولم يخرج البضع عن استحقاقه، والقياس يقتضي أن يكون عوض البضع عن استحقاقه، والقياس يقتضي أن يكون عوض البضع لمن يخرج البضع عن حقه، ومن الأصول الخفية أن [محض] (2) القياس قد يضيق، فيدِق النظر، وهو يمشي مشي المُقَيَّد، ثم قد يقف، ويضطر الفقيه إلى حكم، فيصرفه إلى أقرب الوجوه إليه من غير قياس، إذا امتنع تعطيل الحكم، وهذا تكلف، وليس العبد كالأجنبي المتبرع، فإن ما يكتسبه العبد [إنما] (3) يكتسبه للسيد.
وكل ما ذكرناه فيه إذا أصدق الأب زوجة ابنه من مال نفسه.
8449 - فأما إذا أصدقها من مال الابن، فإن كان قدر مهر مثل المرأة. أو أقل؛ صح النكاح، وثبتت التسمية، وإن كان أكثر من مهر المثل؛ ففي المسألة قولان: أحدهما - أن النكاح لا ينعقد.
والثاني - أنه ينعقد، ويُرد إلى [مهر المثل] (4).
وأصل هذين القولين أن فساد المهر وإن كان في قاعدة المذهب لا يؤدي إلى إفساد النكاح- فالمهر ثبت في الصورة التي ذكرناها في حكم الشرط، وكأن المرأة لم ترض بالنكاح إلا به، فلا ينبغي أن يؤخذ هذا من فساد المهر مطلقاً؛ إذ لو قلنا: يلزمها
__________
(1) ما يليه: أي لا ولاية له عليه، فيملكه.
(2) في الأصل: محطى.
(3) في الأصل: بمثابة ما يكتسبه للسيد.
(4) في الأصل: مثل المهر.

(13/90)


النكاح بمهر المثل، لكان هذا تجنّياً ظاهراً واحتكاماً عليها وتغييراً لموجب إذنها، وليس كما لو كان الصداق خمراً؛ فإنه لا حكم لرضاها بالخمر، وطلبها أكثر من مهر المثل يسوغ في الشرع؛ فليفهم الناظر هذه الدقيقة، فإنا رأينا المتعمقين يرون قول فساد النكاح قولاً فاسداً في المذهب، لا يرون له اتجاهاً إلا على قول بعيد في أن فساد المهر يؤدي إلى فساد النكاح، وليس الأمر كذلك؛ فإن الشافعي في مساق نصوصه على أن النكاح لا يفسد بفساد الصداق، ينص على هذين القولين.
ولو زوّج ابنته بأقل من مهر المثل، ففي انعقاد النكاح قولان: أحدهما - لا ينعقد.
والثاني - ينعقد بمهر المثل، وتوجيه القول في الإفساد مأخوذ مما ذكرناه، وهو أن الرجل لم يرض بأن يُلزِمَ النكاح بأكثر مما ذُكر، ْ وقد سبق تقرير هذا.
وهذا الذي نبهنا عليه من شرائف الكلام، ولست أذكر أمثال هذا [تصلّفاً] (1) ولكني أقصد أن يكون للمنتهي إليه فضل تأمل.
8450 - ثم إذا أصدق الرجل امرأة ابنه لا من مال نفسه، فلا يخلو، إما أن يصدقها من عين مال الطفل، وإما أن يصدقها ديناً، فإن كان عيناً [مَلَكتها] (2) والكلام في كونه على قدر مهر المثل أو أكثر منه، وقد سبق ذلك.
وإن ذكر في قبول النكاح لطفله دَيناً مطلقا، فالمنصوص عليه في الجديد: أن المهر لا يثبت في ذمة الأب، والمال على الابن، نعم، إن كان للابن مال، فالابن مطالب بتأديته من ماله. وقال في القديم: يكون الأب ضامناً للمهر شرعاً، وقد ذكرت القولين وتوجيهَهما.
وكذلك لو أذن المولى لعبده في النكاح، فالقول الجديد: أن ذمة السيد خلية عن المهر، والمهر والنفقة يتعلقان بكسب العبد، وقال في القديم: يصير السيد ضامناً،
__________
(1) في الأصل: " ـ صـ ـا " هكذا بدون أي نقط. والمثبت تصرف منا على ضوء عبارات الإمام في مثل هذه المسائل.
(2) في الأصل: ملكها.

(13/91)


وذمة العبد مشغولة أيضاً، وهو في رتبة الأصيل والسيد في مقام الكفيل.
وإذا أذن لعبده في التمتع بالعمرة إلى الحج، فالقول الجديد- أن العبد يصوم لا غير، وليس على السيد بذلُ مال.
والقول الثاني - أن السيد يُريق دمَ المتعةِ عن عبده.
فإن قلنا: ذمة الأب عريّة عن المال، فإن كان للابن مال، فالمرأة تطالب الأب المتصرف بأداء المهر من مال الابن، ولو صرّح الأب بضمان المهر شرطاً -والتفريع على الجديد- فيصير حينئذ ضامناً، والمرأة بالخيار، فإن شاءت طالبت الابن إذا بلغ، أو طالبت الأب بالأداء من ماله، وإن شاءت طالبت الضامن، ويظهر أثر هذا مُتّضحاً فيه إذا لم يكن للابن مال ثم الأب إذا ضمن -حيث انتهى التفريع إليه- فإن غرم، فهل يرجع على الابن؟ قد [ذكرنا] (1) في كتاب الضمان أن من ضمن بالإذن، وشرط الرجوع وغرم كذلك؛ فإنه يرجع، فإذا لم يفرض الإذن، ففيه تفصيل.
وحظ هذه المسألة من ذلك الأصل الذي أشرنا إليه- أن الأب لا يحتاج إلى تصريحٍ بشرطٍ، حتى يرجع، ولكن يكفي قصده، فنضع قصدَه موضع الإذن وشرطِ الرجوع، ثم نطبق الخلاف على الخلاف والوفاق على الوفاق.
وإذا ضمن وأدى في هذا المنتهى، ثم طلق الزوج؛ فنصف المهر يرجع إليه، ثم الكلام بعد ذلك في أن الأب هل يرجع أم لا؟ فإن ما يصدر من الأب في مثل ذلك يتضمن تمليكاً؛ فإنه يَمْلِكُ تمليكَ الطفل- كما سبق تفصيله، وإذا كان تبرعه من مال نفسه يتضمن تمليكه، فما يؤديه بعد الضمان والالتزام يقتضي ذلك لا محالة، وفائدة ما ذكرناه أن تشطير الصداق إذا رجع -حيث يثبت للأب حق الرجوع- فلا نقول: ينحصر حق الأب فيما رجع، بل يلتحق ما رجع بسائر أملاك الطفل، ثم الأب يتصرف فيه فيما يرجع به تصرفه في سائر أملاكه.
وهذا كله تفريعٌ على القول الجديد في أن التبرع لا يُلزم الأب ضماناً بحكم العقد، ثم صورنا فيه إذا لم يصرح بالضمان أو صرح به.
__________
(1) في الأصل: ذكرناه.

(13/92)


8451 - فأما إذا فرعنا على القديم، وقضينا بأن التبرع يُلزم الأبَ الضمان، قال القاضي: إذا غرم الأب على القول القديم ما ضمّنه الشرع، فلا يجد به مرجعاً على مال الطفل، ويكون هذا كضمان العاقلة دية الخطأ؛ فإنهم إذا تحملوا [العقل] (1) وأدَّوْا ما حمّلهم الشرع، لم يرجعوا بما بذلوه على القاتل.
ثم قال: فلو شرط الأب، [صح] (2) النكاح، فإن النكاح لا يفسد بأمثال ذلك، وقيل له: لو ضمن الصداق بشرط براءة الابن، فكيف الوجه؟ فقال: لو ضمن الضامن دَيْناً على شرط براءة الأصيل، فلابن سريج في ذلك وجهان ذكرناهما: أحدهما - يجوز. والثاني - لا يجوز. هذا معروف في غير ما نحن فيه.
فإذا فرضنا شرط الضمان على هذا الوجه -والتفريع على القول الجديد، وهو أن الضمان لا يلزم شرعاً- فيحتمل وجهين: أحدهما - أن الضمان لا يصح، ويفسد بالشرط، ثم يلتحق هذا بشرط ضمان فاسدٍ في العقد، وقد اختلف القول في أن شرط الضمان الفاسد والرهن الفاسد في العقد، هل يتضمن فساد العقد؟ وقد ذكرنا في ذلك قولين في كتاب الرهون، هذا وجهٌ.
وإن قلنا يصح الضمان [عن] (3) دين مستقر بشرط براءة الأصيل، فشرْطُ هذا في صلب العقد يجب أن يكون فاسداً؛ فإن العقد يستدعي ثبوت العوض في ذمة [العاقد] (4)، والخلاف الذي ذكرناه عن ابن سريج في ضمانٍ يرد على دين مستقر، لا يبعد سقوطه.
وإذا تبين أن الضمان لا يتضمن إبراء الذمة إذا وقع شرطاً في العقد، فالشرط إذاً فاسد، وإذا فسد الشرط، فهل يفسد الضمان؟ فيه وجهان ذكرناهما توجيهاً وتفريعاً في كتاب الضمان، هذا كله إذا فرعنا على القول الجديد -وهو أن الشرع لا يُلزم ذمةَ الأب ضماناً-.
__________
(1) في الأصل: العقد.
(2) في الأصل: وصح.
(3) في الأصل: من.
(4) في الأصل: المعاقد.

(13/93)


فأما إذا فرعنا على أن الشرع يُلزم ذمة الأب الضمان، فَذِكْرُه الضمان لا معنى له، وهو نطق منه لموجب العقد، فإن ذكر شرط البراءة - أعني براءة الابن، فهذا هو الشرط، وهو فاسد، فإذا اقترن بالصداق؛ يجوز أن يقال يفسد الصداق به، كما سيأتي تقرير ذلك في بابٍ بعد هذا -إن شاء الله تعالى- ويجوز أن يقال: يفسد الشرط ولا يفسد الصداق.
وفيما ذكرناه حكاية عن القاضي وَقْفةٌ عظيمة؛ فإنه [حكم] (1) بأن الأب لا يرجع على القول القديم بما يغرمه عن جهة الضمان الشرعي، وهذا مما لا سبيل إلى القول به؛ فإن الشرع أثبت للأب [نظراً] (2) في طلب غبطة الابن لكمال شفقته، فإذا نظر له واستد نظره، فانتصاب ذلك سبباً لتضمينه وإلزامِه المغارم الثقيلة، محالٌ، ولا شك أن الابن مطالَبٌ بالمهر إذا بلغ، وكذلك هو مطالب بالنفقات وسائر مؤن النكاح، وليس كالقاتل خطأً؛ فإنه لا يطالَب بالعقل مع إمكان مطالبة العاقلة، وبالجملة لا يُشبِّه المغارمَ التي تتعلق بالمعاملات النظرية المنوطة بشفقة الأب بالجنايات وضرب أروشها
على العاقلة إلا غافلٌ عن القولين، وضرب العقل على العاقلة مُعْتَبَرُ الأحكام التي لا تعلل.
8452 - وينشأ من هذا المنتهى نظرٌ في فنٍّ، وهو: أن البنت إذا خطبها كفء، غلب على الظن أن تزويجها موافق لأقصى الغبطة المطلوبة، فهل يجب على الأب أن يزوّجها، أو لا يجب عليه، أو يجوز له، أو يُستحبّ؟ هذا محل النظر.
8453 - ونحن نرى تقديم أصل على ذلك، فنقول: تصرف الأب في مال الطفل ينقسم، فمنه محتوم، ولا يشك العاقل في رعايته، وهو حفظ ماله وصونه عن الضَّياع، ويتصل بذلك تنميتُه بما يقيمه حتى لا يأكل مؤنُ [الحفظ] (3) المالَ، وعلى هذا يحتمل قول عائشة (اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة) (4) فأما التناهي
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق. وهي بهذا اللفظ في (صفوة المذهب).
(2) في الأصل: ناظراً.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) حديث: "اتجروا في مال اليتامى لا تأكلها الزكاة" رواه الطبراني في الأوسط بهذا اللفظ عن =

(13/94)


في الاستنماء والنزوحُ في البر والبحر، والتطوّح في [النّجود] (1) لاستنماء مال الطفل؛ فهذا لا يجب، وضبط هذا القسم [ما] (2) ينتهي إليه إلى [الإجهاد] (3) والإكداد، والشغل عن المهمات التي تخص الولي، وبين مأمور فيها بإحسان النظر، وهل يجب ذلك؟ الظاهر أنه [يجب] (4) [فلو] (5) سنحت غبطة، كزبون يطلب شيئاً بأكثر من ثمنه، فيجب تحصيل ذلك للطفل، وكذلك إذا كان يُعرض شيء [مما يُريد] (6) وكان يباع بأقلَّ من ثمنه، ولكن هذا فيه نظر؛ فإن الأب لو أراد أن يشتريه لنفسه جاز، ولا يلزمه أن يشتريه لطفله.
وأما بيع مال الطفل وهو -مطلوب على غبطة- فمحتوم. هذا نظرنا في المال.
ووراء ذلك مزيد، وهو أن الأب لو تبرم بالتصرف في مال طفله، وأراد دفع الأمر إلى القاضي لينصب فيه قيّماً بأجرٍ، فلست أرى هذا محظوراً على الأب، وكذلك لو نصب هو بنفسه ناظراً، ولو طلب من السلطان أن يُثبت له أجراً على عمله، فالسلطان يرى رأيه، فإن وجد متبرعاً بالعمل، فالأظهر أنه لا يجعل له جعلاً، وليس كما لو طلبت الأم أجرة على الإرضاع ووجد الأب متبرعة به؛ فإنا في قول قد نقول: الأم
__________
= أنس مرفوعاً، في ترجمة علي بن سعيد. (ر. المعجم الأوسط: ا/ل: 250، وروى البيهقي عن عمر موقوفاً مثله. (ر. السنن الكبرى:4/ 107) ورواه الشافعي مرسلاً عن يوسف بن ماهك (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 224) ورواه الشافعي موقوفاً عن نافع عن ابن عمر (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 225) والذي وقع لنا عن عائشة أنها كانت تلي ابني أخيها القاسم، وكانت تخرج من أموالهما الزكاة (ر. الموطأ: 1/ 251) وانظر تلخيص الحبير: 2/ 308، 309. ح 826) ولم نصل إليه عن عائشة باللفظ الذي أورده المؤلف.
(1) في الأصل: العود. والمثبت تقديرٌ منا بمعاونة ألفاظ العز بن عبد السلام في مختصره. (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج1 لوحة رقم: 97 (يمين)).
(2) في الأصل: مما.
(3) في الأصل: الاجتهاد.
(4) في الأصل: لا يجب. وهو مناقض للسياق، ولما ورد في مختصر العز بن عبد السلام (السابق نفسه).
(5) في الأصل: ولو.
(6) في الأصل: فيما يزيد.

(13/95)


أولى بالإرضاع إذا اقتصرت على أجر المثل؛ والسبب فيه التفاوت اللائح بين إرضاعها وإرضاع الأجنبية. وإن لم يجد السلطان متبرعاً، فالظاهر أنه لا يُثبت للأب أجراً، ويجوز أن يقال: يثبته؛ إذ للأب أن يستأجر عاملاً في مال الطفل؛ فإذا لم يمتنع منه بَذْلُ الأجر على العمل، لم يمتنع أَخْذُ الأجر على العمل، فهذه أمور معترضة نبهنا عليها.
8454 - وتزويج الأب ابنته مع ظهور الغبطة، وغلبة الظن في اتجاهها لا يبعد أن يجب. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي (لا تؤخر أربعاً) وذكر من جملتها " البكر إذا وُجد لها كفء " ولا يبعد أن يرى الأب تأخير التزويج لتعلقه بالجبلة، وكون المقصد الأظهر فيه الإعفاف والإمتاع، ويعارض ذلك أن هذا الكلام لو وفّر عليه حقه، لكان مقتضاه منع التزويج، ووجوب التأخر.
فأما المجنونة إذا تشوفت، فيجب تزويجها إذا كانت بالغةً، لظهور الحاجة، فأما التزويج من الطفل، فأبعد من الوجوب، والأظهر أنه لا يجب لما يلزمه من المؤن، ولا حاجة في الحال، وإذا كان مجنونا؛ فالتزويج منه عند مسيس الحاجة حتمٌ.
هذا منتهى النظر في هذا الفن.
وإن كان القاضي يقول: الأب إذا زوّج من ابنه المجنون -حيث يلزمه التزويج منه - يضمن المهر على القديم، وإذا غرِم، لم يرجع، فهذا خروج عن الضبط، ومصيرٌ [إلى] (1) إيجاب إعفاف الابن على الأب، والمرجع (2) الذي نفاه القاضي لا يفصل فيه بين اليسر والعسر من الطفل، وإن كان يفصل بين [التزويج] (3) الواجب وبين التزويج الجائز، ويقول: إنما يفسد المرجع في التزويج الجائز، فهذا إثبات نظرٍ على غرر، والآباء لا يورطون أنفسهم في هذه المغارم بما لا يجب عليهم، والتزام الغرر إنما يليق بمن يطلب حقَّ نفسه، كالذي [يؤدب] (4) زوجته، أو كالذي ينتسب إلى مجاوزة الحد
__________
(1) في الأصل: على.
(2) المرجع. أي الرجوع.
(3) في الأصل: الزوج.
(4) في الأصل: يوهب.

(13/96)


لا محالة، كالذي يؤدب ولده؛ فإنه إذا أفضى إلى الهلاك، تبيّنّا مجاوزةَ الأب حدّ الأدب، وانتهاءه إلى مبلغ من الضرر لا يجوز الانتهاء إليه. فهذا تمام المراد في ذلك.
ثم ذكر الشافعي في آخر الباب تزوج المحجور المبذّر والإذنَ له، وهذا قد أجريناه مستقصًى في النكاح على أحسن وجه، وأبلغه في البيان.
***

(13/97)


باب التفويض
8455 - نصدّر الباب بذكر التفويض الصحيح المتضمن تعريةَ النكاح عن المهر، وعلى الطالب أن يتأنّق في صدر الباب أولاً، فنقول: المالكة لأمر نفسها -وهي الحرة العاقلة البالغة الرشيدة- إذا أذنت لوليها في أن يزوّجها بلا مهر، وقالت: " زوّجني بلا صداق "، فزوّجها وليها، وصرّح بنفي المهر على حسب إذنها، فهذا النكاح هو الذي يسمى نكاح التفويض. والمرأةُ تسمى مفوِّضة ومفوَّضة، ومأخذ اللفظين بيّن، وتسمية تعرية النكاح عن المهر تفويضاً ليس على حقيقة اللسان؛ فإن التفويض معناه التخيير، والإحالة على رأى الغير في النفي والإثبات، فالذي ينطبق على هذا اللفظ أن تقول لوليها: " إن شئت زوّجني بلا مهر، وإن شئت زوِّجني بالمهر "، ولو صرحت بنفي المهر، فزوّجها الولي، ولم يتعرض لذكر المهر؛ فهذا بمثابة ما لو نفى المهر، اتفق الأصحاب عليه.
ولو زوّج السيد أمته من أجنبي، ولم يذكر مهراً، كان هذا تفويضاً منه. ولو أذنت المرأة في التزويج، وأطلقت إذنها، ولم تذكر المهر نافية ولا مثبتة، فإذنها المطلق محمول على طلب المهر، وفاقاً، وهو بمثابة إذن مالك المتاع في بيع متاعه.
ثم إذا أذنت في النكاح مطلقاً، أو طلبت المهر، فزوّجها الولي، فإنا نقدم على هذا فصولاً في الوكيل والولي المجبر، ثم نرجع إلى الولي المزوِّج بالإذن.
8456 - فإن سمّى الوكيل مقداراً من المهر، فخالف، نُظِر؛ فإن زاد، فقد زاد خيراً، وكان كما لو قال الوكيل لوكيله: " بع عبدي هذا بألف "، فباعه بألفين، فالبيع لازم، والعوض المسمى ثابت، وإن خالف الوكيل في النكاح فنقص عن المقدار الذي سُمي له؛ لم ينعقد العقد؛ لأن تزويج الوكيل مبناه على الإذن، فإذا خالف الإذن مزوِّجاً بغير إذنٍ، فالتزويج بغير الإذن مردود. وهو كما لو قالت: " زوّجني من زيد " فزوّجها من عمرو.

(13/98)


ولو نَصب الوكيلَ في التزويج، ولم يَذكر له مقداراً من المهر، فلو زوّج بدون مهر المثل، [أو] (1) زوّج مع نفي المهر؛ فقد ذكر بعض الأصحاب قولين في انعقاد النكاح، وهذا بعيد، والوجه: القطع بأن النكاح لا يصح؛ فإن تصرّف الوكيل مما يتقيد بموجب الاذن، فكذلك يتقيد بالعرف المقترن بالإذن، ومقتضى العرف رعاية الغبطة، ولهذا قلنا: الوكيل بالبيع مطلقاً إذا باع بغبن، لم يصح بيعه.
ومما يتصل بهذا المقام: أنا إذا كنا لا نصحح من الوكيل المطلق التزويجَ بأقلَّ من مهر المثل، فلو زوج مطلقاً؛ فعلى ماذا يُحمل الإطلاق؟ هذا فيه تردد ظاهر، يجوز أن يقال: هو محمول على تعرية النكاح، حتى لا يصح من الوكيل العقد، ويظهر جداً أن يُحمل على ثبوت مهر المثل؛ فإن الشرع يقتضي إثبات المهر إذا لم يجرِ تصريح بالنفي، فيكون إطلاق النكاح بمثابة ذكر مهر المثل.
ويخرّج على هذا التردد أن الوكيل المطلق لو [زوج] (2) بخمر، فالرجوع إلى مهر المثل في مثل ذلك، فكيف السبيل؟ والأظهر في هذه الصورة الفساد؛ فإنه أتى بصورة المخالفة، فهذا ما أردنا ذكره في الوكيل.
8457 - فأما الولي إذا زوّج وليته، فلا يخلو؛ إما أن يكون مجبِراً، فزوج بمهر المثل: صح. وإن زوج الصغيرة أو البالغةَ البكرَ بدون مهر المثل، أو نكاحَ تفويضٍ؛ ففي انعقاد النكاح قولان، قدمنا تحقيقهما. فإن قلنا: إنه ينعقد، فيثبت مهر المثل، أجمع الأصحاب عليه. ولم يَصر أحدٌ إلى انعقاد [النكاح بالمقدار] (3) الذي سمّاه.
وقال أبو حنيفة (4): ينعقد النكاح بذلك المقدار.
فأما إذا كان الولي مزوِّجاً بالإذن، فإن سمّت المرأة مقداراً، فزوّج الوليّ بدونه، فهو كالوكيل؛ فإن تزويجه؛ موقوف على الإذن، فإذا ظهرت المخالَفَةُ، كان كما لو زوّجها بغير إذن.
__________
(1) في الأصل: وزوّج.
(2) في الأصل: متزوّج.
(3) في الأصل: إلى انعقاد (المقدار بالنكاح) الذي سماه.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 259 مسألة رقم: 727.

(13/99)


وإن لم تسم مقداراً من المهر، فزوّجها الولي، بمهر المثل صح، وإن زوّجها بأقلَّ من مهر المثل، فللأصحاب طريقان: أقيسهما - القطع بأن النكاح لا يصح؛ فإنّ إذنها المطلق محمول على موجب العرف، فكأنها قيّدت إذنها بما يليق بالعرف من المهر، ولو كان كذلك، فخالفها، لم ينعقد النكاح، ومن أصحابنا من قال: في تزويج الولي بدون مهر المثل، أو على حكم التفويض -وإذنها مطلق- قولان: أحدهما - إن النكاح يبطل. والثاني - إنه يصح، وينعقد بمهر المثل، كما ذكرناه في الوليّ المجبِر. وهذا القائل يزعم أن الإذن المطلق يُلحِق الولي بمرتبة المجبِر، ويُخرجه عن مرتبة الوكلاء، الذين لا معتمد لهم إلا الإذن.
فهذا بيان تصوير التفويض.
8458 - فيعود بنا الكلام بعده إلى القول في حكم التفويض المحقَّق المتضمِّن تعريةَ النكاح عن المهر، فإذا جرى هذا، فالنكاح ينعقد، والمهر يجب عند الدخول، وهل يجب بنفس العقد المهرُ؟
ما قطع به العراقيون: أنه لا يجب المهر بالعقد، ولم يعرفوا غيرَ هذا، وإنما ذكروا القولين في محلٍّ سينتهي البيان إليه، إن شاء الله تعالى.
وقال المراوزة: في المسألة قولان: أظهرهما - أنه لا يجب بنفس العقد شيء من المهر، ويجب بالدخول. وقالوا: هذا (1) هو المنصوص. والقول الثاني - إنه يجب لها المهر بنفس العقد، وكان شيخي يحكيه حكايةَ من يعتقده منصوصاً، وقال القاضي: هو مخرّج، والصحيح ما قاله.
ثم إن حكمنا بأن المهر لا يجب بالعقد، فأول ما نفرّعه على هذا القول: أنها إذا وُطئت، فالمهر يجب عند الدخولِ والوطءِ لا محالة؛ فإن وجوب المهر في هذا المقام ليس خالياً عن تعبد الشرع، ولا يبعد إضافته إلى حق الله تعالى؛ حتى يمتاز النكاح عن السفاح وبدل البضع، وقيل: يجب أن يمتاز نكاحنا عن نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله عز وجل جعل خلو النكاح عن المهر من خصائص النبي
__________
(1) في الأصل: وهذا.

(13/100)


صلى الله عليه وسلم، إذ قال: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]
ولا يتصور أن يخلُوَ عن المهر وطء -في غير ملك اليمين، مع كونه محترماً- إذا أمكن تقدير المهر.
والذمية إذا نكحت في الشرك على التفويض، وكانوا يرَوْن سقوط المهر عند المسيس أيضاً، فقد ينزل النكاح على موجب عقدهم إذا اتصل الإسلام، كما سبق تقريره.
والسيد إذا زوّج أمته من عبده، فلا يثبت المهر أصلاً؛ فإن إثباته غير ممكن، وما حكيناه من مذهب بعض الأصحاب في أن المهر يثبت بأصل النكاح، ويسقط، لا تحصيل فيه ولا تحقيق وراءه.
فأما في غير هاتين المسألتين، فلا يتصوّر خلو مسيسٍ في نكاحٍ من مهر، هذا ما اتفق عليه الأصحاب قاطبة في طرقهم.
8459 - وقال القاضي إذا [قالت له زوجته] (1)، وهي مفوضة: " طأني ولا مهر عليك "، فلا يمتنع أن نقول: إذا وطئها في نكاح التفويض على الوجه الذي صورناه، إن المهر لا يجب؛ فإنها صاحبة الحق، وقد [سلّطته] (2) مع الرضا بانتفاء المهر، وخرّج عن هذا قولَ الشافعي في كتاب الرهون: إذا قال الراهن للمرتهن: أذنت لك في جماع هذه الجارية المرهونة، فإذا واقعها ظانّاً أن الوطء يحلّ له بإذن الراهن، ففي وجوب المهر قولان للشافعي، ذكرناهما. في الرهون، قال: ووجه قوله " لا يجب المهر " أن مالك البضع، ومن يثبت له المهر -لو ثبت- رَضيَ بالوطء، فكان ذلك إسقاطَ حقه منه.
ومن الأقيسة الجلية الكليّة في قاعدة الشرع أن من يملك إسقاط العوض بعد ثبوته له، إذا سلّطه على إتلاف العوض، كان تسليطُه عليه متضمناً إسقاط العوض. ولذلك نقول: إذا قال مالك العبد لإنسان: " اقتله "، فقتله، لم يلتزم القاتل بالإذن للمالك
__________
(1) في الأصل: قال لزوجته.
(2) في الأصل: سلطت. وفي (صفوة المذهب): أسقطته.

(13/101)


الآذن عوضاً، وكذلك إذا قال [للجاني] (1): اقطع يدي، فإذا قطعها، لم يلتزم عوضاً، هذا وجه التخريج.
وما ذكره لَستُ أُعدّه من المذهب، وأظن أنه (2) لم يذكره ليلحقه بأصل المذهب، وإنما ذكره ليوضح جهة الاحتمال وتطرقه إليه؛ فإن ما قاله مسبوق بالإجماع من نقلة المذهب في الطرق المختلفة.
ثم إنما كان ينتفع المناظِر بما خرّجه لو صحّ أنه كان يطلقه فيه إذا جرى التفويض في النكاح مطلقاً، وقضينا بعروّ العقد عن المهر، فكان يجب أن يقال: إذا وطىء الزوج -وقد صَحّ التفويض في أصل العقد- لا يجب المهر، بناء على ما تقدم؛ فإن الزوج بعد صحة التفويض، يتصرف في ملك نفسه، ومن انتفع بملك نفسه، وقد ثبت ملكه خلياً عن العوض، فيبعد أن يستوجب العوض بسبب تصرفه الجائز في ملكه الثابت العريّ عن العوض، [و] (3) القاضي لا يسمح بتخريجه في هذه الصورة، بل نَقَل عنه من يُعْتَمَد أن سقوط المهر مع جريان المسيس إنما يُقدّر إذا جدّدت تسليطاً على الوطء من غير مهر، وصرّحت بنفي المهر.
والمهر في ذلك متردد عندي؛ فإني رأيت في بعض مجموعاته ما يدلّ على طرده التخريج فيه، إذا جرى تفويض تام على الصحة، من غير احتياج إلى تجديد إذن في الوطء، فإن لم يكن من هذا التخريج بد، فلا بد من طرده على هذا الوجه الذي ذكرناه؛ وذلك أن إذنها المتجدد لا يصادف حقها؛ من جهة أن الزوج هو المستحق للبضع، وقد ثبت استحقاقه الأول عرِيّاً عن العوض، فلا معنى لاشتراط تسليط من المرأة، [فيما] (4) استقر فيه حق الزوج.
وقد يتجه مع هذا فرق ظاهر بين مسألة التفويض ومسألة إذن الراهن، وذلك أن إذن الراهن متعلقٌ بوطءٍ في غير نكاح، ولايبعد أن يخلو وطءٌ في غير نكاح عن
__________
(1) في الأصل: الجاني.
(2) في الأصل: وأظن أنه إن لم يذكره.
(3) (الواو) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: فما.

(13/102)


المهر، والدليل على الفرق: أن مجرد إذن الراهن -على أحد القولين- يتضمن سقوط المهر من غير تعرض لإسقاط المهر، ولو عقد النكاح خالياً عن المهر ذاكراً، لثبت المهر إذا لم يتعرض لنفي المهر، كما قدمنا ذلك في تصوير التفويض، فقد اجتمع -مما حُكي عنه ومما رأيته- كلامٌ مختلط، وأنا أحصّله وآتي به مضبوطاً.
فأقول:
8460 - إذا جرى التفويض على الصحة -والتفريع على أنها لا تستحق بنفس العقد
مهراً- فالمذهب المشهور: أنها إذا وطئها زوجها، ثبت مهر مثلها بالمسيس، سواء
سَلَّطت بعد التفويض على الوطء من غير مهر، أو تمادت على ما سبق، ولم تُجدِّد تسليطاً، وذكر القاضي تخريجاً، وفيه وجهان: أحدهما - أن المهر لا يجب بالوطء وإن لم تجدد تسليطاً، بناء على ما تقدم من التفويض.
والوجه الثاني - أنها إن لم تجدد تسليطاً حتى مسّها الزوج، وجب لها مهر المثل، ولا تخريج. وإن جدّدت تسليطاً وقيّدته بنفي المهر، فإذ ذاك يخرّج وجهٌ في سقوط المهر.
ووجه الأول [في] (1) تنزيل التخريج بيّن، لا حاجة فيه إلى تكلف إيضاح. ووجه الوجه الثاني - أن النكاح له تميزٌ عن المسيس، ويتعلق بالمسيس تقرير المهر، فلا يبعد أن يحمل التفويض (2) حالة العقد على الرضا بسقوط حق العقد، حتى لو طُلِّقت قبل المسيس، لم تستحق نصف مهر في مقابلة العقد، فكان اشتراط تجديد التسليط مع نفي المهر [كما] (3) ذكرناه.
ثم إن جرينا على الوجه الثاني في تنزيل تخريجه، فلا شك أنها تملك المطالبة بالفرض قبل الدخول، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى.
وإن جرينا في التخريج على أن المهر لا يجب وإن لم تجدد تسليطاً، ففي ملكها
__________
(1) في الأصل: يجيء.
(2) في الأصل: أن يحمل على التفويض حالة العقد على الرضا.
(3) في الأصل: بل ذكرناه.

(13/103)


المطالبةَ بالفرض قبل المسيس احتمال ظاهر، يجوز أن يقال: إنها تملكه، ويجوز أن يقال: إذا لزم النكاح عارياً عن العوض، فلسنا نتوقع ثبوت المهر عند المسيس على هذا الوجه، فلا تملك المطالبة بالفرض. وهذا هو القياس لو أمكن طرده.
فهذا منتهى ما أردناه في ثبوت المهر وسقوطه عند جريان المسيس، تخريجاً على أن عقد التفويض خالٍ عن استحقاق المهر.
وإن فرعنا على القول الثاني -وهو أنها تستحق المهر بالعقد- فالذي قطع به الأئمة: أنه إذا طلقها زوجها قبل المسيس، سقط المهر، ولم تستحق شطره، وليس لها إلا المتعة.
8461 - وكان شيخي أبو محمد يكرر في دروسه أن الطلاق قبل المسيس يشطر مهر المثل -على قولنا: تستحق المفوضة المهر بالنكاح- وكان يشبه هذا [بما] (1) لو ذُكر في النكاح مهر [وجُحد] (2)، ووقع الحكم بالرجوع إلى مهر المثل، فإذا وقع الطلاق قبل المسيس في مثل هذا النكاح، فمذهب الشافعي أن مهر المثل يتشطر تشطّر الصداق المسمى على الصحة.
وهذا الذي ذكره قياسٌ جلي لا ندفعه، ولكنه خالف ما عليه كافة الأصحاب؛ فإنهم لم يختلفوا في سقوط جميع المهر إذا جرى التفويضُ والطلاقُ قبل المسيس، فكان ما ذكره غيرَ معتد به، [ولا] (3) يلتحق بالوجوه الضعيفة المعدودة من المذهب، وإنما ذكرته لأنبّه على أنه كذلك، فإنه يُلفَى في كثير من التعاليق عن ذلك الشيخ، فليعلم الناظر ما ذكرناه فيه.
ومما ذكره: أنا إذا فرّعنا على أن المفوضة تستحق بالعقد المهر، فلا يثبت لها حق المطالبة بالفرض على هذا القول، كما لو جرى في النكاح تسميةُ خمرٍ أو خنزير أو مهرٍ مجهول؟ فإنا إذا قضينا بثبوت مهر المثل في هذه المسائل، فلا تملك المرأة المطالبةَ
__________
(1) في الأصل: مما.
(2) في الأصل: وجحود.
(3) في الأصل: وما لا يلتحق.

(13/104)


بالفرض، وإن طلبته وطالبت به قيل لها: حقك مهر مثلك، فاطلبيه، ولا تطلبي فرضه وهو ثابت مستحَق.
وقد أجمع الأصحاب على أنها تملك المطالبة بالفرض.
وإن فرّعنا على أنها تستحق بالعقد المهرَ فيما ذكره شيخي؛ بناءً على أن مهر المفوضة يتشطر بالطلاق، وما ذكره الأصحاب مبني على أنها لو طُلقت، سقط جميع مهرها، [فملّكوها] (1) طلبَ الفرض لتتوصّل به إلى تقرُّر شطر المهر.
8462 - فإن قيل: ما ذكرتموه في التفريع [لا يثمر] (2) إلا الخبطَ والاضطراب، فعلى ماذا تقررون المهر؟
قلنا: سنذكر الغرض في ذلك بعد تقديم أصل آخر، وهو: أنه إذا جرى تفويضٌ صحيح، ولم يجر مسيس ولا طلاق، حتى مات أحد الزوجين، ففي ثبوت مهر المثل قولان للشافعي وتردّدٌ بيّنٌ، وذِكْره يستدعي تقديمَ خبر، وهو ما روي " أن عبد الله بن مسعود سئل عن المفوِّضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول؟ فكان يردد السائل ويعدُ حتى تردد شهراً، ثم قال: إن أصبتُ فمن الله، وإن أخطأتُ فمني ومن الشيطان، أرى لها مهر نسائها والميراثَ، فقام مَعْقِل بن سِنان وقال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بِرْوع (3) بنت واشق الأشجعية بمثل قضائك هذا؛ فَسُرّ ابنُ مسعود سروراً لم يُسَرّ مثله، وحمد الله عز وجل على ذلك " (4).
__________
(1) في الأصل: فملوكها.
(2) في الأصل: لا يتم.
(3) بِرْوع: باء موحدة مكسورة، وسكون الراء المهملة، وفتح الواو، بعدها عين مهملة (تهذيب الأسماء واللغات للنووي).
(4) حديث بِرْوع، رواه أحمد في مسنده: 3/ 480، وأبو داود: كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسمّ صداقاً حتى مات، ح 2114، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة، فيموت عنها قبل أن يفرض لها، ح 1145، والنسائي: كتاب النكاح، باب إباحة التزويج بغير صداق، ح 3355، وابن ماجه: كتاب النكاح، باب الرجل يتزوج، ولا يفرض لها، فيموت على ذلك، ح 1891، وابن حبان: ح 4086، والحاكم: 2/ 180، 181، وقال صحيح على شرط مسلم، وقد رواه أيضاً الشافعي في الأم، وتكلم =

(13/105)


فهذا الحديث يقع أيضاً في تصوير موت أحد الزوجين، ولكن تردَّدَ الشافعيُّ (1) في الحديث وحكم باضطرابه، إذ قد قيل: قال معقل بن يسار، وقيل: معقل بن سنان، وقيل ناسٌ من أشجع، وقد بلغ الحديثُ على الوجه الذي رويناه عليَّ (2) بن أبي طالب، فلم ير قبول رواية معقل، وقال: لا نقبل في ديننا قول أعرابي بوال على عقبيه، فردد الشافعيُّ المسألة؛ لأن الحديث لم يقع على شرطه في الصحة، فيبقى مجرد مذهب ابن مسعود، ويعارضه مذهب علي؛ فإنه كان لا يرى للمفوضة عند موت أحد الزوجين مهراً، وقد خلا النكاح عن المسيس (3).
8463 - وقد حان أن نذكر الترتيب في المذهب، فنقول: أما العراقيون فقد استدُّوا، وجَرَوْا على المسلك المرتضى، وقَضَوْا بأن المفوضة لا تستحق بالعقد مهراً؛ إذا (4) لم يعرفوا قولاً آخر، وقطعوا بأنها تستحق المهر إذا مسها الزوج، وذكروا قولين فيه إذا مات أحد الزوجين، مع قطعهم بأنها لا تستحق بأصل العقد مهراً، ووجّهوا القولين، فقالوا: من أوجب المهر في موت أحد الزوجين، احتج بأن الموت نازل منزلة الوطء في تقرير المهر؛ بدليل أنه يتقرر المهر المسمى بالموت قبل المسيس، كما يتقرر بالمسيس نفسه، ومن قال: لا يثبت المهر بالموت، احتج بأنها ما استحقت بالعقد مهراً، ولا جرى مسيس؛ حتى يقال: لو لم يثبت المهر، لكان الوطء في حكم المبذول، عرياً عن العوض.
وسرّ هذا القول أن النكاح إذا اشتمل على مسمى صحيح، ثم فرض طلاق قبل المسيس، يسقط نصف المسمى، ويبقى نصفه في مقابلة العقد، وإن جرى مسيس، تقرر المهر. وإن فرض موت من غير مسيس، تقرر المسمى بانتهاء النكاح نهايته.
__________
= فيه بما لخصه الحافظ بقوله: وقال الشافعي: " لا أحفظه من وجهٍ يثبت مثله " (ر. الأم: 5/ 61، وانظر التلخيص: 3/ 387 ح1676).
هذا. وفي نسخة الأصل: معقل بن يسار. والتصويب من كتب السنة.
(1) أشرنا إلى هذا التردد وموضعه من كتاب الأم، في التعليق السابق على الحديث.
(2) في الأصل: " الذي رويناه عن علي بن أبي طالب، فلم ير قبوله ".
(3) قول علي هذا. رواه الشافعي في الأم: 5/ 61.
(4) إذا: هي هنا بمعنى " إذ " وهو استعمال فصيح أشرنا إليه أكثر من مرة من قبل.

