نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب العدة
باب عدة المدخول بها
9763 - العِدّة من العَدد، استعملت شرعاً في معدودات مخصوصة، فجرت مجرى الصلاة والصيام والحج، ثم العِدّة تنقسم إلى ما يتمحض تعبداً، وإلى ما يشوبه رعاية الاستبراء.
فأما ما يتمحّض تعبداً، فهو العدة التي لا يتوقف وجوبها على جريان السبب الشاغل للرحم، وذلك عدة الوفاة، وعن هذا الأصل تكتفي الممسوسة بها، وإن كانت من ذوات الحيض، من غير جريان حيض، وعماد تلك العدة الأربعة الأشهر والعشر، في حق الحرة، وشَطرها في حق الأمة، وقياسها ألا تتعلقَ بما يدل على براءة الرحم، ولكن ثبت بالخبر أن المتوفى عنها زوجها لو وضعت حملَها وزوجها على السرير تخلّت.
فأما العدة التي يشوبها اعتبارُ براءة الرحم، فهي العدة عن طُرق قطع النكاح في الحياة، وجميعها يتوقف ثبوتها على جريان المسيس، ثم لا نشترط في وجوبها توهم شغل الرحم؛ فإن الصغيرة التي لا يحبل مثلها إذا وطئها الزوج ثم طلقها، اعتدت.
وإذا قال الزوج لامرأته الموطوءة: إذا استيقنتِ براءةَ رحمك فأنت طالق، فاستيقنتها: بأن ولدت، ومضت بعد الولادة ستةُ أشهر، واعتزلت عن زوجها أكثر من أربع سنين، فإذا لحقها الطلاقُ، استقبلت العدة مع القطع ببراءة الرحم، وقد تمر على المطلقة أربعُ سنين، فلا نحكم بانقضاء عدتها (1)، وإن أفاد ما جرى من الزمان القطعَ ببراءة الرحم، فاشتراط المسيس يشير إلى اعتبار براءة الرحم في بعض الصور،
__________
(1) ستأتي هذه الصورة فيمن كانت تحيض وانقطع حيضها.

(15/143)


ووجوب العدّة مع القطع بالبراءة يدل على أن وجوب العدة لا يتوقف على شَغْل الرحم.
ثم هذه العدة تتعلق بوضع الحمل وغيره، فإذا وضعت الحمل بعد الفراق، ولم يكن الرحم مشتملاً على غير ما وضعت، فقد انقضت عدتها، قَرُبَ الزمانُ أو طال.
وإن كانت حائلاً، فلا يخلو إما أن تكون من ذوات الحيض وإما ألا تكون منهن؛ فإن لم تكن من ذوات الحيض، فعدتها بالأشهر، على ما سيأتي في أثناء الكتاب.
9764 - وإن كانت من ذوات الحيض، فعدتها بالأقراء، قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
واختلف العلماء في القُرء ومعناه في الشرع، فذهب أبو حنيفة (1) إلى أن القرء الحيض، وقيل: كان هذا مذهباً للشافعي، وكان أبو عبيد (2) يعتقد أن القرء هو الطهر الذي يحتوشه حيضان، فالتقيا رضي الله عنهما وتناظرا، وكان الشافعي يورد عليه من قضايا الأحكام ما يدل على أن الاعتبار بالحيض في العِدة، وأبو عبيد يورد من قضايا اللسان ما يدل على أن القرء الطهر، فافترقا، وقد أخذ الشافعيُّ مذهبَ أبي عبيد، وأبو عبيد مذهبَ الشافعي.
وهذه حكاية لا تعويل عليها؛ فإن الشافعي كان بحرَ (3) اللغة، وأبو عبيد من نَقَلَتها، وإنما كان ينقل الأئمةُ اللغة من الشافعي ومَنْ في درجته في اللسان، فلا يُعرف للشافعي مذهبٌ في القرء سوى ما يعرفه أصحابه الآن، ولو كان ذلك مذهباً له، لنقل نقلَ الأقوال القديمة.
وقد اضطربت أقوال العلماء في معنى القرء في اللغة: فذهب أصحاب أيي حنيفة إلى أنه الحيض، وذهب أصحاب الشافعي إلى أنه الطهر.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 385 مسألة 890، المبسوط: 6/ 13، طريقة الخلاف: 141 مسألة 59.
(2) في الأصل: أبو عبيدة. والمعني هنا هو: أبو عبيد القاسم بن سلام، وقد سبقت ترجمته في الفرائض.
(3) ضبط (بحر) في الأصل بالرفع.

(15/144)


وقال قائلون من أئمتنا: ما يجمع على وزن فعول، فهو بمعنى الطهر، وما يجمع على وزن أفعال، فهو بمعنى الحيض، ثم زعموا أن الذي هو بمعنى الطهر على وزن الفَعْل، فالفَعْل يُجمع فعولاً كالحرب والحروب والضَّرب والضُّروب، والقَرْءْ -بفتح القاف- والقروء.
وما هو بمعنى الحيض على وزن الفِعْل كالجِرم والأجرام، والقِرء والأقراء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعي الصلاة أيام أقرائك ".
9765 - وكل ذلك من اضطراب الفقهاء والذي صح عندنا أن القُرء والقروء بالضم والفتح من الأسماء المشتركة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعي الصلاة أيام أقرائك "، وقال الأعشى:
. . . . . . . . . . . . . ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا (1)
ومن صريح اللغة القَرْءْ بمعنى الجمع، ومنه تقول: قرأت الطعام في الشدق، والماءَ في الحوض، وما قَرَأَت الناقةُ سَلىً (2) قط، أي لم يشتمل رحمها على جنين.
ومما صح النقل فيه القرء بمعنى الطلوع والغروب يقال: قرأ النجمُ إذا طلع، وقرأ إذا غرب، والقراءة يجوز حملها على الجمع، من حيث إن القارىء يجمع الحروف لنظم الكلمة، ثم يجمع الكلمة لنظم الكلام، ويجوز أن يكون بمعنى البدوّ والاكتتام،
__________
(1) هذا شطر بيت للأعشى من قصيدة يمدح فيها هوذَة بنَ علي الحنفي، وقبل هذا البيت:
وفي كل عامٍ أنت جاشِمُ غزوة ... تشدّ لأقصاها عزيمَ عزائكا
مورثةٍ مالاً وفي الحيّ رفعةً ... لمَا ضاع فيها من قروء نسائكا
ومحل الشاهد للإمام أن القرء من الأسماء المشتركة، فهو في الحديث بمعنى الحيض: " دعي الصلاة أيام أقرائك " أيام حيضك. وفي البيت بمعنى الطهر، فهو يخرج للغزو كل عام، فيورّثه الغزو مالاً ورفعة عوضاً عما ضاع من استمتاعه بنسائه في أقرائهن (أطهارهن).
(ر. لسان العرب: مادة: قرء، وديوان الأعشى: ص 133).
(2) السَّلى: هو الغشاء الرقيق الذي يحيط بالجنين وهو في بطن أمه، ويخرج معه (المعجم).
وضبط في نسخة الأصل بكسر السين، ورسم بالألف.

(15/145)


والكلم هكذا تنتظم بحروفها، فيطلع حرف من مخرجه ويغيب ويطلع آخر، فيتحصّل من ذلك أن القُرء من الأسماء المشتركة.
وقد صح عندنا أن الاسم المشتركَ كالجون الذي يطلق على الضوء والظلمة في أصل الوضع موضوعٌ للغلس ووقت اختلاط الظلام بالضياء، ثم قد يميل العرب إلى أحد طرفي الجَوْن فتسمّي الضوءَ جوناً، وكذلك القول في الطرف الآخر، فالقرء جرى بين طوري المرأة في الطهر والحيض، فمال بعض العرب إلى طرفٍ، والبعضُ إلى الطرف الآخر.
ومن علوّ قدر الشافعي رضي الله عنه أنه لم يتعلق في هذه المسألة باللغة لمّا رأى أصولَها متفاوتة، واعتقد أنه من الأسماء المشتركة، وطلب متعلّقاً من الشريعة، فاستمسك بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، وإليه أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر؛ إذ قال: " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " (1)، ثم إذا استقبلت ذاتُ الأقراء العدة، فلا شك أنها معتدة في زمان الطهر والحيض، ولكن أجمع العلماء على أن الاعتداد يقع بأحد الطورين، وهو المقصود، والآخر لا بد منه؛ فإن حكم العدة لا [يتقطّع] (2)، ثم رأى الشافعي [الاحتساب] (3) في العدة [بالوقت] (4) الذي تتهيأ المرأة فيه للاستمتاع في النكاح.
9766 - هذا بيان مذهب الشافعي، وله قولٌ في القديم صح النقل فيه أن القرء هو الانتقال، ثم قال: الانتقال من الحيض إلى الطهر في اللغة كالانتقال من الطهر إلى الحيض، ولكن الشرع خصص القرء بالانتقال من الطهر إلى الحيض، ويظهر أثر هذا القول في التفريع، ثم أول حكم نبتديه تفصيل القول في الأقراء.
__________
(1) سبق هذا الحديث في الطلاق.
(2) في الأصل: " ينقطع ".
(3) في الأصل: الاحتباس. والتصويب من صفوة المذهب.
(4) في الأصل: في الوقت.

(15/146)


فصل
قال: " ولو طلقها طاهراً قبل جماع أو بعده، ثم حاضت بعده بطَرْفةٍ، فذلك قرء ... إلى آخره " (1).
9767 - نقول: ثبت من مذهب الصاحب (2) رضي الله عنه أن القرء هو الطهر، هذا هو الأصح إلى أن نفرع [على] (3) قول الانتقال.
ثم إذا وقع الطلاق والمرأة في بقيةٍ من الطهر، فإذا حاضت، فهذا قرءٌ كامل في معنى الاعتداد والاحتساب، وإن لم يكن طهراً كاملاً، حتى لو طلّقها وقد بقي من طهرها زمنٌ يسع طرفةَ عين، فإذا حاضت، كان ذلك المقدار قرءاً ولا فرق بين أن يكون جامعها في ذلك الطهر، وبين أن لم يكن جامعها، وإنما يقع الفصل بين أن يجامع وبين ألا يجامع في طلاق السنة والبدعة، كما سبق مفصلاً في موضعه من كتاب الطلاق.
ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فالطلاق على القول الجديد الصحيح يصادف الطهر، ولكن لا يستعقب طهراً، بل يتصل وقوع الطلاق بأول الحيض ولا يعتد بذلك؛ فإنه لم يمضِ بعد وقوع الطلاق شيء من الطهر، ثم إذا كان كذلك، فهل نحكم بكون الطلاق بدعياً؛ من حيث إن وقوعه في هذا الوقت يتضمن تطويل العدة، أو نحكم بأنه طلاق سنة لمصادفته طهراً، على شرط أن يُفرض عارياً عن المسيس؟ فيه اختلافٌ قدمته (4).
ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من حيضك، فاتصل الطهر بوقوع الفراق، وقد ذكرنا الاختلاف في أن الطلاق سني أم بدعي (5)؟
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 4.
(2) الصاحب: المراد الشافعي رضي الله عنه.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) قال النووي: "المذهب والمنصوص أنه بدعي" (ر. الروضة: 8/ 5).
(5) قال النووي: "الأصح أنه سني لاستعقابه الشروع في العدة" (السابق نفسه).

(15/147)


وجمع العراقيون الصورتين وهو إيقاع الطلاق في آخر جزء من الطهر وإيقاع الطلاق في آخر جزء من الحيض، ثم قالوا في الحكم بالسنة والبدعة في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها - أن الاعتبار بالوقت الذي يقع الطلاق فيه، فإن كان طهراً، فالطلاق سني، وإن كان حيضاً، فالطلاق بدعي.
والثاني - أن الاعتبار بالوقت الذي يعقب الطلاق، فإن كان طهراً، فالطلاق سني، وإن كان حيضاً، فبدعي.
والوجه الثالث -[عدم] (1) الفصل بين الصورتين، فإن وقع الطلاق في بقية الطهر - يعني الجزء الأخير-، فهو بدعي اعتباراً بما بعده، وإن وقع الطلاق في آخر الحيض، كان بدعياً اعتباراً بحالة الوقوع، والفرق (2) أن الحيض لا يمكن قلبه عن اقتضاء البدعة، [والطهر] (3) يمكن قلبه إلى اقتضاء البدعة بفرض الوطء فيه، وإذا كان كذلك، فيقاع الطلاق في الجزء الأخير يكون من الأسباب المغيرة للطهر عن مقتضاه.
هذا بيان التفريع على الجديد.
9768 - فأما القول الذي نص عليه في القديم وهو أن القرء هو الانتقال، ففيه أولاً سرٌّ بديع، وهو أنه جمعٌ بين الطهر والحيض، [مال] (4) الشافعي إليه من وجهين: أحدهما - أنه وجد في اللغة القرءَ بمعنى الانتقال طلوعاً وعزوباً، والآخر - أن ن ضرورة كل انتقال الجمع بين المنتقَل منه، والمنتقَل إليه، والانتقال معنىً بينهما.
ثم من آثار هذا القول أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فإذا حاضت، فقد تبين أنه مضى من عدتها قرء، وهو الانتقال من الطهر إلى الحيض وعلى القول الجديد لا يعتد بشيء بعدُ، وأول ما يقع الاعتداد به الطهر بعد الحيض، وهذا
__________
(1) زيادة من المحقق، بدونها لا يتحقق الفرقُ بين الوجه الثالث وما قبله، ففي كلٍّ من الوجهين قبله فصلٌ بين الصورتين.
(2) المعنى أنه إذا كان هناك من فرقٍ بين الصورتين، فهو من هذه الجهة (التي شرحها) لا من جهة الحكم.
(3) في الأصل: فالطهرة.
(4) في الأصل: قال.

(15/148)


يظهر أثره إذا احتجنا القولَ في أقل ما يفرض انقضاء العدة فيه من الزمان، إذا كانت المرأة من ذوات الأقراء.
ومما بناه الأصحاب على القولين في أن القرء طهرٌ أو انتقالٌ أن الصغيرة إذا افتتحت العدة في الشهور، ثم إنها حاضت في أثناء الشهور، فلا شك أنها تُردُّ إلى اعتبار الأقراء كما سيأتي، وهل يعتد بما مضى من الشهور قرءاً؟ فعلى قولين مأخوذين مما قدمناه في معنى القرء؛ فإن حكمنا بأن القرء هو الطهر المحقق، فمعناه زمان نقاء بين دمين، فعلى هذا لا يعتد بما مضى قرءاً، وإن حكمنا بأن القرء هو الانتقال، فيعتد بما مضى قرءاً؛ فإنها انتقلت.
ولست أحبّ هذا البناء؛ فإن صاحب قول الانتقال يشترط الانتقال من الطهر إلى الحيض، والذي تقدم للصبية لم يكن طهراً، فالأولى أن نوجّه القولين في الصبية إذا انتهينا إليها.
9769 - وقد كنا ذكرنا الزمان الذي يفرض انقضاء العدة فيه في كتاب الرجعة، ونحن نستقصيه الآن، ونقول: الزوج لا يخلو إما أن يطلقها في زمان الطهر، أو يطلقها في زمان الحيض، فإن طلقها في الطهر، فإذا مضت تلك البقيّة، كانت طهراً، فتحيض ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة، انقضت عدتها، وأقل زمان يفرض انقضاء عدتها فيه على الشرائط التي سنستقصيها اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان، على القول الجديد.
وإن فرعنا على قول الانتقال، فاثنان وثلاثون يوماً ولحظة، ولكن إن كانت عادتها مضطربة أو كانت عادتها على الأقل، فالأمر على ما ذكرناه.
فإن كانت لها عادة، فادعت انقضاء العدة لأقل من عادتها، فهل يقبل قولها؟ فعلى وجهين: أحدهما - يُقبل؛ تعويلاً على إمكان الصدق، وليس اضطراب العادة أمراً بدعاً، وقد يغلب على النسوة تفاوت [الأدوار] (1)، وهو على الجملة من فضلات
__________
(1) في الأصل: الأدواء.

(15/149)


الطبيعة، ويجوز تفاوت نقصانها وزيادتها بالأغذيةِ، واختلافِ الأحوال، وهي مؤتمنة على الجملة.
والوجه الثاني - أنه لا يقبل قولها. قال القاضي: هذا هو الأظهر، وعليه يدل نص الشافعي في (الكبير)، فإنه قال: " لو كانت لها عادات مختلفة، فادعت انقضاء العدة لأقل عاداتها، قَبِلتُ ذلك "، ومفهوم النص أنها لو ادعت الأقل من أقل عاداتها لا يقبل قولها، وهذا محل الوجهين أيضاً.
9770 - ثم تفصيل الاثنين والثلاثين واللحظتين -على قولٍ، حيث يُقبَلُ- أن يفرض الطلاقُ في آخر الطهر بحيث يستعقب لحظةً واحدة، فهذه اللحظة قرء، ثم إنا نفرض بعدها يوماًً وليلة دماً، وخمسةَ عشرَ يوماًً طهراً، ويوماًً وليلة دماً، وخمسةَ عشر يوماًً طهراً، ثم تطْعَن في الحيضة الثالثة، ومجموع ما ذكرناه اثنان وثلاثون يوماً ولحظتان.
فإذا فرعنا على قول الانتقال، فنفرض الطلاق معلقاً بالجزء الأخير من الطهر، فيستعقب وقوعُ الطلاق يوماً وليلة [دماً] (1)، والانتقالُ محسوب قرءاً، ثم بعد الدم خمسةَ عشرَ [طهراً] (2)، وبعدها يوم وليلة [دماً] (3)، وبعد الدم خمسة عشر يوماً [نقاءً] (4)، ثم تطعن بلحظة من الحيض، فتنقُصُ المدةُ بلحظة عما ذكرناه؛ لاحتسابنا الانتقال إلى الحيض قرءاً.
هذا أقل الإمكان والطلاقُ واقعٌ في الطهر.
فأما إذا وقع الطلاق في الحيض، فأقل ما تصدّق فيه على انقضاء العدة سبعة وأربعون يوماً، ثم لا بد من لحظةِ الطعنِ في الحيضة الأخيرة، وبها يتبين الانقضاء، كما سنشرح ذلك بعدُ، إن شاء الله، وذلك أنا نفرض وقوع الطلاق في اللحظة الأخيرة من الحيض، وليست محتسبة من العدة، وبعدها خمسة عشر يوماًً طهراً، ويوماًً وليلة
__________
(1) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام.
(2) زيادة من عمل المحقق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة لوضوح العبارة.

(15/150)


دماً، وخمسة عشر طهراً، ويوماًً وليلة دماً، وخمسة عشر يوماً طهراً، ثم تطعن في الحيضة الأخيرة.
9771 - وإذا قال لها: إذا ولدت، فأنت طالق، فإذا طُلِّقت بالولادة، فقد قال الأصحاب: أقل ما تُصَدَّقُ على انقضاء العدة سبعةٌ وأربعون يوماًً ولحظتان، لحظة للنفاس؛ فإنها أقل النفاس، وخمسة وأربعون يوماًً لثلاثة أطهار، ويومان لحيضتين متخللتين بين الأطهار، واللحظة الثانية لتبين انقضاء العدة.
وهذا يخرّج على أحد المذاهب؛ إذ قد اختلف أصحابنا في أن المرأة إذا عاودها في مدة النفاس بعد مضي أقل الطهر حيضٌ، فذاك نفاس أو حيض؟ منهم من قال: هو حيض، فعلى هذا يخرج ما ذكرناه، ومنهم من قال: ذاك نفاس، فلا نصدقها إذاً في انقضاء العدة في هذه المدة؛ [إذْ] (1) لا يُحتسب الخمسةَ عشرَ الواقعةُ نقاء طهراً معتداً به قرءاً.
وهذا تفصّل في تفريع التلفيق من أبواب الحيض.
ومما يجب التنبه له أن ما ذكرناه في السبع والأربعين ولحظتين إذا نُفست، وقد يتصور عندنا أن تلد المرأة ولا تنفَس أصلاً، ويتصل الطهر بالولادة، فعلى هذا تسقط لحظة وضعناها لأقل النفاس.
9772 - ومما أخرناه وهذا أوان بيانه أن اللحظة التي يقع الطعن بها في الحيض، فهي (2) التي سميناها لحظةَ التبين فيها كلام، وظاهر النص أن اللحظة الواحدة كافية، وإذا ثبتت، فقد خلت عن العدة، وحلَّت للأزواج.
وحكى البويطي أيضاً عن الشافعي أنه لا يقع الحكم بانقضاء عدتها ما لم يمض بها يوم وليلة؛ فإنا لا نأمن أن ما رأته من الدم دمُ فساد، وقد ينقطع على ما دون الأقل المعتبر في الحيض، فاختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) كذا: (فهي) بالفاء. وما أُراه تصحيفاً عن (الواو) فهذا معهود في لغة إمام الحرمين وغيره من أهل عصره. والله أعلم.

(15/151)


وهو الظاهر أن اللحظة الواحدة كافية؛ لأنها في الظاهر حيض، واليقين ليس مطلوباً فيما نحن فيه.
والثاني - أنه لا يحكم بانقضاء العدة ما لم يمض يوم وليلة، ووجهه بيّن.
وذكر بعض أصحابنا قولاً ثالثاً مخرجاً، وهو أنها إن رأت الدم على موجب عاداتها، فاللحظة الواحدة كافية، وإن رأت الدم على خلاف العادة، فلا بد وأن تتربص يوماً وليلة.
هذا مسلك الأصحاب: منهم من قطع بالاكتفاء باللحظة الواحدة وجعل قول البويطي محمولاً على الاحتياط، والاستظهار.
ثم اللحظة التي يقع اليقين بها أو اليوم والليلة [على القول البعيد] (1) هل تكون محسوبة من العدة أم لا؟ ذكر العراقيون والقاضي وجهين أحدهما -[أنها ليست من العدة] (2) وهو الأصح الذي لا يسوغ غيره؛ فإنه للتبين حتى نعلم أن الأقراء الثلاثة [انقضت، و] (2) هي من العدة بمثابة استظهار الصائم بلحظة من أول الليل وآخره، وهو [كأخذ المتوضىء جز] ءاً من رأسه في محاولة استيعاب الوجه بالغَسْل.
والوجه الثاني - أنه من العدة؛ فإنـ[ـه يجب فيه] (2) الاحتباس؛ لأنه لا بد منه، وهي فيما نسميه طعناً في الحيضة الأخيرة [محتسبة في غير] (2) هذا الوجه، وقد قضَّيت العجبَ من حكاية القاضي له.
9773 - ومما نذكره في اختتام هذا الفصل أن المرأة إذا ادعت انقضاء العدة في مدة لا يحتمل انقضاءُ العدة في مثلها، فلا شك أنا لا نصدقها؛ فإنها ليست تدعي أمراً ممكناً على قاعدة الشرع، فإذا مضى من وقت دعواها زمانٌ يمكن انقضاء العدة الآن [بجَمْع] (3) ما تقدم وما تأخر، فهل تصدق والحالة هذه؟
تفصيل المذهب فيه: أنها إن كذّبت نفسها فيما قدمته من دعوى الانقضاء،
__________
(1) مكان كلمات مطموسة تماماً في الأصل. وهذا تقدير منا.
(2) تقدير منا مكان المطموس بالأصل.
(3) في الأصل: بجميع.

(15/152)


وقالت: الآن انقضت عدتي؛ فإنها تصدق، ويقبل قولها، ولو أصرت على دعواها الأولى، فهل يحكم بانقضاء عدتها إذا انضم إلى الزمن الأول من الزمان ما يظهر الاحتمال فيه؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه لا يحكم بانقضاء العدة؛ فإنها ليست تدعي الانقضاء على حسب ما يُرى التصديق فيه، وما ادعته باطل، لا سبيل إلى التصديق فيه، وهذا صححه القاضي.
والوجه الثاني - أنها تصدق؛ فإن إصرارها على ادعاء الخلو عن العدة بمثابة تجديد ادعاء الانقضاء، وربما كان يقطع شيخي بهذا ولا يذكر غيره، والأقيس ما ذكر القاضي (1).
ولكن في هذا الوجه غائلة، وهي أنها لو أصرّت على دعواها الأولى إصرار من لا ينزل عن سابق قوله، فلا موقف والحالةُ هذه يُنتهى إليه ويُحكم إذ ذاك بانقضاء العدة، وهذا بعيدٌ إذا لم يكن قد تباعدت حيضتها، فلا وجه إلا تنزيل قولها على أقل مراتب الإمكان.
وما ذكرناه يناظر مسألةً في تكذيب المخروص عليه الخارصَ على قولنا: الخرصُ حكم، فإذا ادعى المخروص على الخارص غلطاً فاحشاً يندُر وقوعُ مثله للخبير بالغرض، فهذا غير مقبول منه، ولكن إذا ردَّ قولَه فيما لا يمكن، هل يقبلُ في القدر الممكن؟
فيه اختلافٌ، والأوضح قَبُول قول المخروص عليه في القدر الذي لو لم يدع غيره، لقُبل، والخلاف وإن جرى في المسألتين، فالأصح في مسألة الخرص التصديقُ في القدر الممكن؛ لأن [عين] (2) دعواه تشتمل على القليل والكثير، فلا يبعد
__________
(1) خالف في ذلك ابن أبي عصرون، وتعقب الإمام قائلاً: قلت: ويجب الحكم بانقضاء عدتها مطلقاً؛ لأنا لم نكذبها في مضي المدة، بل في إمكان حصول الأقراء فيها، وإذا مضى بعد ذلك زمانٌ مع ضمه إلى المدة الأولة يتحقق فيه إمكان الانقضاء، فلا وجه للاختلاف، ولا لتفصيل الإصرار؛ فإن المصرّ لم ينزل عما ادعاه أولاً، ولو نزل ما كان مصرّاً ". ا. هـ (ر. صفوة المذهب: جزء (5) - ورقة (141) يمين).
(2) في الأصل: غير.

(15/153)


أن يُردّ في مقدارٍ ويقبلَ في مقدار، وهذا لا يتحقق في التي ادّعت انقضاء العدة لزمانٍ لا يحتمل؛ فإن دعواها لا تشتمل على ما ذكَرتْ وعلى ما بعده.
فصل
قال: " فأقل ما علمناه من الحيض يوم ... إلى آخره " (1).
9774 - تعرض الشافعي لأقل الحيض وأكثره، وأقل الطهر، وقد أجرينا فصولَ الحيض في كتابه، على نسقٍ لا نرى عليه مزيداً، فلم نغادر -فيما نظن- لطالبٍ مطلباً، فلتُطْلب هذه الأصول من كتابها.
9775 - ثم قال: " ولو طبق بها الدم ... إلى آخره " (2).
وهذا خوض منه في أحكام الاستحاضة، فلا مطمع للخوض فيها، وقد جرى على بيانٍ شافٍ.
والذي يتعلق بأمر العدة من جملة تلك الأحكام [أحكامُ] (3) الناسية، وتفصيل القول في أن عدتها بماذا تنقضي؟ فإن جعلنا الناسيةَ في أحكامها كالمبتدأة، فهي في عدتها كالمبتدأة، وإن أمرناها بالاحتياط في عباداتها ووجوب اجتنابها، كما تفصّل في موضعه، فالذي ذهب إليه الأئمة أنها مردودة في عدّتها إلى الأهلّة [والدم دائم] (4) عليها؛ فإن الغالب أنه لا يخلو شهر عن حيض وطهر، سيّما إذا كانت ترى الدم المستمر.
ثم الذي نقله المزني أنه إذا أهل الهلال الرابع، فقد انقضت عدتها.
ونقل الربيع إذا أهل الهلال الثالث، فقد انقضت عدتها.
فمن أصحابنا من قال صورة نَقْل المزني إذا كان قد طلقها والباقي من الشهر خمسةَ
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 5.
(2) ر. المختصر: 5/ 6.
(3) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: "إلى الأهلة والدائم عليها" والمثبت من تصرّف المحقق.

(15/154)


عشرَ يوماً، أو أقلُّ، فلا يحسب ذلك قرءاً لاحتمال أنَّ كله حيض، فإذا أهلّ الهلال، ومضى هلالان بعده، وأهلَّ الرابعُ، حكمنا بانقضاء العدة، فتتربص بقية الشهر في الصورة التي ذكرناها، وثلاثةَ أشهر بعدها، ويقع الحكم بانقضاء العدة عند استهلال الرابع.
وهذا القائل يقول: صورة ما نقل الربيع: إذا كان الباقي من الشهر بعد وقوع الطلاق أكثرَ من خمسةَ عشرَ؛ فإنا نحسب تلك البقية؛ لأنا نقطع بأن فيه جزءاً من الطهر، فهذا مسلك الأصحاب.
9776 - [وهناك] (1) من قال: يحسب بقية الشهر قرءاً، وإن كان أقلَّ من خمسةَ عشرَ؛ لأن الغالب أن طهر المرأة يقع في آخر الشهر. وهذا هذيان عظيم.
ويمكن ذلك بتلفيقٍ في الكلام أحسن من هذا.
ثم هذا القائل زعم أن الشافعي فيما نقله المزني [عدّ] (2) الشهر الذي وقع الطلاق فيه، وقدّر كأنا استهللنا هذا الهلال التفاتاً إلى الاستهلال الواقع قبل الطلاق، ثم نحسبُ هذا وشهرين بعده، فيقع الاستهلال بعد ذلك رابعاً، وفي رواية الربيع لم يعتبره من طريق الشهر الذي وقع الطلاق فيه، واعتبر شهرين بعد ذلك، وعبّر عن الاستهلال الثالث؛ فآل الاختلاف إلى العبارة، وللعبارتين وجهان سائغان.
وهذا يناظر اختلاف النص في ضبط مسافة السفر الطويل، قال الشافعي في موضع: ثمانيةٌ وأربعون ميلاً، وقال في موضع: ستةٌ وأربعون ميلاً، فحيث ذكر الثمانية عدّد الميلَ الذي هو المبدأ والميلَ الذي إليه الانتهاء وحيث ذكر الستة، لم يعتبر ميلين: المبدأ والمنتهى، واعتبر ما بينهما، والأمر في ذلك قريب.
والذي تحصَّل لنا فيه الاختلاف في أن البقيةَ بعد وقوع الطلاق إن كانت أقلَّ من خمسةَ عشرَ، فهل يقع الاعتداد به قرءاً، وفيه ما قدمناه.
وقد نجز ما اختاره أئمة المذهب.
__________
(1) زيادة على ضوء عبارة ابن أبي عصرون، وبها يستقيم الكلام.
(2) في الأصل: عند.

(15/155)


9777 - وقد يدور في نفس الفقيه أنا إذا تناهينا في التغليظ على الناسية في عبادتها وتحريم الزوج عليها معظمَ عمرها، فليس يليق بهذا التشديدِ أن نتساهل في أمر العدة، حتى ننتهي إلى اعتبار الأهلة والأشهر، وليست هي من اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن؟
ذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من [احتاطَ] (1) في عدة الناسية على قول الاحتياط، كما يحتاط في سائر أحكامها، ثم سبيل الاحتياط والتغليظ أن يقدِّر جميعَ ما تراه دمَ استحاضة، ويقدرَ كان الحيضة قد تباعدت، ثم القول في أن المرأة إذا تباعدت حيضتُها إلى ماذا تُردّ مذكورٌ بين أيدينا، فقد نقول: تصبر إلى سن اليأس في قولٍ، وقد نأمرها أن تتربص تسعةَ أشهر، أو أربعَ سنين على ما سنذكر ذلك على أثر هذا.
وهذا الذي ذكره حسن منقاس.
9778 - والذي يجب إنعام النظر [فيه] (2) طلبُ ما رغَّبَ الأصحابَ عن هذا، وذكرُ السبب الذي منعهم عن رعاية هذا الضرب من الاحتياط، ولا يمكن حمل ما نطلبه على امتناعهم عن التناهي في التشديد؛ فإنهم [شدّدوا] (3) من وجوهٍ.
فالوجه أن الدم [إن] (4) تمادى إلى سن اليأس واستمر بعده، فالاحتياطات المتعلقة بالحيض والطهر لا تنقطع (5) على قول الاحتياط، وأقصى ما يفرض في العدة انتظارُ سن اليأس، وهذا مضطرب مع اطراد الدم، وما ذكره صاحب التقريب مع هذا قائم من وجهين: أحدهما - أنا قد نأمل انقطاع هذا على سن اليأس.
والوجه الأصح- ألا نبالي باستمرار الاحتياط في العدة، والذي يحقق هذا أن
__________
(1) في الأصل: احتياط.
(2) في الأصل: منه.
(3) في الأصل: سدّدوا.
(4) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.
(5) "فالاحتياطات المتعلقة بالحيض والطهر لا تنقطع على قول الاحتياط": أي لا تتناهى في أفانينها وضروبها، ولذا رغب الأصحاب عن قول الاحتياط.

(15/156)


مصيرها إلى سن اليأس في أقصى نساء العالم لا يغير الاحتياط، وكان لا يبعد عندي أن يتمسك متمسك بهذا؛ فإن سبب الاحتياط في الناسية أنا لا نجد متمسكاً. فالعلم عند الله.
وقد يجوز أن يقال: لو تمادت العدة على ما وصفنا، لعظمت المؤنةُ في السكنى إن كانت بائنة، وهذا يدخل عليه تباعد الحيضة، وكان يليق بتضييق الاحتياط ألاّ تستحق السكنى؛ فإنها مخاطبة بما عليها، وهذا لا بد من إجالة الفكر فيه على الوجه الذي حكاه صاحب التقريب، وفيه احتمال بيّن، والعلم عند الله.
وقد ينقدح هذا الاحتمال إذا جرينا على ظاهر المذهب، وقلنا: إنها تعتد بالأهلة.
[وإذا] (1) قال قائل: لا يمتنع انقضاء عدتها بأقل من ذلك، فلا تثبتوا لها حقَّ السكنى على الزوج إلا في أقل مدة يفرض انقضاء العدة [فيها] (2).
قلنا: هذا لا قائل به، والأهلّة في حق الناسية أصلٌ معتبر في العدة، يُرجع إليه [في] (3) جميع قضايا العدة، وعلى هذا يثبت للزوج حقُّ الرجعة في جميع الأهلة المعتبرة؛ فإنا اعتقدنا هذا أصلاً غير مبنيٍّ على الاحتياط، والأهلة في حقها كالأهلة في حق الصغيرة والآيسة، فهذا هو الذي رأينا ذكره من أحكام المستحاضات وما عداه مما اشتمل (سواد المختصر) (4) عليه كلِّه مستقصىً في كتاب الحيض.
9779 - ثم ذكَرَ التلفيق (5) وهو باب كبير من أبواب الحيض، وحظّ العدة منه لائح، فإذا كانت ترى يوماًً دماً ويوماً نقاءً، وفرعنا على أنها في أيام النقاء طاهرة، فلا
__________
(1) في الأصل: إذا (بدون الواو).
(2) في الأصل: فيه.
(3) في الأصل: من.
(4) هنا جمع بين لفظ (السواد) و (المختصر) فأضاف السواد إلى المختصر، ولعل هذا يرجح أن لفظ السواد معناه (المتن) أو (الأصل)، فكأنه قال: متن المختصر، أو صلب المختصر، أو أصل المختصر. والله أعلم. وقد سبق أنه ورد مثلُ هذا، وعلقنا عليه في موضعه.
(5) ر. المختصر: 5/ 7.

(15/157)


يقع الاكتفاء بعددٍ من نُوب النقاء؛ فإن الطهر الواحد ينقطع على الحيض، والحيض ينقطع على الطهر، فإن انضبط لنا مقدار الحيض والطهر في تفاصيلِ المستحاضات، فهي مردودة في العدة إلى ما يتقدر من ذلك، وإن كانت ناسية، فليس يتبين لحيضتها ولا لطهرها مقدارٌ، وترد إلى أحكام [الناسية في عدتها] (1)، ومثل هذا مما يُستأنى به في هذه المنازل.
فصل
قال: " ولو تباعد حيضها، فهي من أهل الحيض ... إلى آخره " (2).
9780 - الصغيرة عدتها بالأشهر، فلو بلغت بالسن ولم تر دماً؛ فإنها تعتد بالأشهر أيضاً باتفاق العلماء وإن بلغت سنَّ إمكان الحيض وجاوزته، فالتعويل في ذلك على نص القرآن قال الله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] وهذه من اللائي لم يحضن، وليس في القرآن تعرض للبلوغ في الاعتداد بالأشهر.
ولو رأت الدم بعدما اعتدت بثلاثة أشهر، فلا حكم لما رأت، وقد جرى الحكمُ بانقضاء العدة، وإذا كان هذا قولَنا فيها، فهو إذا رأت الدّم بعد العدة قبل النكاح، فما يُظن بها إذا اعتدت بالأشهر، ونكحت، ثم رأت الدم؟ فلا حكم للدم، وما قضينا به من انقضاء العدة لا ينقضه.
9781 - فأما التي حاضت ولو مرة، ثم ارتفعت حيضتها، فبماذا تعتد إذا طُلّقت، وإلامَ ترد؟ لا يخلو ارتفاع الحيضة إما أن يكون لعلةٍ معلومة، وإما ألاّ يعرفَ له سبب وعلةٌ ظاهرة، فإن كان الارتفاع لعذرٍ من مرض، أو رضاعٍ، أو داء بباطنها، فإذا طلقت، فلا بد من انتظار الحيض؛ فإن ارتفاعه معلَّقٌ بسببٍ وعلة، وهي مُرتَقبةُ الزوال.
__________
(1) في الأصل: " إلى أحكام الناسية في عدة الثانية " وهو كلام غير مستقيم.
(2) ر. المختصر: 5/ 7.

(15/158)


فإذا كنا نتوهم عَوْد الحيض بزوال العلة، فلا وجه إلا انتظار ذلك، فإن تمادى الانتظارُ حتى انتهت إلى سن اليأس، فتعتد إذ ذاك بالأشهر، وتندرج تحت قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] الآية.
9782 - وإن ارتفعت حيضتها من غير سبب وعلة ظاهرة؛ فللشافعي ثلاثة أقاويل في اعتدادها: قولان في القديم، وقول في الجديد ونجمع الأقاويل: أولاً قولان: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أنها تنتظر سن اليأس، ثم تعتد إذا انتهت إليه بثلاثة أشهر.
والقول الثاني - أنها لا تنتظر سن اليأس، وعلى هذا القول قولان منصوصان في القديم: أحدهما - أنها تتربص تسعة أشهر، ثم تعتد بثلاثة أشهر ثم تنكِح، وروي مثل ذلك عن عمر (1): " قضى به في التي ارتفعت حيضتها "، وقلّده الشافعي في القديم، وكان يرى إذ ذاك تقليدَ أئمة الصحابة، وقال في القديم في توجيه ذلك: أمير المؤمنين قضى به بين يدي المهاجرين والأنصار، ولم ينكر عليه أحد، وأشار أيضاً إلى أن الحمل في الغالب لا يمكث في البطن أكثرَ من تسعةِ أشهر، فوقع الاكتفاء بذلك في الاستظهار.
والقول الثاني - أنها تتربص أربعَ سنين، ثم تعتد بثلاثة أشهر، وتنكِح؛ إذ الحمل قد يمكث في البطن أربع سنين، فبلّغنا أمد الاستظهار مبلغاً يفيدُنا يقينَ البراءة، ثم لا بد من العدّة بعد ذلك تعبداً، فتتربص ثلاثة أشهر.
ثم أنكر الشافعي في القديم على القولين الردَّ إلى سن اليأس لما فيه من المضرّة العظيمة واستمرار الأَيْمة (2) في معظم العمر، ثم إذا بلغت سنَّ اليأس، تقاعدت الرغبات عنها، ويعظم الضرر على الزوج من مؤونة العدة.
__________
(1) قضاء عمر في التي ارتفعت حيضتها، رواه مالك في الموطأ (2/ 582 ح 70)، والشافعي (ترتيب المسند 2/ 58 ح 190)، وعبد الرزاق في مصنفه (6/ 319)، والبيهقي في المعرفة (11/ 190).
(2) الأَيْمة: مصدر آمت المرأة: أيْماً وأُيوماً وأيمة. إذا أقامت بلا زوج، بكراً كانت أو ثيباً (المعجم).

(15/159)


والقول الثالث (1) المنصوص عليه في الجديد- أنها تنتظر سنَّ اليأس، واحتج بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4] الآية. ثم قال: ليست هذه من اللائي يئسن، ولا من اللائي لم يحضن، فلا بد فيها من انتظار الحيض، فإن عاد، فذاك، وإن لم يعد، اندرجت -إذا بلغت سن اليأس- تحت قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ}.
ثم استأنس بمذهب عبد الله بن مسعود فيما روي أن أبا الأحوص طلّق امرأته وهي من ذوات الأقراء، فارتفعت حيضتها، قال عبد الله بن مسعود (2): "أبقى الله الميراث بينكما، لا تنقضي عدتها حتى تحيض أو تأيس" وطلق حَبّانُ بنُ منقذ امرأته، وكانت من ذوات الأقراء، وكانت تُرضع ولده، فارتفع حيضتها تسعةَ عشرَ شهراً، فمرض حَبّان، فخاف أن يموت، فترثه، فسأل، فقال عثمان لعلي وزيد رضي الله عنهم: ما تريان فيهما؟ فقالا: نرى أنها لو ماتت ورثها ولو مات ورثته؛ فإنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من اللائي لم يحضن، قال علي: هي على عدة حيضها، فرجع حَبّان إلى الدار وانتزع الولد منها [ففقدت] (3) الرضاع، وحاضت، فلما مضى بها حيضتان مات حَبان فورثته (4).
فإن قيل: القصة في انقطاع الحيضة لعلةٍ، وإن كان كذلك، فلا خلاف. قلنا: الحجة في قولهما وتعليلهما، لا في حال المرأة، وقد دل قولُهما على أن المعتبر الحيض إذا لم تكن من اللائي لم يحضن.
ومعتمد هذا القول من جهة المعنى أن العدة مبتنيةٌ على التعبد، ولا يختلف الأمر فيها باستيقان براءة الرحم وعدمِ الاستيقان، فلولا أن عدة الفراق في الحياة يختص وجوبها بالممسوسات، لحسُن إطلاقُ القول بأن العدة مبنية على التعبد المحض، فإذا
__________
(1) جعله (الثالث) هنا نظراً لحكاية قولي القديم قبله، وإلا فقد عده الأول آنفاً.
(2) أثر عبد الله بن مسعود رواه البيهقي في الكبرى (7/ 419) والمعرفة (11/ 191)، وسنده صحيح كما قاله الحافظ في تلخيصه (3/ 469 ح 1806).
(3) غير مقروءة في الأصل: والتصويب من مختصر المزني.
(4) فتوى علي وزيد في امرأة حبان بن منقذ، رواها الشافعي في الأم (5/ 212)، والبيهقي في الكبرى (7/ 419) والمعرفة (1/ 190). وانظر التلخيص: (2/ 468 ح 1805).

(15/160)


كان ذلك كذلك، فلا وجه فيها إلا الاتباعُ، وقد أوضحنا أن فحوى القرآن يقتضي في هذه الآية ألاّ يكتفى بالأشهر، فإذا سَلّم من يخالف في ذلك انقطاعَ الحيض بعلّة، فكل شابّة ترتفع حيضتها لا ترتفع إلا بعلة؛ فإنها بخروجها عن [اعتدال] (1) البِنْية تتقاعد (2).
ولما لم يكن استئخار الحيض عن البلوغ معتبراً، وكانت ملتحقة بالصبيّة، لم يفرق بين أن يكون ذلك لعلة ظاهرة وبين أن يكون لأمرٍ خافٍ، تعويلاً على قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4].
9783 - هذا بيان الأقوال في الأصل، ونحن نفرع عليها، فنقول: إن رأينا أن نأمرها بالتربص تسعة أشهر والاعتدادِ بعدها بثلاثة أشهر، فلو أنها رأت الدمَ في خلال مدة التربص بالأشهر التسعة، فإنها تنتقل إلى الأقراء؛ فإن هذه المدة ضربت لانتظار الحيض، فإذا عاد، فهو المقصود، ثم إن استمرت الأقراء بها، فذاك، وإن انقطعت، وارتفع الحيض، فقد أجمع المفرعون على أنا نأمرها بأن تستفتح التربصَ تسعةَ أشهر أخرى، ثم تعتد بعد هذه التسعة الأشهر بثلاثة أشهر؛ وسبب ذلك أن الأشهر التسعة مقصودُها طلبُ الحيض؛ فإذا رأت الدم، فهو الأصل، فإذا ارتفع، احتجنا بعده إلى طلبٍ جديد، وانتظارٍ مبتدأ، هذا إذا رأت الدمَ في أثناء التسعة الأشهر.
فأما إذا انقضت التسعةُ، وشرعت في الاعتداد بالأشهر، فمضى شهر مثلاً، فرأت الدم، ردّت إلى الدم، فإن استمرت الأقراء، فذاك، وإن ارتفع الحيض أطلق المفرعون إيجاب التربّص على الابتداء تسعةَ أشهر، لِما بنينا عليه الكلامَ من أن الحيض مطلوبٌ، وسبيل طلبه وانتظارِه في هذا القول ما ذكرناه.
وهذا ينتظم بسؤال وجواب عنه: فإن قيل كانت التسعةُ الأشهر لاستفادة غلبة الظن في براءة الرحم؛ فإنّ الحمل لو كان، لظهر في هذه المدة، فإذا حاضت، فالعود إلى
__________
(1) في الأصل: "اعتداد ". وهو تصحيف يسير في شكله، ولكنه عنّانا كثيراً في فهم العبارة، وتقليبها على وجوه عدة، إلى أن ألهمنا الله سبحانه موضع هذا الخلل.
(2) تتقاعد: أي عن الحيض.

(15/161)


التسعة الأشهر لا معنى له؛ فإن الحيضة التي انقضت لم تخرِم ظننا ببراءة الرحم، بل أكدّته؟ قلنا: هذا لا سبيل إليه؛ فإن العدة تجب مع القطع ببراءة الرحم، كما ذكرناه، فلا وجه للتعلق به، وإنما اعتمد الشافعي رضي الله عنه لهذا القول قضاء عمر. فإن ذكر ذاكر معنى طلب [البراءة] (1) فهو ترجيح [لا يعتمد إلا على خياله] (2) والذي يحقق ذلك أن الحيض إذا طرأ، ثم ارتفع، فليس لارتفاعه منتهى نتخذه موقفنا، ولا بد من الانتظار، فلا وجه إلا التعلق بالمدّة التي جرى القضاء بها.
ثم إذا تربصت بعد أن رأت الحيض في أشهر العدة تسعةَ أشهر، فلم يعاود الدمُ، فنأمرها بالبناء على ما كان مضى من العدة أم نأمرها باستئناف العدة بالأشهر؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنا نأمرها بالاستئناف، كما أمرناها باستئناف عدة التربص؛ فإن العدة قد تقطعت، وطرأ عليها ما هو أولى بالاعتبار؛ فالوجه الاستئناف.
والوجه الثاني - أنا نأمرها بالبناء على ما مضى، والفرق بين العدة وبين مدة التربص أن المدة التي شرعت للانتظار والتربصِ تنقطع بطريان الحيض، ويليق بهذا المنتهى افتتاح انتظار، والعدة لم تثبت لانتظارٍ.
والأوجه عندنا الأمرُ باستئناف العدة؛ لأن العدة وقعت بعد مدة الانتظار، وقد وقع الشهر قبل تمام الانتظار، إلا أنها عادت إلى مدة التربص، فالوجه أن أتقع العدةُ [كلُّها] (3) بعد نجاز التربص.
التفريع:
9784 - إن حكمنا بأنها تستأنف، فلا كلام.
وإن حكمنا بأنها تبني، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في كليفية البناء: أحدهما - وهو المشهور أنها تبني باعتبار حساب الشهور، فإن كان مضى شهر، تربصت شهرين تكملةَ الثلاثة الأشهر، وإن كانت -قبل طريان الحيض- تربصت ثلاثة أشهر
__________
(1) غير مقروءة بالأصل. والمثبت تقدير منا.
(2) في الأصل: "لا يعتمد على حياله" والمثبت من عمل المحقق.
(3) ما بين المعقفين مأخوذ من معنى كلام ابن أبي عصرون، بل الأحرى بألفاظه نفسها، وهو مكان عبارة الأصل المضطربة التي جاءت هكذا: "فالوجه أن يدفع كله العدة بعد نجاز التربص".

(15/162)


إلا يوماًً، فتكتفي بالتربص يوماً واحداً، هذا معنى البناء.
والوجه الثاني - أنا نعتد بما مضى قرءاً، إن كانت رأت الدم مرة، ثم نقول: إذا تباعد الحيض، فعليها قرءان، فإذا عدمتهما، أتت ببدل قرأين وهو شهران، وعلى هذا لو رأت الدم في اليوم الأخير من الثلاثةِ الأشهر، فإذا تباعد الحيض، اعتدّت بشهرين، وكذلك لو رأت الحيضَ في اليوم الأول.
وهذا بعيد لا تعويل عليه؛ فإن حاصله تحصيل العدة ملفقة من الأصل والبدل، ونحن لا نرى التلفيق من أصول، فكيف الظن بالتلفيق من أصلٍ وبدل.
وبيانه أن من لزمته كفارة اليمين وكسا خمسةً وأطعم خمسةً، لم يبرأ عن الكفارة، والإطعامُ والكسوةُ أصلان متعارضان.
وقد ذكرنا حالتين في طريان (1) الحيض: إحداهما - فيه إذا طرى في التسعة الأشهر، وهي مدة التربص، والثانية إذا طرأ بعد الاشتغال بالعدة، فأما إذا طرأ
__________
(1) خطّأ النووي -في التنقيح- هذا اللفظَ (الطريان) قائلاً: " قوله: " الطريان " هكذا يتكرر في الوسيط، وهو تصحيفٌ صوابُه (الطرآن) بالمد " ا. هـ (ر. التنقيح في شرح الوسيط- الوسيط: 1/ 442).
ولجلالة الإمام النووي ومنزلته في الفقه واللغة والحديث كَرَرْتُ على الأجزاء التي كنت انتهيت من قراءتها وتدقيقها، وتتبعت الكلمة حيث وجدتها، وغيرتها إلى (طرآن).
ولكن حائكاً ظل يحوك في الصدر ويَلْفتني بعنف إلى ما تجلّى من براعة إمام الحرمين اللغوية في كتابه البرهان وغيره، فقلتُ لماذا الاستسلام للإمام النووي؟ ولم لا يكون الصواب مع إمام الحرمين؟
فأخذت أبحث في أمهات المعاجم، فإذا بها تقول:
طَرَى: جاء هذا الفعل مهموزاً: طرأ = طروءاً وطَرْءاً. وجاء (واوياً) غير مهموز: طَرَا: طُرُوّاً وجاء بالياء وكسْر الراء: طَرِي. وكلها تأتي بمعنى تجدد وجاء، وهو المراد هنا (ر. لسان العرب: مادة: ط. ر. أ، ط. ر. ى)
ووجدتُ الصغاني في كتابه (التكملة والذيل والصلة) يحكي عن ابن الأعرابي (باب الياء) قوله: "طَرَى يطري، وطَرِيَ يطري، وطرِي يطري: إذا مرّ، وإذا أقبل، وإذا تجدّد" وبمثله في تهذيب اللغة. (ر. التكلملة والذيل والصلة 70/ 461، وتهذيب اللغة: 4/ 8)
فعدتُ كرَّةَ أتتبع الكلمة حيث وردت لأردها إلى لغة الإمام (طريان)، والله وحده يهدي إلى الصواب.

(15/163)


الحيض بعد انقضاء التربص والعدة، فقد قال الأئمة إن رأت الدم بعدما نكحت، فلا حكم للدم، ولا نُتْبع النكاحَ بالنقض، وإن رأت الدم بعد الأشهر والحكمِ بانقضاء العدة قبل النكاح، فهل نردها إلى اعتبار الدم؟ المنصوصُ عليه أنها مردودة إلى الدم، فإنا مهما (1) حكمنا بانقضاء العدة على الظاهر وأن الحيض قد انقطع انقطاعاً لا يعود، فإذا عاد، تبيّنا أن ما قدرناه عدة لم يكن عدة.
وذكر الأصحاب قولاً آخر أن العدة قد انقضت، ولا حكم لرؤية الدم بعد ذلك، كما لو نكحت.
هذا هو الترتيب الذي ارتضاه المحققون، وفيه شيء سنذكره من بعدُ.
وكل ما فرعناه على قولنا: إنها مأمورة بالتربص تسعةَ أشهر يجري على قولنا بأنها تتربص أربعَ سنين، حتى لو فرض عودُ الدم في أثناء السنين، فالأمر باستفتاح السنين ابتداءً والقضاءُ بإبطال ما مضى على ما تقدم حرفاً حرفاً.
وقد يطرأ في فكر الفطن شيء في هذا المقام، وهو أن التسعة الأشهر قد جرى بها قضاء عمر وليس في اعتبار أربع سنين قضاءٌ ولا فتوى، [وإنما قاله] (2) الشافعي طلباً به للقطع ببراءة الرحم، فإذا طرأ الحيض، فأي معنى لإعادة السنين مرة أخرى؟
وهذا غير سديد، وإن كان مُخيلاً؛ فإن اعتبار [أربع] (3) سنين لا يجوز حمله على طلب يقين البراءة؛ إذ لو كان محمولاً على ذلك، لما وجب اعتباره مع القطع ببراءة الرحم، ولكنَّ نظرَ الشافعيِّ يُحمل على تحويمٍ على مسالك التشبيه؛ إذ لو اتجه هذا السؤال في طلب اليقين، لاتجه مثله في طلب غالب الظن بالبراءة بانقضاء تسعة أشهر، فإذا نظمنا على ذلك القولَ [بالاستئناف] (4)، فهو يجري على القول الآخر لا محالة.
9785 - فأما التفريع على القول الجديد، وهو أنها مردودة إلى سن اليأس، فاول
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) في الأصل: فإنما قال.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: الاستئناف.

(15/164)


ما نذكره التردُّدُ في سن اليأس، وقد ذكر المعتبرون من أئمة المذهب قولين: أحدهما - أنا نردها إلى أقصى سنٍّ في اليأس لامرأة في دهرها، فإنا إذا احتجنا إلى اعتبارها بغيرها، فليس بعض النساء أولى من بعض، وعلى هذا يستقيم طلب النهاية.
والقول الثاني - أنها تعتبر بأقصى سنٍّ في قرابتها وعشيرتها، ولا يُخصَّص بذلك جانبُ الأب عن جانب الأم، بل نعتبرهما، وليس هذا كمهر المثل؛ فإنا نعتبر فيه النساء من جانب قرابة الأب؛ إذ الركن الأولى بالاعتبار في مهر المثل النسب، وجانب الأب يختص بالنسب، وإنما تأكد أمر النسب لمكان الكفاءة، وعمادها الأظهر النسب.
وذكر بعض المصنفين وجهين آخرين سوى ما ذكرناه: أحدهما - أنا نعتبر أقصى امرأة في بلدتها.
والثاني - أنا نعتبر أقصى سن اليأس في نساء عصبتها، كمهر المثل، وهذان الوجهان ضعيفان، أما اعتبار البلدة، فلعله مأخوذ من تأثير الهواء والبقاع والأصقاع في الخِلَق الكلّيّة، كما أنها تؤثر في قِصَر الأعمار وطولها، وفي الألوان وغيرها، ثم لعلّ المرعيَّ فيه الصُّقع والناحية ولا يختص بالبلد، ويُقرِّب [اعتبارَه] (1) ظهورُ اختلاف الأهوية والعلم عند الله فيه، فلا نُمعِنُ الفكر فيما لا أصل له.
وأما اعتبار نساء العصبات فلا أصل له.
وقد يُعترض على قولنا باعتبار أقصى نساء العالم إشكالٌ؛ من جهة أن ذلك لا يمكن ضبطه، مع اتساع رُقعة الدنيا، والممكنُ في الجواب عن ذلك [أنا لا يمكن أن نكلّف طَوْف العالم والفحص عن سكانه، وإنما المراد ما يبلغ خبرُه ويعرَف] (2)
__________
(1) في الأصل: اعتبار. والتصرف من المحقق.
(2) ما بين المعقفين، هو كلام إمام الحرمين كما نقله عنه الرافعي والنووي (ر. الشرح الكبير: 9/ 441، والروضة: 8/ 372).
وأما عبارة الأصل، فقد كانت هكذا: " أن ما لم نكف في الصرود والجزوم أمكن القضاء به ". وهو -طبعاً- غير مستقيم، ولعل التصوير أو عوامل البلى ذهبت ببعض أطراف الحروف ونقطها، مع احتمالٍ كبير في السقط والتصحيف والتحريف؛ فإن ما نقله الرافعي والنووي لا شبه له بما هو في نسخة الأصل. والله أعلم بما كان.

(15/165)


أمكن القضاء به على خِطّة الدنيا، وليس الغرض إلا التعلقَ بمُدرَكٍ من الظن.
هذا قولنا في سن اليأس.
9786 - فإن قيل: أيليق بمحاسن الشريعة حبس هذه وضَرْبُ الأَيْمة عليها ما عُمِّرت؟ قلنا: الأصل المرعيُّ في هذا أن ما يعمُّ الابتلاء به لا يبنى إلا على السهل السمح، والأصول لا تُنقض بالشاذ النادر، وتباعدُ الحيض ليس مما يعم، فإن تمسكنا فيه بطرد أصلٍ لم نُبعد؛ سيّما وقد وجدنا في غير ما نحن فيه الوفاقَ إلى الرد إلى اليأس فيه إذا انقطع الحيض، بعلّةٍ ظاهرة، كيف [ولا] (1) ينقطع الحيض إلا لعلة، وكما يرجى زوال العلة الظاهرة يرجى زوال العلة الخفيّة، ولعل ما يخفى أقربُ إلى الزوال؛ إذ لو كان أمراً متفاقماً، لظهر.
وهذا يناظر بناءَنا القصاصَ على [الردع] (2) ومصيرَنا إلى أن السبب في وجوبه عصمةُ الدماء، ولولا القصاص لأدى الأمر إلى الهَرْج (3).
ثم إذا قال القائل: من لا يمين (4) له يقطع أيمان الناس، ولا قصاص عليه؟ قلنا: هذه صورة نادرة، والأصول لا تنقض بالصور النادرة، ومن الأصول أنه لا يقطع باليمين إلا اليمين (5).
9787 - فإذا ردَدْناها إلى سن اليأس، كما ذكرنا، فتعتد بثلاثة أشهر، فلو رأت الدم، رُدّت إلى الدم، فإن ما تراه من بطنها على سن اليأس على ترتيب الحيض حيضٌ بلا خلاف، وإن بلغت السنَّ الأعلى -وليس كرؤية الدم على سن الصغر، كما تفصّل
__________
(1) في الأصل: فلا.
(2) في الأصل: " الرد " والمثبت تقديرٌ منا.
(3) الهَرْج: شدة القتل وكثرته (المعجم).
(4) المعنى: أن من فقد يده اليمنى، يتهجم على قطع أيمان الناس، غير هيّاب؛ إذ لا قصاص عليه؛ إذ مبنى القصاص على المماثلة، فلا يقطع باليمين إلا اليمين.
(5) هنا يشبّه الإمام عدم الاقتصاص ممن ذهبث يمينه، بحالة من يفرض عليها الانتظار إلى سن اليأس، ووجه الشبه الخروج عن الأصل، وعن المعنى المرعي والحكمة المرجوّة، وكلاهما بسبب الندرة، فالنادر لا حكم له.

(15/166)


أقلُّ الأسنان في ذلك (1) -[فنتبين] (2) أنها ليست آيسة (3)، فماذا تفعل؟ فإن استمرت عليها الدماء (4)، تخلت عن العدة، وتخلصنا عن تفريع أمرها.
وإن تباعد الحيض (5)، فما الطريق؟ وإلى متى الانتظار؟ لم أعثر في هذا المنتهى إلا على مسلكين أقْربُهما ما ذكره القاضي من أن الحيض بعد وقوعه إذا ارتفع، احتسبنا من وقت ارتفاعه ثلاثة أشهر، وقلنا: إنها خلت عن العدة، ثم قد [يتغير] (6) هذا كما سنذكره، إن شاء الله، وإنما قلنا هذا، لأنا لا نجد مردّاً نستمسك به، فليس إلا اعتبار صورة العدة، وفي بعض التصانيف: أنا على هذا القول ننتظر الحيض تسعة أشهر: أغلب مدة الحمل، وهذا -وإن كانت الحاجة ماسةً إلى متعلق- لا أصل له، ولست [أدري] (7) هل يُجري صاحبُ هذا القول الأربعَ سنين.
ثم قال القاضي: إذا شرعت في الاعتداد بالأشهر، ورأت الدمَ، وبطل ما كان مرّ من الأشهر، فتستأنف ثلاثة أشهر، وجهاً واحداً، وقد ذكرنا وجهين في التفريع على أنها لا ترد إلى سن اليأس، بل تؤمر بأن تتربص إلى تسعة أشهر، أو أربع سنين، فإذا حاضت في الاعتداد بالأشهر بعد التسعة أو بعد الأربع، ثم رأت دماً، ثم تباعد، وأعادتْ مدةَ التربص، كما أوجبناه، فهل تبني على ما مضى من عدتها أم تستأنف؟
فإذا كنا نُفرِّع على أنها مردودة إلى سن اليأس، فإذا افتتحت الأشهر، ورأت الدم، ثم تباعد، استفتحت الأشهر ولم تَبْنِ وجهاً واحداً، هكذا ذكره القاضي، وفرّق بأنا على القولين القديمين لسنا نبغي قُرباً من اليقين، فضلاً عن اليقين؛ فإنا نكتفي بتربصٍ
__________
(1) المعنى: أن من بلغت سن اليأس، ثم عادت، فرأت الدم على أدوار، فهو حيض بلا خلاف، ولكن الصغيرة التي لم تبلغ سنَّ الإدراك إذا رأت الدم لا يعد حيضاً، وهذا هو الفرق الذي أثبته الإمام.
(2) في الأصل: يتبين.
(3) أي بعودة الدم بعد بلوغها أقصى السن تبيّناً أنها ليست آيسة.
(4) أي استمرت عليها الدماء ثلاثة قروء، فتنتهي عدتها، وتنقطع قضيتها.
(5) أي عاد الدم وانقطع.
(6) في الأصل: تغيير.
(7) زيادة اقتضاها السياق.

(15/167)


وأشهرٍ بعده، فإذا طرأ الحيض، ثم تباعد، لم نُبعد البناء على ما كان مضى من الأشهر.
والمعتمد على القول الجديد الرد إلى سن اليأس، ووقوعُ الاعتداد بعدَه، وإذا رأت الدَم، ووقع الحكم بكونه حيضاً، فقد تحققنا أن تربصها في تلك الأيام من الأشهر، كان قبل سن اليأس، فلتقع عدة بالأشهر بعد اليأس، وهذا يوجب افتتاحَ العدة، وبطلانَ المصير إلى البناء.
وهذا الفرق متجِه حسن.
9788 - ومما نفرعه على هذا القول، أنا لو رددناها إلى السن الذي ظنناه سن اليأس، واعتدت بثلاثة أشهر، ثم رأت الدم قبل النكاح، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نحكم بأن ما تقدم منها، لم يكن عدة، فننظر إلى الحيض، فإن استمر حتى انتظمت الأقراء، فهو المراد، وإن لم يستمر، افتتحت الاعتداد مرة أخرى؛ لأنا تبينا أن تلك الأشهر متقدمةً على اليأس.
والقول الثاني - لا نحكم ببطلان العدة؛ لأن الحكم نفذ بكونها عدة، وسلّطناها على التزوج، تزوجت أم لم تتزوج، فلا نتتبع الحكم الذي تقدم بالنقض.
هذا إذا رأت الدم بعد الأشهر الثلاثة وقبل النكاح.
فأما إذا نكحت، ثم رأت الدم، ففي المسألة قولان مرتبان على القولين في الصورة الأولى، والفرق أنها اتصلت بحق الغير لما نكحت، فإن الزوج استحق في ظاهر الأمر منافعَ [بُضعها] (1)، فقطْعُ هذا الاستحقاق [بعيدٌ،] (2) وإذا رأت الدم بعد الأشهر وقبل النكاح، فلم يتعلق بها استحقاق الغير.
وإذا جمعنا المسألة الأولى إلى الثانية، وقلنا: إذا انقضت الأشهر، فرأت الدّم، ففي المسألة أقوال: أحدها - أنا نبطل العدة تبيُّناً سواء نكحت أو لم تنكح، ثم إذا أبطلنا العدة، وقد نكحت، فحكم بطلان العدة يقتضي لا محالة القضاءَ ببطلان النكاح.
__________
(1) في الأصل: نصفها.
(2) في الأصل: لعبدٍ.

(15/168)


والقول الثالث (1) - أن نفصل بين أن ترى الدم بعد النكاح وبين أن تراه قبله، فإن رأته قبل النكاح، تبيّنا بطلانَ العدة، وإن رأته بعد النكاح، فلا أثر لما رأت، فإن قالوا: كيف يتجه قول من يقول: العدة لا تبطل، وقد بأن أنها مضت قبل سن اليأس؟
قلنا: هذا مبني على أنا لا نشترط استيقان اليأس، بل نكتفي بظهوره، وإذا ابتنى على ظهوره مضيُّ المدة المرعية في العدة، فلا يضر ما يطرأ من بعدُ، وإن كنا نتحقق بما ظهر أن الأمر على خلاف ما ظنناه، [وبنى] (2) الأصحابُ هذا على قواعد تُبنى على اشتراط أمور، ثم إنها تظهر، ثم يتبين الأمر على خلاف المظنون، وهذا بمثابة قولنا: إن المعضوب الموسر إذا أحجَّ عن نفسه، وكان به عضب يبعُد زوالُه، فإذا حج النائب، ثم زال العضب، ففي وقوع الحج عن المستنيب قولان.
ومما يقرُب من ذلك أن من رأى سواداً، فظنه عدوّاً وصلى صلاة الخوف، ثم تبين أن ما تخيله لم يكن عدواً، ففي صحة الصلاة خلاف مشهور، ويقرب من هذه الأصول أن بيع الرجل مال أبيه على ظن أنه حيٌّ، ثم تبين أنه كان مات، وانقلب المبيع ميراثاً للبائع، وصادف معه حصولُ الملك، فهذه القواعد متناظرة، فالخلاف فيها آيل إلى أنَّ الحكم فيها على قولٍ بموجب الحقيقة، ونحكم على قولٍ آخر بموجب الظاهر، وإذا أجرينا الحكم به، لم ننقضه، وإن كان الأمر بخلافه.
9789 - ومن تمام الكلام في المسألة أنا ذكرنا في التفريع على قولي القديم أنها إذا تربصت كما أمرناها، واعتدت بثلاثة أشهر، فلو رأت الدم، ففيه خلافٌ قدمناه، ولو نكحت، ثم رأت الدم، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن رؤية الدم بعد النكاح لا أثر له تفريعاً على قولي القديم، وإنما الخلاف إذا رأت [الدمَ] (3) قبل النكاح [وبعدَ] (4) انقضاء الأشهر.
__________
(1) هذا هو القول الثالث، أما الثاني، فهو مفهوم من المقام، وهو قسيم الأول: أنا لا نبطل العدة نكحت أم لم تنكح.
(2) في الأصل: وبين.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: وبعده.

(15/169)


والفرق بين القول الجديد والقديم في التفريع الذي أشرنا إليه أنا لم نَبْنِ قولي القديم إلا على ظهور أمرٍ، وهذا يتأكد بانقضاء العدة من غير دم، ولسنا نعتمد الغاية القصوى، ولهذا لا نردها إلى سن اليأس، فلم يَقْوَ إذاً الحكمُ بإبطال العدة إذا رأت الدمَ قبل النكاح، فإن نكحت واتصل أمرها بثالثٍ، بَعُد أن نَلتفت على الدم، وعلى قول اليأس إذا رأت الدمَ بعد النكاح، تبين أن اليأس لم يتحقق، وهذا يتضمن الحكم من طريق التبين [بإبطال ما] (1) مضى وانعدام ما كنا نظن.
وفي بعض التصانيف ما يدل على إجراء خلاف إذا رأت الدّم بعد النكاح، وإن وقع التفريع على قولي التربص في العدة. وهذا فيه بُعْدٌ، والله أعلم بالصواب.
وقد نجز القول في تباعد الحيض وما على المرأة فيه.
فصل
قال: " ولو مات صبيّ لا يجامِع مثلُه ... إلى آخره " (2).
9790 - إذا مات الصبيّ الذي لا يولد له، فعدة امرأته بالأشهر والعشر، ولو كانت حاملاً، فوضعت الحملَ قبل انقضاء مدة العدة، لم تنقض العدة بوضع الحمل، خلافاًً لأبي حنيفة (3)، ولا فرق بين أن تكون حاملاً من الزنا وبين أن تكون حاملاً بولدٍ من وطء شبهة، فإذا كان منتفياً قطعاً عن الزوج، فلا تنقضي بوضعه عدّتُه.
وهذا يفرض ويصوّر في حالة الحياة، فإذا طلق الرجل زوجته، فأتت بولدٍ نعلم قطعاً أنه ليس من الزوج، فعدة الطلاق لا تنقضي به، وقد يفرض ارتفاع النكاح في حياة الزّوج بفسخٍ، والزوجُ صبيٌّ لا يتصور أن يولد له، وأبو حنيفة (4) يخالف في عدة الفراق في الحياة وفي عدة الممات.
__________
(1) في الأصل: لإبطال لما مضى.
(2) ر. المختصر: 5/ 9.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 402 مسألة 908، المبسوط: 6/ 52، فتح القدير: 4/ 323.
(4) ر. المبسوط: 6/ 52، فتح القدير: 4/ 323.

(15/170)


ولو كان نَفَى الزوج الحملَ باللعان -على قولنا: الحمل يُنفى- ثم ولدت الملتعنةُ المنفيَّ، فالذي رأيته مقطوعاً به أن العدة تنقضي بوضعها الولدَ المنفىَّ؛ وذلك لأنا وإن حكمنا بانتفائه، فلسنا نقطع بذلك، فلا يبعد أن يكون الزوج كاذباً في النفي، والقولُ فيما يتعلق بانقضاء العدة قولُها، وهي تدعي أن ولدَ اللعان ولدُ الملاعِن، فإنه ظَلَم لمَّا نفاه، وهي مقبولة القول فيما يتعلق بأمر العدة.
هذا ما رأيت الأصحاب مطبقين عليه.
9791 - وقد يلتحق بهذا [الفصل] (1) مسألةٌ نرسُمها، ونذكر شرحَها بعد هذا في فصلٍ، فنقول:
إذا قال الرجل لامرأته مهما (2) ولدت ولداً، فأنت طالق، فإذا ولدت ولداً ولحقها الطلاق، ثم أتت بعد ذلك بولد لستة أشهر فصاعداً، فنعلم قطعاً أن الولد الثاني حصل العلوق [به] (3) بعد البينونة، فإذا وضعت الولد الثاني، فهل نقول: تنقضي العدة بالولد الثاني؟ هذا هو الذي نرى أن نقتصر فيه على الوعد والإحالة، وهو قريب، [سنذكره] (4) بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
9792 - ثم ذكر الشافعي بعد هذا (5) تفصيلَ القول في الخِصيّ، والمجبوب، والممسوح إذا طلقوا، فأتت نسوتُهم بأولاد، هل نحكم بانقضاء العدة؟ وهذا أمر قد قدمنا أصله في كتاب اللعان، والقولُ الجامع فيه أنا إن ألحقنا النسب، فإذا وضعت المرأة حملاً، انقضت العدة به، فإن نفاه باللعان، فلينتفِ، [ولم] (6) يتغير أمر انقضاء العدة بسبب اللعان.
__________
(1) في الأصل: فصل.
(2) مهما: بمعنى إذا.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: ما سنذكره.
(5) ر. المختصر: 5/ 9.
(6) في الأصل: (لم) بدون واو.

(15/171)


فإن لم يلحق النسب ببعض هؤلاء، ولم نُحْوَج إلى اللعان، فإذا أتت المرأة بولد، لم تنقضِ العدة.
ثم قال الشافعي: " وإذا أرادت الخروجَ، كان له منعها ... إلى آخره " (1).
9793 - هذا فصلٌ أورده المزني في غير موضعه، ومضمونُه طرفٌ من الكلام في سُكون المعتدة منزلَ النكاح، والقول في هذا يأتي في بابٍ، ولكنا نذكره هاهنا للجريان على ترتيب [السواد] (2) مما يليق به، فنقول:
إذا كانت المرأة في العدة وكانت تستحق السكنى على زوجها، فللزوج أن يُلزمها السكونَ مسكنَ النكاح، ويمنعَها أن تبرح إلى انقضاء العدة، وكذلك إذا أوجبنا للمعتدة عدة الوفاة السكنى في تركة الزوج، فالورثة يُلزِمون المرأةَ سكونَ مسكن النكاح.
وإن حكمنا بأن السكنى لا تجب في عدة الوفاة، فلو تبرع الورثة بإسكانها وتقريرِها في مسكنِ النكاح، أو ببذل المؤنة إذا لم يكن للنكاح مسكن، فالذي ذكره القاضي وشيخي والأئمة: أنه يَلزمُها [ملازمةُ] (3) المسكن، يعني مسكن النكاح، فإن لم يكن للنكاح مسكن لهم أن يُلزموها بأن تسكن مسكناً يعيّنوه.
وهذا قد يعترض فيه سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: إذا لم تملك المرأةُ مطالبةَ الزوج أو مطالبةَ الورثة، فكيف يمتلك هؤلاء مطالبتَها، والإنصافُ يقتضي التسويةَ بين الجانبين في حق الطلب؟
ولكن [لا معوّل] (4) على هذا؛ وذلك أن العدة واجبةٌ عليها وجوباً لا نجد إلى درائه سبيلاً، وعليها لحق الله ورعاية حق الزوج أن تلزم مسكناً يقتضيه الشرع، كما سيأتي تفصيل ذلك؛ فإذا قطعنا المؤنة، لم يبعد أن تتخير [الزوجة] (5) في الخروج،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 10.
(2) في الأصل: السؤال. وتكرر أن (السواد) هو مختصر المزني.
(3) في الأصل: ما يلزمه.
(4) في الأصل: لا معدل.
(5) في الأصل: الزوج.

(15/172)


كما لو [أعسر] (1) الزوج بالنفقة، فللمرأة أن تخرج، وإذا أدرّ الزوج النفقة، حرم عليها الخروج، ولزمها لزومُ مسكن النكاح، وشرح هذا يأتي في فصول السكنى، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو طلق مَنْ لا تحيض من صغرٍ أو كبرٍ ... إلى آخره " (2).
9794 - الصغيرة التي لا تحيض، والآيسة التي تباعدت عن الحيض عدتهما بالأشهر، فإن صادف الطلاقُ أول شهرٍ، وهذا إنما يفرض بتقدير وقوع الطلاق في آخر جزء من الشهر تنجيزاً أو تعليقاً، والتعليق أقرب إلى التصوّر، وذلك أن يقول لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من الشهر، فإذا كان كذلك، استقبلت الاعتداد بثلاثةٍ من الأهلة، نقصت الشهور أو كملت، أو نقص بعضها وكمل البعض.
فإن وقع الطلاق أو السبب الموجب للفراق في أثناء الشهر، فذلك الشهر يُحتسب بالأيام كاملةً، وإن اتفق نقصان ذلك الشهر (3).
ثم الذي صار إليه الأئمة المعتبرون: أنا نُكمل الشهرَ الأول ثلاثين، ونعتبر شهرين بالأهلة بعد بقيةِ ذلك الشهر، ثم نكمل الشهرَ الذي وقع الطلاق فيه بالأيام من هذا الواقع بعد الهلالين.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه إذا انكسر ذلك الشهرُ من الأول، واقتضى الحال تكميله، فإنا نكمل الأشهر الثلاثة ثلاثين، ولا نعتبر الأهلةَ أصلاً، وهذا مذهب أبي حنيفة (4)، وله متعلّق معنوي لا بأس به، وهو أن الشهر الأول إذا انكسر، فإكماله يجب أن يكون متصلاً به، فإذا أكملتَ الشهرَ الأول من الثاني، انكسر الشهر الثاني،
__________
(1) في الأصل: اعتبر.
(2) ر. المختصر: 5/ 10.
(3) أي وإن صادف أن كان ذلك الشهر تسعة وعشرين يوماً، فيكمل ثلاثين ما دام قد وقع الطلاق في أثنائه.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 218، مختصر اختلاف العلماء 2/ 381 مسألة: 885.

(15/173)


فيجب إكماله، وهكذا القول في الثالث؛ فيلزم من مجموع ذلك إكمال الشهور.
وقيل: هذا مذهب [أبو] (1) عبد الرحمن [أحمد] (2) ابن بنت الشافعي (3).
والمذهبُ ما قدمناه.
ثم قال الأصحاب: إذا وقع الطلاق مع أول جزء من الشهر، فالشهرُ منكسر؛ فإن العدة تجب بعد وقوع الطلاق، فلا بد من تصوير وقوع الطلاق في آخر جزء في الشهر.
9795 - ثم الصغيرة إذا حاضت في أثناء الشهر، انتقلت إلى اعتبار الحيض، وهل تعتد بما مضى قرءاً؟ فعلى قولين بناهما الأصحاب على أن القرء ماذا؟ وزعموا: أنا إذا قلنا: القرء هو الانتقال إلى الحيض، فقد حصل هذا المعنى؛ فتعتد بما مضى قرءاً، وإن قلنا القرء طهرٌ أو بقية طهرٍ محتوشٍ بحيضتين، فلا تعتد بما مضى قرءاً.
وهذا الكلام فيه اختلال؛ فإن اختلاف القول في الاعتداد بما مضى قرءاً معروف، وقول الانتقال كالمهجور الذي يُذكر استغراباً، وهو في حكم المرجوع عنه.
فالوجه أن نقول في التوجيه: إن قلنا: لا يعتد بما مضى، فالسبب فيه أنه لم يكن نقاءٌ بين دمين، والقرء في اللسان عبارة عن الزمان الذي يُرخي الرحمُ الحيضَ فيه على مذهبٍ، أو عن الزمان الذي يَجْمعُ فيه الحيضَ ليُرخيَه، والوصفان جميعاً مفقودان في الأيام التي مضت على الصبية قبل أن (4) حاضت.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: "محمد " وقد سبق هذا من قبل، ونبهنا عليه.
(3) سوّغ لنا الزيادة والتغيير في الكنية والاسم أن الإمام النووي قال: " ويقع في كتب أصحابنا اختلافٌ كثير جداً في اسم ابن بنت الشافعي وكنيته، وأكثر ما يقع في كتب المذهب أن كنيته أبو عبد الرحمن وقال أبو حفص المطوعي في كتابه في شيوخ المذهب: إن كنيته أبو عبد الرحمن، واسمه أحمد بن محمد. فخالف في كنيته والصحيح المعروف أبو محمد، فاحفظ ما حققتُه لك من نسبه وكنيته " انتهى من تهذيب الأسماء واللغات (2/ 296). هذا، ولابن بنت الشافعي كنية أخرى لم يذكرها النووي، وقد ذكرها العبادي في طبقاته وهي: أبو بكر. (ر. طبقات العبادي 30، طبقات الإسنوي: 1/ 78، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 75، 76).
(4) دخلت " أن " المصدرية على الفعل الماضي، وهو جائز سائغ، وإن لم يكن شائعاً. قال تعالى: {لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [القصص: 82].

(15/174)


ومن قال بالقول الثاني، احتج بأن قال: لا يرخي الرحمُ الحيضَ عن غير جمع؛ فإذا حاضت، ألحقنا ما تقدم على الحيض الأول بالقرء؛ حتى لا يحبَط ذلك الزمان من العدة، وهذا أولى من الأخذ من الانتقال؛ فإن صاحب الانتقال يشترط الانتقال من طهر إلى حيض، [فلم تكن] (1) هذه في طهر بين حيضين، فلا بد من إلحاق ذلك الزمان بالطهر إذا التحق به، فأي حاجة إلى التفريع على الانتقال.
والآيسة إذا حاضت في الأشهر [ثم انتقلت إلى الأقراء] (2)، يجب القطع بأن ما مضى يعتد به قرءاً؛ فإنه واقع بين الحيضين: الذي مضى في عمرها وبين الحيض الذي وقع، وأكثر الطهر لا نهاية له.
ثم (3) تعرض الشافعي لأقل أسنان الحيض، وهذا مما تقصّيناه في مواضع، ولا حاجة إلى إعادته.
فصل
قال: " ولو طرحت ما يعلم أنه ولد ... إلى آخره " (4).
9796 - المعتدة إذا ألقت جنيناً ميتاً، غير منتفٍ عمن منه الاعتداد، وبرىء الرحم، حكمنا بانقضاء العدة، إذا كان قد بدأ التخليق، وشكّلت الأعضاء، ولو ألقت عَلَقة، فلا حكم لإلقائها- وإن زعمت القوابل أنها أصلُ الولد.
وإن ألقت لحماً، وقالت القوابل: إنها لحمُ ولدٍ، فقد نص الشافعي على أن العدّة تنقضي به، ونص في أمهات الأولاد على أن الجارية لا تصير به أم ولد، وقال في الجنايات: لا تجب الغرّة بسببه.
__________
(1) في الأصل: " فله تسكن هذه " بهذا الرسم تماماً. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء صورة الكلمات، ورعاية للسياق.
(2) عبارة الأصل: إذا حاضت في الأشهر ثم حاضت انتقلت إلى الأقراء. والمثبت تصرف من المحقق.
(3) ر. المختصر: 5/ 10.
(4) ر. المختصر: 5/ 11.

