نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الإيلاء
قال الشافعي رحمه الله: "قال الله تعالى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 226 - 227] ... إلى آخره" (1).
9384 - الأصل في الإيلاء قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226]، والإيلاء في اللسان الحلف والأليّة اليمين، ومنه قول القائل:
قليلُ الأَلاَيا حافظٌ ليمينه ... وإن بدرت منه الأَلِيَّةُ برّت (2)
والإيلاء في لسان الشرع اسمٌ لحلف الرجل على الامتناع من وطء امرأته، على تفاصيلَ ستأتي، إن شاء الله.
وأصل الإيلاء متفق عليه، وكان من طلاق الجاهلية، وصورته وحكمه على الجملة في الإسلام ما نذكره، فنقول: إذا حلف بالله أو حلف يميناًَ سَنصفها: "لا يطأ امرأته"، وأطلق، أو ذكر الامتناع مدّة تزيد على أربعة أشهر ولو بلحظة، فهذا هو المولي، ثم إن جامع في المدة، استمر النكاح كما كان، وسنذكر ما يلتزمه بالمخالفة.
وإن بقي على امتناعه حتى انقضت المدة، رفعته المرأة إن أرادت إلى مجلس القاضي، وطالبته بالفيئة، أو الطلاق، فإن فاء وجامع أو طلق، انقطعت الطَّلِبة، وإن أصرّ، فللشافعي قولان فيما يعامل به: أحد القولين - أنه يُحبس حتى يطلِّق.
والثاني - أن القاضي يطلِّق عليه زوجته، ثم يكفي في الطلاق أن يطلقها طلقة
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 94.
(2) البيت من شواهد ابن منظور في اللسان، ولم ينسبه، وفيه: "وإن سبقت" وفي (ت 2): "ولم يك إلا حافظاً ليمينه" بدلاً من الشطر الأول.
وفي اللسان: الأُلوة، والألوة، والإلوة، والأليّة على فعيلة، والأليَّا، كله: اليمين، والجمع: (ألايا).

(14/383)


رجعية. وإن حكمنا بأن السلطان يطلّق، لم يطلِّق إلا طلقة واحدة، فإن صادفت محل الرجعة، فرجعيّة، وإن لم تكن محلاًّ للرجعة، فبائنة.
وأبو حنيفة (1) يقول: إذا انقضت الأربعة أشهر، طُلقت [طلقةً] (2) من غير حاجة إلى إنشاء الطلاق، [والفيئةُ] (3) عنده تدفع الطلاق إذا وقعت في المدة، ثم الطلاق الواقع عند منقرض المدة بلفظ الإيلاء بائنٌ عنده.
9385 - ومما نذكره في تأسيس الكتاب وطلب الإيناس بتصويره: أن الرجل إذا آلى أخذت المدة في الجريان من غير حاجة إلى ضربٍ من جهة القاضي، بخلاف مدة العُنّة، فإنها من يوم الترافع إلى القاضي؛ لأنها مجتهد فيها.
والمعنى الكلي الذي عنه صَدَرُ مسائل الكتاب أن الرجل إذا امتنع عن وطء امرأته من غير أَلِيّة؛ فإنها [تُزجي] (4) الوقتَ بتوقّع الوقاع. وإذا آلى ألاّ يجامعها، فذلك يقطع توقّعَها، ويشتدّ ضِرارُها، وسنذكر قصة حفصةَ وعمرَ رضي الله عنهما، وهي تدلّ على أن للمدّة المنصوص عليها في القرآن أثراً ووقعاً في الإضرار.
ومن الأصول أن الأربعة الأشهر بجملتها فُسحةٌ ومهلةٌ من (5) الله تعالى أثبتها للزوج، فلتقع الطَّلِبةُ بعدها، وهذا الأصل يقتضي أن تكون المدة التي ذكرها الزوج في يمينه زائدة على المهلة التي أثبتها الله له، ثم لا ضبط للزائد، فيقع الاكتفاء بأقل القليل.
ولو قال قائل: هلا راعيتم زماناً بعد الأربعة الأشهر يمكن في مثله فرض الطلب؟ قلنا: هذا لا يُرعى (6)؛ فإن المدّة إنما تعتمد زمانَ الضِّرار، والمرأةُ تصبر على
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 473 مسألة 998، المبسوط: 7/ 22، مختصر الطحاوي: 207.
(2) زيادة من ت 2.
(3) في النسختين: النية. والمثبت تصرّفٌ من المحقق.
(4) في النسختين بالراء المهملة (عليها علامة الاهمال). والمثبت اختيار من المحقق، وتزجي الوقت أي تقطعه وتُمضيه.
(5) ت 2: في كتاب الله.
(6) ت 2: هذا مرعي.

(14/384)


زوجها أربعةَ أشهر فحسب، وإن كانت الجِبِلات تختلف، فالأصل الكلي ما ذكرناه.
ولكن لو مضت تلك اللحظةُ الزائدةُ على الأربعة [الأشهر] (1) المذكورة (2) في اليمين، لم يلتزم شيئاً (3)، فليس الرجل بعد المدة مولياً (4).
ولو حلف لا يطؤها خمسة أشهر، فلم ترفعه حتى انقضى الشهر الخامس، فقد انقضى الإيلاء، وصار الرجل بمثابة ما لم يولِ، وسيأتي كل ذلك مشروحاً.
فإن قيل: فأي فائدة في الحكم بكونه مولياً، ولا يُتصور توجيه الطلب عليه، ولا يقع الطلاق عندكم بمضي المدة؟ قلنا: لا أثر للإيلاء إلا انتسابُ الرجل إلى المأثم في الإضرار بها إذْ آيسها وقطع أملها عن الوطء، وهذا الأصل يعترض كثيراً في المسائل؛ فقدّمناه.
9386 - ومما نرى تقديمه أن الرجل إذا قال لامرأته: والله لا أصبتك أربعة أشهر، فإذا انقضت، فوالله لا أصبتك أربعة أشهر، ثم هكذا، حتى نَظَم أيماناً، فالذي صار إليه الأئمة أن الرجل ليس مولياً. نعم، هو حالف، ولا يخفى حكم الحالفين. فإذا نفينا الإيلاء عَنَيْنا نفيَ خاصية هذا الكتاب (5 من الإفضاء إلى الطلب كما مهدناه، وهذا مشكل معترض على المعنى الكلي الذي هو عماد الكتاب 5) وهو قطع التوقع والإضرار.
وذكر الشيخ وجهاً غريباً أنه إذا ذكر يمينين مشتملين على مدّتين يزيد مجموعهما على أربعة أشهر، وكانتا متواصلتين، فهو مولٍ، وهذا وإن كان جارياً على المعنى
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة ت 2: "ولكن لو مضت تلك اللحظة الزائدة على الأربعة، فلا معنى لمطالبتها زوجها، فإنه لو فاء بعد انقضاء المدة المذكورة في اليمين لم يلتزم شيئاً"، ففيها زيادة مقحمة.
(3) فإنه لم يحنث في يمينه، فلم يلتزم كفارة، ولم يزد على الأربعة الأشهر، التي هي مهلة من الله، فلم يلتزم شيئاً بذلك أيضاًَ، حقيقةً يأثم بإساءته لزوجته، ولكنه إثمُ سوء العشرة، وليس إثمَ المولين، كما سيوضّح ذلك فيما يأتي، فصورة المسألة أنه أقسم ألأ يطأ زوجته أربعة أشهر، فتنحلّ اليمين بانقضاء الأشهر الأربعة بغير حنث، ويصبح غيرَ مولٍ.
(4) عبارة الأصل، ومثلها (ت 2) مضطربة، ففيها لفظان يفسدان سياقها: هكذا "لم يلتزم شيئاً، وقيل وبعد فليس الرجل بعد المدة مولياً".
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(14/385)


الذي ذكرناه، فهو خارج عن قياس الأبواب؛ فإن لكل يمين حكمَها، وقد ذكر العراقيون هذا الوجه وزيفوه، وزيفه الشيخ أيضاًً.
وقد ذكرنا أن من حلف لا يجامع امرأته أربعة أشهر ولحظة، فهو مولٍ وإن كان الزمان لا يتسع للطَّلِبة، ورَدَدْنا فائدة الحكم بكونه مولياً إلى تأثيمه، فليت شعري هل يؤثّم المُولي من الأيمان المشتملة على المدد البالغة بمجموعها خمسة أشهر فصاعداً؟ فإن لم نؤثمه، بَعُدَ؛ وقد ظهر نَكَدُه (1) وقصدُه في الإضرار، وإن أثّمناه وليس بيدنا في مسألة الأربعة الأشهر واللحظة (2 إلا التأثيم، وقد قطعنا ثمّ بكونه مولياً، وبيّنا أن المذهب أن صاحب الأيمان المتوالية ليس بمولٍ، فكيف الكلام؟
أقصى الإمكان أن نقول: للتأثيم مأخذ؛ فالذي يحلف على الأربعة الأشهر واللحظة 2) يأثم إثمَ المولين، والذي يوالي بين الأيمان إن كان يأثم، فالوجه ألا يأثم إثمَ المولين، ولا يمتنع أن يقال: الصدوق اللهجة إذا قال: "لا أجامعك" فقد يأثم، ولو قال [قائل: القياس] (3) لا يأثم صاحب الأيمان المتوالية، لم يكن قوله بعيداَّ، وهذا يحصر الإثم (4) في الإتيان بما نهى الرب تعالى عنه.
وهذه جمل في تصوير الإيلاء وتمهيد أصله.
فصل
قال: "والمولي من حلف بيمين تلزمه بها كلفارة ... إلى آخره" (5).
9387 - مضمون الفصل يتعلق بمقصودين: أحدهما - فيما هو إيلاء من جملة الأيمان، والثاني - فيما يلتزمه المُولي إذا فاء [وحنث] (6).
__________
(1) في (ت 2) "نُكْرُه" ويتكرر هذا اللفظ (نكده) ومشتقاته في كلام الإمام بمعنى (عناده)، ولم أجده منصوصاً في المعاجم.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(3) في النسختين: "ولو قال قياس لا يأثم" والمثبت تصرّف من المحقق.
(4) يحصر الإثم ثم في الإتيان.
(5) ر. المختصر: 4/ 94.
(6) زيادة من (ت 2).

(14/386)


فأما القول في الأيمان فهي ثلاثة أقسام: أحدها - اليمين بالله تعالى أو بصفة من صفاته الأزلية، كما سيأتي القول فيها -إن شاء الله تعالى- في أول كتاب الأَيْمَان، فإذا حلف بالله وأطلق، أو قيد بالتأبيد، أو ذكر مدّة تزيد على أربعة أشهر، فهذا مولٍ.
فهذا قِسْمٌ.
والقسم الثاني - أن يعلّق بالوطء حكماً يقع، كالطلاق والعتاق، فالمنصوص عليه في الجديد أنه مولٍ، وعلى هذا القول تفريع مسائل الكتاب. والقول الثاني - أنه ليس بمولٍ.
والقسم الثالث - ما لو علق بالوطء التزامَ أمرٍ يفرض لزومه بالنذر، مثل أن يقول: إن وطئتك، فلله عليّ صوم أو صلاة أو صدقة، أو لله عليّ أن أعتق عبداً، فالقول الجديد أنه مولٍ، وفي القديم قولٌ أنه ليس بمولٍ، ثم إذا جعلناه مولياً، فإذا خالف وفاء، فهو حانث في يمين اللجاج والغضب، وفيما يلزمه ثلاثة أقوال، سنشير إليها في مسائلِ الكتاب، ونستقصيها في كتاب النذور.
9388 - وضابط المذهب في أقسام الأيْمان أن الحالف بالله تعالى على الشرائط التي ذكرناها في الإطلاق والتأقيت مولٍ.
ثم المنصوص (1) في الجديد أنه [إنما] (2) صار مولياً؛ لأنه عرّض نفسه لالتزام أمرٍ [إذا] (3) جامع؛ فظهر الضِّرار بذلك، وبنى عليه إثباتَ الإيلاء بكل التزامٍ، وضمَّ إلى الالتزام ما يقع، كالطلاق والعَتاق يعلّقان؛ فإن الالتزام لا فقه فيه، وإنما الغرض ذكر أمرٍ محذور لو فرض الوقاع، وهذا يظهر الضّرار، واقعاً كان أو ملتزَماً. هذا مسلك القول الجديد.
وأما القول القديم، فإنه مبنيّ على اتباع الحلف بأعظمَ ما يحلف به، وفيه يظهر قصد الرجل في الامتناع، وقد يقلّ الملتَزم (4) حتى يستهان به، فالمولي من يؤكد وعْدَ
__________
(1) ت 2: التعويض.
(2) في الأصل: إذا.
(3) في الأصل وفي (ت 2) أيضاً: لالتزام أمرٍ أو جامع. والمثبت من المحقق.
(4) ت 2: المسألة.

(14/387)


الامتناع بذكر أمر عظيم، وكانت العرب تولي، فتذكر اسم الله تعالى، وإن ذكرت بعض الأصنام اعتقدته إلهاً؛ فالإيلاء ينبغي أن يكون على النعت الذي عُهد (1) في الجاهلية؛ فإنه طلاق جاهلي، فغُيّر بعضَ التغيير، فيبقى على اقتضاء الطلاق إذا كان على الصفة المعهودة (2)، فإن لم يكن على تلك الصفة، كان يميناً من الأيمان، هذا توجيه القول القديم.
وإذا أردنا أن ننظم القول، قلنا: الحلف بالله على الامتناع عن الوقاع مطلقاً أو مقيداً بمدة زائدةٍ على الأربعة الأشهر إيلاء، ثم ذكر في العلة الجارية مجرى الضبط والحد مسلكان: أحدهما - أنه مولٍ؛ لأنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، وهذا هو المسلك الجديد، ويخرّج عليه أن الحلف بالطلاق والعَتاق والتزامَ ما يلتزِم إيلاءٌ.
والمسلك القديم - أن المولي من يمتنع عن الوقاع بذكر الاسم المعظّم، اتباعاً لما عُهد فيه، فيخرجُ الحلف بغير الله وبغير صفاته عن كونه إيلاء.
والتفريعُ على الجديد.
وقد نجز أحد مقصودي الفصل.
9389 - فأما المقصود الثاني، فهو بيان ما يلتزمه المولي إذا حلف بالله لا يجامع ثم جامع. المنصوصُ عليه في الجديد: لزمته كفارةُ اليمين، وقياسه بيّن.
والمنصوص عليه في القديم قولان: أحدهما - ما ذكرناه في الجديد. والثاني - أن الكفارة لا تلزم.
ووجه القول الجديد [لائح واضح، ووجه القول القديم أن الأيلاء] (3) منتزَع عن حكم الأيْمان، لما فيه من اقتضاء الطلاق حملاً عليه عند الامتناع من الفيئة، فكأن اليمين مستعملة في اقتضاء هذا المعنى، مصروفةٌ عن وضع الأيمان. وقد قالت عائشة رضي الله عنها: "الإيلاء طلاق، غير أنه غُيّر في الإسلام" (4).
__________
(1) في النسختين: الذي عهد إليه في الجاهلية. والتصرف من المحقق.
(2) في ت 2: المحمودة.
(3) ما بين المعقفين مزيد من (ت 2).
(4) أثر عائشة رضي الله عنها لم نقف عليه.

(14/388)


والأصح القول الجديد، وفيه (1) تبقية مُوجَب اليمين وإثباتُ حكم الطلاق عند الامتناع؛ من جهة إظهار الضرار، فلا تناقض بين الحكمين.
9390 - وذكر القاضي رحمه الله في توجيه القول القديم التعلقَ بقوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] واستنبط منه أن المولي إذا فاء، أدركه صفح الشرع وعفوهُ، وهذا يشعر بانتفاء الغُرم، ثم تصرّف (2) على موجب هذا الاستدلال، فقال: الفيئةُ (3) مذكورة بعد مضي المدة، فيجري القولان في انتفاء الكفارة في الوطء الجاري بعد انقضاء المدة؛ فإنا نتبع النص (4) في توجيه أحد القولين، حتى إذا فرضت الفيئة في الأربعة الأشهر قبل انقضائها، فالظاهر وجوب الكفارة؛ فإن هذه الفيئة لا ذكر لها في القرآن، ولا متعلق عنده في توجيه نفي (5) الكفارة إلا ظاهر الآية، ثم استقر كلامه على أن نذكر في الفيئة بعد المدة قولين ونذكر في الفيئة دون المدة قولين، والصورة الأخيرة أولى بوجوب الكفارة.
وهذا ترتيب رآه (6)، وبناه على التوجيه بظاهر القرآن، وليس بذاك (7)، فليس في القرآن ما يوجب نفي الكفارة، وإنما المقصود من قوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] أن الفيئة لا تَحْرُم باليمين على الامتناع منها، وقد يخطر للمؤمن المعظِّم اعتقادُ تحريم الفيئة. وقد صار إلى ذلك أبو حنيفة (8)، فالآية بظاهرها تدل على نفي الحرج والتحريم عن الفيئة، ثم لو (9) صح ما تخيله القاضي ففي الفيئة في الأشهر قطع الضرار، فإذا كان يستحق المطالَب في التضييق عليه التخفيفَ، فابتداره تدارك الأمر
__________
(1) ت 2: وفي.
(2) ت 2: ثم يضرب.
(3) ت 2: العلة.
(4) ت 2: البصر.
(5) ت 2: بين.
(6) ت 2: وهذا ترتيب رأيناه على التوجيه.
(7) ت 2: كذلك.
(8) ر. مختصر الطحاوي: 207، المبسوط: 7/ 19، فتح القدير: 4/ 42.
(9) ت 2: ثم صح ما تخيله القاضي.

(14/389)


في قطع الضرار أولى بذلك، فلا وجه لما ظنه كيف قدر الأمر.
نعم، من الجليات التي ننظمها أن من حلف لا يطأ زوجته أربعة أشهر، ثم جامع في الأشهر، لزمته الكفارة بلا خلاف، فإنه ليس بمولٍ، والضابط في ذلك أن اليمين إذا كانت لا تُفضي إلى توجيه الطلب بالفيئة أو الطلاق، فتعلقُ الحنث فيها الكفارةُ، وسبيلها كسبيل سائر الأيمان.
وإن (1) تعلق باليمين خاصّية الإيلاء -وكانت يميناً بالله تعالى- فالفيئةُ ترفع حكم الإيلاء، فيختلف القول في وجوب الكفارة.
ومما ذكره القاضي رضي الله عنه، وكان شيخي يحكيه عن القفال أن القولين في انتفاء الكفارة والحلف بالله تعالى يقرب مأخذهما من أن الأيْمان بالطلاق والعتاق والالتزامات هل تكون إيلاء أم لا؟ فإن قلنا: المولي لا يلتزم بالفيئة الكفارة، فلا تعويل على الالتزام، ولا إيلاء إلا الحلف بالله تعالى.
وإن قلنا: الحالف بالله يلتزم الكفارة إذا فاء، فلا يبعد أن يكون كلُّ ملتزِمٍ في معناه.
وكان شيخنا يقول: هذا الترتيب قريب في مسلك المعنى، ولكنه لا ينتظم على ترتيب الجديد والقديم، وذلك أن قول الشافعي في القديم يختلف في أن المولي بالله هل يلتزم الكفارة، ولا يختلف مذهبه في القديم أن الحالف بغير الله ليس بمولٍ؛ فإن سلك سالك طريقة البناء، فلا بد وأن نخرّج قولاً في القديم في أن الإيلاء يختص بالحلف بالله.
فصل
قال: "ولا يلزمه الأيلاء حتى يصرح ... إلى آخره" (2).
9391 - اختلفت الطرق في صرائح الألفاظ في الجماع، ونحن نذكر طريقة ضابطة جامعة، إن شاء الله، فنقول: انقسام الألفاظ إلى الكناية والصريح يأتي من ألفاظ
__________
(1) ت 2: وما تعلق.
(2) ر. المختصر: 4/ 95.

(14/390)


القسم بالله وبصفاته، وهذا الفن ليس من غرضنا، وسيأتي مستقصىً في أول الأيْمان، إن شاء الله عز وجل، وغرض الفصل التعرضُ لانقسام الألفاظ إلى الصرائح والكنايات فيما يتعلق بالجماع.
وقد ذكر الشيخ أبو علي ثلاثة أقسام تحوي (1) جميعِ المقصد، فقال: من الألفاظ عن هذا المقصد ما هو صريح، ولا يتطرق إليه تدْيينٌ وأمرٌ في الباطن يخالف الظاهر.
ومنها ما يتطرق التدْيين إليه.
ومنها ما هو كناية في الظاهر أيضاً.
فأما ما هو صريح ظاهراً ولا يُنَوّى (2) فيه أصلاً، فمنه النيّك، فلو قال: لا أنيكك، ثم فسر ذلك بالضم والالتزام والقُبلة، فلا يقبل ذلك منه ظاهراً وباطناً؛ فإن التديين إنما يجري بأحد وجهين: إما أن يكون في اللفظ إشعارٌ به على بُعد كصرف (3) (الطالق) (4) إلى الطلاق عن الوِثاق. وإما ألا يكون اللفظُ مشعراً به، ولكن ينتظم [وصل] (5) اللفظ به، مثل أن يقول: أنت طالق، ويُضمر (إن شاء الله تعالى)، وهذا فيه اختلافٌ قدمته.
فأما إذا قال: لا أنيكك، وحَمَل اللفظَ على القُبلة، فلا انتظام لهذا، ولا إشعارٌ به، وكذلك لو قال: لا أُدخل ذكري في فرجك، أو لا أولج.
ولو قال للبكر: والله لا أفتضك، فهذا صريح، فلو زعم أنه نوى به الضم والالتزام، فهل يُنوَّى فيه باطناً؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أصحهما - أنه لا يديّن؛ لأن الافتضاض لا يَحْتَمل ما نواه بزعمه.
__________
(1) ت 2: يجوز جمع.
(2) ينوّى فيه: أي لا يسأل عن نيته فيه، فلا أثر لها.
(3) ت 2: كضرب.
(4) الطالق: أي في مثل قوله: "أنت طالق" ثم يزعم أنه يعني أنها طالق عن وثاق.
(5) في الأصل: وصف اللفظ به.

(14/391)


وفيه وجه بعيد أنه يُنَوّى؛ فإنه ربما يستعار الافتضاض، في استفتاح الأمور، والتديينُ يُكتفى فيه بأدنى إمكانٍ في الاحتمال.
9392 - فأما القسم الثاني، فهو ما يكون صريحاً ظاهراً، ويتطرق التديين إليه، وهذا ينقسم: فمنه ما يكون صريحاً قولاً واحداً، ومنه ما اختلف القول فيه، (1 فأما ما لم يختلف القول فيه 1) فقد اختلف فيه جواب الأئمة بعد الاتفاق على أن الجماع صريح قولاً واحداً، وكان شيخي لا يقطع القولَ إلا في الجماع، وقال صاحب التقريب: الجماع والوطء صريحاًن قولاً واحداً، وقال الشيخ أبو علي: الجماع والوطء والإصابة صرائح في ظاهر الحكم قولاً واحداً، وهذا ما ذكر العراقيون، والقطع في لفظ الإصابة بعيد، وإلحاق الوطء بالجماع غيرُ بعيد.
فهذا بيان الأجوبة فيما يتحد القول فيه.
فأما ما اختلف القول فيه، فالمباشرةُ، والملامسة، والمماسَّة، والمباضعة، فهذه الألفاظ -وما يصدرُ منها- فيها قولان: أحدهما - أنها صرائح كالجماع. والثاني - أنها كناياتٌ بخلاف الجماع؛ فإن لفظ الجماع شائع في الاستعمال، حتى لا يتمارى السامع في معناه. وهذه الألفاظ التي ذكرناها لا تُستعمل استعمال الجماع، ومن لم يؤثر ذكرَ الجماع، عدل إلى لفظةٍ من هذه الألفاظ، وهذا يوضح أنها ليست في منزلة الجماع.
قال صاحب التقريب: الألفاظ الدائرة في الشريعة التي اختلف المفسرون في معناها، فحملها بعضهم على الجسّ، وحملها آخرون على الجماع، اختلف القول فيها حسب اختلاف علماء التفسير.
وهذا الذي ذكره ليس بحدٍّ عليه معوّل، والأصل في الباب أن المعنى المطلوب في ذلك (2) وضَعَ اللسانُ فيه الكنايةَ؛ فإن أرباب المروءات يأنفون من الألفاظ الموضوعة
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) ت 2: ذكر.

(14/392)


لهذا المعنى صريحاًً، فكان الوضع على المكاني (1)، ولكن ظهر بعضها وشاع، فالتحق بالصريح الموضوع للمعنى، ولم يظهر بعضها ولم يَشِعْ، فتردد القول، وسبب التردد مع أنها مكاني الاعتناءُ بالمكاني في الباب، وأرى الوقاعَ في مرتبة الوطء وقد سبق التردد فيه.
9393 - فأما ما يلتحق بالكنايات قولاً واحداً، فهو كقول القائل: لأبعدن عنكِ، لا يجمع رأسي ورأسَك وسادة، وألحق الأصحاب بهذا أن يقول: [لأسوأَنّك] (2)، وهذا من أبعد الكنايات.
والقِرْبان والغِشيان فيهما ترددٌ: من الأصحاب مَنْ ألحقها بالكنايات التي ذكرناها آخراً، ومنهم من ألحقها بالمسّ والجسّ، ولعل هذا أقربُ؛ فإن (3) لفظ القرب جرى في الكنايات على إرادة الوقاع، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ويجوز أن يكون الإتيان في معنى القِربان قال الله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]. ولا يبعد أن يقال: القِربان والغِشيان إذا استعملا مصدرين؛ فإنهما كالملامسة وما في درجتها مصدراً وفعلاً، فإن قال: لا أقربك، فيلتحق بالكنايات المحضة؛ فإن القِربان يشيع استعماله في الوقاع، والقرب يشبع في غير الوقاع من وجوه القرب المكاني، [والفعل الصادر عن المصدرين كالقرب لا كالقربان] (4).
وإذا مهدنا القواعد، ثم شذت لفظة لم نذكرها، لم يَخْفَ على الفقيه إلحاقُها بالأقسام المضبوطة التي ذكرناها.
ثم لو نوى بالجماع غير المعنى المطلوب، وزعم أنه أراد الاجتماع، فما ذكره محتمل، ولكن اللفظ شائع، فَيُنوَّى ويديّن باطناًً، ولا يقبل ما قاله ظاهراً.
__________
(1) المكاني: أي الكنايات.
(2) في الأصل: "لا شريك" وفي (ت 2): "لاسرتك" والمثبت من مختصر المزني، وفي صفوة المذهب رسمت هكذا: "لأسونك" وهي نفس لفظة مختصر المزني. وفي الروضة مثل ما في مختصر المزني: "لأسوأنك".
(3) ت 2: فلعل لفظ القرب.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2). وعبارتها: والفصل الصادر عن المصدرين ... والتغيير تقدير منا، نرجو أن يكون صواباً.