(13/106)


وإذا عُقِد النكاحُ على التفويض، ثم فُرض الطلاق قبل المسيس؛ فلا يثبت من المهر شيء فتمثل (1) القول من هذا المنتهى، فرأى الشافعي -بعد التردد في حديث معقل- في قول حكمَ المهر عند الموت ولا مسيس، كحكم نصف المهر عند الطلاق قبل الدخول؛ فإن نصف المسمى كان ثبت عند الطلاق. والآية لم يثبت منه شيء، فكان تشبيه ما يقتضيه الموت من التقرير بما يتقرر من المسمى عند الطلاق قبل المسيس، أولى من تشبيهه بما إذا جرى المسيس. فهذا أحد القولين، وهو فقه حسن.
والقول الثاني - أن الموت في اقتضائه التقريرَ، نازل منزلة الوطء؛ فإنه إذا انقضى العمر على النكاح، وبلغ بانقضائه النكاحُ غايتَه، فقد اتصل بالمقصود -وهو الدوام إلى آخر العمر- فيجب ألا يكون عريّاً عن المهر.
والقول الأول أفقه (2)، والثاني معتضد بقصة ابن مسعود؛ فإن حديث معقل إن رده عليٌّ، عمل به ابن مسعود، ومن قواعد الأصول الترجيح بالحديث الذي لا يقطع بسقوطه؛ فإنه لا ينحط عن أقوى مسلك في الترجيحات، هذا كله بيان طريقة واحدة، وهي ما اختاره العراقيون.
8464 - طريقة أخرى للمراوزة، وهي: طرد القولين في أن المفوِّضة هل تستحق بأصل العقد مهراً؟ وفيه على ما ذكروه قولان: أحدهما -وهو الأصح عندهم- أنها لا تستحق بأصل العقد مهراً، وهذا الذي قطع به العراقيون ولم يعرفوا غيره.
والقول الثاني - أنها تستحق بأصل العقد المهرَ، ورأْيُ المراوزة في ذلك مختلف،
__________
(1) كذا بهذا الرسم بدون أي نقط. (ولعل المعنى: أننا يمكن أن ندرك مأْخذ القول، ونعرف أصله).
(2) قال النووي: " رجح الإمام والبغوي والروياني أن المهر لا يجب بالوفاة قبل المسيس " فلعله أخذه من قول الإمام: " الأول أفقه ". ثم إن النووي رأى ترجيح الوجوب، مائلاً إلى تصحيح حديث بِرْوع، ولعلّه في هذا تبع الرافعي في الشرح الكبير. قلت (عبد العظيم): واضح من كلام الإمام أنه أمْيل إلى ترجيح الوجوب وإن لم يصرّح به. (ر. الشرح الكبير: 8/ 279، والروضة: 7/ 282).

(13/107)


قال معظمهم: هذا قول مخرج. وقال قائلون: هو مأخوذ من نص الشافعي في أن المفوِّضة إذا ماتت، أو مات زوجها قبل المسيس، فلها المهر كاملاً، هذا منصوص. وهو دالّ على أنها استحقت بأصل العقد المهر؛ فإنه لا يتقرر بالموت مهر ما لم يثبت بالنكاح.
توجيه القولين في الأصل: من قال: لا يثبت المهر بالعقد، احتج بأن المهر حقها، وحق المولى من أمته، فإذا وقع الرضا بإسقاطه لم يثبت، وآية ذلك أنه لا يتشطر بالطلاق قبل المسيس. ومن قال: إنها تستحق بالعقد، احتج بثبوت المهر حالة المسيس، مع العلم بأن تصرف المالك على الوجه المستباح في ملكه لا يلزمه عوض ملكه، فإذا لزم، دلّ على أن اللزوم كان بالعقد، هذا وضع القولين تأصيلاً وتوجيهاً.
8465 - فإن حكمنا بأنها لا تستحق بالعقد شيئاً، فوراء ذلك تخريج القاضي في المسيس كما قدمته، وليس هو من المذهب، وإذا أنكرناه بشيء من هذا المنتهى، فإنه يتحقق هذا القول، فنبديه في معرض سؤال وجواب عنه.
8466 - فإن قيل: ما وجه إيجاب المهر حالة الوطء، مع عروّ العقد عن المهر؟ قلنا: الجواب عن ذلك يستدعي تقديم أصلٍ في المذهب -هو مقصود في نفسه- وبه يبين غرضُنا في المنتهى الذي انتهينا إليه، وذلك أن المفوضة إذا وطئها الزوج، ووقع الحكم بوجوب المهر، فقد اختلف أئمتنا في أن الاعتبار في مهر المثل بحالة الوطء أم بحالة العقد؟ وفيه وجهان مشهوران، ينبني عليهما أنا إذا اعتبرنا حالة المسيس فكأنا افتتحنا إيجاب المهر بالمسيس، نخرّجه على أنا وإن احتملنا إسقاط المهر حالة العقد، فلا نحتمل إسقاطه في مقابلة المسيس.
وفي تقرير ذلك إشكال بيّن؛ فإن المهر ليس ركناً في النكاح، وإنما يتميز النكاح عن السفاح بصحته وإفضائه إلى استحقاق المنفعة على موجب الشرع، وذلك لا يستدعي عوضاً، ولذلك لم يبعد في الشرع نكاح يصح من غير مهر، كتزويج السيد أمته من عبده.

(13/108)


ونهاية الإمكان في ذلك أن نقول: النكاح في وضعه يقتضي [كالبيع] (1) الصحيح- عوضاً، والذي ذُكر من أن المهر ليس ركناً في النكاح، فالمراد به: أنه ليس يثبت على حقيقة العوضية ركناً، كما يكون الثمن أحد ركني البيع، فأما المصير إلى أنه لا يثبت شرعاً إقامةٌ لمنصب النكاح وما يقتضيه الشرع، فلا، فهو ركنٌ شرعاً، وليس ركناً عوضاً، وهو بمثابة عوض الخلع؛ فإن البينونة من غير عوض ولا استيفاءِ عدد [الطلقات] (2) في الممسوسة غيرُ ممكن، ولكن يفسد العوض، ويثبت الرجوع إلى مهر المثل، أو قيمةِ العوض، كما تقدم في الصداق.
ثم إنما يعظم الأمر في تعرية الوطء عن العوض الشرعي، ولا يبعد عروّ النكاح، وهذا القائل يقول في تزويج الرجل أمتَه من عبده: إنا نحكم بثبوت المهر وسقوطه، وهو محمول على مذهب الضرورة؛ فإن العبد لا يملك ولا يستبيح الوطء [بطريق] (3) التسري، فأُثبت في حقه النكاح، كما ذكرناه.
وقد ينقدح فيه أن يقال: كان يجب بطلان تزويج الأمة من العبد إذا كان مولاهما واحداً، إذ [لا] (4) يتصور أنه نكاح مشتمل على المهر. فهذا منتهى الإشكال.
ومن قال: الاعتبار في مهر المثل بصفتها حالة النكاح، احتمل ذلك مسلكين: أحدهما - أنا نتبين إذا جرى المسيس أن المهر وجب بنفس العقد، فيخرج من ذلك أن الأمر موقوف، فإن انقضى النكاح من غير مسيس، تبينا آخراً أن المهر لم يجب بأصل العقد. وإن جرى في النكاح مسيس، تبيّنّا أن المهر وجب بأصل العقد، هذا مسلك.
والثاني - أن المهر يجب بالمسيس، وإن اعتبرنا صفة المرأة حالة النكاح، فعلى هذا نقطع القول بعرو العقد عن المهر، ويكون الاختلاف في أن الاعتبار في صفتها -
__________
(1) مكان كلمة غير مقروء بالأصل. وهي كذلك في (صفوة المذهب).
(2) زيادة لإيضاح العبارة.
(3) في الأصل: وطريق.
(4) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها. وهي ثابتة في (صفوة المذهب).

(13/109)


إذا أوجبنا مهر المثل -حالةَ [النكاح] (1) - مأخوذاً (2) من أصل اختلف فيه الأصحاب، وهو أن الرجل لو جنى على أمة حاملٍ بولد رقيق، ثم أَجْهضت، وأوجبنا على الجاني عُشر قيمة الأم، فنعتبر قيمتها يوم الانفصال أم نعتبر قيمتها يوم الجناية؟ المنصوص عليه للشافعي أن الاعتبار بقيمتها يوم الجناية. وقال المزني وأبو الطيب بنُ سلمة: نعتبر قيمتها يوم الإلقاء. وفي هذا التشبيه نظر ولكنه على حالٍ تقريبٌ في سرّ مسألة الجناية، يأتي في كتاب الجنايات، إن شاء الله عز وجل.
والأوجه في المعنى: أنّا [إن] (3) اعتبرنا حالة العقد، فنتبين استناد الوجوب إلى تلك الحالة، ونبني الأمر على الوقف الذي ذكرناه؛ [إذ] (4) لا وجه لاعتبار صفة في حالةٍ لا يجب المهر فيها- ثم إذا قلنا: لا يجب المهر بالنكاح، فلا شك أن الطلاق إذا جرى قبل المسيس، فلا يجب شيء إلا المتعة.
وقد ربط المحققون ذلك بقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] ثم قال عزّ من قائل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقد اتفق المفسرون أن الآيات مسوقة في المفوِّضة، وأنها إذا طلقت قبل المسيس، فلها المتعة، كما سيأتي شرحها في بابها، إن شاء الله تعالى.
ثم قالوا: [لو] (5) فرض لها شيء قبل المسيس، فطُلقت، فلها نصف المفروض، ولا متعة.
8467 - ثم يبقى -بعد ما ذكرناه- القولُ في طلب الفرض- تفريعاً على أنها
__________
(1) عبارة الأصل: " ويكون الاختلاف في أن الاعتبار في صفتها، إذا أوجبنا مهر المثل، فإنها حالة مأخذواً من أصل اختلف فيه الأصحاب " والحذف والزيادة من المحقق، ونرجو أن يكون صواباً.
(2) مأخوذاً: خبر " يكون الاختلافُ ... ".
(3) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام. وفي (صفوة المذهب): " إذا ".
(4) في الأصل: أن لا وجه.
(5) زيادة من المحقق.

(13/110)


لا تستحق بالعقد المهرَ -فنقول: إذا جرينا على ما قطع به الأئمة- من وجوب المهر عند المسيس، فهؤلاء أجمعوا على أنها تملك المطالبة بالفرض، حتى لا يقع الإقدام على الوطء إلا على مفروض ثابت.
وإن فرعنا على أن المهر لا يثبت بالمسيس أيضاً، وقلنا: لو مسها، فلا مهر، وإن لم يجر تسليط على الوطء، فيتجه جداً أن نقول: لا تملك المطالبةَ بالفرض أصلاً، وقد لزم النكاح عريّاً عن المهر، كيف تَصَرَّفَ الحال، وقد يلزم على هذا القياس أن يقال: لا يثبت المهر، وإن قُدّر فرضٌ؛ لأن الانعقاد ولزومه على حكم [العقد] (1) ينافي في ثبوت المهر، جرياً على امتناع إلحاق الزوائد بالعقود [وبُعْد لزومها] (2)، وهذا مشهور من مذهب الشافعي.
وما ذكرناه أقيسةٌ واحتمالات، والرأي: القطع بما قطع به الأصحاب.
8468 - ثم في مصير الأئمة إلى أن المهر يجب عند المسيس إشكالٌ في الفرض والمطالبة؛ من جهة أنه كان يجوز أن يقال: هي على ثقة من ثبوت المهر إذا جرى المسيس، فلا معنى لطلبها الفرض، ولكن المرأة تقول: إذا كان الزوج [يتسلّط] (3) على الوطء ولي المهر، ثم الشرع أثبت لي حق الامتناع عن الوطء في النكاح المشتمل على المسمى الصحيح، فطلبي الفرض في مقابلة طلبي المهر المسمى في النكاح المشتمل عليه.
فهذا منتهى القول في هذا، وهو غاية البيان.
ومن طمع أن يلحق ما وَضْعُه على الإشكال وتقابلِ الاحتمال بما هو بيّنٌ في وضعه، فإنما يطلب مستحيلاً مُعْوِزاً. والمطلع على الحقائق -فيعرف كل شيء على ما هو عليه- هو الله عز وجل.
وكل ما ذكرناه تفريع على أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً.
__________
(1) في الأصل: العرف. والمثبت تصرّف منا.
(2) في الأصل: " وبعد لـ مومها " هكذا تماماً.
(3) في الأصل: يتشطط.

(13/111)


8469 - فإن قلنا: إنها تستحق المهر بالعقد، ففي التفريع على هذا القول بقية البيان.
قال الأئمة: إذا طُلِّقت قبل المسيس؛ لم تستحق من المهر شيئاً، وإن قضينا بأنه وجب بأصل العقد، فهذا هو المذهب، وعليه التعويل. والشاهد له من القرآن قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237]، فخصص استحقاق نصف المهر بأن نفرض، فدلّ مفهومُ الخطاب دلالة ظاهرة على أنها لا تستحق شيئاً من المهر إذا لم يجر فرضٌ.
وكان شيخي يقطع -إذا فرعّ على هذا القول- بأن المرأة تستحق نصف مهر المثل إذا طلقت قبل المسيس، قياساً على ما إذا أصدقها زوجها خمراً أو خنزيراً أو مجهولاً. وهذا غير معتد به.
وسرّ مذهب الأصحاب يتبين بذكر مرتبتين: فنقول: إن اشتمل النكاح على مهر مسمَّى، ثم فُرض الطلاق قبل الدخول، فالشرع قابَل العقدَ بنصف المهر، وليست هذه المقابلة على نهاية التأكد، والدليل عليه: أنه قد يفرض سقوط جميع المسمى بجريان فسخ قبل المسيس. والمختار: أنه لا يسقط المسمى بجريان الفسوخ بعد المسيس؛ لما كان المهر على نهاية التقرر، فهذه مرتبة.
فإذا رضيت المرأة بتعرية النكاح عن المهر، فالمهر ضعيف، وإن حكمنا بأنه يثبت بالعقد، فتكون جملة المهر في هذه المنزلة بمثابة شطر المسمى إذا جرت تسمية. فإن حكمنا بسقوط جميع المهر في حقِّ المفوضة، فليس حكمنا منافياً للقضاء بوجوب المهر بأصل العقد.
فهذا بيان مسلك الأصحاب، وهو الحق الذي لا مراء فيه.
ثم ينبني على ذلك أمر الفرض والمطالبة، أما على طريق الإمام والدي (1) [] (2)
__________
(1) الإمام والدي: هذه هي المرة الثانية للآن التي عبر فيها عن والده بهذه الصورة، بدلاً من شيخي، وأبو محمد، والشيخ الوالد. ونادراً جداً (الإمام) فقط.
(2) ما بين المعقفين بياضٌ في الأصل قدر أربع كلمات. والسياقُ مستقيم بدونه.

(13/112)


فليس لها طلب الفرض؛ فإن مهر المثل عنده ثبت ثبوت المهر المسمى، فيتشطّر بالطلاق، ويتقرر بالمسيس، فلا معنى لطلب الفرض؛ فإن الفرض لا يفيد مزيداً، وسبيل طلبه في هذا المقام كسبيل طلبه إذا جرى في النكاح مسمّىً فاسدٌ، وكسبيل طلبه إذا جرى المسيس واستقر به مهر المثل. ولا خلاف أنه لا معنى لطلب الفرض بعد المسيس. ولكن هذا المذهب -وهو المصير إلى أن المهر يتشطر بالطلاق قبل المسيس والفرضِ- ليس معتداً به، ولا معدوداً من المذهب.
فالمرأة إذاً تملك طلب الفرض، وغرضها أن تتوصَّلَ إلى تقرير نصف المهر، [لو] (1) فرض طلاق قبل المسيس.
وحقيقةُ القول في الفرض نذكره على الاتصال بنجاز هذا الكلام في فصل معقود.
فصل
في الفرض ومعناه وما يتعلق به من التفاصيل.
8470 - فنقول: إذا حكمنا بأن المفوِّضة لا تستحق شيئاً بالعقد، فقد ذكرنا أنها تملك طلب الفرض. وأوضحنا ما فيه من ترددٍ واحتمالٍ على ما عليه الأصحاب، وعلى التخريج الذي ذكره القاضي.
والأصل المعتمد: أنها تملك طلب الفرض إذا فرعنا على أنها تستحق المهر بالعقد، فالذي ذكره الأئمة مع ذلك أنها تستحق طلب الفرض. وقد أوضحنا ذلك على طريقة الأصحاب، وذكرنا طريقة شيخنا أبي محمد.
ونحن الآن نرفع تفرّق الفكر بالتخريج، وطريق شيخنا، ونرد النظر إلى ما عليه الأصحاب، من أنها تملك طلبَ الفرض، وهذا متجه على قولنا: إنها لا تستحق بالعقد مهراً، فالفرض يفيدها لا محالة استحقاق المفروض. وإن قضينا بأنها تستحق بالعقد، فالفرض يفيدها تقرير نصف المهر، بناء على أنها إذا طُلقت قبل المسيس، لم تستحق شيئاً، ويسقط المهر كله.
__________
(1) في الأصل: " ولو ".

(13/113)


ووراء ذلك كلام للأصحاب، وذلك أنهم قالوا: لو أرادت أن تطلب من المهر شيئاً وإن قل، لم تملكه ولم تجد إليه سبيلاً، وإنما لها طلب الفرض فحسب، وهذا الآن مشكل جداً، مناقضٌ لقولنا: إنها تستحق بالعقد المهرَ، وكان الوجه أن يقال: تملك طلب المهر، وتملك طلب الفرض. أما طلب المهر فمعلل بثبوت المهر، وأما طلب الفرض، فسببه تقرير نصف المهر، وهذا له التفات على مطالبتها بوطأة واحدة ليتقرر بذلك مهرها، ولكن ذلك مختلَفٌ فيه، وطلب الفرض على رأي الأصحاب متفق عليه، والسبب فيه أن الزوج قادر على الفرض متى شاء، والوطء أمر جِبِلِّيٌّ قد لا تساعد الطبيعةُ على المواتاة فيه، ولا عجز بالزوج أيضاً، ولكن وقته لا يتعين، فبعُد تمليك المرأة الطلبَ فيه في أي وقت [تشاء] (1)، وما ذكره الأصحاب تصريح بإفساد القول بأنها تستحق بالعقد شيئاً، وأن هذا القول لا ثبات له، ولذلك لم يعرفه العراقيون، ولم يعرِّضوا بذكره أصلاً.
8471 - فإذا [تمهّد] (2) أصل الفرض فيما رسمناه، فنخوض بعد ذلك في تفصيل القول، ونقول: الفرض يقع من الزوج، فإذا وقع التراضي بمبلغ، فَفَرضه الزوجُ، ثبت، ويجوز أن يكون عينا معيّنة - نقداً أو عَرْضاً، ويجوز أن يكون ديناً ملتزماً في الذمة.
والمذهب الأصح: أن الفرض إذا كان يجري من الزوج، فلا يشترط علمُه وعلمُ الزوجة بمقدار مهر المثل، وإنما التعويل على رضا المرأة وفَرْضِ الزوج.
ومن أصحابنا من قال: لا يصح [الفرض] (3) من الزوج ما لم يكونا عالمين بمقدار مهر المثل، وهذا الوجه ضعيف، لا معوّل عليه، ولكنه مشهور في الحكاية.
وقد قال بعض المحققين: إن حكمنا بأن المفوضة لا تستحق بالعقد مهراً، فلا حاجة إلى معرفة هذا المِثْل؛ فإن الفرض ابتداءُ إيجابٍ على هذا القول، وإن حكمنا
__________
(1) في الأصل: شاء.
(2) في الأصل: مهد.
(3) في الأصل: العقد. وصدقتنا (صفوة المذهب).

(13/114)


بأن المفوضة تستحق المهر بالعقد، فهو مهر المثل؛ فلا بد من علمها بمهر المثل.
والذي نراه في ذلك رأياً -وهو حقيقة الأمر- أنا إن فرّعنا على الأصح -وهو أن المفوِّضة لا تستحق بالعقد شيئاً- فإذا فَرَضَ الزوجُ، فالظاهر أنه لا حاجة إلى العلم بمبلغ المهر، ولكن ينقدح معه اشتراط العلم؛ فإنا لو قدرنا الفرض ابتداء إيجاب، كان ذلك خارجاً عن القانون؛ فإن العوض إنما يثبت بالعقد، وشرطه إيجاب وقبول، والقبول ليس معتبراً في الفرض اتفاقاً، ولو اعتُبر، فالمرأة ليست قابلة في عقد النكاح، والنكاح لا يمكن إعادته ما لم يُنقض، فمن ضرورة الفرض أن يكون له التفاتٌ على ما يجب بالوطء، والواجب به إن لم يجر فرضٌ مهرُ المثل. وبالجملة الفرض لا يضاهي قاعدة من قواعد الأعواض على رأي الشافعي. فمَن اشترط العلم بالمهر على هذا القول، فصدَرُه مما نبهنا عليه الآن.
ويتصل بهذا المنتهى أن المفروض لو كان أقل من مهر المثل، جاز على هذا القول، وكذلك لو كان عَرْضاً من العروض، مع العلم بأن مهر المثل لا يكون إلا نقداً. والسر فيه أن الشرعَ كما (1) أثبت للمرأة طلب الفرض وَسَّع الأمرَ عند التراضي؛ حتى يستفيد الرجل [البراءة] (2) عن مهر المثل قبل وجوبه بالمسيس إذا رضيت؛ فإن المهر المسمى في النكاح على التراضي، فكان الفرض دائراً على الرضا، ولكن إن رضيت، فالأمر على ما وصفنا.
وإن لم ترض إلا مهر المثل، فالوجه أن يقال: إن ساعدها، فذاك، وإلا رفعت الأمر إلى القاضي، وهو القسم الثاني في الفرض، كما سنصفه الآن، إن شاء الله عز وجل.
8472 - ومما يتعلق بذلك: أن الزوج لو أراد أن يفرض لها من غير أن تطلب الفرض؛ فإن فرض لها أقل من مهر المثل، لم يثبت. وإن فرض لها مهر المثل من غير طلبها وتعرضها، فهذا محتمل جداً؛ يجوز أن يقال: يثبت؛ فإن الفرض ليس
__________
(1) "كما": بمعنى (عندما).
(2) في الأصل: " المثل عن مهر المثل ". والمثبت محاولة منا لإقامة النص. لسنا راضين عنها تماماً. والله المستعان.

(13/115)


عقداً، [ويظهر] (1) أن يقال: لا يثبت ما لم تطلب؛ فإن طلبها ينزل منزلة القبول في العقود.
ولو وقع التراضي على أكثر من مهر المثل، فيظهر على هذا القول أن يثبت؛ فإن المهر غير ثابت حالة الفرض، ويحتمل ألا يثبت الزائد إذا كان من جنس النقد الذي إليه الرجوع؛ فإنا على كل حال نلتفت إلى مهر المثل، فكأنه وإن لم يثبت بعدُ- فهو مستحق الثبوت. وهذا يشابه مسألة ستأتي -إن شاء الله عز وجل- في الجنايات، وهي: أن من صالَح على دم العمد على أكثر من دية، ففي ثبوت العوض كلام مأخوذ من التفريع على موجب [العمد] (2)، أنه ماذا؟ وسيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
وإذا كان يثبت المشروط- وهو أقل، فيثبت أيضاً وهو أكثر. ولولا اعتراض شيء في الفكر لما أوردنا القول في ذلك، ولكن لو ثبتت الزيادة، لما ثبتت إلا عوضاً، وكيف يتصور ثبوت العوض من غير التفات إلى ما سيستحق من غير صيغة عقد؟
8473 - ومما يتم به الغرض: أن المرأة لو قالت: " أسقطت حقي من طلب الفرض " فكيف الوجه فيه؟ فنقول: قد ظهر الاختلاف في أن الإبراء عما [لم] (3) يجب وظهر (4) سبب وجوبه، هل يصح؟ وعليه خُرِّج إبراء المرأة عن نفقة عدتها، فعلى هذا لو قالت: أبرأت عما سيجب لي من المهر عند الوطء؛ فالظاهر: خروج ذلك على الخلاف الذي ذكرناه الآن.
فإن قيل: ثبوت المهر يتعلق بتعبد الشرع، فكيف يسقط بإسقاطها؟ قلنا: الإبراء في الأعواض نازل منزلة الاستيفاء، وليس هذا الذي ذكرناه بمثابة ما ذكره القاضي من تسليطها إياه على الوطء من غير مهر، فإن معناه أن ترضى بانعدام المهر، وإجراء الوطء على حكم التعرية، والإبراءُ الذي ذكرناه، معناه: تقدير ثبوت المهر مع إسقاطه بعد ثبوته.
__________
(1) في الأصل: فيظهر.
(2) في الأصل: العمل.
(3) زيادة من المحقق، لا يصح الكلام إلا بها.
(4) وظهر سبب وجوبه: أي جرى سبب وجوبه، كما هي عبارة الرافعي والنووي. وفي صفوة
المذهب: " ووجد سببُ وجوبه ".

(13/116)


فإذا تقرر هذا، عدنا إلى القول في إسقاطها حقَّ طلب الفرض، فنقول: هذا لغو لا حاصل له؛ فإنها إذا لم تُسقط المهر -على التقدير الذي ذكرناه- فلا يسقط حق الطلب، كما يسقط حق طلب المرأة التي آلى عنها زوجها، في أمثلة لذلك معروفة.
وكل ما ذكرناه تفريع على أن المفوِّضة لا تستحق بالعقد شيئاً.
8474 - فأما إذا فرّعنا على أنها تستحق [بالعقد] (1) المهرَ، فلو وقع التراضي على مقدار مهر المثل، فلا كلام. وإن وقع التراضي على أكثر من مهر المثل؛ فالذي أراه: امتناع هذا، كما إذا صالح عن دم العمد بأكثر من الدية، والتفريع على أن الموجَب الدية أو القَوَد أوْ أحدُهما لا بعينه، فإن وقع التراضي (2) على أقل من مهر المثل؛ فالذي قطع به الأصحاب: أن ذلك يصح. وخروج ذلك على حمل الاقتصار على هذا المقدار على إسقاط ما يتمم به مهر المثل، وعلى هذا خُرِّج جواز الفرض بما دون مهر المثل.
فإذا تقرر ما ذكرناه، فالذي جرّ هذا الكلام كلَّه، القولُ في أنا هل نشترط علم الزوجين؟ وقد فرعنا ذلك على القول الأول، وتفريعه على هذا القول: أن المفروض إن كان دون مهر المثل قطعاً، فلا حاجة إلى العلم بمقدار مهر المثل، وإن أمكن أن يكون المفروض أكثر من مهر المثل، ولم يكن من جنس مهر المثل، فالوجه: ألا نشترط العلم بالمهر. وإن كان المفروض من جنس مهر المثل، ويمكن أن يكون [أكثر] (3)، فيتجه اشتراط العلم.
فهذا تمام البيان في ذلك [و] (4) الأصحاب أطلقوا وجهين.
8475 - ومما نذكره الآية: القول في تأجيل المفروض، وقد ذكر معظم الأئمة أن المفروض يقبل التأجيل، وفي بعض التصانيف ذكر الوجهين، والتحقيق فيه: أنا إن فرعنا على أن المفوِّضة لا تستحق بالعقد شيئاً؛ فالظاهر: ثبوت الأجل إذا وقع
__________
(1) زيادة لوضوح العبارة.
(2) عبارة الأصل هكذا: فإن وقع على التراضي أقل من مهر المثل.
(3) زيادة لاستقامة الكلام، لا يصح إلا بها.
(4) (الواو) زيادة من المحقق.

(13/117)


التراضي به، فإن المفروض على هذا القول واجبٌ مبتدأٌ، وإن كان له التفات على موجب العقد.
ويحتمل أن يقال: لا يثبت الأجل فيه؛ فإن الفرض ليس عقداً تاماً، وأشبه شيء به الفرض (1)، ثم لا يثبت الأجل فيه.
وإن فرّعنا على أن المفوضة تستحق بالعقد المهر، فهل يقبل الأجل، وكيف وجهه؟ فنقول: الأجل على هذا القول بعيدٌ، ولكن ليس ينحسم الاحتمال فيه، مع جواز الاقتصار على أقل من مهر المثل، وجواز العدول عن جنس مهر المثل.
وكنت أود لو كان الفرض على هذا القول اعتياضاً عن المهر الواجب بالعقد، ثم كان يترتب عليه ما يليق به، ومن أوائله: اشتراط الإيجاب والقبول، قياساً على الاعتياض، عن جميع الأعواض، أو كان يخرّج على الاعتياض عن الثمن في الذمة، ولكن أطبق الأصحاب على إجراء الفرض على نسق واحد على القولين، وهو محمول عندي على كف الفكر عن الغوامض والمغاصات، ونحن لم نأل جهداً نقلاً وتنبيهاً وتخريجاً على الأصول.
8476 - ومما يتصل بهذا المنتهى: أن الزوج لو فرض لها خمراً برضاها، فالذي ذكره الأئمة يقتضي أن ذلك لغو، وكأن لا فرض، ولا نجعل تسميةَ الخمر في مقام الفرض بمثابة تسميته الخمر [مهراً] (2)، فإن قيل: إذا جوزتم تأجيل المفروض، فهلا جعلتم تسميته بمثابة تسميتها (3) في الإصداق؟ قلنا: لا سواء؛ فإن الخمر إذا [سميت] (4) في النكاح، فقد قصد العوض، فلم نجد بُداً من إثبات المهر، فأثبتناه.
وأما الفرض، فليس ينحسم بابُه، فإذا فسد فرضٌ، لغا، وابتُدِىء فرضٌ صحيح، هذا هو الذي لا يجوز غيره.
وكل ما ذكرناه فيه إذا جرى الفرض على التراضي.
__________
(1) كذا. وهو في مخطوطة ابن أبي عصرون بنفس الألفاظ أيضاً.
(2) زيادة لإيضاح الكلام.
(3) تسميتها: الضمير يعود على الخمر.
(4) في الأصل: سويت.

(13/118)


8477 - فأما القول في فرض القاضي؛ فإنما تمس الحاجة إلى ذلك، إذا طلبت وأبى الزوجُ، أو تنازعا في مقدار المفروض، فأما إذا كانا يتراضيان، فلا فائدة في الارتفاع إلى القاضي.
فإذا ثبت ذلك؛ فلو تنازعا، وكانت المرأة لا ترضى إلا بأقصى حقها، فلا يصح الفرض من القاضي، ما لم يكن عالماً بمقدار مهر المثل؛ إذ إليه الرجوع، وهو منتهى حقها. فإن تراضيا في مجلس القاضي بدون مهر المثل، فالقاضي ليس بفارض، وإنما الفارض الزوجُ برضاها، فإن فوّضا إلى القاضي، فهو في حكم المستناب عن الزوج، وإذا كان النزاع دائماً، فَفَرْضُ القاضي ثابت أيضاً، ولكنه نيابةٌ قهرية، يُجْريها القاضي [استيفاءً لحقٍّ] (1) من الممتنع عنه.
ولو امتنع الزوج من الفرض، فرضيت المرأة بدون مهر المثل، أو رضيت بأن يكون المفروض مؤجلاً، والتفريع على أن الفرض يقبل التأجيل، فنقول: أما إذا رضيت بالتأجيل، والزوج على إبائه وامتناعه، وكان القاضي يفرض عليه قهراً، فقد قال المحققون: ليس للقاضي أن يفرضه مؤجلاً، وإن كان الفرض قابلاً للأجل لو صدر من الزوج- على الرأي الأصح؛ والسبب فيه: أن منصب القاضي [يقتضي منه إلزامَ الزوج] (2) مالاً حاقّاً، انتجزت الطَّلِبة به. فأما إثباته على أجلٍ ومهل، فلا يليق بمنصب الولاة، وليس كما لو كان الفارض الزوج؛ فإن ذلك يجري مجرى العقود والتراضي على ما يتفق به الرضا به. والسلطان قد يبيع مال الطفل بأجل؛ لأن بيعه منوط بالنظر، فإذا رأى الغبطة في التأجيل، أجّل، على شرائط ذكرناها في كتاب الرهون، [وفرضه عن زوج ممتنعٍ استيفاءُ حقٍّ منه] (3)، ولا يتحقق استيفاء الحق لأجل
__________
(1) في الأصل: استيفاء الحق.
(2) عبارة الأصل: " أن منصب القاضي ـعـ ـعـ ـ
من الزام العين مالاً حاقاً " هكذا بهذا الرسم وهذا الضبط، والمثبت تصرّفٌ منا. يؤدي المعنى، وإن كان بعيداً عن ألفاظ الأصل.
(3) عبارة الأصل: " وفرضه للزوج ممتنع استيفاء حق منه " هكذا بهذا الرسم والنقط. والمثبت تصرف منا بالزيادة والتعديل، وفاءً بما يقتضيه السياق، حيث تعذر علينا إدراك موضع التحريف في ألفاظ الأصل.

(13/119)


الامتناع إلا فيما يتَّصف بالحلول، وأيضاً، فالأجل إذا ثبت، فهو حق لمن عليه الحق، وإثبات الحق لناظرٍ [لنفسه] (1) حاضرٍ لا وجه له. فخرج من مجموع ما ذكرناه أن الأجل لا يثبت إلا برضا [الزوجة] (2) وفي ثبوته [برضاها] (3) التردد الذي ذكرناه.
فهذا منتهى القول في ذلك.
ثم قال الأصحاب: إذا كانت المرأة لا ترضى إلا بنهاية حقها، فيتعين على القاضي أن يفرض لها مهرَ مثلها، ثم قالوا: لو زاد شيئاً أو نقص، لم يجز إلا القدر اليسير الذي لا يؤبه له، ويسوغ الاجتهاد فيه. ولم يُرد الأصحاب بذلك زيادة محققة أو نقصاناً محققاً، وإنما أرادوا ما يقع التغابن في مثله، ولا يثبت به القول فيه زيادة ولا نقصان. وهذا على التحقيق إيجاب مهر المثل؛ فإن مبلغه مظنون، كما سيأتي في الباب المعقود على أثر هذا الباب، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
8478 - الأجنبي إذا فرض للمفوضة شيئاً برضاها، وجرى ذلك بينه وبينها، فهل يصح الفرض من الأجنبي؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يصح كما يصح من الأجنبي أداءُ الدين، وإن لم يصدر عن إذن الزوج، فكذلك يصح منه الفرض برضاها. [وهذا المفروض يكون على الأجنبي] (4)، فإنه لم يُلزم الزوجَ شيئاً.
والوجه الثاني -وهو الأصح عندهم- أنه لا يصح؛ لأنه تصرفٌّ في العقد، وتغيير لصفته.
فإن قلنا: لا يصح، لغا ما كان، ولها مطالبة الزوج بالفرض. وإن صححنا الفرض، سقطت طلبتها عن الزوج، وطالبت الأجنبي بما التزمه.
ثم إذا طلقها الزوج قبل المسيس، فإلى من يرتد النصف المفروض؟ فعلى الوجهين المذكورين إذا تبرع الأجنبي بأداء الصداق، ثم فرض الطلاق.
__________
(1) في الأصل نفسه، والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون.
(2) في الأصل: الزوج.
(3) في الأصل: برضاه.
(4) ما بين المعقفين به تعديل يسير لإقامة العبارة، أما عبارة الأصل، ففيها خللٌ على النحو الآتي: " وهذا والمفروض على الأجنبي، فإنه لم يلزم الزوج شيئاً ".

(13/120)


فصل
8479 - قال الأئمة: ما ذكرناه [قولنا] (1) في التفويض الصحيح، وقد تقدم تصويره، والحكمُ فيه على وجه لم يدخل في إمكاننا أشفُّ (2) وأفضل منه، وهذا الفصل معقود في التفويض الفاسد.
وفساد التفويض في الغالب يصدر ممن لا يملك التفويض، فإذا كانت المرأة سفيهة، فرضيت أن تزوَّج بلا مهر، فلا حكم للرضا بترك المهر؛ فإذا زوجها وليّها بغير مهر كان كما لو ابتدأ تزويج ابنته بغير مهر، فإذا جرى ذلك، ففي انعقاد النكاح القولان السابقان.
ومما يجب التنبه له في هذا المقام أنها لو أذنت في أن تُزوَّج بلا مهر، وكان النكاح يتوقف على إذنها، فإذا زوّجها الوليّ بالمهر، وظن الفقيه أن النكاح لم يقع على حسب الإذن، فيجب أن لا ينعقد، فقال (3): يظهر تنزيل هذا منزلة ما لو أذنت في أن تزوج بألف، فزُوِّجت بألفين. ولو جرى ذلك، لانعقد النكاح، وثبت المسمى، فيحمل على رضاها، فنزل المهر على طلب النكاح كيف كان.
وإن هي صرحت باشتراط نفي المهر، وذكرت ما يتضمن خروج النكاح عن موجب إذنها لو زُوِّجت بالمهر، فهذا بمثابة ما لو قال المالك: " بع عبدي هذا بألف ولا تبعه بأكثر منه، فتخالف إذني ". وقد ذكرنا في كتاب الوكالة، فأوضحنا تردد الأصحاب فيه.
وإذا قال: " هب هذا العبد من فلان " فباعه منه، لم يجز؛ لأنه انتقال من صنف من العقود إلى صنف، والنكاح بالمهر والعَرِيُّ منه عن المهر صنفٌ واحد، فكان مشبهاً بما ذكرناه في البيع بأكثر من المقدار الذي سماه الموكِّل.
__________
(1) في الأصل: قول.
(2) أشف: أي أفضل، وأوفى، وأتم (المصباح، والمعجم).
(3) (فقال) أي الفقيه.

(13/121)


ومما ذكره الأئمة أن المرأة المطْلقَة (1) في مالها، المالكة للتبرع به، لو قالت لوليها: " زوّجني بما شئت، أو بما أراد الخاطب "، فإن جرى العقد على هذه الصيغة، فقال الولي: زوجتُ فُلانة منك أيها الخاطب بما شئت، فهذا معقود بمهر مجهول، فالرجوع إلى مهر المثل، ولو وقف الولي على المبلغ الذي شاءه الخاطب، ثم أنشأ العقد به، فيجب القطع بصحة التسمية. وذُكر عن القاضي أن هذا مجهول.
وتعلَّق بأن لفظ الإذن على صيغة الجهالة.
وهذا وهم عظيم؛ فإنها فوّضت إلى الولي أن يعقد بما يقدره الخاطب، و [ليس] (2) من غرضها أن [تُعاد] (3) صيغة لفظها في العقد، فسبيل التفصيل إذاً ما ذكرناه.
وقد يتجه أن يقال بعد فهم ما ذكرناه من كلامها: إذا عقد النكاح وأعيدت صيغة لفظها، فقال الولي: " زوجتكها بما شئت "، فالنكاح مختلٌّ؛ لأن الولي خالف موجب إذنها، فكان كما لو قالت: " زوجني " فزوجها بأقل من مهر مثلها.
فلو قالت: " زوجني " فزوجها بخمر؛ فالواجب مهر المثل لو قدر انعقاد النكاح [ولكان] (4) ما جاء به [موجَبَ] (5) الإذن المحمول على العرف، فليتأمل الناظر ذلك.
ولا ينبغي أن نسرف في [الفرض] (6) أيضاً. وإذا اتضحت الأصول، لم يخف على الفقيه مُدرك المقصود منها.
ثم قال الأئمة: إذا انعقد النكاح بمهر المثل عند اتفاق تسمية فاسدة، فإذا طُلِّقت قبل المسيس، تشطّر مهر المثل كما يتشطّر المسمى الصحيح، خلافاً لأبي حنيفة (7)،
__________
(1) المطلقة: أي غير المحجور عليها.
(2) زيادة لاستقامة العبارة وصحتها، على ضوء السياق والسباق.
(3) في الأصل: تغادر.
(4) في الأصل: ولكن.
(5) في الأصل: لموجب.
(6) في الأصل: الطرف.
(7) ر. حاشية ابن عابدين: 2/ 335.