(15/175)


فاختلف أصحابنا: فمنهم من نقل الأجوبة في المسائل بعضَها إلى بعض، وأجرى في الكل قولين: أحدهما - أنه يتعلق به انقضاء العدة، وتثبت أمية الولد، ويتعلق به الغرة؛ تعويلاً على قول [القوابل] (1)، فإليهن الرجوع مهما (2) أشكل شيء مما يختصصن بمعرفته.
والقول الثاني - أنه لا تثبت هذه الأحكام؛ لأن الملقَى ليس ولداً، وإخبارُهن عما سيكون لا تعويل عليه، وهو بمثابة قولهن: العلَقة الملقاةُ أصلُ الولد.
ومن أصحابنا من أقرّ النصوص قرارها، وسلك طريق الفرق قائلاً بأن انقضاء العدة يتعلق ببراءة الرحم بسبب وضع الحمل، والذي وضعته يسمى حملاً، قال الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، والغرّة بَدل مولود، وأمية الولد مربوط صريحاًً بالولد، واسم [الولد] (3) لا يطلق على اللحم الملقى، ثم هذا القائل يقول: لا نُلْزَمُ (4) العَلَقَةَ في جانب العدة؛ فإن التي ألقتها لا تسمى حملاً.
ثم ما ذكره الأصحاب من قول [القوابل] (5) في العَلَقة تكلّفٌ؛ فإنهن لا يقطعن بذلك في دمٍ قط، بخلاف اللحم.
ومما ذكره الأئمة: القاضي والعراقيون: أنها إذا ألقت لحماً، وزعمت القوابل أنه بدأ فيه التخطيط الخفي، فهذا بمثابة التشكُّل والتخلق في الأعضاء، ولا يُنكَر أن يعرفن [مِنْ] (6) ذلك ما لا ندركه حسّاً، ومحل النصوص واضطراب الأصحاب فيه إذا قلن: لم يبدأ التخطيط الخفي والجلي، ولكن الملقَى لحمُ ولدٍ، هذا محل الكلام.
__________
(1) في الأصل: قول القابل.
(2) مهما: بمعنى (إذا).
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) " لا نُلْزَمُ العلقة " أي لا يُحتَجُّ علينا بأنه يلزمنا -على قولنا تنقضي العدة بلقاء اللحم- أن نقول: بانقضائها بالعَلَقَة؛ فالعلقةُ لا تسمَّى حملاً.
(5) في الأصل: قول القائل.
(6) زيادة من المحقق.

(15/176)


فإذا قلن: لا ندري ما هو، فلا خلاف أنه لا يتعلق به حكم [من] (1) الأحكام: لا انقضاء العدة، ولا غيره.
9797 - ولو ادعت المرأة أنها ألقت جنيناً، فالذي أطلقه الأصحاب أنها مصدَّقةٌ في ذلك، ولو ادعت أنها ولدت ولداً ميتاً، فهل يقبل قولها في انقضاء العدة؟ فعلى وجهين، نصّ عليهما الأئمة في الطرق: أحدهما - أنه يقبل منها، كما يقبل قولها في الحيض وانقضاء العدة في الزمان الممكن، والوجه الثاني - أنه لا يقبل منها، فإن الولادة مما يمكن الإشهاد عليها، والغالب أن المرأة إذا طُلِقَتْ، شهدتها القوابل، فليس كونُها مشهودةً مما يندر، بخلاف إلقاء الجنين؛ فإن ذلك يَفجؤها، فيَصيرُ دعواها فيه بمثابة دعواها في الحيض.
هذا هو المسلك المشهور.
قال شيخي أبو محمد: من أصحابنا من ألحق إلقاء الجنين بادعاء الولادة؛ فإن المرأة إذا أَجْهَضَتْ، لحقها من العسر قريبٌ [مما يلحق] (2) الوالدة في أوان الولادة، ثم نحن أحوج إلى أقوال القوابل في الجنين، لنعلم أنه ولد أو لحمة منعقدة لفظتها الطبيعة.
وهذا الذي ذكره منقاس، ولكنه غريب (3).
9798 - ولو قال الزوج قد طلقتك في زمان الحيض، فتطولُ عدتك لذلك، وقالت المرأة: طلقتني في زمان الطهر، فقد أطلق الأصحاب أقوالهم أن القول في ذلك قولُ المرأة؛ فإنها أعرف بما كانت عليه حالة الطلاق، من حيض أو طهر.
ثم ذكر الشافعي القولين في أن ما تراه الحامل من الدم في زمان الحمل على ترتيب أدوار الحيض حيضٌ أو دم فساد، وهذا مما تقدم استقصاؤه في كتاب الحيض،
__________
(1) في الأصل: في.
(2) في الأصل: ما يتلحق الوالدة.
(3) غريب: أي في الحكاية، بمعنى أنه لم يحكه الأصحاب. وهذا المعنى اصطلاح جرى عليه الإمام كثيراً، وظهر معناه واضحاً من السياق.

(15/177)


والذي يتعلق باحكام العدة فيه: أنا وإن حكمنا بأنه حيض، فلا يتعلق بالأطهار المتخللة بين [تلك] (1) الدماء انقضاء العدة، ولا بد من وضع الحمل، وقد ذكرنا في كتاب الطلاق، تعليق السنة والبدعة بها، وما ذكره الأصحاب من خلاف.
فصل
قال: " ولا تنكح المرتابة ... إلى آخره " (2).
9799 - إذا انقضت العدة بالأقراء أو بغيرها، فارتابت المرأة في نفسها، وكانت تجوّز أنها حامل، فاستشعرت من نفسها أمارةً على ذلك، فإن بلغت المبلغ الذي يقال فيه: إنها حامل، وإن كان لا يُستَيْقَن الحملُ في أصل الجبلة، فليس لها أن تنكح.
وإن ارتابت ووجدت من نفسها علامةً، ولم تبلغ مبلغاً يقال فيها: إنها حامل، فهذا محل الكلام، وهو المعنيُّ بما أطلقه الأصحاب من الارتياب، وذلك بأن تجد ثقلاً في نفسها، فينبغي أن تمتنع من النكاح إلى أن تزول الريبة.
فلو نكحت قبل زوال الريبة، فالمنصوص عليه في المختصر أن النكاح موقوف، وقال الشافعي: في موضع آخر: النكاحُ باطل.
واختلف أصحابنا: فمنهم من جعل المسألة على قولين، ثم اختلفوا في أصل القولين: منهم من قال: أصله وقف العقود على ما نبيّن، ومن صور هذا الأصل أن يبيع عبداً لأبيه على [تقدير] (3) حياته، ثم تبين أنه كان ميتاً، وكذلك لو كاتب عبداً كتابة فاسدة، وحسبها صحيحة، ثم باعه، وتبين أن الكتابة كانت فاسدة، ففي صحة البيع قولان.
فإذا ارتابت ونكحت، فهذا [يؤخذ] (4) من الوقف عند هذا القائل.
__________
(1) في الأصل: ذلك.
(2) ر. المختصر: 5/ 11.
(3) في الأصل: " تعدي " وهو تصحيف واضح.
(4) في الأصل: يوجد.

(15/178)


قال بعض أصحابنا: هذا البناء غير صحيح؛ فإنه جرى ما هو انقضاء عدّةٍ في الظاهر، ولم يظهر أمر مخالف له، فلو كان مأخوذاً من الوقف، لقيل هذا العقد يصح قولاً واحداً.
فالوجه أن نبني القولين على أصل آخر، وهو أن من شك في صلاته في عدد الركعات مثلاً، فإنه يبني على المستيقن ويتمادى في صلاته، ولو شك بعد الفراغ من الصلاة: أصلى ثلاثاً أم أربعاً؟ ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يلزمه الالتفات على شكه، وقد انقضت الصلاة على حقها، ثم من يُلزم تتبع الشك بعد الفراغ، فتفصيله مذكور في كتاب الصلاة.
ووجه تشبيه ما نحن فيه بذلك أنها لو ارتابت في أثناء العدة؛ فإنها لا تنكح، وإن انقضت صور الأطهار على ظاهر المذهب، وكانت مؤاخذة بتلك الريبة كما يؤاخذ المصلي، فإذا ارتابت بعد انقضاء ما به الاعتداد، كانت كالمصلي يرتاب بعد التحلل عن الصلاة ظاهراً.
ثم ينشأ من اختلاف الأصحاب في مأخذ القولين ما نصفه، فإن حكمنا بأن القولين مأخوذان من وقف العقود، فلو طرأت الريبة في أثناء العدة ونكحت، ثم تبين أنه لم يكن حمل، فالمسألة تخرج على القولين؛ فإن وقف العقود لا اختصاص له بصورة، وإنما هو تردد ثم تبيُّنٌ.
وإن أخذنا القولين من شك المصلي، فإنا نقول: لو طرأت الريبة في أثناء العدة، ثم جرت العدة ونكحت على الريبة، ثم تبينت براءة الرحم، فلا نقضي بصحة النكاح.
فانتظم مما ذكرناه أنها إذا ارتابت ونكحت، وبان أنها كانت حاملاً حالة النكاح، فلا إشكال في فساده، وإن بأن أنها بريّة، وقد تقدمت الريبة، فثلاثة أقوال: أحدها - الفساد كيف فرض الأمر، والثاني - الصحة. والثالث - الفصل بين أن ترتاب في العدة، وبين أن ترتاب بعد انقضائها، وكل ذلك طريقةٌ.
ومن أصحابنا من قال: إذا تبين أنها كانت بريّة، فالنكاح منعقد قولاً واحداً، وليس ذلك من وقف العقود، فإن النكاح مستند إلى عدةٍ ظاهرة والريبة خَطْرة، فإذا بان

(15/179)


أنه لا أصل له (1)، فلا تعويل عليها، وليس كذلك بيع الرجل مال أبيه على تقدير أنه في الأحياء؛ فإنه ليس مبنياً على أصل ظاهر يُسلِّط على التصرف، وهذه الطريقة حسنة فقيهة موافقةٌ للنص الذي نقله المزني.
9800 - ثم قال الشافعي: " ولو كانت حاملاً بولدين ... إلى آخره " (2).
إذا طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، فولدت ولداً، وكان الرحم مشتملاً على جنين آخر، فلا شك أن العدة لا تنقضي، وإنما نتبين أن الجنين حمل واحد إذا كان الزمان المتخلل بين وضعيهما أقل من ستة أشهر.
9801 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: لو خرج بعض الولد، لم نحكم بانقضاء العدة إلى الانفصال، ولذلك تصح الرجعة إذا انفصل بعض الولد، وحكم ذلك حكم الجنين المجتنّ في البطن الذي لم يظهر منه شيء.
ثم قال الأئمة: لو انفصل بعضُه، فصرخ واستهلّ، وقتله قاتل، والبعض منه في البطن، فالواجب الغرّةُ لا دية، ولا يجب القصاصُ، ولو أعتقه والحالةُ هذه عن كفارته، لم يقع العتقُ عن الكفارة وإن [نوى] (3) صرفه إليها، ولو باع الأم أو وهبها، دخل الولد في البيع، وهو على الجملة في جميع القضايا والأحكام ينزل منزلة الجنين الذي لم ينفصل منه شيء.
وقال بعض أصحابنا: إذا [صرخ] (4) واستهلّ، فقد استيقنّاه، فلو قتله قتلاً مُذفِّفاً، وبعضه متصل بالأم، استوجب القصاص، فإذا آل الأمر إلى المال، التزم الدية بكمالها، ويصير مستقلاً بنفسه في الإعتاق، وكل ما لا نثبته لعدم الاستيقان في الوجود والحياة فهو مثبت.
وهذا وإن كان منقاساً -وقد عزي إلى القفال في بعض أجوبته- فهو ضعيف في الحكاية، ما أراه ملتحقاً بالمذهب.
__________
(1) عاد الضمير مذكراً على معنى (الشك) لا على لفظ (الريبة).
(2) ر. المختصر: 5/ 12.
(3) في الأصل: وإن يرى.
(4) في الأصل: "خرج".

(15/180)


ثم إن وقع التفريع على هذا الوجه الضعيف، فالعدة لا تنقضي إلا بانفصال تمامه، لا يجوز أن يكون في هذا تردد، ثم يتعلق ببقائها في العدة تصحيحُ الرجعة، وكل ما يتعلق ببقاء العدة.
فصل
قال: " ولو أوقع الطلاق، فلم يدر أَقَبْل ولادها أو بعده؟ ... إلى آخره " (1).
9802 - مضمون الفصل ذكر اختلافٍ بين الرجل والمرأة إذا طلقها، وولدت، ثم فُرض النزاع في التقدم والتأخر، وهذا تفصله مسائلُ: منها أن يختلفا على الإطلاق من غير تنصيص على تاريخ واحدٍ منهما، فيقول الرجل: طلقت بعد الولادة فأنت معتدة، ولي عليك الرجعة، وهي تقول: لا بل طلقتني قبل الولادة، وانقضت عدتي بها.
قال الأصحاب: القول فيه [قول الرجل] (2)؛ لأن الرجعة حقُّه، والأصل بقاؤها، والأصل أيضاً عدُم الطلاق وعدم انقضاء العدة.
ولو اتفقا على وقت الولادة، واختلفا في وقت الطلاق، وذلك [أن اتفقا] (3) أنها ولدت يوم الجمعة، واختلفا في الطلاق: فقال الرجل: طلقتك يوم السبت، وقالت المرأة: لا، بل يوم الخميس. قال الأصحاب: القول قوله أيضاًً، إذ الأصل عدمُ الطلاق، وبقاءُ النكاح.
وإن اتفقا على وقت الطلاق، وتنازعا في وقت الولادة، فقال الرجل: ولدتِ يومَ الخميس، فلي عليك الرجعة، وقالت المرأة: يومَ السبت، فالقول قولها، لأن الأصل عدمُ الولادةِ يومَ الخميس، والرجوعُ إليها فيما يتعلق بوقت انفصال الولد.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 12.
(2) ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: ببقاء، والمثبت تصرّف وتقدير من المحقق.

(15/181)


ولو اتفقا على وقوع الطلاق والولادة واعترفا بالجهالة في التقدم والتأخر، فقالا: لا ندري السابقَ منهما، فعليها استقبال العدة، والرجعةُ ثابتة، فإن الأصل ثبوتها، ولكن الورع ألا يرتجعَها مخافة أن يكون قد فاتت بوضع الحمل.
ولكن هذا الإشكال المقترن به لا يُسقط الرجعة؛ فإن الأصل بقاءُ سلطان الزوج، والارتجاعُ من بقاء النكاح.
وإن ادعت المرأة أنها ولدت بعد الطلاق، والرجل يقول: أنا لا أعلم؟ قلنا: قد ادعت المرأة أمراً جازماً، فأجِبْها، فإن لم يُجب، جعلناه مُنكراً، ثم نعرض عليه اليمين، فإن نكل، حلفت هي واستحقت ما ادعت.
ولو قالت المرأة: أنا أجهل وقت السابق، وأطالب الزوج أن يبيّن، قال الققال: ليس [لها] (1) ذلك، والرجل لا يطالَب، فإنها ما أتت بدعوى صحيحة وقولٍ جازم، فلا يلزم الإجابة.
9803 - ومما يجب الإحاطةُ به في سر المذهب أنا ذكرنا طرقاً مختلفة في تداعي الزوجين في انقضاء العدة، ووقوع الرجعة، وأتينا بذلك الفصلِ مستقصىً، وجمعنا بين طرقٍ متناقضة، ومذاهبَ متباينةٍ.
والذي ذكرناه من التقسيم في هذه المسألة اتفق عليه الأصحاب في طرقهم، ومساقُه ما أوردنا ولا غير، والسبب فيه أن الخلاف إذا آل إلى إنشاء الرجعة وانقضاء العدة، فيتعارض في الحكم بتصديق المرأة وتصديق الرجل أمور دقيقةُ المُدرَك، ويعترض أيضاً تنزيلُ الدعوى رجعةً، وعطفُ قول الزوجة انقضت عدتي على زمان منقضٍ، وشيءٌ من تلك المعاني لا يجري في هذه المسألة، ولا يتأتى إيضاح ما ذكرناه إلا بإعادة تلك المسألة، ومن تأمل تيك كما سقناها وتأمل هذه المسألة، استبان الفرق بينهما.
__________
(1) زيادة من المحقق.

(15/182)


فصل
قال: " ولو طلقها، فلم يحدث لها رجعة ... إلى آخره " (1).
9804 - البائنة إذا أتت بولد من يوم الفراق لأربع سنين أو أقلَّ، لَحِقَ الولدُ الزوجَ، فإنها أتت به لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، وتعتبر ابتداء مُدّة الحمل تقديراً يوم الطلاق.
ولو طلق امرأته طلقة رجعية، فمن أي وقت نعتبر مدة أربع سنين في حقها؟ فعلى قولين: أحدهما - أنا نعتبر ابتداء الحمل من وقت انقضاء العدة، نصّ على هذا في اجتماع العدّتين، ونقله المزني في آخر الباب.
والقول الثاني - أن ابتداء مدة الحمل يحتسب من وقت الطلاق، وإن كان رجعياً.
توجيه القولين: من قال ابتداء المدّة يحتسب من انقضاء العدة ظاهراً، احتج بأن الرجعية حكمها حكم الزوجات، فينبغي أن يكون اعتبار أول المدة من وقت انقضاء الزوجية.
ومن نَصر القولَ الثاني، احتج بأن الرجعية معتزلةٌ عن زوجها، والزوج معتزل عنها، ولا يليق بها الاستفراش، وهذا التوجيه كافٍ.
[وبنى] (2) بعضُ الأئمة القولين على أن الرجعية منكوحة أم لا؟ وقد قدّمنا هذا في كتاب الرجعة، وألحقنا بذلك أمثلةً وبيّنا ما يليق بهذا، فلا نعيده.
فإن قلنا: يعتبر مضيُّ أربع سنين من يوم الفراق، فحكمها حكم البائنة، وإن قلنا: يعتبر من يوم انقضاء العدة، فأي ولدٍ أتت به يلحقه، وإن مضت عشرون سنة وأكثر من يوم الفراق، ما لم تقرّ بانقضاء العدة؛ فإن العدة تتمادى على المذاهب الصحيحة إلى آمادٍ طويلة بتباعد الحيض.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 12.
(2) في الأصل: وبين.

(15/183)


فإذا أقرت بانقضاء العدة، ومضى من ذلك الوقتِ أربعُ سنين، فلا لحوق بعد ذلك.
فمن أصحابنا من قال: إذا مضت من يوم الفراق أربعُ سنين وثلاثةُ أشهر، حكمنا بزوال الفراش حتى لو إتت بولدٍ بعد ذلك، لم يلحق؛ لأن الظاهر والغالب أن العدة تنقضي بثلاثة أشهر، والحمل لا يمكث في البطن [أكثرَ من] (1) أربع سنين.
وهذا الإنسان تعاظمه ما ذكرنا من لحوق النسب بعد الطلاق إلى عشرين سنة، فصاعداً، ولا معنى للحيْد عن القياس بمثل هذه الترّهات.
9805 - ثم نقل المزني في الكتاب لفظةً ملتبسةً، وذلك أنه قال: " إذا أتت البائنة بولد لأكثرَ من أربع سنين يكون منفياً عنه باللعان " ثم قال: " وهذا غلط: لا يمكن كونه منه موجِبٌ أن لا يحتاج إلى اللعان، ولعل هذا غلط من غير الشافعي " (2).
وهذا من كلام المزني، ثم استدل على أنه منفي عنه من غير لعان [بأن] (3) الشافعي قال: " لو قال لامرأته: إذا ولدتِ، فأنت طالق، فولدت ولدين وبينهما ستة أشهر يلحقه الولدُ [الأول] (4) وتنقضي عدته بالثاني ويكون منفياً عنه بلا لعان " (5).
قال الأصحاب: ما ذكره المزني صحيح في المعنى، ولكن الغلط جاء من جهة النقل: إمّا منه وإما من غيره، ثم التعليل الذي ذكره ليس بواضح، ولفظه معقّد.
__________
(1) سقط من الأصل.
(2) ر. المختصر: 5/ 13.
(3) في الأصل: فإن.
(4) زيادة من المحقق.
(5) هذا معنى كلام الشافعي الذي نقله المزني، وليس نصه.
ر. المختصر: 5/ 13، وفيه: قال المزني، وقال الشافعي في موضع آخر: "لو قال لامرأته كلما ولدت ولداً فأنت طالق. فولدت ولدين، طلقت بالأول، وحلّت للأزواج بالآخر، ولم نلحق به الآخر؛ لأن طلاقه وقع بولادتها، ثم لم يحدث لها نكاحاً ولا رجعة، ولم يقر به، فيلزمه إقراره، فكان الولد منفياً عنه بلا لعان، وغير ممكن أن يكون في الظاهر منه" ا. هـ.

(15/184)


9806 - وأما المسألة التي أوردها في الولدين، فهي المسألة الموعودة (1) في الفصل المشتمل على عدة امرأة الصبي:
وصورتها: أن تأتي بولد، وقد كان قال الزوج: إذا ولدتِ ولداً، فأنت طالق ثلاثاً، فإذا ولدت، طُلّقت واستقبلت العدة، فلو أتت بولدٍ لستة أشهر من وقت الولادة، فلا شك أن العلوق به جرى بعد الولادة، وهو منفي بلا لعان؛ فإن العلوق به جرى بعد وقوع البينونة، وهذا بمثابة ما لو أتت البائنة بولد لأكثر من أربع سنين بعد البينونة، ثم نقضي بانقضاء عدتها بالولد الثاني مع كونه منفياً.
وهل نُنزله منزلةَ الولد المنفي باللعان، وقد ذكرنا أن المرأة إذا وضعت حملها المنفيَّ باللعان، فعدتها تنقضي مع انتفاء الولد.
وإنما نحكم بأن العدة لا تنقضي إذا كان الولد ولدَ زنا، كذلك [إن] (2) كان العلوق بالولد الثاني بعد الفراق، فيحتمل أن الزوج وطئها بشبهة، ولو فُرض ذلك، لتداخلت العدتان، ولجرى الحكم بانقضاء العدة بوضع الحمل.
9807 - حاصل ما ذكره الأصحاب في انقضاء العدة في هذه الصورة ثلاثةُ أوجهٍ أشار إليها القاضي وغيره: أحدها - أن العدة تنقضي كما ذكرناه في الولد المنفي باللعان.
والثاني- أنها لا تنقضي؛ فإن العدة إنما تنقضي بولد يمكن تقدير العلوق به في حالة النكاح، والولد المنفي باللعان بهذه المثابة، فليس انتفى بسبب [عدم] (3) الإمكان، والإمكانُ غير زائل، وهي مصدقة فيما يتعلق بالعدة إذا لم تدع أمراً خارجاً عن الإمكان.
والوجه الثالث - أنا ننظر: فإن لم تدع المرأة سبباً محترماً يفرض العلوق منه بعد
__________
(1) كان قد وعد بها الإمام في الفصل الذي أشار إليه.
(2) في الأصل: وإن.
(3) زيادة من المحقق.

(15/185)


الفراق، فلا نحكم بانقضاء العدة، وإن ادعت [أنه] (1) وطئها بشبهة، فإذ ذاك نحكم بانقضاء العدة، وإن كان القول قول الزوج في نفيه، ولا حاجة به إلى اللعان، ويكفيه أن يحلف على نفي الوطء، إذا ادعته، وذلك لأن الزوج وإن نفى ما ادّعته وحلف فيمينه لا تقطع إمكان صدقها، ويكفيها في دعوى انقضاء العدة إمكان الصدق.
9808 - ثم قال الشافعي: " لو ادعت المرأة أنه راجعها أو نكحها إن كانت بائنة ... إلى آخره " (2).
إذا أتت البائنة بولد لأكثر من أربع سنين من يوم الفراق، أو كانت رجعية، فأتت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم وقوع الطلاق، والتفريع على قولنا أنا نعتبر المدة في الرجعية من وقت الطلاق أيضاً، فإذا ادعت المرأة على المطلِّق أنه راجعها فألمّ بها، وحصل العلوق بعد الرجعة، وادعت البائنة أنه نكحها ووطئها والولد من الوطء الجاري في النكاح الجديد، فالقول قول الزوج لا محالة، في نفي ما تدعيه إن نفاه، فإن حلف، انتفى النسب، وكفى ذلك، وأغنى عن اللعان، وإن نكل عن اليمين، فهل يرد اليمين عليها؟ لم يتعرض الشافعي لذلك بنفى، ولا إثباتٍ.
ولو زعمت المرأة أنها ولدت، وكان النكاح قائماً، فأنكر الزوج الولادة، فالقول قوله، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، قال الشافعي حلفت عند نكوله يمينَ الرد، وقد ذكرنا تصرف الأصحاب في ذلك، في كتاب اللعان، فلا حاجة إلى إعادة ما سبق.
والذي نرى التنبيه [إليه] (3) هاهنا، أن الأصح الردُّ لليمين عليها؛ لأنها قيّمة في نفقة الولد مُطالِبةٌ بها، كما قال المصطفى عليه السلام لهند: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " (4)
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) ر. المختصر: 5/ 14.
(3) سقطت من الأصل.
(4) حديث خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (البخاري: النفقات باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، ح 5364. مسلم: الأقضية، باب قضية هند، ح 1714).

(15/186)


فهي تستفيد إذاً بالتسبب إلى إثبات الولادة دفعَ النفقة عن نفسها، فالأصح أنها تحلف يمين الرد.
ثم لم يختلف الأصحاب في أنها تبتدىء الخصومةَ ويحلف الرجل، وهذا محل سؤال الفطن!!
فإن قيل: إذا فرعتم على أن اليمين لا ترد عليها، فكيف بنيتم تحليف الزوج على دعواها؟ قلنا: قد ينتصب للدعوى، وعرضِ اليمين، وطلبِ التحليف مَنْ لا يحلفُ [كالوصيّ] (1) في كثير من الخصومات المتعلقة بحقوق الطفل، وكذلك الوكيلُ بالخصومة يطلب التحليف ولا يحلف، وهذا من الأصول العظيمة في الدعاوى والبينات، وسيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى.
ومهما (2) انتهى كلامٌ إلى استدعاء بيانٍ في طرفٍ وموضعُ كشفه كتابٌ، فالذي يقتضيه الترتيبُ التنبيهَ عليه والإحالةَ على الكتاب الموضوع له، فيجتمع اجتناب التكرار والتنبيهُ لما يجب التنبه له.
فصل
قال: " ولو نكحت في العدة، فأصيبت ... إلى آخره " (3).
9809 - المرأة إذا خلت عن العدة ونكحت نكاحاً مستجمعاً لشرائط الصحة في ظاهر الأمر، وأتت بولد في الفراش الثاني، نُظر: فإن أتت به لزمان لا يُحتمل أن يكون العلوق به في الفراش الثاني، مثل أن تأتي به لأقلَّ من ستة أشهر من وقت النكاح وإمكان الاستفراش، وكان العلوق به ممكناً في النكاح الأول، فالولد يلتحق بالزوج الأول، ويتبيّن بطلانُ النكاح الثاني للعالم، فإنه جرى والمنكوحة حامل بولد نسيبٍ.
فإن أتت به لزمان لا يحتمل أن يكون العلوق به في الفراش الثاني، وكان لا يحتمل العلوق به في الفراش الأول، وذلك بأن تأتي به لأقل من ستة أشهر في النكاح الثاني،
__________
(1) في الأصل: " كالواطىء ".
(2) " ومهما ": بمعنى (وإذا).
(3) ر. المختصر: 5/ 14.

(15/187)


ولأكثر من أربع سنين من البينونة عن الفراش الأول، فالولد منتفٍ عن الزوجين، ولا يُقضى فيه بأنه ولد زنا. ولكن لا أب له، وطريق تحسين الظن حمل العلوق به على وطءٍ بشبهة.
وإن أتت به لزمان يحتمل أن يكون العلوق به في النكاح الثاني، مثل أن تأتي به لستة أشهر من النكاح الثاني فصاعداً، فالولد لا يلحق الأول وإن أمكن أن يكون العلوق به من النكاح الأول، ولكن النكاح الثاني في حكم الناسخ للأول والقاطع لعلائقه واحتمالاته.
وسبب هذا أنا في إلحاق الولد بالثاني لسنا نعطل النسب، فقد نظرنا للولد، ولو قدرنا الإلحاق بالأول، [لأبطلْنا] (1) النكاح الثاني؛ فإنا على هذا التقدير نتبين أن النكاح الثاني عُقد وهي حامل، والنكاح الذي جرى الحكم بانعقاده ظاهراً لا سبيل إلى الحكم ببطلانه بأمرٍ غيرِ مستيقن، فهذا هو الذي أوجب الإلحاق بالفراش الثاني، وهذا يتأكد بترجيح الاستفراش الناجز على ما مضى وانقطع أثره وخبره.
ثم إذا بأن أن الولد يلتحق بالفراش الثاني بالاحتمال، وإن أمكن أن يكون من الفراش الأول، فما الظن إذا أمكن أن يكون من الثاني، ولم يمكن أن يكون من الأول؟ ولا حاجة إلى ذكر مثل هذا إلا لمحاولة استيعاب الأقسام.
9810 - وما ذكرناه كله فيه إذا خلت المرأة عن العدة في ظاهر الحال، ونكحت نكاحاً يقضي الظاهرُ بصحته.
فأما إذا جرى نكاحُ شبهة، واتصل الوطء به على ظن الحِلّ من الجانبين، وذلك بأن تنكِح في بقيةٍ من العدة ظانَّة أن العدة قد انقضت، فإذا أتت بولدٍ من وقت افتراش الثاني إياها، نُظر: فإن لم يحتمل أن يكون العلوق به من الثاني، واحتمل أن يكون من الأول، التحق بالأول، وإن لم يحتمل أن يكون من الثاني ولا من الأول، انتفى عنهما، وإن احتمل أن يكون من الثاني واحتمل أن يكون من الأول أيضاًً، وذلك بأن تأتي به لستة أشهر من افتراش الثاني، ولأربع سنين من الأول أو لدون أربع سنين، فقد تردّد المولود بينهما، وهذا من محالّ القيافة.
__________
(1) في الأصل: لا لطلب النكاح الثاني.

(15/188)


والذي يليق بغرضنا الآن أن الولد لا يلتحق بالفراش الثاني لحوقَه بالنكاح الصحيح، والسبب فيه ما قدمناه من أن الإلحاق بالأول وقد جرى نكاح ظاهره الصحة، يتضمن إفساد النكاح المحكوم بصحته ولا وجه لهذا، ولا يتحقق مثلُ هذا في النكاح الفاسد.
ومن أسرار المسألة أنا ردَّدْنا في النكاح الفاسد ولداً بين النكاح الفاسد والنكاح الصحيح الماضي، ولكن لما لم يؤد إلى إفساد نكاح المتقدم، لم نُبالِ بذلك.
والدليل عليه أن المنكوحة لو وطئت بشبهة في استمرار النكاح، وفرض الإتيان بولد وتردد الاحتمال بين الواطىء بالشبهة وبين الزوج؛ فإنا نُري الولدَ القائفَ، وإذا انتهينا إلى باب القيافة في آخر الدعاوى، أوضحنا في صدر الباب الصور التي تجري القيافةُ فيها.
فهذا منتهى المراد في ذلك، وسياقةُ أحكام القيافة إلى منتهاها ستأتي، إن شاء الله تعالى.
9811 - ومما ذكره الأصحاب هاهنا أن المرأة إذا نكحت على الشبهة والفساد، فمتى يثبت حكم الفراش الثاني؟ ظاهر المذهب أنه يثبت بالوطء الأول، وقال القفال الشاشي (1): يثبت حكم الفراش الثاني بالعقد، وفائدة ذلك أنا من أي وقت نحتسب
__________
(1) القفال الشاشي. هو محمد بن علي بن إسماعيل القفال الكبير، فخر الإسلام، أبو بكر، تفقه بابن سريج، أول من صنف في الجدل. وهو أكثر ذكراً في كتب التفسير، والحديث، والأصول، والكلام والجدل، مذكور في المهذب في موضع واحد، وهذا أول موضع يذكر فيه في النهاية.
يتفق مع القفال الصغير في الكنية؛ فكلاهما أبو بكر، ويختلفان أو يتمايزان بأشياء منها: النسبة، هذا شاشي، وذاك مروزي، ومنها اللقب فهذا الكبير وذاك الصغير، بالإضافة إلى شهرة صاحبنا هذا بالتفسير والحديث والكلام والجدل، وذاك بالفقه، وحيثما يطلق القفال في كتب الخراسانيين فهم يعنون ذاك لا هذا. ولد 291 هـ وتوفي 365 هـ. ثم هما غير صاحب التقريب، فهو قفال ثالث.
(ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 282، 283، والطبقات للسبكي: 3/ 472، ووفيات الأعيان: 4/ 200، 201).

(15/189)


زمان الحمل ليتبين الاحتمال، فعلى هذا الاختلاف [متى] (1) ينقطع حكم الفراش الثاني الثابت على الفساد والشبهة؟
اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ينقطع أثر الفراش الفاسد بالتفريق وإليه النظر، والقفال الشاشي يقول: ينقطع أثر الفراش الثاني من آخر وطأة جرت، ولا يتوقف على التفريق: فمن [راعى] (2) الوطء في الأول، اعتبر التفريق في الآخر، والقفال راعى العقد في الأول، والوطء في الآخر، وذكْر هذين الخلافين على الإرسال حسنٌ لا بأس به.
فأما اعتبارُ العقدِ في الأول والوطءِ في الآخر، فكلام مختلط [حكَوْا أن اعتبار الوطء في الأول والتفريق في الآخر يوجّه بأن الوطء] (3) إذا أثبت حكمه في الافتراش، لم يبعد أن يتمادى إلى التفريق، ولهذا نظير سيأتي الشرح عليه في أثناء الكتاب.
وهو أن من طلق امرأته طلقة رجعية، وكان يخالطها ولا يغشاها، فهل تنقضي العدة مع صورة المخالطة؟ فيه كلام وتفصيل، وكذلك لو فرض ذلك في البائنة على شبهة. فلا ينبغي أن نشتغل بذلك؛ فإنه بين أيدينا.
9812 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن من نكح امرأة نكاحاً فاسداً، وأتت بولد من غير فرض تردد بين نكاحين، فهل يلتحق الولد بمجرد النكاح مع تبين فساده من غير إقرارٍ من الزوج بالوطء؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا بد من الإقرار بالوطء؛ فإن الفاسد لا يكون فراشاً ما لم يمض افتراشٌ على التحقيق.
ومنهم من قال: نفسُ النكاح والإمكان كافٍ، وهذا يلتفت على الخلاف الذي ذكرناه من أن المنكوحة على الفساد متى صارت مفترشة؟ وقد قدمنا الخلاف في ذلك.
__________
(1) في الأصل: ومتى.
(2) في الأصل: رأى عني.
(3) عبارة الأصل مضطربة هكذا: " حكى من اعتبار الوطء في الأول والتفريق في الآخر لوحه لأن الوطء ... إلخ ".

(15/190)


ويترتب عليه أيضاً أنه إذا أقر بالوطء -على قولنا: إنه يعتبر إقراره- فلو ادعى الاستبراء، فالمذهب الأصح الذي يدل عليه النصوص أن دعوى الاستبراء لاغية، ووجه دلالة النصوص قَطْعُ الشافعي قولَه بجريان اللعان، مع العلم بأن اللعان في النكاح الفاسد إنما يجرى للضرورة الداعية إلى نفي النسب المتعرض للثبوت، وقد أوضحنا في كتاب اللعان [أن اللعان] (1) حجةُ ضرورة، وأبعد بعض أصحابنا، فجعل النكاح الفاسد كملك اليمين في دعوى الاستبراء: تؤثر فيه، وهذا بعيد عن قاعدة المذهب.
فصل
قال: " فإن قيل: لمَ لمْ تنفوا الولد إذا أقرت بانقضاء العدة ... إلى آخره " (2).
9813 - إذا طلق الرجل امرأته وزعمت أنه مرّ بها الأقراء الثلاثة، وادعت ذلك في زمان ممكن محتمل، واقتضى الحال تصديقَها، والحكمَ بأنها خلت عن العدة وحلّت للأزواج، فلو أتت بولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح: مثل أن تأتي به لأربع سنين فما دونها، فالولد يلحقُ، وإن جرى الحكم بتصديقها، ونتبين أنها كانت ظنت انقضاء العدة، وما كانت منقضية، هذا مذهبنا.
ونكتة المذهب أن الاحتمال في لحوق النسب كاليقين في وضع الشرع، وصُور الأقراء تزاحمه، وقد اتفق العلماء، وشهدت المشاهدة على أن الحامل قد ترى الدمَ على ترتيب أدوار الحيض، وإنما الخلاف في أنه هل يحكم بكون ما تراه حيضاً في أحكام العبادات، وتحريم الوقاع ونحوه، فإذا أتت بالولد لزمان الإمكان، لحق وإن أُفحمنا حيضاً وأقراءً.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ر. المختصر: 5/ 14. وعبارة المختصر تختلف لفظاً عن هذه، فهي: "فإن قيل: فكيف لم ينف الولد إذا أقرت أمه بالعدة".

(15/191)


وأبو حنيفة (1) يقول: إذا صدقناها في انقضاء العدة، واتصل ذلك بمجلس حاكم، فإذا أتت بالولد لزمانٍ يمكن أن يكون العلوق به في النكاح، لم يلحق.
وهذا في التحقيق قطعُ النسب، وإبطالُ حق الولد منه بسبب إخبارها بأنها رأت دماً، فإن خبرها عن انقضاء العدة يرجع إلى ما شاهدت من ذلك. والعلم عند الله عز وجل.
...
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 404 مسألة 911.

(15/192)


باب لا عدة على من لم يدخل بها
9814 - صدَّر الشافعي رضي الله عنه الباب بقوله تعالى: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ} [الأحزاب: 49]. وغرض الباب أن العِدد المتعلقة بطرق الفراق في الحياة مشروطة بالمسيس، والأصل فيه الآية التي ذكرناها.
ولو فرضت خَلوة خِلوَةٌ عن المسيس، فالمذهب الظاهر أن المهر لا يتقرّر بالخَلوة العريّة عن الدخول، خلافاًً لأبي حنيفة (1)، وفي المسألة قول يوافق مذهبه، وقد ذكرنا القولين في كتاب الصداق؛ فإن حكمنا أن المهر لا يتقرر بالخَلْوة، فلا تجب العدة بها، وإنْ حكمنا بأن الخَلوةَ تُقرر المهرَ، فالذي ذكره الأصحاب أنها توجب العدة.
وهذا فيه أدنى غموض، وكنت أود أن نحمل تقريرَ المهر على التمكين؛ فإن التمكين من المنافع تسليمٌ، كما إذا ألقى المكري مفتاحَ الدار المكراة إلى المكتري، وخلّى بينه وبين الدار.
فأما العدة، فكان لا يبعد في القياس ألاّ تجب وإن تقرر المهر؛ فإن تقرير المهر مأخوذ من قياسٍ في المعاوضة لا تؤخذ العدة من مثله، ولكن (2) لعل الأصحاب رأَوْا العدة عليها من آثار التسليم وتقرير الملك؛ فإن (3) التي تبين بالطلاق ليس النكاح مقرراً
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 348، مسألة: 842، المبسوط: 5/ 148.
(2) هنا يحاول الإمام أن يوجه قول الأصحاب الذين قالوا بتقرر المهر بالخلوة، ورتبوا عليه إيجاب العدة، وقد سبق أن قال في فصلٍ عن الخلوة من كتاب الصداق قريباً مما قاله هنا، من أنه كان يودّ أن يقتصر أثر الخلوة على تقرير المهر، ولا يوجب العدة.
(3) قوله: " فإن التي تبين بالطلاق ... " هذا -فيما أقدّر- عودٌ إلى الرد على الأصحاب وليس استمراراً لتوجيه قولهم بيجاب العدة، وكأنه يرى توجيه (التمكين) وتفسيره، بأنه غير كامل ولا مستمر. والله أعلم. (هذا إذا لم يكن في العبارة خرم أو تصحيف). وكل ذلك محتمل.

(15/193)


فيها، فكما يتقرر العوض على الزوج يتقرر النكاح على الزوجة، ومن أثر تقرره ألا ينبتّ. هذا هو [الممكن] (1) في توجيهه.
9815 - ثم إذا كان الطلاق رجعيّاً، فقد قال أبو حنيفة: لا نثبت الرجعة، واختلف أصحابنا في ثبوتها: فمنهم من وافق أبا حنيفة، وهذا يخرم الفقه الذي ذكرناه، ولا ينقدح فيه وجه خالصٌ عن الشوائب، والأوجه إثبات الرجعة إن أثبتنا العدة.
ثم الممكن في توجيه نفي الرجعة أن العدة وإن ثبتت، فالرجعة تستدعي كمالاً، وليست المعتدة عن الخلوة على نعت الكمال في تربصها، فكأنها على مَرْتبةٍ بين المرتبتين، فإذا أُحْوِج الفقيهُ إلى مثل هذا الكلام، لم نُقم له وزناً؛ فإن القول يتعارض فيه.
9816 - ثم فَصَل أبو حنيفة (2) بين الخلوة الصحيحة وبين الخلوة الفاسدة، وقال: لو خلا بها وهما مُحرمان أو أحدهما، أو صائمان صوم فرض، أو أحدهما، لم يتقرر المهر، ولم تجب العدة، ولهم في صوم التطوع تردد.
قال أئمتنا: إذا فرعنا على القول الضعيف ورأيْنا الخلوة مقرِّرةً، لم نَفْصل بين الخلوة الفاسدة والخلوة الصحيحة، ونقضي بتقرر المهر وثبوت العدة، ولو اعتل معتل في التسوية بإمكان الوطء حسَّاً، اعترض عليه خلوةُ المجبوب، والخلوةُ بالرتقاء، فإن الجماع غير ممكن، وقد قال أبو حنيفة: الخلوة تقرر مع هذه الموانع الطبيعية.
ولو روجعنا في ذلك، فالوجه عندنا الحكم بالتقرير مع هذه الموانع؛ فإن المصير إلى أن النكاح لا يتصور فيه تقرير فيه بُعْدٌ، والذي يجرى نهايةُ الأمر.
وفي القلب من الموانع الطبيعية كلام؛ فإن الإمكان مقترن بالصوم والإحرام، ولا إمكان مع الجب والرتق، ولو فصل فاصل بين الجب والرتق، صائراً إلى أن تمكين المجبوب يردّ العجز إليه، وهي في نفسها فعلت ما هو تمكين على أقصى الإمكان، ويجوز أن يقال: الرتقاء عاجزة عن التمكين، فقد جاء من جهتها العجزُ عن
__________
(1) في الأصل: " التمكين ".
(2) ر. مختصر الطحاوي: 203، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 348. مسألة 842.

(15/194)


الوفاء بالتمكين، ويعترض على ذلك أنها تستحق النفقة، وإن لم يكن الوقاع ممكناً، على ما سيأتي شرح ذلك، والمريضة التي يرجى زوالها من مرضها قد لا تستحق النفقة، فإنما أُتينا من جهة التفريع على قولٍ لا أصل له.
ومعتمد مذهب الشافعي صحة الأصول، والأصول الصحيحة لا تُفضي إلى مثل هذا الخبط.
9817 - ثم ذكر الشافعي أن الزوج والزوجة إذا اختلفا في الإصابة، فالقول قول مَنْ ينفيها إلا في مسائل، منها: الاختلاف في جريان الإصابة في مدة العُنّة، فإذا ادعاها الزوج وأنكرت المرأة، فالقول قول الزوج، وكذلك لو فرض مثل هذا في الإيلاء.
فإذا ادعت المرأة على الزوج الإصابةَ تبغي بذلك تقررَ المهر، فأنكر الزوج الإصابةَ، فالقول قوله.
فإذا طلقها، وجرى التنازعُ على هذا النسق، وصدقنا الزوجَ مع يمينه، فلو أتت بولدٍ لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، فالنسب ملحق، فلا ينفيه ما تقدم من حلف الزوج على نفي الإصابة، وهذا بيّنٌ.
قال الشافعي: إذا ألحقنا النسب أشعر بجريان إصابةٍ في صلب النكاح، فنعود ونقول: القول قول المرأة في ادعاء الإصابة، فتحلف، ويتقرر مهرها.
قال الربيع: " وجب ألا يتقرر المهر؛ لأن كلا الدعويين محتمل، فينبغي أن يُصدّق الزوج فيما يتعلق بنفي التقرير، ويُقضى بلحوق النسب؛ لأنه يَلْحقُ بإمكانٍ وإن بعد "، ولا بأس بما ذكره.
وهذا شبَّب بعضُ الأصحاب بموافقته، والمذهب ما نص عليه الشافعي، ووجهه أن القول في الدعاوى قولُ مَن الظاهر معه، وإذا كنا نحلّف صاحب اليد -مع انقسام الأيدي- للظاهر، فلحوق الولد يُظهر دعوى الإصابة.
***

(15/195)


باب العدة من الموت والطلاق والزوج غائب
9818 - مضمون الباب مسألة واحدة هي أن المرأة إذا طلقها زوجها في الغَيْبَة، أو مات عنها، ثم لم تعلم بموته أو طلاقه حتى انقضى زمان العدة، فإذا بلغها الخبر، فهي خليّة من العدة، ولا يضرّ عدمُ علمها بكونها في العدة.
وعن علي رضي الله عنه: أنها تبتدىء العدة من وقت ما أحاطت علماً بطلاقه، أو وفاته، لا يعتد بما مضى. وهذا مذهب مهجور لا معول [عليه] (1).
...
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(15/196)


باب عدة الإماء
قال الشافعي رضي الله عنه: " فرق الله تعالى بين الأحرار والعبيد ... إلى آخره " (1).
9819 - الأحكام على ثلاثة أقسام: منها ما يستوي فيها العبيد والأحرار، والإماء والحرائر، كوظائف الصلوات، وأصل الإسلام، والصيام، وكثير من العقوبات، كالقصاص، وقطع السرقة، والعدة بوضع الحمل.
ومنها ما لا مدخل للعبيد فيه كالولايات، والشهادات، والمواريث، وافتراض الجمعة، وحجة الإسلام.
ومنها ما يشترك الأحرار والعبيد في أصله ويختلفان في الكيفية، فيَلْحَقُ العبيدَ والإماءَ فيه نقصٌ، وهذا فيما ذكره المرتبون قسمان: منه ما يكون العبد فيه على النصف من الحر وكذلك الأمة تكون على النصف من الحرة، وذلك كالحد بالجلد، والقَسْم في النكاح.
ومنها ما تكون الأمة فيه على الثلثين كالأقراء والطلاق، وقد قيل: هذا أصله اعتبار النصف، ولكن لما لم يقبل القدَّ والتنصُّفَ، وكذلك الطلاق، كَمَّلْنا نصفَ طلْقةٍ طلقةً، ونصف قرءٍ قرءاً، وقال داود تعتد بثلاثة أقراء، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعتد الأمة بحيضتين " (2) وإنما ذكر الحيض لدلالته
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 18.
(2) حديث تعتد الأمة بحيضتين: رواه ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعاً. وقد روي موقوفاً أيضاً، رواه مالك في الموطأ، والدارقطني، والبيهقي وصححه موقوفاً. (ر. ابن ماجه: الطلاق، باب في طلاق الأمة وعدتها، ح 2079، الدارقطني: 38/ 2، البيهقي في الكبرى: 7/ 369، الموطأ: 2/ 574، إرواء الغليل: 7/ 150، 201 وقد رجحه موقوفاً وضعف المرفوع).

(15/197)


على الطهر، هذا إذا كانت الأَمَةُ من ذوات الأقراء.
فإن كانت من ذوات الشهور ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنها تعتد بشهر ونصف؛ لأن الشهر مما يتجزأ ويتبعض وإن كان القرء لا يتبعض، فينبغي أن تكون الأمة على الشطر من الحرة، كما أنها في عدة الوفاة على الشطر، منها تتربص شهرين وخمسة أيام.
والقول الثاني - أنها تعتد بشهرين؛ فإن كل شهر في مقابلة قرء، وقد تأصل فيها قرءان، وروي عن عمر أنه قال: " يطلِّق العبد تطليقتين، وتعتد الأمة بحيضتين، وإن لم تحض، فشهران أو شهر ونصف " (1) ومنهم من جعل هذا شكّاً من الراوي، ومنهم من جعله ترديدَ قولٍ من عمرَ، وهذا ظاهر الرواية، وهو شاهدٌ بيّن في أن ترديد القول ليس بِدعاً (2).
وفي المسألة قول ثالث - أنها إذا عدمت الحيض، تربصت ثلاثة أشهر، وقد قيل: أقلُّ زمان يدل على براءة الرحم ثلاثةُ أشهر، وما يرجع إلى الجبلة لا يختلف بالرق والحرية، وإنما خرّج هذا القولَ الثالث من الاستبراء، قال الشافعي: أم الولد إذا لم تكن من ذوات الحيض فعَتَقَت، فبماذا تستبرىء؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها تستبرىء بشهر واحد؛ فإنها لو كانت من ذوات الحيض، لاستبرأت بقرء واحد، فإذا كانت من ذوات الشهور، أقمنا شهراً مقام قرء.
والقول الثاني - أنها تستبرىء بثلاثة أشهر؛ لأنه أقل زمان يدل على براءة الرحم، وخرج هذا في المطلقةِ الأمةِ إذا كانت من ذوات الشهور.
__________
(1) أثر عمر رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/ 57 رقم 187، وعبد الرزاق في مصنفه (12872 وما بعده) ورواه البيهقي من طريق الشافعي بسندٍ متصل صحيح إليه، كما قاله الحافظ (ر. السنن الكبرى: 7/ 425، 426، تلخيص الحبير: 2/ 468 ح 1083).
(2) لا ينسى إمام الحرمين (شافعيّته) فهو هنا يأخذ من ترديد عمرَ الحكمَ دليلاً على أن ترديد الشافعي أكثر من قولٍ في حكم واحد ليس شيئاً بدعاً يعاب به الشافعي، كما يقول خصومُ مذهبه. كيف وقد سبقه إلى ترديد القول عمرُ رضي الله عنه، وهو من هو فقهاً وفهماً.

(15/198)


فصل
قال: " ولو عتَقَت الأمةُ قبل مضي العدة ... إلى آخره " (1).
9820 - الأمة إذا فارقت زوجها، وشرعت في العدة، ثم عَتَقَت في أثنائها، نُظر: فإن كانت بائنة، فعتقت في خلال العدة، نص في القديم على أنها تقتصر على عدة الإماء، ونص في الجديد على قولين في البائنة.
وإن كانت رجعيةً، فعتقت في أثناء العدة، المنصوصُ عليه في الجديد القطعُ بأنها تُكمل عدةَ الحرائر، وفي القديم قولان، والقديمُ يميل إلى الاقتصار على عدة الإماء، والجديد [مَيْلُه] (2) إلى الإكمال، والرجعية أولى بالإكمال من البائنة، والبائنة أولى بالاقتصار من الرجعية.
فينتظم من الجديد والقديم ثلاثة أقوال: أحدها - الاقتصار على عدة الإماء، رجعية كانت، أو بائنة.
والثاني - الإكمال، رجعيةً كانت أو بائنة.
والثالث - أنها إن كانت رجعية، أكملت عدة الحرائر، وإن كانت بائنة، اقتصرت على عدة الإماء.
توجيه الأقوال: إن قلنا بالإكمال، وهو اختيار المزني، فوجهه أن المغيّر للعدة طرأ على العدة فأشبه ما لو طرأ الحيض على الأشهر، وأيضاً في العدة مشابهُ العبادات، والعبرة فيها بحالة الأداء.
ومن قال بالقول الثاني - احتج بضرب من التشبيه، فقال: ذو عدد محصور يختلف بالرق والحرية، فالعبرة فيه بحالة الوجوب كالحد.
ومن فصل بين الرجعية والبائنة، قال: الرجعية في حكم الزوجات، والدليل عليه أنها تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة، فلا يبعد أن يلحقها موجَبُ المغيِّر الذي
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 19.
(2) في الأصل: "تحيّلٌ له".

(15/199)


طرأ، والبائنة لا تنتقل من عدتها إلى عدة الوفاة، فلا يبعد أن تلزم العدةَ التي حاضت فيها، ولا تنتقل عنها، ثم أطنب المزني في توجيه ما اختاره، وليس في نقل كلامه مزيدٌ مذهبيّ.
فصل
قال: " ولو أحدث لها رجعة ... إلى آخره " (1).
9821 - إذا طلق الرجل امرأته طلقة رجعية، ثم راجعها مرة أخرى، فإن وطئها بعد المراجعة، لم يَخْفَ أنها تستأنف عدةً إذا طلقت.
وإن راجعها ولم يطأْها، وعاد وطلقها، فهل يجب عليها عدةٌ مستأنفة بعد الطلاق أم تبني على ما كان بقي من عدتها قبل المراجعة؟ في المسألة قولان مشهوران.
ولو خالع امرأته، ثم جدد عليها النكاح في أثناء العدة، ثم طلقها قبل الدخول، فلا خلاف أنها تبني على بقية العدة، ولا [يلزمها] (2) عدةٌ مستأنفة، وإذا أصدقها صداقاً جديداً في النكاح الثاني، ثم طلقها قبل الدخول، فليس لها إلا نصفُ المهر الجديد.
وقال أبو حنيفة (3): لها تمام مهرها في النكاح الثاني، وهي تستأنف عدةً كاملة، والمسألة مذكورة في الخلاف.
فإن قيل: ما الفرق بين الرجعية تُرتَجع ثم تُطلق، وبين المختَلِعة؟ قلنا: الرجعية بالرجعة مردودة إلى أصل النكاح، وقد سبق في أصل النكاح وطء وانقطعت العدة بالرجعة، ويجوز أن يقال: إذا طلقها تستانف عدة؛ فإنها مطلقة عن نكاح جرى فيه مسيس.
وأما المختلعة إذا نكحها، فهذا نكاحٌ [جديد] (4)، وهو عريٌّ عن المسيس، فإذا
__________
(1) ر. السابق نفسه. وفي الأصل: حدث. والتصويب من المختصر.
(2) فى الأصل: يلزمه.
(3) ر. فتح القدير: 4/ 156.
(4) زيادة من المحقق.

(15/200)


طلقها، لم يقتض الطلاقُ عدة مبتدأة. فإن قيل: فأنزلوها [منزلة الرجعية] (1) تنكِح؛
فإن العدة الأولى انقطعت بالنكاح الجديد (2).
قلنا: هذا قياس لا ينكر، ولكن فيه أمر لا سبيل إلى التزامه واقتحامه، وهو أنه لو وطئها في النكاح [الأول] (3)، ثم طلقها، فلا بد من الاستبراء بالعدة، فلو نكحها على مكانتها، ثم طلقها، فلو نكحت، لكانت مشغولة الرحم بالوطء الجاري في النكاح الأول.
ثم لو قال قائل: فاكتفوا باستبرائها بحيضة. قلنا: الأصول لا تغيّر لآحاد المسائل، وقد وضع الشرع استبراء المطلقات بثلاثة أقراء، فلا حطّ من هذا المنتهى بعَوْد المختلعة إذا طلقت إلى بقية العدة، لما ذكرناه.
9822 - ثم إن الشافعي ذكر القولين " في أن الرجعية إذا طلقت من غير مسيس بين الرجعة والطلاق الثاني، فهل تستأنف عدة أو تبني؟
ثم قال: من قال تستأنف، لزمه أن يقول: لو لم يرتجعها، وطلّقها في العدة تستأنف عدة جديدة، فلا يُكتفى ببقية العدة ".
فاختلف أصحابنا في هذا اللفظ: فمنهم من جعله احتجاجاً، ومنهم من جعله تفريعاً، وبيان ذلك أن من يجري في الاحتجاج لمذهب قد يذكر شيئاًً -لا يجوز أن يُعتَقدَ- إلزاماً، فقول الشافعي محمول على هذا المحمل.
ومن حمل هذا على التفريع -وقوله أظهر- قال: لا يليق بالشافعي: الاحتجاج بهذا مع وضوح الفرق؛ فإن الرجعية إذا ارتجعها زوجها، انقطعت العدة بالرجعة، وعادت منكوحة كما كانت من قبل، فاتجه أن يقال: الطلاق الثاني يلحق منكوحةً ممسوسة، فقد بطلت العدة، وقد نُبطل مدّةً شرعية بطريان طارىء، وإذا زال تستأنف مدة أخرى، كما ذكرناه في مدة الإيلاء إذا طرأ عليها طلاقٌ أو ردّة، ثم ارتجعت
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) أي كأنها انقضت.
(3) في الأصل: الأولي.

(15/201)


المطلقة وزالت الردة، وإذا طلق الرجعية ولم يرتجعها، فالعدة لم تنقطع، فلا يظهر الاحتجاج.
والوجه حمل كلام الشافعي على ترديد القول، فإذا طلق زوجته الرجعية، فتبني أم تستأنف؟ فعلى قولين على هذه الطريقة، مرتبين على القولين فيه إذا راجعها ثم طلقها، وهذه الصورة أولى بالبناء لما أشرنا إليه.
فإن قيل: فوجهوا القولين، قلنا: من لم يوجب الاستئناف فوجه قوله بيّن؛ إذ العدة مستمرة، ويستحيل أن يقطعها الطلاق؛ فإن الطلاق يؤكد العدة، ولا يناقضها.
ومن قال: تستأنف، قال: الطلاق الجديد يقتضى حَلاً جديداً، ولولا هذا التقدير وإلا لم يكن للطلاق الثاني معنى، وكل حلٍّ يستعقب تربّصاً جديداً.
وهذا عندنا أولى من بناء هذين القولين وتقريبهما من القولين فيه إذا قال لامرأته: كلما ولدت ولداً [فأنت] (1) طالق، فولدت ولدين عن بطن واحد، فتخوض في العدة بوضع الولد الأول، وهل يلحقها الطلاق بوضع الولد الثاني الذي يخلو الرحم به؟ فعلى قولين قدمناهما.
ووجه التقريب أنا نقدر استئناف عدة، ثم نفرض هذا الطلاق على متصل العدّتين، فكذلك نقدّر إذا طلقت الرجعية كأن عدتها نكاح، فإن طلقت، فهذا ابتداء حَلٍّ، ثم يقع هذا الطلاق بين تقدير ارتفاع ما مضى وابتداء ما وجب من العدة، وتوجيه القول على حسب الإمكان أولى من هذا البناء؛ فإن القولين في وقوع الطلاق بالولد الأخير لا أعرف لأحدهما وجهاً على ما قدمت كشفَه وبيانَه.
9823 - ثم نفرع على هذا الأصل فروعاً ونبيّنها في أنفسها، ونبين بها حقيقةَ الأصل، فلو طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، فكانت حاملاً، فراجعها، ثم طلقها وهي بعدُ حامل، فإذا وضعت حملها، انقضت عدتُها على القولين، وذلك أن بقية مدة الحمل صالحة لأن تكون عدة مستأنفة، فيؤول القولان إلى التقدير.
فنقول: في قولٍ: هي في بقية الحمل في بقية العدة، ونقول في القول الثاني:
__________
(1) في الأصل: قلت طالق.

(15/202)


بقية العدة عدةٌ مبتدأة، والدليل على ذلك [أنه] (1) لو راجعها ووطئها ثم طلقها، فوضعت حملها، كفى ذلك، ولو كان الوطء بعد الرجعة يوجب عدة مستأنفة بلا خلاف، فيتجه وجه التقدير في هذه الصورة، ونقطع بأن بقيةَ الحمل عدةٌ كاملة.
وبمثله لو طلقها حاملاً ابتداء كما صورناه، ثم راجعها، فوضعت حملها في النكاح، ثم طلقها من غير مسيس، فإن فرعنا على قول الاستئناف، اعتدت بثلاثة أقراء بعد الطلاق.
وإن قلنا بالبناء، ولم نوجب عدة مستأنفة، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أنه لا يلزمها بعد الطلاق الثاني تربصٌ أصلاً؛ إذ لا سبيل إلى إيجاب عدة مستأنفة، وقد انقضت مدة الحمل.
والوجه الثاني - أنها تعتد بثلاثة أقراء؛ إذ لا بد من تربصٍ بعد الطلاق، وما جرى في حالة ردها إلى النكاح لا يقع الاعتداد به، وإذا ابتدأنا تربُّصاً، فلا موقف نقف عنده، والوجه إيجابُ التربص ثلاثةَ أقراء، فيلتقي القولان: قول الاستئناف وقولُ البناء في هذه الصورة.
9824 - ومما يتعلق بهذه الجملة أنه لو طلقها، وشرعت في الاعتداد بالأقراء، وطعنت في الطهر الثالث من عدتها، فراجعها في أثناء الطهر الثالث، ثم طلقها في الحيض، والتفريع على قولنا: إنها تبني ولا تستأنف، فعلى هذا قال القفال فيما حكاه شيخي عنه: كما (2) راجعها انقضت العدة؛ فإنها كانت في بقية طهر، فيقع الاعتداد بما مضى من الطهر.
قال شيخي: هذا كلام مضطرب؛ فإن بقية الطهر إنما يكون قرءاً إذا اتصل بالحيض في زمان التربص، والنصف الأول من الطهر يستحيل أن يكون قرءاً، بل إذا طلقها بائناً، فعليها الاعتداد بقرء.
وذكر العراقيون القولين في أن الرجعية إذا طلقت في العدة هل تبني أو تستأنف، ثم
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) كما: بمعنى عندما.

(15/203)


قالوا: لو طلقها رجعياً، ثم خالعها في العدة، وصححنا مخالعة الرجعية، قالوا: إن قلنا: الخلع طلاق، فقد ألحق الطلاقَ، ففي استئناف العدة الطريقان المعروفان للأصحاب.
وإن قلنا: الخلعُ فسخ، وجب أن نقطع بأنها تبني ولا تستأنف.
وهذا الذي ذكروه لا يقبله المراوزة، فإذا جرى سبب من أسباب الفراق: فسخاً كان أو طلاقاً، ففي استئناف العدة والبناء على بقية العدة الاختلافُ الذي ذكرناه، سواء كان ذلك الطارىء فسخاً أو طلاقاً، والسبب فيه أن قول الاستئناف يعتمد أن الفراق الطارىء حَلٌّ جديد، والحلّ يتضمن استعقاب العدة، وهذا الفقه يستوي فيه الطلاقُ الطارىء والفسخ الطارىء، بل هو في الفسخ أظهر؛ من جهة أن الفسخ يَحُل الملكَ، والطلاق الثاني لا يَحُلُ الملكَ، ولكنا نتكلف حلّه [مع] (1) مِلْك رده ورجعه.
والمذهبُ المرتضى القطعُ بأن طريان الفراق لا يوجب استئناف العدة كيف فرض، والمرأةُ تبني على البقية، وترديد الشافعي يحمل على الاحتجاج والإلزام، لا على [التفريج] (2)، وهو كقول الشافعي في مسألة اللحمان: "من قال: اللحمان جنس واحد لاجتماعها تحت اسم اللحم، يلزمه أن يقول: الثمار جنس واحد"، ثم اتفق أصحابنا أن هذا إلزام، وليس [للتفريع] (3)؛ إذ لا خلاف أن الثمار ليست جنساً واحداً.
9824/م- ثم ذكر الشافعي (4) أن الاعتبار في عدد الطلاق بحرية الزوج ورقه، وهذا ما قدمناه في كتاب الطلاق، فأما العدة، فالاعتبار فيها برق المعتدة وحريتها وفاقاً؛ فإنها الملابسة للعدة، والقائمة بتأديتها.
...
__________
(1) زيادة اضطررنا إليها لإقامة العبارة، فالمعنى الآن: أننا نتكلف القول بحلّ الملك مع أنه في الطلاق الثاني يملك ردّه ورجعَه، أي يملك إعادة (الملك). والله أعلم.
(2) في الأصل: "البقاع" والمثبت من المحقق على ضوء الجملة السابقة واللاحقة التي ستأتي بعد سطور.
(3) في الأصل: التفريع.
(4) ر. المختصر: 5/ 21.

(15/204)


باب عدة الوفاة
9825 - عدة الوفاة ثابتة على التي مات عنها زوجها، سواء جرى في النكاح دخولٌ أو لم يجر، وقيل: كانت العدة في ابتداء الإسلام سنةً كاملة، وكانت المرأة تجلس في شرّ بيتها في شرِّ أحلاسها، ثم كان تؤتى بكلب، وكانت ترمي إليه ببعرة، وكانت تعني بذلك: أن تفجُّعي على زوجي طول هذه السنة أهون وأيسر عليّ من رَمْي الكلب بهده البعرة.
وكان في ابتداء الإسلام لا إرث للمتوفى عنها زوجها، وكان يجب الإنفاق عليها في تلك السنة من التركة، بدلاً عن الإرث، ثم نسخت العدةُ على هذه الصفة، وردّت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} إلى قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. وروي أن امرأة قتل زوجها فرمدت عينُها فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يُستأذن لها في الاكتحال، فقال عليه السلام: "كانت إحداكنّ تقعد في شرّ بيتها في شرّ أحلاسها سنةً، أفلا أربعة أشهر وعشراً!! " (1).
فنقول: إذا مات الزوج، لم تخل المرأة إما أن تكون حائلاً أو حاملاً، فإن كانت حائلاً حرة، اعتدت بأربعة أشهر وعشرِ ليالٍ.
وإن كانت أمة: تربصت شهرين وخمسَ ليال بأيامها، وقال داود: الأمة كالحرة في عدة الوفاة، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: تعتد بأقصى الأجلين من ثلاثة أقراء ومن أربعة أشهر وعشر (2)، وهذا يخالف الآية؛ فإنه تعالى لم يثبت في كتابه التعرضَ
__________
(1) حديت: "كانت إحداكن تقعد في شر بيتها ... " الحديث. رواه الشيخان (البخاري: الطلاق، باب الكُحل للحادَّةِ، ح 5338. مسلم: الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام، ح 1488).
(2) أثر عبد الله بن عمرو بن العاص لم نقف عليه.

(15/205)


للأقراء في عدة الوفاة، مع انقسام النساء إلى ذوات الأقراء وغيرهن، وفَصَّل العِدَدَ عن الطلاق وَذَكر الأقراء أصلاً فيها.
هذا إذا كانت حائلاً.
9826 - فأما إذا توفي الزوج والزوجة حامل، فإذا وضعت حملها انقضت عدتها، وليس في كتاب الله بيان ذلك، وإنما أُخذ هذا من السنة، وروي أن سُبَيْعةَ الأسلمية أبِق لزوجها عبيد فاتبعهم ليردَّهم، فأدركهم فكرُّوا عليه وقتلوه، وكانت سُبَيْعةُ حاملاً، فوضعت لنصف شهر، فخطبها أبو السنابل بن بَعْكَك، فرغبت عنه ولم تردّه، فرآها يوماًً تتصنع للأزواج، فقال: أتتصنّعين للأزواج، لا، حتى يبلغ الكتاب أجله، وقال ذلك راجياً أن يعود أولياؤها الغُيّب، فيرغبوا ويحملوها على الإجابة، فجاءت سُبَيْعةُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بقوله، فقال: "كذب أبو السنابل، بل حللتِ، فانكحي من شئت " (1). وقال عمر: إذا وَضَعَتْ وزوجها على السرير لم يدفن، حلّت (2). فوضْعُ الحمل إذاً ينقضي به كل عدة.
والذي يجب التنبه له أن المتوفى عنها إذا كانت حاملاً، فممّا يدرك بمسلك المعنى أن الأربعة الأشهر والعشر إذا انقضت، والحملُ قائم، فلا سبيل إلى التزوج مع اشتغال الرحم، وإنما الذي يحيد عن القياس بعضَ الحَيْد أنها لو وضعت لدون أربعة أشهر؛ فإنها تحل.
قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: لولا حديث سُبَيْعة، لكان الأخذ بأقصى الأجلين: أجل الوضع، والأربعة الأشهر والعشر قريباً من القواعد، لمِا غلب وظهر في عدة الوفاة من التعبد، حتى أنها وجبت مع العُرُوّ عن الدخول، فإذا كنا لا نرعى في
__________
(1) حديث سُبَيْعة الأسلمية متفق عليه من حديثها، ومن حديث أم سلمة (البخاري: الطلاق، باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]، ح 5319، مسلم، الطلاق: باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، ح 3516، وانظر مصنف عبد الرزاق: ح 11722 وما بعده، التلخيص: 3/ 465 ح 1801).
(2) حديث عمر رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر (ر. الموطأ: 2/ 589 ح 84، ترتيب مسند الشافعي 2/ 53 ح 170، مصنف عبد الرزاق: 6/ 472 ح 11718، 11719، تلخيص الحبير 3/ 473 ح 1810).

(15/206)


وجوب العدة جريان ما يشغل الرحم في جنسه، كان لا يبعد رعاية المدة المذكورة في كتاب الله تعالى، مع حصول براءة الرحم بوضع الحمل، ولكن المتبع السنةُ، فلا معدل عنها.
9827 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه التعرض للسكنى في عدة الوفاة، ولسنا نخوض فيها الآن، فإنها بين أيدينا.
9828 - ثم قال الشافعي: " وليس عليها أن تأتي فيها بحيض " (1)، وهذا مما قدمناه، وغرضه الرد على مالك (2)؛ فإنه يقول: إذا كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة، فعليها أربعةُ أشهر وعشرٌ فيها حيضتان، وإن كانت عادتها في كل ثلاثة أشهر أن تحيض مرة، فعليها أربعةُ أشهر وعشرٌ فيها حيضة.
واحتج الشافعي رضي الله عنه عليه، وقال: لا ذكر للحيض في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله، والعدة قسمان: أحدهما - بالأشهر والثاني - بالأقراء، ثم ما يقع بالأقراء لا يعتبر فيه حساب الأشهر، فما يقع بالأشهر لا يعتبر فيه حساب الأقراء.
ثم ذكر بعدها أنها لو ارتابت بالحمل، فهل تنكح أم لا تنكح؟ وهذا مما قدمناه مستقصًى، [وتعرّض] (3) بعد ذلك لتوريث المبتوتة في مرض الموت وحرمانها، وقد مضى ذلك مستقصًى في موضعه.
فصل
قال: " ولو طلق إحدى امرأتيه ثلاثاً ... إلى آخره " (4).
9829 - ذكرنا أن التعويل في عدة الوفاة على الأشهر إذا لم تكن المرأة حاملاً، فإن فرض وقوع الوفاة في الجزء الأخير من شهر، وتحقق ذلك، استقبلت التربصَ
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 24.
(2) ر. عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/ 1359 مسألة: 947.
(3) في الأصل: وتفرض.
(4) ر. المختصر: 5/ 26.

(15/207)


أربعةَ أشهر بالأهلة، فتربصت بعدها عشرةَ أيام بلياليها.
فإن وقعت الوفاة في كسر شهر، وكان بقي من ذلك الشهر عشرةُ أيامٍ، من غير زيادة ولا نقصان، فقد قطع الأئمة بأنا نحتسب هذه الأيام من العشر، فنأمرها أن تتربص بعدها أربعةَ أشهر بالأهلة، ولا نقول: تُحْتَسبُ العشرُ الباقية من الأشهر حتى ينكسر الشهر الأول، ثم إذا تصرّمت الأشهر، تربصت عشرة أيام بعدها، ولكن إذا أمكن حَسْبُ تلك الأيام من حساب العشر؛ حتى لا تنكسر الشهور، فعلنا ذلك، ولا يقع العشر مع الأشهر على حكم الترتب، والغرضُ انقضاء هذه المددِ، وبعضها يقدَّر بالأهلة، وبعضها بالأيام، والغرض مُضيّها.
ولو كان الباقي من الشهر أكثرَ من عشرة أيام، فينكسر الشهر الأول لا محالة؛ لمكان ما يبقى بعد العشر، وكذلك لو كان الباقي من الشهر بعد وقوع الوفاة أقلَّ من العشر، فينكسرُ الشهر الأول لا محالة، ثم الكلام في الانكسار على ما قدمنا ذكره.
9830 - ولو طلق الرجل إحدى امرأتيه على الإبهام، ومات قبل البيان، إن لم يدخل بواحدةٍ منهما، فعلى كل واحدة أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً، فإن الأمر محمول على الاحتياط في العِدّة، وما من واحدة منهما إلا ويجوز أن تكون هي الزوجة، ولكن لا دخول بواحدة منهما؛ حتى يترددَ النظر بين الأقراء وبين الأشهر والعشر.
فإن كان قد دخل بهما نُظر: إن كانتا حاملين، فالعدة تنقضي بوضع الحمل؛ لأن الوضع تنقضي به العدد كلها: عِدةُ الوفاة وعِدة الفراق في الحياة، وإن كانتا حائلين، نظر: فإن كانتا من ذوات الأشهر، فتتربص كل واحدة أربعةَ أشهر وعشراً من وقت الوفاة، فإن كانت زوجة، فهذه عدة الوفاة، وإن كانت مطلقة، فعدتها بالأشهر، وفي الأربعة ثلاثة.
ولو [كانتا] (1) من ذوات الأقراء، اعتدت كل واحدة منهما بأربعة أشهر وعشر، فيها ثلاثة أقراء، ويعتبر أقصى الأجلين وأبعد المدتين، لأنها مأمورة بالتربص إلى أن
__________
(1) في الأصل: كانت.

(15/208)


تستيقن الخروج عما عليها، وكل واحدة منهما مردَّدة بين أن تكون مطلقة عدتُها الأقراء، وبين أن تكون زوجة عدتها الأشهر والعشر.
فأما حساب عدة الوفاة، فمن يوم الوفاة، وحساب عدة الأقراء يخرّج على الخلاف الذي قدمناه في كتاب الطلاق: من أصحابنا من قال: حساب الأقراء من وقت الطلاق، ومنهم من قال: حسابها من وقت الموت، فإنا نستيقن انتفاء النكاح وارتفاعَه يوم الموت، وقد تمهد أصل هذا.
ومعنى أقصى الأجلين أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً من يوم الوفاة على أن يمضي عليها ثلاثةُ أقراء، إما من يوم الطلاق، وإما من يوم الوفاة، فإن انقضت الأشهر والعشر، ولم تمض الأقراء، صبرت إلى انقضائها كاملة من أوّل تاريخها المعتبر.
وإن أَحْببنا قلنا: تعتد بثلاثة أقراء من أول تاريخها على شرط أن يقع فيها أربعةُ أشهر وعشرٌ من تاريخ الوفاة.
هذا بيان أقصى الأجلين.
وإن كان قد دخل بإحداهما دون الأخرى، فالتي لم يدخل بها تعتد بأربعة أشهر وعشرٍ، والمدخول بها إن كانت حاملاً، اعتدت بوضع الحمل، وإن كانت حائلاً، فبأقصى الأجلين، كما تقدم تفصيله.
9831 - ومما ذكره القفال في آخر الباب: أن المتوفى عنها زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، فلو وضعت وزوجها على السرير لم يدفن، ونفذ الحكمُ بانقضاء العدة، وحل لها أن تنكح، فلها أن تغسّل زوجها بعد وضع الحمل؛ لأن قيام العدة ليس معتبراً عندنا في الغسل؛ لأن الرجل يغسل امرأته إذا ماتت، ولا عدّة عليه.
ثم قال الأصحاب: لو وضعت، ونكَحت والزوج بعدُ لم يدفن، فلها أن تغسل الزوجَ المتوفى، ولا ينبغي للفقيه أن يرتاع من هذا؛ فإنه إذا لم يمتنع الغُسل مع انتهاء النكاح نهايته وانقضاءِ العدة، فلا أثر لنكاحها؛ فإن الزوجة لا تغسل زوجها بتقدير حِلٍّ قائم بينهما، وإنما تغسل لبقائها على عُلقةٍ من النكاح، وهذا المعنى لا يزول بالتزوج.

(15/209)


هذا ما بلغنا في ذلك، وكان لا يبعد أن يقال: تبقى تبعية النكاح ما لم تنكِح، كما أنا نلحق النسب بالاحتمال ما لم تنكِح زوجاً.
وقال الشافعي رضوان الله عليه في مذهب له ظاهر: من فاتته ركعتا الصبح، قضاهما، فإذا زالت الشمس، وتحرّم بفريضة الظهر، انقطعت التبعيّة، وهذا تشبيهٌ من طريق اللفظ، ولكنه كلامٌ على حال.
***

(15/210)


باب مقام المطلقة والمتوفى عنها زوجها
9832 - ذكر الشافعي في هذا الباب السكنى، وما يتعلق بها، ومن يستحقها من المعتدات، ومن لا يستحقها.
والأصل في وجوب السكنى الكتابُ، والسنةُ، والإجماعُ: قال الله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، قيل في التفسير: الفاحشة الزنا، والمعنى إلا أن تزني، فتخرج لإقامة الحدّ عليها، وهذا التفسير غير صحيح؛ لأنها إذا أخرجت للحدّ، رُدّت إلى مسكن العدّة بعد استيفاء الحد، فلا يتحقق الإخراج الكلي، فالصحيح ما قال ابن عباس إن الفاحشة أن تَبْذُوَ بلسانها، وتستطيل على أحمائها، فتخرجَ من دار الزوج.
وسكنى المطلقة مستفادةٌ من الكتاب.
9833 - فأما المتوفى عنها زوجها، فأمرها مستفادٌ من حديث فُرَيْعةَ بنتِ مالك: روي أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن زوجي قُتل ولم يتركني في مسكن يملكه، فقال عليه السّلام: " ارجعي إلى بيتِ أهلك، واعتدّي فيه، فلما ولّت وبلغت بعض البيوت، ناداها، وقال: اعتدي في بيتك، حتى يبلغ الكتاب أجله " (1).
__________
(1) حديث فُريعةَ بنتِ مالك رواه مالك، والشافعي وأحمد وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه كلهم من حديث سعد بن إسحاق عن عمته زينب عن الفريعة به (ر. الموطأ: 2/ 591، ترتيب مسند الشافعي: 2/ 53، رقم 175، المسند: 6/ 370، أبو داود: الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل، ح 2300، والترمذي: الطلاق، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، ح 1204، والنسائي: الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، ح 3528، 3529، 3530، ابن ماجه: الطلاق، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها، ح 2031).

(15/211)


وفي سكنى المتوفى عنها قولان، كما سنذكرهما، وفي الحديث الذي رويناه متمسّك القولين: فمن أوجب السكنى، صار إلى أن الرسول نسخ بقوله الآخرَ قولَه الأول، ورخص لها في الخروج أولاً، ثم نسخ وأوجب السكنى بقوله: "اعتدي في بيتك حتى يبلغ الكتابُ أجلَه".
و [من] (1) لم يُثبت السكنى للمعتدة عن الوفاة، استدل بأوّل الحديث، وحمل آخره على الندب والاستحباب.
وحديث فاطمةَ بنتِ قيس لا بد من ذكرها في الباب، روي أن زوجها طلقها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بأن تعتد في بيت الزوج، فاستطالت على أحمائها باللسان، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجها النبي عليه السلام من بيت الزوج، وأمرها حتى اعتدّت في بيت ابن أم مكتوم (2).
وعن مروانَ أنه أخرج مطلقةً من بيت زوجها، فأرسلت إليه عائشةُ: أن اتق الله، واردُد المرأة إلى بيت زوجها، فقال مروان: أما بلغك شأنُ فاطمةَ، فقالت عائشةُ: لا عليك أن لا تذكر فاطمة، فقال مروان: إن كان بك الشر، فحسبك ما بين هذين من الشر: [أي] (3) إن كان أخرجها بعلة الشر، فهو موجود في هذه، ثم كانت فاطمةُ تسمَّى بعد قصتها في الصحابة الفتانة؛ فإنها روت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يجعل لها النفقة والسكنى، وكانت لا تذكر سبب إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها من مسكن النكاح.
فهذا بيان القواعد التي إليها الرجوع في مسائل الكتاب.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) حديث فاطمة بنت قيس -برواياته-، رواه البخاري: الطلاق، باب قصة فاطمة بنت قيس وقول الله عز وجل {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، الأحاديث من 1321 - 5328. ورواه مسلم: الطلاق، باب المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها، ح 1480. وانظر الروايات المختلفة أيضاً في السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 431 وما بعدها.
(3) زيادة يمكن الاستغناء عنها، ولكنها تعين على فهم الكلام.

(15/212)


9834 - ثم إنا نفتتح بعد هذا القولَ في التي تستحق السكنى، وفي التي لا تستحقها، وفي التي اختلف القول فيها.
وجملة المعتدات قسمان: معتدة عن فُرقة النكاح، ومعتدة عن غير النكاح، فالمعتدة عن غير النكاح كالموطوءة بالشبهة والمنكوحة نكاحاً فاسداً، فيلتحق بهما المستولدة إذا عتَقَت بالإعتاق، أو بموت المَوْلَى عنها، فلا سكنى لواحدة من اللواتي ذكرناهن، إذا لم يكن حمل، فلا شك أن السكنى إذا انتفت، انتفت النفقة.
ولو كانت واحدة من اللواتي ذكرناهن حاملاً، ففي استحقاق النفقة كلامٌ، وتفصيلٌ، واختلافٌ، سيأتي مستقصًى في كتاب النفقات، إن شاء الله عز وجل.
فإن أثبتنا النفقة لمكان الحمل، فهل تثبت السكنى؟ الرأي الظاهر أنها تثبت؛ فإن السكنى أولى بالثبوت من النفقة.
ومن أصحابنا من قال: لا تثبت السكنى؛ فإن النفقة الثابتةَ لأجل الحمل بلاغٌ وسدُّ حاجةٍ به قوام الحمل، ولا يتحقق هذا المعنى في السكنى. ومن صار إلى إيجاب السكنى تبعاً للنفقة، [فليس] (1) يعيّن مسكناً، وإنما يوجب القيام بمؤنة السكنى.
9835 - فأما المعتدة عن فُرقة النكاح، فلا يخلو إما أن تكون معتدة عن الموت أو عن فُرقة في الحياة، فأما المعتدة عن فُرقة في الحياة، فقسمان: معتدة عن الطلاق، وعن غير الطلاق.
فالمعتدة عن الطلاق قسمان: رجعية وبائنة، أما الرجعية، فلها النفقة والسكنى، حاملاً كانت أو حائلاً؛ لأنها في حكم الزوجات، والبائنةُ لها السكنى بكل حال، ولا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً.
ثم للشافعي قولان في أن النفقة لها أو للحمل، وسيأتي توجيههما وتفريعهما في كتاب النفقات، إن شاء الله تعالى.
وأما المعتدة عن فراق في الحياة غيرِ الطلاق، فالطريقة المشهورة أن النكاح إن انفسخ بفسخ أنشأته المرأة بنفسها: بعيبٍ في الزوج، أو خيارِ عتق، فلا سكنى لها،
__________
(1) في الأصل: وليس.