(14/393)


وقد نجز الغرض في هذا الفن.
9394 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "لو قال والله لا أجامعك في دبرك، فهو محسن ... إلى آخره" (1).
وهذا كما قال؛ لأنه عقد اليمين على ما هو ممنوع محرّم، فقد وافقت اليمين موجَب الشرع، وكذلك لو قال: والله لا أجامعك في حيضك أو نفاسك، فالذي صدر منه ليس إيلاء، لأنه حلف على الامتناع مما هو ممنوع شرعاً.
فصل
قال: "ولو قال: والله لا أقربك خمسة ... إلى آخره" (2).
9395 - فإذا قال: "والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم إذا مضت خمسةُ أشهر، فوالله لا أجامعك سنة"، فقد عقد يمينين على مدّتين مختلفتين متعاقبتين، فنتصرّف في المدة الأولى واليمينِ فيها، ونقول: إذا مضت أربعةُ أشهر، توجهت الطَّلِبة من المرأة بحكم اليمين [الأولى] (3). ثم لا يخلو الزوج إما أن يفيء أو يطلق، فإن فاء، انحلت اليمين الأولى، وفي لزوم الكفارة من اختلاف القَوْل ما ذكرناه.
ثم لا يحتسب الشهر [الخامس] (4)؛ فإن اليمين قد انحلت فيه، بل نقول: إذا مضى الشهر الخامس، فيدخل مفتتحُ مدّة اليمين الثانية، فإنه كان قال: فإذا مضت خمسةُ أشهر، فوالله لا أجامعك سنة، فإذا مضت أربعةُ أشهر من أول مدة اليمين الثانية، وهي تقع لا محالة بعد انقضاء الشهر الخامس، فإذا انقضت الأربعة الأشهر بعد الخمسة، توجهت الطَّلِبةُ مرة أخرى، فإن فاء، انحلّت اليمين، وفي لزوم الكفارة ما قدمناه.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 96.
(2) ر. المختصر: 4/ 96.
(3) مزيدة من (ت 2).
(4) سقطت من الأصل، وزدناها من (ت 2).

(14/394)


هذا إذا سلك طريق الفيئة.
9396 - فأما إذا وجهنا عليه الطَّلبة في اليمين الأولى وطلّق، فالقول فيه إذا راجع، أو تركها حتى تبين ثم جدّد النكاح - يستدعي تقديمَ أصلٍ مقصود، فنقول:
إذا حلف الرجل لا يجامع امرأته وأطلق اليمين، ولم يقيّدها بمدّة، ثم لما طولب، طلّق، فإذا ردَّها، لم يخلُ: إما أن يردّها بالرجعة في العدة، أو يردّها بالنكاح بعد البينونة، فإن راجعها، فيعود حكم الإيلاء بعد انقطاع الطّلبة، والسبب فيه أن البينونة إذا لم تقع، فالنكاح في حكم الاتحاد والتواصل، فإذا راجعها، فهو على حال المولين؛ فإن المولي من يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر شيئاً، وهو بعد الرجعة بهذه المثابة، وللنكاح حكم الاتحاد، فسبيله كسبيل من يحلف على الابتداء؛ فإن دوام اليمين وتصوُّرَ الحنث كابتداء اليمين.
فهذا قولنا في اطراد حكم الإيلاء.
9397 - ثم قال الأئمة: إذا كانت اليمين مُطْلَقة، وقد طلق لمّا طولب بعد المدة، فإذا راجع، فلا تتوجه عليه الطَّلِبة على الفور كما (1) راجعها، وهذا من الجليات المتفق عليها، ولا بد من التنبّه له؛ فمعظم غلطات الفقهاء في الجليات.
وكان ينقدح في القياس أن يقال: كما راجعها، عادت الطلبة؛ لأن النكاح له حكم الاتحاد، ولم تجر منه الفيئة، والضرارُ دائم، ولكن لما طلق، فقد أتى بأحد ما طولب به، فيؤثّر الطلاق -بإجماع الأصحاب- بقطع حكم الطَّلبة التي توجهت بانقضاء المدة، ثم جُعل في الرجعة كأنه آلى ابتداءً، ولقد كان من قبل مخيَّراً بين أمرين: الفيئة والطلاق، فخرج منه أن الفيئة تَحِل اليمين، وتدرأ الضرار، ويخرج الرجل عن كونه مولياً، والطلاق بعد المطالبة يقطع الطَّلِبةَ الحاقّةَ، ولسنا نعني انسداد باب الطلب؛ إذ لو كنا نعني ذلك، ونكتفي به، لعاد الطلب كما راجع، فكان سقوط الطلب محققاً، وكأنه وفّى بما أفضى إليه انقضاءُ المدة، ثم جعلناه كالمبتدىء؛ لأنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، فصار كما لو ارتجع وحلف، ثم أثّر اتحاد النكاح
__________
(1) كما: بمعنى عندما.

(14/395)


في هذا المعنى. وهذه قاعدة لا بد من الوقوف عليها.
ولو طلق لما طولب، ثم تركها حتى بانت -واليمين مُطْلقة- ثم جدد النكاح عليها، فلا شك أن اليمين باقيةٌ في باب البرّ والحِنث، -ولو قال رجل لأجنبية واللهِ لا أجامعك، ثم زنا بها، حنِث- ولكن هل نجعله مولياً حتى إذا مضت أربعة أشهر نحكم بتوجيه الطلبة عليه؟ فعلى [قولي] (1) عَوْد الحنث.
فإذاً حكم البر والحنث مستمر، والقولان (2) في خاصّية الإيلاء من توجيه الطّلبة المردّدة بين الفيئة والطلاق.
هذا بيان الحكم في الأصل الذي قدمناه، ونحن نعود بعده إلى مسألة الكتاب.
9398 - فإذا قال: "والله لا أجامعك خمسة أشهر؛ فإذا مضت، فوالله لا أجامعك سنة"، فإذا مضت أربعة أشهر من المدّة الأولى، وتوجهت الطلبة، فطلق، ثم راجع، فلا تتوجه الطلبة بحكم اليمين الأولى قط؛ فإنه لم يبق من مدتها إلا شهرٌ.
ولو كانت اليمين مُطلقة (3 كنا نمهله أربعة أشهر، ثم نعرض الطلبةَ بعدها، فقد حَبِط أثرُ الإيلاء3) في اليمين الأولى. نعم، لو وطىء وهو غير مطالب به، وقد بقي من الشهر الخامس بقية (4)، فيلزمه كفارة يمين.
9399 - وهاهنا سؤال وجواب عنه: إن قيل: إذا فرّعنا على أن المولي لو فاء، لم يلتزم الكفارة، فإذا طلق في الصورة التي ذكرناها، ثم راجع ولا طَلِبةَ، فلو فاء، هل يلتزم الكفارة؟ الوجه عندنا أنه يلتزم، لأنه خرج عن كونه مولياً.
ولا يبعد أن يقال: لا يلتزم الكفارة؛ نظراً إلى ابتداء عقد اليمين؛ فإنها لم تعقد على التزام الكفارة (5 والمولي الذي لا يلتزم الكفارة 5)، بالوطء بعد المدة [لو
__________
(1) في النسختين: قول. والمثبت تصرف من المحقق، ساعدنا عليه مع السياق عبارةُ ابن أبي عصرون.
(2) أي مستمران أيضاً.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(4) في (ت 2): الفية.
(5) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

(14/396)


وطىء] (1) قبل انقضاءِ المدة لا يلتزم الكفارة، وإن لم يكن مطالباً بذلك الوطء.
وهذا تلبيس؛ فإن ذلك الوطء هو الذي يطالَب به بعد المدة، ولكنه في مَهَلٍ وأجل، والدليل عليه أن الطلب ينقطع بجريانه، فهذا مسلك الكلام.
والوجه عندنا ما قدمناه من أن الكفارة تجب في الشهر الخامس بعد الرجعة إذا انقطعت طَلِبةُ الإيلاء؛ فإن الدافع للكفارة ما كان في اليمين من شوب (2) الطلاق، وإذا زال حُكم الطلاق، فاليمين مستمرة على صيغتها وحقيقتها.
ثم إذا مضى الشهر الخامس، ودخل أمد اليمين الثانية، فتحسب أربعة أشهر من أول الشهر السادس، ثم تتوجه الطلبة، فإن طلق، انقطع الطلب، فإن راجع، نُظر كم بقي من السنة؟ فإن كان تبقى من السنة أربعةُ أشهر أو أقل، فلا إيلاء، فإن المدة الباقية ليست زائدة على الأربعة الأشهر؛ فلا يفرض الإيلاء فيها، ولكن لو وطىء حنِث في يمينه؛ إذ لو وطئها في البينونة، لَحَنِث، فليتنبه الناظر لانقطاع حكم الإيلاء وبقاء اليمين في البر والحنث.
ولو كان الباقي من السنة بعد الخمسة الأشهر أكثرُ من أربعة أشهر، فالإيلاء يعودُ، على معنى أنه إذا انقضت أربعةُ أشهر بعد الرّجعة، توجهت الطلبة، ثم لا يخفى حكم الطلب وما يتعلق به.
وكل ذلك والطلاق رجعي، وقد ردها بالرجعة.
9400 - فأما إذا تركها حتى بانت، ثم جدد النكاح [فحيث] (3) لا يعود الإيلاء بالرجعة لقصر المدة لا يعود الإيلاء بعد النكاح.
وحيث يعود الإيلاء بعد الرجعة، فهل يعود بعد النكاح؟ فعلى قولي عود الحنث، وقد ذكرنا في تعليق الطلاق وعَوْد الحنث أقوالاً، ورأينا أنه إذا علق الطلاق، ثم نجّز ثلاثَ طلقات، ثم نكح بعد التحلل، فالأصح أن الحِنث لا يعود، فإنه نجّز ما علق؛
__________
(1) في الأصل: ولو وطىء.
(2) ت 2: شرب.
(3) في النسختين: فحنث.

(14/397)


فاقتضى ذلك انحلالَ اليمين. وفيه قولٌ آخر، ذكرناه ووجّهناه بالممكن.
فإن قيل: كما فصلتم بين البينونة من غير استيفاء العَدد وبين استيفاء العدد في عَوْد الحنث في باب تعليق الطلاق، فهل تَفْصِلون في عَوْد حكم الإيلاء بين أن يتخلل استيفاء العدد وبين ألا يتخلل؟ قلنا: ينقدح الفصل هاهنا أيضاًً؛ فإن من آلى فحكم الإيلاء توجيه الطِّلِبة عليه بطلاق يملكه، فإذا استوفى الطلقات، فقد زال ملكه، فيظهر زوال المطالبة.
ويجوز أن يقال: لا يظهر الفرق؛ لأن المقصود بالطلب الفيئةُ، لا الطلاق، ووجه طلب الطلاق كونهُ مخلِّصاً من الضرار والفيئة توفيةٌ للحق.
وإذا نبهنا على تقابل الإمكان اهتدى من تهدَّى.
9401 - ومما نذكره متصلاً بعود الحِنث (1) أن الرجل إذا قال لأجنبية: والله
__________
(1) هنا خلل في نسخة (ت 2) حيث سقط منها أربعة فصول كاملة، ومن أعجب العجب أن صفوة المذهب تابعتها على هذا الخلل. فكيف جاز على إمامٍ جليل مثل ابن أبي عصرون؟
والذي يؤكد هذا الخلل ويجعله يقيناً ما يأتي:
ا- أن نسخة الأصل (ت 6) تتبع ترتيب مختصر المزني الذي التزم إمامُ الحرمين الجريَ على ترتيبه، على حين قفزت نسخة (ث 2) تاركة أربعة فصولٍ، ثم عادت فأقحمتها في غير موضعها.
2 - أن نسخة (ت 2) فيها علامة لحق واضحة جداً عند بدء هذا الخلل، وربما يكون هذا من عمل أحد المطالعين للنسخة، فلو كان من الناسخ عند معارضتها، لأضاف هذا اللحق على الهوامش كما رأيناه في نسخ أخرى، وكما هو دأب النساخ.
3 - إن أدنى تأمل في المسألة التي وقع فيها الخلل بانتقال (ت 2) إليها، نجد الموضوع مختلفاً تماماً، حيث الحديث عن عتق عبدٍ عن ظهارٍ وما يترتب على ذلك ... وهذا لم يسبق له ذكر، ولا علاقة له بموضوع الفصل، وإنما هو من الفصل الذي قفزت إليه نسخة (ت 2).
ثم يبقى السؤال: على فرض أن الإمام الجليل ابن أبي عصرون كان ينظر في نسخة (ت 2) التي بها هذا الخلل، وكان يعمل مختَصَره منها، كيف لم يتنبه لهذا الخلل في السياق؟؟ ولم ينبه عليه؟
والأعجب من ذلك كيف تابع النسخة على هذا الخلل حينما عادت وأقحمت هذه الفصول التي تركتها مرة ثانية؟؟
هذه أسئلةٌ ... ولا جوابَ. والله وحده الملهم للصواب جل وعلا.

(14/398)


لا أجامعك، ثم نكحها، فالحنث والبرّ يجريان لا محالة، ولكن لا يثبت حكم الإيلاء، فإن اليمين ما جرت في النكاح، والمطالبةُ بالطلاق من أحكام النكاح؛ فيستحيل أن يثبت اقتضاءُ الطلاق بيمينٍ سابقة على النكاح، وكذلك لو قال: إن نكحتك، فوالله لا أصيبك، فلا يثبت الإيلاء، ولا أثر للإضافة إلى النكاح.
9402 - وكل ما ذكرناه فيه إذا ذكر يمينين مشتملتين على مدّتين متعاقبتين، فلو قال: والله لا أصيبك خمسة أشهر والله لا أصيبك سنة، فإذا مضت أربعة أشهر، وتوجهت الطَّلبة، ففاء (1)، انحلت اليمينان.
فإذا فرّعنا على إيجاب الكفارة، أوجبنا كفارتين أو كفارة واحدة؟ فعلى وجهين يجريان في كل يمينين ينحلاّن بفعل واحد.
وإذا قال الرجل: والله لا آكل الخبز، والله لا آكل طعام زيد، ثم أكل الخبز من مال زيد، وانحلت اليمينان، ففي تعدد الكفارة وجهان: أحدهما - التعدّد (2)؛ فإن الحنث متعدّد، وهو المحلّل (3) لا صورة الفعل، ولو قلنا: الفعلُ في [حقيقته متعدد] (4)، لم يكن بعيداً؛ فإنه أكل رغيفاً، وأكل مالَ زيد.
ولو توجهت الطلبة، فطلق، ثم راجع، فكما (5) راجع ابتدأنا في احتساب الأربعة الأشهر، ولا نصْبر إلى انقضاء الشهر الخامس؛ فإنه في اليمين الثانية عقد على سنةٍ يندرج تحتها الخمسةُ الأشهر التي حلف عليها أولاً، فإذا راجع، فهو في بقية اليمين الثانية.
والمسألة مفروضة فيه إذا بقيت من السنة أكثرُ من أربعة أشهر، لِما تقدم تمهيده.
ولا معنى بعد هذا لتكثير الصور، والذي تجدد في المسألة الثانية دخولُ خمسة
__________
(1) ت 2: فقد.
(2) ت 2: العدد.
(3) ت 2: الحالّ.
(4) في الأصل، وفي (ت 2): في حقيقة التعدد، والمثبت من صفوة المذهب: جزء: 5 ورقة: 68 يمين.
(5) فكما: بمعنى عندما.

(14/399)


أشهر تحت يمينين (1)، وفرضُ انحلالهما جميعاًً بالوطء في الخمسة الأشهر.
وإن انقضت من غير وطء، تجرّدت (2) يمين واحدة، ولا يكاد يخفى هذا، ولسنا نترك (3) الصور في أمثال ذلك إلا بعد النظر فيها، والعلم بأنها لا تخفى على متأمل.
9403 - ولو قال: والله لا أجامعك أربعة أشهر، فإذا مضت، فوالله لا أجامعك أربعة أشهر، فقد قدمنا أنه لا يكون مولياً، وذكرنا فيه الوجهَ الغريب، ولم نعدّه من المذهب، وقد شبه المحققون هذا بما لو اشترى الرجل بصفقاتٍ ألفَ وَسْقٍ في العرايا، وكل صفقة تشتمل على أربعة أوسق، فلا امتناع في ذلك، وإن كنا نمنع اشتمال صفقة واحدة على ستة أوسق، فان كان صاحبُ الوجه الغريب يسلّم هذا، ولا يشبّب (4) فيه بتخريج، فهو لازم، وإن طرد فيه التخريج، لم نملك إلا الاستبعاد (5).
وقد يظهر فرق بين البابين؛ من جهة أن رعاية الضرار ظاهرة في الإيلاء، وهذا يعم الجبلاّت؛ فإن ندرت صورة، فالإيذاء باللسان وإظهار الزهد بيّن، وقد يثبت الإيلاء من المجبوب لما في لسانه من الإيذاء، وأما أمرُ الحاجة، فلا يكاد يظهر في بيع العرايا، ولهذا نصحح العريةَ من الغني صاحب البساتين، فتخيُّلُ الحاجة في العرية كتخيّل الحاجة في الإجارة؛ فينفصل من هذا الوجه البابُ عن الباب، وإذا تبين اعتبار الضرر، فالإضرار كائن في الأيمان المتوالية على وجه كونها في اليمين الواحدة.
ولا خلاف أنه لو قال: لا أجامعك أربعة أشهر، ثم مكث حتى انقضت، فقال مبتدئاً: والله لا أجامعك أربعة أشهر، فلا يكون مولياً، والوجه الضعيف إنما يُخرّج إذا صدرت منه الأيمان، وظهر منه قصدُ إطالة مدة الامتناع بالأيمان، وليس من الحزم التفريع على الوجوه البعيدة.
__________
(1) ت 2: اليمين.
(2) ت 2: تجددت.
(3) ت 2: نرى.
(4) ت 2: ينتسب.
(5) ت 2: لم يملك الاستعباد.

(14/400)


فصل
قال: "ولو قال: إن قربتك، فلله علي صوم هذا الشهر ... إلى آخره" (1).
9404 - إذا قال لامرأته: إن قربتك، فعليّ صوم شهر، فالذي جاء به يمين عُلّق - والتفريع على الجديد في أن الإيلاء لا يختص باليمين بالله [-ثم التفريع لا محالة- على أن الحانث] (2) ملتزم، وإذا حَنِث في يمين اللجاج والغضب، ففيما يلزمه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يلزمه الوفاء بما التزم.
والثاني - أنه يلزمه كفارة اليمين.
والثالث - أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء.
وقد نص الشافعي على هذا القول في هذه المسألة من هذا الكتاب، ولم يُلْفَ هذا النص للشافعي إلا هاهنا.
وتوجيهُ الأقوال فيما يلتزمه الحانث من يمين اللجاج، والتفريعِ عليها يأتي في كتاب النذور.
وقدْرُ غرضنا منها أنه إذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم شهرٍ، فهو مولي؛ فإنه يلتزم بالجماع بعد أربعة أشهر أمراً.
وإذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فهو ليس بمولٍ؛ من جهة أن هذا الشهرَ إذا انقضى، انحلت اليمين؛ إذْ لو وطىء، فلا يتصور التزام الصوم على قول الوفاء؛ فإن الصوم إذا أضيف إلى أيام، اختصّ بها، ومن التزم بالنذر صوم يومٍ، تعيّن اليومُ الذي عينه -على الرأي الظاهر- فإذا انقضى الشهر، فالوفاء غير ممكن، وإذا لم يجب الوفاء على قول الوفاء، لم تجب الكفارة.
فإن قيل: الكفارة إنما تجري حيث يتصور الالتزام نذراً، فإذا تبيّن أن الحِنْث
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 97.
(2) عبارة الأصل جاءت مضطربة هكذا: "ثم التفريع على الجديد في أن الإيلاء لا محالة على أن الحانث ملتزم ... إلخ".

(14/401)


لا يتصور بعد الشهر الأول، فليس الرجل [مولياً؛ فإن المولي] (1) من يلتزم بالجماع بعد أربعة أشهر أمراً، وقد أوضحنا أن الجماع لو فرض بعد الشهر الأول، لم يجب شيء، ولا نظر إلى إطلاق الامتناع عن الوطء عموماً، بل يجب مراعاة تقدير الالتزام بالوطء بعد أربعة أشهر، وهذا المعنى مفقود في هذه المسألة.
قال الشافعي رضي الله عنه: "إذا قال: إن أصبتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فليس بمولٍ، كما لو قال: إن أصبتك فلله عليّ صوم أمس"، وغرضه في الشبه بيّنٌ واضح، وإن كان مطلَقُه محوجاً إلى التأويل؛ فإن قول القائل: إن وطئتك، فلله عليّ صوم أمس، فهذا لغوٌ لا انعقاد له في وجه.
وإذا قال: إن وطئتك، فلله علي صوم هذا الشهر، فاليمين منعقدة على الجملة (2)؛ فإنه لو وطىء في ذلك الشهر، كان حانثاً، ملتزماً أمراً على الأقوال الثلاثة.
وإذا قال: فعليّ صوم أمس، فهذا لغوٌ لا يتعلق به التزامٌ أصلاً، وإنما شبه الشافعي رضي الله عنه هذه المسألة بالتزام صوم أمس؛ من حيث إنه لا يكون مولياً في المسألتين جميعاًً، فلا أثر لليمين بعد الأربعة الأشهر، فهذا وجه تشبيهه، وغرضُ الكلام في إثبات الإيلاء ونفيه.
فصل
قال: "ولو قال: إن قربتك، فأنت طالق ثلاثاًً ... إلى آخره" (3).
9405 - الشافعي رضي الله عنه أدار معظم مسائل الإيلاء على الألفاظ التي هي كناية في الجماع، كقوله: "إن قربتك". الأصحُّ أن هذا كناية، وإنما فعل الشافعي هذا لأنه مهّد القول في الصريح والكناية، ثم اللائق بحفظ المروءة الكنايةُ في هذه المعاني، فلم يُؤْثر ذكرَ الصريح، وعَلِم أن ذلك يستبان من غرضه.
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(2) ت 2: على الكلمة.
(3) ر. المختصر: 4/ 97.

(14/402)


فإذا قال الرجل لامرأته: إن جامعتك، فأنت طالق، فهو مولٍ؛ لأنه لو جامع بعد أربعة أشهر التزم بالجماع الطلاقَ، والمعنيُّ بالالتزام وقوعُه، وفواتُ حق النكاح به - والتفريع على الجديد- فإذا ثبت أنه مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، توجهت الطّلبة.
ثم لا يخلو إما أن يؤثر الفيئة، وإما أن يؤثر الطلاق، فإن فاء، فكما (1) غيّب الحشفةَ، طُلقت ثلاثاًً؛ فإن اسم الوطء وحكمه يتحققان بتغييب الحشفة، ثم إن غيّب وكما غيب نزع من غير مُكث، لم يلزمه حدٌّ ولا مهر، فإن التغييب وقع في ملكه، ثم لم يعرِّج (2) على أمرٍ إلا على الترك، وتركُ الشيء والانكفافُ (3) عنه ليس في معنى الإقدام عليه؛ ولهذا قلنا: من أدرك أول الفجر، فقرن به النزعَ (4) -وكان مخالطاً أهله- صح صومه.
9406 - وإن (5) استدام ومكث، أو أَوْعب ولم ينزع (6)، فإن كانت جاهلة، فقد سكت الشافعي عن وجوب المهر، ونص في الصوم على أن من كان مخالطاً أهلَه، فطلع الفجر، فمكث ولم ينزع، قال: يلزمه الكفارة.
فمن أصحابنا من قال: في المسألتين قولان بنقل الجوابين: أحدهما - يجب المهر والكفارة؛ لأنه بالمكث والاستدامة مجامع، والاستدامةُ استمتاعٌ حقه أن يُتقَوَّم، وهو مناقض للصوم أيضاًً، فلا وجه لاعتبار (7) الابتداء مع العلم بأن صورة الفعل وجنسه هو المعنيُّ بالنهي (8).
والثاني - لا يلزمه المهر ولا الكفارة؛ لأنهما لم يتعلقا بأول الفعل والفعل متحد، فلا يتعلقان بدوامه.
__________
(1) فكما: أي عندما.
(2) ت 2: يغرم.
(3) ت 2: وترك الاستيلاء ناف عنه.
(4) ت 2: فقرن به الشرع وليس مخالفاً أهله.
(5) عَوْدٌ إلى تصوير حالة المولي، وليس الصائم.
(6) ت 2: أو ادعت ولم يفرغ.
(7): لاعتنائه والابتداء.
(8) ت 2: باليمين.

