نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الظهار
9496 - صورة الظهار أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، ومقتضاه على الجملة أن تَحْرُمَ عليه زوجته، مع استمرار النكاح، ويدوم التحريم حتى يكفّر (1).
والأصل في الظهار مفتَتَحُ سورة المجادلة، وسبب النزول ما روي "أن خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن الصامت أخي عُبادة، شرعت في الصلاة، فدخل زوجها، وهمّ بقِربانها، فخالفته، وامتنعت عليه، فغاظه ذلك، فقال: أنت عليّ كظهر أمي، وكان الظهار طلاقاً في الجاهلية مؤكداً، فلما قال ذلك، اغتمّت خولة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في حجرة عائشة، وكانت تمشط رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت خولة: كنت شابة يا رسول الله ذاتَ جمال ومال، فلما كبر سني ونفد مالي، جعلني أوسُ على نفسه كظهر أمه فقال صلى الله عليه وسلم: "حرمت عليه"، فقالت: يا رسول الله، انظر في أمري، فإن لي معه صحبة، وإني لا أصبر عنه (2)، فقال صلى الله عليه وسلم: "حرمت عليه"، فكررت ذلك، وهو عليه السلام يقول: "حرمت عليه"، فلما أيست، اشتكت إلى الله تعالى، فنزل قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] قالت عائشة: كانت تُسارّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أسمع من كلامهما الكلمة والكلمتين، فنزلت الآيات مشتملة على قواعد الظهار" (3).
__________
(1) (ت 2): بكفه.
(2) عبارة (ت 2): جعلني أوس على نفسه كظهر أمه، وإني أصبر عنه.
(3) حديث ظهار أوس بن الصامت رواه أبو داود، وابن ماجه، والحاكم من حديث عائشة رضي الله عنها، وأصله في البخاري. (ر. البخاري: كتاب التوحيد، باب وكان الله سميعاً بصيراً، أبو داود: الطلاق، باب الظهار، ح 2219، ابن ماجه: الطلاق، باب الظهار، ح 2063، الحاكم: 2/ 481، وانظر تلخيص الحبير 3/ 443 ح 1764.

(14/471)


ثم إن الشافعي رضي الله عنه، صدّر الباب ببيان من يصح ظهاره، ثم عقّبه بمن يصح الظهار عنه. فأما الفصل الأول:
9497 - فحدُّ المذهب فيمن يصح ظهاره أن يقال: من كان من أهل الطلاق، كان من أهل الظهار، وهذا يطّرد وينعكس على مذهب الحدود، ثم يتعلق الطلاق بالظهار طرداً وعكساً، كما يتعلق الظهار بالطلاق.
ثم أجرى الكلامَ رضي الله عنه إلى المسألة الخلافية في الذمي وأبان أنه من أهل الظهار، كما أنه من أهل الطلاق، وخالف أبو حنيفة (1) في المسألة، وصار إلى أن الذمي ليس من أهل الظهار؛ بناء على أن الكفارة لا تصح منه ولا تلزمه، والظهار عاقبته الكفارة، ومن مذهب أبي حنيفة أن الكافر ليس من أهل التزام الكفارة، ونصّ (2) مذهب الشافعي أن الكافر من أهل التزام الكفارة المالية، وليس (3) من أهل الصوم، ولا خلاف أن الكافر الأصلي لا يلتزم الزكاة، وعَقْدُ المذهب أن الزكاة وظيفةٌ أُثبتت عبادةً على المسلم، ليس فيها معنى التغليظ، بخلاف الكفارة؛ فإنها مضاهية للحدود، ثم ليس في نفي الكفارة ما يوجب نفي تحريم الظهار، كما قررناه في (الأساليب).
فالذمي إذاً من (4) أهل الإعتاق، فإن لم يجد، لم يكن من أهل الصوم، ثم لا تجزىء إلا المؤمنة عندنا، وقد نمنعه من ابتياع عبد مسلم، فلو قال [لمسلمٍ] (5): أعتق عبدك عن كفارتي، ففي ذلك وجهان، قدمنا ذكرهما في كتاب البيع؛ فإن لم نجوّزه، انحسم العتق، إلا أن يكون له عبد كافر، فيسلم، أو يرث عبداً مسلماً.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 214، مختصر اخثلاف العلماء: 2/ 489 مسألة 1026، رؤوس المسائل: 425 مسألة 296، الغرة المنيفة: 164، المبسوط: 6/ 231، طريقة الخلاف 130 مسألة 54.
(2) (ت 2): ومن مذهب الشافعي أن الكافر ليس من أهل الالتزام.
(3) في الأصل: فليس.
(4) (ت 2): فالذمي إذا كان من أهل الإعتاق.
(5) في الأصل: فلو قال المسلم.

(14/472)


فإن كان معسراً متمكناً من الصوم، فالذي ذكره القاضي أنه لا ينتقل إلى الإطعام، فلا يصير الكفر عذراً في حقه يجوّز له الانتقالَ إلى الإطعام، فإن أراد الخلاص من التحريم، فليسلم وليصم، وإلا استمر التحريم.
وهذا فيه نظر؛ فإن الخطاب بالعبادة البدنية لا يجب على الكافر الأصلي، فكأنّ الصوم مُخرَجٌ من كفارة الذمي، وهي آيلة في حقه إلى الإعتاق والإطعام.
وقد يَرِدُ عليه أن الإطعام بدلُ الصيام، ولا يجوز تقدير البدل في حق من لا يتحقق في حقه المبدل، فنُحْوَجُ عند ذلك إلى تقدير الكفر بمثابة العجز، وهذا يوجب إسقاط الخطاب؛ فإن العاجز لا يخاطَب بالصوم.
والذي يؤكد ما ذكرنا أن حكمنا على الذمي بتأبد حرمة الظهار عليه بعيدٌ، وحمله على الإسلام بعيدٌ، وقد يكون في حمله على ذلك حملٌ على الإسلام، والمسألة على الجملة محتملة.
فهذا تفصيل القول فيمن يُظاهِر.
[الفصل الثاني] (1)
9498 - فأما التي يصح الظهار عنها، فيطرد في هذا النسق (2) اعتبارُ الطلاق أيضاً، فكل امرأة يلحقها الطلاق يلحقها الظهار، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، عاقلة أو مجنونة.
والبائنة لا يلحقها الطلاق، ولا يثبت في حقها الظهار، والرّجعية يلحقها الطلاق والظهار، والمرتدة الممسوسة إذا فُرض الظهار عنها، كان كما لو فرض تطليقها، والطلاق والظهار فيها يبتنيان على الترقب، فإن استمرت على الردة حتى انقضت العدة، فلا طلاق ولا ظهار، ولو عادت قبل انقضاء العدة، فنتبين وقوع الطلاق والظهارِ.
__________
(1) هذا العنوان [فصل] من عمل المحقق، بناء على تقسيم المؤلف الذي رأيناه آنفاً.
(2) (ت 2): الشيء.

(14/473)


والإيلاءُ يجاري الطلاق والظهار، فهذه الخلال الثلاث تتلازم (1)، غير أن الأصح أن الإيلاء لا يصح من المجبوب، ولا يصح إيلاء الفحل من الرتقاء، وظهار المجبوب صحيح كطلاقه، والظهار من الرتقاء صحيح كتطليقها، والفرق أن الإيلاء يختص بالوقاع، فلا ينعقد حيث لا يفرض تصوّره.
والظهار يحرِّم الوقاع وجملةَ الاستمتاعات، ولو فرض الإيلاء معقوداً بما دون الجماع من الاستمتاعات، مثل أن يقول: والله لا أُقبِّلك أو أفاخذُك، فاليمين تنعقد [ولا] (2) يثبت حكم الإيلاء.
ثم إذا ظاهر عن الرجعية، لم يخل إما أن يتركها حتى تنسرح أو يرتجعها، فإن تركها حتى انسرحت، فقد ظاهر، ولم يَعُد، فلا تلزمه الكفارة.
وهذا فيه وقفة؛ من جهة أن تطليق الرجعية إن كان لا يفيد مزيد تحريم؛ فإنه يقطع سلطته في الرجعة؛ من جهة أن من يملك ثلاث طلقات يفرض له رجعتان، فإذا طلق واحدة، ثبتت له رجعة، ولو طلق الثانية، قطع بها رجعة، وفيه تنقيص العُدَد، والظهار ليس فيه ما يتضمن التأثير في الملك، والرجعية محرمة، ولم يتفق عَوْدٌ فتجب الكفارة، ولا يبقى في الظهار فائدة إلا تحريم محرمة، ولكن التحريم حكم من الأحكام، وقد يَثْبت الحكم الواحد بعلل، وتحقيق هذا في الأصول.
ثم إذا ظاهر عن الرجعية، وراجعها، فهل نجعل نفسَ الرجعة عوداً أم لا؟ فيه وجهان وسنذكر ذلك عند ذكرنا معنى العَوْد، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "ولو تظاهر من امرأته وهي أَمَةٌ، ثم اشتراها ... إلى آخره" (3).
9499 - نذكر في أول الفصل رسْم العَوْد حتى إذا أردنا التفريع عليه لم يخف المراد على المنتهي إليه.
__________
(1) (ت 2): ثم لزم.
(2) في النسختين: فلا.
(3) ر. المختصر: 4/ 116.

(14/474)


فالمذهب الذي عليه التفريع أن معنى العَوْد أن يمسك المظاهر امرأته زماناً، لو أراد أن يطلقها فيه، لأمكنه، فإذا ظاهر، ثم لم يطلّق مع التمكن منه، حتى مضى زمان إمكان الطلاق، فهذا مُظاهرٌ عائد، ومعنى العود في وضع اللسان إذا أردنا تطبيقه على المعنى أن الذي قال: أنت عليّ كظهر أمي أتى بلفظةٍ متضمّنها التحريم؛ فإذا أمسكها، فكأنه لم يحقق ذلك التحريمَ، فكان كالمناقِض، وسمي عائداً، على مذهب قول القائل: قال فلان قولاً، ثم عاد فيه نقضاً ورفضاً، وعاد فلان في هبته.
وإذا (1) ظاهر وطلّق، قيل: مُظاهرٌ غير عائد، أي أظهر تحريماً ثم حققه.
هذا معنى العَوْد على الجملة، وسيأتي تفصيله في موضعه، إن شاء الله.
9500 - فإذا بان هذا، قلنا بعده: إذا ظاهر الرجل عن زوجته الأمة، وعاد في ظهاره، والتزم الكفارة، ثم إنه اشتراها، فإنا نحكم بانفساخ النكاح بطريان الملك، وهل يستبيحها بملك اليمين؟ ظاهر المذهب أنه لا يستبيحها؛ فإن تحريم الظهار ممدود إلى التكفير، وهذا ظَاهَر والتزم الكفارة بالعَوْد، ولم يكفّر.
ومن أصحابنا من قال: يحل له وطؤها بملك اليمين؛ فإن الظهار يوجب التحريم في النكاح، ويمنع الاستباحةَ به، والدليل عليه أنه لو قال لأمته: أنت عليّ كظهر أمي، لم تحرم، ولم يكن للظهار معنى، ولم تجب الكفارة، فإذا انتهى الأمر في الأثناء إلى ملك اليمين، فقد انقطع محل الظهار.
وهذا يجري في مسألتين: إحداهما - أنه إذا طلق زوجته الأمة ثلاثاًً، [بعدها] (2) جرى الحكم بأنها محرّمةٌ عليه حتى تَنْكِح زوجاً غيره، فلو اشتراها، فهل يستبيح وطأها قبل أن تنكِح زوجاً آخر؟.
فيه خلاف [قدمته] (3)؟ والأظهر أنه لا يستبيحها.
وألحق القاضي ما لو لاَعَن عن زوجته، وحرمت عليه، ثم اشتراها، قال: في
__________
(1) عبارة (ت 2): وإذا ظاهر ولم يطلق قيل مظاهر عائد أي أظهر فهماً ثم حققه.
(2) في النسختين: "بعد ما" والمثبت تصرّف من المحقق.
(3) غير مقروءة في الأصل.

(14/475)


استباحتها بملك اليمين الوجهان، فتحصلت ثلاث مسائل، والظاهر في جميعها استمرار التحريم، وذكرُ الخلاف في اللعان بعيدٌ مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتلاعنان لا يجتمعان أبداً" (1).
وهذا (2) تهويلٌ، والقياس طرد الخلاف، ولكن إن حكمنا بأن اللعان لا يجري في ملك اليمين، أو قلنا: إنه يجري ولا يوجب التحريم؛ لأنه مخصوص بضرورة نفي النسب، فالخلاف الذي ذكرناه مذكور، فأما إذا قلنا: اللعان يجري في ملك اليمين ويحرّم المملوك على الأبد، فيبعد (3) ذكر الخلاف، مع العلم بأن تحريم اللعان لا ينافي (4) ملك اليمين.
وهذا كله فيما يوجب تحريماً ولا يوجب محرميّة.
فأما ما يوجب التحريم والمحرمية، فيستوي فيه النكاح وملك اليمين، كالنسب والرضاع والصهر.
وكل ما ذكرناه فيه إذا ظاهر عن امرأته وعاد والتزم الكفارة، ثم اشتراها.
9501 - فأما إذا قال للزوجة الأمة: أنت عليّ كظهر أمي، ثم قال على الاتصال: اشتريتها، فهل نجعل هذا تحقيقاً للظهار، ناقضاً للعَوْد (5)؛ من جهة أن الملك إذا حصل، تضمن حصولَ الفراق، فإذا أعقب المظاهرُ الظهارَ بسببٍ من أسباب الفراق، لم يلتزم الكفارة إذا لم تُلتزم، فَتَحِلّ هذه بملك اليمين؟.
اختلف أصحابنا في المسألة: فذهب بعضهم إلى أن هذا يناقض العَوْدَ؛ من حيث إنه قاطع للنكاح، وقال آخرون: ليس ذلك مناقضاً للعَوْد؛ فإن المناقض للعَوْد هو الذي يحقق التحريمَ كالطلاق، والشراءُ وإن كان يرفع النكاح؛ فإنه سببُ استحلالٍ، فقد نقلها من سبب حلٍّ إلى سبب حل، ومن فراش إلى فراش، فإن لم نجعله
__________
(1) سيأتي تخريج هذا الحديث في موضعه من كتاب اللعان.
(2) وهذا تهويل: الإشارة إلى كلام القاضي الذي استبعد به الخلاف في اللعان.
(3) (ت 2): فيتبعه.
(4) (ت 2): لا يجري في ملك اليمين، فيما يوجب تحريماً، ولا يوجب محرمية.
(5) (ت 2): فهل نجعل هذا تحقيقاً للظهار، ومناقضاً للظهار، ومناقضاً للعود.

(14/476)


عائداً، فقد حقّق الظهار وانتهى، وتحِل هذه بملك اليمين.
وإن قلنا: لا يكون الشراء مناقضاً للعَوْدِ، فهو عَوْدٌ؛ فإنه ترك الطلاق مع القدرة عليه، ثم إذا جعلنا هذا عوداً، فيلتزم الكفارة، وفي استباحتها بملك اليمين الخلاف الذي ذكرته، وسنعيد فصل الشراء في فصل العوْد إذا خُضنا في بيانه، ثم نذكر عنده أن الاشتغال بأسباب الشراء قد ينزل منزلة الشراء.
9502 - قال الشيخ أبو علي لو ظاهر وعاد، ثم اشتراها وانفسخ النكاح، وأعتقها، ثم نكحها، لم يستحل وطأها في النكاح الثاني حتى يكفر وجهاً واحداً؟ فإن التردد الذي ذكره الأصحاب في الاستباحة بملك اليمين، فأما الاستباحةُ بالنكاح مع بقاءٍ كفارة الظهار، فلا سبيل إليه، وقد يختلج في نفس الفقيه تخريجُ هذا على عَوْد الحنث مصيراً إلى أنه بالظهار تَصَرَّفَ في النكاح الأول، وقد تَصَرَّم ذلك النكاح، فلا يبعد أن يتصرم ما فيه، وتبقى الكفارة في ذمته إلى أن يخرج عن عهدتها.
والذي يوضح هذا أن الطلاق على أثر الظهار أسقط أثرَ تحريم الظهار، وهذا (1) إن ظنه ظانٌّ، فلا أصل له في قول المشايخ، والذي رأيناه القطع بما ذكرناه، فلو ظاهر الرجل عن امرأته وعاد، ثم أبانها، ثم نكحها، لم يجامعها حتى يكفر؛ ولعل السبب فيه أن الظهار يتضمن تحريماً من غير أن يؤثر في الملك، فلا يقطعه زوال الملك.
وقد ذكرنا إجراء القولين في الإيلاء، والسبب فيه أن الإيلاء يتعلق عاقبته بالطلاق، وعوْدُ الحنث أصله الطلاق [وهو مشبّه به] (2).
ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، ثم أبانها ونكحها، فدخلت الدار، خرج ذلك على عَوْد الحِنْث، فإنه جرى يميناً كالإيلاء وتعليق الطلاق.
وينتظم من ذلك أن التعليق واليمين يجري فيهما أقوال العَوْد؛ لأن المقصود منهما مرتقب غير ناجز، والظهار إذا حَرَّم، فقد تنجز، ثم ارتفاعه معلّق شرعاً بالتكفير؛
__________
(1) إشارة إلى أن قطع الملك في النكاح بالطلاق يُسقط أثر العَوْد كما يسقط أثر تحريم الظهار.
(2) في الأصل: وما تشبه به. والمثبت من (ت 2).

(14/477)


فتجدّد النكاح وتعدّده لا يؤثر في رفع ما وقع، وهذا متجه، وهو يُقَوِّي تحريمَها بملك اليمين أيضاًً.
هذا منتهى النقل والتوجيه والتنبيه، والله المستعان.
9503 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه ظهار السكران وقد استقصيت الكلام فيه في كتاب الطلاق، والذي عثرت عليه هاهنا أنا إذا قلنا: تصرّفُ السكران نافذٌ، فهذا مطّرد وهو ينطق ويخاطَب ويُجيب، فأما إذا كان في السكر الطافح، فبدرت منه كلمةٌ من حَلٍّ، أو عقدٍ، أو تحريمٍ، أو تحليل، فالذي قدمتُه أن ذلك لاغٍ، وليس يسمى كلاماً، وهذا صحيح.
وحكى شيخي أن ذلك نافذٌ؛ تغليظاً وتشديداً وإن بعد هذا عند إنسان، قيل له: السكران الذي ينطق ويجيب على صورة المجنون، ثم نفذت ألفاظه، فليكن السكر الطافح كذلك.
وهذا يعارضه أن ما صدر منه لا يسمى كلاماً، فليتصوّر منه نطق، ثم يقع النظر بعده في تصحيحه ورده، ويجوز أن يجاب عنه، فيقال: من كلام الناس: أن فلاناً كان يتكلم نائماً، وهذا تلبيس؛ فإن ذلك يذكر على مذهب التجوّزِ والتشبيهِ، واللفظُ الحق فيه أنه هذى وما تكلم.
***

(14/478)


باب ما يكون ظهاراً وما لا يكون ظهاراً
9504 - الكلمة الشائعةُ في الجاهلية والإسلام في الظهار أن يقول: أنت علي كظهر أمي، ثم لا مناقشة في الصلات (1) إذا انتظم الكلام، فلو قال: أنت عليّ كظهر أمي، أو أنت معي كظهر أمي، أو مني كظهر أمي، فهذه الصلات كلها [شائعة] (2) لا تتغير بها مراتب الكلام.
ولو لم تستعمل صلة، فقال: أنت كظهر أمي، فذلك صريح، هكذا ذكره القاضي، وإن كان يحتمل أن يريد أنها كظهر أمه في حق غيره، ولكن لا نظر إلى هذا، كما لو قال لامرأته: أنت طالق، ثم قال: أردت بذلك الإخبار عن كونها طالقاً من جهة فلان.
9505 - ولو شبّه امرأته بعضوٍ آخر من أعضاء الأم سوى الظهر، فقال أنت عليّ كـ (يَدِ) أمي، أو كـ (رِجل) أمي، أو كـ (بطن) أمي، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجرى في غير الظهر من الأعضاء التي لا يشعر التشبيهُ بها بالإكرام قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الظهار يثبت.
والثاني - وهو المنصوص عليه في القديم أن الظهار لا يثبت.
ومنشأ القولين أن الشافعي رحمه الله في الجديد قد يتبع المعنى؛ فلا يرى (3) اتباع صيغة اللفظ المعهود في الجاهلية [حقّاً] (4)، وكان في القديم لا يرى إلا الاتباعَ ومعهودَ الجاهلية، وهذا بعينه مأخذ القولين المذكورين في الإيلاء، فالجديد مبناه
__________
(1) (ت 2): لا مناقضة فى الصلات.
(2) في الأصل: سائغة.
(3) (ت 2): ولا يرى اتباع صيغة اللفظ المعهود في الجاهلية، وهذا بعينه مأخذ القولين.
(4) في الأصل: حقها.

(14/479)


على أن يلتزم بالوطء بعد أربعة أشهر أمراً، ولا يختص الإيلاء على ذلك باليمين بالله، كما سبق تفصيله، وفي القديم رأى اتّباع معهود الجاهلية، وهذا يوجب ألا يثبت الإيلاء إلا بالحلف بالله تعالى، أو بصفةٍ من صفاته، وهؤلاء من أصحابنا أجرَوْا القولين فيه إذا قال: أنت عليّ كفرج أمي، ولم يستثنوا من الأجزاء إلا ما في ذكره معنى الكرامة على ما سنصفه.
وقال شيخنا أبو علي رحمه الله: إذا قال: أنت عليّ كفرج أميّ، فهذا ظهار قولاً واحداً، فإنه تصريح بالمقصود، والتشبيه بعضو آخر [تسبُّبٌ لهذا] (1)، ونحن وإن كنا نقتصر على موارد النصوص في بعض المواضع، فلا ننتهي إلى منع الإلحاق بالكلية، بل نُلحق بالمنصوص عليه ما في معناه.
هذا بيان القول في تشبيه الزوجة بجزء من أجزاء الأم غيرِ الظهر، إذا كان الجزء غيرَ مشعر بالكرامة.
9505/م- ولو قال: أنت علي كعين أمي أو كروح أمي، فإن أراد ظهاراً، كان ظهاراً على الجديد، وإن أراد الكرامة، فليس بظهارٍ؛ فإن لفظه محتمل لذلك، وإن أطلق لفظه، اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من جعله كرامة، وقد حُكي ذلك عن القفال.
ومنهم من جعل المطلق محمولاً على الظهار، وهو اختيار القاضي؛ فإن اسم العضو صريح في [الحرمة] (2)، والكرامةُ تعرض ضمناً إذا قُصدت، فإذا كان اللفظ مطلقاً، وجب التمسك بحمل اللفظ على العضو نفسه.
وهذا الذي ذكرناه تفريعٌ على أن التشبيه بالبطن وما في معناه ظهارٌ، فإنا إذا كنا لا نجعل التشبيه بالبطن ظهاراً، فالتشبيه بالعين أولى ألا يكونَ ظهاراً.
ولو قال: أنت عليّ كرأس أمي، اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: الرأس من أعضاء الكرامة كالعين، وقد سبق التفصيل فيه.
__________
(1) في الأصل: تشبيب بهذا، والمثبت من (ت 2).
(2) في النسختين: حرمة. والمثبت تصرف من المحقق.

(14/480)


ومنهم من قال: الرأس كالبطن، وقد تقدم الكلام فيه أيضاًً، والمسألة محتملة.
9506 - ولو قال لامرأته أنت كأمي، فإن نوى أنك بمحلّ أمي كرامةً وتعظيماً، فما قاله محتمل، ولا يصح الظهار، ولو أراد الظهار، فهو ظهار؛ تفريعاً على الجديد.
ولو أطلق، فعلى اختلاف الجواب.
قال صاحب التلخيص (1): هذا الأصلُ على مناقضة الأصول؛ فإن الطلاق إذا أضيف إلى الجملة كان صريحاًً، وإذا أضيف إلى البعض، حُمل على الصريح، بتسريةٍ أو تكلّفِ معنى آخر، والظهار إذا أضيف إلى الظهر وهو جزء من الجملة، كان صريحاًً؛ فإنه معهود الجاهلية، وإذا أضيف إلى الجملة، كان متردداً، كما نبهنا عليه.
ثم ذكر صاحب التلخيص ألفاظاً تضاف إلى الأبعاض، ولا خفاء بمعظم ما ذكره، ونحن نذكر ما نرى فيه فائدة، قال: النكاحُ والرجعةُ إذا أضيفا إلى البعض، لم يصح واحد منهما، والضابط فيه أن ما لا يُعلّق لا يضاف إلى البعض، ويخرج منه أن الطلاق والعَتاق يعلّقان، فلا جرم يضافان إلى الأجزاء، والظهارُ يقبل التعليق أيضاًً، وهو في وضعه مضاف إلى عضو.
9507 - ولو قال: والله لا أجامع نصفك، فإنّا نقدم عليه [أصلاً] (2)، فنقول: لو أضاف اليمين إلى عضوٍ معيّن، فهل يكون مولياً؟.
إن أضافه إلى الفرج، كان مولياً فإنه صرّح بالمقصود (3)، ونصَّ، وتعرّض للغرض، وخصّه بالذكر، فلو قال: والله لا أجامع فرجك، والله لا أولج ذكري في فرجك، فهذا إيلاء.
ولو قال: والله لا أجامع بعضك قال صاحب التلخيص: لا يكون مولياً، قال الشيخ: وعندي أنه لو قال والله لا أجامع بعضك، فنوى بذلك البعض فرجها،
__________
(1) ر. التلخيص لابن القاص: 540.
(2) زيادة من المحقق.
(3) (ت 2): فهل يكون موالياً؟ فإنه صرح المقصود ...

(14/481)


فيكون (1) مولياً؛ فإن اسم البعض صالح للفرج، فأما إذا ذكر جزءاً شائعاً؛ فقال: والله لا أجامع نصفك، قال الشيخ أبو علي: لا يكون مولياً إذا قصد الإشاعة، فإن اليمين (2) ليست مفهومةً على الشيوع في النصف.
هذا ما ذكره الشيخ، وفيه فضل نظر، فنقول: إن أراد بالنصف أسافلها، فهو كما لو ذكر البعضَ وأراد به الفرجَ، وإن زعم أنه أراد بالنصف النصفَ الشائع حقاً، فالذي ذكره الشيخ: أن هذا ليس بإيلاء، أما أن نجعله صريحاًً، فلما ذكره وجهٌ (3)؛ فإن لفظ المجامعة مستعار في الأصل، وُضِع كنايةً، وإلا فهو من المضامّة التي تناقض المفارقة، ثم استفاضت وشاعت حتى التحقت بالصرائح، وشرط كون هذا اللفظ صريحاًً أن يستعمل على المعهود والمعتاد، فإن لم يستعمل كذلك، لم يكن مشعراً بالمعنى وضعاً ولا عرفاً 4)، وهذا تعليل [قولنا] (5): إن هذا ليس بصريح.
وإن أراد أنه لو نوى بالجماع المقصودَ المحقق (6) وأضافه إلى النصف الشائع، فلا يكون مولياً، فهذا قد يتطرق إليه وجه في الاحتمال؛ فإنه إذا نوى بقلبه المقصودَ، صار ذلك المعنى كالطلاق، ثم الطلاقُ لا يصح اعتقاد وقوفه على النصف الشائع، غيرَ أنه يتعداه ويثبت في الجميع، فلو قيل بهذا في الإيلاء، لم يكن بعيداً.
ويجوز أن يقال: الجماع معنى معلوم لا [يعقل] (7) إضافته إلى الجزء (8) الشائع،
__________
(1) (ت 2): فنوى بذلك البعض فرجها أثم فيكون مولياً.
(2) (ت 2): فإن المسألة ليست مفهومة.
(3) في العبارة شيء من الغموض، ولعل المعنى: أنا إن جعلنا لفظ الجماع صريحاً، فيكون لما ذكره الشيخ وجهٌ، فإن لفظ الجماع ليس صريحاًً وضعاً، ولكنه صار صريحاًً بالشيوع والاستفاضة، وشرط كونه صريحاً أن يستعمل على المعهود والمعتاد، كأن يقول والله لا أجامعك، أما إذا استعمل على نحوٍ غير ذلك، كأن يقول: والله لا أجامع نصفك، فهنا يتوجه قول الشيخ أبي علي: أنه ليس بإيلاء. والله أعلم.
(4) (ت 2): صرفاً وعرفاً.
(5) زيادة من (ت 2).
(6) (ت 2): التحق.
(7) في الأصل: يغفل. والمثبت من (ت 2).
(8) (ت 2): إلى الخمر الشائع.

(14/482)


والطلاق [يعقل] (1) إضافته إلى الجزء (2) الشائع، كما يعقل إضافة العتق إليه، وكما يصح إضافة البيع والرهن إليه.
ثم قولنا: لا يقف على النصف حكمٌ، ومقصود الجماع فعل محسوس وإضافته إلى الجزء الشائع غير معقول.
هذا منتهى المراد في ذلك.
9508 - [و] (3) مما ذكره صاحب التلخيص أنه لو قال: زنا فرجُك أو دبرك، فهو (4) صريح في القذف، وهو بمثابة قوله: زنيت.
ولو قال: زنى بدنك، فهل يكون صريحاًً في القذف، فعلى وجهين ذكرهما الشيخ، ووجه الاحتمال فيه بيّن. ولو قال الرجل: زنى بدني، لم يكن ذلك صريحاً في الإقرار بالزنا، والفرق بين الإقرار وبين القذف عسر، فالوجه طرد الوجهين فيهما.
9509 - ومما ذكره الأئمة أنه لو شبه امرأته بغير أُمِّه من محارمه، مثل أن يشبهها بجدته، أو أخته من النسب، أو الرضاع، أو من تحرم عليه بالصهر، فكيف السبيل في هذه الألفاظ؟
المنصوص عليه في القديم أنه لا يكون مظاهراً إذا تعدى التشبيه بالأم، وهذا يُخرَّج على اتباعِ معهود الجاهلية، كما تقدم، واستثنى معظم الأئمة الجدةَ، وجعلوها كالأم، وحكموا بأنه يكون مظاهراً في الجديد والقديم؛ فإن الجدة تسمّى أماً.
ومن أئمتنا من أجرى في الجدة القولين، فأما من عَدَا الجدات من المحرمات بالنسب، فالقولان (5) جاريان في التشبيه بهن.
__________
(1) في الأصل: يغفل. والمثبت من (ت 2).
(2) (ت 2): إلى الخمر الشائع.
(3) في الأصل: مما.
(4) (ت 2): كان ذلك صريحاً في القذف بمثابة قوله.
(5) (ت 2): فالقولان جاريان في التشبيه بهن، ففيه ثلاثة أقوال.