(15/213)


وكذلك لو ارتضعت، وكان ذلك سببَ الانفساخ، فالكلام على ما ذكرناه.
وكذلك لو انفسخ النكاح بفسخٍ أنشأه الزوج لمعنًى فيها، فلا سكنى في مثل هذه العدة، وأمرُ النفقة في الفرق بين الحامل والحائل يأتي في النفقة، إن شاء الله.
فلو انفسخ النكاح بارتداد الزوج، أو بإسلام أحدهما، أو رضاعٍ من جهة أجنبي، ففي وجوب السكنى قولان، كما في المتوفى عنها زوجها؛ وذلك أن النكاح ارتفع من غير طلاق، ولا سبب متعلق بها.
ومن أصحابنا من قال: يجري القولان في العدة التي تترتب على فسخها أو على الفسخ بعيب فيها، وكل معتدة عن فراق عن النكاح في الحياة، ليس ذلك الفراق طلاقاً، ففي ثبوت السكنى الطريقان في القطع، وتخريج القولين.
فإن أردنا أن نفرق بين النفقة والسكنى في مجاري المذهب، [فلْنحوِّم ولا نضن بالوفاء بفرق معنًى] (1)، ولكنا نعتمد فحوى كلام الله عز وجل؛ فإنه أثبت السكنى من غير تفصيل، وفَصَّلَ الأمرَ في النفقة، فخصص وجوبَها بالحوامل، وغرضُنا الآن التعرضُ للسكنى فحسب، فأما النفقاتُ، فبين أيدينا، نفصلها في كتابها، إن شاء الله عز وجل.
9836 - والقدْرُ الذي ذكره الأصحاب أن السكنى لصيانة الماء والمعتدة على الجملة مشتغلةٌ بصيانة الماء، والنفقةُ في مقابلة تسلط الزوج،. وهذا المعنى مفقود في عدة البينونة، وليس يستمر هذا على ما ينبغي، ويَرِدُ على أحد شِقي الكلام الموطوءة بالشبهة والمستولدة في زمان الاستبراء.
فأما الصغيرة التي لا تحتمل الجماع لصغرها هل تستحق السكنى؟ ذكر الأئمة وجهين في استحقاقها السكنى، وبناهما القاضي على أنها هل تستحق النفقة في النكاح؟ فإن قلنا: لا نفقة لها، فلا سكنى لها في العدة، وإن قلنا: لها النفقة في النكاح، فلها السكنى في العدة.
__________
(1) عبارة الأصل: " فالمحرّم أن لا يضن الوفاء بفرق معنى " والمثبت تصرف من المحقق نرجو أن يكون هو الصواب.

(15/214)


9837 - وأما الأمة إذا طلقها الزوج، فلا يخلو إما إن كان السيد بوّأ لها مسكناًً مع الزوج أو لم يفعل ذلك، فإن كان عين مسكناً، فهذا يُبنى على أصلين: أحدهما - أنها هل كانت تستحق النفقة في الحياة؟ وهذا يترتب على استخدامه إياها وتركه ذلك، وتسليمه إياها إلى الزوج، فإن سلمها إلى الزوج، وكان لا يستخدمه، فلها النفقة، وعلى الكلام في أنه هل كان يجب عليه أن يسلّمها إلى زوجها حتى يسكنها حيث شاء، وفيه اختلاف قدمناه.
فإن أوجبنا ذلك وتُصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها، وهي أن السيد كان لا يستخدمها، فقد اجتمع وجوب النفقة في النكاح، وسلطانُ الزوج في إسكانها مسكناًً يريده ويعيّنه، فيبتني على ذلك وجوبُ السكنى في العدة، وإن قلنا بوجوب النفقة في الصورة التي نحن فيها بَعْدُ، وفرعنا على أنه لا يجب على المَوْلى تسليمُها، ليُسكنها الزوج حيث شاء، فإذا لم يتعين مسكن في النكاح بحكم الزوج استحقاقاً، فإذا طلقها الزوج، وهي في مسكن بحكمه رضي المَوْلى به، وإن لم يكن ذلك مستحقاً عليه، فهل يتعين عليها ملازمة ذلك المسكن الذي اتفق كونها فيه حالة النكاح عن توافق وتراضٍ؟
فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يتعين؛ فإن العدة تبع النكاح، فإذا كان لا يستحق الزوج إسكانها حيث شاء في النكاح، فلا معنى لتعيّن مسكن النكاح للعدة.
وأبْعد بعضُ أصحابنا، فقال: إذا اتفق مسكن في النكاح، وإن لم يكن عن استحقاق، تعيّن لزومُه في العدة، وهذا بعيد.
ثم إن قلنا: مسكن النكاح لا يتعين، فعلى الزوج القيام بمؤنة إسكانها، والتعيين إلى السيد، فإنا في إثبات السكنى في العدة نلتفت إلى النكاح، وكان للمَوْلَى في النكاح أن يُلزم الزوجَ مؤنةَ السكنى، فإذا وجبت النفقة، والسكنى من المؤن التي ثبتت -على التأويل الذي ذكرناه- فيجب بقاء مؤنة السكنى، وإن زالت النفقة للبينونة؛ لما ذكرنا من أن السكنى تجب حيث لا تجب النفقة.
هذا كله إذا كان السيد لا يستخدمها، فإن كان يستخدمها نهاراً، ويتركها ليلاً، ففي وجوب النفقة خلافٌ قدّمته في النكاح، فإن أوجبنا النفقة، أوجبنا السكنى في

(15/215)


العدة على التفصيل الذي ذكرناه الآن في أنها [هل] (1) تلزم مسكن النكاح، أو لا تلزمه؛ وإن قلنا: لا تجب النفقة في النكاح لا تلزم السكنى في العدة.
9838 - ولو نشزت الزوجة الحرة على زوجها، وسقطت نفقتها، فطلقها زوجها، أو مات عنها، ونعني بالطلاق الطلاقَ المُبينَ، قال القاضي: لا سكنى لهذه في العدة، كما لا نفقه لها في النكاح.
وهذا فيه نظر؛ فإن النشوز معنًى طارىء، وأصل النكاح على استحقاق النفقة ومهما (2) تركت المرأة النشوزَ، فهي على استحقاقها، فموجب النفقة إذاً قائم في النكاح، ولكن لا تجب النفقة لانعدام محل العلة، وليس كذلك الأَمة؛ فإن القول فيها في استحقاق النفقة، وفي تعيين مسكن النكاح مضطرب، كما أشرنا إليه.
فالوجه أن يقال: إذا مات زوج الناشزة أو طلقها ألبتة المبينة، فيلزمها أن تلزم مسكن النكاح؛ فإن هذا تعبّدٌ من جهة الشرع، ولقد كان لها مسكن مستحَقٌ في النكاح، فيلزمها أن تلزمه تعبّداً من الله عز وجلّ. نعم، لو لم تُلْفَ في مسكنٍ، واستمر النشوز والاستعصاء على الزوج، وعدم السكون في مسكن يعيّنه، فبانت، فهذه لم يُعهد لها مسكن نكاح، حتى يقال: إنها تلزمه إلى انقضاء العدة، ففي هذه الحالة يظهر إسقاط مسكن النكاح.
ويبقى النظر في أنها لو نزلت عن نشوزها، وطلبت مسكناًً تعتدّ فيه، فهل تجاب، وقد انكفت عن نشوزها؟ وهل يتصور الرجوعُ إلى الطاعة بعد البينونة؟ هذا محتمل جداً.
فأما إذا نشزت على زوجها في مسكن النكاح؛ فكانت لا تطاوعه، فقد سقطت نفقتها، وسقط أيضاًً عن الزوج مؤنة إسكانها، فإذا أصابتها البينونة، والحالة هذه، فهل تلزم مسكنَ النكاح؟ يظهر هاهنا أن تلزَمه رعاية للتعبّد والحقِّ الدّيني الذي لا يسقط بالتراضي.
__________
(1) في الأصل: هذا.
(2) مهما: بمعنى إذا.

(15/216)


هذا مجموع القول في اللواتي يفارقن أزواجهنّ في الحياة.
9839 - فأما المتوفى عنها زوجها، فلا نفقة لها حائلاً كانت أو حاملاً؛ لأن نفقة الحمل تسقط بالموت، وتسقط مؤنةُ الحاضنةِ القائمةِ بصيانة الولد.
وهل تستحق السكنى؟ [فعلى قولين: أحدهما - أنها تستحق] (1) كالبائنة المطلقة.
والثاني - أنها لا تستحقها؛ لأن السكنى في كتاب الله عز وجل ثابتة للمطلقات، فالمتَّبَعُ الكتابُ، في هذا الباب؛ فإن مجال القياس فيه ضيق.
والموتُ عن الصغيرة والأمةِ والناشزةِ -على قولنا المتوفى عنها تستحق السكنى- يُردّ [إلى] (2) التفاصيل التي قدمناها؛ فإن الرأي إذا اضطرب في العدة عن الحي، فهو بالاضطراب أولى في العدة عن الميت؛ فإن البائنة على الجملة تستحق السكنى قولاً واحداً، وفي المتوفى عنها قولان.
وقد انتجز الكلام فيمن تستحق السكنى وفيمن لا تستحقها.
9840 - ونحن الآن نخوض في تفصيل السكنى، ونقول: القول في السكنى يتعلق بركنين أبداً: أحدهما - التعرض للزوم مسكن النكاح.
والثاني - الكلام في إلزام مؤنة السكنى إن لم يكن للنكاح مسكنٌ معيّن.
فأما الكلام في الركن الأول: فإذا كان الزوج يساكن امرأة في مسكن مملوكٍ له، ثم طلقها البتة أو طلقة رجعية، أو مات عنها -والتفريع على استحقاق السكنى- فيتعين عليها ملازمةُ مسكن النكاح، فلو زايلته على اختيارٍ من غير اضطرارٍ، عصت ربَّها ويجب على الزوج ألا يخرجَها، ولا يزعجَها، والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، أجمع المفسرون على أن المراد مسكنُ النكاح لا غير.
هذا إذا كان للزوج مسكن مملوك.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها، وهي قريبة من عبارة ابن أبي عصرون.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(15/217)


ولو كان المسكن مكتَرى للزوج، وقد بقي من المدة ما يفي بزمان العِدة، فعليها أن تلزمَه وعلى الزوج ألا يزعجها.
وإن كانت الدار مستعارة، فإن لم يرجع المعير، وجب عليها أن تلزمه، وعلى الزوج ألاّ يزعجها، وإن رجع المعير عن العارية، فقد فات الأمر، ولا يمكنها أن تلزم مسكنَ النكاح، وسنذكر التفصيل في الركن الثاني وهو مؤنة السكنى.
9841 - أولاً (1) نُلحق بما ذكرناه كلاماً، ونقول: إذا نكح امرأة وأسكنها مسكناًً ضيقاً لا يليق بها في درجتها، ولكنها سامحت زوجَها ورضيت، فلما طلقها، لم ترض بذلك المسكن، وطلبت مسكناً يليق بدرجتها، قال العراقيون: لها ذلك، ولا يلزمها لزومُ ذلك المسكن.
ولو كان الأمر على العكس، وكان الزوج أسكنها مسكناً رفيعاً لا تستحق عليه مثلَه، فلما طلقها، قال الزوج: أنقلها إلى مسكن يليق بها، قالوا: للزوج ذلك.
وما ذكروه في الطرفين ليس خالياً عن الاحتمال، فلا يبعُد أن يقال: إذا جرت مسامحةٌ منها حتى وافاها الطلاق، لزمها المصابرةُ إلى انقضاء العدة.
وإذا كان الزوج هو المتبرع بالمسكن الرفيع، فلا يبعد من طريق التعبد أن يلزمَه إدامةُ إسكانها إلى انقضاء العدة، وفي كلام المراوزة رمزٌ إلى ما ذكرناه، والقياس ما ذكره العراقيون.
ويخرج مما قالوه أنه إنما يلزم تعيينُ مسكنِ النكاح إذا كان على قدر استحقاقها من غير فرض مسامحةٍ منها وتبرّعٍ منه، فإذا صادفها الطلاق، والحالة هذه، تعين المسكنُ، ولم يكن متعيناً في النكاح؛ فإن الزوج لو أراد نقلها مع استمرار النكاح من مسكن إلى مسكن، جاز له ذلك، ولا تبقى خِيَرةٌ إذا وافاها الطلاق في مسكن، وهذا موضع التوطئة بعْدُ، وستأتي التفاصيل والمسائل، إن شاء الله.
فهذا قول كليّ في لزوم مسكن النكاح.
__________
(1) المعنى أننا قبل أن نذكر تفصيل الركن الثاني نلحق بما ذكرنا في الركن الأول كلاماً ...

(15/218)


9842 - فإن لم يكن للنكاح مسكنٌ معيّن، ولكن كانا ينتقلان في الدور المستعارة، ثم جرى الطلاق، واسترد المعير العاريّة، فالزوج يبذل مؤنةَ السكنى، ويكتري مسكناًً لائقاً بحالها، وإليه تعيين ذلك المسكن؛ فإن العدة منسوبةٌ إليه، والغرضُ منها حفظ مائه أو الاحتباس بسبب رعاية حرمته.
هذا كلام في أصل السكنى، وانقسامِ الأمر فيه إلى الكلام في تعين المسكن الذي كان مسكنَ النكاح، والثاني في إلزام الزوج مؤنةَ السكنى إذا لم يكن للنكاح مسكنٌ متعيَّنٌ.
ويتصل بذلك لا محالة أنه يجب عليها أن تَقَرّ وتسكن موضعاً إلى انقضاء العدة، إذا لم يصادفها الطلاق في سفرٍ.
وإن صادفها الطلاق في سفر، فيأتي ذلك بعد هذا.
ثم إنا نتكلم بعد هذا التمهيد في ثلاثة فصول: فصلٌ يتعلق بتعيين المسكن.
وفصلٌ يتعلق بمنع الزوج عن المساكنة.
وفصلٌ في مؤنة السكنى عند ضيق المال.
[الفصل الأول] (1)
فأما ما نطلبه في تعين المسكن:
9843 - إذا كان للزوج مسكن مملوك، فالمرأة لا تُزعج من ذلك المسكن حتى تنقضي العدةُ على القواعد التي قدمناها، فلو أفلس الزوجُ وأحاطت الديون به، ومست الحاجةُ إلى بيع المسكن، فالأصل المعتبر في القاعدة أنا لا نُبطل حقَّ السكنى من تلك الدار أصلاً، وإن تأخرت حقوق الغرماء.
ولكن إن كانت حاملاً، فلا سبيل إلى بيع الدار؛ فإن مدة الحمل مضطربة: ربما تُجْهِض المرأةُ، وربما تلد لستٍّ أو لتسعٍ، أو لأربعِ سنين، فيمتنع البيع للجهالة التي
__________
(1) العنوان من عمل المحقق.

(15/219)


ذكرناها، وكذلك إذا كانت من ذوات الأقراء، فلا يصح بيع الدار؛ [إذ] (1) الأقراء تختلف، ولا ضبط لأكثر الطهر.
وإن كانت معتدة بالشهور، نظر: فإن كنا لا نتوقع طريان الأقراء على الشهور، فالمذهب الذي عليه التعويل أن بيع الدار قبل انقضاء الأشهر يخرّج على القولين في بيع الدار المكراة؛ وذلك لأن الدار مستحَقَّةُ المنافع في هذه المدّة، فصار كما لو كانت مستحَقَّةَ المنفعةِ للمستأجر.
وذكر العراقيون وجهاً آخر أنا نقطع بمنع البيع، بخلاف الدار المكراة، واعتلوا بأن قالوا: قد تموت المعتدة في أثناء المدة، فتنقطع العدة، فهذا إذاً [يجرّ غَرَراً] (2) من هذا الوجه، وزعموا أن هذا لا يتحقق في الإجارة؛ فإن المستأجر لو مات لم يبطل حقه، بل ينتقل إلى ورثته، ولو فرض من المكتري فسخُ الإجارةِ، فقد يقول قائل: للبائع المكري إمساك الدار إلى انقضاء المدة. وقد فصلنا هذا في كتاب الإجارة والبيع.
وهذا الذي ذكروه غيرُ سديد؛ فإن أمر البيع لا يحمل على تقدير الموت، وشواهدُ ذلك في بيع الأعيان والسّلم واضحة.
هذا إذا كنا لا نتوقع طريانَ الأقراء على الشهور.
فأما إذا كنا نتوقع طريانَها، فللأصحاب طريقان: منهم من قطع بفساد البيع لتوقع طريان القرء، ثم الأقراء لا ضبط لها.
ومنهم من قال: الحكم بمقتضى الحال وهي من ذوات الشهور، فيخرج البيع على القولين، ثم إن صححنا البيعَ، فطرأ الحيض، فهذا عندنا يضاهي طريانَ اختلاط الثمار قبل القبض؛ فإنا نقول: لو كانت الثمار تختلط بطباعها لا محالة، فالبيع باطل، وإن اتفق اختلاطٌ طارىء، ففيه الخلاف المشهور في كتاب البيع، وليس هذا كطريان الإباق على العبد؛ فإن ذاك لا يبنى عليه الأمر، وطريان الحيض على مشاهدة من حكم الجبلّة كاتفاق اختلاط الثمار.
__________
(1) في الأصل: إن.
(2) في الأصل: "يجد عذراً" والمثبت من المحقق رعاية للسياق.

(15/220)


9844 - ويتم الغرض بسؤالين والجواب عنهما: فإن قيل: منعتم بيع الدار إذا كانت حاملاً، فما قولكم لو قال المشتري: منتهى مدة الحمل معلومة، وأنا آخذ بامتداد الحمل إلى أقصى مدة له، وأرضى، فنقول: هذا رضاً مع تحقق الغرر، وإذا فرض غرر مؤثر في العقد، لم ينفع الرضا فيه، وهذا بمثابة ما لو باع رجل عبداً بمالٍ، وعُلم قطعاً أنه لم يبعه بأكثر من مائة، فقال مالك الدار: بعتك الدار بما باع به فلان عبدَه، وطابت نفس المشتري بالمائة التي هي الأقصى، فلا يصح البيع.
والغررُ المجتنب المؤثر في العقد ينقسم: فمنه ما يثير نزاعاً، وهو مفسد، ومنه ما لا يثير نزاعاً ولكنه غرر بيّن، فلا يمتنع أن يكون مفسداً تعبداً من الشارع، [والقواعد] (1) التعبدية في المعاملات لا ترتفع بالتراضي.
9845 - فإن قيل: هلا بنيتم الحمل على الغالب؟ أم هلا قلتم: إذا كان للمرأة عادةٌ في الحيض مطردة، فيقع الأخذ بها، حتى نحكم بالصحة على قول تصحيح بيع الدار المكراة؟ والسؤال يتأكد بشيء وهو أنه إذا لم يكن للنكاح مسكن، فقد نقول: تطلب المرأة مؤنةَ السكنى لأيام عادتها. هذا ظاهر المذهب، على ما سنذكر، إن شاء الله تعالى.
فإذا كان يتعلق حقُّ طلبِ المرأة بمؤنة السكنى لمدة العادة، وإن كان في ذلك إيقاع حيلولة بين الغرماء وبين ما يفوت من المال لأجل السكنى بناء على ظاهر العادة، فهلاّ قلنا: بيع الدار وساكنُها ذاتُ الأقراء يبنى على ظاهر العادة، ويخرَّج على [قولي بيع الدار المكراة] (2)؛ والجواب: أنا لا نسلم إلى المرأةِ المالَ حتى تتصرف فيه؛ فإن حظها في السكنى، لا حقَّ لها في المال الذي تُحصّل به السكنى، وإفرازنا شيئاً من المال يغلب على الظن [تعلّقُ الاستحقاق به ليس بدعاً] (3) في قسمةٍ بين أقوام.
وعلى هذا بنينا وقف أموالٍ في التركات للخناثى وللحمل المنتظر، ثم جرى
__________
(1) في الأصل حرفت الكلمة إلى كلمتين هكذا: "والقول عد".
(2) في الأصل: على قولي أولا بيع الدار المكراة.
(3) في الأصل: " تعلق الاستحقاق وليس بدعاً " والتصرف بالزيادة والحذف من المحقق.

(15/221)


الوقف في تلك الأصول مع تقابل الإمكانِ من غير ترجح، فإذا وقفنا هاهنا مقداراً بناء على ظاهر العادة، لم يكن ذلك بدعاً، وقد نقف ثَمَّ شيئاًً بين من يرث قطعاً وبين من يجوز أن يحجب أصلاً، فإذاً لم نأت بأمرٍ غريب، غير أنا لم نتجاوز العادة؛ إذ لا منتهى للأقراء تقف [عنده] (1).
هذا منتهى قولنا في هذا الطرف.
فأما البيع [فقد] (2) تعبدنا فيه باجتناب الغرر، وامتناعُ التسليم في الحال [غررٌ] (3) ناجز، وفي زواله غررٌ، ونحن وإن قلنا: العادات قد تطرد، فيغلب فيها نقصان اليوم واليومين، وهذا القدر يظهر الغرر، فاستمر وجوب القطع ببطلان البيع، وخرج الجانب المقدم على الوقف الذي ليس بدعاً، وليس عقداً فينقدح فيه غرر، وهذا فقيه متين.
فإن قيل: هلا احتُمِل ما تتوقعون من زيادةٍ ونقصانٍ احتمالَكم ذلك في بيع الدار المشحونة بالأمتعة للبائع؟ قلنا: ذاك الاشتغال غير محتفلٍ بأصله، فلا ينظر إلى تفصيله، ولذلك قطعنا القول بصحة بيع الدار المشحونة، وأجرينا في بيع الدار المكراة القولين.
وقد انتجز الغرض به في هذا الفصل.
فأما
الفصل الثاني
وهو الكلام فيما تُضارِب المرأة [به] (4) عند ضيق المال، وضرب الحَجْر.
9846 - قال الأئمة: إن كانت المرأة تعتد بالأقراء وقد أفْلس الزوج، وحُجِر عليه؛ فإنها تضارب بمؤنة السكنى لزمان عادتها الغالبة -إن كانت لها عادة-.
__________
(1) في الأصل: عندها.
(2) زيادة من المحقق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

(15/222)


ونحن نفصل ذلك، فنقول: إن كانت من ذوات الشهور، فمبلغ ما تضارب به أجرةُ ثلاثةِ أشهرٍ، وإن كانت من ذوات الأقراء وعادتُها مختلفةٌ، فإنها تضارب بأجرة أقل ما يتصور انقضاء العدة به.
وإن كانت لها عادة مستقيمة، فظاهر المذهب أن مضاربتها تقع باعتبار زمانِ عادتِها.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنها تضارب بالأقل أخذاً باليقين، ولا تعويل على العادة، وهذا ضعيفٌ، وقد يَنظُر المبتدىء إليه فيهَشُّ إليه مستمسكاً باليقين، وهذا باطل؛ فإنا لسنا نسلم ما تضارب به إليها، ولا نسلطها على التصرف فيه، بل نتركه عتيداً موقوفاً، وقد ذكرنا أن الوقف مُهيّأٌ لمَظِنةِ الإشكال، فلا معنى للاقتصار على الأقل، ولولا أنا لا نجد مَرَدّاً، لو جاوزنا العادة، لكان نظرنا في مجاوزتها، من جهة أن الغرماء يتسلطون على ما يسلّم إليهم، والقدر الذي نَقِفُه لا نضيِّع فيه حقّاً، بل نرتقب ما يكون، ولكن ليس وراء العادة مَردٌّ.
ولو كانت معتدةً بالحمل، فالمذهب أنها تضارب بمؤنة السكنى في تسعة أشهر، فإن هذا هو الغالب الذي إليه الرجوع، وذهب بعض أصحابنا إلى أن المضاربةَ تقع بمؤنة السكنى لمدة ستة أشهر. وهذا المسلك ضعيفٌ في الأقراء، كما ذكرناه، وهو على نهاية الضعف في الحمل؛ فإن الستة الأشهر مدةُ وضع الحمل الحيّ المستقل، ونحن نقضي بانقضاء العدة إذا أَجْهَضَت جنيناً بدأ التخطيط فيه، فينبغي أن يكون الأقل المعتبر مناسباً [لغرض] (1) انقضاء العدة، لا لبقاء الولد، ولا ضبط للأقل الذي يحصل الانقضاء به.
فإن قيل: بناء الفصل على أن الوقف لا يستدعي يقيناً، فهلا وقفتم المؤنةَ، أم هلا ضاربتم بالمؤنةِ لأربعِ سنين؟ قلنا: هذا لم يصر إليه من الأصحاب صائر؛ من جهة أنه على نهاية البعد، وتنقرض العصور والمئون من السنين ولا يبقى حملٌ أربعَ سنين، وهذا يناظر لو قيل به مجاوزةَ العادة مع النظر في سن اليأس؛ أخذاً بإمكان التباعد.
__________
(1) في الأصل: لفرض.

(15/223)


9847 - هذا منتهى الكلام في هذا الغرض، [ويُبنى] (1) عليه سؤال يرتبط به الفصلان في إشكالٍ مع الجواب عنه، فإن قيل: المضاربةُ بالمؤنة إذا لم يكن للزوج مسكن مملوك، وقلتم إذا كان للزوج مسكنٌ مملوك، فالمرأة تُقدَّم بحق السكنى، ويؤخرُ حقوق الغرماء.
قلنا: الفرق بين الأصلين أنه إذا كان للزوج مسكن مملوك، فهو متعيَّن لسكنى العدة، والمرأة فيه مختصةٌ به اختصاص المرتهن بالعين المرهونة. والحقوقُ المتعلقة بالأعيان مقدمةٌ على الديون، وإذا لم يكن للنكاح مسكن متعين، فإنما يتعلق حقها بمؤونة مُطْلَقةٍ، سبيلها سبيلُ الديون التي تلزم الذِّممَ، فجرت المضاربة على نحو ما ذكرناه.
فإن قيل: قد قدمتم فيما أسلفتم تردداً في تقديم حقوق الله تعالى على حقوق الآدميين، وفي عكس ذلك، فهلاّ قلتم: مؤنة السكنى في العدة من حقوق الله؟ قلنا: هذا خيال لا أصل له؛ فإن حق الله السكون؛ إذ لو تبرعت هي وبذلت المؤنة من مال نفسها، لكان ذلك ممكناً.
9848 - وتمام البيان في الفصل أن المرأة إذا كانت معتدة بالأقراء، وكانت معتادةً، لها عادةٌ مستقيمةٌ، فلو زعمت أن عدتها انقضت بدون العادة، وقبلنا قولها، فالفاضلُ من هذا القدر إلى تمام عادتها مردود على الغرماء.
وإن زعمت أن عادتها زادت على ما عَهِدَتْه، فأحكام العدة باقية عليها، وذكر العراقيون ثلاثة أوجه في أنها هل تضارب بمزيدٍ في مقابلة ما ادعته من الزيادة، وجمعوا إلى الأقراء الحملَ، وطردوا فيها الأوجُهَ: أحدها - أنها لا تستحق مزيداً أصلاً، وقد انحسم الباب بما تقدم؛ إذ لو فتحنا هذا، لقدَّرنا مزيداً على ما ذكرت إلى غير ضبط، وقد تدعي تباعدَ الحيضة، ونقع في أمر لا ينفصل.
والوجه الثاني - أنها مصدَّقةٌ تستحق المضاربة بما ادعته؛ إذ النسوة مصدقات فيما يتعلق بانقضاء العدة.
__________
(1) في الأصل: فيبنى.

(15/224)


والوجه الثالث - أن ذلك إن كان في الحمل، وزعمت أنها حاملٌ بعدُ، فإنها تضارب؛ إذ للحمل أمرٌ محدودٌ على حال.
وإن كانت من ذوات الأقراء، فلا تستحق مزيداً، فإنا لا نجد في الأقراء مرجعاً إلا إليها، وتصديقُها في ذلك يُفضي إلى إثبات مغارمَ عظيمةٍ بعيدةٍ عن الإمكان.
وهذا الذي ذكروه فيه إذا لم يعترف الغرماء بتصديقها، فأما إذا اعترفوا بتصديقها، فلا شك أنها تضارب بالمزيد، وتسترد من الغرماء حصة تلك الزيادة.
وحقيقة هذه الأوجه آيلة إلى أنها إذا ادعت مزيداً هل تصدق؟
9849 - ولو لم تكن المسألة مفروضةً في [الإفلاس] (1) وضيق المال، وقد طلق الرجل امرأته، وجرت في العدة، فالزوج يُسكنُها على حسب ما ذكرناه، فلو كانت لها عادة، فادعت مزيداً على العادة، فالذي يدل عليه كلام الأصحاب أنها تُصدَّقُ هاهنا وجهاً واحداً بخلاف ما ذكرناه.
والفرق أنا إذا قسمنا المال وبنينا المضاربة على أقدارٍ معلومة، [جرّ] (2) ذلك مناقضةً يعسر بعضها، فكان التردد لهذا السبب، وهذا المعنى لم يتحقق في حق الزوج، على أني لا أُبعد فيه أيضاً احتمالاً بسبب أنا لو صدقناها، لتمادت كذلك في دعواها إلى سن اليأس، وهذا أمر مجحف بالزوج.
وأما ما ذكروه من الفصل بين الحمل وبين الأقراء، فالذي أراه أنهم إن اعترفوا بالحمل، فالأصلُ عدمُ الولادة قطعاً، ويتعين [الرجوع إلى نفيها، وعلى من يثبتها الحجةُ] (3)، وليس من حق هذا أن يدرج في الخلاف مع الأقراء، حتى يُفرضَ في الحمل والأقراءِ وجهان مطلقان، ونُفصِّلَ في الوجه الثالث بينهما. نعم، إن أنكروا كونها حاملاً أصلاً، فيتجه حينئذٍ إدراجُ هذه الصور في الخلاف، وردُّ الأمر إلى التفصيل في الوجه الثالث.
__________
(1) في الأصل: الإتلاف. وهو تصحيف عجيب.
(2) في الأصل: " جرى ".
(3) عبارة الأصل: الرجوع إلى نفيها الولاه وعلى من يثبتها الحجة.

(15/225)


فأما
الفصل الثالث
فمقصوده القول في مساكنة الزوج المعتدةَ.
9850 - فنقول: إذا كانت تعتد في مسكن النكاح، فليس للزوج مساكنتُها، إذا كانت المساكنة تؤدي إلى المضارّة، والمضارّة إنما تُتَلقَّى من المرافق، والمرافقُ التي هي العماد، وعليها التعويل: بيتُ الماء، والمطبخ، وبئر الماء. هذه المرافقُ؛ فإذا اتَّحدت، فليس للزوج أن يسكن قُطْراً من الدار، [وإن] (1) كانت فَيْحاً متسعة الأرجاء؛ فإن المرافق إذا كانت تقع مشتركة، فالضرر يتحقق لا محالة، والتناوب على المرافق [شديدٌ غيرُ محتمل] (2) سيّما بيت الماء.
وأما الممر والمجرى إلى خارج، فلسنا نرعى ذلك -والمعتدةُ حقها أن تلزم المسكن- فليس الممرُ من المرافق التي يليق بحال المرأة في العدة.
ولو كان في الدار حجرة منفردة بمرافقها على ما ذكرنا في تفسير المرافق، وكان الزوج يسكن الحجرة وهي مستقلة بمرافقها، فالمرأة تسكن الدار أو على العكس، فهذا ليس بمساكنة، ولا بأس بما ذكرناه.
9851 - ومما يتعلق بالمساكنة أنه لا يحل للرجل أن يخلو بالمرأة في العدة، كما لا يحل له أن يخلو بأجنبية، وهذا يطرد في الرجعية [اطِّراده] (3) في البائنة؛ فإن الرجعية في حكم التحريم بمثابة البائنة.
ثم فسر الأئمة الخَلوةَ، فقالوا: إذا اتحدت المرافق، فلا يحل للزوج سكونُ الدار معها، ولو ساكنها كان خالياً بها. ولو كان معها محرم، فليس الزوج مستخلياً بها، ولو كان مع الزوج في الدار زوجةٌ أخرى، أو كان معه واحدةٌ من محارمه، فليس
__________
(1) في الأصل: إن.
(2) في الأصل: غير شديد المحتمل. والتصرف من المحقق.
(3) في الأصل: اطرادها.

(15/226)


الزوج مستخلياً بالمعتدة، وإن كانت أجنبية ووقع الفرضُ فيها من غير عدة، فلا خَلوةَ، إذا تُصورت المسألة بالصورة التي ذكرناها.
وكذلك لو كان في الدار جاريةٌ للزوج، فلا خَلْوةَ، ولو خلا الرجل بأجنبيتين، أو مُعتدَّتين، أو بجمعٍ من النسوة، فهذا تردد الأصحاب فيه، فمنهم من رآه خَلْوةً؛ فإن كل واحدة منهن بالإضافة إلى الزوج كصاحباتها، ومنهم من قال: هذا ليس بخَلْوةٍ؛ فإن من اجتمع مع نسوة، فاجتماعهن يمنعه من الإقدام على محذور في غالب الأمر.
وهذا الاختلاف مأخوذ من تردد الأصحاب في أنه إذا اجتمعت نسوة لا محرم معهن. فهل يلزمهن أن يخرجن بأنفسهن إلى الحج، وأطلق الأصحاب من ذلك قولاً، فقالوا: إذا اجتمع مع الرجل والمرأة من يحتشمه الرجل، فلا يكون مستخلياً بها، وتفصيل هذا ما قدمناه.
ولكن ينشأ فما ذكرناه الآن أنه لو كان معهما صغيرة لا تميز أو مجنونة، فلا معوّل عليها؛ فإنها لا تُحتَشَم، ولو كان معهما مراهقةٌ مميزة تعقل، وتصف، وتذكر، وتحكي، [قالوا:] (1) ظاهرٌ عندنا أن ذلك يمنع من حصول الخَلْوة، والعلم عند الله.
ولو خلا رجلان بامرأة، فظاهر ما ذكره الأصحاب أن هذا خَلوة، وليس كخَلْوة الرجل بامرأتين، ولهذا لم نوجب على المرأة الفردة أن تخرج حاجّة مع جمع الرجال من غير زوج ولا محرم، وترددوا في خروج نسوة مجتمعات مع جمع الرجال.
ومما يتعلق بتمام الغرض في ذلك أن الدار لو كانت مشتملة على حجرة، فسكنت المرأة حجرةً منفردةً بمرافقها، وسكن الرجل الدار ذات المرافق، نُظر: فإن كانت الحجرة يُغلق بابها، فإذا فعلت ذلك، فلا خَلوة، وإن لم يكن للحجرة بابٌ، وبابُ الدار مغلق على الدار والحجرة، فالرجل مستخلٍ بها، وإن كان لا يراها، ولو كانت الحجرة ذاتَ باب له أغلاق وأرتاج، ولكن مرافقها في الدار، ولا ثالث، فالرجل مستخلٍ بها.
هذا تفصيل الخَلْوة.
__________
(1) في الأصل: قال. والقائل هم الأصحاب، فسياق الحديث والحكاية عنهم.

(15/227)


9852 - ونحن نذكر بعد ذلك أمرين يتعلق بينهما سرُّ الفصل: أحدهما - الخَلوة، وهي محرمة لله تعالى. والثاني - المضارّة، والمرعي فيه جانبها، وبيانه أنه لو ساكنها مساكنةَ مستخلٍ عصى ربَّه، وإن رضيت، ولو كان في الدار من يمنع حضورُه الخَلوةَ، ولكن كانت المضارَّة تظهر لاتحاد المرافق، فهذا يتعلق بخالص حقها، فإن احتملت هذه المضارّة، لم يعصِ الزوجُ، وإن أبت، وجب على الزوج الخروجُ رعايةً لحقها، قال الله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، فاستبان أن المساكنة تشتمل على ما يتعلق بحق الله تعالى، وهو لا يسقط بالرضا، وإلى ما يتعلق بحقها.
والله أعلم بالصواب
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
9853 - إذا (2) كان أسكنها مسكناً ضيقاً في النكاح لا يليق بها، ولكنها احتملته طلباً للأُلفة، فلما طلقها أبت أن تبقى، فالذي ذكره العراقيون أن لها أن تطلب مسكناًً، فليقع البناء على هذا؛ فإنه ظاهر.
ثم قال العراقيون والقاضي: على الزوج أن يطلب لها أقربَ مسكن إلى مسكن النكاح، ورأَوْا ذلك حتماً لا يسوغ إسقاطُه، وشبه القاضي ذلك بتفريعٍ لنا على قول نقل الصدقة، وقال: إذا منعنا نقلها، فعدِم من عليه الزكاةُ المستحقين في وطن الزكاة، فعليه أن ينقلها، ثم إنه ينقلها إلى أقرب المواضع، وهذا مما قدمت ذكره في نقل الصدقات في كتاب قَسْمها.
فالذي أرى القطع به هاهنا أن رعاية القرب من مسكن النكاح لا يجب أصلاً،
__________
(1) هذه البسملة موجودة في الأصل. وقد تركناها تيمناً وتبرّكاً.
(2) كان هنا في الأصل علامة أو عنوان (فصل) ولا معنى له هنا، فهو ذيل لفرعٍ من فروع الفصل السابق، ثم إن الإمام ختمه بما يدل على أنه ليس فصلاً مستقلاً، فقد قال: "وقد انتجز الوفاء بالفصول الثلاثة" أي التي كان وعد بها وقد مضت بموضوعاتها على ما رسم الإمام، فعدُّ هذا التعليق فصلاً تكون الفصول به أربعة وليست ثلاثة.
وعندي أن هذا من عمل الناسخ، والظاهر أنه كان قد أنقطع فترة ثم لما عاد استأنف بالبسملة وكلمة (فصل). لا يصح إلا هذا. إن شاء الله.

(15/228)


ولست أرى لهذا متمسَّكاً في الوجوب، بل أرى له أصلاً في الاستحباب. نعم، لا سبيل إلى الخروج من البلدة، فإنها منسوبة إلى سكون البلدة، ولو علل من أوجب رعاية القرب بهذا، لكان أمثلَ، ولا أصل له. وقد انتجز الوفاء بالفصول الثلاثة.
فصل
قال: " وإن كانت هذه المسائل في موته ففيها قولان ... إلى آخره " (1).
9854 - وذكر الشافعي إلى هذا الموضع تفصيلَ القول في مسكن المطلقة في العدة، واستفتح من هذا الموضع تفصيل مسكنِ المعتدة عدةَ الوفاة، وقد قدمنا اختلاف القول في أنها هل تستحق السكنى أم لا، ووجهنا القولين بما وقع الإقناع به.
فإن قلنا: إنها تستحق السكنى، فيتعين لسكناها مسكنُ النكاح، كما قدمنا ذلك في المطلقات، وإن لم يكن للنكاح مسكن، فالقول في مؤونة السكنى على حسب ما مضى، وإن فُرضت ديون، فالتركة في حكم مال المفلس المحجور عليه، ولا معنى لإعادة الفصول.
وإن قلنا: إنها لا تستحق السكنى، فلو تبرع الوارث وأسكنها مسكنَ النكاح [أو] (2) عَيّنَ لها مسكناًً، فهل يلزمها المسكن الذي عينه الوارث؟
ما حصلتُه من كلام الأصحاب أن ذلك إن كان في عِدَّةٍ يترتب وجوبها على شغل الرحم، فيتعين على المرأة أن تسكن حيث يُسكنها الوارث، وذلك بأن يطلّق امرأته ألبتة، ثم يموتَ عنها ولا يخلِّفَ مالاً، فإذا تبرع الوارث بتعيين مسكن، لزمها اتباع حكم تعيينه، إذا لم يكن عليها ضرار من جهة ضيق المسكن.
9855 - وإن كانت العدة غيرَ مترتبة على شغل [الرحم] (3) كعدة الوفاة، نُظر: فإن كانت مشغولةَ الرحم بولد أو تقديرِ ولد مترتب على وطءٍ، فالأمر على ما ذكرناه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 30.
(2) في الأصل: لو.
(3) سقطت من الأصل.

(15/229)


وإن لم تُزفّ إليه، فهي غيرُ مشغولة [الرحم] (1) إذا كان الحالة هذه، ففي هذا ترددٌ للأصحاب: منهم من قال: إذا لم نوجب لها السكنى، فهي بحكم نفسها، غيرَ أنه يجب عليها لله تعالى أن تسكن سكون المعتدات، وذلك إنما يتأكد حقه عند فرض صون الماء وما نحن فيه لا يستند إلى ماءٍ مصون بالعدة.
ومن أصحابنا من قال: مهما تبرع الوارث بتعيين مسكن تعين عليها أن توافقه؛ فإن الوارث تارةً يدعي حرمة الماء، وتارة يدعي حرمة الزوج الذي منه العدة.
فإن لم يتبرع الوارث، أو لم يكن له وارث، فليس للسلطان أن يتبرع بإسكانها من بيت المال إلا أن تحتاج وتفتقرَ، ويُلزمها الشرع أن تلزم مسكناًً، وهي لا تملك ما يفي بمؤنة المسكن، فالسلطان يتداركُها حَسَبَ ما يتداركُ المحاويج.
وإن كانت تُزنّ بريبةٍ (2)، فعلى الإمام أن يحصِّنها ويعيّن مسكناًً مرقوباً، وهذا من الأسباب المؤكدة لجواز بذل مال بيت المال، وقد ذكرنا طرفاً من ذلك في قَسْم الفيء والغنائم، وغوائل هذا الفن تتعلّق بالإيالة الكبيرة، ولعلنا نجمع فيها قولاً يشفي العليل ونبدي ما عليه التعويل.
فصل
قال: " ولو أذن لها أن تنتقل ... إلى آخره " (3).
9856 - ذكر الشافعي رضي الله عنه ثلاثة فصول ونحن نأتي بها مفصلة، ونلحق بكلٍّ مسائلَه ونستعين بالله تعالى.
الفصل الأول
فيه إذا أذن الزوج للزوجة في الانتقال من مسكن قبل أن يطلقها، ثم يطلقها أو يموت عنها.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) تزنّ بريبة: أي يظن بها السوء. والفعل: زنّ مثل ظنّ، وزناً ومعنى، تقول: زننته زنّاً: أي ظننت به خيراً أو شراً، أو نسبته إلى ذلك، وفيه قول حسان: حصانٌ رزان ما تزنّ بريبةٍ (المصباح).
(3) ر. المختصر: 5/ 31.

(15/230)


9857 - ومقصود هذا الفصل نفصله بمسائلَ، منها: أنها لو انتقلت إلى دارٍ أخرى والبلدةُ واحدة في جميع مسائل هذا الفصل، ولا خروجَ منها، ولا مسافرةَ، فإذا أذن لها في الانتقال، فانتقلت، ثم صادفها الطلاقُ، لزمها أن تلزم المسكن الذي انتقلت إليه؛ فإن الاعتبار بالمسكن الذي يصادفها الطلاق فيه. وهذا ظاهر.
ولو انتقلت ببدنها، وخلّفت أمتعتها، وأظهرت الانتقال، ثم كانت تنقل الأمتعة بالخدم أو الأُجَراء، فإذا صادفها الطلاق، وهي في المنزل الثاني، اعتدت فيه، ولا اعتبار بالأمتعة،: خلافاً لأبي حنيفة (1)، فإنه اعتبر المتاع، وزعم أنها لو انتقلت ببدنها ومتاعُها متخلفٌ، فالاعتبار إذا طلقت بالمسكن الذي فيه أمتعتها.
9858 - ومن المسائل أنها بعد ما أذن الزوج لها في الانتقال لو أَجْرت تقدّمَ أمتعتِها إلى المنزل الثاني، وهي بعدُ قارّةٌ في مسكن النكاح، فإذا صادفها الطلاق وهي كذلك، اعتدت في المسكن الأول، وإن نقلت الأمتعة وعزمته (2)، وأبو حنيفة خالف في هذه الصورة، وينتظم من مذهبنا في الصورتين أن الاعتبار بالبدن لا بالأمتعة.
ولو قدمت الأمتعةَ إلى المنزل الثاني، وخرجت تؤمّ ذلك المنزل، فصادفها الطلاق في الطريق، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: وجهان ذكرهما القاضي، وزاد العراقيون ثالثاً: أحد الوجوه - أنه يتعين عليها الانتقال إلى الثاني والاعتدادُ فيه.
والثاني - أنه يتعين عليها الانقلابُ إلى مسكن النكاح؛ فإنها مقرّة على المسكن الأول ما لم تنتقل، ولم يتحقق الانتقال بعدُ.
والوجه الثالث -الذي حكاه العراقيون- أنها بالخيار بين المنزلين: للأول حكم الاستدامة، والثاني حكم الانتقال، وقد تقلَّعت عن المسكن الأول بالانفصال عنه، وإذا تقابل هذان الوجهان، أنتجا تخيّراً.
والذي يغمض في هذا الفصل أن الزوج لما أذن لها في الانتقال لو أخذت تنقل الأمتعةَ بنفسها، فتمرّ وتجيء، وهي في ذلك لا تقصد بكل خَرْجةٍ ألاّ تعود، ولا بكل
__________
(1) ر. فتح القدير: 4/ 166.
(2) كذا: ولعل المعنى وعزمت الانتقال.

(15/231)


دخلة أن تقيم في المنزل الثاني، غير أنها كانت تصحبُ الأمتعةَ، أو كانت تنقلها بنفسها، فكيف السبيل؟ وما الوجه؟
قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا انتقلت وقصدت الانتقال، ثم عادت إلى المسكن الأول لنقل متاعٍ، فصادفها الطلاق، فهي مضافة إلى المنزل الثاني، فلتعتدّ فيه، وهذا مفروض فيه إذا دخلت المنزل الثاني دخول منتقلة، غيرَ أنها خرجت وعادت إلى الأول لغرض النقل.
فأما إذا لم تُنجز بعدُ الانتقالَ، ولكن كانت في ترددها قاصرةً حركاتها على نقل المتاع، فهذا محل قصد النظر.
والرأيُ المبتوتُ أنها إذا كانت كذلك، فصادفها الطلاق في المنزل الثاني، فلا شك أنها تعتد فيه لاجتماع معنيين: أحدهما - كونُها في الدار حساً، والآخر - أنه محلّ قرارها، ولم يبق عليها شغل إلا نقلُ أمتعة، فيلحق هذا بتنجيزها قصد الانتقال، واعتقادها أنها انتقلت، وعليها شغل ستردد فيه.
ولو صادفها الطلاق وهي في المنزل الأول، وقد اتفق لها دَخْلةٌ أو دخلات في النقل، فهذا فيه احتمال: يجوز أن يقال: يُعتبرُ مكان المصادفة؛ فإنها لم تُنجز بعدُ قصد الانتقال، ويجوز أن يقال: يتعين للاعتداد المنزل الثاني، فإن ما يُصوَّر تأخيره من قصد الانتقال تكلف، وإذا دخلت ذلك المنزل مرّةً، لم يبق عليها أمرٌ إلا نقل الأمتعة، فهذا ما نراه.
وفقه هذا الفصل في تفصيل المسائل، وتبيين البعض منها عن البعض. هذا فصل من الفصول الثلاثة.
الفصل الثاني
في الإذن في المسافرة
9859 - وهذا الفصل ينقسم قسمين: أحدهما - الإذن في المسافرة من غير نُقلة.
والثاني - في الإذن في المسافرة والنقلة.
فأما القسم الأول - فإذا أذن لامرأته في المسافرة من غير نُقلة، فالسفر لا يخلو إما

(15/232)


أن يكون سفراً متعلقاً بغرض صحيح، وإما أن يكون غيرَ متعلق بغرض، ومن جملة ذلك سفرُ النزهة. فأما ما يتعلق بالأغراض الصحيحة، فكسفر التجارة، وسفرِ الحج، وسفرِ الزيارة المستحبة في الدين، فإذا أذن الزوج في السفر لغرض مما ذكرناه، أو لغرض آخر سواه.
فأول ما نذكره أن الشافعي قال: " لو طلقها الزوج بعد ما فارقت المنزل، لم ترجع " فذهب الأكثرون من الأصحاب إلى أنه أراد بمفارقة المنزل مفارقةَ البلدة، وذهب شرذمة من الأصحاب إلى حمل ذلك على مفارقة مسكنِ النكاح، وإن كانت في خِطة البلدة، وأضيفَ هذا إلى الإصطخري، فحصل قولان: أظهرهما - أن المرعي مفارقةُ خِطة البلدة، وذلك أن البلدة محلُّ سكونها من طريق النسبة الكلية، كما أن منزلها محلُّ سكونها، والدليل عليه: أنه لو لم يكن للنكاح مسكن متعين، تعينت البلدة، ولم يسَع الخروج منها، فاتضح أن الشرع يعيّن البلدةَ، كما يعيّن المسكن إن كان للنكاح مسكن، فاتجه اعتبار مفارقة البلدة.
ومن قال: الاعتبار بمفارقة مسكن النكاح، احتج بأنه إذا كان للنكاح مسكن متعيَّن، فحكم السكنى مقصور عليه، فإذا تعدته، كفاها ذلك.
وأيضاً، فإنها إذا فارقت مشمّرة مُبْرمةً عزمَها، وقد تكون باذلة مالاً في أُهَبها، فتكليفها الرجوع إضرار بها.
التفريع:
9860 - إن اكتفينا بمزايلة مسكن النكاح، فلا كلام.
وإن اعتبرنا مفارقة الخِطة، فضبط هذا القول أنها متى صارت إلى مكانٍ إذا انتهى المسافر إليه، تَرخص تَرخُّص المسافرين، فقد فارقت، وتفصيل ذلك فيما استقصيناه في موضعه من كتاب الصلاة.
ثم من الأسرار التي يجب التنبيه لها أن الزوج إذا أذن لزوجته في الخروج من مسكن النكاح إلى دارٍ في البلدة، لا على قصد الانتقال، فإذا لحقها الطلاق، فحقٌّ عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح، وإن كان عليها في تلك الدار شغل يضاهي التجارة في حق المسافر، وإذا أذن لها في الخروج للتجارة وخرجت -على ما فصلنا معنى الخروج-

(15/233)


فلها أن تمر على وجهها [آمّة] (1) إلى تحصيل الغرض.
فهذان أصلان اتفق الأصحاب عليهما. والفارق أن الخارجة للسفر متقلقلةٌ عن الوطن، ملابسةٌ أمراً له وقع في المعاش، ويعسر النزول عنه، [وفَلُّ] (2) العزم فيه، فسوغ الشرع التمادي.
وأما التردد في البلدة الواحدة من دار إلى دارٍ، فهيِّنٌ وليس من الأشغال الخطيرة.
9861 - فإذا تقرر في العقد (3) ما نبهنا عليه، قلنا بعده: إذا لحقها الطلاق، أو بلغها خبر الموت بعد مفارقة البلدة، انطلقت لشأنها، فإذا انتهت إلى مقصدها، قضت حاجتها من التجارة أو غيرها من المآرب، ولا بأس عليها، وإن طال الزمان، ونقصت العدة، إتماماً لما همّت به وبنته على إذن الزوج.
ولو انتجزت حاجتها، لم تعرّج، ولم تقف، بل تنقلب إلى مسكن النكاح، إذا كانت تعلم أنها تدرك من بقية العدة زماناً تمكث فيه في مسكن النكاح، وإن علمت أنها بعد نجاز شغلها لو رجعت، لانقضت عليها العدة وهي في الطريق، فقد ظهر اختلاف أصحابنا في هذا: فمنهم من قال: يلزمها أن تقيم في بلدة الغربة، فإنها إذا علمت أنها لا تنتهي في بقية العدة إلى مسكن النكاح، فالسكونُ أوْفق وأليق وهو أستر لها من السفر.
ومن أصحابنا من قال: ترجع، فإن انقضت عدتها في الطريق، فلا حرج عليها.
وهذا لا أعرف له وجهاً، فإنها إذا قطعت بأنها لا تنتهي إلى مسكن النكاح، فقصْدُها المسكنَ قصدٌ لا مقصود له. نعم، إذا جوّزت أن تنتهي إلى المسكن لو وُفِقَت لها وفاق، وجَوَّزت على حكم [الاعتياد] (4) خلافَ ذلك، فيجوز تقدير الخلاف
__________
(1) في الأصل: تامة. والمثبت من المحقق. وهذا اللفظ (آمّة) -بمعنى قاصدة- استفدناه من عبارة أخرى لإمام الحرمين في مسائل عبد الحق الصقلي.
(2) في الأصل: وقل (وفَلُّ أي حلُّه وصرفُه، وهو معطوفٌ على (النزول) أي يعسُر فكُّ العزم وصرفه والنزول عن الأمر الذي دخلت فيه).
(3) أي إذا اعتقدت ووعيت ما نبهنا عليه.
(4) في الأصل: الاعتبار.

(15/234)


هاهنا، ولكن ذلك الوجه الذي حكيناه على تثبُّتٍ في نقله وجدناه مشهوراً للأصحاب في الطرق، فلم نَرَ تَرْكه.
ولو انتجزت حاجتها قبل ثلاثة أيام، فلها أن تستتم المكث ثلاثة أيام؛ فإن هذا المقدار في حكم السفر أثبته الشرع مدة ليتأهب (1) لعدة السفر، وليس معدوداً من الإقامة، وإن انتجزت حاجتها في ثلاثة أيام فصاعداً، لم تعرج إلا أن لا تجد رفقة؛ فإنا لا نكلفها أن تغرر بنفسها. بل، لا نكلفها أن تتحمل مشقة ظاهرة خارجة عن حد الاقتصاد في الاعتياد، وإنما يطلب منها ألا تعرّج ولا تُقَصِّر (2)، فأما أن تتكلف مشقة، وتصادم غرراً، فليس عليها ذلك، وسنخرّج في هذا قولاً بالغاً يقرب من التحديد، وإن لم يكن في محل التحديد.
هذا إذا كان سفرها متعلقاًً بغرض صحيح من الأغراض.
98620 - فأما إذا لم يكن متعلقاً بغرض صحيح، فأول ما نذكره: أنها إذا بلغت المحل المقصود وكان الزوج أذن لها في أن تقيم في ذلك المحل عشرة أيام، فهل لها أن تستوفي المدة المذكورة أم يتعين عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح؟ فعلى قولين:
أحدهما - يجوز لها أن تستوفي تلك المدة جرياناً على موجب الإذن.
وهذا التوجيه عندنا خطأ.
والوجه أن نقول في توجيه هذا القول: إذا وطّنت نفسها على الإقامة وتهيأت لذلك، فلو كُلّفت قطعَ غرضها، فقد يتعطل عليها أُهَب وأسبابٌ كانت هيأتها للإقامة، كالمطاعم، وما في معانيها، فهذا هو الذي يُوجَّه هذا القول به؛ فإنّ إذن الزوج -على تفصيله- ينقطع بالطلاق، ويرتفع أثره بالكلية؛ فإن إذنه إنما يؤثر ما استمر حكمه على الزوجة، ولهذا المعنى نقول: إذا خرجت متجرة، فإنها تمتد في الجهة التي خرجت فيها، وليس امتدادها معلَّلاً ببقاء الإذن، وإنما تعليله بما ذكرناه الآن.
__________
(1) " ليتأهب ": أي المسافر.
(2) عرّج بالمكان أي نزل به، ووقف عنده (معجم ومصباح) والمعنى لا تتلبّث، ولا تتمهل، ولا تقصر في التأهب للرجوع.

(15/235)


هذا أحد القولين.
والقول الثاني - أنها تقطعُ تلك المدة، وتشمّرُ للانصراف جهدَها، وهذا القائل يعلل بخفاء الغرض في الخروج للنزهة والإقامة لها، ويزعمُ أنه لا يظهر في قصد التنزه تصميمٌ على شغل به احتفالٌ ومبالاة، فليس في قطع المدة ضِرارٌ أصلاً، فتعيّن قطعها لذلك.
قال القاضي، وصاحب التقريب: إذا بلغها خبر الطلاق وهي مارّة في صوب النزهة، فهل يتعين عليها الانصرافُ حيث بلغها الخبر؟ هذا يخرج على القولين المذكورين فيه إذا بلغها الخبر في أثناء المدة. فإن قلنا: عليها أن تقطع المدة، فإذا بلغها خبر الطلاق أو الوفاة، لزمها الانصراف؛ فإنها ليست على غرض صحيح، وإن قلنا: لا يجب قطع المدة، بل يجوز استيفاؤها، فيجوز الامتدادُ في الصوب المقصود وقضاءُ الوطر منه على حسب ما كان يجوز لو استمر النكاح ولم يطرأ فراق.
9863 - ومما يتصل بما نحن فيه أنها لو كانت مأذونة في الزيارة، فقد ذكرنا أن سفر الزيارة من الأسفار المتعلقة بالأغراض الصحيحة، فعلى هذا إذا بلغها خبرُ الوفاة أو الطلاق في أثناء الطريق، انطلقت ومرت على وجهها ممتدة إلى [الزيارة] (1) التي أنشأت السفر لها بخلاف سفر النزهة، فإنا ردّدْنا فيها القول. وسفرُ الزيارة في هذا المعنى بمثابة سفر التجارة.
ولو كانت بلغت موضعها والزوج قد أذن لها في أن تمكث عند من طلبت زيارته أياماً؛ فإذا بلغها خبر الطلاق، فهل يجب عليها قطعُ تلك المدة والتشميرُ للانصراف، فعلى قولين كالقولين في السفر للنزهة.
والسبب فيه أن الزيارة إلمامٌ وتجديد عهدٍ، فكل ما يزيد على ذلك يتصل بقياس النزهة، وقد ذكرنا أن السفر إذا كان سفر نزهة، ففي الانصراف قبل استيفاء المدة وفي الرجوع من وسط الطريق قولان، فسوّينا بين قطع المدة وبين قطع السفر، وفي سفر
__________
(1) في الأصل: زيارة.

(15/236)


الزيارة قطعنا بأن لها أن تمتد في زيارتها قولاً واحداً، وردَّدْنا القول في استيفاء المدة، ونحن في ذلك كله نتبع المعنى دون الصُّوَر.
فأما التجارة، فالمرعي حصول الغرض فيها، فإن أذن لها في التجارة وفي الإقامة أياماً بعد انتجاز الغرض، فإذا حصل الغرض وبلغ خبرُ الوفاة أو الطلاق، فيخرّج القولان.
فهذا تحصيل القول في السفر الذي ليس سفر نُقلة، وقد استوعبنا بما ذكرناه القول في أحد القسمين.
9864 - وأما القسم الثاني - وهو أن يأذن لها في سفر النقلة، فإذا خرجت وانتهت إلى المحل الذي إليه الانتقال، ثم بلغها الخبر، فلا تبرح حتى تنقضيَ العدة، والبلدةُ التي انتقلت إليها بمثابة مسكن تنتقل إليه بإذن الزوج قبل لحوق الطلاق.
وإن خرجت من بلدة النكاح، ولم تنته إلى البلدة التي إليها الانتقال، فماذا تصنع إذا بلغها الخبر عن الطلاق أو الوفاة؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يلزمها المضيُّ على وجهها إلى الموضع المعين؛ لأن بلدها الذي هو مقصودُ سفرها محل سكونها؛ من جهة أن ما كان محلاً للسكون فقد تقلّعت عنه، وانقطع حكمها عن سكناه، والبلد الذي بين يديها محل سكناها في قصدها.
والوجه الثاني - أنه يجب عليها أن ترجع إلى مسكن النكاح، وذلك أن الطلاق لحقها قبل أن تلبَّس بتوطّن الموضع المقصود، فلترجع إلى مسكن النكاح، بناء على الاستدامة، ويخرّج في حقها الوجه الذي حكيناه عن العراقيين في التخيير، والبلدتان في سفر النقلة إذا توسطتهما بمثابة المسكنين في البلد الواحد إذا خرجت من المسكن الأول، وأمّت (1) الثاني على قصد الانتقال.
ومما يجب التنبه له في هذا المقام أن الزوج لو كان أذن لها في أن تخرج إلى دار
__________
(1) وأمّت: أي قصدت. قلت: الحمد لله؛ جاءت هذه الكلمة لتؤكد صحة تغيير كلمة الأصل، ووضعها مكانها منذ صفحات، فقد ثبت صحة قولنا: إن هذه اللفظة من معجم الإمام ومفرداته.

(15/237)


أخرى لتنزهٍ أو غيره، وكان أذن لها في أن تقيم أياماً؛ فإذا طلقها، رجعت إلى مسكن النكاح، بلا خلاف، ولو فُرض مثل ذلك في سفر النزهة، ففي الرجوع قبل استيفاء المدة الخلافُ الذي قدمناه.
والفرق في ذلك أن الانتقال من دار إلى دار لقصد الزيارة ليس من الأشغال التي يبالَى بها، وليس في قطع المدة -إذا لم يكن سفر- ضرار، وقد يتصور في قطع السفر وقطع المدة المأذون فيها تفاوتٌ في ترتيب المعايش وتعطّلٌ في المطاعم، فهذا هو الذي أوجب الفرق.
فأما إذا فرض الانتقال، فهو أمر مقصود يُحمل على غرض صحيح، ولا فرق في ذلك بين مسكنين في بلدة واحدة وبين بلدتين أو قريتين، فغرض الانتقال يقرب في ذلك، والعلم عند الله عز وجل.
فهذا ما أحببنا التنبيه عليه.
9865 - ويتصل بهذا المنتهى أن الزوج إذا أذن لزوجته في الاعتكاف عشرة أيام تباعاً، فشرعت في الاعتكاف، ثم لحقها الطلاق، فهل يلزمها أن تقطع الاعتكافَ وترجعَ إلى التربص في مسكن النكاح؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها تستوفي ما شرعت؛ فإنها لابست اعتكافاً مفروضاً، وبنته على إذنٍ صحيح، ونحن نجوّز أن يمتد -من جهةٍ- سفرُها إذا كان السفر متعلقاًً بغرض صحيح حتى لا يلحقَها ضرر، فلا نكلفها أن تقطع فرضاً شرعت فيه.
والقول الثاني - أنها تقطعه، فإن لزوم العدة ورعايةَ شرائطها أثبتُ؛ من جهة أنها تلزم شرعاً، والاعتكاف المنذور مما [يُدخله] (1) الناذر على نفسه، فلا يبلغ تأكُّده مبلغ تأكد ما يجب شرعاً، وجوباً لا دفع له.
ومما يجب ذكره في هذا المقام أن قطع مدة العبادة الواجبة مع اتحاد البلد من غير فرض سفر خرج على قولين خروج المدة المضروبة للنزهة في السفر.
ويتبين للإنسان بهذه المسائل افتراقُ الحضر والسفر، والأمر دائر في ذلك كلِّه على
__________
(1) في الأصل: يدخلها.

(15/238)


مأخذ واحد، وهو النظر إلى الأغراض وتأكُّدِها.
9866 - ثم لا يتبين حاصل ما ذكرنا الآن إلا بالتفريع: فإن قلنا: إنها تقطع الاعتكاف، وتتربص في مسكن النكاح، فإذا انقضت العدة، فهل يُحكم بأنها تبني على ما مضى من الاعتكاف، أم تستأنف؟ فعلى قولين قدمنا ذكرهما في كتاب الاعتكاف، وذكرنا أمثلةَ هذا الفن.
والذي أراه في ذلك أن القولين في أنها هل تقطع الاعتكاف مأخوذان من القولين في أن التتابع هل ينقطع؟ فإن قضينا بأن التتابع لا ينقطع، لزمها العود إلى مسكن النكاح، حتى إذا انقضت العدة، عادت إلى معتكفها، وبنت على ما مضى، وإن حكمنا بانقطاع التتابع، فالأشبه أن لا يلزمها الرجوع إلى مسكن النكاح؛ فإن ذلك إحباطُ ما تقدم من اعتكافها، ونحن نجوّز للمعتدة أن تخرج من مسكن النكاح في أوطارٍ لها وحاجاتٍ لا تبلغ مبلغ الضرورة.
هذا حاصل القول في هذه الفصول.
9867 - ثم لما ذكر الشافعي سفر النزهة والنقلة، نقل المزني عنه لفظةً واختلفت الرواية فيها، قال: قال الشافعي: " لا تقيم في المصر الذي أَذن لها في السفر إليه، إلا أن يكون أَذن لها فيه، والنقلةِ إليه، فيكون ذلك عليها " (1) وفي بعض النسخ "فيكون ذلك لها". والروايتان صحيحتان، فمن قرأ: " فيكون ذلك عليها " رجع به إلى مسألة النُّقلة؛ فإن مصابرة المكان المنتقَلِ إليه حتم، كما قدمناه.
ومن قرأ "فيكون ذلك لها" صرف ذلك إلى " ما أَذن لها في مقام مدة " فيكون هذا أيضاً على أحد القولين.
وقد انتجز الغرض في هذه المعاني.
9868 - وذكر الشافعي بعد عقد هذه الأصول مسائل مقصودة في أنفسها وهي تبين القواعدَ السابقةَ، فمما ذكره أن المرأة إذا خرجت مسافرة مع الزوج، فطلقها أو مات عنها في أثناء الطريق، لزمها أن ترجع على أدراجها إلى مسكن النكاح، فتعتدَّ فيه،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 32. وعبارة النسخة التي معنا من المختصر: " فيكون ذلك عليها ".

(15/239)


ولا نقول تتمادى إلى مقصدها، بخلاف ما لو أذن لها الزوج في سفر يلحقها الطلاق في أثنائه، والفرق أنها إذا خرجت مع زوجها، فسفرها منوط بصحبته، فقد انقطعت الصحبة، وما خرجت مستقلة، فوقوع الطلاق بمثابة انتهاء السفر.
وإذا خرجت بنفسها لغرضٍ لها، وقد تأهبت، فتتضرر بقطع ما همّت به.
ومما ذكره أنها إذا أحرمت بإذن الزوج، ثم طلقها، فإن كان الوقت ضيقاً، خرجت وأنشأت السفر، وإن كان الطلاقُ لحقها وهي بعدُ مقيمة؛ فإن التحلل من الإحرام غير ممكن، وتكليفُها مصابرةَ الإحرام صعبٌ لا يحتمل، وبدون ذلك يجوز لها مفارقة مسكن النكاح، وإذا ضاق الوقت، فينضم إلى ما ذكرناه أنها لو صابرت فاتها الحج.
وإن اتسع الوقت أو كانت محرمة بعمرة، فقد اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: يلزمها ملازمةُ مسكن النكاح إلى انقضاء العدة؛ إذ ليست على خشية من الفوات والعدة ناجزة لا تقبل التأخير.
والوجه الثاني - وهو الذي اختاره القاضي وقطع به، أن لها أن تخرج، فإن مصابرة الإحرام مع ما فيه من وجوب التوقي عن أخذ الشعر والظفر واجتناب الطيب صعب، وفيه تعرض لالتزام مغارمَ كثيرة، وقد ذكرنا أنا بدون ما أشرنا إليه يجوز مفارقةُ مسكن النكاح.
ولو كان الزوج أذن لها في الحج، فلم تخرج، فطلقها، فأحرمت بالحج، وقد لحقها الطلاق في الحضر، فلا ينبغي لها أن تخرج، فلا حكم للإذن المتقدم؛ فإنه ينقطع أثر إذن الزوج بالطلاق. نعم، إذا خرجت تؤم البيت، فطلقها، فلها أن تستدَّ على وجهها، والذي ذكرناه فيه إذا لحقها الطلاق قبل أن تخرج.
وقد قدمنا فيما مضى معنى الخروج، فإنه مفارقة خِطه البلدة، ومفارقة مسكن النكاح.
ثم ذكر الشافعي مسائل في حج النسوة وأنهن متى يخرجن، ومتى يلزمهن الخروج إلى الحج، وقد قررنا هذه المسائل في موضعها من كتاب الحج، وقد انتهى المقصود من الفصلين.

(15/240)


الفصل الثالث
يتعلق بالخلاف بين الزوجين نصفه ونذكر ما فيه
9869 - إذا طلق الرجل امرأته، وكانت في دارٍ غيرِ دار الزوج، واختلف الزوجان: فقال الزوج: لم أنقلك، فارجعي إلى بيتي للعدة، وقالت: بل نقلتني!! نص الشافعي فيما نقله المزني على أن القول قولُها، وحكى المزني في الجامع الكبير عن الشافعي أنه قال: لو وقع هذا الاختلاف مع الوارث بعد موت الزوج، فقالت: نقلني أبوك. وقال الوارث، لم ينقلك، فالقول قول الوارث، وهذا يخالف ما نقله هاهنا.
وترتيب المذهب في ذلك أنهما إذا اتفقا على أنه قال لها: اخرجي مسافرة: إذا كان الاختلاف مفروضاً في قريتين أو بلدتين، فالقول قول الزوج في حياته، والقول قول الوارث بعد وفاته؛ فإن الإذن باتفاقٍ مفروض في التقييد باتصاف المرأة بالمسافرة.
ولو قال لها: انتقلي إلى تلك القرية أو إلى المسكن الآخر، ثم اختلفا، فالقول قولها لا محالة.
ولو قال: اخرجي، أو سيري، أو اذهبي، على الإطلاق: من غير تقييد بسفر، ولا انتقال، فإذا فرض الاختلاف، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول الزوج أو الوارث؛ فإن الأصل عدم الإذن في الانتقال، ولو كان أصل الإذن متنازعاً فيه، لكان القول قولَ الزوج، فكذلك إذا فرض التنازع في صفة الإذن.
والقول الثاني - أن القول قولُها، لأن الإذن محتمل، والظاهر معها؛ فإن الطلاق صادفها وهي كائنة في تلك الدار، وهذا يحل محل اليد في الخصومات، فكما يُجعل القول قولُ صاحب اليد، فكذلك يترجح جانبها لكونها في الدار الثانية.
9870 - ومما يتم به بيانُ الفصل أن كلام الأصحاب يشير إلى أن الزوج لو أنكر أصل الإذن وادعته المرأة، فالقول قول الزوج، وإنما ذكروا القولين فيه إذا كان أصل الإذن

(15/241)


ثابتاً والخلاف راجعاً إلى صفته، ولا يبعد تقدير خلاف إذا كان أصل الإذن متنازعاً فيه، بناء على ما لو فرض نزاع بين المالك وبين صاحب اليد في الإعارة، وقد قدمنا ذلك في كتاب العاريّة، والأصل تصديقُ من ينكر أصلَ الإذن، ثَمّ وهاهنا.
فصل
قال: " وتنتوي البدوية حيث ينتوي أهلها ... إلى آخره " (1).
9871 - البدوية إذا مات عنها زوجها أو طلقها، وكانت بين قوم سيّارة ينتجعون ويتبعون مواقع [القَطْر،] (2) لا يَلزمون مكاناً واحداً، فإنها تنتقل معهم حيث انتقلوا، وتعتد على انتقالها، وذلك في حقها بمثابة لزوم مسكن النكاح في حق الحضرية.
وإن كانت بين قوم لزموا موضعاً لا يظعنون عنه شتاء، ولا صيفاً، فإنها تلزم لزومها ولا تخرج، كما لا تفارق الحضرية مسكن النكاح.
وسر هذا الفصل أن انتقالها معهم لا يكون كلزوم مسكن النكاح، حيث [يُفرض] (3) للنكاح مسكنٌ في موضع إقامة، ودليل ذلك أنها لو انتهت في ممرها إلى قريةٍ وأرادت أن تقيم بها، جاز، وليس لها الانتقال من مسكن النكاح إلى غيره، فلا يعتقِدَنَّ الفقيه أن مسايرتَهم تلزمُها، ولكن يجوز لها اختيارُ مسايرتهم، حتى لا تستوحش بمفارقتهم، وإلا فليس الكَوْنُ معهم لزومَ موضعٍ، فيلزمَ.
وليس هذا كما لو خرجت لتنتقل؛ حيث يثبت لها الانتقال، فلو لحقها الطلاق في الطريق، فأرادت أن تمكث في بلدة في وسط الطريق لتنقضيَ عدتُها، لم يكن لها ذلك، فإنها خرجت عن مسكن بانيةً أمرَها على مسكن آخر، فقد لحقها الطلاق على حالة، فتلزمها، وتلك الحالة تُفْضي إلى محل انتقالٍ وتوطّن.
وأحوال البادية لا تنتهي إلى توطُّنٍ قط، وكل ذلك متفق عليه منصوص للأصحاب.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 33.
(2) في الأصل: النظر.
(3) في الأصل: يفوّض.

(15/242)


9872 - ومما يتعلق بذلك أن أهلها لو رحلوا وأقام [الأجانب] (1)، فإن كانت آمنة لو أقامت واختارت المقام، فلها ذلك، فإن الإقامة أليقُ بصفة المعتدة، وإن كانت لا تأمنُ، فحقٌّ عليها أن ترحل مع الراحلين، وإن أمنت، ولكن كانت تستوحش بمفارقة الأهل، فظاهر المذهب أنها بالخيار: إن شاءت أقامت مع المقيمين، وإن شاءت ظعنت مع الظاعنين، وجواز الظعن لما ينالها من الوحشة.
ولا خلاف أن أهل المرأة المعتدة لو رحلوا عن البلدة، لم يكن لها أن ترحل وتفارقَ مسكن النكاح، وذلَك أن إقامتها مع المقيمين في البادية ليست إقامة على الحقيقة، ولذلك لم يوظف عليهم الجمعةُ، والبلدة محلٌّ للإقامة، فلا يجوز مزايلتها لوحشةٍ، ولا يبعد أن يقال: يتعين عليها الإقامة في مخيم المقيمين التزاماً لسكون المعتدات؛ فإن النقلة في النسوان تناقض التستر.
ولا خلاف أنه لو أقام أهلها، لم يكن لها أن تنتقل وتفارق المخيم.
هذا تمام القول في أحوال البادية.
ولو خرج أقاربها ليعودوا على قرب، فلا ينبغي أن تخرج معهم، ولي لها أن تخرج معهم؛ فإن ما اعتمده جمهور الأصحاب من الوحشة لا يتحقق هاهنا.
9873 - ويتصل بهذا المنتهى امرأة صاحب السفينة إذا طلقها والسفينة في البحر، فلا محيصَ لها، فإن كانت من أقوام بحارين يعتادون التردد في البحر، فسبيلها كسبيل البادية، وإن لم يكن كذلك، وإنما ركبت لحاجة، فهي مسافرة مات عنها زوجها، وقد مضى التفصيل في ذلك، بيد أن الرجوع في البحر قد لا يمكن، فإن تيسر من غير عُسر -وقد خلَّفت مسكن نكاح- فسبيله ما تقدم.
وإن كانت تلقى عُسراً وغرراً، لم تكلّف ذلك.
ولو كان في البحر سفينتان بحكم الزوج، فقد يطرأُ إذاً تفصيل المساكنة: فإن كانت السفينة كبيرة تشتمل على حُجَرٍ وقطائعَ، وكل قطعة تنفرد بمرافقها، فلتنفرد
__________
(1) في الأصل: الأحاديث.

(15/243)


بقطعة عن زوجها، وأمرُ الخَلْوة على ما تفصَّل. وإن كانت السفينة صغيرة، واستمكن الزوج من الانتقال إلى السفينة الأخرى، فحقٌّ عليه أن يفعل ذلك.
ومن أحاط علماً بما مهدناه من الأصول، هان عليه درك أطراف هذه المسائل.
9874 - ثم قال الشافعي: " ولو تكارت منزلاً ... إلى آخره " (1).
إذا غاب الزوج ولحقها الطلاقُ، وليس للزوج مسكن تأوي إليه المعتدة، فالقاضي يكتري لها مسكناًً يليق بها من مال الزوج، إن كان يجد له مالاً، وإن رأى الاستقراض عليه، فعل، وإن فوض إلى المرأة الاستقراضَ، جاز، ولا اختصاص لذلك بما نحن فيه، بل هو جارٍ في نفقةِ الزوجة وغيرها، وقدمنا في هرب الجمَّال مثلَ هذا.
ولو شغَرَتْ البقعةُ عن الحاكم، ففيه تفصيلٌ ذكرناه في مسألة الجمَّال (2)، ولو استقلّت (3) مع إمكان [مراجعة] (4) الحاكم، فهذا أيضاً مما سبق تفصيله وسنجمع كلاماً حاوياً في كتاب النفقات -إن شاء الله- ونبين فيه انفصالَ النفقات عن السكنى، وانفصالَهما عن كراء الجمَّال، ونأتي فيه بمجامع، إن شاء الله.
ثم تعرض الأصحاب هاهنا للكلام فيه إذا انقضت مدةٌ لم تتمكن فيها من مال الزوج، فهل يبطل حقها في المدة الماضية من السكنى أم يستقر حقها استقرار نفقة الزوجات؟ وهذا من أصول كتاب النفقات فأوْلى تأخيره إليه.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 34.
(2) مسألة هروب الجمّال فصلها الإمام في كتاب الإجارة، باب كراء الإبل.
(3) استقلت: أي استقرضت بنفسها، مع إمكان مراجعة الحاكم.
(4) في الأصل: واجبة الحاكم.

(15/244)


باب الإحداد
9875 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحِدَّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " (1) ومضمون الحديث باتفاق العلماء، إيجاب الإحداد على المتوفى عنها زوجها في مدة العدة، وتحريمُ الإحداد على غيرها إلا ثلاثَ ليالٍ، ونحن نذكر من يجبُ عليه الإحدادُ أولاً، ثم نذكر معنى تحريم الإحداد، ثم نبين وصف الإحداد.
والإحداد من الحَدّ وهو المنع، فالمحتدة ممتنعةٌ عن أسباب الزينة؛ وقال الأئمة: على المتوفَّى عنها أن تَحِد قولاً واحداً، فالرجعية لا تَحِد، فإنها في حكم الزوجات، فلا تحد، كما لا تحد الزوجة، والمطلقةُ البائنة هل يلزمها الإحداد؟ فعلى قولين: أحدهما - يلزمها الإحداد؛ لأنها معتدة عن الزوج لا يملك الزوج رجعتها، فصارت كالمتوفى عنها.
والئاني- لا يجب عليها الإحداد؛ لأنها معتدة عن طلاقٍ فأشبهت الرجعية.
والمعنى الذي يليق بهذا الأصل أن المتوفى عنها متفجعة على فراق الزوج وذلك لائق بحالها، والبائنة مجفوّةٌ بالطلاق في غالب الأمر، لا يليق بحالها تكليفُ التفجع.
وهذا يناظر الترتيب المذكور في التعريض بالخطبة، فإنه جائز في عدة الوفاة، حرامٌ في عدة الرجعة، وفي جوازه في عدة البينونة قولان، وليس هذا التناظر لفظياً، ولكن بين الأصلين تناسب من جهة المعنى؛ فإن المتوفى عنها زوجها لا يليق بها وهي
__________
(1) حديث "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث" رواه مسلم من حديث عائشة وحفصة رضي الله عنهما (الطلاق، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وتحريمه في غير ذلك إلا ثلاثة أيام، ح 1490).

(15/245)


مفجوعة أن تتشوف إلى الطالب قبل انقضاء العدة، فلم يحرم التعريض معها.
والرجعية زوجة، وسلطنةُ الز وج مستمرة.
والبائنة مجفوّة فكان صَدَرَ (1) هذا الترتيب قريباًً مما ذكرناه.
والتي ارتفع النكاح عنها بفسخ، اختلف الأصحاب فيها: فمنهم من ألحقها بالمطلقة المبتوتة، ومنهم من ألحقها بالموطوءة بالشبهة، ولا خلاف أن الموطوءة بالشبهة لا تَحِدّ في العدة، وكذلك أمُّ الولد لا تحِدّ إذا مات مولاها. فكأن بعض الأصحاب رأى أن النكاح زائل بجميع آثاره في حق المفسوخ نكاحها، وهذا ميل الأكثرين.
ثم إذا أوجبنا الإحداد، فلا فرق بين الحرة والأمة، والمسلمة، والذمية، والصغيرة، والكبيرة، والعاقلة، والمجنونة، وأبو حنيفة (2) لا يوجب الإحداد على الذمية، ولا يثبته في الصغيرة والمجنونة.
ونحن إذا أثبتناه فيهما، أَمَرْنا الوليَّ يمنعها المحَدَّةَ (3) عنه.
هذا تفصيل القول فيمن يلزمه الإحداد.
9876 - وقد ذكرنا أن الإحداد يحرم بحكم نصّ الرسول صلى الله عليه وسلم على غير المعتدات، كما فصلنا القول فيهن؛ فإنه عليه السلام قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تَحِدّ على ميت فوق ثلاث " وهذا فيه سؤال وإشكال؛ فإن الإحداد اجتنابُ نوعٍ من الثياب، وتركُ استعمال الطيب، ولا يتحقق التحريمُ في ذلك لعينه، فالوجه صرف التحريم إلى القصد (4)، فرب فعل يقترن به قصدٌ، فيحرمُ كالسجود بين
__________
(1) صَدَر: بمعنى صدور، وهو مصدر من مصادر الفعل (صدر) ولكنه غير مشهور بل غير مستعمل في لساننا الآن. وإن كان إمام الحرمين لا يستعمل غيره.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 395 مسألة 901، المبسوط: 6/ 59.
(3) المحَدَّة عنه: أي الممنوعة عنه.
(4) المعنى أن حرمة الطيب وهذه الأنواع من الثياب -على المعتدة- ليست لذات الطيب والثياب، وإنما لما يقترن بها من قصد، وهذا على ظهوره لا يضر ذكره، كما قال الإمام في ختام هذه الفقرة نفسها، ولكن التمثيل بالسجود للصنم يحتاج إلى كلام (انظره في التعليق الآتي).