(13/122)


وإذا جرى في [نكاح] (1) التفويض فرضٌ، ثم طلقت قبل المسيس، تشطر المفروض، وخالف أبو حنيفة (2) في ذلك أيضاً، واجترأ على ظاهر النص في قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وقد ذكرنا إطباق المفسرين على حمل هذه الآي على المفوضة. وإذا خلا نكاح التفويض عن الفرض، ثم فُرض الطلاق قبل المسيس، فلا يثبت -وإن فرعنا على أن المهر يثبت بالنكاح مع اشتماله على التفويض- مما ذكره شيخنا أبو محمد غير ملحَق بالمذهب، كما تقدم شرحه، والله أعلم.
...
__________
(1) في الأصل: النكاح.
(2) ر. حاشية ابن عابدين (الموضع السابق).

(13/123)


باب تفسير مهر المثل
8480 - مهر المثل يكثر تَدْوَارُه في الكلام، فيجب في النكاح الصحيح عند فساد التسمية، وقد يجب في نكاح التفويض، ويجب في وطء الشبهة، وقد يجب في بدل الخلع، وتمس الحاجة إلى معرفته في توزيع المسمى على مهور الأمثال إذا نكح الرجل نسوة في عُقدة، وفرّعنا على تصحيح الصداق، وتمس الحاجة فيه إذا كان الصداق شقصاً مشفوعاً؛ فإن الشفيع يأخذ شقصاً من مهر المثل، وهذا الباب معقود في بيان مهر المثل، والطرق التي توصل إلى معرفتها.
8481 - ونحن نقول على الجملة: مهر المثل قيمة البضع، والسبيل فيه كالسبيل في قيم المتقوّمات، ثم إذا أشبهت قيمة الثوب، فالوجه اعتبار ذلك الثوب بأمثاله، والنظر إلى ما عهدت أمثال هذا الثوب رائجة به، وذلك يختلف بكثرة الرغبات وقلتها، فهذا مسلك مهر المثل.
وخاصية الباب الإحاطه بأمثال التي نريد أن نعرف مهرها. فقال الأصحاب: يعتبر مهر المرأة بنساء العصبات.
والقول الضابط فيه: أنا نعتبر النسوة اللاتي ترجع أنسابهن إلى من يرجع نسب المستحقة إليه، وبيان ذلك بالمثال: أنا نعتبر الأخوات من الأب والأم لانتسابهن إلى من تنسب هذه إليه، وكذلك تعتبر العمات؛ فإنهن منتسبات إلى الجد، وهو على عمود النسب. وتعتبر بنات الإخوة من الأب وبنات الأعمام، ولا تعتبر بنات الأخوات؛ فإنهن لا ينسبن إلى أمهاتهن، وإنما ينسبن إلى أزواج الأخوات، ولا يعتبر مهر المرأة بمهور البنات والأمهات، فإنهن لا ينسبن إلى من تنسب هذه المرأة إليه، ولذلك لا تعتبر الأخوات من الأم وبناتهن والأخوال والخالات وبناتهم لما ذكرناه.

(13/124)


8482 - فإذا لاحت النسوة المعتبرات والخارجات عن الاعتبار؛ فالطَّلِبة وراء ذلك بتعليل هذا، فنقول: الصفة الغالبة في العرف الجاري في مقدار المهر النسبُ، فإن المنتسبات إلى شجرة واحدة يجرين على مقدار من المهر، وإن فرض النقص منه عُدّ حطيطةً ووكيسة، والأبضاع لا تتقوم تقوم الأموال، وإنما يُرجع فيها إلى أمثال هذه الخصال التي ذكرناها.
ثم قال الأئمة: إن كانت هذه المرأة التي تبغي مقدار مهرها مساوية لنساء العصبات فذاك، وإن كانت مخالفة لهن في بعض الخصال الحميدة أو الذميمة، فقد يزيد وينقص على ما تقتضيه الصفات، فلو اختصت بصراحةٍ في النسب، وصباحة في الوجه، وسلامة في الخَلْق، وعفة [ويسارٍ] (1)، ومزية في العقل، ومَسْحةٍ من الجمال ظاهرةٍ، فيزاد لها بهذه الصفات، فكأن القطب الذي عليه المدار النسبُ، ثم الاقتصار عليه.
ومن لطيف القول في هذا أن الجمال غير معتبر في الكفاءة، والنسب مرعي فيه، وهو الأصل، والجمال مرعي في مهر المثل باتفاق الأصحاب؛ وذلك لأنا وإن اعتبرنا النسب في الباب، فطلب مهر المثل طلب قيمة، والقيم ترتبط بالرغبات، والرغبات تتفاوت بهذه الصفات، والكفاءة ليست من هذا القبيل، والمجتنب ثَمَّ العارُ، كما بينا قاعدة الكفاءة، فإذا لم يكن ضرار ولا عار، فالكفاءة كافية، وهذا مبني على الرغبات.
وقطع أئمتنا باعتبار اليسار في مهر المثل، وإن لم يكن اليسار صفتَها، ولا حق للزوج في مالها، ولكن يسارها يستجر الرغبات إليها، وقد ذكرنا أن التعويل في قيم المتقومات على الرغبات.
8483 - ثم مهر المثل حيث ثبت ويُقضى به يكون من النقد الغالب؛ فإنه قيمة،
__________
(1) في الأصل: " وسياد " والمثبت تقدير منا، أكدته عبارة العز بن عبد السلام في مختصره. (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 لوحة رقم: 99 يمين). والمعنى أن يسار المرأة وغناها له نوعُ تأثير في قيمة مهرها، وإن لم يكن للزوج أي حق في مال زوجته.

(13/125)


والقيم تناط بالنقد الغالب، ولو فرض نقدان عامان، فلا يختلف التقويم بهما، وليس هذا كتقويمنا عروض التجارة؛ فإن الغرض قد يختلف بسبب انتقاص النصاب، وهذا لا يعقل في المتقومات.
ولو سامحت واحدة من نساء العشيرة بحيث تعد بذلك [ندْرة] (1) محمولة على مسامحة، فلا اعتبار بها في حق هذه [التي] (2) تطلب كمال مهر مثلها، وإن عمّ ذلك في نساء العشيرة بعد أن لم يكن، حُمل هذا على انحطاط [السعر] (3)، واستبان انتقاص الرغبات فيهن، فكانت المعتبرة محمولةً على هذا التخفيف.
ولكل صورة من الصور التي نذكرها نظير في القيم لا يخفى مُدركه. ولو جرت عادتهن من المهر ولكن كن يؤجّلنه فإثبات مهر المثل مؤجلاً محال؛ فإنه قيمة في مقابلة إتلاف أو فيما يحل محل الإتلاف، والقيم لا تتأجل، ولكن إذا كان مهر العشيرة ألفاً مؤجلاً إلى سنة، فيثبت حالاًّ ما يساوي ألفاً مؤجلاً، فيُحَطّ من المقدار، ويُقضى بالحلول. ولو قالت: أوجبوا الجميع وأنا أمهله، لم يلتفت إليها؛ فإن الأجل إذا كان لا يلزم، فلا حكم لوعدها.
8484 - ومما ذكره الأئمة: أنه لو جرت عادة العشيرة بحط شيء من المهر إذا كان الخاطب منهم، وطلب مزيد إذا كان الخاطب أجنبياً، قالوا: إذا كان المطالَب واحداً من العشيرة، فيعتبر في حقه تلك الحطيطة، وكان شيخي أبو محمد يأبى هذا ويقطع بخلافه؛ فإن قيم المتلفات لا تختلف باختلاف المُتْلِفين.
وفي هذا فضل نظر عندنا، فيجوز أن يقال: إن كنا نعتبر مهراً في نكاح، فتلك الحطيطة مرعية، فإن مسامحة العشيرة سببها طلب التداني في التواصل، وذلك في حكم العرف الغالب يستحث على الحطّ.
__________
(1) في الأصل: بدرة. وعبارة (صفوة المذهب): " ولو سامحت واحدة من العشيرة، فتلك نادرة ومسامحة لا اعتبار بها ".
(2) في الأصل: الذي.
(3) في الأصل: السفر.

(13/126)


وأما إذا جرى وطء بشبهة؛ فيجب أن لا [يفرق] (1) بين القريب والبعيد، فإن الحطيطة التي ذكرناها تُحْتَمَلُ في النكاح رغبة في المواصلة مع تداني القرابة.
والذي عليه الفقه في الباب أن لا نقطع نظره عن قصد المواصلات، ولا نظر إلى الأبعاض تتمحض أموالاً.
وعندنا أنا أوضحنا قاعدة الباب ولم نُبق كلاًّ على الطالب.
ولو أُحوجنا إلى معرفة مهر امرأة لا نعرف لها عشيرة، فليس إلا رد النظر إلى الرغبة المحضة في أمثالها على ما هي عليها، وإنما لم نقتصر على هذا في [النسيبة] (2)؛ لأن الخاطب قد يجهل نسبها، فنذكرها له، وما ذكرناه جار، فالرجوع إلى الرغبة في النسيبة وغير النسيبة، وإنما خُص هذا الباب بالعقد لبُعْد الأبضاع عن المالية المحضة، مع أنها منزّلة على قيم الأموال، غير أنها [تمتاز] (3) عن الأموال بالصفات المرعية فيها اللائقة بها، فالأموال قد تختلف أسباب الرغبات فيها، وإن شملتها المالية، والله أعلم.
...
__________
(1) في الأصل: يجب.
(2) في الأصل: النسبة.
(3) في الأصل: تنحاز.

(13/127)


باب الاختلاف في المهر
إذا اختلف الزوجان في المقدار المسمى في النكاح، فقال الزوج: " نكحتك بألف " فقالت: بل بألفين، أو اختلف في جنس الصداق، أو في صفته، كما صورنا ذلك في اختلاف المتبايعين، فالزوجان يتحالفان، ثم تحالفهما لا يفضي إلى انفساخ النكاح، ولكن التسمية ترتد وتزول، والرجوع إلى مهر المثل؛ فإنه إذا عسر المسمى بسبب جهالةٍ، فلا وجه إلا الرجوع إلى مهر المثل، والجهالة متحققة ثابتة بالتحالف.
ثم الذي ذهب إليه الأصحاب بأجمعهم: أنا لا ننظر إلى المقدار الذي ادعته منسوباً إلى مهر المثل، ولا نفرق بين أن يكون مثلَه أو أقلَّ [أو] (1) أكثر.
وحكى العراقيون بعد اختيارهم ما ذكرناه وجها بعيداً عن ابن خَيْران، أنه كان يقول: إن كان ما ادعته أقلَّ من مهر المثل، فليس لها إلا ما ادعته، مثل أن يقول الزوج: " نكحتك بخمسمائة "، وتقول الزوجة: " بل نكحتني بألف "، وكان مهر مثلها ألفاً وخمسمائة؛ فالذي ذهب إليه الأصحاب: أنا نوجب لها ألفاً وخمسمائة، وقال ابن خَيْران: ليس [لها] (2) إلا الألفُ؛ فإنها لم تدّع أكثر منه.
وهذا ضعيف مزيف؛ فإنها ادعت الألف عن جهة التسمية، وقد حكمنا بانقطاع التسمية، ورددناها إلى مهر المثل عن جهة أخرى، لم تدع منها شيئاً، ثم يقال له: إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن، فادعى البائع أكثر مما اعترف به المشتري، ولكن كان ما ادعاه البائع أقل من قيمة المبيع، فماذا تقول؟ فإن قال: يرجع البائع إلى قيمة المبيع التالف في يد المشتري، فكيف يفرق بين هذا وبين ما ذكره في المهر؟ وإن طرد خلافه في مسألة البيع، كان على نهاية البعد.
__________
(1) في الأصل: إذا كثر.
(2) ساقطة من الأصل.

(13/128)


ثم قال ابن خَيْران: إذا أصدق امرأته ألفاً، ولم يختلفا فيه، ولكن فسد الصداق بشرطٍ، ولزم الرجوعُ إلى مهر المثل، وكان الألف أقلَّ من مهر المثل، فليس لها إلا الألف من جهة رضاها به، كما ذكره في التحالف، وهذا قول فاسد، لم يرتضه أحد من الأصحاب.
ولو فرض الاختلاف بين الزوجين بعد ارتفاع النكاح، فهو كما لو فرض في حالة قيام النكاح إذا كان المتداعي بالمهر قائماً، وبيان ذلك: أنه إذا طلقها بعد المسيس، وما كان أقبضها المهر، فاختلفا بعد البينونة؛ يتحالفان، والرجوعُ إلى مهر المثل.
وإذا كان الطلاق قبل المسيس فيتحالفان، والرجوع إلى نصف مهر المثل.
8485 - وذكر الأصحاب صورة في الاختلاف، نحكيها ونذكر [ما] (1) فيها، فإذا ادعت المرأة أن الزوج أصدقها ألفَ درهم، وقال الزوج: جرى النكاح خالياً عن ذكر المهر، ولم يدّع التفويض، وقد ذكرنا فى صورة التفويض، وبيان ما ليس منها أن المرأة إذا لم تصرح بالرضا بترك المهر، واتفق جريان العقد من الولي خالياً عن ذكر المهر؛ فالرجوع إلى مهر المثل.
فإذا تبين هذا، فكأن الزوج ادعى مهر المثل، وادعت المرأة ألفاً من جهة التسمية، وإنما يحسن وقع هذه المسألة إذا كان الألف أكثرَ من مهر المثل. قال القاضي: يتحالفان، وينزل هذا منزلةَ ما لو ادعت المرأة ألفاً، وادعى الزوج ثمانمائة من جهة التسمية.
وهذه المسألة محتملة، تردد فيها المحققون. ووجه الاحتمال فيها يظهر بالتوجيه. أما وجه ما ذكره القاضي، فبيّنٌ؛ فإن الزوج ادعى صيغةً في العقد متضمنها إثباتُ مهر المثل، وهو دون ما ادعت المرأة، هذا وجه. ويجوز أن يقال: هذا اختلافٌ راجع إلى النفي والإثبات، فالمرأة ادعت التسمية، والزوج أباها أصلاً، فيتجه أن نقول: القول قول النافي مع يمينه، فإذا ثبت النفي، ولم تحلف الزوجة، رجعنا إلى مهر المثل. وفائدة هذا ألا يجري التحالف من الجانبين.
__________
(1) في الأصل: " ونذكره فيها".

(13/129)


8486 - ثم قال الشافعي في تحالف الزوجين: " أبدأ في الزوج بالتحليف، وقال في البيع: أبدأ بجانب البائع "، والزوجُ في مقام المشتري؛ فالنصان مختلفان، والتصرف فيهما نقلاً وتخريجاً وفرقاً جرى مستقصى في باب التحالف من كتاب البيع.
8486/م- ولو اختلف الزوجان بعد انفساخ النكاح بسبب يقتضي ارتداد جملة الصداق، فلا يتصور التحالف؛ فإن فائدة التحالف التنازع في مقدارٍ من المهر، وقد ارتد كله، وهذا إذا تفاسخا، وما كان أقبضها الزوج الصداق.
فلو تنازعا في المقدار، فقال الزوج: " أصدقتك ألفين، وسقتهما إليك، فردَدتِ ألفاً لمّا انفسخ النكاح قبل المسيس ". وقالت المرأة: " ما أصدقتني إلا ألفاً، فقبضتُه، ورددتُه "، فهذا ليس من الاختلاف الذي نحن فيه؛ فإن الاختلاف بين الزوجين إنما يفضي إلى التحالف إذا كنا نرجع إلى مهر المثل، ونترك التسمية، وهذا المعنى لا يتحقق في هذه المسألة، وقد سبق انفساخ النكاح. وحاصل قول الزوج يرجع إلى إقباضها ألفين، وهي تنكره، فالقول قولها. ولو كان الاختلاف على هذا الوجه مذكوراً في النكاح، لما كان اختلافاً يوجب التحالف، فإن الزوج ادّعى إلزام أكثر مما تدعيه المرأة.
هذا بيان القول في التحالف.
فصل
قال: " وهكذا الزوج وأبو الصبية البكر ... إلى آخره " (1).
8487 - ذكر الشافعي اختلاف الزوجين وتحالفهما، ثم عطف عليه اختلاف الزوج مع أبي الصبية، فاقتضى ترتيبُ الكلام تنزيلَ الأب مع الزوج منزلةَ الزوجة مع الزوج في التحالف، وموجبَ ذلك تحليفُ الأب، فنذكر ترتيب المذهب وطريق الأصحاب، ثم نرجع إلى [السواد] (2).
__________
(1) ر. المختصر:4/ 31.
(2) في الأصل: " الشواذ ". والسواد -كما قلناه مراراً- هو مختصر المزني.

(13/130)


8488 - فمن أصحابنا من ذكر وجهين في أن الأب هل يحلف عن طفله الموليِّ عليه فيما يتعلق بتصرف الولاية؟
ثم حاصل ما ذكره الأئمة ينحصر في مسلكين: أحدهما - طرْد الوجهين في كل ما يتعلق بحظ الطفل، ويندرج تحت ولاية الولي، من غير فرق بين أن تكون الخصومة متعلقة بتصرف أنشأه الولي، وبين ألاّ تكون كذلك.
وبيان القسمين: أن من أتلف مالاً من أموال الطفل، ثم أنكر، فللولي أن يحلّفه إن لم يجد بيِّنةً، فإن نكل عن اليمين، ففي رد اليمين على الأب وجهان. وكذلك القول في كل ما يضاهي ذلك.
وسبب طَرْد الخلاف يتبين بالتوجيه، فمن أبى ذلك، احتج بأن الأيْمان لا يتطرق إليها إمكان النيابة، وسبب ذلك أن الحالف متعرض [للحِنث] (1) والمأثم لو كذب، ولا يليق بمناصب النيابة قيامُ الغير مقام الغير في التعرض للحرج، بل حكمة الشرع في اختصاص صاحب الواقعة بهذا المأثم. وهذا في مسلكه يضاهي العبادات البدنية؛ فإنها امتحان الأبدان بالمشاق، حتى تتهذب وتتعرض لثوابها، ولهذا لم يُحلَّف الوكيل بالخصومة، وإذا انتهت الخصومة [إلى توجيه اليمين عليه] (2) رُد الأمر إلى تحليف الموكِّل.
ومن جوّز للأب أن يحلف، احتج بأنه في تصرفه مستبدٌّ غيرُ مستناب، فهو في حكم المالك المتصرف في حكم نفسه. وهذا فيه بعد؛ فإن الأب مستناب شرعاً، وإن كانت استنابته لا تتعلق بإذنٍ من آذن، وإذا كان يتصرف لغيره، فقد اتجه الفقه الذي ذكرناه في منع الحلف.
التفريع على الوجهين:
8489 - إن حكمنا بأن الأب لا يحلف -وهو القياس- فالوجه: وقف الخصومة إلى أن يبلغ الصبي، فيتعرضَ لليمين حينئذ، وكان شيخي يقول على هذا: لا معنى
__________
(1) في الأصل: الحلف.
(2) ساقط من الأصل.

(13/131)


لعرض اليمين على الخصم؛ فإن منتهى الخصومة قد يفضي إلى نكوله، ثم لا يُقضَى بنكوله. وذهب كثير من أئمتنا إلى أنه يحلّف الخصم؛ فإنه إذا رغب في اليمين، فلا امتناع في القضاء بيمينِ مَنْ خصمُه طفل، وإنما الامتناع في تحليفِ أو في إنابةِ غيره منابه، وهذا هو الذي لا يجوز غيره.
فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، توقفنا حينئذ.
وإن قلنا: يحلف الأب، فإن نكل الخصم، رددنا اليمين على الأب، فإن حلف، ثبت حق الطفل، وإن نكل، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنا نقف الأمر إلى أن يبلغ الصبي، ولعله يحلف، ثم إن حلف استحق.
ومنهم من قال: تنفصل الخصومة بنكول الأب عن يمين الرد؛ فإنا لم نقمه في مقام الحالفين إلا على تقدير تنزيله منزلةَ من هو صاحب الواقعة، حتى كأنه المالك، وإليه الانتهاء، ولهذا نظير من طريق اللفظ، وهو أن الوارث إذا لم يحلف مع الشاهد الواحد في ادعاء دَيْنٍ أو عينٍ للمتوفى، فلو كان للميت غريم، فأراد أن يحلف إذا نكل الوارث؛ ففيه قولان، وترتيبٌ سيأتي مستقصى في كتاب القسامة، إن شاء الله عز وجل.
ولكن ليس ما نحن فيه مثلَ ما أردناه؛ فإن الوارث مالك التركة على الحقيقة، فلا يمتنع أن يؤثر نكولُه، والغريم له حق التعلّق بالتركة لو ثبتت، وفي مسألتنا الملك على الحقيقة للطفل.
فإن قيل: كيف يجري تحليف الأب لطفله، وشهادته له مردودة؟ قلنا: اليمين لا تؤخذ من مأخذ الشهادة؛ فإن الإنسان لا يشهد لنفسه، ويحلف فيما يتعلق به جلْباً ودفعاً، وهذا كله بيان طريقة واحدة.
8490 - ومن أصحابنا من قال: [إن كانت] (1) الخصومة متعلقةً بشيء ما أنشأه (2) الوليُّ، فلا يحلف فيه الولي أصلاً، وإن تعلق بما أنشاه الولي، ففي تحليفه وجهان.
__________
(1) ما بين المعقفين مكان بياضٍ بالأصل.
(2) ما أنشأه: نؤكد أن (ما) هنا نافية.

(13/132)


وهذا بمثابة ما لو باع الولي مال الطفل، أو زوّج الصغيرة، ثم وقع النزاع في صفة العقد، فيجري الخلاف في ذلك؛ فإن العقد وإن كان متعلقاً بحق الطفل، فمتعلق الدعوى من الأب أنه قيل له: " عقدت على الوجه المخصوص " وهذا صادر منه، فترتبط الخصومة [به] (1) من هذا الوجه، فينفي أو يثبت، ويتجه التحليف في هذا المقام.
وقد ذهب كثير من الأئمة -أئمة العراق- إلى القطع بأنه يحلف، ومجرى التحالف بينه وبين الخصم فيما يتعلق بإنشاء الولي، ولم يذكروا في ذلك خلافاً، ووجه الطريقة: أن الأب لو أقر بعقدٍ عقده في استمرار الولاية قُبِل إقرارُه، وإذا كان مقبول الإقرار، لم يبعد أن يُحلَّف؛ فإن الحلف على الإنكار حريٌّ بالقبول ممن يُقبل منه الإقرار.
ثم هؤلاء طردوا الطريقة في القيّم والوصيّ والوكيلِ بالعقد، فإن كل واحد من هؤلاء لو أقر بأنه أنشأ العقد قُبِل إقراره، إذا كان إقراره في وقتٍ لو أنشأ ما أقرّ به، نفذ. وقد ذكرنا أن الإنكار يعاقب الإقرار.
فإذا كان من أهل الإقرار، وجب أن يكون إقراره ثابتاً، حتى يتعلق به ما يتعلق بالإنكار الصحيح.
والوكيل بالخصومة لا يحلف؛ من جهة أنه لو حلف، لكانت يمينه راجعة إلى حق غيره، وليس يُثبت أو ينفي شيئاً مضافاً إلى إنشائه، ولو تعلقت الدعوى بالوكيل فيما هو مطالب به [بالعهدة] (2)، فلا شك أنه يحلف؛ من جهة أنه فيما يطالَب به مجيب عما يتعلق بخاصته.
فاعتماد هؤلاء في هذه الطريقة على ما ذكرناه من رجوع النزاع إلى ما ينشئه الولي، واعتماد الأولين في الطريقة الأولى على ما يتعلق بتصرف الولي واستبداده.
والطريقتان متباينتان.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: بالعمدة.

(13/133)


8491 - وذكر [شيخي] (1) أخرى، وهي: أن الأبَ لا يُحلّف [في شيء مما] (2) يتعلق بحق طفله، ولا فرق بين ما ينشئه الأب وبين ما لا يتعلق بإنشائه.
وإنما تردد الأصحاب في تحليفه في النكاح خاصة، واختلافهم مبنيٌّ على أنه هل يملك إسقاطَ المهر والعفو عنه؟ فإن قلنا: إنه يملك العفوَ، فاليمين معروضة عليه، فإنه على رتبة المالكين، و [إن] (3) لم ننفّذ عفوه، فلا نحلفه، هذا بيان طرق الأصحاب.
8492 - ثم إن قلنا: الأب لا يحلف فيما له الإنشاء فيه، فيقف الأمر حتى تبلغ الصبية، ثم نُدير النزاع بينها وبين الزوج، ونفرض الكلام في التنازع في مقدار المهر، فإذا قال الزوج: " نكحتك بألف " والزوجة تزعم أن أباها زوّجها بألفين، فالتحالف يجري الآية بين الزوج والزوجة، ثم المرأة تحلف يميناً تشتمل على الجزم ونفي العلم، إذا رأينا الاقتصار على يمين واحدة -كما- تقدم تفصيل ذلك في كتاب البيع، فتحلف إذاً: " بالله لا تعلم أن أباها زوّجها بألف، ولقد زوّجها بألفين "، ثم يمين نفي العلم إنما تتوجه إذا ادّعى العلم عليها.
8492/م- ولو مات الزوج والزوجة، ووقع الاختلاف بين ورثة الزوجين بعد موتهما، أو وقع الاختلاف بين ورثة أحدهما مع الآخر، فالتحالف يجري على الصورة التي ذكرناها بين الزوج والزوجة، فوارث الزوج يحلف: " لقد نكحها بألف، ولا أعلم أنه نكحها بألفين "، ووارث المرأة يحلف: " لقد نكحتْه بألفين، ولا أعلمها رضيت بألف "؛ فقد اشتمل حلف كل واحد منهما على إثبات أمر من الغير، ونفي أمر منه.
والقاعدة التي إليها الرجوع في أمثال هذا -وعليها تدور المسائل- أن كل يمين كان
__________
(1) الزيادة من معنى كلام ابن أبي عصرون.
(2) في الأصل: "يحلف شيئاً فيما يتعلق ... " والمثبت تصرف منا على ضوء المفهوم من عبارة
ابن أبي عصرون.
(3) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.

(13/134)


مقصودها الإثبات فهي على البتّ، سواء أثبت الحالف من نفسه أو أثبت من غيره، واليمين على النفي [تتفرّع] (1) فإن تضمنت نفيَ شيء من الحالف، فهي على البت، وإن تضمنت نفيَ أمر من الغير، فهي على العلم.
والسبب الكلي فيه أن الإثبات لا يعسر الاطلاع عليه، سواء كان من الحالف أو من غيره، ولا يعسر الاطلاع على النفي الراجع على الحالف؛ فإن الإنسان يعلم ما ينفي عنه كما يعلم ما يُثبت في حقه، فأما النفي عن الغير، فالاطلاع عليه بعيد، والالتزام من غير ثَبَت لا وجه له.
وإذا حصلت اليمين على نفي العلم، ووقع الاكتفاء [بها] (2) في قطع الخصومة، فإن هذا غاية الوسع والإمكان. [وللخصومات] (3) وقفات في بعض الأطراف دون اليقين المطلوب في غيرها، ولكن إذا اضطررنا، اكتفينا باستفراغ الوسع.
وعلى هذا لو ادعى رجل ديناً على الميت، والوارث ابنه، فالقول قول الوارث، يحلف على [نفي] (4) العلم: " لا يعلم أباه أتلف ما ادعاه، أو استقرضَ " على حسب اتفاق الدعوى في تعيين هذه الجهات، فيكتفى منه بالحلف على نفي العلم. وإن نكل ردت اليمين على المدّعي، يحلف على البت بأنه متلف.
ولست أضمن الآن تفصيل ذلك، وتحصيلَ ما فيه، فإنه من أقطاب الدعاوى، وسننتهي إليها فنشرحها، إن شاء الله عز وجل.
فإن قال قائل: كيف يتحالف ورثة الزوجين وقد انتهى النكاح نهايته؟ قلنا: أثر التحالف يظهر في الصداق وما ينتهي نهايته، فإنه في حكم عقدٍ منقطعٍ عن عقد النكاح، وتتصور فيه الردود بجهاتها بعد الموت.
8493 - فإذا نجز بيان المذهب، عدنا بعد ذلك إلى الكلام على النص:
__________
(1) في الأصل: تنفي.
(2) في الأصل: "بهذا".
(3) في الأصل: والخصومات.

(4) ساقطة من الأصل.

(13/135)


ظاهر ما قاله الشافعي أن أب الصبية يحلف كما تحلف الزوجة إذا استقلّت، والخلافُ مفروض في مقدار الصداق، وذلك أنه -رضي الله عنه- ذكر اختلاف الزوجين وتحالفهما، ثم قال: " وهكذا الزوج وأبو الصبية "، فمن قال: نُحلّف الأبَ؛ استمسك بظاهر النص. ومن قال: لا نحلّف، قال: لم يعطف أبَ الصبية على الزوجة المستقلة لنحلفه، وإنما عطف ليبين أن الاختلاف ممكن، ويتعلق به إقامة البينة كما تُصوِّر ذلك في الزوجين.
فصل
قال: " فالقول قول المرأة ما قبضت مهرها ... إلى آخره " (1).
8494 - إذا اختلف الزوجان في أصل القبض، فقال الزوج: " أقبضتكِ " وأنكرت المرأة؛ فالقول قولها. فإن الأصل عدم القبض، ودوام إشغال الذمة بالمهر، فإن اتفقا على القبض، واختلفا في صفته؛ فقالت المرأة: " دفعتَ ما دفعتَ هديةً ومنحةً". وقال الزوج: "بل سلّمتُه مهراً"؛ فالقول قول الزوج مع يمينه.
وهذا الأصل مطّرد في كل موضع يقع الاختلاف فيه في جهة القبض، والرجوع فيه إلى الدافع؛ إذ الغرض في ذلك يختلف بالقصد، ولا اطلاع على القصد إلا من جهة القاصد، وقد ذكرنا هذا وما يتعلق به في المعاملات، وأوضحنا مثل هذا الاختلاف في دَيْنين، وقد اتفق أداء شيء، وثار النزاع في أنه مقبوض من أية جهة؟ وبيّنا القولَ فيه إذا قال الدافع: لم أقصد شيئاً.
8495 - ومما يتعلق بما نحن فيه الكلامُ في أن الأب هل يقبض مهر ابنته؟ فنقول: إن كانت صغيرة، قبض الأب مهرها، فإنّ قبضَ المهر تصرّفٌ في مالٍ، وهي مولّىً عليها من جهة أبيها، فعلى هذا لو كانت الصغيرة ثيباً، فالأب يقبض مهرها؛ فإن الثيابة لا تؤثر في ولاية المال، وإنما تؤثر في ولاية النكاح، وقد ذكرنا أن الأب يزوّج ابنته البالغةَ البكرَ إجباراً، فلو كانت سفيهة، قبض مهرها أيضاً، فإن الحجر مطرد مع السفه على المال.
__________
(1) ر. المختصر:4/ 31.

(13/136)


فأما إذا كانت رشيدة، فهل يقبض الأب مهرها؟ فيه طريقان: من أصحابنا من
قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه يقبض مهرها، كما يجبرها على النكاح؛
فعلى هذا يكون الصداق مستثنًى عن سائر أموالها، لمكان اتصاله له بما هي مجبرة
فيه.
والقول الثاني وهو الأصح - أنه لا يقبض مهرها لما أظهرناه من أن هذا تصرفٌ في المال، والأب لا يلي مال الرشيدة البالغة. وهذان القولان بناهما المحققون على القولين في أن الأب هل يملك الإبراء عن صداق البكر البالغة؟ وفيه اختلاف سيأتي مرتباً في بابٍ، بعد هذا -إن شاء الله عز وجل-، فهذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: لا يملك قبض صداقها وجهاً واحداً من غير إذنها، كما لو كانت ثيّباً، وهذا هو القياس. ثم إن قلنا: لا بد من إذنها، فلا يكفي العرْضُ عليها مع سكوتها، ولا اكتفاء بصُماتها، وإن قلنا: قد يكتفى بصمات البكر إذا كان زوّجها من لا يجبرها، كالأخ وغيره.
فصل
يجمع قواعدَ في تداعي الزوجين، واختلافهما، وعلى الناظر صرفُ الاهتمام إلى دَرْكه.
8496 - فنقول: أولاً، إذا أحضرتْ رجلاً مجلس الحكم، وادعت عليه ألف درهم من جهة الصداق، فالقول قوله؛ فيحلف لا يلزمه تسليمه إليها، فإذا لم تعلّق المرأة دعواها قصداً على الزوجية، وإنما تعرضت للصداق، فليس على الزوج التعرض للزوجية، ويقع الاكتفاء منه بنفي ما ادعته من المال. [ولا] (1) يعرضُ القاضي للسؤال على الزوجية من غير أن تطلب المرأة ذلك، فهذا فضول منه، وللزوج ألا [يجيبه] (2).
__________
(1) في الأصل: " ويعرض القاضي " وهو عكس السياق. وصدقتنا (صفوة المذهب).
(2) في الأصل: يجيبها.

(13/137)


ولو سألت المرأة القاضيَ، واستدعت منه أن يسأل الرجل عن النكاح، حتى إن اعترف هو به، لزمه حكم النكاح، وإن أنكر تعلَّق بإنكاره حكمُ إنكار النكاح، فيجب على القاضي أن يبحث.
ثم قال قائلون: إن ادّعت الصداق، وسألت القاضي أن يسأله عن النكاح، سأله، ولزمته إجابته. وقال طائفة من المحققين: لا يسأله ولا تلزمه الإجابة -إن سأله- حتى تدعي الزوجةُ الزوجية. فإن ادعتها، فحينئذ يراجع القاضي الزوجَ، وإن لم تدع الزوجية، لم يجب على القاضي أن يتعرض لها، كما لو قال رجل -وقد رفع رجلاً إلى مجلس الحكم- اسأله أيها القاضي، هل لي عليه ألف؟ فهذا ليس بدعوى، ولا مبالاة به، وإنما ذكرنا من وجوب مراجعتها ما ذكرناه لجزمها دعواها في الصداق، ثم إذا جزمت دعوى الزوجية، فقد ذكرنا تفصيل دعوى الزوجية في فروع ابن الحداد في آخر النكاح.
8497 - وقد ذكر القاضي أموراً تتعلق بدعوى الزوجية، نذكرها وننظر ما فيها: فإذا ادعت المرأة الزوجية، فاعترف الزوج بها، وأنكر المهر؛ فقد قال: ثبت لها مهر المثل، ولو أراد الزوج أن يحلف، لم يكن له ذلك، والحاكم يقول: لا فائدة لك في الحلف، فإن النكاح العري عن المهر يثبت فيه مهر المثل.
وهذا أمر ملتبسٌ لابد فيه من التفصيل، فنقول: إن قال الزوج جرى النكاح عرياً عن المهر، ولم يدع تفويضاً محققاً على حكم التصريح بإسقاط المهر؛ فموجب ما ذكره ثبوت مهر المثل. وإن نفى المهر، ولم يصف العقد بالعرو عن ذكره، ولكن قال: لا مهر لها؛ فالذي ذكره القاضي: أن قول الزوجة مقبول في دعوى مهر المثل.
وهذا مشكل جداً؛ من قِبل أن النكاح يفرض عقده بأقلّ ما يتمول، وليس شرط انعقاد النكاح أن يكون فيه مهرُ المثل، فكيف الوجه في ذلك؟ وما علة الحكم بثبوت مهر المثل؟ فنقول: وجه ما ذكره: أن النكاح في نفسه -إذا لم يثبت فيه مسمى صحيح - بمثابة الوطء المحرم، فإن الوطء المحرم يتعلق به مهر المثل، فصورة النكاح إذا لم يثبت فيه صداق مسمى، تتضمن مهر المثل، والتسمية وإن كانت ممكنة فإذا لم تثبت؛ فالمرأة مستمسكة بما أصله التزام مهر المثل. هذا تعليل ما ذكره.

(13/138)


وتتمة الكلام فيه أن مهر المثل لا يثبت ما لم تحلف أنها لم ترض بأقل من مهر المثل، ويكفيها أن يغلِّب جانبَها ويحلّفَها، فإنا إذا كنا لا نبعد جريان التسمية، فلا سبيل إلى إثبات مهر المثل بمجرد الاعتراف بالنكاح.
ووراء ما ذكرناه غائلة صعبة سنذكرها بعد نجاز المسائل المترتبة على هذا النسق.
فلو حكمنا مثلاً بمهر المثل، فقال الزوج: ما أصبتها، وطلّقها، فلها نصف مهر المثل، فإن قيل: هلا حملتم الأمر على التفويض، حتى لا يجب لها شيء؟ قلنا: التفويض أمر نادر، فلا يحمل الصداق عليه، وقد بيّنّا أن التفويض لا يثبت ما لم تصرح المرأة بالإسقاط والرضا وبنفي المهر.
8498 - ولو ادعت امرأة على وارث الميت أن أباه نكحها، وأقامت بينة على النكاح، قال: يثبت لها مهر المثل إن ادعته، وحلفت بأنها لم ترض بمسمّىً دون مهر المثل، وإن لم تكن لها بينة على النكاح، وكان الوارث صغيراً، فنقف الخصومةَ إلى أن يبلغ، فإن بلغ وأقر بالنكاح، عاد الأمر إلى ما ذكرناه في المسألة الأولى. وإن ادعى الوارث قدراً من الصداق دون مهر المثل، فإن أقام بينة على ذلك المقدار، لم يكن لها أكثرُ منه، هذا ما ذكره.
8499 - وقد حان أن ننبّه على الإشكال الذي أشرنا إليه فنقول: إذا ادعت امرأة زوجية على رجل، فاعترف بها، وسكت عن ذكر مقدار المهر، أو قال: لست أدري كم أصدقتها، وزعمت المرأة أنه أصدقها ألفَ درهم، وهو مقدار مهر مثلها؛ فالذي قطع به الأصحاب أولاً: أنها إذا ذكرت مقدار مهر مثلها، وادعت أنه المسمى، وادعى الزوج مسمى دون ذلك، فإنهما يتحالفان، كما قدمناه في صدر الباب.
وقال أبو حنيفة: القول قولها في مهر المثل، فإن ادعت زيادة على مهر المثل، فالقول قول الزوج في نفيها، ولو ادعت المرأة زوجية [ومسمًّى] (1) مساوياً لمهر مثلها، وأنكر الزوج التسمية أصلاً، وذكر أن النكاح جرى عرياً عن المهر؛ فهو
__________
(1) في الأصل: أو مسمَّى. وقد جاءت (صفوة المذهب) بما أثبتناه.