(14/483)


والمحرمات من الرضاع إذا جرى تشبيهٌ بهن، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يكون مظاهراً؛ لأنه على خلاف معهود الجاهلية.
والقول الثاني - أنه يكون مظاهراً إذا كانت المشبه بها مَحْرَماً حالة التشبيه.
والقول الثالث - أنها إن لم يعهدها الرجل إلا محرّمة، فالتشبيه بها ظهار، فإن كانت مستحلّة في حياته، ثم طرأ التحريم برضاع طارىء، فالتشبيه بها لا يكون ظهاراً.
وأما التشبيه بالمحرمات بالصهر، ففي أصله خلاف: من أئمتنا من قال: لا يكون المشبّه بالمحرمات صهراً مظاهراً؛ فإن الرضاع إن تبع (1)؛ من حيث إنه ينبت اللحم ويُنشِز العظمَ، فالصهر لا يلتحق [به] (2).
ويُبعد من أصحابنا من قال: المحرمات بالصهر في التشبيه بهن بمثابة المحرمات بالرضاع، ثم تجري الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في المحرمات بالرضاع.
9510 - ولو قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أبي (3)، فقد وجدت الطرقَ متفقة على أن هذا لا يكون ظهاراً؛ فإنه اجتمع فيه أنه ليس معهودَ الجاهلية، وليس من شخص يتوقع فيه استحلال، حتى إذا لم يكن الحل وكانت الحرمة بغرض التشبيه.
ولا خلاف أن تشبيه المرأة المحرمة تحريماً مؤقتاً لا يكون ظهاراً، مثل أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر فلانة، وكان طلقها ثلاثاً، وكذلك أجمعوا على أن التشبيه بالتي لاعن عنها لا يكون ظهاراً، وإن كانت الملاعَنةُ محرَّمةً على الأبد، فلا يقع الاكتفاء بالتحريم، حتى ينضم إليه المحرميّة.
9511 - ومأخذ الكلام في هذه المسائل أن الشافعي في القديم اتبع النصَّ [ومعقودَ] (4) الجاهلية، ولم ير الحيدَ (5) عنه بطريق المعنى، ورأى في الجديد اتباعَ
__________
(1) (ت 2): تبقى.
(2) زيادة من المحقق.
(3) (ت 2): أمي.
(4) في النسختين: فمعهود. والمثبت من المحقق.
(5) (ت 2): الخبر.

(14/484)


المعنى، ولم ير الإبعاد بالكلِّيّة، وطَرْدَ التحريمِ، بل شبّه وقرّب، ولم ير التمسك بالقياس المحض من كل وجه، فإن هذا تصرّف منه في الأصل، والأقيسة لا تجول في الأصول على اتساعٍ، ولا بد وأن تكون مضبوطة بنوعٍ من الاتّباع.
فإذا ترقى الناظر إلى الفروع فيتسع عند ذلك مجاله في القياس.
فصل
قال: "ويلزم الحنث بالظهار، كما يلزم بالطلاق ... إلى آخره" (1).
9512 - الظهار قابلٌ التعليق بالصفات والأخطار، فإذا قال: إن دخلت الدار، فأنت على كظهر أمي، تعلق الظهار، كما يتعلق الطلاق. والظهار في تفريع المسائل مردّد بين الإيلاء وبين الطلاق، كما سيأتي بيان ذلك، ثم الطلاق يقبل التعليقَ، والإيلاء يقبل التعليقَ أيضاًً، والظهار [لا يجاذبه] (2) أصل سوى ما ذكرناه.
ولو قال: إذا نكحتك، فأنت عليّ كظهر أمي، خاطب بذلك أجنبية أو بائنة، فإذا نكحها لم ينعقد الظهار، كما لا ينعقد الإيلاءُ والطلاقُ قبل النكاح.
هذا ما ذكره الأئمة وأطلقوه.
وحكى صاحب التقريب قولاً مثلَ مذهب أبي حنيفة في الطلاق، وأعاد حكايته، في الإيلاء، وكرره في الظهار، وعزاه إلى القديم، وأخذ يُجريه في الكتاب، ويفرع عليه، وهو غريب، ولولا اعتناؤه بترديده، لما حكيته.
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق كظهر أمي، يريد الظهار، فهو طلاق ... إلى آخره" (3).
9513 - إذا قال لامرأته: أنت طالق كظهر أمي، فالذي يجب القطع به أن كلامه
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 120.
(2) في الأصل: لا يحاذيه.
(3) ر. المختصر: 4/ 121.

(14/485)


يشتمل على صريح الطلاق، إذ قال: أنت طالق، فلا مدفع للطلاق، ولا مطمع في نفيه.
فإذا تبيّن هذا، بنينا عليه ما نقصد، فنقول: إن أطلق هذا اللفظَ، فهو طلاقٌ لا غير، فإن قيل: قد أتى بصريح لفظ الظهار أيضاًً، فإذا ضممنا قولَه آخراً إلى الخطاب المذكور أولاً، لكان صريحاًً؛ إذ في كلامه: "أنت كظهر أمي".
قلنا: اتصل قوله: "طالق" بقوله: "أنتِ"، فاتسق الطلاق لفظاً ونظماً، وتخلل ذلك بين الخطاب وبين آخر الكلام، فخرج بالتقطع عن كونه صريحاً، واتجه فيه إيقاعُ الطلاق، وجَعْلُ لفظ الظهار تأكيدَ التحريم، فلا يقع عند الإطلاق (1) إذاً إلا الطلاق.
وإن نوى الظهار بقوله كظهر أمي، نظر: فإن بانت بالطلاق، فهذا ظهار بعد البينونة، والظهار بعد البينونة مردود.
وإن كان الطلاق رجعياً، فهذا ظهار عن رجعية، وحكمه ما قدمناه من الصحة، وتوقُّفِ العَوْد.
9514 - وحاصل الكلام أن ما ذكر من لفظ الظهار كناية، وما ذكر من لفظ الطلاق صريح، ثم الطلاق سابق لفظاً ووقوعاً، والظهار بعده، وهذه الجملة تتضمن التفصيل الذي ذكرناه لا محالة.
ثم إذا كان الطلاق رجعياً، فقد ذكرنا أن الظهار يصح، ولا يثبت العود، وكذلك لو ظاهر عن رجعية ابتداءً، ثم إذا ارتجعها، [فنفسُ] (2) الرجعة هل تكون عوداً؟ فيه وجهان ذكرناهما: أحدهما - أنه تكون عوداً؛ لأن [إمساك] (3) المرأة بعد الظهار لحظةً من حيث يناقض التحريمَ جُعل عَوْداً، فالرجعة ابتداءُ استحلال، فهو أولى بأن يكون عوْداً.
__________
(1) (ت 2): الطلاق.
(2) في الأصل: بنفس.
(3) في الأصل: الإمساك.

(14/486)


والوجه الثاني - أن الرجعة لا تكون عَوْداً؛ فإن الحلّ يحصل بها، والمناقضة إنما تتحقق بالإمساك في زمن الحل (1).
9515 - ولو قال لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، ثم طلقها على الاتصال (2) طلاقاً مبيناً، ثم جدد النكاح، فقد قال الشيخ: هل نجعل النكاح عَوْداً في الظهار الذي مضى في النكاح الأول؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين المذكورين في الرجعة، والنكاحُ أولى بأن لا يكون عَوْداً، والسبب فيه أن الطلاق إذا كان رجعياً، فلا ينافي الظهار؛ فلا يقطعه، والظهار على الابتداء يوجَّه على الرجعيّة، فيصحّ، فإذا كان الطلاق المتصل بالظهار مبيناً، فقد انقطع الظهار بانقطاع النكاح، وهذا على قول عَود الحنث، وفيه كلام عريض (3) سيأتي في فصلٍ مفردٍ بعد هذا، إن شاء الله.
فصل
قال: "ولو قال: أنت عليّ حرام كظهر أمي يريد الطلاقَ، فهو ظهار ... إلى آخره" (4).
9516 - هذه المسألة فيها التباسٌ، ولم يعتن بنهاية الكشف فيها أحدٌ اعتناءَ الشيخ أبي علي، وذَكَر في مقدمة المسألة فوائدَ تتعلق بلفظ التحريم، ونحن نستاق كلامه على وجهه، ونذكر ما يتعلق به من مزيد فوائد عندنا.
قال رضي الله عنه: إذا قال الرجل: أنت عليّ حرام، ونوى بذلك تحريمَها في عينها، فيلزمه كفارةُ اليمين، ثم قال: والمذهب أن الكفارة تلزم، وإن لم يطأها،
__________
(1) في هامش الأصل أمام هذا الكلام -بدون علامة لحق- ما نصه: "أمكن ما بعدها يدل على أنه إذا أمسكها بعد الارتجاع يكون عائداً، وإنما الخلاف في أن العود يحصل بنفس الرجعة أم بالإمساك بعدها" ا. هـ بنصه. وواضح أنه لا يفيد معنى جديداً، وأن العبارة مستقيمة بدونه، فلعله تعليقٌ من الناسخ أو من أحد المطالعين بخط صادف أنه يشبه خط الناسخ. والله أعلم.
(2) أي طلق متصلاً بالظهار، فلم يمسكها الوقت الذي يجعله عائداً.
(3) (ت 2): عويصٌ.
(4) ر. المختصر: 4/ 121.

(14/487)


[فمجرد] (1) لفظ التحريم يوجب الكفارة، قال: وقد غلط بعض أصحابنا، فقال: لا يلزمه الكفارةُ من غير جماع وإن لم يكن (2) قد نوى اليمين والحلف، وقد ذكر هذا الوجهَ صاحبُ التقريب، والعراقيون، وزيّفوه.
9517 - ولو قصد بالتحريم إيلاءً، فهل يصير حالفاً؟ المذهب الذي قطع به معظم المحققين أنه لا يكون إيلاء؛ فإن عماد اليمين بالله تعالى ذكرُ اسم الله سبحانه، والكنايات لا تشعر بهذا المقصود.
وذكر شيخي رضي الله عنه: "أن لفظ التحريم يصير بالنّيّة إيلاء، حتى كأنه قال: والله لا أصبتك"، ولا نعرف خلافاً أنه لو قال لإحدى امرأتيه: والله لا أصبتك، ثم قال لصاحبتها: أشركتك معها، ونوى عقد اليمين عليها، فلا ينعقد اليمين. ومن ذكر الوجه الذي قدمناه في التحريم، قال في التحريم مشابهةُ اليمين؛ من حيث يتعلق به كفارة اليمين (3)، قال الله تعالى في أول سورة التحريم: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، فاحتمل الانصراف إلى اليمين بما له من المشابهة مع اليمين في موجبها، وهذا لا يتحقق في لفظ الإشراك وما في معناه.
ثم لما ذكر الشيخ أبو علي الوجه الضعيف في وقوف وجوب الكفارة على الوطء وإن لم يكن التحريم يميناً، بنى عليه أمراً؛ فقال: إذا فرعنا على هذا الوجه، ومضت أربعة أشهر، فهل يكون الزوج مولياً، فإنه يلتزم بالوقاع بعد أربعة أشهر أمراً، وهذا عماد الإيلاء؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يكون مولياً لما ذكرناه، كما لو قال: إن وطئتك، فعبدي حر، والوجه الثاني - أنه لا يكون مولياً؛ لبعد لفظه عن صيغ الأيْمان، وقد ذكرنا أنا وإن كنا نتصرّف على المعنى، فلا نطمع في طرده والكلامُ (4) في الأصل، وكأنا على الجديد قد نشترط أن يلتزم بالوطء بعد أربعة أشهر
__________
(1) في النسختين: بمجرد. والمثبت من المحقق.
(2) المعنى أنه لو وطىء بعد التحريم، تجب عليه كفارة يمين، وإن لم يكن هذا يميناً، لا بالصيغة، ولا بنية قائله.
(3) ومقتضى هذا أن يكون التحريم إيلاء، وعليه لا تجب الكفارة إلا بالوطء.
(4) والكلامُ في الأصل. الواو هنا واو الحال. وهو يشير إلى ما مرّ آنفاً من أن اتباعَ المعنى في الأصول لا مطمع في طرده.

(14/488)


أمراً إذا كان حالفاً، وكان الالتزام بطريق الحلف، حتى لا يبعد عن الأَلِيّة، والإيلاء.
وشبب الشيخ بمذهب (1) مالك في الظهار، وقال: إذا ظاهر عن امرأته، ومضت أربعة أشهر، فلا يمتنع أن نجعله مولياً، ونطالبه مطالبة المولين على قولنا: إن العَوْد من المظاهر هو الجماع (2)، فيتسق على هذا القول التزامُ الكفارة بالوطء.
وهذا بعيد جداً، ولا يسوغ عدّه من المذهب، وما ذكره في التحريم تفريع على وجه مزيف غير معتد به، ثم لو قدرناه ثابتاً، فليس (3) التحريم كالظهار؛ فإن التحريم وإن وقعت الكفارة فيه على الوقاع، فهو لا يقتضي إيقاع تحريم، فينتظم المَهَلُ وضربُ الأجل، فإن مقتضاه التخيّر بين الوطء والترك، وهذا إنما يتحقق في التي ليست محرّمة، ولهذا حكمنا بأن الأسباب المحرَّمة فيها تمنع من انقضاء المدة واحتسابها، والظهار يتضمن التحريم، فلا يطابق الإمهال ويبعد عن وضع الإيلاء، فإن كنا نقول ونحن نفرع على أن العود هو الوطء: إن الوطء لا يحرُم بنفس الظهار، فيتجه حينئذ ما أشار إليه. وكل ذلك بُعدٌ عن مقتضى الأصول وتشويشٌ لها، فهذه فوائد أجراها الشيخ في مقدمة المسألة.
ونحن نخوض بعدها فنقول:
9518 - إذا قال الرجل لامرأته: "أنت عليّ حرام"، وزعم أنه نوى بذلك الظهار، قبل منه.
ولو قال: أردت الطلاق، قبل منه.
ولو زعم أنه نواهما معاً جمعاً من غير فرض تقدم وتأخر في النية، فقد أجمع الأصحاب على أنهما جميعاً لا يحصلان جمعاً، قال ابن الحداد: قد حصل (4) أحد المنويّين، فنقول للزوج: اختر الآن أيَّهما شئت، فإن اختار الظهار، كان ظهاراً.
__________
(1) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 765 مسألة رقم: 1407، 772 مسألة رقم: 1429.
(2) مذهب مالك أن العود هو العزم على الوطء (السابق نفسه).
(3) (ت 2): فهل التحريم كالظهار.
(4) (ت 2): فإن ابن الحداد قد جعل.

(14/489)


وإن اختار الطلاق، كان طلاقاً. [فمن أصحابنا من يوافقه] (1) على ما يقول. ومنهم من يزعم أن الطلاق يتعين ويندفع الظهار؛ فإن الطلاق أقوى وأنفذ، وأثره في الملك، فكان أولى في التنفيذ.
هذا إذا ذكر لفظ التحريم وزعم أنه نوى الطلاق والظهار معاً.
فأما إذا قال: نويت الطلاق والظهار جميعاًً، ولكن نويت أحدهما قبل الثاني على ترتب، وأتيت بالنيّتين (2) على مساوقة اللفظ، فهذا إخبار منه عن وقوع النيتين في وقتين لطيفين، قال ابن الحداد: إن نوى الظهار أولاً، ثم الطلاق بعده، حصلا جميعاًً، وهذا رجل ظاهر ولم يعد، فإنه أعقب الظهار بالطلاق، فكان كما لو قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي أنت طالق.
وإن نوى الطلاق أوّلاً، ثم الظهار، وقع الطلاق، ثم نُظر: فإن كان الطلاق بائناً؛ فإنه واقع، ولا معنى للظهار بعده، وإن كان الطلاق رجعياً، وقع، وكأنه ظاهر عن رجعية.
قال الشيخ أبو علي هذا الذي قاله غلط عندي، ولا سبيل إلى تحصيل الأمرين جميعاًً؛ فإن اللفظ واحد، وإذا اتحد اللفظُ استحال تعلّق الحكمين به، ولا أثر للتقدم والتأخر، والحكم في هذه الصورة كالحكم فيه إذا نواهما معاً، ثم فيه وجهان تقدم ذكرها.
9519 - وفي هذا مزيد نظر يستدعي [تقديم] (3) وجهٍ حكاه العراقيون. قالوا: إذا ذكر الرجل كناية من كنايات الطلاق ونوى الطلاق، نظر: فإن انبسطت النية على اللفظ على قدر [الطلاق] (4)، وقع الطلاق. وإن قارنت النية بعض اللفظ وتمّت وبعضُ اللفظ باقٍ، وابتداء النية بعد ما مضى صَدْرُ اللفظ، ثم انطبق نجازها على نجاز اللفظ، ففي وقوع الطلاق خلاف حكَوْه، فإذا قلنا: لا يقع، فقياس هذا يقتضي إذا
__________
(1) في الأصل: فمن أصحابنا من قال من يوافقه على ما يقول. والمثبت عبارة (ت 2).
(2) (ت 2): وأثبت بالنفس.
(3) في الأصل: تقويم. والمثبت من (ت 2).
(4) زيادة من المحقق.

(14/490)


ترتّبت النيّتان في وقتين مقترنين (1) باللفظ ألاّ يقع الطلاق ولا الظهار؛ فإن واحدة من النيتين ما انبسطت على جميع اللفظ.
9520 - فنعود بعد ذلك إلى مسألة الكتاب، ونبيّن ما يجري فيها من الأقسام، فإذا قال لامرأته: أنت عليّ حرام كظهر أمّي، فالمسألة تنقسم أقساماً، ونحن نأتي عليها، إن شاء الله تعالى، ونذكر في كل قسم ما يليق به.
فإن قال: أردت بقولي: "أنت عليّ حرام طلاقاً، ولم أنوِ بباقي الكلام شيئاً"، فالمذهب أن الطلاق يقع، ولا يحصل الظهار، ويكون كما لو قال؛ أنت طالق كظهر أمي، فإن لفظ التحريم مع نية الطلاق ينزله منزلة صريح لفظ الطلاق.
وقد ذكر أصحابنا في المسألة قولاً آخر: أن الظهار يحصل دون الطلاق؛ فإنه صرّح بالظهار، وكنّى عن غيره، والصريح الملفوظ أقوى، وبالنفوذ أولى من المكنّى.
والقسم الثاني - أن يقول: نويت بقولي: "أنت عليّ حرام ظهاراً، ولم أنو غيره"، فيصير مظاهراً بقوله: أنت علي حرام ويكون قوله كظهر أمي تأكيداً لما مضى.
9521 - والقسم الثالث - أن يقول: أردت الطلاق والظهار جميعاًً، وهذا ينقسم: فإن قال: أردتهما جميعاًً بقولي: "أنت عليّ حرام، وأتيت بالنية مع هذا اللفظ دون ما بعده"، قال الشيخ: ففي هذه المسألة ثلاثة أوجه - أحدها- أنه يقال له: اختر، فلا سبيل إلى تحصيلهما جميعاًً، ولا بد من أحدهما.
والوجه الثاني - أن الطلاق ينفذ دون غيره، وقد وجهنا هذا الوجه فيما تقدم.
والوجه الثالث - أن النافذَ الظهارُ في هذه الصورة؛ فإنه أقوى من الطلاق إذ في الكلام بوحٌ (2) يذكره تصريحاًً فتغليب ما فيه لفظٌ صريح في معناه أولى.
* ولو قال: أردت بقولي: أنت عليّ حرام طلاقاً، وبقولي كظهر أمي ظهاراً، أما
__________
(1) (ت 2): مفترقين.
(2) (ت 2): ثم يذكره تصريحاًً.

(14/491)


الطلاق، فإنه يقع على الصحيح، وهو الذي عليه نفرّع في هذه المسألة، ثم إن كان الطلاق بائناً، فلا معنى للظهار بعده، وإن كان رجعياً، فقد ظاهر عن رجعية، فيثبت الظهار، ثم لا يكون عائداً حتى يرتجعها.
قال الشيخ: من أصحابنا من قال في هذه الصورة: إنه ينفذ الطلاق، [ولا يصح] (1) الظهار أصلاً؛ لأنه قد استغرق قولَه: "أنت عليّ حرام" بالطلاق، فبقي قوله: "كظهر أمي"، وهذا كلام غير مستقل بنفسه، فلا يصلح لكونه كناية، وليس صريحاً أيضاً لنقصانه.
وهذا مردود مزيف؛ فإن إشعاره بالظهار لا ينكر، والكلام منتظم على ما ذكرناه.
* ولو قال: أردت بقولي: "أنت علي حرام" ظهاراً، وبقولي: "كظهر أمي" طلاقاً"، حصل الظهار، ولم ينفذ الطلاق. هكذا قال الشيخ، وعلل بأن قوله كظهر أمي صريح في موضوعه وبابه.
ولو قال قائل يقع الطلاق؛ من حيث إن قوله: كظهر أمي ليس مستقلاً بنفسه، لم ينفذ، وإلى هذا أشار شيخي، والاحتمال فيه ظاهر.
* ولو قال: "أردت بقولي: أنت علي حرام تحريمَ عينها، ولم أنو غيره" فإن قلنا: التحريم صريح في ذلك، كما قدمنا ذكره في الطلاق، فيثبت ما قاله لا شك فيه، ويلزمه كفارة اليمين على التفصيل المقدم، ولا يثبت الظهار أصلاً، ويكون ذلك في حكم التحريم بمثابة ما لو قال: "أنت طالق كظهر أمي"، فيقع الطلاق دون الظهار.
وإن قلنا: لفظ التحريم كناية في تحريم العين (2) وإيجاب الكفارة، كما أنه كناية في الطلاق، فإذا قال: نويت به التحريم الملزم للكفارة، ولم أنو غيره، فالمذهب أن التحريم يحصل دون الظهار.
__________
(1) في الأصل: فلا يصح.
(2) (ت 2): المعنى بالكفارة.

(14/492)


وفي المسألة القول البعيد أنه يحصل الظهار دون التحريم، وتكون نية التحريم في مقتضاها كنية الطلاق، ثم لو نوى به الطلاق، ففي المسألة قول بعيد أنه يحصل الطلاق، ويحصل الظهار، فكذلك إذا نوى تحريم العين، وجعلناه كناية فيه، فيخرج فيه قول آخر أنه لا يحصل التحريم ويحصل الظهار.
9522 - ومن بقية هذه المسألة أنه لو أطلق التحريم، وقال: أنت علي كظهر أمي، ولم يَنْوِ شيئاً، فإن قلنا: التحريم صريح في تحريم العين، فتلزم كفارة اليمين، وإن قلنا: إن التحريم كناية في تحريم العين، ولم ينو شيئاً، قال الشيخ: فينبغي أن يصير مظاهراً، ويلغو قوله حرام، فيبقى قوله: أنت علي كظهر أمي، وهذا حسن فقيه.
ثم قالوا لو ذكر اللفظَ على الصيغة التي ذكرناها، ثم قال: أردت به ظهاراً لا بل طلاقاً، فقد قال الأصحاب يحصلان جميعاًً، فإنه أقرّ بهما.
قال الشيخ: هذا محتمل (1) عندي، فإنه يحتمل أن يجعل كأنه نواهما معاً بقوله: أنت علي حرام، وقد قدمنا في ذلك تفصيلاً.
فهذا نهاية البسط على أبلغ (2) وجهٍ في البيان.
فصل
قال: "ولو قال لأخرى: أشركتك معها ... إلى آخره" (3).
9523 - إذا ظاهر عن واحدة، ثم قال لأخرى: أشركتك معها، أو أنت شريكتها، أو أنت كهي، فإن لم ينو الظهار، فليس بظهار، وإن نوى الظهار، فقولان.
وضبط المذهب يظهر بذكر مرتبتين متعارضتين، وإيقاع الظهار بينهما. فإذا قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق، ثم قال لأخرى: أنت شريكتها، ونوى تطليقها، وقع الطلاق.
__________
(1) (ت 2): هذا محتمل أن يجعل كأنه نواهما.
(2) (ت 2): أجمع.
(3) ر. المختصر: 4/ 121.

(14/493)


ولو قال لإحدى امرأتيه: والله لا أجامعك، ثم قال لأخرى أنت شريكتها، ونوى الإيلاء عنها، فلا يحصل الإيلاء بما ذكرناه من أن هذا إحالة اليمين، وإزالة صيغتها بالكلية.
أما الظهار، فإنه بين الطلاق والإيلاء.
وقد ذكر الأئمة قولين في أنه هل يُلحَق بالطلاق في مشابهه وأحكامه أم يلحق بالإيلاء؟ وسيدور (1) القولان، ويتشعب عنهما مسائلُ [جمة] (2) في الكتاب: فإن ألحقناه بالطلاق، فلفظ الإشراك مع نية الظهار يُثبت الظهار، وإن ألحقناه بالإيلاء، فلا يحصل الظهار بلفظ الإشراك، كما لا يحصل الإيلاء بلفظ الإشراك، فإن قيل: تشبيه الظهار بالطلاق من جهة أنه يحرّم تحريمَه بيّنٌ، فما وجه تشبيهه بالإيلاء؟ قلنا: الظهار [لا يبتّ] (3) الملك ولا يؤثر فيه بالتوهين كالإيلاء، ويتعلق بكل واحد منهما كفارة.
فصل
قال: "ولو تظاهر عن أربع نسوة بكلمة واحدة ... إلى آخره" (4).
9524 - صورة المسألة: رجل تحته أربع نسوة تظاهر عنهن بكلمة واحدة: فقال: أنتن عليّ كظهر أمي، فإن طلقهن عقيب اللفظ، فليس عليه كفارة، فإنه ظاهر ولم يعد، وإن أمسكهن حتى مضى زمان إمكان الطلاق، ففي المسألة قولان: أظهرهما - أنه يلزمه أربع كفارات؛ نظراً إلى عدد اللواتي ظاهر عنهن.
والقول الثاني - أنه يلزمه كفارة واحدة؛ اعتباراً باتّحاد اللفظ، والقولان يبتنيان على أن المغلَّب في الظهار مشابه الطلاق أو مشابه اليمين. فإن قلنا: المغلب معنى الطلاق، تعددت الكفارات، كما تتعدد الطلقات إذا قال: طلقتكن، ويلحق كل
__________
(1) (ت 2): وسنذكر القولين ويتشعب عنهما مسائل في الكتاب.
(2) في الأصل: جهة، وساقطة من (ت 2). والمثبت من المحقق.
(3) في الأصل، وكذا في (ت 2): لا يثبت الملك. والتغيير من اختيار المحقق.
(4) ر. المختصر: 4/ 121.

(14/494)


واحدة منهن طلقة، ولا يستقيم على السبر إلا هذا القول؛ فإنه إذا ظاهر عنهن، فقد ثبت التحريم في حق كل واحدة منهن، وهن متميزات، والتحريم في حق كل واحدة صفة شرعية لها، ويظهر بهذا تعدد التحريم، فإذا تعدد التحريم، فليتعلق كل تحريم بعَوْد وكفارة.
وإن غلبنا جهة اليمين، فالواجب كفارة واحدة، كما لو حلف لا يطؤهن (1)، فإنه لا يلتزم بوطئهن إلا كفارة واحدة، وهذا القول ضعيف، وإن كان مشهوراً.
ويمكن تقريب القولين بما إذا قذف جماعة بكلمة واحدة، فإن للشافعي قولين: أحدهما - يلزمه حدٌّ واحد لاتحاد اللفظ. والثاني - يلزمه حدودٌ لتعدد المقذوف وتعدد حكم التعيين والجناية على العرض، فالمعنى متعدد وإن اتحد اللفظ، وقد نُقرّب هذا بما إذا حنث في يمينين بفعل واحد، فإنا ذكرنا اختلافاً في أن الكفارة تتّحد أم تتعدد.
9525 - فهذه أصول متشابهة، وأقرب أصل بما نحن فيه شبهاً قذفُ الجماعة بكلمة واحدة، فإن قلنا: يلزمه أربع كفارات، فلو طلق البعضَ معقباً باللفظ، أو مات بعضهن على أثر اللفظ، فتسقط الكفارة التي كانت تقابل التي ماتت، وكذلك لا تجب الكفارة في حق التي طلقت على الاتصال.
وإن قلنا: الواجب كفارة واحدة في ظهارهن، فلو ماتت ثلاثٌ منهن على أثر اللفظ أو طلق ثلاثاًً منهن، وعاد في الرابعة، فالكفارة تلزم، وليس كما لو حلف لا يجامعهن، فإنه لا يلزم الكفارة ما لم يجامع جميعَهن، حتى لو فات الجماع في واحدةٍ، لم يلتزم الكفارة أصلاً.
والسبب فيه أن اليمين لا توجب الكفارة إلا عند تحقق الحِنث، والحِنثُ يحصل بجماعهن، وكفارة الظهار لا تتعلق بحنث، وإنما تتعلق بزور ومنكر يحُقِّقُه العَوْدُ، فإذا ظهر ذلك وثبت في واحدة وإن لم يظهر في ثلاث، فيتحقق موجب الكفارة.
وقيل: الظهار وإن ألحقناه باليمين، فهو نازعٌ إلى الطلاق، وهذا كلام مطلق يشعر بعجز المقدِّر (2).
__________
(1) (ت 2): لايظاهر.
(2) يشعر بعجز المقدّر. هل المعنى: يشعر بعجز من يفدر الظهار طلاقاً؟

(14/495)


وكان شيخي يحكي في تعليل ذلك عن شيخه القفال: أن الظهار نازع إلى الطلاق، فيبقى لذلك الحكم في الحيَّة (1)، ولم تتعدد الكفارة للنزوع إلى الأيمان، وهذا شأن كل أصل يتجاذبه أصلان فيؤثر عليه (2) مقتضاهما.
وهذا كلام مضطرب؛ فإن كل واحدٍ من القولين إنما ينتظم بتغليب أحد الشبهين، فإذا أردنا تغليبهما، والجمعَ بينهما، لم يستقم، وفيما قدّمته من الفرق بين اليمين وبين الظهار أكمل مقنع.
وبالجملة [لا يُتلَقى اتحاد] (3) الكفارة من مشابهة الأيمان، وإنما استيفاؤه (4) من قذف الجماعة بالكلمة الواحدة كما قدمناه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا تظاهر عن النسوة بالكلمة الواحدة.
9526 - فأما إذا أفرد كلّ واحدة بكلمة، وخاطبها بظهار منفرد، فلا شك في تعدد الظهار، ثم ظهاره عن الثانية عَوْدٌ في حق الأولى (5)، والظهار عن الثالثة عوٌد عن الثانية، والظهار عن الرابعة عود في حق الثالثة، فإن عاد في حق الرابعة بأن أمسكها زمانَ إمكان الطلاق، لزمته أربع كفارات، وإن طلق الرابعة لما ظاهر عنها، فيلزمه ثلاث كفارات بسبب الثلاث المتقدّمات، إذ قد تحقق في حقوقهن الظهار والعَوْدُ جميعاًً.
أما الظهار، فبيّن: مأخوذ من تعدد الألفاظ، وتعدد المحل، ولا يبقى بعد التعدد في هذين سبب مانع من الحكم بالتعدد في الظهار.
أما العَوْد، فقد حققناه؛ إذ قلنا: اشتغاله بالظهار للثانية تركٌ منه لطلاق الأولى، وكذلك القول إلى الرابعة.
__________
(1) الحيّة: أي الزوجة التي بقيت بعد موت الثلاث.
(2) (ت 2): فيه عليهما.
(3) في النسختين: "لا يُلفى الاتحاد".
(4) (ت 2): اشتقاقه.
(5) اعتبر عوداً في حق الأولى، لأنه أمسكها زمانا يسع الطلاق، بدليل أنه وسع ظهاره من الثانية.