(15/246)


يدي الصنم، [لو اقترن] (1) به قصد التقرب، فالتعويل على القصد، ولكن المقصود يحرم مع القصد (2). وهذا على ظهوره لا يضر ذكره.
ثم رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإحداد ثلاثة أيام، فلعل السرّ في ذلك أن مخالفة الذمّي [في] (3) إظهار [التحزّن] (4) والرضا (5) بالقضاء أولى بالمؤمن.
والإحدادُ في العدة ضربُ حَجْرٍ على المعتدات، حتى لا يشتغلن بالتزين للرجال.
وتسويغُ التفجع على القريب والحميم في الثلاث رخصةٌ من الله؛ فإن النفوس قد لا تطاوع، واغتلامُ الحزن ينكسر في الثلاث، وهي منطبقة على أزمان التعزية، وفيها باب [ذكرناه] (6) في الجنائز، ثم هذا التحزن في هذه المدة لا يتخصص بالنسوة، ولا شك أنه رخصةٌ وتركه أولى، فإن الذي يقتضيه الدينُ استقبالُ القضاء بالرضا، والتلفّع بجلباب الصبر والاستسلام لأمر الله.
9877 - وقد حان أن نذكر الآن الإحداد ومعناه، قال الشافعي: " وإنما الإحداد في البدن ... إلى آخره " (7).
__________
(1) في الأصل: ولو اقترن.
(2) يفهم من كلام الإمام هنا أن المحرَّم ممن يسجد للصنم ليس فعلَ السجود بهيئته وحركاته، وإنما قصد التقرب والتعظيم للصنم، وهذا في أصله رأيٌ لأبي هاشم الجبائي المعتزلي، يقوم على أن (السجود) نوعٌ واحد من الأفعال، ومحالٌ أن يكون (الواحد) واجباً وحراماً، وطاعة ومعصية، وإنما يكون حراماً أو واجباً بحسب ما يقترن به من القصد. هذا أصل مذهب أبي هاشم.
حكاه الإمام عنه في البرهان وردَّه بقوّة، قائلاً: " إنه خروج عن دين الأمة، ثم لا يمتنع أن يكون الفعل مأموراً به مع قصدٍ منهياً عنه مع آخر " ا. هـ. وإجماعُ أهل السنة منعقد على أن الساجد للصنم عاصٍ بنفس السجود والقصد جميعاً.
وفي المسألة مزيد تفصيل وكلام لا يحتمله المقام. راجع: (البرهان في أصول الفقه: فقرة: 213، والمستصفى: 1/ 76، والإحكام للآمدي: 1/ 87، والمسوّدة: 84، وشرح الكوكب المنير: 1/ 390).
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: تحزن.
(5) معطوفة على (مخالفة).
(6) في الأصل: ذكرناها.
(7) ر. المختصر: /35.

(15/247)


أراد رضي الله عنه بما ذكر أن المرأة لو آثرت تزيين منزلها بالفرش، وكلفت خدمها تنقيته من الأذى، وأمرتهم بأن يأخذوا زينتهم، فلا بأس بشيء من ذلك، وإنما الإحداد يتعلق ببدن المرأة. والغرضُ الظاهر ألا تتزين للرجال بما يُشوِّف الرجال إليها لو رمقوها، ثم هذا يتعلق بالملابس واجتناب الطيب، فلو لبست ثوب زينة، كانت تاركةً للإحداد
9878 - ونحن نذكر الآن تفصيل القول في الثياب: والنظرُ فيه ينقسم: فيقع في الجنس، وفي اللون.
أما الجنس، فالذي ذهب إليه الأصحاب أنها لا تلبس ثياب الإبرَيْسم كيف فرضت، وتكون وهي مُحدّة بمثابة الرجل في اجتناب لبس الحرير، وقد ذكرنا ذلك في مواضع من الكتاب.
وقال العراقيون: لها أن [تلبس] (1) الحرير إذا لم يكن مصبوغاً، واعتلوا بأن الحرير في حقها بمثابة سائر الثياب في حق الرجال، والأفقه ما ذكره المراوزة، فإنهن خُصّصن بلبس الحرير؛ لأنهن بمحل التزين للرجال، وهن في الإحداد ممنوعات عن التزين، فليرتفع ما خصّصن به للزينة.
ثم قال الأئمة: يحرم عليهن استعمال الحلي، ولم أر للعراقيين فيه ذكراً، والأليق بقياسهم التحريم؛ فإن الملابس لا بد منها، والحلي لا تستعمل إلا زينةً. وما عندي أن التختم يحرُم عليهن، وهو حلال للرجال. نعم، يمنعن من التختم بخاتم الذهب؛ فإن ذلك مما خُصصن به زينةً لهن.
فأما ما عدا الإبرَيْسم من أجناس الثياب، فلا يحرم عليهن لُبسه في زمان الإحداد، كالكتان والقطن، والخَزّ إن لم يكن من الحرير، وكل ما يحل للرجال لُبسه في الرفاهية من أجناس الثياب، فلا يحرم على المُحِدّة لُبسه.
هذا قولنا فيما يتعلق بأجناس الثياب.
__________
(1) في الأصل: تمسّ.

(15/248)


9879 - فأما الكلام في الألوان، فالقول الضابط فيها، أن كل لون تُصبغ الثياب به طلباً للزينة، فيحرم على المرأة لُبس الثوب المتلون به، وكل ما لا يقصد بصَبْغ الثوب به الزينةُ، فلا يحرم على المُحدّة لُبسُ الثوب المتلون به، فالأَسْود الكَمِد (1)، والاكْهب (2) الكمِد، وما في معناهما لا يمتنع صبغ المُحِدَّة به، فأما الثوب الأحمر الخضِل (3) البراق، والأصفر الفاقع، وما أشبههما [فيحرم] (4).
والمعنى المعتبر المطّرد في جميع الألوان: البرّاق المستحسَنُ في الملابس، ورب لونٍ كمِد يصقل الثوبَ المصبوغَ به فيُلْفى برَّاقاً، ولا يزداد [بالصبغ] (5) إلا سماحة.
ثم لا فرق فيما نمنع ونجيز بين ما يصبغ بعد النسج وبين مايصبغ غزله وينسج مصبوغاً، وإنما الممتنع ما ذكرناه من قصد الزينة، وليس ذلك خافياً في الناس.
وعن أبي إسحاق المروزي أنه قال: الممنوع ما صبغ بعد نسجه، فأما ما صبغ غزله ونسج، فلا منع فيه، وإن كان حسن المنظر، وهذا الذي ذكره يُبطله الخبر، وقاعدة الباب.
أما الخبر، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى المحِدّة عن لُبس عَصْب اليمن " (6)، وهي من برود حِبَرة (7)، يصبغ غزلها ثم ينسج.
__________
(1) الكمد: الذي لا صفاء فيه، وفعله: كَمِد (من باب تعب) أي تغير لونه، وذهب صفاؤه.
وكمِد الثوب: أخلق فتغير لونه. (المعجم والمصباح) فالمعنى الثوب الأسود الحائل السواد الذي لا صفاء فيه.
(2) الأكهب: يقال: كهِبَ لونه يكهَبُ كَهَباً: علته غبرة مشربة سواداً، فهو أكهب (المعجم).
(3) الخضِل: من خضِل يخضَل خَضَلاً: إذا نَعُمَ، ومن معانيه أيضاً: ندي وابتل، فالمعنى الثوب الأحمر اللامع الزاهي الناعم (المعجم).
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: بالصقل.
(6) هذه الرواية في النهي عن لبس عصب اليمن جاءت في رواية البيهقي من حديث أم عطية رضي الله عنها. وقد روي حديث أم عطية من عدة طرق كلها بإباحة عصب اليمن للمحتدة؛ والنص على استئنائه من النهي، ولذا علق البيهقي على رواية النهي قائلاً: ورواية الجماعة بخلاف ذلك. (ر. السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 439).
(7) حبرة: وزان عنبة. والإضافة هنا بيانية (معجم ومصباح).

(15/249)


وأما قاعدة الباب فالنهي عن الزينة، وهذا لا يختلف بأن يصبغ الثوب منسوجاً، أو ينسج مصبوغاً، وقد يكون المنسوج من الغزل المصبوغ أحسنَ منظراً وأكثرَ رونقاً.
ولو صبغتْ ثوباً خَشِناً غليظاً [بصبغ] (1) براق، فقد تردد صاحب التقريب في ذلك، ثم حكى قولين، وما ذكره محتمل؛ فإن الصبغ في نفسه وإن كان حسناً، فلا تحصل الزينة به ما لم يكن الثوب المصبوغ به على اقتصارٍ في الغلظ، فإذا فحشت الخشونة، وإن حسن اللون، لم يعدّ لابسه متزيناً، ويجوز أن يحمل منعه على الرائي (2) من البعد، وهذا لائق بغرض الباب؛ فإن النسوة لا يخامرن الرجال، بل يَلُحْن لهم من البعد. فهذا بيان ما يتعلق بالملابس.
9880 - فأما النوع الآخر، فهو ما يتعلق باجتناب الطيب، وما يدنو [منه] (3) فالكلام في هذا يتعلق بقسمين: أحدهما - اجتناب الطيب، ولا معنى لإطالة التفصيل فيه، فنقول: يحرم على المحِدة من هذا القبيل ما يحرم على المُحرِم، وقد تفصل ذلك في كتاب الحج على أبلغ وجهٍ في البيان.
والنوع الثاني - ما يتعلق بالزينة وإن لم يكن طيباً، كالاكتحال بما يَزِين، قال الشافعي: لا بأس باستعمال الكحل الفارسي، وهو فيما أظن إلى البياض ما هو (4)، قال الشافعي إنه لا يزيد العين إلا مَرَهاً (5) وقبحاً.
ونص في بعض المواضع على تجويز استعمال الإثمد، وأجمع الأصحاب على أنه قال في العربيات: ويغلب على ألوانهن السواد، ولا يبين الإثمد في أعينهن؛ فإنهن
__________
(1) في الأصل: يضيق.
(2) المعنى أنه من على البعد يُعجب ويلفت النظر، ويسرّ الناظر بلونه، فلا تظهر خشونته إلا عن قرب، والشأن المعهود أن النساء يَلُحن عن بعد فهذا وجه المنع مع الخشونة المتناهية.
(3) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(4) أي شديد البياض.
(5) المره: خلوّ العين من الكحل، وهو أيضاًَ مرضٌ في العين تَتَقرَّحُ منه. فالمعنى أن هذا الكحل الفارسي الأبيض لا جمال فيه، فهو عكس الكَحَل الذي تُمدَحُ به النساء، ويذكر جمالهن به.
ثم إنه يزيدها تقرحاً. (قلت: لعله يسبب هيجان الدمع من العين مثل بعض الأدوية) لمزيد من معاني المره (ر. المعجم).

(15/250)


مع اخضرار ألوانهن على كَحَل ظاهر في الخلقة، لا يزينهن التكحّل، وإذا استعملت البيضاء الإثمد زانها (1)، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلم وهي محِدّة على أبي سلم يعرّض بخطبتها، وكانت قد اكتحلت بالصّبر (2) فقال صلى الله عليه وسلم: " ما هذا " فذكرت رمداً بعينها، وأنها عالجته بالاكتحال بالصبر، فقال عليه السلام: افعليه بالليل وامسحيه بالنهار " (3).
وإن كان بالمرأة رمد واحتاجت إلى استعمال كحل [يزينها] (4) فيتحتم عليها أن تفعل ما رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة.
وإن مست الحاجة إلى استعمال الكحل نهاراً، فلا بأس؛ فإن المعالجة إذا مست الحاجة إليها، خرج الاتحال عن كونه تزيُّناً، وكذلك إذا مست الحاجة إلى استعمال الطيب، فالأمر على ما ذكرناه.
9881 - ولا ترجّل رأسها بالدّهن لما فيه من التزين. والنهي عن ذلك في باب الإحداد أقيس منه في باب الإحرام؛ فإن المحرم ليس ممنوعاً عما يتعلق بالتزين، وإنما يمنع من الطيب، ولا يتضح فيه معنىً.
وإن قال الإنسان -على بُعدٍ-: الطيبٌ داعيةٌ إلى الوقاع ناجزاً من غير ارتقاب تفزٍّ (5) ومزيد شيء في الجبلّة، فهذا على بعده لا يجري في الترجيل. وإزالةُ الشعث والغبر
__________
(1) معنى هذا أن تحريم (الإثمد) خاص بالبيضاء التي يظهر في وجهها، هكذا نقله الإمام عن (إجماع) الأصحاب، لكن الرافعي بعد أن نقل هذا عن الإمام، قال: " والظاهر عند أكثرين، أنه لا فرق بين البيضاء والسوداء، قالوا (أي الأكثرون): أثر الكحل يظهر في بياض العين، ويدل عليه إطلاق الأخبار " (ر. الشرح الكبير: 9/ 495).
(2) الصبر: كحل أصفر اللون. قاله الرافعي (السابق نفسه).
(3) حديث أم سلمة رضي الله عنها في الإحداد والكحل رواه أبو داود: الطلاق، باب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها ح 2302، والنسائي: الطلاق باب الرخصة للحادة أن تمتشط بالسدر، ح 3537، ورواه البيهفي في المعرفة (4679)، وانظر التلخيص 3/ 477 ح 1819.
(4) في الأصل: زنها.
(5) التفزي التوقّد والنشاط: فزّ الرجل فزازة وفُززة: نشط وتوقد (المعجم).

(15/251)


ليست محرمة؛ فإن المُحرم [يستحم] (1) ويتدلك ويزيل الوسخ، ولكن يثبت في الآثار إلحاقُ الترجيل بالتطيب.
والمرأة أمرت بالإحداد، حتى لا تتزيّن؛ فيبعد (2) نهيها عن الطيب؛ ولا تزين فيه بُعْد نهي المحرم عن الترجل ولا تطيب فيه، والبابان على الجملة يتلاقيان.
ثم قال الأصحاب: المحرم ممنوع عن ترجيل لحيته بالدهن، كما أنه ممنوع عن ترجيل لِمّته، ثم قالوا: لو كان للمرأة لحية فرجّلتها بالدهن عَصَت ربها، فإن اللحية، وإن كانت تشينها، فالترجيل يغُضّ من القبح، هكذا ذكره الأصحاب.
9882 - والمرأة ليست ممنوعة من التنظف، كالمحرم ولا حرج عليها إذا أزالت الوسخ عن نفسها، ومما لا تؤاخذ به الاستحداد (3)، فإنها تتأذى لو لم تستحد تأذيها بالوسخ لو كلّفت استبقاءه، وليست هي محمولة في الإحداد على ضِرارٍ تحتمله، وإنما مقصود الإحدد أن لا تُدخل علمى بدنها تزيناً.
ولو أخذت تُجَعِّدُ [الأصداغ وتُضَعِّف] (4) الطُّرَرَ، فلست أدري ما أقول فيه!! لا يمتنع أن يكون هذا من فن التزين بمثابة استعمال الحلي، وإن لم يكن من الملابس، ولا نص للأصحاب في هذا، والظاهر الاقتصار على المأخذ الذي نص عليه الأولون.
والتحلي باللآلىء فيه تردد عندي؛ من جهة أنه لم يثبت تحريم استعماله على الرجال، وإنما ورد نص التحريم في استعمال الذهب، فإذا لم تكن اللآلىء من
__________
(1) في الأصل: يستجمّه.
(2) ننبه هنا أن البُعد ليس في نفي الحكم بتحريم الطيب على المحدّة، فقد أكد ذلك التحريم آنفاً بدون ترديد في الرأي، وإنما الاستبعاد هنا في إدراك المعنى والحكمة، أي كما نهي المحرم عن الترجل ولا تطيب فيه من غير إدراك سرّ النهي، فكذلك يقع نهيها عن الطيب ولا تزيّن فيه غير معقول المعنى. ويتضح ذلك من قوله الآتي قريباً. " وحق الناظر ألا يمشي بخطوه الوساع في أبواب التعبدات " والله أعلم.
(3) نذكر مجرد تذكير أن الاستحداد هو أخذ شعر العانة وإزالته.
(4) في الأصل: الأصداع، وتصنف.

(15/252)


خصائص زينة النساء، فليست في معنى الذهب ولكنها تزيّنٌ، وزينتها تزيد على زينة الإثمد.
وحق الناظر ألا يمشي بخَطْوه الوساع في أبواب التعبدات؛ فإن المعاني الكلية وإن كانت معقولةً [مقبولة] (1)، فمحل التعبد يمنع الاسترسال في طريق المعنى.
ومن بحث عن جريان الأولين في التفصيل، ورُزق التوسع في الأخبار والآثار، فلا يلقى مذهباً لأئمة السلف إلا مستنداً إلى أثر، وآثار أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الباب مستندها ما فهموه من الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر بالإحداد.
9883 - ثم إذا أوجبنا الإحداد، فلو تركته، انقضت العدة، غير أنها تأثم إن اعتمدت الترك، وكيف لا يكون كذلك، ولو تبرجت وفارقت مسكن النكاح، فالعدة تنقضي عليها، مع تركها أصلَ حالة التربص.
وقد انتجز غرض هذا الباب ونحن نعقد الآن فصلاً في معنى لزوم المعتدةِ المسكنَ، وما يجوز لها الخروج لأجله.
فصل
9884 - المتوفى عنها زوجها والمبتوتة تلزمان مكان الاعتداد ولا يجوز للمتربصة أن تبرز لنزهة أو زيارة أو تجارة، وإنما تبرز لحاجة ظاهرة، ولا يُشترط انتهاءُ الحاجة إلى رتبة الضرورة، والزيارة في نفسها مقصودةٌ والغرض فيها واضح لائح، ولا يجوز الخروج لها، وكذلك التجارة، فلا يُعلّق جواز الخروج بالغرض، ولا يُشترط في جوازه الضرورة، والحاجة متوسطةٌ بينهما كما سنصفها، ونقرر القول فيها جهدنا، إن شاء الله.
فنقول: إن احتاجت إلى الخروج لحاجة تتعلق بالمطاعم والملابس ومؤنة السكن إذا استَرَمَّ، فإن وجدت من تستنيبه، فلتفعل؛ إذ لا حاجة بها إلى الخروج بنفسها، وإن لم تجد من ينوب منابها، فلا بأس عليها لو خرجت.
__________
(1) في الأصل: منقولة.

(15/253)


والفرضُ في البائنة أو في المتوفى عنها، فإن الرجعية مكفيّةٌ، لا حاجة بها إلى الخروج بنفسها، ولا نفقةَ لبائن حائل، ولا للمتوفى عنها حاملاً كانت أو حائلاً. فإن وجبت النفقة للبائنة الحامل، فهي في أمر النفقة مكفية، فلا تخرج، وإن ضيعها المطلّق، ومست الحاجة إلى الخروج، خرجت، وكيف لا والزوجة لو ضيعها الزوج، لخرجت، على ما سيأتي تفصيل ذلك في النفقات، إن شاء الله.
والقدر الذي نذكره هاهنا أن خروج الزوجة لا يمتنع إلا لحقِّ الزوج، فإذا انقطعت النفقة، فلها أن تخرج، وإن كانت قادرةً على أن تصابر وتنفقَ على نفسها من مالها.
والمعتدة المستحقة للنفقة إذا انقطع عنها إنفاق من يلزمه الإنفاق عليها، وكانت متمكنة من مصابرة مسكن النكاح من غير حاجة حاقّة، فليس لها أن تخرج؛ فإن العدة يتعلق بها حق الله تعالى على التأكد، ولذلك لا يسقط وجوب التربص وإن رضي مَنْ مِنه الاعتداد، بخلاف استقرار الزوجة في مسكن النكاح، مع استمرار الزوجية.
والتي لا زوج لها، ولا عدة عليها، لها أن تبرز من غير حاجة إذا كانت لا تتعرض لآفة.
هذا تأسيس القول في الحاجة.
9885 - فإن قيل: قد قدمتم في مسائل المسافرة أن المرأة إذا لحقها الطلاق بعد خروجها تاجرةً، فإنها تتمادى على وجهها حتى تقضيَ وطرها، وقلتم: ليس للمعتدة أن تخرج عن مسكن النكاح زائرةً أو تاجرة، [فأبينوا] (1) هذه الفصول وأوضحوا أن ما قدمتم تجويزه، فهو لأثر إذن الزوج، حتى لو فرض مثل ذلك الإذن في مفارقة مسكن النكاح للتجارة، لجاز لها الخروج أم كيف السبيل فيه؟
قلنا: أما الإذن، فلا يبقى عليه تعويل بعد وقوع الطلاق وحصولِ البينونة، والدليل عليه أن الرجل إذا أذن لزوجته في أن تخرج حاجّة، ثم طلقها قبل أن تخرج وتُحرم، فليس لها أن تُحْرم وتخرج، فإن أثر الإذن ينقطع بطريان الطلاق، وقد صادفها الطلاق وهي في مسكن النكاح، فالتعويل إذاً في مسائل المسافرة على أنها
__________
(1) في الأصل: " فأثبتوا ".

(15/254)


تتأهب للسفر، فلو قطعته، لنالها ضرر عظيم، فهذا هو المعتمد في تلك المسائل، وعليه بنينا الفرق بين أن يلحقها الطلاق وهي في البلدة، أو يلحقها وقد خرجت.
فهذا هو الذي عليه التعويل.
9886 - فإن قيل: [المعتدة] (1) إذا بلغها الخبر بأن مقداراً صالحاً من مالها على شرف الضَّياع لو لم تخرج إليه ولم تتداركْه، فهل لها أن تخرج بنفسها حيث يضيعُ مالُها لو لم تخرج؟
قلنا: هذا محل التردد، ونحن نبين فيه أصلاً كبيراً، ونقول: كل باب بني على معنًى، ثم فرض انخرام ذلك المعنى بشيء، يقع معتاداً، فذلك المعنى يقتضي أن يطَّرد حتى لا ينخرم، وهذا بمثابة بنائنا باب القصاص على الوفاء بالعصمة والامتناع مما يؤدي إلى الهرْج، فلا جرم كل ما يفضي إلى ذلك، فهو مردود، فإذا فرضت مسألة نادرة، فلا مبالاة بها، والتذكير في هذا كافٍ.
فنقول بعد ذلك: اتفاق احتياجها إلى تدارك المال وصونِه عن الاختلال بنفسها في نهاية الندور؛ فإن الغالب أن النسوة لا يحتجْن إلى مباشرة هذه الأمور، ونائبُهن فيها أَقْومُ بها منهن، وغَنَاء الرجل المستناب أظهر من غَنائهن، والغالب أن المرأة إذا أرهقتها حاجةٌ أنابت فيها رجلاً.
فإن فرض فارض صورةً نادرة [لو] (2) جرينا فيها على موجَب الحاجة، لخرجت مسافرة وتبرّجت بارزة وتركت التربصَ، وإن لزمت التربصَ، ضاع مالها، فيتردد نظر الفقيه في هذا المقام بعض التردد، ويعترض له ضياعٌ على ندورٍ وتركُ التربص، وليس كالحاجة التي تغلب؛ فإن ترك التربص بها محمول على الحاجة الغالبة في الجنس.
ومما نجريه في قواعد الشريعة تنزيلُ الحاجة الغالبة العامة للجنس منزلةَ الضرورة الخاصة في حق الشخص، وأما الخاصة النادرة، ففيها النظر، ولكن ضياع
__________
(1) في الأصل: المعتمدة.
(2) في الأصل: " أو ".

(15/255)


المال شديد، والتربص وإن كان واجباً؛ فإنه من قبيل الأمورِ التابعة، والآدابِ المتأكدة المترقِّية من نهاية الندب إلى أول درجة الوجوب.
فهذا وجه النظر.
والذي عليه الاستقرار أن المال إذا كان يضيع، وله خطرٌ وقدر، فلا بأس لو خرجت وإن فرض الضياع على وجه الندور. والحاجةُ إذا تعلقت باستصلاحٍ، وكانت نادرة، فلا يجوز ترك التربص لها.
فينتظم من ذلك أن الحاجةَ الغالبةَ إذا كانت لا تتعلق بضَياع في المال، وضرورةٍ في البدن، فيسوغ الخروج لها، والحاجة النادرة إذا كانت لا تفضي إلى ضياعٍ لا يجوز الخروج لها، وإن أدت إلى ضياع وإن كانت على الندور، فيجوز الخروج لها.
هذا ما رأيناه.
9887 - ولا يجوز الخروج للاستزادَة، كالتجارة، وكذلك الخروج للعمارة التي ليس في تركها ضَياع، ويلتحق بذلك الزيارة؛ فإنها لا تبلغ مبلغ الحاجة الحاقة.
والحاجةُ المعتبرة هي التي يظهر ضررها لو تركت، ولو توالت، أفضت إلى الضرورة.
فهذا مجامع الكلام.
فإن قيل: الرجل الأقطع اليمين يقطع الأَيْمان ولا قصاص عليه، والحاجة له مُفْضية إلى ضياعٍ في الأطراف. قلنا: نعم، ولكن يعارضها أن الهجوم على الدماء لا على القواعد الشرعية شديد، وتركُ التربُّصِ في العدة قريب، على أنا قد نقتُل الأقطع إذا أفضت جراحاته إلى الزهوق، وليس إفضاؤها إلى الزهوق بدعاً.
وقد انتهى ما نريد. ورجعت مسائلُ السفر وخروجُ المرأة عن مسكن النكاح في زمن التربص إلى قاعدة واحدة، قد بانت للفطن.
9888 - ثم قال الأئمة: إذا كانت تخرج لحاجتها، فلتخرج نهاراً، وليس يحل لها أن تخرج ليلاً، مع التمكن من الخروج نهاراً، والسبب فيه أنها إذا خرجت نهاراً، كانت مرقوبةً بالأعين، بعيدةً عن التعرض، مصونةً بلحظ اللاحظين، وإذا خرجت

(15/256)


ليلاً بعُد [الغوث] (1) عنها [لو قُصدت] (2)، وكانت متصديةً للآفات، وإنما ذكر العلماء هذا قطعاً لوهم من يظن أن الخروج ليلاً أليق بالتخدُّر والتخفّر، والأمر على الضد من هذا.
ولسنا نمنعها من الخروج ليلاً إذا وقعت حاجةٌ ليلية، وإنما ذكرنا ما ذكرنا فيه إذا ترددت بين الخروج ليلاً ونهاراً، فالحكم عليها أن تؤثر الخروج نهاراً ولزوم المسكن ليلاً، وهذا حتم على الوجه الذي ذكرناه.
هذا منتهى القول فيما يجوز للمرأة أن تخرج لأجله. وفيه نجاز الباب.
...
__________
(1) في الأصل: الفوت.
(2) في الأصل: ولو قصدت.

(15/257)


باب اجتماع العدتين والقافة
9889 - العدتان لو اجتمعتا، فلا يخلو: إما أن يكونا من شخص واحد، وإما أن يكونا من شخصين.
فإن كانا من شخص واحد، فلا يخلو إما أن يكونا متفقتين أو مختلفتين، فإن كانتا متفقتين، مثل أن يكونا جميعاً بالشهور أو بالأقراء، وتصوير اجتماعهما أن يطلّق الرجل امرأته طلقة رجعية، وتجرى في عدة الرجعية، وكانت عدتها بالشهور أو بالأقراء، فإذا وطئها الزوج في أثناء العدة فوطؤه وطءُ شبهة، وهو مقتضٍ للعدة، وهذا تصوير اجتماع العدتين.
وكذلك لو كانت في عدة بينونة، فوطئها الزوج بالشبهة، ظاناً أنها زوجته، فالعدة تجب، والتصوير على ما قدرناه.
فالذي أطلقه الأصحاب أن العدتين تتداخلان، والمعنيُّ بتداخلهما أن الذي مضى من العدة الأولى محسوب من تلك العدة على التمحّض، والذي بقي من تلك العدة يجري محسوباً عن العدتين: بقيةِ الأولى وابتداءِ الثانية، حتى إن كان مَضى قرءٌ وبقي قرءان، فجرى الوطء كما صورناه، فنحسب القرأين الباقيين من العدتين، فإذا انقضيا، فعليها بسبب وطء الشبهة قرء واحد، فإذا انقضى، فقد تخلت عن العدتين.
هذا هو المذهب، وعليه التعويل.
9890 - وذكر الأصحاب تقديرين نذكرهما ونبين ضعفهما: قال قائلون: الوطء إذا ورد على العدة من النكاح، لم يوجب في الحال عدةً، وبقيّةُ العدة تمضي ممحّضةً عن الجهة الأولى، حتى إن كان بقي قرءان، فهما من عدة الطلاق، ثم تتربص الموطوءة قرءاً، ونحكم بأن الوطء الذي جرى لم يوجب إلا هذا القرء الواحد، ولا نحكم بأن القرأين الباقيين يجريان عن العدتين، والتزم هذا القائل طردَ هذا القياسَ من غير

(15/258)


محاشاة، وقال: إذا مضى نصفُ قرء من عدة الطلاق، وجرى الوطءُ، فالباقي من العدة يجري محضاً عن جهة الطلاق، ثم إنها تتربص وراء ذلك بعضاً من قرء، ونقضي بأن الوطء أوجب هذا المقدار.
وهذا تلاعب بالأصول وتقديرٌ ينافي وضعَ الشريعة، فإنا لم نَرَ وطءَ شبهة في حُرَّة يوجب بعضَ قرء، وهذا التقدير لا يتغير به حكم، وإنما هو كلام أصدره بعضُ الأصحاب عن غير فكرٍ قويم.
وقال قائلون: إذا جرى الوطء بالشبهة قبل انقضاء عدة الطلاق، انقطع الاعتداد عن الطلاق، واستفتحت عدةَ الشبهة.
وهذا ساقط أيضاً، وقد أشار إليه القاضي في بعض ما نُقل عنه، والدليل على بطلان ذلك أن عدة الطلاق أثبتت لاستنادها إلى حرمة النكاح، ووطء الشبهة إنما يقتضي العدة لمشابهته الوطء في النكاح، فالحكم بانقطاع عدة الطلاق لمكان وطء الشبهة من باب رفع الأقوى بالأضعف.
ثم إذا جرى وطء الشبهة طارئاً على عدة الرجعة، فالرجعة لا تنقطع، ولو ارتفعت عدةُ الرجعة، لانقطعت الرجعة، ولو شبّب مشبِّبٌ في هذا المنع، كان خارقاً لحجاب الهيبة مستجرئاً على خرق الإجماع.
فلا وجه إلا ما قدمناه من تداخل العدتين على التفسير المقدم في احتساب البقية منهما، ووجوب استكمال العدة الثانية بعد انقضاء مدة الأولى، فهذا هو الأصل، وعليه التفريع، ولا عَوْد إلى غيره.
9891 - فنقول: إذا جرى وطءُ الشبهة، فللزوج المراجعةُ في بقية العدة الأولى، فإذا انقضت تلك البقية، انقطعت الرجعة؛ فإنها في تربصها الواقع وراء عدة الرجعة متربصةٌ بمحض عدة الشبهة.
ولو فرضنا وطء الشبهة طارئاً على عدة البينونة (1)، فالترتيب في التداخل على
__________
(1) المراد هنا البينونة بسبب غير استيفاء عدد الطلاق، وإلا فمن استوفى عدد الطلاق، لا يحق له تجديد النكاح إلا بعد أَن تنكح زوجاً غيره؛ ولذلك قال الإمام: " يجدد النكاح عليها برضاها على شرط الشرع " وإنما تكون عدة البينونة كالعدة عن الخلع مثلاً.

(15/259)


ما قدمناه، ويجوز للزوج أن يجدد النكاح عليها برضاها على شرط الشرع في بقية العدة، وفي المدة التي تتربص فيها وراء عدة الطلاق، والسبب فيه أنها مترددة بين عدة النكاح وعدة الشبهة، وتجديد النكاح سائغ في العدتين ممن نسبت العدة إليه، فللمطلق التجديد في عدة الطلاق، وللواطىء بالشبهة التجديد أيضاً، وليس هذا كالرجعة في الصورة الأولى، فإنها تختص بعدة الطلاق ولا تتعدى إلى عدة الشبهة، فانقسم الكلام في الرجعية نفياً وإثباتاً، واطرد جواز النكاح فيه إذا جرى وطء الشبهة على عدة البينونة، وهذا لائح لا إشكال فيه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت العدتان من شخصٍ واحد، وكانتا من جنس واحد.
9892 - فأما إذا اختلف جنس ما به الاعتداد والشخص الذي عنه الاعتداد واحد، وذلك بأن تُفترض إحدى العدتين بالأقراء، والأخرى بالحمل، وهذا يفرض على وجهين: أحدهما - أن يصادفها الطلاق وهي حامل، فتكون عدة الطلاق بالحمل، ثم يفرض الوطء طارئاًعلى الحمل.
وقد (1) يفرض الطلاق طارئاً على الحيال، فتلابسُ المطلقةُ عدة الأقراء، ثم يطرأ وطء الشبهة، ويحصلُ العلوق به، فهذا حملٌ طرأ على الأقراء.
وقد ذكر الأصحاب وجهين في أن العدتين هل تتداخلان من شخص واحد وما به الاعتداد مختلف: فمن أصحابنا من قال: تتداخلان كما لو كانتا متفقتين.
ومنهم من قال: لا تتداخلان، لاختلافهما، والتداخل يليق بالمتفقات، والدليل عليه أن الحدود يجري التداخل في المتَّفقات منها دون المختلفات.
فإن قلنا: بالتداخل وقد طرأ حملٌ على أقراء، أو طرأ وطء على زمان الحمل، فكما (2) وضعت انقضت العدتان من غير تفصيل: عدة الشبهة، وعدة النكاح، سواء كان الحمل من النكاح أو من وطء الشبهة، ثم له أن يراجعها في جميع مدة الحمل، فإن وضعت حملها، تخلت.
__________
(1) هذا هو الوجه الثاني في الفرض من الوجهين الموعودين.
(2) فكما: أي عندما.

(15/260)


9893 - وإن قلنا: لا تداخل مع اختلاف الجنس، فإن كان الحمل من النكاح، فعليها أن تعتد عن الشبهة بثلاثة أقراء، وللزوج الرجعة ما دامت الزوجة حاملاً، فإذا وضعت حملها، استقبلت ثلاثة أقراء ولا رجعة فيها؛ فإنها واقعةٌ عن وطء الشبهة على التمحّض.
فإن كانت المسألة مفروضة في عدة البينونة، فللزوج تجديد النكاح في زمَان الحمل، وفي الأقراء الثلاثة بعده؛ لأنها بين أن تكون معتدة عن نكاح، وبين أن تكون معتدة عن وطء شبهة، ولا يمتنع تجديد النكاح في العدتين جميعاً.
هذا إذا كان الحمل من النكاح ووطء الشبهة طارىء.
فأما إذا كان الحمل عن وطء الشبهة والتفريع على أن العدتين لا تتداخلان، فكما علقت عن الوطء بالشبهة، انقطعت عدة الطلاق حتى إن كان مضى قُرء، فعلقت، فهي معتدة عن وطء الشبهة في مدة الحمل، فإذا وضعته عادت إلى الأقراء، واستكملت ما مضى: ثلاثة أقراء.
هذا [تصوير] (1) العدتين من غير تداخل.
ثم الحكم أن الزوج لو صبر حتى وضعت، فله أن يراجعها في بقية الأقراء بعد وضع الحمل؛ فإنها عِدّة الرجعة على التمحّض، ولو أراد مراجعتها وهي حامل، وقد بينا أنها في مدة الحمل في عدة الشبهة، فهل تصح المراجعة؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أن الرجعة لا تصح، وهذا ظاهر القياس، ووجهه أنها ليست في عدة الطلاق. والرجعةُ إنما ثبتت في عدة الطلاق الرجعي.
والوجه الثاني - أن الرجعة تصح؛ لأن عليها بقيةً من عدة الرجعة، وهي ملتزمةٌ لها إذا وضعت حملها، فيكفي التزامها لذلك في إثبات الرجعة، وهذا الوجه على اشتهاره فيه [ضعف] (2).
__________
(1) في الأصل: تصدير.
(2) زيادة من المحقق على ضوء السياق، وعلى ضوء المعهود من أسلوب الإمام، حيث النسخة وحيدة، ولم تسعفنا (صفوة المذهب)؛ حيث لم تتعرض أصلاً لهذه الصورة، كما لم=

(15/261)


9894 - ولو فرضت هذه الصورة في عدة البينونة، فتجديد النكاح سائغ في الأحوال كلها لما قدمنا ذكره.
ثم إن جرى ما وصفناه في عدة الرجعة، فإذا ارتجعها حيث يصح الارتجاع، فتنقطع العدة بطريان الرجعة؛ فإنه يستحيل أن تكون مرتجعة مردودة إلى النكاح وتكون معتدة عمن هي مردودة إليه.
وكذلك إذا فرض تجديد النكاح والمسألة في عدة البينونة، فينقطع العدتان.
9895 - ومما نفرعه أن الحمل إذا كان عن وطء الشبهة، وهو طارىء على عدة الرجعة -والتفريع على انتفاء التداخل لمكان اختلاف الجنس- فلو سئلنا عن لحوق الطلاق، وهي في مدة الحمل، أو عن جريان التوارث، لو فرض الموت في هذه الحالة، أو سئلنا عن الظهار الموجه عليها، فهذا كله يخرّج على الخلاف الذي قدمناه في أن الرجعة هل تصح في مدة الحمل المترتب على وطء الشبهة، فإن جوزنا الرجعة، لحقها الطلاق، وكان الإيلاء والظهار بمثابة رجعتها، وإن لم [نصحّح] (1) الرجعة، لم يلحقها الطلاق، ولغا لفظ الظهار والإيلاء.
وكل ما ذكرناه فيه إذا طرأ الحمل على الأقراء، أو طرأ الوطء على الحمل الكائن في النكاح، والشخص واحد، ولم تر الدم على مدة الحمل.
9896 - فلو طلقها وهي حامل، ثم وطئها، والتفريع على ألا تداخل، فلو رأت
__________
=تتعرض (الغاية في اختصار النهاية) لها أيضاًَ.
وعند مراجعتنا لكتب المذهب وجدنا الرافعي والنووي يحكمان على هذا الوجه بأنه الأصح. فهل هذا موضع من مواضع مخالفة إمام الحرمين للأصحاب -على ندرة ذلك-؟ أم أن تقديرنا للكلمة الساقطة غير صحيح؟
ربما جعلنا نطمئن إلى اختيارنا للكلمة وحُكْمنا على هذا الوجه بالضعف، أن الإمام الغزالي في الوسيط ذكر الوجهين بدون ترجيح، فهل في هذا ما يشير إلى صحة اختيارنا؟ ربّما.
(ر. الشرح الكبير: 9/ 459، والروضة: 8/ 385، والوسيط: 6/ 137).
(1) في الأصل: تصح.

(15/262)


الدم على ترتيب الحيض في مدة الحمل، فإن قلنا: الحامل لا تحيض، فلا حكم لما رأت.
وإن قلنا: الحامل تحيض، فإذا رأت ثلاثة أقراء في مدة الحمل، فقد قال أبو حامد في هذه الأقراء: تحتسب عن عدة الشبهة، والسبب فيه أنا لا نثنِّي العدة، ولا ننفي التداخل والشخص واحد إلا لرعاية التعبد المحض، فإذا جرت صورةُ الأقراء في مدة الحمل، فينبغي أن يقع الاكتفاء بما نراه من صور أدوار الحيض والطهر، فإذا وضعت حملَها، فقد اجتمع وَضْعُ الحمل وصُورةُ الأقراء، وهذا ما كنا نطلبه.
وصحح القاضي هذا الوجه ولم يحك غيره.
وكان شيخي أبو محمد يقطع بأن صور الأطهار التي رأتها في زمان الحمل لا مبالاة بها أصلاً، ووجودُها كعدمها، وكان يقول: الأقراء الموضوعة عدةً هي التي يمكن أن يقال فيها: إنها تدلّ على براءة الرّحم، فإنها في وضع الشرع أُثبتت استبراءً، ثم اطّرد ثبوتها مع يقين البراءة؛ حسماً للباب، وهذا كابتناء عدة الطلاق على الوطء؛ فإنه على الجملة شاغل الرحم، ثم لا التفات على آحاد الصور.
وهذا الذي ذكره حسن بالغ، والدليل عليه أن الزوج إذا وطئها بشبهة، وقد كانت حاملاً عند الطلاق، فلو كنا نكتفي بصورة الأطهار، لكنا نكتفي ببقية الحمل، إذا لم تر دماً؛ فإن الوطء جرى وهي حامل، وليست من ذوات الأقراء إذ ذاك إذا كانت لا ترى دماً.
فإذا كنا نقول: إذا وضعت، استقبلت الأقراء؛ لأنها سترى الأقراء بعد الوضع، فلأن نقول: لا يقع الاعتداد بصور الأطهار، مع قيام الحمل أولى؛ فإنها تكون جاريةً في عدتين معاً، ولكن إن التزمنا التعديد، فلا ينبغي أن نخالف هذا الأصل.
وكل ما ذكرناه تفصيل القول فيه إذا كانت العدتان عن شخص واحد.
9897 - فأما إذا كانت العدتان من شخصين، فلا يخلو إما أن تكونا متفقتين أو مختلفتين.
فإن كانتا متفقتين، مثل أن تكونا بالأقراء، أو بالأشهر، فلا يخلو والحالة هذه:

(15/263)


إما أن تسبق عدةُ الزوج، وإما أن تسبق عدة الوطء بالشبهة.
فإن سبقت عدة الزوج بأن طلقها فاستقبلت الأقراء، ثم وطئها واطىء بشبهة، فالبداية بعدة الزوج؛ فتستكمل عدة الزوج ثلاثة أقراء، ثم تبتدىء وتخوض في عدة الشبهة.
فإن كانت رجعية، فللزوج مراجعتها في عدة النكاح. ثم كما (1) يراجعها تنقطع عدة النكاح، وتخوضُ في عدة الواطىء بالشبهة.
ولو كانت في عدة البينونة والصورة كما ذكرناه، فهل للزوج أن يجدد عليها النكاح في عدة النكاح؟ فعلى وجهين: أحدهما - للزوج ذلك، كما له أن يراجعها في عدة الرجعة.
والثاني - ليس له ذلك؛ فإنه لو نكحها، لكانت محظورة عليه من كل وجه، ووضع النكاح ينافي إيرادَه على محرّمة من كل وجه، مع إمكان الاستمتاع حساً، وهذا القائل يقول: الرجعية في هذا المقام بمثابة ارتجاع المحرّمة، وهو جائز، والنكاح بمثابة نكاح المحرّمة، وهو محرم ممتنع.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت عدة الزوج أسبق.
فأما إذا كانت عدة الواطىء بالشبهة أسبق [كأن] (2) وطئها في صلب النكاح، وشرعت في عدة الشبهة، ثم طلقها الزوج، والاعتداد بالأقراء ولا حمل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تبدأ بعدة الزوج، لقوة النكاح، فعلى هذا تعتد عن الزوج بعد الطلاق بثلاثة أقراء، ثم تستكمل عدة الواطىء بالشبهة: فإن كان مضى قُرء في النكاح قبل الطلاق، تربصت قرأين.
هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أنها تستكمل عدة الشبهة بحق السبق، ثم تستأنف العدة عن الزوج بعد انقضاء عدة الشبهة.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) في الأصل: كأنه.

(15/264)


التفريع:
9898 - إن حكمنا بأنها تبتدىء عدة الزوج كما (1) طلقها، فإن كان الطلاق رجعياً، ملك رجعتها، في عدة الطلاق، ثم تنقطع العدة عن الزوج بالرجعة، وتعود إلى عدة الواطىء بالشبهة، فتكملها بعد الرجعة.
وإن كانت هذه المسألة مفروضة في عدة البينونة، فهل ينكحها؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما من قبل.
وإن فرعنا على أنها تستكمل عدة الشبهة، لحقِّ السبق، ثم تستأنف الاعتداد عن الزوج، فعلى هذا لا يخلو الطلاق إما أن يكون رجعياً وإما أن يكون بائناً: فإن كان الطلاق رجعياً، فلو تركها حتى تستكمل عدة الشبهة، وعادت إلى عدة النكاح، فيرتجعها في عدة النكاح، وإن ارتجعها وهي في استكمال عدة الشبهة، فهل تصح الرجعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا تصح الرجعة؛ لأنها ليست في عدة النكاح.
والثاني - تصح؛ لأنها ملتزمة لعدة الرجعة، فهي بسبب الالتزام على عُلقة بيّنة من الرجعة.
هذا إذا كان الطلاق رجعياً.
فإن كان بائناً والتفريع على تقديم عدة الشبهة بحقّ السبق، فإن تركها حتى انقضت عليها عدة الشبهة، ثم أراد تجديد النكاح عليها، فله ذلك.
ولو أراد تجديد النكاح عليها قبل انقضاء عدة الشبهة، لم يجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن النكاح لو أنشأه مُصادفَ عدة الغير، فلا سبيل إلى تصحيحه.
وبيانه أنا لو قدرنا صحة النكاح لما انقطعت هذه العدة، ومن المستحيل أن ينعقد نكاحٌ في عدةٍ والنكاح لا يقطعها.
وجميع ما ذكرناه فيه إذا كانت العدتان متفقتين: كانتا بالأقراء [أو] (2) بالأشهر.
9899 - فأما إذا كانتا مختلفتين، فالوجه فرض اختلافهما في الحمل والأقراء.
__________
(1) كما: بمعنى عندما. (وقد تكرر ذلك كثيراً، ولكن نضطر لذلك أحياناً خشية الإيهام في العبارة).
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(15/265)


أما إذا كانت عدة النكاح بالحمل، وعدة الوطء بالشبهة بالأقراء، أو كان الأمر على العكس، فلا شك أن العدتين لا تتداخلان، كيف وقد ذكرنا أنهما لا تتداخلان مع اتفاقهما، والاختلاف يؤكد منعَ التداخل.
ثم الذي نصدّر الفصل به أن الحمل مقدّم على الأقراء، سواء كان من النكاح أو من الوطء، وسواء قُدِّر سابقاً أو قدر لاحقاً، بعد الخوض في الأقراء؛ فإن الحمل لا مدفع له، والاعتداد به يقع عمن منه الحمل لا محالة، فلا يبقى للتقدم والتأخر في ذلك موقع.
ثم الصور تستوعب الغرض: فإن كان الحمل من الزوج [كأن] (1) طلقها وهي حامل، فوُطِئت بالشبهة، فالجواب أنها إذا وضعت حملها، استقبلت الأقراء على الواطىء بالشبهة.
ثم إن كانت رجعية، فيرتجعها الزوج في زمان الحمل، فإنها معتدةٌ عنه، ثم إذا راجعها وهي حامل، فهل يحل له وطؤها قبل وضع الحمل؟ تردد المحققون في هذا، فصار صائرون إلى الحِلّ؛ لأن الرجعة وقعت وهي بعدُ لم تَخُض في عدة الشبهة؛ فإنها إنما تخوض في عدة الشبهة إذا وضعت حملها، فلا مانع من الحِلِّ في الحال.
ومن أصحابنا من قال: هي محرّمة؛ فإنها، وإن لم تكن في عدة الشبهة، فهي على عُلْقة عظيمة، من عدة الشبهة؛ من حيث إنها ستستقبلها، ولو أحللناها لتوالى وطآن، وهذه صورة لا يستحسنها الشرع، والتردد الذي ذكرناه في حِلِّ الوطء يجري في صلب النكاح [مثله] (2) إذا كانت المرأة حاملاً من زوجها، فوطئها واطىءٌ بالشبهة، فعدة الواطىء لا تنقضي بوضع حمل الزوج، ولكنها إذا وضعت تخوض في العدة بعد الوضع، فهل يستحل الزوج وطأها ما دامت حاملاً؟ فعلى التردد الذي ذكرناه.
هذا الخلاف في الحِلّ يقرب بعضَ القرب منه إذا كانت في عدة الشبهة، وكانت
__________
(1) في الأصل: كأنه.
(2) في الأصل: منه.

(15/266)


بحيث ستعود إلى عدة الرّجعة، فهل يصح من الزوج رجعتُها بناء على عُلقة عدة الرجعة؟ فيه الخلاف المقدم: فإن قلنا: يرتجعها، لأنها ستعود إلى عدة الرجعة، [فلا يستحلّ] (1) هاهنا وطأها؛ نظراً إلى انتظار عودها إلى عدة الشبهة؛ وإذا كنا ننتظر عودها إلى عدة الشبهة، فكأنها الآن في عدة الشبهة.
وإن قلنا: لا يحل رجعتُها إذا كانت ستعود إلى عدة الرجعة، نظراً إلى الحال، فعلى هذا نقول: الحامل ليست في عدة الشبهة من الحال، فيحل وطؤها.
ومأخذ الكلام في تحليلِ الوطء وتصحيحِ الرجعة يؤول إلى أنا نعتبر الحال أو نعتبر ما يُفضي المآل إليه؟ وفيه الخلاف الذي ذكرناه.
9900 - وإذا كانت حاملاً عن الزوج والعدةُ بالحمل مصروفةٌ إليه، فإذا وطئها واطىء بشبهة، فرأت على الحمل ثلاثة أقراء على الترتيب المستقيم، والتفريع على أن الحامل تحيض، فقد قال القاضي: قياس ما ذكره الشيخ أبو حامد: أنها إذا وضعت حملها، وقد انقضى في زمان الحمل ثلاثةُ أقراء، فنقضي بانقضاء العدتين، كما إذا كانت العدتان من شخص واحد، والتفريع على أنهما لا يتداخلان إذا اختلف الجنسان.
وهذا في نهاية البعد عندنا؛ فإن احتباس المرأة في زمنٍ واحد في عدة رجلين لا يلائم مذهب الشافعي، وفي أصل هذا المذهب من البعد ما نبهنا عليه، من أن الأقراء في وضع الشرع، إنما يقع الاعتداد بها إذا كانت دالّةً على براءة الرحم، فأما ما يُصادَف منها في حالة قيام الحمل، فليست على حكم القرء الشرعي المعتد به.
هذا إذا كان الحمل من الزوج.
فأما إذا كان الحمل من الواطىء بالشبهة، فلا شك أن الاعتداد عنه [يتقدّم] (2)، فإذا جرى الوطء في صلب النكاح، وفُرض العلوق عن الوطء بالشبهة، ثم طلقها الزوج، وهي حامل عن الواطىء بالشبهة، فالعدة عن الواطىء بالشبهة
__________
(1) في الأصل: فلا يستحيل.
(2) في الأصل: " تقدم ".

(15/267)


[تتقدم] (1)، فإذا وضعت، استقبلت العدة عن الزوج بالأقراء.
ثم إن كان الطلاق رجعياً، فهل يرتجعها في مدة الحمل؟ فعلى الوجهين المقدمين؛ فإنها في الحال ليست في عدة الطلاق، ولكنها ستصير إليها إذا وضعت، وقد تمهد الخلاف في مثل ذلك.
فإن كان الطلاق بائناً (2)، فالزوج لا يملك نكاحها؛ فإنها في عدة الواطىء بالشبهة، فالعدة تمنع ابتداءَ النكاح عن غير مَنْ منه العدة، والمعتبر فيه أن كل عدة لو فرض فيها نكاح لم تنقطع العدة، فالنكاح لا يصح.
والواطىء بالشبهة لو أراد أن ينكحها وهي حامل، نظر: فإن كان الطلاق رجعياً، لم يجز، فإنها في حكم الزوجات، وطريان هذه العدة عن الواطىء بمثابة طريان عدته في صلب النكاح، فإذا وطىء واطىءٌ بشبهة زوجة إنسان، فالعدة تمضي والنكاحُ مستمر، كذلك عدة الشبهة في حق الرجعية لا تخرجها عن عُلقة الزوجية، فيستحيل من الواطىء أن ينكحها.
9901 - ولو كان الطلاق بائناً، فأراد الواطىء أن ينكحها في عدة نفسه، فهذا على الخلاف، فإن الزوجية زالت بالبينونة، وهي الآن في عدة الواطىء؛ لأنها حامل عنه، لكنها ستعود إلى عدة الزوج إذا وضعت، وهذا يناظر ما لو كانت في عدة الزوج، ومصيرها إلى عدة الشبهة.
فلو أراد الزوج أن يجدد نكاحها، ففي تجويز ذلك خلاف قدمناه، فلا فرق بعد البينونة بين الزوج والواطىء بالشبهة في الترتيب الذي ذكرناه، فمن نكح منهما وهي في عدة غيره، فنكاحه مردود، ومن نكح منهما وهي في عدة الناكح، ولكنها ستصير إلى عدة الآخر، ففي صحة النكاح وجهان: أحدهما - المنع.
والثاني - الصحة.
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) كأن كان على مال.

(15/268)


وهذا إذا كان مفروضاً في الحمل يحوج إلى مزيد تأنق في الترتيب، وذلك أنا نقول:
إن كان الحمل من الزوج، والطلاق رجعي، فقد ذكرنا أن الرجعة تصح، وإن كانت ستصير إلى عدة الشبهة، ولكن عدة الشبهة لا تثبت ما لم تضع الحمل، وهل يحل للزوج وطؤها قبل وضع الحمل؟ فعلى وجهين.
فإذا تبين هذا، عدنا إلى ترتيب النكاح، فلو كان الطلاق بائناً، نظرنا: فإن كان الحمل من الزوج والطلاق بائن، فهل ينكحها؟ إن قلنا: لو ارتجعها والطلاق رجعي لا يحل له [وطؤها] (1) في مدة الحمل، فإذا نكحها والطلاق بائن، ففي المسألة الوجهان؛ فإن النكاح لا يستعقب حِلاً بوجه، هذا هو الذي أوجب تخريج الخلاف.
وإن قلنا: لو ارتجعها، لاستحلها، فهل يجدِّد النكاحَ؟ هذا يترتب على ما إذا قلنا: إنها تحرم في مدة الحمل، فإن قلنا ثَمّ: يصح النكاح، فلأن يصح النكاح هاهنا أولى.
وإن قلنا ثَمّ: لا يصح، فهاهنا وجهان، والفرق أنا لو قدرنا صحةَ النكاح، لاستعقب النكاح حلاً؛ تفريعاً على ما انتهينا إليه.
فإن قيل: ما وجه فساد النكاح إذا كان يستعقب حلاً؟ قلنا: إنها ستصير إلى عدة الشبهة، وهذا فيه ضعف؛ فإن مصيرها إلى عدة الشبهة إذا لم يُوجب تحريمها في الحال ينبغي أن لا يمنع نكاحها. ثم إذا صارت إلى عدة الشبهة، فهذه عدة طارئة على النكاح.
ولو طلق زوجته واستفتحت الأقراء، ثم وُطئت بالشبهة بعد مضي قرء، وعلقت عن الواطىء بالشبهة، فعدة النكاح تنقطع لا محالة، وتصير معتدة عن الواطىء بالشبهة، ثم إذا وضعت الحمل، بَنَت على ما مضى قبل العلوق، فتستكمل عدة الزوجية بقرأين، وليس المعنيُّ بانقطاع العدة إحباطَ ما مضى، ولكن المراد الانقطاعُ مع الاحتساب بما مضى.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(15/269)


هذا تفصيل القول فيه إذا كانت العدتان من شخصين، وكانتا مختلفتين إحداهما بالحمل والأخرى بالأقراء.
9902 - وقد تمهد من أصل الشافعي أن العدتين لا تتداخلان [إلا] (1) من شخصٍ واحد، وقد نص الشافعي في التعريض بالخِطبة على أن الحربيّ إذا طلق زوجته، فنكحها حربيّ [آخر] (2)، ثم طلقها، فلا يجمع عليها بين عدتين.
وقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال في المسألة قولان: أحدهما - أنهما لا يتداخلان من الحربيين، كما لا يتداخلان من المسلمَيْن؛ فإن لعدة الكفر حكماً لا ينكر، والدليل عليه أن الكافر إذا نكح كافرة في العدة ثم أسلما -والعدة باقية - فنحكم بفساد ذلك النكاح، إذا أدركت العدةُ زمانَ الإسلام؛ فإذا ثبت أصل اعتبار العدة، فلا وجه للفرق بين المسلمَيْن والكافِرَيْن في امتناع تداخل العدتين.
والقول الثاني - أن العدتين تتداخلان من الحربيين؛ فإنه لا يثبت لهما من تأكد الحرمة ما يثبت للمسلمين، وأصل العدة مرعيٌّ والكفار في حكم الشخص الواحد.
وهذا غير سديد، والأصح في القياس إذا سلكنا طريقةَ القولين، القول الأول، وعليه جرى الشيخ أبو بكر الأَوْدَني في المناظرة، فإنه أُلزم مسألةَ العدتين من الحربيين، فارتكب (3) وقضى بأنهما لا يتداخلان.
ومن أصحابنا من قال: إذا نكحت الحربية حربياً وألم بها، انقطعت عدة الأول باستيلاء الثاني، وأملاك الحربيين وحقوقُهم عرضةٌ للسقوط بالاستيلاء، ولو قهر حربي حربية، وكانت زوجة لحربي، فإنه يصير بالقهر مسترقاً للحربية، ويرتفع النكاح، فإذا كان النكاح يرتفع، فلا يبعد أن تنقطع العدة انقطاعاً لا يعود، فهذا إذاً قَطْعٌ للعدةِ الأولى، وليس من تداخل العدتين في شيء.
__________
(1) سقطت من الأصل، ولا يستقيم الكلام إلا بها.
(2) زيادة لإيضاح الكلام.
(3) ارتكب: هذا اللفظ استخدمه الإمام أكثر من مرة، ولم أجده مفسَّراً في مظانه من مجموعات وكتب المصطلحات الخاصة بالجدل والمنطق والفلسفة، والذي يتضح من السياق أن معناه هو "التعسف واللجوء إلى الوجه الذي لا أصل له فراراً من إلزامه أمراً آخر" والله أعلم.

(15/270)


وقد انتجز القول في تداخل العدتين من رجل واحد، ومن رجلين، ثم تكميل الكلام يستدعي ما نذكره الآن.
9903 - فنقول إذا أتت المرأة بولد لستة أشهر، فصاعداً، ولدون أربع سنين من يوم الفراق، وأتت به لأقلَّ من ستة أشهر من يوم الوطء، فالولد يلحق بالزوج [وينتفي] (1) عن الواطىء.
ولو أتت بالولد لأكثرَ من أربع سنين من يوم الطلاق، ولستة أشهر من يوم الوطء، فهو ملحق بالثاني.
وإن أتت به لأقلَّ من أربع سنين من يوم الطلاق، ولستة أشهر فصاعداً من يوم وطء الشبهة، فيحتمل أن يكون العلوق بهذا المولود من الأول، ويحتمل أن يكون من الثاني.
فإذا أشكل الأمر، فهذا [أوان القائف] (2) فنريه معهما القائفَ، ونلحقه بمن يُلحقه القائفُ به، والقول فيما يعتمده القائف، وفي إلحاقه وصوابِ منطقه وخطئه يأتي مستقصىً في آخر الدعاوى، إن شاء الله.
وقد ذكر الأصحاب طرفاً صالحاً من الكلام في القائف هاهنا، فرأيت تأخيره إلى موضعه -إن شاء الله- ونذكر ما يتعلق بأمر العِدة، ونقتصر عليه فنقول: إذا تردد المولود كما وصفناه، وأَرَيْنا الولد القائفَ: فإن ألحقه بالزوج، فعدته تنقضي بوضع الحمل، والمعتبر في عدة الواطىء بالشبهة الأقراء.
وإن ألحقه بالواطىء بالشبهة، فالمعتبر في عدة الزوج الأقراء.
ومضى تفصيل الكلام في كل صورة من هاتين الصورتين: أوضحنا ما إذا كان الولدُ منه -نعني الزوج- وبيّنا حكم الرجعة، وتجديدَ النكاح في عدتي الرجعة والبينونة، وذكرنا الحكم في نقيض ذلك، فلا حاجة إلى الإعادة.
9904 - وإن تردد المولود بينهما، ولم نجد بياناً من القائف، وذلك بأن يُشكل
__________
(1) في الأصل: يلحق بالزوج منتفي عن الواطىء.
(2) في الأصل: أمان القائف.

(15/271)


الأمر عليه أو بأن يلحقه بهما، أو لا نجد قائفاً، فالصورة مشكلةٌ في أمر النسب، وسيأتي حكم الإشكال في مقتضى النسب.
9905 - وأما حكم العِدّة -والنسبُ مشكلٌ- كما ذكرناه- نقدّم (1) على هذا أصلاً مقصوداً في نفسه، رتبه العراقيون، والشيخُ أبو علي رضي الله عنه.
ثم نرجع إلى المسألة التي نحن فيها، وإن أحببنا ذكرناها في أثناء الترتيب، فنقول:
إذا وطىء أجنبي المعتدة عن الزوج بشبهة، ولزمتها عدتان، فلو أتت بولد لزمان لا يحتمل أن يكون من الأول، ولا من الثاني، وذلك بأن تأتي به كثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلَّ من ستة أشهر من وقت الوطء بالشبهة، فإذا وضعت مثلَ هذا الحملَ، فهل تنقضي بوضعه عدةٌ؟
قال العراقيون: من أصحابنا من قال: لا تنقضي بوضع هذا الحمل، لا عدةُ الزوج، ولا عدةُ الواطىء بالشبهة؛ فإن من أصلنا أن وضع الحمل إنما يوجب انقضاء عدة مَن الحملُ منه، وهذا الحمل ليس ملتحقاً بالأول ولا بالثاني، فلو حكمنا بانقضاء عدة واحدة منهما على التعيين، لكان ذلك باطلاً، من وجهين: أحدهما - أن الحكم بالانقضاء مقتضاه التحاق الولدِ الموضوعِ بمن حكمنا بانقضاء عدته، والثاني - أن تعيين أحدِهما تحكُّم.
والوجه الثاني - حكَوْه عن الشيخ أبي حامد، وهو أن عدة أحدِهما تنقضي لا بعينه وتعتد بالأقراء عن أحدهما.
ثم رتَّب الشيخ أبو حامد ترتيباً حسناً، ذكره الشيخ أبو علي واستحسنه، وذلك أنه قال: الولد الذي لا يُحتمل لحوقُه بالزوج أصلاً لا تنقضي العدة به، وهو مثل أن تأتي زوجة الصبي، وهو ابن ثمان بولد، فلا تنقضي عدتها عنه بوضع ذلك المولود، ولو أتت المرأة بولد نسبُه ملتحق لو لم يفرض نفيه باللعان، ولكن نفاه الزوج،
__________
(1) جواب أما (بدون الفاء).

(15/272)


[والْتعن] (1) على نفيه، فالنسب منتفٍ، والعدة تنقضي بوضعه، اتفق الأصحاب عليه؛ فإن النسب وإن انتفى باللعان، فلحوقه ممكن، وأمر انقضاء العدة يتعلق بالإمكان والرجوع فيه إلى قول المرأة، [ولئن] (2) نفينا الولد لأجل اللعان، لم نرفع الحكم بانقضاء العدة عند ظهور الاحتمال.
ولو أتت المرأة بولد حكمه أن ينتفي بلا لعان ولكن يحتمل أن يكون من الزوج مع قضائنا بانتفائه من غير لعان، وذلك بأن يطلق الرجل زوجته [طلقة] (3) مبينة، فتأتي بالولد لأكثرَ من أربع سنين من وقت الطلاق المبين، فهذا ولد لا يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح؛ فلأجل هذا ينتفي عن الزوج بلا لعان؛ فإنه إنما يلحق النسبُ الذي يُحتَمل تقديرُ علوقه من النكاح، فعند ذلك يُلحِقُ الفراشُ النسبَ بصاحب الفراش، فلا ينتفي عنه من غير لعان.
فأما إذا زال إمكانُ العلوق في النكاح، فالولد ينتفي من غير لعان، ولكن الإمكان غيرُ زائل بالكلية؛ إذ من الممكن تقدير وطءٍ من الزوج بالشبهة بعد الطلاق المبين، ولو فرض ذلك، لكان النسب لاحقاً، ثم تنقضي العدتان على المذهب الصحيح بوضع الحمل، على التقدير الذى ذكرناه.
9906 - فإذا تصُورت المسألة، فالذي ذكره الشيخ أبو حامد أن العدة تنقضي في هذه الصورة من الزوج لما ذكرناه من الاحتمال، [وإن كان] (4) النسب منتفياً من غير لعان.
والتعليل ما ذكرناه من الاحتمال، وحققنا أن انقضاء العدة يعتمد الاحتمال، فالولد المنتفي بلا لعان إذا تطرق إليه احتمال العلوق كالولد المنفي باللعان؛ فإنهما جميعاًً منتفيان، والاحتمال شامل للمسألتين.
__________
(1) في الأصل: والنفي على نفيه.
(2) في الأصل: فلأن.
(3) في الأصل: طلقتم.
(4) في الأصل: فإن كان.

(15/273)


وإنما افترقت المسألتان في [السبب] (1) الذي حصل الانتفاء به؛ فإنه حصل في أحدهما باللعان، وفي الأخرى بأمرٍ متعلق بالزمان، والذي يحقق الجمع بينهما أن الملاعن لو استلحق الولد بعد نفيه، للحقه، والذي أتت زوجته المطلقة بالولد لأكثر من أربع سنين لو استلحق الولد بتقدير الوطء بالشبهة بعد الطلاق، للحقه الولد، فهما جميعاًً منفيان معرّضان للّحوق في المسألتين، وليس كما لو أتت امرأة ابن ثمان بولد؛ فإنه لا يتعرض للّحوق قط، فهو الذي لا تنقضي العدة بوضعه.
وإذا تردد الأمر بين عدّتين، وأشكل مع نفينا الولدَ عن كل واحد منهما، وذلك بأن تأتي بالولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلّ من ستة أشهر من وقت الوطء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا تنقضي عدة واحد منهما؛ فإن النسب منفيٌّ عنهما، وليس أحدهما أولى بتقدير الاستلحاق من الثاني، والحكم بالانقضاء على الإبهام غير متّجه.
والوجه الثاني -وهو اختيار الشيخ أبي حامد- أنه تنقضي عدة أحدهما لا بعينه، وهذا اختياره، وهو الصحيح عند أئمة المذهب؛ فإن المعتمد في انقضاء العدة الاحتمال وهو متحقق في حق كل واحد منهما، وجهه في الزوج تقدير وطءٍ بعد الطلاق، ووجهه في الواطىء تقدير وطء قبل الوطء الذي ظهر لنا، ولكن يتصور الالتحاق بهما جميعاًً فيبهم الأمر ويُقضى بانقضاء إحدى العدتين، ونأمرها بأن تتربص ثلاثة أقراء، فيقع الاعتداد بها عن أحدهما، وإذا فرغت عن الوضع والتربص، فقد تخلّت عن العدتين.
هذا هو الترتيب الحسن البالغ.
9907 - ومن أصحابنا من قال: إذا أتت المطلّقة بولدٍ بعد الطلاق لزمانٍ لا يحتمل أن يكون العلوق به من صلب النكاح، ووقع القضاء بانتفائه من غير لعان، فلا تنقضي العدة بوضعه أيضاً، وهذا يضاهي أحد الوجهين فيه إذا تردد الولد بين الرجلين، والفرق بين صورة التردد وبين هذه الصورة عسرٌ، وهذا القائل يقول: إنما تنقضي
__________
(1) في الأصل: النسب.

(15/274)


العدة بوضع ولد لاحقٍ أو بوضع ولد يلحق لولا اللعان، فأما الولد الذي ينتفي من غير حاجة إلى النفي، فلا تنقضي العدة بوضعه.
وهذا وإن أمكن توجيهه، فالفقه ما ذكره الشيخ أبو حامد.
فإذا تبين هذا، ألحقنا به (1) أن الولد المتردد بين الزوج والواطىء إذا التحق بالقيافة بأحدهما، فلا حكم للاحتمال في حق الثاني، بل كما يلحق الولد بمن ألحقه القائف به فكذلك يُعيّن ذلك الشخص، ونقول: تنقضي العدة عنه، فإذا قيل لنا: الاحتمال قائم في حق (2)
9908 - ولو لم نجد قائفاً، أو وجدناه ولم يبيّن، فالوجه أنه تنقضي عدة أحدهما بوضعه (3)، لا بعينه؛ لأنها أتت به لزمان الإمكان منهما.
وقد ذكرنا أنها لو أتت به بحيث يحتمل أن يكون من النكاح [ويحتمل] (4) أن يكون من وطء الشبهة أنه تنقضي عدة أحدهما لا بعينه بوضعه، وإن انتفى نسبه عنهما، فمع احتمال أن يكون من كل واحد منهما وجب الحكم بانقضاء إحدى العدّتين.
وإذا أشكل أمر الولد وأمر العدّة [ولم] (5) يمكن جعل العدة بالحمل من الزوج؛ فإن كان الطلاق رجعياً، فارتجعها في الحمل، فنبني على أن الحمل لو كان من الوطء، وقد طرأ على الأقراء، ففي صحة الرجعة -بناء على أنه ستعود إلى عدة الرجعة
__________
(1) ألحقنا به أي بالبيان الذي بيّناه. (وفي الأصل: ألحقناه به).
(2) هنا سقطٌ قدره لوحتان من المخطوط، وهو نسخة وحيدة للأسف، وهاتان اللوحتان موجودتان، ولكن ذهب بالكتابة فيهما ما ذهب، فلم يبق إلا خيال لبعض العبارات في أطراف الصفحات.
وسنضع مكان هذا الذي ذهب مختصر ابن أبي عصرون، فهو يأتي بألفاظ الإمام تقريباً، وطريقته أنه يترك بعض التفاصيل في الشرح، وبعض الكلمات، ويحافظ بعد ذلك على ألفاظ الإمام، ولا نجد له إلا ألفاظاً يربط بها بين الجمل، مع شيء من التقديم والتأخير، ونادراً إبدال لفظ مكان لفظ.
(3) بوضعه: أي الحمل.
(4) في الأصل: ولا يحتمل.
(5) في الأصل: لم (بدون الواو).

(15/275)


- خلاف، فإن قلنا: تصح الرجعة، والحمل للواطىء بالشبهة (1) فإذا أشكل، وارتجع، صحت الرجعة؛ لأن الحمل إن كان من الزوج، فقد ارتجع في عدته، وإن كان من الوطء، فيصح، بناءً على أن مصيرها إلى عدة الرجعة بوضع الحمل.
وإن قلنا: لا يصح إذا تعين الحمل للواطىء بالشبهة، فإذا أشكل، لم نحكم بصحة الرجعة لاحتمال أن الحمل لغير الزوج، فإن أراد تصحيح الرجعة، فالوجه أن يراجعها مرتين مرة في الحمل، ومرة في الأقراء بعد الوضع؛ لأنه قد أتى برجعة صحيحة في عدته، ولو اقتصر على رجعة في أحد الحالين، لم يصح.
ولو كان الطلاق بائناً، فجدد نكاحها في مدة الحمل، لم يصح؛ لجواز وقوعه في عدة الشبهة، وكذا لو نكحها في الأقراء بعد الوضع، ولو نكحها مرة في زمان الحمل، ومرّة في مدة الأقراء، فقد وقع أحد النكاحين في عدة منسوبة إليه، ولكن لم يتعين النكاح الصحيح، ففيها وجهان: أحدها - يصح نكاحٌ غير متعيّن، كالرجعة غير متعينة. والثاني - لا يصح نكاح -على إبهام أمرهما- موقوف، والنكاح لا يوقف ابتداؤه، والرجعة تقبل ما لا يقبله النكاح، ولذلك لا تصح رجعة المحرمة، وتصح الرجعة من المحرم، ولا يصح نكاح المحرم ولا المحرمة، وفي وجهٍ بعيد لا يصح الرجعة مع الإحرام كما لا يصح النكاح.
9909 - وأما النفقة؛ فإذا كان الطلاق مبيناً، والحمل يتردد بين الزوج والواطىء، فالنفقة واجبة؛ لأن البائنة تستحق النفقة مع الحمل، ولو كان الحمل من الواطىء، ففي وجوب النفقة عليه قولان، ومع الإشكال لا يطالب بها واحدٌ منهما قبل الوضع، لاحتمال أنه (1) من الشبهة، فإذا وضعت، وألحقه القافة بالزوج، أو انتسب المولود إليه بعد البلوغ، فعلى الزوج نفقة زمان الحمل، وإن ألحقه بالواطىء بالشبهة، ففي وجوبها عليه القولان، ولا تسقط النفقة بمضي الزمان، وإن أوجبناها على الزوج، وقلنا: تجب للحمل، فهو كإيجابها على الواطىء، وإن قلنا: للحامل، لم تسقط عنه.
__________
(1) الرقم هنا لمختصر ابن أبي عصرون.

(15/276)


ولو نكحت المعتدة غالطةً نكاح شبهة، فلا نفقة لها؛ لأنها كالناشزة، وقد ثبت النشوز مع الجهل به.
فصل
9910 - المطلقة الرجعية إذا وطئها أجنبي بشبهة، وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فارتجعها في مدة الحمل، ثم وضعته، وألحقته القافة بالشبهة، ففيها (1) وجهان، والأولى القطع بصحتها، لأنا إن نظرنا إلى التبين (2) فتصح، والنظر إلى التردد حالة الارتجاع لا أصل له، والأولى استصحاب عدة الطلاق. نعم، في تجديد نكاحها خلاف يقرب ويتجه، وقد قدرنا فرض رجعتين إحداهما في الحمل والأخرى في الأقراء، والمذهب تصحيح الرجعة، وذكرنا في إيقاع النكاحين مرتبين وجهين.
فصل
9911 - صح النقل عن الأصحاب أن الزوج إذا طلق زوجته ثم كان يعاشرها معاشرة الأزواج، فلا تنقضي العدة.
وقال المحققون: هذا خارج عن القياس؛ فإن العدة انقضاء زمان، ثم على المرأة تعبدات محتومة في العدة أولاها بالمراعاة التربص، وترك التبرج، والانعزال عمن كان زوجها، وقد يتعلق بها الإحداد، ثم لو تركت جميع (3) ذلك، وانقضى الزمان، نحكم بانقضاء عدتها. هذا هو القياس، ولا يعرف فيها خلاف أنها لو كانت تخالط الرجال الأجانب تنقضي عدتها، وإن أثمت. والمنقول لم يوجد نصاً للشافعي في شيء من كتبه.
__________
(1) فَفِيها: أي في الرجعة.
(2) أي تبينا بعد الوضع وإلحاق القافة أنه راجعها في عدة الحمل من وطء الشبهة.
(3) الرقم هنا لصفحات مختصر ابن أبي عصرون.

(15/277)


قال القاضي: لم يفرق الأصحاب فيما ذكروه بين البائنة والرجعية، وأرى الفرق بينهما، فأقول: مخالطة البائنة لا أثر لها في المنع من انقضاء العدة، لانقطاع علائق النكاح، فالمطلق أجنبي. والرجعيةُ إذا خالطها مخالطة الأزواج، فيجوز ألا تنقضي العدة؛ لأنها في حكم الزوجات، وهي زوجة بخمس آيات من كتاب الله تعالى، ولا يعتد بالعدة في صلب النكاح الذي منه تعتد، والقياس ألا تعتد إلا بائنة، وعدة الرجعية مع بقاء أحكام من الزوجية مشكل، فيشترط لها الاعتزال.
وهذا حسن، [والاحتمال] (1) قائم؛ لأن طلاقها أعقب الاعتداد، وأثبت التحريم، فوجب أن تعتد بمضي الزمان، وما ذُكر من المخالطة مبهم، ولم يريدوا به الوطء، بل على [زعمهم] (2) يكفي أن يخلو بها، ولا يكفي دخول دار هي فيها من غير خلوة، ولو مضى من العدة شيء، ثم اتفقت خلوة واحدة، لم ينقطع ما مضى، ويمتنع الاحتساب بزمان الخلوة.
ولو كان يخلو بها ليلاً، ويفارقها نهاراً، فينزل على المعتاد من معاشرة الزوجات، وليس بمعتاد امتداد الخلوة بالزوجات، فالزمان المتخلل بين الخلوتين قدر العادة لم يحتسب به من العدة، ولو خلا بها، ثم طال انقطاعه عنها، حسبت المدة الطويلة، ولا يتجه غير التلفيق.
وهذا تفريع مضطرب جرّه خروج الأصل عن القياس (3) والقول بتداخل العدتين يشعر بأن الوطء لا يقطع العدة الأولى، فلا يبطل ما مضى، لكنه في لحظة، فلم يتعرضوا له، ولا يعتد بزمان الوطء من عدة الوطء بالشبهة، ولا من عدة الطلاق على قياس قول الأصحاب (4).
__________
(1) في الأصل: والإحمال.
(2) في الأصل: زعمكم.
(3) الرقم هنا لصفحات مختصر ابن أبي عصرون.
(4) إلى هنا انتهى المنقول من مختصر ابن أبي عصرون، وفي فقراته الأخيرة تكرار وتداخل مع ما بعده من نسخة الأصل من النهاية.

(15/278)


9912 - (1) قد ذكرتم في تداخل العدتين أن المطلِّق إذا وطىء زوجته الرجعية، ثبتت عدة الشبهة، وجرى الحكم بتداخل العدتين، وهذا يُشعر بأن الوطء لا يقطع العدة الأولى. قلنا: نعم، الوطء لا يبطل ما مضى، ولكنه في لحظة، فلم يقع من الأصحاب التعرض لها، ولو أنها غير معتد بها، ولا شك أن زمان الوطء لا يعتد بها (2) من عدة الشبهة، ولا يُعتد بها على قول الأصحاب من عدة الطلاق، فهذا ما يجب التنبه له.
9913 - ومما يتصل بهذا أن الرجل إذا نكح امرأةً نكاح شبهة، وكان يغشاها، فلا خلاف أنه لا يمضي من العدة شيء ما دام يغشاها، ولا نقول: كما (3) وطئها الوطأة الأولى، شرعت في العدة، ثم تلفق الأوقات المتخللة بين الوطآت ونقضي بأنها كالمعتدات في تلك الأوقات، غير أن الوطأة الأخيرة تستعقب عدةً كاملة. هذا لم يقله أحد، وهو يؤكد ما ذكرناه في الرجعية من أن معاشرة الزوج إياها يمنع الاحتساب بالعدة.
نعم، اختلف القول في ابتداء العدة من أي وقت تحتسب. فأحد القولين- أنه يحتسب من الوطأة الأخيرة.
والقول الثاني - أنه يحتسب من وقت التفريق بينهما، وهذا الأصل قد تقدم بالرمز إليه، ولم نستقصه في موضعٍ، ونحن نقول هاهنا: القولان في ابتداء العدة عن الواطىء بالشبهة مذكوران كما أوردناه الآن، فإن قلنا: ابتداء العدة من آخر وطأة، فلا كلام، وإن قلنا: من وقت التفريق، فيعترض عليه أن الشبهة لو انجلت وتبين زوالها، وكان يديم المعاشرة على علمٍ بالتحريم القاطع، فالوجه عندنا أن نقول: هذا لا يمنع انقضاء العدة. والمعنيُّ بافتراقهما انجلاء الشبهة لنا. [وفي] (4) هذا فضل نظر، سنعود إليه من بعدُ إن شاء الله.
__________
(1) عوْدٌ إلى نصّ النهاية. والله المعين.
(2) بها: أنث الضمير على معنى " اللحظة "، وقد تقدم التلفظ بها.
(3) أي عندما.
(4) في الأصل: في هذا (بدون واو).

(15/279)


9914 - ومما يتصل بهذا الآن أن المعتدة عن الزوج إذا نكحت نكاح شبهة على ظن أن العدة قد انقضت، وافترشها مَن نكحها على الشبهة، فالعدة تنقطع من وقت العقد، ومنهم من قال: تنقطع من أول وطأة تتفق من الزوج على الشبهة، ثم متى تعود إلى البناء على العدة الأولى؟ ذكر الأصحاب القولين اللذين ذكرناهما في نكاح الشبهة في الاعتداد من المفترش على الشبهة فقالوا: تعود إلى بقية العدة الأولى من آخر وطأة في قولٍ وتعود إليها من وقت التفريق على قولٍ، فذكروا في العَوْد إلى العدة ما ذكروه في ابتداء العدة [عن] (1) الواطىء بالشبهة إذا لم يكن نكاح الشبهة وارداً على عدة.
وهذا فيه إذا لم تحبل من المفترش في العدة، فإن حبلت، فلا شك أن عدة الحبل إذا بأن الأمر مقدمةٌ على بقية العدة الأولى، كما تقدم تفصيل هذا في تداخل العدتين.
فيخرج مما ذكرناه الآن ما استبعده القيّاسون من أن مخامرة الزوج المعتدةَ في العدة يمنع من انقضاء العدة ليس من البعيد، وهو خارج على هذا الأصل الذي ذكرناه الآن؛ فإن نكاح الشبهة والمخامرة بحكمه إذا تضمن منع انقضاء العدة، فمخامرة الزوج لا يبعد أن تتضمن منع انقضاء العدة.
9915 - ثم ينشأ من هذا المنتهى وجوه من الرأي من أهمها أن نقول: ما ذكره الأصحاب من أن المخامرة من الزوج تمنع انقضاء العدة يجب أن يكون محمولاً على ما إذا كان يخامرها ظاناً أن النكاح باقٍ، فيكون معاشرته إياها على مضاهاة النكاح الفاسد يطرأ على العدة، وتخرج خروجاً حسناً.
فأما إذا طلقها ثلاثاًً مثلاً، وعلم أنها محرمةٌ عليه، فأخذ يعاشرها مع القطع بالتحريم، فيجب ألا يؤثر هذا النوع من المخالطة في انقضاء العدة، إذ لو فرض اختلاطها بالأجانب مع العلم بالتحريم لما أثر ذلك قطعاً، فلا يضر أن تُجعل مخالطة المطلق معتبراً (2) بمخالطة الأجانب [و] (3) يخرج منه أن مخالطة الرجعية تمنع على كل
__________
(1) في الأصل: والنفي.
(2) معتبراً، أي مقيسة بمخالطة الأجانب.
(3) زيادة من المحقق.