(13/139)


معترِف بما ادعت ثبوتاً، وإن أنكر التسمية؛ فإن موجَبَ إطلاق العقد [من] (1) غير تفويض ثبوتُ مهر المثل.
وإن ادعت المرأة ما ذكرناه، فلم يعارضها الرجل بدعوى تسميةٍ أخرى، ولكنه قال: لست أدري، أو توقف وصمت؛ فظاهر ما ذكره القاضي: أن القول قولها مع يمينها، لما ذكرناه من أن النكاح مطلقُه يُثبت مهر المثل، وهذا موضع الإشكال، وهو على الحقيقة مصيرٌ إلى مذهب أبي حنيفة في النظر إلى مهر المثل. والذي يقتضيه قياس مذهبنا أن دعواها موجهةٌ بالمقدار الذي ادعته على الزوج، فإن تردد لم تمنع منه بتردده؛ وحلّفناه، فإن نكل عن اليمين المعروضة رددنا اليمين عليها، فتحلف يمين الرد.
وإن كانت المسألة مفروضة في المرأة ووارث الزوج، فالوارث لا يطالَب إلا باليمين على نفي العلم، فإذا ادعت تسميةَ ألف، وهو بمقدار مهر مثلها، فأنكر الوارث العلم به، وحلف على نفي العلم؛ فمذهب القاضي ما ذكرناه، وهو على قياس قولنا مشكلٌ. والذي يقتضيه القياس الحكمُ بانقطاع الخصومة، والقدر الثابت على قطعٍ: هو أقل ما يُتموّل، وفيه من التردد ما أجريناه في مسائلَ جمّةٍ، وهذا منتهى ما أوردناه في ذلك.
8500 - ومما ذكره القاضي متصلاً: أن الرجل إذا أشار إلى مولود، وقال: هذا ولدي، ولم يقل هذا ولدي من هذه، [فالتي] (2) تزعم أنها والدته لا تستحق المهر بهذا المقدار. وإن قال: هذا ولدي منها، قُضي لها بمهر المثل، لأن النسب إنما يلحق في نكاح أو وطء شبهة، وأيُّ ذلك كان وجب مهر المثل.
وهذا بناه على أن النكاح المطلق محمول على اقتضاء مهر المثل، [وقد] (3) ذكرنا ما فيه؛ فإنَّ التسمية ممكنة دون مهر المثل، وإنما يجري هذا لو كان الزوجان
__________
(1) سقطت من الأصل. وهو كما أثبتناه في (صفوة المذهب).
(2) في الأصل: فالذي.
(3) في الأصل: فقد.

(13/140)


لا يتحالفان إذا ادَّعى الزوج تسمية ما هو أقل من مهر المثل.
ثم قال القاضي: لا يحمل استلحاق النسب على استدخالها ماء الزوج " فإنَّ ذلك نادر، والعلوق منه أندر منه؛ فلا يحمل الأمر عليه. وقد انجلى الفصل مع التنبيه على كل مُشكل.
***

(13/141)


باب الشرط في المهر
8501 - نقل المزني عن الشافعي مسألتين متشاكلتين في الصورة، وأجاب فيهما بجوابين مختلفين، ونحن ننقل لفظيهما. قال: قال الشافعي: " وإذا عقدَ النكاحَ بألف على أن لأبيها ألفاً، فالمهر فاسد؛ لأن الألفَ ليس بمهرٍ [لها] (1)، ولا بحقٍّ له باشتراطه إياه.
ولو نكحَ امرأةً على ألف، وعلى أن يُعطي أباها ألفاً، كان جائزاً، ولها منعه وأخذها (2) منه، [لأنها هبةٌ لم تقبض،] (3) أو وكالة " (4)
هذا لفظ [السواد] (5). وليس يخفى تشاكل (6) المسألتين في التصوير. وجوابه في الأُولى: إنَّ المهرَ فاسدٌ. وجوابه في الثانية: إنَّ ذلك جائزٌ. وقد اختلف أصحابنا مذهباً، فنذكر اضطرابَهم في المذهبِ أولاً، ثم نرجع إلى (السواد).
فمن أصحابنا من قال: إذا عقد النكاح بألف على أنَّ لأبيها ألفاً، فالمهر فاسد، كما نَصَّ عليه. َ والمسألة مفروضة فيه إذا كان عقدُ النكاح على اللفظ الذي صورناه.
ولو قال: نكحتُها على ألفٍ، وعلى أن أُعطي أباها ألفاً، فالمهر فاسدٌ أيضاً؛ إذ لا فرق أن يقول: على أنَّ لأبيها ألفاً، وبين أن يقول: على أن أعطي أباها ألفاً.
__________
(1) في الأصل: " له ". والتصويب من المختصر.
(2) وأخذها: أي الألف.
(3) في الأصل: لأنه لم يقبض.
(4) ر. المختصر: 4/ 32.
(5) في الأصل: " الشواذ ". وهو تصحيف بالنقط. وتكرر هذا اللفظ مراراً (بالسين المهملة، والدال المهملة كذلك) وقلنا: إن معناه: مختصر المزني. فهذا اسمه الذي يطلقه عليه الإمام، وهو وارد في الاستعمال الفصيح بمعنى الأصل أو المتن، ولكنه غير منصوص في المعاجم.
(6) تشاكل: أي تشابه.

(13/142)


فأما إذا قال: نكحتها على ألفين، على أنْ أُعطي أباها ألفاً، فهذا فيه نظر، فإنْ قال: ذلك بأمرها وإذنها، فلا يبعدُ تصحيحُ المهرِ. فكأنه أصدقَها مِقْداراً صحيحاً، وضم [إليه] (1) التزام عملٍ لها، قريب المأخذ (2).
ثم هي -كما قال الشافعي-: واهبةٌ، أو واعدة، أو موكِّلة بالهبة، والنظر في ذلك مجتمِع غيرُ منتشر.
ولو شرط الزوجُ عليها أن تهب من أبيها ألفاً، فهذا فاسد مفسد؛ فإنه ملَّكَها وحَجَر عليها. ثم ما ذكره هذا القائل لا يختص بألف من ألفين يذكرهما، بل لو أصدقها ألفاً على أن تسلمه إلى أبيها على التأويل الذي ذكرناه، فالجواب كما ذكرناه.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان. وقد نقلهما المزني في مسألتين متشاكلتين، بين لفظيهما أدنى تفاوت، وقد مضت صورةُ المسألتين. فأحد القولين: إنَّ المهرَ يفسدُ، وتوجيهه بَيِّنٌ، فإنه شَرَطَ شيئاً في العِوض لغير المستحِق في العقد، فكان كما لو اشترى شيئاً وشَرَطَ شيئاً في معرض الثمن لغير البائع. والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في القديم- إنَّ المهرَ يصحُّ، وتستحق المرأةُ الألفين. وهذا القائل يقول: ذَكَر الزوجُ الألفين في لفظين وأثبتهما لأجلها، وكانا حقَّها، وإن أضاف أحدَهما إلى أبيها. وهذا بعيد جداً لا اتجاه له في وجه من الرأي.
8502 - فإذا ثبت ترتيب المذهب؛ فالذي ذكره المزني مشكلٌ في المسلكين. أما على الطريقة الأولى، فلا شك في اضطراب المسألة الثانية؛ فإنه لم يقل فيها: أصدقتك ألفين، بل أضاف إليها ألفاً، وأضاف الألف الآخر إلى أبيها. ولا فرق بين
__________
(1) في الأصل: " السه " كذا بهذا الرسم والنقط.
(2) عبارة العز بن عبد السلام عن هذه المسألة: " فإن قلنا بالطريقة الأولى (يعني بطلان الصورتين الواردتين في مختصر المزني) فأصدقها ألفاً أو ألفين على أن يعطي أباها ألفاً بإذنها، فلا يبعد التصحيح لأنه التزم المال والعمل الذي هو الدفع إلى الأب. (ر. الغاية في اختصار النهاية ج 3 لوحة رقم 101 يمين).

(13/143)


أن يضيفه بقوله: على أن أعطي أباها ألفاًً، [وبين قوله: على أن لأبيها ألفاً] (1).
والنصان أيضاً على الطريقة الثانية مضطربان؛ فإنه لم ينبه فيهما على القولين، وأعجب من ذلك كله أنه (2) لم يتعرض للكلام على النصين، ولو استرسل في الاعتراض بخيال يتخيله على بعد (3).
[وأما الطريقة الثالثة] (4): طريقة القولين، [فمسلك] (5) التصحيح على غاية البسط (6) [؛ لأن] (7) الزوج لا يضيف إلى أبيها ما يضيف إلاَّ تشبيهاً، وهذا يتضمن إثبات الألفين جميعاً لأجلها، فكان هذا بمثابة إضافة الألفين إليها. وهذا القياس يقتضي أن نُجري القولين في البيع لو تصور بالصورة التي ذكرناها في النكاح.
وسمعت شيخي يحاول تقرير المسألتين، ويتكلف الفرق بينهما، ويقول: لفظ العقد في المسألة الأولى: " أن يقول: نكحتها بألف على أنَّ لأبيها ألفاًً "، يتضمن (8) تمليك الأب الألف في وضع العقد؛ فكان ذلك فاسداً. وإذا قال: أصدقتكِ ألفاً على أن أُعطي أباكِ ألفاًً، فمن حمل الإعطاء على التسليمْ، والملك في المعطَى للمرأة، فليس لفظ العقد تمليكَ الألف للأب.
وهذا تكلف لا نتحصل منه على طائل؛ فإنَّ الألف الثاني إذا لم يضف إليها، فقد تخبط اللفظ فيه، ثم " أُعطي " (9) المقرون بـ " على " للتمليك، وستأتي -إن شاء الله تعالى- مسائلُ الخلع شاهدة على ذلك.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) أنه لم يتعرض للكلام على النصين: المراد المزني؛ فإنه أورد النصين في المختصر ولم يتكلم عليهما.
(3) هنا بياض بالأصل قدر أربع كلمات. ولذا لا نجد جواب (لو) في قوله: " ولو استرسل ".
(4) ما بين المعقفين زيادة من المحقق على ضوء السياق، ولا يستقيم الكلام بدونها.
(5) في الأصل: فسلك.
(6) غاية البسط: أي غاية الوضوح.
(7) في الأصل: والآن.
(8) في الأصل: ويتضمن. (بزيادة الواو).
(9) ثم اعطي المقرون بعلى: المعنى أن لفظ أُعطي إذا اقترن بلفظ (على) كان مفيداً للتملك.

(13/144)


ولو قال: اشتريت منك هذا العبد على أن أعطيكَ ألفاًً، كان ذلك بمثابة ما لو قال: اشتريت منك هذا العبد بالألف.
فلا وجه عندنا إلا الجري على الطريقة الأولى (1)، وحمل الخلل على النقل؛ فإنه على كل وجه مختل.
فصل
قال: " ولو أصدقها ألفاًً على أنَّ لها أن تخرج، أو على ألاَّ يخرجها من بلدها ... إلى آخره " (2).
8503 - قال الأئمة: الشرائطُ في النكاح قسمان: شرطٌ يقتضيه مُطلقُ العقدِ، وذلك أن يتزوجَها على أن يُنفقَ عليها، أو يَقْسمَ لها، أو ما أشبهَ ذلك، فالذي ذكره صحيح، والشرطُ متضمّنُ العقد.
فأما إذا كان الشرطُ بحيث لا يقتضيه العقد، فإنْ أثَّرَ في مقصودِ النكاحِ أثراً بيِّناً، أفسد النكاح، وذلك مثل أنْ [يؤقِّت] (3) النكاح أو يشترطَ ألاَّ يطأها. وإن اشترط أن يطلقها؛ فالمذهب: فساد النكاح، لتأثير الشرط في مقصود العقد. وذكر بعضُ أصحابنا قولاً: أن الشرطَ يَفْسُد والنكاح يصح، وهذا غير مُعتدّ به.
فلو شرط شرطاً فاسداً لا يعظم أثرُه في مقصود النكاح، مثل أن يشترط ألاَّ يتزوج ولا يتسرى عليها، وأنها تخرج من الدار متى شاءت، وأنه لا يطلقها، فهذه الشرائط تفيدها فوائدَ، وهي فاسدة.
وقد تكون الشرائطُ عليها، مثل أن يشترطَ ألاَّ ينفق عليها ولا يَقْسم لها، ويجمعَ بينها وبين ضرَّاتها في مسكن واحد.
فهذه الشرائطُ لا تُفسد النكاح، ولكنها تُفسد الصداقَ، فإنَّ الصداقَ يَفسُدُ بما
__________
(1) الطريقة الأولى: هي: البطلان في الصورتين اللتين حكاهما المزني.
(2) ر. المختصر: 4/ 33.
(3) في الأصل: يرتب.

(13/145)


تفسد به أعواضُ العقودِ؛ من جهةِ أنَّ العِوضَ إذا لم يتجرّد، وانضمَّ إليه شرطٌ، صار عوضاً وشيئاً مجهولاً، ومساق ذلك يتضمن إفساد الصداق. ثم الفساد من جهةِ الجهالة يوجبُ الرجوعَ إلى مهر المثل، كما مهدناه.
8504 - وقال محمد بنُ الحسن: إن زاد المسمى على مهر المثل [وزادها] (1) بالشرط، لغا الشرطُ، وصحت التسمية، وإن نقص عن مهر المثل، وكان الشرطُ ينقُصُها؛ فيلغو الشرطُ وتصحُ التسمية أيضاًً. وإن زاد في المهر ونقص في الشرط، أو زاد في الشرط ونقص في المهر، فسدت التسمية؛ لأنه زاد في المهر زيادة هي في مقابلة الشرط، فجَعَل الباقي مجهولاً، وإذا نقص المهرُ وزاد في الشرط، جعل الشرط في مقابلة ما نقص من المهر، فصار المهرُ مجهولاً.
وهذا الذي ذكره غيرُ بعيد عن مسلك الفقه، وكنا نَوَدُّ لو كان مذهباً لبعض الأصحاب، حتى كنا نقول: الشرط الزائد مع المهر الزائد أو المنطبق على قدر مهر المثل ليس يعكس جهالةً على المهر، ولكن المعتمد عند الأصحاب أن المشروطَ فاسدٌ مضمومٌ إلى الصداق، والعوض يفسد تارةً بما ينعكس عليه من الجهالة، وتارةً باقترانه بفاسد.
وهذا يتطرق إليه كلام- هو منتهى النظر في المسألة، وهو: أنَّ ما ذكره محمد من أنَّ المهر الزائد أو المنطبق على القدر، لا يصير مجهولاً بالشرط الزائد، فلو كان صحيحاً، لكان يجبُ أن يُقال: إنْ زاد المهرُ ونقصَ الشرط، فالرجوع إلى مهر المثل، وكذلك إن نقص المهرُ وزاد الشرط، أو زادا ونقصا، فسد المهرُ بالاقتران، ولكن لا يقطع القول بأن الرجوع إلى مهر المثل. ويجوز أن يقال: [لو] (2) أثبت العوض دراهم وشرطاً، وذلك الشرطُ مجهولُ الأثر، وهما جميعاً مهر، فكان الرجوعُ إلى مهر المثل لذلك.
فهذا منتهى البحث، وقد ناقض محمد ما قاله في الصداقِ في البيع، فقال: لو باع ما يساوي ألفاًً بألفين وزقِّ خمر، وقبض المبيع، وتلف في يده؛ فإنه يغرم القيمة، وليس للبائعِ أن يقول: اطرحْ الزقَّ من ألفين ليصح العقدُ بالألفين.
__________
(1) في الأصل: وزاها.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(13/146)


فصل
قال: " ولو أصدقها داراً، فاشترط له، أو لها، أو لهما الخيار ... إلى آخره" (1).
8505 - نصّ الشافعي هاهنا على أن شرطَ الخيارِ يُفسدُ الصداقَ ولا يُفسدُ النكاحَ.
ونصَّ في القديم على أنَّ شرط الخيار في الصداق يُفسد النكاح.
فمن أصحابنا من حمل ما قاله في القديمِ على ما إذا شرط الخيار في النكاح نفسِه، حتى يثبت التخيير في رفعه على حكم الرؤية، فأما إذا خصَّص الصداق بالخيار، فلا يفسد النكاح، قولاً واحداً.
ومن أصحابنا من قال: إذا خصّص الصداق بالخيار، ففي المسألة قولان: أحدهما - إنه يبطلُ النكاحُ به، كما لو شرط في النكاح. والثاني - لا يبطل، كسائر الشروط الفاسدة في الصداق.
ثم إن قلنا: يبطل النكاحُ بشرط الخيار في الصداق، اختلف أصحابنا، فمنهم من عدّى هذا إلى كل شرطٍ فاسدٍ في الصداق، فطرد قولاً مثلَ مذهب مالك (2) في النكاح يفسد بفساد الصداق، ولا خلاف أن النكاح لا يفسد بالتعرية عن العوض، ولا خلاف أن النكاح لا يرتد برد الصداقِ بالعيب.
ومن أصحابنا من خصَّص القولين بفساد الصداقِ بجهة الخيار، وفرّق [بأن] (3) الخيار في [صيغته،] (4) وإن خُصّ بالصداق يتضمن الارتباط بالعقد الذي الصداق عوضٌ فيه، وشَرْطُ الخيار في أحد العوضين في البيع يتعدى إلى العوض الثاني، فإن كان الخيارُ في وضعه قابلاً للتخصيص؛ إذ لو خصّ بأحد المتعاقدين، لاختصّ به، فمع هذا لم يختص بأحد العوضين.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 33.
(2) ر. جواهر الإكليل: 1/ 309، القوانين الفقهية: 205، والإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 714 مسألة 1290، وفيه أن في المسألة روايتين.
(3) في الأصل: بين.
(4) في الأصل: صيغه.

(13/147)


8506 - ووراء ما ذكرناه طريقة أخرى مبنية مناسبة (1)، ذكرها الصيدلاني في كتاب البيع، وهو أنَّ شرط الخيار صحيح [في الصداق وفي خيار المجلس في ذلك قولان] (2) ووجه خروج ذلك على القياس أن الصداقَ يتطرقُ إليه الردود والنكاحُ قائم بحاله.
8507 - فإذا تمهَّد ما ذكرناه انتظمَ بعد ذلك الترتيبُ، فنقول (3): في صحة الخيار في الصداق قولان. ولا خلاف أنَّ الخيارَ في النكاحِ نفسِهِ يُفسده، فإن صحَّحنا الخيارَ في الصداق، فلا كلام، وأثر الرد والإجازة يختص بالصداق.
وإن أفسدنا الخيارَ في الصداق، فهل يفسد النكاحُ به؟ فعلى قولين أصحهما: إنه لا يفسد. وإن أفسدنا النكاح به، فهل يفسد النكاحُ بسائر وجوه فساد الصداق سوى الخيار؟ فعلى وجهين.
8508 - ثم قال الشافعي: " ولو ضمن أبُ الزوجِ نفقتَهَا عشر سنين ... إلى آخره " (4).
فرض الشافعي المسألة في ضمان الأب، ولا اختصاص به، فلو فُرِض الضمانُ
على هذا الوجه من أجنبي، لكان كذلك.
وعرض المسألة أنَّ من ضمن النفقةَ في أيامٍ معدودة في الاستقبال وأعلَمَها، فهذا ضمان ما لم يجب بعدُ ووُجد سببُ وجوبه، وفيه الخلاف المعروف، والترتيب في الجديد والقديم، وقد ذكرناه في أول كتاب الضمان، وفي معناه إبراؤها عن نفقة أيام معدودة، ولسنا لإعادةِ تلك الفصول، وقد جرت على أكمل وجه في البيان في موضعها.
...
__________
(1) كذا. "ولعلها قياسية".
(2) عبارة الأصل: " في الصداق في ذلك، وخيار المجلس في ذلك قولان ". ولا يخفى ما فيها، وطريقتنا في تصحيحها.
(3) في الأصل: ونقول.
(4) ر. المختصر: 4/ 33.

(13/148)


باب عفو المهر
8509 - وقد تقدم أنَّ الزوجَ إذا طلق امرأتَه قبل المسيس، وقد جرى مُسمًّى صحيح، فإنه يتشطر. والمعتمد في ذلك قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. وقد تكلموا في قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]؛ فإنها استحقت الجميع بالعقد، ثم عاد النصف بالطلاق، قيل (1): التقدير فنصف ما فرضتم لهن، ثم إذا اختص الاستحقاقُ في جانبها بالنصف، ارتدّ النصفُ الآخرُ إلى الزوج.
وقيل: المذكور النصف [لكن بغرض التثنية] (2) على النصفين، والمعنى: فنصف ما فرضتم لكم والنصف لهن.
8510 - ثم قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أراد به الزوجاتِ يعفون عن المهر، فيخلص الكل للأزواج، {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]. وقد اختلف القولُ في الذي بيده عُقدة النكاح: فقال في القديم: هو الولي، وبه قال ابنُ عباس، ورجَّح الشافعي هذا القولَ في القديم من أوجه: أحدها - أنَّ قول ابنِ عباس مقدم [في] (3) التفسير؛ لأنه ترجمان القرآن وقد قال صلى الله عليه وسلم وهو يمسحُ
__________
(1) في الأصل: وقيل.
(2) ما بين المعقفين محاولة لإقامة النص مع الاحتفاظ بأقرب صورة للكلمات الواردة في الأصل، وعبارة الأصل هكذا: " وقيل المذكور النصف لو ـعرص الـ ـسه على النصفين" (انظر صورتها) هذا. وقد راجعت المسألة في الأم، وأحكام القرآن للشافعي، والشرح الكبير، والروضة ومختصر العز بن عبد السلام، فلم أجد ما يفيد في تصحيح العبارة. (والكتاب ماثل للطبع حصلنا على هذا الجزء من مختصر ابن أبي عصرون، والحمد لله صدّق تقديرنا، فقد وجدنا العبارة عنده كما تصوّرناها، فلله الحمد والمنة).
(3) زيادة من المحقق.

(13/149)


رأسَهُ بيده -وكان إذ ذاكَ صبياً-: " اللهم فَقِّههُ في الدين، وعَلمهُ التأويل " (1).
ومما ذَكَرهُ أنه تعالى قال: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فكان ذلك راجعاً إلى عفو يخلص به الصداق للزوج ليكون المعفوّ واحداً، وأيضاًً فإنَّ قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فإنَّ (2) ذِكْرَ الزوج جرى على صيغةِ المخاطبة، وقوله: {أَوْ يَعْفُوَ} على صيغة المُغايبة، ولا يحسن عطفُ المغيابة على المخاطبة في حق شخص واحد.
والقول الثاني -وهو المنصوص عليه في الجديد- إنَّ الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، وروى الشافعي هذا عن علي، وابنِ جريج (3)، وابنِ المسيب، وغيرهم.
وأيضاًً فإنَّ الله تعالى ذَكَرَ خلوص الصداق له بعفوها، ثم عطف هذا عليه، فظهر أنَّ المرادَ عفوٌ يخلصُ به الصداق لها.
اشتملت الآية على ذكر الخلوص من الجانبين، وذكر التشطر والانقسام على الجانبين، وقد قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} والأقرب للتقوى عفوُ الزوجِ، فأما عفوُ الأب عن حقِّ ضعيفةٍ، فلا يتَّصف بهذه الصفة. وقوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} خطاب لهما.
8511 - فهذا ذكرٌ للقولين على صيغة التردد في التفسير، وثمرتهما اختلافُ القول في أنَّ الولي هل يملك الإبراء عن صداقِ ولِيَّتِهِ؟ وفيه قولان: الجديد -إنه
__________
(1) حديث: " اللهم فقهه في الدين ... " رواه مسلم مقتصراً على لفظ: " اللهم فقهه " (مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ح 2477) وأما بالألفاًظ التي ساقه بها إمام الحرمين، فقد رواه أحمد في مواضع كثيرة من (المسند، منها: 1/ 266، 314).
(2) في الأصل: " وأيضاًً، فإن ذكر الزوج جرى على صيغة المخاطبة ... ".
(3) ابن جريج، عبد الملك بن عبد العزيز، أبو الوليد، وأبو خالد، فقيه الحرم المكي، كان إمام أهل الحجاز في عصره، أول من صنف تصانيف العلم بمكة، رومي الأصل، من موالي قريش، مكي المولد والنشأة. توفي سنة 150 هـ. (ر. تاريخ بغداد: 10/ 400، وصفة الصفوة: 2/ 122، وتذكرة الحفاظ: 1/ 160، ووفيات الأعيان: 3/ 163، وتهذيب التهذيب: 6/ 402. وانظر الأعلام للزركلي).

(13/150)


لا يَملك. وهو مذهب أبي حنيفة (1). ووجهه في القياس لائح؛ فإن الصداقَ مالٌ من أموالها، فلم يملك الأبُ إسقاطَه كسائرِ أموالِها.
والقول القديم: إنه يملك الإسقاط؛ لأنه أكسبها هذا المال في مقابلة البضع، ثم رجع البضعُ إليها، وهو على كمالٍ من الشفقة، ولا يُنكَر في جهات الاستصواب إسقاط المهر، فإذا صدر ممن كملت شفقته، كان محالاً على النظر.
التفريع (2):
8512 - إنْ منعنا العفوَ، فلا كلام. وإنْ جوزناه، فنفوذه مشروط بخمسة أشياء، أحدها - أن يكونَ الولي أباً أو جَدَّاً؛ إذْ لا مُجبر غيرهما.
والثاني - أن يفرض العفوُ قبل الدخول؛ فإنَّ المهر إذا تأكد بالدخول، فقد تحقق فواتُ البضع، ولأجله استقر العوض. فإنْ كُنا نتلقى إسقاطَ المهرِ من حملِ قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} على الولي، فالعفوُ واردٌ في شطرِ الصداق، إذا فُرض وقوع الطلاق قبل الدخول.
والشرط الثالث - أن يكون العفوُ بعد الطلاق، أو يقعُ الاختلاعُ به؛ والسبب فيه اختصاص الآية أولاً بما بعد الطلاق، ومعتمد هذا القول الاتباع، وأيضاًً فإنها تبقى في أسر النكاح، فلو سقط مهرُها وهي [باقية] (3) في الزوجية، والزوج ربما يستمتع بها- فيفوت بضعها مجاناً.
والشرط الرابع - أن يكون الصداقُ دَيناً، فلو كانَ عيناً، لم يجز للولي هبته من الزوج. هذا ما صار إليه معظم أئمة المذهب، وتمسكوا بظاهر العفو؛ فإنه مُشعِرٌ بالإبراء، وأيضاًً فإنَّ الملكَ لا يستقر في الدين استقراره في العين. وكان شيخي أبو محمد يرى للولي على هذا القولِ هبةَ العين؛ اعتباراً بالإبراء عن الدين، وهو
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 2/ 290، حاشية ابن عابدين: 2/ 290، ومختصر اختلاف العلماء: 2/ 263 مسألة رقم: 734.
(2) في الأصل: والتفريع.
(3) في الأصل: ـ ـه في الزوجية.

(13/151)


متجهٌ لا بأس به، وكان يُجَوِّزُ [الاختلاعَ] (1) على عين الصداق؛ اعتباراً بالدين. والصحيحُ ما صار إليه الجماهير.
والشرط الخامس - أن تكون صغيرةً عاقلةً بحيث يُرْغَبُ في مثلها، فإن كانت مجنونةً، فحكمها حكم الصغيرة العاقلة، وقالت المراوزةُ: لا ينفذ الإبراء عن مهر المجنونة؛ لأنه لا يُرغب فيها، وكأنَّا إنما نُجوّز اختلاعَ الصغيرة بمهرها، والإبراءَ بعد الطلاق؛ حتى يُرغب فيها، وهذا المعنى مفقود في المجنونة التي لا يتشَوَّفُ الخُطَّابُ إليها.
8513 - ولو كانت ثَيِّبا بالغةً، فلا شك أن الأب لا يبرىء عن مهرها.
وإنْ كانت بكراً بالغة -والتفريع على تنفيذ إبراء الولي- هل ينفذ إبراؤه عن مهر البكر العاقلة؟ فعلى قولين: أحدهما - ينفذ، لملكه عُقدةَ النكاح؛ فإنه يملك إجبار البكر بالغة.
والثاني - لا ينفذ إبراؤه؛ فإنَّ الولاية إن كانت مستمرة على البضع، فلا ولايةَ للأب على مالها، وصداقُها من مالها.
وهذا يقرب مما قدمناه قبلُ من أن الأب هل يملك الانفراد بقبض مهر البكر البالغة السفيهة كالبكر الصغيرة، لثبوت الولايتين عليها؟
والصغيرةُ إذا ثابت بوطء شبهة، وإنما صورنا وطء الشبهة حتى لا يتقرر المهر بفرض المسيس من الزوج، فإذا ثابت الصغيرة تحت زوجها كما ذكرناه، فقد صارت إلى حالة لا يملك الأبُ تزويجَها فيها قهراً حتى تبلغ، فتأذن.
فقال أئمةُ المذهب: إذا كانت كذلك، لم يملك الولي إسقاطَ مهرها؛ فإنه لا يملك إجبارَها، وليس بيده عقدةُ نكاحها. وأبعدَ بعضُ أصحابنا بأن جوّز للأبِ أو الجدِّ العفوَ عند الطلاق أو بعده إذا كانت صغيرةً؛ نظراً إلى نفاذ ولايته في مالها، وهذا ضعيف، غيرُ معدود من المذهب؛ فإن ولايةَ المالِ لا تسلِّط على العفو والإسقاط، وإنما المتبع ما يُشعر به ظاهرُ القرآن، وهو يشير إلى ملك عقدة النكاح، والثيب الصغيرة في حق الأب بمثابة الثيب البالغة في التزويج.
__________
(1) في الأصل: الاطلاع.

(13/152)


فصل
قال: " وأي الزوجين عفا عما في يده، فله الرجوع ... إلى آخره " (1).
8514 - هذا الفصل وفصول بعده تشتمل على مُكرَّرات، ونحن [نوفّر] (2) لها جهدَنا والتنبيهَ عليها من غير بسط.
وهذا الفصل مفروض في وقوع الطلاق قبل المسيس وتشطّرِ الصداق، ثم إذا تشطر الصداق، عيناً كان أو ديناً، يترتب عليه حكم الهبة والإبراء، فإن كان عيناً فالنصف له والنصف لها، فإن وهبت ما هو لها من زوجها، لم يخف تفريعُ الهبات، فإن كان في يدها سلَّمَته، وإن كان في يده، نُفرّع فيه ما إذا وهب مالكُ الوديعة من المودَع، وعاد التفصيل وإعادة القبض، وفيه اختلافُ قولٍ وتفصيلٌ طويلٌ تقصَّيناه في موضعه.
وإن وهب الزوجُ ما ارتدّ إليه منها، فالأمر كذلك.
وإن كان الصداقُ ديناً وسقط شطرُه، وبقي لها الشطرُ فأبرأت، فلا يخفى حكم الإبراء، والظاهر أنه لا يفتقر إلى القبول وفيه وجه بعيد ذكرناه.
8515 - والذي نذكره في هذا الفصل أنَّ الهبةَ مستعملة في الأعيان، ولفظ الإبراء لا يستعمل في تمليك الأعيان، والعفو مختلف فيه، فالذي ذكره معظم المحققين: أن الهبة في الأعيان لا تصح بلفظ العفو؛ فإنه في معنى الإبراء.
وذكر القاضي أن العفو يجوز استعماله في الهبة، وظاهر قوله [فيما] (3) نقل عنه يدل على أن استعمال العفو في الهبة يختص بالصداق فيما يدور بين الزوج والزوجة، أو يصدرُ من الولي، على أحد القولين، فاستدلّ في هذا بظاهر قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فذكر الله تعالى لفظ العفو مع انقسام الصداق
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 34.
(2) في الأصل: نؤثر.
(3) في الأصل: فيها.

(13/153)


إلى العين والدين، والألفاظ قد يأخذ بها صاحبُ المذهب من الشرع، وعليه بناء صرائح الطلاق.
وهذا الذي ذكره لم يرتضه غيره، وقالوا: ليس المرادُ بذكر العفو في القرآن [التنبيه] (1) على اللفظ الذي يستعمله الزوجان، وإنما المراد أنْ يتركَ كلُّ واحد منهما حقَّه، ثم طريق الترك فيه موكول إلى بيان الشرع. ثم لو صح ما ذكره في الصداق، للزم طرده في سائر الهبات.
8516 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنا إذا لم نر الإبراء والعفو من ألفاظ الهبات في الأعيان، فهل يلتحقان بالكنايات؟
وقد قدمنا تفصيلاً في أنَّ عقودَ التمليك هل تنعقدُ بالكنايات إذا كانت مفتقرة إلى الإيجاب والقبول؟
قال شيخي: الإبراء ليس كنايةً أيضاًً في هبة الأعيان، فإنه لا يتضمن تمليك الغير، وإنما معناه إسقاط المُبرِىء في حقَّ نفسه، وعماد الهبة تمليك المتّهب، وهذا متجه حسنٌ، لا يجوز غيره، وفي كلام القاضي ما يدل عليه أيضاًً.
وإذا كان الصداق ديناً، فاستعمل الإبراءَ، فهل يشترط القبول في الإبراء؟ وهل يشترط القبول إذا جرى الإبراءُ بلفظ الهبة؟ ففي المسألة وجهان. وهذا منتهى المراد في هذا الفصل.
فصل
قال: " ولو وهبت له صداقَهَا، ثم طلقها [قبل أن يمسّها] (2) ففيها قولان ... إلى آخره " (3).
8517 - إذا أصدقَ الرجلُ امرأته عيناً من الأعيان وسلّمها، ثم إنها وهبت عين الصداق من الزوج، وسلّمته إليه، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، والصداق قد عاد
__________
(1) في الأصل: المبينة.
(2) ساقط من الأصل. وأثبتناه من المختصر.
(3) ر. المختصر: 4/ 34.

(13/154)


إليه بهبتها، فهل يرجع عليها بنصف قيمة الصداق؟ فعلى قولين منصوصين: أحدهما - يرجع [عليها] (1)؛ لأن الصداق عاد إليه بتمليكٍ منها، فصار كما لو [باعته منه] (2) ثم طلقها.
والثاني - لا يرجع عليها؛ لأنها عجّلت ما كان يستحقه عليها مؤجَّلاً بالطلاق، والمستحَق في المال إذا عُجّل، لم يبعد وقوعه الموقعَ عند دخول وقت الاستحقاق، كالزكاة إذا عُجّلت.
والأقْيس القول الأول؛ فإن العَوْد إلى الزوج، لم يكن عن جهة تعجيل حق الزوج (3) في الشطر.
ولو قدمت إليه الصداق زاعمة أنَّ نصفَه هبةٌ ونصفَه تعجُّلٌ لما يجب للزوج عند الطلاق، فلا يصح من الزوج التصرف في الشطر المعجل، ولا يصح التمليك فيه؛ فإنه على الحقيقة تعليق تمليك بما سيكون، ولا يقبل التمليكُ التعليقَ على أمرٍ منتظر.
وإذا رجع الصداقُ إلى الزوج ببيعِ محاباة، [فإنه] (4) يرجع عليها بنصف قيمة الصداق عند الطلاق؛ [فإنّ] (5) المحاباة في معنى الهبة، في كونها تبرعاً، على ما كان يذكره شيخنا، ولم أرَ في الطرق ما يخالفه؛ والسبب فيه أنا وإن كنا نعد بيع المحاباة من التبرعات، فالمبيع مقابَلٌ بالثمن وإن قلّ، وإذا كان مقابلاً به، استحال انصرافه إلى جهة استحقاق الزوج شطر الصداق عند الطلاق.
8518 - ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من القولين لا يختصان بالطلاق، بل إذا وهبت الصداق، ثم جرى ما يوجب ارتداد جميع الصداق إلى الزوج، كالردة، ففي رجوع الزوج عليها بتمام القيمة القولان.
فلو باع رجلٌ عبداً بجارية، ثم وهب قابضُ الجاريةِ الجاريةَ من قابض العبد، ثم
__________
(1) في الأصل: إليها.
(2) في الأصل: اشترته منه.
(3) في الأصل: تعجيل حق الزوج حق في الشطر.
(4) في الأصل: وإنه.
(5) في الأصل: وإن كانت المحاباة في معنى الهبة.

(13/155)


اطلع [قابض] (1) العبد على عيب قديم به، فردَّه، فهل يرجع على بائع العبد بقيمة الجارية؟ فعلى القولين، والمسائل متناظرة في جريان القولين فيها.
ثم رأيت في مرامز كلام الأصحاب تردداً لطيفاً في أنَّا إذا قلنا: لا يملك رادّ العبد الرجوعَ بقيمة الجارية، فهل يملك رده؟ وإن ردّ، فهل ينفذ ردُّه أم لا؟ وهذا محتمل حسن، وهذا من جهة أن [الغرض] (2) من الرد استرداد العوض، فإذا لم يثبت له حقُ الاسترداد، ففي رده بُعْدٌ، وليس هذا كالطلاق؛ فإنه لا مرد له، والفسوخ التي أُثبتت في النكاح ليس مقصودُها استردادَ الصداق، [فما] (3) ذكرناه من التردد في الرد بالعيب في المبيع.
8519 - وما ذكرناه فيه [إذا كان الصداق عيناً، أما] (4) إذا كان الصداق ديناً، فأبرأت زوجها، ثم طلقها الزوج قبل المسيس، فهل يرجع عليها بنصف الصداق؟
في المسألة طريقان: من أئمتنا من جعل فيها قولين كما في العين، ومنهم من منع الرجوع عليها عند الطلاق قولاً واحداً، وفرَّق بين العين والدين بأنها إذا أبرأت، لم تستوف الصداق، ولم يستقر ملكها فيه، بل أسقطته، وفي العين استقر ملكها. وكان شيخنا يقرب الطريقين في القطع وطرد القولين من اختلاف الأصحاب في أنَّ الإبراء: هل يفتقر إلى القبول أم لا؟
ولو كان الصداق ديناً، فأبرأت زوجها بلفظ الهبة، وحكمنا بأنه يفتقر إلى القبول، فهذا مرتب على الإبراء. والفرق اقتضاء الهبةِ التمليكَ، فكأنها ملّكت زوجها ما عليه.
فإنْ قيل، كيف سبيل الهبة في الدين، وركن الهبة القبض [وأين القبض] (5) في
__________
(1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(2) في الأصل: العوض.
(3) في الأصل: "فيما".
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

(13/156)


الديون؟ قلنا: إذا وهب مستحقُّ الدين [الدينَ] (1) ممن عليه، فلا حاجة إلى تقدير القبض في هذه الحالة، ونحن قد نُبرم هبات من طريق آخر، كتقديرٍ من غير إجراء قبضٍ حسي، وكما أن القبض ركن التمليك في الهبة، فإنه يتعلق به حكم نقل الضمان، ثم إذا كان لرجل على رجل دين، فاعتاض عنه عيناً، فحكم الدين أن يسقط، ويكون كالعوض المقبوض المتلف في يد مستحقه.
ولو أصدق الرجل امرأته ديناً، ثم نقد ووفّى، فلما قبضت وهبت من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، ففي هذه المسألة طريقان على العكس: إحداهما - القطع بأن الزوج يرجع عليها. والأخرى - طرد القولين.
8520 - فيترتب مما ذكرناه ثلاثة أحوال: إحداها- فيه إذا كان الصداق عيناً، فجرت الهبة، ثم الطلاق، وفيها القولان.
والثانية - أن يكون الصداق ديناً، فتبرىءَ عنه، ثم يجري الطلاق قبل المسيس، وفيها طريقان، إحداهما - القطع بأنه لا رجوع عليها.
والحالة الثالثة - أن يكون الصداق ديناً، فيوفرَه الزوج، ثم إنها تهب ما تقبض، ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بأنه يرجع عليها إذا طلقها.
ثم إذا كان الصداق في الذمة، ففُرض النقدُ، والهبة، والطلاق؛ فلا فرق بين أن يكون من ذوات الأمثال، وبين أن يكون من ذوات القيم. هذا كله إذا عاد جميع الصداق إلى يد الزوج، ثم فرض الطلاق قبل المسيس.
8521 - فأما إذا أصدقها عيناً وسلّم إليها، ثم إنها وهبت نصف ذلك الصداق من زوجها، ثم طلقها قبل المسيس، فهذا يترتب على ما إذا عاد جميعُ الصداق إليه، ثم طلقها:
فإنْ قلنا: إذا رجع الجميع إليه، فإنه يرجع عليها بنصف القيمة إذا طلقها، فهاهنا نُثبت له حقَّ الرجوع في النصف لا محالة.
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها إقامة العبارة.