(14/496)


9527 - ولو قال لأربع نسوة: حرّمتكن وقصد تحريمهن بأعيانهن، ففي اتحاد الكفارة وتعددها ما في تعدد كفارة الظهار واتحادها، على ما تقدم.
وكل هذا فيه إذا خاطب نسوةً بكلمة أو كلمات.
9528 - فأما إذا كرر الظهار في امرأة واحدة، فقال لها: أنت علي كظهر أمي، ثم قال مثلَ ذلك ثانية وثالثة إلى غير ذلك، فلا تخلو هذه الكَلِم إما أن يأتي بها متواصلة من غير تخلل فَصْلٍ، وإما أن يأتي بها متقطعة مع تخلل فواصل، فإن أتى بها متصلات وِلاءً، [و] (1) زعم أنه أراد بجميع الألفاظ ظهاراً واحداً، وإنما كررها تأكيداً، فالظهار واحد، والكفارة واحدة، إذا وجبت، كما ذكرناه في الطلاق والإيلاء، ثم إن فرغ من الألفاظ المتواصلة، وسكت عن الطلاق حتى مضى زمان إمكانه، فتلزمه الكفارة.
وإن أتى بهذه الكلمات على التواصل، ثم عقبها بالطلاق، فظاهر المذهب أنه ليس بعائد، ولا تلزمه الكفارة.
ومن أصحابنا من قال: تلزمه الكفارة.
توجيه الوجهين: من قال تلزمه الكفارة، احتج بأنه أخر الطلاق لمّا اشتغل بالتأكيد على زعمه مع تمكنه من تعقيب الكلمة الأولى بالطلاق، فإذا لم يفعل، كان اشتغاله بالتكرير والتأكيد تركاً منه للطلاق وعوْداً.
ومن قال بالوجه الثاني، احتج بأن الكلمة إذا تكررت على شرطها في التواصل، فهي كالكلمة الواحدة، ولا يتخللها حكم بتقصير أو تأخير، وكأن المؤكِّد إنما فرغ من كلامه عند فراغه من الكلمة الأخيرة، وهذا الوجه أفقه، إن شاء الله تعالى.
9529 - ولو كرر الكلمَ، وزعم أنه أراد بكل كلمةٍ ظهاراً جديداً، فالمذهب أن الظهار يتعدد، ثم ننظر بعد ذلك في الكفارة، كما سنذكره في أثناء الفصل، إن شاء الله تعالى، وفي بعض التصانيف أنه وإن نوى التجديد والاستئناف؛ فيُخرَّج خلافٌ في اتحاد الكفارة وتعددها، وهذا القائل يقول: إذا تعددت الكَلِم على قصد التجديد
__________
(1) (الواو) زيادة من المحقق حيث سقطت من النسختين.

(14/497)


واتحد المحلّ (1)، كان كما لو تعدد المحل واتّحدت الكلمة، فيخرج على قولين.
وهذا بعيد.
وحاصل المذهب أن المحالّ إذا تعددت، وتعدّدت الكَلِم أيضاًً، فالقطع بتعدد (2) الظهار والكفارة إذا تعدد العود.
وإن اتحدت الكلمة وتعدد المحل، ففي تعدد الكفارة قولان.
وإذا تعددت الكَلِم، واقترن بها قصد الاستئناف والتجديد، واتحد المحل، ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بتعدد الظهار والكفارات إذا تحقق العَوْد، كما سنصفه.
والطريقة الأخرى - حَملُ المسألة على قولين، كما لو تعدد المحل واتحدت الكلمة.
وذكر العراقيون مسلكاً (3) آخر، فقالوا: إذا ظاهر عن امرأته وعاد، ولم يكفر، ثم ظاهر مرة أخرى بعد تخلل زمان متطاول، فهل يصح منه الظهار حتى إذا عاد فيه تلزمه الكفارة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه لا يصح [الظهار] (4) ما لم يكفر ظهارَه الأول.
وهذا قريب مما ذكرناه في تعدد الكلم مع قصد الاستئناف، ولكنهم عبروا عنه بهذه العبارة، ويمكن أن يقال: مأخذه من تكرير القذف بكلم على مقذوف واحد، مع تعدد الزمان المخبَر عنه؛ فإنه إذا اتحد، فلا حكم (5) لتعدد الإخبار عنه، وإذا كنا نأخذ الظهار عن نسوة بكلمةٍ عن قذف جماعة بكلمةٍ، فلا بُعْد في أخذ الظهار عن امرأة بكلمات من قذف رجل بكلمات ونسبته إلى زَنْيات.
وهذا غير سديد؛ فإن القذف يوجب الحد، ومن قضايا الحد الاندراج إذا اتحد جنس الواجب ولم يتخلل استيفاءُ الحد، وهذا المعنى لا يجري في الكفارات،
__________
(1) (ت 2): واتحاد الكفارات.
(2) (ت 2): فالقطع مبنية بتعدد ...
(3) (ت 2): مثلاً آخر.
(4) زيادة من (ت 2).
(5) (ت 2): نحكم.

(14/498)


فالوجه أن نفرِّع على أن الظهار يتعدد [بتعدد] (1) الكلم إذا قَصَد مُطْلِقها الاستئنافَ والتجديدَ.
9530 - ثم إذا أتى بهذه الكلم المتواصلة على قصد التجديد والاستئناف، فلا يخلو إما أن يطلِّق عقيب الفراغ منها، وإما ألا يطلق، فإن طلق، فهل نجعله عائداً في الظهار الأول؛ بسبب الاشتغال بالظهار الثاني أم كيف الوجه؟ في المسألةِ وجهان: أحدهما - أنه يكون عائداً في كل ظهار يسبق إذا اشتغل بظهار بعده؛ فإنه بالاشتغال بالظهار يكون تاركاً للطلاق، وهذا أقيس الوجهين في صورة التجديد.
والوجه الثاني - أنا لا نجعله عائداً، فإن كل ما يأتي به جنسٌ واحد؛ وإن كان له حكم التجديد، فما لم يفرغ عن هذا الجنس لا نجعله عائداً.
وهذا ضعيف عندنا، ولكن حكاه القاضي وغيرُه، والوجه أن يرتب على صورة التكرير والتأكيد، فإن جعلنا المؤكِّد عائداً، فلأن نجعل المجدد عائداً أولى.
وإن قلنا: لا يكون المكرر المؤكِّد عائداً، ففي المسألة وجهان، والفرق أن التأكيد في حكم الجزء من الكلام المؤكَّد، فكأنْ لا فراغَ عنه ما لم ينقض التأكيد، وأما التجديد، فمن ضرورته قطعُ الكلام الأول واستئنافُ آخر.
فإذا فرعنا على الأصح، نظرنا في عدد الألفاظ، وجعلنا كلَّ لفظة عَوْداً في التي قبلها، ثم نظرنا إلى اللفظة الأخيرة؛ فإن استعقبت سكوتاً، فقد تحقق العَوْد فيها أيضاًً، فيجب الكفارةُ بأعداد الكلم، وإن عقب الكلمة الأخيرةَ بالطلاق، فلم يَعُد فيها، فلا كفارة عليه بسببها، وتجب الكفارات بأعداد الكلم التي قبلها. فإذاً أوضحنا أنه صار عائداً فيها على الأصح، هذا إذا واصل الكلام ونوى به تأكيد أو تجديداً.
فأما إذا أطلق الألفاظ، ولم ينو تأكداً ولا تجديداً، ففي المسألة قولان كالقولين في نظير هذه المسألة من مسائل الطلاق، فإن قلنا: إن الألفاظ محمولةٌ على التأكيد، فقد مضى حكم التأكيد. وإن قلنا: إنها محمولة على التجديد، فقد مضى حكم التجديد، وكل ذلك والألفاظ متواصلة.
__________
(1) زيادة من (ت 2).

(14/499)


9531 - فأما إذا أتى بها متقطعةً منفصلةً وتخلل بينهما من الأزمنة ما يمنع الحمل على التأكيد على العادة الجارية فيه، أما العراقيون، فإنهم أجرَوْا القولَ الضعيف الذي حكَوْه، وقالوا: لا يصح الظهار الثاني وما بعده إذا لم يتخلل تكفير، وهذا وجه مزيّفٌ لا أصل له، ولا عوْد إليه.
فنقول إذاً: إذا تقطعت الكلم وقصد بكل كلمة ظهاراً، فقد تعدد الظهار، فإذا تعدد العَوْد (1)، تعددت الكفارات.
ولو قال: قصدت التكرار وإعادة [عين ما تقدم،] (2) ففي بعض التصانيف أن جواب القفال اختلف في ذلك، فقال مرة: يقبل ذلك منه، وقال مرة: لا يقبل، وهذا فصلٌ قد قررناه فيما سبق عند ذكرنا أن كَلِمَ (3) الإيلاء إذا تعددت مع تخلل الفواصل يجوز أن تحمل على التكرار والاتحاد تشبيهاً بالإقرار، وفيه تردد قدمته.
فاختلاف جواب القفال في الظهار ينبني -بعد التنبيه- على ما ذكرناه، وهو أن تغليب شوْب الطلاق في الظهار أغلب أم (4) تغليب شوب الإيلاء؟ فإن رأينا تغليبَ الطلاق، فلا يقبل منه دعوى التكرار، وكل لفظ يصدر منه ظهارٌ جديد، ككلم الطلاق وقد تخللتها الفواصل.
وإن قلنا: شوبُ الإيلاء أغلب، فهو ككَلِم الإيلاء إذا تكررت وبينها الفواصل، هذا إذا قال: قصدت التجديد أو التكرار، وليس من الحصافة ذكرُ عبارة التأكيد في هذا المقام؛ فإن التأكيد إنما يجمُل موقعه إذا توالت الألفاظ، وهذا (5) يَذْكُر التكرارَ، وقد يثبت مذهبُ التكرار مع الفواصل، كما ذكرناه في الإقرار.
فأما إذا أطلق هذه الألفاظ وقد تخلّلتها الفواصل، فالوجه عندنا حملُها على الاستئناف والتجديد، لا على التكرار.
__________
(1) (ت 2): القول.
(2) في النسختين: غير ما تقدم.
(3) (ت 2): حكم.
(4) (ت 2): من تغليب.
(5) وهذا: أي القائل.

(14/500)


فصل
قال: "ولو قال: مهما تظاهرتُ من فلانة الأجنبية ... إلى آخره" (1).
9532 - إذا كانت له امرأتان: حفصة وعمرة، فقال لحفصة: إن تظاهرت عنك، فعمرة عليّ كظهر أمي، فتظاهر عنها، ثبت الظهار عنهما جميعاً، أما حفصة فقد نجّز ظهارها، وأما عمرة، فقد كان علق الظهار عنها على الظهار عن حفصة، وقد ظاهر عن حفصة، فحصل الظهار عنهما تنجيزاً وتعليقاً.
ولو قال: إذا تظاهرتُ عن إحداكما، فالأخرى عليَّ كظهر أمي، ثم تظاهر عن إحداهما، انعقد الظهار فيهما تنجيزاً وتعليقاً، كما تقدم.
9533 - ولو قال: إن تظاهرتُ عن فلانة، وسمى امرأةً أجنبيةً، فأنت عليّ كظهر أمي -خاطب زوجته- فلا شك أن الظهار عن الأجنبية لا يصح، فلو نكحها وظاهر عنها والزوجية قائمة في التي كان علق ظهارها أولاً، فيصير مظاهراً عنها؛ فإن الصفة التي علق ظهارها عليها قد تحققت.
ولو قال لتلك الأجنبية: أنت علي كظهر أمي، لم يحنَث في زوجته، ولم يصر مظاهراً عنها، فإن الذي أجراه لم يكن ظهاراً، وإنما كان لفظَ الظهار، والتعليقاتُ بالعقود والحلول محمولةٌ عندنا على ما يصح منها، ولا يقع الاكتفاء بالألفاظ فيها.
فإن قال: أردت بقولي إن تظاهرت عن فلانة مخاطبتَها بهذا القول، ولم أُرد غير صورة القول، فيصير مظاهراً عن امرأته حينئذ بإجراء هذا القول مع الأجنبية، فإنّ ما ذكره من الحمل على القول ممكنٌ وإن كان بعيداً، وقد ذكرنا أن المحامل البعيدة مقبولة في تحقيق الحِنْث، [وإنما نرى المحاملَ البعيدة ظاهراً] (2) في ردّ الحنث، حتى نقول: الأمر مردود إلى الباطن (3) ومقتضى التديين.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 122.
(2) في الأصل: فإنا نرى المحامل البعيد تظاهراً.
(3) (ت 2): الناظر.

(14/501)


هذا إذا قال: إن ظاهرت عن فلانة -وقد كانت أجنبية-، وهو لم يتعرّض في يمينه لذكر كونها أجنبية، فأما إذا قال: إن ظاهرت عن فلانة أجنبيةً (1)، فأنت علي كظهر أمي (2)، فقد شرط في الظهار عن المذكورة أن تكون أجنبية، وليس يخفى أن الظهار لا يصح مع الشرط الذي ذكره، قال الأصحاب: هذا تعليق بصفة لا تكون؛ فلا يحكم (3) بحصول الظهار.
وقال المزني: هذا محمول على لفظ الظهار، فإذا قال لها: أنت عليّ كظهر أمي، فقد (4) تحققت الصفة، وهذا كما لو قال: إن اشتريت الخمر، فأنت طالق، فإذا اشترى الخمر كما يشتري الخمر طالبوها، وقع الطلاق، والأصحاب على مخالفة المزني، ومنهم من يشبّب بموافقته، وسنذكر هذا المذهب للمزني وخوض الأصحاب معه (5) في الكلام في كتاب الأيمان، إن شاء الله عز وجل.
وإذا كان قال: إن تظاهرت عن فلانة أجنبيةً، فأنت علي كظهر أمي، فلو نكح تلك المعيّنة وظاهر عنها في النكاح، صح الظهار، ولم يحصل الحنث؛ فإنه شرط في الحنث وقوع الظهار في حالة كونها أجنبية، فإذا ظاهر عنها بعد النكاح، فليس هذا الظهار الذي ذكره، ولو أنه أراد لفظ الظهار، ثم قال للأجنبية: أنت علي كظهر أمي، فيصير مظاهراً عن زوجته، كما قدمناه.
ولو قال: إن ظاهرتُ عن فلانة الأجنبية، فأنت عليّ كظهر أمي، فلو نكحها، ثم ظاهر عنها، فهل يصير مظاهراً عن زوجته، وقد صح الظهار عن تلك التي نكحها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يصير مظاهراً عن زوجته، كما لو قال: إن ظاهرت عن فلانة ولم يتعرض لكونها أجنبية.
__________
(1) أجنبيةً حال، أي تعرض لذكر كونها أجنبية.
(2) عبارة (ت 2) فيها سقط، فهي هكذا "هذا إذا قال: إن ظاهرت عن فلانة -وقد كانت أجنبية - فأنت علي كظهر أمي، فقد شرط في الظهار .. ".
(3) (ت 2): فالحكم.
(4) في النسختين: وقد.
(5) (ت 2): بعدُ في الكلام في كتاب الأيمان.

(14/502)


والوجه الثاني - أنه لا يصير مظاهراً عن زوجته، لأنه ذكر تلك المرأة ووصفها بكونها أجنبية؛ إذ قال: إن ظاهرتُ عن فلانة الأجنبية، فإذا نكحها خرجت عن كونها أجنبية، وحقيقة الوجهين تنزِع إلى أن قوله: "فلانة الأجنبية" هل يقع شرطاً أم هي للتعريف والإعلام لا للاشتراط؟ وفيه الخلاف.
وقد دار الكلام على ثلاث صور: إحداها - أن يقول: إن ظاهرت عن فلانة من غير أن يتعرض لكونها أجنبية.
والثانية - أن يقول: إن ظاهرت عن فلانة أجنبيةً، أو قال: إن ظاهرت عن فلانة وهي أجنبية، فهذا اشتراط.
والثالثة - أن يقول: إن ظاهرت عن فلانة الأجنبية (1)، وهذا مردّدٌ بين التعريف وبين الشرط.
...
__________
(1) (ت 2): وهي أجنبية.

(14/503)


باب (1) العوْد
قال الشافعي رحمه الله: "قال الله عز وجل {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ... } [المجادلة: 3] الآية ... إلى آخره" (2).
9534 - مضمون هذا الباب الكلامُ في العود ومعناه؛ [فإنه] (3) عز من قائل [علّق] (4) الكفارة بالظهار والعَوْد جميعاًً؛ إذ قال تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3].
وقد اختلف مذاهب العلماء في تفسير العَوْد، فذهب الثوري (5) وغيره إلى أن العَوْد هو الإتيان بالظهار في الإسلام، ونفسُ لفظ الظهار عنده موجِبٌ للكفارة، ومعنى العود في الكتاب أن الظهار لفظٌ كانت العرب في الجاهلية [تستعمله، فمن استعمله في الإسلام فكأنه عاد لما كان ومعناه في الجاهلية] (6).
وهذا لا حاصل له؛ فإن الله عز وجل ذكر الظهار، ورتب عليه العَوْد، فقال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، وهذا يقتضي إنشاء أمرٍ هو العَوْد بعد الظهار، فلا يوافق هذا المذهبُ ظاهرَ الكتاب أصلاً.
__________
(1) (ت 2): باب ما يوجب على المظاهر كفاراته.
(2) ر. المختصر: 4/ 123.
(3) في الأصل: أنه.
(4) في الأصل: على.
(5) الثوري: سفيان الثوري، أمير المؤمنين في الحديث، إمامُ العلم والعمل، كان آية في الحفظ، أعرف من أن يعرّف. توفي سنة 161هـ عن سبع وستين سنة (ر. تهذيب التهذيب 4/ 111 - 115، وتاريخ بغداد: 9/ 151، وحلية الأولياء: 6/ 356، ووفيات الأعيان: 2/ 386).
(6) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2) حيث سقط من الأصل.

(14/504)


وذهب داود إلى أن العَوْد تكرير كلمة الظهار، وهذا ركيكٌ لا أصل له.
وذهب الزهري ومالك (1) في إحدى الروايتين إلى أن العَوْد هو الوطء، وهذا المذهب فيه استيضاح (2) حقيقة المعنى، فإن قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُون} [المجادلة: 3] معناه ثم يناقضون ما كان منهم؛ فإن الظهار مقتضاه التحريم، فإذا جرى شيء يخالفه ويناقضه، فهو الذي فهمه العلماء من العود، وهو بمثابة قول القائل: قال فلان قولاً وعاد فيه، أي يُتبعه بما يخالفه.
ثم من فهم هذا على الصحة، اختلفوا فيما يقع [به] (3) المخالفة، فذهب الزهري ومالك إلى أن المخالفة تقع بالوطء لا غير.
وقال أبو حنيفة (4) في رواية، ومالك في رواية: العَوْد هو العزم على الوطء.
والرواية الصحيحة عن أبي حنيفة وعنها يذبُّ أصحابُه وبها يُفتون أن الكفارة لا تستقر في الظهار استقرار اللزوم (5)، وإنما هي مشروعة للاستحلال، فإن كفّر، استحلّ، وإن وطىء قبل التكفير (6) عصى ربَّه، ولم تستقر الكفارة أيضاًً، بل التحريم باقٍ إلى أن يكفر.
وهذا وإن اختاروه مضطربٌ؛ سيّما على أصلهم؛ فإن الكفارة لا تقدّم على وجوبها، وهذا الذي ذكروه تكفير قبل الوجوب.
والمذهب الصحيح للشافعي أن العَوْد هو أن يمسكها عقيب الفراغ من الكلمة زماناً يتمكن فيه من الطلاق، فإذا فعل ذلك ولم يطلق، فقد أمسكها زوجةً، وإمساكُها زوجةً في لحظةٍ يناقض ما اقتضاه الظهار من التحريم.
__________
(1) ر. الإشراف: 2/ 772 مسألة 1429، عيون المجالس: 3/ 1269 مسألة 887.
(2) (ت 2): استفتاح.
(3) في الأصل: فيه.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 485 مسألة: 1020، المبسوط: 6/ 224، 225.
(5) (ت 2): الزوج.
(6) عبارة (ت): هي مشروعة للاستحلال، فإن وطىء قبل التكفير عصى ربه.

(14/505)


والحملُ على الوطء [بعيدٌ] (1)، فإنه تعالى ذكر الظهار والعَوْد، ثم قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، فأشعر هذا بكون الظهار والعود متقدمَيْن على التماسّ، وقد قيل: للشافعي قولٌ في القديم أن العود هو الوطء، وهذا إن صح، فهو في حكم المرجوع عنه، ولا معوّل عليه.
ثم إذا ظاهر الرجل، ولم يطلّق، حتى مضى زمانٌ يسع التطليق، فقد عاد، واستقرت الكفارةُ، فلو تلفظ بالظهار ومات هو عقيبه أو ماتت، فلا كفارة؛ فإن الإمساك لم يتحقق، وأيس (2) من العود.
ولو طلقها، فالطلاق ينافي العود، فلا تجب الكفارة، ثم لو راجع بعد الطلاق الرجعي، أو جدد النكاح بعد الطلاق المبين، فسنفردُ في ذلك فصلاً؛ فإنه عمدةٌ (3) الكتاب.
ثم ذكر المزني كلاماً لا يليق بهذا المحل، فنذكره ثم نعود إلى ما وعدناه (4) من تفصيل الطلاق والرجعة والنكاح.
9535 - قال الشافعي: "معنى قوله سبحانه: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وقتٌ لأن يؤدي فيه ... إلى آخره" (5).
أراد بذلك أن المظاهر يحرم عليه الجماع حتى يكفّر، فإن كان يكفر بصوم الشهرين المتتابعين، فحرام عليه أن يمَسها حتى يستكمل الصيام، فلو جامعها نهاراً في الشهرين فسد الصوم، وانقطع التتابع، ولزم استئناف صوم الشهرين، وتحريم الجماع ممتدٌّ، وليس هذا من خاصية الجماع، بل لو أفطر في اليوم الأخير من غير عذرٍ، على ما سيأتي التفصيل فيما يقطع التتابع وفيما لا يقطعه -فالحكم ما ذكرناه من فساد الكفارة ووجوب العود إلى استئناف الصوم، فلو كان يكفر بصوم الشهرين، فوطىء التي ظاهر
__________
(1) في الأصل: بعقدٍ.
(2) (ت 2): وليس.
(3) (ت 2): غمرة الكتاب.
(4) (ت 2): ثم نعود إلى ما ذكرناه من تفصيل الطلاق.
(5) ر. المختصر: 4/ 124.

(14/506)


عنها ليلاً فالجماع حرامٌ؛ لأنه قبل تبرئة الذمة عن الكفارة، ولكن صوم الشهرين لا يفسد بما جرى، والتتابع لا ينقطع، وقال أبو حنيفة (1) تفسد الكفارة.
وعبر الشافعي عن حقيقة المسألة بأن قال: الصوم مؤقت بالزمان المتقدّم على المسيس، فلو استفتح [شهرين] (2) بعد المسيس، لكان جميع الصوم وراء الوقت، فإذا مضى بعض الصوم قبل المسيس، فهذا المقدار واقعٌ في الوقت، فإيقاع البقية (3) وراء الوقت أقربُ إلى الامتثال من إيقاع الجميع وراء الوقت، والمسألة مشهورة مع أبي حنيفة.
9536 - ثم قال: "فإذا منع الجماعَ أحببتُ أن يمنع القُبَلَ ... إلى آخره" (4). قد ذكرنا أن من ظاهر وعاد، التزم الكفارة، ولا يحل له الوطء ما لم يكفر، وإذا حرمت التي ظاهر عنها، وتحقق التحريم في الوطء، فهل يحرم سائر جهات الاستمتاع، كالمسّ والاعتناق والقبلة، وغيرها من وجوه الاستمتاع عدا (5) الجماع؟ ظاهر النص (6) هاهنا أنه لا يحرم شيء سوى الجماع، ونص في رواية الزعفراني على أنه يَحْرُم جميع جهات الاستمتاع، فحصل قولان: أحدهما - ولعله الأظهر أن جميع الجهات من الاستمتاعات تَحْرُم كالوطء، وما (7) يحرّم الوطءَ من هذه الأجناس يحرِّم وجوه الاستمتاع كالعدة، والإحرام.
والقول الثاني - لا يحرم إلا الوطءُ، والمسيسُ في القرآن كنايةٌ عن الجماع، والقائل الأول يقول: هو محمول على حقيقته، ولا خلاف أن قوله تعالى: {إِذَا
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 499 مسألة 1043، المبسوط: 6/ 225.
(2) في الأصل: بشهرين.
(3) (ت 2): النية.
(4) ر. المختصر: 4/ 124.
(5) (ت 2): عند الجماع.
(6) (ت 2): ظاهر المذهب.
(7) "وما يحرّم الوطء من هذه الأجناس ... إلخ" هذا الكلام دليل آخر للقول القائل بحرمة جميع الاستمتاعات، فالمعنى أن المعهود فيما يحرّم الوطء مثل العدّة والإحرام - أنه يحرم جميع الاستمتاعات.

(14/507)


نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] محمول على الوطء، فالمس في هذه الآية كناية بلا خلاف، وهي فيما عداها من الآي على التردد والاختلاف، كآية الملامسة، وكآية الظهار التي نحن في ذكر معناها.
9537 - ثم نجمع في هذا كلاماً ضابطاً، إن شاء الله، فنقول: كل ما يُحرّم الوطءَ من جهة تأثيره في الملك، فلا شك أنه يُحرِّم سائرَ جهات الاستمتاع، كالطلاق، وما لا يحرّم الملك ويُقصد به استبراء الرحم عن الغير، فهو يحرّم جهات الاستمتاع بجملتها، كالعدة تجب في صلب النكاح عن وطء الشبهة، فإنها تتضمن التحريم من كل الوجوه.
وكل ما يبيح المرأة لشخصٍ، فلا شك أنه يحرمها على غيره من الوجوه كلها، كالنكاح في الأَمَة.
وكل تحريم يرجع إلى الأذى كالحيض، فهو مقطوع به في محل الأذى، وهو الوطء، ولا يثبت فوق السرة وتحت الركبة، وفي ثبوته دون السرة وفوق الركبة مع توقي الوقاع الخلافُ المعروف.
ثم من أصحابنا من حمل هذا الخلافَ على [التحويم] (1) على الحمى، وخشية الوقوع فيه.
ومنهم من حمله على غلبة الظن في الأذى في المحل القريب.
والعبادة التي حرُم الجماع فيها تنقسم إلى الإحرام، والصوم، والاعتكاف، فأما الإحرام، فإنه يحرّم التقاء البشرتين من كل وجه، وهذا تعبُّدٌ لا نلتزم تعليلَه.
وأما الصوم، فيحرُم الوقاعُ فيه، وكل ما يُخشى منه الإنزال، فهو محرم، وفيه تفصيل طويل ذكرته في موضعه من كتاب الصيام، وأما التلذذ مع الأمن من الإنزال، فالصحيح أنه لا يحرم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّل، وهو صائم.
ومنهم من قال: التلذذ حرام من الصائم، وإنما نُبيح القُبلة والجسَّ ممّن لا يتلذّذ.
__________
(1) في النسختين: التحريم.

(14/508)


وهذا خطأ صريح عندنا، والتعويل فيما يحرم ويحل على الأمن من الإنزال والخوف منه.
9538 - وأما الظهار، ففيه قولان: أحدهما- أنه يحرّم كل استمتاع.
والثاني - أنه لا تحرم جميعاًً، فإذا لم تحرم، فلا بأس بالتلذذ، وإن أفضى إلى الإنزال، أما الاستمتاع بما تحت السرة وفوق الركبة، ففيه تردد: يجوز أن يخرّج على الخلاف المذكور في الحائض، ويجوز أن يقال: إنه يحلّ؛ فإن التحريم فيها ليس مربوطاً بالأذى.
9539 - فأما الاستبراء، وتحريم المستبرأة، فإنا نقول فيه: إذا كانت الجارية مستبرأة، في جهة لو ثبت فيها كونُها مستولدةً للغير، لحرمت، فجميع وجوه الاستمتاع محرّم منها كما يحرّم من المعتدّة.
وأما المسبية، فلو ثبت أنها أمُّ ولدٍ، لم يضر، فالاستبراء فيها تعبُّدٌ؛ فلا يحل وطؤها، وهل يحل سائر وجوه الاستمتاع، فعلى اختلاف مشهور، وسيأتي ذلك مستقصىً في كتاب الاستبراء، إن شاء الله عز وجل.
9540 - ومما أجراه الشافعي رضي الله عنه أن الذي يكفر بالإعتاق لا يطأ قبل الإعتاق، والذي يكفر بالصيام كذلك، ثم هذا (1) يطّردُ في التكفير بالإطعام، فلا يحل للذي يكفّر بالإطعام، أن يطأ قبل الإطعام، خلافاً لأي حنيفة (2)، وهذا
__________
(1) (ت 2): ثم في هذا نظر.
(2) ما عزاه الإمام إلى أبي حنيفة، نقله عنه الكمال ابن الهمام في الفتح، حيث قال: "وعما قلناه من عدم اشتراط الإطعام للحل، واعتبار الأطلاق في ذلك. قال أبو حنيفة فيمن قرب التي ظاهر منها في خلال الصوم: يستأنف، ولو قربها في خلال الإطعام لا يستأنف؛ لأن الله تعالى قيّد الصيام بكونه قبل التماس، وأطلق في الأطعام، ولا يُحمل الإطعام على الصيام؛ لأنهما حكمان مختلفان وإن اتحدت الحادثة" انتهى كلام أبي حنيفة (ر. فتح القدير: 4/ 259).
هذا، والذي استقر عليه المذهب الحنفي فيما رأيناه في كتب السادة الأحناف غيرُ هذا، فالطحاوي يقول في مختصره (213): "ومن ظاهر من زوجته، لم يحل له قربها ولا شيء منها حتى يكفّر، وسواه كان من أهل العَتاق أو من أهل الصيام أو من أهل الإطعام" ا. هـ. وفي مختصر =

(14/509)


الخلاف نشأ من تقييد العتق والصيام بالمسيس، فإنه تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3]، وقال في الصوم: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] ولما ذكر الإطعام لم يقيده بالتّماسّ، فقال أبو حنيفة: يتقيّد ما قيّده ولا يتقيد ما أرسله، ورأى الشافعي حمل المطلق على المقيّد، سيّما إذا اتحدت الواقعة.
فصل
قال: "ولو تظهّر، ثم أتبع الظهار طلاقاً ... إلى آخره" (1).
9541 - هذا هو الفصل الموعود، وبه يظهر سر العود، وفيه نذكر عَوْد الحنث في الظهار، فالله المستعان.
فنقول أوّلاً: من ظاهر عن امرأته وعاد، فإن أمسكها في زمان إمكان الطلاق، فقد لزمت الكفارة، واستقر لزومها، ثم كما استقرت الكفارة استقر التحريم المرتبط به (2)، فلا يزول التحريم إلا بالتكفير، ومن أثر ذلك أنه لو ظاهر وعاد، ثم أبان زوجته، ثم نكحها، فهي محرّمة عليه، سواء قلنا بعود الحنث أو لم نقل به، لما حققناه من استقرار التحريم، وتعلقِ زواله بتبرئة الذمة عن الكفارة، فلا خلاص من الكفارة إلا بأدائها، ولا انتهاء للتحريم إلا بالتكفير، حتى قال المحققون: إذا ظاهر
__________
= اختلاف العلماء (2/ 498 مسألة 1041): "قال أصحابنا: لا يجامع حتى يُطعم، إن كان فرضه الإطعام". وقال السرخسي في المبسوط: (6/ 225): "وإن كانت كفارته بالإطعام، فليس له أن يجامعها قبل التكفير عندنا". ا. هـ. وقال الكاساني في البدائع (3/ 234): "ويستوي في هذه الأحكام جميع أنواع الكفارات كلُّها من الإعتاق والصيام والطعام، أعني كما أنه لا يباح له وطؤها والاستمتاعُ بها قبل التحريبر والصوم، لا يباح له قبل الإطعام" ا. هـ. وقال المرغناني في الهداية عند قول صاحب البداية (وكفارة الظهار عتق رقبة، وكل ذلك قبل المسيس) قال في الهداية: وهذا في الإعتاق والصوم ظاهر للتنصيص عليه وكذا في الإطعام؛ لأن الكفارة فيه منهية للحرمة، فلا بد من تقديمها على الوطء ليكون الوطء حلالاً. (الهداية مع فتح القدير: 4/ 258).
(1) ر. المختصر: 4/ 125.
(2) به: أي بالتكفير.