(15/280)


حال؛ فإنها تقع على حكم الشبهة، وكيف لا، وقد صار إلى تحليل الرجعية طوائف من العلماء.
ومما ينشأ من ذلك أن من نكح معتدة وافترشها ففي وقت انقطاع العدة خلاف قدّمته، فإذا خرّجنا عليه مخالطة الزوج المعتدة، ورأينا تنزيل المخالطة على الشبهة، فيجب أن نقول: نفس المخالطة تمنع انقضاء العدة من غير اشتراط وطء؛ فإن هذه المخالطة مستندة إلى وطء النكاح مترتبة عليه، وليس كذلك حكم نكاح الشبهة إذا طرأ.
والذي نقله الأئمة عن الأصحاب أن نفس المخالطة من الزوج تمنع العدة، ولم يفصّلوا بين الشبهة والعلم بالتحريم، والذي ذكرته من التنزيل على حالة ظن الحلّ لست أرى منه بداً؛ فإن الزوج إذا كان يخالط المطلقة ثلاثاً أو كان يزني بها، فلست أرى الزنا قاطعاً، ولا معاشرة الزناة مؤثرة.
9916 - ومما يتصل بتمام القول في ذلك أن نكاح الشبهة إذا طرأ على العدة، واتصل به الوطء، ثم انكف الناكح وانعزل، وهو على اعتقاد الافتراش، فانقضت مدة العدة في زمان انعزاله، فالذي تقتضيه القواعد التي مهدناها أن العدة لا تنقضي إذا كان في علم الله أنه سيعود إلى وطئها، فلا ينبغي أن نغيّر القواعد بالصورة.
والضابط فيه أنا لو صوّرنا نكاح شبهة من غير طريان على العدة، ثم صورنا وطأتين بينهما انعزال في مدة طويلة، فلا نحكم بانقضاء العدة عن الواطىء بالشبهة، وكل ما يمنع انقضاء العدة عن الواطىء، يمنع العوْد إلى العدة التي طرأ نكاح الشبهة عليها، وهذا هو المعتبر الحق الذي لا يسوغ الحيْد عنه.
وبالجملة استمرار الشبهة واتحادها وانسحابها حكمٌ بيّن في وضع الشرع، وآية هذا أن نكاح الشبهة إذا اشتمل على وطآت كثيرة، فلا يجب إلا مهر واحد، وإن تعددت الوطآت.
ولو فرض تعدد الشبهات، وتخلل الانجلاء في أثنائها، واشتملت كل شبهة على وطء، لتعددت المهور.

(15/281)


9917 - ومما يدور في الخلد أن من نكح معتدةً نكاح شبهة- ورأينا التفريع على انقطاع العدة قبل الوطء، فإذا نقول لو لم تزف حتى انجلت الشبهة؟ وماذا نقول إذا زفت، ولم يتفق الوطء حتى انجلت الشبهة؟
أما إذا لم تزف حتى انجلت الشبهة فلست أرى إلا القطع بأن العدة لا تنقطع؛ فإن صورة النكاح لا تُفضي إلى ملابسة، ثم كانا على ظنٍّ مجرد، فزال، فالعدة على استمرارها. هذا ما أراه.
فأما إذا زُفّت، وكان الناكح على الشبهة يلابسها ولا يطؤها، فانجلت الشبهة، فهذا فيه تردد عندي: فإن كنا نفرع على أن انقطاع العدة لا يتوقف على جريان الوطء؛ من جهة أنا إنما نحكم بالانقطاع قبل الوطء إذا جرى الوطء، فنجعل ما تقدم على الوطء كالمقدمة له. والتابعُ قد يسبق وقد يلحق.
فينتظم بعد هذه الشبهات صور: إحداها - أن تزف فيطأ، فالعدة تنقطع من وقت الزفاف على هذا الوجه الذي نفرع عليه، وفيه الخلاف المشهور.
الصورة الأخرى - أن تزف ولا يتفق الوطء وتنجلي الشبهة، وفيه التردد الذي ذكرته.
ولو لم يتفق الزفاف حتى انجلت الشبهة، فالوجه عندي القطع بأنه لا تقطع العدة، وإذا اتصل النكاح بالوطء، وفرعنا على أن انقطاع العدة قبل الوطء، فإنه تنقطع من وقت الزفاف، [أم] (1) تنقطع من وقت النكاح؟ فيه شيء لا يخفى وجه الاحتمال فيه.
وأما ما كنا ذكرناه في أن الموطوءة في نكاح الشبهة من غير فرض عدة سابقة متى تبتدىء العدة من الواطىء، وأشرنا إلى القولين، ثم قلنا على قول التفريق: يعني التفريق بالذات والجسد أم انجلاء الشبهة، وإذا انجلت وأدام المخامرة، فهل تنقضي العدة، فالوجه الآن بعد تمهّد الأصول أن نجعل مخامرة الواطىء بالشبهة مع يقين التحريم بمثابة مخامرة الزوج البائنة مع يقين التحريم.
فهذا نجاز القول في هذا الفصل.
__________
(1) في الأصل: هل.

(15/282)


وقد خلطت حكمَ نكاح الشبهة والعدة عن الواطىء بالشبهة، وحكمَ انقطاع العدة بطريان النكاح، وحكمَ معاشرة الزوج خلطاً، وبيان هذا الفصل في خلطه؛ فإن هذه الفصول الثلاثة ناشئة من أصلٍ واحد والله أعلم.
فرع:
9918 - إذا نكح الرجل معتدةً نكاح شبهة، ثم تبين الفساد، واجتنبها فخلت عن العدة الأولى، فللّذي نكحها على الشبهة أن ينكحها بعد التخلي من العدة.
هذا هو المذهب، وعليه التعويل.
وللشافعي قول في القديم: أن المنكوحة على الفساد في العدة محرّمة على الناكح أبداً. واعتمد في هذا قضاء عمر. ومعظم أقواله القديمة تخالف الأقيسةَ الجلية، وتستند إلى أقضيةٍ وآثارٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتُمسك [بطرفٍ] (1) من المعنى الكلي. وقال: من نكح معتدة فقد تعجل الاستحلال قبل أوانه، فعوقب بالحرمان والتحريم المؤبد، كما يعاقب قاتل موروثه بحرمان ميراثه أبداً.
ثم سبب الشافعي بشيء لا بد من التنبه له، فقال: " الناكح في العدة منتسب إلى إفساد النسب وخلط المياه لإقدامه على النكاح قبل الاستبراء "؛ فقال العراقيون: هذا الذي ذكره يوجب أن من وطىء زوجة الغير بشبهة؛ فإنها تحرم عليه على الأبد؛ فإن النكاح في العدة وهي تابعةُ النكاح الصحيح وعُلقته إذا كان توجب تحريم الأبد، فالوطء في النكاح لأن يوجب ذلك أولى.
وفحوى كلام الأئمة في التفريع يدل على أن من زنى بمعتدة أو منكوحة، لم يكن زناه سبباً لتحريمها؛ من جهة أن الزنا لا يتضمن اختلاط النسب؛ إذ لا نسب لزانٍ، ولا ينتسب إلى الزاني ولدٌ، وفيه جواب: إن من نكح أجنبية خلية عن النكاح والعدة نكاح شبهة، فلا تحرم عليه ولا يجري القول القديم فيه، وإنما يجري ذلك القول في الواطىء في نكاحٍ أو عدة مترتبة على النكاح، ولا يمتنع عندنا جريان هذا القول في عدة الشبهة؛ فإن نكاح الشبهة فراش يترتب عليه النسب، كما يترتب على النكاح الصحيح.
__________
(1) في الأصل: يطوف.

(15/283)


وبالجملة لا أصل للقول القديم، وهو مرجوع عنه، ولولا إقامة الرسم ومحاولة نقل ما بلغني، لما كنت أعد الأقوال القديمة مذهباً للشافعي.
وقد يعترض من طريق المعنى أن الزنا يفسد النسب من قِبل أن الزوج إذا تحقق الزنا بزوجته تسلّط على قذفها ونَفَى ولدَها باللعان، ولكن قطع الأصحاب بأن الزنا لا يحرّم المزني بها على الزاني، وقد صح عندنا من مذهب بعض السلف أن المزنية محرّمة على الأبد على الزاني، وهذا فيما أظن رواية عن مالك (1)، والعلم عند الله.
فرع:
9919 - إذا وطىء الرجل حرةً حسبها مملوكته، فوطئها على هذا الظن، فعليها أن تعتد عدة كاملة: ثلاثة أقراء، إن كانت من ذوات الأقراء، أو ثلاثة أشهر، ولا نظر إلى تفصيل ظن الواطىء، والاعتدادُ بكمالها في نفسها. والحرةُ إذا أَخذت في الاعتداد أكملت العدة.
ولو وطىء أمةً وحسبها حرة: مثل أن يقدِّرها منكوحته الحرة، فإذا بأن أنها أمة، ففيما تستقبله من العدة وجهان: أحدهما - أنها تعتد بقرأين نظراً إليها وأقصى عدة الأمة قرءان إذا كانت حائلاً.
والوجه الثاني - أنه يجب عليها عدة كاملة ثلاثة أقراء نظراً إلى ظن الواطىء، ويجوز أن يعتبر ظنه؛ إذ عليه تثبت حرية الولد إذا وطىء أمة الغير ظاناً أنها زوجته الحرة فنحكم بأن الولد تعلق حراً، اعتباراً بظنه، وإن كان مقتضى القياس أن يتبع الولدُ الأمّ في الرق والحرية، ولذلك أوقفنا ولد الحر من زوجته الأمة.
9920 - ثم عقد الشافعي باباً مضمونه شيئان: أحدهما - أن الرجعية إذا مات عنها
__________
(1) لم نصل إلى هذه الرواية عن مالك، والمعروف من مذهبه كراهة التزوج بالزانية وجواز ذلك بعد الاستبراء. أما القول بتأبيد تحريم الزانية على الزاني فقد نسبه القاضي عبد الوهاب في (عيون المجالس) للحسن البصري. (ر. المدونة: 2/ 187، عيون المجالس: 3/ 1074 مسألة 760. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 701 مسألة 1256، 1257. الكافي لابن عبد البر: 244. القوانين الفقهية: 212. الشرح الصغير: 2/ 349، حاشية الدسوقي: 2/ 220).

(15/284)


الزوج تنتقل إلى عدة الوفاة بخلاف [البائنة] (1)، لأن الرجعية في معنى الزوجات يلحقها الطلاق، والإيلاء والظهار، ويجري التوارث بينهما (2) والبائنة أجنبية لكنها مستبرأة عن النكاح.
والمقصود الثاني - أن الرجعية إذا ارتجعها الزوج ثم طلقها من غير مسيس بعد الرجعة، فإنها تستأنف العدة أم تبني على ما كان منها؟ فيه قولان قدمنا ذكرهما، وكذلك إذا طلق الرجعية في العدة، وأتبع الطلاق الطلاق، ففيه ترتيب مضى وتفريعات بالغة لا نعيد منها شيئاًً. وهذا مضمون الباب.
...
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(2) عبارة الأصل فيها كلمة غير مقروءة وأخرى مقحمة، هكذا: " ويجري التوارث بينهما [ ... الزوج]، والبائنة أجنبية ".

(15/285)


باب عدة المفقود وغيره
9921 - إذا غاب الرجل عن امرأته ولم ينقطع أثره، ولم يخفَ خبره، وطالت مدة الغيبة، فالنكاح قائم، والمرأة محبوسة في حِبالة الغائب، إلا أن يُفرضَ إعسارٌ بالنفقة، وذلك يأتي في كتاب النفقات، إن شاء الله.
هذا قولنا وإن تضررت بسبب الغيبة؛ وهذا بمثابة ما لو انقطع الزوج عن زوجته في الحضر، واكتفى عنها بالجواري والسُّرِّيات، فليس لها إلا الاستمرار على النكاح.
9922 - وإن انقطع الخبر وخفي الأثر، وكان لا يُعلم حياتُه ومماته، فهذا موضع القولين الجديد والقديم، على ما سنذكرهما الآن، ونتأنق أولاً في التصوير، ونقول:
إن خفي الأثر، وانقطع الخبر، انقطاعاً يُشعر مثله بالموت، ويغلب على الظن؛ من جهة أن الحي تنتشر أخباره وينقلها الواردون والوافدون، وفي مثل هذه الصورة نُجري القولين في أنه هل تجب فطرةُ العبد الغائب على هذا الوجه؟ ولو أُعتق عن الكفارة هل نقضي ببراءة الذمة؟ فإن كان انقطاع الخبر على هذا الوجه، فهذا موضع جريان القولين.
وإن انقطع الخبر وأمكن حمله على تنائي الديار، وانتهاء الرجل في الإبعاد في الأسفار إلى مكان لا يتواصل الرفاق من [مثله غالباً] (1)، فالانقطاع على هذا الوجه لا يُغَلِّب على الظن الموتَ، وفي كلام الأصحاب تردُّدٌ في أن القول القديم هل يجري في مثل هذه الصورة؟ ظاهر الكلام أنه يجري مع احتمالٍ وتردّدٍ.
__________
(1) عبارة الأصل: وانتهاء الرجل في الإبعاد في الأسفار إلى مكان لا يتواصل الرفاق من فالانقطاع. والمثبت من تصرف المحقق.

(15/286)


هذا [كلامنا في] (1) تصوير محل القولين.
9923 - ونبتدىء بعد ذلك ذكرَ القولين: قال في القديم: تتربص بعد انقطاع الأخبار أربعَ سنين، ثم تعتد بعدها عدة الوفاة أربعةَ أشهر وعشراً، ثم تنكِح إن شاءت.
قال الشافعي: قلدت فيه عمرَ بنَ الخطاب (2)، وفيه طرف من المعنى وهو أن الضِّرار إذا عظم مدفوعٌ، وقد نفسخ النكاح بالعجز عن الإنفاق والاستمتاع وغيرهما مع تعرضهما للزوال، فإذا جاز الفسخ بهذا الضرر اليسير، فلأن يصح بالضرار المتفاحش فيما نحن فيه أولى.
وقال الشافعي في الجديد: تصبر حتى يأتيَها يقينُ طلاقه أو وفاتِه، وعنى باليقين أن يثبت سبب الفراق بطريق من الطرق الشرعية وبيّنةٍ من البينات، ثم تتوقف إن استبهم الأمر ما عُمّرت، وبقيت، وقد روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "امرأة المفقود امرأته ما لم يأتها يقين طلاقه أو وفاته" (3). وعن علي رضي الله عنه أنه قال: " امرأة المفقود لا تتزوج " (4)، ولا عبرة بالصور، فإنه لو تحقق انتقاله إلى قُطرٍ والأخبار متواصلة، فالضرار محقق [ولا] (5) يثبت حق الفسخ.
ثم إن الشافعي رضي الله عنه رجع عن قوله القديم، وغلّط (6) من يعتقد بالقول القديم، وصار إلى أنه لو قضى به قاضٍ نقضت قضاءه.
وهذا المسلك يجري في معظم الأقوال الجديدة بالإضافة إلى القديمة؛ من قِبل أن
__________
(1) في الأصل: كلام منافي.
(2) انظر الروايات عن عمر رضي الله عنه في الموطأ: 2/ 575، السنن الكبرى: 7/ 445، كنز العمال: 9/ 695 - 699.
(3) حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه رواه الدارقطني (3/ 312)، والبيهقى (7/ 445).
قال الحافظ: وإسناده ضعيف (ر. التلخيص: 3/ 466 ح 1802).
(4) أثر علي رضي الله عنه. رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/ 63 ح 207) والبيهقي في الكبرى: 7/ 445، والمعرفة: 6/ 72. وانظر التلخيص: 3/ 473 ح 1812.
(5) في الأصل: فلا.
(6) في الأصل: وغلط على من يعتقد بالقول القديم.

(15/287)


التعويل في [نقض] (1) القضاء على مصادفة قضاء القاضي سبباً معلوم بطلانه، وكذلك يجري الجديد مع القديم، فإنه بنى أقواله القديمة على اتباع الأثر، وتَرْكِ القياس الجلي، وتحقق عنده في الجديد أن ذلك باطل، فبنى نقضَ القضاء على معتقد إصرارٍ مقطوع به.
قال أبو حنيفة (2): يلزمها أن تمكث حتى يستكمل الزوج مائة وعشرين سنة، ثم تنكِح؛ لأن هذا أقصى سن الآدميين في زماننا فيما بلغنا. وهذا الذي ذكره مخالفٌ للقياس والسنة.
9924 - فإن فرعنا على القول القديم، فأول ما يقع البداية به أن الأربع سنين هل يضربها القاضي أم كيف السبيل فيها؟ أما مدة الإيلاء، فمن وقت الإيلاء، من غير حاجة إلى الضرب من جهة القاضي، وكذلك المدد المرعية في ضرب العقل على العاقلة يعتبر ابتداؤها من وقت الجناية، كما سيأتي، إن شاء الله.
ومدةُ العُنّة لا بد من استنادها إلى ضرب القاضي.
وإذا قلنا في التي تباعدت حيضتها: تتربص أربعَ سنين، ثم تعتد، فلا حاجة إلى ضرب القاضي، وهذه المدّة التي نحن فيها مما ظهر فيه اختلاف الأصحاب أخذاً من فحوى كلامهم: فقال قائلون: لا بد من رفع الحكم إلى الحاكم لينظر ويرى رأيه، ثم نبتدىء ضربَ المدة، وهي أربعُ سنين.
وقال قائلون: تمضي هذه المدة من غير ضربٍ من جهة القاضي.
وهذا الاختلاف يقرب من تردد الأصحاب في أنا إذا أثبتنا حق الفسخ بسبب الإعسار بالنفقة، فهل [تنفرد] (3) المرأة بالفسخ إذا تحقق الإعسار، أم القاضي يتولى ذلك؟ فيه اختلاف سيأتي مشروحاً.
ووجه قُرب ما نحن فيه من الإعسار أن الإحاطةَ بانقطاع الأخبار لا بد
__________
(1) في الأصل: بعض.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 405، المبسوط: 11/ 35، مجمع الأنهر: 1/ 714.
(3) في الأصل: تتضرر.

(15/288)


[فيها] (1) من اجتهاد وبحثٍ، وكذلك القول في الإعسار؛ فإنه إنما يُتوصّل (2) إليه إذا طُلب للزوج مال، فلم يوجد، فاستوى الأصلان فيما نحن فيه.
ثم إذا ضُربَ المدةُ بعد ما قررناه [ومضت] (3)، واعتدت أربعةَ أشهر وعشراً، فلا يثبت موت ذلك الغائب إلا في هذه القضية، فلا يقسّم ورثتُه مالَه، ولا يقع الحكم بعتق مدبّريه وأمهاتِ أولاده.
والذي اختاره القاضي أنه لا بد من حكم الحاكم في ضرب المدة، كمدة العُنَّة.
9925 - وإذا أردنا أن نوجز كلاماً على المدد، قلنا: مدة الإيلاء تستند إلى أمرٍ مقطوع به، وكذلك مدة ضرب العقل على العاقلة، ومدة العُنَّة مستندها دعاوى، وفرضُ إنكارٍ أو إقرار، والدعاوى لا تصح إلا في مجلس الحكم، وهذه المدة التي نحن فيها مستندها اجتهاد من غير حاجة إلى دعوى لما ذكرناه في الإعسار.
9926 - ثم تمام التفريع على القول القديم أنها إذا تربصت في السنين، ثم اعتدت أربعة أشهر وعشراً، ونكحت، فعاد الزوج الأول، فكيف الوجه؟ فنقول: إن لم تنكِح، فالزوج العائد أحق بها، والزوجية قائمة.
وإن كانت قد نكحت، فالزوج الأول العائد بالخيار بين أن ينتزعَها من الزوج الثاني، ويغرَم له مهرَ مثلها. قال القاضي: هكذا حكى الشيخُ تفريعَ هذا القول، وهو مذهب عمر.
وقد تأملت طرق الأصحاب في التفريع على القول القديم وألفَيْتُها على نهاية الاضطراب، وأنا أذكر جميع الطرق على وجوهها، ثم أسلط المباحثة عليها.
فالذي حكاه القاضي في التفريع أن الزوج الأول إذا عاد، فالخيار إليه؛ فإن أقر الزوجةَ تحت الزوج الثاني، غرّمه مهرَ مثل الزوجة، واستمر نكاح الزوج الثاني.
وإن أراد ردَّ الزوجةَ إلى نفسه، ثم الزوج الثاني يُغرّم الزوجَ الأولَ مهرَ مثل الزوجة.
__________
(1) في الأصل: منها.
(2) في الأصل: يتواصل.
(3) زيادة من المحقق.

(15/289)


وهذا على نهاية الميل عن القياس والقواعد.
وكان شيخنا والصيدلاني يحكيان هذا القولَ على نسقٍ آخر، وما [ذَكَرا فيه] (1) أمثل، قالا: إذا عاد الزوج الأول، فنقول: له الخيار، فإن اختار ردَّ الزوجةَ إليه، رددناها إليه، وقلنا: قد بان لنا أن النكاح في حقك لم يرتفع قط، والنكاح الثاني لم ينعقد أصلاً.
وإن اخترتَ تركها على ما هي عليه، فنتبين أن النكاح في حق الثاني قد صح.
ثم لا يثبت للزوج الأول العائد الخيارُ إلا مرةً واحدة، فإن استردها لم يغرَم للزوج الثاني شيئاً، وإن اختار تَرْكَها فعلى الزوج الثاني أن يغرَم للزوج الأول مهرَ مثل زوجته؛ فإنه قد فوّت على الزوج الأول النكاح فيها، فأشبه ذلك التزام المرضعةِ مهرَ المثل.
9927 - وحاصل هذا القول يرجع إلى أن أصل القول القديم مبني على دفع الضرار، ثم ليس الأمر مقطوعاً به؛ فإن النفقة دارّةٌ، وحقوق النكاح قائمةٌ، ولا ضرار: [إلا من جهة] (2) الانقطاع عن الاستمتاع، فلم ينفذ ارتفاع النكاح ظاهراً وباطناً، فإذا عاد الزوج فيعظم الأمر لو قلنا: ليس له استردادُ زوجته، [ولو ألزمناه] (3) الاستردادَ وقد نكحت زوجته وولدت، لعظم وقع هذا، فجرى التفريع مردَّداً ناشئاً من وقف العقود. ولكن نجَّزنا الإحلالَ للزوج الثاني، وهذا غريب على قانون الوقف، ولكنا تبينا تنجيز الإحلال على غلبة الظن في الموت، ثم انعطفنا آخراً على أصل الوقف. هذا مأخذ التفريع.
ثم قلنا: إن أقر الأولُ الزوجةَ تحت الثاني، فقد بأن أن الثاني أفسدَ نكاح الأول وقَطَعه، فغرِم المهرَ، فأما إذا اختار استردادَ الزوجةِ، فتغريم الثاني الأولَ المهرَ
__________
(1) في الأصل: " وما ذكر في " والمثبت من المحقق.
(2) في الأصل: لا من جهة ...
(3) في الأصل: وألزمناه.

(15/290)


بعيدٌ، ولم يُفسد الأولُ على الثاني شيئاً، ولكنه خيّب ظنَّه والظن يخطىء ويصيب.
فافترق ما حكاه القاضي، وما حكيناه في المهر؛ فإن القاضي حكى التغريم من الجانبين، ونحن أثبتناه من أحدهما، وهو أقرب، ووجه ما حكاه القاضي مذهب عمر إن صح هذا التفصيل منه.
9928 - وذكر بعض المصنفين مسلكاً آخر بدعاً نأتي به على وجهه، فقال: إذا رجع الزوج الأول، [فلا] (1) خلاف أن نكاحه مفسوخ، ولا سبيل إلى استرداد الزوجة بحكم النكاح الأول، أما النكاح الثاني، ففيه وجهان: أحدهما - أن الخيار فيه إلى الزوج الأول، فإن فسخ نكاح الثاني انفسخ، وإن أَمَرَّه ولم يفسخه، بقي ولم يرتفع، ثم قال: إذا فسخه يغرَم الأولُ للثاني عند فسخه مهرَ مثل الزوجة.
هذا أحد الوجهين -فيما زعم-.
والوجه الثاني - أنه كما (2) ظهر الأول، انفسخ نكاح الثاني بنفس ظهوره، وقد انفسخ نكاح الأول، كما قدمناه.
وهذا الذي ذكره هذا الرجل يخالف ما ذكره جميعُ الأصحاب، وما أراه إلا غلطاً محضاً؛ فإنه قطع بانفساخ نكاح الأول، ثم قال في [وجهه] (3) الأول: إذا عاد، [له] (4) حق فسخ النكاح، وهو لا يستفيد بفسخ نكاحه شيئاًً إلا أن يجدد النكاح عليها إن رضيت، ولا نظير لهذا النوع من الفسخ.
فهذا نقل هذه الطريقة.
9929 - وأما العراقيون، فإنهم ذكروا مسلكاً آخر، وأتَوْا مما يقرب بعضَ القرب، فقالوا: إذا تربصت أربع سنين، ثم اعتدت عدة الوفاة: أربعة أشهر وعشراً، وسلَّطْناها على النكاح، وأظهرنا القضاءَ بالفراق، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها -
__________
(1) في الأصل: " ولا ".
(2) كما: أي عندما.
(3) في الأصل: في وجه.
(4) زيادة من المحقق.

(15/291)


أن الفراق يقع عن الأول ظاهراً وباطناً، فعلى هذا لو عاد الأول، فتبقى الزوجة منكوحة الثاني ظاهراً وباطناً، ولا خيار لأحد، ولا تَراجُعَ ولا تغريمَ بوجهٍ من الوجوه، والفراق الواقع بهذا السبب بمثابة الفراق الواقع بالإعسار بالنفقة أو غيره من الأسباب.
والوجه الثاني - أن الفراق الذي قضينا به ظاهرٌ، ولا نحكم بنفوذه باطناً على الغيب، وفائدة ذلك أن الزوج الأول لو عاد، فهي زوجة الأول، ولا خيار: لا للأول ولا للثاني، بل هي زوجةُ الأول قطعاً، والذي جرى من الثاني وطء شبهة في نكاح الغير.
والوجه الثالث - أن الزوج الأول إذا عاد بعد ما قضينا بالفراق وتزوجت، فلا ننقضُ ما قضينا به، وهي زوجة الثاني ظاهراً وباطناً، ولا خيار ولا تغريم.
وإن عاد الأول، وسلطنا المرأة على أن تتزوج لكنها لم تتزوج، فهي مردودة إلى الأول حتماً، ولا خيار.
وهذا القائل يجعل عَوْد الزوج الأول بمثابة وجود الماء في حق المتيمم، ويجعل النكاح بمنزلة الشروع في الصلاة، ولو وجد المتيمم الماءَ قبل الشروع في الصلاة، بطل التيمم، ولو شرع في الصلاة ثم وجد [الماء] (1)، لم يكن له حكم، فالحكم بالفراق بعد التزوج مبتوتٌ ظاهراً وباطناً، وهو [قبل] (2) التزوّج على التردد.
ثم لم يُثبتوا الخيارَ ولا الرجوعَ بالمهر في شيء من هذه الأوجه، بل صرحوا ببطلان الخيار والرجوعِ إلى الغرم، ثم زادوا على ذلك، فذكروا مذهبَ عمرَ في القول القديم، على ما ذكرناه في طريقة شيخنا والصيدلاني، ثم قالوا: هذا مذهب عمر والشافعي قال بأصل مذهبه، ولم يوافقه في التفريع.
9930 - هذا بيان طرق الأصحاب، وإن استقام شيء [منها] (3) فلا يستقيم إلا
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: مثل. وهو تصحيف (على قربه) أرهقنا كل الإرهاق، حتى ألهمنا الله صوابه.
(3) في الأصل: عنها.

(15/292)


طريقةُ العراقيين، وهم أثبت النقلة نقلاً وأصحهم حكاية؛ فإن مذهب عمر في الأصل قد يعتضد بوجه من الرأي، وهو دفع الضرار، ونحن قد [نرفع] (1) النكاح بالشقاق الدائم على أحد القولين إذا اعتاص علينا فصل الخصومة، فليس ذلك بدعاً.
ثم الحد الذي يجب أن ننتهي إليه في عود الزوج ما ذكره العراقيون، ومجاوزتُه إبعاد نُجعة عن أصول الشريعة.
وأنا أضرب في ذلك مثلاً، وأقول: حديث المصراة والمحفّلة متفق على صحته، وأصل الخيار غيرُ بعيدٍ عن القياس، ومضمون الحديث في [إثبات مقابلة] (2) صاعٍ من التمر في مقابلة اللبن، وفيه بُعدٌ عن القياس، والأصحُّ ثَمَّ اتباعُ الخبر في الأصل والتفصيل؛ فإن الحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما وافق من قضاء عمر وجهاً من النظر، لم يبعد التمسك به.
فأما [ما بَعُدَ] (3) بعداً عظيماً، فلا سبيل إلى التزامه؛ فإن الخوض فيه يدعو إلى قياسٍ آخر لا عهد به في الشريعة.
9931 - ومما يتم به التفريع أن الفسخ الذي جرى القضاء به، وترتب عليه إقدامها على النكاح، هو ارتفاع النكاح أصلاً أو إنشاءُ فسخ؟ وجدتُ كلام الأصحاب متردداً في هذا من غير تصريح بنفيٍ ولا إثبات، وهو لعمري محتملٌ، يجوز أن يقال: يرتفع النكاح، ويُشعر بذلك أمرُنا إياها بعدّة الوفاة؛ فإن هذه العدة لا تليق بفسخِ يُنشأ وفراقٍ يقطع النكاحَ. هذا وجهٌ.
ويجوز أن يقالَ: لابد من فسخٍ؛ فإنا لا نعرف خلافاً في أنها لو رضيت وصابرت، لاستمرت على ظاهر النكاح.
ثم إذا أثبتنا إنشاء الفسخ، تردد الرأيُ في أنها تُنشئه أم القاضي على حسب التردد في الفسخ بالإعسار، كما سيأتي، إن شاء ألله تعالى؟
ثم إن حكمنا بارتفاع النكاح، فهو بعد أربع سنين ليستعقب عدةَ الوفاة، وإن
__________
(1) في الأصل: يرتفع.
(2) في الأصل: في مقابلة إثبات ...
(3) في الأصل: يعدّ.

(15/293)


حكمنا بأنه لا بد من إنشاء الفسخ، ففي النفس تردد، ولعل الأشبه أنه يقع بعد الأربع سنين والعلم عند الله.
9932 - ثم قال العراقيون: إذا فرعنا على القول القديم؛ وشرعت المرأة في التربص أربعَ سنين، فلها طلب النفقة من مال الزوج الأول في السنين الأربع، وهذا تصريح منهم بأن الحكم بارتفاع النكاح بعد ذلك، فإذا استفتحت التربّص أربعة أشهر وعشراً، فليس لها طلبُ النفقة، وإن بأن لنا أنها كانت حاملاً، لأنها تربصت على نيّة عدة الوفاة، والمعتدة عدة الوفاة لا تستحق النفقة.
وهذا الذي ذكروه ظاهر إذا قلنا بنفوذ الفراق ظاهراً وباطناً. وإن قلنا: الفراق لا ينفذ باطناً عند عود الزوج الأول، فإذا عاد، فقد بأن أنها كانت زوجة، فيحتمل ما قالوه من سقوط النفقة؛ فإنها كانت على اعتقاد الاعتداد، وهذا لا ينحط عن النشوز، ويحتمل أن تستحق النفقةَ إذا عاد الزوج الأول، فإنها لم تُحدث شيئاًً، وإنما أضمرت عقداً مجرداً والعقد المجرد لا يكون نشوزاً مخالفةً، كما لو أضمرت أن تبرح ووطّنت النفسَ عليه، ولكن منعها من إيقاع ما اعتقدته مانع، فلا تكون ناشزة بمجرد النية.
وللأول أن ينفصل (1) ويقول: ليس الاعتداد إلا تربصاً في مسكن النكاح، وقد وُجد هذا مع انضمام القصد إليه، وإضمار التبرج (2) عزم متعلق بأمرٍ موعود غيرِ موجود.
هذا تمام التفريع على القول القديم.
9933 - فأما إذا فرعنا على القول الجديد، فحكمنا عليها أن تصابر النكاحَ إلى ثبوت يقينِ الموتِ، أو الفراقِ، فإن نكحت، [فالنكاح] (3) فاسد، قال الشافعي: قضاء القاضي به منقوض، وقد بيّنا وجه ذلك.
__________
(1) " وللأول أن ينفصل ": الانفصالُ هنا (من مصطلحات الجدل) ومعناه ردّ حجة الخصم ودفع ما أورده عليه من إشكالات، والمعنى هنا أن لناصر القول أو الوجه الأول أن يقول: ليس الاعتداد إلا تربصاً ...
(2) التبرج: المراد هنا النشوز الذي فيه الكلام.
(3) في الأصل: والنكاح.

(15/294)


ثم قال الأصحاب: إذا نكحت، صارت ناشزة على الزوج، وسقطت نفقتها، وهذا الذي ذكره الأصحاب بيّنٌ إذا برزت عن مسكن النكاح.
فأما إذا جرى النكاح، ومضت أيام قبل اتفاق الزفاف وجريانِ الخروج من مسكن النكاح، فظاهر كلام الأصحاب أنها تكون ناشزة، وقد يتطرق إلى نظر الفقيه في هذا احتمالٌ، كما قدمته في التفريع على القول القديم عند خوضها في عدة الوفاة وتجريدها القصدَ إليها.
وسقوطُ النفقة بالنكاح المجرد تفريعاً على الجديد أَوْجَه؛ إذ قد صار إلى تصحيح هذا النكاح عمرُ بنُ الخطاب، ثم طوائفُ من العلماء بعده، والنكاح أمرٌ أنشىء وظهر، وليس كالتربص على قصد الاعتداد.
فهذا ما أردناه نقلاً وتنبيهاً.
فلو فُرِّق بينها وبين الزوج الثاني، وعادت إلى ملازمة حكم الزوج الأول، فهل تعود نفقتُها قبل أن يبلغ الخبر زوجَها الأول، فعلى قولين سيأتي ذكرهما في كتاب النفقات -إن شاء الله- في كل نشوز يجري في غيبة الزوج، ثم يفرض تركه والعَوْدُ إلى الطاعة قبل بلوغ الخبر، إن شاء الله.
9934 - ثم قال الأصحاب: إذا نكحت والتفريعُ على الجديد، فأتت عن الزوج الثاني بولد، فالكلام في إلحاقه بالأول أو بالثاني وفي تردده بينهما على حسب ما تقدم الرمز إليه فيما سبق، واستقصاؤه في باب القائف، إن شاء الله.
ثم الزوج الأول يعود، ونكاحه قائم، ويحال بين الزوجة والزوج الثاني، غيرَ أنها تعتد عن الزوج الثاني في صلب نكاح الأول عدةَ الشبهة، وفي ابتدائها القولان المقدمان: أحدهما - أنها من آخر وطأة. والثاني - أنها من وقت الافتراق.
ولو كانت أتت بولد، فلحق بالثاني، وكان يحتاج إلى اللِّبأ (1)، الذي لا يعيش الرُّضَّع إلا به، فلا بد من تمكينها من ذلك، وإن لم نجد مرضعاً ذاتَ لبنٍ غيرَها، وكان الولد لو فطم، لهلك وضاع، فلا مَحال بينه وبينها، ثم نفقتُها ساقطةٌ في مدة
__________
(1) اللِّبأ: وزان عنب أول اللبن عند الولادة.

(15/295)


اشتغالها بالرضاع إن كان يتعذّر استمتاع الزوج، فنفقتها تُدَرُّ عليها، وسيأتي تقرير هذا الأصل في كتاب الرضاع، إن شاء الله.
ولو أذن الزوج الأول للزّوجة في الإرضاع الذي يتعذر بمثله الاستمتاع، فإن لم يكن الإرضاع واجباً عليها، وكنا نجد مرضعةً سواها، فإذنُ الزوج الأول في الإرضاع بمثابة ما لو أذن لها في أن تسافر في شُغل نفسها، وقد اختلف القول في أنها لو سافرت بإذن زوجها في شُغل نفسها، فهل تسقط نفقتها؟
وإن كان إرضاعُها حتماً، وكان في ترك الإرضاع ما يؤدِّي إلى ضَياع المولود، فإذا أذن الزوج، فهذا فيه تردُّدٌ عندنا: يجوز أن يقال: لا حكم لإذنه؛ فإن الإرضاع مستحَقٌ، وإذا أسقطنا أثر إذنه، ففائدتُه سقوط النفقة قطعاًً؛ فإن الإرضاع وإن كان واجباً، فهي التي تسببت إلى ذلك، وجرّت إلى نفسها الإرضاع.
ويجوز أن يقال: إذا أذن لها في الإرضاع -وإن كان واجباً- فالمسألة تُخرّج على القولين المذكورين فيه إذا سافرت بإذن زوجها في شغل نفسها.
ولو أذن السيد لعبده في الإحرام بالحج، لم يمكن تحليله، وأبو حنيفة يقول: له أن يحلله؛ فإن إذنه في الإحرام لغوٌ، مع تصور الإحرام منه، وتلك المسألة تنفصل عما نحن فيه؛ فإن الشافعيَّ حمل الإذن في الإحرام على استدامته، وليس يتحقق مثلُ هذا فيما نحن فيه، فإن ابتداء الإرضاع وإدامتَه جميعاً واجبان في الصورة التي ذكرناها.
وقد يتصل بالتفريع على القول الجديد ما أشار إليه المزني، وهو أن الزوج في الغيبة لو مات، وتبين فساد النكاح الثاني، فيجتمع عليها عدة الوفاة، وعدة الوطء بالشبهة.
وقد تمهد القول في أن العدتين لا تتداخلان، وذكرنا الفرق بين أن يتقدم موجَب العدة من جهة الزوج وبين أن يتأخر، ولا حاجة بنا إلى إعادة تلك الفصول.
***

(15/296)


"باب استبراء أم الولد من كتابين" (1)
9935 - الأصل في الاستبراء ووجوبِه السنةُ والإجماعُ، فأما السنة، فما روي أنه نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سبي أَوْطاس: " ألا لا توطأ حاملٌ حتى تضع، ولا حائِلٌ حتى تحيض " (2) وأجمع المسلمون على أصل الاستبراء، وإن اختلفوا في التفاصيل، ثم التربص الواجب ينقسم في أصل الوضع إلى ما يجب بعد المسيس عند زوال النكاح، وإلى ما يجب في ملك اليمين.
ثم ما يجب على أثر النكاح يُسمّى عِدّة لتعلقه بعَددٍ من الأطهار أو الحيض على اختلاف العلماء.
والذي يجب بسبب ملك اليمين يسمى استبراءً، ومعنى الاستبراء يشمل النوعين، ولكن شُهر ما يتعلق بملك اليمين بلقب الاستبراء، وما يتعلق بحرمة النكاح بلقب العدة.
أما ما يتعلق بالعدة، فقد سبق استقصاؤه.
9936 - وهذا أوان استفتاح القول في الاستبراء، وفي هذا الأصل ركنان: أحدهما - يشتمل على تفصيل القول في الاستبراء عند زوال الملك.
والثاني - ينطوي على تفصيل الاستبراء عند جلب الملك، وقد عقد الشافعي في كل ركن باباً وبدأ بباب الاستبراء عند زوال الملك.
__________
(1) هذا العنوان بهذا النص في (المختصر) وهو بتمامه:
(باب استبراء أم الولد): من كتابين. امرأة المفقود وعدتها إذا نكحت غيره وغير ذلك ... الخ (ر. المختصر: 5/ 43).
(2) حديث: "ألا لا توطأ حامل حتى تضع ... " الحديث. رواه أحمد 4/ 173، وأبو داود: النكاح، باب في وطء السبايا، ح 2157، والدارقطني: 3/ 257، والبيهقي في الكبرى: 7/ 449.

(15/297)


فإذا أعتق الرجل أم ولده أو مات عنها، فعَتَقت بموته، فعليها الاستبراء بقرء واحد، خلافاً لأبي حنيفة (1)، فإنه أوجب عليها أن تتربص ثلاثَ حيض، ونظر إلى كمالها بالحرية مع أول جزء من الاستبراء، ومعتمدُنا أن الزائل عنها ملك يمين، والتعويلُ في إيجاب العدة ذات العَدَد على زوال النكاح، وهذا ما قررناه في (الأساليب) (2) ومجموعات الخلاف.
ثم الذي نذكره قبل الخوض في مقصود الباب أن القرء الواحد الذي أطلقناه في الاستبراء في هذا الباب الذي مضمونه زوال الملك، والقرء الواحد الذي سيأتي اعتباره في الباب الثاني، وهو جلب الملك طهرٌ أم حيض؟ ذكر الأئمة قولين وقالوا: أصحهما والجديد منهما - أنه حيض واحدٌ.
والقول الثاني - أنه طهرٌ.
توجيه القولين: من قال: إنه طهر، قاس على القرء المعتبر في العدة؛ إذ لا فرق بين البابين إلا في الاتحاد والتعدد، وقد بان أن الأقراء المعتبرة في العِدد هي الأطهار، فليكن الاستبراء واحداً منها، ولعل هذا يترجح في الاستبراء بشيءٍ، وهو أن التعبد في الاستبراء أغلب، ولهذا يجب الاستبراء على من اشترى جاريةً من امرأة، أو من ملكِ صبيٍّ لا يطأ مثلُه، فإذا غلب التعبدُ على الباب، لزم قطعُ النظر عن اعتبار ما هو علامة براءة الرحم.
ومَنْ قال بالقول الثاني، احتج بظاهر الخبر المنقول في سبي هوازن، واحتج أيضاًً بأن قال: إذا اتحد المعتَبر هاهنا وقد تمس الحاجة إلى تبرئة الرحم عن شغل سبق،
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 406 مسألة 912، رؤوس المسائل: 442 مسألة 312، اللباب: 3/ 82.
(2) (الأساليب) أحد كتب الإمام في الخلاف. وأما مجموعات الخلاف، فهي كتبه في (علم الخلاف) وله في هذا المجال.
1 - الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية.
2 - العمد.
3 - غنية المسترشدين. ولم يصلنا من هذه الأربعة إلا الدرّة المضية.

(15/298)


فيجب أن يكون ذلك الواحدُ المعتبر علامةً دالة على براءة الرحم، وليس كذلك الأطهار في العِدد؛ فإنها تقع محتوِشَة بالدماء، فيحصل تربصُها في الزمان الذي كان [تحل فيه] (1) لزوجها، وهو الطهر، ويحصل معه دلالاتٌ من براءة الرحم، وهذا المعنى لا يتحقق والقرء المعتبر واحد، فيجب تغليب ما يدل على براءة الرحم.
وأيضاًً فإن النكاح [يُجَدّد] (2) بعد العدة، فانقضاؤها يفيد حِلَّ النكاح، فلا يضرّ أن تنقضي العدة بالطعن في الحيض؛ فإن الحيض لا ينافي صحة النكاح، وأما الاستبراء في الملك، فإنما يُعنى لاستعقابه حلَّ الوطء، فلو جعلنا الاستبراءَ بالطهر، لما حلت بالحيض.
هذا توجيه القولين.
التفريع:
9937 - إن حكمنا بأن الاستبراء بالحيض، فلا خلاف أن بعض الحيض لا يقع الاكتفاء به، ولو دخلت وقتَ الاستبراء، وهي في بقية من الحيض، فلتطهر، ثم لتحض حيضة كاملة، وهذه الحيضة هي المحسوبة استبراء، ثم إذا طهرت من الحيضة الثانية، فاستبراؤها الحيضةُ الثانية، [وما تقدمها من طهرٍ غيرُ معتد به] (3)، وإن كانت محرمةً فيه، إذا فرعنا على الأصح الأظهر، وهو أن الاستبراء بالحيض.
فأما إذا قلنا: الاستبراءُ بالطهر، فنذكر صورتين، ونأتي فيهما باضطراب الأصحاب: الصورة الأولى - إذا صادفها العتق في الجزء الأخير من الحيض، وتربصت للاستبراء طهراً كاملاً، وطعنت في الحيض، فهل نقول: كما (4) طعنت قضينا بأنها تحل، إذا فرعنا على أن الاستبراء طهر؟
ظاهر كلام المشايخ في التفريع على هذا القول أنها لا تحل ما لم تمض الحيضةُ، حتى يحصل دليلُ براءة الرحم؛ فإنا أقمنا الأطهار في العدد أقراءً معتداً بها بجريان
__________
(1) في الأصل: تحبل منه.
(2) في الأصل: يجد.
(3) في الأصل: وما تقدم غير معتد، وإن كانت محرمة فيه.
(4) بمعنى عندما طعنت.

(15/299)


حيضتين أو حِيَض دالّة على البراءة، فيجري الطهر الواحد معتداً به بشرط أن ينضم إليه حيض كامل.
وهذا وإن كان مشهوراً -ذكره الشيخ أبو علي [أنه] (1) المذهب- فيحتمل أن يكون الطعن في الحيض يخرجها عن الاستبراء، وهذا هو القياس، على القول الذي نفرع عليه.
ولست فيه على ذِكر احتمالٍ مجرد، بل في كلام الأصحاب ما يدل عليه؛ فإنّ الحيضة [إن كانت] (2) هي المعتبرة، فهذا تفريعٌ على أن الاستبراء بالحيض، وإن كان المعتبر الطهر، فيجب الاكتفاء بالطعن في الحيض، لاستبانة انقضاء الطهر، ومحال أن يقع آخرُ التربص معدوداً من التربص. نعم، قد يقع هذا في الأول من حيث أنا ننتظر بعده ما تعتد به.
ويتجه على هذا تردُّدٌ في أن الطعن في الحيض باللحظة الواحدة هل يكفي، أم لا بد من مُضي أقل الحيض استظهاراً، ليُعلَم أن ما رأته ليس دمَ فساد، وهذا قد قدمنا له في كتاب العدة نظيراً.
هذا تفصيلُ القول فيه إذا جرى موجِب الاستبراء في الجزء الأخير من الحيض، ووقع الطهر الكامل بعده.
9938 - فأما إذا جرى موجِب الاستبراء في أثناء الطهر، والتفريع على أن الاستبراء بالطهر، فالذي ذهب إليه المحققون من الأئمة أن بعض الطهر طهر، كما أن بعض الطهر في العدة طهرٌ، ويعود الكلام إلى أن الطعن في الحيض هل يكفي، أم لا بد من مضي الحيضة الكاملة؟ وقد قدمنا ذلك في الصورة المتقدمة على هذه.
ومن أصحابنا من قال: بعض الطهر لا يقع الاعتداد به على القول الذي نفرع عليه، بل نقول: لا احتساب بالبقية، فتحيض، ثم تطهر طهراً كاملاً، ثم تحيض، وهذا أورده المعلِّقون عن القاضي.
__________
(1) في الأصل: "من" وسوغ لنا هذا التغيير الحكمُ بالضعف على مقابله. (ر. روضة الطالبين: 8/ 425).
(2) في الأصل: وإن كانت.

(15/300)


ويمكن أن يقال في توجيهه: إنا أقمنا بعض الطهر في العدة مقام طهر كامل، لأن العدة أقراء، وهي ذات عَددٍ متعلقةٍ بالزمان، ومن شائع الكلام تسمية شيئين وبعض الثالث في الزمان بصيغة الجمع، كما قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وإنما وقت الحج شهران، وبعض من الثالث، فأما الواحد من الجنس لا (1) ينطلق على بعضه.
ثم إذا اشترطنا طهراً كاملاً، فيجب القطع بأن الطعن في الحيضة الثانية كافٍ: إما بلحظة وإما بيوم وليلة، لأنه مضى حيض كامل، قبل هذا الطهر، فليقع الاكتفاء به إن كنا نطلب علامةً دالّة على براءة الرحم، بل يكفي الطعن في الحيضة الثانية.
هذا بيان ما يقع الاستبراء به إن كانت المستبرأة من ذوات الأقراء.
9939 - فإن كانت من ذوات الأشهر، فقد قدمنا في المطلقة الأمة ثلاثة أقوال إذا كانت من ذوات الأشهر: أحدها - أنها تعتد بشهر ونصف.
والثاني - أنها تعتد بشهرين.
والثالث - أنها تعتد بثلاثة أشهر.
ويجري في الاستبراء قولان: أحدهما - تُستبرأ بشهر واحد؛ فإن الشهر الواحد في مقابلة القرء، والقول الثاني - أنها تستبرأ بثلاثة أشهر؛ فإنها أقل مدة يدل مضيُّها على براءة الرحم، كما سبق تقريره في العِدد.
وإن كانت المستبرأة حاملاً، نظر: فإن كانت حاملاً ممن منه الاستبراء، فإذا وضعت الحملَ، حصل الاستبراء، وهو الأصل في كل ما يتطرق إليه اعتبار براءة الرحم، قال منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا لا توطأ حامل حتى تضع ".
هذا إذا كان الحمل عمن منه الاستبراء، فأما إذا كان الحمل عن أجنبي: زناً، فإذا وضعته في زمان الاستبراء، فالمشهور الذي ذهب إليه الجماهير أن الاستبراء ينقضي بوضعه، لعموم قوله: " ألا لا توطأ حامل حتى تضع "؛ ولأن المرعيَّ فيه قيامُ دلالة
__________
(1) جواب أما بدون الفاء.

(15/301)


البراءة، ووضمع الحمل إذا خلا الرحم بوضعه أول الأدلة على البراءة.
وذكر القاضي وجهاً آخر أن الاستبراء لا ينقضي بوضعه، قياساً على العدة، فإنها لا تنقضي بوضع حملٍ نقطع بانتفائه عن الزوج، ثم قال: الوجهان يمكن بناؤهما على القولين في أن الاستبراء بماذا في حق ذات الأقراء؟ فإن قلنا: الاستبراء بالحيض، فكأنا [نعوِّل] (1) على ما يدل على براءة الرحم، وإن قلنا: الاستبراء بالطهر، فكأنا نرعى تعبداً في الباب، فيليق بهذا ألا يحصل بوضمع الحمل العالق عن الزنا المحض.
هذا كلامه رضي الله عنه.
وقد انتجز ما يقع الاستبراء به ولا اختصاص لما ذكرناه بالباب الذي افتتحناه.
9940 - ونحن الآن نخوض في مقصود الباب، فنقول: إذا أعتق الرجل أم ولده، ولم يقدم على العتق استبراءً، أو عتقت بموته، ولم يتقدم على الموت الاستبراءُ، فيجب الاستبراء بقُرء، كما سبق تفصيله، ويحرم نكاحُها في زمان الاستبراء، على من يبغي نكاحها.
ولو اشترى جاريةً ووطئها، ثم أعتقها، وجب الاستبراء، كما يجب في المستولدة إذا أعتقها أو عَتَقت بالموت.
فأما إذا [استبرأ] (2) مالكُ المستولدة أمّ ولده، ثم زوجها، فالأصح المشهور صحةُ التزويج، على ما سيأتي في أمهات الأولاد.
ولو كانت مشغولةَ الرحم منه، فأراد أن يزوِّجها، لم يجد إلى تزويجها سبيلاً، وكذلك لو وطىء جاريتَه القِنّة ثم استبرأها، فله أن يزوّجها. ولو وطئها ثم أراد أن يزوجها من غير استبراء، فالنكاح باطل عندنا، خلافاًً لأبي حنيفة (3).
والأصل الذي يجب الإحاطة به أن اشتغال الرحم بالماء المحترم يمنع تسليط الغير
__________
(1) في الأصل: نعود.
(2) في الأصل: اشترى. وعلى قرب هذا التصحيف إلا أنه طوّح بنا في مهامه بعيدة، من تقدير خرم وسقط، ومن تقدير تصحيف آخر، وبعد معاناة طويلة ألهمنا الله سبحانه سرّ الخلل وهدانا إلى الصواب. سبحانه له الفضل والمنة.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 326 مسألة 822.

(15/302)


على الشغل قطعاًً، وما يفرض من تعبدات العدد وراء هذا.
ثم مواقع الكلام منها تختلف، فقد يتمحض التعبد، وقد يتجه الحمل على حسم الباب، مع الالتفات على أصل الشغل، فأما التسليط على شغل رحم مشغول، فلا يتخيله ذو بصيرة في الشريعة.
9941 - فإذا تبين ما ذكرناه من صحة النكاح في دوام الملك على العتيق المستولدة إذا جرى الاستبراء، وانتظم معه الحكم بفساد النكاح قبل الاستبراء عن الشغل الواقع، فيبتني على ذلك غرضنا، ونقول: إذا جرى استبراءٌ في الملك مسلِّط على النكاح، ثم لم يتفق التزويجُ حتى عَتَقَت أم الولد، أو عَتَقَت القِنّة، ففي وجوب الاستبراء ثلاثة أوجه: أحدها - لا يجب الاستبراء؛ فإن التزويج كان جائزاً قبيل العتاقة، فليجز بعدها، فإن العتاقة أزالت الملك، وما جدّدت ملكاً حتى نقولَ: تجدُّدُ الملك على الرقبة يوجب القطع ببراءة الرحم، كما سيأتي في الباب الثاني، إن شاء الله تعالى.
والوجه الثاني - أنه لا بد من الاستبراء كتبدّل الحال، والتي عتَقَت ملكت نفسها بالعَتاقة، كما يملك المشتري الجاريةَ بناء على ملك البائع، وكما يملك السابي المسبيةَ بناء على الحرية الأصلية، ثم تجدُّدُ الملك على الرقبة يوجب الاستبراء، فتجددُ العَتاقة المفيدةِ ملكَ العتيقة نفسَها يوجب الاستبراء.
والوجه الثالث - أنا نَفْصِل بين القِنَّة تعتِق، وبين المستولدة، فنقول: لا بد من استبراء المستولدة إذا عتَقَت فإنها على الجملة تُشابه المفترَشات، وقد ثبتت لها بعضُ أحكام الفراش في لحوق الولد، وجريان اللعان على أحد القولين. وأما القِنّة إذا عتَقَت، فليس عتقها زوالاً لفراش ولا ملكاً جديداً.
هذا بيان الأوجه الثلاثة.
9942 - ولو اشترى الرجل جاريةً، ولم يدر ما كان قبل شرائه، واستبرأها، ثم أعتقها، فهذا أحد الصور المدرجة في الأوجه.
ولو استبرأها البائع قبل البيع، ثم باعها، فأعتقها المشتري، ولم يطأها، فهل يجوز تزويجُها من غير استبراء؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا استبرأها

(15/303)


المشتري ثم أعتقها. [والصورة] (1) الأخيرة أولى بوجوب الاستبراء، وامتناعُ التزويج قبله؛ من جهة أن الاستبراء لم [يوجد] (2) قَبْلَ الملك المتقدم على العتق، والدليل عليه أن المشتري لو أراد أن يطأها تعويلاً على استبراء البائع، لم يكن له ذلك (3) وفاقاً، فإذا لم يؤثر ذلك الاستبراء في استباحته إياها بملك اليمين، وجب ألا يؤثر في تزويجها.
ويتّصل بهذا أن المشتري لو أراد تزويجها، وقد تقدم الاستبراء من البائع، ففي المسألة وجهان مع دوام الملك، وسبب هذا الخلاف أن التزويج مبني على الاستبراء، والاستباحةُ بملك اليمين ليس تعتمد تقدّم شغل، بل هو تعبد محض، كما سنذكره في الباب الثاني.
ولهذا نقول: من اشترى جارية من امرأة لم يستبحها بملك اليمين حتى يستبرئها، وإن لم يجر وطء.
9943 - ولن يقف الناظر على سر الاستبراء ما لم يَنْفصل له باب التزويج عن باب الاستباحة بملك اليمين.
ويتم غرضنا في ذلك بسؤال وجواب عنه، فإن قال قائل: صورتم الاستبراء من البائع، وبنيتم عليه تصرفاً وخلافاً، ومعلوم أن الزوج لو استبرأ امرأته أقراءً، ثم طلقها لم يكن لذلك الاستبراء الجاري في صلب النكاح أثر، وذلك بسبب جريانه في حالة استمرار الحِل عليها، وهذا محقق في استبراء البائع؛ فإنه إذا استبرأها، فالاستحلال دائم بملك اليمين؟
قلنا: الاستبراء المطلوبُ لأجل النكاح لا يبعد جريانه في ملك اليمين أصلاً، وعليه بنينا استبراء الرجل مملوكته لزوجها، فهذا الأصل متفق عليه، فبنينا عليه استبراء البائع، وذكرنا تزويج المشتري، فانتظم الكلام على السداد، ولاح انفصال الباب عن الباب. وهو الأمر كله في هذا المنتهى.
__________
(1) في الأصل: بالصورة.
(2) في الأصل: "لم يَجْر" وهو خللٌ واضح. والتصويب من (صفوة المذهب).
(3) لم يكن له ذلك لتجدد الملك. وهو أحد أسباب وجوب الاستبراء.

(15/304)


لا جرم، نقول: إذا استبرأ البائع الجاريةَ ثم باعها، لم يستبحها المشتري باستبراء البائع وجهاً واحداً، إذا أراد الاستباحة بملك اليمين، فلا أثر إذاً للاستبراء في الملك في الاستباحة بالملك، وإنما التردد في استباحة النكاح بالاستبراء الجاري من البائع.
9944 - ومن تمام البيان في ذلك أن السيد إذا أعتق المستولدةَ حيث يجب الاستبراء ويحرم التزويج من الغير، فهل يحل له أن يتزوجها في زمان الاستبراء؟ فعلى وجهين.
توجيههما: من قال: يحل، قال: لأن الاستبراء عنه، فأشبه عدة الزوج وعدة الوطء بالشبهة، وللزوج أن ينكح المعتدة عنه إذا لم تحرم عليه بالثلاث، وكذلك ينكح الواطىء بالشبهة المعتدةَ عنه.
ومن قال: لا يجوز، قال: تجددت عليها حالةٌ، فلا يُقدم على استباحتها ما لم يمض استبراءٌ، ونفس الإقدام على النكاح استباحة، فصار هذا كالاستباحة بملك اليمين.
ولو باع رجل جارية ولم يرفع يده عنها، واستقال البائعُ فيها، فأقيل؛ فإنه لا يستبيح الوطء ما لم يستبرىء.
وحقيقة هذا الخلاف ترجع إلى أن استباحة النكاح في مسائل الاستبراء هل يُنْحَى بها نحو استباحة الوطء بملك اليمين، وفيه الخلاف الذي قدمناه.
[فإن] (1) أحببت أَخْذَ ذلك على قرب، قلت: إذا استبرأها، ثم أعتقها، فهل يحل تزويجها؟ فيه اختلاف سبق ذكره: فإن أوجبنا الاستبراء وإن كنا نجوز التزويج قبله بناء على الاستبراء الواقع، فلا محمل لهذا الاستبراء إلا التعبدُ، فعلى هذا إذا أراد السيد بعد إعتاق أم الولد والقِنّة أن ينكحها، لم يكن له ذلك، حتى يمضي الاستبراء تعبداً.
وإن قلنا في الصورة الأولى: لا يجب الاستبراء، ويجوز التزويج من الغير، فإذا منعنا التزويج من الغير، فلا يبعد ألاّ يمنع السيد من التزوج وقد انكشف الغطاء بالانتهاء إلى هذا المنتهى، والله أعلم.
__________
(1) في الأصل: بأن.

(15/305)


فصل
قال: " فإن مات سيدها وهي تحت زوج أو في عدة ... إلى آخره " (1).
9945 - مسائل هذا الفصل تستدعي تقديمَ أصلين مقصودين في أنفسهما أحدهما - أن المولى إذا زوج أم ولده، حيث يجوز التزويج، ثم أعتقها وهي مزوّجة، أو مات عنها، فالمنصوص عليه أنه لا يجب الاستبراء عليها، وذلك لأن العتق صادفها مشغولةً بحق الزوج، والذي يحقق ذلك أن حق افتراش المولى زال بالزوجية، وصارت مفترشة للزوج بالنكاح، فطريان العتق لا أثر له، والنكاح منعقد، ولئن كان الاستبراء على وجهٍ شرطاً بعد العتق في ابتداء نكاح، فهو محمول على التعبد، فأما فرض تأثير العتق في دوام النكاح، ولا شغل من غير الزوج، فبعيدٌ عن مدارك الفقه.
وذكر بعض أصحابنا قولاً آخر أُراه مخرجاً، ذكره الشيخ وغيرُه من أحبار المذهب: أنه لا بد من الاستبراء -كما سنصفه ونفصله-.
9946 - فإن قلنا: لا يجب الاستبراء، فإن جرى العتق في دوام النكاح، فلا استبراء، ولو كان الزوج طلقها أو مات عنها، وكانت في العدة، فجرى العتق، فلا استبراء أيضاًً. والعبارة التي استعملها الأصحاب في توجيه نفي الاستبراء: " أن العين صادف اشتغالها بزوجيةٍ أو حق زوجية، ولم يتضمن انحلالُها عن افتراش المالك، فلا يجب الاستبراء مترتباً على زوال ملكه ".
فعلى هذا لو صادفها العتق وهي في اللحظة الأخيرة من عدة الزوج، فلا استبراء أصلاً.
وإن قلنا: يجب الاستبراء، نظر: فإن جرى العتق وهي في العدة، كان الاستبراء بالإضافة إلى العدة بمثابة عدة من شخص يطرأ سببها على عدة الزوج، فالوجه تقدم عدة الزوج، فلتستكملْها، ثم تبتدىء الاستبراء، بعد نجاز العدة، كما تفعل ذلك إذا وُطئت بشبهة في أثناء عدة الزوج، ولم تعلق عن الواطىء.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 44.

(15/306)


وإن جرى العتق في أثناء النكاح، فهو بمثابة ما لو جرى وطءُ شبهة في أثناء النكاح، ولو فرض ذلك، لتعين استقبال العدة على أثر الوطء، إذ ليس للنكاح منتهى [نرتقب] (1) الانتهاءَ إليه، وزوالَ النكاح به، فلا بد من استعقاب سبب العدّة العدةَ.
كذلك إذا جرى العتق في أثناء النكاح، فالوجه استقبال الاستبراء على الاتصال بالعتق.
والمذهبُ الصحيح الذي عليه التعويل أن العتق في النكاح والعدّة لا يوجب الاستبراء.
ولو وطئت المستولدة بشبهة، وخاضت في العدة، فأعتقها مولاها، فالأصح إجراء ذلك مجرى النكاح، والعدة عن النكاح، حتى نقول: العتق لا يوجب الاستبراء على المذهب الصحيح، وفيه القول المخرج.
ومن أصحابنا من قال: يوجبُ الاستبراءَ ولا يمنع من وجوبه عدةُ الشبهة؛ فإنها ليست فراشاً ولا تابعاً لفراش، وهذا غير سديد. فهذا أحد الأصلين الموعودين.
الفصل الثاني
في بيان ما إذا طلق زوجُ المستولدة المستولدةَ مع بقاء الملك
9947 - فإذا طلقها بعد الدخول، واعتدت عن الزوج، ثم عتَقَت بعد العدة، فهل يجوز تزويجها من غير استبراءٍ جديد، أم لا يجوز تزويجها حتى تستبرأ؟ [في] (2) المسألة قولان منصوصان: أحدهما - أنه لا حاجة إلى الاستبراء، وفيما تقدم من العدة عن الزوج مقنع في إفادة براءة الرحم، ثم لم يوجد من المولى بعدها افتراش وشغل رحم، فليقع الاكتفاء بما تقدم.
والقول الثاني - أنه لا بد من الاستبراء بعد العَتاقة؛ فإن الاستبراء بتبدل الحال إما من الرق إلى الحريّة، وإما من الحرية إلى الرق، وإما من ملكٍ إلى ملك، فلا حكم
__________
(1) في الأصل: مرتب.
(2) زيادة من المحقق.

(15/307)


لما مضى من العدة عن الزوج، والعتقُ يوجب برأسه استبراءً.
وهذان القولان مأخوذان من الأصل الذي مهدناه في صدر الباب، وهو أن المولى لو استبرأ الجارية المستولدة أو القِنة، ثم أعتقها، فهل يحل تزويجها من غير استبراء؟ فيه الخلاف المقدم، ووجه التداني في المأخذ بيّن، فإنه استبرأها في الأصل الأول، ثم أعتقها، وهاهنا جرى الاستبراء عن الزوج، ثم اتفق الإعتاق.
فإن قال قائل: العدة عن الزوج، والاستبراء إن يثبت، فهو عن المستولد.
والأصل الذي تقدم فيه إذا استبرأ السيدُ أمَّ الولد عن نفسه، ثم أعتقها. قلنا: الأمر كذلك، ولكن سبيلُ الكشف في هذا أنه ما زوّجها إلا وقد استبرأها استبراءً معتبراً، ثم تخلل النكاح، وجرى الاستبراء عنه، فكان العتق مترتباً على الاستبراء الأول المقدم على النكاح، فلا فرق إذا بين المسألتين إلا أن نكاحاً جرى، واستبرأت العدة منه، وهذا القدر كافٍ في التنبيه على الغرض.
9948 - ومما يتعلق بتمام الغرض منه أن الزوج لو طلقها واستقبلت العدةَ، والملك مطرد عليها، ثم انقضت العدة وحصل العتق متصلاً بالانقضاء، ولم تعد إلى حكم المستولِد في لحظة بعد العدّة، فهل يجب الاستبراء لأجل التزويج من الغير؟ فعلى طريقين: من أصحابنا من قطع بأنه لا يجب الاستبراء، لأنها لم تعد بعد العدة إلى فراش المولى، ولكنها كانت معتدة، ثم عتَقَت.
ومنهم من قال: في هذه الصورة أيضاًً قولان؛ فإنّ تبدّل الحال من الرق إلى الحرية قد تحقق.
وإذا ضممنا هذه الصورة إلى ما إذا تخلّت عن العدة، وبقيت على الملك، ثم عتَقَت، انتظم من مجموع ما ذكره الأصحاب وحكَوْه في الصورتين ثلاثةُ أقوال: أحدها - أنه لا يجب الاستبراء أصلاً، والقول الثاني - أنه يجب الاستبراء، والقول الثالث - أنه يفصل بين أن يتصل العتق بمنقرَض العدة، وبين أن يقع بعدها بزمان، فإن اتصل لم يجب الاستبراء، وإن انفصل وجب.
9949 - ومما يتعلق بكشف المقصود في المسألة أنه لو زوج أم ولدٍ حيث يجوز له

(15/308)


ذلك، ثم طلقها زوجها قبل المسيس، فأعتقها المولى، فهل يجب الاستبراء بسبب العَتاقة؟ هذا يخرج عندنا على الخلاف الذي قدمناه؛ فإن التي تطلق من غير مسيس كالتي تطلق بعد المسيس وتستبرأ بالعدة، فلا فرق، وسبب ذلك أن التعويل على الاستبراء المتقدم على النكاح المسلِّط على التزويج، وهذا الأصل جارٍ في الصورتين، فقد تناظرت الصور، ولاحظت أصلاً واحداً، وإن اختلفت في مبانيها.
وقد انتجز الموعود من تقديم الأصلين، ونحن نخوض بعدها في مسائل الفصل والله المستعان فنقول:
9950 - إذا زوج الرجل أم ولده، ثم مات الزوج والسيدُ، فلا يخلو: إما أن يقع الموتان معاً، وإما أن يتقدم موت أحدهما على الثاني، فإن ترتب أحد الموتين على الثاني، نُظر فإن تعين السابق منهما، فالحكم ما نصفه، ونقول: إن مات السيد أولاً، فالمذهب الصحيح أنه لا يجب الاستبراء، فإن العتق صادف اشتغالها بالزوجية، فلا استبراء. هذا ما عليه التفريع.
ثم إذا مات الزوج بعد ذلك بزمان قريب أو بعيد استقبلت زوجتُه عنه عدة الأحرار أربعة أشهر وعشراً، وليست مؤاخذةً باعتبار الحيض لأجل الاستبراء؛ فإن العتق لم يقتَضِ الاستبراء أصلاً لمصادفته النكاح.
هذا إذا سبق موت المولى.
فأما إذا سبق موت الزوج، فإنها تستقبل عدة الوفاة شهرين وخمسة أيام؛ لأنها كانت رقيقة لما مات الزوج، ثم ينظر في موت السيد، فإن مات بعد شهرين وخمسة أيام من موت الزوج، فقد انقضت عدة الوفاة عن الزوج، وحصل العتق بعد تخلّيها عن النكاح والعدة، وهل يقتضي هذا استبراءً عن السيد؟
نُظر إن وطئها بعد انقضاء العدة عن الزوج، ثم عتَقَت بموته، فيجب الاستبراء، وإن لم يطأها، فعتَقَت بعد العدة، ففي الاستبراء ما قدمناه من الخلاف؛ فإنها عائدة إلى الملك، والعتقُ مترتب على العود من غير تخلل شُغل بين العود وبين العتق، وإذا أعدنا الأقوال في هذا الفصل أشعر قولٌ ثالث بالفصل بين أن يحصل الموت بعد العود

(15/309)


بلحظة، وبين أن يحصل الموت عقيب العود من غير فصل، ولم نُعد تلك الأقوال لا على صيغة الجمع ولا على صيغة التقسيم والترتيب، فإنا على قرب عهد بها.
هذا إذا مات السيد بعد مضي شهرين وخمسة أيام من موت الزوج.
فأما إذا مات السيد قبل مضي عدة الإماء، فلا يجب الاستبراء، تفريعاً على الأصح؛ فإن حصول العتق صادفها وهي مشغولة.
ولكن يعود اختلاف القول في أن البائنة إذا عتَقَت في خلال العدة، فهل تكمل عدة الحرائر، أم تكتفي بعدة الإماء، نظراً إلى حالتها في ابتداء العدة، واختلافُ القول في هذا مشهور، فإذاً تُكمل أربعةَ أشهر وعشراً في قول، وتكتفي بشهرين وخمسة أيام في قول.
هذا تفصيل القول فيه إذا ترتب أحد الموتين على الثاني، وعلم السابق واللاحق.
9951 - وأما إذا علمنا ترتب أحد الموتين على الثاني، ولكن أشكل علينا السابق والمتأخر، فلا يخلو إما أن نعلم أنه قد تخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام، أو نعلم أن المتخلل بين الموتين أقلُّ من هذا، أو يُشكل الأمرُ.
فإن علمنا أن المتخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام، فالذي يجب العلم به قبل الخوض في التفصيل أن الاحتياط واجب المراعاة، فلا تخرج عما عليها إلا بيقين، وهذا أصلٌ ممهد في أحكام العِدد.
وإذا بان ذلك، قلنا بعده: إن كنا لا نوجب الاستبراء إذا عادت إلى الملك وعتَقَت، فالواجب عليها أن تتربص أربعة أشهر وعشراً من آخر الموتين، وإذا هي فعلت ذلك، فقد [خرجت] (1) عما عليها، وإنما أوجبنا المدة الكاملة لجواز أن يكون موت السيد متقدماً، ولو كان كذلك، لم نوجب الاستبراء، وأوجبنا من موت الزوج عدة كاملة أربعة أشهر وعشراً.
ولو قدرنا موت السيد متأخراً، فمقتضى هذا لو علمناه أن يُكتفى بشهرين وخمسة أيام، ولا استبراء إذا كنا نفرع على أن التخلي عن علائق النكاح والعود إلى حكم
__________
(1) في الأصل: جرت.

(15/310)


المولى لا يوجب الاستبراء عند وقوع العتق، فإذاً لا استبراء كيف قدّر الأمر، وتجب العدة الكاملة في تقديرٍ؛ فأقصى الاحتياط الأخذ بأقصى الأمدين، واحتساب الابتداء من آخر الموتين.
فأما إذا فرعنا على أن العود إلى المولى إذا ترتب العتق عليه يوجب الاستبراء عن المولى، فعلى هذا وجوب أقصى الأمرين ممكنٌ، ووجوب الاستبراء ممكنٌ، وهي مؤاخذةٌ بالاحتياط، فعليها أن تعتبر الأمدين جميعاً، فتتربص من آخر الموتين أربعة أشهر وعشراً [فيها] (1) حيضة، فإذا اتفق لها ذلك، فقد خرجت عما عليها، وإذا تربصت أربعة أشهر وعشراً، ولم تحض وهي من أهل الحيض، صبرت إلى أن يمر بها حيضة، ولو مرت الحيضة بها في أوائِل التربص، كفى مرورها إذا وقع بعد آخر الموتين.
هذا بيان ما عليها، وقد أجرينا المسألة إلى هذا المنتهى مفرّعةً على أن العتق في خلال النكاح لا يوجب الاستبراء؛ فإنه المذهب المنصوص، فلم نر التفريع على مخرج ضعيف يضطرب به نظم الكلام.
9952 - وحكى الشيخ أبو علي في الشرح وجه بعيداً وحكاه العراقيون، ونحن ننقله على وجهه، قال: قال بعض الأصحاب: إذا اعتُبِر الجمعُ بين الأمد الأقصى والحيضة، فلتقع الحيضة بعد مضي شهرين وخمسة أيام من العدة المنسوبة إلى الموت المعتبر ابتداؤها من آخر الموتين، حتى لو وقعت قبل ذلك لا يعتد بها، ثم بالغ الشيخ بعد حكاية هذا الوجه في التزييف والتضعيف.
وعندنا أن مثل هذا ليس وجهاً يحكى؛ إذ الوجوه الضعيفة إن كان صدَرُها عن رأي ضعيف، فقد تُذكر وتزيّف، وقد يقع منها ما هو باطل قطعاًً، ولكنه منسوب إلى [سوء] (2) النظر، والمسائل التي تعد من مسائل الاجتهاد قد يقع فيها نظر فاسد من بعض المجتهدين قطعاًً، وهذا الوجه الذي ذكره ليس من هذا الفن، بل صدَرَ عن غفلةٍ ونسيان.
__________
(1) في الأصل: منها.
(2) غير مقروءة في الأصل.

(15/311)


ونحن ننبه عليه، فنقول: لو جرت الحيضة بين الموتين، فلا اعتداد بها بوجه، وقد (1) صورنا تخلُّلَ شهرين وخمسةِ أيام بين الموتين، فنسي صاحب هذا الوجه أن ابتداء الأمد الأقصى من آخر الموتين، فكان في فكره بقية من أن الحيضة لا يعتد بها لو جرت من دوام النكاح، فقال ما قال عن هذا، فهذا إذاً عثرةٌ تقالُ، وليس وجهاً يقال (2)، ولولا اشتمال الأصول على حكايته، لما حكيته.
هذا كله إذا تخلل بين الموتين شهران وخمسة أيام.
9953 - فأما إذا تخلل بين الموتين أقلُّ من ذلك، فأقصى الاحتياط أن تتربص أربعةَ أشهر وعشراً من آخر الموتين، ولا استبراء عليها تفريعاً على المنصوص؛ فإنه إن تقدم موت السيد، صادف العتقُ الاشتغال بالنكاح، ولم يجب الاستبراء، وإن تقدم موت الزوج، صادف حصولُ العتق بموت المَوْلى بقية من عدة الوفاة، فلم يجب الاستبراء؛ إذاً كيف فرض الأمر، وأمكن تقدمُ موت المولى [أوجبنا] (3) أربعة أشهر وعشراً من آخر الموتين.
9954 - ولو لم نَدْرِ كم المتخلل من الزمان بين الموتين، فنوجب الأمرَ الأقصى مع الاستبراء، بناء على جواز تخلل شهرين وخمسة أيام فصاعداً، والتفريع على أن العود إلى حكم المولى يوجب الاستبراء عند العتق.
وقد بنينا أجوبتنا على أصلٍ مقطوع به وهو أنها لا تخرج عما عليها إلا إذا قطعت [بأداء] (4) كلِّ ما يقدَّر وجوبُه.
هذا كله تفريع المذهب فيه إذا ترتب أحد الموتين على الثاني.
9955 - فأما إذا ماتا معاً، فلا شك أنا لا نوجب الاستبراء؛ فإن ارتفاع النكاح وحصول العتق وقعا معاً، والاستبراء إنما نوجبه على طريقةٍ إذا عُهدت متخلية عن عُلقة
__________
(1) في الأصل: قد (بدون الواو).
(2) تنبه لما في العبارة من جناسٍ وسجعٍ مطبوع.
(3) في الأصل: "فأوجبنا".
(4) في الأصل: بعادته.

(15/312)


النكاح عائدةً إلى المولى ولو في لحظة، فإذا وقع الأمران معاً، فلا عَوْد ولا استبراء.
ويبقى النظر في أنها تستكمل عدةَ الحرائر أم كيف التفصيل فيهما؟ قد ذكرنا قولين في أن العتق لو طرأ على العدة والمعتدةُ بائنة، فتكمل عدة الإماء أم عدة الحرائر؟ ولو قدرنا تقدم العتق على ارتفاع النكاح بلحظة، ثم فرض ارتفاع النكاح عن حرة، فلا شك أنها تعتد عدةَ الحرائر، فإنها كمُلت وهي منكوحة، ثم صادفها الفراق، فلو وقع العتق مع الفراق من غير تقدم ولا تأخر، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: نقطع بوجوب عدة الحرائر؛ نظراً إلى ابتداء العدة.
ومنهم من قال: يخرج هذا على القولين في طريان العتق على عدة الإماء، وأقصى ما يسمح به ترتيب قولين على قولين.
ووجه هذا أن كمال العدة يتلقى من كمال الفراش، وهذه ما كانت على الكمال في الفراش قط، فانتظم مما ذكرناه ثلاثةُ أحوال: أحدها - أن تكمل بالحرية ولو في لحظة ثم تطلّق، وحكمها كمال العدة. والأخرى أن تستفتح العدة ناقصة بالرق ويطرأ الكمال، وهذا محل القولين. والحالة المتوسطة بين الحالتين اللتين ذكرناهما- ارتفاع الكمال بالحرية مع الفراق، وفيها طريقان، وما ذكرناه من ترتيب الأحوال يجري في الموت الذي نحن في تفصيل حكمنا في الطلاق وغيره من أسباب الفراق.
9956 - ولو لم نَدْرِ أوقع الموتان معاً أو تخلل بينهما زمان، ثم لم ندر [لو] (1) تخلل الزمان كم كان قدره؟ فالوجه الأخذ بالأحوط، وهو أربعة أشهر وعشر، مع مراعاة حيضة فيها أو بعدها.
وأمثال هذا لا أعدها من معاصات الفقه؛ فإن مدارها على فكرٍ، وإنما [أعواص] (2) الفقه في التفاف وجوه النظر، وتقابل معاني الأصول [ومعارضات] (3) الإحالات للأشباه القريبة على حكم المناقضة. والله المستعان في الجلىّ والخفي.
__________
(1) في الأصل: " ولو ".
(2) في الأصل: أحواص.
(3) في الأصل: وان تعارضات.

(15/313)


فصل
قال: " ولو وطىء المكاتَب، أمته فولدت ... إلى آخره " (1).
9957 - ليس لمقصود هذا الفصل تعلق خاص بالاستبراء، [وتحصيلهُ] (2) سيأتي مستقصًى في [كتاب] (3) الكتابة، ولكنا لإقامة رسم الجريان على ترتيب (السواد) نقول: المكاتَب إذا اشترى جارية لم يملك الانفراد بوطئها، والتسرِّي بها دون إذن المولى، وإذا أذن المولى، فهذا من باب الإذن في التبرع، وللشافعي قولان في أن تبرعات المكاتب هل تنفذ بإذن المولى؟ فإن قلنا: إنها تنفذ، حلّت له الجارية إذا أذن المولى.
وإن لم تنفذ التبرعات بالإذن، لم يثبت حِلّ الوطء بالإذن، والقول فيما يكون تبرعاً من المكاتب من أصول الكتابة، وضبطُه ليس بالهين، والغرض الآن [إلحاقُ] (4) التسرِّي بالتبرعات.
ثم إذا وطىء الجارية فأتت بولد، فالولد يتكاتب عليه، وليس في كتاب الكتابة أصل أعظمُ وأطمُّ من أحكام الولد المكاتب، ثم تكاتب الولد يثبت، سواء فرعنا على أن الوطء يحل أم يحرم؟ وسواء فرض الوطء قبل الإذن أو بعده، ثم إذا ثبت التكاتب في الولد، فمن آثاره أنه لا يبيعه ولكن إن رَقَّ، رَقَّ الولد، وإن عَتَقَ عَتَقَ معه.
فأما القول في أمية الولد للجارية، فحاصل ما ذكره الأصحاب قولان: أحدهما - أن الأمية تثبت على نسق ثبوت تكاتب الولد.
والثاني - أنها لا تثبت أصلاً.
فإن قلنا: إنها تثبت، فمن آثارها ألا يملك المكاتب بيعها، كما لا يملك بيع
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 45.
(2) في الأصل: وتحصيل.
(3) في الأصل: في كتابه.
(4) في الأصل: التحاق.

(15/314)


الولدِ المتكاتب. ثم إذا رَقَّ رَقَّت، كما يرِق الولد، فإن عُلقةَ الحرية في أمية الولد لا تزيد على ما يثبت للولد، وإن عَتَقَ، تأكدت أمية الولد، وعَتَقَ الولد، وإن لم تثبت أمية الولد في الحال، فمن آثار ذلك أنه يجوز [للمكاتب] (1) بيعُها في [الحال] (2).
9958 - فلو عَتَق المكاتَب، فهل تثبت أمية الولد؟ نقدم على هذا تجديدَ العهد بما إذا وطىء الرجل جارية غيره بشبهةٍ، وأتت منه بمولود حرٍّ، فلا تصير أم ولدٍ له، ولكن لو اشتراها أو ملكها بجهة من الجهات، فهل تصير أم ولد له؟ فعلى قولين، سيأتي ذكرهما، إن شاء الله.
فنعود ونقول: لو علقت الزوجة المملوكة من زوجها بولد رقيق، ثم اشترى زوجته، لم تصر أم ولد له عندنا، فإن الولد انعقد رقيقاً قنّاً [إِثْر] (3) العلوق.
وإذا وطىء المكاتب جاريةَ الغير بشبهةٍ حسبها زوجة نفسه، فالقول في ولده عويص، لسنا نخوض فيه. أما إذا وطىء جارية نفسه، فالولد [مكاتب] (4)، فإذا عَتَق، والتفريع على أن أمية الولد لم تثبت في دوام الكتابة، فكيف السبيل فيها الآن؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأنها لا تثبت؛ فإنها لم تثبت عند العلوق، ولم يكن الولد العالق حراً أيضاًً، فنُجري القولين عند حصول الملك على الأم.
ومن أصحابنا من ذكر في ثبوت الاستيلاد عند عتق المكاتب قولين؛ من جهة أن الولد العالق وإن لم يكن حراً لدى العلوق، فقد كان على عُلقة من الحرية، ثم انتهت تلك العُلقة إلى الحقيقة، فإن الولد يعتِق بعتقه، فلا يبعد تخريج القولين.
وغوائل الفصل تأتي في كتابها، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: المتكاتب.
(2) في الأصل: الحالات.
(3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(4) في الأصل: " متكاتب ".