(14/403)


ومن أصحابنا من لم يوجب المهر، وأوجب الكفارة في محلها، وفرّق بأن قال: إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاً، ثم وطئها، فأول الوطء يتعلق به مهر النكاح؛ فإن المهر المسمى في النكاح يقابل كل وَطْئِه، ولا بد من هذا التقدير حتى لا تعرى وطأة عن مقابل، وإذا كان كذلك، امتنع وجوب المهر؛ [لاستدامة] (1) الوطء، فإنا لو قلنا بذلك، لعلّقنا (2) بأول الوطء مهرَ النكاح، ثم علقنا بدوامه مهراً مجدّداً، ولا سبيل إلى ذلك.
وأما الكفارة؛ فإنها لم تتعلق بأول الوطء الواقع في الليل، فإذا علقنا الكفارة بدوامه، لم يكن جامعاً بين كفارتين بوطء واحدٍ.
ثم إن لم نوجب مهراً بالاستدامة عند فرض الجهل، فلو علم تحريم الاستدامة، فالأصح أن الحدّ لا يجبُ؛ لأن أول الفعل واقعٌ في الملك.
ومن أصحابنا من ذكر وجهاً ضعيفاً في وجوب الحد، وهو مزيف لا تعويل عليه.
9407 - ولو غيب الحشفة، وحكمنا بوقوع الثلاث، ثم إنه نزع وأعاد فالذي قطع به الأصحاب أن هذا ابتداء وطء، فإن كان مع الجهالة، لزم المهر، وإن كان مع العلم، تعلّق الحدّ به؛ فإنه ابتداء فعل وإنشاء وطء.
قال شيخي أبو محمد رضي الله عنه: إذا نزع ثم أعاد، فهو وطء مبتدأ لا محالة، وإن نزع ثم أعاد في (3) أزمنة متواصلة قبل قضاء [الوطر] (4)، فقد يقع مثله في الوطاة الواحدة في ترديدات [الرهز] (5)، فهل يجب مهر بما فعل؟ فعلى وجهين مرتبين على
__________
(1) في الأصل: لاستقامة.
(2) ت 2: أخلفنا.
(3) ت 2: ثم أعاد مراراً منه متواصلة.
(4) في الأصل: قبل قضاء الوطء.
(5) في الأصل: كلمة غير مقروءة، وفي (ت 2): "الدهر"، ولعلّها: مصحفة عن كلمة بمعنى الوقاع، وإلا فما معنى ترديدات الدهر؟
بعد أن كتبنا هذا بسنوات، وعندها كان الكتاب ماثلاً للطبع وفي محاولة أخيرة للبحث عن معاني صور الكلمة في مختلف احتمالاتها، وجدتُ كلمة (الرعز): رعز الجارية: جامعها.
وذلك في القاموس المحيط (فقط) فدفعنا ذلك إلى مزيد من البحث في معاجم المعاني وغيرها =

(14/404)


الوجهين في [الاستدامة] (1)، ولا شك أن هذه الصورة أولى بلزوم المهر. ولم أر هذا إلا لشيخنا، وباقي (2) الأصحاب قاطعون بأن الإيلاج بعد النزع وطء مبتدأ في [كل] (3) حكم.
والممكن في توجيه ما ذكره ما أجريناه في التصوير، حيث قلنا: هذا يعدّ وطأة واحدة، ويمكن أن يشبّه باتحاد الرضعة، والصبيُّ قد يلتقم الثدي ثم يلفظه ويلهو ثم يعود ويلتقم، والكل رضعة، ولا تعويل على هذا الوجه، مع ما ذكرناه.
وحيث ذكرنا المهر، فلا شك أنه مفروض في جهلها، ولا أثر لعلمه في إسقاط المهر، ومن استكره أمرأة وزنى بها، التزم الحدّ بزناه، والمهرَ لكونها محترمة.
9408 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن من علق الطلاق الثلاث بالوطء -كما صورنا- فهل يحل له الإقدام على الوطء على أن يغيب الحشفة وينزع؟ قال العراقيون: يحل له الإقدام؛ فإنه إلى حصول التغييب متصرّفٌ في محل حقه وحِلّه، وإذا ابتدأ النزعَ متصلاً بحصول التغييب، فهذا تارك، ولا معصية على تاركٍ لفعله متردد بين الوقوع في محل الملك وبين الترك.
وحكَوْا عن ابن خَيْران أنه قال: لا يحل له تغييب الحشفة، فإنه لا يقدر على وَصْل
__________
= فوجدنا صاحب تحفة العروس ونزهه النفوس (الأديب محمد بن أحمد التجاني وهو من علماء القرن الثامن الهجري) عقد باباً بعنوان (الرهز في الجماع) بمعنى الحركات التي تصدر عن المتناكحين، ثم وجدنا هذه اللفظة (الرهز) في اللسان، والأساس، ولم نجدها في القاموس فاستدركها عليه الزبيدي. والرهز هي الصورة الأقرب إلى ما في المخطوط من الرعز، فاثبتناها. وقد جاءت الكلمة بمعنى الوقاع فعلاً كما قدرنا. والحمد لله.
(1) في الأصل: الاستدراك.
(2) حكى الرافعي غير هذا عن الأصحاب، فقال: " ... إن كانا عالمين بالتحريم، فوجهان: أحدهما - أنه يجب الحد، لأنه وطء مستأنف، خالٍ عن الشبهة، وعلى هذا فلا مهر ولا نسب ولا عدّة.
والثاني - المنع (أي من الحد) لأن الناس يعدّون الإيلاجات المتتابعة وطأة واحدة، ... ويحكى هذا الوجه عن أبي الطيب بن سلمة، ورجحه الشيخ أبو حامد ومن تابعه. والأول أقوى، وهو اختيار القفال، والقاضيين الطبري والروياني" (ر. الشرح الكبير: 9/ 207).
(3) في الأصل: في حد حكم.

(14/405)


أول النزع بآخر التغييب، حتى لا يقع بينهما فصل، فإذا كان يعلم على الجملة خروج هذا عن الإمكان، فلا يجوز الإقدام.
والأولون يبنون الأمر على أن يصل النزعَ بالتغييب، فالفقه صحيح في وضعه، ثم ما أطلقه من الوصل والفصل لا يتحدد بالزمان الذي لا يُحَس، وإنما تتعلق التكاليف نفياً وإثباتاً بما يدخل في الحس ويفرضُ دركه.
9409 - هذا كله تفصيل الأحكام المتعلقة بالوطء إذا كان قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم حكم الطلب فيه أن الأربعة الأشهر إذا انقضت ورفعته الزوجة إلى القاضي، فإن وطىء، سقطت الطلبة والحكم ما ذكرناه، وإن طلق [طلقة] (1) رجعية، انقطعت الطَّلِبة، ثم إن راجعها، فاليمين قائمةٌ، فنضرب مدة أخرى، فإذا انقضت، توجهت عليه الطلبة، فإن طلق، ثم راجع، ضربنا عليه مدة أخرى، ثم تعود الطلبة، فإما أن يطلّق فتحرم عليه، حتى تنكح غيره، وإما أن يطأ، فتقع الطلقة الثالثة، فلا محيص عن الطلاق ما أصرّت على الطلب إلا أن يطلقها طلقة، ويتركها حتى تنسرح بانقضاء العدة، فإذا جدد عليها نكاحاً، وقع التفريع في عَوْد الحِنْث، فقد نقول: لا تعود الطلبة، ولو وطئها في النكاح الثاني، لم تُطلَّق، تفريعاً على أن الحِنث لا يعود، فهذا هو المُخلِّصُ لا غيرُ.
9410 - وإن قال ابتداء: إن وطئتك، فأنت طالق، فعلّق طلقة واحدة وما كان دخل بها، فهو مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، فإن فاء، انحلت اليمين، ووقعت طلقة رجعية، فإن المسيس، وإن لم يكن متقدِّماً على هذه الحالة، فالطلاق غيرُ متقدم على المسيس، وقد أشرنا فيما تقدم إلى مسلكين في أن الطلاق المعلّق بالصفة يقع مترتباً على الصفة أو مقترناً بها، وأوضحنا أن أقوال الأصحاب في المسائل دالّة على ترتب الطلاق على الصفة، ولو رُدِدْنا إلى الأخذ بصيغة اللفظ، لم يبعد أن نقول: يقع الطلاق مع الصفة، وهذا مما سبق تمهيده، والغرض من إعادته الآن أنا
إن جرينا على موجب الشواهد، فالطلاق يترتب على الوطء، والتغييبُ يقع في
__________
(1) زيادة من (ت 2).

(14/406)


النكاح، فيكون الطلاق بعد الوطء، هذا معنى الترتب، وإن لطف الزمان، فيظهر الحكم بكون الطلاق رجعياً (1).
وإن ذهب ذاهب إلى أن الطلاق يقع مع الصفة، فالعدّة تجب مع التغييب، والوطء يقيّد (2) النكاح عن البينونة، فيقع الطلاق على تقدير الاقتران مع المقيّد ومع العدّة، واتصال العدة على هذا الترتيب بالنكاح، وهذا واضح لاخفاء به (3).
9411 - وليس يخفى الترتيب فيه إذا لم يُؤْثر الوطءَ لما طولب، واختار الطلاق.
وقد تقدم في ذلك ما فيه مقنع، وقد تطلّق ثلاثاًً بتكرر المطالبات عند تخلّل الرجعات والردّات، وهذا خلاف الرأي؛ فإنه كان لا يقع بالوطء إلا طلقة واحدة مع انحلال اليمين بها.
ويلتزم بالامتناع عنها ثلاث طلقات، وهذا لرغبته عن الوطء.
__________
(1) يظهر الحكم بكون الطلاق رجعياً، لأنه يقع بعد الوطء، فتصير الزوجة مدخولاً بها، فالطلقة التي تقع عليها تقع رجعية، ولاتفع بائنة لخروجها عن صفة غير المدخول بها إلى صفة المدخول بها بسبب الوطء الذي ترتب عليه الطلاق.
(2) يقيّد النكاح: أي يقرره ويثبته.
(3) معنى هذا الكلام أن الطلاق يقع رجعياً، مع قولنا: إن الطلاق يقع مع الصفة مقترناً بها، وليس مترتباً عليها؛ ذلك أن العدّة تجب عليها مع تغييب الحشفة، وبوجوب العدة تكون مدخولاً بها، وطلاق المدخول بها يكون رجعياً.
وقد لخص الشيخ العز بن عبد السلام هذا الفرع بقوله: "إذا قال لغير الممسوسة: إن وطئتك فأنت طالق، ثم وطىء بعد التعليق، انحلت اليمين بطلقة رجعية، وإن قلنا إن الطلاق يقع مع الصفة أو يترتب عليها" (ر. الغاية في اختصار النهاية: جزء: 3 ورقة: 172 يمين).
أما الرافعي فقد قال: "هذا فرعٌ ذكره الإمام -رحمه الله- في هذا الموضع، ووافقه صاحب الكتاب، (يعني الغزالي) وحظ الإيلاء منه أن يكون مولياً بهذا التعليق، فأما أن الطلاق يقع رجعياً فلا اختصاص له بالباب، وإنما كان رجعياً لأن الطلاق المعلق بالصفة إن وقع مترتباً عليها، متأخراً عنها، فهذا طلاق وقع بعد المسيس، فيكون رجعياً، وإن وقع مقارناً لها" ... فالوطء الجاري هنا يقتضي العدّة؛ فيكون الطلاق مع العدة، وذلك يقتضي ثبوت الرجعة" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/ 207).

(14/407)


9412 - ثم قال: "لو قال: أنت عليّ حرام ... إلى آخره" (1).
هذا مما ذكرناه في كتاب الطلاق ونعيد طرفاً منه لما يتعلق بغرض الكتاب، فإذا قال: أنت عليَّ حرام، ونوى الطلاق، كان طلاقاً، وإن نوى الظهار، كان ظهاراً، وإن نوى تحريمَها في نفسها، التزم كفارة اليمين، ولو نوى عقد يمينٍ في الامتناع عن وطئها، فظاهرُ المذهب أنه لا يكون حالفاً مولياً، وفي المسألة وجهٌ بعيد أنه يصير مولياً.
وهو نأيٌ عن التحقيق؛ فإنه لو قال لإحدى امرأتيه: والله لا أجامعك، ثم قال للأخرى: أنت شريكتُها، ونوى أن يصير مولياً عن الثانية كما أنه مولٍ عن الأولى، لم يصر مولياً عنها؛ لأنه لم يأت في حقها بلفظ اليمين، وذِكْرِ الاسم المقْسَم به، وهذا متفق عليه؛ فإذا قال: أنت علي حرام، ونوى القَسَم بعُد الحكمُ بتحصيله كما ذكرنا.
ومن أصحابنا من جعله مقسِماً، بخلاف ما لو قال: أشركتك مع التي آليتُ عنها؛ فإن التحريم مذكور في كتاب الله تعالى مع الاقتران بكفارة اليمين، فهو قريب من اليمين وإن لم يَكُنْها، فكان هذا تقريباً في وضع الشرع، ولا تعويل على ذلك ولا اعتداد به.
والمذهب أنه لا يصير مولياً بقوله: حرمتك، وأنت علي حرام. وإن نوى الإيلاء.
فصل
قال: "ولو قال: إن قَرِبتُك، فغلامي حر عن ظهاري إن تظاهرت، لم يكن مولياً ... إلى آخره" (2).
9413 - قد ذكرنا أن مسائل الكتاب نفرعها على القول الجديد، فنقول: المولي من التزم بالوطء بعد الأربعة الأشهر أمراً، وحرّرْنا المذهب فيه بما يضبطه، وقد ذكر الشافعي رضي الله عنه فصولاً متواليةً في تعليق العتق المصروف إلى الظهار المنجّز أو
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 97.
(2) ر. المختصر: 4/ 98.

(14/408)


الظهار المعلّق، ونحن نقدم على الفصول أصلاً، فنقول:
إذا كان الرجل قد ظاهر عن امرأته، ثم قال لأخرى: إن وطئتك، فعبدي هذا حر عن ظهاري، فهو مولٍ عن هذه؛ فإنه (1) لو وطىء، وقع العتق لا محالة، فهو ملتزم بالوطء بعد أربعة أشهر حصولَ العتاقة في العبد الذي عينه، ولولا هذا التعليق، لكان العتق لا يحصل فيه، ولا نظر الآن في أن العتق هل يقع عن كفارة الظهار أم لا؟ فإن المقدار المكتفى به وقوعُ العتق بعين هذا العبد، وهو متعلِّق بالوطء المقدر بعد الأشهر، ولئن كان العتق منصرفاً إلى الظهار، فوقوعه في هذا العبد بعينه من آثار اليمين.
ولو قال: إن جامعتُك، فلله عليّ أن أعتق عبدي عن ظهاري، وكان الظهار كائناً واقعاً بإحدى امرأتيه، فالقول في ذلك يستند إلى تمهيد أصلٍ، فنقول: إذا عين رجل يوماً لصوم منذور في ابتداء الالتزام، فقال: لله عليّ أن أصوم اليوم الفلاني، فالصوم يلزمه، والمذهب أنه يتعين له اليوم الذي عينه.
ولو قال: لله علي أن أتصدق بهذه الدراهم، لزمه الوفاء بنذره، إذا صححنا النذر - وكذلك إذا قال: لله علي أن أعتق هذا العبد -وصححنا النذر- فعليه الوفاء بتعيين ذلك العبد في الإعتاق. هذا إذا اقترن الالتزام والتعيين.
فأما إذا سبق لزومٌ في الذمة غيرُ مرتبط بتعيينٍ، ثم صرفه بالتزام مبتدأٍ إلى معيّن، فقال من عليه صومٌ من قضاءٍ، أو نذر، أو كفارة: لله علي أن أوقع الصومَ المفروض في يومٍ عيّنه، فلا يلزمه الوفاء بهذا التعيين، باتفاق الأصحاب، وكذلك لو التزم صرف دراهم عيّنها إلى زكاته، أو إلى نذرٍ سابق مستقر في ذمته، فلا يلزمه التعيين، فليس كما لو اقترن التعيين بالالتزام؛ فإن التعيين يقع [لازماً] (2)، فلا يبعد أن يثبت، [وينضم] (3) إلى ذلك أن لفظه يتضمن حصرَ اللزوم فيما عينه ونفْيَه (4) عما عداه، فلو
__________
(1) ت 2: فهو مولٍ عن هذه مظاهر عن هذه.
(2) في الأصل، كما في (ت 2): شائعاً. والمثبت من صفوة المذهب.
(3) ت 2: أو يتضمن إلى ذلك، وفي الأصل: أن ينضم إلى ذلك، والمثبت تصرفٌ وتقدير من المحقق.
(4) ونفيَه: معطوف على (حصرَ).

(14/409)


حكمنا بأنه (1) لا يتعلق بما عينه، لاقتضى هذا أن نُلزمه ما لم يلتزمه، وهذا محال، وإحباطُ لفظه لا سبيل إليه وفاقاً.
وَيرِدُ على ذلك أنه لو عين مع التزام الصلاة وقتاً لها أو مكاناً، فالصلاة تلزمه، ولا يتعين الزمان والمكان. وهذا من مشكلات المذهب في قاعدة النذر؛ لما نبهت عليه من أن لفظه لا يتضمن التزاماً مطلقاً، فإن لم يصح التخصيص، فالوجه (2) إبطال لفظه.
وعن هذا أخرج بعض الأصحاب قولاً في أن اليوم لا يتعين للصوم المنذور، وإن اقترن تعيينه بالالتزام، وسيأتي هذا في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى.
وإذا انتهينا إلى غائلة كتاب نحتاج في حلها إلى تمهيد أصل في ذلك الكتاب، فلا مطمع في الخوْض (3)، وليكْتف الناظر بالإحالة عليه.
هذا في تعيين مالٍ بعد الوجوب أو تعيين يوم بعد لزوم الصوم.
9414 - فأما إذا قال: لله علي أن أعتق هذا العبد عن العتق اللازم في ذمتي عن نذر أو كفارة، فالذي يقتضيه النص وعليه الأصحاب أنه إذا نذر ذلك، لزمه الوفاء بنذره، حيث يصح النذر، وفرّقوا بين هذا وبين تعيين اليوم بعد لزوم الصوم بأن قالوا: لا حَقَّ لليوم في الصوم، وكذلك القول فيما تعينّ من المال، وللعبد حق في العتاقة، ولهذا يدّعي العتقَ على مولاه، ويحلف يمين الرد إذا نكل المَوْلى عن اليمين، ففي هذا حق بيّنٌ للعبد وغرضٌ ظاهر، فيجوز أن يلتزم صرف الواجب السابق إليه.
وهذا مشكل؛ فإن الملتزَم بالنّذر (4) قرباتٌ بأنفسها، أما تحصيل أغراض،
__________
(1) عبارة ت 2: "فإن حكمنا لا يتعلق بما عينه، لاقتضى هذا أن لا يلزمه ما لم يلتزم" وفيها أكثر من تصحيف.
(2) فالوجه إبطال لفظه: المعنى هنا أنه إذا لم يصح التخصيص، فقد بطل لفظه، فلما اختار الأصحاب ذلك، عبر بقوله: فالوجه إبطال لفظه، وهذا هو صورة الإشكال.
(3) في الخوض: أي في كتاب النذور.
(4) ت 2: بالثأر مرتاب بأنفسها.

(14/410)


فيبعد (1) التزامه، وما يقتضيه قياس قول الأصحاب أنه لو نذر أن يصرف زكاته إلى أشخاصٍ من الأصناف يلزمه الوفاء، فإن طردوا القياس فيه، كان بعيداً، وإن سلّموا أنه لا يجب ذلك، فلا فرق بين تعيين العبد لعتاقةٍ مستحقةٍ قبلُ (2) وبين تعيين أشخاص من أصنافِ الزكاة. وقد قال القاضي: إذا عين مساكين لصرف زكاته وصدقاته إليهم، لزمه الوفاء بذلك، قياساً على ما لو عيّن [عبداً لصرف] (3) العتق المستحَق إليه.
والقولُ الكامل فيه أن التعيين ليس من القربات الملتزَمة المقصودة بالنذر، ولا قربة في تعيين سالم عن غانم.
قال المزني: الأشبه بقول الشافعي أنه لا يجب الوفاء بالتعيين، واستدلّ باليوم (4) في الصوم، كما ذكرناه، وهذا الذي ذكرناه أورده على صيغة التخريج (5) على المذهب، ويجب عندي عدُّ مثلَ ذلك من متن المذهب؛ فإن تخريجه على قياس الشافعي أولى من تخريج غيره.
هذا بيان المذهب نقلاً، وتخريجاً، وتنبيهاً على الإشكال، وهذا بيان الأصل الذي رأينا تقديمه.
9415 - عاد بنا الكلام إلى مسائل الكتاب المتعلقة بالمقصود.
فإذا قال: إن قربتك، فعبدي حر عن ظهاري، وكان ثبت الظهار وتقدم، فهو مولٍ، فإذا مضت أربعة أشهر، توجهت عليه الطَّلبة؛ فإن فاء، حصل العتق، وسنتكلم في وقوعه عن الظهار في آخر الفصل، عند نجاز غرض الإيلاء، وإنما جعلناه
__________
(1) قال ابن أبي عصرون: لا بُعْد فيه؛ فإن غرض العبد هو تحصيل الحرية، وهو نفس القربة (صفوة المذهب: 5 ورقة: 71 يمين).
(2) ت 2: مستحقة قد وهى تعيين أشخاص ... (وهذا من أقبح وأبشع التصحيف).
(3) في الأصل، وكذا في (ت 2): "قياساً على ما لو عين عند الصّرف العتق" هكذا في النسختين بوضع علامة (الشدّة) على الصاد، وبنقطة واضحة على النون في (عند). وهذا من التحريف الذي لا يكاد يدرك.
(4) ت 2: واستندت باليوم والصوم.
(5) ت 2: التحريم.

(14/411)


مولياً؛ لأن العتق يحصل بالوطء بعد أربعة أشهر، سواء انصرف إلى الظهار أو لم ينصرف.
ولو قال: إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري إن تظاهرت، فهذه المسألة مفروضة فيه إذا لم يكن تظاهر من قبل، ونحن نجريها على المذهب الظاهر لينتظم الفصل، ثم نعيده بعد ذلك في فصل آخر لغرضٍ آخر، فإذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تَظَهَّرْتُ، فلو وطئها، لم يعتق العبد، فإنه علق عتقه بالوطء والتظهّر، والعتقُ المعلّق بصفتين لا يقع بإحداهما، وهو بمثابة ما لو قال لعبده: أنت حر إن دخلت الدار إن (1) أكلت، فلا يحصل العتق بمجرد الدخول، ولو تظاهر، فلا شك أن العتق لا يحصل ما لم يطأ.
فيخرج من ذلك أنه قبل أن يتظهر لا يلتزم بالوطء شيئاً، فليس مولياً إذاً [على] (2) ما نُجريه في هذا الفصل (3).
ولو كانت المسألة بحالها، فتظاهر عنها، فقد صار إلى حالةٍ لو وطئها الآن، لحصل العتق، فلا جرم يصير مولياً بعد الظهار.
فحصل مما ذكرناه أنه لا يكون مولياً في ابتداء أمره؛ لأن الوطء لا يحصّل العتق، فإذا ظاهر، فيصير مولياً؛ لأن الوطء يحصّل العتاقة بعد الظهار، هذا غرض الإيلاء من هذا الفصل.
وقد شبَّبْنا في أثناء الكلام بخلافٍ فيه إذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرت، وسنذكر أن من أصحابنا من يجعله مولياً قبل التظهر على أصلٍ سنشرحه من بعدُ، ولكن لما كان هذا الوجه ضعيفاً لم نَبْنِ الفصلَ عليه.
9416 - ونحن نذكر التفصيل في أن العتق إذا حصل هل يقع عن الظهار؟ ونوضِّح في ذلك المذهب في الصورتين اللتين ذكرناهما، ونبدأ بالصورة الأخيرة.
__________
(1) ت 2: وإن أكلت.
(2) زيادة من المحقق، وهي في (ت 2).
(3) في (ت 2): فليس مولياً إذاً على ما يحويه هذا الفصل.

(14/412)


فإذا قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرتُ، فإذا تظاهر، ثم وطىء، فالعتق يحصل لا محالة؛ فإنه علّقه بصفتين، وقد وُجدَتا، وأطبق الأصحاب على أن العتق لا يقع عن الظهار في هذه الصورة، وعلّل الأصحاب ذلك بعلّتين: إحداهما - أنه علق العتق قبل الظهار، ولو نجّز عتقاً عن الظهار قبل الظهار، ثم ظاهر، لم ينصرف العتق إلى الظهار يقيناً، فإذا امتنع التنجيز عن الظهار، امتنع التعليق عنه في الوقت الذي يمتنع التنجيز فيه؛ فإن صحة التعليق وفسادَه مرتبط عند الشافعي بصحة التنجيز وفسادِه.
هذا بيان إحدى العلتين.
ومن أصحابنا من علّل بأن قال: المولي جعل العتق موجب حنثه في اليمين، ويتخلص به، والحنث يقتضي حقاً على الحانث، فإذا كان يتأدى بالعتق حقُّ الحِنْث، فيستحيل أن ينصرف إلى الظهار؛ إذ لو كان كذلك، لتأدى حقّان بعتقٍ واحد.
فهذا تفصيل القول في ذلك.
9417 - ولو كان قد ظاهر أوّلاً، ثم قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، ثم وطىء، فلا شك في حصول العتق، وهل ينصرف العتق إلى تلك الجهة وهي جهة الظهار؟ فعلى وجهين مشهورين بناهما الأصحاب على العلّتين المذكورتين في (1) الصورة الأولى: فإن قلنا: العلة في تلك الصورة أن التعليق تقدم على الظهار، فالعتق في هذه الأخيرة يقع عن الظهار؛ فإن الظهار مقدم على التعليق.
وإن قلنا: العلة في الصورة الأولى أن العتق يقع عن جهة الحِنْث في اليمين، فلا يقع العتق في الصورة الأخيرة أيضاًً عن الظهار؛ فإنه تأدّى بالعتق حقُّ الحِنث في هذه الصورة.
ولو كان الرجل ظاهر عن امرأته، ثم قال لعبدٍ من عبيده: إن دخلت الدار، فأنت حر عن ظهاري، فإذا دخل الدار عَتَق، وفي انصرافه إلى الظهار الوجهان؛ إذ لا فرق
__________
(1) في الأصل، وكذا في (ت 2): على العلتين المذكورتين إحداهما ني الصورة الأولى.
والتصرف والحذف من المحقق.

(14/413)


بين أن يعلّق العتق عن الظهار على وطء أو دخول دارٍ.
ولكن الوجه عندنا القطعُ بانصراف العتق إلى الظهار إذا كان الظهار مقدماً على التعليق والإيلاء؛ فإن من يعلِّق عتقاً بصفة ليس يلتزم أمراً، وإنما يوقعه عند وجود الصفة، فإذا وُجد متعلَّق العتق، جُعل ذلك بمثابة إنشاء العتق عند وجود الصفة، فلا معنى لقول من يقول: تأدى بالعتق حقٌ غيرُ الكفارة؛ فإنه لا حق يُتخيل (1). نعم، قد يعترض بعد تزييف هذا الوجه أن الأمر إذا كان كذلك، فالمولي ليس يلتزم بالوطء شيئاً، والجواب عنه أنه التزم إيقاعَ ما عليه، أو تعجيلَ ما ليس متضيقاً (2)، ولا يمتنع تعجيله، وإذا استدّ النظر في ذلك، تبين للناظر أن المعجّل هو المستحق في الكفارة، والتعجيل متعلّق الإيلاء، وإنما يمتنع انصراف العتق إلى الكفارة إذا كان في عينه استحقاقٌ من وجه، وهذا بمثابة تعليل الأصحاب امتناعَ صرف عتق المكاتب إلى الكفارة؛ فإنه مستحَقٌ للمكاتب على مقابلة عوض، فامتنع وقوعه على حكم الكتابة منصرفاً إلى الكفارة.
فإن قيل: هلا قلتم: يصح تعليق العتق فيه إذا قال: عبدي هذا حر عن ظهاري إن تظهرت؛ فإن التعليق صادف ملك المعلِّق، والعتق قابل للتعليق، فالوقوع مرتب على الوجوب، وهلا كان هذا كما لو قال للحائض: أنت طالق للسُّنة، وهو لا يملك الطلاق السني تنجيزاً، ولكن يكفي كونُه مالكاً للطلاق في تصحيح تعليق الطلاق السُّني؟ قلنا: السيد وإن كان مالكاً لعتق عبده، فليس يملك تأديةَ الكفارة (3)، فوقع التعليق عن الظهار تصرُّفاً في تأدية ما لا يملك تأديته، ووقع من وجهٍ تصرفاً في الملك، فمن حيث كان تصرفاً في الملك، نفذ العتقُ، ومن حيث إنه تصرف في تأدية دينٍ لا يجب ولا يملك تأديته لم يقع عن تلك الجهة؛ فإن من لا يملك شيئاً لا يملك التصرف فيه.
__________
(1) لا حق يتخيل: أي لا حق هنا أصلاً غير ما علّق عليه.
(2) ت 2، وكذا صفوة المذهب: ما ليس منصرفاً. وهو تصحيف واضح.
والمعنى أنه التزم تعجيل واجب عليه، وهو التكفير عن ظهاره بالعتق، وهذا الواجب ليس مضيقاً، بمعنى أنه يسعه تأجيله والتراخي في أدائه، ولكنه يجوز تعجيله.
(3) لأنه لم يظاهر بعدُ، فكيف يؤدي الكفارة قبل أن تستقر في ذمته.