(14/510)


وعاد، ثم اشترى التي ظاهر عنها، فلا يستحل وطأها بملك اليمين ما لم يكفر، هذا هو المذهب الظاهر، وفيه وجه بعيد ذكرته فيما تقدم.
هذه مقدمة مهدناها، ونخوض بعدها في بيان غرض الفصل.
9542 - فإذا ظاهر وطلق على الاتصال، فلا يخلو إما أن يكون الطلاق رجعياً، وإما أن يكون الطلاق بائناً، فإن كان الطلاق رجعياً، فهذا (1) يمنع حصول العَوْد، فإذا لم يحصل العود، لم يلتزم الكفارة أصلاً، فإن راجعها وأمسكها صار عائداً، واختلف أصحابنا في أنه هل يصير بنفس [الرجعة] (2) أم بالإمساك بعدها؟ وهذا مما قدمنا ذكره، وظاهر النص يدل على أن نفس الرجعة عوْدٌ، وهو القياس؛ فإن العود مخالفةٌ [لمقتضى] (3) الظهار، وإذا كان إمساك ساعة مناقضاً للظهار، فالرجعة أولى بأن تكون مناقضة للظهار.
ومن فوائد (4) الوجهين أنا إن جعلنا نفسَ الرجعة عوْداً، فلو راجعها، ثم طلقها على الاتصال بالرجعة، فقد استقرت الكفارة بالظهار والعوْد وهو الرجعة، ولا أثر للطلاق بعد ذلك، وإن لم نجعل نفسَ الرجعة عوداً، فلو طلقها عقيب الرجعة، فهو غيرُ عائد، والكفارة غيرُ لازمة، هذا إذا كان الطلاق رجعياً.
فأما إذا كان الطلاق بائناً، أو كان رجعيّاً فتركها حتى انسرحت بانقضاء العدة، فإذا جدّد النكاح عليها، فقد قال الأصحاب أولاً: هل يعود موجَب الظهار في النكاح الثاني على ما نفصله؟ قالوا: هذا يبتني على عَوْد الحنث، وفيه قولان منسوبان إلى الجديد والقديم، ثم بنَوْا عليه أنا إذا قلنا بعوْد الحنث، فالنكاح كالرجعة، فإن أمسك بعد النكاح، فقد عاد، ولزمت الكفارة الآن، وهل يكون نفس النكاح عوداً؟ فعلى
__________
(1) لا يصح أن يفهم من هذا أن الطلاق الرجعي وحده هو الذي يمنع العود، بل البائن من باب أولى، كما سيأتي تفصيله.
(2) في الأصل: الرجعية.
(3) في الأصل: يقتضي.
(4) المراد بفوائد الوجهين ما يعبّر بأثر الخلاف، أي ما يترتب على الفرق بين الوجهين، وقد ظهر هذا في المثالين الآتيين.

(14/511)


وجهين وقد قدمنا ذكرهما، ورتبناهما على الوجهين في الرجعة.
هذا إذا رأينا عوْد الحنث.
وإن قلنا: لا يعود فكما (1) بانت انقطع الظهار وزال أثره، فلا تحرم في النكاح الثاني ولا تلزم الكفارة.
9543 - وقد أرسل معظمُ الأصحاب ذكر القولين، ولم يعتنوا بالتعرّض للكشف، ونحن نذكر سؤالاً ينصّ على إشكال المسألة، ثم نخوض في الجواب بعدها. فإن قال قائل: إذا ظاهر عن امرأته، ثم أبانها، هلاّ قلتم: إنه بالإبانة حقق التحريم الجاهلي، ووفّى بما كانوا يَرَوْنَه ويعتقدونه، وليس كالطلاق الرجعي؛ فإنه من خواص الإسلام، ولم يعهد رجعة في الجاهلية على سبيل القهر، فإذا حقق معهودَ الجاهلية، فينبغي أن يكون هذا وفاءً بمقتضى اللفظ، ومن وفّى بمقتضى اللفظ، استحال أن يكون مخالفاً لها ناقضاً (2) لمعناها (3)؛ هذا وجه.
وإن جُعل الظهار مقتضياً تحريماً مسترسلاً على الأزمان، وقيل الظهار علّة (4) الكفارة، [وللعلة] (5) شرطٌ، وهو العَوْد، فإن اتصل العود، فقد وُجدت العلةُ وشرطها، [فوجبت] (6) الكفارة، وإن ظاهر وكما (7) ظاهر أبان، ثم نكح بعد طول الزمان، فهذا النكاح مناقض للظهار الذي مقتضاه التحريم المسترسل، ومهما (8) وجدت العلّة وتخلف عنها شرطها، فإذا وجد الشرط، وجب ثبوت الحكم المعلول،
__________
(1) فكما: بمعنى عندما.
(2) (ت 2): مناقضاً.
(3) وعود الضمير مؤنثاً هنا إما أن يكون على تقدير تأنيث (اللفظ) بمعنى (الكلمة أو اللفظة) أو عائد على (الجاهلية) فالمناقضة لمعناها في الظهار.
(4) (ت 2): محلّه.
(5) في النسختين: والعلة.
(6) في الأصل: من حيث الكفارة. وهو من عجائب التصحيف، حيث جعل الكلمة الواحدة (فوجبت) كلمتين (من حيث).
(7) وكما ظاهر: بمعنى عندما ظاهر.
(8) ومهما: بمعنى إذا.

(14/512)


فهذا (1) المسلك لو صحّ، لوجب القطع بأن الكفارة تجب بالنكاح الثاني، ولا يخرّج (2) هذا على اختلاف القول في عَوْد الحنث.
والذي يعضد هذا السبيل أن خاصّية النكاح في هذه الأبواب طلب (3) الطلاق أو الطلاق نفسه، كما يفرض (4) في تعليق الطلاق مع تخلل البينونة، أما لزوم الكفارة، فليس من خواص النكاح، فحاصل السؤال بعد هذا البسط (5) أنا إن جعلنا البينونة وفاءً بتحريم الظهار، فليقع الاكتفاء بها، حتى لا نَفْرِضَ عوداً أو لزوم كفارة، ولتقع البينونة مع الظهار موقع البرّ من اليمين.
وإن لم يكن الأمر كذلك، ورأينا التحريم مسترسلاً على الأزمان، فينبغي أن يتحقق العود في النكاح الثاني قولاً واحداً، كيف فرض الأمر، كما قلنا إنه لو ظاهر وعاد، فالتحريم مسترسل على كل نكاح من غير بناء على عود الحنث.
9544 - هذا حاصل السؤال ونحن نقول: أما الطرف الأول من السؤال وهو إحلال البينونة محل البرّ في اليمين، فلا أصل له من وجهين: أحدهما - أنه لو كان كذلك، لكان إذا ظاهر، ثم طلق طلاقاً رجعياً، يُجعل عائداً لقدرته على الإبانة (6)، وآية ذلك أن الرجعية إذا انسرحت، فالبينونة تحصل مع انقضاء العدة غيرَ (7) مستندة، فالذي يطلق طلاقاً رجعياً مؤخرٌ للبينونة قطعاً.
__________
(1) (ت 2): وهذا المسلك أوضح لوجوب القطع فإن الكفارة.
(2) (ت 2): ولا يخرُج هذا عن اختلاف.
(3) لعل المعنى أن من خواص النكاح جواز الطلاق، فلا طلاق إذا لم يكن نكاح.
(4) (ت 2): كما يعرض في تعليق الطلاق تقع البينونة.
(5) (ت 2): الشرط.
(6) لقدرته على الإبانة: يعني بالطلاق الثلاث المبين، فهو بتطليقه طلاقاً رجعياً مؤخرٌ للبينونة، فهو إذاً ممسك: أي عائد، فهذا اعتراض على من جعل البينونة في الظهار كالبرّ في اليمين، أي تقطع آثار الظهار، فلا تعود في النكاح الثاني.
(7) (ت 2): غير مستقل.
ثم معنى غير مستندة، أن البينونة لا تحصل إلا مع انقضاء العدة، ولا نحكم بأنها حصلت مع أول لحظة بعد الطلاق مستندةً إلى نيته الجازمة في عدم الرجعة مثلاً. فلا بينونة إلا مع انقضاء العدة.

(14/513)


هذا وجهٌ في الرد على هذا الطرف.
وأما الوجه الثاني - فهو أنا لم نتعبد بتحقيق التحريم ومطابقة الجاهلية، فلا ينبغي أن يكون ذلك مظنونَ فقيهٍ، ولو كان من غرض الشرع تحقيقُ الفراق، لأدام حكم الجاهلية في أن الظهار طلاق.
بقي الطرف الآخر، وهو سؤال السائل في أن الكفارة ينبغي أن تُلْتزم في النكاح الثاني قولاً واحداً، وهذا موضع التوقف، ولكن تحريم الظهار وثبوت الكفارة من خصائص النكاح؛ إذ لا يفرض [الظهار] (1) في مملوكة، وإن كان تحريم عين (2) المملوكة في إيجاب كفارة اليمين كتحريم عين المنكوحة، فإذا استدعى ابتداءُ الظهار نكاحاً، يجوز أن يستدعي العودُ النكاحَ الذي جرى الظهار فيه؛ فإن الظهار مع اقتضائه -من حيث الصيغة- التحريمَ اختص بالنكاح دون ملك اليمين، وإن كانت المملوكة تُسْتَحَلُّ وتَحْرُم بأسباب، وتَحْرُم التحريمَ المقتضي للكفارة، فيجوز أن يتقيد مُطلَقُه بالنكاح الذي جرى فيه، كما (3) أن قول القائل لامرأته: "إن دخلت الدار، فأنت طالق"، فهذا من جهة الصيغة مسترسل؛ فإذا ارتفع النكاح وبقي الطلاق المعلق، فإن المرأة تعود ببقية الطلاق، ومع هذا جرى قولا عوْد الحنث، فكذلك أجرَوْا حكم العود ولزوم الكفارة على قولَيْ عوْد الحنث.
وإنما ينتظم الكلام بذكر مراتب لا بد من التنبّه لها:
المرتبة الأولى لتعليق الطلاق - فإنه يُعلِّق ما يملكه في ذلك النكاح، فإذا انبتَّ ذلك النكاح، ثم فُرض عودٌ، جرى قولا عَوْد الحنث في أوانهما حقَّ الجريان.
والمرتبة الثانية -للإيلاء- فإنه يمين لا يستدعي نكاحاً، ولكن لما تعلّق به طلب الطلاق، انتظم فيه عَوْدُ الحنث والتخريجُ على القولين، ولعل الأظهر العودُ.
والظهار ليس طلاقاً ولا يُفضي إلى طلب طلاق، ولكنه تحريم يختص بالنكاح،
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(2) (ت 2): غير.
(3) (ت 2): كما حكمنا أن قول القائل.

(14/514)


ولا يجري ابتداءً إلا فيه، فلا يبعد تختلُ اختصاصِه بجميع آثاره بالنكاح الذي جرى فيه.
ويخرج على هذا المنتهى أن ما ذكرناه فيه إذا لم يتم الموجَب بالعود، فأما إذا تم [واستقرت] (1) الكفارة، فلا مدفع لها بعد استقرارها، ثم ينبني على قرارها أن التحريم لا يزول إلا بإبراء الذمة عن الكفارة، وهذا يُخرَّج على الالتفات على النكاح.
فإن قال قائل: يحل وطء هذه بملك اليمين، فلست أنكر أن هذا التفاتٌ منه على جنس النكاح على بُعد، ويَرِدُ عليه زوال التحريم وإن بقيت الكفارة بزوال النكاح الأول، ولا ينبغي أن تُشَوَّشَ القواعدُ (2) بالتفريع على الوجوه البعيدة.
9545 - هذا حاصل القول في عود الحنث، ولا يبقى فيه شيء إلا سؤال وجواب عنه: فإن قال قائل: من آلى عن امرأة، ثم أبانها قبل الفيئة، ثم نكحها، فإنه يلتزم بوطئها كفارةَ اليمين، وإن قلنا: إن الحنث لا يعود، فهلا قلتم: كفارة الظهار تجب في النكاح الثاني على هذا القياس؟
قلنا: لزوم كفارة اليمين لا اختصاص له بالنكاح؛ فإنه يجرى في ملك اليمين، بل في السفاح، وأما كفارة الظهار، فإنها تختص بالنكاح اختصاصَ تحريم الظهار، بل التحريمُ والكفارة مقترنان اقتران ارتباط.
هذا منتهى الكلام في ذلك.
9546 - وقد يجري في نفس الفقيه الذي يطلب الغايات أن الظهار بنفسه هل يُحرِّم الوطء حتى يقال: إذا حرمنا المسّ، فلو ظاهر ومس في الزمن الذي يفرض [الإمساك] (3) فيه، فيحرم المس قبل تحقق العود، أم يقال: إنما يثبت ابتداء التحريم إذا وجبت الكفارة؟ هذا سأذكره موضحاً في فصل تأقيت الظهار، وإنما أخرته لغرض يتبين، إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل، وفي (ت 2): استقرت. (والواو زيادة من المحقق).
(2) (ت 2): العوائد.
(3) في النسختين: الإنسان. والمثبت تصرّف من المحقق.
ثم المراد بزمان الإمساك اللحظة التي يمسكها فيها بعد الظهار قبل تحقق العود.

(14/515)


واختيار المزني أن الحنث لا يعود، وطردَ اختياره في الظهار، وهذا يقوّي نظرَ الفقيه في إجراء العود هاهنا.
فصل
قال: "ولو تظاهر منها، ثم لاعنها مكانه، بلا فصل ... إلى آخره" (1).
9547 - التفريع على ما هو المذهب، وهو أنه إذا ظاهر وأمسكها في زمان يتأتى فيه الطلاق؛ فإنه يصير عائداً ملتزماً للكفارة، فلو ظاهر عنها، ثم أراد اللعان متصلاً، فكيف السبيل فيه؟ ظاهر النص أنه يسقط حكم الظهار، ولا يكون عائداً.
وهذا كلام مبهم في تصويره، فاختلف أصحابنا فيما يمنع مصيرَه (2) عائداً، فمنهم من قال: إذا ظاهر، ثم قذف على الاتصال، واشتغل (3) بالمرافعة إلى الحاكم، وتهيئةِ أسباب اللعان، فلا يصير عائداً، حتى لو تظاهر عنها، ثم قذفها على الفور، ولم يؤخر الاشتغال بأسباب اللعان، فليس عائداً، وإن بقي في ذلك إلى حصول الغرض أياماً؛ لأن هذا اشتغال بأسباب الفرقة، فَحَلَّ محلَّ الاشتغال بنفس الفرقة.
ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة تصور فيه (4) إذا قدّم القذف وحصل الترافع، وتجمعت الأسباب، ولم يبق إلا إنشاء كلماتِ اللعان، فإذا قدم عليها الظهارَ، وعقَّبه بإنشاء اللعان، فهو غير عائد، وإن لم تكن كذلك، فهو عائد.
ومن أصحابنا من قال: ينبغي أن يقدم كلماتِ اللعان حتى لا تبقى منها إلا كلمة اللعن؛ فإذا ظاهر، ثم أتى بكلمة اللعن، لم يكن عائداً.
وهذا سرفٌ ومجاوزة حدٍّ، ولكنه اختيار ابن الحداد، ووجهه على بعده أن كل كلمة من كلمات اللعان مستقلة بإفادة معنى، ولا تستعقب واحدةٌ منها الفراق، وإنما يحصل ترك العوْد بتعقيب الظهار بكلمةٍ أو كلمات يقترن بإفادتها المعنى حصولٌ الفراق.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 125.
(2) (ت 2): تصيّر.
(3) (ت 2): واستقل بالمواقعة.
(4) في الأصل: تصدر، و (ت 2): تصوم إذا قدم القاذف.

(14/516)


ثم خالفه معظمُ الأصحاب وألزموه أموراً ما أُراها مسلّمة على قياسه، وذلك أنه قيل له: لو قال المظاهر: يا زينب أنت طالق، فهذا ليس بعائد، وكان من الممكن أن يقول: طلقتك، ولا يزيد عليه، ويجوز أن يقال: إذا قال: يا زينب، فهذا اشتغال منه بما لا يَعْنيه، فيقع هذا ممنوعاً على رأي ابن الحداد.
ويجوز أن يقال: المرعيُّ مقصود الكلام، وقول القائل: يا زينب أنت طالق، مقصوده التطليق، ولا تستقل كلمة مما ذكره بإفادة معنى مستقل، وللأول أن يقول: قوله: يا زينب كلام مفيدٌ، وقد عدّه النحاة جملةً مستقلة مركبةً من اسم [وحرف] (1) ينوب مناب فعلٍ، والكلامُ المفيد مبتدأ وخبر، واسم وفعل، والأظهر التسليم [بالفرق] (2).
9548 - ومما يتصل بذلك أن الزوج إذا اشترى زوجته [المملوكة] (3) -والتفريع على أنه لا يصير عائداً- فقد ادعى الأصحاب على ابن الحداد أنه جعل الاشتغال بأسباب الشراء (4) مانعاً من العود، كقوله اشتريت، فهذا ما لا أشك في كونه ممنوعاً على رأيه.
وإنما النظر على الطريقة الأخرى، فإذا ظاهر، وكان الشراء ممكناً متيسّراً، فأقبل على تحصيله، ولم يقصّر، فيجوز أن يقال: من ذهب إلى أن القذف والاشتغال بأسباب اللعان يمنع من العَوْد، فالاشتغال بأسباب الشراء المتيسر هكذا يجري.
ومن صار إلى أن القذف والمرافعة وغيرهما من الأسباب إلى النطق بكَلِم (5) اللعان حقُّها أن تتقدم، فلا يجعل الاشتغال بأسباب الشراء مانعاً. فأما إذا كان الشراء متعذراً، فالاشتغال بتسهيله لا ينافي العود عندي. والعلم عند الله.
__________
(1) (ت 2): وحرف ينوب ثبات فعل الكلام المفيد. وفي الأصل: وصوت ...
(2) في النسختين: التسليم والفرق.
(3) غير مقروء في الأصل.
(4) (ت 2): جعل الاشتغال بلسان الشرع.
(5) (ت 2): بحكم اللعان.

(14/517)


9549 - وفرّع الأصحاب على مضمون الفصل، فقالوا: إذا ظاهر عن امرأته، ثم قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق، فهذا عائدٌ؛ لأنه أخر الطلاق مع الاستمكان من تنجيزه، فلو كان قال أولاً: إن دخلتُ أنا الدار، فأنت طالق، ثم ظاهر وعقّب الظهار بالاشتغال بالدخول، فهو بمثابة الاشتغال بالشراء المتيسر، وقد قدمنا الفصل فيه.
فصل
قال: "ولو تظهر منها يوماً، فلم يصبها ... إلى آخره" (1).
9550 - مضمون الفصل الكلام في الظهار المؤقت، فإذا قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي خمسةَ أشهر مثلاً، أو يوماً، ففي انعقاد الظهار قولان مأخوذان من قاعدة المعنى واتباع معهود الجاهلية، فمن اتبع المعهود أبطل الظهار المؤقت، ومن تمسك بالمعنى، فقد أثبت للظهار المؤقت حكماً على تردُّدٍ، سيبين في التفريع.
والأوْلى أن نقول: لا ظهار على القديم، تعلّقاً بالاتباع، وفي الجديد قولان: أحدهما -البطلان أيضاًً.
والثاني - الثبوت، وهذا يقرب من التردّد في أن الغالب على الظهار معنى الطلاق أو شوْب الإيلاء، ولا يكاد يخفى وجه التلقي.
فإن ألغينا اللفظ، فلا كلام، وإن صححناه، ولم نُلغه، فالظهار يثبت مؤقتاً أم يتأبد؟ فعلى وجهين منطبقين على تغليب الطلاق والإيلاء، فإن غلبنا الطلاق، كان الظهار المؤقت كالطلاق المؤقت، فيتأبد، وينحذف (2) ذكر الوقت عنه.
وإن غلبنا مشابهة الأيمان، [يبقى] (3) التأقيت؛ فإن اليمين إذا خصت بزمان، اختصت به، فليكن الظهار كذلك.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 126.
(2) (ت 2): ومجرد ذكر المؤقت عنه.
(3) في النسختين: يُنفى.

(14/518)


فإن قلنا: يتأبّد اللفظ المؤقت، فالعود فيه كالعوْد في الظهار المطلق على ما سبق تفصيله (1).
وإن قلنا: يثبت الظهار مؤقتاً، فالعود فيه على وجهين: أحدهما - أن العود فيه كالعود في الظهار المطلق، فإذا ظاهر، ثم سكت ساعةً -وإن قلّت- فهو عائد ملتزمٌ للكفارة، هذا أحد الوجهين.
والثاني - أن العود في الظهار المؤقت هو الوطء، وإن كنا نقول: العود في الظهار المطلق يحصل بإمساك ساعة تَسَعُ الطلاقَ.
توجيه الوجذهين: من قال: يحصل العودُ بالإمساك في لحظةٍ، جعل الظهار المؤقت كالظهار المؤبد.
ومن نصر الوجه الثاني -وهو ظاهر النص (2) - احتج بأن قال: التحريم في الظهار المؤبد متعلق بجميع الأزمان، أخذاً من صيغة اللفظ، فإذا وُجد الإمساك في لحظة، فقد ناقض التحريم الذي اقتضاه الظهار، وإن كان الظهار مؤقتاً، فعقبه الإمساكَ، والسكوتَ في لحظة، اتجه في ذلك أنه يُمسكها لينتفع بها وراء المدة (3) ولا ظهار وراءها، فلا يتجرد الإمساك للمناقضة، والوطء إيقاع المخالفة وتحقيق المضادّة؛ فإنه ليس كما يرتبط بما سيكون.
هذا بيان الوجهين في العود، وسنعود إليهما بمزيد إيضاح مفرعين.
9551 - فإن قلنا يثبت الظهار المؤقت، وقد جرى العوْد على الخلاف المقدم، فالواجب على المذهب الظاهر كفارةُ الظهار، وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا تجب إلاّ كفارة اليمين، وكأنّ لفظ الظهار ينزل منزلة لفظ التحريم، وقد قال علماؤنا: إذا صححنا الظهار مؤقتاً، فلو قال لامرأته: حرمتك -وقصد تحريم العين الموجب
__________
(1) في نسخة (ت 2) سقط لعدة أسطر، فعبارتها هكذا: فالعود فيه كالعود في الظهار المطلق يحصل بإمساك ساعة تسع الطلاق ... إلخ.
(2) (ت 2): المذهب.
(3) (ت 2): من المدة.

(14/519)


لكفارة اليمين- وأقّت التحريم بوقتٍ، فالأصح صحةُ التحريم، فإنه أشبه باليمين من الظهار؛ من جهة أن موجبه موجب الحنث في اليمين.
وخرَّج الأصحابُ وجهاً آخر في إلغاء التحريم وإبطاله رأساً؛ لأنه ورد في الشرع مطلقاً، كما أن الظهار ورد مطلقاً.
ومما نفرعه في الظهار المؤقت أنه إذا ذكر أَمَداً وحكمنا بأن الوقت يثبت، فلو طلق عقيب الظهار، فهو غير عائد (1)، وإن راجع، نُظر: فإن جرت المراجعة في المدة، عاد خلافُ الأصحاب في أن الرجعة بنفسها هل تكون عَوْداً، وهذا تفريع على أنا لا نشترط الوطء في العود، ولو تركها حتى انقضت المدّة ثم راجعها، فليس عائداً، وقد تصرم الظهار بانقضاء الوقت، ولم يبق له حكمٌ.
9552 - ومما يتعلق بتفريع الظهار المؤقت أنه لو قال: أنت عليّ كظهر أمي خمسةَ أشهر، ثم تركها وولّى، حتى مضت أربعة أشهر، قال الأئمة: إن قلنا: إن العود هو الإمساك، فلا نجعله مولياًً؛ فإن الكفارة لا يتعلق وجوبها بالوطء وإن قلنا: العود في الظهار المؤقت الوطء، فهذا شخص يلتزم بالوقاع -الكفارة- بعد أربعة أشهر أمراً بسبب أنشأه في النكاح، وهذا حقيقة المولي ونصه (2).
وكان شيخي يقول: لا نجعله مولياًً، فإنه ليس حالفاً، وقد ذكرت تفصيل ذلك فيه إذا حرمها، ثم انقضى أربعة أشهر، وفرعنا على وجه ضعيف في أن الكفارة في التحريم لا تجب قبل الوطء وإنما تجب عند الوطء، فهل نجعله مولياًً مطالَباً إذا مضت أربعة أشهر؟ فعلى تردّدٍ وخلافٍ قدمته في فصل التحريم من هذا الكتاب.
9553 - ومن أهم ما يجب دَرْكُه -وقد أخّرتُه من صدر باب العود إلى هذا الفصل- الكلامُ في أن نفس الظهار هل (3) يحرِّم أم يثبت التحريم بالظهار بالعود؟
__________
(1) (ت 2): فهو عائد.
(2) (ت 2): ونفيه.
(3) عبارة (ت 2) في غاية الاضطراب، فقد جاءت هكذا: "هل يحرّمان لا يثبت التحريم بالظهار والعود، فلا شك في تحريم الوطء والكلام في الظهار ... إلخ" فهذا سقط مع الاضطراب.

(14/520)


فنقول أولاً: إذا حصل الظهار والعودُ، فلا شك في تحريم الوطء، والكلامُ في الظهار المُطلق، وذلك لأن الظهار والعودَ يوجبان الكفارة، ونصُّ القرآن ناطقٌ بامتداد التحريم بعد وجوب الكفارة إلى التخلي منها، والخروج عن عهدتها، قال الله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فأوجب تقديم التكفير على المماسّة، فكان ذلك نصّاً فيما ذكرناه.
فإن فرعنا على أن الظهار يحرّم اللمسَ تحريمَه الجماعَ -وإنما (1) اخترنا التفريع على هذا القول ليسهل تصوير اللمس في اللحظة (2) الخفيفة والساعةِ المختلسةِ، ثم إذا ظهر أثر قولنا في اللمس تفريعاً على تحريمه- اتّسق الحكم نفياً وإثباتاً في الوطء.
[والظاهر] (3) عندي أن الظهار بمفرده لا يُحرِّم، وإنما يحصل التحريم إذا لزمت الكفارة؛ فإن التحريم مرتب على وجوب الكفارة، والخروجُ منه مرتب على أداء الكفارة، وهذه الكفارة تجري على الضد من كفارة اليمين، فإن الحنث فيها يوجب الكفارة، ووجوب الكفارة في هذا الباب يقدُم التحريمَ، هذا، والدّليل (4) عليه أن الظهار لو كان يحرّم بعينه، لحرَّم الإمساك، ولأوجب الطلاق، فلما لم يكن الأمر كذلك، وجاز الإمساك، تبين بهذا ما ذكرناه، والدليل عليه أن إمساك ساعة مناقض للظهار، ولهذا كان عوداً، فدل أن مُناقِضَه لا يَحْرُم به، فهذا ما أراه.
وإذا فرعنا [على] (5) الظهار المؤقت، ورأينا العود فيه بالوقاع -على ما سنشرح ذلك على أثر هذا شرحاً واضحاً -إن شاء الله تعالى- فالوطء الذي هو العودُ يجب ألا يَحْرُم، ويكون حصولُ الوطء بمثابة حصوله والطلاقُ (6) الثلاث معلّق عليه، وقد
__________
(1) (ت 2): فلما اخترنا.
(2) (ت 2): في الحقيقة.
(3) في الأصل كما في (ت 2): الظاهر (بدون واو).
(4) (ت 2): والتعليل.
(5) زيادة من المحقق.
(6) والطلاق الثلاث معلق عليه: الواو واو الحال، والمعنى أن حصول الوطء هنا يشبه حصول الوطء فيما إذا قال: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاً.