(15/315)


9959 - فإن قيل: أي تعلق لهذا الفصل بالاستبراء؟ قلنا: تقدم عليه المستولدةُ وحكمُها، فانجرّ الكلام إلى الاستيلاد في حق المكاتب، هذا ترتيب (السواد)، ويمكن تكلفُ وجه بربط الفصل بالاستبراء، وذلك بأن يقال: إذا قلنا: المكاتب يستبيح الجارية بإذن المولى، وقد اشترى الجارية، فالاستبراء من وقت الملك أو من وقت الإذن، وهذا أصل من الأصول، يأتي في الباب الذي يلي هذا الباب، وقد أوفينا عليه.

(15/316)


باب الاستبراء من كتابي (1) الاستبراء
قال الشافعي: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام أَوْطَاس ... إلى آخره " (2).
9960 - الباب المتقدم كان مقصوراً على طريان العتق على أمهات الأولاد أو الإماء الرقيقات، ومضمونُ هذا الباب في الاستبراء الذي يجب على من يتملك جارية، ويحاول استباحتَها بملك اليمين، وقد تجري مسائلُ يمتزج فيها مضمون البابين.
والأصل الذي عليه التعويل في هذا الباب أن من يثبت له ملك على رقبة جارية بشراء، أو اتهابٍ، أو وصية، أو إرثٍ، أو بسبي واسترقاق، فإنها لا تحل له حتى يستبرئَها، ثم ما يجري الاستبراء به قد مضى مستقصًى في الباب الأول، فلا حاجة إلى إعادته.
والأصل في الاستبراء نداءُ منادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المسبيات، ثم أجمع العلماء قاطِبةً على أن كلَّ مِلكٍ متجدد -في اقتضاء الاستبراء- ينزل منزلة الملك الثابت على رقبة المسبية، ثم الاستبراء الثابت في هذا الفن يجبُ سواءٌ كانت المملوكةُ بكراً أو ثيباً، صغيرةً أو كبيرة، حاملاً أو حائلاً، وسواء ترتب الملك على شُغل سابق، أو حصل غيرَ مرتبٍ على شغل، فمن اشترى جارية من امرأة، أو من صبي لا يطاُ مثلُه، أو من رجل وما كان وطىء فعليه الاستبراء.
فإن جرى استبراء قبل البيع، فذلك الاستبراء لا أثر له في الاستبراء الواجب بسبب الاستباحةِ بملك اليمين، وقد قدّمنا في الباب الأول أن الاستبراء الجاري بالملك السابق هل يسلِّط المشتريَ على التزويج؟ فذاك الخلاف في التزويج، ولا خلاف بين
__________
(1) قد مرّ مثلُ هذا آنفاً أول أبواب الاستبراء، حيث قال: (باب استبراء أم الولد - من كتابين) وهذا العنوان هنا مثل سابقه مأخوذ من مختصر المزني، غير أنه هنا فيه بعض التغيير، فهو في المختصر: " (باب الاستبراء) من كتاب الاستبراء والإملاء " (5/ 45).
(2) ر. المختصر: 5/ 45.

(15/317)


الأصحاب في أن المشتري لو أراد استباحتها بملك اليمين، فالاستبراء الذي مضى قبل البيع لا يغني عنه شيئاًً، فليمثِّل الناظر الفرقَ بين البابين في نفسه؛ فإن التزويجَ مبناه على الشغل والبراءة، والاستبراءُ الواجب على المستبيح بملك اليمين مبناه على تجددِ الملك لا غير.
ومن هذا الوجه يتأكد التعبدُ في هذا النوع من الاستبراء؛ فإنه غير مربوط بشغلٍ سابق، بخلاف العدة المترتبة على فراق يجري في الحياة؛ فإنها لا تجب إلا بوطء، كما تمهد موضوع العدة.
ثم أوضح الأصحاب هذا الأصل بتصوير أملاك متجددة قد يستبعد المبتدىء وجوبَ الاستبراء عندها، فلو اشترى رجل جارية واستبرأها، ثم باعها، واستقال البيعَ بعد زوال الملك، فعليه أن يستبرئها مرةً أخرى، سواء قلنا: الإقالةُ فسخ أو بيع، فكل ما يجدد الملكَ، سواء كان بيعاً أو فسخاً؛ فإنه يوجب على من يبغي الاستباحة بالملك استبراءً جديداً، وسنعود إلى تقرير ذلك من بعدُ، إن شاء الله.
9961 - فإن قيل: هل يُتصورمسلك يسقط الاستبراء ويسلّط على الوطء دونه؟ قلنا: نذكر حكايةً مستفادة جرت للرشيد مع أبي يوسف، ونستاق الحكاية على وجهها، ثم نأخذ في أصلٍ من أصول الباب يشتمل على الجواب عن إمكان إسقاط الاستبراء.
قيل: عُرضت جوارٍ على الرشيد، فوقعت واحدة منهن الموقعَ، فحَرَص على الإلمام بها قبل الاستبراء، فراجع العلماء في إمكان ذلك، فلم ير واحدٌ منهم مسلكاًَ يُسقط الاستبراءَ، وكان أبو يوسف في أخريات القوم، فقال: يا أمير المؤمنين لو رُفع مجلسي، فرفع على الكل، فقال: يا أمير المؤمنين، سيدها [يزوّجُها] (1)، ثم تشتريها مزوَّجةً، فيطلقها الزوج، فتحل لأمير المؤمنين من غير استبراء.
وروي أنه قال: يزوجها أمير المؤمنين من بعض خدمه، ثم يأمره بتطليقها، فتحل له من غير استبراء، وقد شَهرَ أصحابُ أبي حنيفة الهارونية بين أظهرهم، واختلفوا
__________
(1) في الأصل: يتزوجها.

(15/318)


فيها، فقال بعضهم: الهارونية هذه، ومضمونها التسبُّبُ إلى إسقاط الاستبراء.
وقيل: الهارونية مسألة أخرى، وهي أن الرشيد غاظه شيء من بعض حظاياه، وكانت في بيتٍ، فحلف لا تخرج منه، وراجع العلماءَ، فلم يجدوا للبرّ موضعاً، فقال أبو يوسف: الوجه أن تضرب عليها خيمةً تسترها عن الغِلمة، ثم تنقض البيتَ، فتخرج، ولا يحنث أمير المؤمنين، فإنها لا تكون خارجة من البيت المشار إليه.
وقيل: الهارونية مسألة أخرى، وهي أنه نظر إلى الجواري اللواتي خلّفهن عليه أبوه، فمال إلى واحدة منهن، فذكرت أن [أباه] (1) كان أصابها، فازداد حرصاً عليها، ولم يؤْثر اقتحام الحرمة، فقال أبو يوسف: لا يقبل قولُها فيما ادّعته من الإصابة (2).
قال أئمتنا: أما مسألة اليمين المعقودِ على المنع من الخروج من البيت، فجوابنا فيها جوابُ أبي يوسف والسبب فيه أن الحنث والبرّ معقودان على البيت، وفي هذه انعدامُ متعلّقِ اليمين برّاً وَحِنثاً، فلا وجه إلا ما قاله أبو يوسف.
وأما ادعاء الجاريةِ إصابةَ الأب، فجوابنا يوافق جوابَ أبي يوسف؛ فإن الأصل عدمُ الإصابة، والملك على الجملة مسلّط، فلا يقبل قولُها.
ولا يخفى سبيل الورع على من يحاوله، ثم للتورع درجات مأخوذة من غلبات الظنون، فمهما (3) اقتضى ظاهر الشرع رفعَ الحظر، وغلب على الظن بسببٍ خفيٍّ محرِّمٌ، فلا حظر، ولكن الورع الاجتناب.
ثم ترتب الدرجات في الورع على حسب ترتب الظنون، وإلى هذا أشار الرسول
__________
(1) في الأصل: أباها.
(2) قصة حيلة أبي يوسف للرشيد في شأن الجارية، حكاها الخطيب البغدادي في تاريخه، وكذلك ابن خلكان، ولكن الأحناف لم يذكروها فيما رجعنا إليه من كتبهم، ولا في ترجمتهم لأبي يوسف، وكأن الأحناف ينكرونها ولا يصدقونها، بل يجعلون ذلك من الادعاء عليهم، وآية ذلك أن الكوثري أنكر هذه الحكاية، وعدها مكذوبة على أبي يوسف، ومن أشنع الفرى عليه (ر. تاريخ بغداد: 14/ 250، 251، وفيات الأعيان: 6/ 384، تأنيب الخطيب: 275، مناقب الإمام أبي حنيفة وصاحبيه للذهبي: ص 47 التعليق رقم (1) للكوثري).
(3) فمهما: معناها: فإذا.

(15/319)


صلى الله عليه وسلم إذْ قال عليه السلام في القصة التي ستأتي في كتاب الرضاع: " كيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما "؟ والذي يمهد ما ذكرناه في الورع تأصيلاً وتفصيلاً قول المصطفى عليه السلام: " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " وهذا منه صلى الله عليه وسلم إحالةٌ للمتورّع على غلبات الظنون.
9962 - وأما مسألة إسقاط الاستبراء، فإنها عسرة الخروج على مذهبنا؛ فإن اشترى الرجل جارية، لم يملك تزويجها؛ حتى نبني عليه سقوطَ الاستبراء، وقد قدمنا في الباب قاعدةَ المذهب، في أن التزويج يستدعي ترتباً على استبراء، ثم ذلك الاستبراء هل يشترط جريانه في ملك المزوّج، أم يكفي جريانه في ملك البائع؟ فيه تردد مهدنا أصلَه، وأوضحنا تفريعه.
وأبو حنيفة (1) يجوّز للذي يطأ مملوكة نفسه أن يزوجها عقيب الوطء، وهذا من فَضَحات مذهبه. وإن صورنا التزويج من ملك الجارية قبل بيعها، [فشرط] (2) تصحيح التزويج تقدم الاستبراء منه أيضاًً.
ثم لو كان تَقَدَّم الاستبراء منه، ثم زوج (3)، واشتراها مَنْ طلبها مزوّجةً، وطلقها الزوج، ففي هذا اختلاف نصوص، واضطراب الأصحاب في الترتيب، وهو من أقطاب الباب.
وإن قال من يريد البيع والتزويج: قد [استبرأتُها] (4)، فينقدح قبولُ قوله، ومن هذا الطرف ينتصب حيلةً على قولٍ سنصفه في إسقاط الاستبراء.
9963 - ونحن الآن نخوض مستعينين بالله تعالى في هذا الأصل، وننقل ما فيه من النصوص، ونذكر اختلاف الأقوال، ولا يصفو الأصلُ ما لم نُجرِ وجوهاً من الانعطاف عليها عوداً على بدء، فنقول: نص الشافعي في الأم على مسألتين، وأجاب فيهما بجوابين ظاهرهما الاختلاف والتناقض.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 218.
(2) في الأصل: فنشترط.
(3) كذا: (زوَّج) بحذف المفعول: (زوّجها).
(4) في الأصل: استبرأها.

(15/320)


ونص عليهما في الإملاء، وأجاب فيهما بجوابين على الضدّ من جوابيه في الأم.
قال في الأم: " من اشترى جارية معتدة عن زوج، أو اشتراها وهي مزوجة، ثم طلّقها زوجُها، فاعتدت إن كانت ممسوسة، أو تخلّت من غير عدة إن لم تكن ممسوسة، فليس على المشتري استبراء مقصود؛ فإذا انقضت بقية عدة الزوج، حلّت للمشتري، وإن تخلّت عن النكاح من غير عدة، حلت له من غير استبراء " هذا نصه في إحدى المسألتين.
وقال في الأم أيضاً: " لو زوج السيد أمته حيث يصح تزويجها، فطلقها الزوج بعد المسيس، واعتدت، فعلى السيد أن يستبرئها بعد العدة، لا تحل له إلا باستبراء مقصود، يفرض جريانُه بعد انقضاء العدة عن الزوج ".
هذا بيان المسألتين، ونَقْلُ جوابي الأم [فيهما] (1).
وقال في الإملاء: " من اشترى معتدة عن زوج، فانقضت عدتها، لم تحلّ للمشتري إلا باستبراءٍ جديد مقصودٍ بعد انقضاء العدة ". وقال في الإملاء: " إذا زوّج السيد أمته، فمسها، ثم طلقها، واعتدت عن زوجها، حلت للسيد من غير استبراء على العدة " فجرى جواباه في الإملاء مضاداً لجوابيه في الأم.
هذا نقل النصوص، وأول ترتيب نبتديه أن نذكر في كل مسألة من المسألتين قولين على الإطلاق، ونوجههما، ونفرع عليهما، فإذا نجز الغرض من ذلك، انعطفنا على أول المسألة، وتصرفنا على مأخذ النصوص، ثم ننظر بعده فيما يكون.
فنقول أولاً: من اشترى جارية معتدة عن زوج، فانقضت العدة، فهل تحل للمتملّك من غير استبراء مقصود بعد العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الأم أنها تحل من غير استبراء. والثاني - وهو المنصوص عليه في الإملاء أنها لا تحل إلا باستبراء مستفتَحٍ بعد العدة.
9964 - توجيه القولين: من قال: لا حاجة إلى الاستبراء بعد مضي العدة، احتج
__________
(1) في الأصل: منهما.

(15/321)


بأن قال: علة وجوب الاستبراء ثبوت الملك على الرقبة، وقد جرى ذلك والجارية مشغولة بالعدة، والعدةُ تُحرِّمها على مالك الرقبة من غير فرض استبراء مقصود في حق المالك، فكأن العلّة في اقتضاء الحكم استدعت محلاً، وهي فراغُ الجارية عن كل محرِّم سوى الاستبراء، وإذا كانت مشغولة، فقد فقدت العلة محلّها، وسقط أثرها، ثم الأثر الساقط لا يعود بفراغها؛ فإن العلة إذا لم تقتضِ حكمَها مقترناً بها، فقد خرجت عن كونها علة، وإذا هي فرغت، فقد مضت العلة، ولم يثبت تجددُ ملكٍ عند الفراغ.
هذا وجه قول الأم.
ومن قال بالقول الثاني احتج بأن قال: تجدد الملك يوجب استبراءً، فإن كانت الجارية مشغولةً، فقد تنجز بالعلة وجوب الاستبراء، وإنما تأخر أداؤه وإجراؤه، وهذا غير ممتنع، فإن من وطىء معتدة عن الزوج بشبهة ولم يحبلها، فالوطء يوجب العدة، ولكن تأدية عدة الوطء بالشبهة تتأخر إلى الفراغ من عدة الزوج.
وهذا القول أفقه وأوجه، وفيما ذكرناه انفصال عما وجهنا به القولَ الأول.
التفريع على القولين:
9965 - إن قلنا بقول الأم، فلو اشترى مزوَّجة ثم طلقها الزوج قبل الدخول، فلا استبراء أيضاً؛ تعويلاً على أنها كانت مشغولةً بحق الزوج عند حصول تجدد الملك، فإذا طلقها الزوجُ قبل المسيس، حلت للمشتري من غير استبراء، وعليه يُخرَّج جواب أبي يوسف موافقاً لهذا القول من مذهبنا، وليس فيه ما يخرِم أصلاً كلياً؛ فإن النكاح ترتب انعقاده على استبراء، ثم لم يوجد في النكاح شُغل رحم، فليس في إسقاط الاستبراء تسليطٌ على شغل رحم مشغول، وإنما فيه إسقاط استبراء ثبت أصله بعارضٍ اضطربت الظنون فيه.
وإذا فرعنا على قول الأملاء: فلو اشترى معتدةً، فالجواب ما تقدم، ولو اشترى مزوّجةً، فحق الزوج في وضعه على التأبّد، وتجددُ الملك إن أوجب الاستبراء، فتقديرُه وقوفُ أدائه على ارتفاع النكاح يوماًً من الدهر، ولا يرتبط [ارتفاع النكاح بمدة

(15/322)


ينتظر انقضاؤها] (1)، فيعترض في هذه الصورة ما نبهنا عليه.
ولكن إن كان كذلك، فمهما (2) خلت عن حق الزوج، لم تحلّ للمشتري إلا باستبراء مفتتحٍ مقصود، وذلك الاستبراء لا ينقضي وهي تحت الزوج، بخلاف ما لو وطئت الزوجة بالشبهة، فإن العدة عن الواطىء تعقب الوطءَ، والسبب فيه أن تسلط الزوج بعد اشتغال الرحم بماء الواطىء بالشبهة محال، فلا وجه إلا أن تشتغل بالتربص عقيب الوطء. وإذا انقضت مدةُ العدة، عادت مستحَلّة للزوج.
فأما الاستبراء الثابت على المشتري، فيستحيل انقضاؤه في دوام التزويج؛ فإنه لو فرض ذلك، لم يستعقب حِلاً للمشتري، ووضعُ الاستبراء على أن يستعقب انقضاؤه الحِلَّ لمن عليه الاستبراء، فإذاً إذا اشترى مزوّجةً ومسها الزوج، ثم طلقها، فإنها تعتد عن الزوج، ثم يستبرئها المشتري، وإن لم يكن الزوج مسها، فكما (3) طلقها يستبرئها المشتري، وتحل له.
هذا بيان أصل القولين والتنبيه على التفريع عليهما في مسألة واحدة.
9966 - فأما المسألة الثانية وهي إذا زوج السيد أمته، فمسها الزوج، وطلقها، واعتدت عن الزوج، فهل يتوقف استحلال السيد إياها على استبراء مقصود بعد العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الأم أنه لا بد من استبرائها.
والقول الثاني - أنه لا يجب استبراؤها، بل تحل للمولى بعد انقضاء العدة من غير استبراءٍ جديد، وهذا هو المنصوص عليه في الإملاء.
9967 - توجيه القولين: من قال لا يتوقف الاستحلال على استبراءٍ بعد العدة، احتج بأن الملك المطرد على الرقبة لم [يطرأ] (4) عليه زوالٌ وتجدُّدٌ، ولكن جرى من جهة الزوج شغلٌ، ثم انقضى ما هو استبراء عنه، وهو العدة، فوقع الاكتفاء به،
__________
(1) في الأصل: " ولا يرتبط الارتفاع النكاح بهذه ينتظر انقضاؤها " ففي العبارة تصحيف وآثار عجمة.
(2) فمهما: المعنى: فإذا.
(3) فكما: بمعنى عندما.
(4) في الأصل: يطرد عليه زوال.

(15/323)


واطرد الحِل بعد مضيّه، وصار بمثابة ما لو وطئت زوجة الإنسان بالشبهة، فإذا انقضت عدة الشبهة، فالحل مستمر بحكم النكاح.
ومن قال بالقول المنصوص عليه في الأم، احتج بأن التزويج أثبت استحقاقَ حِلِّ البضع للزوج، ثم لا يعود استحقاق السيد إلا بانقضاء العدة، فينبغي أن يقتضي تجدد الاستحقاق في حل البضع استبراءً، وهذا أخصُّ باقتضاء الاستبراء من تجدد الملك على الرقبة.
هذا بيان توجيه القولين.
9968 - ويتفرع عليهما ارتفاعُ التزويج من غير فرض مسيس، فإذا فرعنا على قول الأم، فطلّق الزوج الأمةَ قبل المسيس، لم يستحلّها المالك من غير استبراء لما أشرنا إليه من عَوْد الاستحقاق بعد زواله.
وإذا فرعنا على قول الإملاء، لم يجب على المالك استبراءٌ؛ لاطراد الملك على الرقبة، ولم يوجد من جهة الزوج شُغل يقتضي الاستبراءَ عنه.
9969 - وإذا ثبت ما ذكرناه من إجراء القولين في كل مسألة، رجعنا بعد ذلك إلى الكلام على النص، فنقول: النصان المنقولان عن الأم في المسألتين ظاهرهما التناقض؛ من جهة أنه أوجب الاستبراء على المالك إذا زال التزويج الطارىء على الملك بناءً على تجدّد الاستباحة بعد زوالها، وهذا التعليل يقتضي أن يقال: إذا اشترى مزوّجة، ثم تخلت عن الزوج، تعيّن الاستبراء، لأنه يستحق استباحتها بتخلّيها عن الزوج، فلئن لم يقتضِ تجددُ الملك على الرقبة استبراء، لأنه صادفها مشغولة بحق الغير، فليقتضِ تخلّيها استبراءً لثبوت حق الاستباحة.
وكنت أود أن يكون تصرف الأصحاب في مسألتي الأم وجوابي الشافعي فيهما من طريق النقل والتخريج كما أشرت إليه من اختلاف الجوابين، ولم يصح عندي أن الشافعي ذكر المسألتين في الأم متواليتين، فيعسر لذلك طريق النقل والتخريج.
فإن والى الشافعي بين جوابيه في المسألتين، فالممكن في ضبط الجوابين بمسلكٍ واحد أن يقال في إيجاب الاستبراء: تجدُّدُ الملك على الرقبة، وتجدُّدُ الاستحقاق في

(15/324)


الحِلّ في حكم [البيع] (1) الملحق بتجدد ملك الرقبة لو تجدد، فإذا اشترى الرجل جارية مزوّجة، وقد جرت العلة الظاهرة عادمةً محلَّها، ومحلُّها (2) فراغ الجارية، فإذا تعطّلت العلة الظاهرة، لم يكن لثبوت الحِل بعدها حكمٌ، وإذا زال الاستحقاق في استمرار الملك ثم تجدد، فهذا متجدد، فلا يمتنع أن يقتضي استبراءً، وهذا يناظر من أصل الشافعي تعطيله التوريث بالقرابة البعيدة بسبب القرابة القريبة إذا هما اجتمعتا لشخص واحد، وكانتا بحيث لا يجوز التوصّل إلى تحصيلهما، فالقرابة البعيدة كالمعدومة، وكأنْ لا قُرب بها مع القرابة القويّة القريبة، ولو تجرّدت القرابة البعيدة، لوقع التوريث بها. وهذا تكلُّفٌ.
9970 - فأما الجوابان المنقولان عن الإملاء، فلا تنافيَ بينهما، ولا يلتفتان على اختلافٍ، بل هما مأخوذان من أصلين؛ فإنه لم يوجب الاستبراءَ إذا زال التزويج الطارىء على أصلٍ بيّن، وهو استمرار الملك، وأوجب الاستبراء إذا اشترى المزوّجة، وانقطع التزويج وعلاقته؛ لأنه رأى تجدد الملك على الرقبة موجباً استبراء، ثم أخره عن الزوجية وحقها.
9971 - وينشأ من هذا المنتهى فصلٌ في تداخل الاستبراء، وقد قدمنا قولاً بالغاً في تداخل العدتين من شخصٍ واحد، وعدمِ تداخلهما من شخصين، ونحن نذكر ما يليق بالاستبراء من هذا الحكم، ونعتمد تصوير تعدد السبب، وفيه عسرٌ؛ من جهة أن السبب الأظهر [في] (3) إيجاب الاستبراء تجدد الملك على الرقبة، ومن ملك جارية ثم باعها قبل الاستبراء، انقطع وجوب الاستبراء عن الأول وفاقاً، وتجدد بملك الثاني سببٌ في اقتضاء الاستبراء، وليس ذلك كوطء الشبهة يطرأ على العدة؛ فإنه لا يتضمن قطع وجوب العدة الأولى، فلا جرم لا نقضي بتداخل العدتين، ونُقدِّم
منهما ما يقتضي الشرعُ تقديمَه.
__________
(1) في الأصل: البايع.
(2) في الأصل: أو محلها.
(3) في الأصل: من.

(15/325)


فلا يتصور إذاً من هذه الجهة اجتماع سببين من شخصين مقتضيين للاستبراء، بل السبب المتأخر ينسخ المتقدمَ، ويقطعه ويستأصلُ موجَبه، فإذاً لا يتأتى فرضُ اجتماع السببين من شخصين إلا في صورةٍ واحدة، وهي أن يكون لرجلين جارية مشتركة، فلو وطئاها، فلا شك في تحريم الوطء، فلو أرادا تزويجها وقد وُجد من كل واحد منهما ما يشغل الرحم، ولو كانت مستخلصة لواحد، ورام تزويجها بعد الوطء، لم يجد إلى ذلك سبيلاً ما لم يستبرئها، فإذا تعدد الشاغل، فهل يقع الاكتفاء بحيضة، حتى إذا مضت يسوغ تزويجُها، أم لا بد من الاستبراء بحيضتين: حيضة عن هذا وحيضة عن الآخر؟ فعلى وجهين: من أصحابنا من قال: لا بد من استبراءين لتعدد السبب والشخص، قياساً على العدتين إذا وَجَبَتَا عن شخصين.
ومن أصحابنا من اكتفى بحيضة واحدة؛ فإن الغرض من هذا النوع من الاستبراء قيام علامة براءة الرحم، وهذا المعنى يحصل بالحيضة الواحدة.
وقرَّب أئمة المذهب هذا الاختلافَ من تردد الأصحاب في أصل الاستبراء وما هو المعتبر منه، فمن زعم أن الاستبراء بالطهر، كان ذلك منه تغليباً لمعنى التعبد، وذلك يقتضي التعددَ إذا تعدد الشخص والسببُ، ومن صار إلى أن المعتبر في الاستبراء الحيضُ دون الطهر، لم يبعُد عنده الاقتصار على الحيضة الواحدةِ؛ فإن سبيل دلالة الحيضةِ الواحدةِ إذا جرت على ترتب الأدوار كسبيل دلالة حيضتين فصاعداً.
هذا قولنا في تداخل الاستبراءين وامتناعِ تداخلهما.
9972 - وأما القول في تداخل الاستبراء والعدة، فإذا اشترى الرجل جاريةً معتدة، فانقضت العدة، فقد ذكرنا جوابي الأم والإملاء، في أنه هل يجب بعد العدة استبراءٌ على المستبيح بالملك.
وقد يخطِر للفطن أن هذا يتنشأ من اندراج الاستبراء تحت العدة نفياً وإثباتاً، حتى إن حكمنا بالاندراج، لم نوجب استبراءً مقصوداً بعد مدة العدة، وإن لم نحكم بالاندراج، أوجبنا الاستبراء بعد العدة.
وهذا ليس على وجهه؛ فإن الأئمة طردوا القولين في المشتراة المعتدة سواء بقي

(15/326)


من عدتها مقدار الاستبراء أو كان الباقي أقلَّ من مقدار الاستبراء، ولو كان ذلك مأخوذاً من التداخل، لاعتبرنا بعد الشراء مدة استبراء كامل؛ فإنا لما حكمنا بتداخل العدتين من شخص واحد، ثم فرضنا منه وطئاً، وقد بقي من العدة لحظة، فنعتبر من وقت الوطء عدة كاملة، فذلك الاختلاف مأخذه أن المشغولة إذا اشتريت، فالشراء هل يوجب الاستبراء فيها أم لا؟ والقولان جاريان أيضاًً في المنكوحة إذا لم يمسها زوجها، ثم تخلّت عن الزوجية من غير مسيس.
نعم، إن أردنا تصوير التداخل بين الاستبراء والعدة، فرضنا أَمةً مطلقة جارية في العدة، وقد وطئها السيد بالشبهة، فهي لا تزوج ما لم تتخلّ، فلو كان بقي من العدة مقدار استبراء [فهل] (1) يقع الاكتفاء به أم نقول: تنقضي العدة ونعتبر استبراءً عن السيد بعدها ثم تزوج؟ فعلى وجهين مأخوذين من تداخل الاستبراءين في الصورة التي قدمناها.
9973 - هذا بيان نصوص الأم والإملاء على كماله، وقد لاح مخرج جواب أبى يوسف على قول النص عليه في الأم، كما قدمناه.
ونحن بعد ذلك نعقد فصلاً يحوي مقاصد الاستبراء، ونرسم فيه أنواعاً شاملة لا نغادر فيها غرضاً، وإن انسل عن الضبط مسألة أو مسائل، رسمنا فروعاً، إن شاء الله تعالى.
فصل
في بقية الاستبراء يشتمل عليها أنواع
9974 - النوع الأول - في بيان ما يوجب الاستبراء وقد قدمنا في صدر الباب الأول أن ما يوجب الاستبراء ينقسم إلى ما يزيل الملكَ وإلى ما يثبت الملك، واستقصينا القولَ فيما يزيل الملك.
ونحن الآن نذكر التفصيلَ فيما يجدّد الملك، فنقول: السبب الأظهر، والمعنى
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(15/327)


المعتبر في ذلك ثبوتُ الملك على الرقبة ممن يتصور منه الاستحلال، فمن ملك -وهو ممن يستحل- جاريةً بمعاوضةٍ، أو تبرعٍ، أو إرث، أو عقدٍ، أو فسخٍ، أو سببي واسترقاقٍ جاريةً (1)، تعيّن عليه استبراؤها، ولا تحل له دونه.
قيدنا الكلام بمن يتصور منه الاستحلال؛ فإن المرأة لو اشترت جاريةً، لم يلزم الاستبراءُ، وإذا اشترى الرجل واحدة من محارمه، فلا معنى للحكم بوجوب الاستبراء؛ فإن الاستبراء في معنى الأجل الذي إذا انقضى أفضى إلى الحلّ، فإذا لم يكن الحِلّ متوقعاً، لم يكن لتقدير الاستبراء معنى.
ثم مهما (2) تجدد الملك، فحكم وجوب الاستبراء ما ذكرناه، حتى لو اشترى جاريةً واستبرأها، ثم باعها، وانتقل الملك إلى اللزوم، ورُدّت عليه، وكل ذلك [في] (3) لحظة، فعليه أن يستبرئها مرة أخرى، وإن لم يطرأ شاغل؛ نظراً إلى التجدد المتأخر، ولا التفات للاستبراء على سابق (4)، وليس يجب لأجل شغل متقدم، وإنما وجوبه يتعلق بتجدد الملك في نفسه، ثم لا فرق بين أن يكون تجدده بفسخٍ، أو بعقد كما ذكرناه.
ولو فرض التّقايل، فعلى الذي ترتد إليه الجاريةُ الاستبراءُ، سواء قلنا: الإقالة فسخ، أو قلنا: إنها بيع.
9975 - وإذا باع الرجل الجاريةَ، وفرعنا على أن الملك يزول إلى المشتري في زمان الخيار، فلو فسخ البائع البيع، وارتدت الجارية إلى ملكه، فقد زال ملكه، ثم تجدد، فهل يلزمه الاستبراء، أم يشترط أن يكون زوال الملك على حكم اللزوم، والتجدُّدُ مترتبٌ عليه؟
ذكر طوائف من أئمتنا أن الاستبراء يجب؛ طرداً لما ذكرناه من النظر إلى تجدد الملك.
__________
(1) جاريةً: مفعول لقوله: " ملك " وقد كررها -بعد أن ذكرها- لطول الفصل.
(2) مهما: بمعنى (إذا) أو (كلما).
(3) في الأصل: به لحظة.
(4) أي على ملكٍ سابق.

(15/328)


وهذا عندي يُخرَّج على أصلٍ، وهو أن من باع الجارية ووقع التفريع على زوال ملكه، وكان الخيار ثابتاً للبائع، فهل يحل الإقدام على وطء الجارية؟ فيه كلام قدمناه في أول البيع، والمذهب الأصح أنه يحلّ للبائع وطؤها، ثم يقع الوطء فسخاً.
وذهب بعض أئمة المذهب إلى أن الإقدام على الوطء لا يحل، ولست أعيد تلك التفاصيل.
والغرض مما ذكرناه أنا إن حكمنا بأن الوطء يحرم على البائع، فإذا فسخ البيع، لم يمتنع وجوب الاستبراء عليه لمكان تجددِ الملك وترتبِه على تحريم الوطء.
فأما إذا حكمنا بأن الوطء مباح للبائع [لوقوعه] (1) فسخاً، فهذا يخرج على أصل مقصود في نفسه، وهو أن من نكح جارية واشتراها، ففي وجوب الاستبراء عليه خلاف، والأصح أنه لا يجب؛ لأنه نقلها من حلٍّ إلى حل. ومن أصحابنا من أوجب الاستبراء؛ نظراً إلى تجدد الملك، ثم إلى اختلاف الجهة.
ونقول بعد ذلك: إذا فسخ البائع البيع، فهذا يترتب على الخلاف الذي ذكرناه في شراء المزوّجة، فإن لم نوجب على الزوج الاستبراء، لم نوجبه على البائع إذا فسخ؛ فانتفاء الاستبراء في حقه أولى.
وإن أوجبنا الاستبراء على الزوج إذا اشترى زوجته، ففي البائع إذا فسخ -والتفريع على أنها مستحلةٌ له قبل الفسخ- وجهان مبنيان على المعنيين اللذين أشرنا إليهما في مسألة الزوج: فإن اعتمدنا النقلَ من جهة إلى جهة، فلا استبراء على البائع؛ فإنه نقلها من ملك إلى ملك، وإن اعتبرنا ثَمَّ تجدد الملك، فهذا المعنى متحقق في البائع.
هذا منتهى كلامنا في إيضاح تجدد الملك على الرقبة وبيان اقتضائه للاستبراء.
9976 - ومما يتعلق بموجبات الاستبراء أن الرجل إذا كاتب جاريته، ثم إنها عجزت ورَقَّت أو أرقت نفسها اختياراً، فقد أجمع الأصحاب على أنه يجب على السيد أن يستبرئها وإن لم يزل ملكه عن الرقبة بالكتابة، والسبب فيه أن الكتابة أثبتت لها حق الاستقلال، حتى إنها تُعامِل سيدَها معاملةَ الحرائر، ولو وطئت، فالمهر لها، فإذا
__________
(1) في الأصل: لو نزعه فسخاً.

(15/329)


تجدد احتكام السيد عليها بالعَوْد إلى الرق، كان ذلك بمثابة تجدد الملك على الرقبة في إيجاب الاستبراء.
ولهذا قال الأصحاب: إذا وطىء الرجل جاريةً بملك اليمين، وحرمت عليه أختها، فلو [ماتت] (1) التي وطئها، حلّ له وطء الأخرى، كما تحل له لو باع الأولى.
ولو زوج الرجل جاريته، ثم تخلّت عن الزوج، وما كان جرى مسيس، فهل يجب على السيد أن يستبرئها، فعلى القولين المنقولين عن الأم والإملاء، ويمكن تخريجهما على أن الزوج استحق الحل منها، وانقطع ذلك من السيد، ثم إذا تخلت وعاد استحقاق [السيد] (2) فهل يكون هذا التجدد في الاستحقاق بمثابة التجدد في ملك الرقبة بالتجدد في الرق بعد الكتابة؟ فعلى قولين.
9977 - ولو ارتدت الجارية وحرمت لردتها، ثم أسلمت، ففي وجوب الاستبراء خلاف، والأولى ترتيبه على القولين في ارتفاع الزوجية.
والأوجه في المرتدة انتفاءُ وجوب الاستبراء؛ فإن الردة وإن حرمتها؛ فإنها ما حلت لغير المولى، والزوجة حلت للزوج، [وثبوت] (3) استحقاقه الحل في معنى الأملاك المحققة، والردة لا تقطع الملك، وإنما تنافي الحلّ. نعم، أثرها ظاهر في قطع النكاح كما سبقت مسائله.
ولو أحرمت الجارية، ثم تحللت، فقد ذكر الأصحاب خلافاًً في وجوب الاستبراء اعتباراً بالردة؛ فإن المرتدة محرمةٌ كالمُحرِمة، فلا أثر للإحرام والردة في قطع ملك اليمين وإنهاء تصرف المالك، والأصح أن الاستبراء لا يجب إذا أسلمت المرتدة، أو تحللت المحرمة.
ولست أرى لترتيب المُحْرِمة على المرتدة وجهاً -وإن كان شيخي يتولع به- لأن
__________
(1) في الأصل: كانت.
(2) في الأصل: الزوج.
(3) في الأصل: وثبت.

(15/330)


الإحرام يترتب على الردة في أحكام النكاح، فأما في ملك اليمين، فلا فرق بينهما، وليس الإحرام فيما ذكرناه كالصوم؛ إذ لا خلاف أن الصائمة إذا أفطرت، استحلت للمولى؛ فإن الصوم لا يحرم وجوه الاستمتاع، وإنما يحرم الوطء والتلذذ المفضي إلى الإنزال، والإحرام يحرم جميعَ وجوه الاستمتاع، فجرى الخلاف فيه على بُعدٍ، كما ذكرناه.
9978 - ومما نلحقه بهذا النوع أن الرجل إذا أسلم في جارية ووصفها، ثم سلمت إليه جارية، فلم يجدها على الصفات؛ فإن رضي بها، استمر ملكه فيها، وإن ردها، وعاد إلى المطالبة بالجارية على الصفات المطلوبة، فهل يجب على المسلَم إليه استبراء الجارية التي رُدّت عليه إذا لُقيت غيرَ مستجمعةٍ للصفات المذكورة؟
فعلى قولين مبنيين على أن ملكه هل زال عنها إذا سلمها ثم عاد، وفيه قولان ذكرناهما في كتاب البيع في مسائل الصرف، وكلُّ مقبوض عن جهة الديون إذا لم يكن على الصفات المستحقة، فردّ فهل نقول: زال الملك فيه وعاد؟ فعلى القولين، والشرط أن يكون بحيث لو رضي القابض به، لاستمر ملكه فيه؛ إذ لو لم يكن كذلك، فلا بد في تصوير ملكه من عقدٍ واعتياضٍ إن كان الدين مما يصح الاعتياض عنه.
ومن المغالطات في السؤال أن يقول قائل: لو أقرض رجلٌ جارية، ثم استردها في عينها، فهل عليه أن يستبرئها إذا لم يوجد من المستقرض وطء، والجواب أن ذلك يجب.
فإن قيل: هلا خرجتم هذا على أن المستقرض متى يملك ما استقرض؟ قلنا: إقراض الجواري لا يصح إلا على قولنا: إن المستقرض ملك بنفس الاستقراض [القرضَ] (1).
ومن أحاط بالأصول السابقة، كفته هذه المرامز، فإن لم يقف عليها المنتهي إليها، فليطلب أصولها من مواضعها.
__________
(1) في الأصل: " والقرض ".

(15/331)


وقد نجز الكلام في هذا النوع، وهو تفصيل ما يوجب الاستبراء.
9979 - النوع الثاني - في بيان ما ينافي الاعتداد بالاستبراء، فنقول: من ملك جارية، وتم ملكه فيها على اللزوم، وثبتت يده عليها، فإذا كانت بحيث تحل له لولا الاستبراء، فإذا مرت بها حيضة، كانت استبراء.
ولو اشتراها على ما صورنا وكانت مجوسية، فمرت بها حيضة، ثم أسلمت، فهل يقع الاعتداد بتلك الحيضة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها استبراء كافٍ بجريانها في الملك التام. والثاني - أنها ليست باستبراء؛ فإن الاستبراء هو الذي يوجب تحريم المستبرأة، ولم تكن الحيضة في حق المجوسية كذلك؛ فإنها كانت محرمةً بدينها، وقد ذكرنا أن الاستبراء بالإضافة إلى الحل بعده يضاهي الآجال في الديون؛ من حيث إنها تحل بانقضائها، وتتوجه الطلبة بها عند انتهائها، والمجوسية محرمة ما دامت متمسكة بدينها، وحالها بعد الحيضة كحالها في زمان مضيها.
9980 - وطرد أصحابنا هذا الاختلاف على هذا النسق في تملك المرتدة، ومضي الحيضة في زمن الردة.
وطردوه أيضاً في تملك المحرمة وانقضاء الحيضة في دوام الإحرام.
ومنشأ الخلاف في هذه المسائل من قيام التحريم بسببٍ غيرِ الاستبراء.
ولا خلاف أن هذه المعاني لا تنافي انقضاء العدة ومضيَّها، والفرق أن العدة تتعلق بشغلٍ سابق أو حرمةٍ متقدّمة، والاستبراء لا يتعلق بسابق، وإنما يتعلق باستجلابِ مطلوبٍ في الاستقبال.
ثم ذكر بعض الأصحاب في الردة إذا طرأت على الملك، والإحرامِ إذا طرأ ثم زال خلافاًً في أنه هل يجب الاستبراء؟ وقد أشرنا إلى ذلك في النوع الأول من الفصل.
والذي اختاره المحققون أن طريان هذه الأشياء ثم زوالها لا يتضمن إيجاب الاستبراء؛ فإنه لا يتحقق بزوالها تجدد ملك واستقلال، وتجدد الحِلّ لا يوجب استبراءً لتحل، وإنما يثور من فرض هذه المعاني خلافٌ في الاعتداد بالاستبراء معها، كما ذكرناه.

(15/332)


ومما يتعين على الناظر في حقائق المذهب أن يميز الأصولَ ومثارَ الفروع منها، إذا التفّت في المضايق.
ولو اشترى الرجل جارية وبقيت في يد البائع حتى مرت عليها حيضة، فالأصح أنها تقع استبراء.
وذكر الأصحاب وجهاً آخر مشهوراً في أنها لا تقع استبراء، ووجهوه بأن الملك غيرُ مستقر عليها قبل القبض، والعقدُ عرضةُ الانفساخ، وإنما يقع الاعتداد بالاستبراء إذا جرى في ملك مستقر.
وهذا غير سديد مع الحكم بلزوم الملك للمشتري.
9981 - ولو اشترى جارية على شرط الخيار وقبضها، فمرت بها حيضة، فإن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع، فلا تقع الحيضة استبراء، وإن قلنا: الملك في زمان الخيار للمشتري، ففي الاعتداد بتلك الحيضة استبراءً وجهان: أحدهما - أنها تقع استبراء لمصادفتها ملكَ المشتري. والثاني - لا تقع استبراء لضعف ملكه.
وهذا قريب من مأخذ الخلاف في الجارية قبل القبض؛ فإنْ خطر لمرتِّبٍ أن يجعل مسألة الخيار أولى بأن لا نعتد فيها بالحيضة؛ من جهة جواز الملك، لم يبعد ذلك، على شرط أن نقول: لو تلفت الجارية في يد المشتري، انفسخ البيع، [فتستوي] (1) المسألتان في التعرض للانفساخ، وتختص مسألة الخيار بالجواز.
وإن قلنا: لا ينفسخ [البيع] (2) بالتلف في يد المشتري في زمان الخيار، اعتدلت المسألتان ولم يلح [فرقٌ به] (3) مبالاة.
وإن مرت الحيضة في زمان الخيار في يد البائع، ففي وقوع الاستبراء خلاف مرتب لا يخفى إيضاحه، وإن قبض المشتري الجارية، وكان منفرداً بالخيار -والتفريع على أن الملك له- فيجب القطع بالاعتداد بالاستبراء، فإن الملك لازم للمشتري بمعنى أن الغير لا يَنْقُضُ عليه، والخيار مزيد سلطنة له.
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: برؤية مبالاة.

(15/333)


وإذا مرت الحيضة بالجارية الموهوبة في يد الواهب، فلا اعتداد بها؛ فإن الملك في الجارية للواهب قبل الإقباض، وإن قلنا: إذا حصل الإقباض، استند الملك تبيُّناً إلى الهبة، فالوجه عندنا القطع بأن الحيضة لا يعتد بها.
وقد ينقدح على بُعْدٍ الاعتدادُ بها إذا جرت في الملك المتبيَّن.
ومن أُوصي له بجارية ونفذت الوصيةُ وقبلها الموصى له، فجرت الحيضة في يد الورثة قبل قبض الموصى له وبعد قبوله، فالحيضة (1) استبراء صحيح؛ فإن الملك في الوصية لا يتوقف على القبض.
وحكى صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن الحيضة لا تقع استبراء، وبالغ في تزييفه، وليس هذا عندنا في رتبة الوجوه الضعيفة، بل هو خطأ قطعاً من قائله. وقد نجز هذا النوع.
9982 - النوع الثالث في بيان ما يحرم من المستبرأة في زمان الاستبراء فنقول: جميع وجوه الاستمتاع محرمة في زمان الاستبراء، وهذا يطَّرد في كل مستبرأة.
والمسبيةُ محرمة الوطء في زمان الاستبراء، وفي تحريم سائر وجوه الاستمتاع اختلاف مذكور في الطرق: من أصحابنا من طرد القولين بوجوب التحريم في جميع وجوه الاستمتاع؛ قياساً للمسبية على المستبرآت جُمَع، وهذا قياس واضح.
ومنهم من لم يُحرّم من المسبية جميعَ وجوه الاستمتاع، واعتلّ بأن سبب تحريم الاستمتاعات من المستبرآت تجويزُ أن تكون أمَّ ولد لغير المشتري، ولو قدر ذلك، لكانت محرمة على غير المستولد، والحربيةُ المسبية لو تبين أنها حامل، لكان الرق جارياً عليها وعلى حملها، وإذا كانت الحرة تسبى، فالمستولدة تسبى.
والاستبراء في المسبية في حكم التطهير لها، حتى تنتفض عن ماءٍ إن كان، وهذا يوجب التخصيصَ بالوطء، والذي يؤيد الكلام أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى بأمره في سبايا هوازن، وقال: " ألا لا توطأ حاملٌ حتى تضع، ولا حائلٌ
__________
(1) في الأصل: والحيضة.

(15/334)


حتى تحيض "، فاقتضى النداء الاقتصارَ على تحريم الوطء، وكانت السبايا مختلطات بالمسلمين، ويغلب على الظن امتداد الأيدي إليهن، فلما لم يحرم الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلا الوطءَ، مع الحال التي وصفناها، اقتضى ذلك تخصيصَ الوطء بالحظر.
9983 - ثم ينقدح عندنا في التفريع على هذا الوجه أمر بدعٌ، وهو تنزيل المسبية منزلة الحائض، حتى يجوزَ الاستمتاع بما فوق السرة وما تحت الركبة، وترددَ المذهبُ في الاستمتاع بما دون الإزار مع توقِّي الوطء، ولو كان لا يجري هذا لحق الاستبراء يجرى لحق الحيض.
ثم إذا قلنا: الاستبراء بالحيض، ولا يَحْرُمُ إلا الوطءُ؛ [والاستمتاعُ] (1) بما تحت الإزار، فلست أرى لإيجاب الاستبراء معنى إلا إذا كانت حاملاً، أو سُبيت في بقيةٍ من الطهر، أو قلنا الاستبراء بالطهر.
فأما إذا صادف السبيُ أولَ الحيضة، وفرعنا على أن الاستبراء بالحيض، فلا يكاد يظهر في حق السابي لوجوب الاستبراء معنى.
واتفق الأصحاب على طرد وجوب الاستبراء في الأبكار من الجواري، وحكى صاحب التقريب في البكر المسبية وجهاً بعيداً أنه لا يجب استبراؤها، وخصص هذا الوجه بالمسبية، وهو مطَّرحٌ مزيّف لا اعتداد به.
ثم إذا جرينا على الأصح، وحكمنا بأن الاستبراء بالحيض، فإذا انقضت حيضة كاملة، فتحريم الوطء يدوم عندنا بسبب الحيض إلى الاغتسال، فلا تحل الحائض إذا طهرت ما لم تتطهر، وسائر وجوه الاستمتاع إن كان التحريم منوطاً بالحيض حكمها حكم دوام الحيض.
وإذا حرمنا وجوهَ الاستمتاع لأجل الاستبراء، ثم انقضت الحيضة، فالمذهب أن ما حرم لأجل الاستبراء يحل، ولا يبقى التحريم إلا فيما يقتضي الحيض تحريمه.
وفي بعض التعاليق المعتمدة عن القاضي حكاية وجه بعيد منسوب إلى بعض الطرق
__________
(1) في الأصل: "إذ الاستمتاع".

(15/335)


المعتمدة أن تحريم وجوه الاستمتاع لأجل الاستبراء يدوم إلى الاغتسال، وهذا ليس بشيء، وقد بحثت عن الطرق، فلم أجد لهذا الوجه ذكراً في شيء منها.
فرع:
9984 - إذا ملك جارية من ذوات الأقراء والتفريع على أن الاستبراء بالحيض، فتباعدت حيضتها، كان القول فيها كالقول في المعتدة إذا تباعدت حيضتها، وقد مضى ذلك مفصلاً.
ولو قالت الجارية: قد حضت، فللمولى تصديقها، ولو أراد أن يحلفها لم يكن له ذلك؛ فإن الأيْمان إنما تجري في الخصومات، ولا سبيل إلى الإجبار على اليمين، ولو نكلت لم يتجدّد بنكولها حكم، فلا معنى لتحليفها.
ولو قالت: لم أحض، وقال المولى: لقد حضت، فالقول قولها؛ فإنه لا اطلاع على الحيض إلا من جهتها، فلو أراد السيد أن يحلّفها، فلست أرى لذلك وجهاً أيضاً؛ فإنها لو نكلت لم يستمكن المولى من الحلف، لما ذكرناه من أنه لا اطلاع على الحيض إلا من جهتها، فإذا استحال الإجبار على اليممن، والنكولُ لا يفيد أمراً، فلا معنى للتحليف.
ولو قال المولى: قد أخبرتني أنها حاضت، فمثل هذه الواقعة لا ترتفع إلى مجلس الحكم، فإن ارتفعت الأمة متحرّجة فيما زعمت، وذكرت أن السيد يغشاها من غير استبراء، وقال السيد؛ قد استبرأتها، فهذا مشكل عندي، والأوجه تصديق السيد؛ إذ لو لم يكن كذلك، لحال الشرع بين المستبرأة وبين المولى، [كما يحول] (1) بين المعتدة وبين مَنْ منه العدّة؛ وهذا يبين أن الاستبراء بابٌ من التقوى، وظّفه الشرع على المولى، ولم يُثبت للأمة فيه خصاماً.
وفي المسألة احتمال.
وحقيقة القول في هذا ترجع إلى أن الجارية هل لها حق المخاصمة في ذلك أم لا؟ وقد ذكر القاضي في مسألة تقترب من هذه تردداً، وذكر أنه ذكره أصلاً، ونحن نصف ما قاله رضي الله عنه:
__________
(1) في الأصل: كما لا يحول بين المعتدة وبين من منه العدة.

(15/336)


إذا ورث الرجل جاريةً من أبيه أو ابنه، وزعمت الجارية أن المتوفَّى كان أصابها في الحياة، فللوارث ألاّ يصدقها، والورع أن يجتنبها، وقد ذكرنا هذا في مسائل أبي يوسف، فلو أرادت الجاريةُ أن تحلِّف الوارث، فهل لها ذلك؟
تردد القاضي فيه، ثم بنى تردده على أصلٍ، وهو أن الأبرص إذا اشترى جارية، فهل لها الامتناع عن تمكينه من الوطء؟ فيه اختلاف. فإن قلنا: لها ذلك، فقد أثبتنا لها طرفاً من الحق في الوطء، إذا ساغ لها أن تتخيّر السليم عن المعيوب، وتمتنع عن قربان المعيب، فلا يبعد على ذلك أن يثبت لها [حق] (1) الخصام إذا كانت تعتقد خطراً.
وهذا المسلك يجرى حيث انتهى الكلام إليه في الاستبراء. والله أعلم.
فرع:
9985 - إذا اشترى الرجل جارية حاملاً من نكاح، فوضعت، فإن كان النكاح قائماً، أو كانت مطلقة، فهذه مسألة الأم والإملاء، وقد مضت على الاستقصاء.
وإن كانت حاملاً من الزنا، فوضعت الحملَ، فالمذهب الظاهر أن الاستبراء يحصل بوضعها الحمل، وإن كانت العدة لا تنقضي بوضع ولد الزنا؛ وذلك أن العدة منسوبة إلى مَنْ منه العدة، فليكن الولد منسوباً إليه، وهذا المعنى لا يتحقق في الاستبراء، فليقع الاكتفاء فيه بصورة وضع الحمل.
ومن أصحابنا من قال: لا يحصل الاستبراء بوضع الحمل من الزنا؛ فإن الغالب على الاستبراء التعبد لا البراءة، وولد الزنا لا حرمة له.
ولا خلاف أن المسبية إذا وضعت الحمل، حلّت للسابي، ولا نبحث عن سبب علوقها تعلقاً بظاهر نداء المصطفى عليه الصلاة والسلام: " ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ".
فرع:
9986 - المستبرىء إذا وطىء المستبرأة لم يلتزم بوطئها إلا المأثم ولم ينقطع الاستبراء، وليس كالعدة، فإنا قد ذكرنا من مذهب بعض الأصحاب على
__________
(1) في الأصل: من الخصام.

(15/337)


تفاصيلَ أوضحناها أن الانعزال شرط في الاعتداد بالعدة.
ثم إذا وطىء الجاريةَ وهي في أثناء الحيضة، فعلقت، فإن كان مضى من الحيض يوم وليلة، فالذي نراه أن الاستبراء تَمَّ، وإن كان يغلب على الظن أن الحيض انقطع بسبب العلوق؛ فإن الذي مضى حيض تامٌّ، فلا نظر إلى السبب الذي أوجب انقطاعه، وفائدة ما ذكرناه أنه يستحلّ وطأها في زمن الحمل، وقد انقضى الاستبراء.
ولو لم يمضِ من الحيض يوم وليلة، فوطئها، فعلقت، واحتبس الحيض بسبب العلوق فيما يظن، فلا يعتد بما مضى من الدم؛ فإنه أقل من الأقل، والاستبراء إنما يقع بحيضٍ تام.
ونقول في مثل هذه الصورة: لو كانت تركت الصلاة، فهي مأمورة بإعادتها، وإن كنا نظن أن سبب احتباس الحيض العلوقُ؛ فإن هذه الأمور مظنونة، ونظرُنا إلى مقدار الدم، وأسبابُ الاحتباس [مغيّبة] (1) لا تُحيط العلومُ بها، فخرج من ذلك أن الاستبراء [فيها] (2) إذا وضعت هذا الحمل. والذي أراه أن وضع الحمل استبراء؛ فإن هذا لا ينقص [عن] (3) حيضة، والعلم عند الله.
9987 - وقد جمعنا في الزوائد كلاماً لابن الحداد في الاستبراء، وقد [فَضَضْنا] (4) جميعه على القواعد، ولم يَشذّ منه إلا فرعان لا يتعلقان بالاستبراء:
أحدهما - أن من نكح أَمةً ثم اشتراها، ووقع الحكم بانفساخ النكاح، فمضت ستةُ أشهر من وقت الانفساخ، وأتت الجارية بولد يمكن أن يكون العلوق به من النكاح، فالولد يلحق السيد الذي كان زوجاً، وإن لم يوجد منه إقرار بالوطء في ملك اليمين؛ وذلك أن النسب يلحق بإمكان العلوق من النكاح، والمملوكة لا تنحط عن البائنة، ولو أبان الرجل زوجته، فأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به من النكاح، للحق النسبُ لا محالة، ثم إذا لحقه النسب، لم تصر الجارية أم ولد له؛ لأنه لم
__________
(1) في الأصل: معيّنة.
(2) في الأصل: فيما.
(3) في الأصل: من.
(4) في الأصل: قصصنا.

(15/338)


يعترف بوطء في ملك اليمين، ونحن إنما ألحقنا النسب لاحتمال كون العلوق في النكاح، وهذا لا يُثبت أميةَ الولد.
وحكى القفال وجهاً بعيداً أن الجارية تصير أم ولد؛ لأنه لحقه منها ولد في ملك اليمين، لزمان يحتمل أن يكون العلوق منه في ملك اليمين، وهذا ضعيف لا أصل له.
9988 - وإذا فرعنا على الأصح، وهو أنها لا تصير أم ولد، فلو أقر بوطءٍ في ملك اليمين، واحتمل أن يكون الولد منه، واحتمل أن يكون من النكاح، والتفريع على أن أمية الولد لا تثبت لو لم يقر بالوطء في ملك اليمين، فهل تثبت أمية الولد إذا أقر بالوطء في الملك؟
هذا فيه تردد عندنا؛ من جهة أن ثبوت النسب ليس متوقِّفاً على الوطء في ملك اليمين؛ إذ لو لم يقر بالوطء، للحق أيضاًً، وأميةُ الولد تبعُ الولد، ويجوز أن يقال: تثبت أمية [الولد] (1)؛ فإن الإقرار بالوطء يُثبت فراش ملك اليمين، والفراش اللاحق [ينسخ] (2) حكم الفراش السابق وإن شملهما الاحتمال.
ولذلك قلنا: إذا تزوجت المرأة وأتت بولدٍ لزمان يحتمل أن يكون من الثاني، ويحتمل أن يكون من زوج قبله، فالولد يلحق الثاني، حتى لو نفاه الثاني باللعان، لم يلحق الأول أيضاً، [والأولى] (3) أن نقول: لا يقوى الافتراش بملك اليمين على فسخ أثر فراش النكاح؛ من جهة أن الإمكان كافٍ في فراش النكاح، ولا حاجة إلى الاعتراف بالوطء، بخلاف ملك اليمين، وأيضاً فالناكح والمالك واحد، والتناسخ في حقه أبعد.
ولو نكح الرجل أمة، ثم طلقها قبل المسيس، فوطئها السيد، فأتت بولد لزمانٍ يحتمل أن يكون من النكاح، ويحتمل أن يكون من الوطء الجاري من السيد، فهذا فيه احتمال عندنا: يجوز أن نلحقه بالسيد، ويجوز أن نعتقده متردداً بين السيد وبين
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل: يفسخ.
(3) في الأصل: والأول.

(15/339)


الزوج، وهذا لما أشرت إليه من تخلف ملك اليمين في النسب عن النكاح، والله أعلم.
9989 - والثاني (1) الذي أجراه في أثناء الكلام فيما نظن أنا لم ننص عليه في مسائل العِدد: أن الرجل إذا خالع امرأته الممسوسة، وجرت في العدة، ثم جدد النكاح عليها، فلو طلقها من غير مسيس، فقد تمهد أنها تعود إلى بقية العدة (2)، فلو جدد النكاح عليها، ثم مات عنها، فعليها عدة الوفاة، وهل تكتفي بها أم يعتبر معها حصول بقية العدة التي كانت تعود إليها لو طلقت؟
هذا يخرج على الخلاف في أن العدتين هل تتداخلان من شخصٍ واحد إذا اختلفتا، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك وصورناه في الحمل والأقراء، وهذا الاختلاف محقق فيما به الاعتداد، وفي الجهة التي عنها الاعتداد.
فإن قيل: كيف تجوّزون على أحد الوجهين الاكتفاء بالأربعة الأشهر والعشر، مع جواز أنها مشغولة الرحم بالوطء الأول في النكاح السابق؟ قلنا: هذا كما لو وطىء الرجل زوجته ومات عنها، فقد اكتفى الشرع بأربعة أشهر وعشر، وإن كانت هي من ذوات الأقر اء. والله أعلم وأحكم.
...
__________
(1) الثاني من فرعي ابن الحداد المشار إليهما آنفاً بأنهما شذّا عن الإحاطة، فلم يعرض لهما في أثناء الباب.
(2) هذه الصورة نص عليها الإمام من قبل في باب عدة الإماء (انظر ص200 من هذا الجزء) أما ما رسم له الفرع ظنّاً منه أنه لم ينص عليه من قبل -وهو صادق في ظنه- فهو ما سيأتي بعد هذا في الصورة التالية، أي إذا جدد النكاح، ثم مات عنها، فالتزمت عدة الوفاة ... إلخ.

(15/340)


كتَابُ الرَّضَاعِ
9990 - حرمة الرِّضاع (1) ثابتة بنص القرآن والسنة المتلقاة بقبول الأمة، وهي من الأصول المجمع عليها، قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (2)، ثم ذهب طائفة من ضَعَفة الفقهاء إلى أن أصول المحرمات مستفادة من نص الكتاب تنصيصاً وتنبيهاً؛ فإنه تعالى نصّ على تحريم الأمهات، والتحريم المضاف إلى الأصول شملها والفروعَ، فكان ذلك ظاهراً من طريق النص والفحوى على تحريم الأصول والفروع، ثم نص على تحريم الأخوات،
فدل على أن ما يقع على جانب الأصول والفصول [يضاهي] (3) في الحرمة النسَب.
وهذا ليس مما يعتد به.
أما تحريم الأمهات والمرتضعين منهن، فمنصوص عليه، وكذلك تحريم الأخوات، ومن زعم أن الكتاب مستقلٌّ بالدلالة على تعميم التحريم في قواعد الرضاع، فليس على بصيرة في النظر في الصيغ وما يتلقى منها، وإن كان ما ذكره هؤلاء إشارة إلى تمهيد طريق القياس، فليس القياس من فوائد الألفاظ، وليست الألفاظ مرشدةً إليه، ولا دالةً عليه، وإنما يتلقى العمل بالقياس من الإجماع، كما تقرره الأصول.
__________
(1) الرّضاع: بفتح الراء وكسرها؛ ولذا لا نضبطها، فكيفما قرأْتَ صادفتَ صواباً.
(2) حديث يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، متفق عليه من حديث عائشة، وابن عباس رضي الله عنهما (البخاري: الشهادات، باب الشهادة على الأنساب والرضاع المستفيض والموت القديم، ح 2645، 2646، مسلم: الرضاع، باب يحرم من الرضاعة من يحرم من الولادة، ح 1444، وباب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، ح 1447).
(3) في الأصل: مضاهي.

(15/341)


على أنا لو رُددنا إلى القياس، لم نتوسع فيه في أصول الرضاع، فإن اقتضاء الرضاع الحرمةَ والمحرميةَ ليس مما [يستدّ] (1) فيه قياسٌ معنوي أو شبهي، فلا وجه إلا القطعَ بأن الكتاب تضمّن تبيينَ أصولٍ من الرضاع، ولم يجر تخصيصه إياها على صيغةٍ تتضمن نفيَ ما عداها، فمضمون الكتاب استفتاحُ الكلام في الرضاع، واستتمامه متلقّىً من حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذ قال عليه السلام: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وهذا من جوامع الكلم؛ فإنه شامل لقواعد حرمة الرضاع، لا يغادر منها شيئاًً ولا يتطرق إليه تأويل، ولا مثنوية، ولا حاجة فيه إلى تتمةٍ بتصرف قائس.
9991 - ثم لما نظر الشافعي إلى مضمون الكتاب والنصِّ الشامل الكامل المنقول عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، رأى أن يعقب هذا الترتيبَ بالتصريح بإثبات الحرمةِ في جانب الفحلِ؛ فإن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " مستقل بإفادة التحريم في جميع القواعد.
والذي يكاد يُردّ عنه نظرُ الناظر الحرمةُ في جانب الفحل وانتشارُها؛ من جهة أن اللبن ينفصل عن الأم، فذكر الشافعي على الاتصال بتمهيد القواعد لبنَ الفحل، توطئةً لأصل الكتاب، ثم عقد في لبن الفحل باباً من بعدُ، والحرمة تثبت في جانب الفحل، وتنتشر على مذاهب جماهير العلماء.
والشاهد لذلك حديث خاصّ ناصٌّ يعضد موجَبَ العموم من قوله عليه السلام:
" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وهو ما روي أن أفلح بن أبي القُعَيْس، وفي بعض الروايات أفلح أخا أبي القُعَيْس استأذن على عائشةَ، فاحتجبت منه فقال: تَحَجَّبين مني؟ أنا عمك، فقالت: وكيف ذلك؟ قال: أرضعتك زوجة أخي بلبان أخي، فقالت عائشة: إنما أرضعتني المرأة لا الرجل، ثم راجعت عائشة رسول الله فقال عليه السلام: " إنه عمك تربت يمينك، فليلج عليك " (2).
__________
(1) في الأصل: يستمر. والمثبت تصرّف من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ إمام الحرمين.
(2) حديث ابن أبي القعيس متفق عليه (البخاري: النكاح، باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع، ح 5239. مسلم: الرضاع، باب تحريم الرضاع من ماء الفحل، ح 1445).

(15/342)


وسئل ابن عباس عن رجل له زوجتان أرضعت إحداهما غلاماً، والأخرى جارية، هل تحرم المناكحة بينهما، فقال: " اللقاح واحد " (1) وأراد رضي الله عنه بذلك انتسابَ ألبان الزوجتين إلى الزوج الواحد، وذلك يقتضي الأخوةَ من جهة الأب.
ونقل نقلةُ المذاهب عن عبد الله بنِ عمرو، وعبد الله بنِ الزبير، وعائشةَ أنهم كانوا لا يثبتون الحرمةَ وانتشارَها في جانب الفحل (2)، ثم لم يصحح الأئمةُ الخلاف عن عائشةَ لصحة الحديث المنقول عنها.
وذهب إلى نفي حرمة الفحل الأصم (3) [وعلقمةُ] (4) وإسماعيلُ بن عُليّة (5).
وهذا المذهب لا عمل به ولا صائرَ إليه، والقول فيه يتصل بما ينعقد الإجماع فيه مسبوقاً بالخلاف.
9992 - ثم إن المزني أتى بقواعد الرضاع مبددة، ونحن لا نؤثر مخالفةَ ترتيبه،
__________
(1) حديث ابن عباس رضي الله عنه، رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/ 24 ح 73) والترمذي: الرضاع، باب ما جاء في لبن الفحل، ح 1149 وانظر التلخيص: 4/ 9.
(2) مذهب عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن الزبير، وعائشة رضي الله عنهم في لبن الفحل، انظر الروايات عنهم في سنن سعيد بن منصور: 1/ 237 وما بعدها، السنن الكبرى للبيهقي: 7/ 451 وما بعدها، تلخيص الحبير: 4/ 10.
(3) الأصم، أبو العباس محمد بن يعقوب النيسابوري، الورّاق، المعروف بالأصم. ولد سنة 247 هـ. أخذ عن الربيع، وروى عنه كتب الشافعي. كان محدّث وقته بلا مدافعة، وعرف بالأصم لإصابته بالصمم في شبابه. توفي سنة 346 هـ. (ر. طبقات الإسنوي: 1/ 76، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 133، العقد المذهب: 50، تذكرة الحفاظ: 3/ 860، سير أعلام النبلاء: 15/ 452).
(4) في الأصل: عُليّة. والتصويب من صفوة المذهب.
وعلقمة هو أبو شبل علقمة بن قي بن عبد الله النَخَعي الكوفي، التابعي الكبير الجليل والفقيه البارع، أكبر أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه. كان طلبته يسألونه ويتفقهون به والصحابة متوافرون، توفي سنة 62 هـ. (ر. طبقات الشيرازي: 79، تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 342، سير أعلام النبلاء: 4/ 53).
(5) إسماعيل بن عُليّه. الإمام أبو بشر إسماعيل بن إبراهيم بن شهم الأسدي مولاهم، البصري، وعُليَّة أُمُّه. مذكور في مختصر المزني في نكاح المشرك والأضحية. توفي سنة 94 هـ وقيل 93 هـ. (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 120، 121، سير أعلام النبلاء: 9/ 107).

(15/343)


ولا نرى الانحدار عن صَدْر الكتاب من غير تقعيد وتمهيد، يَطّلع به الناظرُ على معظم المقاصد.
وترتيبُ الشافعي أولى متبع، وقد تشوّف إلى استيعاب التمهيد؛ إذ ذكر أصول الحرمات، وتعرض للبن الفحل، فنقول: لحرمة الرضاع أصول وفروع، فالأصول ثلاثة أشخاص: المرأة المرضعة، والصبي المرتضع، والرجل الذي [أدرّ لبنَ] (1) المرأة على الولد المنتسبِ إليه، وهو المسمى الفحلَ في هذا الكتاب، والمرتضع بحكم الرضاع ولدٌ، والمرضعة أمٌّ، والرجل الذي وصفناه أبٌ، فهؤلاء أصول الحرمات.
ثم الحرمات لا تقتصر على الأصول، بل تنتشر منها، وقد يتمحضُ الانتشارُ في جهةِ الرضاع، وقد يُمزَج النسبُ بها، فليعتقد الفقيهُ أن المرتَضِعَ في منزلة الولد في الحرمة والمحرميّة، ثم تنتظم الحرمةُ بينه وبين من تعتزي الأم إليه على حسب انتظامها بين الولد وبين المنتسبين إلى أم الولادة، فيحرم المرتضعُ على أمهات المرضعة، وآبائها، وأخواتها، وأخواتهم؛ فإنهم يقعون منه على مراتبِ الأخوالِ والخالاتِ.
ولا تثبت الحرمة بين المرتضع وبين بني إخوة المرضعة وبني إخوتهم، فإنهم يقعون من المرتضع في مرتبة بني الأخوال، وأولاد الخالات، وهم لا يحرمون في النسب.
وحرمة الرضاع في انتشارها لا تُبِرّ (2) على جهة النسب. وهذا النسق بين المرتضع وبين أب الرضاع، والمنتسبين إلى أب الرضاع، أو المتصلين به بجهة الرضاعة على حسب ما ذكرناه في المرضعة.
هذا بيان أصل الانتشار من المرضعة، وأب الرضاع.
9993 - وأما انتشار الحرمة من جانب المرتضع، فكل من يحرم المرتضعُ عليه، فيحرم أولادهُ عليه، وإن تَسفّلوا.
__________
(1) في الأصل: كدّر أن المرأة. وهو تصحيف بشع لا وجه له.
(2) لا تُبرّ: لا تزيد.

(15/344)


ولا انتشار للحرمة في جانبه إلا إلى أولاده، فلو كان للمرتضع أخ من نسب أو رضاع، فإنه لا يحرم على المرضعة.
فإن قيل: ألستم ادّعيتم استقلال قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الشمول والترقي عن التأويل؛ إذ قال عليه السلام: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "؟ قلنا: أجل هو كذلك؛ فإن قيل: أخ الابن وأخته يحرمان على الأب إذا كان الابن المسؤول عنه نسيباً؟ قلنا: ليس هذا من تحريم النسب، ولكن الرجل إذا كان له ابن نسيب، فأخوه ابنه أو ربيبه، فيتأتَّى التحريم من الصهر، وليس من ضرورة بنوة الرضاع اتصال صهرٍ بها، ومقتضى قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن ما يحرّمه النسب يحرمه الرضاع، وهذا مستمر لا قصور فيه ولا استثناء فيه.
9994 - وإن بسطنا القول في انتشار الحرمة، عُدنا وقلنا: المرضعةُ أم، وأبوها جد، وأمها جدة، وأخوها خال، وأختها خالة، وأولادها إخوة، وأعمامها وأخوالها وعماتها وخالاتها كالأعمام [والعمات] (1) والأخوال والخالات الأَدْنين، وعلى هذا الوجه تنتظم حرمة النسب.
وهذا القول بعينه يجري في أب الرضاع، وأولادُ المرتضع، وأحفادُه، وإن تسفّلوا بمثابة الأولاد، وإخوته وأخواته لا يحرمون؛ فإن النسب لا يحرمهم أيضاًً، وأبوه لا يحرم، فإن أب الابن زوج الأم.
وقال قائلون: انتشار حرمة الرضاعة كانتشار حرمة النسب إلا أن أخت الابن النسيب محرمة، لأنها بنت الأب إن كانت أختاً من الأب، أو بنت أم الابن، فتقع ربيبةً للأب، وأختُ المرتضع لا تحرم على أب الرضاع؛ لأنه لا يلزم أن تكون مرتضعة أيضاً، ولا يلزم أن تكون ربيبة، وأم أم ابن النسيب محرّمة؛ لأنها صهره، وأم أم المرتضع لا تحرم؛ لأنه لا يلزم أن تكون صهره، فلا استثناء إذاً إلا من جهة الصهر، كما ذكرناه.
9995 - وإذا وضح الغرض على البسط، فنجمع قولاً وجيزاً يحوي القواعد،
__________
(1) سقطت من الأصل.

(15/345)


ولا يشَذُّ منه في أصل الحرمة أصلٌ، فنقول: الأصول ثلاثة كما ذكرنا: الأب، والأم، والمرتضع، ثم كل من يحرم على الأب من النسب والرضاع، فهو محرم على المرتضع إلا بني الإخوة والأخوات؛ فإنهم محرمون عليه، وهم يقعون من المرتضع أولاد الأعمام والعمات.
ونقول في المرضعة هي محرمة لأمومة الرضاع، وكل من يحرم عليها بنسب أو رضاع، فهو محرم على المرتضع إلا بني إخوتها وأخواتها، كما ذكرناه في الأب؛ فإنهم يقعون من المرتضع أولاد الأخوال والخالات.
وأما المرتضع في نفسه، فيحرم أولادُه من النسب والرضاع، كما يحرم هو، ولا يحرم إلا أولادُه وأحفاده.
فهذا هو الضابط الجامع.
9996 - ومما يوصَى الطالب به ألا يُغفل التفاف الرضاع بالنسب، ويجري الكلام مجرى واحداً، ونحن نضرب في ذلك مثالاً، فنقول: [أمّك] (1) من الرضاع كل أنثى أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من أرضعك -يعني الفحل- أو ولدت من أرضعتك، أو ولدت من أرضعك، أو أرضعت من ولدتك، أو أرضعت من ولدك وليعتبر الناظر التفافَ الرضاع والنسب بهذه المرتبة.
ولا مزيد على ما ذكرناه نحن في عقد الجُمل.
9997 - ولما ذكر صاحب التلخيص تشبيه الرضاع بالنسب، وأراد الاستثناء -فإن مجموعه مقصور على الاستثناء- استثنى ما لا حاجة إليه، وقال: الرضاع كالنسب إلا في الميراث، والولاية، وأخذ يعدد ما لا حاجة إليه.
والقول الكامل فيه أن الرضاع لا يضاهي النسب إلا في الحرمة والمحرمية، قال الأئمة: الأمهاتُ ثلات: أم النسب، وهي ذات محرمية رحم، ويجتمع فيها الحرمة والمحرمية، وأم الرضاع، ولها المحرمية والحرمة، والأم الثالثة هي التي خلفت رسول الله بالزوجية قال الله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. وكان أمر الحرمة
__________
(1) في الأصل: أمّكن.

(15/346)


على الأبد، ولا محرمية، وقد انعقد ما أردنا عقده، ونعود بعده إلى ترتيب (السواد).
فصل
قال: " والرضاع اسم جامع يقع على المصّة والمصتين ... إلى آخره " (1).
9998 - أبان الشافعي رضي الله عنه أن اسم الرضاع ينطلق على المصة والمصتين فصاعداً، وهو اسم جنس يجمع الواحد والجمع، وأراد بذلك أنه لو لم يرد في صحيح الأخبار ما يدلّ على اشتراط العدد في الرضعات، لأثبتنا الحرمة باسم الرضاع، ولكن صح أن حرمة الرضاع لا تحصل إلا برَضَعات، وأبو حنيفة (2) لم يرع العدد وأثبت الحرمة بما ينطلق عليه اسمُ الرضاع.
والأخبارُ الواردة في العَدَد كثيرة، منها ما رواه ابن الزبير عن النبي عليه السلام أنه قال: " لا تحرّم المصة ولا المصتان، ولا الرضعة، ولا الرضعتان " (3) وروت أم الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تحرم الإملاجة، ولا الإملاجتان " (4) فثبت أصل العدد، ثم رأى الشافعي أن حرمة الرضاع لا تحصل إلا بخمس رضعات، واعتمد في ذلك حديث عائشة (5)، وهو مشهور مدون في الصحاح.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 49.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 314 مسألة 811، مختصر الطحاوي 222.
(3) حديث ابن الزبير: " لا تحرم المصة ولا المصتان " رواه أحمد والنسائي وابن حبان والترمذي، وقال: الصحيح عند أهل الحديث من رواية ابن الزبير عن عائشة (ر. المسند: 6/ 96، 247، النسائي: النكاح، باب القدر الذي يحرم من الرضاعة، وذكر اختلاف الناقلين للخبر في ذلك عن عائشة، ح 5456، 5457. الترمذي: النكاح، باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، ح 1150، ابن حبان: 6/ 214. التلخيص: 4/ 9 ح 1840).
(4) حديث أم الفضل: " لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان ". رواه مسلم: الرضاع، باب في المصة والمصتان ح 1451، وانظر التلخيص 4/ 9 ح 1840.
(5) حديث عائشة: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يُحرِّمْن، ثم نُسخن بخمسٍ معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يُقرأ من القرآن " والحديث رواه مسلم: الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات، ح 1452، وأبو داود: النكاح، باب هل=

(15/347)


وذهب ابن أبي ليلى وداود (1)، وغيرهما إلى أن حرمة الرضاع تثبت بثلاث رضعات، واعتمدوا في ذلك حديثَ ابن الزبير وأمِّ الفضل، قال المزني: أسمِع ابنُ الزبير رسول الله؛ فقال رضي الله عنه: سمعه وهو ابن تسع، وقال أئمة الحديث مات رسول الله وهو ابن تسع، فلعل الشافعيَّ أراد آخر ما سمعه في آخر العهد، ولا شك أنه ولد بعد الهجرة بسنة، فإنه لما قدم رسول الله عليه المدينة مهاجراً زعمت اليهود أنهم سَحَروا المسلمين؛ فلا يولد لهم ذكر، وانقضت سنة، ولم يولد للمسلمين ذكر، وأول مولود من الغلمان ابنُ الزبير، بعد انقضاء سنة، ولما وُلد، كبّر المسلمون.
وقيل: كَبَّرَ أصحاب الحجاج يوم صلب ابن الزبير، فقالت أسماء أم ابن الزبير ذاتُ النطاقين: المكبرون عليك يوم ولدت خير من المكبرين عليك يوم قتلت.
فقد اعتمد قوم حديثَ ابن الزبير في نفي الحرمة عن المصة والمصتين، وبَنْوا إثبات الحرمة على المفهوم، فإن التخصيص بالأقدار [يقتضي] (2) مخالفةَ الحكم للمقدّر المنصوص عليه.
9999 - واعتمد الشافعي الحديث الناص على الخمس، قالت عائشة: " أنزلت عشرُ رضعات يحرِّمن فنسخن بخمسٍ، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مما يتلى من القرآن".
وهذا قد يعترض فيه إشكال، فإن الحديث، وإن كان مدوّناً في كل صحيح، فمضمونه أن الرضعات الخمس كانت ضمن آيةٍ تتلى من القرآن، ونحن لا نراها بين الدفتين، فلعها أرادت أنها كانت تتلى حُكماً. والقول في ذلك يطول، وليس من الحزم الزيادة على المعنى المطلوب في كل فنّ.
وحمل الشافعي حديث المصة والمصتين على جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سؤال مخصوص، وواقعة سئل فيها عن المصتين، فخرج جوابُه على وَفْق
__________
=يحرم ما دون خمس رضعات، ح 2062، والترمذي: الرضاع، باب ما جاء لا تحرم المصة ولا المصتان، ح 1150، ومالك في الموطأ 2/ 608.
(1) ر. المحلي: 10/ 10.
(2) في الأصل: يفضي.

(15/348)


السؤال، وهذا [يعضده] (1) ما روي عن صعصعة بن صُوحان أنه قال: [سئل] (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحرم الرضعة والرضعتان؟ فقال عليه السلام: " لا تحرم الرضعة والرضعتان " (3). وصح من مذهب عائشة اعتبارُ خمسِ رضعات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سالم: " أرضعيه خمساً يحرم عليك "، كما سنصفه بعد هذا إن شاء الله. فهذا القدر كافٍ في تأسيس المذهب.
وموضع استقصائه مسائل الخلاف.
10000 - وأول ما نبتديه بعد ذلك أن الرجوع في أعداد الرضعات إلى حكم العرف، ولا نظر فيه إلى مقدار اللبن يقل أو يكثر، والمعتبر في ذلك من طريق التمثيل الأكلاتُ في موجَب البِرّ والحِنث في الأَيْمان، والرجل إذا تعاطى لقمة واحدة وأكلها، ثم انكف، فالذي صدر منه أكلة، ولو نُصبت المائدة بين يديه والألوان تختلف وتأتي على الوِلاء المعتاد في الأكلة الواحدة، فهذا وإن كثر أكلةٌ واحدة، كذلك المصّة الواحدة إذا تحقق وصول شيء من اللبن بها إلى الجوف، ثم فرض الاقتصار عليها رضعةٌ واحدةٌ.
ولو التقم الصبي الثدي واستكثر من الارتضاع، وتطاول الزمن على التواصل المعتاد، فهو رضعة واحدة، ولو كان الصبي في أثناء الارتضاع يلفظ الثدي، ويلهو ثم يعود في زمنٍ لا يقطع اعتبارَ التواصل، فكل ما يجري رضعة، ولو استنفد ما في أحد الثديين، فنقلته المرضع إلى الثدي الآخر، فهذا ليس رضعة جديدة، بل [كل] (4) ما يعد نوبة في الإرضاع، فهو رضعة.
والقول في ذلك ظاهر غير مُحوجٍ إلى طلب مسلك في التقريب يُعتاد؛ فإن العادة بيّنة فيما يعد نوبة من الرضاع، وإنما تنقطع النوبة بزمان يتخلل قاطعٍ للتواصل، وقد
__________
(1) في الأصل: يعضد.
(2) سقطت من الأصل.
(3) حديث صعصعة بن صوحان رواه مسلم من حديث أم الفضل رضي الله عنها (الرضاع باب في المصة والمصتان، ح 1451).
(4) في الأصل: كان.