(14/414)


فأما الطلاق السني والبدعي، فإنه يتعلق بالوقت والزمان، وقوله: أنت طالق للسنة بمثابة قوله: إذا طُهرتِ، فأنت طالق، فليست السُّنة جهةَ استحقاق حتى يتصرّف المالك فيها.
هذا تحقيق القول في هذا الفصل.
9418 - ونحن نختتمه بصورة، فلو قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، واقتصر على هذا، قال الأصحاب: إن كان ظاهر، فقد مضى التفصيل فيه، وإن لم يكن قد ظاهر، جعلناه مقرّاً بالظهار، وفائدة ذلك في الظاهر أنا نجعله مولياً في الحال، ونجعله مظاهراً إن عين التي أضاف الظهار إليها، وأما أمر الباطن، فلا يخفى: لا نجعله مولياً باطناًً، ولا نجعله مظاهراً؛ فإن قوله هذا لا يصلح لإنشاء ظهار؛ إذ هو إخبار مصرّح به.
فإن قيل: فلو ظاهر هل يصير مولياً باطناً؟ وهل ينزل هذا منزلة ما لو قال: عبدي حر عن ظهاري إن تظهرت ثم تظهّر؟ قلنا: لا معنى لهذا السؤال في الباطن، فإن نوى ما ذكره السائل وجرّد القصد إليه، فيثبت، واللفظ صالح له وإن لم يكن مستقلاً بإفادة، وقد ذكرنا في مسائل الطلاق أن ما يقع في الباطن يكتفى فيه بعُلقة من الاحتمال. فإن لم يجرد قصده الباطن إلى تقدير ظهارٍ سيكون، لَمْ يثبت حكمه في حقه لا محققاً ولا معلقاً.
فصل
قال: "ولو قال: إن قرِبتُك، فلله علي أن أعتق فلاناً عن ظهاري ... إلى آخره" (1).
9419 - مضمون هذا الفصل مرتب على الأصل الذي مهدناه في مفتتح [الفصل] (2) السابق الذي انتجز الآن.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 98.
(2) في الأكل وفي (ت 2): الأصل، والمثبث اختيار منا.

(14/415)


وصورة المسألة في مقصود الفصل أنه إذا كان مظاهراً عن امرأة ثم قال لأخرى: إن وطئتك، فلله عليّ أن أعتق هذا عن ظهاري، فالظهار كائن، فإذا وطىء فهل يلزمه الوفاء بما قال؟ النصُّ وقول الأصحاب على أن هذا على الجملة مما يُلتزم، ومذهب المزني وتخريجه على قياس الشافعي أنه مما لا يُلتزم، وقد ذكرنا أن ما لا يلتزم بالنذر لا ينعقد به يمين اللجاج والغضب، فإن فرعنا على مذهب المزني، فكلام الزوج لغو، وليس بمولٍ؛ فإنه لم يُعلِّق بالوطء التزاماً.
وإن فرعنا على النص وقول الأصحاب، فقد عقد اليمينَ بما يُلتزم بالنذر الصحيح، فينعقد اليمين، وفيما يجب عند تقدير الحِنث الأقوال الثلاثة، ثم نجعله مولياً، وفيما يلزمه لو حنث ثلاثة أقوال: أحدها - الوفاء.
والثاني - كفارة اليمين.
والثالث - التخيير، وهذا مولٍ (1) يلتزم بالوطء بعد أربعة أشهر أمراً، فنجعله مولياً.
وفي نقل المزني في هذا الفصل خلل ظاهر؛ فإنه نقل عن الشافعي أن تعيين العبد مما يُلتزم بالنذر، وإذا ذكر في اليمين، كانت اليمين المعقودة يميناً منعقدة، ثم نقل عن الشافعي أنه قال: "ليس بمولٍ" (2) وهذا غلط صريح؛ والمنصوص عليه للشافعي في كتبه أنه مولٍ على الحقيقة.
9420 - ثم إذا بان الخطأ [وتقرر] (3) المذهب، فنفرِّع ونقول: إذا وطىء وحَنِث وفرعنا على وجوب الوفاء، فلو أعتق ذلك العبدَ عن ظهاره، فيحصل العتق ويخرج عن عهدة اليمين، وهل يقع العتق عن الظهار، فعلى وجهين، كما تقدّم ذكرهما: أصحهما -بل الذي لا يصح غيره- أن العتق ينصرف إلى الظهار.
__________
(1) في (ت 2): قول.
(2) نص الشافعي كما نقله المزني في المختصر: "ولو قال: إن قربتك، فلله عليّ أن أعتق فلاناً عن ظهاري -وهو متظاهر- لم يكن مولياً، وليس عليه أن يعتق فلاناً عن ظهاره وعليه كفارة يمين" ر. المختصر: 4/ 98.
(3) في الأصل: وتقدير.

(14/416)


والوجه الثاني - أنه لا ينصرف إليه؛ لأن حق الحنث [قد تأدّى به] (1)، وهذا زللٌ عظيم؛ فإن الذي يعلق شيئاً ليس ملتزماً، وإنما هو في حكم الموقع عند الحنث، كما قدمناه.
ثم إذا قلنا: العتق لا ينصرف إلى الظهار؛ فإنه يحصل لا محالة، وكأنه نذر عتقاً مطلقاً في عبْد عيّنه، ولو صح هذا الاعتبار - وهو تنزيل ما قاله على النذر المطلق مع إبطال الجهة حتى كأنه قال: لو وطئتك (2 فعليَّ أن أعتق هذا العبد، فيلزم على هذا المساق أن يقال: إذا قال: إن وطئتك 2) فلله علي أن أصوم يوماً بعينه عن القضاء الذي هو عليّ يكون هذا بمثابة ما لو قال: إن وطئك، فلله علي أن أصوم ذلك اليوم بعينه بعد الأشهر. فإذا كان الأصحاب لا يجعلون تعيين اليوم لواجبٍ سابق بمثابة نذر صوم ذلك اليوم، فقد تخبط هذا الوجه على اشتهاره، ووجب الحكم بوقوع العبد عن الظهار لا محالة، وهذا تفريعٌ على وجوب الوفاء.
فإن أوجبنا كفارة اليمين (3 فلو أعتق ذلك العبدَ المعيّن عن ظهاره، فكفارة اليمين 3) باقية عليه، وإن [وجد] (4) الوفاء، فلا شك أن العبد يقع عن الظهار؛ فإنه لم يتأدّ به حق الحِنْث، ولو أعتقه عن كفارة اليمين، فلا شك أن كفارة الظهار باقية عليه؛ فإن قيل: لو أخرج كفارةَ اليمين كُسوة أو طعاماً، فهل يتعين عليه إعتاق ذلك العبد المعيّن؟ قلنا: لا؛ فإنا نُفرِّع على أن موجب يمين اللجاج الكفارة، والعبد إنما يتعين إعتاقه عن الظهار إذا فرض نذره، وهذا الذي نحن فيه يمينٌ، وليس هذا مما يخفى، ولكن إذا طال الكلام لا يضرّ التنبيه على مثل هذا.
9421 - ولو ابتدأ [ناذراً] (5) وقال: "لله عليّ أن أعتق هذا العبدَ عن ظهاري"،
__________
(1) في الأصل: أنه فقد تأدى به.
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(3) سقط من (ت 2) العبارة التي بين القوسين.
(4) في الأصل، وفي (ت 2): وجدنا، والمثبت من صفوة المذهب.
(5) زيادة من (ت 2).

(14/417)


وجرينا على النص، فإذا أعتقه عن الظهار هل يقع عن الظهار؟ (1 وهل يخرّج ذلك الوجه الضعيف البعيد؟ قلنا: الوجه القطع بأنه يقع عن الظهار 1)؛ فإنا نصحح هذا النذر على هذا الوجه، فإذا صححناه، أوقعناه، وإذا فرعنا على قول الوفاء، فأعتقه وفاءً، فقد ذكرنا الوجهين؛ لأن الوفاء وقع تَحِلَّةً (2) للقسم، وتأديةً لحق الحِنث، وحق الحِنث يغاير الملتزَم، فإذا كان الفرض في نذر مجرد، فليس إلا تصحيحُ إيقاعه على وجه تصحيح التزامه.
[فصل] (3)
9422 - إذا قال لإحدى امرأتيه: إن وطئتك، فصاحبتك هذه طالق، فهو مولٍ عن التي عينها على الجديد؛ فإنه يتعلق بالوطء طلاق ضرتها، ثم إذا توجهت الطَّلبة، ففاء، طلقت صاحبتها وانحلّت اليمين.
ولو طلّق التي آلى عنها، ثم راجعها، أو تركها حتى بانت، وجدّد النكاح عليها، فمهما (4) وطئها، حكمنا بطلاق صاحبتها إذا كان النكاح مستمراً عليها؛ فإن طريان البينونة على التي آلى عنها لا يؤثر في طلاق التي حلف بطلاقها.
ولو أبان التي آلى عنها، وزنا بها، طلقت صاحبتها؛ فإنَّ طلاق صاحبتها معلّق (5) بصورة وطء هذه، وهذا بيّن.
ولو كانت المسألة بحالها، فأبان صاحبتها التي علق طلاقها، ثم جدد النكاح عليها، فنقول أولاً: إذا أبانها، فقد صارت إلى حالة لا تطلق، فيرتفع الإيلاء وتقديرُ الطلب فيه، فإنه لو وطىء في اطراد البينونة على الصاحبة، لما تعلق بالوطء شيء، وإذا انتهى المولي إلى حالةٍ لو فرض منه الوطء، لما التزم شيئاً؛ فإنه يخرج بالانتهاء إليها عن اطراد حكم الإيلاء.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(2) ت 2: كله للقسم.
(3) علامة [فصل] غير موجودة في (ت 2) ولا في صفوة المذهب.
(4) فمهما: بمعنى إذا.
(5) ت 2: تعلّق.

(14/418)


فإذا عادت الصاحبة، وفرعنا على أن الحِنْث لا يعود، فقد زال الإيلاء بالكلية، وإن قلنا: يعود الحنث عليها حتى يلحقها الطلاق المعلق، فيعود الإيلاء وحكمه وتوجيه الطّلبة به.
9423 - والذي يجب التنبّه له في هذا المقام أن من آلى عن امرأته، ثم طلقها لما طولب بعد المدّة، فإذا راجعها، استفتحنا مدةً بعد المراجعة -كما أوضحنا فيما سبق- فإذا علق طلاق صاحبتها بوطئها، ثم أبان المحلوفَ بطلاقها، ثم نكحها، وحكمنا بعَوْد الحنث فيها وعَوْد الإيلاء في التي آلى عنها (1 فهل نستفتح مدةً، ونفرض بعدها طلباً، كما قدمناه فيه إذا طلق التي آلى عنها 1) ثم راجعها أو جدد عليها نكاحاً؟
الظاهر عندنا أنا لا نبتدىء ضرب مدة؛ فإنَّ طلاق التي آلى عنها من وجهٍ وفاءٌ بالطّلبة، وإن لم يكن فيئةً ورجوعاً (2) إلى حقها في المستمتع، وكان طلبها يتعلق بالاستمتاع، وهو الأصل، أو بتخليصها، فإذا طلقها، كان هذا سعياً في التخليص، فإذا تجدد حقها، أمكن أن يؤثر الطلاق السابقُ في استحداث مدة جديدة سوى المدة الماضية أوَّلاً، وهذا المعنى لا يتحقق بانقطاع أثر الإيلاء بسبب إبانة الصاحبة المحلوف بطلاقها؛ فإنه ليس في إبانتها إسعافُ التي آلى عنها بوجهٍ من وجوه الطّلبة، وبمقصودٍ من مقاصدها.
وقد يتجه المصير إلى استفتاح مدة؛ فإن الزوج بإبانتها رفع (3) المانع من الوطء، فكان هذا سبباً لقطع الضرار وتسهيلاً للإقدام على الوطء.
وسيأتي فصلٌ جامع في قواطع المدة؛ وما يقتضي ابتداؤها، ونعيد طرفاً مما ذكرناه، وعند ذلك يحصل شفاء الصدور.
9424 - وإذا قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي هذا حرّ، فهو مولٍ على الجديد، فلو باع ذلك العبد، انقطع أثر الإيلاء، فلو عاد إلى ملكه، ففي عود الحنث قولان،
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(2) ت 2: فإن لم يكن فيه فرجوعاً ...
(3) ت 2: وقع.

(14/419)


(1 وفي عَوْد الإيلاء قولان 1) مأخوذان من ذلك، والتفصيل في العتق (2) كالتفصيل في الطلاق.
فصل
قال: "ولو آلى، ثم قال لأخرى: قد أشركتك معها في الأيلاء ... إلى آخره" (3).
9425 - إذا طلق الرجل إحدى امرأتيه ثم قال للأخرى: أنت شريكتها (4 ونوى بذلك تطليقها، طلقت.
ولو آلى عن إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أنت شريكتها 4) وزعم أنه أراد بذلك الإيلاءَ عنها، وتنزيلَها منزلةَ الأولى، لم يصر مولياً بهذا اللفظ، وغرض الفصل أن الإيلاء يمينٌ، فلا يحصل بالكناية على هذا الوجه؛ فإن عماد اليمين ذكر محلوفٍ به، وليس في لفظة الإشراك ذلك، فخاصّية اليمين زائلة، والنية بمجردها لا تعويل عليها.
فإن قيل: ألستم قضيتم بأن قول الزوج: والله لا يجمع رأسي ورأسك وسادةٌ كناية في الأيلاء؟ قلنا: الممتنع (5) من الحصول بالمكاني المقسم به، فأما الألفاظ التي تتعلق بمقصود اليمين، فلا يمتنع تطرق الكنايات إليها.
ولو ظاهر عن إحدى امرأتيه، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، وقصد إحلالها محل الأولى في الظهار (6 فهل يحصل الظهار بهذا اللفظ مع النية؟ فعلى وجهين مبنيين على أن المغلَّب في الظهار 6) أحكامُ الطلاق أو أحكام اليمين: فإن غَلّبنا شَبَه
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(2) ت 2: في العين.
(3) ر. المختصر: 4/ 98.
(4) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(5) ت 2: المتبع.
(6) سقط من (ت 2) ما بين القوسين.

(14/420)


(1 الطلاق صيرناه مظاهراً، وإن غلبنا شبه اليمين لم نجعله 1) مظاهراً، وسيأتي شرح هذا الأصل في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
ولو قال لإحدى امرأتيه: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال للأخرى: أشركتك معها، فهذا مما ذكرناه في فروع الطلاق، وفيه مقنع، فلا نعيده.
ثم قال: "ولو قال: إن قَرِبْتُك، فأنت زانية ... (3 إلى آخره" (2).
9426 - إذا قال: إن جامعتك فأنت زانية 3)، فلا يكون مولياً؛ فإنه لا يلتزم بجماعها أمراً؛ إذ لو وطئها لم يَصِرْ قاذفاً، والقذف لا يقبل التعليق؛ فإنه خبر صفتُه أن يكون جازماً 4)، وعلى هذا الوجه يقدح في [العِرض] (5)، فإذا تعلق خرج عن وضعه.
فصل
قال: "ولو قال: والله لا أصبتك في السنة إلا مرة، لم يكن مولياً ... إلى آخره" (6).
9427 - هذا الفصل يستدعي تقديم أصلٍ: فنقول: أوضحنا أن التفريع على أن المولي من يلتزم بالوقاع أمراً بعد أربعة أشهر، ثم قسمنا وجوه الالتزام: فلو كان لا يلتزم بالوقاع بعد الأشهر أمراً غيرَ أنه كان يقرُب بسببه من الحِنْث في يمين، فهل نجعله مولياً؟ [وهل نجعل القرب من الحنث] (7) في معنى التزام أمر؛ حتى نقول:
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) ر. المختصر: 4/ 99.
(3) ساقط من (ت 2).
(4) في (ت 2): خارجاً.
(5) في الأصل: الغرض، و (ت 2): الفرض. والمثبت من صفوة المذهب: جزء: 5 ورقة: 47 يمين.
(6) ر. المختصر: 4/ 99. والعبارة في المختصر هكذا: "ولو قال: لا أصيبك سنة إلا مرة، لم يكن مولياً".
(7) زيادة من (ت 2).

(14/421)


يتعلق بالوطء التزامٌ، فنجعله مولياً؟ في المسألة قولان: أصحهما - أنا لا نجعله مولياً؛ فإن الوطء ليس يستعقب لزومَ أمر، والقرب ليس حكماً ثابتاً، ولا أمراً لازماً، وحاصله دنوّ توقّعٍ في لازم.
والقول الثاني - أنه مولٍ، فإنه بسبب الوطء يقرب من اللزوم، وهو مما يُحاذَر، فينتصب في مقابلة الوطء أمرٌ محذور، وهو عماد الإيلاء.
ونحن نفرض للقولين صورة، ثم نتبعها بصورٍ يتقرر بها الغرض: فإذا كان للرجل أربع نسوة فقال: والله لا أجامعكن. فلو جامع واحدة، لم يلتزم أمراً، وكذلك إذا وطىء الثانية والثالثة؛ فإن الحنث يحصل بوطئهن كلهن، ولكنه بوطء الأولى يقرب من الحنث، فهل نجعله مُولياً؟ فعلى ما ذكرناه من القولين. فإن جعلنا الوطء المقرّب كالوطء المحنّث، فالطلبة تتوجه والإيلاء يثبت، وإن لم نجعل الوطء المقرب كالوطء المحنث، فلا نجعله مولياً حتى يطأ ثلاثاً منهن، فإذ ذاك يصير مولياً عن الرابعة، فنُجري ابتداءَ المدة بعد وطء الثالثة، والحِنْث يتعلق بوطء الرابعة.
فهذا من صور القولين.
9428 - ومما يجري القولان فيه صورة مسألة الكتاب، وهي: إذا قال لامرأته: "والله لا أصبتك في السنة إلا مرة"، فالأصح المنصوص عليه في الجديد أنا لا نجعله مولياً قبل أن يطأ، فالوطء الأول لا يلتزم [به] (1) شيئاً، وإن وطىء مرة، نظرنا إلى ما بقي من السنة، فإن كان الباقي منها أربعة أشهر أو أقل، فلا يكون مولياً؛ فإن المدة قاصرة.
وإن كان الباقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، جعلناه مولياً، فإنه بعد الوطأة المستثناة، صار إلى حالةٍ لو فُرض منه الوطء بعد أربعة أشهر، لالتزم الكفارة، وهذا أصح القولين.
والقول الثاني - أنه مولٍ من أول السنة؛ فإن الوطء المستئنى وإن كان لا يحنِّث، فإنه يقرّب من الحنث، فتتوجه الطلبة إذاً بعد أربعة أشهر، فإن فاء، خرج عن عهدةِ
__________
(1) زيادة من المحقق.

(14/422)


الطلب في هذه الكرة، ثم إذا مضت أربعة أشهر فلو وطىء، التزم الكفارة، فيتوجه الطلبة، والوطء الأول لا يحل اليمين؛ فإنه كان مستثنى، والحِنْث يحصل بالوطأة الثانية.
ولو استثنى عن اليمين المعقودة على السنة وطآت كثيرة، فالقولان جاريان، ولا فرق بين الوطأة الواحدة المستثناة وبين الوطآت؛ فإن التقريب يحصل بكل وطء.
9429 - ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فوالله لا أطؤك، فهذا تعليق منه للإيلاء بالوطأة الأولى، وللأصحاب طريقان منهم من قطع بانه لا يكون مولياً في الحال بخلاف الصورة المقدّمة في عقد اليمين على السنة، واستثناء ما أراد، وهاهنا علّق ابتداء العقد بالوطأة الأولى، فلا يمين قبل الوطأة الأولى، ويستحيل أن نحكم بكونه مولياً في وقتٍ لا يكون فيه حالفاً.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في هذه المسألة، وقال: إن لم يكن حالفاً بالله في حالِه، فهو في حكم الحالف (1) بالله تعالى، فكان الوطءُ مقرِّباً من الحنث، فهو يجري بعد يمين، كما ذكرت.
9430 - ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فأنت طالق إن دخلت الدار، فقد نقل بعض الأثبات عن القاضي أنه قال: نجعله مولياً في هذه الصورة قولاً واحداً، ولو قال: إن وطئتك، فأنت عليّ كظهر أمي إن دخلت الدار، فيكون مولياً قولاً واحداً، واعتلّ بأنه التزم بالوطء تعليق الطلاق والظهار، والمولي من يلتزم بالوطء شيئاً، على ما ذكرناه.
وهذا غير سديد، وقطع شيخي بتخريج تعليق الطلاق والظهار على قولين، والسبب فيه أن الوطء لا يوجب وقوع الطلاق والظهار، بل يوجب انعقاد تعليقهما، فهو كما لو قال: إن أصبتك فوالله لا أصيبك، وأي فرق بين تعليق عقد اليمين بالطلاق والظهار بالوطء، وبين تعليق عقد اليمين بالله تعالى بالوطء، فلا وجه للفرق بينهما.
ولعل الذي تخيّله الفارق أن الإيلاء المعهود هو الحلف بالله على الامتناع من
__________
(1) في الأصل: فهو في حكم الحالف بالحلف بالله، ومثلها (ت 2) غير أنها قالت: في حكم الحالف فالحلف بالله. والمثبت تصرف من المحقق.

(14/423)


الوطء، فلما كان ذلك معلّقاً بالإصابة الأولى، انتظم لهذا القائل أن الإيلاء موعود معلق، وليس منجزاً، وإن كان المعلق بالإصابة الأولى طلاقاً أو ظهاراً، فليس ذلك التعليق إيلاءً في نفسه، فَحَسِبه أمراً ملتزماً، وحسِب التزامه إيلاءً، وهذا ذهول عن دقيقة نبهنا عليها وهي أن من قال: إن أصبتك، فوالله لا أصيبك، فهذا حلف بالحَلف، كما أنه إذا قال: إن أصبتك فأنت طالق إن دخلت الدار، فهذا حلف بتعليق الطلاق؛ فلا وجه إذاً للفرق.
9431 - ومما نذكره متصلاً بهذا الذي انتهينا إليه، أن الرجل إذا قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري إن تظهرت، فقد كنا وعدنا في ذلك ذكرَ خلاف، وها نحن نقول: الوطء قبل الظهار لا يُلزم أمراً، فكان ظاهر المذهب ألا نجعله مولياً، فإن قلنا: القرب من الحِنث يثبت الإيلاء، فإذا وطىء، فقد قرب حصول العتق، فمن أصحابنا من ألحق هذا بمحالّ القولين في القرب من الحنث، وجعله مولياً قبل الظهار على أحد القولين.
ومنهم من قطع القول بأنه لا يكون مولياً، ولا يكاد يتضح الفرق. والأصح أن القرب من الحِنْث لا يثبت موجَب الإيلاء.
9432 - ومما ذكره الأصحاب في بعض مسائل الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: والله لا أصبتك إلا مرة واحدة، فلو وطئها، ثم نزع في الأثناء وأعاد، فلا يحنث بالإيلاج الأول، وإذا نزع وأعاد، حَنِث؛ فإنه وطءٌ مجدّد، وقد حكيتُ في هذا خلافاً فيما تقدّم، وأوردته فيه إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً، ثم أولج، ونزع وأعاد قبل قضاء الوطر، فالمذهب المبتوت وجوبُ المهر إذا جرى على جهلٍ، فإن هذا وطء مبتدأ، فمن أصحابنا من عدّ النزع والإعادة في حكم استدامة الوطأة الواحدة، وهذا بعيد، وإن كان يتوجه، فهو في اليمين أقرب؛ فإن وجوب المهر يتلقى من مأخذ الأحكام، وأما إذا تعرض لذكر الوطأة بالاستثناء في اليمين المعقودة، فقد يظهر الرجوع فيما هذا سبيله إلى العرف، ولو قال: والله لا آكل إلا أكلة واحدة، فقد يحمل ذلك في الأيمان على أكلة تحويها جلسة على الاعتياد، والغرض بإعادة ما ذكرناه حكايةُ قول الأصحاب في هذا المقام.