(14/521)


حكينا عن بعض الأصحاب أن من قال لامرأته: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثاًً لا يحل له التغييب، ولا شك أن هذا الوجه يُخَرَّج هاهنا.
9554 - ثم تمام البيان في ذلك يتعلق بشرح العَوْد في الظهار المؤقت: قال الصيدلاني: إذا جعلنا العود بالوقاع، فليس معناه أنه عين (1) العود، ولكن إذا حصل الوطء، تبينا (2) أن العود حصل بالإمساك في لحظةٍ عقيب كلمة الظهار، ولكنا لا نتبين هذا إلا بالوقاع.
وبيان ذلك أنا لم نجعل الإمساك عوداً -على هذا الوجه الذي نفرع عليه- لجواز أن يكون الإمساك للاستحلال بعد مدة الظهار، فإذا حصل الوطء في المدة، تبين أن الإمساك مصروف إلى الاستمتاع الذي وقع.
وهذا فقيه حسن، واتجاهه من طريق المعنى ما ذكرناه، وانتظامه في ترتيب المذهب أن الشافعي في الجديد لا يجعل عين الوقاع عوداً، مع علمه بأن الظهار والعود في نص القرآن مقدّمان على الوطء والتماسّ، فإنْ نصَّ الشافعيُّ رحمه الله على الجماع نتبين أنه شرطه ليتسنَّى صرفُ الإمساك إليه لا لعينه.
وذكر غيرُ الصيدلاني أن الوقاع في عينه هو العود على هذا القول، ولا نتبين حصول العود قبله؛ فإن الممسك قد يضمر بإمساكه الاستحلال وراء المدة، ثم يتفق الوقاع، فلا معنى للمصير إلى أن الوقاع ينعطف على تعيين الإمساك للاستمتاع، ونحن من طريق الحس نجد الرجل يمسك ولا يُضمر غرضاً، وإنما نجعل العود في الظهار المؤقت جماعاً لضعف الظهار، وإذا ضعف، افتقر إلى عودٍ قوي.
فإذا تبين هذا، أعدنا فصلَ التحليل، وقلنا: إن كنا (3) نجعل عين الوطء عوداً من غير تقدير انعطافٍ وتبيُّنٍ، فالوجه ما ذكرناه من أن الوطأة الأولى لا تحرم.
وإن سلكنا مسلك الصيدلاني في أنا نتبين بالوطء حصول العود بالإمساك المعقب
__________
(1) (ت 2): غير العود.
(2) (ت 2): يثبت.
(3) (ت 2): إن كان يحصل عن.

(14/522)


[للظهار] (1)؛ فعلى هذا لا نطلق القول بتحليل الوطء؛ فإنا نتبين أن العود سابق عليه. ولو قال الرجل لامرأته: إذا وطئتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، فالإقدام على الوطء محرَّمٌ؛ فإنه لا يقع إلا بعد وقوع الطلاق.
وعنينا بالوطء التغييب، فأما ما دون ذلك فليس بوطء.
وقد نجز غرضنا في بيان الظهار المؤقت.
...
__________
(1) في الأصل: بالظهار، وساقطة من (ت 2)، والمثبت من المحقق.

(14/523)


باب عتق المؤمنة في الظهار
9555 - إيمانُ الرقبة المعتَقة شرطٌ في جملة الكفارات، فلا تُجزىء رقبةٌ كافرة في كفارة.
9556 - ولو نذر إعتاقَ رقبة، فإن عيَّن عبداً كافراً والتزم إعتاقه، جاز، وكذلك لو كان معيباً، فعيّن إعتاقَه في التزامه، جاز ولزمه الوفاء بنذره.
ولو أطلق ذكر عبدٍ، فقال: لله عليّ أن أعتق عبداً، فهل يخْرُج عن موجب نذره بإعتاق رقبة كافرة، أو معيبةٍ بعيب يمنع من الإجزاء في الكفارة؟ في المسألة قولان مبنيان على أن مطلق [النذر] (1) يحمل على أقل إيجاب الله تعالى، أو على أقل ما يتقرب به إلى الله تعالى.
فإن حملناه على أقل درجات الإيجاب، لم يُجزىء الكافر والمعيب، وإن حملناه على أقل درجات التقرب إلى الله تعالى أجزأ؛ فإن التقرب إلى الله بإعتاق الكافر والمعيب سائغ، وعلى هذا الأصل تخرج مسائلُ ستأتي مشروحةً في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى.
9557 - فإن قيل: لو نذر لله تعالى صوماً، فماذا يلزمه؟ قلنا: يلزمه صوم يوم.
فإن قيل: أقل وظيفة واجبة من الصيام في الشرع ثلاثة أيام، وهي كفارة اليمين، قلنا: كل يوم منه فرضٌ على حياله، والأيام الثلاثة تناظر ثلاثَ رقاب.
وخالف أبوحنيفة (2)، فلم يشترط الإيمان في شيء من الرقاب المعتقةِ في الكفارات إلا كفارةَ القتل، والمسألة مشهورة.
__________
(1) غير مقروءة في الأصل، وقد تقرأ (النية). والمثبت من (ت 2).
(2) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 493 مسألة 1033، المبسوط: 7/ 2.

(14/524)


9558 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن كانت أعجمية وصفت الإسلام ... إلى آخره" (1).
العبد الأعجمي إذا وصف الإسلام بلسان العرب، وعلمنا أنه كان يعلم معناه، فهو كالعربي، وإن كان لا يعلم معناه، فلا حكم لما صدر منه.
ثم ذكر الأصحاب بعد هذا تقسيمَ الإسلام وما يحصل الايمان به، وقسّموه إلى ما يحصُل إنشاءً وابتداء، وإلى ما يحصُل تبعاً.
والقول في جهات التبعيةِ، وفي الإسلام الحاصلِ به، والأحكام المتعلقة بذلك الإسلامِ مستقصىً في كتاب اللقيط على أحسن وجه وأبلغِه في البيان، فيه نصصنا على إعتاق الطفل المحكوم له بالإسلام تبعاً عن الكفارة، ثم ذكرنا إعرابه عن نفسه بالكفر بعد البلوغ، والتفصيل فيه، فلا نعيد هذا الفن.
والقسم الثاني هو الإسلام الحاصل إنشاء، أما العَقْدُ، فلا مطَلعَ عليه، وإنما يعرفه خالق الخلق، وكلامنا يتعلق بالظاهر، فنتكلم فيمن يُسلم وفيما هو الإسلام.
فأما المكلف، فيصح إسلامه ابتداء إذا اختار الإسلام، فإن اكره عليه وكان حربياً، فكذلك نحكم بإسلامه، والذّمّي إذا اكره، فأسلم، ففي المسألة وجهان.
وأما المجنون فلا عبارة له، والصبي لا يصح منه إسلامه بنفسه على ظاهر المذهب، وذكرت فيه خلاف الأصحاب من وجوهٍ في كتاب اللقيط، فلا أعيده.
9559 - والذي أخّرناه إلى هذا الكتاب [الكلامُ] (2) فيما يصح الإسلام به: لا خلاف أنا لا نشترط أن [يُعرب] (3) من يحاول الإسلام عن جميع قواعد العقائد؛ حتى لا يغادر منها قاعدةً.
فالأصل الذي اعتمده الشرع وهو من أبدع البدائع، وأعجب الأمور، وقد ذهل
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 128.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "يعرف".

(14/525)


عنها معظم العلماء (1) الإتيانُ بالشهادتين، وهما على التحقيق يحويان القواعدَ جُمَع؛ [إذ] (2) في التوحيد الاعتراف بالإله والوحدانية، وفيه التعرض لصفات الإلهية وتفويض الأمور إلى من لا إله غيره.
والشهادة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم تصدّقه في جميع ما أتى به. وعن هذا قال عليه السلام لما سأله جبريل عليه السلام -في الحديث المعروف- عن الإسلام، فقال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" (3).
ثم إذا تبين وظهر إشارة الشرع إلى الشهادتين، فللأصحاب طريقان في المسألة: منهم من قال: لا يحصل الإسلام إلا بالشهادتين، ورأى ذلك باباً من التعبد؛ حتى قال (4). المعطِّلُ (5) إذا قال: لا إله إلا الله، لا نحكم بإسلامه ما لم يقل: محمد رسول الله.
وقال المحققون: [من أتى بالشهادتين بما يخالف عقده] (6) حُكم له بالإسلام،
__________
(1) (ت 2): الأئمة.
(2) في الأصل: إن. وساقطة من (ت 2).
(3) حديث جبريل عن الإسلام متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله، حديث رقم 5).
(4) حتى قال: القائل هو فريق من الأصحاب، الذي قال عنه آنفاً: ومنهم من رأى ذلك باباً من التعبد حتى قال.
(5) المعطّلُ: مبتدأ، وليس فاعلاً لـ (قال) كما ذكرنا فيما قبله.
ثم المعطِّل هنا ليس المعتزلي، فحاشا الإمام أن يكفّر المعتزلة، والشائع في الاستعمال على الألسنة أن المعتزلة يسمون المعطِّلة. ولكن المعطل هنا هو الكافر الذي لا يثبت الباري سبحانه وتعالى، كذا قاله شارح المقاصد عند تقسيمه أنواع الكفر والكافرين، فقال: إن أظهر الإيمان فهو المنافق، وإن أظهر الكفر بعد الإيمان فهو المرتد، وإن قال بالشريك في الألوهية فهو المشرك، وإن ذهب إلى قدم الدهر واستناد الحوادث إليه، فهو الدهري، وإن كان لا يثبت الباري، فهو المعطل ... إلخ (ر. كشاف اصطلاحات الفنون/مادة ك. ف. ر) فهذا هو المعطل الذي يقصده الإمام هنا. وفيما سبق عند حديثه عن أقسام الكفار، في باب نكاح حرائر أهل الكتاب.
(6) عبارة الأصل مضطربة، فقد جاءت هكذا: "وقال المحققون: في أتى من الشهادتين بما يخالف عقده" ... إلخ والمثبت من (ت 2).

(14/526)


فإذا قال المعطل: لا إله إلا الله، صار مسلماً (1)، وعرض عليه شهادة النبوة، فإن أتى بها، وإلا كان مرتداً، وكذلك إذا قال الثنوي بإثبات الإله، فليس بمسلم (2)، فإن وَحّد، حُكم له بالإسلام. وإذ قال اليهودي أو النصراني: محمد رسول الله، حكم بإسلامه (3) وإن لم يوحّد؛ فإن النصراني يثلث، واليهودي يقول العزير ابن الله.
وحاصل هذه الطريقة أن من أتى من الشهادتين بما يوافق ملّته، فلا يصير مسلماً، ومن أتى من الشهادتين بما يخالف ملّته، حكم له بالإسلام، وإن لم يأت بالشهادتين جميعاًً. وهذا هو الذي قطع به معظم المحققين من الأصحاب ثم قالوا: في الناس من يعترف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يزعم أنه مبعوث إلى الأمة الأمّية، وهم العرب، فلا يقع الاكتفاء منهم بأن يقولوا محمد رسول الله.
9560 - ونحن نفرع على الطريقتين: أما الطريقة الأخيرة، فإنا نقول عليها: لو اعترف يهودي أو نصراني بصلاة من الصلوات على موافقة ملتنا، أو بحكمٍ من الأحكام يختص بشريعتنا، [فهل] (4) نحكم بإسلامه؟ فيه اختلاف: فمنهم من قال: ينبغي أن يكون ما يعترف به من الشهادتين، والذي إليه ميل المعظم من أهل التحقيق أن هذا إسلام.
وضبط القاضي (5) هذا: بأن قال: كل ما إذا أنكره المسلم قيل: كفر لمّا جحده،
__________
(1) لأنه أتى بما يخالف عقيدته، فأثبت الألوهية والوحدانية لله سبحانه بقوله: (لا إله إلا الله)، والمعطل أصلاً لا يثبت الباري سبحانه.
(2) ليس الثنوي بمسلم إذا أثبت الإله، لأنه لم يأت بما يخالف عقيدته، فهو يثبت الألوهية الثنوية المعروفة من عقيدته، فهو يثبت إلهين: إله للخير إله للشر.
(3) لأن هذا خلاف عقيدة اليهودي والنصراني.
(4) في الأصل: فهذا. والمثبت من (ت 2).
(5) القاضي: هل هو القاضي الباقلاني أبو بكر، فحيث أطلق إمام الحرمين (القاضي) في علم الكلام وعلم الأصول، فإياه يعني، والمسألة هنا من مسائل علم الكلام؟
أم هو القاضي الحسين، فهو المعني عند إطلاقه في مجال الفقه، وإياه يعني على طول هذا الكتاب؟
نستعير من الإمام قوله: (المسألة محتملة). ولكن صرح الإمام الرافعي بأنه القاضي حسين، حينما حكى كلام الإمام هذا في كتابه. (ر. الشرح الكبير: 9/ 299).

(14/527)


فما يكفر بجحده يصير الكافر المخالف به مؤمناً بعقده.
ثم التصديق لا يتبعض، فإن صدق وراء ذلك بالجميع، فهو وافٍ بعقده، وإن كذب في غير ما صدق به، فهو مرتد.
ومَنْ شرط من أصحابنا الشهادتين اختلفوا في أنا هل نشترط التبرِّي من كل ملة تخالف ملة الإسلام، فمنهم من قال: لا يشترط ذلك، وهو الأصح الذي لا يسوغ غيره؛ فإن عماد الشرع الاكتفاء بالشهادتين، وعليه تدلّ الأخبار والآثار.
ومنهم من قال: يشترط التبري، وبضم هذه الكلمة إلى الشهادتين يصير الكلام جامعاً.
هذا بيان ما يظهر الإسلام.
9561 - والأخرس يشير بالإسلام، فيحكم له به، والشاهد فيه الخبر، ثم النظر، أما الخبر فحديث الخرساء وهو مشهور.
والنظرُ: اعتبار (1) الإسلام بسائر العقود؛ فإن إشارات الأخرس قائمة مقام عبارات الناطقين، وأبعد بعض أصحابنا؛ فشرط أن يضم إلى الإشارة إقامةَ صلاة، وهذا بعيد لا أصل له.
وقال بعض من يُحوِّم على التحقيق: إنما لا يحصل الإسلام بإشارة الأخرس؛ لأن الإشارة فيه تُناقِض ما يجب عقدُه في أوصاف الإلهية؛ إذ الإشارة لا تتم إلا بالإيماء إلى جهة، وما يُومأ إليه جسم، فإن قال قائل كيف تستجيزون ذكر هذا وحديث الخرساء (2) في الصحيح؟ قلنا: ذاك حديث مؤوّل باتفاقِ من عليه معوّل؛ فإن فيه أنه قال لها: "أين الله" وكل حديث يقضي العقلُ بإزالة ظاهره، فلا حجة فيه.
...
__________
(1) "اعتبارُ": قياسُ.
(2) حديث الجارية الخرساء رواه مسلم: المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، ح 537، وأبو داود: الأيمان والنذور، باب في الرقبة المؤمنة، ح 3282، 3283، 3284. ومالك في الموطأ: 2/ 776، والشافعي في الأم: 5/ 280، وأحمد في المسند 3/ 451، 452، والبيهقي في الكبرى: 7/ 387، قال الحافظ في التلخيص 3/ 448: ليس في شيء من طرقه أنها خرساء.

(14/528)


باب ما يجزىء من الرقاب وما لا يجزىء وما يجزىء من الصيام وما لا يجزىء (1)
9562 - ذكر في صدر الباب: أن من اشترى عبداً بشرط أن يعتقه، فهل يصح العقد، وإن صح، فهل يجب عتقه حقاً لله تعالى، وإذا فرض من المشتري الإعتاقُ، ونوى صرفَه إلى الكفارة هل ينصرف إليها (2)؟، وهذا الفصل مما استقصيناه بما فيه في كتاب البيع.
ثم قال: "لا يجزىء فيها مكاتَب ... إلى آخره" (3).
9563 - المكاتب كتابة صحيحة إذا أعتقه مولاه عن كفارته، نفذ العتق عن جهة الكتابة، ولم ينصرف إلى الكفارة عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (4).
وللأصحاب طرق في تعليل المذهب: منهم من قال: العتق يقع عن جهة الكتابة، وهو مستحَقٌّ فيها، فلا يقع عن جهة أخرى تستحق العتق فيها.
ومنهم من قال: المكاتب ناقص الرق؛ فضاهى المستولدة.
ومنهم من قال: إعتاقه ناقص؛ فإنه ليس إعتاقاً محضاً، وإنما هو إبراء؛ إذ لو كان إعتاقاً، لكان العتق يحصل معجلاً، فالذمة تبقى مشغولة بالعوض المسمى.
وإذا كان العبد مكاتباً كتابة فاسدة، فأعتقه مولاه عن كفارته، فهذا يترتب على أن
__________
(1) عنوان الباب بهذه الصورة هو ما في (ت 2) وآثرناه على العنوان المختصر (باب ما يجزىء من الرقاب) الموجود في الأصل، لموافقته الموجود في مختصر المزني.
(2) هذا معنى كلام الشافعي في المختصر، وليس بألفاظه. (ر. المختصر: 4/ 129).
(3) السابق نفسه.
(4) ر. مختصرالطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 493 مسألة 1035.

(14/529)


السيد إذا أعتقه، فهل يستتبع اكسابَ والأولادَ، وفيه اختلاف وتردد، سيأتي، إن شاء الله في الكتابة.
فإن قلنا: إنه لا يستتبع، فالإعتاق فسخٌ للكتابة الفاسدة، فينفذ عن الكفارة إذا نواها المعتِق.
وإن قلنا: يستتبع المكاتبُ الأكسابَ والأولاد، فعلى هذا الوجه في انصرافه إلى الكفارة خلافٌ، مبني على المعاني التي قدمناها؛ فإن وقع التعويل في الكتابة الصحيحة على نقصان الرق، أو على نقصان العتق، فهذا العتق منصرف إلى الكفارة؛ فإن الرق كامل، والعتق لا يتضمن إبراء الذمة عن عوض واجب، وإن عولنا في الكتابة على وقوع العتق عن جهة الكتابة، فلا ينصرف العتق في الفاسدة إلى جهة الكفارة لوقوعها عن جهة الكتابة.
9564 - ثم قال: "ولا تجزىء أمُّ ولد في قول من لا يبيعها ... إلى آخره" (1).
ظاهر هذا الكلام، يوهم تعليق القول في بيع أمهات الأولاد، وقد فهم المزني التعليق واختار منع البيع، ولم يحتجّ في اختياره إلا بنصوص للشافعي رحمه الله، قطع فيها بمنع البيع، وسكوتُه عن الاحتجاج بمعنىً ومسلكٍ في النظر من أصدق الشواهد على عظم قدره؛ فإنه لا يكاد يظهر معنىً في منع بيع المستولدة.
وقال بعض الأصحاب لم يردّد الشافعي قولَه، وإنما أشار إلى مذهب بعض السلف، وقد روي عن علي كرم الله وجهه في آخر العهد أنه قال ببيع أمهات الأولاد، وذكر في أثناء خطبة: "اجتمع رأيي ورأي عمر رضي الله عنه على أن أمهات الأولاد لا يُبَعْن، وأنا أرى الآن أن يبعن، فقام عبيدة السَّلماني، فقال: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك" (2).
__________
(1) السابق نفسه.
(2) حديث الإمام علي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/ 291، رقم 13224) والبيهقي في الكبرى (10/ 343، 348). وانظر التلخيص 4/ 403 تحت رقم 2742، وهو آخر حديث في الكتاب.

(14/530)


ومن أصحابنا من أجرى في بيعهن قولين [على الإطلاق] (1)؛ بناء على أن الإجماع هل يشترط فيه انقراض أهل العصر (2)، فإن وقع التفريع على القول البعيد، فإعتاقها جائز عن الكفارة، ولا حكم للاستيلاد، وكان رحمها ظرفاً احتوى على مولود، ثم نفضه، ولا تَعتِق بالموت.
وإن وقع التفريع على ما يجب القطع به، فإعتاقها لا يجزىء عن الكفارة، فإنها مستحقة العتاقة، وأبو حنيفة وافق في هذا، وإن أجاز إعتاق المكاتَب عن الكفارة.
9565 - ثم قال: "وإن أعتق مرهوناً، أو جانياً، أو غائباً ... إلى آخره" (3).
قد مضى القول في إعتاق الراهن العبدَ المرهونَ، وحظُّ هذا الكتاب منه أنا إن نفذنا عتق الراهن، قضينا بانصرافه إلى كفارته، إذا نوى صرفَه إليها.
فإن قيل: أليس نقصان الملك يمنع صرفَ العتق إلى الكفارة، ونقصانُ الملك وكماله يمتحنان بالتصرفات نفوذاً ورداً، قلنا: الملك في المرهون كامل، فإذا فرّعنا على نفوذ العتق، فهذا يتضمّن فكّ الرهن، ولا مانع سوى استيثاق المرتهن، فإذا كان في تنفيذ العتق ردُّه، فيصادف العتقُ ملكاً مفكوكاً عن الرهن، وليس كذلك عتق المكاتب، فإنه يقع على حكم الكتابة.
وعتق الجاني يُخرَّج على هذا، وقد اختلف القول في بيعه، ثم اختلف القول -على منع البيع- في عتقه، فإن نفذنا العتقَ، جوّزنا صرفَه إلى الكفارة.
9566 - ثم قال: "وإن أعتق عبداً له غائباً ... إلى آخره".
يجوز إعتاق العبد الغائب عن الكفارة إذا لم تنقطع الأخبار، فإن انقطعت الأخبار انقطاعاً يُغلِّب على القلب أنه أصابته آفةٌ هلك فيها، وذلك بأن لا نجد
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(2) يشير بهذا إلى تغير اجتهاد الإمام علي بعد موت عمر -رضي الله عنهما- وكان الإجماعُ قد استقر في عهد عمر على عدم جواز بيعهن. راجع اشتراط قضية انقراض المجمعين وهل تشترط في حصول الإجماع في (البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة: 640 - 643) - وهو من تأليف إمام الحرمين، ومن تحقيقنا.
(3) ر. المختصر: 4/ 129.

(14/531)


حاجزاً (1) للأخبار، فإذا أعتقه، ففي وقوعه عن الكفارة في الحال قولان، استقصيت القول فيه في كتاب زكاة الفطر، وأتيت فيه بالمسلك الحق، فليُطْلَب في موضعه.
وفائدة هذا الخلاف تظهر في كفارة الظهار: فإن حكمنا بالبناء على حياة العبد، فالإعتاق يُسلِّط على الوطء، وإن حكمنا بالبناء على وفاته واشتغال الذمة، فلا يتسلط المظاهر على الوطء، ولو منعناه، ثم تواصلت الأخبار بالحياة، تبيّنا أن الكفارة تأدّت، ووقع العتقُ موقعَه.
ولو أعتق المالك عبداً مغصوباً تحت يد ظالم لا يُغالَب، فقد قال القفال: إعتاقه عن الكفارة يجزىء وفي بعض التصانيف أن أبا حامد كان يقول: لا يجزىء لأن الغرض من الإعتاق تخليصُه من الأسر، وتمكينُه من التصرف، ولهذا لا يجزىء العبد [الأقطع] (2) لنقصان عمله، فإذا كان المحبوس بَعَيْبه عن التصرف لا يجزىء، فكذلك لا يجزىء المغصوب.
وهذا رديءٌ وغيرُ معتد به، ولست أراه من المذهب، ولم أطلع عليه في كتب العراق.
9567 - ثم قال: "لو اشترى من يَعْتِق عليه، لم يجزئه عن كفارته ... إلى آخره" (3).
من اشترى مَنْ يعتِق عليه، ونوى صرفَ العتق الحاصل فيه إلى كفارته، صح الشراء، ونفذ العتق، ولم ينصرف إلى الكفارة، خلافاً لأبي حنيفة (4)، وهو يبني هذا على أن الشراء عقدُ عَتاقة، ووجه الرّد عليه بيّن مذكور في المسائل (5)، ومذهب
__________
(1) كذا في النسختين.
(2) زيادة من (ت 2).
(3) ر. المختصر: 4/ 129.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 493 مسألة 1035.
(5) المسائل: يعني بها كتابَه (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) وذلك لأنه بناه على المسائل، فيقول بدلاً من الأبواب والفصول: مسائل الخلع ... مسائل الطلاق ... وهكذا.

(14/532)


الأصحاب أن من اشترى من يعتِق عليه، فإنه يملكه، ثم يحصل العتق مرتَّباً على الملك، قال أبو إسحاق المروزي: يحصل الملك والعتق معاً، وعُدّ هذا من هفواته.
ولو اشترى العبدُ نفسَه من مولاه، وصححنا منه هذه المعاملة، فهل يملك نفسَه؛ حتى يترتب عتقه على ملك نفسه (1)؟ فيه تردد معروف، وسيأتي شرحه، إن شاء الله في كتاب الكتابة، وعلى الخلاف ابتنى أمرُ الولاء، فمن قال: إنه يملك نفسَه يحكم بانقطاع الولاء، ومن قال: يترتب عتقه على ملك المولى، فالولاء للمولى، وهذا يأتي مشروحاً إن شاء الله عز وجل.
والفرق بين شراء الرجلِ من يعتِق عليه وبين شراء العبد نفسَه أن شراء من يعتِق عليه لا يُحيل حصولَ العتق (2) في المشترَى، ولولا ورود الشرع، لدام الملك، وكون الإنسان مالكاً لنفسه محال من طريق التصور، ومعتمد المذهب وقوع العتق من جهة القرابة، وهو مستحَق مع حصول الملك واقعٌ لا محالة.
ثم إذا اشترى النصف ممن يعتِق عليه، وكان موسراً، سرى العتق إلى الباقي، وعلى المشتري الضمان، ولو ورث النصفَ ممن يعتق عليه، نفذ العتق، ولم يَسْرِ، والسبب فيه أنّا لو سرّينا العتق المرتّب على الملك المستفاد بالإرث، لأحْبطنا ملك الشريك إن سرّيناه، ولم يضمن الوارث، وإن سرَّيناه وضمّناه، كان محالاً؛ فإن تغريمه مالاً فيما لم يتسبّب إليه بوجه من وجوه الاختيار محالٌ، لا سبيل إليه،
__________
(1) (ت 2): مولاه.
(2) هنا معنى دقيق قد يحتاج أن ننبه إليه: ذلك أن ظاهر العبارة قد يوحي بأن صوابَها: "فإن شراء مَنْ يعتِق عليه لا يُحيل حصولَ الرق". بدليل ما بعده.
ولكن الصواب ما ذكره؛ فالمعنى أن شراءه مَنْ يعْتِق عليه لا يُحيلُ ملكَ المشترَى، ذلك الملك الذي يترتب عليه -بعد حصوله للمشتري- العتقُ؛ فإن العتق لا يكون إلا عن ملك، فهو يعتِق من ملك المشتري لا من ملك البائع.
أما تملّك العبد نفسَه بالشراء من سيده، فمحالٌ من طريق التصوّر أن يملك نفسه.
وهذا يُرجح أن العبد يعتِق عن ملك الموْلَى، وبالتالي يكون الولاء لمولاه، وإن كان هو الذي نَقَدَه الثمنَ مشترياً به نفسَه.

(14/533)


والمشتري متسبّبٌ وإن لم يكن مُعتِقاً، والضمان يتعلق بالأسباب، كما يتعلق بالمباشرات، ثم يختلف التسرية باليسار والإعسار إذا اشترى النصفَ ممن يعتق عليه، كما يختلف ذلك في إعتاق أحد الشريكين نصيبه.
فصل
قال: "ولو أعتق عبداً بينه وبين آخر ... إلى آخره" (1).
9568 - إذا أعتق نصفين من عبدين، ولم يَسْر عتقُه بسبب الإعسار، فحاصل المذهب ثلاثةُ أوجه: أحدها - أنّ ذمته تبرأ؛ فإنّ ضمَّ شَطْر إلى شَطر يتضمن مساواة الإعتاق في العبد الكامل، والأنصاف والأشقاص في نُصُب الزكوات كالأشخاص، إذا فرض الضم فيها، فعلى مالك ثمانين نصفاً من الأغنام وشريكُه فيها ذمّي ما على مالك أربعين من الغنم من الزكاة، كما لو ملك أربعين خالصاً.
والوجه الثاني - أنه لا تبرأ ذمته عن الكفارة، فإنه متعبَّدٌ بإعتاق رقبة، وهو لم يعتق رقبة، وأيضاًً فالمقصود من الإعتاق حلّ رباط الرق والتخليص من أسر العبودية، وهذا المعنى لا يتحقق في إعتاق الشطرين؛ إذ كل واحدٍ منهما قد عتق نصفُه [ونصفه] (2) في الأسر والحجر.
والوجه الثالث - أنه إن أعتق نصفين من شخصين نصف كل واحد منهما حُرّ ونصفه رقيق أجزأه ذلك، وبرئت ذمته، وإن أعتق نصفين من رقيقين ولم يسر عتقُه لم يُجزه، والفارق بينهما أنه في الشخصين اللذين كل واحد منهما نصفه حرّ تسبب إلى تكميل الإطلاق، وحلِّ الوثاق، وحصل بجمع النصفين ما يحصل بإعتاق الرقبة الكاملة.
9569 - ولو كان بينه وبين شريكه عبد مشترك، فأعتق هو [شِرْكه] (3) ونصيبَه، وكان موسراً، فاختلاف الأقوال -في أن العتق يحصل على الفور والبدار أم يتوقف على
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 129.
(2) سقط من الأصل.
(3) في الأصل: شريكه.

(14/534)


تأدية قيمة حصة الشريك، حتى يحصل عقيب الأداء، أم نحكم بالوقف والتبيّن- مشهور (1) وسيأتي مستقصىً في كتاب العتق، إن شاء الله عز وجل.
فإذا فرضنا في الموسر، وفرعنا على الأصح، وهو تعجيل السراية باللفظ، فالعتق على الجملة يجري؛ لأنا نجعل معتق النصف معتقاً للجميع؛ فإن نصيب صاحبه ينتقل إلى ملكه في ألْطف زمانٍ ثم يعتق عليه، فيحصل جميعُ العتق في ملكه الخالص، ويكفيه النيةُ المقترنةُ بإعتاقه نصيبَ نفسه.
وقال القفال: أنا أُخرِّج وجهاً آخر: أنه إذا وَجَّه العتقَ على نصيب نفسه، لم يُجْزِه العتقُ في نصيب شريكه [وإن] (2) وقع. واحتج في ذلك بأنه متعبَّدٌ بالإعتاق، وهو لا يسمَّى معتقاً للرقبة؛ إذ العتق في البعض يقع شرعاً من غير إيقاعه، ويحسن منه أن يقول: ما أعتقت العبد بكماله، وإنما أعتقت نصفه، وعَتَق الباقي [عليَّ] (3).
ونُقل عنه بناء الوجهين على ما لو توضأ لاستباحة صلاة بعينها، وفيه أوجه: أحدها - أن الطهارة لا تصح أصلاً. والثاني - أنها تصحّ (4) لتلك الصلاة بعينها دون غيرها، وهذا على نهاية الضعف، وما كنت أظن أن القفال يذكر هذا الوجهَ؛ فإنه فاحش بالغ في الفساد. والوجه الثالث - أن الطهارة تصح وتصلح لجميع الصلوات.
ووجه التخريج أنه في مسألتنا خص نصيبه بتوجيه العتق عليه، وإن حصل العتق في الباقي، وفي الطهارة خصص النية تخصيصاً لا يقف الشرع عنده.
والأصح في المسألتين أن التخصيص لا أثر له، والطهارة تصلح للصلوات، والعتق بجملته يقع عن الكفارة.
وفي هذا فضل بيانٍ سنذكره.
وإذا فرّعنا على أن العتق يحصل في نصيب الشريك عند أداء القيمة، فالجواب كما
__________
(1) مشهور: أي الخلاف.
(2) في الأصل: فإن.
(3) في النسختين: "عليه".
(4) (ت 2): انعقدت لتلك الصلاة.