(13/157)


ثم في كيفية الرجوع أقوال: أحدها - إن حق الزوج ينحصر في النصف الباقي في يدها، ويتعين الموهوب من حقها، وهذا كما قال الشافعي في الزكاة: إذا أصدقها أربعين شاة، وأخذ الساعي منها واحدة، ثم طلقها قبل المسيس، رجع عليها بمقدار عشرين شاة مما بقيت في يدها، ويتعين ما أخرجته من حقها. وكما قال في التفليس: إذا اشترى عبدين بمائتين، وقضى مائةً، وتلف أحد العبدين، ثم فُلّس، [وكانت] (1) قيمتاهما متساويتين، فإذا رجع البائع، انحصر حقه في العبد القائم، وهذا القول يعرف بقول الحصر.
والقول الثاني - إنه يرجع في نصف الباقي وربع قيمة الجملة، فيشيع ما أخرجته وما [أثبتته] (2) فيحصل للزوج مقدار النصف عيناً وقيمةً. و [هذا] (3) القول يُشْهر بقول الشيوع.
والقول الثالث - إنه بالخيار بين ما ذكرناه في القول الثاني، وبين أن يرجع في نصف (4) العين كلها.
وقد نصَّ الشافعي على القولين الآخرين في مسألةٍ في الصداق، وهي إذا أصدقها إناءين، فكسرت أحدَهما، ثم طلقها، نص على قولين: أحدهما - إنه يرجع في نصف الإناء الصحيح ونصف قيمة المنكسر، والثاني - إنه بالخيار بين هذا وبين أن يرجع في نصف قيمة الإناءين. والقولان المذكوران في مسألة الإناءين إذا انكسر أحدهما يمكن بناؤهما على تفريق الصفقة في الرد بالعيب إذا اشتملت الصفقة على عينين، ثم اطلع على عيب بأحدهما. ثم الأقوال الثلاثة تجري في مسألة إصداق أربعين شاة، وفي كل ما يناظر ذلك. وفي المسألة بحث سنذكره عند نجاز المنقول.
8522 - قال الأئمة: لو وهبت المرأةُ النصفَ من أجنبي، ثم طلقها الزوج قبل
__________
(1) في الأصل: فكانت.
(2) وما أثبتته: أي أبقته في يدها. هذا. وقد قرأنا هذا اللفظ بصعوبة بالغة، على ضوء صورة الحروف المضطربة (انظر صورتها).
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: " ... في نصف مهر العين كلها ".

(13/158)


المسيس؛ فإنه يرجع في النصف، ثم في كيفية التوزيع والحصر والشيوع والتخيير الأقوال الثلاثة.
8523 - وكل ما ذكرناه تفريع على قولنا: جميع [] (1) الصداق إذا عاد إليه، ثم طلقها، فإنه يرجع عليها بالنصف.
فأما إذا قلنا: لو رجع جميع الصداق إلى الزوج من جهتها، لم يرجع عليها عند الطلاق بشيء، فإذا وهبت منه النصف، ثم طلقها، ففي المسألة جوابان على الحصر والشيوع: أحدهما (2) - إنه لا يرجع، فكأنها عجلت يوم الهبة جميع ما كان يستحقه يوم الطلاق.
والوجه الثاني - إنه يملك الرجوع، ثم في قدر ما يرجع فيه جوابان: أحدهما - إنه يرجع في نصف ما بقي في يديها، وهو ربع الجملة، ونجعل الفائت بالهبة من الحقين النصف من حقه والنصفُ من حقها، وكأنها عجلت نصف ما كان يستحق عليها؛ لأن الحق شائع. وهذا اختيار المزني.
والثاني - إنه يرجع في تمام النصف، ويتعين حقها فيما وهبت، فتحصَّل أجوبةٌ: أحدها - إنه لا يرجع بشيء، وما قبضه من النصف هبة محسوب عليه.
والثاني - إنه يرجع بنصف الباقي فحسب، وهذا على الإشاعة.
والثالث - إنه يرجع بتمام النصف، وهذا على الحصر.
وتحقيق ذلك: أنَّا في قولٍ نحصر حق الزوج فيما قبض، وفي قولٍ نحصر حقها فيما وهبت، وفي قول نُشيع، فاستكمال الحصر من وجهين يقتضي جوابين: أحدهما - إنه لا يرجع بشيء، والثاني - إنه يرجع بتمام حقه، والإشاعة توجب التبعيض لا محالة.
ثم إذا قلنا إنه يرجع بتمام حقه، ففي كيفية الرجوع الأقوال الثلاثة التي قدمناها:
__________
(1) بياض بالأصل، قدر أربع كلمات، ولكن الكلام مستقيم بدون تقدير أي شيء.
(2) في الأصل: أو لأحدهما. وهو تحريف واضح.

(13/159)


أحدها - إنه يرجع في النصف الباقي. والثاني - إنه يرجع في نصف الباقي وربع قيمة الكل. والثالث - إنه يتخيّر.
هكذا ذكر الأصحاب.
وهذا فيه وهمٌ؛ من جهة أنَّا نفرّع على منع الرجوع لو وهبت الكل، وعلى هذا إذا وهبت النصف، لم ينقدح الرجوع بتمام الحق عند الطلاق إلا على الحصر، وقول الحصر يوجب حصرَ حقه فيما بقي، فإعادة الأقوال الثلاثة لا معنى له.
هذا ما ذكره الأئمة نقلناه على وجهه.
8524 - ونحن نقول بعد ذلك: إذا [وهبت] (1) المرأة جميع الصداق من الزوج، ثم طلقها، فقد مضى أصل القولين فيه.
فإذا وهبت النصف، فقد ذكرنا ثلاثة أقوال، وكلها بينة، فإن حصرنا حق الزوج فيما بقي، فلا كلام، وإن أثبتنا له الرجوع إلى نصف ما بقي وإلى ربع قيمة الكل، فإنَّ أكثر أصحابنا لم يذكروا على هذا القول تخيراً، وإن تبعض الحق عليه، وذكروا التخير في القول الثالث.
وهذا فيه غموض؛ من جهة أن التبعيض يُثبت الخيار في أمثال هذه المسائل؛ فكان يجب أن نقطع بالخيار، وهذا فيه وقفة على الناظر؛ من قِبَل أنَّا قطعنا بإثبات الخيار، ففي المسألة قولان إذاً: أحدهما - إنه ينحصر حقه في النصف الباقي، فيخلص له العبد هبة ورجوعاً، والثاني - إنه بالخيار، إن شاء، رجع إلى نصف ما بقي، وإلى ربع قيمة الكل، وإن شاء، رجع إلى نصف قيمة الكل. وإن أثبتنا التبعيض بلا خيار، كان ذلك مناقضاً لأصلٍ بَيِّنٍ في المعاملات، وهو: أن التبعيض عيب.
8524/م- وإذا طلق الرج [امرأته، فصادف الصداق معيباً في يدها بعيب حادث
قبل الطلاق، فللزوج الخيار، إن شاء، رضي بشطر الصداق معيباً، وإن شاء، رجع
بنصف القيمة سليماً. فإذا كان التبعيض عيباً، وحُكم العيب في الصداق تخيير
الزوج، فرفْعُ التخيير بعيدٌ جداً]
__________
(1) في الأصل: وهب.

(13/160)


فإن قال قائل: مبنى الصداق على التبعيض إذا فرض الطلاق، واحتمل ذلك على قول من الأقوال، لم (1) يكن لهذا الكلام تحصيل؛ فإن الطلاق يقتضي التشطير، وهذا (2) تربيعٌ. وإذا قلّ الجزء، قلّت القيمة على قدره، [فإذا] (3) كانت الجملة تساوي ألفين وكان نصفها عند فرض الإفراد يساوي أربعمائة، فالربع قد يساوي مائة وخمسين؛ فإن الرغبة في الجزء الكثير أكثر من الرغبة في الجزء القليل.
فإن قال قائل: إذا رجع النصف إلى الزوج بالهبة، ثم فرض الرجوع في ربع آخر إليه، فلا تبعيض في حقه. قيل: هذا أيضاًً لا حاصل له، من قِبَل أن الهبة غيرُ محسوبةٍ عليه، فينبغي أن يكون النظر محصوراً على هذا النصف الآخر، وقد تحقق التبعيض فيه، كما ذكرناه. فهذا منتهى البحث سؤالاً وجواباً.
8525 - /والحق المستقيم على القياس: ردُّ الخلاف إلى قولين، ووجه قول من لا يُثبت الخيار -على بعده- أن التبرع على قول الإشاعة مَلَّك الزوجَ ربعَ العين وربعَ القيمة، مع أن في يدها النصف الكامل، [و] (4) إذا ملَّك الشرعُ الزوجَ المُطَلّق شيئاً، فإثباتُ الخيارِ -مع أن الشرعَ ملّكه كذلك- بعيدٌ. فإذاً؛ وجه نفي الخيار أن الإشاعة تقتضي التمليك على هذا الوجه، ولا خيار فيما اقتضاه الشرع. هذا هو الممكن، والوجه ما قدمناه. فهذه مباحثة في هذه الطرق.
8526 - مباحثة أخرى: إذا طلق الرجلُ امرأته، وصادف الصداقَ معيباً في يدها، فقد ذكرنا أنه إن أراد، رجع بنصف القيمة، وكذلك لو تلف الصداقُ في يدها ثم طلقها.
وهذا كلام أطلقه الفقهاء وتساهلوا في إطلاقه، والغرض منه يبين بسؤال.
فإن قال قائل: يرجع الزوج بنصف قيمة الكل، أو بقيمة نصف الكل، وبينهما
__________
(1) لم يكن لهذا الكلام: جواب قوله: فإن قال قائل: ...
(2) (وهذا): إشارة إلى رجوعه إلى نصف النصف.
(3) في الأصل: وإذا.
(4) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.

(13/161)


تفاوت؟ قلنا: يرجع بقيمة نصف الكل؛ فإنه لم يفته إلاَّ نصف الكل، وهذا مما يجب إجراؤه في المسألة التي نحن فيها؛ فإنا أطلقنا ربع قيمة الكل، والمراد قيمة ربع الكل.
8527 - ومن المباحثات في المسألة: التعرض لانكسار أحد الإناءين، وفي معناه: لو أصدقها عبدين، فعاب أحدهما، وقد حكينا قولين: أحدهما - إن الزوج يرجع بنصف الإناء الصحيح، ونصف قيمة المنكسر، والثاني - إنه يتخير بين ما ذكرناه، وبين الرجوع بنصف قيمة الإناءين. وقد ذكرنا أن هذا يخرج على تفريق الصفقة في الرد بالعيب.
وتصوير ذلك في التفريق: أن من اشترى عبدين، فوجد بأحدهما عيباً، فأراد ردّ المعيب منهما وإمساكَ الصحيح، ففيه قولان، وإن أراد، ردَّهما، كما تقرر هذا في كتاب البيع.
وهذا فيه نظر؛ فإنَّا في مسألة الإناءين ألزمناه -في أحد القولين- الرجوعَ إلى نصف الصحيح ونصف قيمة المنكسر، وفي القول الثاني خيرناه، فكيف ينطبق هذا الذي ذكرناه على ما جئنا به مثلاً في شراء العبدين، مع الاطلاع على عيب بأحدهما؟ وصورة القولين ثَمَّ: أنه يرد المعيب في قولٍ، ولا يرده وحده في قول؛ بل يردهما ويسترد الثمن، ثم على هذا القول طريق استدراكه للظُّلامة، [ردُّ] (1) الصحيح والمعيب. فإن لم يرد ذلك، فليقنع بالمعيب، وليمسكه مع الصحيح.
ونظير هذا من الصداق لو قلنا: طريق استدراكه أن يرد الإناءين ويطالبها بقيمة نصفهما، فإن أبى ذلك، فليقنع بنصف الإناء المنكسر مع [نصف] (2) الإناء الصحيح، وليس الأمر كذلك؛ فإنَّا نقول في مسألة الإناءين في أحد القولين: يتعين إمساك نصف الصحيح، وطلب نصف قيمة المنكسر، وهذا في التحقيق إلزام التبعيض إذا أراد الاستدراك.
__________
(1) عبارة الأصل ... طريق استدراكه للظلامة والصحيح والمعيب.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(13/162)


وفي القول الثاني - نخيّره بين التبعيض -وهو الأصل- وبين ردهما. وكان الأصل في البيع ردّهما. وإذا جوّزنا التبعيض، فهو دخيل، والأصل هاهنا التبعيض، وإذا أراد ردهما، فهو دخيل.
8528 - ولن يحيط الناظر بحقيقة هذا ما لم يفهم فرقاً كلياً بين القاعدتين، وهو أن البيع مفسوخ [بالرد] (1)، وهو متَّحد لا يتعدد بتعدد المعقود، فبعُد عند بعض العلماء إيراد الفسخ على بعضه، فينشأ منه منع التفريق. وأما رجوع الصداق إلى الزوج، فليس في حكم عقد يعقد، ولكنه رجوع قهري شرعي، غير أنا قد لا نرد إليه ما في رده إليه إضرار به، وينتظم من هذا أن استمساكه بنصف الصحيح على القاعدة؛ فإنه لا ضرار فيه. بقي طريقٌ للاستدراك في نصف المنكسر، فله الرجوع إلى نصف قيمته، فهذا [بَتٌّ] (2) لا كلام فيه، فإن أراد رد الصحيح مع المنكسر، فهذا خروج منه عن قاعدة الصداق؛ فإنَّ من اشترى عبدين فوجد بأحدهما عيباً؛ فإنه يردهما باتحاد العقد، وهذا المعنى لا يتحقق هاهنا.
فقال قائلون: لا سبيل إلى ردهما في الصداق؛ لافتراق الأصلين، وتباعد القاعدتين، ونظر ناظرون نظراً ظاهراً من غير بحث عن تباعد القاعدتين، وقالوا: يملك الزوج ردهما. ولم يترك هذا القائل التمسك بجواز التبعيض، وكذا وقع لهذا الإنسان هذا، من حيث ظن أنَّ إفراد العين مشابه للعيب، وأن المشتري إنما يرد العبدين لذلك. ثم قد وجد في الصداق الردّ بالعيب مع إمكان دفع الضرر دونه؛ فإنَّ الزوج إذا صادف الصداق معيباً في يدها، رجع إلى نصف القيمة، ولو قالت: أجبرُ النقصَ لم يُبالَ بها. وهذا وهم؛ فإنَّ تميّز أحد العبدين عن الثاني ليس عيباً، وإنما سببه ما ذكرناه من اتحاد العقد.
[بان] (3) تحقيق القول في الأصلين، وانتظم منه أنَّا في البيع نقول في قول: يجمع ولا يُفرِّق. وفي قول: إن شاء فرَّق وإن شاء جمع. فإن أراد الزوج ألا يستدرك
__________
(1) في الأصل: بالردة.
(2) في الأصل: ثبت.
(3) في الأصل: فإن.

(13/163)


الظلامة، استمسك بنصف الصحيح ونصف المنكسر. وتلك المناقشات فيه إذا كان يبغي استدراك الظلامة.
فهذا تمام المباحثة في الانعطاف على أطراف الكلام في المسألة. وقد انتظم قبلها النقلُ على وجهه.
فصل
قال الشافعي: "ولو خالعته بشيء مما عليه من المهر، فما بقي، فعليه نصفه ... إلى آخره" (1).
8529 - أورده المزني من الخلع، وغرضه إنما هو الاستشهاد بنص الشافعي على ما يدل على قول الشيوع؛ فإنا لما ذكرنا الهبة في بعض الصداق، أجرينا نصوصاً للشافعي دالَّةً على الحصر، فاختار المزني قولَ الشيوع - وهو الأصح والأَقْيَسُ.
وتمسك بنص الشافعي في المسألة التى سنذكرها وهي قليلة النَّزَل (2)، ومدارها على أصول سابقة، ومن معه رشد من الفقه يُخرّج المسألة، ونحن نذكرها ولا نغادر شيئاً منها، فنحرص على الاختصار جُهدنا.
8530 - فنقول: إذا اختلعت المرأة نفسها من زوجها نُظر: فإن كان بعد الدخول، فلا يخلو، إما أن كان إلى غير جنس الصداق، [أو على جنس الصداق] (3)، فإن كان على غير جنس الصداق، مَلَك الزوج عليها العوض، ثم الخلع مفروض قبل المسيس، فيتشطر الصداق، فله عليها عوض الخلع، ولها عليه نصف الصداق.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 35.
(2) النَّزَل: بفتح النون والزاي المعجمة: من قولهم: رجل ذو نَزَل أي كثير الفضل والعطاء، و" فلان ليس بذي طُعْم وليس بذي نَزَل ": ليس له عقل ولا معرفة، وسحابٌ ذو نَزَل: كثير المطر، وطعام كثير النزل: كثير البركة (المعجم، والمصباح). والمعنى هنا أن هذه المسألة قليلة الأثر والفائدة.
(3) زيادة اقتضاها الكلام.

(13/164)


فإن خالعها على ما هو جنس الصداق، صح الخلع؛ فإنه لم يورده على الصداق. ثم يتشطر الصداق إن كان الخلع قبل المسيس، ويجب المسمى بكماله إن كان بعد المسيس. ثم تجري أقوالٌ في التقاصّ في قدر التساوي على ما ستأتي مشروحة، إن شاء الله عز وجل.
8531 - وإن [خلعت] (1) نفسها بصداقها، وكانت مدخولاً بها، صح الخلع، وبرىء الزوج عن الصداق الذي كان استقر عليه بالمسيس.
وإن خلعت نفسها قبل المسيس بالصداق، لم تخل إمَّا أن تخلع بتمام المسمى، وإما أن تختلع بنصف المسمى، فإن اختلعت بتمام المسمى قبل الدخول، فحكم الخلع تشطير الصداق. فإذا كان الصداق ألفاًً، وقد جرى منها الاختلاع عليه، فنصف العوض المذكور حقُّ الزوج. فالعوض متبعِّض إذاً، بعضه مستحَق، وبعضه ثابت على ما تقتضيه المعاملة.
فيخرج في هذا المقام قَوْلا تفريق الصفقة: فإن أفسدنا الصداق (2) بالتفريق، جرى القولان في أن الصداق إذا فسد؛ فالرجوع إلى مهر المثل، أو إلى بدل العوض المسمى، فإن قلنا: الرجوع إلى مهر المثل، فالزوج يستحق عليها مهرَ مثلها، وقد سقط نصف المسمى، وهي تستحق نصفَ المسمى، فإن تجانسَ المالان، جرى أقوال التقاصّ.
وإن رجعنا عند فساد المسمى إلى بدله، فالمسمى دراهم، وبدلها دراهم؛ فإنها من ذوات الأمثال؛ فيستحق الزوج عليها ألفَ درهم، وهي تستحق على زوجها خمسمائة، ولا يخفى التقاصّ، هذا إذا فرعنا على أن التفريق مفسدٌ.
فأما إذا قلنا: التفريق لا يُفسد، فيصح نصف المسمى، وهو نصيبها من المهر.
ويجري الآن القول في أن للزوج الخيار، فإن فسخ (3)، عاد القولان إلى أن الرجوع
__________
(1) في الأصل: أخلعت.
(2) أفسدنا الصداق: المراد أفسدناه بدلاً للخلع وعوضاً فيه، بسبب أن نصفه مستحقٌّ للزوج.
(3) أي فسخ عقد الخلع بسبب أن العوض الذي هو المهر المسمى خرج نصفه مستحقاً.

(13/165)


إلى مهر المثل، أو إلى مثل جميع المسمى؟ ففي قولٍ يستحق عليها مهرَ مثلها، وفي قولٍ يستحق عليها مثلَ ما سمى، وهو ألف درهم. وإن اختار الإجازة، جرى الخلاف في أنه [يجبُر] (1) بالكل أو بقسطٍ، فإن قلنا: إنه يجبر بالكل، فيجبر الخلع بمقدار حصتها من المهر، وهو خمسمائة، فيسقط الشطر بالتشطير، ويسقط الباقي بالعوضية. وإن قلنا: يجبر بالقسط؛ فيرجع فيما هو مستحق بنصف مهر المثل، أو بنصف البدل، والبدل مثلٌ؟ فعلى القولين.
ولا يخفى أن ما ذكرناه من الخيار فيه إذا كان الزوج جاهلاً بحقيقة الحال في الشطر والتفرق.
هذا كله إذا كان الصداق ألفاًً [فاختلعت] (2) نفسها بالألف الذي هو صداق. ولو اختلعت نفسها بألف مطلَقٍ، فلا يكون صداقاً، ويصح الخلع، واستحق الزوج عليها الألف، وهي تستحق الخمسمائة.
8532 - ولو أنها اختلعت نفسها عن زوجها بنصف مهرها -وهو خمسمائة- وهي غير ممسوسة، فهذا يصوّر على أوجه: أحدها- أن تقول: اختلعت نفسي بالخمسمائة التي تبقى لي، فإذا قالت ذلك، صح الخلع بتنصيصها على تخصيص المقدار الخالص لها، ثم لا يخفى أن موجب ذلك سقوط جميع المهر، النصف منه بحكم التشطر، والنصف بحكم المعاوضة.
والصورة الثانية - أن تقول: اختلعت نفسي بخمسمائة شائعة من مهري، وصرَّحَت بما ينافي الاختصاص، فهذا تفريق؛ فإن النصف مما ذكرته مستحَق للزوج، والنصف لها، فيعود التفريع كما مضى، ولكن تختلف الأقدار. أما النصف من الألف، فيسقط بحكم التشطر، ويقع الكلام في النصف الثاني.
فإن أفسدنا العوض بالتفريق فيرجع الزوج -في قولٍ- إلى تمام مهر مثلها، وفي
__________
(1) في الأصل: يجر. والمعنى أنه إن أجاز عقد الخلع ولم يصح إلا نصف العوض -الذي نصيبها في الصداق المتشطر- فهل يجبر ما صح العقد فيه (وهو نصيبها) ويجعله وحده عوضاً للخلع؟ أم يجعل نصيبها قسطاً من عوض الخلع؟
(2) في الأصل: فأخلعت.

(13/166)


قول إلى خمسمائة. وإن لم نُفسد واختار الزوج الفسخ، فالجواب كذلك. فإن اختار [الإجازة] (1) وقلنا: يجبر بالتمام، كان بدل الخلع مائتين وخمسين، والحكم أن الزوج يبرأ عن سبعمائة وخمسين بحكم التشطير والعوض ويبقى لها بقية المهر. وإن قلنا يجبر بالبعض، ففيما يرجع به قولان: أحدهما - إنه يرجع بنصف مهر المثل، فله عليها نصفُ مهرها، ويسقط من مهرها سبعمائة وخمسون، ولها عليه مائتان وخمسون.
الصورة الثالثة - أن تقول: اختلعت نفسي بخمسمائة من المهر، ولم تصرح بالإشاعة ولا بما يختص بها، ولكنها أطلقت الاختلاع كذلك، فنقدم عليه تجديد العهد بما إذا قال الشريك في الدار بالنصف: بعت نصفي، فإن قال ذلك، صح، وإن قال: بعت النصف من هذه الدار. فمن أصحابنا من حمل ذلك على ملكه، ومنهم من حمله على الإشاعة، فمن حمل على النصف الذي له صحح، وإن حمل على الإشاعة؛ فإن النصف مما باعه له، والنصف لشريكه، فتتفرق الصفقة.
نعود إلى مسألتنا، ونقول: إذا اختلعت المرأة بخمسمائة على الإطلاق؛ فقد اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من خَرَّجَ هذا على بيع نصف الدار مطلقاً ممن يملك نصفها، ففي وجه نقول: اختلاعها بالخمسمائة محمول على اختلاعها بحقها الخالص، وهذا يلتفت على الحصر. وفي وجه نقول: اختلاعها واقع بحقها وحق الزوج. ثم تسترسل التفاريع على قوانينها. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قطع بأن الخمسمائة محمولة على الإشاعة، والفرق بين هذه الصورة وبين بيع نصف الدار [أن] (2) من يبيع نصفَ الدار مالكٌ لنصفها دون غيره، يُحمَلُ تصرفُه على ما يملك. وإذا اختلعت بالخمسمائة في مسألتنا، فقد أنشأت الاختلاع والمهر غير متشطر، وإنما يقع التشطر مع اختلاعها، فهذا موجَب القطع بالحمل على الإشاعة.
وقد يرد على ذلك أنها إذا خصصت بما يبقي لها، فهذا تعليق بما سيبقى إذاً، فهذا منتهى الكلام في هذا.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) زيادة اقتضاها السسياق.

(13/167)


8533 - ثم تعلق المزني بنص الشافعي في الحمل على الإشاعة في هذه المسألة التي نقلها، واستدل بنصه في مسألة هبة بعض الصداق، وقال: ينبغي أن تحمل هبة البعض [على] (1) الشيوع، كما نقله في مسألة الاختلاع ببعض المهر.
فاختلف أصحابنا في الجواب؛ فقال بعضهم: جرى الشافعي فيما نقله على قول الشيوع، وهذا النوع متداول بينه وبين الأصحاب.
وقال قائلون: نفرق بين مسألة الخلع وبين مسألة الهبة، ونقول في مسألة الخلع: اقترن سببُ استحقاق الزوج بتصرفها، فنفوذ التصرف واستحقافُ الزوج يلتقيان ويقربان، فكل ما وقع التصرف فيه يجعله عوضاً محسوباً من الحقين، حق الزوج، وحقها. وليس [كذلك] (2) مسألة الهبة؛ لأنها وهبت النصف في حالةٍ لم يكن للزوج فيها استحقاقٌ في عين الصداق، ولا سببٌ للاستحقاق، فكان تصرفها محمولاً على خالص حقها، وإذا حمل تصرفها على حقها الخالص، تعين صرف ما بقي إلى خالص حق الزوج، وقال هؤلاء: نظير مسألة الخلع أن يطلقها والصداق بعدُ في يدها بكماله، فلو تصرفت في النصف، فلا يكون تصرفها في خالص حقها، بل يجعل شائعاً في الحقين.
فصل
قال: " فأما في الصداق غيرِ المسمى، أو الفاسد، فالبراءة في ذلك باطلة؛ لأنها أبرأته مما لا تعلم ... إلى آخره " (3).
8534 - إذا نكح المرأة نكاحَ تفويض، فقد ذكرنا أن لها حقَّ طلب الفرض. فلو قالت: أسقطت حقي عن طلب الفرض، لم يسقط حقها. فلو أكبّت على الطلب، فبادر وطلقها، فقد كُفي الرجل أمر الطلب، وليس لها إلا المتعةُ قبل الدخول.
__________
(1) في الأصل: في.
(2) زيادة من المحقق.
(3) ر. المختصر: 4/ 35.

(13/168)


8535 - وإذا طلق الرجل امرأته في نكاح مشتمل على التسمية قبل المسيس، وحكمنا بأن شطر المهر لا يرجع إلى الزوج إلا باختيار التملك، فلو قال: أبطلت حقي في التملك، بطل حقه، ولا حاجة في ذلك إلى قبول المرأة، وإن فرعنا على أن صحة الإبراء تقف على القبول. وسبب هذا أن ثبوت حق التملك يضاهي ثبوتَ حق الشفعة، ثم حق الشفيع يبطل بالإبطال من غير قبول؛ فإن من يشترط القبولَ في الإبراء يحمله على التمليك. وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه.
هذا قول القاضي فيما نقله عنه من يوثق بنقله، ويظهر عندي ألا نحكم ببطلان حقه من التملك إذا فرعنا على الوجه الضعيف؛ وينزل إبطالُ حق التملك منزلةَ إبطال الواهب حقَّه في الرجوع في الهبة؛ فإنه لو قال: أبطلت حقي في الرجوع، لم يبطل حقه، ولغا ما جاء به.
فإن قيل: هلا شبهتم ذلك بالغانم يُبطل حقه عن المغنم؟ فإنه يَبطُل حقُّه من أجل أنه لم يملك المغنم، بل ملك أن يتملك. قلنا: لا بأس بهذا السؤال، ولكن الواهب يملك نقضَ ملكٍ قام للمتهب، والغانم يُبطل حقَّ تملّكٍ وليس تملّكه نقضاً لملك تام. فهذا تشبيه من طريق الظاهر. والتشبيه بالرجوع في الهبة أعوص، وذلك أن ملكها تم بالإصداق، وقد تلقّته من قِبل الزوج، وإذا أراد الزوج استراداد النصف، فإنما يسترجع ملكاً تاماً، فكان تشبيهاً بالرجوع في الهبة.
وهو بعيد عن حق الشفعة؛ من قِبَل أنه دَفْعُ ضرار، كالرد بالعيب، والشفيع داخل على ملك المشتري، فكان أصلُ حقه نازحاً عن القياس، ربطه الشرعُ بدفع الغرر، فإذا وقع الرضا به، لم يبعد سقوطه، ولهذا كان طلبُ الشفعة على الفور على الأصح، واختيار الزوج التملك ليس بهذه المثابة، والمسألة على حالٍ محتملة.
وقد قدمنا في صدر الكتاب تشبيه تملك الزوج بالرجوع في الهبة، فكان ذلك جرياناً على أحد الوجهين في الاحتمال.
8536 - وإذا كان النكاح نكاحَ تفويض، فإن قلنا: لا تستحق المرأة بالعقد شيئاً، فلو أبرأت عن المهر، لم يصح ذلك منها؛ فإنه إبراء قبل الوجوب. وإذا فرعنا على

(13/169)


أنها تستحق المهرَ بالعقد، نُظِر، فإن كانت عالمة بمهر مثلها، صح إبراؤها، وإن كانت جاهلة بمبلغ مهر المثل، فلا يصح إبراؤها فيما جهلته، وهل يصح إبراؤها في المقدار المستيقن؟ فعلى قولين.
وبيان ذلك أنها لو استيقنت أن مهرها لا ينقص عن ألف، وجوّزت أن يبلغ ألفين، فإذا أبرأت عن مهر مثلها لم يصح إبراؤها عما هي مترددة فيه. وهل يصح إبراؤها عن الألف المستيقن؟ فعلى ما ذكرناه.
فإن قيل: إذا فرعتم على أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً، فهلا جعلتم إبراءها عن مهر المثل إذا علمته بمثابة الإبراء عما لم يجب، ووُجد سببُ وجوبه؟ [و] (1) في مثل هذا قولان؟ قلنا: ليس هذا بمثابة إبراء المرأة عن نفقة غدها؛ فإن النفقة وإن لم تكن واجبة في الحال، فالنكاحُ يفضي إلى وجوبها من غير سببٍ آخر، فاستمر القولان في مثل ذلك، ومهر المفوضة على قولنا: إنها لا تستحق شيئاً بالعقد لا يثبت إلا بسبب سيحدث، يتعلق إنشاؤه بالاختيار: كالفرض والمسيس. وقد ذكرت قولاً جامعاً في ضمان ما لم يجب في ترتيب القديم والجديد، والإبراءُ عما لم يجب بمثابة ضمان ما لم يجب.
8537 - ومما يجب التنبه له أن نص الشافعي في كتبه يشير إلى أن المفوضة لا تستحق بالعقد شيئاً، وفي هذا الفصل من نص الشافعي ما يدل على أنها تستحق بنفس العقد المهر؛ فإنه قال: " فأما في الصداق غير المسمى أو الفاسد فالبراءة في ذلك باطلة لأنها أبرأته مما لم تعلم ". فقوله: " الصداق غير المسمى " يشير إلى صورة التفويض. ثم أبطل الشافعي الإبراء، وعلل إبطاله بأنها أبرأت عما لم تعلم.
ولو كان الصداق غير واجب بالعقد، لكان تعليل إبطال الإبراء [بعدم الوجوب] (2)؛ فإن ما لا يجب لا يعلل إبطال إسقاطه بكونه مجهولاً؛ إذ المجهول ثابت على الجهالة وهذا حسن.
__________
(1) (الواو) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: يعد من الوجوب.

(13/170)


ولكن يتطرق [إليه] (1) حمل النص على تعرية النكاح عن ذكر المهر من غير إذن صريح من المرأة في التعرية. وقد ذكرنا أن هذا يقتضي ثبوتَ المهر، وليس من صور التفويض، وإنما يلتحق النكاح بالتفويض التام إذا صرَّحت المرأة بالرضا بإسقاط المهر.
والمفوضة لو أبرأت عن المتعة قبل الطلاق، لم يصح إبراؤها؛ لأن ذلك إسقاط ما لم يجب بعدُ، ولا يخرج على القولين المشهورين في أنَّ ما لم يجب، ووُجد سبب وجوبه، هل يصح الإبراء عنه؟ فإن وجوب المتعة محال على الطلاق الذي سيقع؛ فليس النكاح سبباً خاصاً في إيجاب المتعة، وقد ذكرنا هذا في إبرائها عن المهر، إذا قلنا إنها لا تستحق المهر بأصل العقد.
...
__________
(1) في الأصل: إلى.

(13/171)


باب الحكم في الدخول وإغلاق الباب وإرخاء الستر
قال الشافعي: " وليس له الدخول بها حتى يعطيَها المال ... إلى آخره " (1).
8538 - للمرأة حبسُ نفسها عن زوجها، حتى يتوفر الصداقُ عليها كَملاً، وقد ذكرنا في البيع نصوصاً وأقوالاً في أن البداية [بالتسليم] (2) على من تجب من البائع والمشتري؟ فكان الحاصل أربعةَ أقوال: أحدها - إنه يجب على البائع البداية بتسليم المبيع أولاً.
والثاني - إن البداية تجب على المشتري.
والثالث - إنهما يُجبَران معاً.
والرابع - إنهما لا يُجبران، ولكن من بدأ منهما بتسليم ما عليه، أُجبر صاحبه على التسليم حينئذ.
والزوج في النكاح في مقام المشتري، والمرأة في مقام البائع، وتجري بينهما ثلاثة أقوال: أحدها - إنهما يجبران جميعاً إذا تنازعا البداية.
والثاني - إنهما لا يجبران، ولكن من بدأ منهما أُجبر صاحبه على تسليم ما عليه، فإن بدأت المرأة بتسليم نفسها، وجب على الزوج بعد تسليمها أن يسوق إليها صداقَها. فإن بدأ الزوج بتسليم الصداق، وجب عليها أن تسلم نفسها، إذا لم يكن بها عذر، كما سنصف المعاذير من بعدُ.
والقول الثالث - إنه يجب على الزوج البداية بتسليم الصداق، ولا يخرّج قولٌ: إنه يجب عليها البداية بتسليم النفس، وإن كنا ذكرنا قولاً في إيجاب البداية على البائع، فهي في مقام البائع ومحلِّه، والفارق أن المرأة إذا بدأت فسَلَّمت نفسها؛ كان في
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 36.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(13/172)


تسليمها تفويتُ منفعة البضع على وجهٍ لا يُفرض الرجوع إليها، وليس كذلك البائع؛ فإنه إذا سلَّم، فلم يَفِ المشتري بتسليم الثمن، أمكن فرضُ رجوعه إلى المبيع؛ فإنه لا يفوت عنه بالتسليم.
8539 - ثم إذا لم نوجب على واحد منهما البداية، فَمِنْ حُكْمِ هذا القول أن المرأةَ لا تطالِبُ زوجها بالمهر، ولا يثبت لها حقُ المطالبةِ به ما لم تُسَلِّم نفسَها، فإنْ سلَّمت نفسَها، ووطئها الزوج، استقر المهر، وحقت الطَّلبة. وإن مكّنت، فامتنع الزوجُ، توجهت الطَّلبةُ بالمهر، وإنْ لم يتقرر المهرُ، فيكفيها تسليطُها على الطلب وإن لم يقرر المهر.
ومن لطيف الكلام أنها لو مكنت، ثم امتنعت وأخذت تطلب، لم يكن لها الطلب؛ فإنها عادت إلى منع البداية، والذي جرى منها لم يكن بداية تامة. فبين التقريرِ واستقرارِ الطلب بالمسيس، وبين تفويت حق الطلب مرتبةٌ يفهمها الفطن. ثم هذه المرتبةُ شرطُها أن تستمر المرأةُ على التمكين منها ولا تُبدي إباءً.
وإذا قلنا: إنهما يجبران، فتصوير ذلك: أن يؤخذ الصداقُ من الزوج ويوضعَ على يديْ عدل، ثم تُجبرُ هي على تسليم نفسِها، فإذا سلَّمت نفسها سُلِّمَ الصداقُ إليها.
والذي نراه في ذلك أنها إذا سلمت، فلم يأتها الزوج؛ فعلى العدل تسليم الصداق إليها على القاعدة المقدمة. ولو قدّرنا تسليم الصداق إليها في هذا المنتهى، فَهَمَّ الزوجُ بوطئها، فامتنعت، فالوجه استرداد الصداق منها.
وإذا قلنا: الزوج يجبر على البداية بتسليم الصداق، وتملك المرأةُ الابتداءَ بطلب الصداق، فذلك إذا كان يتأتى منها التمكين، فأما إذا كانت على حالةٍ لا يتأتى من الزوج قِربانها، فلا تملك مطالبةَ الزوج بالمهر؛ فإن تسليم الصداق يجب أن يكون واجباً حيث يتأتى [منها] (1) استيفاءُ ما يقابل الصداق.
وإذا قلنا في البيع يبدأ المشتري بتسليم الثمن، فإنما يجب ذلك إذا كان البائع قادراً
__________
(1) في الأصل: من.

(13/173)


على تسليم المبيع. فلو كان أبِق العبد بعد البيع، فالمشتري لا يطالَب بالثمن؛ فإن الثمن لا يجب وجوبَ قِيم المتلفات، وإنما يجب عوضاً، ووضع العوض يقتضي -وإن وقع البداية به- أن يقابل معوّضه.
8545 - ولو وفّر الزوج الصداق على المرأة، فالقول في ذلك ينقسم، فإن أوجبنا عليه البداية، فذلك حيث يتصور منها التمكين، فإذا امتنعت، استرد ما سَلَّم.
وإن لم نوجب عليه البداية، فتبرع وبدأ، فامتنعت عن التمكين، لم يسترد الزوج، بل أُجْبرت على التمكين. وإن تبرع بتسليم الصداق وهي معذورة، ثم بدا له في الاسترداد، فهل له أن يسترد؟ ذكر القاضي وجهين: أحدهما - له الرجوع؛ لأنه سلَّمَ في وقت لا يلزمه التسليمُ فيه، والامتناع قائم، وهذا وجه ضعيف. والأصح: أنه لا ينتزع ما سلم إليها؛ لأنه تبرع بالتسليم، فالرجوع بعد التبرع لا وجه له.
وإذا كان يذكر وجهين في المعذورة، فيتجه ذكرهما أيضاًً في التي لا علة بها، بل تلك أَوْلى؛ من جهة أن تسليم الزوج يحمل على توقع تمكينها، وإن كان متبرعاً. وإذا سلم وهي معذورة، فهذا أبعدُ من الانتزاع؛ فإن التسليم جرى مع توطين النفس على امتناع الوطء.
ولو نظم ناظمٌ هذا على العكس، لاتجه. فيقول: إن كانت معذورة فسَلَّمَ مع العلم بعذرها؛ لم يرجع. وإن لم تكن معذورة وأراد الرجوع، فوجهان. وكل هذا خبط.
والوجه: القطع بأنَّ المتبرع بالتسليم لا يرجع. فهذا تمام البيان في هذا الفن.
8541 - ثم إذا ساق الزوج الصداق، فعليها التسليم، فإذا استَمْهَلَت، أُمْهِلَت ريثما تستعد وتتهيأ، ثم ذكر الأصحاب أن منتهى المَهَل ثلاثة أيام؛ فإن الاستعداد ممكن في هذا القدر من الزمان. وهذا الذي ذكروه تقديرٌ، ولا سبيل إلى التقدير من غير توقيف.
والذي يجب التثبت فيه: أن معظم ما يعتقده الناس استعداداً لا حاجة إليه، وإنما المعنيّ بالاستعداد في الشرع أن تهيىّء بدنَها بتنظف لا يكاد يخفى، وما عداه لا اكتراث

(13/174)


به، فعلى هذا يقرب الزمان، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال والأشخاص.
8542 - ثم ذكر الشافعي أن الصغيرة التي لا تطيق الجماع لا تسلّم إلى زوجها، وكذلك لو كانت مريضة مرضاً يضرُّ بها الوقاعُ ضرراً بيّناً، فالأمر على ما ذكرناه.
وإن كان لا يضرّ بها الوقاع، وجب تسليمها إلى الزوج. ولو قال الزوج: سلموها إليَّ وإن كان بها مانع، وأنا أنكفّ عنها، لم تسلم إليه وإن كان موثوقاً به؛ فإنَّ نزقات النفس ونزغات الشيطان لا تؤمن، ولذلك حرم الله تعالى استخلاء الرجل بأجنبية، وإن كان أعدلَ البريّة وأتقاهم.
وإن كانت حائضاً، وجب تسليمها، فإنه ينتفع بها على وجوه. ولا خلاف أن الزوج إذا حاول من زوجته الحائض الاجتماع معها في شعار، وطلب ضمّاً والتزاماً، فليس لها أن تمتنع، ولو جاز لها أن تمتنع، لوجب على الزوج أن يمتنع، وهذا على ظهوره ليس بالهين، ويعارضه القول في المريضة، فإن الزوج قد يستمتع بها من وجوه، وقد يهوى لقاءها ثم لا يؤتمن عليها.
وعن عائشة أنها قالت: " كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة فحضت، فانسللت، فقال: مالكِ، أَنُفستِ؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: خذي ثياب حيضتكِ وعودي إلى مضجعك، ونال مني ما ينال الرجل من امرأته إلا ما تحت الإزار " (1). وقد يدور في الخلد أن هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة تقبيله نساءه وهو صائم. قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) حديث عائشة بهذا اللفظ (ما عدا قوله: ونال مني ما ينال الرجل من امرأته إلا ما تحت الإزار) رواه مالك في الموطأ، والبيهقي في السنن، وقد أنكر النووي هذه الزيادة، وقال: غير معروفة في كتب الحديث. ولكن هذا المعنى في الصحيحين، من حديث عائشة أنها قالت: " كانت إحدانا إذا كانت حائضاً، أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتأتزر بإزارها ثم يباشرها " واللفظ لمسلم. (ر. الموطأ: 1/ 58، والسنن الكبرى: 1/ 311، والبخاري: كتاب الحيض- باب مباشرة الحائض، حديث رقم: 302، ومسلم: كتاب الحيض- باب مباشرة الحائض فوق الإزار- رقم: 293، وتلخيص الحبير: 1/ 294 حديث رقم: 231).