(14/424)


فصل
قال: "ولو قال: والله لا أقربك إلى يوم القيامة ... إلى آخره" (1).
9433 - غرض الفصل تقاسيم الأيمان فيما يتعلق بامتداد [المُدَد] (2) في [الحلف] (3) على الانكفاف عن الوطء.
فنقول: الأيمان، في غرض الفصل تقع على أقسامٍ: أحدها - يمين مُطْلقة في الامتناع، لا تعرّض فيها لتعليق بوقتٍ أو أمرٍ منتظر، [وسبيل] (4) هذا اللفظ الاسترسال على الأزمنة والانعقاد عليها، ولو قُيِّدت بالتأبيد، لكان التقييد بالتأبيد تأكيداً، وحكمُ هذا القسم احتسابُ مدّة الإيلاء من وقت اللفظ.
9434 - ومن الأقسام تقييد اللفظ بالوقت، وهذا مما تقدم شرحه، فإن كانت المدة أربعةَ أشهر، أو أقلَّ، فلا إيلاء، وإنما الذي جاء به يمين لا يتعلق بها حكمُ طَلِبة الإيلاء، [ولا] (5) يخفى موجَبُ البر والحِنْث، وإن ذَكَر زماناً زائداً على الأربعة الأشهر، انعقد الإيلاءُ، فالأربعة الأشهر مَهَلٌ، واشترط المزيد بسبب فرض توجيه الطلب؛ فإن الإيلاء عندنا لا يتضمن وقوع الطلاق بنفسه، وقد روي أن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه قال لحفصة: "أتصبر المرأة عن زوجها شهراً، فقالت: نعم، فقال: أتصبر ثلاثةَ أشهر فقالت: نعم، فقال: أتصبر أربعة أشهر، فسكتت، فبعث
عمر بنُ الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد، وأمرهم أن يردوا الرجال إلى أهليهم في الأربعة الأشهر" (6)، فكان ابتناء مُدَّةِ الإيلاء على ما جرت الإشارة إليه من إمكان الصبر، وظهور الضرار.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 99.
(2) في الأصل: المدعى.
(3) في الأصل: الحلق.
(4) في الأصل: في سبيل.
(5) في النسختين: فلا.
(6) قال الحافظ: لم أقف عليه مفصلاً هكذا، وإنما روى البيهقي في أوائل كتاب السير من رواية =

(14/425)


9435 - ومن أقسام الأيمان ما يشتمل على مدة الامتناع عن الوطء إلى أمرٍ منتظر في الاستقبال، وهذا ينقسم أقساماً، فمنه ما يعلم قطعاً أنه لا يقع إلا بعد أربعة أشهر، وذلك مثل أن يقول لامرأته: والله لا أجامعك إلى إدراك الرطب، وكان إنشاء اليمين في الشتاء، والإدراكُ يقع بعد الأربعة الأشهر لا محالة، فيثبت حكم الإيلاء وفاقاً.
ولو علق بما يُعدّ وقوعُه مستبعداً كخروج الدّجال ونزول عيسى، وما أشبههما من أشراط الساعة، فيثبت الإيلاء، وإذا مضت الأشهر، توجهت الطَّلِبة.
ولو ذكر ما لا يبعد حصوله قبل الأربعة الأشهر، مثل أن يقول: لا أجامعك حتى يقدَمَ فلان، وكان قدومه متوقعاً قبل الأربعة، فلا نحكم بكونه مولياً في الحال، فلو مضت أربعةُ أشهر، ولم يتفق القدوم، فهل نقول: إنا نتبيّن الآن أنه كان مولياً؛ حتى تتوجه الطلبة بعد انقضاء الأشهر؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نتبين ذلك، وتتوجه الطلبة؛ فإنا كنا نتوقف لظهور توقع السبب المذكور قبل الأربعة الأشهر، والآن إذا بان بأَخَرةٍ، تبينا امتدادَ الامتناع واليمين أربعةَ أشهر.
والقول الثاني - أنا نحكم بالإيلاء، فإن السبب الذي ذكره إذا كان ممكن الوجود غيرَ مستبعد الكَوْن، فلا نتحقق إظهار المضادة [لموجمب] (1) اليمين، ولَوْ لم يكن يمينٌ، فامتنع الرجل عن الوقاع، لم يثبت لها طلب؛ لأنها تزجي زمانها على التوقع، فلا تعويل إذاً على وقوع الامتناع أربعة أشهر، وإنما التعويل على إظهار الضرار، وتأكيده باليمين.
وهذا القول أفقه.
__________
= مالك، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر فذكره بمعناه، وفيه أنها قالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر، كذا ذكره بالشك.
ثم قال الحافظ: ورواه ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن دينار فأرسله، وجزم بستة أشهر، ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج، ورواه سعيد بن منصور من وجهٍ آخر، عن زيد بن أسلم (ر. السنن الكبرى للبيهقي: 9/ 29، ومصنف عبد الرزاق: 7/ 51، 152 - رقم 12593، 12594، وتلخيص الحبير: 3/ 441، 442 بعد الكلام عن الحديث رقم: 1763).
(1) في الأصل: بموجب.

(14/426)


والذي يحقق الغرض في ذلك أنه إذا آلى مطلقاً، فلا طلبة في الحال، وإذا انقضت الأشهر طولب، فكأن صاحب القول الأول يثبت الإيلاء، والذي يحقق هذا أنه لو قال: لا أجامعك ما عشتُ، فلو مات قبل أربعة أشهر، فقد تبين أنه لم يكن مولياً، فإذا كان التبيّن يتطرق والمذكور سببٌ مستبعد، كما يتطرق والسبب قريب، فلا يبقى فرقٌ عند ذكر الأسباب، والأمر في الكل على التبيّن، ويجب لَوْ صح هذا القياس القولُ بالإيلاء، وإحالة ارتفاع الإيلاء على وقوع السبب قبل الأشهر.
ولعل ناصرَ القول الأول يردّ ذلك القولَ إلى أمر في العبارة، يقول: إن كان السبب مستبعداً، أطلقنا القول بثبوت الإيلاء، فإن جرى السبب المستبعد على ندورٍ قبل أربعة أشهر، رددنا التبيُّن إلى أن الإيلاء لم يكن، وإن كان السبب المذكور غيرَ مستبعد، لم نطلق القول بحصول الإيلاء إن سئلنا عنه، فإن استأخر السبب، تبيّنا أنه كان مولياً.
والقول في ذلك قريب.
9436 - ولو قال: لا أجامعك إلى أن تموتي، أو إلى أن أموت، فالإيلاء ثابت، ولو قال: لا أجامعك إلى أن يموت فلان، فالذي ذكره القاضي، وأصحابُ القفال أن الإيلاء ثابت، وموت ذلك الشخص من المستبعدات، وقال المزني: ذِكْرُ موت شخص غير الزوجين بمثابة ذكرِ قدومٍ متوقع؛ إذ ليس الموت ببعيد في الوقوع، وما لم يبعد وقوعه، لم يبعد توقعه.
وذكر العراقيون مذهب المزني، واختاروه، ولم يعرفوا غيره، ونزّلوا موت الثالث بمثابة القدوم وغيره من المتوقعات، فقد حصل وجهان من الطرق: أحدهما - أن موت الثالث من المستبعدات، فيرتب فيه المذهب على حسب ما مضى من المستبعدات.
والوجه الثاني - وهو اختيار العراقيين أنه لا يلتحق بالمستبعدات.
9437 - وفي لفظ (السّواد) (1) إشكالٌ ونحن ننقله على وجهه، فقال: "حتى يخرج الدّجال أو حتى ينزل عيسى بنُ مريم، أو حتى يقدَم فلان، أو يموت أو تموتي،
__________
(1) "السواد" هو مختصر المزني، كذا يسميه الإمام. وقد أشرنا إلى ذلك كثيراً.

(14/427)


أو تفطمي ابنك" (1)، جمع الشافعي رضي الله عنه بين هذه الأسباب وهي مختلفة: فمنها مستبعد، ومنها مستقرب، وقرن بين موت فلان وقدومِه، فلا تعلّق (بالسواد) من حيث إنه جمع بين الأسباب المختلفة.
ثم تصرف المزني، وقال: "حتى يقدَمَ فلان أو يموت سواء في القياس" (2) وأبان أنهما متوقعان على نسق واحد، فهذا بيان لفظ (السواد) وميلُ النص إلى أنه إذا مضت أربعة أشهر، ولم يتفق السبب المذكور، توجهت الطّلبة؛ فإنه قال بعد الأسباب المختلفة: فإذا مضت أربعة أشهر قبل أن يكون شيء مما حلف عليه، كان مولياً.
وقال في موضع آخر - وهذا لفظ السواد:- "حتى تفطمي ولدك، لا يكون مولياً، لأنها قد تفطمه قبل أربعة أشهر" (3) وأما قوله: حتى تموتي أو حتى أموت، فالإيلاء محكوم به ظاهراً في الحال، ولا يؤخذ هذا من توقع الموت واستبعاده، وإنما يؤخذ من قطع رجائها عن استمتاعه ما بقيت طالبة راجية.
9438 - وحاصل جميع ما ذكرناه يرجع إلى أن السبب الذي جعله المنتهى إن كان مستبعداً، فالضرار كائن، وإن كان السبب متوقعاً، فلا نحكم بالإيلاء، فإن استأخر وقوعُ ما كنا لا نستبعده عن الأشهر، فقولان منصوصان في السواد، وفي موت الثالث من بين الأسباب نظرٌ في أنه من المستبعدات؛ أم لا، ولعل الأظهر أنه من المستبعدات؛ فإن الناس كذلك يَحْسَبون، ومدار الإيلاء على الإضرار المُظهَر باللسان.
والمسألة محتملةٌ على حال.
وإذا قال: حتى تفطمي، فإن أراد وقوع الفطام، وكان متوقع الكون قبل الأربعة الأشهر، فهو ملتحق بما لا يُستبعد، وقد مضى تفصيله. وإن كان أراد انقضاء مدة
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 99.
(2) نفسه.
(3) ر. المختصر: 4/ 100.

(14/428)


الرضاع وهي الحولان، نظرنا فيما بقي من المدة، وخرّجناه على التفاصيل المذكورة في المدد.
وإن قال: لا أجامعك حتى تحبَلَ فلانة، فهذا من الأسباب المتوقعة على القرب، إلا أن تكون صغيرة أو آيسة، ولا يكاد يخفى ترديد النظر بعد تمهيد الأصول.
ولو ذكر قدوم شخص، وكان على مسافة شاسعة ولا يتوقع رجوعه منها وقدومُه في الأربعة الأشهر، فهذا ملحق بالمستبعدات، ولو كان قدومه مستبعداً، وزعم الزوج أنه ظنه متوقعاً، فهذا فيه نظر إذا ادّعى الزوج ظنّاً بقرب موضعه: يجوز أن يقال: يُبنى الأمر على ظنه، فإن نوزع فيه حُلّف، ويجوز أن يقال: يبنى الأمر على حقيقة الحال، ولا التفات إلى ما يدعيه من الظن.
فصل
إذا قال: "والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس، فهو مولٍ ... إلى آخره" (1).
9439 - إذا قال: والله لا أقربك إن شئت، فهذا تعليق الإيلاء بمشيئتها على صيغةٍ تقتضي تخير الجواب، والإيلاء قابلٌ للتعليق كالطلاق؛ إذ لو قال لامرأته: إن دخلت الدار فوالله لا أجامعك إن شئت، فالقول في اشتراط اتّصال لفظها على ما مضى في الطلاق.
وحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثُ طرق: إحداها - اشتراط التلفظ بالمشيئة على الاتصال الزماني (2)، كما يشترط ذلك بين الإيجاب والقبول، وهذا ظاهر المذهب.
والطريقة الثانية - أنا لا نشترط الاتصال في ذلك، ومتى شاءت، انعقد الإيلاء، وقوله: إن شئتِ، كقوله: إن دخلت الدار، وهذا منقاس.
__________
(1) ر. المختصر:101.
(2) ت 2: على الاتصال إلى ما يكون.

(14/429)


وتوجيه الطريقة الأولى يُحْوِج (1) إلى تكلفٍ في التقدير (2)، ولكن الطريقة الثانية (3) بعيدة في الحكاية، ذكرها الشيخ أبو علي في الشرح.
والوجه الثالث (4) - أن المشيئة تتقيد (5) بالمجلس وإن طال، وهذا أبعد الطرق، ولست أعرف له توجيهاً، وإنما أخذ بعضُ الأصحاب هذا الوجهَ من لفظ الشافعي؛ فإنه قال: "وشاءت في المجلس" وذكر هذا اللفظ أيضاً في تعليق الطلاق بالمشيئة على هذه الصيغة، فظن ظانون أنه أراد المجلس حقاً، وإنما عبر رضي الله عنه عن قرب الزمان بذكر المجلس، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى اعتبار المجلس في القبول والإيجاب، وقد اعتبره أبو حنيفة (6) فيهما.
وقال مالك (7): إذا قال: لا أجامعك إن شئت، فهو ليس بمولٍ، وإن شاءت؛ فإن المولي من يَجزِمُ الامتناعَ إضراراً بها، فإذا علق بمشيئتها، فقد خرج عن كونه مضارّاً، وهذا الذي ذكره غيرُ بعيد من مأخذ الفقه.
واعترض عليه الشافعي بأن قال: إذا كان الإيلاء جازماً، فأظهرت الرضا به، لم ينقطع الإيلاء، ولم تنقطع المدة، وإذا رضيت بعد المدة، لم نستفتح ضرب مدّة، فدلّ أنا وإن كنا نعتبر المضارة اعتباراً كلياً، فلسنا نبني الأمر عليها؛ فإن الأمور بعد ما رسخت لا تزول بفرْض أمثال ذلك، وهذا كابتناء (8) الإجارة على الحاجة، ثم لا تتقيد (9) بها،
__________
(1) ت 2: يخرج.
(2) ت 2: إلى تكلف التفرقة.
(3) ساقطة من (ت 2).
(4) كذا في النسختين: (الوجه الثالث) مع أنه عبر عنها بالطرق الثلاث. وحتى هذا الوجه يقول عنه: (أبعد الطرق).
(5) ت 2: تصل.
(6) ر. فتح القدير: 5/ 461، الفتاوى الهندية: 3/ 3.
(7) لم نصل إلى المسألة منصوصة عن الإمام مالك فيما رأيناه من كتب السادة المالكية، وإنما الذي رأيناه مثالاً على نفي الإيلاء لانتفاء قصد الإضرار، هو إذا حلف لا يطأ امرأته حتى تفطم ولدها، فهذا يكون إيلاء لما فيه من عدم الإضرار (المدونة: 2/ 323، والمنتقى: 4/ 36).
(8) ت 2: كإثباتنا الإجارة.
(9) ت 2: لا تتقبل.

(14/430)


ولو كانت المرأة فاركة (1) زوجَها مُناها أن يهاجرها، فالإيلاء في حقها كالإيلاء في حق [الوامقة] (2)، والتي لا أرَب لها في الرجال [كالمتشوفة] (3).
فهذا بيان الأصل.
9440 - ولو قال: "لا أصبتك [متى] (4) شئتِ". قال الإمام (5): هذه اللفظة محتملة، ويُرجع فيها إلى قوله: فإن قال: أردت بذلك تعليق اليمين على مشيئتها، حتى إذا شاءت، انعقدت اليمين والإيلاء، فالأمر كذلك، والفرق بين قوله: إن شئتِ وبين قوله متى شئتِ أن قوله: إن شئتِ يستدعي جوابها على الفور على ظاهر المذهب، وقوله متى شئت يقبل التأخير، كما قدمناه في مسائل الطلاق.
فإن قال الزوج: أردت بقولي: "لا أجامعك متى شئتِ" أني إنما أجامعك إذا
__________
(1) ت 2: تاركة. وفاركة من الفِرْكة، وهي البغضة بين الزوجين خاصة. وفعلها: فرك (بكسر العين) يفرك (بفتح العين) (المعجم).
(2) الوامقة: المحبة من ومِق (بكسر العين) في الماضي والمضارع. ومْقاً ومقة. (المعجم).
(3) ومعنى العبارة أن الإيلاء يستوي فيه كارهة زوجها التي تتمنى أن يهجرها ولا يقربها، والتي قعدت بها السن، فلم يعد لها أرب في الرجال يستوي ذلك مع المتشوفة والوامقة العاشقة.
(4) في الأصل: حتى.
(5) قال الإمام: المراد هنا والده الشيخ أبو محمد، كما صرح بذلك أحياناً، وقد اعتبر الرافعي رضي الله عنه أن لفظ الإمام هنا يراد به إمام الحرمين نفسه، كذا يفهم من عبارته في الشرح الكبير، حيث قال: "قال الإمام: ولو قال: لا أجامعك متى شئت، وأراد أني أجامعك متى أردتِ، فلا يكون مولياً، وإنما هو إعرابٌ عن مقتضى الشرع وحلف عليه ... " وقد تابعه النووي في الروضة، فحكى ذات المسألة على هذا النحو. وظني أنه وهم من الشيخين الجليلين حيث ظنا أن كلمة (قال الإمام) هي من كلام ناسخ (النهاية) وليس من كلام مؤلفها، مع أن هذا غير معهود أبداً في (النهاية).
ويؤيد ما أقول ويجعله قريباً من الجزم أن ابن أبي عصرون في مختصره (صفوة المذهب) حكى المسألة بلفظ: (قيل) وهو يلتزم عبارة الإمام وألفاظه، لا يكاد يخرج عنها، فلو كان هذا من كلام الإمام ما قال فيه (قيل) وإنما يقول ذلك فيما يحكيه الإمام عن غيره، إذا لم يصرّح بذلك الغير.
(ر. الشرح الكبير: 9/ 222، والروضة: 8/ 244، وصفوة المذهب: 5/ ورقة: 76 يمين).

(14/431)


أردتُ لا إذا أردتِ، فهذا ليس بالإيلاء وإنما هو إعراب عن موجَب الشرع ومقتضاه، وحلف عليه.
ولو أطلق الزوج هذا اللفظ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه من الكنايات؛ فإنه متردد بين الوجهين الذين ذكرناهما، فإذا لم يكن نية، فاللفظ لاغٍ.
ومن أصحابنا من قال: هو في الإطلاق محمول [على تعليق] (1) عقد الإيلاء بالمشيئة، حتى إذا شاءت، ثبت الإيلاء، وإن كنا نصدق الزوجَ في حمله على المحمل الآخر، وقد ذكرنا نظائر هذا في الألفاظ المطلقة والمتأوَّلة في مسائل الطلاق.
ولو علق فعل الوطء بمشيئتها وأراد أنها مهما أبت أن يطأها، فلا يطؤها، فليس بمولٍ، وفي هذا المقام ينقدح مسلكُ مالك؛ فإنه علق اليمين على اتباع مشيئتها في الوطء إقداماً وامتناعاً، فإذا قال: والله لا أجامعك إن شئت، فليس يعلق الوطء على مشيئتها، وإنما يعلق عقد اليمين على مشيئتها، ثم إذا انعقدت اليمين، فلا أثر بعد ذلك لمشيئتها.
9441 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "والإيلاء في الغضب والرضا سواء" (2) وقصد بذلك الرد على مالك (3)، فإنه يقول: انعقاد الإيلاء يختص بحالة الغضب؛ فإنَّ قصد المضارّة إنما يتحقق في حالة الغضب.
وهذا من ظنونه التي ينبني على أمثالها مذهبُه، وهو بمثابة تخصيص الخلع بحالة المشاقّة، ومذهبُه في الخلع أقربُ؛ لأنه يتمسك في إثباته بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ... } [البقرة: 229] والإيلاء غير مقيد بشيء من ذلك، وليس في القرآن فصلٌ.
9442 - ثم قال الشافعي: "وإن قال والله لا أقربك حتى أُخرجَك من البلد ... إلى آخره" (4).
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(2) ر. المختصر: 4/ 101.
(3) ر. المنتقى للباجي: 4/ 36، مقدمات ابن رشد - بهامش المدونة: 2/ 331.
(4) نفسه.

(14/432)


هذا يتحقق بالأسباب القريبة، فإن الإخراج من البلد ممكن غيرُ مستبعد، فكأنه قال: "والله لا أجامعك في البلدة"، فإن مضت أربعة أشهر، فهل نجعله مولياً؟ فيه القولان المقدمان: فإن قلنا: يصير مولياً، وتتوجه الطلبة، فإن أراد الزوج الخلاص، فالوجه أن يخرجها من البلد، وإذا أخرجها، انقطعت الطّلبة؛ فإن اليمين لم يتناول هذه الحالة، ولو وطىء، لم يلزمه الكفارة، وإذا انتهى إلى حالة لو وطىء، لم يلتزم الكفارة، فقد خرج في ذلك الوقت عن مطالبة الإيلاء، وهذا مستبين لا غموض فيه.
فرع:
9443 - لو قال: إن جامعتك، فعبدي حر، فهو مولٍ على الجديد، ولو قال: إن جامعتك، فعبدي حر قبل مجامعتي إياك بشهر، قال الأصحاب: ابتداء المدة يقع بعد شهر؛ فإنه لو فرض الجماع قبل الشهر، لم يعتِق العبد؛ إذ (1) لو قدّرنا العتق، للزم أن يتقدم على الوقاع بشهر، ولو تقدم، لكان العتق واقعاً قبل اللفظ، وقد ذكرنا استحالة هذا. وإذا مضت أربعة أشهر من وقت اللفظ، فلو قدّرنا توجيه الطلبة، لم يكن على قاعدة الإيلاء؛ فهانه لا يلتزم بالوقاع -لو واقع- العتق بعد أربعة أشهر، بل لو فُرض الوقاع، لوقع العتق بعد الأربعة الأشهر.
ولو باع العبد بعد انتصاف الشهر الخامس، فالطَّلِبة تتوجه بعد الشهر الخامس؛ فإنا لو فرضنا وقاعاً بعد الشهر الخامس، لاقتضى تقدّمَ العتق بشهر، ولو تقدمَ العتق بشهر، لتبيّنا بطلان البيع، ويحصل بما ذكرناه شرط الإيلاء وعماده.
ولو باع العبدَ [و] (2) لم تتفق مطالبة الزوج والمسألة بحالها حتى مضى شهر كامل، فلا وجه للمطالبة، وقد انقطع أثر الإيلاء، فإنه لو فرض الوطء، لم ينعكس العتق على البيع، ولم يُفضِ إلى بطلانه، ولو اشترى العبدَ بعد البيع، فيعود التفريع في عَوْد الحنث، وبحسبه يعود التفصيل في الإيلاء، وقد تمهد هذا فيما تقدم.
...
__________
(1) هنا خرم قدر صفحتين من نسخة (ت 2).
(2) الواو زيادة اقتضاها السياق.

(14/433)


باب الإيلاء عن نسوة
قال الشافعي: "وإذا قال لأربع نسوة: والله لا أقربكن ... إلى آخره" (1).
9444 - إذا قال لزوجاته الأربع: والله لا أجامعكن، فالوجه أن نذكر ما يتعلق بالبر والحِنث ثم نعود إلى حكم الإيلاء: فإذا قال: لا أجامعكن، لم [يحصل] (2) الحنث بمجامعة ثلاث منهن؛ فإن اليمين المعقود على أفعال لا يتحقق الحنث فيها بالبعض، كما لو حلف لا يأكل أرغفة، فإنه لا يحنث بأكل بعضها، بل لا يحنث ما بقيت منها قطعة، وهذا ممهّد في الأَيْمان، ومعناه واضح متلقى من موجَب اللفظ، ولو ماتت واحدة منهن، انحلّت اليمين؛ فإنه يتحقق امتناع الحنث، واسم الوطء في حنث اليمين وبرّها ينطلق على غشيان الحيّة (3).
ولو قال: والله لا أجامع فلانة، فماتت، فاقتحم المأثم وأتاها، لم يحنث.
هذا هو المذهب.
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن البر والحنث يتعلّقان بوطء الميت.
وهذا بعيد لا تعويل عليه، فلا خلاف أنه لو قال: والله لا أضرب فلاناً، فضربه بعد الموت، لم يكن ما جاء به الضربَ الذي انعقدت اليمين عليه، ولو وطىء واحدة ثم ماتت، لم يقدح موتها بعد الوطء، فإنْ وطىء الباقيات في حياتهن حنث.
ولو قال لنسوته: والله لا أجامعكن، ثم طلق ثلاثاًً منهن [فبِنَّ ثم زنا بهنَّ] (4)، ثم
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 101.
(2) في الأصل: يجعل، والتصويب من المحقق.
(3) أي على الغشيان حالة الحياة.
(4) غير مقروء في الأصل، والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون، أما (ت 2)، فقد ضلَّلَتْنا، وذهبت بعيداً حيث قالت: "ثم طلق ثلاثاًً منهن قبل قِرْبانهن".

(14/434)


وطىء الرابعة، حَنِث بوطئها؛ فإن اليمين لا يختص بالوطء المستباح.
فهذا ما يتعلق بحكم البر والحنث، ولا شك أنه إذا جامعهن، لم يلتزم إلا كفارة واحدة، فإنْ وطئهن، حنث حنثاً واحداً، واتحاد الكفارة وتعددها يُتلقى من الحِنْث.
وإذا قال: لا أجامعكن، فأتى بعضهن، أو جميعهن في أدبارهن، فالذي أراه أنه في حكم الحنث، كالإتيان في المأتى؛ فإن ذلك وإن كان يندر فعلاً، فليس خارجاً عن عرف اللسان، ولا يُرعى في الأيمان ما يجري العرف به عملاً، وإنما يُرعى ما يعدّ مندرجاً تحت اللسان، وسأصف عرف الأيمان في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
9445 - ونحن نعود إلى حكم الإيلاء، فنقول: إذا قال لنسوته: والله لا أجامعكن، فالمنصوص عليه في الجديد أنه لا يثبت حكم الإيلاء في حق واحدة منهن؛ فإنه لا يلتزم بجماع واحدة بعد الأشهر أمراً، وفي المسألة قول قديم: أنه يصير مولياً؛ فإنه بوطء واحدة يقرب من الحِنْث، والقربُ من الحِنْث في حكم أمر ملتزم، وقد مهدنا هذا فيما تقدم -وإن فرعنا على الجديد- فلو وطىء ثالثاً صار مولياً عن الرابعة، فيبتدىء بعد وطء الثالثة ابتداء المدّة في إيلاء الرابعة، فإذا انقضت، فلها الطّلبة، [و] (1) على القديم لكل واحدة منهن الطلب؛ تعويلاً على القُرب من الحنث، ثم إن كان يطأ، فلا يلتزم بوطء ثلاثٍ (2) إلا القربَ من وقوع الحنث في حق الرابعة.
ولو ماتت واحدة قبل الوطء، فالمذهب انحسام الإيلاء؛ فإن الحنث بوطئهن صار مأيوساً عنه (3).
وإن أبان واحدة منهن، لم يرتفع الإيلاء في حق الباقيات؛ لأن الحنث ممكن، كما قدمناه، نعم هذه البائنة لو عادت، فهل يعود لها حكم الطَّلبة على ما يقتضيه التفريع على قولي الجديد والقديم؟ فعلى قولي عَوْد الحنث.
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(2) ت 2: بوطء ثبت.
(3) كذا في النسختين: و (عن) تأتي مرادفة لـ (مِن).