(15/349)


يؤثِّر عندنا في ذلك المقصود؛ فإن الأم إذا أرضعت وانصرفت، فلم يطل الزمان فاستعبر الصبي أو نابه ما يقتضي تسكينَه، فلو عادت إليه وأرضعته، فهذا يعد رضعة ثانية، وإن كانت لو أدامت الإكباب على الإرضاع، لكان لا يبعد تخلل مثل هذا الزمان مع العود إلى الرضعة الأولى، وهذا لا ينكره من [يهتم] (1) بدرك المعارف (2).
ويتخلل في الأكلة من الزمان ما لا يعتد به، فلو قام الرجل مضرباً، ثم عاد لأمرٍ اقتضى العَوْدَ وافتتح الأكل، عُدّ أكْلة واحدة، فالرجوع إذاً إلى المعارف؛ فإن بانت في الاتحاد والتعدد، جرى الحكم بحسبها.
وإن تردد الرأي بين اتحاد الرضعة وتعددها، تردُّدَ إشكال، لا تردُّدَ اجتهاد، فالأصل الاتحاد، وعدم وقوع الحرمة المنوطة بالعدد، وإن تقابل اجتهادان في اقتضاء الاتحاد والتعدد، ثار الخلاف، وهذا جارٍ في كل ما يتلقى من العرف.
10001 - وقد قال العراقيون حكايةً: من أصحابنا من قال: إن الرضاع إنما ينقطع ويتعدد بإضراب الصبي، فلو لم يُضرب وقامت المرأة، ثم عادت وتكرر ذلك مراراً، فالكل رضعة.
وهذا قول سخيف؛ فإن مأخذ الكلام في التعدد والاتحاد الاسمُ، وهو متلقى من العرف، فإذا قامت المرأة، وتخلل زمانٌ قاطع، ثم عادت، عُدّ ذلك رضعتين، فلا معنى للنظر إلى إضراب الصبي، والذي ذكروه [على بعده] (3) إذا دام تشوُّف الصبي إلى الرضاع في الزمان المتقطع، فأما إذا انقطع تشوفه، فهذا ملتحق بإضرابه. والأصلُ على الجملة فاسد.
10002 - ومما يتصل بالعدد في الرضاع ما نصفه، فنقول: تعدد الارتضاع من الثدي على ما وصفناه، وأما إذا احتُلب اللبنُ من الثدي، فتناوله الصبي من الظَّرف، فتفصيل ذلك أنه لو احتلب منها بدُفعة ووصل المحتلَب إلى جوف الصبي بدُفعة، فذلك
__________
(1) في الأصل: من يتهم.
(2) المعارف: المراد هنا الأعراف، جمع عُرف.
(3) في الأصل: على بعد منه.

(15/350)


رضعةٌ، والمعنيّ بالدُّفعة ما وصفناه في الرضعة، فلو كان اللبن المجتمع يوجد على تواصل في الانصباب، فهو دُفعة واحدة، وإن كان يتأتى الاتحاد شيئاًً شيئاًً، فهو دُفعة، فنعتبر في اتحاد الدُّفعة ما نعتبره في اتحاد الأكْلة والشَّرْبَة.
ولو احتلب من المرأة بدُفعة وأوصل اللبنَ المجموعَ بدُفعات خمس، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الرضعات متعددةٌ، نظراً إلى تقطع الوصول وتخلل التواصل، وهذا بمثابة [ما] (1) لو فرض هذا التعدد في الارتضاع من الثدي. والقول الثاني - أن الرضعة واحدة؛ فإن اللبن المجموع في الظرف في حكم الشيء الواحد، والنظر إليه، ولا حكم لتعدد تعاطيه وتناوله، وليس ذلك كالارتضاع من الثدي يتجدد حالاً على حال، والأفقهُ القولُ الأول.
ولو احتلب اللبن من الثدي بخمس دفعات، على ما وصفنا التعدد، وجُمع المحلوب في كل دُفعة في ظرف، ثم أوصلت الألبان بدُفعات على أعداد الظروف إلى الصبي، فهذه رضعات؛ فإن التعدد متحقق من الجانبين ولم تختلط الألبان فتُعدَّ شيئاًً واحداً، فيجب القطع بالتعدد.
ولو احتُلب اللبنُ بخَمس دُفعات، وجمعت الدُّفَع في ظرف واحد، فاختلطت، ثم أُوصلت إلى الصبي في خمس دُفعات، ففي هذه الصورة طريقان: من أصحابنا من قطع بحصول العدد؛ لتحقق التعدد في الاختلاط والإيصال إلى جوف الصبي، وليس كما لو احتُلب دُفعة، فأوصل بدُفعات؛ فإن التعدد وجد في أحد الجانبين دون الثاني.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في هذه الصورة؛ نظراً إلى اتحاد اللبن المجموع في الظرف، وإذا اتحد وكان لا يتجدد شيئاًً شيئاًً، فهو في حكم الشيء الواحد، فالاعتبار باتحاده في نفسه دون تعدد الحلب.
10003 - فانتظم من مجموع ما ذكرناه أنه إذا اجتمع ثلاثُ خلالٍ: التعددُ في الحلب، وتمييز المحلوبات، والتعدد في التعاطي، قطعنا بثبوت التعدد في الرضعات.
__________
(1) في الأصل: بمثابة لو فرض.

(15/351)


وإن تحقق الاتحاد في هذه الجهات، قطعنا باتحاد الرضعة.
وإن اتحد الحلب، وتعدد التعاطي، فقولان، وإن تعدد الحلب وتعدد التعاطي واتحد اللبن المجموع في الظرف، فطريقان، وإن تعدد الحلب واتحد التعاطي، فالقطع بالاتحاد لا غير.
وحكى العراقيون في هذه الصورة وجهاً بعيداً في أن حكم التعدد يثبت إذا تعدد الاختلاف. وهذا أخرناه حتى لا يُعتَدَّ به، وعلى الفقيه ألاّ يغفل فيما أطلقناه من التعدد عن حقيقة التعدد؛ فإن من احتلب مقداراً ولها قليلاً، ثم استتم، فهذه حلْبة واحدة، وكذلك القول في التعاطي.
فرع:
10004 - إذا كان للرجل امرأتان، فأرضعتا مولوداً، وتوالى الإرضاع منهما، بحيث لو فرض ذلك من امرأة واحدة، لكان رضعة واحدة، فالمذهب أن ما صدر منهما رضعتان؛ لتعدد المرضِع، وهو بمثابة تعدد المرتضِع.
وذكر العراقيون وجهاً مزيفاً في أنه لا يثبت حكمُ التعدد مع تواصل الزمان في الإرضاع، ثم قالوا: إذا لم يثبت حكمُ التعدد، لم يثبت الرضاع أصلاً؛ فإن الرضعة الواحدة لا يمكن انقسامها، لتنتسب كل واحدة إلى بعض مرضعة، فالوجه إحباط الرضعة بالكلية، حتى لو صدر منهما ذلك على هذه الصفة مراراً، لم تحصل حرمة الرضاع.
وهذا عندنا في حكم العبث والتلاعب بالفقه وقد نعود إلى طرف من ذلك في مسائلَ تأتي بعد هذا.
فصل
10005 - لما ذكر الشافعي أن الرضاع اسمٌ جامع، وأبان أنا لو خُلِّينا والإطلاقُ فيه، لاستوى فيه القليل والكثير، والواحد والعدد، ولكن ثبت اعتبار العدد بالأخبار.
قال: وكذلك إطلاق الرضاع لا يختص بزمانٍ، ولكن ورد التعبد باختصاص أثره

(15/352)


بمدة الرضاع، [وتبين لنا أن إرضاع الكبير] (1) لا يؤثر، ولا يحرّم.
وقد روي أن سهلة بنت سهيل، قالت: كنا نرى سالماً ولداً؛ وكان يدخل علينا وإنا فُضُلٌ فراجعت رسول الله في أمره، فقال عليه السلام " أرضعيه خمسَ رضعات " (2) ففعلتْ، وكانت تراه ابناً من الرضاعة، فأخذت بذلك عائشة فيمن أحبت أن يدخل عليها من الرجال، وكانت ترى إرضاعَ الكبير مثبتاً للحرمة في حق الناس كافة؛ تعلقاً بحديث سهلةَ وسالمٍ، وأبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحدٌ من الناس، وقلن: ما نرى الذي أمر به رسول الله إلا رخصةً في سالم وحده.
وروى الشافعي أن أم سلمة قالت في الحديت: هو لسالم خاصة، وفي هذا الأصل تصرّفٌ للشافعي رمز إليه المزني، ولم يستقصه؛ وذلك أن خطاب الرسول عليه السلام إذا اختص بمختصٍّ في حكاية حال، فحكم الصيغة اختصاصُ الحكم بالمخاطب، وإذا قضينا بأن الناس في الشرع شَرَعٌ، حكمنا بأن حُكْمه على معيّن حكمٌ على الناس كافة، فهذا متلقى من دأب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإجماع، ومستند اعتقادهم في هذا ما كانوا يشاهدون من قرائن الأحوال في قصد رسول الله التعميمَ.
فإذا اضطرب رأيهم في قصد التخصيص، واللفظُ في نفسه مُختص بالمخاطب، لم يجز تعميمُ الحكم؛ سيّما إذا اعتضد خلافُه بما يستقل دليلاً، وقد قال عز من قائل: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ} [البقرة: 233]، فأثبت تمامَ الرضاعة في الحولين، فاقتضى مفهومُ الخطاب أن ما بعدهما ليس في حكم الرضاعة؛ إذ ليس بعد التمام أمر معتبرٌ منتظر، ولا يمكن حمل هذا على اعتياد الناس؛ فإنهم على أنحاء مختلفة.
ورأيت في بعض المجموعات حديثاً رواه صاحب الكتاب بإسناده عن سفيان بن
__________
(1) في الأصل: وتبين لها أن الرضاع الكبير.
(2) حديث سهلة بنت سهيل: "كنا نرى سالماً ولداً .. " الحديث. رواه الشيخان (البخاري: النكاح، باب الاكفاء في الدين، ح 5088. مسلم: الرضاع، باب رضاعة الكبير، ح 1453).

(15/353)


عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا رضاع إلا في الحولين " (1) فتبين انحصار أثر الرضاع في الحولين واختصاص سالم بما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة سهلةَ بنتِ سهيل امرأةِ أبي حذيفة.
10006 - ولو جرت رضعات فوقع الشك في أنها هل بلغت خمساً أم لا؟ فالحرمة لا تثبت؛ فإن الأصل الحل، وانتفاء الحرمة، وسيأتي هذا من بعدُ.
ولو جرت الرضعات الخمسُ، وأشكل الأمر، فلم ندر أنها وقعت في الحولين، أو بعدهما، أو واحدة منها بعدهما، فهذا يقرب من تقابل الأصلين؛ فإن الرضاع قد قامت صورتهُ وعددهُ، والأصل بقاء المدة، وهذا يعارضه أن الأصل الحِلُّ وعدمُ الحرمة، فأشبه ما لو شك الماسح في انقضاء المدة، فالأمر محمول على انقضائها ردًّا إلى إيجاب غسل الرجلين، كذلك الأصل الحِلُّ.
ولعلنا نأتي بمسائل في الشكوك المتعلقة بأبواب الرضاع.
فصل
قال: " والوجور كالرضاع ... إلى آخره " (2).
10007 - مقصود الفصل بيان المحل المعتبر الذي يشترط وصول اللبن إليه، فنقول أولاً: ما لا يُفطر الصائم لا يتعلق به حرمة الرضاع، وقد مضى ذلك في كتاب الصوم مستقصًى، وما يُفطر الصائم من الواصلات إلى الجوف ينقسم: فمنه ما يصل إلى محل التغذية كالمعدة، ومنه ما لا يصل إلى محل التغذية، وإن كان باطناً يتعلق بالوصول إليه الفطرُ.
__________
(1) حديث: " لا رضاع إلا في الحولين " روي عن ابن عباس مرفوعاً، الدارقطني (4/ 174)، والبيهقي في الكبرى (7/ 462)، وقد صححه موقوفاً. ورواه مالك في الموطأ موقوفاً (2/ 462)، وانظر التلخيص: (4/ 8 ح 1838).
هذا. وهو عند الدارقطني بالسند نفسه الذي أورده الإمام مما يدل على أنه يقصد (ببعض المجموعات) سنن الدارقطني.
(2) ر. المختصر: 5/ 53.

(15/354)


فأما ما يصل إلى محل التغذية، فيتعلق حرمة الرضاع به.
وما يصل إلى الباطن، ومثله يفطر، وليس محل التغذية، ففي تعلق حرمة الرضاع به قولان، كالحقنة؛ فإنها مفطرة، وإذا حقن الصبيُّ [اللبنَ] (1)، ففي حصول حرمة الرضاع قولان: أحدهما - أنها تحصل اعتباراً بالفطر، وأيضاً فالتداوي من الأغراض المقصودة كالتغذي، ولو قيل: الأغذية في معنى الأدوية، والمقصودُ من استعمالها ردُّ الطبيعة المائلة بسَوْرة (2) الجوع إلى الاعتدال، لكان سديداً.
ومن راعى مكانَ التغذية ومَظِنتَها، تشوّف إلى معنى كلي مقصودٍ بقول (3) المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن الأنساب امتشجت من وشائج الخلق وأطوار النطف، والألبانُ تؤثر في البنية قريباً من تأثير مواد الزرع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم " (4).
10008 - وأما السعوط، وهو إيصال اللبن إلى الدماغ، فلأصحابنا فيه طريقان: منهم من أجرى فيه قولي الحقنة مَصيراً إلى أن الدماغ ليس فيه قوة عادية، وإنما يستعمل السعوط تداوياً كالاحتقان، ومنهم من قطع بأن السعوط يُثبت الحرمةَ قولاً واحداً، وإليه ميلُ الأكثرين.
وهؤلاء اعتقدوا إفضاء السعوط إلى التغذية، وهو لعمرنا كذلك، لأن الرأس تشارك فم المعدة، وبينهما عِرْقان لا ينتهي شيء إلى فم المعدة إلا ترقى جزء منه إلى الدماغ، ولا ينتهي إلى الدماغ شيء إلا انحدر منه جزء إلى المعدة، ولهذا يتقوّى الضعيف بالطّيب الذي يصل إلى دماغه، فإنه يردُّ جزءاً منه وإن قل إلى المعدة.
وإذا وصل اللبن إلى مثانة الصبي، فهو بمعنى الحقنة وإن زُرّق اللبنُ في إحليله فلم ينته إلى المثانة، كان ذلك خارجاً على الخلاف في أن ذلك هل يفطر الصائم؟ فإن
__________
(1) في الأصل: وإذا حقن الصبي الذي.
(2) سَوْرة الجوع (بالسين) شدّته وحدّته (المصباح).
(3) يشير إلى الحديث الشريف الآتي. تعليق رقم (4).
(4) حديت: " الرضاع ما أنبت اللحم ... " رواه أبو داود: النكاح، باب في رضاع الكبير، ح 2059، 2060، وأحمد (1/ 432)، والبيهقي في الكبرى (7/ 461).

(15/355)


قلنا: إنه لا يفطره، فلا تتعلق الحرمة به، وإن قلنا: إنه يفطره، ففي تعلق الحرمة به القولان المذكوران في الحقنة.
10009 - وقد ذكرنا تردداً في أن الصائم إذا قطّر في أذنه شيئاًً هل يفطر؟ فإن قلنا: إنه لا يفطر، لم يتعلق بوصول اللبن إلى داخل الأذن حرمة الرضاع، وإن قلنا: إنه يفطر، فالوجه تخريج الخلاف في حصول الحرمة على قولي الحقنة، وقد ذكر الشيخ أبو علي نص الشافعي في أنه لا تتعلّق به حرمة الرضاع.
ولو أصاب الصبي قَرْحٌ فوصل اللبن منه إلى الباطن، فهذا من المفطرات، ولكن إذا لم يكن ذلك الباطن محل التغذية، خرج القولان المذكوران في الحقنة.
ولم يختلف الأصحاب في أن الواصل بالمسامّ لا حكم له، كاللبن يقطّر على الرأس، وقد [يُفرض] (1) غوصُه وانتهاؤه إلى الدماغ، ولكن إذا كان الفطر لا يحصل به، فيستحيل أن تحصل حرمة الرضاع به.
فصل
قال: " وأدخل الشافعي على من قال ... إلى آخره " (2).
10010 - مقصود هذا الفصل الكلامُ في وصول اللبن إلى محل التغذية أو الجوف المعتبر بعد أن يلحقه التغايير بامتداد الزمان، أو الخَلْط، أو الصَّنْعة، فنقول:
عَقْدُ الفصل أن اللبن إذا وصل إلى الجوف المعتبر، تعلقت الحرمة به، سواء كان طريّاً، أو حائلاً بامتداد الزمان، فلو رابَ، أو جُبِّن أو أقّط، فوصل اللبن إلى الجوف، تعلقت به الحرمة.
ولم يعتبر الشافعي في ذلك اسمَ اللبن اعتباره اسم الإرضاع، حيث جعل العددَ والتخصّصَ بالزمان في حكم تخصيص العام؛ فإنه رأى في الشرع الاعتناءَ بالرضاع والإرضاع، وفهم على القطع وصولَ اللبن على أي جهةٍ فُرض، ولم ير للشرع اعتناءً باسم اللبن، فلم يكترث بالتغايير التي تلحقه.
__________
(1) في الأصل: يعرض.
(2) ر. المختصر: 5/ 54.

(15/356)


وقد يعترض في ذلك أن اللبن إذا مُخض ومُيّز الزُّبد منه، فالباقي مَخيض، فلو أمكن مثل ذلك في لبن الآدميات، فكل جزء يصل إلى الباطن تتعلق الحرمة به.
هذا قولنا في التغايير التي تلحق اللبن.
10011 - فأما إذا خلط اللبن بغيره، فنذكر التفصيل في خلطه بالماء، ثم نبيّن خلطَه بغيره، فإن خُلطَ بالماء، لم يَخْلُ: إما أن يكون الماء قليلاً، أو يكون بالغاً حد الكثرة.
فإن كان في حدّ القِلة، واختلط اللبن به، لم يخلُ: إما أن يكون اللبن غالباًً، أو مغلوباً.
فإن كان غالباً، فما وصل منه إلى الجوف المعتبر، فهو مثبت للحرمة.
وإن كان مغلوباً -وتصوُّرُ ذلك منه إذا كان لا يظهر من صفات اللبن شيء لا اللون، ولا الطّعم ولا الرائحة- فهل تتعلق حرمة الرضاع بإيصاله إلى الجوف؟ فعلى قولين: أظهرهما - أن الحرمة تتعلق به. والقول الثاني - أن الحرمة لا تتعلق به، وهو مذهب أبي حنيفة (1).
توجيه القولين: من قال: تتعلق الحرمة به احتج بأن اللبن في حكم المستهلَك، فكأنْ لا لبن، والدليل عليه أن التوضُّؤ بهذا الماء جائز، وإن امتنع التوضؤ باللبن. والقول الثاني - أن الحرمة تتعلق به؛ فإن اللبن واصلٌ إلى الجوف، وهو المطلوب، وإذا تحقق وصوله، وجب تعلق الحرمة به.
ويقرب مأخذ القولين من أصلٍ ذكرناه في أحكام المياه، وهو أن المقدار [الذي] (2) لا يسعْ وضوءاً من الماء إذا كمل بالماوَرْد وهو مغلوب بالماء، ففي جواز التوضؤ به خلاف.
ووجهُ التقريب لائح، فإنا في وجهٍ نقول: المغلوب كالمعدوم، وفي وجه نُثبت
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 222، فتح القدير: 3/ 315.
(2) زيادة من المحقق.

(15/357)


لوجوده المحقَّقِ الحكمَ، ونقول: المتوضىء به لم يستعمل الماء الطهور في أعضاء الوضوء على تحقيق.
10012 - فإن قلنا: لا تتعلق الحرمة به لكونه مغلوباً، فلو أتى الصبيّ على جميع الماء، لم تتعلق الحرمة به.
وإن قلنا: على القول الأصح، وهو أن الحرمة تتعلق به، فلو شرب الصبي جميعَه، تعلقت الحرمة بمباشرته؛ فإن اللبن وصل بشرب جميعه إلى باطنه يقيناً.
وإن شرب من ذلك المختلط بعضه، والتفريعُ على القول الذي انتهينا إليه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الحرمة لا تثبت؛ لأنا لم نستيقن وصول اللبن إلى الجوف، ولسنا نُبعد أن يكون اللبن فيما بقي.
والوجه الثاني - أن الحرمة تثبت؛ فإن اللبن منبثٌ في الجميع، وجميع أجزائه منبسطة على جميع أجزاء الماء، ولو لم يكن كذلك، لكان ممتازاً عن الماء، ولكان يُحَسّ امتيازُه، وليس الأمر كذلك.
ثم الوجهان عندنا فيه إذا كان الباقي بحيث يمكن تقدير انحياز اللبن إليه، فإن عرفنا قطعاًً أن المقدار الذي شربه الصبي منه جزء من اللبن، قطعنا بحصول الحرمة على القول الذي عليه التفريع، وذلك بأن يكون الماء أرطالاً، واللّبن رَطلاً، فأبقى الصبي من الماء ما يعلم أن رَطلاً من اللبن يغيره لا محالة، وكان الماء صافياً، فقد أتى الصبي على اللبن، فلا يجري الخلاف هاهنا.
هذا إذا كان الماء في حد القلّة.
10013 - وأما إذا كان الماء في حدّ الكثرة بالغاً قلتين، فهذا يرتب على الماء القليل؛ فإن حكمنا بأن الاختلاط بالقليل يُسقط حرمةَ اللبن، فالماء [الكثير] (1) بذلك أولى.
وإن حكمنا بأن الاختلاط بالقليل لا يسقط حرمةَ اللبن، فالاختلاط بالكثير الذي
__________
(1) في الأصل: "فالماء كثير" وهذا علامة على عجمة قديمة كانت عند الناسخ.

(15/358)


يبلغ قلتين [يجري] (1) الترتيب فيه على عكس ما ذكرناه، فنقول: إن أتى على بعض الماء على الحد الذي ذكرناه، لم يتعلق به الحرمة، وإن أتى الصبي على جميع الماء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الحرمة تثبت وإن كان اللبن مغلوباً، كالماء القليل. والثاني - أن الحرمة لا تثبت؛ فإن هذا المبلغ من الشرع (2) على قوة غالبة، ولذلك لا يحمل نجساً مع استيقان انبثاث النجاسة فيه.
والأولى أن ننفصل عن هذا ونقول: أمرُ النجاسة واندفاعُها مبني على مسيس الحاجةِ والضرورة؛ فإن المياه إذا كثرت وبلغت مبلغاً لا تحويه الظروف والأوعية، فيعسر صونها عن النجاسة، ومن الأصول الثابتة العفوُ عن النجاسات التي يعسر التصوُّن منها، وهذا المعنى لا يتحقق في اللبن، فيجب أن نرعى فيه استيقان وصول اللبن إلى الجوف.
وإذا كان كذلك، فلو أتى الصبي على قُلَّةٍ من الماء، وقد مازج الماءَ رَطلٌ أو أكثر من اللبن، فلا يبعد تخريج ذلك على الخلاف، فإن هذا القائل يجعل الماء الكثير كالماء القليل، ولا يربط بما فيه من القوة الدافعة للنجاسة حُكماً، فيترتب عليه إخراج حد الكثرة عن الاعتبار.
10014 - ومن تمام البيان في هذا الفصل أنا ذكرنا اللبن وكونَه مغلوباً أو غالباًً، وقد اختلف أئمتنا في معنى الغلبة، فذهب ذاهبون إلى أن المغلوب هو الذي لا يُحَسُّ له وصف، وإليه مصير الجماهير.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً آخر أن المغلوب هو الذي يَخرُج بكثرة الماء عن كونه معتدّاً للتغذي؛ فإن الغلبة في كل باب تعتبر على حسب ما يليق به، والمعنيُّ بما ذكرناه أن يصير اللبن -وإن كان يحسُّ لونه مثلاً مع الماء- بحيث لا يغذي.
[وهذا الذي] (3) ذكره فيه خيالُ الفقه، ولكن التصوير لا يطابقه، فإن وصف اللبن إذا كان بادياً، فلا بد وأن يكون مؤثراً جنسُه في الغذاء، وإن كان يرق، وهذا
__________
(1) في الأصل: جرى.
(2) الشرع: المراد هنا الماء: أي إن هذا القدرَ من الماء، اعتبر الشرعُ فيه قوةً غالبةً ... إلخ.
(3) في الأصل: وهو الذي.

(15/359)


بمثابة قِلَّةِ القدر، فإن القَطْرةَ إذا وصلت وإن لم يظهر لها غَناء في الغذاء محسوس بمثابة المقدار الصالح منه، وإنما نَظَرُنا في أنه إذا انغمرت جميعُ الصفات، هل يسقط إثرُ الغذاء؟
10015 - [وكل] (1) ما ذكرناه فيه إذا اختلط اللبن بالماء، فأما إذا اختلط بغيره من الأطعمة والأدوية، فجميعها على أقدارها بمثابة الماء القليل؛ فإنه لا حدّ فيها للشرع في تميز الكثير عن القليل.
10016 - ولا ثقة بدرك لُباب هذا الفصل إلا بالنظر في دقيقةٍ، وهي أن اللبن إذا اختلط بشيء اختلاطاً حقيقياً، ولم يُستيقن انبثاثُه على جميع أجزائه، وفُرض تعاطي الصبي طرفاً مما لا يستيقن انبثاثُ اللبن إليه، فالظاهر أن الحرمة لا تتعلق به؛ فإن وصول اللبن مشكوك.
وجَبُن بعض أصحابنا، فأجرى حكمَ الحرمة مجرى الحكم بالنجاسة، فقد ثبت أن قطرة من البول لو وقعت في طرفٍ من ماء قارٍّ على ضَحْضَاحٍ منبسط، فيتصل بوقوعه حُكْمُنا بنجاسة الطرف الأقصى، فلا ينبغي للفقيه أن يُجري حكمَ اللبن هذا المجرى؛ فإن مدار هذه الفصول في الرضاع على استيقان وصول اللبن إلى الجوف، وإن كان مغلوباً، أو على إسقاط حكمه إذا غُلب.
والنجاسةُ معظم أحكامها مبنيّ على التقذّر وعيافةِ النفوس.
وهذا المعنى قد يحصل في الطرف الأقصى قبل انبثاث النجاسة حساً إليه.
ومن أصحابنا من أجرى اختلاطَ اللبن مجرى اختلاطِ النجاسة إذا قلنا: لا تسقط حرمةٌ مغلوبة، وهذا غفلة عن سرّ الباب وخلطُ الأصل بأصلٍ.
10017 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك أن القطرة من اللبن إذا قطّرت في فم الصبي، ومازجها ريقُه، وصارت مغلوبةً بالريق، فالذي ذهب إليه الجماهير أن الحرمة تثبت، وبَنَوْا ذلك على عسر النظر إلى ما وراء الشفتين، وجعلوا القطرةَ الغائبة
__________
(1) في الأصل: فكل.

(15/360)


بالوصول إلى الفم كالقطرة التي تغيب بمجاوزة الغلصمة، وقدّروا اختلاطها برطوبات الفمّ بمثابة اختلاطها برطوبات المعدة.
ومن أصحابنا من جعل الريق من حيث إنه من محلٍّ ملحقٍ بالظواهر بمثابة سائر المائعات التي يختلط اللبن بها؛ حتى يترددَ النظرُ في الغالب والمغلوب.
وقد نجز ما أردناه من تغايير اللبن بالصنعة والزمان والاختلاط.
10018 - ثم ذكر الشافعي بعد هذا حكمَ لبن البهائم، فلا تتعلق به حرمة، وهذا لا غموضَ فيه، ولكنه قصد بإيراده الردَّ على عطاء؛ فإنه جعل الصبيين المجتمعين على لبن بهيمةٍ أخوين، وهذا من فَضَحات مذهبه؛ فإن الأخوةَ فرعُ الأمومة والأبوة، وأخ الإنسان ابن أبيه وابن أمه، وإذا استحال تقدير الأصل، استحال الفرع.
10019 - ثم ذكر الشافعي لبن الميتة، فإذا ماتت المرأة، فاحتُلِبَ منها بعد الموت لبن، لم يتعلق به حرمةُ الرضاع عند الشافعي، فإن انفصاله جرى والجثة منفكة عن الحرمة الثابتة للأحياء، وخلاف أبي حنيفة (1) مشهور في ذلك.
ولو احتلب اللبن منها، وهي حية، فماتت، فتعاطاه الصبي بعد موتها، فالذي قطع به أئمة المذهب أن الحرمةَ تتعلق به، والسبب فيه أن الذي عليه التعويل في سقوطه [سقوطُ] (2) حرمةِ الميتة؛ [فإنها] (3) إذا ماتت واللبن في ثديها، فيتبعُ سقوطُ حرمة اللبن سقوطَ حرمة الأم؛ من جهة أنه اكتسب الحرمة من انسلاكه في مجاريها، وهي حية، فإذا لم ينفصل حتى سقط حرمتُها، فيسقط حرمةُ اللبن تبعاً، كما تثبت حرمتُه تبعاً.
وهذا المعنى إنما يتحقق إذا ماتت واللبن في ثديها، فأما إذا حُلب اللبن منها في حياتها، فسقوط حرمتها إذا ماتت يستحيل أن يتعدى إلى اللبن المفصول منها.
وبلّغني من أثق به أن القاضي كان يحكي وجهاً أن الحرمة لا تتعلق باللبن المحلوب
__________
(1) ر. مختصر اختلاف في العلماء: 2/ 320 مسألة 814، مختصر الطحاوي: 222.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: أنها.

(15/361)


في الحياة إذا اتفق وصوله إلى الجوف بعد موت صاحبة اللبن، ورأيت هذا الوجه لبعض الأصحاب في طرق العراق.
ووجهه -على بعده في الحكاية- أن اللبن لو أثبتَ الحرمةَ، لثبتت الأمومة بعد الموت، والأمومة أم الحرمات في الرضاع، فيبعد ثبوتها بعد سقوط الحرمة، وهذا لو كان مشهوراً في الحكاية، لكان وجهاً متجهاً، وحكايته معروفة بين الخلافيين، وهذا الوجه مخالف للنص الذي نقله المزني.
فصل
قال: " ولو تزوج صغيرة ثم أرضعتها أُمُّه ... إلى آخره " (1).
10020 - افتتح المزني المسائل المطلوبةَ المنسوبة إلى مغمضات الكتاب وإن كانت بيّنة عند ذوي الفطانة، وإنما فيها ما يُحوِج إلى تجديد الفكر والإكباب.
[ولكني] (2) أرى أن أصدر المسائل التي بين أيدينا بأصلين: أحدهما - يتعلق بغُرم المهر: ونحن نقول فيه: إذا نكح الرجل صغيرةً رضيعة، فأرضعتها كبيرةٌ إرضاعاً يتضمن انفساخَ نكاحها، وذلك يفرض من وجوهٍ ستأتي مشروحة: منها أن تكون المرضعة أمَّ الزوج، أو ابنتَه، أو أختَه، فإن كانت أمَّه، فتصير الصغيرة أختَ الزوج، وإن كانت ابنتَه، فتصير حافدةَ الزوج، وحكمها حكم الولد، وإن كانت أختَه، صارت [بنتَ] (3) أخته، وصار هو خالها، وليس استيعاب وجوه الفساد من غرضنا الآن؛ فإنها ستأتي مستقصاةً بالصور، وفي الأصول التي مهدناها في صدر
الكتاب ما يرشد إلى جميع ذلك.
وغرضنا الآن التعرض للغُرم.
10021 - فإذا أرضعت امرأةٌ الصغيرةَ الرضيعةَ إرضاعاً مفسداً للنكاح، فإنها تغرم للزوج -بسبب تفويتها عليه الزوجيةَ في الصغيرة- والكلام فيما تغرمه؛ فإن الرضيعة
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 55.
(2) في الأصل: والذي.
(3) في الأصل: ابن أخته.

(15/362)


غيرُ ممسوسة، فنذكر ما تغرَمُه المرضعةُ إذا أفسدت نكاحاً قبل المسيس، ثم نذكر حكم الغرم إذا أفسدت نكاحاً بعد المسيس.
فأما التفصيل فيما قبل الدخول، فالذي نصّ عليه الشافعي أن المرضعةَ تغرَم نصف مهر المثلِ قبل الدخول، ونص على أن الشهود إذا شهدوا على الطلاق قبل الدخول، ورجعوا عن الشهادة، بعد نفوذ الحكم، غرِموا تمامَ مهر المثل.
واختلف أصحابنا في النصين: فمنهم من قال: فيهما قولان بالنقل والتخريج: أحد القولين- أن الواجب نصف مهر المثل على المرضعة والشهود، إذا كان [الفَرْض] (1) قبل الدخول؛ لأن الملك إذا لم يتأكد بالدخول، كان [العوض] (2) فيه على حده، ويعرف عدم تأكده بعدم تأكد عوضه؛ فإن الصداق المسمى لا يستقر منه قبل المسيس إلا شطره إذا كان الفراق بالطلاق.
والقول الثاني - أنه يجب على المرضعة والشهودِ مهرُ المثل، فإن التفويت قد تحقق في ملكٍ تام لا نقصان فيه، ولولا تمامُه، لما انتظم الإقدام على الوطء، ولو فرض موتٌ قبل الدخول، كان كما لو فرض بعده.
10022 - ومن أصحابنا من أقر النصين قرارهما، وقال: على المرضعة نصفُ مهر المثل قبل المسيس، وعلى الشهود إذا رجعوا تمامُ مهر المثل. والفرق أن المرضعة قطعت النكاح بالإرضاع، فقرب تشبيه ما تلتزمه من قيمة البضع بما يلتزمه الزوج من المسمّى إذا طلق قبل الدخول.
والشهود لم يقطعوا النكاح باطناً، وإنما أثبتوا حيلولةً لا مطمع في رفعها، والنكاح على زعمهم دائم والطَّلِبة بتمام المسمى متوجهة على الزوج، مع دوام النكاح قبل المسيس.
ومن أصحابنا من أقر النص في الشهود، ولم يخرّج فيهم من المرضعة (3) قولاً، وخرّج في المرضعة قولاً أنها تلتزم تمام مهر المثل.
__________
(1) في الأصل: الغرض.
(2) في الأصل: الغرض.
(3) أي لا يخرّج في الشهود قول نصف الصداق من القول الوارد في المرضعة.

(15/363)


وهذا أقسط الطرق؛ فإن التبعيض في الشهود [لا احتمال] (1) فيه، [وإيجاب] (2) تمام المهر على المرضعة ظاهر في القياس؛ فإن تشبيهها بالمطلّق اكتفاءٌ من المشبِّه بتلفيق لا حاصل وراءه؛ من جهة أن المطلّق هو الذي أزال ملكه قبل أن يستوفيه، فارتدت المنافع إليها بجملتها، فقابل الشرع استمكانه منها ببعض الصّداق. وأما المرضعة إذا فوتت ملكه قبل أن يستوفيه فهي أحرى بأن تلتزم الكمال.
فليتأمل الناظر من كلامنا أمثالَ هذه المواضع.
هذا الذي ذكرناه قاعدةُ المذهب.
وقال أبو حنيفة (3) على المرضعة قبل المسيس نصفُ الصداق المسمى، وهو الذي يغرمه الزوج لزوجته التي فسد نكاحها بالرضاع، وهذا له اتجاه على حال؛ من جهة أن تقوّم البضع بقطع الملك فيه إلحاق له بالأموال المحضة، وليس هذا من قبيل استهلاك منافع البضع بالوطء، فإن تقوّمها بسبب تأكد الحرمة يضاهي تقوّم الحر إذا أتلف.
10023 - وقد حكى الشيخ أبو علي وغيره قولين آخرين في المرضعة، سوى ما قدمناه: أحدهما - مثل مذهب أبي حنيفة، ووجهه ما أشرنا إليه، فإذا قطعنا النظر عن قيمة البضع، فلا بد من تغريمها ما ضيعته على الزوج من ماله، والمضيَّعُ ما بذله الزوج، وهو نصف المسمى.
والقول الثاني - أنها تغرَم له تمام المسمى؛ فإن الغرم إذا رجع إلى المسمى، فالتشطير لا يثبت إلا في حق الزوج.
وهذا بعيد لا أصل له؛ فإن التفويت يتحقق فيما يبذله أو فيما يلزمه بذله، وهو نصف المسمى.
ولو كان الزوج أصدقَ امرأته خمراً، واقتضى الحكم الرجوع إلى مهر المثل، فالقولان الزائدان لا يزيدان تحقيقاً، وان زادا تقديراً، فإنا في قولٍ نوجب نصف مهر
__________
(1) في الأصل: لاحتمالٍ فيه.
(2) في الأصل: بإيجاب.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 313 مسألة 810، مختصر الطحاوي: 221.

(15/364)


المثل، وفي قولٍ نوجب تمام مهر المثل، غير أنا أجريناهما على قاعدة المذهب، فالنصف نصف قيمة البضع، والتمام تمام قيمة البضع، فإن أجرينا القولين الزائدين، فالنصف في محل نصف المسمى، والتمام في محل تمام المسمى.
10024 - فإذاً تَجَمَّعَ في المرضعة أربعةُ أقوال في نكاح لا مسيس فيه: أحدها - أنها تلتزم نصف مهر المثل. والثاني - أنها تلتزم تمام مهر المثل. والثالث - أنها تلتزم نصف المسمى. والرابع - أنها تلتزم تمام المسمى.
وأما الشهود إذا رجعُوا قبل المسيس، ففيهم قولان: أحدهما - أنهم يلتزمون تمام مهر المثل، وهو الأصح. والثاني - أنهم يلتزمون نصف مهر المثل.
والذي أراه أن القولين المحكيين في المرضعة في نصف المسمى، وتمام المسمى يجريان في الشهود، فإن مأخذهما عدم تقوّم البضع من غير إتلاف ولا تملّك، وليس هذا كتقويمنا البضع في مقابلة الشقص الممهور؛ فإن ذلك تقويمُ تقدير، كما سبق في موضعه.
وذكر الصيدلاني وغيره من الأئمة قولاً آخر في الشهود، وهو أن الزوج إن كان بذل تمام المهر، فالشهود يغرمون التمام؛ لأنه أنكر الطلاق قبل المسيس، فلا يمكنه استرداد ما بذله، فإن كان لم يبذل من الصداق شيئاً أو بذل نصفه، لم يطالِب إلا بالنصف بعد نفوذ القضاء بالطلاق، فانتصب هذا قولاً مفصلاً خامساً.
والذي أراه أن هذا يحسن إذا كنا نغرّم الشهود المسمى نصفَه أو كلَّه.
فانتظم إذاً في الشهود خمسة أقوال.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان إفساد النكاح بالإرضاع قبل المسيس.
10025 - فأما إذا تسببت المرضعة إلى إفساد النكاح بعد المسيس، وهذا يُتصور على وجوهٍ ستأتي مفصلةً نذكر منها صورةً للتمثيل: فإذا نكح الرجل كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرةَ، فسد نكاحُ الكبيرة [على] (1) الرأي الظاهر، فإذا تغرم أمُّ الكبيرة لزوجها والكبيرةُ ممسوسةٌ؟
__________
(1) زيادة من المحقق.

(15/365)


ما قطع به الأصحاب أنها تغرَم تمامَ مهر المثل قولاً واحداً؛ لأنها فوتت النكاح بعد استقراره، وتأكده بالمسيس.
قال صاحب التقريب: حكى المزني في غير المختصر عن الشافعي أنه قال: لا يجب على المرضعة المفسدةِ للنكاح بعد المسيس شيء؛ لأن الزوج قد استوفى بالمسيس حقه، والوطأةُ الواحدة بمثابة وطْآت العمر، ولذلك تُقرِّر الصداقَ عليه، وبطل حق المرأة في حق حبسها نفسها، ولو ارتدت بعد المسيس، وانفسخ النكاح لإصرارها إلى انقضاء العدة، لم يسقط المسمى (1)، حكى المزني ذلك عن الشافعي، وقطع الشافعي فيما نَقَل جوابَه بهذا، وهو مذهب أبي حنيفة.
ثم خرّج المزني قولاً أن المرضعة تلتزم مهر المثل، قال صاحب التقريب: كنت أقطع بهذا القول الذي خرجه، ولا أعرف غيره، حتى اطلعتُ على ما نقله المزني.
فانتظم في الغرم إذاً قولان بعد المسيس: أحدهما - أنه لا يجب شيء وهو مذهب أبي حنيفة، والقول الثاني - أنه يجب المهر بكماله وهو القول المشهور المنصورُ في الخلاف.
وإذا طردنا قولين في المرضعة، لزم إجراؤهما في الشهود على الطلاق بعد المسيس، إذا رجعوا عن شهادتهم.
وقد نجز القول الكلي فيما يتعلق بالغرم المتوجه على المرضعة.
10026 - ونحن ننعطف على المسألة ونستفتح فيها حكماً آخر فنقول: إذا كان الإرضاع مثبتاً للغرم على التفصيل المقدم، فلا حكم لارتضاع الصبيّة، وإن كان لها فعلٌ واختيار، ولكنه في حكم المغلوب بالإضافة إلى الإرضاع.
هذا ما وجدته متفقاً عليه بين الأصحاب.
والممكن في تقديره أن ارتضاعَ الصبيةِ طِباعٌ، واختيارُ المُرضعة أغلبُ، وهذا يضاهي فتح القفص مع اتصال الطيران بالفتح؛ من جهة أن ابتغاء الطائر الإفلات طِباعٌ
__________
(1) الأَولى في التمثيل بالمرتدة أنها لا تغرَم المهرَ للزوج بانفساخ النكاح بردّتها بعد المسيس.
فبهذا استشهد النووي. (ر. الروضة: 9/ 22).

(15/366)


مع اتفاق الفتح، ولكن في ذلك الأصل أقوال ذكرناها.
ولا خلاف أن الارتضاع لا حكم له مع اتصال الاختيار بالإرضاع، فحق هذا الذي نحن فيه أن نستشهد به في نصرة بعض الأقوال في إفلات الطائر، ولا فرق بين أن يتصل الارتضاع بإلقام المرضعةِ الصبيَّ الثديَ، وبين أن ينفصل، وفي فتح القفص نَفْصل بين الاتصال والانفصال، كما تقرر في موضعه، والفرق أن فعل الفاتح انتهى بالفتح، فلا يمتنعُ اعتبارُ انفصالٍ عنه، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن المرضعة إذا ألقمت الصبيَّ الثديَ، فإدامتها الثدي في فم الصبي من فعلها، وهو بمثابة ابتداء الإلقام.
10027 - ولو كانت المرضعة نائمة، فدبَّت الصبية إلى ثديها، والتقمت وارتضعت، فلا فعل ولا اختيار للمرضعة، فالمذهب الظاهر أن الفعل محالٌ على الارتضاع في هذه الصورة، وأثر الإحالة عليه شيئان: أحدهما - أن صاحبة اللبن لا تغرَم شيئاً؛ لأنها لم تتسبّب، ولم تنسب إلى اختيار.
والثاني - أن مهر الصغيرة المسمى لها يسقط، لانتسابها إلى الارتضاع، وإحالتنا الحكم عليه، وهو بمثابة ما لو ارتدت الكبيرة قبل المسيس.
هذا ظاهر المذهب.
وحكى الشيخ أبو علي وجهين آخرين سوى ما ذكرناه: أحدهما - أن هذه الحالة بمثابة ما لو أرضعت الكبيرة اختياراً وارتضعت الصبية، فلا حكم للارتضاع، والغرم محال على صاحبة اللبن، وحكى هذا الوجه عن الداركي (1) من أصحابنا.
وتوجيهه -على بعده- فيما نقله: أن صاحبة اللبن منتسبة إلى التقصير، وترك التحفظ؛ إذ نامت في مكانٍ وبالقرب منها مرتَضِعٌ.
__________
(1) الدَّارَكي، عبد العزيز بن عبد الله بن محمد، أبو القاسم الدَّارَكي، أحد أئمة الأصحاب ورفعائهم، تفقه على أبي إسحاق المروزي، وانتهى إليه التدريس ببغداد، وعليه تفقه أبو حامد الإسفراييني. تكرر ذكره في الروضة كثيراً، وذكر في المهذب في غير موضع. توفي سنة 375 هـ.
والداركي، نسبة إلى دارك (بفتح الراء) من قرى أصبهان. (ر. طبقات الشيرازي: 97، طبقات العبادي: 100، تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 264، وفيات الأعيان: 2/ 361، طبقات السبكي: 3/ 330، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 141).

(15/367)


وهذا على نهاية البعد.
والوجه الآخر - أن صاحبة اللبن لا تغرَم شيئاًً لزوج الصغيرة، وللصغيرة نصف الصداق المسمى، وهذا في التحقيق إسقاط أثر الإرضاع والارتضاع جميعاًً، وهذا أوْجَه قليلاً مما حكاه عن الدارَكي. أما سقوط الغُرم عن صاحبة اللبن، فبيّنٌ متجه.
وأما عدم سقوط جميع المسمى، فمعلل بحمل الارتضاع على الطباع حيث وجد، فيسقط أثره، وقد يعتضد هذا في الحسّ بأن الصبي ينفصل عن الأم، فيأخذ في الارتضاع، ولا يجوز أن يفرض له اختيار في هذه الحالة، وعليه حمل بعضُ المفسرين قولَه تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
فقد تحصّل في ارتضاع الصبية من الكبيرة النائمة ثلاثةُ أوجه: أحدها - إسقاط الغرم وإحالةُ الإفساد على الارتضاع، وهو الأول، والوجهان الآخران قد بانا، فانتظمت الأوجه.
10028 - وإذا وقع التفريع على الأصح، وهو الوجه الأول، فلو قطَرَتْ قطرةٌ من ثدي صاحبة اللبن، وطيرتها الريح وفاقاً إلى غلصمة الصبية، فلم يوجد منها إرضاع ولا منها ارتضاع، فالذي ذكره الأصحاب تفريعاً على الوجه الأول المشهور أنه لا غرم على الكبيرة، وللصبية نصف صداقها على زوجها.
وإذا فرعنا على مذهب الدارَكي، فلا شك أنه يوجب الغرم على الكبيرة، وهو ضعيف لا تفريع عليه.
هذا قولنا في ارتضاع الصبية من غير إرضاع.
10029 - ونحن ننعطف على المسألة انعطافاً آخر، ونأخذ في تفصيلِ أصلٍ آخر: ما رأيناه تمحيصٌ للأغراض والمقاصد في المسائل أقربُ إلى مسلك البيان من خلط الأحكام بعضها بالبعض، فنقول: إن وُجد من الصبية ارتضاعٌ، ومن صاحبة اللبن إرضاع، فلا حكم لارتضاعها، ولها نصف المسمى على زوجها.
وقد يعترض هاهنا سؤال، وهو أن الصداق إنما يتشطر إذا كان الزوج هو المطلِّق، فينضم إلى تمكنه من الاستمتاع، وإن لم يستمتع رفعُه النكاحَ بالطلاق،

(15/368)


فيترتب عليه أن المسمى لا يسقط جميعه، وهاهنا لم يتسبب الزوج إلى رفع النكاح، وإنما ارتفع دونه قبل أن يصل إلى مقصوده.
فنقول: الأمر وإن كان كذلك، فنصف المسمى ثابت؛ فإن ارتضاع الصبيةِ عديمُ الأثر، فالرفع يغرّم الكبيرة، فيبعد أن يفوز بقيمة ما فُوّت عليه، ولا يغرَم للصبية من عوض العقد شيئاً.
نعم، لو قطرت قطرة من اللبن من غير قصد، ووصل إلى باطن الصبية من غير قصدٍ منها، وجرينا على الأصح في نفي الغرم عن صاحبة اللبن، فهاهنا انقطع النكاح من غير قصد من الزوج، ولم يُخلِّف انقطاعُ النكاح غرماً، فالمذهب المنقول أنه يجب على الزوج نصف المسمى كما ذكرناه، ووجهه أن النكاح لا يعرى عن شيء من العوض إذا لم يظهر انتساب المرأة إلى رفعه، ولا انتسابَ من الصبية في الصورة التي ذكرناها.
وفي هذه الصورة أدنى احتمال؛ من جهة أن الزوج لم يرفع النكاح، ولم يَفُز بعوض عنه.
وهذا مذهب مالك (1)، وفي مسائلنا ما يناظر هذا.
وهذا احتمال. والمذهب ما قطع الأصحاب به.
10030 - فإذاً يتسق في الغرض الذي نطلبه ثلاث صور: إحداها - أن يوجد الإرضاع (2) والارتضاع، فللصبية نصف المسمى.
والأخرى - أن ترتضع وصاحبة اللبن نائمة، فالمذهب سقوط مسماها، [لتجرد] (3) ارتضاعها، وحكينا عن الدارَكي وغيرِه وجهاً آخر أن لها نصفَ المسمى.
والصورة الثالثة - ألا يوجد من الصبية ارتضاع- في مسألة انفصال القطرة واتصالها بباطن الصبية- فالذي قطع به الأصحاب أنه يجب لها نصف المسمى على زوجها،
__________
(1) ر. حاشية الدسوقي: 2/ 505 - ، 506.
(2) في الأصل: أن يوجد الإرضاع للغرم والارتضاع.
(3) في الأصل: لتجدد.

(15/369)


وقال مالك يسقط جميعُ المسمى، وما ذكرناه من الاحتمال توجيه مذهب مالك.
10031 - ومما نختتم فصلَ الغرم به أن الرجل إذا نكح كبيرةً وصغيرةً، فأرضعت الكبيرةُ الصغيرةَ، وفسد نكاحهما، كما سنبين، أما أمر الصغيرة، فقد أوضحناه في الغرم، وأما الكبيرة؛ فإنها تسببت إلى إفساد نكاح نفسها أيضاًً بالإرضاع، وأثر ذلك أنه يسقط مسماها، ولا تغرم للزوج شيئاً، بخلاف المرضعة التي ليست بزوجة، وذلك لأن الضمان المتعلق بالمتعاقدين في المعقود عليه يختص بترادّ العوض.
فهذا أثر إفسادها نكاح نفسها.
وهذا فيه إشكال لا يليق استقصاؤه بالمذهب (1)، وقد ذكرناه في مسائل (2) الخلاف.
وهذا نجاز أحد الأصلين المقدمين على مسائل الفصل، وهذا بيان الغرم، وما يجب وما يسقط.
10032 - وأما الأصل الثاني - فنقول: إذا اتصل الصهر بحرمة الرضاع، تعلقت حرمة المصاهرة بما يجري، ولا فرق بين أن يتفق ذلك قبل النكاح، أو في دوامه، أو بعد ارتفاعه. والأصل متفق عليه.
10033 - وبيانه بالمسائل أن المرأة إذا أرضعت صبيّةً، فنكح الصبيةَ رجل، فالتي صارت أمها بالرضاعة محرمةٌ على الزوج على التأبيد، والأمومة في هذه الصورة متقدمة على الزوجية وأم الزوجة محرمة على التأبيد.
ولو نكح الرجل صغيرةً وأبانها، فأرضعتها أجنبيةٌ خمساً في الحولين، حرمت هذه الأجنبية على الذي كان زوجاً للصبية، والأمومة تثبت بعد ارتفاع الزوجية،
__________
(1) بالمذهب. المراد به هذا الكتاب (نهاية المطلب) فهو يسمّى (المذهب الكبير).
(2) مسائل الخلاف: المراد بها كتاب (الدرّة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية) ويسميه مسائل الخلاف، لأن مبناه وطريقته على ذكر المسائل الخلافية بعنوان (مسائل) فيقول: مسائل القراض - مسائل الرضاع ... وهكذا. وكلما انتقل من موضعٍ إلى موضع قال: مسألة. وهذا غير كتابه الآخر في الخلاف الذي يسميه (الأساليب) وذلك لأنه كلما انتقل من مسألة خلافية إلى أخرى قال: أسلوب آخر ... فسمي باسم الأساليب.

(15/370)


ولكن كانت هذه الصبية زوجة، وقد ثبتت أمومة المرضعة، فلا نظر إلى تقدم الزوجية وتاريخ الرضاعة، وهذا متفق عليه لا نعرف فيه خلافاًً.
ولو نكح الرجل كبيرةً، ثم أبانها، فنكحت غلاماً رضيعاً قَبِل نكاحَها له أبوه، وكانت ذاتَ ابنٍ من الزوج الأول، فلو أرضعت زوجَها الرضيعَ بلبان الزوج الأول، فلا شك في انفساخ نكاح الرضيع؛ لأن الكبيرة صارت أمَّه، وتحرم هذه الكبيرة على الزوج الأول على التأبيد، فإنها من زوجات ابنه من الرضاع، وحليلة الابن من الرضاع محرمة على الأب، فقد أثبت إرضاعها بنوة الرضيع من الزوج الأول، وانعقد النكاح قبل ذلك، فصارت حليلة الابن.
وهذا ينبني على الأصل الذي مهدناه من أنا لا نعتبر التواريخ في ترتُّب الصهر على الرضاع والرضاع على الصهر.
ومما بناه الأئمة على هذه القاعدة أن رجلاً اسمه زيد لو نكح كبيرة، ونكح رجل اسمه عمرو رضيعة، ثم أبان كل واحد منهما زوجته، واستبدلا: فنكح زيد الرضيعة، ونكح عمرو الكبيرة، ثم أرضعت الكبيرة بعد الاستبدال الصغيرة، فنقول: أما الكبيرة فتحرم عليهما جميعاًً لأنها صارت أم زوجة كل واحد منهما؛ فإن الصغيرة نكحها عمرو أولاً ثم زيد، ولا نظر إلى التاريخ.
وأما الصغيرة، فنقول: إن لم يدخل زيد بالكبيرة لما كانت تحته، فنكاح الصغيرة [يتأتّى] (1)، لأنها صارت ربيبة امرأة لم يدخل بها، وإن كان الأول دخل بالكبيرة، انفسخ الآن نكاح الصغيرة، لأنها صارت ربيبةَ امرأة مدخولٍ بها.
ولولا إقامة الرسم وطردُ الكتاب على نسق واحد في البيان، لرأيت طرح معظم هذه الأمثلة؛ لأن الفطن يتبرّم بها، ولا يكاد يخفى مداركها على أوائل النظر، ولكني أُجريها على صيغة البيان، وهذا معذرةٌ إلى الفقيه المنتهي إلى هذا المنتهى.
10034 - قال ابن الحداد: إذا در لمستولدة الرجلِ لبنٌ على ولده المنتسبِ إليه، ثم إنه زوجها من عبد له صغيرٍ رضيع، فلو أرضعته، فلا شك في انفساخ النكاح.
__________
(1) في الأصل: يأتي.

(15/371)


ثم حكى عن الشافعي أنه قال: لا تحرم المستولدة على مولاها، وقال معترضاً: الرأي تحريمها؛ فإن العبد الصغير صار ابناً للمولى (1)، وهذه زوجة ابنه، وحليلة الابن تحرم.
فقال الأصحاب: إن صححنا النكاح، فلا شك أن الجواب المبتوت ما ذكره ابن الحداد، ولكن حمل الأصحاب النص الذي نقله على فساد النكاح.
ووجهوا للفساد ثلاثة أوجه: أحدها - أن التزويج من العبد الصغير لا يجوز؛ بناء على أن إجبار العبد الصغير على النكاح غيرُ جائز؛ من حيث إنه يُلزم ذمته مالاً.
والوجه الثاني في توجيه الفساد- منعُ تزويج المستولدة؛ فإنا قد نمنع ذلك في قولٍ، كما سيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله وحده.
والوجه الثالث - أن من زوج أمته من عبده، فالمذهب الأشهر والمسلك الأظهر أن النكاح يصح، وحكى الشيخ أبو علي وغيره وجهاً غريباً أن تزويج أمته من عبده غيرُ صحيح، وهذا -على بعده- موجه باستحالة ثبوت المهر، وإن كان كذلك، امتنع عقد النكاح؛ من جهة استحالة ثبوت العوض بالعقد وعند المسيس، وضاهى ذلك بدَلَ البضع.
ولست أدري أقدَّمنا ذكر هذا في النكاح؟ فإن لم نذكره، فقد ذكرناه الآن.
وإذا أفسدنا النكاح بوجهٍ من هذه الوجوه، لم تثبت الزوجيةُ مع الابن.
وإذا نكح ابنُ الرجل امرأةً نكاحاً فاسداً، ولم يطأها على الشبهة، لم تحرم على الأب، فإن النكاح إنما يحرِّم حليلة الابن على الأب وحليلة الأب على الابن إذا صح.
فهذا محمل النص الذي حكاه ابن الحداد.
وإن صححنا النكاح، فليس تحريم المستولدة على المولى مما يُتمارى فيه.
وقد نجز ما أردناه من تمهيد الأصل الثاني.
وقد حان أن نخوض في المسائل، ومعظمها منصوصة فلا يضر حفظها حتى تكون معتدة في الذكر وتتهذب الأصول بها، ونحن نأتي بها صورة صورة.
__________
(1) تذكّر (لبن الفحل)، فالمولى هنا هو الفحل.

(15/372)


فصل
قال: " ولو أرضعتها امرأة له كبيرة لم يصبها ... إلى آخره " (1).
10035 - نستغرق مقصود الفصل برسم الصور.
صورة: إذا كان تحت رجل صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرةُ الرضيعةَ، نظر: فإن أرضعتها بلبان الزوج، انفسخ نكاحهما، أما الصغيرة، فقد صارت بنت الزوج، وأما الكبيرة، فقد صارت من أمهات النساء.
ان كانت ذاتَ لبن من غير الزوج، فلا يخلو إما أن تكون مدخولاً بها، وإما أن لا تكون مدخولاً بها. فإن كانت مدخولاً بها، انفسخ نكاح الكبيرة والصغيرة، وحرمتا على الأبد: أما الكبيرة، فقد صارت من أمهات النساء، والصغيرة ربيبةُ امرأةٍ مدخولٍ بها.
ان لم تكن مدخولاً بها، فلا شك في انفساخ [نكاحهما] (2) لثبوت البنوة والأمومة بينهما، والجمع بين الأم والبنت مستحيل، وليست إحداهما أولى بالاندفاع، وأما الكبيرة، فقد حرمت على الأبد؛ هذه العلة فيها كافية في انفساخ نكاحها؛ فإنها صارت من أمهات النساء، ولا تحرم الصغيرة على الأبد، وإنما ينفسخ نكاحها في الحال لما أشرنا إليه من الجمع، وإلا فهي ربيبة امرأة لم يدخل بها، فلو أراد أن ينكح الصغيرة ابتداء، أمكنه ذلك.
ولا يضر أن نُجريَ في بعض المسائل أحكامَ الغرم، وإن مهدنا أصله، وإحالةُ الإفساد على الكبيرة، والجريانُ على الأصح، فتغرمُ للزوج نصفَ مهر الصغيرة، ويسقط مهرها إن لم يكن مدخولاً بها، كما لو ارتدت قبل المسيس، وإن كانت مدخولاً بها، لم يسقط مهرها المسمى على الرأي الظاهر، كما لو ارتدت المرأة بعد المسيس، وقد ذكرت التفصيل في ذلك.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 55.
(2) في الأصل: نكاحها.

(15/373)


والقدر المعتبر هاهنا تنزيل الرضاع بعد المسيس منزلة الارتداد، والزوج يغرم للصغيرة نصف مسماها.
10036 - صورة أخرى: إذا كان تحت الرجل كبيرة وثلاث صغائر، فأرضعتهن الكبيرة، لم يخف الحكم، إذا كان الإرضاع بلبان الزوج؛ فإنهن يصرن بناتِه.
وإن كانت ذاتَ لبن من غير الزوج، نظر: فإن كانت مدخولاً بها، حرمت، وحرمن على الأبد من غير تفصيل؛ فإن الصغائر [يصرن] (1) ربائبَ امرأة مدخول بها، وتصير الكبيرة أمَّهن.
وإن كان الرضاع بغير لبن الزوج، وكانت الكبيرةُ غيرَ مدخولٍ بها، فهذا القسم يفصّل، فإن أرضعتهن أربعاً أربعاً على ما يتفق من جمعٍ وترتيب، ثم احتُلب اللبنُ وجعل في ثلاثة ظروف، وأوصل الرضعة الخامسة إلى أجوافهن معاً من غير ترتيب، فيرتفع نكاحهن.
أما الكبيرة، فتحرم على الأبد؛ لأنها من أمهات النساء، والصغائر لا يحرمن على الأبد؛ لأن الكبيرة غير مدخول بها، فهن ربائب امرأة لم يتفق الدخول بها، ولكن ينفسخ نكاحُهن لثبوت الأُخوّة بينهن في حالة واحدة، والجمع بين الأخوات مستحيل.
ثم يغرَم الزوج نصف المسمى لكل صغيرة، ويسقط مهرُ الكبيرة، كما لو ارتدت قبل الدخول، وهذا حظها في نفسها من عهدة الإرضاع، وتغرم هي على الرأي الظاهر نصفَ مهر مثل كل صغيرة للزوج.
ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت قبل الدخول بغير لبان الزوج الصغائرَ الثلاث ترتيباً: الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فنقول: أما نكاح الكبيرة، فلا شك في ارتفاعه، وهي محرمة على الأبد، وإنما النظر في الصغائر، فإذا أرضعت الأولى خمساً، انفسخ نكاحها لاجتماعها مع الأم وقد تثبت الأمومة والبنوة من غير ترتيب، فلما أرضعت الثانية، لم ينفسخ نكاح الثانية؛ من جهة أنها لا تحرم على الأبد،
__________
(1) في الأصل: تصرفن.

(15/374)


والكبيرة أقدمت على إرضاعها بعد انفساخ نكاحها، فلا يحصل الجمع.
فلما أرضعت الثالثة رضاعاً محرِّماً، انفسخ نكاح الثالثة، لا محالة؛ لأنها صارت أختاً للثانية وقد ثبتت الأخوة [بينها وبين] (1) الثانية في النكاح، والجمع بين الأختين ممتنع. هذا قولنا في الثالثة.
فأما الثانية، ففي ارتفاع النكاح قولان: أصحهما وأقيسهما - أنه لا ينفسخ نكاح الثانية، وعبر الأئمة عن القولين، فقالوا: الأخيرة التي ينفسخ نكاحها بسبب الاجتماع مع المتقدمة تصير مع المقدّمة كالمنكوحتين في عُقدةٍ واحدةٍ أم الأخيرة كالمُدخلة على المتقدمة؟ فعلى القولين: فإن جعلناهما كالمنكوحتين دفعة واحدة، فلا وجه إلا الحكم بانفساخ نكاحهما جميعاًً، وإن جعلنا الأخيرة كالمُدخلة على الأولى، فينفسخ نكاح الأخيرة فحسب.
توجيه القولين: وجه القول الأصح أن الأُخوّة لا تقبل في ثبوتها الترتيب، ولا يتصور ثبوتها إلا بين شخصين، والأخوّة هي المفسدة، وإذا لم يكن فيها ترتب، وجب القطع بانفساخ النكاح فيهما جميعاً.
ووجه القول الثاني - أن الرضاع تمّ في الأولى، ولم يوجب انفساخاً، ثم الرضاع في الثانية بكماله، لم يتعلق بالأولى منه [فعل] (2)؛ فكان ترتب الرضاع على الرضاع كترتب النكاح على النكاح.
وهذا ما لا [أشتغل] (3) بتقريره، وإنما هو تخييلٌ لا حاصل له.
ثم قال الأئمة: مهما (4) فرضنا امرأتين، وقد تمهد في أحدهما سببٌ، ثم جرى في الثانية سبب آخر حصل به جمعٌ محرِّم، فينفسخ نكاح الثانية، وفي انفساخ نكاح الأولى القولان.
__________
(1) في الأصل: وقد ثبتت الأخوة منها والثانية.
(2) في الأصل: فعلى.
(3) في الأصل: أستقلّ.
(4) مهما: بمعنى إذا.

(15/375)


10037 - واختلف الأصحاب في صورة نذكرها، وهي أن الرجل لو كان تحته كبيرة وصغيرة، فأرضعت أمُّ الكبيرةِ الصغيرةَ، فقد صارت الصغيرة أختاً للكبيرة؛ وإنما انتظمت الأخوة بينهما؛ لأن الكبيرة بنتُ المرضعة بالنسب، وهذا متقدم متمهد على إرضاع الصغيرة، فاختلف أصحابنا على طريقين: فقال الأكثرون: في انفساخ نكاح الكبيرة قولان، جرياً على القاعدة التي قدمناها؛ فإن البنوة بالنسبة متقدمة، والرضاع الذي تم به الأخوة متأخر، وكان كما لو أرضعت الزوجة الكبيرة صغيرة، ثم أخرى، ثم أرضعت الثالثة، فقد صارت أم الثانية بالرضاع، وتثبت الأخوة بين الثانية والثالثة بسبب تقدم بنوة الرضاع بين الكبيرة وبين الثانية، فلا فرق.
ومن أصحابنا من قطع بأن الكبيرة تحرم قولاً واحداً، إذا أرضعت أمها الصغيرة، لأن البنوة في الكبيرة تثبت لا بجهة الرضاع، فليس في الرضاع ترتب.
وهذا ليس بشيء، والوجه القطعُ بجراء القولين.
10038 - عاد بنا الكلام إلى كبيرة وثلاث صغائر والكبيرة غير مدخول بها، والإرضاع ليس بلبان الزوج، فلو أرضعت واحدةً من الصغائر، ثم أرضعت ثنتين، فأوصلت الرضعة الخامسة إلى أجوافهما معاً، فيبطل في هذه الصورة نكاح الصغائر الثلات: أما الصغيرة الأولى، فقد فسد نكاحها بسبب الجمع بين الأم وابنتها، وفسد نكاح الأخريين بحصول الأخوة فيهما معاً برضاعٍ جامع لا ترتب فيه.
ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت صغيرتين جميعاً، كما صورنا الجمع، ثم أرضعت الثالثة وحدها خمساً، فيرتفع نكاح الصغيرتين الأوليين المجموعتين لعلتين في الجمع: إحداهما - الجمع مع الأم، [والثانية] (1) - الاجتماع في الأخوة، ولا يبطل نكاح الصغيرة الثالثة؛ فإن رضاعها يجري ونكاحُ الكبيرة زائل، وكذلك نكاح الصغيرتين الأوليين، وليست هي ربيبة امرأة مدخول بها.
ولا يكاد يخفى حكم الغُرم إذا لاح فسادُ النكاح.
__________
(1) في الأصل: الثاني.

(15/376)


10039 - صورة أخرى: إذا نكح رجل أربع صغائر، فجاءت أجنبية وأرضعتهن أربعاً أربعاً، ثم أوصلت الرضعة الخامسة إلى أجوافهن معاً، فيفسد نكاحهن للاجتماع في الأخوة برضاعٍ لا ترتب فيه، والنظر في الجمع والترتيب إلى الرضعة الخامسة.
ولو أرضعت اثنتين معاً، ثم أرضعت الأخريين معاً، فسد نكاحهن لتحقق الجمع بين الأوليين وبين الأخريين.
ولو أرضعتهن على الترتيب، فلا ينفسخ نكاح الأولى لو اقتصرت على إرضاعها، فلما أرضعت الثانية، صارت أختاً للأولى، وانفسخ نكاح الثانية، وهل ينفسخ نكاح الأولى؟ فعلى القولين؛ لأن الرضاع قد تم فيهما، فإن جعلنا الثانية كأختٍ تدخل على أختٍ، فينفسخ نكاح الثانية ولا ينفسخ نكاح الأولى، وإن جعلناهما كالمجموعتين في نكاح واحد، بطل نكاحهما بالتدافع، فلما أرضعت الثالثةَ، فإن حكمنا بانفساخ نكاح الأولى والثانية، فلا ينفسخ نكاحُ الثالثةِ الآن؛ فإن الأخوة فيها لا تصادف [أُختاً منكوحة] (1)؛ إذ قد ارتفع نكاح الرضيعتين قبلهما.
وإن فرعنا على القول الثاني، وهو أن نكاح الأولى لا ينفسخ، فينفسخ نكاح الثالثة؛ فإن الأخوة تثبت بينها وبين الأولى وهي في النكاح، فبطل نكاح الثالثة، ولما أرضعت الرابعة، فنكاح الرابعة ينفسخ لا محالة على القولين؛ فإنها صارت أختَ الأولى، وأختَ [الثانية] (2)، والثالثةُ على القول الصحيح كانت منكوحة لما تم الرضاع في الرابعة، والأولى كانت منكوحة في القول الثاني لما تم الرضاع في الرابعة، فيفسخ نكاحها على القولين.
وتخرّج من خاتمة الأم (3): إذا أرضعتهن ترتيباً أن نكاح الأربع ينفسخ آخراً على أصح القولين، وترتيبه أن ينفسخ نكاح الأولى عند تمام الرضاع في الثانية وينفسخ نكاح الثانية لا محالة، ثم ينفسخ نكاح الثالثة عند تمام الرضاع في الرابعة، وينفسخ نكاح الرابعة لا محالة.
__________
(1) في الأصل: " أخت المنكوحة " والمثبت من صفوة المذهب.
(2) في الأصل: "والثالثة" والمثبت من (صفوة المذهب).
(3) وتخرج من خاتمة الأم: أي يستخلص من خاتمة المسألة الأم.

(15/377)


وعلى القول الثاني ينفسخ نكاح الثانية، والثالثة، والرابعة، ويبقى نكاح الأولى.
ولو غيرنا الصور في الترتيب والجمع، وصورنا الجمع في ثلاث، ثم إرضاع الرابعة، أو عكس ذلك، لم يخف حكمه، فإذا أرضعت ثلاثاًً جمعاً، انفسخ نكاحهن، فإذا عادت فأرضعت الرابعة، لم ينفسخ نكاحها؛ إذ لا اجتماع لها مع أختٍ.
ولو أرضعت واحدةً، ثم أرضعت ثلاثاً جمعاً: أما الأولى لا ينفسخ نكاحها لو فرض الاقتصار على إرضاعها، وأما الثلاث، فينفسخ نكاحهن، وهل نعود فنقول: ينفسخ نكاح الأولى، فعلى القولين السابقين.
10040 - صورة أخرى: إذا كان تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث خالات للزوج من أب وأم، هن أخوات أمه من أبيها وأمها، وأرضعت كل واحدة منهن صغيرة، فلا يحرمن على الزوج؛ فإنهن يصرن بنات خالاته، ولا امتناع في نكاح بنات الخالات.
فلو كانت المسألة بحالها، وقد جرى الإرضاع من الخالات كما صورنا، فجاءت أم أم الزوج وأرضعت الصغيرة الرابعة، فقد صارت هذه خالة الزوج؛ لأنها تصير أخت أمه؛ فتحرم هي، وكما تصير خالة للزوج تصير خالة للصغائر الثلاث اللواتي أرضعتهن الخالات من قبل؛ وذلك لأنها كما (1) صارت أختَ أم الزوج، وصارت لذلك خالةَ الزوج، كذلك صارت أختَ الخالات المرضعات، والخالاتُ المرضعات قد صرن أمهات الصغائر الثلاث، وأختُ الأم خالة، وإذا صارت الرابعة خالةَ الصغائر الثلاث، صارت الصغائر الثلاث بنات أخوات الرابعة، ولا يجوز الجمع بين الخالة وبنت أختها، ولكن هذا حصل برضاع مترتب، فبطل نكاح الرابعة للخؤلة مع الزوج، والجمع مع بنات الأخوات، وهل يبطل نكاح الصغائر الثلاث؟ فعلى القولين السابقين؛ لأن ذلك حصل برضاع مرتب.
ولو كانت المسألة بحالها، فأرضعت ثلاثُ خالاتٍ للزوج من الأب والأم ثلاثَ
__________
(1) كما بمعنى عندما.

(15/378)


صغائر، فجاءت زوجة أب أم الزوج، وأرضعت الرابعة بلبان أب الأم، فإنها تصير أختاً لأم الزوج من أبيها، فتكون خالة للزوج من الأب، وتصير أختاً للخالات المرضعات من جهة الأب؛ فإنهن كن أخوات الأم من الأب والأم، وتصير الصغائر الثلاث بنات أخوات الرابعة، كما قدمنا ذلك. أما الرابعة فتحرم، وفي الثلاث القولان المذكوران.
وبمثله لو جاءت ثلاثُ خالاتٍ للزوج من الأم فأرضعن ثلاثَ صغائرَ، ثم جاءت زوجة أب أم الزوج، وأرضعت الرابعة، فتصير الرابعة خالة للزوج من قِبل الأب؛ فإنها أخت أمه من أبيها؛ إذ زوجة أم الأب أرضعتها بلبان أب الأم، ولا تصير الرابعة أختاً للخالات المرضعات؛ فإنهن كن أخوات الأم من الأم، والرابعة صارت أخت الأم من الأب، فلا تثبت الأخوّة بين الرابعة، وبينهن؛ لأنه لم يجمعهن أبٌ ولا أم، والأخوّة إنما تنتظم إذا انتسب شخصان إلى أب واحد ببنوة الرضاع [أو انتسبا] (1) إلى أمٍّ واحدة بهذه الجهة، فإذا لم يتحقق انتماء إلى أب ولا إلى أم، فلا أخوّة.
وإذا [كان] (2) لرجلٍ أخٌ من أبيه، وكان لذلك الأخ أخت من أمه، فأخته من أمه أجنبية من الرجل الأول الذي فرضنا الكلام فيه، وأخت الأخ حيث تحرم لا تحرم لأنها أخت الأخ، وإنما تحرم لأنها بنت الأب أو بنت الأم؛ لأن الأخوّة المحرِّمة حرمت من حيث إنها تفرعت على الأبوة أو على الأمومة، أو عليهما. وهذا واضح.
ولو كانت الخالات الثلاث عن أب، فجئن، وأرضعن ثلاثَ صغائرَ، ثم جاءت أم أم الزوج، وأرضعت الرابعة؛ فإنها تصير خالة للزوج، كما تقدم، ولا تصير أختاً للخالات المرضعات لما ذكرناه، ووضوح ذلك يغني عن مزيد البسط فيه.
10041 - ولو كانت تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث عمات للزوج من أب وأم وأرضعن ثلاث صغائر، ثم جاءت أم أب الزوج وأرضعت الرابعة، فنقول: أما الثلاث؛ فإنهن صرن بنات عمات، فلو وقع الاقتصار [عليهن] (3) في الإرضاع- فعلى
__________
(1) في الأصل: إذا انتسبا إلى أم واحدة.
(2) سقطت من الأصل.
(3) سقطت من الأصل.

(15/379)


ما مضى- لما ضرّ شيئاً؛ لأنهن صرن بنات عمات، وذلك غير ضائر، فلما أرضعت أمُّ الأب الرابعة، صارت عمةً للزوج؛ لأنها صارت أخت أبيه، فلا شك في فساد نكاحها، وكما صارت عمةً للزوج صارت أختاً للعمّات المرضعات، وصارت الصغائر الثلاث المرتضعات بنات أخوات الرابعة، فيحصل الجمع بين العمة وبين بنات الأخوات، ولكن حصل ذلك برضاع مرتب؛ إذ تم الرضاع في الثلاث الأُوَل، ثم حصل الإرضاع في الرابعة، فتحرم الرابعة بعمومة الزوج، وبعلة الجمع.
وهل تحرم الثلاث الصغائر المتقدمات؟ فعلى القولين الممهدين في أن الأخيرة كالمُدخلة على الأوائل أم هي مع الأوائل كالمجموعات في عقد؟
وهذا الذي ذكرناه فيه إذا جاءت أم الأب وأرضعت الرابعة بلبان الأب، فالجواب كما تقدم؛ فإن في العمات المرضعات قرابة الأمومة، وقرابة الأبوة جميعاًً، فتحصل الأخوة بأحد الطرفين.
ولو كانت العمات المرضعات من جهة الأب فجاءت أم الأب، فأرضعت الرابعة، لا بلبان أب الأب، فلا تثبت الأخوّة بين الرابعة وبين العمات، وكذلك لو كانت العمات من جهة الأم، فجاءت زوجة أب الأب وأرضعت الرابعة، لم تصر الرابعة أختاً للعمات، ولم تصر المرتضعات بنات أخوات، كما تقدم تصوير ذلك على التقرير التام في مسألة الخالات.
10042 - ولو كان تحت الرجل أربع صغائر، فجاءت ثلاث خالات متفرقات، وهن أخت الأم من أبيها وأمها، وأختها من أبيها، وأختها من أمها، وأرضعن ثلاث صغائر، ثم جاءت أم الأم وأرضعت الرابعة، فالقرابة التي تحرّم الجمع تثبت بين الرابعة وبين التي أرضعتها الخالة من الأب والأم والخالة من الأم، ولا يثبت بينها وبين التي أرضعتها الخالة من الأب ما يُحرِّم الجمع.
ولو كانت المسألة بحالها، فجاءت زوجة أب الأم، فأرضعت الرابعة بلبان أب الأم، ثبت النسب المانع من الجمع بين الرابعة وبين التي أرضعتها الخالة من الأب والأم والخالة من الأب، ولم يثبت بينها وبين التي أرضعتها الخالة من الأم سببٌ مانع.

(15/380)


وإذا فرضنا إرضاع الثلاث من عمات متفرقات، انتظم مثل ما ذكرناه فيه، إذا جاءت أم أب الزوج وأرضعت الرابعة لا بلبان الأب، وكذلك إذا جاءت زوجة أب الأب وأرضعت الرابعة، ثم حيث ينتظم السبب المانع، فالرابعة تحرم من كل وجه للعمومة والجمع، وهل يحرم اثنتان من الصغائر الثلاث على ما يقتضيه الترتيب؟ فعلى القولين، وعلى هذا فقِسْ إن شاء الله.
فصل
قال: " ولو تزوج رجل كبيرتين وصغيرتين ... إلى آخره " (1).
10043 - إذا نكح الرجل كبيرتين وصغيرتين، فأرضعت إحدى الكبيرتين الصغيرتين على الترتيب، بأن أرضعت الأولى خمساً، ثم أرضعت الثانية خمساً، ثم جاءت الكبيرة الأخرى وأرضعت الصغيرتين على ترتيب إرضاع الكبيرة الأولى، فإن كان الإرضاع بلبان الزوج، فقد حرمت الكبيرتان والصغيرتان على الأبد، غير أن الكبيرة الأولى لما أرضعت الصغيرة الأولى، فسد نكاحها ونكاحُ تلك الصغيرة؛ فإنها صارت بنت الزوج وصارت الكبيرة من أمهات النساء، فلما أرضعت الصغيرة الثانية، فسد نكاحها أيضاًً، لأنها تصير بنت الزوج، فقد حصل فساد نكاح الصغيرتين بإرضاع الكبيرة الأولى.
وحكم الغُرم أن الكبيرة الأولى مدخول بها، وإذا (2) كانت ذاتَ لبنٍ من الزوجِ، واللبن دَرّ في النكاح، فلا يسقط مهرها بعد المسيس، كالردة بعد المسيس، وتغْرمَ نصفَ مهر مثل كل صغيرة على الرأي الظاهر.
والكبيرة الثانية لا تغرم شيئاًً، ولا يسقط من مهرها شيء؛ لأنها لم تتسبب إلى إفساد نكاح واحدة من الصغيرتين، وإنما أفسدت نكاح نفسها بعد المسيس.
وإن لم يكن إرضاع الكبيرتين بلبان الزوج، فلا يخلو إما أن كان دخل بهما أو لم
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 58 (ثم هو بمعنى كلام المختصر، لا بلفظه).
(2) في الأصل: إذا كانت (بدون واو).

(15/381)


يكن دخل بهما، فإن كان دخل بهما، حَرُمْن كيف فرض الأمر، فإن الصغيرتين تصيران من ربائب [امرأة] (1) مدخولٍ بها، فتثبت الحرمة على الأبد بسبب الصهر، وتصير الكبيرتان من أمهات النساء في كل وجه.
وإن لم يكن الإرضاع بلبان الزوج، وما كان دخل بالكبيرتين وجرى الإرضاع في الصغيرتين من كل كبيرة: أما الكبيرتان، فتحرمان على الأبد، لأنهما من أمهات الزوجات.
وأما الصغيرتان، فلا تثبت فيهما حرمةٌ على التأبيد، وإنما يلحقهما الخللُ من جهة الجمع.
فنقول: إذا أرضعت الأولى إحدى الصغيرتين [أَكْملَ] (2) الإرضاع، ثم أرضعت الثانية، فيرتفع نكاح الأولى للاجتماع مع الأم المرضعة، وأما الثانية، فلا يرتفع نكاحها؛ لأنها لا تجامع أُمَّاً في النكاح، وقد تقدم فساد نكاح الكبيرة [الأولى. وأما الكبيرة] (3) الثانية، فإن أرضعت [الصغيرة] (4) الأولى على الترتيب الأول، حرمت الكبيرة في نفسها على الأبد، لأنها من أمهات النساء، ولا نظر إلى التاريخ، للأصل الذي مهدناه من قبل، فإذا أرضعت الثانية، لم ينفسخ أيضاًً نكاح الثانية؛ لأنه لم يتحقق فيها محرمية ولا جمع.
ولو ابتدأت الكبيرة الثانية بالصغيرة الثانية على العكس من ترتيب الكبيرة الأولى، فيبطل نكاح الصغيرة الثانية للاجتماع مع الأم.
ثم حكم الغرم لا يخفى، فيسقط مهر كل كبيرة بجريان الإرضاع قبل المسيس، ثم النظر في فساد نكاح الصغيرتين، فكل كبيرة تسبّبت إلى إفساد نكاح صغيرة التزمت نصف مهر مثلها -على الرأي الظاهر- لزوجها، والزوج يلتزم نصف المسمى للصغيرة التي فسد نكاحها، فإنا لا نحيل على ارتضاع الصغيرة أمراً، كما تقدم.
__________
(1) زيادة لإيضاح الكلام.
(2) في الأصل: " وأكمل ".
(3) زيادة من المحقق، لا يستقيم الكلام بدونها.
(4) زيادة لوضوح العبارة.