(13/175)


وسلم يُقَبِّل إحدانا وهو صائم، وكان أملككم لأرْبِه " (1). بأبي هو وأمي، ولكن لا ينبغي أن يتمارى الفقيه في جواز استخلاء الزوج بزوجته وهي حائض.
فإن قيل: ما الفرق بين الحائض والمريضة؟ قلنا: المرعيُّ في حق المريضة خيفةُ الإضرار بها؛ فلها أن تمتنع، ولولي الصغيرة أن يمنعها، وتحريم وقاع الحائض يتعلق بحق الله تعالى، والوازع من الهجوم على المحرمات الوعيد، فإذا كان [الحِلّ] (2) قائماً بالنكاح، وكان الوطء محرماً، وقع الاكتفاء بإيضاح التحريم.
ولو رضيت المريضة بأن يخلو بها زوجها، لم يحرم عليه أن يستمتع بها استمتاعاً لا يضر. ولو عرفت المرأة أن الزوج يغشاها في الحيض، ولا يراقب الله تعالى فيها لو استخلى بها، فهل لها أن تمتنع؟ هذا فيه تردد، وليس يبعد تجويز ذلك لها، أو إيجاب ذلك عليها، والعلم عند الله تعالى.
8543 - ثم إذا ثبت أن للمرأة أن تمتنع عن الوطء حتى يتوفر عليها صداقها، فلو مكَّنت، فأتاها الزوج، ثم أرادت بعد جريان الوطء أن تمتنع حتى يتوفر عليها الصداق، لم يكن لها ذلك؛ فإنَّ الوطأة الواحدة بمثابة وَطْآت العمر في تقرير الصداق، فليس لها بعدها امتناع، خلافاً لأبي حنيفة (3)؛ فإنه جوَّز لها الامتناع بعد الوطأة الأولى.
ولو وطىء الزوج قهراً من غير مطاوعة، فمهرها يتقرر، فلو أرادت الامتناع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لها ذلك؛ فإنها لم تطاوع، والامتناع ممكن.
والثاني - ليس لها ذلك؛ لأن مهرها قد تقرر، وانتهى إلى حالة لا يتعرض بعدها
__________
(1) حديث عائشة " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل بعض نسائه وهو صائم ... " متفق عليه (ر. البخاري: كتاب الصيام- باب القبلة للصائم حديث رقم: 1929، ومسلم: كتاب الصيام- باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة- حديث رقم: 1108).
فائدة: يجوز في ضبط همزة (أَرَبه) الفتح والكسر فقد جاءت الرواية بهما (ر. النهاية في غريب الحديث لابن الأثير).
(2) في الأصل: الحد.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 188، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 285 مسألة رقم: 769.

(13/176)


[للسقوط] (1)، فصار كما لو طاوعت، واسترجاع ما جرى غير ممكن، وليس كما لو اغتصب المشتري المبيع -على قولنا: للبائع حق الحبس- فإن المبيع [إن] (2) أمكن استردادُه، [استرد] (3) ورُدّ إلى يد البائع حتى يتوفر الثمن عليه.
8544 - ثم ذكر الشافعي بعد ذلك فصلين من كتابين: أحدهما - النفقة، فإذا قالت المرأة لزوجها: مهما (4) سقت إليَّ صداقي مكَّنتُكَ، ثبتت نفقتها. ولو سكتت ولم تتعرض لذلك، ففي ثبوت النفقة قولان.
ثم تعرض لاختلاف القول في نفقة الصغيرة، وكل ذلك يأتي على الاستقصاء في كتاب النفقات إن شاء الله عز وجل.
8545 - والفصل الثاني في الإفضاء (5)، فإذا أتى الزوج زوجته فأفضاها، فالقول في تصوير الإفضاء وفي موجبه يأتي في كتاب الديات -إن شاء الله عز وجل- وحظّ هذا الباب منه أن الزوج لا يُمَكَّن من غشيانها بعد ذلك ما لم يندمل مارِنُها (6)، فإن زعمت أنها لم تستبلّ (7) بعدُ، فلا رجوع إلا إليها وإن طال الزمان، فلا وجه إلا تصديقها مع يمينها، إلا أن يفرض إمكان الاطلاع. فإن كان كذلك، فللزوج أن يأمر أربعاً من النسوة الثقات حتى يطّلعن ويخبرن بحقيقة الحال، فإذا أخبرن بأنها قد بَرَأَت، مُكِّن الزوج من وطئها.
__________
(1) في الأصل: المسقوط.
(2) زيادة لاستقامة العبارة.
(3) في الأصل: فاستردّ.
(4) " مهما ": بمعنى (إذا).
(5) الإفضاء: المراد به هنا، هو أن يجامع الرجل امرأته، فيهتك الحاجز بين المسلكين فيجعلهما واحداً، وقيل: جعل سبيل الحيض والغائط واحداً (المصباح، والزاهر في غريب ألفاظ الشافعي).
(6) المارن: المراد به هنا الغضروف الحاجز بين المسلكين، وأصله: ما لان من الأنف. (المعجم).
(7) تستبل: أي تشفى وتتعافى.

(13/177)


فصل
قال: " وإن دخلت عليه، فلم يمسها حتى طلقها ... إلى آخره " (1).
8546 - المقصود [بالكلام] (2) خَلوة الرجل بامرأته، وأنها هل تقرر الصداق من غير مسيس؟ وهل توجب العدة؟ فالمنصوص عليه للشافعي في الجديد: أن الخَلوة لا تقرر ولا توجب العدة، ولا يتعلق بها حكم.
وقال في القديم: الخَلوة [تقرر المهر، وتوجب العدّة] (3)، ثم اختلف الأئمة في تنزيل القول القديم، فقال قائلون: الخلوة في القديم تنزل منزلة الوطء في تقرير المهر وإيجاب العدة، وتوجيه القولين مذكور في طيول المسائل.
وكنت أود أن يختص جريان القولين بتقرير المهر؛ من قِبل أنَّ تمكُّن المستحق من حقه في المعاوضات إن كان [ينزل] (4) منزلة استيفاء ذلك الإنسان حقَّه، فلا وجه مع هذا لإحلال الخَلْوة محل الوطء في إيجاب العدة المتعلقة بما يشغل الرَّحِم، ولكن لم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، بل من أجرى القولين أجراهما في التقرير وإيجاب العدة جميعاً.
ولما قال أبو حنيفة (5): الخَلوة تقرر المهر، قضى بأنها توجب العدة، غيرَ أنه قال: إذا فرض طلاق بعد الخَلوة، واستقبلت المرأة العدة، فليس للزوج حقُّ الرجعة، وقطع أئمتنا بثبوت الرجعة تفريعاً على القديم؛ فإن الرجعة عندنا لا تنقطع إلا [باستيفاء] (6) العدة، أو استيفاء العدد، أو وقوع الفراق على عوض.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 37.
(2) في الأصل: الكلام.
(3) في الأصل: " في القديم: الخلوة ثم توتر ثم اختلف الأئمة ... " كذا بهذا الرسم، وهذا النقط (انظر صورتها) والمثبت من مختصر العز بن عبد السلام.
(4) في الأصل: نزل.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 203، مختصر اختلاف الفقهاء: 2/ 348، والمبسوط: 5/ 148.
(6) في الأصل: بانتفاء.

(13/178)


ثم قال أبو حنيفة: الخَلوة إنما تقرر المهر إذا لم يكن في المرأة مانع من الوطء شرعاً، كالحيض، والنفاس، والإحرام، وصوم الفرض. واختلفت الرواية في صوم التطوع.
ثم قالوا: الخَلوة بالرتقاء والقرناء تقرر المهر وإن كان الوطء ممتنعاً طبعاً بحيث لا يتصور وقوعه. فهذا بيان اضطراب مذهبه.
8547 - وقد ذهب المحققون من أئمتنا إلى أن الخَلوة بالرتقاء لا تقرر المهر؛ فإنه لا معنى لها؛ فإن الخَلوة إن نزلت منزلة الوطء؛ من حيث إنها تشتمل على التمكين من الوطء، فهذا غير ممكن في الخَلوة بالرتقاء، ولا أثر للخَلوة بها، والكَوْنُ معها في الملأ كالكون معها في الاستخلاء، فأما الخَلوة بالحائض والنفساء؛ فمال القفال إلى مساعدة أصحاب أبي حنيفة في أن الخَلوة لا تقرر مع هذه الموانع الشرعية وإن كان الوطء ممكناً، هذه طريقة الأئمة في الخَلوة.
ومن أصحابنا من قطع بأن الخلوةَ لا تقرر المهر، ولا توجب العدة، وزعم أن الشافعي تردد قوله في القديم في أن الخَلوة إذا جرت، وادعت المرأة الوطء فيها، وأنكر الزوج؛ فمن المصدَّق؟ فعلى قولين: أحدهما - أن المصدَّق الزوج؛ فإن الأصل عدم الوطء. والثاني - القول قول المرأة مع يمينها، فإن الظاهر جريان الوطء في الخَلوة، فإن أنكر منكر هذا، قلنا له: الخَلوة في ادعاء الوطء كاليد في ادعاء الملك. والعلم عند الله تعالى.
***

(13/179)


باب المتعة
قال الشافعي: " جعل الله عز وجل المتعةَ للمطلقات ... إلى آخره " (1).
8548 - المتعةُ اسم لمقدارٍ من المال يسلمه الزوج إلى زوجته إذا طلقها، وقد يسمَّى المتاع. وأمتع الحسنُ زوجةً طلقها اثني عشر ألف درهم، فقالت: " متاع قليل من حبيب مفارق " (2). والأصل في الباب قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] وشهدت الأخبار وأجمعت الأمة على المتعة.
والكلام في ثلاثة فصول:
[الفصل الأول]
8549 - في تفصيل المطلقات، وهن ثلاثة أقسام: مطلقة لم يفرض لها ولم يتّفق الدخول بها، فهي تستحق المتعة، ونصُّ القرآن شاهد فيه، قال تعالى: {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] والإجماع منعقد على استحقاقها للمتعة في هذه الحالة.
والمطلقة الأخرى: هي التي فرض لها الصداق، وطلقت قبل المسيس، فلها نصف المفروض أو نصف المسمى في أصل العقد، ولا متعة لها في ظاهر المذهب.
وتقسيم القرآن أصدق شاهد فيه، فإنه تعالى لما ذكر المتعة في حق التي لم تُمس، ولم
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 38.
(2) خبر إمتاع الحسن بن علي رضي الله عنهما في متعة إحدى نسائه، رواه البيهقي: 7/ 257،
والدارقطني: 4/ 30، 31 وضعفه صاحب التعليق المغني، وابن أبي شيبة: 5/ 156،
ومقدار المتعة عند البيهقي عشرون ألفاً، وعند الدارقطني وابن أبي شيبة عشرة آلاف، ولم يَرْو
واحدٌ منهم أنها كانت اثني عشر ألفاًً، كما قال الإمام.

(13/180)


يفرض لها، قال في الآيات التي تلي هذه {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]، فدل فحوى الخطاب على أنَّ المتعة ونصف المفروض يتعاقبان على التبادل.
والمطلقة الثالثة: هي التي استقر لها مهر بالمسيس، ثم طلقها زوجها، ففي وجوب المتعة لها قولان: أحدهما - إنها لا تستحق المتعة، وهو المنصوص عليه في القديم، وبه قال أبو حنيفة. ووجهه أنه قد سلم لها المهر، ولا متعة مع المهر.
ونصف المسمى في مقابلة العقد، كتمام المسمى، أو كتمام مهر المثل بعد المسيس، فإذا كانت المتعة تَسقُط بسبب وجوب نصف المسمى أو المفروض قبل المسيس، فلأن تسقط إذا وجب جميع المهر على الاستقرار أولى.
والقول الثاني - وهو المنصوص عليه في الجديد: إنها تستحق المتعة؛ لأن ما سلّم لها من المهر في مقابلة منفعة البضع، لا في مقابلة العقد والطلاق.
وإذا جمعنا المطلقات وأردنا نظم الأقوال فيهن، انتظمت ثلاثة أقوال: أحدها- إنه لا متعة إلا للتي طُلِّقت قبل المسيس ولم يفرض لها، وهي المفوّضة.
والقول الثاني - إن لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم تُمس، فاستحقت نصف المهر عند الطلاق.
والقول الثالث - إن لكل مطلقة متعة من غير استثناء، وهذا القائل يلتزم إثبات المتعة للمطلقة قبل المسيس، وإن فرض لها واستحقت نصف المفروض، وهذا بعيد مخالف لظاهر التقسيم في المتعة والفرض.
الفصل الثاني
8550 - يشتمل على الكلام فيما يوجب المتعة، وما لا يوجبها من أقسام الفُرَق، فنقول: أما الفُرقة الحاصلة بالموت؛ فإنها لا توجب المتعة وفاقاً، والميراث كافٍ، وكأنَّ المتعة أُثبتت لمستوحشةٍ بالطلاق، والتي مات عنها زوجها متفجعةٌ غيرُ مستوحشةٍ.

(13/181)


فأما ما يجري من الفراق في الحياة؛ فقد قال الأئمة: كل فُرقة تصدر عن جهتها، إمَّا بأن تُنشئَها، أو يصدرَ منها سببٌ يتعلق به ارتفاعُ النكاح، فلا تناط به المتعة.
وما يصدر من الزوج لمعنًى فيها، كالفسخ بالعيوب، فإنه لا يتعلق به المتعة.
وأما ما ينفرد به الزوج لا لمعنى فيها، فيتعلق به استحقاق المتعة، ومن جملة ذلك الطلاق، ومنها ارتداد الزوج وإسلامه.
وقد نص الشافعي على أن الإسلام من الزوج يوجب المتعةَ، ذَكَرهُ في آخر كتاب المشركات. والخلعُ، وإن كان يتعلق بها، فالأصل فيه الزوج. وإذا فوض الطلاقَ إليها، فهو كما لو طلقها بنفسه؛ فإن عبارتَها مستعارة، وكأنَّ الزوج هو المعبِّر، فالفراق المنوط باللعان يثبت المتعة، فإنه مما ينفرد الزوج به، ولا يتوقف حصول الفراق على لعانها.
وإذا وقع الفراق بفعل من غير الزوجين، مثل أن ترضع امرأتُه [الزّوجةَ] (1) الرضيعة إرضاعاً مفسداً، فهذا يوجب المتعة.
8551 - والضبط الجامعُ أن كل ما لو جرى قبل المسيس، لم يسقط به المهر المسمى، بل تَشَطَّر، فهو من موجبات المتعة، وكل ما يتضمن سقوطَ جميع المسمى لو جرى قبل المسيس، فلا تتعلق المتعة به. ثم إذا تعلقت المتعة بفُرقةٍ من الفُرق، فتجري فيها الأقسام الثلاثة المذكورة في الطلاق لا محالة، وعلينا في هذا القسم أن نُلحق [كل] (2) فرقة من الفُرق بالطلاق، ثم فيها الأقسام الثلاثة والأقوال الثلاثة.
وما قطعناه عن مضاهاة [الفُرق] (3)، فإنا نحكم فيه بأنه لا تتعلق المتعة به، كيف فُرض، وصُوِّر، [وعلى] (4) أيةِ حاله قُدِّر.
ولا استثناء في شيء مما ذكرناه إلا في مسألة واحدة وهي: إذا اشترى الزوج زوجته، فالمذهب أن هذه الفُرقة تُشطِّر الصداق، ولا تتعلق بها المتعة؛ فإنَّ المتعة
__________
(1) في الأصل: المزوّجة.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: الفراق.
(4) في الأصل: وأعلى.

(13/182)


لو وجبت، لوجبت مع الفراق لمنْ يحصل الفراق في ملكه. فإذا اشترى زوجته، فقد ملك رقبتها، فلو وجبت المتعة لوجبت له، ويستحيل أن يجب له على نفسه شيء.
8552 - ونقول على الاتصال بهذا، المتعة تجب بالفراق، ولا يتقدم وجوبها عليه، فلو زوّج السيدُ أَمَةً مفوِّضة، ثم باعها، فطُلقت في ملك المشتري، فالمتعة للمشتري؛ لأنَّ الطلاق هو الموجب للمتعة، وقد جرى في ملك المشتري، [فهذا] (1) قاعدة المذهب في الفُرق التي تقتضي المتعة والتي لا تقتضيها.
8553 - وقد نقل المزني أنها إذا فسخت النكاح بعيب العُنَّة [لها المتعة] (2)، وقد أجمع الأصحابُ على تغليطه، وصادفوا هذه المسألةَ منصوصةً للشافعي على العكس مما نقل.
وغلط بعضُ المصنفين، فقال: لا متعة في الخلع لتعلق الفراق بها، وهذا خطأ، بدليل أن الخلع يشطّر الصداق، [ونَقَل عن الأصحاب] (3) تردّدَهم فيه إذا ارتد الزوجان معاً، وتردَّدَهم فيما إذا اشترت الزوجة زوجَها المملوك. نعم، إن جعلنا الخلع فسخاً، فمن أصحابنا من تمارى في التشطير، فيليق بهذا القول ترديدُ الوجه في المتعة.
وغَلِطَ طوائفُ من الأصحاب في شراء الزوج زوجته، فحكَوْا أن المتعة تجب للبائع على المشتري، وقد رمز إليه الصيدلاني، وهذا عندي ليس من غلط الفقه، بل هو خللٌ في الفكر؛ فإن من صار إلى هذا بين أمرين كلاهما محال، إن قال: تجب المتعة قبل الفراق، كان رادّاً للإجماع. وإن قال: تجب مع الفراق، والفراق يحصل مع الملك، ثم المتعة تجب للبائع، فهذا مستحيل وإن وجبت متعة، على نفسه [لنفسه] (4) كان هذا كلاماً متناقضاً. فهذه غلطات نبهنا عليها بعد طرد المذهب على السداد.
__________
(1) في الأصل: في هذا.
(2) ساقط من الأصل. والمثبت من المختصر، ونص عبارته: " وأما امرأة العنين، فإن شاءت أقامت معه، ولها عندي متعة " والله أعلم. (ر. المختصر: 4/ 39).
(3) زيادة من المحقق لاستقامة العبارة.
(4) في الأصل: فإن وجبت على نفسه، كان هذا.

(13/183)


الفصل الثالث
في قدر المتعة
8554 - ولا [قدر] (1) عندنا لأقلها، ولا لأكثرها، وهي موكولة إلى اجتهاد الحاكم، ثم هي تختلف باختلاف الأحوال على ما سنصفه، ونذكر ما بلغنا من قول الأصحاب نقلاً، ثم نرجع، فنبحث.
ذكر العراقيون وجهين في تقدير المتعة: أحدهما - أن أقل المتعة ما يتمول، فلو أمتعها الزوج بأقل ما يتمول، فقد خرج عما عليه.
وهذا القائل يقول: ما صح أن يكون صداقاً، صح أن يكون متعة في كل صورة.
والوجه الثاني -وهو الصحيح- أن تقديرها إلى الحاكم واجتهاده، وليس كالصداق؛ فإنَّ الصداق على التراضي، فكان كالأثمان، والمتعة أمر معتبر يفرض ثبوته في وقت التنازع، فيجب أن يكون له أصل يفرضُ الرجوع إليه، ونصُّ القرآن شاهد فيه، فإنه عز من قائل قال: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236].
ثم فرعوا على الوجهين، فقالوا: إن اكتفينا بأقلِّ ما يتموّل، فلا كلام، وإن أحلناه على اجتهاد الحاكم، فالحاكم يَعتبر ماذا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يعتبر حالَ الزوج لا غيرَ في اليسار والإعسار، ولا ينظر إلى حالها، فيقول: زوجٌ في حالِ زيدٍ ويسارِه، كم يكون أقل متعة منه في العادة؟ فيبني الأمرَ على هذا، قالوا: وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي.
والوجه الثاني - أنه يعتبر حالها، فيقول: امرأة في مثل حال هذه بكم تُمَتَّع في العادة في أقل ما يُفرض؟ ولا يعتبر حال الرجل، وهذا الوجه مخالف لظاهر القرآن، فإنَّه تعالى قال: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال الإمام والدي: يعتبر في ذلك حالهما جميعاً، فيقال: مثل هذا الرجل ما أقلُّ ما يمتِّع به مثلَ هذه المرأة؟
__________
(1) في الأصل: تقدر.

(13/184)


8556 - هذا تردُّدُ الأصحاب، وليس فيما ذكروه تحويمٌ على المقصود، فضلاً عن الإخلال، وذلك أنه ما لم يبِنْ موقعُ المتعة ومنزلتُها لا يمكن أن يعتبرَ فيها ما ذكره الأئمة؛ فإنَّ الإنسان يختلف ما يبذله إذا اختلف جهاتُ المبذول، فما لم يَبِنْ محلُّ المتعة، أعِوضٌ هي أم مِنْحة؟ لا يظهر. وقد اتفق المحققون على أن المتعة لا يبلِّغها القاضي نصفَ المهر، وسبب هذا بينٌ؛ فإنها تجب حيث لا يجب نصف المهر، وكأنا نقنع بما يقلّ عن شَطر المهر إذا لم يحتمل الحالُ شَطْر المهر، فليتخذ الناظر هذا أصلَه.
قال القفال: لا تبلغ المتعةُ نصفَ المهر، كما لا يبلغ التعزيرُ الحدَّ، والرضخُ السهمَ، والحكومةُ الدِّيةَ.
وقال الشافعي في القديم: أستحب المتعةَ قدر ثلاثين درهماً، وإنما استحب ذلك لأثر ورد عن ابن عمر (1). وقال الشافعي في بعض كتبه: ينبغي أن يفرض القاضي فيها مِقْنعةً أو ثوباً أو خاتماً. وقال القاضي: أي شيء فرضه بعد ما كان متمولاً جاز.
8556 - هذا ما بلغنا من كلام الأئمة.
والذي يلوح لنا فيه بعد بناء الأمر على حطّ المتعة عن نصف المهر أن المتعة كاسمها إمتاعٌ وإتحافٌ يسدّ ممّا تداخلها من الفراق مسداً، وليس في الإمتاع عادةٌ مطردةٌ في الناس، حتى نرجعَ إليها من غير قاضٍ رجوعَنا إلى العادات، في القبوض والأَحراز، وأمور في المعاملات، فهذا يتعلق بنظر القاضي، حتى يَفْرِض قدراً يراه لائقاً، ثم يختلف هذا بالإعسار واليسار، ثم لا ضبط للتقدير، [في التعزير] (2)؛ فإن التقدير يختلف باختلاف أحوال الناس في عرامتهم (3) وشراستهم، فرب صاحبِ عَبْرة (4) يكفيه
__________
(1) حديث ابن عمر، رواه البيهقي موقوفاً. (ر. السنن الكبرى: 7/ 244، والتلخيص: 3/ 392 ح 1685). هذا وفي نسخة الأصل " حديث عمر".
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) عرامتهم: أي عنفهم وشدّتهم، وشراستهم.
(4) عَبْرة: أي: دمعة. والمعنى رقيق القلب سريع الفيئة.

(13/185)


[تبكيتٌ] (1)، ورب [عَرمٍ] (2) خبيث، لا يردعه إلا الكثير من [التعزير] (3)، ثم الحد مردٌّ لاعتبار التعزيزات؛ فإنها توقيفات الشرع.
فإن قال قائل: إذا كان المقصود من التعزير [التأديب] (4) والردع، فمن وصفتموه لا يرتدع؟ قلنا: إن لم يرتدع، فسيعود، وإن عاد، عُدنا، والإمام أقدر على معاقبته، ويدُه على الرقاب، وهو تحت ضبط الإمام.
وما ذكره العراقيون من أن الزوج لو أمتعها بأقلِّ ما يتمول، جاز، خارجٌ عن القانون. وما ذكره القاضي من ذكر أقل ما يتمول مضافاً إلى اجتهاد الحاكم، محمول عندي على ما إذا كان [حال] (5) الزوج تقتضي هذا، فلا نظن به على علو قدره أن يجوّز إثباتَ أقلِّ ما يتمول من غير رجوع إلى مستند، ثم يربط ذلك باجتهاد الحاكم.
هذا ما عندنا في ذلك، وقد مهدنا المطالب، والرأي فوضى (6).
8557 - ومما أجريناه في الكلام، نصفُ المهر، وهو المعتمدُ الفقيه، فإن لم يكن في النكاح مسمى، فالمعتبر نصف مهر المثل، وإن كان في النكاح مسمى، وفرّعنا على أن المدخول بها تستحق المتعة؛ فننظر في المتعة ونصفِ مهر المثل، أو ننظر في المتعة وهو نصف المسمى، هذا محتملٌ: يجوز أن يكون الرجوع إلى نصف مهر المثل؛ فإن المسمى متعلقه التراضي، والأصل الذي لا تعلق له بالتراضي هو مهر المثل، ويكون رضاها بأقلَّ من مهر المثل عن مسامحة، هذا هو الأشبه، والعلم عند الله تعالى.
...
__________
(1) في الأصل: تنكيت.
(2) في الأصل: " عُرة " وهو تصحيف.
(3) في الأصل: الغزير.
(4) زيادة لاستقامة الكلام.
(5) في الأصل: " اختار" (هكذا بهذا الرسم والنقط) ولم أدر لها وجهاً. والمثبت تصرف منا.
(6) فوضى: أي مشترك، من قولهم: مالهم ومتاعهم فوضى بينهم: إذا كانوا شركاء فيه، يتصرف كل واحد منهم في جميعه بلا نكير. (المعجم).

(13/186)


باب الوليمة والنثر
قال الشافعي: " والوليمة التي تعرف وليمة العُرس ... إلى آخره " (1).
8558 - أبان أن الوليمة تنطلق على كل مأدبة في إملاكٍ، أو نفاسٍ أو خِتان، أو حادثِ سرور، ولكنها شُهرت بما يتخذ في العرس، وقد روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك الوليمة في حضر ولا سفر " (2). وروي " أنه أولم على صفية بسويق وتمر في السفر " (3) ودخل عليه عبدُ الرحمن بنُ عوف وعلى ثوبه أثر الصفرة فقال: " مَهْيَم ". وهذه كلمة تستعمل في [الاستفهام] (4) رآها البصريون من الأصوات كصه، ومه، وحيهلا، [وهيهات] (5)، وقال الكوفيون معناه: ما هذا؛
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 39.
(2) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك الوليمة في حضر ولا سفر" لم نصل إلى حديث بهذا اللفظ، ولكنه مأخوذ من عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته حيث أولم في السفر على صفية كما ذكر الإمام، ووفيناه بذكر روايته في التعليق الآتي بعد هذا مباشرة.
(3) حديث " أنه أولم على صفية بسويق وتمر " رواه أحمد: 3/ 110، وأبو داود: كتاب الأطعمة، باب في استحباب الوليمة عند النكاح، ح 3744، والترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في الوليمة، ح 1095، والنسائي الكبرى: كتاب الوليمة، باب الوليمة في السفر، ح 6601، وابن ماجة: كتاب النكاح، باب الوليمة، ح 1909، وابن حبان: 6/ 146، ح 4052. وكلهم من حديث أنس، وفي الصحيحين عن أنسٍ أيضاً " أنه صلى الله عليه وسلم جعل وليمة صفية ما حصل من السمن والتمر، والأقط. (ر. البخاري: كتاب النكاح، باب البناء في السفر، ح 5159، ومسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاقه أمته، ثم يتزوجها، ح 1365، وانظر تلخيص الحبير: 3/ 394، ح1687).
(4) مكان بياضٍ بالأصل. و" مَهْيَمْ " بميم مفتوحة، فهاءٌ ساكنةٌ بعدها، فمثناة تحتية مفتوحة، بعدها ميم. ومعناها: ما حالك؟ وما شأنك؟ وما وراءك، فهي للاستفهام. (المعجم).
(5) في الأصل: وسهات.

(13/187)


فإنه يستعمل في السؤال فقال عبد الرحمن: تزوجتُ امرأة [من الأنصار] (1)، وكانوا يتضمخون بالزعفران في العُرسِ، قال صلى الله عليه وسلم: " أولِمْ ولو بشاة " (2).
ثم كما يأمر بالوليمة يأمر بإجابة الداعي على تفاصيلَ سنذكرها.
8559 - والشافعي جعل وليمة العرس أَوْلى الدعوات، وغيرَها أخفَّ منها. ثم قال: " ومن تركها لم يَبِنْ لي أنه عاصٍ، كما تبين لي في وليمة العرس " (3)، فكان هذا ترديد جواب منه في وليمة العرس، فمن أصحابنا من جعل في وليمة العرس وأنها هل تجب؟ قولين، وتمسك بظواهر الأوامر، ولم يردد الجواب في [وجوب] (4) غيرها.
وذهب المحققون إلى أن الوليمة لا تجب قولاً واحداً، وإنما التردد في وجوب إجابة الداعي؛ فإن لفظ التعصية نُقل في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: " من لم يجب الداعي فقد عصى أبا القاسم " (5). ومن لم يوجب الإجابةَ حمل لفظ العصيان على المخالفة وتركِ التأسّي، وهذا غير بعيد على مذهب الاتساع في الكلام. وقد يقول القائل: أشرت على فلان برأيى، فعصاني.
وقال صلى الله عليه وسلم: " لو أُهدي إليَّ ذراع، لقبلت، ولو دُعيت إلى كُراع، لأجبت " (6). والمراد كُراع شاة. وقال بعض المتكلفين أراد بالكراع: كراع
__________
(1) زيادة لإتمام المعنى، أخذناها من نص الحديث.
(2) حديث " أولم ولو بشاة " متفق عليه. (ر. البخاري: كتاب النكاح، باب الوليمة ولو بشاة، ح 5167، ومسلم: كتاب النكاح، باب الصداق، ح 146).
(3) ر. المختصر: 4/ 39.
(4) في الأصل: وجوبها.
(5) متفقٌ عليه من حديث أبي هريرة، بلفظ: "من دعي، فلم يجب، فقد عصى الله ورسوله ".
(ر. البخاري: كتاب النكاح، باب من ترك الدعوة، فقد عصى الله ورسوله، ح 5177، ومسلم: كتاب النكاح، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة، ح 1432) وله ألفاظ عندهما، ولأبي داود من حديث ابن عمر: " من دعي إلى الوليمة، فليأتها " (ر. تلخيص الحبير: 3/ 394، 395 ح1689).
(6) حديث: " لو أهدي إلي ذراع ... " رواه البخاري: كتاب الهبة، باب القليل من الهبة، ح 2568، وهو عنده بلفظ: " لو دعيت إلى ذراع أو كراع، لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع أو=

(13/188)


[الغميم] (1)، وهي قرية من المدينة على فراسخ، فيكون المعنى لو دُعيت إلى مسافة بعيدة، لأجبت، وهذا غير مستقيم والكُراع مقرون بالذراع.
ثم من حمل التردد في الوجوب على إجابة الداعي، لم يَفْصِل بين دعوة ودعوة ومن ردد الجواب في وجوب اتخاذ الدعوة خصص تردده بوليمة العرس.
ووصف أبو سعيد الخدري أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر فيما وصف: " كان صلى الله عليه وسلم يخصف النعل، ويرقع الثوب، ويعلف الناضح، ويحلب الشاة، ويركب الأتان، ويطحن مع الخادم، وكان لا يحمله الحياء على ألا يحمل البضاعة من السوق إلى أهله، وكان يسلم مبتدئاً، ويصافح الغني والفقير، ويجيب إذا دُعي ولو إلى حَشَف التمر، وكان هين المؤونة، جميل المعاشرة، بسَّاماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوسة، جواداً من غير سرف، رحيماً رقيق القلب ما تجشَّأ عن شِبع قط، ولا مدَّ يده إلى طمع " (2). بأبي هو وأمي.
8560 - وعلينا بعد ذلك أن نفصِّل الدعوةَ والإجابةَ، فنقول: إذا بعث واحداً وقال له: ادعُ من لقيتَه، فدعا واحداً، فلا عليه لو تخلف، فإنه غيرُ معيّنٍ بالدعوة، وإذا لم يتجرد قصدٌ إلى مدعو، فيجب أن لا يثقلَ التخلفُ على الداعي، ولو دُعي وعلم المدعوُّ أن في دار الداعي أقواماً لا يلائمون المدعوَّ -والتفريع على وجوب إجابة الداعي- فهذا فيه ترددٌ للأصحاب، وهو أن يدعوَ رجلاً شريفاً مع طائفة من السُّفل والأراذل.
وإن كان المدعوُّ صائماً، لم يتخلف أيضاًً، بل يجيب ويحضر. ثم إن كان صومه
__________
= كراع، لقبلت " وطرفه في 5178 وهو بلفظ: " لو دعيت إلى كراع، لأجبت، ولو أهدي إلي كراع، لقبلت " وأحمد في مسنده: 2/ 424.
(1) غير واضحة ولا مقروءة بالأصل، والمثبت من (معجم البلدان) لياقوت.
(2) لم نصل إلى حديث لأبي سعيد بهذه الألفاظ، بل لم نصل إلى حديث في الشمائل على هذا السياق الذي يجمع كل هذه المعاني، وإنما في الشمائل أحاديث أخر ربما بمجموعها تجمع هذه المعاني. (رجعنا إلى الشمائل للترمذي، وشرحها جمع الوسائل، وكذا رجعنا إلى دلائل النبوة، وزاد المعاد، والخصائص الكبرى).

(13/189)


فرضاً بَرَّكَ ودعا، وأبدى عُذرَهُ، وإن كان صومه تطوعاً، وعلم أنه لا يعز على المضيف تركُ الأكل، لم يفطر، وإن علم أنه يشق عليه تركُ الأكل، فالأولى أن يفطر ويصومَ يوماَّ مَكانه. وإن علم المدعو في الأصل أنه لا يعز على الداعي امتناعُه -والتفريع على وجوب إجابة الداعي- فهذا فيه احتمال. وقد روي: أن ابن عمر دُعي إلى دعوة مع جماعة، فمد يده إلى الطعام، ثم قال: " خذوا بسم الله، وأمسك، وقال: إني صائم " (1).
وإن كان في مكان الدعوة منكراتٌ كالمعازف، نُظر، فإن علم أنه لو حضر لنُحِّيت ورُفعت تعظيماً له، فينبغي أن يحضر، ويكونُ حضورُه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن لم ينزجروا، ولم يكن له بمنعهم يدان، لم يُقِمْ وخرجَ، ولا يُقيم فيما بينهم ما بقي له اختيار.
8561 - وإن كان في البيت صور، فإنا نتكلم فيها أولاً، ونقول: الصور الشاخصة والمستوية على السقوف والجدرات والأُزر (2) المرتفعة والسجوف (3) المعلقة ممنوعة، ويحرم الأمر بها وتعاطيها، وقد روي: " أنه دخل رجل على ابن عباس فاستخبره ابنُ عباس عن حرفته، فقال إني أنقش هذه الصور، فقال ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يُحشر المصورون يوم القيامة، ويقال لهم انفخوا الروح فيما خلقتم، فما هم بنافخين، ولا يخفف عنهم العذاب. فقال الرجل: ما لي حرفة سواها، قال: فإن كنتَ فاعلاً، فعليك بصور الأشجار " (4). وعن عائشةَ أنها قالت: " كانت لنا سَهوةٌ علقتُ فيها سُترة وعليها صورة، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، [وكان] (5) يدنو
__________
(1) حديث ابن عمر، رواه الشافعي في الأم: 6/ 181، والبيهقي: 7/ 263.
(2) الأزر: جمع إزار، وهو هنا حويّط يقام بجوار الحائط يلصق به، للتقوية، أو للزينة.
(3) السجوف: هنا بمعنى الستور.
(4) حديث ابن عباس متفق عليه، رواه البخاري: كتاب البيوع، باب التصاوير التي ليس فيها روح وما يكره من ذلك، ح 2225، ورواه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان، ح 2110.
(5) في الأصل: وكانوا.

(13/190)


منه وينصرف، فعل مراراً، ثم قال صلى الله عليه ومسلم: حُطِّيها، واتخذي منها نمارق " (1).
ففهم العلماء من ذلك أن المحظور صور الحيوانات، فأما تشكيل الأشجار فلا بأس به.
ولو صور المصور حيواناً إلا وجهه، ففيه تردد: فمن أصحابنا من جوز ذلك، وجعل ما عدا الوجه خطوطاً وتشكيلاً كالأشجار. ومنع مانعون ذلك، فإنَّ سائر أعضاء الحيوان يُشعر بالحياة إشعار الوجه.
ثم فيما رويناه ما يدل على الفرق بين الصور المرفوعة وبين المحطوطة التي توطأ على الفرش والنمارق، ولعل السبب فيها أنها إذا كانت مرفوعة، ضاهت الأصنام، وإذا كانت موطوءةً مفترشة تحت الأقدام، فليست كذلك، وأيضاًً، فإنها إذا كانت مرفوعة كانت مُهيّأةً للنظر إليها، والمخادّ الكبار التي لا تتوسدُ، وإنما تهيأُ مرتفعةً شاخصة في معنى الستور.
ولبس الثياب المصورة كان يمنعه شيخي، ولعله أولى بالمنع من رفع الصور على الستور المعلّقة، وكان يقول: استعمال الثياب المصورة لا يحرم، فإنها تصلح للفرش، كما يتأتى تعليقها ولبسها، وإذا كان لها وجه في الاستعمال، حمل الاستعمال عليه، وعندي أن الذي يتعاطى التصوير هو الآثم بكل حال، وفي المسألة احتمال.
وإذا صادف الناهي عن المنكر سترةً معلقة وصورة، لم يفسدها، بل حفظها لتفرش. ثم في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة " (2)، فيكره على موجَب الحديث دخولُ بيت فيه صورة ممنوعة، كما
__________
(1) حديث عائشة. رواه البخاري بأتمّ مما جاء به الإمام: كتاب اللباس، باب ما وطىء من التصاوير، ح 5954، 5955، ورواه النسائي: كتاب الزينة، باب التصاوير، ح 5356، 5357.
(2) حديث " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة " رواه مسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم صورة الحيوان، ح 2112. (وانظر تلخيص الحبير: 3/ 399، 400 ح 1696).