(14/435)


ومن أحاط بما مهدناه في البر والحنث، لم يخف عليه كيفية التفريع على القولين في مقتضى الإيلاء.
وقد نجز الغرض في هذه الصورة وهي إذا قال: "والله لا أجامعكن" ونحن نذكر بعد ذلك صورتين، ونذكر بعدهما فرعاً لابن الحداد، وعليه يتنجّز الباب.
9446 - صورة: إذا قال لنسوته الأربع: والله لا أجامع واحدة منكن، فهذا يستعمل على وجهين: أحدهما - على اقتضاء التعميم.
والثاني - على تخصيص الإيلاء بواحدة منهن.
فإن قال: أردت التعميمَ، فهذه اللفظة فيها لطيفةٌ يجب فهمها، ثم الخوض بعدها في الفقه، فلو قال: لا أجامعكن، فهذا يقتضي حصولَ الجماع في جميعهن، واللفظ على هذا الوجه يعمهن بتأويل اقتضاء اجتماعهن، حتى لا يحصل الغرض بمجامعة بعضهن، فهذا معنىً في العموم.
وإذا قال: لا أجامع واحدة منكن على إرادة العموم، فهذا عمومُه على معنىً آخر، فإن اليمين متعلّقة بآحادهن. هذا هو وجه في العموم، ولا يقتضي تحقّقُ الحنث وطءَ جميعهن؛ من جهة أنه قال: لا أجامع واحدة (1 منكن، والمعنى جميعهن، مع تنزيل اليمين على كل واحدة 1) على طريق البدل.
فإذا فهم هذا المعنى، انبنى عليه أنا نجعله مولياً عن كل واحدة منهن؛ من جهة أنه لا يقدم على وطء واحدة بعد الأربعة الأشهر إلا ويلتزم الكفارة بغشيانها، للمعنى الذي نبهنا عليه، ولو وطىء واحدة منهن وحنث وألزمناه الكفارة، فتنحلّ يمينه، ويسقط حكم الإيلاء في حق الباقيات؛ لأنه بوطء واحدة خالف جميع قوله: "لا أجامع واحدة منكن" فاقتضى ذلك انحلالَ اليمين، وإذا انحلّت، سقط أثرها في مقتضى الإيلاء.
فإن قيل: ألستم قلتم: إنه مولٍ عن كل واحدة؟ قلنا: نعم هو كذلك، ولكن
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

(14/436)


على طريق البدل، فهذا فيه معنى العموم، وفيه معنى التخصيص، ثم جملة اليمين تنحلّ إذا وطىء واحدةً.
9447 - وهذا يبين بصورة أخرى (1) تناقض هذه الصورة، وهو أنه لو قال: والله لا أجامع كل واحدة منكن، فهذا يتضمن تخصيص كلّ واحدة بالإيلاء على وجه لا يتعلق بصواحباتها، حتى كأنه أفرد كل واحدة بيمين على حيالها.
ونقل (2) بعض النقلة عن القاضي أنه جعل قوله: لا أجامع كل واحدة (3 بمثابة قوله: لا أجامع واحدة منكن، حتى قضى بأن اليمين تنحلّ بوطء واحدة 3).
وهذا خطأ صريح، والخطأ محال على الناقل؛ فإن القاضي أعرف بالعادات وصيغ العبارات من أن يقول هذا.
فإذاً الألفاظ المدارة في الباب ثلاثة: أحدها - أن يقول: لا أجامعكن، فالحنث لا يحصل إلا بجماع جميعهن.
والثاني - أن يقول: لا أجامع واحدة منكن، وهو يبغي التعميم الذي فسرناه، فهذا تعميمٌ على البدل، ويحصل الحنث بأول امرأة يجامعها.
والثالث - أن يقول: لا أجامع كل واحدة، وهذا يوجب انعقاد اليمين في حق كل واحدة، على وجهٍ لا يتعلق حكمها بحكم غيرها، وموجب ذلك أن الحنث لا يحصل في حق الجميع بوطء الواحدة.
9448 - ولو قال: لا أجامع واحدة منكن وزعم أنه أراد الإيلاء عن واحدة من جملتهن، فهذا مقبول؛ فإن اللفظ صالح لهذا، ثم يقال له: أعيّنتَها بقلبك أم لا؟ فإن زعم أنه عيّنها، قلنا له: بيّنها، والمذهب أنه يطالَب بتعيينها، كما يطالَب بتعيين المطلقة وتبيينها إذا أَبْهمَ طلقةً بين النسوة.
وذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - ما ذكرناه.
__________
(1) هذه هي الصورة الثانية التي وعد بها الإمام آنفاً.
(2) ت 2: ونقض.
(3) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

(14/437)


والثاني - أنه لا يطالب بالبيان، ولا يُحمل عليه بخلاف الطلاق، والفرق أن المطلّقة خارجة عن النكاح، فضبطها (1) في حِبالة النكاح من غير نكاح ممنوع، وليس كذلك الإيلاءُ؛ فإن المرأة لا تصير خارجة عن ربقة النكاح بالإيلاء، فليس في حبسها في حِبالة النكاح ما يخالف وضعَ الشرع.
ثم لو ادعت واحدة منهن أنه عناها، فيجب عليه أن يجيب عن دعواها، والخلاف الذي ذكرناه فيه إذا اعترف بالإشكال، فإذا ادّعت واحدةٌ أنه عناها، طولب بالجواب، فإن قال: لم أَعْنها، حُلّف، فإن نكل، رُدّت اليمين، والتفريع في فصل الخصومة كما تقدم في الطلاق، فلا نعيد تلك التفاصيل.
ولو قال الزوج: "لا أدري"، لم نقنع منه بهذا، وهذا مما تقرّر في إبهام الطلاق، فلم نؤثر إعادته.
9448/م- ومما يتعلق بالمسألة أنه لو كان قال: والله لا أجامع واحدة منكن، ثم زعم أن لفظه مطلق، وأنه لم يخطر له لا معنى العموم على التفسير المقدم فيه، ولا تخصيصُ واحدة على تأويل إبهام الإيلاء، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين: أحدهما - أن مطلق لفظه يُحمل على عقد اليمين على جميعهن على التأويل المقدّم.
والوجه الثاني - أنه يُحمل على الإبهام.
والمسألة محتملة، وقد ذكرنا قاعدة أمثال هذه المسائل في كتاب الطلاق، فإذا حملنا مطلق اللفظ على العموم، فقد بان حكمه، وإن حملناه على الإبهام، فليتثبت الناظر في معناه، فإن من أبهم طلقة، ولم يعيّن بقلبه قلنا له: عيّن باختيارك تشهياً ما شئت، فإذا أبهم الإيلاء، ولم يُعيّن بقلبه -وهكذا يكون الأمر إذا حملنا المطلق عليه- فكيف الوجه؟ وما السبيل؟ هذا ينبني على أنه هل يطالب بالتعيين؟ فإن قلنا: إنه يطالب به، فليعيّن واحدةً، كما مهدناه في الطلاق.
ثم ينتظم عليه أن مدة الإيلاء من وقت التعيين، أو من وقت اللفظ؟ ففيه وجهان قدمنا نظيرَهما في إبهام الطلاق، حيث قلنا: إن الطلاق يقع عند التعيين أو يستند إلى
__________
(1) ضبطها: بمعنى إمساكها وحبسها.

(14/438)


اللفظ، وهذا كذلك، فإن جعلناه مولياً من وقت التعيين، فابتداء المدة من ذلك الوقت، وإن جعلناه مولياً من وقت اللفظ تبيُّناً (1)، فابتداء المدة من اللفظ، ولا يخرّج هذا على [اختلافٍ ذكرناه] (2) في العدة؛ فإن [المدّة قد لا يُعتدّ بها] (3) مع التباس الحال ولا يظهر مثل ذلك الأصل هاهنا.
وقد نجز الكلام في الصورتين الموعودتين.
فرع (4) لابن الحداد:
9449 - إذا كان للرجل امرأتان، فقال: إن وطئت إحداهما، فالأخرى طالق، فلا يخلو من أن يعيّن بقلبه واحدة منهما ويريدها بالإيلاء، فإن كانت المسألة كذلك، فالإيلاء يثبت في حق تلك المعينة بالقلب دون الأخرى، فإذا انقضت المدة والأمر مبهم عندنا، قال ابن الحداد: إذا رفعنا الزوج إلى القاضي قال له القاضي: فىء وخالف يمينك، فإن فاء، فذاك، وإن أبى، قال ابن الحداد: يُطلّق القاضي إحدى امرأتيه على الإبهام. وفرّع على أن القاضي يطلّق.
وقد قال [القفال] (5): هذا غلط صريح من قول ابن الحداد؛ فإن تطليق القاضي يترتب على صحة الدعوى، ومسألة ابن الحداد مفروضة فيه إذا كانتا معترفتين بالإشكال؛ إذ لو كانت المولَى عنها معيّنة بقلبه، لدارت الخصومة في محاولة التعيين، كما نبهنا عليه، وأحلناه على ما قدمناه في الطلاق. فإذا قال ابن الحداد:
__________
(1) ت 2: تعينا.
(2) في الأصل: على اختلاف أمر ذكرناه. والمثبت عبارة (ت 2).
(3) في النسختين: "فإن العدّة قولاً يعتد بها" وهو تصحيف عجيب اجتمعت عليه النسختان، والمثبت تصرّف من المحقق، وهو صحيح -إن شاء الله- يشهد لذلك عبارة العز بن عبد السلام في مختصره، فقد قال ما نصّه: "فابتداء المدة من حين الإيلاء أو من حين عيّن؟ فيه وجهان؛ فإن جعل من حين الإيلاء لم يخرّج على الخلاف في العدة، إذا أبهم الطلاق؛ فإن العدة قد لا تنقضي مع الإشكال، بخلاف مدة الإيلاء" ا. هـ. (ر. الغاية: 3/ 174 شمال).
(4) ت 2: فصل لابن الحداد. وهو مخالف لقول الإمام أنفاً: "ونذكر فرعاً لابن الحداد".
(5) في الأصل: قال الفقهاء، والمثبت من (ت 2)، ومن (صفوة المذهب) ومن (الغاية)، وأيضاًً (الشرح الكبير).

(14/439)


يبهم القاضي الطلاقَ، دلّ أنه فرض المسألة في اطراد الإشكال، وإذا كان كذلك، فلا تصح الدعوى من واحدةٍ منهما، وهي [معترفة بأنها] (1) لا تدري أن الزوج عناها أم لا، وهذا بمثابة ما لو قال رجلان: لأحدنا عليه ألفُ درهم، فالدعوى لا تسمع على هذا الوجه، إلا أن تكون مجزومةً، وكذلك لو قالت امرأة: آلَى عنّي زوجي أو ضربني، أو قالت: آلَى عني أو شتمني، فلا تسمع الدعوى على هذا الوجه.
وهذا الاعتراض متجهٌ جداً، والعجب أن الشيخ أبا علي مع انبساطه في الإتيان بكل ما قيل، وهو من أقدم أصحاب القفال، نقل جواب ابن الحداد، ولم يورد اعتراض القفال عليه، ولم يعترض هو من تلقاء نفسه، وأخذ يفرع (2) على مذهب ابن الحداد بما سنذكره.
فإن قيل: هل يتوجه مذهب ابن الحداد؟ قلنا: نعم، الممكن فيه أن المرأتين إذا اعترفتا بالإشكال، فالضرار قائم على الإبهام، فإذا امتنع عن الفيئة، فلا سبيل إلى إهمال الواقعة، ولا سبيل إلى تعيين الطلاق، فلا ينطبق على صورة الحال إلا ما ذكره. هذا هو الممكنُ، ثم إذا وقع الطلاق من جهة القاضي مبهماً، فالتعيين إلى الزوج، فإن كان عين بقلبه واحدة، صادفها الطلاقُ، فعليه التبيين، وإن لم يعين بقلبه واحدةً عند إبهام الإيلاء، فعليه التعيينُ الآن للطلاق.
9450 - فلو قال: ارتجعت من طلقت، فهل تصح الرجعة على الإبهام؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي: أحدهما - أنها تصح بناء على الطلاق.
والثاني - لا تصح؛ فإن الرجعة استحلال مضاهٍ لعقد النكاح، فلا يليق بها الإبهام؛ إذ الإبهام يناظر التعليق، فما لا يصح تعليقه لا يصح إبهامه، ولذلك أثرت الجهالة في صحة الإبراء [لمّا] (3) امتنع تعليقه، وهذا هو السديد. وإن قلنا: تصح الرجعة مبهمةً، فلا كلام، وإن قلنا لا تصح، فالوجه أن يعيّن المطلقة أولاً. ثم يبنى على تعيّنها الرجعةَ.
...
__________
(1) في الأصل: معترضة فإنها.
(2) ت 2: يفرض.
(3) في الأصل: كما.

(14/440)


بابٌ على من يجب التوقيف في الإيلاء وعمن يسقط (1)
قال الشافعي رضي الله عنه: "لا نعرض للمولي، ولا لامرأته حتى يطلب الوقف ... إلى آخره" (2).
9451 - إذا آلى الرجل عن امرأته، فلا طَلِبة في الأربعة الأشهر، فإنه مُمَهَّل فيها، فإذا انقضت، فلها رفع زوجها إلى مجلس القضاء، ولو لم تطلب حقها، فلا معترض عليها؛ فإنها صاحبة الحق، وهذا يؤكد أن الزوج لا يطالَب بالتعيين، فإن النكاح قائم.
وينفصل هذا عن صورة الإبهام انفصالاً بيّناً، فإن الخلاف فيه إذا طلبت المرأتان التعيين لتتوصل صاحبة الحق إلى طلب حقها، فلو انقضت المدة، فذكرت أنها راضية بالمقام تحت زوجها المولي مع استمراره على الإضرار بها، فمهما أرادت المرأة أن تعود إلى الطلب، كان لها العَوْد، وهذا كما إذا أثبتنا لها حقَّ الفسخ لسبب الإعسار بالنفقة فرضيت بمصابرة زوجها على الضُرّ والعسر، ثم بدا لها، فأرادت العَوْد إلى الفسخ، فلها ذلك.
ولو ثبتت العُنّة وانقضت المدّة المضروبة أجلاً للعنّين، فرضيت المرأة بالمقام، ثم أرادت أن تفسخ، فليس لها ذلك، وإنما فرضنا الكلام في العُنة عند قصد الاستفراق (3)، لأن العنة من وجهٍ ليست عيباً محضاً، فيقال: الرضا بها رضاً بالعيب، والدليل على ذلك أن الزوج لو اعترف بالعنة في ابتداء المرافعة، فإنا نمهله
__________
(1) ت 2: فصل (مكان باب).
(2) ر. المختصر: 4/ 103.
(3) الاستفراق: طلب الفراق.

(14/441)


مع ذلك سنة، ومع ما ذكرناه [من] (1) الفرق ما أجريناه (2) من أنها إذا رضيت بمصابرة الزوج على الضرار (3)، فليست راضيةً بصفة كائنة، وإنما تُسقط حقها في الحال، فإن تعرضت للإسقاط في المستقبل، كانت مسقطة حقّاً لم يدخل وقته، وإسقاط الحق قبل ثبوته غيرُ سائغ، وكذلك القول في رضا زوجة المعسر بمصابرة العُسر، والتعذر في النفقة يتعلق بحق النفقة، والنفقةُ تجب شيئاً شيئاً.
كذلك مطالبة الزوج بالفيئة تتعلق بطلب الوقاع، وهو مرتبط بما سيكون من الاستمتاع في مستقبل الزمان، وأما العُنّة؛ فإنها عيبٌ، فإذا رضيت به، لم تجد سبيلاً إلى الرجوع؛ فإن العنة خصلةٌ (4) واحدة.
فإن عورضنا، وقيل لنا: العسر والضرارُ في النفقة والوطء (5) في حكم الخصلة الواحدة، قلنا: ليس الأمر كذلك؛ فإنه منبسطٌ على الأوقات لتعلقه بالحقوق المتجدّدة على مرّ الأوقات، وإذا حُقّق العُسر، لم يكن له معنىً إلا عدم النفقة، وليس ذلك صفة (6) ثابتة، بخلاف العُنّة؛ فإنها عجزٌ.
9452 - ثم حق المطالبة في الإيلاء لا يثبت إلا للزوجة، فإن كانت من أهلها (7)، فالأمر مفوّض (8) إليها، وإن كانت صغيرة، لم [ينب] (9) عنها وليها، كما ذكرناه في باب العنة، وحق الطّلب للأمة المنكوحة دون مولاها، والقول في حق الفسخ إذا أثبتناه بعذر الإعسار قد يَدِق مُدركه إذا قلنا: حق الفسخ للأمة دون المولى، مع تعلق
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة ت 2: ومع ما ذكرناه الفرق مع ما أجريناه.
(3) الكلام هنا عن زوجة المولي التي رضيت بمصابرته.
(4) ت 2: فإن السنة حصوله. (وهو تحريف واضح).
(5) والوطء معطوف على النفقة، والضرار في الوطء هو الإيلاء كما هو واضح من السياق، وهو كما يصوّر الإمام مشبه بالضرار في النفقة، ومصابرة زوجة المعسر ورضاها أولاً ثم حقها في معاودة طلب الفسخ ثانياً.
(6) ت 2: ضربة.
(7) من أهلها: أي المطالبة.
(8) ت 2: مفر وض.
(9) في النسختين: يثبت.

(14/442)


هذا بصلاح مِلْك المَوْلَى؛ فإن الزوج إذا لم ينفق، احتاج السيد إلى الإنفاق استبقاءً للملك، ومع هذا لم يُثبت الأصحاب له حقَّ الفسخ، وفي هذا مباحثة وتشعيبٌ للكلام سنذكره في كتاب النفقات، إن شاء الله عز وجل.
9453 - ثم ذكر المزني فصولاً قدمنا ذكرها، فنرمز إليها للجريان على ترتيب (السواد): منها: أن الإيلاء إذا كان معقوداً على مدةٍ، فحقها أن تكون زائدةً على الأربعة الأشهر، خلافاً لأبي حنيفة (1)، وسبب الخلاف تباين المذهبين في وضع الإيلاء، فإن [وضعه] (2) عند الشافعي على أن المولي يُمهَل حتى يرجع عن المضارّة في المدة المعلومة، والمدة بجملتها له؛ فإنها مَهَلُه وأجلُه (3)، وليس الإيلاء طلاقاً، وإنما هو إظهار مضارة، فإذا انقضت المدة، تحقق إصرارٌ على المضارّة فتتوجه (4) عليه الطّلبة، ولا بد من فرض الطَّلِبة وراء المدة، ولا بد للطَّلِبة من مدّة، فهذا عقد مذهب الشافعي رضي الله عنه.
وأبو حنيفة جعل الإيلاء طلاقاً معلقاً بانقضاء مدةٍ، فاكتفى بأربعة أشهر.
ثم الأمر الخارج عن كل معقول قضاؤه بأن الطلاق الواقع بائن (5)، ولعله صار إلى هذا من جهة تخليصها؛ فلا تخليص إلا بالبينونة، والرجعية مستحلّة عنده.
9454 - ومما ذكره المزني: "أنه إذا حلف بطلاق [امرأته] (6) أنه لا يطأ الأخرى، فهو مولٍ" في الجديد، ثم القول في تفاصيل المسألة وما يتعلق بها من التفريع على قَوْلَيْ عوْد الحنث مستقصىً، لا حاجة إلى إعادته على قرب العهد به.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 473 مسألة 998.
(2) في الأصل: موضوعه، وفي ت 2: موضعه، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء العبارة السابقة لهذه الجملة.
(3) ت 2: مهلة واحدة.
(4) ت 2: متوجه عليه للطلبة.
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 473 مسألة 989، المبسوط: 7/ 20، مختصر الطحاوي: 207.
(6) في النسختين: امرأتيه. والتصويب من نص المزني في المختصر: 4/ 103.

(14/443)


9455 - ثم قال: "والإيلاء يمينٌ لوقتٍ، فالحر والعبد فيه سواء" (1)، وأراد بهذا أن الزوج إذا كان عبداً، فمدة إيلائه أربعة أشهر، كما لو كان حراً، وخالف في ذلك أبو حنيفة (2) ومالك (3) غير أن أبا حنيفة يقول: يختلف الأمر برقها وحريتها، فلو كانت حرة، فالمدة أربعة أشهر وإن كان الزوج عبداً، وإن كانت الزوجة أمة، فشهران وإن كان الزوج حراً. وعند مالك الاعتبار برقه وحريته.
وقول الشافعي: الإيلاء يمين: معناها أنها يمين عُلّقت بوقت شرعاً، فكانت كما لو علقها الحالف بالوقت، ولو كان كذلك لم يؤثر الرق والحرية.
9456 - ثم ذكر اختلافَ الزوج والزوجة في انقضاء مدة الإيلاء (4)، وأبان أن حقيقة الاختلاف في هذا يرجع إلى التنازع في وقت الإيلاء، والقول قول الزوج في وقت الإيلاء؛ [فإن المرأة إذا ادعت انقضاء المدّة، و] (5) الزوج قال: بل مضى شهران، فكأنها ادّعت تقدم إيلائه وهو منكر، وقد قدمنا نظير هذا في كتاب الرجعة.
9457 - ثم ذكر أنه لو آلى عن الرجعيّة، ثبت الإيلاء (6)؛ فإن الرجعية في حكم الزوجات، وأثر هذا أنه لو ارتجعها، احتسبنا المدة من وقت الارتجاع.
ولو قال لأجنبية: والله لا أجامعك، ثم نكحها، فلو جامعها، لحنث.
ولا يكلون مولياً، وإن كان يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً؛ لأنه أنشأ الإيلاء في وقت انتفاء النكاح، وحق الطلب في الإيلاء مردّد بين الوطء والطلاق، وهذا خاصيّة الإيلاء، [فلا] (7) ينعقد الايلاء في وقتٍ لا نكاح فيه، والرجعية منكوحة، أو على عُلقةٍ صالحة من الزوجية.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 105، والعبارة في النسختين مقلوبة هكذا: واليمين إيلاءٌ لوقتٍ.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 480 مسألة: 1010، المبسوط: 7/ 32، مختصر الطحاوي: 207.
(3) ر. الاشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 762، والمنتقى للباجي: 4/ 37.
(4) ر. المختصر: 4/ 105.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وزدناه من (ت 2).
(6) ر. المختصر: 4/ 165.
(7) في النسختين: لم.

(14/444)


والذي يجب نظمُه في هذا الفصل أن الطلاق حرّمها، فاقتضى ذلك انعزالَها للعدّةِ واستبراءِ الرحم، ونصُّ الشافعي رضي الله عنه في إيجاب المهر أصدق شاهد على زوال الملك، وإن كان عُرضةَ الاستدراك، والتوريثُ أصدق شاهد في بقاء النكاح، وإن تكلفنا، قلنا: الإرث يستقلّ (1) بعُلقة ثابتة؛ فإنه لا يجري إلا بعد النكاح.
وكأنا نقول: ليست البائنة على عُلقةٍ من النكاح، وعِدّةُ البينونة ليست من علائق النكاح، ولهذا لا تثبت فيها النفقة للحائل (2)، والرجعية على علقة من النكاح، [ولهذا تستحق] (3) النفقة، ويحرم نكاح أختها في عدتها، ونكاح أربعٍ سواها للعُلقة المستقرّة في طريقةٍ، أو للنكاح القائم، وإذا كان تحريم الجمع متعلقاً بالنكاح، لم يبعد أن يتعلق بالعُلقة المختصة به.
وهذا بمثابة امتناع الإحرام بالعمرة مع ملابسة الحج، ثم المقيم بمنى أيام منى ليس في الإحرام، ولكنه في نسك تابعٍ للإحرام مُفدٍ لو تركه (4)، فامتنع ابتداء الإحرام في الأيام المشتملة على تلك المناسك، فأما الإيلاء عن الرجعية، فمعتمده النكاح نفسه إن قلنا: إنها منكوحة أو العُلقة القائمة المسلِّطة على الرّد إلى عين النكاح الأول، وهذا لا يتحقق في البائنة.
...
__________
(1) ت 2: يشتغل.
(2) ت 2: ولهذا تثبت فيها النفقة للحامل.
(3) في الأصل: ولهذا لا تستحق النفقة.
(4) ت 2: مانع للإحرام مبرى لو نزل.

(14/445)


باب الوقف في الإيلاء
9458 - ذكر المزني مسائل هذا الباب على غاية الاختلاط، ووقعت له غلطات في النقل والترتيب، ونحن نرى من الرأي أن نصدّر الباب بفصلين: أحدهما - مشتمل على موانعَ من الوطء فيه وفيها، ثم القول يتردد في أحكامها على ما سنوضحه.
والفصل الثاني - في المطالبة بعد المدة وما يمنع منها.
فأما الفصل الأول
9459 - فإنا نقول: الطلاق يقطع مدة الإيلاء، وإن كان رجعيّاً، فليقع الاعتناء به، ثم لا يخفى حكم الطلاق البائن، فإذا آلى الرجل عن امرأته، وخاض في المدة، ثم طلقها في أثناء المدة، انقطعت المدة، فإذا راجعها (1)، فلا بناء على ما مضى من المدة، ويستفتح مدة جديدة بعد الرجعة، فإذا مضت، ثبتت الطلبة بعدها، ولو انقضت المدة، فطلقها، ثم راجعها ابتدأنا مدةً، فإذا مضت بكمالها، عادت الطّلِبة، وقد قرّرنا هذا وأوضحنا فقهه.
فالطلاق إذاً يقطع المدة، ويُسقطُها حتى لا يُفرض البناء على السابق منها، فإذا جرى بعد المدة، ثم فرضت الرجعة فالإيلاء قائم، ولكن لا بد من افتتاح المدة مرة أخرى.
9460 - والردة إذا فرضت في ممسوسة أو في زوجها، فهي كالطلاق الرجعي في جميع ما ذكرناه، فتقطع المدةَ قَطْع إسقاطٍ يمنع البناء، وإذا زالت الردّة في مدة العدة، فلا بناءَ، بل نبتدىء المدّة.
وهذا متفق عليه بين الأصحاب، وإن كنا نبيّن أن الرّدة إذا زالت قبل انقضاء
__________
(1) ت 2: ثم راجعها.

(14/446)


العدة، فكأن النكاح لم ينخرِم، بخلاف الطلاق؛ فإن الواقع منه لا يزول بالرجعة، ولكن لما كانت الردّة مؤثرة على الجملة في إزالة الملك، كانت قاطعة للمضارة بترك الوطء، والتعويل على إظهار المضارّة، فإذا فرض عودٌ، فهذا جرى قبل انقطاع قصد المضارة بترك الوطء مع استمرار الحِلّ.
وليست الردّة كالإحرام؛ فإنه ليس إعراضاً عن النكاح؛ إذ النكاح في أصل الوضع يدوم معه، وهذا الفقه واقعٌ لمن تأمل.
وإذا انقضت مدة الإيلاء، فارتدّ أحد الزوجين، ثم زالت الردّة، واستمر النكاح، كان ذلك بمثابة الطلاق الرجعي إذا طرأت الرجعة بعده، فلا بد من استئناف مدة، وهذا من المسائل التي تُحفظ في هذا الكتاب، وهي: مولٍ يتجدد إيلاؤه، ولا يطرأُ طلاقٌ ولا فيئة، فتنقضي أربعة أشهر فنضرب أربعة أخرى، وذلك إذا آلى، فمضت المدة، فارتد أو ارتدت، ثم فرض العود على الفور.
فهذا بيان الطلاق والردة.
9461 - فأما ما عداهما من الموانع، فينظر فإن كان فيه كمرضٍ أو غيره من حبسٍ، أو غَيْبة، والموانع فيه تنقسم إلى الحسيّ والشرعي فالحسية منها ما ذكرناها وأمثالها، والشرعية كالإحرام والظهار ونحوهما، وكل مانع في (1) جانبه فلا يمنع الاحتساب بالمدة، فإذا طرأت هذه الموانع في وقت الطّلبة (2)، فسنذكر في الفصل الثاني تحصيلَ القول في الطلب، وغرضنا الآن مقصورٌ على الكلام في انقطاع المدة واستمرارها، فإذا اطردت الموانع عليه بعد المدة، ثم زالت، حقَّت الطلبة، وإذا كانت لا تقطع المدة لا توجب ابتداء المدة.
9462 - فأما إذا كانت الموانع فيها، فهي تنقسم إلى الطبيعية والشرعية، فإذا كانت محبوسة أو مجنونة لا يتأتى غشيانها، أو كانت من الصغر بحيث لا تحتمل الجماع،
__________
(1) ت 2: من.
(2) ت 2: الطلقة.