(14/535)


مضى، فإنه حيث يحصل [يحصل] (1) بسبب إعتاقه السابق، ولا حكم للمتأخر.
9570 - ولو قال من عليه الكفارة: إن دخلتَ الدار، فأنت حر عن كفارتي، فإذا دخل، عَتَق عن الكفارة. هذا ثابت في الأصل.
ولكن (2) لو نوى صرف العتقِ في نصيبه إلى الكفارة، ثم نوى صرف العتق في نصيب شريكه عند أداء القيمة، فهذا لا يصح، وإن نوى عند إعتاق نصيبه صرفَ جميع العتق إلى كفارته، فأنتجز العتق في نصيبه، وتأخر في نصيب شريكه ثم حصلَ، فالنية السابقة هل تكفي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها كافية؛ فإنها ارتبطت بالعتق، ثم حصل العتق على ترتيب.
والثاني - أنه لا يجوز؛ فإن تقدم النية على نفوذ العتق فاسدٌ مع القدرة على الإتيان بها مقترنة بحصول العتق.
وقال الشيخ أبو حامد: ينبغي أن ينوي العتقَ كلَّه عند إعتاقه نصيب نفسه؛ فإن النية باللفظ أليق، حتى لو بعّض النية لم يجز، وهذا مما انفرد به.
ومما يجب التنبيه له أنه إذا أعتق نصيب نفسه، وفرعنا على تعجيل السريان، وعلى أن العبارة عن النصف صحيحة، والعتقَ في الكل منصرف إلى الكفارة، فهذا فيه إذا نوى صرفَ الكل إلى الكفارة، فأما إذا نوى صرف العتق في نصيبه إلى الكفارة فحسب؛ فلا يبرأ عن الكفارة وفاقاً، وهذا ظاهر لا يخفى دركه؛ فإن عماد انصراف العتق إلى الكفارة النية.
9571 - ولو أعتق عبده الخالص، ونوى صرفَ نصف العتق إلى الكفارة، لم ينصرف إليها أكثرُ من النصف.
ولو أعتق عبدين خالصين، ونوى صرف نصفيهما إلى الكفارة، فهذا بمثابة ما لو أعتق نصفين من شخصين، النصف من كل واحد منهما حرّ.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة (ت 2) فيها سقط، فقد جاءت هكذا: "ولكن لو نوى صرف العتق في نصيب شريكه، ثم حصل بالنية السابقة هل يكفي؟ فعلى وجهين ... إلخ".

(14/536)


فإن قيل: ألستم ذكرتم خلافاً في التبعيض في العبد المشترك؟ قلنا: ذلك الخلاف في اللفظ، فمن أصحابنا من قال: إذا أعتق نصفه ولم يتعرض للنصف الآخر بلفظه، ونوى صرفَ العتق كلّه إلى الكفارة يجزئه.
ومنهم من قال: لا يجزئه حتى يتلفظ بإعتاق الجميع، ويقول: أعتقت هذا العبدَ عن كفارتي. هذا موقع الخلاف.
وحكى العراقيون عن نص الشافعي رضي الله عنه أنه قال: "إذا لزمته كفارتان في كل كفارة رقبة، فقال: أعتقت هذين العبدين عن كفارتيّ نصفاً من كل عبد عن كل كفارة، فينفذ العتقان عن الكفارتين"، فلا شك أن هذا دالٌّ على جواز إعتاق شقصين من عبدين عن كفارة واحدة، فيعتضد إجراء الوجوه بالنص.
قالوا: ومن أصحابنا من جوز هذا، وإن منع التبعيض، فإن ثمرة اللفظ حصولُ عتقه في عبدين عن كفارتين، فلا نظر إلى تقدير التبعيض، وقالوا: لو قال: أعتقت هذين العبدين عن كفارتيّ، فينفذ العتقان عنهما.
واختلف أصحابنا في كيفية الوقوع: فمنهم من قال: يقع عن كل كفارة نصفا العبدين، ولا حاجة إلى هذا عندنا؛ فإن ظاهر إعتاق العبدين عن الكفارتين صرفُ عتق [عبد] (1) كامل إلى كل كفارة، ولا معنى للحمل على التبعيض، واللفظ ليس يشعر به والإعتاق المطلق لا يفهم منه في العرف التبعيض والتشقيص.
فصل
قال: "ولو أعتقه على أن يجعل له عشرةَ دنانير ... إلى آخره" (2).
إذا قال الرجل لسيد المستولدة: أعتقها بألف، فأعتقها، صح واستحق الألفَ على من استدعى العَتاقة، وكان العتق واقعاً عن الموْلَى، وسبيل استحقاق العوض التخليص، وهذا بمثابة ما لو استدعى الأجنبيُّ من الزوج تطليق زوجته بمال، فإذا طلق، استحق المالَ على المستدعي، على التفاصيل المقدمة في الخلع.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/ 129.

(14/537)


9572 - ولو قال لمالك العبد الرقيق: أعتق عبدك عنّي بألف، فأعتقه عنه، نفذ العتق، ووقع عن المستدعي، واستحق المعتِقُ العوضَ المسمّى على الصحة.
ولو قال: أعتق عبدك عنّي، ولم يذكر عوضاً، فأسعفه وأعتقه عنه، وقع العتق عندنا كما لو ذكر عوضاً، خلافاً لأبي حنيفة (1).
ولو وهب المالك عبدَه من إنسان، ثم أذن للمتهب حتى يعتقه عن نفسه، فالإعتاق على هذا الوجه يكون بمثابة القبض في الهبة، فيفيد الملكَ، ويحصلُ العتقُ، وقال أبو حنيفة (2): لا يقع العتقُ قبل القبض الحسي قبضاً في الهبة، وإن صدر عن إذن الواهب.
9573 - ثم إذا صرفنا العتق إلى المستدعي عند ذكر العوض أو من غير عوض، فقد أطبق أصحابنا على أن من ضرورة صرف العتق إلى المستدعي نقلَ الملك إليه؛ إذ من المحال أن يترتب عتق المعتِق علىَ مِلكِه، ثم يقع [من] (3) غيره.
ثم أشكل على الأصحاب وجهُ نقل الملك ووقتُه.
قال القاضي: هذا إشكالٌ عظيم، ووجه الإشكال أنّا إن قلنا: الملك ينتقل قبل التلفظ بالإعتاق، كان ذلك تقديمَ الحكم الذي يوجبه اللفظ على اللفظ، وهذا محال. وإن نقلنا الملك بعد العتق، كان كلاماً متهافتاً، وإن قدرنا نقل الملك والعتق معاً، كان [جمعاً] (4) بين النقيضين.
وقد ذكر العراقيون في حصول الملك للمستدعي أوجهاً: أحدها - أنه يتبين لنا أنه حصل له الملك مع قوله: أعتق عني.
والوجه الثاني - أنه يحصل الملك بشروع المعتق في لفظ الإعتاق، فكما (5) شرع
__________
(1) ر. المبسوط: 7/ 11.
(2) ر. المبسوط: 7/ 11.
(3) "من" ترادف "عن".
(4) في النسختين: جميعاً.
(5) كما: بمعنى عندما (وقد تكررت بهذا المعنى كثيراً).

(14/538)


حصل الملك للمستدعي، فيتم اللفظ ويعتِق ملكَ المستدعي. وكل ذلك تبيُّنٌ يقع الحكم به بعد الفراغ من اللفظ؛ فإنه لو شرع في اللفظ، ثم بدا له، فلم [يكمله] (1)؛ فلا يحصل نقل الملك.
والوجه الثالث -حكَوْه عن أبي إسحاق المروزي- أنه قال: يحصل الملك والعتق معاً عند الفراغ من اللفظ، وهذا ليس بدعاً منه، وقد حكينا من أصله هذا المذهبَ فيه إذا اشترى الرجل من يعتِق عليه، ومذهبه في شراء القريب أبدع وأبعد؛ فإن تقدير الملك للحكم بانعقاد العقد لا غموض فيه.
وحكَوْا وجهاً رابعاً عن الشيخ أبي حامد أنه قال: إذا فرغ من لفظ الإعتاق، حصل الملك بعده في لحظة لطيفة، ثم ينفذ العتق مترتباً عليه، وذلك في وقتين لا يُدرَك بالحسّ تفصيلُهما.
وذكر شيخي وجهاً خامساً، وغالب ظني أنه حكاه عن القفال، وهو أن الملك يحصل مع آخر اللفظ والعتقُ بعده.
9574 - هذا كلامُ الأصحاب، وهو مشكلٌ كما قال القاضي، وسبب إشكاله أنه لم يقع تملّك ولا تمليك من طريق اللفظ، وإنما نُضطر إلى تحصيله ضمناً، ثم حصل (2) ضمناً لنقيض الملك، ولا حصول إلا باللفظ، ولا حكم للفظ ما لم يتم، وكل من صار إلى تقديم الملك على اللفظ، فليس من الفقه على شيء، وليس هذا كقولنا: إذا تلف المبيع في يد البائع، تبينا انتقال الملك فيه إلى البائع وتلفَه على ملكه، فإن قال قائل: التلف هو الذي يوجب هذا، فكيف يقدّم الموجَب على الموجِب؟ قلنا: إن قُدّر مثلُ هذا في الواقعات التي لا ترجع إلى الألفاظ، لم يكن ذلك بدعاً في وضع الشرع، فأما ثبوت حكم اللفظ قبل اللفظ، فلا وجه له.
وكل ما ذكرناه قبلَ الوجه المحكي عن الشيخ أبي حامد فلا وجه له، وأما ما ذكره الشيخ أبو حامد، فإنه أثبتَ حكمَ اللفظ بعده، غيرَ أنه يدخل عليه أمر ضروري
__________
(1) في النسختين: يكلمة.
(2) (ت 2): ثم حصل ضمناً ليفتقر الملك.

(14/539)


لا يندفع، وهو أن اللفظ لم يستعقب حصولَ العتق، بل استعقب انتقال الملك، ثم ترتب النفوذ عليه، وسببه أن هذا ليس إعتاقاً مطلقاً، إنما هو إعتاق عن الغير، ومعنى الإعتاق عن الغير إزالةُ الملك إليه، وإيقاعُ العتق بعده.
وأما ما ذكره شيخي فالذي يلوح فيه من اتجاهٍ لقربه من مذهب أبي حامد، وفسادُه من وقوعه في مذهب أبي إسحاق.
وبالجملة اختلف أئمتنا في أن من طلق أو أعتق، فحكم لفظه متى يثبت: فمنهم من قال: يثبت مع آخر جزء من اللفظ، وهو حسن؛ [فإن] (1) التطليق والإعتاق إنما يحصل مع آخر جزء.
ومنهم من قال: يحصل حكم اللفظ بعده على الاتصال ويعاقبه معاقبة الضدّ.
فإن قلنا: الحكم يحصل مع آخر اللفظ، فيتجه ما حكاه الشيخ (2) من حصول الملك مع آخر اللفظ واستئخار (3) العتق عنه للضرورة، فيئول هذا إلى اختلاف الشيخين (4) في أن حكم اللفظ متى يحصل. فإن قلنا: حكم اللفظ يحصل بعده، فالملك والعتق في وقتين بعد اللفظ. وإن قلنا: حكم اللفظ يحصل مع آخره، فالملك يحصل في أول حصول حكم اللفظ، والعتقُ يستأخِر للضرورة.
والذي [ارتأيناه] (5) أن يكون التفريع على حصول الحكم بعد اللفظ، ثم يقع القضاء في هذه الصورة بأن (6) الملك يحصل مع آخر اللفظ،. والعتق يحصل بعده، فيكون
__________
(1) في النسختين: فإنه التطليق والأعتاق ولكن إنما يحصل مع آخر جزء.
(2) الشيخ هنا والده الشيخ أبو محمد.
(3) (ت 2): " ... مع آخر اللفظ مع استئخار العتق عنه للضرورة قبول الأمر إلى اختلاف الشيخين .. ".
(4) الشيخين يعني بهما: والده الشيخ أبا محمد، والشيخ أبا حامد. وواضح أن هذا ليس مصطلحاً ثابتاً، وإنما هو حكاية أقوالٍ في مسألةٍ فردةٍ.
(5) (ت 2): رتبناه، وفي الأصل غير مقروءة، رسمت هكذا: (ارتفيناه) تماماً. والمثبت تقدير من المحقق.
(6) عبارة (ت 2) فيها خرم هكذا: ثم يقع القضاء في هذه الصورة بأن الملك على هذا الوجه قبل أوانه.

(14/540)


الملك على هذا الوجه قبل أوانه، ولا فرق بين أن يقع كذلك، وبين أن يقع عند الخوض في اللفظ كما صار إليه صائرون، أو قبل لفظ العتق كما ذكره ذاكرون.
هذا كله إذا قال لمالك العبد: أعتق عبدك عني.
9575 - فأما إذا قال: أعتق عبدك عن نفسك، ولك علي عشرة، فإذا أسعفه، وأعتقه كما استدعاه، فالعتق ينفذ ولا مردّ له، وهل يستحق العوض المذكور على المستدعي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يستحقه، كما لو استدعى منه إعتاق أم ولده، فإن العتق يقع عن المعتِق، وهو (1) يستحق العوض المذكور. والوجه الثاني - أنه لا يستحق العوض؛ فإن إيقاع العتق عن المستدعي ممكن، وبذلُ العوض على الخلاص (2) إنما يثبت للضرورة، فإذا أمكنت جهةٌ في العتق [غيرُ] (3) التخليص، لم يصح بذل العوض على التلخيص (4).
ثم قال صاحب التقريب وضيخي: إن قلنا: لا يستحق العوض، فلا كلام، والعتق منصرف إلى المعتِق. وإن قلنا: يستحق العوض، فالعتق عمن يقع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقع عن المستدعي، وإن نفاه عن نفسه، وهذا على نهاية الفساد والسقوط؛ [فإن صَرْفَ العتق إليه حيث يستدعيه لنفسه على خلافٍ] (5)، فكيف يُصرفُ العتقُ إليه وهو نفاه عن نفسه.
9576 - ومن تمام الكلام في هذا الفصل: أنه لو قال: أعتق أم ولدك هذه عني، ولك عليّ كذا، فلا شك أن عتق أم الولد لا يتصوّر انصرافه إلى المستدعي، والعتق ينفذ، ولا مردّ له.
__________
(1) (ت 2): وهل يستحق.
(2) (ت 2): الخلاف.
(3) في الأصل: "عن" والمثبت من (ت 2) ومن صفوة المذهب.
(4) (ت 2): "على مذهب صاحب التلخيص" وهو وهم وشطط من الناسخ، لا ندري من أين أتى به.
(5) عبارة الأصل: "فإن من صرف العتق إليه حيث يستدعيه لنفسه على غلاله" ومثلها (ت 2) إلا أن فيها "علالة" (بالمهملة) والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون.

(14/541)


والكلام في أنه هل يستحق العوضَ على المستدعي؟ المذهب أنه لا يستحق؛ لأنه لم يعتقها عنه، واستحقاق العوض مقرون بحصول ذلك، وأبعد بعض أصحابنا، فأثبت العوض وألغى قوله عني.
ولو قال: طلّق امرأتك عني ولك ألف، فالوجه إثبات العوض وإلغاء قوله عني، وحمله على الصرف إلى استدعائه، فكأنه قال: طلقها لأجلي أو بسبب استدعائي، والله أعلم.
وعتق المستولدة وإن كان لا يقع عن المستدعي، فاعتقاد الانصراف إلى المستدعي منتظم إلى أن نحكم بفساده.
9577 - ولو قال لمالك الرقيق: "أعتق عبدك ولك عليّ ألف"، ولم يقل: أعتقه عني، ولا عن نفسك، فهذا نفرعه على أنه لو قال: "أعتقه عن نفسك" هل (1) يستحق العوض عليه (2) إذا أعتقه؟ فإن قلنا: لا يستحق العوض عليه لو قال: أعتقه عن نفسك، فإذا أطلق استدعاء الإعتاق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يُحمل على ما لو قال: "أعتقه عن نفسك" والثاني - أنه يحمل على ما لو قال: "أعتقه عني"، إذ هذا المعنى متأكدٌ بالاستدعاء وبذل المال، فصار بمثابة التصريح [من] (3) المستدعي بالإضافة إلى نفسه.
وإن فرعنا على أنه لو قال: "أعتقه عن نفسك" فالعوض مستحَق عليه، فإذا أطلق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن العتق يقع عن المستدعي. والثاني - أنه يقع عن المعتِق، وهدا ينبني على ما هو المذهب، وهو أن العتق إذا أضيف إلى المعتِق، فلا يقع عن المستدعي وإن فرعنا على استحقاق العوض.
وهدا حاصل التفريع في استدعاء العَتاقة على التفاصيل التي ذكرناها.
__________
(1) (ت 2): هذا.
(2) عبارة (ت 2): "هل يستحق العوض عليه فإذا أطلق استدعاء الإعتاق، ففي المسألة وجهان" وواضح ما فيها من سقط.
(3) في الأصل: في والمثبت من (ت 2).

(14/542)


9578 - ونعود الآن إلى موجب (1) الكفارة: فإن قال لمالك العبد القن: "أعتق عبدك عن كفارتي ولك ألف"، أو قال ذلك من غير عوض، فالعتق ينصرف إلى كفارة المستدعي.
ولو قال: أعتق عبدك عن نفسك ولك كذا، فأعتقه عن كفارة نفسه، فإن قلنا: إنه يستحق العوض، فلا ينصرف العتق إلى كفارته؛ إذ من المستحيل أن يقع العتقُ في مقابلة عوض مستحَقاً عن تلك (2) الجهة، ثم يقع قضاءً [لحق] (3) الله تعالى.
وإن قلنا: إنه لا يستحق العوض إذا أعتق عن كفارته على استحقاق العوض، لم يقع العتق عن [كفارته] (4)؛ وذلك أنه وإن لم يقع مستحقاً عن تعويض ثابت، فنيّته فاسدة (5)؛ من جهة أنه لم يجردها لحق الله، والنية ركن في الكفارة وشرطها أن (6) تخلُصَ ولا تتردد، هذا ذكره القاضي ولا وجه لتقدير خلافه.
فرع:
9579 - ذكرنا من أصلنا أنه إذا قال: أعتق عبدك عني ولم يذكر عوضاً، فاعتق عبده، وقع العتق عن المستدعي، قال صاحب التقريب: هل يستحق المعتِق على المستدعي شيئاً؟ فعلى وجهين مبنيين على (7) ما لو قال: اقضِ دَيْني، ولم يقل بشرط الرجوع عليّ، ثم إذا أثبتنا حق الرجوع، فالمعتق يرجع بقيمة العبد.
ولا ينبغي للفقيه أن يأخذ هذا من [أن] (8) الهبة هل تقتضي العوض؟ حتى إذا أخذه من هذا الوجه ردّه إلى الخلاف في أن عوض الهبة ماذا؟ فإن هذا المأخذ يقع وراء (9) الحاجة، ونحن قد صادفنا قبله أصلاً قريباً، فإن العتق حق على المستدعي، فإذا
__________
(1) (ت 2): مذهب.
(2) (ت 2): ملك.
(3) في الأصل: بحق.
(4) في الأصل: كفارة، والمثبت من (ت 2) ومن المختصر.
(5) وجه فساد نيته أنه لم يبادر بالعتق تكفيراً، وأعتق للعوض المبذول أيضاًً.
(6) (ت 2): وشرطها أن لا تخلص.
(7) (ت 2): مبنيين على ما قال عني.
(8) زيادة من المحقق.
(9) (ت 2): تقع به الحاجة.

(14/543)


قال: أعتق عن كفارتي، كان كما لو قال: اقض ديني، نعم، لو لم يكن عليه عِتقٌ واستدعى (1) الإعتاق عنه تبرعاً، فلا يمتنع أن يكون هذا كالهبة المطلقة، والعلم عند الله تعالى.
فرع:
9580 - إذا قال: أعتق عبدك عني غداً بألف، فقد طوّل صاحب التقريب نَفَسه في هذا، ونحن نذكر المقصود منه، فنقول: إذا قال: قُل: "إذا جاء الغد فعبدي [هذا] (2) حر عنك ولك عليّ ألف"، فإذا قال ذلك: فهذا يناظر تعليق الخلع، وقد مضى في كتابه، وإن ظن الفقيه أن هذه المسألة فيها تقدير نقل ملك؛ فيبعد عن التعليق قبل هذا التقدير ضمناً، فلا يختلف به ترتيب المذهب، والعتق يحصل منصرفاً إلى المستدعي، وفي صحة المسمى وفساده خلاف، كما مضى في الخلع.
ولو قال: أعتق عبدك عني على خمرٍ، فأعتقه عنه، قال صاحب التقريب: وقع عن المستدعَى وجهاً واحداً، وهذا قد [يَجُرّ] (3) إشكالاً على الناظر في ابتداء نظره؛ من جهة أنه يعتقد حصول الملك بالعوض الفاسد، وليس الأمر كذلك؛ فإن الملك يحصل بالعوض الثابت شرعاً، وهو قيمة العبد، ولكن لم يفسد الملك؛ من حيث إنه لم يقع مقصوداً، وإنما وقع ضمناً، ولذلك قُبل التعليق، وإن كان نقل الملك لا يقبل التعليق، فكأن الأصل العتقُ، والعتقُ إذا قوبل بالعوض الفاسد إيجاباً وقبولاً، حصل حصول الطلاق، ثم إن تخلف شرط من شرائط الملك، فلا مبالاة به، لحصوله
ضمناً غيرَ ملفوظ به.
قال صاحب التقريب: إذا قال: أعتق عبدك عني غداً، ولك ألف، فصبر المالك حتى جاء الغد وأعتقه إنشاء لمّا جاء الغد، فيقع العتق عن المستدعي ويستحق الألفَ في هذه الصورة إذا (4) لم يجر العتق على صفة التعليق، ثم قال صاحب التقريب: هذا ما ذكره الأصحاب، وفيه نظر.
__________
(1) (ت 2): والمستدعي.
(2) زيادة من (ت 2).
(3) في الأصل: "نجّز".
(4) إذا: بمعنى إذْ.

(14/544)


والأمر على ما ذكر؛ فإن (1) استدعاء العتق بالعوض قد يستدعي إجابة متصلة، فإذا انفصلت الإجابة، تطرّق الاحتمال. وهذه المسألة تؤخذ من نظيرتها (2) من فصل تعليق الخلع.
فصل
قال: "ولو أعتق عبدين عن ظهارين ... إلى آخره" (3).
9581 - النية شرط في الكفارات، ولأنها عبادة، والعبادات مفتقرة إلى النيات، فلو أعتق رقبة، ولم ينو صرفَها إلى الكفارات، لم يُحسَب العتق عنها.
9582 - وتعيين النية في الكفارات ليس شرطاً، حتى لو كانت عليه رقبةٌ واجبةٌ، لم يدر أنها عن ظهارٍ، أو يمين، أو وِقاعِ، أو قتلٍ، ونوى إعتاق الرقبة عن الواجب الذي عليه، كفاه ذلك، زاد القاضي، فقال: كذلك لو [جوّز] (4) أن تكون الرقبة منذورة، فلا بأس عليه، ويجب تعيين النية في الصلوات المفروضة والصيام، وقد مضى حكم كل صنف في كتابه.
وقال الأصحاب: سبب ذلك أن العبادات البدنية تتمحّض عبادةً، فكان التعيين شرطاً فيها للإخلاص، والكفارة [نازِعةٌ] (5) إلى الغرامات؛ إذ هي عبادات مالية، فاكتفي فيها بأصل النية.
9583 - وهذا الكلام مُختلٌّ (6) غير مستقل، والوجه عندنا في اعتماد إيجاب التعيين ونفيه أن نقول: العبادات البدنية لها مناصب ومراتب وبينها تفاضل يُعقَلُ سببه
__________
(1) (ت 2): على ما ذكرناه من استدعاء.
(2) من نظيرٍ لها.
(3) ر. المختصر: 4/ 130.
(4) في الأصل: صوّر.
(5) في النسختين: نازع.
(6) (ت 2): متخيل، والمعنى بكونه مختلاً أنه قاصرٌ غير كافٍ.

(14/545)


[وقد لايُعقل سببُه] (1) فالذي يعقل (2) ما يتعلق سببه بالنَّصَب والتعب المرتبط بالوقت (3)، فإن صلاة الصبح أشق، وصلاة الظهر في القائلة صعبة، وصلاة المغرب مع التضييق وهي (4) في منتهى سفح النهار واستقبال الليل، وصلاة العتمة وقد ظهرت دواعي الدَّعة في النفوس على أقدارٍ من النَّصَب مختلفة وأجناسٍ متفاوتة (5)، وقد قال مبلّغ الشرع صلى الله عليه وسلم: "أجْرُك على قدر نَصَبك" (6)، فلاقَ بها التعيين.
وكذلك القول في الصوم والعتق، لا تفاضل فيه باختلاف الأسباب الموجبة؛ إذ لا سبيل إلى الحكم بأن العتق عن كفارة اليمين (7 دون العتق عن كفارة الظهار. نعم، قد يظن الفطن أن العتق في كفارة 7) اليمين نازع إلى التطوع؛ لمكان التخيير بخلاف العتق في كفارة الظهار، وهذا لا ثبات له مع الحكم بأن الكفارة واجبةٌ.
وهذا الذي ذكرناه يجري في صوم (8) الكفارات؛ فإن الصوم لا يفضُل الصومَ بتفاوت الأسباب.
وما حكيناه قبلُ يَرِد عليه الصوم في [الكفارات] (9)؛ فإن الذي ذكرناه من نزوع الكفارة إلى الغرامات لا يتحقق في الصوم، ثم لا يجب في الزكاة تعيين مال عن مال للفقه الذي ذكرناه؛ فإن الزكوات لا تتفاوت مناصبها في الفضيلة باختلاف الأموال.
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(2) (ت 2): تعلق.
(3) (ت 2): بالوقف قال صلاة الصبح.
(4) (ت 2): وهي في عينهن سفح النهار.
(5) (ت 2): متقاربة.
والمعنى أن كلاً صلاة فيها مشقة من وجه تختلف عن الأخرى، فلا مساواة بينها ولذا يجب تعييناً بالنية.
(6) حديث "أجرك على قدر نصبك" متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (ر. البخاري: العمرة، باب أجر العمرة على قدر النصب، ح 1787، مسلم: الحج، باب بيان وجوه الإحرام، ح 1211).
(7) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(8) (ت 2): صور.
(9) في الأصل: الكفارة.

(14/546)


وقد يَرِدُ على هذا التباسُ (1) النذر بالكفارة؛ فإن الكفارة إن كانت لا تستدعي تعييناً لإسنادها إلى جريمة أو إلى ما هو في معنى الجريمة، وتعيينُها ذكرُ أسبابها، وهذا قد لا يتحقق في النذر؛ فإن التزام القربة قربة، والدليل عليه أن من كان عليه نذرٌ، وصومٌ آخر مفروض عن قضاء، فإنه يتعرض للنذر.
وقد حكيت عن القاضي أنه قال: إذا التبس ما عليه من العتق بالنذر والكفارة، كفاه أن ينوي به العتق الواجب، فليتأمل الناظر هذا، والظن بالقاضي أن يطرد ذلك في الصوم المتردّد بين المنذور وبين الكفارة مع التباس الحال، فهذا فيه نوع تأمل على الناظر. ولو ذهب ذاهب إلى التزام التعيين لأجل النذر، فإنه يكتفي بإعتاق عبدين يجرّد نيته في أحدهما عن النذر ويبهم الآخر، والعلم عند الله.
ثم إذا رفعنا (2) اشتراط التعيين في نية الكفارة، فلا فرق بين أن يتحد الجنس وبين أن يختلف، ولا فرق بين أن يكون الفرض صوماً، أو إعتاقاً، أو إطعاماً، فلو كان عليه كفارتان، فصام أربعة أشهر بنية الكفارتين أجزأه، وانصرف كل شهرين إلى كفارةٍ.
[ولو صام شهرين] (3) شهراً عن هذه الكفارة وشهراً عن تلك، لم يجز، والسبب فيه أن التتابع شرط في الصيام، فإذا صام يوماً عن غير ما شَرَعَ فيه، فقد انقطع التتابع في ذلك المقدّم (4) وهذا افتتاح كفارة أخرى.
ولو كان فرضه الإطعام وعليه كفارتان، فأطعم مائة وعشرين مسكيناً عن الكفارتين أجزأه. ولو كان ينوي بمُدٍّ كفارةً، وبمُدٍّ كفارةً أخرى واتخذ ذلك سجيَّة حتى أتى بما عليه، فلا بأس؛ إذ لا (5) تتابع في الإطعام.
__________
(1) في (ت 2): يرد البابين النذر بالكفارة إن كانت لا تستدعي تعيناً لاستثنائها إلى جهة، وإلى ما هو في معنى الجهة.
(2) (ت 2): وقعنا.
(3) في الأصل: ولو صار بشهرين. والمثبت من (ت 2).
(4) (ت 2): في ذلك المقام.
(5) (ت 2): فلا بأس أولاً شارع في الإطعام.

(14/547)


ولو اختلف ما يكفر به وذلك باختلاف أحوال الملتزِم [بأن] (1) كان موسراً في كفارة، ومعسراً في أخرى، قادراً (2) على صوم الشهرين، [ومُفْنِداً] (3) عاجزاً في أخرى، فأعتق رقبة عن [كفارة] (4)، وصام شهرين عن [كفارة] (5)، [أو أطعم] (6) مطلقاً كذلك، صح منه ما جاء به، وانصرف كل واجبٍ إلى [جهةٍ] (7).
9584 - ومما ذكره الأصحاب في ذلك أَنْ قالوا: نحن وإن لم نوجب التعيين بالنية في الكفارات، فلو عيّن، فهو مؤاخذ بالإصابة (8)، وبيان ذلك: أنه لو كان عليه كفارة القتل في علم الله تعالى وتقدس، فحَسِب (9) أن عليه كفارة الظهار، فلو أعتق رقبة عن الكفارة أجزأه العتق، وإن لم يتعرّض للتعيين.
ولو أعتق رقبة عن كفارة الظهار؛ بناء على ظنه، ثم تبيّن أن الواجب عليه سببُه القتل، فالعتق نافذ، وذمته لا تبرأ عمّا عليه؛ فإنه صرف الإعتاق قصداً عما عليه، فانصرف عنه.
ونحن وإن كنا لا نوجب التعيين، فيشترط أن يكون الواجب مندرجاً تحت عموم
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) (ت 2): قادراً على صوم الشهرين وعاجزاً في أخرى وفيه عن الكفارة وصيام شهرين عن الكفارة الأخرى.
(3) في الأصل: "مُقْتراً" من أقتر الرجل إذا ضاق عيشه، وهذا المعنى غير مراد، فالقدرة على الصيام لا يقابلها العجز عن الإطعام، وإنما يقابلها الضعف والعجز عن الصوم. (وأفْند إذا بلغ به الهرم والشيخوخة حداً أضعف رأيه).
(4) في النسختين: "الكفارة".
(5) في النسختين: "الكفارة".
(6) في النسختين: "وأطعم" والمثبت من المختصر.
(7) في النسختين: جهته، والمثبت من المحقق - وصورة المسألة: رجل عليه ثلاث كفارات، فأعتق رقبة عما عليه، ثم أعسر فصام شهرين عما عليه، ثم ظل على عسره وعجز عن الصوم فأطعم عما عليه، فتنصرف كل كفارة إلى جهة، مع أنه أوقعها مطلقة ولم يعينها.
(8) (ت 2): بالإضافة.
(9) عبارة (ت 2) فيها خرم، إذ جاءت هكذا: "فحسب أن عليه كفارة الظهار بناءً على ظنه ... إلخ".