(13/191)


ذكرناه، ولا ينتهي الأمر إلى التحريم عند كثير من أصحابنا.
وكان شيخي يُلحق هذا بالمحظورات، ويُلزم الخروج من البيت، والأصح الاقتصار على الكراهية.
فصل
وقال في نثر السكر واللوز والجوز في العرس: " لو تُرك، كان أحبَّ إليَّ ... إلى آخره" (1).
8562 - أراد الشافعي كراهةَ الالتقاط؛ لأنه أُخذ بخُلسةٍ ونُهبة، وفيه خروج عن المروءة، وربما يخطِر للناثر أن يُؤْثر بعض الملتقطين. ولا يبعد أن يحمل ما ذكره الأصحاب على النثر أيضاً؛ فإنه سببُ الحَمل على الالتقاط. وعندي أن الأمر في ذلك لا ينتهي إلى الكراهة.
ومن لم يكن ذا حظ من الأصول قد لا يفصل بين نفي الاستحباب وإثبات الكراهية، وليس كذلك، ولفظ الشافعي مشعر [بالتهيب] (2) وحط الأمر عن رتبة الكراهية؛ فإنه قال: " لو تُرك كان أحبَّ إليّ ". ثم قد ينتهي الأمر في هذا إلى الإباحة إذا كان الناثر لا يؤثر أحداً، وكان المتطلعون عنده بمثابةٍ.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر إملاكاً فقال: أين أطباقكم، فأُتي بأطباق عليها جوز ولوز وتمر فنُثرت. قال جابر بن عبد الله راوي الحديث: فقبضنا أيدينا، فقال صلى الله عليه وسلم: " ما لكم لا تأخذون. قلنا: لأنك نهيتنا عن النُّهبى، فقال: إنما نهيتكم عن نهبى العساكر، خذوا على اسم الله، فجاذَبَنا وجاذبناه" (3). فثبت الأصل بالخبر الصحيح.
__________
(1) ر. المختصر:4/ 40.
(2) كذا قرأناها على ضوء حروفها التي تداخلت بعضها في بعض، فصارت تقرأ: "بالتحفيذ" أيضاًً.
(3) الحديث عن النثر رواه البيهقي عن معاذ بن جبل، وقال عنه الحافظ: " في إسناده ضعف وانقطاع. ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة عن معاذ نحوه، وأورده ابن الجوزي =

(13/192)


ثم ما وقع على الأرض، فالحاضرون فيه شرَعٌ، يملكه من يبتدره، وإذا ثبتت يد إنسان على شيء منه، لم يُسلب منه، ولو غالبه مغالب، فهو غاصب، وإن وقع شيء في حِجر إنسان، فإن كان بسط حجره لذلك، لم يؤخذ منه، وكان احتواء الحِجر المبسوط لذلك بمثابة الأخذ باليد، وإن لم يكن قصد هذا ببسط حِجره، فهل يجوز الأخذ من حجره؟ قيل: لو كان لا يرغب فيه جاز، وإن عُلم أنه يرغب فيه، وإن لم يقصد بسطَ حِجره لهذا، ففي المسألة وجهان مبنيان على الطائر إذا فرخ في دار إنسان، فصاحب الدار أحق بالفرخ، ولكن لو ابتدره غيره فأخذه، فهل يملكه؟ فعلى وجهين.
8563 - من تحجر أرضاً ليحييها، فابتدرها غيره وأحياها، فالأصح أنه لا يملكها، وفي المسألة وجه على بعد. ولو نشر ذيله فوقع فيه شيء، كان نشْرُ الحِجر مملّكاً بخلاف [المحجِّر،] (1) فإن الملك يحصل بمجرد إثبات اليد في المنثور، وما يحصل في الحِجْر على الصورة التي ذكرناها يُعد في يد صاحب الحِجر، ويُعدُّ إحرازاً لما احتوى عليه حِجْره [ومجرد] (2) إثبات اليد لا يملّك الموات حتى يُحيىَ كما ذكرناه.
ولو سقط من حجره ما وقع فيه، نُظر، فإن لم ينشره بقصد الأخذ، فإذا سَقَطَ، مَلَكَهُ من يبتدره، وإن كان من وقع في حِجْره راغباً فيه، وهو بمثابة ما لو عشش طائر في دار ثم طار الفرخ، فلا اختصاص لصاحب الدار بعد مفارقته دارَه. ولو نشر ذيله، أوآلة كانت معه، فوقع فيه شيء، ثم سقط منه، فهذا فيه احتمال، والظاهر أنه يملكه، ثم لا يزول ملكه بالسقوط، كما لو اعتُقِلَ صيد بشبكةٍ نُصبت على مدارج الصيود وانضبط بها، ثم حدث حادث فأفلت؛ فالظاهر أنه مِلك ناصب الشبكة.
__________
= في الموضوعات، ورواه فيها أيضاًً من حديث أنس، وفيه خالد بن إسماعيل وهو كذاب ... " ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ (ر. التلخيص: 3/ 407 ح 1710، والسنن الكبرى للبيهقي: 7/ 288، وشرح معاني الآثار: 3/ 50).
(1) في الأصل: الحجر.
(2) في الأصل: وبمجرد.

(13/193)


وفي الصيد وآلة اللقط وجه آخر؛ فإن العادة هي المرعية في هذه الأبواب.
وما تحتوي عليه الشبكة لا يوثق به أو يؤخذ، نعم لو أخذه آخذ لم يملكه. وكذلك القول لو أخذ آخذٌ ما وقع في آلة الملاقط لم يملكه، وإنما الكلام فيه إذا سقط بنفسه.
فصل
في أحكام الضيافة وما يتعلق بها
8564 - إذا قَدَّم المُضيف الطعام، فالمذهب الظاهر: أنه لا حاجة إلى لفظٍ من المضيف، بل تكفي قرائن الأحوال في إفادة الإباحة. وأبعدَ بعضُ أصحابنا، فقال: لابد من لفطٍ منه، فليقل: كلوا بارك الله فيكم، أو ليأتِ بلفظ [يفيد] (1) هذا الغرضَ.
وليس بشيء.
ثم الضيف هل يملك ما يأكله؟ اختلف أصحابُنا في المسألة، فمنهم من قال: لا يملكه أصلاً، وإنما يأكله على ملك المُضيف مباحاً، وهذا ما حُكي عن اختيار القفال.
ومن أصحابنا من قال: إنه لا يملك حتى يضعَها في فيه.
ومنهم من قال: لا يملكها حتى يمضغها بعضَ المضغ.
ومنهم من قال: لا يملكها حتى يزدردها، فإذا ازدردها، تبيّنا أنه ملكها مع الازدراد.
وفائدة هذا التردد ظاهر في إثبات الملك ونفيه.
وكان شيخي يصحح أن الضيف لا يملك، ويذكر هذه الوجوهَ في أن الإباحة هل تلزم، حتى لو رجع المضيف، لم يكن له الرجوع. وهذا لا بأس به، ولكن الأصح أن الإباحة لا تنتهي إلى اللزوم قط، ما لم يَفُت المستباحُ، وليس في الشرع إباحة
__________
(1) في الأصل: فيفيد.

(13/194)


تُفضي إلى اللزوم إلا في النكاح، فإنا قد نختار أن المعقود عليه في النكاح ليس مملوكاً وإنما هو مستباح مستحق (1).
ومن قال لا بد من لفظٍ في إباحة الطعام يشترط من الناثر لفظاً أيضاً. ثم لا يشترط تمليكاً وإيجاباً وقبولاً، بل يكتفي بأن يقول: خذوا، أو بأي لفظ في معناه.
8565 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنَّا إذا رأينا إجابةَ الداعي حتماً، فلو دُعي جمعٌ فأجاب بعضهم، هل تسقط الفرضية عمّن لم يجب سقوطَ فرض الكفاية في مثل هذه الصورة؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه يُنحَى بذلك نحو فروض الكفايات، وأقرب الأمثلة إلينا ردُّ جواب السلام على جمعٍ؛ فإنه إذا أجابه واحد منهم، سقط فرض الجواب عن الباقين.
وعندي أن ما ذكروه فيه إذا وُجِّهت دعوةٌ على جمع ولم يُخَصَّص كلُّ واحد منهم [بالتنقير] (2)، فإن خصص كل واحد بالدعوة -والتفريع على وجوب الإجابة- فلا يسقط الفرض أصلاً عن البعض بحضور البعض، وعلى هذا القياسُ يجري في السلام [لو خُصِّصَ] (3) كلُّ واحد بتسليمة.
ولو حضر الدعوة، ولم يكن عذر يمنعه من الأكل، وكان يشق على المُضيف امتناعه؛ فقد ذكر العراقيون وجهين في وجوب الأكل بناءً على وجوب الإجابة. وهذا بعيد إن قيل به، فيكفي ما ينطبق عليه الاسم في التعاطي.
[فإن لم تكن دعوة،] (4) فالأكل والتطفل حرام، وفي الحديث: " من دخل دار
__________
(1) هذه القاعدة "ليس في الشرع إباحة تفضي إلى اللزوم إلا في النكاح، وأن المعقود عليه في النكاح ليس مملوكاً، وإنما هو مستباح، فيستحق" ذكرها ابن السبكي في الأشباه والنظائر: 1/ 369. ناقلاً إياها عن إمام الحرمين في النهاية وبنصها.
(2) في الأصل: التنويش. ولم أعرف لها وجهاً، مع تقليبها على كل صورة ممكنة من حروفها، بل لم نجد لها معنى في معاجم المعرب والدخيل. فقدّرنا أنها محرّفة عن (التنقير): والتنقير هو دعوة الرجل باسمه: مأخوذ من قول القائل: نقَّرْتُ باسم فلان إذا دعوته من بين القوم (المصباح والمعجم).
(3) في الأصل: واخصص.
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

(13/195)


غيره بغير إذنه، دخل عاصياً وأكل حراماً " (1). وإنما يفرض هذا والدعوة نَقَرى (2)، فأما إذا كانت الدعوة جَفَلَى (3)، وفتحت الباب ليدخل من شاء، فلا تطفل والحالة هذه. وقد نجزت المسائل المنصوصة في [السواد] (4)، ونحن نرسم بعدها فروعاً لابن الحداد وغيره.
فرع:
8566 - إذا قال السيد لعبده: انكح فلانة [الحرّة] (5)، وأجعلُ رقبتك صداقها، فالإذن فاسد؛ فإن النكاح على هذا الوجه لا يصح؛ إذ المرأة لو ملكت رقبة زوجها في دوام النكاح، لانْفسخ النكاح، فكيف يفرض انعقاده ابتداءً مع تقدير حصول الملك في رقبة الزوج؟ ولو تعاطى السيد التزويج بنفسه على هذه الصفة، فزوجَ من عبده الصغير -أو الكبير على قول الإجبار- حرةً، وجعل رقبة الزوج صداقاً، فالذي قطع به الأصحاب: بطلانُ النكاح.
وكنت أود لو ذهب ذاهب إلى صحة النكاح وفساد الصداق، ثم كان الرجوع إلى مهر المثل أو إلى القيمة، ولكن ما يصير إلى هذا صائر. والتعويل في المذهب على النقل.
وتعليل ما ذكره الأصحاب: أن من نكح امرأة وأصدقها خمراً، فإنا نفرض الصداق منفصلاً عن النكاح، حتى كأنه ليس عوضاً، وليست تسميةُ الخمر قادحةً في مقصود النكاح، وقد ذكرنا أن الشرائط التي لا تؤثر في مقصود النكاح لا تُفسده. وأما جعل
__________
(1) حديث: "من دخل دار غيره ... إلخ " هو عند البيهقي: 7/ 265 بلفظ: " من دخل على قوم لطعام لم يُدع إليه، فأكل، دخل فاسقاً، وأكل ما لا يحل له " ورواه الطبراني في الأوسط بقريب من هذا اللفظ، ح 8266 وقد ضعفه الألباني في الإرواء: 7/ 16.
(2) نَقَرَى: بفتحات ثلاث للنون والقاف والراء المهملة، ومعناه أن تكون الدعوة خاصة يُعيَّن فيها من يدعى باسمه. من قولهم: نقرْتُ باسمه أي دعوته من بين القوم. (المصباح والمعجم).
(3) جَفَلَى: وزان فَعَلَى بفتح الكل: وهي أن تدعو الناس إلى طعامك دعوة عامة من غير تخصيص أحدٍ باسمه. (المصباح والمعجم). وإمام الحرمين ناظر في هذا إلى قول طَرَفة بن العبد:
نحن في المشتاة ندعو الجَفَلَى ... لا نرى الآدبَ فينا ينتقر
(4) في الأصل: "الشواذ". ونذكر أن السواد هنا هو (مختصر المزني).
(5) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام -مع ما سيأتي- بدونها.

(13/196)


رقبة الزوج صداقاً، فنوعٌ من إفساد يقدح في مقصود النكاح، كما تقدم.
8567 - ولو أَذِنَ لعبده في أن ينكِحَ أَمَةَ الغير، ويجعل رقبته صداقها؛ فهذا جائز؛ فإنه لا يصير مملوكاً للزوجة، إذ مالك الصداق سيد الأَمَةِ، ولا يمنع أن يجتمع الزوج والزوجة في ملك مالك؛ فإن للسيد أن يزوِّجَ أَمَتَهُ من عبده.
فإذا تبين ذلك، فلو انعقد النكاح على هذا الوجه، ثم طلق زوجته قبل المسيس؛ فحكم الطلاق [لعيل] (1) التشطير.
وقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: يرتد نصف الرقبة إلى السيد الأول؛ فإن الرقبة خرجت من ملك السيد الأول، ونصف الصداق يرتد إلى من يخرج الصداق من ملكه، وليس هذا كما لو أصدق الأب عيناً من أعيان ماله زوجةَ طفْلِهِ؛ فإنا نقول: إذا بلغ وطلق، رجع نصفُ الصداق إلى الزوج، فإنَّا نقدر إصداق الأب عنه تمليكاً، ثم نحكم بأنه ثبت صداقاً عن ملك الطفل، ولا يتأتي في هذه المسألة مثل هذا، وليس بين كون العبد ملكاً للأول وبين وقوعه صداقاً مرتبة.
ومن أصحابنا من قال: لا يرتد نصف العبد إلى السيد الأول؛ لأن الطلاق هو المشطّر، وهو يقع والعبد في ملك الثاني.
وهذا الوجه عندي في حكم الوهم والغلط الذي لا يعوّل عليه، وذلك أن العبد هو الصداق، فلو فرضنا الصداق [غيرَه،] (2) وصورنا طلاقاً، لنظرنا على وجهٍ في حالة الطلاق، فأما إذا كان هو الصداق، فلا وجه إلا النظر إلى من خرج العبد عن ملكه.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين في أن العبد إذا نكح بإذن مولاه، والتزم المهرَ في الذمة، وأدَّاه من كسبه، ثم باع مالكُ العبد العبدَ، وطلق قبل المسيس، فالصداق إلى من يرتد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرتد نصف الصداق إلى [المالك] (3) الأول، وهو الوجه.
__________
(1) كذا. والسياق مفهوم على أية حالٍ بدونها.
(2) في الأصل: غرة.
(3) زيادة لإيضاح الكلام.

(13/197)


والثاني - أنه يرتد إلى الثاني؛ نظراً إلى حالة الطلاق.
فهذا -على هذا الوجه- بعيد. والترتيب الصحيح أنه إذا أدَّى المهر مما اكتسبه في ملك الأول، ثم فرض الطلاق في ملك الثاني؛ فالنصف يرتد إلى الأول؛ لأن الأكساب كانت ملكَ الأول، ومِن ملكِهِ خرجت إلى الزوجة، فأما إذا جرى النكاح في ملك الأول، ثم باعه مولاه، فاكتسب في ملك الثاني ووفَّر الصداقَ، ثم طلق قبل المسيس، فالنصف يرتد إلى الأول أو إلى الثاني؟ فعلى وجهين.
وإذا ضممنا ما ذكره الشيخ أبو علي إلى ما رتَّبه الأصحاب، انتظم من مجموعه في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها - أن نصف الصداق يرتد أبداً إلى من جرى النكاح في ملكه.
والثاني - أنه يرتد أبداً إلى من يجري الطلاق في ملكه.
والثالث - أنه يفصل، فإن اكتسب في ملك الأول وأدّى، رجع الشطر إلى الأول، وإن اكتسب في ملك الثاني وأدّى، رجع الشطر إلى الثاني.
8568 - ثم فرع الأصحاب مسألة إصداق العبد رقبة نفسه، فقالوا: إن حكمنا بأن شَطرَ الرقبة يرتد إلى الأول، فلا كلام، وإن حكمنا بأن الشطر يرتد إلى الثاني؛ فلا معنى للتشطر على الحقيقة، فإنه لو تشطر، لرجع إليه، فلا معنى لتقدير خروج الشطر عن ملكه وعوده إليه؛ إذ ليس يفهم الخروج إلا مع الدخول، وهذا غير معقول في هذه المسألة، فرجع فائدة الوجه إلى أنَّ صَرْفَنا حقَ التشطرِ إلى الثاني يوجب بقاء ملكه فيما كان يرجع لو كان مستحقُ التشطيرِ غيرَه.
ثم كل ما ذكرناه في باب شطر الصداق يتحقق في جميعه إذا جرى ما يوجب رد جميع الصداق، فإذا اطلع العبد على عيب بامرأته يُثبت مثلُه الفسخَ، ففسخ النكاح، فهذا يوجب ارتداد جميع الصداق، فإن قلنا: يرتد إلى السيد الأول، فيعود العبد ملكاً له، وإن قلنا: يرتد إلى ملك السيد الثاني؛ فحكم هذا ألا يخرج العبد عن ملكه، فإنه لو خرج منه لعاد إليه.
8569 - ومما يتصل بذلك، أن العبد لو عَتَقَ في هذه المسألة، وكان أعتقه السيد

(13/198)


الثاني، وهو مالك الأمة، فلو طلقها قبل المسيس، وبعد نفوذ العتق، فهذا يُفَرَّعُ على ما تقدم، فإن جرينا على المذهب الصحيح، وقلنا: نصف الصداق يرجع إلى السيد الأول، فالسيد الثاني -المعتِق- يغرم نصف قيمته للسيد الأولط. وإن فرّعنا على الوجه الثاني -وهو اعتبار يوم الطلاق- فمستحق الشَّطر هذا المعتَق؛ فإنه استقل بنفسه لما عتق، فرجع بقيمة نصف نفسه على سيده الثاني في الذي أعتقه. وكل ما يتفرع في نصف الصداق يتفرع في جميعه إذا جرى ما يوجب ارتدادَ جميع الصداق.
فرع:
8570 - إذا أصدق ذمي امرأته الذمية خمراً، وقبضت الخمر في الشرك، ثم أسلما، فقد ذكرنا أنه ليس لها مهر المثل بعد ما انبرمت الحالة بالقبض في الشرك. فلو استحالت الخمر التي في يدها خلاً، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يرجع عليها بشيء؛ فعلى وجهين: أحدهما - يرجع عليها بنصف الخل، وهو اختيار ابن الحداد، وذلك لأن هذه العين تلك العين، وليس انقلابها خلاً من قبيل الزيادات المتصلة.
والوجه الثاني - أنه لا يثبت له الرجوع بشيء؛ فإن انقلاب الخمر خلاً أكبر في مرتبته من الزيادات المتصلة، فإذا كانت الزيادة المتصلة تمنع من الرجوع في العين، فانقلاب الخمر خلاً بذلك أولى.
ولابن الحداد أن يقول: جرى إصداق الخمر في حالة كانوا يَرَوْنها مالاً في تلك الحالة، ثم جرى الطلاق، وفي يدها مال في الإسلام، وليس كالزيادات المتصلة؛ فإن مصيرنا إلى أنها (1) تمنع تشطّر الصداق، لا يَحْرِم الزوجَ، بل المرأة تغرم له نصف القيمة.
وهذا تكَلُّف. والأصح: الوجه الآخر؛ فإنا لا نلتفت إلى ماليةٍ في الإسلام.
التفريع:
8571 - إن قلنا: لا يرجع الزوج بشيء من الخلّ، فلا كلام، وإن قلنا: الزوج يرجع بنصف الخل، فلو أنها أتلفت الخل، ثم طلقها قبل المسيس؛ ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه يرجع عليها بنصف مثل الخل التالف، وهو اختيار
__________
(1) الضمير يعود على الزيادات المتصلة، كما هو واضح.

(13/199)


الخِضْري، فإنه إذا ثبت الرجوع، تعين الخل عند [بقائه] (1)، فالوجه أنه يرجع بمثله عند تلفه؛ فإنه من ذوات الأمثال.
والوجه الثاني - أنه لا يرجع عليها بشيء عند تلف الخل، وهذا اختيار ابن الحداد. ووجهه أن الخل إذا تلف قبل الطلاق، [لم يصادف] (2) الزوج خلاً، ولا أصدق خلاً، ونحن نعتبر (3) حالة الإصداق والقبض (4) القبض. وهذا فيه فقه.
والأصح ما ذكره الخِضري؛ فإن الخمر لما استحالت خلاً، قدرنا كأن الصداق كان خلاً.
8572 - ومما يتعلق بهذه المسألة أنه لو أصدق امرأته جلدَ ميتة في الكفر، وقبضته، ثم أسلما، ودبغته، وطلقها قبل المسيس، اختلف أصحابنا على طريقين في المسألة: فمنهم من قال: فيها وجهان كالوجهين في الخمر إذا انقلبت خلاً.
ومنهم من قال: لا يرجع في هذه الصورة، وجهاً واحداً بخلاف مسألة الخل، والفرق بينهما أن التملّك تحقق في مسألة الجلد بقصدها وفعلها، فيظهر انفرادها بالجلد المدبوغ، بخلاف الخمر تنقلب خلاً.
ثم قال الشيخ [أبو علي] (5): إن قلنا في مسألة الجلد: إن الزوج إذا طلقها يرجع في نصفه مدبوغاً، فلو [أتلفته] (6)، ثم طلقها، قال: يجب القطع في هذه الصورة بأنه لا يرجع بشيء عند التلف، فإن الجلد ليس له مثل، بخلاف الخل، فلا سبيل إلى المثل، ولو أثبتنا للزوج حقاً تقديراً، لتعيّن في القيمة، ثم لو قدرنا الرجوع إلى القيمة فالاعتبار بقيمة يوم الإصداق، ولم يكن للجلد يوم الإصداق قيمة.
__________
(1) في الأصل: نقله.
(2) في الأصل: " ولم يصادف ".
(3) ونحن نعتبر: أي عند الرجوع.
(4) في الأصل: " أو القبض ". والمثبت مأخوذ من عبارة النووي، إذ قال:" ... لأن الرجوع في الصداق تعتبر قيمته يوم الإصداق والقبض". (الروضة: 7/ 303).
(5) الزيادة من المحقق للتعريف فقط.
(6) في الأصل: أتلفه.

(13/200)


وهذا الذي ذكره حسن، ولكن الاحتمال متطرق إلى الجلد، حيث انتهى التفريع إليه؛ فإنَّا نُقَدِّر كأن الصداقَ كان جلداً (1)، وإنما نُثبت الرجوع في نصف العين لو بقي بتأويل تقدير الصداق كذلك يوم الإصداق.
ومن بقية المسألة أنها لو باعت الخل أو الجلد أو وهبته، فهو كما لو تلف في يدها، أو [أتلفته] (2) في كل تفصيل.
ثم جميع ما ذكرناه في النصف عند فرض الطلاق قبل المسيس، يتقرر في الجميع عند تقدير ارتداد الجميع.
فرع:
8573 - إذا أصدق الرجل امرأته حلياً، فكسرته، ثم أعادت صيغته، ثم طلقها قبل المسيس، فلا يخلو إما أن أعادته على صيغة أخرى، أو أعادته على تلك الصيغة بعينها، فإن أعادته على صيغة أخرى، ثم طلقها قبل المسيس، فللزوج الامتناع؛ فإن ذلك وإن كان زيادة، فقد زالت الصنعة التي كانت، فكان ما نحن فيه بمثابة زيادة من وجه ونقصان من وجه آخر.
وإن عادت تلك الصنعة الأولى بعينها، ثم طلقها قبل المسيس، فهل يثبت له الرجوع بنصف الصداق؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبت له الرجوع إلى نصف [الحلي؛ فإنها] (3) عادت كما كانت، فصار كما لو أصدقها عبداً سميناً، فهُزل في يدها ثم عاد سميناً، كما كان من غير زيادة، ثم فرض الطلاق قبل المسيس، وإن كان كذلك، فالأصحاب -فيما نقله الشيخ- مجمعون على أنه يرجع بنصف العبد.
والوجه الثاني - أنه لا يرجع بنصف [الحلي] (4)، وللمرأة منعه، وهذا اختيار ابن الحداد، وليست كالسمن في الصورة التي ذكرناها؛ فإن هذه الصيغة عادت باختيارها وليست كالسمن، وهذا التردد يشبه اختلاف الأصحاب في أن تحصيل هذه الآثار هل يلحقها بالأعيان، أم كيف السبيل فيها؟ وقد ذكرنا هذا في كتاب التفليس.
__________
(1) كان جلداً: أي مدبوغاً.
(2) في الأصل: أتلفت.
(3) عبارة الأصل: " يثبت له الرجوع إلى نصف فإنه ". والزيادة والتعديل من المحقق.
(4) في الأصل: الإناء. ولم يسبق للإناء ذكر في هذا الفرع.

(13/201)


التفريع:
8574 - إن قلنا: يرجع في نصف الحلي، فلا كلام. وإن قلنا:
لا يرجع، فبماذا يرجع؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يرجع في نصف قيمة الإناء (1) غيرَ مكسور، فإن كان من ذهب، فالواجب نصفُ قيمته وَرِقاً (2)، وإن كان من [ورقِ] (3)، فالواجب نصفُ قيمته ذهباً.
والوجه الثاني - أنها تغرَم مثلَ [نصف] (4) تِبر الحلي وزناً بوزن، ثم تغرَم نصف أجر مثل الصائغ من نقد البلد، وهذا قد قدمنا له نظيراً في البيع، وكل ذلك والحلي مباح، أو قلنا يجوز استصناع الإناء (5) وصنعته محترمة.
8575 - ثم أجرى الشيخ أبو علي (6) في أثناء المسألة كلاماًً لا يختص بفرض الصداق، فقال: إذا غصبَ الرجل إناء من ذهب وزنه ألف، وقيمتُه ألف ومائة، وفرعنا على أنَّ اتخاذ الأواني محرم، فلو كسره الغاصبُ، فرجع إلى ألف، فهل يغرَم قيمة الصنعة؟ فعلى وجهين.
وهذا غريب غير متجه؛ فإن تلك الصنعة على هذا الوجه ليست متقوّمة، وما لا يتقوَّم لا يختلف الأمر فيه بين مُتلِف وبين مُتلِف.
ولو غصب جارية مغنية قيمتها لمكان الغناء ألفان، فتلفت أو رجعت إلى ألف، ونسيت ما كانت تحسنه، فهل يضمن الغاصب ما كان في مقابلة الغناء؟ فعلى وجهين ذكرهما.
ثم زاد فقال: من اشترى جارية مغنية تساوي ألفين بسبب الغناء، وقيمة رقبتها
__________
(1) عاد يعبر عن الحلي بالإناء.
(2) ورقاً: أي فضة، وذلك حتى لا يقع في الربا ببيع الذهب بالذهب.
(3) في الأصل: " من دون ".
(4) زيادة لتصحيح العبارة.
(5) استصناع الإناء: يصح هذا إذا قلنا في أول الفرع: " إذا أصدقها حلياً أو إناءً ".
(6) ثم أجرى الشيخ أبو علي ... : الإمام ينقل عن الشيخ أبي علي في شرح الفروع لابن الحداد، فكأنه يقول: ثم أجرى الشيخ أبو علي في أثناء شرحه لهذا الفرع كلاماً لا يختص بفرض الصداق.

(13/202)


ألف، فإن اشتراها بألف، فيصح البيع، وإن اشتراها بألفين فقد حكى الشيخ في ذلك اختلافاً، فحكى عن المحمودي أنه أفتى ثَمَّ ببطلان البيع؛ فإنا لو صححناه، لصار تعليم الغناء مَكْسبةً وننسبُها إلى المقابلة بمال.
قال الشيخ أبو زيد: إن قصد بشرائها والمغالاة في ثمنها غِناءها؛ فلا يصح، وإن أطلق البيع، ولم يقصد ذلك صح. وقال أبو بكر الأودَني (1): مِن أصحابِنا مَن قال: يصح البيع على كل حال، ولا يختلف بالقصود والأغراض.
وهذا هو القياس السديد.
فرع:
8576 - إذا أصدق الرجلُ امرأتَه عبداً، فرهنته، ثم إنه طلقها قبل المسيس والعبد مرهون؛ فلا يرجع في نصف العبد مرهوناً على تقدير أن تفك الرهن وتسلّم إليه نصفَ العبد، فلو قال الزوج: أصبرُ وأنتظر، فإن انفك الرهن، رجعتُ في نصف العبد، فللمرأة ألا ترضى به؛ فإنها لو رضيت، لكان الحق باقياً في ذمتها، ولو قدرنا رجوع [العبد بالانفكاك] (2)، فذاك منتظر، ولها ألا تصبر على شغل الذمة.
ولو قالت: أصبر حتى يفكَّ الرهنُ، فللزوج ألا يصبر ويطلب حقه عاجلاً.
ولو قال الزوج: رضيت بنصف العبد، وصبرت إلى فك الرهن وأبرأتكِ عن الضمان، وأنا متربص إلى فكاك الرهن، فإن سلِم فذاك، وإن لم يسلَم وتلف العبد، فلا عليكِ، فهل عليها أن تجيبه إلى ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - عليها أن ترضى بما رضي به.
والوجه الثاني - ليس عليها، وشبه ذلك بما لو أصدق امرأته نخلاً، فأطلعت، وطلقها قبل المسيس، فلو قال الزوج: أصبر إلى أن تُجَدَّ الثمارُ، ثم أرجع في نصف النخيل ويكون الضمان [عليّ] (3) حتى [لو] (4) تلف حقي قبل الجداد، فلا يلزمها ذلك.
__________
(1) في الأصل: الأودي. وهو تصحيف.
(2) في الأصل: رجوع العين في الثاني.
(3) في الأصل: عليك.
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(13/203)


ولو قال: أخرجتك من ضمان العين في الحال، وأنا متربص فإذا جُدَّت الثمار، رجعت في النخيل، وإن تلفت، فلا عليك، فهل يلزمها ذلك؟ فعلى وجهين ذكرهما.
وهذا عندي غيرُ سديد، فإنَّ الصداق إذا كان نخيلاً -كما صوره- فطريق الكلام فيه يتعلق بالسقي، ورجوع فائدته إلى الشجرة، ومثل ذلك لا يجري فيما نحن فيه؛ [وتلك] (1) المسألة أجريناها على أحسن وجه. وما ذكره الشيخ من الوجهين يُفسد نظامها. وأما مسألة الرهن، فما ذكره من الخلاف فيه، بعيد أيضاًً؛ فإنه يبعُد أن يتملك النصف وهو مرهون، فإن ما لا يصح ابتياعه لا ينقلب إلى الزوج ملكاً، وإذا بعُدَ ملكُ النصفِ، فما معنى سقوط الضمان عنها؟ فالوجه: انحصار حقه في القيمة لا غير.
8577 - ومما يتعلق بهذه المسألة أنها لو أجَّرت العبد المُصْدَقَ مدةً، وطلقها الزوج، والعبد في بقية المدة، فلا سبيل إلى فسخ الإجارة بعد لزومها، فإن أراد الزوج الرجوعَ بنصف القيمة، فهو حقه. ولو قال: أصبر إلى انقضاء الإجارة، ثم أرجع في نصف العبد، وضمان ذلك إلى أن يتفق الرجوع عليك، فليس له ذلك. ولو قال: أتربصُ إلى انقضاء المدة وقد أبرأتكِ في الحال عن ضمان حصتي، فعلى وجهين: أحدهما - أنه يُجاب إلى مُلتَمَسِه.
والثاني - لا يُجاب، كما ذكرناه في الرهن.
فإن قيل: هلا خرجتم ذلك على أن الدار المكراة هل تباع؟ حتى تقولوا إذا لم يصح بيعه، امتنع الرجوع في نصفه، وإن قلنا: يجوز بيع المكرَى، فيجوز منه الرجوع فيه، [إن] (2) رضي به. قلنا: كان الإمام (3) يذكر ذلك ويختاره على هذا الوجه.
__________
(1) في الأصل: فتلك.
(2) في الأصل: وإن.
(3) الإمام: يقصد والده الشيخ أبا محمد. رضي الله عنهما وعن جميع أئمتنا.

(13/204)


وحقيقة هذه المسألة تبتني على الصداق إذا تشطر، حيث لا منع، فنصيب الزوج مضمون أو غير مضمون؟ وقد ذكرنا اختلاف الطرق في ذلك.
فإن قلنا: [نصيبه] (1) في يدها غير مضمون إذا لم تتعدّ ولم تمتنع، فإذا رضي الرجل برجوع نصف المكرى إليه، وجب إجابته لا محالة.
وإن قلنا: نصيب الزوج مضمون على الزوجة ما دام في يدها، فإذا قال الزوج -والصداق مكرى-: رضيت بنصفه، فإن جوزنا بيع المكرَى، وقد رضي الزوج بالنصف ولم يبرئها عن الضمان، لم يجب، وإن أبرأها عن الضمان، فهل يصح الإبراء عن الضمان؟ هذا يبتني على أن المغصوب منه إذا أبرأ الغاصب عن الضمان هل يبرأ؟ وفيه خلاف قدمته، وهو مبني على أن الإبراء عما لم يجب، [ووُجد] (2) سببُ وجوبه هل يصح؟ ثم ثمرة هذا أنَّا إن صححنا الإبراء، أجيب الزوج وإن لم نصحح الإبراء، لم يجب.
8578 - ومما يتعلق بهذه المسألة أيضاًً أن المرأة لو باعت العبد المُصْدَقَ قبل الطلاق، ورجع إلى ملكها، ثم طلقها قبل المسيس، ففي الرجوع إلى عين الصداق وجهان مشهوران.
ولو أصدقها عبدَه فرهنته، ثم انفك الرهن، فطلقها قبل المسيس؛ فللزوج الرجوع إلى نصف العبد، ولا حكم لطريان الرهن، وإن كنا نقول: لو صادف الزوج العبدَ مرهوناً عند الطلاق لم يرجع في نصفه، وكذلك القول في الإجارة إذا طرأت وزالت قبل الطلاق.
ولو أصدقها عبداً فدبّرته، وفرّعنا على أنه لا يرجع في نصف المدبّر، إذا صادفه الطلاقُ مدبّراً، فلو دبّرته، ثم رجعت عن التدبير؛ فالذي عليه الجريان: أنه يرجع الآن.
قال الشيخ: لو طلقها والعبد مرهون، وقلنا: يمتنع الرجوع فيه، أو كان مدبراً
__________
(1) في الأصل: نصيبها.
(2) في الأصل: ووجه.

(13/205)


وحصرنا حق الزوج في نصف القيمة، فاتفق أنه لم يرجع في نصف القيمة حتى انفك الرهن، وزال التدبير؛ فلو قال الزوج: قد زالت الموانع، فلا أرضى إلاَّ بنصف [العبد] (1)، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين، ذكرهما: أحدهما - حقه في نصف [العبد باقٍ؛ فإنّ] (2) هذه الأسباب لو زالت قبل الطلاق، لثبت حق الزوج في العبد، فكذلك إذا زالت بعده وقبل انفصال الأمر.
والوجه الثاني - أنه لا حظَ له في العبد؛ اعتباراً بحالة الطلاق. وهذا هو الصحيح.
ثم إذا أثبتنا له حقَّ الرجوع إلى العين، فالظاهر عندنا أن الأمر في ذلك إليه حتى [لو] (3) استقر على طلب نصف القيمة، كان له ذلك؛ فإن الأمر في التغايير التي تلحق الصداق تتعلق بالاختيار، وإنما يتشطر [الصداق] (4) من غير اختيار -على الأصح- إذا لم [تُقْرن] (5) حالة الطلاق بسبب من هذه الأسباب.
ويجوز أن يقال: يتعين حقه على هذا الوجه في العين إذا لم يتفق قبضُ القيمة، ويكون هذا بمثابة ما لو لم يكن مانع حالة الطلاق. فإن استبعد مستبعدٌ ذلك [فيه] (6)، فهو ميلٌ منه إلى أنه لا حق له في العين، وهو وجهٌ منقاس؛ لأنه ملك عليها نصف القيمة، وانفصل الأمر، وهذا منتهى الاعتبار في باب الصداق.
ومن أتلف على رجل مثلياً، ولم يصادف [للمتلَف] (7) مِثلاً، فهو مطالبٌ بالقيمة، فإن لم يتفق تغريمُه القيمةَ حتى وُجد المثلُ، فيتعين المثلُ، لا خلاف فيه.
فهذه مسالك النظر.
__________
(1) في الأصل: العين.
(2) عبارة الأصل: "أحدهما - حقه في نصف العين بأن هذه الأسباب لو زالت ... إلخ " وإقامة النص بالتعديل والزيادة من عمل المحقق.
(3) زيادة لاستقامة العبارة.
(4) في الأصل: الطلاق.
(5) في الأصل تُفرض.
(6) في الأصل: " منه ".
(7) في الأصل: المتلف.

(13/206)


فرع:
8579 - ذكر الشيخ في أثناء كلامه فصولاً مستفادة يتعلق بعضها بالصداق ولا يتعلق بعضها به، ونحن نأتي بالفوائد منها.
فإذا أعتق الرجلُ أَمَتَهُ في مرضه المخوف، ونكحها؛ فقد قال الأصحاب: لا ترثه العتيقةُ بالزوجية، فإنَّ إعتاقه إياها في المرض وصية، ولا يُجمع بين الوصية والميراث، والمسألة من دوائر الفقه.
8580 - ولو قال لأَمَته في مرض موته: " أعتقتكِ على أن تنكحيني "، فقبلت ذلك، عَتَقت ولزمتها القيمة، ثم إذا أعتقت بقوله وقبولها والتزمت القيمةَ، فلا يلزمها الوفاء.
فلو نكحها، وجعل ما لزمها من القيمة صداقَها، وكانت القيمة معلومةً، فيصح النكاح، ثم لا يخلو إما أن تكون قيمةُ العتيقة مثلَ مهر مثلها، أو كانت قيمتُها أكثرَ من مهر مثلها، فإن كانت [قيمتُها] (1) مثلَ مهر مثلها أو أقلَّ، فيصح النكاح وترثه.
وذلك أن العتق كما (2) وقع في حقها مجاناً ألا يكون، (3) وصية، فلا دَوْر، ثم قد صَرَفَ المعتِق قيمتها إلى مهرها، وليس فيه محاباة.
فأما إذا كانت أكثرَ من مهر مثلها، وقد نكحها المعتِق على قيمتها، فقد حاباها؛ فإن مهر مثلها إذا كان خمسمائة، وقيمتها ألف، فإذا أصدقها قيمتَها، فقد حاباها، فهل ترث؟ ذكر وجهين: أحدهما - أنها لا ترثه؛ فإنه قد حاباها في قيمتها، فكأنَّ نصف العتق وقع مجاناً، فيعود الأمر إلى الوصية بالعتق. ومفهوم قول ابن الحداد يشير إلى هذا الوجه، وهو ضعيف.
والوجه الثاني - أنها ترثه، وهو الصحيح الذي لا يجوز غيره؛ فإن أصل العتق وقع بعوض المثل، والمحاباة رجعت إلى القيمة، فهو كما لو نكح حرة بأكثر من مهر مثلها، فإنها ترث والمحاباة تُردّ.
__________
(1) في الأصل: قيمته.
(2) كما: بمعنى " عندما، وهو استعمالُ غير صحيح ولا عربي، كما أشرنا إلى ذلك.
(3) في الأصل: " لتكون ".