(14/447)


أو امتنع (1) وقاعها للدَّنَف (2) أو الضِّنى، أو نشزت وامتنعت من التمكين، فجملة هذه الموانع تقطع المدة، وتمنع الاحتساب بها معها، وإذا اقترنت بالإيلاء، لم نبتدىء المدّة.
والسبب فيه أن الإيلاء إظهار الضرار بالامتناع عن وطئها إذا لم يكن فيها مانع، وإذا كان وأمكنت الإحالة على ما فيها من المانع، فلا وجه لتحقيق المضارة.
ثم هذه المعاني فيها إذا طرأت وقطعت المدة، ثم زالت، فهل تُستأنف المدة أم يُبنى عليها؟ فعلى وجهين: أحدهما - يبنى عليها، حتى لو كان طرأ مانع فيها بعد مضي ثلاثة أشهر ثم زال، فلا مهل أكثر من شهر.
والوجه الثاني - تستأنف المدة بعد ارتفاع العوارض أربعة أشهر.
توجيه الوجهين: من قال بالبناء، قال: لم يطرأ ما يخرم الملك (3)، ولكن امتنع الاحتساب بالمدة؛ إذ لا تمكين (4)، فإذا زال المانع، فليس إلا استكمال المدة.
ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن [المضارة] (5) إنما تتحقق إذا تتابعت أزمانها، ولم نجد لها مستنداً إلا امتناع الزوج، وهذا يوجب افتتاح المدة.
ولو طرأت هذه الموانع بعد المدة، فلا شك أنها لا تطالِب مع قيام المانع، فإذا زال، فهل يعود الطلب أم نبتدىء مدةً؟ المذهبُ المبتوت أنها تعود إلى الطلب؛ فإن المضارة قد تحققت وِلاءً في أربعة أشهر، وليس كما لو طرأ المانع على المدة.
وأبعد بعض الضَّعفة، فقال: إذا قلنا: تستأنف المدة، وقد طرأ المانع (6 على المدة، فكذلك تستانف المدة إذا طرأ المانع 6) بعد المدّة وزال.
هذا عقد المذهب في الموانع القاطعة والمانعة.
__________
(1) ت 2: امتناع.
(2) الدّنف: بفتحتين: المرض المثقل، ومثله الضنى (المعجم).
(3) ت 2: من قال بالبناء ما لم يخرم الملك.
(4) ت 2: لا يمكن.
(5) في الأصل: المضاربة.
(6) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(14/448)


9463 - ونحن نذكر بعد ذلك قولاً غريباً حكاه صاحب التقريب، وغلطاً للمزني في النقل، ومباحثةً تتعلق بتعليل (1) المذهب.
فأما ما حكاه صاحب التقريب، فقد نقل قولاً غريباً عن البويطي عن الشافعي رضي الله عنه: أن الزوج إذا كان متمكناً من الوطء في ابتداء المدة، ثم طرأ مرضُها بعد مضي زمان الإمكان، فهذا لا يمنع [احتساب المدة، ولو كانت مريضة مع ابتداء المدة مرضاً مانعاً، فلا تحتسب المدة حينئذ] (2)؛ فإنه أنشأ اليمين وهو يصادف منها مانعاً، فأما إذا عقد اليمين على المضارّة والتمكينُ مقترن، فلا التفات على ما يطرأ.
وهذا غريب لا تعويل عليه.
9464 - وأما غلط المزني فقد نقل: "أن المولي إذا حُبس، لم تحسب عليه المدة، زمانَ (3) حبسه، ثم اعترض، فقال: قد نص على أنه لو مرض مرضاً مانعاً، حسب عليه المدة، فزمان حبسه بذلك أولى" (4).
فقال الأصحاب: الخطأ منك (5) في النقل، وإنما تعترض على نفسك، وقد صادف الأصحاب نص الشافعي في كتبه جازماً (6) بأن مدة حبس الزوج محسوبةٌ.
9465 - وأما المباحثة فلو قال قائل: إذا تحقق المانع في الزوج، فهلاّ عُذر؛ فإن المعتمد إظهار الضرار، وإذا تحقق المنع فيه، لم تظهر المضارة.
ولم يصر أحدٌ من الأصحاب إلى تصديق المزني في نقل نصِّ الحبس ونصِّ المرض على مناقضته، والمصيرِ إلى إجراء (7) القولين بالنقل والتخريج، ولو قال
__________
(1) ت 2: بتعليق.
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2).
(3) ت 2: فإنه حبسه.
(4) ر. المختصر: 4/ 108.
(5) الخطاب للمزني من الأصحاب.
(6) ت 2: جارياً.
(7) ت 2: أحد القولين.

(14/449)


قائل بذلك، لكان قريباً، ولكن (1) التعويل على النقل.
والممكن في الانفصال عما ذكرناه أن الإيلاء صدر منه، فإذا انقضت المدة والمانع قائم، فلسنا نردده بين الوطء والطلاق، بل نكتفي منه بالفيئة باللسان، كما سنصفه على أثر ذلك، فليفىء بلسانه، فإن هذا لا امتناع فيه، وإذا كان الإيلاء ينعقد والمدة تجري، والمطلوب بالأَخَرة اللسانُ، فلا تنقطع المدة على هذا القياس وطريان المانع على الزوج، ولا يمتنع ابتداء المدة باقتران المانع به.
فأما إذا كان المانع فيها، فليس من جهته أبداً مضارّة، وليس تخلو محاولة الفصل بين المانعين عن إشكال لا يخفى دركه على الفهم المنصف.
وقد نجز تفصيل القول في الموانع.
[الفصل الثاني]
فأما الفصل الثاني وهو الكلام في المطالبة بعد انقضاء المدة.
9466 - فإذا لم يكن مانع، وأرادت المطالبةَ بعد المدة، ورفعت زوجَها إلى القاضي وطالبته، فإن فاء، فذاك، وإن امتنع، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القاضي يطلق عليه زوجته، إذا تحقق الامتناعُ منه، إلا أن يبتدر هو فيطلق؛ والسبب فيه أن الغرض دفع الضرار، وحكم الشرع أن الممتنع عن الحق المتعيَّن عليه يُستوفى منه الحق بقهر الولاية إذا أمكن، واستيفاءُ الفيئة منه غير ممكن، وترك المرأة تحت المضارّة غيرُ ممكن، وهذا لا وجه له، فالطريق أن يطلقها، ويخلّصها من دوام المضارّة، وهذا أظهر القولين، وهو المنصوص عليه في الجديد.
والقول الثاني - أن القاضي لا يطلق، بل يضيق الأمر عليه بالحبس حتى يطلق.
ونصَّ الشافعي في هذا القول على أن القاضي لو أراد أن يعزره، لكان له ذلك، فإنه قادرٌ على التطليق وتخليص المرأة، معاندٌ (2) بترك الطلاق الذي يُدعى إليه.
__________
(1) ت 2: ولعلّ التعويل.
(2) ت 2: يعاند، و (معاندٌ) خبر ثانٍ لقوله: (فإنه قادرٌ).

(14/450)


قال المزني: لم يذهب إلى هذا أحد من العلماء، وبالغ في تزييفه واختار القول الأول، وهو المختار.
وقد ذكرنا أن المنصوص عليه في القديم في حكم المرجوع عنه.
9467 - ولو لم يمتنع الزوج عن الفيئة ولكن استمهل، فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فقال بعضهم: لا نمهله مَهَلاً معتبراً به مبالاة، فنقول له: قد أمهلناك أربعة أشهر، فلا نزيدك أجلاً آخر، ثم هؤلاء [لا] (1) يكلّفونه القيام إليها على الفور؛ فإن الفحل المتشوف إلى الوقاع قد لا توافقه الطبيعة في التسرّع إلى الوطء على هذا الحد، ولكن يقال له: شمّر (2) وتهيأ، ولك الفسحة ريثما تثوب بسطتُك وتنهض شهوتك، وهذا قد يتأتى (3) في نصف يوم.
قال أصحابنا: أو في يوم، وعندنا أن الليلة تتبع اليوم؛ فإن المدافعة إلى مجلس الحكم ليلاً غيرُ مألوفة، فإن فاء، فذاك، وإن لم يفىء، وفرعنا على الصحيح، ابتدرنا الطلاق؛ فإنه لو استمهل في اليوم الثاني، لتوجّه هذا في الثالث.
هذا مسلك بعض الأصحاب.
ومن أصحابنا من قال: إذا استمهل نُمهله ثلاثةَ أيام، والاختلاف في ذلك يقرب من القولين في استتابة المرتد، غير أنا وإن أمهلنا المرتد، فلو ابتدره مبتدر وقتله، لكان هَدَراً، وإذا أمهلنا الزوج، فلو ابتدر القاضي وطلّق قبل انقضاء المدة -وهي ثلاثة أيام- لم ينفذ طلاقه، وهذا لا شك فيه إذا انقضت (4) منه الفيئة في المدة بعد طلاق القاضي، فأما إذا طلق القاضي، ثم بان أنه لم يفىء في الأيام الثلاثة، فالظاهر أن الطلاق لا ينفذ، وفيه شيء (5).
__________
(1) ساقطة من النسختين، وزدناها رعاية للسياق والسباق.
(2) ت 2: يقال له ذلك الصحة رتب.
(3) ت 2: قد لا يتأتى.
(4) انقضت منه الفيئة: أي حصلت منه وفاء في المدة التي أمهلناه إياها. وأقول: لعلها محرّفة، وصوابها: "هذا إذا اقتضت منه الفيئة".
(5) وفيه شي: أي وفيه نظر، كما عبر بذلك ابن أبي عصرون.

(14/451)


وهذا عسر التصوير؛ فإن طلاق القاضي قد يستند إلى رأيه في أنْ لا إمهال، فإذا كان كذلك، ينفذ؛ اتّباعاً للاجتهاد، فإذا نفذ الطلاق، حمل (1) ذلك منه على القضاء به.
وكل ذلك والزوج يَستمهِل (2)، فأما إذا أبدى الإباء، فيبتدر القاضي، ويطلّق.
9468 - ولو قالت المرأة: لست أبغي الطلاق، وإنما أطالب بالفيئة، فالقاضي هل يطلق، وهي لا تطلب الطلاق، بل تأباه وتبغي أن يَحبس الزوجَ ليطأ، فليس لها ذلك؛ لأن توحيد (3) جهة الطلب في الفيئة تكليفُ شطط؛ فإن النفس قد لا تطاوع، ولولا ذلك، لثبت للمرأة مطالبةُ الزوج بحق المستمتع، كما يثبت له مطالبتُها بالتمكين.
فإذاً لا يصح منها الطَّلِبة إلا مردّدةً بين الوطء والطلاق، وإذْ ذاك تكون مطالِبةً بممكن، وهذا على ظهوره لا يضرّ ذكره؛ فإنها طَلِبةٌ لا [نظير] (4) لها في الشرع، مبناها على التردد، وإذا كان لا يصح منها الطلب إلا مردّداً، فإذا امتنع الزوج من الفيئة، تعيّن الطلاق، فإن أبت، فقد تركت الطلب، ولا يتصوّر حبسٌ لأجل الفيئة المجردة قطّ.
فهذا الذي ذكرناه بيان قاعدة المذهب، حيث لا مانع طبعاً وشرعاً، لا فيه ولا فيها.
9469 - فأما إذا فرض مانع، فلا يخلو إما أن يكون المانع فيه أو فيها، فإن كان المانع فيه، لم يخل ذلك المانع من أن يكون طبيعياً أو شرعيّاً:
فإن كان طبيعيّاً، كالمرض وما في معناه، فالطلبة تتوجه، والمطلوب منه الفيئة باللسان، ووجهه أن يعترف بالإساءة، [ويَعِدُ بالفيئة] (5) عند القدرة -وسنشرح فيئة اللسان بعد هذا- هذا فيئة اللسان، فليأت بها، أو يطلق، أو تطلّقُ عليه زوجته،
__________
(1) في الأصل: وحمل ذلك.
(2) ت 2: مستمهل.
(3) ت 2: توجيه جهة الطلب للفيئة.
(4) في الأصل: نظفر، وفي ت 2: تصير، والمثبت من المحقق.
(5) في النسختين: وبعد الفيئة.

(14/452)


ولو استمهل، فلا مَهَلَ؛ فإن اللسان منطلق بما ذكرناه، وإن قال: لست أنطق بموعد ولكن أخروني إلى الاقتدار (1)، فلا [نسعفه] (2)، ولا ينبغي أن يستبعد الفقيه مطالبته بفيئة اللسان؛ [فإن أداة الإيذاء اللسان] (3).
ثم إذا زال المانع، حقّت الطّلبة بالفيئة نفسِها، فلو استمهل إذ ذاك، عادت التفاصيل في الاستمهال، كما تقدم، هذا جارٍ في مسائل -يعني الإمهالَ ثلاثة أيام- استتابة المرتد، وقتل تارك الصلاة، والفسخ بالإعسار بالنفقة، والفسخ بسبب العُنة، وخيار العتق، والأخذ بالشفعة، فهذه سبع مسائل، والردُّ بالعيب على الفور بلا خلاف، ولا مَهَلَ فيه مع التمكن.
هذا كله إذا كان المانع طبيعياً.
9470 - فأما إذا كان المانع شرعياً: مثل أن يكون الزوج مُحرماً، أو مظاهراً، فلا نقنع بفيئة اللسان؛ فإن الوطء ممكن حسّاً، ولا نستجيز أن نقول: جامعها، والطِّلِبةُ بالطلاق المجرد لا سبيل إليها، فالوجه أن نقول: أنت صنعت على نفسك، فإن جامعتها أسأت وأفسدت العبادة، أو ارتكبت محرّماً في الظهار، وإن تحرّجت وامتنعت، طلقنا عليك زوجتك.
وسنعقد في الموانع الشرعية فصلاً في أثناء الباب -إن شاء الله- وهو ممثّل بمسألة الدجاجة واللؤلؤة (4)، كما مضى ذكرها في كتاب الغصب.
__________
(1) إلى الاقتدار: أي على الفيئة بالوطء.
(2) في الأصل: مسعفه.
(3) ما بين المعقفين تصرف من المحقق على ضوء السياق، فالعبارة في النسختين غير مستقيمة، فهي في الأصل هكذا "فإذا عاد الإيذاء اللسان" وفي ت 2: فإن عاد الإبداء باللسان.
ولم يغن في تصويب هذه العبارة (صفوة المذهب)، ولا (الغاية)، ولكن أيّد تصرّفنا هذا ما جاء في الشرح الكبير من حكاية قول إمامنا: قال: "قال الإمام (يعني إمامَ الحرمين) قدس الله روحه، ولا بُعد في المطالبة بالفيئة باللسان، فإن حكم الإيلاء مبني على الإضرار باللسان" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/ 239).
(4) مسألة الدجاجة واللؤلؤة، هي أن يغصب الغاصب دجاجة ولؤلؤة، فابتلعت الدجاجة اللؤلؤة، يقال له: إن لم تذبح الدجاجة، غرّمناك اللؤلؤة، وإن ذبحت الدجاجة لاستخراج اللؤلؤة، غرمناك الدجاجة.

(14/453)


ولو كان يتحلل عن إحرامه في ثلاثة أيام، ورأينا أن نمهله ثلاثة أيام، فالوجه إسعافُه، ولا طريق غيرُه.
ثم إذا تحلل بعد الأيام الثلاثة، فلهذا الطرف اختلاج في النفس: يجوز أن يقال: يترك حتى ينشطَ نشاطَه وتنهضَ شهوتُه، ويجوز أن نقول: إن لم يبتدر، طَلَّق عليه زوجتَه إن طلبت، وهذا فقيه حسن.
والفرق بين المانع الشرعي والطبيعي أن الوطء غير ممكن وجوداً مع الموانع الطبيعية، وهو ممكن مع الموانع الشرعية، والزوج منتسب إلى التضييق على نفسه بإدخال الظهار على الإيلاء، أو بإدخال الإيلاء على الظهار، ولا نأمن أن يكون جمعه بين الأمرين نكداً (1)، فإنهما جميعاًً متعلقان باختياره.
9471 - ولو كانت المرأة حائضاً بعد المدة، لم تملك المطالبة ما استمر الحيض؛ فإن المانع فيها محقق، والحيض لا يتضمن قطعَ المدة وفاقاً، فإنه في غالب العادات يكُرّ على المرأة مراراً في أربعة أشهر، ولو كانت قاطعةً للمدة قطعاً يقتضي استئنافاً، لما انقضت مدة الإيلاء غالباً على ذات أقراء، وإن كانت تقطع ولا تقتضي استئنافاً، وذلك غالب فيهن، لوقع التعرض له في الكتاب أو السنة، فإن جرى ذكر أربعة أشهر من غير تعرض للحيض، دلّ على أنه لا اعتبار به في المدة، والحيض لا يقطع تتابع صيام الشهرين، فلأن لا يقطع تتابع الأربعة الأشهر أوْلى؛ فإن المعتمد في أنه لا يقطع تتابع صيام الشهرين أنه يغلب وجودُ الحيض في مدة الشهرين.
ولو كانت مُحْرمةً أو صائمة صوم فرض، وذكرت ذلك لنا، وأرادت مطالبة الزوج بالفيئة أو الطلاق، فليس لها ذلك اعتباراً بالحيض.
وكذلك لو كان فيها مانع طبيعي، فلا معنى لمطالبتها، ولا تملك (2) المطالبة والمانع فيها بفيئة اللسان.
__________
(1) نكداً: بمعنى عناداً ومشاقّة، وإيذاءً، هذا معنى اللفظ هنا، ولا يصح غيره، وقد تكرر كثيراً بهذا المعنى في كتابنا هذا، ولكنا لم نجد هذا المعنى منصوصاً في المعاجم المعهودة، وأقرب معنى وجدنا هو منع صاحب الحاجة من حاجته.
(2) ت 2: وتملك.

(14/454)


9472 - ثم قال: "ولو كان بينها وبينه مسيرة أربعة أشهر ... إلى آخره" (1).
إذا غاب المولي، وكان بينه وبين المرأة مسيرةَ أربعة أشهر، وكان مع الزوج وكيل من جهة المرأة بالخصومة، فلما انقضت (2) أربعةُ أشهر والغيبةُ مانع فيه، فإنه أنشأها إذا (3) غاب عنها، فالزوج مطالب بالفيئة باللسان عند مسألة (4) الوكيل، فإن فاء باللسان، وأخذ في المسير نحوها، فذاك، وإن لم يأخذ في السير حتى مضى زمان الإمكان، فالحاكم يطلّق عليه -على القول الجديد- بمسألة (4) الوكيل، أو يضيق الأمر عليه حتى يطلق بنفسه على القول الآخر.
وإذا انقضى زمان الإمكان وتوجّه الطلب من الوكيل، فقال الزوج: أبتدىء الآن في المسير (5)، فلا يَلتفت إلى قوله ويَحبسه، أو يُطلِّق عليه.
وقد نجز الكلام في الفصلين: فصل الموانع، وفصل المطالبة، وأدرجنا في أثناء ما ذكرناه مسائل من الباب وتنبيهاتٍ على غلطات المزني في النقل.
9473 - وكان شيخي يقول: الصوم منها لا يقطع المدّة، ولا يمنع الاحتساب.
وهذا فيه نظر، فإن كانت تصوم تطوعاً، فالأمر كذلك؛ فإن الزوج يغشاها ولا يبالي بصومها، وإن كانت تصوم الفرض في رمضان وهو من الأشهر، فهو محسوب؛ فإن في الليالي مقنعاً، ولا بدّ لها من الصوم.
ولو كان عليها قضاء، والقضاء على التأخير، فإذا أرادت تعجيله من غير إذن الزوج، فهل لها ذلك؟ فعلى خلافٍ بين الأصحاب، وكذلك لو أرادت المرأة إقامة الصلاة في أول الوقت، والرجل يبغي منها مستمتعاً في ذلك الوقت، ففي المسألة اختلاف.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 108.
(2) ت 2: انقطعت.
(3) إذا بمعنى (إذْ).
(4) مسألة الوكيل: المراد سؤال الوكيل وطلبه للفيئة.
(5) أي المسير نحوها للفيئة.

(14/455)


وكذلك لو كانت مستطيعةً، فأرادت أن تحج حجة الإسلام، والزوج يبغي أن تؤخر، ففي المسألة اختلاف.
والمسائل متناظرة، فمن اعتبر رضا الزوج تمسك بأنه لا حرج عليها في التأخير، وحق الزوج مُضيِّق عليها، ومن جوّز لها التعجيل قال: النكاح للأبد، والموت منتظر، ولا ثقة بالعمر.
فإن قلنا: ليس لها أن تصوم دون إذنه، فإذا أخذت تصوم، فهي [كالمتطوّعة] (1) وقد سبق الكلام فيها.
وإن قلنا: لها التعجيل، ففي المسألة احتمال؛ فإنها ممتنعة على زوجها في شطر الزمان [باختيارها،] (2) والأظهر أنه لا أثر للصوم، فإنا إذا جوزنا لها أن تبتدر، فليست على رتبة الناشزة، وفي الليالي مضطرب.
وإذا نشزت فنشوزها من الموانع القاطعة للمدة، ولو كان الزوج قادراً على ردّها قهراً، فلا اعتبار بذلك، بل المنع ثابت، والضرار مندفع على الوجه الذي فرضناه وبنينا الباب عليه.
9474 - ثم ذكر الشافعي (3): "أنهما لو اختلفا في الإصابة، فزعم الزوج أنه أصابها وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج".
وهذا مما ذكرناه في كتاب النكاح، ولكن نعيد ذلك الأصلَ لمزيد فائدة فنقول، مهما (4) وقع النزاع في إثبات الإصابة ونفيها، فالقول قول النافي إلا في مسائل:
__________
(1) ت 2: كالمطلق، وفي الأصل: كالمقطوعة. وتشبيهها بالمتطوعة، أي في الحكم، وهو أن للزوج أن يغشاها ولا يبالي بصومها.
(2) في النسختين: باختياره، والمثبت اختيارٌ من المحقق. ومعنى العبارة أننا إذا قلنا: ليس لها أن تصوم القضاء الذي عليها معجلاً من غير إذن الزوج إذا كان هذا القضاء على التأخير، إذا قلنا: ليس لها ذلك، فهذا محتمل: له وجه، وذلك أنها بصومها تكون ممتنعة على زوجها (باختيارها) شطر الزمان، أي نهار أيام الصوم.
(3) ر. المختصر: 4/ 109.
(4) مهما: هنا بمعنى (إذا).

(14/456)


إحداها - إذا ضربت مدة العنة، فلما انقضت زعم الزوج أني وطِئتُها، أو قال في ابتداء الأمر: [أنا] (1) الآن عنين، ولكن قبل هذا وطئتها، فلا تضربوا المدة، فالقول قول الزوج مع يمينه، وقد قدمنا هذا وعللناه.
9475 - ومن المسائل (2) اختلاف الزوج المولي مع المرأة، وهذه مسألة الكتاب، فإذا جعلنا القول قولَ الزوج في إثبات الوطء مع يمينه، فإن حلف على ذلك، ثم إن الزوج طلقها، وأراد ارتجاعها، فإنه قد وطئها بزعمه (3).
قال ابن الحداد: ليس له أن يرتجعها؛ فإنا وإن جعلنا القول قولَه في إثبات الوطء ابتداءً، فهذه خصومة أخرى وقضية أخرى، فالقول في ذلك قولها مع يمينها، فتحلف، وتنتفي الرجعةُ عنها، كما لو كانت الخصومة ابتداء في الرجعة؛ فإن الزوج لو طلق امرأته، ثم زعم أنه كان وطئها، فيرتجعها وأبت المرأة، فالقول قولها، فإنه لا يلزمها عِدّةٌ لقول الزوج؛ فإذا لم تثبت العدةُ، لم تثبت الرجعة.
فإن قيل: هذا يُبطل معوَّلكم في أن الأصل بقاء النكاح، وعليه يتم تصديق الزوج في مسألة العُنّة والإيلاء؛ فإن كان الأصل عدمَ الوطء. قلنا: إنما يصدق الزوج والنكاحُ قائم، وإذا طلق، فالطلاق يحل النكاحَ، وهو في إثبات المستدرك مدعٍ.
قال الشيخ: من أصحابنا من ذكر في صورة ابن الحداد وجهاً أن الرجعة تثبت؛ فإنا صدقنا الزوج في إثبات الوطء في خصومةٍ وقوّينا جانبه واعتضد هذا أيضاًً باستبقاء النكاح، وهذا ضعيف لا تعويل عليه.
9476 - والمسألة الثالثة - أن يخلو بها وقلنا: الخلوة لا تقرر المهر، فإذا ادّعت الوطء، فهل نصدقها؟ فيه قولان ذكرناهما.
__________
(1) في الأصل: أما.
(2) هذه هي المسألة الثانية، وستأتي الثالثة والرابعة.
(3) المسألة مصوّرة في غير المدخول بها، فهي التي لا يملك عليها الرجعة إلا إذا كان قد وطئها، ووجبت عليها العدّة.

(14/457)


9477 - والمسألة الرابعة - أن تدعي المرأةُ الوطءَ من غير خلوة تبغي [تقريرَ] (1) المهر، فإذا أنكر الزوج، فالقول قول الزوج في نَفَي الوطء، فلو أتت بولدٍ لزمان يلحق الزوجَ، فإنْ نَفَى الولدَ باللعان، فالذي سبق من نفي الوطء على ما سبق، والقول قول الزوج، كما مضى، وإن لم ينفه باللعان ولحقه الولد، فهل نقول الآن: القول قول المرأة؛ إذ قد ظهر تقدم وطء منه [بلحوق] (2) الولد؟
ما نقله المزني: أنا نجعل الآن القولَ قولَها في إثبات الوطء مع يمينها، فتحلف وتستحق المهر كَمَلاً.
قال الشيخ رضي الله عنه: نقل الربيع ما نقله المزني، ونقل قولاً آخر: أن القول قول الزوج؛ فإنها قد تَحْبَل من استدخالٍ من غير وطء.
واختلف أصحابنا على طرق: فمنهم من قال: في المسألة قولان، ومنهم من قطع بما نقله المزني، وزيف القول الثاني، وجعله من تخريج الربيع، ومنهم من قال: المسألة على حالين: حيث قال: القول قولها: [أراد إذا نشأ] (3) الاختلاف بعد الولد ولحوقه، فالقول قولها [إذ] (4) الظاهر معها، والاستدخال بعيد، وإن اختلفا قبل الولد وظهور أمره وحلّفنا الزوجَ، فقد تمت الخصومة ونفذت، فلا نجعل القول قولها.
ومن سلك طريقة القولين أجراهما في الحالين، قال الشيخ: الأصح من ذلك كله القطع بما نقله المزني (5) في الأحوال كلها.
9478 - ثم ذكر المزني أنه يخلص عن عهدة الإيلاء بتغييب الحشفة، وهذا كما
__________
(1) في النسختين: تقدير.
(2) زيادة من المحقق، حيث سقطت من النسختين.
(3) ما بين المعقفين أثبتناه من (ت 2) مكان كلمات غير مقروءة في الأصل.
(4) في النسختين: (إن) والمثبث من المحقق.
(5) وجه ذكر هذه المسألة في المسائل الجارية على خلاف قياس الخصومات، حيث نجعل القول قولَ المثبت، لا قول النافي - وجه ذلك في هذه المسألة هو أن القول قول الزوجة في إثبات الوطء الذي ينفيه الزوج، لقوّة جانبها بالولد، وهذا هو المنصوص في رواية المزني.