(14/548)


النية ومقتضاها، فإذا انصرفت النية عن الجهة الثانية، لم يقع [الاعتداد] (1) بالمؤدّى أصلاً، وقد ذكرنا (2) نظائر ذلك في ربط نية الزكاة بمالٍ هو معدومٌ حالةَ إخراج الزكاة (3)، وذكرنا تعيين الإمام الذي به الاقتداء والحاضرُ غير المنوي، وذكرنا في الصلاة على الجنازة التعيين مع الخطأ، وجمعنا هذه الفصول في أقسامٍ ضابطة في باب نية الطهارة (4).
فصل
قال: "ولو ارتد قبل أن يكفّر ... إلى آخره" (6).
9585 - من لزمته الكفارة فارتد قبل التكفير، ثم كفّر بالعتق، قال الأصحاب: أجزأه وبرئت ذمته، ولو أسلم، لم يكن مخاطباً بإعادة التكفير، وهذا ليس بدعاً، والمرتد على علائق ثابتة في الإسلام، وأصلُنا أن الكافر الأصلي يلتزم الكفارة، ويؤديها، والمرتدّ لا يصوم عن الكفارة في حالة ردته؛ فإن الصوم عبادة بدنية غيرُ نازعة إلى غرض آخر سوى الامتحان في البدن، والكفارات المالية تنزِع إلى الغرامات، [وقد] (7) ذكرنا أن الزكاة تخرج من مال المرتد، وترددنا في وجوب الزكاة في ماله ابتداء، كما تفضل في كتاب الزكاة.
ثم قال الأصحاب: العبادات المالية يتعلق بها غرض الإرفاق، وسدّ الحاجات، والتقرّب إلى الله تعالى، والغرض الأظهر منها الإرفاق، وما نيط بسببين قد
__________
(1) في الأصل: الاعتياد.
(2) (ت 2): نظرنا نظائر.
(3) المعنى أنه لو كان له مالٌ غائب في بلد آخر، فأخرج الزكاة عنه وعينها وربط نيته بأنها عن ذلك المال، ثم تبين أنه كان تالفاً لا زكاة عليه، فلا يصح أن يعتبر هذه الزكاة عن مالٍ آخر موجود من ماله.
(4) (ت 2): في باب فيه الظهار. (وهو وهم عجيب).
(5) سقطت علامة (فصل) من (ت 2).
(6) ر. المختصر: 4/ 131.
(7) في الأصل: فقد.

(14/549)


[يستقل] (1) بأحدهما كالحدِّ يُمَحِّص ويزجر (2)، ثم يثبت على الكافر زاجراً، وإن لم يكن ممحِّصاً.
وهذا يثبت على مراتب: فالزكاة يظهر قصد الإرفاق بها، ولكنها وظيفة وطريحةٌ للمحاويج على أغنياء المسلمين، فلا تطّرد على الكفار؛ فإنهم بالتزام الجزية، لم يتطوّقوا أن يسدّوا حاجات محاويج المسلمين؛ فلم يخاطَبوا بالزكاة، ولم يطوّقوا تحمّل كَلّ المسلمين، وليست الزكاة متعلقة بجريمة أو ما يجري مجرى الجريمة، بل هي محض حق المال، وهم (3) بالذمة صانوا أموالهم عن مطالبات الشرع، والكفاراتُ ضاهت الحدود.
هذا وضع المذهب، وعلى الأصحاب تقريره.
ثم لا يصح من الكافر والمرتد إلا إخراج الأموال في الكفارات فحسب، والمرتد تميز عن الكافر الأصلي لما فيه من عُلقة الإسلام، ولهذا تَخْرجُ عن ماله الزكاةُ التي وجبت في الإسلام، على الرأي الظاهر، وقد نقول: تجب الزكاة في ماله إذا لم نحكم بزوال ملكه.
وهذا لا يتصوّر في حق الكافر الأصلي، وإن [شملهما] (4) الكفر؛ فإن الكافر الأصلي لم يلتزم موجب شَرْعنا في الحقوق المالية، والمرتدُّ سبق منه الالتزام، وقد يطّرد عليه حكمُه، وهذا مع اختلافٍ قدمناه في المرتد في كتاب الزكاة.
9586 - فأنتظم مما ذكرناه أن المرتد على ظاهر المذهب يُخرج الكفارة بالمال، فيُعتق ويُطعم [ولا يصوم] (5).
ثم قال جمهور الأصحاب: هذا تفريع على قولنا: إن الردة لا توجب زوال الملك (6)،
__________
(1) في الأصل: يستقبل. والمثبت من (ت 2).
(2) (ت 2): ويؤخر.
(3) (ت 2): بل هي محض حق المال وهو في الذمة صائر إلى أموالهم عن مطالبات الشرع.
(4) في النسختين: شملها.
(5) في الأصل: ويصوم.
(6) (ت 2): المال.

(14/550)


فإن قضينا بأنها توجب زواله، فلا يتصور من المرتد أن يكفر؛ إذ لا ملك له، ولا يصح منه الصوم.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنا وإن حكمنا بأن الردة تزيل الملك، فإذا كانت عليه كفارة فارتد، فما تتعلق الكفارة به يُستثنى من الحكم بزوال ملكه عنه، فيُعتق عبداً من عبيده أو يُحصّل (1) عبداً بدراهمه، وإن كان بحيث يصح منه الإطعام، فيُخرج الإطعام، والحكمُ بزوال الملك يقع وراء ذلك.
وهذا اختاره صاحب التقريب، ورآه الأصحَّ، ولفظه في الكتاب: إن المذهب أن الأمر كذلك ولو حكمنا بزوال ملكه، واحتج على ذلك بالديون؛ فإن من ارتد وعليه ديون، أُديت الديون من ماله وإن حكمنا بزوال ملكه.
قال صاحب التقريب: هذا ما ذهب إليه الأصحاب أجمعون -يعني قضاء الديون- إلا الإصطخري، فإنه قال: إذا فرعنا على قول زوال الملك لا تُقضَى ديونُه، ويجعل كأن أمواله تلفت.
وهذا إن قاله في الديون التي وجبت في الإسلام، فهو سرف عظيم، وهو خروج عما عليه الناس، وإن كان هذا يليق بتصرفاته؛ فإن من شيمه الاستجراء، وترك المبالاة، وإن كان يريد به أن الديون التي [توجد] (2) أسبابها في حالة الردة لا تؤدَّى ممّا كان مالاً له -على قولنا بزوال الملك- فهذا سديد، ولا يجب أن يخالَف فيه، ولا يصح استثناء هذا المذهب في معرض الاستبعاد.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أنه إذا ارتد لم يُخرَج من ماله إلا أدنى الدرجات، وظني أنه قال هذا في الكفارات المخيّرة، وهي كفارة اليمين.
فخرج مما ذكرناه أن الصوم [لا يصح] (3) من المرتد، والتكفير بالمال يصح إذا
_________
(1) (ت 2): أو يحصل عليه بدراهمه.
(2) في الأصل: توجه.
(3) زيادة من المحقق. ومن عجب أن تسقط هذه اللفظة من النسختين، فتقلب المعنى تماماً وأعجب المعجب أن تسقط من (صفوة المذهب)، فعلى فرض أنها كانت ساقطة في النسخة التي يلخص منها ابن أبي عصرون، فكيف نصدّق ويحتمل عقلُنا أن هذا الإمام لا يكتشف هذا =

(14/551)


قلنا ملكه لا يزول، وإن قلنا: يزول ملكه، فهل يُخرج الكفارةَ، فعلى الخلاف الذي ذكرناه.
...
__________
= الخلل الذي يحلّ حراماً معلوماً من الدين بالضرورة!!! ثم على فرض أنه تنبه لذلك وصحح العبارة، ألا يكون عجيباً غريباً أن تسقط من ناسخ مختصر ابن أبي عصرون، ومن نسختين من نهاية المطلب في وقت واحد!! الله أعلم. ونص عبارة ابن أبي عصرون هو: "فخرج أن الصوم من المرتد والتكفير بالمال يصح إذا قلنا: إن ملكه لا يزول، واذا قلنا: يزول، فعلى الخلاف المذكور" (ر. صفوة المذهب: جزء 5/ورقة: 102 يمين سطر (5) والله أعلم.
وهذا يذكرنا بـ (لا) التي اجتمع على إسقاطها نسختا النهاية وابن أبي عصرون، فأجيز بإسقاطها توكيلُ الذمي في قبول نكاح مسلمة وفي تزويجها!

(14/552)


باب ما يجزىء من العيوب في الرقاب الواجبة
9587 - أجمع العلماء المعتبرون على أن العيوب في الرقاب تنقسم: فمنها ما يمنع من الإجزاء، ومنها ما لا يمنع، وقال داود: ليس فيها ما يمنع، وتعلّق باسم الرقبة.
وقال الشافعي: "لم أعلم أحداً ممن مضى من أهل العلم، ولا ذُكر لي، ولا بقي أحدٌ إلاّ يقسّم العيوب ... إلى آخره" (1)، وهذا داود نشأ بعده، وعندي أنه لو عاصره، لما عدّه من العلماء.
فإذا تبين أن العيوب مُنقسمة، فمذهب الشافعي أن ما يَنقُص العمل نقصاناً بيّناً، ويضر به ضرراً ظاهراً، فهو يمنع من الإجزاء، وعقْدُ الباب تخليصُ مملوكٍ من أسْر الرق؛ حتى يستقلَّ، ثم الذي يليق بهذه القُربة أن يكون مستقلاً بما يُقيمه، منبسطاً (2) في عمله؛ فيتخلصَ عن العمل لغيره، وإذا كان زَمِناً مثلاً، فالرق أجدى عليه؛ إذ عليه كافل (3) يكفيه مُؤَنَه، فأقرب معنى في الاستنباط (4) ما راعاه الشافعي رضي الله عنه، ولا يُنظر إلى العيوب المؤثرة في المالية؛ فإن العتق إزالةُ المالية، بخلاف العبد المأخوذ في غُرة الجنين؛ فإنه يُقْصد مالاً ويؤخَذ مالاً، [فيراعى] (5) فيه المقاصدُ المالية، على ما سيأتي شرحها في باب الجنين، إن شاء الله عز وجل؛ فأحرى معتبرٍ في الباب ما ذكرناه [من التأثير في العمل والإضرار الظاهر به] (6).
وقد يزداد العقد وضوحاً بذكر مذهب يخالف المذهب المختار، قال أبو
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 131، وهذا معنى كلام الشافعي في المختصر وليس نصه.
(2) (ت 2): مقسطاً.
(3) (ت 2): تحامل.
(4) (ت 2): الانبساط.
(5) في الأصل: ويراعى، و (ت 2): فراعى.
(6) في الأصل: "أما ذكرناه من التأثير الذي في العمل والإضرار والظاهر به". وفي (ت 2):
"ما ذكرناه من التأثير في العمل اليسير والأضرار الظاهرة" والمثبت تصرف من المحقق.

(14/553)


حنيفة (1) كل عيب يفوّت جنساً من المنفعة أو معظمَها يمنع الإجزاء، وما لا فلا، فالذي سقطت أسنانه لا يجزىء عنده، وكذلك الأخرس، والأصم، ومقطوعُ اليد والرجل من الخلاف يجزىءُ، ومقطوعُ اليد والرجل من الوفاق لا يجزىء.
9588 - فإذا تبين أصل مذهبنا، فإنا نفصله بالمسائل: فالأعمى لا يجزىء، ومن قطعت إحدى يديه أو إحدى رجليه لا يجزىء؛ فإن النقص يظهر والضرر يتبيّن، فإذا كنا نتكلم وظهر أن المرعي بالإعتاق الإطلاقُ عن الوِثاق، ففوات المقصود ليس شرطاً في تحقيق العيب، بل نقصانُه البيّنُ كافٍ، والعورُ لا يمنع بل يجزىء الأعور؛ فإن النقصان لا يبين، وهو بفَرْد عينٍ يعمل قريباً مما يعمله [ذو العينين] (2)، وكذلك يجزىء الأحول والأعرج، إذا لم يكن قريباً من الزمانة، ولا يؤثر البَهَق والبَرَص والوكع (3) والكوع (4) والقرع، وضعفُ الرأي والخَرَق.
ولو قطعت إبهامُه، أو مُسبِّحتُه أو الوسطى من يده، لم يجز إعتاقه، وقطعُ الخنصر لا يَظهر أثرُه، وكذلك قطع البِنصر، ولو قطعت الخِنصر والبِنصر، فإن قطعتا من يد واحدة، مَنَعَ الإجزاءَ، وإن كان القطع من يدين فلا يمنع؛ فإن الضرر لا يظهر.
وقطعُ الأنملة لا يؤثر إلا إذا قطعت من الإبهام؛ فإن قطع أنملة منها بمثابة قطعها، وقطع أنملتين في كل إصبع بمثابة قطع ذلك الإصبع، هكذا قال العراقيون، واستهانتُهم بقطع أنملة واحدةٍ محتملةٌ من غير الإبهام، كما فصّلوا.
فأما إذا قطعت الأنامل العليا من الأصابع، فلعل هذا يحوج إلى مزيد نظر، والعلم عند الله.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 213، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 494 مسألة: 1036، المبسوط: 7/ 2.
(2) في الأصل: ذو اليدين.
(3) الوكع: هو اعوجاج إبهام رجله وإقباله على السبابة حتى يُرى أصلها خارجاً كالعقدة، ويقال: رجل أوكع، وامرأة وكعاء، ووكع وكعاً من باب تعب (المصباح).
(4) الكوَع بفتحتين مصدر من باب تعب، وهو اعوجاج الكوع، وقيل هو إقبال الرسغين على المنكبين، ويقال للرجل أكوع وللمرأة كوعاء. (المصباح).

(14/554)


وفقد أصابع الرجلين لا أثر له وفاقاً، هكذا ذكره القاضي وغيره.
والمجنون لا يجزىء إذا كان الجنون مطبقاً، والمريض يفصّل الأمرُ فيه، فإن كان المرض المانع من العمل مرجوّ الزوال، فلا مبالاة به، وهو كالصبي؛ فإن ابن اليوم يجزىء؛ لأنا على رجاءٍ من كبره، فليكن المرض كذلك، وإن كان المرض بحيث لا يرجى زواله، فهو مانع من الإجزاء.
9589 - ثم لا بدّ وراء ذلك من مزيد. فإذا أَعْتَقَ المريضَ الذي لا يُرجى برؤه، فتمادى المرض ومات، فلا إشكال أنه غير مجزىء، وإن استبلّ (1) [وأفاق] (2)، فهل نتبيّن أن العتق مجزىء أم نقول: برؤه حادثُ نعمةٍ بعد العتق، ولم يكن مقترناً بالإعتاق؟ الرأي الظاهر الإجزاء؛ لأنا كنا نبني المنع على أنه لا يبرأ، فإن برأ، فالحكم كذلك، والمسألة من طريق الترتيب والتلقيب لا من جهة الفقه تلتفت على [المعضوب] (3) يَستأجِر على الحج ثم يبرأ.
وإذا أعتق مريضاً مرجوّاً؛ ثم تمادى المرض به ومات، فهذا فيه احتمال متردّد أيضاًً، والتنبيه فيه كافٍ، ولعل الأوجه الإجزاءُ؛ نظراً إلى الرجاء المقترن بحالة الإعتاق، وحملاً لما كان من الموت على حادثِ مرضٍ.
9590 - واختلف نص الشافعي رضي الله عنه في الأخرس واضطرب الأصحاب، فأجرى بعضهم قولين: أصحهما - الإجزاء؛ لأن الخرس لا يظهر أثره في العمل.
والثاني - أنه لا يجزىء، فإن مناطقته عسرةٌ، وهذا يعسّر اختلاطه بالناس، وينعطف على تعذر عمله واكتسابه، وهذا تكلفٌ، والحق يناطق الفقيه بغيره.
ومن أصحابنا من نزّل النصين على حالين، فقال: حيث مَنَع أراد إذا كان لا يُفهِم بإشارته، وحيث أجاز أراد إذا كان يُفهِم بالإشارات.
وذكر بعض الأصحاب طريقة ثالثة، فقالوا البكم والصمم إذا اجتمعا منعا، وهذا
__________
(1) استبلّ: بَرأ وسَلِم وتعافى وشفي من مرضه.
(2) في النسختين: وفاقاً.
(3) في النسختين: المغصوب (بالمعجمة).

(14/555)


يغلب في الذي يولد أصمّ؛ فإنه لا ينطق إذا لم يسمع ولا يَفهم [ولا يُفهم] (1).
ومن أجرى القولين في الأخرس طردوا القولين في الأصم الأصلخ (2)، وهو بعيد، لا يليق بقاعدة الشافعي رضي الله عنه في مراعاة العمل.
ونص الشافعي على من كان يُجن ويُفيق فإعتاقه مجزىء، وهذا ظاهر إن قل زمان الجنون وكثر زمان الإفاقة، فأما إذا كان زمان الجنون أكثر، فما نرى الشافعيَّ يقول ذلك رضي الله عنه، وإن استوى الزمانان في النُّوَب، فظاهر النص الإجزاءُ، وفيه احتمالٌ من طريق المعنى.
9591 - والذي نختم الباب به أن النقصان في العمل لم [يُجْره] (3) الشافعي رضي الله عنه على قياس النقصان (4) [في] (5) المالية حيث تُرعى المالية، فإن النقصان وإن قل إذا أثر في المالية، كفى في كونه عيباً، وهاهنا شَرَطَ الظهورَ، كما شرط أبو حنيفةَ الظهورَ في عيب الصداق، والسبب فيما ذكره الشافعي أن الناس أنفسهم يتفاوتون في القوى، ثم لا يشترط أن يكون العبد المعتَق قويّاً ذا مِرّةً، فقد نجد (6) ذا مرّة ضعيفَ الكسب، ونصادف ضعيفاً قويّ الكسب، وبالجملة لا ضبط، فلو اعتبرنا أدنى النقصان من العمل، لم يكن لائقاً، فهذا الأصل [مما] (7) نبهنا عليه.
و [أما] (8) المالية، فإنّ ضبطها هيّن، فاعتُبر ما ينقصها. نعم، النقصان الذي يُتغابن في مثله لا اعتبار به أيضاًً؛ من حيث إنه لا يظهر به المقصود، فالمرعيُّ ظهور الغرض في كل باب على حسب ما يليق به، والهَرِم الذي ظهر عجزه عن العمل، لا يجزىء، والصغر لا يمنع الإجزاء؛ فإنه إلى الزوال.
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(2) الأصلخ والأصلج بالخاء والجيم بمعنى واحد، وهو الذي ذهب سمعه (المعجم).
(3) في الأصل: يجزه، و (ت 2): يجوز.
(4) (ت 2): السلطان المالية.
(5) زيادة من المحقق.
(6) (ت 2): نصادف.
(7) غير مقروءة بالأصل. وفي (ت 2): "معنا" والمثبت تقدير من المحقق.
(8) زيادة من (ت 2).

(14/556)


9592 - ورأيت في كلام العراقيين ما يشير إلى تردد في أن إعتاق الحمل هل يجزىء، وهذا فيه إذا تحققنا وجوده مع انسلاك الروح فيه، وطريق استبانة ذلك بيّن، [فلا] (1) شك أنا لا نحكم في الحال بحصول براءة الذمة، فلا يسلّط المظاهر على الغِشيان [وإن] (2) قلنا الحمل يُعرف، هذا لا خلاف فيه؛ فإنا لا نتحقق الحياة إلا بتقدير الانفصال على حدٍّ [يستند] (3) علمُنا معه بحياة الجنين إلى وقت الإعتاق.
والذي رأيت فحوى كلام الأئمة عليه في طرق المراوزة أن الحمل لا يجزىء وإن تحققنا بطريق الاستناد وجود حياته حالة الإعتاق، وهذا ما يجب التعويلُ عليه، وتركُ الاعتداد بما سواه، والله المعين.
...
__________
(1) في الأصل: ولا.
(2) في الأصل: فإن.
(3) في الأصل: يستبد. و (ت 2): يستنفد.

(14/557)


باب من له الكفارة بالصيام
قال الشافعي رحمه الله: "من كان له مسكن وخادم لا يملك غيره ... إلى
آخره" (1).
9593 - لما ذكر الشافعي في الباب المقدّم العتقَ ومايتعلق به، ثم عقبه بصفة المعتق، وذكر انقسام العيوب إلى ما يمنع من الإجزاءِ، وإلى ما لا يمنع منه، وانتجز غرضُه في العتق، استفتح باب الصيام، فإنّ كفارة الظهار مبدوءةٌ بالعتق، فمن لم يتمكن، صامَ شهرين متتابعين، فجرى على مقتضى ترتيب الكفارة، وخاض في الصوم.
وأول ما يجب الاعتناء به بيانُ العجز الذي يسوغ (2) لأجله الانتقالُ إلى الصوم، قال الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [المجادلة: 4] هذا يشعر بالإمكان ومقتضاه التضييق، حتى إذا كان للوجدان وجه، فلا سبيل إلى الحَيْدِ عن الرقبة والتعلّقِ بالصيام، ولكن اتفق الأصحاب على ضربٍ من الاتساع لا يلائم عندي ظاهرَ القرآن، ولكنا نطرد المذهب على وجهه نقلاً، ثم ننظر فيما نبهنا عليه.
9594 - قال الشافعي رضي الله عنه: إذا ملك رقبة غيرَ أنها مستغرَقةٌ بحاجته بأن كان مريضاً زَمِناً لا يستطيع الاستقلال، فلا نكلفه أن يُعتقه، بل له الانتقال إلى الصوم، وكذلك لو كان قادراً على أن يقوم بحاجات نفسه، ويتبذلَ في تصرفاته، ولكن كان لا يليق ذلك بمنصبه، ولو انتشر بنفسه، لكان ذلك غضّاً من مروءته (3)،
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 133.
(2) (ت 2): يشرع.
(3) (ت 2): غضاً من ضرورته.

(14/558)


فله أن يُمسك العبدَ قِواماً بهذه الأمور (1)، فنزّل الأصحاب الحاجة الحاقّة في البدن، وما يؤدّي إلى غض المروءة [منزلة عدم الرقبة] (2) في قول.
وأبو حنيفة خالف في هذا.
ولو ملك مسكناً فسيحاً وكان يكتفي ببعضه، فعليه إن أراد الخلاص من الكفارة أن يصرف البعضَ إلى الرقبة.
وإن كان لا يتأتى ذلك، والمسكنُ في نفسه على قدر الحاجة، فلا نكلفه بيعَه؛ إذ الحاجةُ إليه أمسُّ منه إلى العبد الخادم فيما يتعلق بحفظ المروءة.
ولو كان المسكن ضيقاً لا يمكنه بيعَ بعضه، ولكنه كان نفيساً، ولو باعه أمكنه أن يشتري ببعض الثمن عبداً، وبالبعض منه مسكناً في محِلّةٍ أخرى، فهل نكلفه ذلك؟ فعلى وجهين، قال القاضي: أظهرهما أنا لا نكلفه، ويسوغ له الانتقال إلى الصوم؛ فإن المسكن المألوف يصعب مفارقته، ويكون ضرباً من الجلاء (3).
والوجه الثاني - نكلفه ذلك؛ فإن ضرر الجلاء إنما يظهر في مفارقة البلدة وتخليف الأهلين والمعارف.
ولو ملك عبداً ثميناً، وكانت الحاجةُ تمَسُّ إلى اقتناء عبد، ولو باع هذا العبدَ لأمكنه أن يشتري ببعض ثمنه عبداً يُجزىء في الكفارة، ثم كان يتسع باقي الثمن لعبدٍ يخدمه، فهل نكلفه أن يبيع ذلك العبدَ ويفعل ما وصفناه؟ فعلى وجهين مأخوذين من بيع المسكن، والجامعُ الإلفُ.
ولو لم يكن ذلك العبد مألوفاً بل كان حصل له من عهد قريب، فعليه أن يفعل ما وصفناه، وكذلك القول في المسكن إذا لم يُؤْلف.
9595 - فهذا ما ذكره الأئمة، وقياسهم هذا يقتضي ضرباً من (4) التوسعة فيما
__________
(1) هذا معنى كلام الشافعي، وليس بلفظه. (ر. المختصر: 4/ 133).
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) (ت 2): الخلاف. والجلاء هنا معناه الهجرة والرحيل ومفارقة الوطن، فهو ضرب من ذلك.
(4) (ت 2): يتبين التوسعة.

(14/559)


نصفه، فلو كان في يد الرجل من المال ما يستقلّ به، ولو أُخذ بعضُه، [لاسْتحق] (1) بالمسكنة، وصار بحيث يجوز صرف سهم المساكين إليه، فالذي يقتضيه قياس الأصحاب أنا لا نُلزمه هذا؛ فإن الانتقال من الاستقلال إلى اختلال (2) الحال حتى يصير بحيث لا يفي دخلُه بخرْجه عظيمُ الوقع، وهو لا محالةَ فوق ترك المروءة ومخالفةِ المنصب، مع العلم بأن معظم ما يعدّه الناس من المروءات هو عند ذوي الألباب من رعونات الأنفس.
وكذلك لو كان مسكيناً، فلا نكلفه أن يشتري عبداً؛ فإنه يناله بما يخرجه ضررٌ بيّن، وهو أوقع من الانتقال [من] (3) الاستقلال إلى أول حدّ المسكنة. هذا هو الذي تحققناه نقلاً واستنباطاً من قول الأصحاب.
ومما ذكره (4) أنه لو كان له مال غائب، [فأراد الانتقال] (5) إلى الصوم في الكفارة المرتبة، لم يكن له ذلك، وليس كالمسافر لا يصحبه من المال ما يشتري به ماءَ الوضوء، وكان له مال في الغيبة، فالوجه أن يتيمم، فإن الصلاة لا تقبل التأخير، وماله في الغيبة لا يُغني عنه شيئاً، وهذا لا يتحقق في الكفارة؛ فإنها تقبل التأخير، وليس وجوبُها على الفور.
قال العراقيون: لو كانت المسألة مفروضة في كفارة الظهار، فلا يكاد يخفى أن تحليله زوجته يتوقف على التكفير؛ فإذا كان ماله غائباً، ولم يجد من يقرضه، فلو كلفناه أن يؤخر التكفير، لاستمرّ التحريم، فماذا يصنع والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكروهما: أحدهما - أنه يؤخر؛ طرداً للقياس.
والثاني - أنه ينتقل إلى الصيام، فإن الضرر قد يظهر عليه بترك الغِشيان، وقد يخاف الوقوع في الوقاع قبل التكفير.
__________
(1) في الأصل: لا يستحق، والمثبت من (ت 2).
(2) (ت 2): فإن الانتقال إلى اختلاف الحال حتى ...
(3) في النسختين: إلى.
(4) الضمير هنا يعود على القاضي،. وقد ذكره آنفاً، وليس على الشافعي، فإن هذا ليس في المختصر. والله أعلم.
(5) زيادة من (ت 2).

(14/560)


ومما نُلحقه بما ذكرناه أن زكاة الفطر لم يُرْعَ فيها إلا ما يفضل من القوت، كما مضى مفصلاً في صدقة الفطر، وقد نُحوج إلى الفرق بين صدقة الفطر وبين ترتب البدل على المُبدَل في الكفارة، ويتجه أن نقول: صدقة الفطر قريبة المأخذ (1)، قليلة المقدار، سهلة المحتمل، فلم يبعد [نزعها] (2) إلى الوجوب، وهي تجب أيضاًً على الفور، وهذا يؤكدها ويوضح الفرق بينها وبين الكفارة، وهي أيضاًً شديدة الشبه بالنفقات، ولهذا تتبعها.
9596 - وقد نجز الغرض في هذا المقام، وبقي ما أبديناه إشكالاً في أول المسألة؛ إذ نبهنا على الظاهر، وما فيه من الإشكال.
والممكنُ في دفع ذلك -والله أعلم- الالتفاتُ إلى ما يحِل محلَّ الإجماع: فإن (3) الذين كفَّروا بالصيام كانوا أصحاب مساكن يأوون إليها، وهم يصومون عن الكفارة، ومن ادّعى أن أحداً لم يصم في كفارة إلا وهو خليٌّ عن ملك المسكن، فقد ادعى بعيداً.
وأيضاًً، فإن البدل والمبدل في الكفارات وجدناهما في مراتب الشرع قريبين، ولعل صوم الشهرين أوْقع من إعتاق عبد على أقل المراتب، سيّما في حق أصحاب النعم، وإذا كانت لا تتفاوت، فالترتب (4) فيها يجب أن يُقرَّبَ أمرُه، وليس كترتب التيمم في الوضوء، فإن الوضوء يرفع الحدث، ويفيد النظافة، ولا معنىً للتيمم يقرُب دَرْكه بالعقل إلاّ استدامةُ تمرين النفس، فكان التيمم في حقّ الترك للوضوء (5)، وفي الكفاراتِ يفيد كلُّ بدلٍ عينَ (6) ما يفيده المبدلُ، فلا يبعد أن يَقْرُبَ الأمر في
__________
(1) (ت 2): مرتبة المأخذ.
(2) في الأصل: تسرّعها. والمثبت من (ت 2)، ثم معنى نزعها أي ميلها واتجاهها.
(3) (ت 2): قال.
(4) (ت 2): فالترتيب.
(5) في حق الترك للوضوء أي بمنزلة الترك للوضوء. (وإخال الكلمة محرّفة، وصوابُها: "في حكم الترك للوضوء"). والمعنى لا يتغير بذلك.
(6) (ت 2): غير.