(13/207)


8581 - ومما أجراه في أثناء الكلام أنه تعرض لاستبدال المرأة عن الصداق، وخرجه على القولين في أن الصداق مضمون باليد أم بالعقد؟ وهذا بيّن، ثم انتهى إلى الكلام في الاستبدال عن الثمن المتلزم في الذمة، فذكر فيه قولين، وهما مشهوران.
ثم قال: لو كان الثمن دراهم معينة؛ فالأصح: أنه لا يجوز الاستبدال عنها؛ لأنها تتعين بالتعيين، ونزلت منزلة سائر الأعيان. وذكر وجهاً أنه يجوز الاستبدال عنها إذا جَوَّزنا الاستبدال عن الثمن الواقع في الذمة؛ لأن الدراهم لا تعنى لأعيانها، وإنما تعنى لنقودها وماليتها، والقصود مرعية في جواز الاستبدال ومنْعه، ولذلك منعنا الاستبدال عن المُسْلَمِ فيه وإن كان ديناً في الذمة؛ فإن جنسه مقصود في وضع العقد، كما أن الأعيان مقصودة، فإذا لم يمتنع التحاق الدين بالعين في منع الاستبدال، لم يبعد التحاق بعض الأعيان بالديون التي يجوز الاستبدال عنها.
وهذا وجه بعيد؛ من قِبَل أن الدراهم إذا حكمنا بتعيينها، فالعقد ينفسخ بتلفها، وهذا يؤذن بضعف الملك فيها، فيبعد تصحيح الاستبدال عنها.
فرع يتعلق بالصيد والإحرام:
8582 - لا بد فيه من تجديد العهد ببعض ما سبق في المناسك، فنقول: المُحْرِم ممنوع من ابتياع الصيد، فلو اشترى صيداً، فمن أصحابنا من أجرى في صحة شرائه قولين: أحدهما - إنه لا يصح الشراء ولا يملك الصيد.
والثاني - يصح الشراء ويملك. وهذا يستند إلى القول في أن المُحرِم إذا كان في ملكه صيدٌ قبل الإحرام، فإذا أحرم، فهل يزول ملكه عنه؟ فعلى قولين: أحدهما - يزول ملكه بنفس إحرامه.
والثاني - لا يزول أصلاً.
ومن أصحابنا من قال: لا يزول الملك بالإحرام الطارىء قولاً واحداً. ولكن هل يلزم المحرمَ إرسالُ ذلك الصيد؟ فعلى قولين.
ومما يتعلق بذلك أنَّا وإن قلنا: [يتصور] (1) من المحرم أن يتملك صيداً في الابتداء
__________
(1) في الأصل: التصوّر.

(13/208)


قصداً واختياراً، فالصيد يدخل في ملكه بالطرق التي لا اختيار فيها، كالإرث، ثم يلزمه إرساله، وهذا بمثابة قطعنا القول بأن الكافر يرث العبد [المسلم] (1).
قال الشيخ: إذا قلنا: إن طروء الإحرام يزيل الملك عن الصيد، فلا يبعد على ذلك أن نقول: الإحرام يمنع حصول الملك بجهة الإرث؛ فإنه إذا قطع الملك المستدام، يجوز أن يمنع حصول الملك بجهة الإرث.
فهذا شيء ذكره من تلقاء نفسه، والمذهب الذي صار إليه الأصحاب أن الإحرام لا يمنع حصول الملك القهري؛ فإنه يبعد أن يرث شيئاً ولا يرثَ شيئاً، ثم يدخل في ملكه فيزول إن فرعنا على أن الإحرام يقطع دوام الملك.
ومما ذكره في مقدمة المسألة: التعرضُ للخلاف المشهور في أن رجوع نصف الصداق إلى الزوج هل يتوقف على اختياره؟ وهذا مما ذكرناه.
8583 - ثم قال: إذا ارتدت المرأة قبل المسيس، اقتضى ذلك ارتداد جميع الصداق إلى الزوج، ولا أثر للاختيار في ذلك وجهاً واحداً، وكذلك كل نكاح ينفسخ، ويجب من انفساخه ارتدادُ جميع الصداق، فلا أثر للاختيار. وهذا الذي ذكره حكايةٌ، وهو موثوق به فيما يحكيه. والفرق بين الطلاق وبين الفسخ، أن الفسخ بطباعه يقتضي ردَّ العوض، بخلاف الطلاق؛ فإنه تصرُّفٌ في العقد وليس فسخاً له.
وإذا ارتد الزوج، فارتداده يوجب تشطّر الصداق، والذي أراه أن الوجه الضعيف في اشتراط اختيار التمليك، يجري في النصف الذي يرتد إلى الزوج بردته؛ فإن ردة الزوج قبل المسيس، تنزل منزلة الطلاق، فهذا ما أردناه في ذلك.
8584 - ثم نعود إلى فرع ابن الحداد، وقد ذكر صورتين: إحداهما - أن الرجل إذا أصدق امرأته صيداً، ثم أحرم الزوج، وارتدت المرأة قبل المسيس، فيرتد الصداق إلى ملك الزوج مع إحرامه؛ فإن هذا ملك ضروري، فكان بمثابة الإرث. وكذلك لو
__________
(1) في الأصل: الملى. (كذا) وما أثبتناه هو الموافق لحكم المسألة في مواطنها. والمعنى هنا: أن المحرم يتملك الصيد قهراً بالإرث ثم يلزمه إرساله، مثل الكافر الذي يتملك العبد المسلم بالإرث ثم يلزمه إرساله بالبيع.

(13/209)


كان باع صيداً وهو مُحِلٌّ، ثم أحرم، فرُدّ عليه الصيدُ بالعيب؛ فإنه يدخل في ملكه، ثم يتعين عليه إرساله، فإن أرسله، فلا كلام. وإن بقي في يده حتى أحل، فهل يجب الإرسال في هذه الصورة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب، وفاءً بما تقدم.
والثاني - لا يجب، ويكون بمثابة الكافر إذا أسلم عبده وألزمناه بيعه، فلم يبعه حتى أسلم، فلا يلزمه الآن بيعه.
ويترتب على هذا أنَّا إذا قضينا بأن الإحرام يقطع دوام ملك المحرم عن الصيد، فإذا اضطررنا إلى الحكم بارتداد الصيد إليه، فهل نقول: يرتد إليه ملكاً ويزول؛ تفريعاً على هذا الوجه، كما يرث الصيد ثم يزول ملكه؟ والظاهر: أنَّا نقول بهذا إذا فرعنا على زوال الملك، ولكن هذا القول ضعيفٌ. والتفريع على الضعيف يتخبط.
فأما (1) إذا طلق الزوج المحرم زوجته قبل المسيس والصيد في يدها، فإن قلنا: النصف من الصداق لا يرتد إلى المطلق إلا [باختيار] (2) التملك، فليس له اختيار التملك، فإذا امتنع الاختيار بسبب الإحرام، فله أن يغرِّمها نصفَ القيمة، وليس لها أن تقول: لا أغرم لك شيئاً، فإنك أُتيتَ من جهة نفسك هكذا.
وفي المسألة أدنى احتمال.
وإن قلنا: لا حاجة إلى الاختيار والطلاق مشطِّر بنفسه، فعلى هذا، إذا طلقها وهو محرم، فإن قلنا: لو اشترى صيداً ملكه، فإذا طلق، مَلَكَ نصفَ الصداق. وإن قلنا: لو اشترى لم يملك، فإذا طلق، فهل يملك نصف الصيد؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يملك؛ لأنه اختار الطلاق (3)، فأشبه ما لو اختار الشراء.
والثاني - يملك؛ لأنه ما اختار التملك.
__________
(1) هذه هي الصورة الثانية التي تقع قسيماً للصورة التي ترتد فيها الزوجة، وفد ذكرناها آنفاً.
(2) في الأصل: باعتبار.
(3) لأنه اختار الطلاق: المعنى أنه بإيقاعه الطلاق، والطلاق مشطّرٌ بنفسه، فكان كأنه أوقع الشراء والتفريع على أنه لا يملك الصيد بالشراء.
والوجه الثاني - يملك نصف الصداق، لأن إيقاعه الطلاق ليس اختياراً لتملك نصف الصداق (الذي هو الصيد) وإنما دخل نصف الصداق في ملكه قهراً.=

(13/210)


وقد مضى معظم ذلك في كتاب الحج.
8585 - ثم يتصل بذلك أنه إذا طلقها قبل المسيس وقلنا: يرتد إليه نصف الصيد، فموجب ذلك أن يتعين الإرسال عليه، ولكن إرساله عَسِرٌ؛ إذ ليس جميع الصيد عائداً إلى المُحرم، وإرسالُ البعض غيرُ ممكن. فإن لم يرسله حتى تلف في يده- والإحرام مستدام بعدُ؛ يضمن نصف الجزاء، وإن أرسله، فقد برىء عن الجزاء عند تقدير التلف، ولكنه يغرَم نصف القيمة للمالك (1)، وهو الذي ورّط نفسه في هذا التضييق.
ويتعارض في هذه المسألة أمران متناقضان؛ فإنَّا لو قلنا: يجوز إرسال الصيد، كان ذلك تسليطاً على تفويت ملك الغير، وإن قلنا: ليس له إرساله، كان ذلك إذناً للمحرم في إمساك الصيد، والجمع بين الأمرين مستحيل.
ولو قال قائل: أوجبوا الإرسال، وضمِّنوه قيمة نصيب الشريك، وقد يجوز إخراج مال الغير في مظان الضرورات ومسيس الحاجات.
هذا خرَّجه بعض الحذاق على الاختلاف المعروف في أنه إذا اجتمع حقّ الله تعالى وحق الآدمي في أمرٍ مالي، فكيف الوجه فيه؟ فمن رأى تقديم حق الله تعالى، لم يُبعد أن يوجب الإرسالَ في هذه الصورة والتغريمَ.
ومن رأى تقديم حق الآدمي لم يُبعد أن يحرِّم الإرسال ويُلزمه إدامةَ اليد إلى الرد فيكون هذا صيداً يجب على المُحْرِم إمساكه.
ومن لم ير تقديمَ حق الله تعالى ولا تقديم حق الآدمي، فليس ينقدح على هذا إلاَّ أن يتخير في الإمساك والإرسال، فإن أرسل عُزِّر وغُرِّم، وإن أمسك عُزِّر، وإذا أتلف، لزمه الجزاء.
8586 - وقد تَعْرِض عند ذلك مسألة أجريناها في الأصول (2)، وهي: أنه لو اتفق وقوع إنسان على صدرِ مريضٍ بين مرضى، وعلم أنه لو استقر على من وقع عليه،
__________
(1) للمالك: المراد هنا الزوجة التي طلقها، حيث كان الصداق (الصيد) في ملكها.
(2) ر. البرهان في أصول الفقه: 2/فقرة: 1527 - 1534.

(13/211)


لمات ذلك المريض، ولو انتقل منه، لهلك من ينتقل إليه، فالذي اخترناه أن هذه واقعة لا نُثبت فيها حكماً بنفيٍ ولا إثبات، فإنا كيف نفرض الأمر نقع في تجويز قتلٍ محظور، وإهلاكِ ذي روح محترم. والمصيرُ إلى إخلاء واقعةٍ خطيرة عن حكم الله تعالى في الشرع ليس بالهيِّن.
فليس يبعد عندنا أن يقال بنفي الحرج عنه فيما يفعل، وهذا حكمٌ. ولا يبعد أيضاًً أن يقال: انتقالك ابتداءً فعلٌ منك، واستقرارك في حكم استدامة ما وقع من سقوطك ضرورياً، وقد يتجه ذلك بأن الانتقال إنما يجب في مثل ذلك إذا كان ممكناً، ولو امتنع، فإيجابه محال، والممتنع شرعاً كالممتنع حِسَّاً وطبعاً، ولئن عظم وقع الكلام فيما يتعلق بالدماء، فالتخيير ليس بدعاً في الأموال، وما يتعلق بجزاء الصيد؛ فإنا قد نبيح الصيدَ للمحرم، وقد نبيح للإنسان مالَ غيره.
ولو وقع بين أوانٍ فلابد من انكسار بعضها، أقام أو انتقل، فيتعين في هذه الصورة القول بالتخيير.
فرع:
8587 - يتعلق بضمان الأب مهر زوجة الابن.
وهذا قد أجريته فيما تمهد من الأصول، ولكن رأيت للشيخ تصرفاً فلم أجد بداً من الإعادة، وإن مست الحاجة إلى تكرير، فلا مبالاة به.
المنصوص للشافعي في الجديد: أن الأب إذا قبل لابنه الصغير نكاح امرأة، فلا يصير ضامناً للمهر بنفس النكاح، فإن ضمنه، صار ضامناً، كما يضمن سائر الديون اللازمة، فيلتزمها، ثم إذا ضمن وغرم، فهل يرجع بما غرم؟
قال الشيخ: إنْ قَيَّد ضمانَه بشرط الرجوع، ولَفَظَ ذلك صريحاً، فيملك الرجوع إذا غرم. وإن لم يشترط الرجوع، لم يضمن. واكتفى بعض المحققين بقصد الرجوع منه والنيةِ من غير لفظ، وهذا المسلك أفقه وأليق؛ وقد ذهب كثير من أصحابنا إلى أنه يُكتفى بأحد شِقَّي البيع، فإذا كان يسقط التلفظ بأحد شِقَّي العقد، لم يبعد أن يسقط التلفظ بشرط الرجوع. ويمكن أن يُبنى ما ذكر الشيخ من اشتراط اللفظ وما اكتفى به غيره من النية والقصد؛ على الاختلاف الذي قدمناه في أنَّا هل نكتفي بأحد شِقَّي العقد أم لا؟ هذا تفريع على القول الجديد.

(13/212)


وللشافعي قول في القديم أن الأب يصير ضامناً للمهر بنفس العقد، وإن لم يُصرح بالضمان، فإذا فرعنا على ذلك وغرم الأبُ ما ضمنه، قال الشيخ: لا يرجع به، وقد حكيت فيما تقدم مثل هذا من أجوبة القاضي، وقد شبهنا غرامته المهر بما تلتزمه العاقلة من أُروش الجنايات؛ فإنهم لا [يرجعون] (1) به على الجاني خطأً.
وقد قدمت أن إثبات الرجوع متجه، والقياس على تحمل [العقل] (2) بعيد.
وقد قدمنا في ذلك أوجهاً، ونحن نضم إليها مزيدَ بيانٍ، فنقول: لم يختلف العلماء في أن الصبي إذا بلغ، طولب بالمهر، والقاتل خطأً لا يطالب بأرش الجناية مع العاقلة، وإذا أبرأ مستحق الأرش القاتلَ، لم يكن لهذا الإبراء معنى، والمرأة إذا أبرأت زوجها الصغير عن الصداق، صح إبراؤها، وفيما قدمته قبلُ مزيد كشف.
8588 - ثم من لطيف الكلام أن الأب إذا ضمن -على القول الجديد- ولم نُثبت له حق الرجوع، فإذا توجهت الطلبة عليه عن جهة ضمانه؛ فله أن يؤدي المهر من مال الطفل، فيكفيه ذلك غُرمَ الضمان. ولو قال المطالب: لست أوجه الطلب عليك من جهة الطفل، وإنما أطالبك بموجب التزامك وضمانك، فهذا لا حاصل له، فإن مقصوده الوصول إلى الدين.
ولو قال: أجزتُ مالي على الطفل، لم يتأت منه مع ذلك توجيه الطلب على الضامن في هذا المقام؛ فإن الضامن يقول: إذا كنت تطالبني، فلي غرضٌ ظاهر في تأدية الدين من مال الطفل. ولو طالب الأبَ بحكم الضمان مع إبراء الابن، اعتباراً بالعاقلة التي وقع الاستشهاد بها، فهذا محالٌ عندنا، فإن الطفل في مرتبة الأصيل، والأب في مرتبة الكفيل، فيستحيل إخراج الأمر عن حقيقة الضمان.
فرع:
8589 - مشتملٌ على مسألةٍ دائرة فقهية سبقت في النكاح، ولكنا نُعيدها لدقيقةٍ مستفادة. فنقول: إذا أذِن السيد لعبده حتى نكح حرةً بمهرٍ، والتزم السيد ذلك المهرَ، إمَّا بصريح الضمان على الجديد، وإمَّا بحكم الإذن في العقد- على القديم،
__________
(1) في الأصل: يرفعون.
(2) في الأصل: العقد.

(13/213)


ثم إنَّ الحرة اشترت زوجها من مولاه بالمهر، فالبيع مردود؛ فإنه لو صح، لانفسخ العقد، وإذا انفسخ قبل المسيس، ترتب عليه سقوطُ المهر، [وإذا سقط] (1) المهر -وهو الثمن- بطل البيع لعُروّه عن الثمن. ولو فرضت المسألة بعد المسيس، فهي مسألة الرؤيا، وفيها [تصرفٌ للقفال] (2)، فلا حاجة إلى الإعادة.
وقد ذكر الشيخ أبو علي في هذا المنتهى كلاماًً هو الذي حملنا على رسم الفرع وإعادة ما فيه، وذلك أنه قال: إنما ذكر القفال ما ذكره بعد المسيس؛ لأنها إذا ملكت زوجها، سقط ما على العبد لها؛ فإنها مالكة، والمالك لا يستحق على مملوكه ديناً. قال: وهذا فيه نظر، فإنَّ المهر جُعِلَ ثمناً، وملك رقبة العبد لا يحصل إلا بإزاء سقوط المهر لأجل الثمنية. ثم إذا سقط المهر بهذا السبب -وهو مقتضى المعاوضة- فكيف يقال بعد ذلك: إذا ملكته، سقط بالملك عنه؟ ثم يسقط عن السيد كما يسقط الدَّين عن الكفيل ببراءة الأصيل؟ هذا قول الشيخ واستدراكُه.
8590 - وفي المسألة نظرٌ دقيقٌ، فنقول: ما ذكره القفال وجلّى فيه رؤياه، ثم مراجعته المشايخ وتقريرهم إياه يُخرَّج على قاعدةٍ سنصفها، فنقول: اختلف أئمتنا في أنَّ من ملكَ دَيْناً على مملوك لغيره، ثم ملك ذلك المملوك، فهل يسقط الدين [سقوط] (3) انبتات؛ حتى إذا عَتَق، لم يطالبه المولى، أم يبقى الدين في ذمته وتسقط الطلبة في الحال، لتحقق إعسار العبد في حق المولى؟ فإنَّ ما يؤدي العبد الديونَ [منه] (4) في ديون المعاملات الكسبُ، وهو ملك المولى، وفائدة بقاء الدين في ذمته أنه إذا أعتق، طالبه إذ ذاك.
فنعود ونقول: المهر لا يسقط بعد المسيس. هذا ما عليه التفريع، فإذا كان المهر لا يسقط بحكم النكاح، فالمرأة إذا ملكت زوجها، فهل تستحق عليه الدين أم يسقط؟ قال القفال: إن قلنا: لا يسقط، فالمسألة لا تدور والبيع يصح، ولئن
__________
(1) في الأصل: وأسقط المهر.
(2) في الأصل: تصرف القفال.
(3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: منها.

(13/214)


تعذّرت مطالبة المملوك لإعساره، فلا تعذر في مطالبة الضامن.
وإن قلنا: يسقط الدين عن المملوك بطريان ملكِ مستحِق الدين على رقبته، قال: فالمسألة تدور؛ فإن المهر يسقط بعلة طريان الملك وإن لم يسقط بعلةٍ في النكاح من فسخ أو انفساخ، فإذا كان الدين يسقط، فالمسألة تدور، وإن خالفت عِلَّةُ الإسقاط بعد المسيس عِلَّته قبل المسيس.
وقد حكينا استدراكَ الشيخ أبي علي.
وللمذهبين عندي وجهان إذا ذكرناهما، بان بهما حقيقةُ المسألة فنقول: إذا فرعنا على أن الدين يسقط بطريان الملك، فله مسلكان: أحدهما - أن يسقط الدين بملك الرقبة، كما ينسفخ النكاح بملك الزوج أو الزوجة، هذا وجه.
والوجه الثاني - أن يملك الدينَ على العبد، ثم يسقط، كما يملك من يشتري أباه الأبَ، ثم يعتِق عليه، فإن جعلنا نفسَ ملك الرقبة مسقطاً للدين، فمعناه أنه لا [يضادّه] (1) بل يعاقبه معاقبةَ الضد، فعلى هذا تدور المسألة، كما قال القفال؛ فإنَّ الملك وسقوطَ الديْن بعِلَّتِه، ووقوعَ الثمن، يُفرض على اقترانٍ ليس [فيه] (2) تقدم ولا [تأخّر] (3)، فيلزم من هذا ما ذكره القفال.
وإن قلنا: من طرأ ملكُه يملك الدين ويسقط- كما ذكرناه في شراء القريب، فيتجه على هذا ما قاله الشيخ؛ فإن الدين إنما يسقط بتقدير ملك الدين وتعقيب السقوط إياه، فإذا صار الدين مستغرقاً بالثمنية، لم يسقط بالملك؛ لأنه لا يدخل في الملك مع الرقبة، حتى إذا دخل سقط.
فإن قيل: هل يتوجه تصرفُ الشيخ قبل المسيس؟ قلنا: لا، فإنَّ المهر يسقط قبل المسيس -على القول الأصح- بالفسخ الواقع قبل المسيس، ولا ينتظم فيه ما تكلفناه بعد المسيس للشيخ أبي علي من تقدير ملك الدين وترتُّبِ السقوط عليه.
والذي يوضح ذلك أنَّ استيعاب المهر مع جريان الفسخ المسقط للمهر محال،
__________
(1) في الأصل: يضامّه. والمثبت من (صفوة المذهب).
(2) في الأصل: فيها.
(3) في الأصل: تأخير.

(13/215)


ولهذا نص الشافعي على قول التفريق فيه إذا اختلعت المرأةُ نفسها بصداقها قبل المسيس؛ فإنَّ نفس الاختلاع يوجب التشطير، ولا يثبت العوض إلا على ما يقتضيه الخلع من التشطير، وهذا بَيِّنٌ.
8591 - ثم ذكر الشيخُ مسألةً فرضها، وصور [الدَّوْرَ] (1) فيها، ونحن نذكرها على وجهها، فنقول: إذا سلَّمَ السيدُ ديناراً إلى عبده، وأذن له أن يتزوج به حرةً، فإذا تزوجها [بذلك الدينار] (2)، وسلمه إليها، ثم إن السيد باع ذلك العبدَ من زوجته بذلك الدينار الذي قبضته صداقاً، وهي غيرُ ممسوسة، قال: لا يصح البيع للدَّوْر، وتدور المسألة، لمكان وقوع الفسخ قبل المسيس.
وذكر هذه المسألة بعد المسيس، وأجرى فيها (3) جوابَي القفال في مسألة الرؤيا.
وهذا فيه نظر بيِّن، فإذا وقع البيع بعد المسيس، فيجب القطع بصحة البيع، فإنَّ ما قدمناه في دينٍ في ذمة العبد يسقط على تقديرٍ قدمتُه، وإذا كان المهر عيناً، وقد ملكتْه قطعاً، واستقر ملكها فيه، فطريان الملك على الرقبة كيف يؤثر!؟
وهذا أراه وهماً وغلطاً (4)؛ فإنَّ القفال بنى كلامَه على سقوط الدين عن ذمة العبد، ثم على سقوطه عن ذمة السيد؛ من حيث كان العبدُ أصيلاً والسيدُ كفيلاً، وشيء من هذا لا يُتخيل في الصداق المعين.
فرع:
8592 - يشتمل على مُعادٍ وزوائدَ مستفادة.
إذا أذِن السيد لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً ووطىء، ففي متعلّق المهر اختلافٌ مشهور، ولو نكح بغير إذن سيده نكاح شبهة، فوطىء، ففي متعلق المهر اختلافُ أقوال أيضاً: أحدها- إنه يتعلق برقبة العبد. والثاني - يتعلق بذمته، فإن النكاح لم يجر بإذن السيد، فلم يتعلق المهر بكسبه، فرجع ظاهر ما ذكره الأصحاب إلى قولين وسيتبين قولٌ ثالث مفصِّل.
__________
(1) في الأصل: " الديون".
(2) في الأصل: بغير ذلك الدينار.
(3) عبارة الأصل: وأجرى القفال فيها جوابي القفال.
(4) في الأصل: وهما غلطا.

(13/216)


قال ابن الحداد: وإن نكح حرةً بإذنها أو نكح أَمَةً بإذن سيدها، لم يتعلق المهر بالرقبة، وإن نكح امرأةً بغير إذن سيدها ووطئها، فيتعلق المهر بالرقبة في هذه الصورة.
فمِنْ أصحابنا مَن وافقه على تفصيله. فيقول: إن نكح أمةً بغير إذن سيدها، فيجب القطع بأن المهر يتعلق بالرقبة إذا وطىء، وإن كان بإذن السيد أو كان ذلك مع حرة، فيتردد القول في متعلق المهر. ومن أصحابنا من قال: إذا نكح أمةً بغير إذن سيدها ووطئها؛ فلا نقطع بتعلق المهر بالرقبة، بل نخرِّج المسألةَ على الاختلاف؛ فإن لرضا الأمة تأثيراً في الجملة، وإن لم يأذن السيد، والدليل عليه: أن الأَمَةَ إذا طاوعت على الزنا، فلا مهر لها على أحد الوجهين.
فينتظم في متعلق المهر أقوال: أحدها - إنه يتعلق بالرقبة من غير فصل.
والثاني - إنه لا يتعلق بالرقبة من غير فصل.
والثالث - إنه يفصل بين الحرة وبين الأمة تنكح من غير إذن سيدها.
فرع:
8593 - إذا نكح الرجلُ أَمَةً نكاحاً فاسداً ووطئها، فعليه مهر مثلها، ثم يعتبر مهر مثلها بوقت الوطء دون العقد؛ فإنَّ العقد لم يُفد ملك البضع، بل لغا وفسد، فلا حكم له، وليس ذلك كنكاح المفوضة. [فإن] (1) لم نوجب بنفس العقد مهراً، ثم أوجبناه عند الوطء، فقد نعتبر في مقدار مهر المثل كمالَها يوم العقد، وذلك أن النكاحَ ملَّك البضع وأفضى إلى استيفائه، فكان اعتبارُ وقته محمولاً على كونه مملِّكاً للبضع، مفضياً إلى التسليط على الوطء، وهذا المعنى لا يتحقق في النكاح الفاسد.
ثم إذا وطىء الرجل المرأة في نكاح فاسد مراراً مع اتحاد الشبهة، فلا يلتزم إلا مهراً واحداً إجماعاً، ولو وطئها مع اتحاد الشبهة، وهي هزيلة ومهر مثلها خمسمائة، ثم حسنت، فوطئها مرة أخرى -والشبهة واحدة- ومهر مثلها ألف، فيلتزم الواطىء أكثرَ المهرين؛ فإنَّا نُقَدّر كأنَّ الوطء الأول لم يكن.
__________
(1) في الأصل: فإنا.

(13/217)


والذي يحقق ذلك أن الحدود على الاندراج والتداخل، وهي مبنية على الاندفاع، فلو زنا عبدٌ في رِقِّهِ، ولم نُقم عليه الحد، فَعَتَقَ، [وزنا] (1) في الحرية، فإنا نقيم عليه حدَّ الأحرار.
فإن قيل: الأب إذا وطىء جاريةَ ابنهِ مراراً، فالشبهة واحدة، وهي حق الإعفاف، فيتحد المهر أم يتعدد؟ قلنا: ذكر الإمام (2) وجهين في ذلك، والمسألة محتملة لترددها بين وطء الشبهة وبين إتلاف المتقومات المتعددة. ويجب القطع بأنَّ الغاصب إذا وطىء الجاريةَ المغصوبة قهراً مراراً، يلزمه بكل وطأة مهر جديد؛ فإنَّ ذلك إتلاف محض، وليس فيه تخيل شبهة شاملة تتصف بالاتحاد.
فصل
8594 - إذا زَوَّجَ الرجلُ أَمَتَهُ بصداق معلوم، ثم باعها، أو أعتقها، فالمهر بكماله للسيد المزَوِّج؛ سواء اتفق الوطء في ملكه، أو اتفق بعد زوال ملكه، وهذا إجماع.
ولو أَجَّرَ عبدَهُ سنةً، فمضى نصف المدة، فأعتقه؛ يجب الوفاء بالإجارة في بقية المدة، ثم هل يرجع بأجر مثل نفسه بعد العتق على سيده في بقية المدة؟ فعلى وجهين.
ولا خلاف في النكاح أنَّ الأمة وإن بقيت في النكاح بعد العتق، فلا مرجع لها على سيدها، بل جميع المهر للسيد. ثم إذا باعها السيد، فليس للمشتري أن يحبسها حتى يتوفر الصداق على البائع. وهذا محال تخيله. وكذلك لو أعتقها، فليس لها أن تحبس نفسها، فلو زوّج أمة مفوِّضة، ثم باعها، فإن جرى فرض المهر وهي ملك الأول، فالمهر للأول، وإن جرى الفرض في ملك المشتري، فهذا يبتني على أن مهر المفوضة يجب بالعقد أم لا؟ وقد تمهد هذا فيما مضى.
__________
(1) في الأصل: وزوى.
(2) " الإمام " يعني والده.

(13/218)


فرع:
8595 - إذا اختلف الزوجان في الصداق، فزعم الزوج أنه أصدقها هذا العبد، فأنكرته، وقالت: بل أصدقتني هذه الجارية؛ فالمذهب: أنهما يتحالفان؛ فإنهما اتفقا على مقابل المهر -وهو البضع- فكان اختلافهما في العوض موجباً للتحالف، وذكر الشيخ وجهاً ضعيفاً أنهما لا يتحالفان؛ فإن الصداق في حكم عقد مفرد عن النكاح، والنكاح على جانب منه، ولذلك لا يرتد برده ولا يفسد بفساده.
ثم [إذا] (1) اختلفا في الصداق نفياً وإثباتاً، فلم تجتمع دعواهما على شيء، فكان كما لو قال: بعت منك هذا العبد بألف درهم، وقال المشتري: لا، بل اشتريت منك هذه الجارية بمائة دينار، فلا تحالف والحالة هذه، بل كل واحد منهما منفرد بدعوى لا تعلق لها بدعوى الثاني، فالوجه أن نفصل كل خصومة بطريقِ فَصْلها.
والصحيح أنهما يتحالفان.
وقد ذكرنا صور التحالف في كتاب البيع، ونحن نقتصر هاهنا على مقدار غرضنا في الصداق.
8596 - فإذا تبين أصلُ الاختلاف، وظهر أن المذهب التحالفُ، فنفرض مسألة ذكرها ابن الحداد، ونخرّجُها على القاعدة.
فإذا كان في ملك الرجلِ أُمّ امرأة وأبوها، فنكحها وأصدقها أحدهما، ثم اختلفا، فقال الزوج: أصدقتُكِ أباكِ، وقالت هي: بل أصدقتني أُمي، فالمشهور أنهما يتحالفان، وفيه الوجه البعيد أنهما لا يتحالفان.
فنفرع ونقول: إنْ قلنا: يتحالفان، فإن حلفا جميعاً، استحقت المرأة مهر المثل ورَقَّت أمُّها التي ادعت عتْقَها بالإصداق، وأما أبوها فقد عَتَق بإقرار الزوج، ولا نجد بقيمته مرجعاً عليها؛ فإنها مُنكرة، وولاء الأب موقوف؛ من جهة أنه لا يدعيه أحد، هذا إذا تحالفا.
فأما إذا حلف الزوج على ما ادعاه وعرضنا اليمين على المرأة، فنكلت، فترق الأم
__________
(1) زيادة من المحقق، لاستقامة الكلام.

(13/219)


كما ذكرنا، ويثبت أن الأب صداقٌ، ويعتِق بهذا الحكم، ولا مهر لها سواه، والولاء موقوف أيضاًً؛ لأنها منكرة.
وبمثلها لو قال: أصدقتُكِ أباك ونصفَ أمك، وقالت هي: بل أصدقتني أبي وأمي جميعاً، فإن تحالفا، عَتَقَ الأب ونصفُ الأم، فإن كانت موسرة، فيعتق الأب وتمامُ الأم. وإن كانت معسرة، فيعتق الأبُ ونصفُ الأم، ولها مهر مثلها في الصورتين، وعليها قيمة أبويها إن كانت موسرةً، وإن كانت معسرة فقيمة الأب ونصف قيمة الأم، ثم يقع التقاصّ في أطراف المسألة، وكيفما دارت المسألة، فلها مهر مثلها عند التحالف؛ لانفساخ الصداق.
وإن حلفت هي، ونكل الزوج عَتَق الأبوان، وإن كانت معسرة؛ فإنه ثبت الصداق على موجَب [قولها] (1)، ولم ينفسخ، وليس لها مهر المثل؛ فإنها استوفت حقها.
وإن حلف هو ونكلت، عتق أبوها ونصفُ أمها إن كانت معسرة، وليس لها مهر المثل؛ إذا (2) ثبتت بيمينه جملةُ المقصود. وإن كانت موسرة، عتقا، ولا مهر لها، ويرجع عليها بنصف قيمة الأم؛ لمكان السراية، وقد ثبت عليها دعوى الزوج، فيثبت موجبها.
هذا كله تفريع على ظاهر المذهب، وهو أنهما يتحالفان.
8597 - وإن فرعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه الشيخ في أنهما [لا] (3) يتحالفان، فقد قال: إذا ادعت المرأة أن أمَّها صداقُها، وأنكر الزوج، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف رقَّت، وأما الأب؛ فإنه حرٌ بإقراره، ثم قال: لا حلف عليها، ولها مهر مثلها في هذه الصورة.
وعلَّل بأن الزوج إذا اعترف بعتق الأب، فلا يتجه منه أن يدعي (4) على الزوجة،
__________
(1) في الأصل: على موجَب ولها.
(2) إذا: هنا بمعنى (إذ) وهو استعمال فصيح، بينا صحته مراراً.
(3) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(4) أي ليس قوله: أصدقتك أباك دعوى عليها، بل هو دعوى لها.

(13/220)


أي (1) أصدقتك هذا فاستحققتيه، ولسنا نفرع على قول التحالف حتى يتعرض كل واحد منهما للنفي والإثبات، بل نميز الدعوى عن الدعوى، ولا تكاد تصح صيغة في الدعوى للزوج؛ فإنه إذا كان ادعى أنك استحققتيه، [كان هذا] (2) دعوى لها لا دعوى عليها، وإن ادعى عليها أنك لا تستحقين مهر المثل، كان هذا جواب من يدعي عليه، لا ابتداء دعوى؛ فإن المرأة إذا ادعت حقها؛ فالقول قوله في أنه لا حق لك، فإذا انحسم سبيل دعواه عليها -والنكاح ليس عارياً عن المهر بالاتفاق- فلا وجه إلا الرجوع إلى مهر المثل.
وهذا الذي ذكره مشكل؛ فإن الصداق ليس ينفسخ إذا كانا لا يتحالفان، فيبعد أن نُثبت لها بطريق الدعوى عليه مهرَ المثل، فليقل الزوج: صداقكِ هذا لا مهرُ المثل.
والمسألة محتملة جداً.
فرع:
8598 - ذكر صاحب التقريب أنَّا إذا حكمنا بأنَّ الصداق مضمون باليد، وقلنا: إنه مضمون على الزوج ضمانَ غصب، فلو وجدت به عيباً، فالمذهب: أن لها الردُّ، وإن كان من حكم المضمون بالغصب ألا يُردَّ [بالعيب، فإن] (3) من غَصب عبداً وتعيّب في يده، فالغاصب يرده معيباً، ويضمُّ إليه أرشَ العيب.
قال صاحب التقريب: قد ذهب بعض أصحابنا إلى أنا إذا جعلناه بمنزلة المغصوب؛ فإذا حدث به عيب في يد الزوج، فليس للزوجة خيار الرد، قياساً على الغصب، ولكن لها أرش العيب بالغاً ما بلغ، قال: ويُحكى ذلك عن أبي حفص الوكيل (4) من أصحابنا.
__________
(1) أي أصدقتك هذا فاستحققتيه: هذا تفسير لقوله: أصدقتك أباك.
(2) في الأصل: هذا كان.
(3) زيادة اقتضاها السياق، وهي نفس عبارة (صفوة المذهب).
(4) أبو حفص الوكيل، عمر بن عبد الله، أبو حفص بن الوكيل الباب شامي، الإمام الكبير، من الأئمة أصحاب الوجوه، من نظراء أبي العباس، وأصحاب الأنماطي، ذكره ابن قاضي شهبة في الطبقة الثالثة، وهم الذين كانوا في العشرين الأولى من المائة الرابعة، وقال: إنه توفي بعد العشر وثلثمائة. (ر. طبقات السبكي: 3/ 470، وطبقات العبادي: 71، وطبقات الشيرازي: 110، وطبقات الإسنوي: 2/ 538).

(13/221)


وهذا وإن كان متجهاً في القياس، فهو بعيد في الحكاية.
وإذا قال قائل بهذا الوجه، لزمه طردُه على قولنا: إنه يُضمن باليد، ولكن لا يُضمن ضمانَ الغصب، وإن صح هذا مذهباً يفرَّع على مثله، فما ذكرناه في العيب المتجدد في يد الزوج.
فأما إذا فرض اطلاعٌ على عيب قديم كان قبل الإصداق، فتغريم الزوج أرشَ العيب بعيد، وإلزام المرأة الرضا بالظلامة بعيد أيضاً، فليتأمل الناظر ذلك. ولا اعتداد على الجملة بما ذكره، وأصلُ (1) المذهب ما قدمناه.
وذكر الشيخ -والدي- أبو محمد في الرد بالعيب طريقةً غريبة، فقال: الرد بالعيب يجري لا محالة، ولكن إذا ردت المرأة الصداق؛ فمن أصحابنا من قال: الرجوع إلى مهر المثل قولاً واحداً؛ لأنَّ الصداق ينفسخ بالرد، ونحن إنما نُثبت قيمةَ الصداق إذا تلف في يد الزوج؛ بناءً على أن عقد الصداق قائم، فإذا فُسخ الصداق بالرد، لم يبق متعلَّق.
وهذا لا بأس به، ولكن يُفسده اتفاقُ الأصحاب على إجراء القولين إذا كان الصداق حُرّاَ، أو تبين مستحَقاً، فردّ الصداق لا يزيد على اقتران المفسد، فالتعويل إذن على ما قدمناه.
فرع:
8599ـ ذكر صاحب التقريب في التفريع على أن عفو الولي عن المهر نافذ، أنا نشترط أن يقع العفو بعد الطلاق. وهذا قد تقدم ذكره، فلو جعل الولي المهرَ بدل الخلع، قال: في المسألة وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لأن الشرط إنشاء العفو بعد الطلاق، كما قدمنا تعليله.
والثاني - يجوز؛ فإنه وقع مقارناً للطلاق، فالواقع معه كالواقع بعده.
فرع:
8599 م- ذكر بعض المصنفين أن من جمع بين نكاح وبيعٍ صفقة واحدة، ففي صحة النكاح قولان، وهذا مدخول. والوجه: القطع بصحة النكاح، والتردد
__________
(1) في الأصل: " أصل المذهب ... " بدون واو.

(13/222)


في صحة الصداق وفساده، وإنما أخذ هذا من تردد الأصحاب فيه إذا جمع نكاحَ مستحَلَّة ومحرم في عُقدة، فإنّّ نقْلَ قولٍ في فساد نكاح المستحَلَّةِ مشهور على ضعفه، وجمع الصفقةِ مختلفين من تفريق الصفقة.
وهذا غيرُ سديد والوجه ما قدمناه.
***

(13/223)