(14/458)


ذكرناه من قبل، وإن كانت المرأة بكراً، فلا بد من إزالة العُذرة، وهي تحصل بتغييب الحشفة لا محالة، فلو ادعى العجز عن الافتضاض، كلفناه الفيء باللسان في الحال، وضربنا له مدة العُنة، ثم أجرينا حكم العِنِّين، كما مضى مفصلاً (1).
9479 - ثم قال: "لو أصابها وهي مُحْرِمة ... إلى آخره".
إذا أصاب الرجل امرأته وهي مُحْرِمة، وكان قد آلى، فقد حصلت الفيئة، ولا نظر إلى انتسابه إلى العصيان بعد حصول الوطء، وانحلال اليمين (2).
فصل
قال: "ولو آلى ثم جن ... إلى آخره" (3).
9480 - إذا آلى الرجل، ثم جن، ووطىء في حالة الجنون، فالمنصوص عليه أنه لا يحنث؛ فلا كفارة عليه وخُرِّج فيه قولٌ آخر: أن الكفارة تلزمه، من حِنْث الناسي، وهذا له التفات على أن المجنون إذا قتل صيداً في الحرم، فهل يلتزم الفدية؟ وفيه قولان.
ومما نذكره أن المولي إذا أُكره على الوطء، فوطىء مكرهاً، قال الشيخ: في وجوب الكفارة على المكره قولان مشهوران، فإن قلنا: إن الكفارة تلزمه، فلا شك في حنثه وانحلال يمينه، فإن قلنا: إن الكفارة لا تلزمه، فهل نقول: يحنث وينحل يمينه؟ فعلى وجهين ذكرهما رضي الله عنه، وهذا الترتيب يجري في المجنون: فإن ألزمناه الكفارة فقد انحلت اليمين، وإن قلنا: لا تلزمه الكفارة، فهل تنحل اليمين؟ حتى إذا أفاق، فوطىء لا تلزمه الكفارة؟ فعلى وجهين.
ولا يختص ما ذكرناه بالإيلاء، ولكن كل حالفٍ وُجد منه المحلوف عليه على وجه الإكراه، وقلنا: لا يلتزم الكفارة، فهل تنحل [يمينه] (4)؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 111.
(2) السابق نفسه.
(3) ر. المختصر: 4/ 111.
(4) زيادة من المحقق.

(14/459)


9481 - فإذا تمهد هذا، رجعنا إلى حكم الإيلاء في المكره (1): فإن قلنا بانحلال اليمين، ولا كفارة، فقد ارتفع حكم الإيلاء، وإن قلنا: ما انحلت بما جرى، حتى لو وطىء مرة أخرى، يلزمه الكفارة، فهل يعود حكم الإيلاء والطلب؟ فعلى وجهين، وهما يجريان في المجنون إذا قلنا: لا تنحل اليمين بما جرى في الجنون.
توجيه الوجهين:
9482 - من قال يعود الطلب، قال: لأنّ اليمين قائمة ولو وطىء الرجل بعد أربعة أشهر، التزم الكفارة.
ومن قال: لا يعود الطلب، احتج بأن الضرار اندفع بالوقاع الذي جرى، فكأن الإيلاء صار منحلاً في حقها، وإن كانت اليمين قائمة.
قال الشيخ: وهذا الذي ذكرناه في صورة الإكراه مفرّع على المذهب الصحيح، وهو أن الإكراه على الوطء يُتصور.
ومن أصحابنا من قال: لا يتصور الإكراه على الوطء، ولا يوجد الوطء إلا من مختار، وهذا القائل يقول: من حُمل على الزنا بالتخويف بالقتل، فأتى بما حمل عليه، لزمه الحد.
وهذا غريب في المذهب، وإن ذهب إليه أبو حنيفة (2)، ووجهه على بعده أن المكره هو المسلوب الاختيار الذي لم يبق له أَرَب إلا الخلاص، ومن كان كذلك لم تنبسط شهوته، ولم تطاوعه نفسه، وقد ظهر أن المرعوب لا ينتشر، والمنتشر إذا تداخله خوف فَتَر.
ثم زاد العراقيون في مسألة الجنون تفريعاً فقالوا: إذا قلنا: لو وطىء في جنونه، لم تنحل اليمين، وإذا أفاق ووطىء، لزمته الكفارة، وفرّعنا على أن حكم الطلب يعود، فلو وطىء في جنونه، ثم أفاق على الفور، فهل نقول: الطَّلِبة تتوجه في الحال، أم نضرب مدّة، ونقول إذا مضت، تجددت الطَّلِبة بعدها؟ فعلى وجهين:
__________
(1) أي في المكره على الوطء.
(2) ر. المبسوط: 24/ 88.

(14/460)


أقيسهما - أنا لا نعتبر مدة أصلاً، فإنه لم يتخلل طلاقٌ ولا رِدّة، والطَّلِبةُ ثابتةٌ، وقد انقضت المدة.
والوجه الثاني - أنه لا بد من مضي مدة؛ لأنه قد فاء ظاهراً، فإن لم يؤثِّر ما صدر منه في الخروج من عهدة الطلب، فلا أقل من أن يستفيد الزوج به مَهَلاً.
9483 - وممّا يتعلق بما نحن فيه أن الرجل إذا آلى عن امرأته، فجاءت المرأة في نومه وصادفته منتشراً، فنزلت عليه واستدخلت ذكره، ولا عِلْم له بما جرى، فالذي نقطع به أن اليمين لا تنحلّ، فإن الذي جرى ليس بوطء، والمحلوف عليه الوطءُ، وليس هذا كوطء المكره والوطءِ في حالة الجنون.
ورأيت في بعض التعاليق عن شيخي أن من أصحابنا من جعل هذا كالوطء في حالة الجنون، حتى يُخرّجَ فيه الخلافُ المقدم في انحلال اليمين.
وهذا غلط صريح، لا يجوز التعويل عليه.
فإذا بان ذلك، فلو وطىء في يقظته، لزمته الكفارة، وهل لها مطالبة الزوج؟ فعلى وجهين كالوجهين في المجنون إذا قلنا: وطؤه في الجنون لا يحل اليمين.
9484 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "والذمي كالمسلم فيما يلزمه من الإيلاء ... إلى آخره" (1).
الذمي من أهل الإيلاء، فإذا ارتفع إلينا، ونزل على حكمنا، فحُكمنا عليه كحُكمنا على المسلم، فتتوجه عليه الطَّلِبة، وإذا فاء، لزمته الكفارة، وأبو حنيفة (2) لم يجعله من أهل الظهار؛ من حيث لم يكن عنده من أهل الكفارة، وجعله من أهل الإيلاء (3)، وإن لم يكن عنده من أهل الكفارة، والمسلم إذا آلى، وفاء، لزمته الكفارة عند أبي حنيفة (4) والإيلاء لا يختص عنده باليمين بالله (5).
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 112.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 489 مسألة 1026، المبسوط: 6/ 231.
(3) ر. مختصر الطحاوي 211، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 478 مسألة 1004.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 207، المبسوط: 7/ 19، 20، فتح القدير: 4/ 42.
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 477 مسألة 1002، المبسوط: 7/ 37، فتح القدير: 4/ 41.

(14/461)


ولو قال لامرأته: إن وطئتك، فعبدي حر، ثم مات ذلك العبد المحلوف بعتقه، انحلت اليمين لمّا عَرِيَتْ الواقعة عن التزامٍ [عند] (1) تقدير الوطء، وهذا تناقض منه بَيّن.
9485 - ثم قال الشافعي: "العربي لو آلى بلسان العجم ... إلى آخره" (2). إذا آلى الأعجمي بلسان العرب، فإن كان يحسن العربية فهو كالعربي، فلو زعم أنه لم يفهم معنى الكلمة التي تلفظ بها، وكانت الحالة تكذّبه، فهو مكذَّب، وإن كان الأمر محتملاً، فالرجوع إلى قوله مع اليمين.
وكذلك العربي إذا نطق بلسان العجم، وما ذكرناه جارٍ في كل من نطق بلغة غيره.
فصل (3)
كنا وعدنا أن نتكلم في الموانع، (5 الشرعية إذا اتصف الزوج بها، عند انقضاء المدة، وهذا وإن [سبق] (4) استيفاء القول فيه 5)، فقد رأيت للعراقيين ترتيباً حسناً، فرأيت اتخاذه قدوة في الفصل.
فإذا آلى الرجل عن امرأته، ومضت الأشهر، وكان الزوج محرماً أو مظاهراً، فلا شك أنه لو وطىء عَصى ربَّه، وإذا توجهت عليه الطَّلبة -وهو موصوف بمانع محرِّم- فلو قال: أنا أفيء على ما بي من المانع، فقالت المرأة: لا أمكنه من الوطء، فهل تُجبر على التمكين؟
فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها لا تجبر على التمكين إذا دعاها الرجل إلى التمكين، بل لها الامتناع؛ فإنه إذا كان يحرم عليه أن يغشاها، فالتحريم متعلق بها، ويجب من ثبوته في حقه أن يحرم عيها التمكين؛ إذ لا يتصور ثبوت
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(2) ر. المختصر: 4/ 112.
(3) سقط من (ت 2) علامة (فصل).
(4) زيادة من المحقق.
(5) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

(14/462)


التحريم إلا متعلقاً بهما، فأشبه ما لو طلقها طلقة رجعية، وقضينا بتحريمها، فلو أراد الزوج أن يغشاها، فلها الامتناع، بل عليها الامتناعُ حتى يرتجعها، وكذلك إذا كانت حائضاً، فلها منعُ نفسها عن زوجها، وكذلك لو كانت مُحْرمة، أو صائمة.
والوجه الثاني - أنه ليس لها أن تمتنع؛ فإنه لا حرمة فيها، وهي في نفسها على صفة الاستباحة، وليس لها أن تنظر في حال الزوج، وتتصرف فيما يحرم عليه ويحل له.
ومن أصحابنا من فصل بين أن يكون الزوج مظاهراً، وبين أن يكون صائماً، أو مُحْرماً، فقال: لها أن تمتنع إذا كان الزوج مظاهراً، (1 وليس لها أن تمتنع إذا كان الرجل 1) محرماً أو صائماً.
9486 - وحاصل المذهب أن المطلّقة تمتنع؛ لأن الطلاق واقع بها، وإذا كان الرجل مُحِلاً وهي مُحرمة، امتنعت، وكذلك لو كانت صائمة صياماً لا يجوز إفساده عليها، فمهما (2) تحقق سبب التحريم فيها على الاختصاص، امتنعت، وإذا ظهر (3) تعلق السبب بها كالطلاق، فإنها تمتنع من التمكين.
وإن اختص الزوج بالسبب المحرِّم، كما إذا كان مُحرماً أو صائماً صوماً لا يجوز إفساده، فهل تمتنع من التمكين، أو ليس لها الامتناع؟ فعلى وجهين.
وإذا ظاهر عنها الزوج، فهذا مردّد بين الطلاق وبين الإحرام، وجه مشابهته للطلاق أن الظهار يحرّم المرأةَ كالطلاق، ووجه مشابهته للإحرام أن الظهار لا ينقصُ ملك الزوج، ولا (4) يخرم حقّه فيها، ولكنه لما قال زوراً وكذباًَ، عاقبه الشرع بتحريم الغشيان عليه.
واختيار الشيخ أبي حامد أن الزوج إذا كان محرماً أو صائماً، فليس لها أن تمتنع عن التمكين وجهاً واحداً، وإنما الوجهان في الظهار.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(2) بمعنى: (إذا).
(3) ت 2: فإذا ظهرت.
(4) عبارة ت 2: ولا يخرم حقه لما قال.

(14/463)


ثم مهما قلنا: إنها تمتنع، فحقٌّ عليها أن تمتنع، وإذا قلنا: لا تمتنع، فحق عليها أن تمكن إذا دعاها زوجها.
9487 - فهذا أصل قدمناه على غرضنا من الإيلاء، ونحن نبني عليه غرضنا من الإيلاء، فنقول: إن ألزمنا المرأةَ أن تمكن، فإن مكنت، فذاك، وإلا يسقط طلبها في الوقت، وليس لها أن تقول: لا أمكِّن وأطلبُ الطلاقَ.
وإن قلنا: لها أن تمتنعَ ولا تُجبرَ على التمكين، فإن مكنت ولم يطأها، فيطالب بالطلاق (1) أو تطلّق عليه زوجته.
وإن أبت ولم تمكِّن، وطلبت الطلاق، وقلنا: لها الامتناع من التمكين، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها لا تطلب الطلاق، بل (2) يفيء فيئة معذور إلى زوال العذر، كما [ذكرناه] (3) في المانع الحسي، فأشبه ما لو لم (4) يكن مانع، فنشزت أو مرضت.
والوجه الثاني - أن الزوج يجبر على الطلاق أو يطلّق عليه؛ فإنه هو الذي ضيق على نفسه هذا التضييق.
هذه طريقة [العراقيين] (5) وهي على نهاية الحسن.
9488 - وأما أصحابنا المراوزة؛ فإنهم لم يتعرضوا لوجوب التمكين عليها أو لتحريمه، بل اقتصروا على قولهم: نقول للرجل: إن وطئت عصيت، وإن لم تطأ، طلقنا عليك زوجتك، وهذا لا (6) يستقل ما لم نفصِّل المذهب على نحو ما ذكره العراقيون.
__________
(1) ت 2: فإن مكنت ولم يطأها، فالطلاق ...
(2) ت 2: بل هي معذورة إلى زوال العذر.
(3) غير مقروءة في الأصل.
(4) ت 2: فأشبه ما لم.
(5) في الأصل: العراق.
(6) ت 2: وهذا لم يستقل.

(14/464)


فصل
قال: "ولو آلى، ثُم آلى، فَحَنِث في الأولى ... إلى آخره" (1).
9489 - إذا تكررت كلمة الإيلاء من الزوج: بأن قال لها: والله لا أطؤك والله لا أطؤك، حتى كرره مراراً، فألفاظه لا تخلو إما أن تكون متواصلة، وإما أن يتخلل بينها فصول، فإن كانت متواصلة، وزعم أنه نوى تكرار الألفاظ وتأكيدَ المعنى بها، ولم يرد تجديداً، فهو مصدق؛ فإنه لو والى بين كلام في الطلاق في أزمنة متواصلة (2) ولم يتخلل في أثنائها ما يمنع التأكيد، وزعم أنه أراد التأكيد، قُبل منه.
وإن قال في كَلِم الإيلاء: أردت بكل كلمة يميناً معقودةً مقصودةً، فيكون الأمر كذلك، وفائدةُ تعددها أنه إذا فرض الوطء، انحلت بجملتها، ثم يختلف الأصحاب في اتحاد الكفارة وتعددها، والصحيح التعددُ، كما قدمناه.
ولو أطلق الألفاظ، وزعم أنه لم ينو تأكيداً ولا تجديداً، ففي المسألة قولان.
ولو قال: أنت طالق وطالق، وخلَّل بين الكلمة والكلمة فتراتٍ تُقطِّع وصْلَ الكلام ونظمَه ونضَدَه، وتمنع الحملَ على التأكيد، ثم زعم أنه أراد التأكيد، فلا يقبل منه.
ولو قال: أردت تكريرَ ما قدمته وإعادتَه، قلنا: لا نقبل ذلك منك؛ فإن الطلاق إيقاع، فإذا انحسم وجهُ التأكيد، لم يبق إلا الحملُ على الإيقاع (3).
9490 - ثم هذا يجري في كل لفظٍ [فلو] (4) أقر بألفٍ لزيدٍ، ثم أقر له بعد أيام بألفٍ، وزعم أنه أراد تكرير الإقرار الأول، قبل ذلك، خلافاً لأبي حنيفة (5).
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 113.
(2) عبارة ت 2: "فهو مصدق، فإنه لو الى بين تحكم في الطلاق لزمته متواصلة" وهي - كما ترى غاية في التصحيف والتحريف.
(3) ت 2: الارتفاع.
(4) في الأصل؛ ولو. و (ت 2): وإن.
(5) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 213 مسألة 1912.

(14/465)


وعمدة المذهب أن الخبر الواحد يكرر ليشهر ويذكر، وإذا كان (1) ذلك، ممكناً، صدقناه فيما يريده، فإن أراد نشر الطلاق الذي قدمه، فليقرّ به، فإذا لم يخبر عمّا مضى، واستقل كلامُه إيقاعاً، لم يحتمل غير الإيقاع.
ولو قال: والله لا أجامعك، ثم أعاد اليمين مع انقطاع الوصل وتخلُّلِ الفصل، وزعم أنه أراد إعادة اليمين الأولى، فالذي ذكره المحققون أن هذا مقبول منه؛ فإن الحلف في الحقيقة خبرٌ مؤكد بالقَسَم، وقد ذكرنا أن الخبر يقبل التكرير، وقول الفقهاء: عقد فلان اليمينَ ليس على معنى العقود التي تُنشأ، وإنما المراد أخبر خبراً يُلزمه أمراً.
هذا إذا قال: أردت تكرير اللفظ الأول، ولم يرد تجديدَ يمين.
قال الأصحاب: لو قال لامرأته: إن دخلت الدار، [فأنت طالق] (2)، ثم قال بعد زمان متطاول: إن دخلت الدار، فأنت طالق، وزعم أنه أراد إعادة اللفظ الأول، ولم يُرِد تعليق طلاق [مجدَّد] (3)، كان كما قال؛ فإن هذا في حكم الخبر.
فهذه ثلاث مسائل أطلق الأصحاب فيها قبولَ تأويل التكرير: الإقرار، واليمينُ بالله، وتعليقُ الطلاق والعَتاق (4).
ومن أصحابنا من قال: تأويل التكرير مقبول في الإقرار فحسب، وهو غير مقبولٍ في اليمين بالله، وتعليقِ الطلاق؛ فإن اليمين إنشاء وكذلك التعليق.
ومنهم من قال: يقبل تأويل التكرير في اليمين بالله، ولا يقبل في الطلاق، وهذا لا بأس به؛ لأن قول القائل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق ليس بخبر، وإنما هو وضعَ الطلاقَ مربوطاً بصفة، والدليل عليه أنه لا يدخله التصديق والتكذيب.
__________
(1) ت 2: ليشهر وقد ذكروا إذا كان ...
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: مجرد، والمثبت من (ت 2).
(4) ت 2: والتعليق.

(14/466)


9491 - فخرج مما ذكرناه أن الإقرار لما كان إخباراً محضاً معرَّضاً للصدق والكذب، ظهر فيه إمكان التكرير.
واليمينُ بالله خبرٌ من وجه وإنشاء من وجه، فتطرق الخلاف إليه، ودليل انحطاطه عن الإقرار قُبْحُ التكذيب فيه، ولكن للتكذيب فيه مساغٌ على الجملة.
وتعليق الطلاق [إنشاء] (1)؛ إذ لا مساغ للتكذيب فيه أصلاً.
ثم إذا أتى بألفاظ الأيمان أو بتعليق الطلاق مراراً، وخلّل فصولاً، فإن قلنا: لا يقبل منه تأويل التكرير، فمطلق الألفاظ محمول على التجديد، وإن قلنا: يقبل منه تأويل التكرير فإذا كانت الألفاظ مطلقة، فالمذهب أنها محمولة على التجديد.
وأبعد بعض أصحابنا؛ فقال: هي محمولة على التكرير، والطلاق لا يحتمل هذا، فإذا تقطعت ألفاظ المطلق، وخرجت عن حد التأكيد، فهي على التجديد إذا صادفت محلها.
ثم إن الشافعي رضي الله عنه أعاد في آخر الباب (2) مناظرةً مع أبي حنيفة في مُدّة الإيلاء، ولا غرض لنا فيها.
...
__________
(1) في الأصل: متشاجر، وفي ت 2: مستأخر. والمثبت تصرّف من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/ 113. ونصّ هذه المناظرةً: "وقد زعم من خالفنا في الوقف أن الفيئة فعلٌ يحدثه بعد اليمين في الأربعة الأشهر، إما بجماع أو فَيْءِ معذور بلسانه، وزعم أن عزيمة الطلاق انقضاء أربعة أشهر بغير فعل يحدثه، وقد ذكرهما الله تعالى بلا فصل بينهما، فقلت له: أرأيت أن لو عزم أن لا يفيء في الأربعة الأشهر أيكون طلاقاً؟ قال: لا حتى يطلق.
قلت: فكيف يكون انقضاءُ، الأربعة الأشهر طلاقاً بغير عزمٍ، ولا إحداثِ شيء لم يكن ... " ا. هـ. بنصه.

(14/467)


باب إيلاء الخصي غير المجبوب والمجبوب
9492 - الخصيّ إذا لم يكن مجبوباً، فآلى، فهو بمثابة الفحل يولي، وكذلك إذا جُبّ من ذكره البعضُ، وبقي ما يتعلق به الجماع التام.
فأما المجبوب الذي استؤصل ذكره، أو بقي منه ما لا يتعلق به الجماع، فقد اختلف أصحابنا في إيلائه، فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - ينعقد إيلاؤه.
والثاني - لا ينعقد.
من قال لا ينعقد قال: إنه حلف على الامتناع عن أمرٍ يستحيل منه الإقدام عليه، فكان كلامه لغواً، وأيضاً فإن الإيلاء مبناه على قطع رجائها وإظهار الضرار من هذه الجهة، وهذا لا يتحقق من المجبوب.
والقول الثاني - أنا نجعله مولياً، لأن عماد الإيلاء الإيذاء (1) باللسان، وقد تحقق ذلك منه.
ومن أصحابنا من قطع بأن إيلاءه لا يصح ويلغو، وإنما القولان فيه إذا آلى وهو فحلٌ ثم جُبّ، ففي قولٍ ينقطع الإيلاء، وفي قولٍ يبقى، ويكون ما طرأ مانعاً من الوقاع، مؤدياً إلى الاكتفاء بفيئة اللسان.
ومن أصحابنا من قطع بأن إيلاءه لا يصح، وإن طرأ الجب، انقطع.
وهذا هو الذي لا يصح -على التحقيق- غيره؛ فإن اليمين يستحيل فرض بقائها مع استحالة الحِنْث.
ولو قال: إن وطئتك، فعبدي حر، ثم إنه أنشأ إعتاقه، فالإيلاء ينحلّ بامتناع لزوم شيء عند فرض الوطء، والجبُّ بذلك أولى.
__________
(1) ساقطة من (ت 2).

(14/468)


قال الشيخ أبوعلي: إيلاء الفحل عن الرتقاء بمثابة إيلاء المجبوب في جميع ما ذكرناه، اقتراناً وطرياناً.
9493 - ثم إذا حكمنا بثبوت الإيلاء إما في صورة الاقتران، وإما في صورة الطريان، فالطّلبة تتوجه بعد المدة بفيئة اللسان.
ثم قال الأصحاب: ليقل إذا توجهت الطلبة: لوْ قدرتُ، لوطئتك، وهذا سبيل المعذور الذي يرجى زوال عذره، وما يذكر في فيئة المعذور الذي يرجى زواله شيئان: أحدهما - الاعتذار بالمانع الواقع، والثاني - وعدٌ بالإصابة عند الزوال، قال الأصحاب: لا بد منهما، والاقتصارُ على إحداهما لا يكفي، ولو [اقتصر على] (1) أحدهما، طُلّقت عليه زوجته.
والرأي (2) عندنا أنه لو اقتصر على الوعد، فقال: إذا ارتفع مرضي، أصبتك، فهذا كافٍ، وإن لم يقل: لولا المرض، لأصبتك الآن؛ فإن التعويل على الوعد عند ارتفاع المانع، ولكن الأصحاب ذكروا الأمرين.
أما المجبوب، فلا يتصور منه الوطءُ، وفيئتُه أن يقول: لولا المانع، لوطئتك، وهذا عندي في حكم العبث الذي لا يليق بمحاسن الشرع (3) مثله، وضرب المدة أقبح من الكُل، فإنه مَهَلٌ أثبت لمن يُرجى منه الوطء فكيف يُتخيل هذا في المجبوب.
فرع:
9494 - قدمنا من رأي الأصحاب كافة أن الرجل إذا قال لأجنبية: إن وطئتك، فعبدي حر، أو قال: والله لا أجامعك، ثم نكحها، فلا يكون مولياً، وإن كان يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً؛ لأن هذا تقدَّم على الملك.
وذكر صاحب التقريب وجهاً عن بعض الأصحاب أنه يكون مولياً، وهذا لا خروج له إلا على قول غريب، حكاه صاحب التقريب في أن تعليق الطلاق قبل الملك يصح،
__________
(1) في الأصل، كما في (ت 2): وآلى عن أحدهما. والمثبت تصرف من المحقق.
(2) ت 2: والثاني عندنا.
(3) ت 2: بمجلس النزع.

(14/469)


كما ذهب إليه أبو حنيفة (1)، وهذا على نهاية البعد، ولم أره إلا له، ولم أذكر هذا في أثناء الكلام؛ حتى لا يُعتد به.
فرع:
9495 - إذا آلى الرجل عن امرأته، فلما انقضت المدة، زعم أنه عاجز عنّين، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنا نضرب له المدة، ثم نحكم بعد انقضائها حُكْمَنا في العنة.
وحكى العراقيون وجهاً غريباً أنه لا يقبل ذلك منه، وتطلق عليه زوجته على قولٍ أو نحبسه إن لم يطلق، وليس كما لو ظهر به مرض يغلب على الظن عجزه بسببه، وهذا الوجه لا اعتداد به، وقد نقله العراقيون ثم زيّفوه والله الموفق للصواب.
...
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 477 مسألة 961، مختصر الطحاوي: 203، طريقة الخلاف 116 مسألة 48.

(14/470)