(14/561)


هذا، حتى يدار الأمر على العسر واليسر، والمشقة وعدمها.
فإذا تبين هذا، فالخوض بعده في بيان الصيام.
9597 - قال الشافعي رحمه الله: "إن أفطر من عذرٍ أو غيره ... إلى آخره" (1).
صوم الشهرين مقيدٌ مشروطٌ بالوِلاء والتتابع في كفارة الظهار، وكفارةِ القتل، والوقاعِ في رمضان، [فيجب] (2) رعايةُ التتابع، فلو أفطر في اليوم الأخير عمداً، فسد عليه الاعتداد بجميع ما قدمه.
وهل نحكم بفساد الصوم، أم نقضي بانقلابه نفلاً تبَيُّناً؟ فعلى قولين أجريناهما في نظائر ذلك، فكل من نوى عبادة مفروضة، وكان المفروض مفتقراً إلى شرط والنفلُ من قبيله ونوعه لا يفتقر إلى ذلك الشرط، فإذا تخلف الشرط، ففي حصول النفل قولين قدمناهما مقرّرين في كتاب الصلاة.
وكذلك لو ترك النية ناسياً في اليوم الأخير حتى أصبح، فلا سبيل إلى الصوم في هذا اليوم. عن جهة الكفارة، ثم يتبين خروج ما مضى من الاعتداد.
ولو أنشأ صومَ الشهرين في وقت يتخلله يومُ العيد، لم يصحّ صومه، وأول عقده لا ينعقد من غير حاجة إلى التبيّن، فإنه أنشاه في وقتٍ لا يتأتَّى فيه الوفاء بالتتابع، ويعود القولان في انعقاد الصوم نفلاً، كما قدمناهما.
وإن كانت المرأة تصوم الشهرين عن كفارة قتلٍ، فطريان الحيض لا يقطع تتابعهما؛ فإنّ هذا الزمان لا يخلو في الغالب عن طريان الحيض.
ولو طرى مرض يبيح مثلُه الفطرَ في رمضان، فأفطر لأجله، ففي انقطاع التتابع قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا ينقطع لظهور العذر، والتتابع في صوم الكفارة لا يزيد على أداء صوم رمضان في وقته؛ فإذا جاز الإفطار في رمضان بعذر المرض، وجب أن ينتهض عُذراً في ترك التتابع.
والقول الثاني - أن التتابع ينقطع؛ لأن من الممكن أن يصوم شهرين من غير قطع
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 133.
(2) في الأصل: ويجب.

(14/562)


الوِلاء، وليس هذا [بتجويز] (1) الإفطار، فإن المرض يقتضيه، ولو مَنَعْنا من الفطر، كان إرهاقاً عظيماً، والذي نحن فيه ليس من قبيل المنع والجواز، وإنما هو نظرٌ في الاعتداد والاحتساب، هذا قولنا في المرض.
فأما إذا سافر، وأفطر بعذر السفر، فقد ذكر أصحابنا في ذلك قولين مرتبين على القولين في المرض، وجعلوا الإفطار بعذر السفر لقطع التتابع أولى، والرأي الظاهر أن التتابع ينقطع؛ فإن تجويز الإفطار بعذر السفر رخصة لا تناط بمشقة ولا حاجة، فكيف يجوز أن يعدّى بمثل هذه الرخصة موضعها ومحلّها.
9598 - ومما يجب التفطّن له أنا لو روجعنا، فقيل لنا: الخائض في صوم الشهرين هل يجوز له أن يتركه عازماً على أن يبتدىء صومَ شهرين بعد هذا (2)، من غير عذر؛ فإنه يجوز له تأخير الكفارة قبل الخوض، فهل يخرّج اختيار قطع الوِلاء تعمّداً على تجويز تأخير الكفارة؟
هذا فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: له أن يفعل هذا بأنْ لا ينوي صومَ غده، فأما إذا خاض في صوم يومٍ، فيبعد أن يتسلط على إبطاله، فأما ترك الصوم في بقية الشهرين، فليس اعتراضاً منه على عبادة بالإفساد.
ويتجه أن يقال: ليس له ترك الوفاء بالتتابع؛ فإن ما قدمه يخرج عن الفرضية (3)، فيكون معترضاً على فرضٍ بالرفع، ويقوَى هذا على قولنا ببطلان (4) الصوم تبيناً (5).
__________
(1) في النسختين: كتجويز. والمثبت تصرّف من المحقق. والمعنى ليس قطع التتابع هذا بتجويز الإفطار، إنما هو من جهة الاعتداد بالتتابع والتقطع.
(2) القضية التي استفتحها الإمام بهذه الفقرة هي تحريم إبطال الأعمال بعد انعقادها والشروع فيها، وهل قَطْعُ التتابع، وترك الاستمرار في أداء الكفارة، عزماً على استئنافها في وقت آخر، هل هذا يدخل في باب إبطال الأعمال فيحرم أم لا؟ ينبني هذا على اعتبار صوم الشهرين عبادة واحدة أم كل يوم عبادة مستقلّة، ونترك بيان ذلك للإمام؛ فقد عرضها بأبلغ عبارة وأدق ترتيب.
(3) "ما قدمه يخرج عن الوفاء بالفرضية": أي يقع وفاءً بفرضٍ، كما يظهر من الجملة بعده.
(4) القول ببطلان الصوم الذي سبق -إذا قطع التتابع- تبيناً، هو أحد القولين اللذين ذكرهما الإمام آنفاً في حكم هذا الصوم قبل القطع؛ هل ينقلب نفلاً أم يبطل تبيناً.
(5) (ت 2): يقيناً.

(14/563)


ويجوز أن يجاب عنه بأن قطعَ التتابعِ لا يفسد الفرضيةَ، بل إذا انقطع التتابعُ، تبين أن الذي مضى لم يكن فرضاً، وليس يقطع عبادة شرع فيها؛ فإن القطع (1) إفسادٌ لها بعد القطع (2) بالانعقاد.
ويجوز أن يقال: ما مضى وقع حقاً عن الكفارة، ثم بطل وقوعُها عن الكفارة؛ فإن الذي ينوي الصوم عن الكفارة جازمٌ نيته، غيرَ أن ارتباط التتابع لا بد من رعايته، فإذا قطعه، بطل ما تقدم عن جهة الكفارة بطلانَ الصلاة بعد انعقادها.
فإذا رأينا جوازَ تركِ الصيام؛ عزماً على افتتاح الشهرين من بعدُ، فلا كلام، وإن لم نجوّز، وقلنا: المرض لا يقطع التتابع، فيجوز الإفطار بسببه (3)، وإن قلنا: المرض يقطع التتابع، فيجوز الفطر أيضاًَ بسببه، كما يجوز الفطر في رمضان (4) على التزام القضاء من بعدُ، وكذلك يجوز الفطر بعذر السفر على التزام الاستئناف من بعدُ.
وهذه الأمور على وضوحها لا يضر التنبيه لها.
9599 - ومما يليق (5) بتمام القول في هذا أنا قدمنا أن من نسي النيةَ ليلاً، وأصبح غيرَ صائم، فهذا يقطع التتابع، ولا يبعد عن القياس إلحاق هذا بالمعاذير، وإن كان تَرْكُ المأمور به لا ينتهض عذراً، وإنما النسيان عذر في مظان النهي، ولكن إذا كان السفر عذراً على رأيٍ حتى لا ينقطع التتابع بالفطر فيه، فقد يقرب بعضُ القرب ما ذكرناه، [والأظهر ما قطع به الأصحاب] (6)؛ فإن النسيان لا يقام عذراً في ترك
__________
(1) (ت 2): التتابع.
(2) القطع هنا ليس بنفس المعنى في الجملة السابقة، وإنما القطع هنا بمعنى التيقن، لا بمعنى إبطال العبادة والانصراف عنها، فالمعنى: أن إبطال العبادة وإفسادها هو (قطعها) بعد التيقن من انعقادها، وليس من ذلك قطع التتابع.
(3) يجوز الفطر بسببه، أي ويستمر التتابع.
(4) يجوز الفطر بسبب المرض وينقطع التتابع، وأثر الحكم بجواز الفطر أنه لا يأثم إثم من أبطل العبادة بقطع التتابع، فقد قطعه بما جوزناه له.
(5) (ت 2): ومما يتبين.
(6) تصرفنا في هذه الجملة بين المعقفين، وأخذناها من عبارة العز بن عبد السلام، حيث جاء في الأصل وفي (ت 2) معاً كلمة غير مقروءة استحال معها إقامة الجملة، ففي النسختين: =

(14/564)


المأمورات. ويشهد لهذا أن من نسي النية في رمضان وأصبح فيلزمه الإمساك على الرأي الأصح، وإن كان الإمساك في حكم التغليظ على من يترك صوماً مستحَقاً في رمضان، فألحقنا الناسي بالذي يتعمد إفطاراً من غير عذر.
9600 - ومن تمام القول في التتابع اختلافُ الأصحاب في أن نيّة التتابع هل تشترط أم لا؟ فمنهم من قال: لا تجب نية التتابع؛ فإنه هيئةُ (1) العبادة، ومن نوى العبادة، لم يلزمه التعرض لبيانها في نيتها.
ومن أصحابنا من أوجب نية التتابع، كما يوجب نية الجمع بين الصلوات، وهذا بعيد؛ فإن الأصل إقامة الصلوات في مواقيتها، ورخصة الجمع تخالف هذا الوضع، فاشترط الأكثرون من الأصحاب قصداً (2) إلى ذلك.
ثم إن شرطنا نية التتابع، فهل يجب الإتيان بها كلَّ ليلة، أو يكفي الإتيان بها في الليلة الأولى؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون. والمسألة محتملة إن صح اشتراط نية التتابع، والخلاف في ذلك عندنا يقرب من الخلاف في اشتراط نية التمتع من حيث إن النسكين مجموعان على وجه مخصوص.
9601 - ثم قال: "وإذا صام بالأهلّة ... إلى آخره" (3).
إذا ابتدأ الصوم في أول الهلال، صام شهرين بالأهلة، ووقع الاعتداد بما جاء به سواء نقص الشهران أو كملا، أو نقص أحدهما، وكمل الثاني.
وإن استفتح الصوم في أثناء شهرٍ، صام بقية ذلك الشهر، وصام الشهرَ الذي يليه بالهلال، ثم استكمل صومَ الشهر الأول ثلاثين يوماً، ولا فرق بين أن ينقص ذلك الشهر -أو يكمل- وقد ذكرنا هذا في مواضع (4).
__________
= "والأظهر ما يقطع به الأخذ، فإن النسيان لا يقام عذراً ... " هكذا (الأخذ) بكل وضوح. وهي في (ت 2) ما (قطع) بدل (يقطع)، فهل هو تصحيف اتفقت عليه النسختان، أم هو سقط، أم هما معاً؟؟ الله أعلم.
(1) (ت 2): فإن هذه العبادة.
(2) قصداً: مفعول لقوله: اشترط الأصحاب.
(3) ر. المختصر: 4/ 134.
(4) منها السَّلم وتعليق الطلاق.

(14/565)


وقال أبو حنيفة (1): إذا انكسر الشهر الأول، بطل اعتبار الأهلة بالكلية، واعتلّ بأَنْ قال: لو كملنا نقص الشهر الأول بأيام من الشهر الثالث، لكان ذلك مناقضاً لقاعدة التتابع، ولأدّى إلى تخلل الشهرِ بَيْنَ كسرِ الشهر الأول وتكملته في الشهر الثالث.
وهذا لا بأس به، وقد مال إليه بعض الأصحاب، وقد سبق منّا رمزٌ إليه في تعليق الطلاق بمضي الأشهر، والمذهب ما قدمناه، وهو النص، ولا اعتداد بما سواه.
9602 - ثم قال: "ولو نوى صوم يوم فأُغمي عليه ... إلى آخره" (2).
أشار إلى الإغماء وحكمه، وقد سبق على أبلغ وجهٍ في البيان في كتاب الصوم، والذي يتعلق بهذا الكتاب أنه إذا حصل الفطر بعذر الإغماء، فهو كحصوله بسائر أنواع المعاذير، وفي انقطاع التتابع قولان، كما قدمناه.
فصل
قال: "وإنما حكمه في الكفارات حين يكفر ... إلى آخره" (3).
9603 - اختلف قول الشافعي في الحالة المعتبرة في صفة الكفارة المرتَّبة، فقال في قولٍ: الاعتبار بحالة الوجوب، فإن كان موسراً، كانت كفارته كفارة الموسرين، وإن أعسر من بعدُ، لم يجزه الصوم، وصار العتق دَيْناً في ذمته إلى أن يجد وفاءً به.
والقول الثاني - أن الاعتبار بحالة الأداء والإقدام على التكفير، فلو كان موسراً حالة الوجوب فأعسر، وأراد التكفير، فله أن يصوم؛ نظراً إلى حالة الأداء.
وفي المسألة قول ثالث أنا نراعي أغلظ الطرفين وأشدَّهما، فإن كان موسراً يوم الوجوب، ففرضه الإعتاق، وإن كان مُعسراً يوم الوجوب، وكان موسراً حالة الهم بالأداء، لم يُجْزه إلا الإعتاق.
توجيه الأقوال: من قال: الاعتبار بحالة الوجوب، قال: نوع تكفير يختلف
__________
(1) ر. المبسوط: 7/ 14.
(2) ر. المختصر: 4/ 134.
(3) ر. المختصر: 4/ 135.

(14/566)


بالرق والحرية، فالاعتبار فيه بحالة الوجوب كالحدود، والمعنى أنه إذا ثبت موجِب الكفارة، وجب القضاء بوجوب الكفارة، فإن الموجَب لا يستأخر عن الموجِب، وإذا قضينا بوجوب العتق، استحال الخروج عن الكفارة إلا به.
ومن قال بالقول الثاني احتج بأن الاعتبار في العبادات بوقت أدائها، قياساً على الصلاة؛ فإن من فاتته صلاة في حالة عجزه عن القيام، ثم أراد إقامتها في وقت القدرة، فإنه يقيمها قائماً، ولو كان الأمر على العكس، أقام الصلاة عاجزاً قاعداً، وإن كان التزمها قادراً على القيام.
قال القاضي: القولان مأخوذان من أن المغلَّب في الكفارة العبادةُ أو جهةُ العقوبة: فإن غلبنا جهةَ العبادة، شبهناها بالصلاة، فاقتضى ذلك اعتبارَ حالة الأداء، وإن غلبنا شَبَهَ العقوبات، اعتبرنا حالة الوجوب.
وهذا فيه نظر مع إيجابنا الكفارة على من لا نُؤثِّمُه، وقَطْعِنا بانقطاع العقوبة عمن هو في مثل حاله.
واعتبارُ الأغلظ والأشد ينزع إلى رعاية الاحتياط.
التفريع على الأقوال:
9604 - إن قلنا: الاعتبار بحالة الوجوب، فلو كان معسراً في تلك الحالة، كفاه الصوم، ولو أيسر وأراد أن يعتق، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن له أن يعتق؛ فإن العتق هو الأصل، وهو في الرتبة العليا، والصوم دونه، فإن كان يُجزىء الأدنى فلأن يجزىء الأعلى أولى. وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، وهو الرأي.
والثاني - لا يجزئه إلا الصوم؛ فإنه تعيّن في ذمته، وهذا وإن كان بعيداً في الحكاية، فإنه [يقوى بالمعنى] (1) الذي أشرت إليه في صدر الباب، من أن المبدل والأبدال ليست متفاوتة في الرتب، وإنما قُدِّم بعضُها وأُخِّر وفاقاً تعبداً، فإذا وقع الحكم بالوجوب، فلا [معدل] (2) عن الواجب.
__________
(1) في النسختين: يقوّي المعنى. والمثبت من المحقق رعاية للمعنى المفهوم من السياق.
(2) في الأصل: معوّل.

(14/567)


ومعظم الأئمة قطعوا بإجزاء الإعتاق، وحكَوْا الوجهين فيه إذا كان ملتزمُ الكفارة عبداً، وكان الواجب عليه الصوم؛ تفريعاً على أنه لا يملك، فلو عَتَق وملك، فأراد أن يعتق، فهل يُجزئه العتقُ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يُجزئه؛ فإن البدل إذا أجزاً، فالمبدل بالإجزاء أولى.
والثاني - لا يجزئه؛ فإنه التزم الصوم في وقتٍ لا يتأتى منه غيرُه، فكأنه لم يكن الصوم في حقه على حقائق الأبدال؛ فإذا تعين الصوم، فلا معدل عنه.
وذكر صاحب التقريب في الحرّ المعسر الوجهين، وهذا بعيد، والفرق أن العتق يتصوّر وقوعه من المعسر على الجملة، بخلاف العبد.
وإذا فرعنا على أن الاعتبار بحالة الأداء، فليس يخفى تفصيله: فمهما (1) أقدم على التكفير، اعتبرت صفةُ حالة الأداء.
ومن راعى الأشد، فمعناه أنه إن كان موسراً وقت الوجوب، فلا يجزئه إلا الإعتاق، ولو فقد يساره صَبَرَ إلى الوجدان، وإن كان مُعسراً حالة الوجوب ثم أيسر، فأراد الصومَ نظراً إلى حالة الوجوب، لم يكن له ذلك.
هذا بيان الأقوال.
9605 - وقد قال الأصحاب: لو شرع في صوم الشهرين ثم أيسر، وقلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فلا يقطع صومَ الشهرين بعد الخوض فيه، وإنما يعتبر الأداء إذا أيسر قبل الخوض في الصوم، هذا ما وجدته للأصحاب رضي الله عنهم.
وما يدور في الخَلَدِ من المسألة أنا إذا اعتبرنا الأشدّ (2) والأغلظَ، فتعتبر الطرفين في الشدة، فلو كان معسراً حالة الوجوب، وكان معسراً حالة الأداء أيضاًً، ولكن تخلل بينهما حالةُ يسار، فلم أر أحداً من الأصحاب يعتبر تلك الحالةَ المتوسطةَ، وقد يظن الناظرُ ذلك محتملاً، ولكن المذهب على خلافه.
والسبب فيه أن الوجوب على الحقيقة يضاف إلى وقت وجوب الكفارة، ثم وقت
__________
(1) فمهما: بمعنى: فإذا.
(2) (ت 2): إذا اعتبرنا بلا شك بالأشد والأغلظ ...

(14/568)


الأداء منتظر، فلا يتبدل الوجوب من غير تقدير أداء؛ فإن اليسار لا يوجب شيئاً، بل إذا أدى الموسر، فينبغي أن يؤدي ما يليق بحاله.
هذا بيانُ الأقوال والتفريع عليها.
9606 - وذهب أبو حنيفة (1) والمزني إلى أنه لا حكم للشروع في الصوم؛ [فلو] (2) شرع فيه ثم أيسر، وقلنا: الاعتبار بحالة الوجوب، لزمه أن ينتقل إلى الإعتاق، وهذا طرده المزني (3) على أصله في وجود الماء في خلال الصلاة، حيث قطع بانقطاع التيمم وبطلانِ الصلاة، ونزّل وجدان الماءِ في الصلاة منزلةَ وجدانه قبل الشروع في الصلاة.
وقد سمعت شيخي غير مرّة يحكي عن بعض الأصحاب موافقةَ المزني في مذهبه.
وهذا (4) له اتّجاه، وإن كان بعيداً في الحكاية.
ومما يجب التنبه له أنا إذا قلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فالتعبير عن الواجب قبل اتفاق الأداء قد يغمض؛ فإنا لو قلنا: الواجب ما يقتضيه الحالة التي عنها نُعبِّر (5) أو حالة الوجوب. فتبديل الواجب بعيد. وإن قلنا: لا تجب الكفارة (6)، كان خرقاً للإجماع.
وفي نقل مذاهب العلماء في هذه المسألة ما يدل على خلاف هذا؛ فإنهم قالوا: اختلفت المذاهب في أن الاعتبار بحالة الوجوب (7) أم بحالة الأداء، فأثبتوا حالة الوجوب، فلا يتجه إذاً إلا مسلكان: أحدهما - أن نقول: تجب الكفارة ولا يتعيّن صنفها، وإنما تتعين حالة الأداء، ولا يمتنع هذا النوع من الإبهام، وهو بمثابة
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 213، المبسوط: 7/ 12.
(2) في النسختين: ولو.
(3) ر. المختصر: 4/ 136.
(4) (ت 2): لا اتجاه له.
(5) في (ت 2): "تغير".
(6) أي لا تستقر في الذمة إلا عند الأداء.
(7) (ت 2): في أن الاعتبار بحالة الوجوب فلا يتجه إذاً إلا مسلكان.

(14/569)


إيجابنا كفارة اليمين على الموسر، مع أنا لا نعيّن خصلة من الخصال الثلاث، فإذا اتفق أداء بعضها فالمؤدّى هو الواجب. هذا مسلك.
ويجوز أن يقال: يجب ما يليق بحالة الوجوب، ثم إذا تبدل الحال، تبدل الواجب، وهذا ليس بدعاً، كالصلاة تجب على القادر (1)، ثم يعجز، فتتبدل صفة الصلاة.
...
__________
(1) (ت 2): الكافر.

(14/570)


باب الكفارة بالطعام
9607 - نصدر هذا الباب بالسبب الذي يجوّز الانتقالَ من الصيام إلى الإطعام، كما صدرنا باب الصيام بمعنى العجز عن الإعتاق، فإن عجز من فرضُه الصيام لهَرمٍ أو مرض يجوز الإفطار بمثله في رمضان، فله الانتقال إلى الإطعام.
ومن أسرار ذلك أنا لا نشترط أن يكون المرض لازماً، بحيث يبعد عن الظن زواله؛ بناء على أن الكفارة تقبل التأخير، وقد يتأكد هذا السؤال بشيء، وهو أن من ماله غائب لا ينتقل إلى الصيام لعجزه عن العتق في الحال، وهذا فيه بعض الإعواص (1)؛ فإن الفرق بينهما متعذر، والمرض مرجوّ الزوال، وحضور المال والانتهاء إلى المال ليس بعيداً عن الرجاء، والكفارة ليست على التضييق.
ولعل الممكنَ فيه التعلُّقُ بالظاهر، وهو المعتمد، وإليه الرجوع، قال الله تعالى في الانتقال إلى الإطعام: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]، وهذا المرض الناجز والعجز العاجل غير مستطيع، وقال تعالى في الرقبة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] والمراد: "فمن يجد رقبة أو مالاً يشتري به رقبة"، ومن ماله غائب لا يسمى فاقداً للمال.
ويجوز أن يقال: إحضار المال والمصيرُ إليه متعلق بالاختيار، والاختيارُ في [مقدمات] (2) الشيء والتسبّب إليه كالاختيار في عينه، والمرض خارج عن الاختيار، والأولى اعتماد الظاهر، كما ذكرته.
9608 - وقال الأصحاب: إذا سافر من عليه الكفارة وأراد الإطعام في سفره بسبب
__________
(1) الإعواص: يقال: أعوص فلان في الكلام أتى بالعويص منه، أي بالغامض الذي يصعب فهمه (المعجم).
(2) في الأصل: المقدمات.

(14/571)


أن السفر الذي هو ملابسه مما يجوز ترك صوم رمضان به إلى القضاء، فقد صار طوائف من أصحابنا إلى جوازِ ذلك، وتشبيهِ السفر بالمرض، وهو الذي ذكره القاضي، ولم ينقل غيرَه، وطرد ما ذكرناه من أن كل ما يجوز الإفطار به في رمضان يجوز الانتقال به إلى الإطعام.
وهذا فيه إشكال؛ فإن المسافر قادرُ على الصيام، والفطرُ المثبَتُ رخصةٌ في حقه غيرُ منوطة بالعجز، والفطرُ بالمرض منوطٌ بالحاجة الحاقة، فلا يقع الاكتفاء باسم المرض، واسمُ السفر الطويل كافٍ -إذا لم يكن سفرَ معصية- في الترخّص بالرخص.
والانتقالُ إلى الإطعام منوط بعدم الاستطاعة في نص القرآن، فلا وجه لهذا.
والذي يدور في الخلد أن المرض الذي أطلقه الأصحاب ليس على ما أطلقوه؛ فإن الإنسان قد يطرأ عليه عارض يعلم أنه لا يدوم يوماً أو يومين، فيجوز الإفطار بمثله، ولا يجوز عندي الانتقال بمثله إلى الإطعام، ولو كان المرض بحيث يتوقع دوامه واستمراره لشهرين، فهذا هو الذي يجوز الانتقال بسببه، ثم الظنُّ يكتفى به.
ولو أطعم، ثم اتفق زوال المرض، وتعجّل الشفاء على القرب، فالإطعام مجزىء والقضاء به غير ممتنع، وهذا لا بد منه.
9609 - ومما يتعلق بهذا أن الصيدلاني رحمه الله نقل عن الشيخ القفال أنه قال: قال بعض أصحابنا: الشبق المفرط والغُلْمة الهائجة عذرٌ في الانتقال إلى الإطعام،
وكان يستشهد بحديث الأعرابي: إذ قال في القصة المشهورة وهل أُتيت إلا من جهة الصوم، فقال صلى الله عليه وسلم: "أطعم".
[سبَّبَ] (1) الأعرابي بما ذكرناه، فقدّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عذراً، ونقله إلى الإطعام (2).
__________
(1) في الأصل: شببه. والمثبت من (ت 2).
والمعنى جعل الأعرابيُّ الشبقَ والغُلمةَ سبباً في الاعتذار عن إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال له: "صم شهرين" فعد ذلك صلى الله عليه وسلم عذراً، ونقله إلى الإطعام.
(2) مضى تخريج هذا الحديث في كتاب الصيام.

(14/572)


وذكر القاضي هذا الوجهَ، ولم يذكر غيره، وذكر صاحب التقريب وجهين: أصحهما - أن الغُلمةَ لا تكون عذراً؛ فإن الليالي متخللة، وفيها مقنع ومندوحة، وقصة الأعرابي مشكلةٌ مِنْ وجوهٍ، تعرضنا لها في كتاب الصيام.
وقد أجمع الأصحاب على أن فرط الشَّبَق لا يرخِّص في الفطر في رمضان، وإنما هذا التردد في الانتقال إلى الإطعام، ولعل من قال ذلك اعتلّ بطول مدة الامتناع نهاراً عنها، وهذا ينقضه طولُ مدةِ رمضان، وما أوضحناه من تخلل الليالي يُبطل هذا الخيال.
وقد انتجز القول في العجز المعتبر للانتقال من الصيام إلى الإطعام.
فصل
قال: "ولا يُجزئه أقلُّ من ستين مسكيناً، كل مسكين مداً ... إلى آخره" (1).
9610 - القول في ذلك يتعلق بالمخرَج والمخرَج إليه، فأما المخرَج، فالكلام في مقداره وجنسِه، أما المقدارُ، فستون مُدّاً، وأما الجنسُ، فالقول فيه كالقول في صدقة الفطر.
أما المخرَج إليه، فالكلام في عددهم، وصفتهم، فأما العدد، فليكونوا ستين، ولا ينقص حصة كلِّ واحدٍ عن مُدّ، فلو صرف أمداداً إلى مسكين في أيامٍ؛ صائراً إلى إقامة سدِّ الجَوْعاتِ في الشخص الواحد مقامَ أعداد المساكين، لم يجز، خلافاً لأبي حنيفة (2).
وأما صفتهم فليكونوا مساكين، بحيث يجوز للمكفر صرفُ الزكاة إليهم، ولا يجزىء التغذيةُ والتعشيةُ؛ إذ لا تمليك فيها، والتمليك مرعيٌّ عندنا في إخراج الكفارة، كما نرعاه في إخراج الزكاة. ولو أحضر الطعام، وقد شهد ستون مسكيناً فقال: خذوه، فأخذوه وجَهِلْنا مقدارَ ما أخذه كلُّ واحد منهم، واستبهم الأمرُ، فلا
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 138.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 498 مسألة: 1042، المبسوط: 7/ 17.

(14/573)


نحكم إلا بإجزاء مُدٍّ واحدٍ، فإن واحداً منهم لا بد وأن يكون أخذ مدّاً أو أكثر، فهذا القدر مستيقنٌ، فيحصل براءة الذمة عن هذا المقدار. وهذا بيّن.
فروع شذت عن الأصول نأتي بها مجموعة إن شاء الله.
9611 - إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، فالظهار مما يصح تعليقه كالطلاق، فلو أعتق عبداً عن كفارته قبل أن تدخل الدار، فقد قال ابنُ الحداد (1): تقع الكفارة موقعَها، وبنى هذا على أن تعليق الظهار أحدُ سببي الكفارة، وتقديمُ الكفارة على أحد سببيها جائز.
وقد خالفه معظم الأصحاب، فقالوا: هذا تقديمٌ للكفارة على سببيها جميعاًً؛ فإن كفارة الظهار لها سببان: أحدهما - الظهار، والثاني - العودُ، ولا يحصل الظهار قبل دخول الدار.
ونظير المسألة التي ذكرناها ما لو قال: إن دخلت الدار، فوالله لا أضربك، ثم قدّم التكفير على دخول الدار، لم يُجْزه.
ووافقه بعضُ الأصحاب، وجعلوا تعليق الظهار بمثابة الظهار، وهذا بعيد، ثم هؤلاء لا يسلمون المسألةَ التي وقع الاستشهادُ بها في اليمين، فلو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت عليّ كظهر أمي، ثم قال: إن دخلت الدار فعبدي حر عن ظهاري، فلا يخفى تفريع المسألة على رأي ابن الحداد، والعتق ينصرف لا شك فيه إلى الظهار على طريقته، فإنه إذا جوّز تنجيز العتق قبل الدخول، فما ذكرناه أولى بالجواز.
ومن خالفه من أصحابنا منع هذا أيضاًً؛ لأن تقديم [العتق] (2) قبل الظهار ممتنع، وهكذا جرى الأمر.
__________
(1) (ت 2): القفال. وهو سبق قلم، والمثبت من صفوة المذهب مع الأصل طبعاً، وهو الذي يتفق مع تفصيل المسألة الآتي.
(2) في النسختين: التعليق، والمثبت من عمل المحقق.

(14/574)


ولو قال: عبدي هذا حر عن ظهاري إذا تظاهرت، لم يقع العتق عن ظهاره، وقد مهدنا هذا فيما تقدم من المسائل.
فرع:
9612 - إذا قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، ثم جن عقيب اللفظ، أو مات، فالذي أطلقه الأصحاب أنه لا يكون عائداً؛ فإنه لم يمسكها مع التمكن من الطلاقِ، تاركاً الطلاق.
ولو جُن عقيب الظهار، كما صورناه، فأفاق، قال الشيخ: سمعت بعضَ الأصحاب يقول: نفسُ الإفاقة هل تكون عوداً؟ فعلى وجهين كالوجهين في أن الرجعة هل تكون عوداً، حكى هذا وزيفه، والعجب منه كيف يحكي مثلَ هذا.
ولو قال لامرأته: إن لم أتزوج عليك، فأنت عليَّ كظهر أمي، فلا يثبت الظهار ما لم يتحقق اليأس من التزوج، فلو مات، فقد حصل الظهار قبل موته بلحظة، هكذا قال ابن الحداد وهو سديد، لا شك فيه، ثم قال بعده: وهو عائد يلزمه الكفارة، فإنه ظاهر ولم يطلق.
وقد غلطه كافةُ (1) الأصحاب، فقالوا: أما الظهار، فقد ثبت ولم يثبت العود، فإنه عقيب الظهار مات، فإن كان يقول ابن الحداد من مات عقيب الظهار، فهو عائد، فقد خالف ما عليه الأصحاب، والموتُ لا ينحط عن الطلاق، والنكاحُ ينتهي به، وإن قال: هو لم يطلق، لم يقبل منه هذا وقد ارتفع النكاح.
هذا منتهى ما أردناه، والله المستعان.
...
__________
(1) (ت 2): بعض الأصحاب.

(14/575)


الموفق من يهتدي إلى المأخذ الأعلى، فإن مذهب إمامنا الشافعي تدواره على الأصول، ومآخذ الشريعة.
الإمام
في نهاية المطلب

(15/4)