(15/382)


فصل
قال: " ولو كانت للكبيرة ثلاث بنات مراضع من نسب أو رضاع ... إلى آخره " (1).
10044 - إذا نكح الرجل كبيرة وثلاثَ صغائرَ، وكان للكبيرة ثلاث بنات مراضع فجئن، وأرضعن الصغائر، نُظر: فإن كانت الكبيرة مدخولاً بها، فيفسد نكاح الأربع في كل وجه؛ لأن الكبيرة تصير جدة الصغائر، فهي من أمهات النساء، وتصير الصغائر ربائبَ مدخولٍ بها؛ فإن الحافدة ربيبةٌ كالبنت، وإذا حرمن على الأبد -كيف فرض الرضاع على ترتيب أو جمع- فالتفصيل في الغرم.
فإن أرضعن ترتيباً، فالتي أرضعت الأولى تلتزم نصف مهر مثل الصغيرة الأولى لزوجها، وتلتزم تمام مهر مثل أمها؛ فإنها أفسدت نكاحها بعد المسيس، هذا هو المذهب الظاهر وعليه التفريع.
ولسنا نفرع على ما حكاه صاحب التقريب عن المزني في غير المختصر، وقيل: نقل المزني ذلك القولَ في المنثور، فلا ينبغي أن يكون إليه عَوْدٌ في كل مسألة.
فلما أرضعت البنتَ الثانيةَ، ثم البنتَ الثالثة، فسد نكاح الصغيرتين الأخريين للمحرمية، واختصت كل مرضعة بغرامة نصف مهر المثل للتي أرضعتها؛ وتختص مرضعة الأولى بغرامة مهر مثل الكبيرة؛ لأنها المفسدة لنكاحها.
10045 - ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها، فجاءت بناتها المراضع وأرضعن الصغائر، فهذا يُفرض على الجمع والترتيب:
فإن جمعن الرضاع المحرِّم في الصغائر وأوقعنه معاً -وذلك يفرض في الرضعة الخامسة؛ فإنها لا حكم [للرضعات] (2) قبلها- فإذا حصل الرضاع على الجمع، فيفسد نكاح الصغائر بسبب الجمع بينهن وبين الكبيرة التي صارت جدة، والجدةُ أمٌّ في
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 58، ونص عبارته: ولو كان للكبيرة بنات مراضع، أو من رضاع ...
(2) في الأصل: المرضعات.

(15/383)


هذه الأبواب، [ثم] (1) تنفرد كل بنت بغرامة نصف مهر التي أرضعتها، ويشتركن في غرامة مهر الكبيرة؛ فإن أفعالهن لم تترتب، وقد صدر من كل واحدة ما لو انفردت، لكان ذلك محرِّماً للكبيرة، فالغرم الواجب بسبب الكبيرة مفضوضٌ عليهن.
هذا إذا حلبن ألبانهن وحصَّلن الرضعة الخامسة معاً، وكذلك لو ألقمنهن الثديَ، وتحقق وصول اللبن إلى الأجواف معاً.
ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها وجرى الإرضاع من البنات على ترتيب، فإذا أرضعت واحدةٌ واحدة إرضاعاً تاماً، بطل بذلك نكاح الكبيرة والصغيرة للجمع والمحرمية: أما المحرمية، فتحصل في الكبيرة، لأنها تصير [من] (2) أمهات النساء، وأما نكاح الصغيرة فيبطل بالجمع، ولا تثبت المحرمية.
فإذا جاءت البنت الثانية، وأرضعت صغيرة، ثم أرضعت الثالثةُ الثالثةَ، لم يبطل نكاحهما، إذ لا محرمية، والكبيرةُ غيرُ مدخول بها، ولا جمع أيضاً، ولا يثبت بين الصغيرتين سببٌ يُحرِّم الجمع؛ إذ تصير كل واحدة بنت خالة الأخرى، والجمع بين بنات الخالات لا يمتنع.
ولو لم تكن الكبيرة مدخولاً بها، فأرضعت بنتان صغيرتين جمعاً، كما صورنا الجمع، وأرضعت الثالثةُ الثالثةَ من بعدُ، أما نكاح الكبيرة، [فيرتفع للمحرمية] (3)، لا شك فيه، ويرتفع نكاح الصغيرتين للجمع مع الأم.
وحكم الغرم أن كل مرضعة منهما تختص بغرامة نصف مهر مثل التي أرضعتها، ويشتركان في غرامة نصف مهر مثل الكبيرة؛ لأنهما اشتركتا في إفساد نكاحها. ولما جاءت البنت الثالثة، وأرضعت الصغيرة الثالثة، فلا أثر لإرضاعها؛ فإنها لم تثبت في الصغيرة الثالثة محرمية؛ إذ لا دخول بالكبيرة، ولم يتحقق فيها جمع؛ فإن نكاح الكبيرة قد تقدم ارتفاعه.
وإن صورنا الأمر على الضد من ذلك، فأرضعت بنتٌ صغيرةً، وجمعت بنتان
__________
(1) في الأصل: لم تنفرد.
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: فترتفع المحرمية.

(15/384)


الرضعة الخامسة للصغريين الأخريين، فيرتفع نكاح الكبيرة بالمحرمية، ونكاح الصغيرة الأولى بالجمع، ولا يؤثر إرضاع البنتين الأخريين؛ فإنه لا يُثبتُ محرميةً ولا جمعاً، وهذه الصورة في نهاية الوضوح، وإنما نوردها لاشتمال (السواد) عليها.
10046 - ثم ذكر ابن الحداد صوراً في الرضاع وما ينتظم منه من الحرمات ولست أرى ذكر واحدة منها لوضوحها، ولولا التزامنا ذكر مسائل السواد، لما أوردنا معظم الصور التي ذكرناها، اكتفاء بالأصول الممهدة، ولكن ذكر ابن الحداد فروعاً تتعلق بالمغارم مستفادة، منها أنه قال:
إذا كان للرجل ثلاث نسوة مرضعات وصغيرة، فأرضعت إحداهن الرضيعة رضعتين، وكذلك الأخرى أرضعتها رضعتين، وأرضعت الكبيرةُ الثالثةُ الرضعةَ الخامسةَ، فلا تصير واحدةٌ من الكبيرات المراضع أماً؛ فإن واحدة منهن لم تُكمل الرضعاتِ الخمسَ.
ولكنا نُصوِّر لبانَهن من الزوج ونقول: هل يصير الزوج أباً؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، سيأتي شرحه بعد هذا -إن شاء الله- أحد الوجهين- أنه يصير أباً لانتساب خمس رضعات إليه.
والثاني - أنه لا يصير أباً، لأن الأبوة تبعُ الأمومة وسيأتي هذا.
فليقع التفريع على ثبوت الأبوة، وتحرم الصغيرة على ذلك؛ لأنها صارت بنت الزوج على الوجه الذي عليه التفريع.
والكلام في الغرم بعد ذلك، فنقول: لم يتعلق بالرضعات الأربع الصادرة من الكبيرتين الأوليين إفساد النكاح، وإنما تم الرضاع بالخامسة الصادرة من الكبيرة الثالثة، فالذي رأيته منصوصاً للأصحاب القطعُ بأن الكبيرةَ الثالثةَ التي هي صاحبة الرضعة الخامسة تختص بالغرم؛ فإنها المفسدةُ.
ولا شك أن نكاح واحدة من الكبيرات لا ينفسخ؛ فإن الأمومة لم تثبت لواحدة.
وليس يبعد عندنا عن الاحتمال تشريكُ الكبيرتين الأوليين؛ فإن الرضعة الخامسة

(15/385)


إنما وقعت خامسةً لتقدم أربع قبلها، ولا حاصل لقول من يقول: الحرمة بالخامسة، قالت عائشة: " فنسخن بخمس يحرّمن ".
وهذا يضاهي مسألةً للأصحاب سيأتي ذكرها في مسائل أسباب الضمان من كتاب الديات، وهي أن من شحن سفينة شِحْنةً على اعتدال، فجاء آخر ووضع فيها عِدْلاً (1)، رسبت السفينة بسببه [وغرقت، فكم يغرم] (2) هذا الواضع؟ فيه تفصيل، وقد ذهب ذاهبون من أصحابنا إلى التوزيع، وهذا الذي ذكرناه في الرضاع احتمال، يعتضد برجوع الشهود؛ فإنه لو شهد أربعة على الطلاق، وجرى الحكم، ثم رجعوا عن الشهادات واحداً واحداً، فالغرم على جميعهم، وإن كان انتقاص العدد المشروط يحصل برجوع الثالث، والمذهب ما نقلناه، وهذا احتمال أبديناه، وهو [دافعٌ] (3) لا بأس به.
10047 - ولو كانت المسألة بحالها: ثلاث كبيرات وصغيرة، فأرضعت واحدةٌ الصغيرةَ رضعة، وأرضعت الثانيةُ رضعة، ثم احتلبتا لبنيهما، واحتلبت الكبيرة الثالثة لبنها، وجمعن هذه الألبان في ظرف، وأرضعن الصغيرة، فقد حصل بما صورناه خمسُ رضعات؛ فإن الأوليين قدمتا رضعتين، ولما جمعن ألبانهن، فكأنَّ كل واحدة أرضعت رضعة، فيحصل ثلاثُ رضعات بهذا اللبن المجموع، والتفريع على تحريم الصغيرة، وثبوت الأبوّة.
وغرضنا الكلام في الغرم، ولا شك أنهن يشتركن في الغرم بسبب الاشتراك في الرضعة الأخيرة، وذكر الشيخ أبو علي وجهين في كيفية فضّ الغرم عليهن: أحدهما - أن الغرم بينهن أثلاثاً؛ فإنهن اشتركن آخراً عند حصول التحريم، فالوجه فضُّ الغرم عليهن أثلاثاًً.
__________
(1) عِدْلاً: عدل الشيء مساويه في الوزن والقدر، والعدل أيضاً نصف الحمل يكون على أحد جَنْبي البعير، وهو الجُوالق، أو الغِرارة، وهو المراد هنا (المعجم والمصباح).
(2) في الأصل: وغرمت وكم يغرم.
(3) في الأصل: واقع.

(15/386)


والوجه الثاني - أنا نوجب على كل واحدة من الأُوليين [خُمسي] (1) الغرم، ونوجب على الثالثة خُمسَ الغرم، وحقيقة هذا الاختلاف يرجع إلى أنا هل نُدرج ما تقدم من الرضعتين من الكبيرتين في الحساب الذي عليه نَفُضُّ الغرمَ، فمن أصحابنا من لم يدرجهما، ولم يعتبرهما، ونظر إلى الاشتراك في الرضعة الخامسة.
ومن أصحابنا من أدرج الرضعتين السابقتين، وقال: إنما لا تعتبر الرضعات السابقة إذا انفردت الثالثة بالرضعة الخامسة على رأي الأصحاب، فأما إذا وجد من الأُوليين -وقد صدرت منهما الرضعتان- مشاركةٌ في الخامسة، فنُدخل ما سبق في الاعتبار، وهذا كما إذا انفردت بخمس رضعات محرمات، فالغرم محال على الرضعات الخمس.
وما ذكرناه تفريع على أن صاحبة الرضعة الخامسة إذا انفردت، انفردت بالغرم.
10048 - صورة أخرى لابن الحداد في المغارم: رجل تحته كبيرتان وصغيرة، وكانتا ذات لبن من غير الزوج، وما دخل الزوج بهما، فأرضعت كل واحدة منهما الصغيرة أربعَ رضعات، فلا يتعلق بما صدر منهما حرمة؛ لأن واحدة لم تكمل الرضاع، فتصير أمّاً، وليس اللبن من الزوج، حتى يختلف الأصحاب في ثبوت الأبوة بخمس رضعات ملفقات من رضاعهما، فلو احتلبتا ألبانهما، فأوجرتا الصغيرة [فلا] (2) تثبت الحرمة المؤبدة في حق الصغيرة؛ لأنا فرضنا المسألة فيه إذا لم يدخل الزوج بالكبيرتين، فليست ربيبةَ مدخولٍ بها، ولكن يبطل نكاح الصغيرة بسبب الجمع مع الأم.
ثم تشترك الكبيرتان في غرامة نصف مهر مثل الصغيرة للزوج.
وأما الكبيرتان ففيهما نظر يبين الغرض فيه بعد التنبُّه لما قدمناه من أن الكبيرة إذا أرضعت بنفسها، وفسد نكاحُها ونكاحُ الصغيرة، فهي لا تغرم بسبب فساد نكاحها في نفسها للزوج شيئاً، ولكن إن كانت غير ممسوسة، سقط مهرُها، فهذا أثر إفسادها
__________
(1) في الأصل: "خمس" ولا يستقيم المعنى بهذا. والمثبت من تصرّف المحقق.
(2) زيادة من المحقق، يفسد الحكم بدونها.

(15/387)


نكاح نفسها، وإن كانت ممسوسة، فالرأي الظاهر أنه لا يسقط من مهرها شيء لاستيفاء الزوج مقابل المهر.
فإذا تجدد العهد بهذا، فكل واحدة من الكبيرتين ساعية في إفساد نكاح نفسها، ويرتفع نكاح صاحبتها أيضاً، فهل تغرم إحداهما للزوج مهر صاحبتها الكبيرة، أم كيف السبيل فيه؟ قال الشيخ أبو علي: اجتماعهما على الرضعة الخامسة، واشتراكهما فيها يوجب إحالة انفساخ نكاح كل واحدة منهما عليهما جميعاًً، هذا موجَب الاشتراك.
فإذا كان كذلك فسَعْيُ كل واحدة في فسخ نكاح نفسها يوجب إسقاط المسمى، وسعي الأخرى في إفساد نكاحها يوجب الغرم للزوج، فالوجه أن نوفر على السببين موجَبَهما، ونقول: المسألة مفروضة فيه إذا لم تكونا ممسوستين، وقد تحقق الاشتراك، كما ذكرنا، فنسقط نصف المهر المسمى بسبب ارتفاع النكاح قبل المسيس، ويقع التصرف في النصف الباقي، فيرجع من النصف الباقي نصف وهو الربع، وتغرم كل واحدة لزوجها ربع مثل صاحبتها الكبيرة، فتستحق كل واحدة ربع المهر المسمى لها، وتغرم ربع مهر مثل صاحبتها.
قال الشيخ: هذا مما قلتُه تخريجاً، ولم يتعرض له أحد من الأصحاب، وهذا قد نقله شيخي عن القفال على هذا الوجه بعينه، وشبَّه تدافعَ النكاحين بين الكبيرتين باصطدام الفارسين، وذلك يقتضي التشطير، كما سيأتي مقرراً.
10049 - قلت: هذا الذي ذكره الشيخ حسنٌ، ولكن لا يقف عليه الطالب إلا بالاطلاع على التفصيل، فإن أحاط به الشيخ ولم يذكره، فقد أخلّ، وإن لم يحط به، فإطلاقه على هذا الوجه خطأ صريح.
والغرض من هذا الفصل يبين بتقديم أصلٍ بيّنٍ، وهو أن الكبيرة لو أرضعت الصغيرةَ، وهما تحت زوج أربع رضعات، ثم احتلبت اللبن في ظرف، فتقدم إلى الظرف إنسان وأوجره الصبية، فالغرم على الموجِر لا على صاحبة اللبن.
فإذا تبين هذا، عدنا إلى التفصيل المقصود في المسألة، في مسألة الكبيرتين والصغيرة، فإذا أرضعت كل واحدة منهما الصغيرة أربع رضعات، نظر بعد ذلك، فإن

(15/388)


احتلبت كلُّ واحدة لبن نفسها في ظرف، ثم أوجرتا الصبية بحيث أوصلتا اللبن إلى جوفها من غير خلط، وأقلت كل واحدة لبن نفسها، فيجب القطع في هذه الصورة بأن [كل] (1) واحدة من الكبيرتين لا تغرم شيئاً من مهر الكبيرة الثانية؛ فإن كل واحدة إنما فسد [نكاحها] (2) بثبوت الأمومة، وأمومة كل واحدة تثبت بإيجارها الرضعة الخامسة، ولو انفردت إحداهما بإرضاع الصغيرة خمساً بلبان غير الزوج، فلا تحرم الكبيرة الأخرى، ولا أثر إذاً لواحدة منهما في نكاح الأخرى في الصورة التي ذكرناها، فلا اشتراك، [وكلُّ] (3) واحدة منفردة باثبات أمومة نفسها، فيسقط مهر كل واحدة منهما، ولا تغرم إحداهما للزوج شيئاً من مهر الكبيرة الأخرى.
وكذلك لو ألقمتا ثديهما الصبية في الكرة الخامسة، وتحقق وصول اللبن إلى الجوف معاً، فالجواب كما ذكرنا، وإن كنا نتحقق أن اللبنين كانا يختلطان في فُغُرات (4) الصبي، ثم إن كانت تجرعه مختلطاً، فلا نظر إلى الاختلاط، والتعليل كما تقدم.
ولو احتلبتا لبنيهما في ظرف واحتملت إحداهما الظرفَ وأوجرت [الصبية] (5)، فالجواب أن الموجرة يسقط مهرها، وتغرَم نصف مهر مثل الكبيرة الأخرى، لما مهدتُه قبلُ [من] (6) أن الغرم على الموجِر.
ولو اشتركتا في حمل الظرف وفيه اللبنان، وأوجرتا، فالاشتراك يأتي من قِبَل أن هذه حملت لبن تيك وتيك حملت لبن هذه، فيظهر الاشتراك؛ فإن لبن كل واحدة منهما يضاف حمله إليهما، وإحالة الغرم على الحمل وتعاطي الإيجار، فيتجه على هذا في هذه الصورة ما قاله الشيخ، ولا يتجه غيره. هذا حقيقة المسألة ومنتهاها.
__________
(1) زيادة لوضوح العبارة.
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: في كل واحدة.
(4) فغرات: جمع فُغرة، والفغرة فمُ الوادي، والجمع فُغَر (المعجم) والمراد هنا فم الصبية في حركاته أثناء التقام الثدي.
(5) زيادة لإيضاح الكلام.
(6) في الأصل: في. ومع أن ابن هشام نصَّ على أن (في) تأتي مرادفة لـ (مِن) إلا أننا آثرنا تغييرها للإلف والعادة في زماننا هذا. والله أعلم.

(15/389)


فصل
10050 - إذا نكح الرجل صغيرة وكانت له خمسٌ من أمهات الأولاد، وذوات ألبان منه، أو كانت له زوجاتٌ مطلَّقات ذواتُ ألبان منه، والغرض تصوير مرضعاتٍ خمسٍ بألبان منتسبة إلى الرجل، فإذا أرضعت كل واحدة منهن الصغيرةَ رضعة، فحصلت خمسُ رضعات من خمس مراضع، فلا شك أن واحدة منهن لا تصير أُمّاً؛ إذ لم يصدر من [كل] (1) واحدة إلا رضعةٌُ واحدة، ولكن هل تثبت الأبوّة للرجل الدي انتساب الألبان إليه؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أن الأبوة لا تثبت؛ إذ هي تبعُ الأمومة ولم تثبت الأمومة، فلا تثبت الأبوّة. والوجه الثاني - أن الأبوة تثبت لتعدد الرضعات، والألبان منتسبة إلى الرجل، فيجب ثبوت الأبوة، وإن لم تثبت الأمومة.
فلو كان لزوج الصغيرة خمس بنات مراضع، فأرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة واحدة، فلا تصير واحدة منهن أمّاً، وهل تثبت الجدودة للزوج؟ فعلى الوجهين المقدمين.
وكذلك لو كان للزوج خمس أخوات مراضع، فأرضعت كل واحدة منهن الصغيرة رضعة واحدة، فالمسألة على الخلاف.
وقد قال الأئمة: إذا اتحد الجنس في المراضع، فكن أمهات، أو زوجات= والزوجات مع أمهات الأولاد في حكم الجنس الواحد؛ فإن النظر إلى انتساب الولد- أو كن بنات الزوج، أو أخواته، فالخلاف في كل حال على نسق واحد، من غير ترتيب.
والذي أراه أن الألبان المنتسبة إلى الزوج أَوْلى (2) الصور بحصول الأبوة؛ لحقيقة الانتساب، حتى كأن الزوج هو المرضع، وهذا المعنى لا يتحقق والمراضع بنات الزوج أو أخواته؛ فإن الألبان لا تنسب إلى الزوج، ولم يوجد إلا صَدَرُ خمس
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) في الأصل: أو إلى الصور.

(15/390)


رضعات من بنات شخصٍ واحد، فكأنهن في وجه كبنت واحدة في حق هذا الزوج.
وهذا تكلف، والترتيب يحسن بدون هذا، فلنقل: إذا أرضعت الزوجات وأمهات الأولاد رضعة رضعة، ففيه الخلاف، ولئن أرضعت خمسُ بنات، فهذا يترتب على المسألة الأولى، وهذه الصورة أولى بأن لا تثبت الحرمة فيها، والفرق ما نبهنا عليه. وإذا كانت المراضع أخوات، فانتسابهن ليس إلى الزوج، وإنما ينتسبن إلى أب الزوج فيجري مع أب الزوج الخلاف الذي جرى في بنات الزوج من غير ترتيب.
ثم إذا ثبتت الحرمة في حق أب الزوج تعدت إلى الزوج، فمسألة الأخوات كمسألة البنات، ولكن بَعْد فَهْم ما نبهنا عليه.
10051 - ولو أرضعت الصغيرةَ خمسُ مراضع من جهات مختلفة وكانت كل واحدة لو استتمت الرضاع خمساً، لحرمت الصغيرة، فإذا أرضعت الصغيرةَ رضعةً زوجةٌ، وبنتٌ، وأمٌّ للزوج، وأختٌ، وجدةٌ، فقد ذكر الأصحاب وجهين في أن الصغيرة هل تحرم على الزوج؟ والوجه عندنا ألا تحرم؛ فإنه ليس ينتظم من اجتماعهن جهةٌ مسماة في القرابة؛ فإنه لا تثبت لواحدة منهن حرمة في نفسها، ولا يتأتَّى نسبة الجهات المختلفات إلى أصلٍ، فتعين لذلك ترتيب الخلاف في هذه المسألة على آخر مسألة ذكرناها، ورأيناها مرتبة على ما قبلها.
والفارق ما أشرنا إليه من أن الجهات إذا اختلفت، لم يتسق عن مجموعها جهةٌ معلومة مُقتضية للحرمة، وإذا اتحدت الجهة، انتظمت العبارة، [واستدّت] (1) النسبة.
فإن قيل: هذا بيّن، فما وجه التحريم؟ قلنا: كل واحدة من اللواتي ذكرناهن، لو استتمت الرضعات الخمس، لثبتت الحرمة، وفسد نكاح الصغيرة، فإذا وجدت من كل واحدة منهن رضعة، قدرنا الرضعات الخمس على الوجه الذي نتكلف توجيهَه
__________
(1) في الأصل: واشتدّت. والمثبت اختيارٌ منا على ضوء المعهود من عبارة الإمام. ومعنى: (استدّت): استقامت.

(15/391)


[مقتضية] (1) حرمةَ قرابةٍ، لسنا نسميها، ولا ننسبها إلى جهة ولا نَعْزيها، وليس الغرض إثباتَ الأسماء، ولكن عدد الرضعات من نسوة لو استكملت كل واحدة الرضاع، لثبتت الحرمة، وهذا من هذا الوجه يمكن تقريره.
10052 - وذكر صاحب التلخيص في كتابه مسألة أجمع الأحاب على تغليطه فيها، وذلك أنه قال: لو نكح الرجل صغيرةً، فأرضعتها ثلاثُ بناتٍ للزوج مراضعَ رضعةً [رضعة] (2)، ثم جاءت عمةٌ للزوج وخالةٌ، وأرضعتها كل واحدة منهما رضعة، قال: في تحريم الرضيعة وجهان، وهذا مما لا يخفى غلطه فيها؛ لأن العمة لو استكملت الرضاع، لم يتعلق به فساد نكاح الصغيرة، وكذلك الخالة.
وإنما يتجه التحريم على البعد إذا صدرت الرضعات من نسوة لو استكملت كلُّ واحدة منهن العددَ، لفسد النكاح، وإرضاعُ العمة والخالة لا أثر له، وهو بمثابة ما لو أرضعت الصغيرةَ ثلاثُ بنات للزوج، ثم جاءت أجنبيتان، وأرضعتها كل واحدة منهما رضعة، ولست أدري كيف يقع لمثل هذا الرجل المرموق مثلُ هذا الغلط، والذي يتفق وقوعه للأكبر الجوابُ على مذهب بعض العلماء على حسبان أنه جواب صاحب المذهب، ولا يبعد أن يميل النظر من قياس إلى قياس، فأما العمة والخالة، فلا أثر لإرضاعهما بإجماع الأمة، وليس هذا مما يُحمل الغلطُ فيه على زلَّة الفكر إذا اضطر إلى المضايق، فإن الحكم على خلاف ما ذكره مرتَجلٌ بأوائل الفهم، والله أعلم.
10053 - ومن بقية الكلام في هذه المسألة أنه إذا أرضعت الصغيرةَ خمسُ بنات للزوج، فإن وقعت الرضعات متفرقات في أزمنة يتخللها فصول، بحيث لو فرض أمثالها والمرضعة واحدة، لكانت رضعات، فالجواب في هذا ما قدمناه، وخلاف الأصحاب على ما وصفناه.
وإن توالت الرضعات منهن في أزمنة متواصلة والارتضاع من الصبية دائم، فقد اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من قال: النظر إلى المرضعات، وهن خمس،
__________
(1) في الأصل: تقتضيه.
(2) زيادة لإيضاح العبارة.

(15/392)


فالرضعات خمس، ولتعدد الأشخاص أثرٌ في الحكم بتعدد ما يصدر منهم، كما للاتحاد أثرٌ في الإيجار.
هذا ظاهر المذهب.
ومن أصحابنا من قال: إذا تواصلت الأزمنة، لم يثبت العدد وحكمُه.
فإن فرعنا على الوجه الأظهر، فالكلام كما تقدم.
وإن فرعنا على أن ما صدر منهن لا يثبت له حكم العدد، فلو أرضعت واحدة منهن الصغيرة أربعَ رضعات بعد ما تقدم منها، فهل تثبت الحرمة؟ فعلى وجهين؟ أحدهما - أنها لا تثبت؛ فإنا إذا لم نحكم بعدد الرضعات، فكأن الصادر منهن في حكم الرضعة، وهي مفضوضة على جماعتهن تقديراً، ويلزم من ذلك نسبة بعض رضعة إلى كل واحدة، والواحد لا بعض له، فالوجه [إحباط] (1) تلك الرضعات، والمصيرُ إلى أنها وإن وقعت كأنها لم تقع، وكذلك لو تكررت الرضعات منهن على هذه الصفة مراراً عدة، فالجواب كما قدمنا ذكره.
هذا وجه وقد ذكرنا لهذا نظيراً في صورة تقدمت من كلام العراقيين.
والوجه الثاني - أن الواحدة منهن إذا أرضعت أربعاً بعد ما جرى -بينهن على الجمعِ ما جرى، فنحكم بثبات الحرمة، لأنها أرضعت رضيعةً في الحولين خمساً، ومثل هذا لا سبيل إلى [درائه بالوساوس] (2)، والتقديرات.
وهذا هو الذي لا ينقدح غيره.
فإن قيل: فإذا كنا نحتسب ما صدر من كل واحدة رضعة، فقد تعدّدت الرضعات. قلنا: نعم، هو كذلك، ولهذا كان الأصح أن الصادر منهن رضعات، ولكن يجوز أن يقال على الوجه الضعيف: هن بمثابة بنت واحدة تُرضع في دفعة لبناً كثيراً، فإذا رُدِدنا إلى اعتبار كل واحدة في نفسها، ردَّدْنا النظر إلى فعلها وإرضاعها.
هذا منتهى القول في هذا الفصل.
__________
(1) في الأصل: احتياط.
(2) في الأصل: وهذا لا سبيل إلى وراه بالوسايس. والمثبت تصرف من المحقق.

(15/393)


10054 - ثم أعاد المزني فصولاً ذكرناها في مقدمات الأصول الممهدة: منها أنه قال: لو نكح الرجل كبيرة وصغيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة، فقد صارت الكبيرة والصغيرة أختين، وهذه المسألة التي اختلف أصحابنا فيها على طريقين: فمنهم من قطع القول بانفساخ نكاح الكبيرة والصغيرة، ومنهم من أفسد نكاح الصغيرة وخرّج الكبيرة على قولين.
ولو أرضعت جدةُ الكبيرة الصغيرةَ، فسد نكاح الصغيرة وصارت خالةَ الكبيرة والكبيرةُ بنت أختها والطريقتان جاريتان في الكبيرة، كما قدمنا، ولا حاجة إلى شرح ذلك.
وقد انتهى الكلام إلى هذا المنتهى.
وذكر بعده ما قدمنا ذكره من امتياز الرضاع عن النسب في مسائل تتعلق بالصهر وقد قررنا ذلك عند قوله " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
***

(15/394)


باب لبن الرجل والمرأة
قال: " اللبن للرجل والمرأة كما الولد لهما ... إلى آخره " (1).
10055 - قد قدمنا في صدر الكتاب ثبوتَ حرمة اللبن في جانب الفحل، وانتشارها منه، وأوضحنا أن الولد إذا كان يُعزَى إلى الأم بالولادة وينتسب إلى الأب، فاللبن الدارّ عليه منسوب إليهما أيضاً، واللفظ الذي نقله المزني على [إيجازه] (2) ناصٌّ على المغزى، نعني قولَه: " اللبن للرجل والمرأة كما الولد لهما " وحاصل القول أن اللبن تبعُ النسب، ثم ينتشر انتشارَه، ويمتزج بالنسب، ويختلط النسب به، كما قدمنا ذكره، فإن زنت المرأة، [فولدها] (3) من الزنا معْزِيٌّ إليها في جميع الأحكام كولد الرِّشدة، وهو غير منسوب إلى الزاني، وقد أوضحنا أن الزاني ينكح بنت الزانية، وإن غلب أن العلوق منه، وإن تحقق ذلك، ففيه اختلافٌ، والأقيس طرد الباب.
ثم النكاح وإن لم يكن محظوراً، فهو مكروه، وفيما نقله المزني ما يدل على أن للشافعي قولاً مطلقاً في منع نكاح ولد الزانية في حق الزاني إذا غلب على الظن أن العلوق منه، وهذا لم يقبله الأصحاب، ورأَوْا القطعَ بأن النكاح لا يحرم، والكراهيةُ ثابتةٌ، وردّ الشافعيُّ على من لا يكره للزاني نكاحَ بنت الزانية، وظن المزني أن ما ذكره تحريمٌ، وليس الأمر كذلك.
فإذا تجدد العهد بولد الزنا، فاللبن يتبعه، فإذا أرضعت الزانية باللبن الدارّ على ولد الزنا، تثبت الحرمة من جهتها؛ لأن ولدَها منسوبٌ إليها زانيةً كانت، أو منكوحة، أو موطوءةً بشبهة، ولا يحرم المرتضع منها على الزاني؛ فإن اللبن يتبع
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 59.
(2) في الأصل: على الجارة.
(3) في الأصل: فولده.

(15/395)


النسب، وهو غير منسوب إلى الزاني، فاللبن الدارّ عليه غير منسوب إليه.
ولو وطىء الرجل امرأة بشبهة، فأتت منه بولد، والتحق النسب بالوطء، فاللبن الدارّ على الولد النسيب في أصل المذهب وقياسِه منسوب إلى الواطىء، فإذا حصل الإرضاع به، انتشرت الحرمة إليه انتشارها إلى الزوج.
وذكر صاحب التلخيص في ذلك قولين: أحدهما - أن حرمة الأبوة لا تثبت، وإذا لم تثبت الأبوة، فلا انتشار.
والقول الثاني - أن الحرمة تثبت وتنتشر.
قال الشيخ أبو علي: استبعد بعض الأصحاب القولين، وقد رأيتهما لصاحب التقريب، ورأيتهما في الجامع الكبير للمزني، فهما يقربان من الاختلاف الذي كان يحكيه الأستاذ أبو إسحاق، في أن حرمة المصاهرة هل تثبت بوطء الشبهة، وكان من لا يثبت أبوة الرضاع وحرمة المصاهرة يقول: إثبات النسب ضرورة، وتبرئة الرحم بالماء المحترم بالعدة ضرورة، ولا ضرورة في إثبات المصاهرة، ولا في إثبات أبوة الرضاع.
ولا شك أن المذهبَ المعتبرَ الذي عليه التعويل إتباعُ اللبن النسبَ، والتسويةُ بين وطء الشبهة والوطء الحلال فيما يتعلق بحرمات اللبن؛ فإنّ قطع اللبن عن النسب يهدم الأصل الذي عليه تأسيس الكتاب، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
10056 - ومما يتعلق بما نحن فيه الكلام في الولد المتردد [بين الزوج والواطىء بالشبهة واحتيج فيه إلى القافة] (1) والتفريع على أن اللبن الدارّ على الولد [الآتي] (2) من وطء الشبهة كاللبن الذي يدر على ولد النكاح -ولا عَوْد إلى ذلك القول القديم-.
فإذا نكحت المرأة في العدة نكاحَ شبهة، وغشيها الزوج الثاني على الفساد
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ولا يستقيم الكلام بدونها، وأثبتناها على ضوء عبارة (صفوة المذهب) جزء (5) ورقة: 197 شمال.
(2) في الأصل: اللائي.

(15/396)


والشبهة، وتردد الولد بين الزوج المطلِّق وبين الواطىء على الشبهة تردُّداً يقتضي الرجوعَ إلى القائف، فإذا أرضعت المرأة باللبن الدارّ على هذا المولود المتردد، ففي الأصل قولان: أحدهما - وهو الأصح أن حكم اللبن حكمُ الولد، فإن ألحقه القائف بالمطلّق، فهو أب الرضاع، كما أنه أب النسب في المولود، فنقطع حرمة الرضاع عن الواطىء بالشبهة.
وإن لم نجد القائف، أو وجدناه، فتبلّد وتردَّد، ورددنا الأمر إلى انتساب المولود، فإن انتسب إلى الزوج، فأبوّة الرضاع له أيضاً، وإن انتسب إلى الواطىء بالشبهة، فأبوة الرضاع له، كما أن أبوة النسب في المولود له.
هذا أحد القولين، وهو الأصل وبه الفتوى، وهو معتضِدٌ بما أصلناه من إتباع اللبن [نسب] (1) المولود.
والقول الثاني في أصل المسألة - أن الحرمة تثبت للزوج المطلِّق والواطىء بالشبهة جميعاً؛ فإنه لا يمتنع في الرضاع ثبوت آباء، والأمر مشكل، والنسبة إلى كل واحد منهما كالنسبة إلى الآخر، فلا معنى لقطع هذا التساوي بانتسابٍ وقول قائف.
وأما انتساب شخص إلى أبوين في النسب، فمستحيل الكون، فاضطررنا فيه إلى التعلق بشيء في تعيين الأب.
وهذا القول ضعيف، وإن كان مشهوراً.
التفريع على القولين:
10057 - إن قلنا: حرمة الرضاع وأبوّته ثابتة لهما، فلا كلام، ولا ينقطع ذلك بأن يُلحق القائف المولودَ بأحدهما، أو ينتسبَ المولود إلى أحدهما، بل يستمر هذا الحكم.
ولعل هذا القائل يُجري هذا في الظاهر؛ إذ لا سبيل إلى المصير إلى أن الأبوّة تثبت من جهة الرضاع باطناً لهما، والله عليم بأن الولد لأحدهما، ولكن هذا من
__________
(1) في الأصل: بسبب المولود.

(15/397)


المسائل التي لا يتوصل فيها إلى درك الباطن، ولا ينقطع الحكم الذي جرى في الظاهر.
وإذا كان كذلك أطلق الفقيه القول بموجب الظاهر؛ من جهة أنه لا مطمع في ارتفاع هذا الحكم، وهذا بمثابة قولنا في مسألة الطائر، وقد قال زيدٌ: إن كان غراباً فامرأتي طالق، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فامرأتي طالق، وفات الطائر، وأُيس من الإحاطة به، فالحكم الذي يُجريه الفقهاء قاطبة أنه لا تطلّق زوجة واحد منهما، وهذا حكم متعلق بالظاهر، وإلا فزوجة أحدهما طالق في علم الله تعالى، غير أنه انحسم علينا مسلك الوصول إليه، وأيسنا من الإحاطة به، فأطلقنا الحكم بانتفاء وقوع الطلاق.
هذا حقيقة القول.
10058 - وإن فرعنا على القول الثاني وهو أن اللبن يتبع نسب المولود في القيافة وانتسابِ المولود، فلو لم نجد قائفاً، ومات المولود الذي كنا نتوقع انتسابه، وقد أرضعت الأم باللبن الدار على الولد المتردد مولوداً، فما حكمه؟
أحسن مسلك في ذلك ما ساقه صاحب التقريب، فقال حيث انتهى التفريع إليه: في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها - أن ولد الرضاع ينتسب [وينتمي] (1) إلى من شاء منهما. والقول الثاني - أنه يحرم عليهما. والقول الثالث - أن الأمر موقوف.
من قال: ينتسب ولد الرضاع اعتبره بولد النسب، فإنه ينتسب إذا تعذر القيافة، ومن قال: يحرم عليهما، قال: الانتساب في الولد النسيب محمول على نزوع النفس، وما يجده المولود من الميل الذي جبلت النفوس عليه لا يجده المرتضع، فلا وجه إلا إثبات التحريم من الجانبين.
فإن قيل: هذا هو القول الذي حكيتموه في أصل المسألة: أن حرمة الأبوة من جهة الرضاع تثبت من الجانبين. قلنا: ليس كذلك، فإن ذلك القولَ المذكورَ في أصل
__________
(1) في الأصل: وينتهي.

(15/398)


المسألة يتضمن ثبوت [الحرمة] (1) من الجانبين، وإن ألحق القائف الولد بأحدهما أو انتسب المولود النسيب إلى أحدهما، وهذا القول الذي ذكرناه في إثبات الحرمة من الجانبين إنما يجري إذا تعذر تعيين أب النسيب بفقدان القيافة، وانتساب الولد النسيب، فإذا انحسم مسلك التعيين، جرى هذا القول، والقول الأول في أصل المسألة متضمنه إثبات التحريم من الجانبين مع إمكان القائف أو جريان الانتساب عند عدم القائف.
ومن قال بالوقف فإنما حمله عليه امتناع انتماء ولد الرضاع، وعسر عنده أيضاًً الحكم بإثبات الحرمة من الجانبين، فأطلق الوقفَ على ما سنبين حكمه.
قال صاحب التقريب: إن فرعنا على قول الوقف، فإذا يصنع هذا المرتضع، وكيف حكمه في الحل والحرمة إذا أضيف إلى الزوج أو الواطىء؟
قال: على هذا القول ثلاثة أقوال: أحدها - أنه يخير المولود، فإن أراد أن يستحل مواصلة أحدهما، فعل، [ولا يواصلهما] (2) على الجمع، ولكن إن واصل أحدهما على مقتضى الاستحلال، ثم انقطع عنه، وأراد مواصلة الثاني، فله ذلك، ثم لو أراد العَوْدَ إلى الأول، فله ذلك، فيدور عليهما، ولا يجمع بينهما في الاستحلال، كالسيد إذا اشترى أختين، فإنه لا يجمع بينهما في الاستحلال، ولكن إذا وطىء واحدة، حرمت عليه الأخرى، فإن أراد استحلال التي حرمت، حرَّم الأولى، واستحل الثانية.
وهذا القول ضعيف، ووجهه الممكن أن تعميم التحريم لا سبيل إليه، ولا مطمع في تعيين جانبٍ، فإذا امتنع تعميم التحريم، وتحقق استواء الجانبين، لم يمتنع التردد بينهما، ويُرَدُّ أثر التحريم إلى المنع من الجمع، وهذا أضعف الأقوال؛ فإنّ ما تمهد من تغليظ الحكم في التحريم لا يحتمل التردد في حكم التخير والدوران من جانب إلى جانب؛ فإنه إذا دار على الجانبين، فقد اقتحم التحريم قطعاًً، فلا سبيل إليه.
__________
(1) في الأصل: الحرية.
(2) في الأصل: ولا يواصلها.

(15/399)


والقول الثاني - أنه يواصل بالاستحلال أحد الجانبين، ثم لا ينزل عنه، ويتعين عليه ملازمة [ما اختاره] (1).
والقول الثالث -وهو الأصح- أنه لا يواصل واحداً من الجانبين؛ فإن التحريم كائن والتعيين ممتنع (2)، ومحل الحِلّ والحَظْر محصورٌ، والاجتهاد محسوم، والتحريم غالب، وهذا القول لا يمكن تمييزه عن القول الذي ذكرناه قبل قول الوقف في تعميم التحريم إذا انسدّ مسلكُ القيافة وانتسابُ المولود النسيب، فمقتضى القولين واحد، وهذا في حكم المعاد.
10059 - وينتظم من مجموع ما ذكرناه -بعد التنبيه لتكرر هذا القول- أن التعيين بالقيافة والانتساب إن كان ممكناً، فقولان، كما مضى.
فإن انحسم إمكان التعيين، فأقوال: أحدها - تعميم التحريم.
والثاني - التخيير في المواصلة مع تجويز التدوار على الجانبين على البدل.
والثالث - تجويز مواصلة أحد الجانبين على شرط ملازمة الجانب الذي يواصله.
وما ذكره صاحب التقريب من قول الوقف ليس يتحصّل، وإنما الحاصل ما ذكرناه، وتمام التهذيب يتضح بنجاز الفصل.
10060 - أما ما ذكرناه من المواصلة، فأهون تصويرٍ فيها أن يكون المرتضع غلاماً وهو يناكح بنت أحد الأبوين، فهذه هي المواصلة.
وقد أطلقنا فيما أجريناه قولاً أنه إذا اختار جانباً، [فله ذلك] (3)، ولم نُرد قوله: اخترت، وإنما أردنا إيقاعَ عقد المواصلة.
ووراء ذلك تمام البيان.
والذي ذكره صاحب التقريب والشيخُ ومعظم المحققين أن التخير الذي ذكرناه في الولد الرضيع ليس صادراً عن اجتهاد، وإنما هو اختيار على حكم الإرادة؛ فإن
__________
(1) في الأصل: ملازمة فاختاره ...
(2) في صفوة الذهب: " محتمل ".
(3) في الأصل: له ينزل.

(15/400)


الاجتهاد لا مساغ له في ذلك، ومن ادعى أن المرتضع يجد من نفسه ميلاً إلى أب الرضاع، فالذي يأتي به خُرْقٌ؛ فإن الميل لا يتحقق إلى المرضعة إلا عن إلفٍ ينشأ الصبي عليه، فإن ذلك ليس من آثار الرضاع، وفي بعض التصانيف: " أن الولد المرتضع في أوان الانتساب لا يتبع الإرادة وإنما نتبين انتسابه إلى أحد الرجلين في جهة الرضاعة على اجتهاد " هذا لفظه، فلست أدري أنه أراد به ما يجده بزعمه من ميل النفس، أو أراد بالاجتهاد التمسك بسببٍ يغلّب على الظن أن الولد للأول أو للثاني، وعلى أي وجه حُمل، فلا أصل له؛ فإن الميل باطل، والاجتهاد لا أصل له في هذا الباب؛ إذ لو كان عليه مُعوّل، [لعلّق] (1) الشرع النسبَ به من غير انتساب المرتضع.
ولست في تزييف هذا مختاراً لوجه التخير، ولكن الرأي عندي تعميم التحريم، وإبطال التخيّر والانتساب بالارتياد والاجتهاد.
10061 - ومما يجب التنبيه له أن الأصحاب أطلقوا في الكتب أن الرجل إذا علم أن واحدةً من امرأتين أو نسوةٍ معدودات أختُه من الرضاعة، فلا يحل له أن ينكح واحدةً منهن، وإنما ينكح إذا اختلطت بنسوة يعسر حصرهن، وقد مهدنا ذلك في كتاب النكاح.
والفرق بين هذا الذي ذكروه، وبين تردد المرتضع بين الأبوين مشكل، ولهذا اخترنا تعميم التحريم عند اليأس من تبيّن النسب بقول القائف، أو انتساب الولد النسيب.
وعند ذلك نقول: من أصحابنا من جوز نكاح إحدى المرأتين إذا كانت إحداهما أختاً؛ أخذاً من القول الذي يجوّز للمرتضع مع انحسام اليقين في النسب أن يواصل أحدَ الرجلين، وهذا القائل يقول: التي تزوجها لم يتحقق فيها تحريم عنده، والأصل عدمُ الأخوَّة، وهؤلاء يقولون: إذا كان مع الرجل إناءان في أحدهما ماء نجس، وفي الآخر ماء طاهر، فيجوز استعمال أحدهما من غير اجتهاد.
وهذا المسلك مزيف، والمذهب القطع بتحريم نكاح إحدى المرأتين، مع اطّراد الإشكال.
__________
(1) في الأصل: تعلّق.

(15/401)


ثم الوجه أن يضعّف بهذه المسألة قول التردد في الولد المرتضع، والممكن في الفرق أن الولد إذا تردد بين رجلين، قلنا: يُقطع بثبوت النسب من أحدهما أيضاً، فإن الانتساب إلى الرجال مشكل، ومسألة الأخت مفروضة فيه إذا ثبتت الأخوّة قطعاًً، حتى لو تردد المرتضع بين امرأتين قد أرضعته إحداهما، فهذه مسألة الأخت، وكذلك لو كان تردد الولد بين والدتين، فيجب القطع بإبطال قول التخيير في المرتضع.
10062 - ومما يتم به البيان، ويكمل به التفريع [أنا] (1) إذا أثبتنا الحرمة من الجانبين، فالوجه عندنا ألاّ نثبت المحرمية؛ فإن الغالب التحريم، والذي يغلّب الحرمة هو بعينه يقتضي ألاّ تثبت المحرمية إلا بتحقيق؛ فإن المحرمية تقتضي مداخلةً واستحلالَ خُلوة، وهذا محدّور إذا التبس الحلال بالمحظور.
واختتام الكلام أنا إذا رأينا -عند عدم القائف- للولد النسيب أن ينتسب، فليس ذلك تشهيّاً واختياراً، وإنما هو رُجوعٌ إلى تخير النفس وما جبلت عليه من الحَدَب والميل، وسنستقصي هذا في باب القائف، إن شاء الله.
فلئن كان في اختيار المرتضع تردُّدٌ في أنه اختيار إرادة أو اختيار اجتهاد، فلا تردد في انتساب الولد النسيب.
وهذا نجاز الفصل، لم نغادر فيه فيما نظن طرفاً تَمَس الحاجةُ إليه.
10063 - ومما أورده في (السَّواد) ولد اللعان، فإذا نفى الرجل ولداً باللعان، انتفى عنه اللبن الدارّ عليه أيضاًً، كما انتفى الولد، فإن عاد، فاستلحق الولد المنفيّ، لحقه الولد، ويلحقه اللبنُ أيضاًً، ومن قال: في اللبن النازل على الولد المتردد بين رجلين إنه يلحق بهما، فلست أدري ماذا يقول إذا لاعن ونفى النسب؛ فإنه خالف بين اللبن وبين النسب، فألحق الولد إلحاقاً لا يتصور إلحاق النسب بجنسه، فقد لا يبعد ألا ينتفيَ حرمة اللبن وإن انتفى النسب.
ويجوز أن يقال: قد أثبت الزوج باللعان أن الولد الذي جاءت به ولد الزنا، ولا حرمة للبن النازل على ولد الزنا في جهة من انتفى النسب عنه.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(15/402)


فصل
قال: " ولو انقضت عدتها بثلاث حِيض وثاب لبنها ... إلى آخره " (1).
10064 - مضمون هذا الفصل القول في امتداد اللبن في دروره والتحاقه بمن التحق به أول مرة، وكيف الحكم لو طرأ طارىء يوجب لبناً جديداً؟
ونحن نقول: إذا انتسب المولود إلى شخص، وألحقنا اللبن النازل عليه به على ما تمهد، ثم طلق الزوج زوجته تلك، وتمادى الزمن واللبنُ دائمٌ، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن اللبن منسوب من جهة الأبوة إلى الرجل الأول الذي انتسب الولد إليه، وإن امتد الزمان، واعتقبت السنون، وهذا الحكم يطّرد وإن دام اللبن عشر سنين، فصاعداً، ما لم تحبَل المرأة.
ولو انقطع لبنها، ثم [عاد] (2) اللبن من غير تجدّد حمل، فهو منسوب إلى الأول، كما لو استمر ولم ينقطع في الأثناء.
وحكى الشيخ أبو علي وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب أن انتساب اللبن يبقى بعد الطلاق أربعَ سنين، وهي المدة التي يُتصوّر فيها انتساب الولد إلى النكاح المتقدم، وإذا انقضت هذه المدة، انقطع انتسابُ اللبن.
وهذا قول مزيف، لا أصل له، وهو من نوادر خواطر من لم يُحط بالفقه؛ فإنه بان [بالمسلك] (3) المعتبر أن الولد لا يبقى أكثر من أربع سنين، فينقطع إمكان العلوق في النكاح إذا انقضت هذه المدة بعد الفراق، وأما إمكان تمادي اللبن، فلا أمد له، وقد يدرّ للمرأة لبن على ولد ويدوم ذلك اللبنُ منها عشرَ سنين أو أكثر، فلا وجه لاعتبار أحد البابين بالآخر بالتمسك باللفظ، فلا عَوْد إلى هذا الوجه الغريب.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 61.
(2) في الأصل: ثم بان اللبن.
(3) في الأصل: المسلك.

(15/403)


والذي [نقطع] (1) به في تفريع المسائل بعد ذلك أن اللبن منسوب إلى من انتسب الولد إليه في الأول، وإن تمادت المدة، ولا ضبط لها في الكثرة، كما لا ضبط لأكثر الطهر، ولا فرق بين أن تتواصل الألبان، وبين أن تنقطع ثم تثوب.
ولو نكحت زوجاً، فالنكاح لا يقطع انتسابَ اللبن؛ فإنه لا أثر له في تغيير اللبن بالقطع، وتجديد لبن بسبب جهة أخرى. نعم، إذا حَبلَتْ عن الزوج الثاني أو حبلت عن واطىء بشبهة، [فالحمل] (2) مما يقتضي درورَ اللبنَ على [التجدّد] (3)، فإذا اتفق ذلك واللبن ثابت مع الحمل، راجعنا أهل البصيرة، وقلنا: هل حان وقت درور اللبن على الحمل الجديد؟ فإن قالوا: لم يدخل بعدُ وقتُ درور اللبن على الحمل الجديد، فاللبن مصروفٌ إلى الجهة الأولى، لا خلاف فيه، ولا فرق بين أن يكون متمادياً [و] (4) بين أن ينقطع ثم يرجع مهما (5) قطع أهل البصر بأنه لم يدخل وقت درور اللبن على الحمل الجديد.
وإن قال أهل البصر: قد دخل وقت درور اللبن على الحمل الجديد، فنذكر صورتين، وتفصيلَ المذهب فيهما، وننبِّه على دقيقة، ثم نتجاوز هذا الحدَّ.
10065 - إحدى الصورتين: أن ينقطع اللبن، ثم يعود في وقت يجوز درور اللبن فيه على الحمل الجديد، وفي هذه الصورة ثلاثة أقوال: أحدها - أن اللبن للرجل الأول، ولا مبالاة بالحمل، ولا بانقطاع اللبن وعوده، ولا بمصير أهل البصيرة إلى أن هذا وقت درور اللبن على الحمل الجديد، واللبن مضاف مع ذلك كله إلى الجهة الأولى، والحكم مستمر كذلك إلى أن تلد وينفصلَ الحملُ الجديد.
ووجه هذا القول أن الحمل، وكل ما وصفناه معه لا يوجب انقطاع اللبن عن الجهة الأولى بأن لا يمتنع دوام ذلك اللبن، فلا ينقطع ذلك الأصل بتجويز.
__________
(1) في الأصل: قطع.
(2) في الأصل: والحمل.
(3) في الأصل: على التجرد.
(4) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(5) مهما: بمعنى إذا.

(15/404)


والقول الثاني - أن اللبن ينقطع عن الجهة الأولى، ويضاف إلى الحمل الثاني، وإلى من منه الحمل؛ فإن اللبن الأول قد انقطع، واعترض وثبت سببٌ آخرُ يجوز درورُ اللبن عليه يستفتح الإضافة إلى هذه الجهة ويقطع الأولى.
والقول الثالث - أن اللبن مضاف إلى الجهتين؛ فإنه لا يمتنع تواصل اللبن الأول مع ازديادٍ بسبب الجهة الثانية، ولا وجه لإسقاط جهة وقطعها، ولا يمنع ما ظهر تجدُّدَه، [فالوجه] (1) الإضافة إليهما جميعاًً هذا بيانُ صورةٍ.
الصورة الثانية: ألاّ ينقطع اللبن، ويقول أهل البصر: قد دخل وقت نزول اللبن على الحمل الجديد، ففي هذه الصورة ثلاثة أقوال: أحدها - أن اللبن للجهة الأولى، والثاني - أن اللبن للجهتين جميعاًً. والثالث - أنه إن زاد، فهو لجهتين، وإن لم يزد، فهو للجهة الأولى، ولا يخرّج هاهنا قول أن اللبن للجهة الثانية وهو مقطوع عن الجهة الأولى، لأنه لم يتخلل انقطاع اللبن ثم عوده.
ومما يجب التنبه له في التصوير أنه لو انقطع اللبن في أول العلوق، وفي وقتٍ لم يدخل فيه وقت نزول اللبن على الحمل، ثم عاد في وقت لم يدخل بعدُ وقتُ النزول على الحمل الجديد، فلا حكم لذلك الانقطاع، وسبيله كسبيل ما لو تواصل اللبن.
وإذا انقطع، ثم امتد الانقطاع، وعاد في وقتٍ، فقال [أهل البصر] (2): يجوز نزول اللبن في هذا الوقت على الحمل الجديد، فهذا هو الصورة الأولى، وفيها الأقوال الثلاثة: أحدها - أن اللبن مقطوع عن الجهة الأولى، ملحق بالجهة الثانية، فهذا بيان الصورتين، وتفصيل الحكم فيهما.
10066 - وأما الدقيقة التي وعدنا بيانَ أمرها، فهي أنا قلنا: إذا قال أهل البصر: يجوز درور اللبن على الحمل، فحكمه ما وصفناه، فليعلم الناظر أنه لا ينتهي الأمر في زمان الحمل إلى القطع بأن اللبن نازل على الحمل الجديد، وإنما تنتهي خبرة [أهل البصر] (3) إلى الحكم بتجويز النزول، نعم، يطلقون القول في أوائل مدة الحمل بأن
__________
(1) في الأصل: والوجه.
(2) زيادة لإيضاح العبارة.
(3) في الأصل: وإنما ينتهي خبرة البصير. والمثبت تصرّف من المحقق.

(15/405)


اللبن لا ينزل بعدُ على هذا الحمل، فهذا مما يمكن إطلاقه، فأما إطلاق القول بأن اللبن ينزل على الحمل في هذا الوقت، فهذا مما لا سبيل إليه، وقد تلد المرأة ولا ينزل لها لبن، ثم ينزل اللبن بعد الوضع.
هذا كله قبل الولادة، فإذا ولدت، فاللبن مقطوع عن الجهة الأولى بلا خلاف، ملحق بالولد الثاني منسوب إلى من ينتسب إليه، فانتظم إذاً طرفان على النفي والإثبات، وواسطتان بينهما: فأما الطرف الأول، ففيما قبل العلوق، [فاللبن] (1) مضاف إلى الجهة الأولى، والطرف [الآخر] (2) إذا ولدت ولداً منتسباً إلى آخر [فكل] (3) لبن يدرّ بعد ذلك منسوب إلى الولد الثاني مقطوع عن الجهة الأولى، فهذان الطرفان.
والواسطتان تقعان في زمان الحمل، فاللبن في أوائل الحمل قبل دخول وقت نزول اللبن على الحمل ملحق بالطرف الأول، وإذا دخل وقت إمكان نزول اللبن على الحمل، فالواسطتان الصورتان اللتان ذكرناهما.
وهذا نجاز الفصل عقداً وتفصيلاً.
...
__________
(1) في الأصل: واللبن.
(2) في الأصل: الأخير.
(3) في الأصل: وكل.

(15/406)


باب الشهادة في الرضاع
قال الشافعي: " وشهادة النساء جائزة ... إلى آخره " (1).
10067 - الرضاع يثبت بشهادة أربع نسوة عدول، وقال أبو حنيفة (2): لا يثبت الرضاع بشهادة النساء المتجردات ويثبت بشهادة رجلين وشهادة رجل وامرأتين، وحكى صاحب التقريب عن الإصطخري أنه كان يقول: لا يثبت الرضاع ولا عيوب النساء والأمور الباطنة منهن بشهادة الرجال، وإنما يثبت بشهادة النساء المتمحّضات، وهذا متروك عليه، غيرُ معتدٍ به، ثم شهادة الرضاع تفرض على الحسبة، كالشهادة على الطلاق، [و] (3) تفرض متعلقةً بالدّعوى كالشهادة على الطلاق، وسيأتي بيان هذه المراتب على حقائقها في كتاب الشهادات، إن شاء الله.
ثم قال الأصحاب: الكلام فيمن هو من أهل الشهادة، وفي كيفية تحمل الشهادة، وفي كيفية إقامة الشهادة:
10068 - فأما من هو من أهل الشهادة، فالغرض أن نذكر أن أم الزوجة وابنتها لو شهادتا على رضاع يحرمها على زوجها، فالقول في ذلك مفصّل، فإن ادعت المرأة الرضاع وأنكر الزوج، فلا يُقبل شهادةُ أمِّها وابنتها، فإن هذه شهادةٌ لها وشهادة الأمهات والبنات مردودة للأولاد والأصول.
ولو ادّعى الزوج الرضاع، وأنكرته المرأة لغرض المهر، فشهد على الرضاع أمها وابنتها، فالشهادة مقبولة، فإن شهادة الفروع والأصول مقبولة على الشخص وإن لم تكن مقبولة له.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 63.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 221، المبسوط: 5/ 137.
(3) زيادة اقتضاها السياق.

(15/407)


وإن لم توجد دعوى الرضاع من الرجل ولا المرأة، ولكن شهدت الأم والبنت على الرضاع المحرم حسبةً، فالوجه عندنا قبول هذه الشهادة؛ فإنها ليست بأن يقال: هي لها أولى من أن يقال: هي عليها، والوجه أن يقال: ليست لها ولا عليها، وإنما هي شهادة أقيمت لله تعالى، فهذا المقدار غرضُنا من هذا الفصل.
10069 - فأما القول في تحمل الشهادة، فينبغي أن يكون التحمل على علم وبصيرة، فإذا رأت المرأةُ أو الرجلُ الرضيعَ قد التقم الثديَ من ذات لبن، وهو يمتص والصبي ينهش والحنجرة تترقى وتنخفض، وقد ينضم إليه جرجرةٌ عند البلع والتجرع، فهذا القدرُ يفيد العلمَ بوصول اللبن إلى الجوف، ومن ظن أن هذا اكتفاءٌ في التحمل بغلبة الظن، فليس على بصيرة في الباب؛ فإن القرائن التي ذكرناها تُثبت العلم الحقيقي بوصول اللبن، نعم، قد يكتفي الشاهد بالظنون الغالبة فيما لا يتصور فيه العلم، ثم يسوغ له أن يجزم الشهادة، وعلى هذا النحو يتحمل الشاهد الشهادة إذا شاهد اليد والتصرف على ما يقرّر في موضعه، وهذا لا يفيد العلم بالملك، ولكن يجوّز الشهادة على الملك إذا اجتمعت هذه الأسباب.
10070 - فأما القول في صيغة الشهادة المقامة على الرضاع، فلتكن الشهادة مجزومة، ولو وصف الشاهد أو الشاهدةُ [الأحوالَ] (1) التي وصفناها عند التحمل، لم تصح الشهادة.
فإن قيل: هلا صحت والشهادةُ لا تعتمد غيرها؟ قلنا: نعم تلك الأحوال تفيد العلم لمن يعاينها، [ويدرك بالعيان منها أموراً] (2) دقيقةً هي المفيدة للعلم، والعبارات لا تدركها، فلا بد من جزم الشهادة، كما وصفتُها.
ثم في هذا الطرف تردُّدٌ في أمر أصفه، وهو أنا هل نشترط أن يصرح الشاهد
بوصول اللبن إلى جوف الصبي، أم يكفي أن يقول: أشهد أن فلانة أرضعته خمساً في الحولين؟ هذا مما يتردد فيه فحوى كلام الأئمة ويظهر أثر التردد على تفصيلٍ.
__________
(1) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.
(2) في الأصل: ويدري العيان منها أموراً. والمثبت من صفوة المذهب.

(15/408)


فإن وقع التصريح بذكر وصول اللبن إلى الجوف، فهو المراد.
وإن ذكر الشاهد أو الشاهدة لفظَ الإرضاع، واستراب القاضي، وجوّز أن يكون الإرضاعُ غير مفضٍ إلى وصول اللبن إلى الجوف المعتبر، فله أن يستفصل الشاهدَ، هذا لا خلاف فيه، وسيأتي كشفه في موضعه من الشهادات، إن شاء الله.
ولو فرضت الشهادة على الإرضاع، ثم مات الشاهد قبل الاستفصال، وفات إمكان الرجوع إليه، فهل يجوز التوقف في الشهادة والحالة هذه؟ هذا هو الذي يظهر فيه تردد الأصحاب، وقد يعتضد وجوب الحكم بالإرضاع وإن لم يَجْرِ للوصول إلى الجوف ذكرٌ بما قدمنا ذكره من أنه يجوز الاقتصار على معاينة الأحوال التي وصفناها في تحمل الشهادة على الإرضاع، وإن كان معاينة وصول اللبن إلى الجوف ممكنة بخلاف تحمل الشهادة على الزنا، فإن من عاين أحوالاً تماثل أحوال المرضع والمرتضع، لم يجز له أن يعتمدها في الشهادة على الزنا، حتى يعاين ذلك منه في ذلك منها، كالمِرْود في المُكْحلة والشَّطَنُ في البئر، والذي يعضد ذلك أن اشتراط هذا التأكيد في التحمل في الزنا، واشتراط التصريح في صيغة الشهادة، وإثبات مزيد العدد، كل ذلك يشعر بأن للشرع غرضاً في دفع الزنا ودفع حَدِّه، والأمر في الرضاع على التغليظ، والحظرُ على التغليب.
فانتظم إذاً وجهان: أحدهما - أن الشهادة لا تثبت ما لم يصرح الشاهد بوصول اللبن إلى الجوف، [وهذا] (1) ما ذكره الصيدلاني.
والثاني - أن الرضاع يثبت بالشهادة على الإرضاع والارتضاع إذا عسر الاستفصال، كما سبق تصويره.
10071 - ومما يتعلق بهذا الفصل وله ارتباط بالأصل الأول أيضاً، وهو أن التي أرضعت لو شهدت على وصول اللبن إلى جوف الصبي على الحد المحرِّم عدداً وزماناً، فشهادتها مقبولة عندنا، وهو مذهب جماهير العلماء.
فإن قيل كيف يقبل شهادتها وهي تثبت فعل نفسها، وتتعرض للإخبار عنه؟ قلنا:
__________
(1) في الأصل: فهذا.

(15/409)


ليس الغرض من شهادتها فعلُها، وإنما الغرض وصول اللبن إلى جوف الصبي، وإذا كان قد يتفق الوصولُ إلى جوفه من غير صاحبة اللبن، فلا أثر لإرضاعها، ولا يختلف به حكم كان أو لم يكن.
وليس كما لو شهد القاضي بعد الانعزال على أنه قضى لفلان؛ فإن شهادته مردودة لتضمّنها إثباتَ فعله، والمعوّل على قضائه وتنفيذه، فكانت الشهادةُ من القاضي على ثبوت القضاء مردودة، فإن تنفيذ القضاء هو المطلوب، ووجه تعلق ما ذكرناه في المرضعة بهذا الفصل أنها لو قالت: أشهد أني أرضعت فلانة، أو أوصلت اللبن إلى جوفها، فشهادتها مقبولة على هذه الصيغة.
وفي بعض المصنفات أنها إن قالت: أشهد أن فلانة ارتضعت منِّي، فالشهادة مقبولة، لأنها في صيغتها لم تتضمن إثبات فعل مضاف إلى الشاهدة، ولو قالت: أشهد أني أرضعت فلانة، فهذه الشهادة مردودة، فإنها تضمنت إثبات فعلٍ مضافٍ إلى الشاهدة.
وهذا غلط محض، لم يتعرض له أحد من الأصحاب، وقد ذكرنا أن الإرضاع لا أثر له، وإنما الأثر للوصول، فلا يضر التعرض لما لا يتعلق الحكم به.
فصل
قال: " وذكرت السوداء أنها أرضعت رجلاً ... إلى آخره " (1).
10072 - مضمون الفصل أن الرضاع إذا كان مشكوكاً فيه أصلاً، أو كان تمام العدد مشكوكاً فيه، فلا يقع القضاء بالتحريم، ولكن يتأكد استحثاث الشرع على التورعّ؛ فإن الرضاع لو ثبت، تأبدت حرمته، وعظُم وقعُه، [فالتمادي] (2) على خلاف الورع مصادمة خطر عظيم.
واستدل الشافعي على تأكيد الأمر بالتورّع بما روي أن رجلاً تزوج بابنة أبي إهاب بن
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 64.
(2) في الأصل: بالتمادي.

(15/410)


عزيز، فجرت بينها وبين امرأة سوداء في جوارها خصومة، فأشاعت السوداءُ الخبرَ في الجيران: أني أرضعتُها وزوجَها، فسمعه الرّجل وساءه ذلك، فسأل أهلَه وأهلها، فقالوا: لا نعلم أنها أرضعتك، وذلك بمكة، [فركب] (1) إلى المدينة، وقال: يا رسول الله إني تزوجت بابنة أبي إهاب بن عزيز، وزعمت امرأة سوداء أنها أرضعتني وإياها، فوالله ما أرضعتني ولا أخبرتني قبل ذلك، فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم، فأعادها، فقال في الثالثة أو الرابعة: " كيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما " وفي رواية: " فكيف وقد قيل " (2) فطلقها بين يدي رسول الله صلى الله عليه، ونكحت زوجاً غيره.
والحديث دل على فوائد: إحداها - أن الرّضاع لا يثبت بالإمكان، والدليل عليه إعراضُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتردده، وتركُ جزم القول بالتحريم، ثم دلت حالُه ومقاله على تأكيد الأمر بالتورّع، ثم فهم الرجل وجهَ الاحتياط في ذلك المجلس أو كان عَلِمه من قبل، فطلقها، وسكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما جرى دليلٌ آخر على أن الرضاع لم يكن محكوماً به؛ إذ لو كان، لما كان للطلاق معنىً، ودل أن مقتضى الورع التطليق، فإنها لو تركت تحت الإشكال والاحتمال، لأضرّ ذلك بها، ولو سُيِّبت، لم يحل لها أن تَنْكِح.
10073 - ثم ذكر أن الزوجين لو تقارّا على الرضاع، ثبت وابتنى عليه فسادُ النكاح (3)، ثم لا يخفى حكمه، ولو رجعا عن الإقرار، لم يُقبل رجوعهما، وقد ذكرنا في كتاب الطلاق والرّجعة أن المرأة لو ادعت انقضاءَ العدة، حيث تُصدَّق وأبطلت رجعةَ الزوج، فلو رجعت عن قولها، [فهل] (4) يقبل رجوعها، وذكرنا
__________
(1) في الأصل: وكتب إلى المدينة.
(2) حديث زوج ابنة أبي إهاب رواه البخاري (الشهادات، باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، وقال آخرون ما علمنا بذلك، يُحكم بقول من شهد، ح 2640) وانظر التلخيص 4/ 11 حديث رقم 1843.
(3) ر. المختصر: 5/ 65.
(4) في الأصل: فقد.

(15/411)


تفصيل المذهب فيه إذا أقر الرجل بالطلاق الثلاث، ثم رجع، أو زعمت المرأة أن زوجها طلقها ثلاثاًً، وذكرت ذلك بعد البينونة، ثم كذبت نفسها، وأرادت أن تعود إلى الزوج، ففي ذلك كلام قدمناه على الاستقصاء، فلا نعيده.
10074 - ثم ذكر الشافعي التداعي بين الزوجين في الرضاع نفياً وإثباتاً، وقال: " إذا ادعى الزوج جريان رضاعٍ وقَصْدُه إسقاطَ المسمى، فأنكرت المرأة، فالأصل عدمُ الرضاع، وهي تحلف بالله: لا تعلم أن رضاعاً جرى وإذا كانت تنفي فعل الغير فيمينها على النفي " (1).
فإن قال قائل: ألستم قلتم: مطلوبُ الرضاع بالشهادة إثباتُ وصول اللبن إلى جوفها، ولا أثر للإرضاع كان أو لم يكن، وهذا يتضمن أن تنفي هي وصولَ اللبن إلى جوفها، أو تنفي ارتضاعَ نفسها، ولو كان كذلك، فالقياس يكون اليمين على البت.
قلنا: لا حكم لارتضاعها، ولا يتصور أن تكون على علمٍ في وصول اللبن إلى جوفها في الوقت المعتبر، فإن التمييز يبتدىء بعد مدة الرضاع بسنتين؛ فتكليفها بتّ اليمين لا معنى له، وإذا كنا نكتفي بنفي العلم في فعل الغير بسبب تعذر الاطلاع على نفي فعل الغير، فهذا المعنى أظهر فيما فيه الكلام، فإذا آل الأمر إلى اليمين، فلا أثر لارتضاعها، ولما يثبت منها، لما أشرنا إليه، ومعتمد اليمين نفي الإرضاع، وصيغة اليمين في مثل ذلك تجري على نفي العلم، فإن حلفت على ما وصفناه، فلا كلام.
وإن نكلت عن اليمين، رددنا اليمين على الرجل، فيحلف على البتّ أن الرضاع المحرّم كان، وحكى الصيدلاني أن القفال، كان يقول: إذا ارتدت اليمين على الزوج، فالأولى أن يقول: " بالله أني أعلم أن الرضاع المحرِّم قد كان " وقصد بهذا أن يكون يمين الرد على الضد من يمينها؛ فإنها لو حلفت، لقالت: لا أعلم أن الرضاع كان، فليقل الزوج: أعلم أنه كان، فظاهر ما نقله الصيدلاني أن هذا من طريق الإمكان، وفي بعض التصانيف عن القفال ما يدل على اشتراط ذلك.
__________
(1) هذا معنى قول الشافعي في المختصر: 5/ 65. وليس بلفظه.

(15/412)


وهذا عندي كلام [منحرِفٌ] (1) عن الصواب، سواء قدر اشتراط ذلك، أو قيل: الأَوْلى ذلك؛ فإن الزوج إذا قال: بالله لقد كان الرضاع، فهذا إخبار منه على علمه بكون الرضاع، فأي أثرٍ لقوله: " أعلمه ". فإن حُمل على الأوْلى، فلست أرى فيه وجهاً يقتضي هذا من طريق الأَوْلى، والمعنى هو المتبع.
ثم لا يختص هذا المحكي عن القفال بهذه الصورة، بل كل يمين هو في جانب المدعى عليه على نفي العلم، وفي جانب المردود عليه على البت، فهو جارٍ على النحو الذي وصفناه.
...
__________
(1) في الأصل: محرّف.

(15/413)


باب رضاع الخنثى
قال الشافعي: " إن كان الأغلب من الخنثى أنه رجل ... إلى آخره " (1).
10075 - الرجل إذا درّ له لبنٌ وأرضع به، فالمذهب الصحيح أنه لا تعويل عليه، ولا حكم له؛ فإن الرضاع يتبع الولد، وإذا لم ينزل اللبن ممن يتصور منه الولادة، فوجوده وعدمُه بمنزلة.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً بعيداً أن الحرمة تتعلق بلبن الرجل قياساً على لبن المرأة، وسيتجه هذا [بعضَ] (2) الاتجاه بالمسائل التي سنذكرها بالبكر والثيب التي لم تلد قط إذا در لهما لبن، ففي تعلق الحرمة بذلك اللبن وجهان ظاهران: أحدهما - أن الحرمة تتعلق به نظراً إلى الجنس. والثاني - أن الحرمة لا تتعلق به؛ فإنه لم يتبع مولوداً، فلا حكم له.
ولو أَجْهَضَت المرأةُ جنيناً يُحكم بكونه ولداً، ودرَّ اللبنُ، ثبت الحكم.
والصبية إذا نزل لها لبن؛ فإن كانت على سن يُتصوّرُ بلوغُها فيه، فلبنها كلبن البالغة التي لم تلد، ونزل لها لبن.
ومن أسرار المذهب أن اللبن إذا جرى الحكم به، فهو على تقدير إمكان البلوغ، ولكنا لا نحكم بالبلوغ في سائر القضايا التي يشترط البلوغ فيها، ولا نقول: اللبنُ علامةُ البلوغ، وكيف يقدر ذلك والغالب أن اللبن لا ينزل إلا على ولد، ولا ولد قطعاًً في الصورة التي ذكرناها.
والتحقيق فيه أنا نثبت اللبنَ بإمكان البلوغ، ولا نعلِّق به الحكمَ بالبلوغ، وهذا كما أنا نلحق ولد الزوجة بالزوج إذا كان استكمل عشراً بإمكان البلوغ في أثناء السنة
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 65.
(2) في الأصل: بعد.

(15/414)


العاشرة، ثم إذا جرى حُكمنا بذلك، لم يصر هذا حكما بالبلوغ في سائر الأحكام؛ فإن الحكم بالنسب لا يستدعي العلم بالبلوغ، بل يُكتفى بإمكان البلوغ، ثم إمكان الشيء لا يتضمن وقوعَه قطعاًً.
ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو نزل لابنة الثمان لبن، فالبلوغ غير ممكن، وقد اختلف أصحابنا، فذهب بعضهم إلى أنه لا حكم له، وقال آخرون هذا بمثابة [لبن] (1) الرجل؛ فإن هذا اللبن من غير إمكان الحمل، فصار كلبن الرجل.
10076 - وأما الخنثى إذا نزل له لبن، فإن كان قد بأن كونه ذكراً أو أنثى، فلا يخفى حكم اللبن على موجَب الأصول المقدمة.
وإن كان على الإشكال، فلا نحكم للّبن بحكمٍ مبتوت. وكان يحتمل أن يقال: الغالب أن اللبن إنما ينزل للنساء [فَنُنزِل] (2) اللبن -إذا نزل- منزلةَ نهودِ الثدي، وفي دلالته اختلافٌ قدمناه في مواضعَ، فإن جعلنا نزول اللبن علامة معتبرة، فيفيد اللبن ثبوتَ الأنوثة، ثم يتعلق به ما يتعلق بلبن المرأة إذا لم تحبَل.
وإن لم نجعله علامةً على الأنوثة، فلا تثبت الحرمة مع الإشكال، إلا إذا علقنا الحرمة بلبن الرجل.
فهذا بيان مسائل الباب، وانتظم من مجموعها أن اللبن [الدارَّ على] (3) الولد هو الأصل، واللبنُ من المرأة من غير ولد على الاختلاف، والأظهر أنه تتعلق الحرمة به.
ولا حكم للبن الرجل، وفيه وجه غريب غيرُ معدودٍ من المذهب.
واللبن على سن إمكان البلوغ كاللبن بعد البلوغ، ولبن الخنثى المشكل مجرًى على الإشكال؛ فإن الحرمة لا تثبت مع التردد، والله أعلم.
...
__________
(1) في الأصل: اين الرجل.
(2) عبارة الأصل: ... الغالب أن اللبن إنما ينزل للنساء فيتنزل اللبن اللبن إذا نزل ...
(3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

(15/415)


كِتَابُ النَّفَقَاتِ
10077 - الأصل في النفقات الكتاب، والسنة، والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]، قيل: معناه ذلك أدنى أن لا يكثر عيالكم، فلا تستقلّوا بالنفقات.
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه، وقال: " يا رسول الله معي دينار، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على [خادمك] (1)، فقال: معي آخر، فقال: افعل به ما شئت " (2). وجاءت هند بنت عتبة لما فُتحت مكةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من النسوة من قريش ليبايعنه فقال عليه السلام: " أبايعكن على أن لا تسرقن " فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرّاً، فهل علي في ذلك شيء، فقال عليه السلام: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف " (3)، وروي أنه لما عرفها قال: " إنك لهند "، قالت: نعم، والإسلام يجُب ما قبله. وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: " أبايعكن على أن
__________
(1) في الأصل: ذلك، والتصويب من عبارة المختصر للمزني.
(2) حديث أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: معي دينار ... الحديث. رواه الشافعي وأحمد والنسائي وأبو داود وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة (ر. ترتيب مسند الشافعي 2/ 63 ح 209، أحمد: 2/ 251، 471، وقد صححه الشيخ أحمد شاكر (7413، 10088). أبو داود: الزكاة، باب في صلة الرحم، ح 1691، النسائي: الزكاة، باب: تفسير ذلك، ح 2535. ابن حبان: 4219، الحاكم: 1/ 415 وصححه ووافقه الذهبي، وانظر التلخيص: 4/ 17 ح 1853).
(3) هذا الجزء من حديث هند بنت عتبة متفق عليه من حديث عائشة، وله عندهما ألفاظ (البخاري: النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف، ح 5364. مسلم: الأقضية باب قضية هند، ح 1714).

(15/417)


لا تزنين، قالت: أيْ!! أوَ حُرَّةٌ تزني، فقال: أبايعكن على أن لا تقتلن أولادكن، فقالت: ربيناهم صغاراً، فقتلتموهم كباراً " (1)
وأجمع المسلمون على أصول النفقات.
ثم الأسباب الموجبة للنفقة على الخصوص: الزوجيةُ، والقرابة، والملك فالزوجية توجب النفقة للزوجة على الزوج، والملك يوجب نفقة المملوك على المالك، وأما القرابةُ، فيتصور وجوب النفقة بها من الجانبين على البدل، فالابن الفقير يستحق النفقةَ على الأب الغني، والأب الفقير يستحق النفقةَ على الابن الغني.
والمملوك لا يجب عليه الإنفاق بالقرابة، وإنما يجب عليه الإنفاق بسبب الزوجية على الزوج، وقد نقول: المكاتَب ينفق على ولده المكاتَب، وليس ذلك للولادة، وإنما هو لأن ولده في حق المملوك له، وإن كان لا يبيعه [و] (2) يستكسبه، كما يستكسب المماليك، والقول في ولد المكاتب والمكاتبة من أعظم أقطاب الكتابة، وسيأتي مستقصىً، إن شاء الله عز وجل.
...
__________
(1) الحديث بتمامه على نحو ما ساقه الإمام رواه ابن سعد في طبقاته بسند صحيح ومرسل عن الشعبي وعن ميمون بن مهران. قاله الحافظ في الإصابة في ترجمة هند (ر. طبقات ابن سعد: 8/ 9، الإصابة: 4/ 425).
(2) زيادة لاستقامة الكلام.

(15/418)


باب قدر النفقة من ثلاثة كتب
10078 - قال الشافعي: " النفقة نفقتان، نفقة الموسِعِ ونفقةُ المُقْتِر ... إلى آخره " (1).
صدّر الشافعي الكتاب (2) بنفقة الزوجات ومؤنهن، فلتقع البداية بالنفقة، والقولُ فيها يتعلق بأصولٍ: أحدها - في المقدار، والثاني - في الجنس، والثالث - في نفقة الخادمة، والرابع - في الأُدُم (3)، والخامس - في كيفية إيصال النفقة إلى [الزوجة] (4).
فأما القول في المقدار، فقد ذهب أبو حنيفة (5) إلى أن نفقة الزوجة لا تتقدر، وإنما الواجب كفايتها، وذلك يختلف بالرَّغابة، والزهادة، وإن وقع نزاع، رُد مقدار الكفاية إلى اجتهاد القاضي وفرضِه، وقد ثبت عند الشافعي بطلانُ المصير إلى الكفاية؛ فإن المرأة لو كانت لا تحتاج إلى النفقة في يوم أو أيامٍ لعارضٍ بها، فلها طلب [حقها] (6) من النفقة، ولهاطلب التملك، ثم تصنع بالنفقة ما تشاء.
ولو أكلت من مالها، لم يسقط حقها من النفقة، وكل ذلك ينعكس بنفقة الأقارب والمماليك، فلما تحقق عند الشافعي بطلانُ اعتبار الكفاية، ولم يجد في الشرع توقيفاً في تقدير نفقة الزوجات، ولم يجد مسلكاً بعد بطلان الكفاية إلا التعلُّقَ بالتقدير، ولا سبيل إلى الاحتكام به.
فإذا عسر النظر إلى الكفاية؛ لأن أقدار الكفايات تختلف باختلاف الأشخاص،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 69.
(2) في الأصل: صدر الشافعي به الكتاب.
(3) جمعُ (الإدام).
(4) في الأصل: الزوج.
(5) ر. البدائع: 4/ 23، فتح القدير: 4/ 379.
(6) في الأصل: فلها طلب وحقيقتها من النفقة.

(15/419)


وتختلف الحاجات، وقد ينتفى أصلها، فرأى الرجوعَ إلى الطعام الشرعي، وهو ما أوجبه الله في الإطعام في الكفارات، ولسنا ننكر أن الشارع رأى هذا قصداً وسطاً في الكفاية على الجملة، فكان التعلُّقُ به أولى متعلَّق.
ثم قال الشافعي: " في نص القرآن ما يدل على الفرق بين الموسع والمقتر " (1)، فإنه عز من قائل قال: {يُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فاقتضى مضمونُ هذا الخطابِ الفرقَ في الإنفاق بين الموسع والمقتر، ثم نزّل الشافعيُّ نفقةَ المعسر على المدّ؛ فإنه أقلُّ مبلغٍ في الإطعام الشرعي، وطلب للموسع [متعلّقاً] (2) شرعياً، [ورأى في فدية الأذى صرفَ مدّين] (3) إلى كل مسكين، فاتخذه معتبره، ثم خطر له توسطٌ بين الموسع والمقتر؛ فإن ما يختلف باليسار والإقتار يجب أن يؤثر التوسُّطُ فيه، وهذا يظهر تقديره، فلم يجد في التوسط مستنداً شرعياً، فقال: مقدار النفقة على المتوسط للزوجة مُدٌّ ونصف.
هذا تأسيس مذهبه، فانتظم من نصوصه التي نقلها المزني وغيرُه أن على المعسر مُدّاً، وعلى الموسع مدين، وعلى المتوسط لزوجته مد ونصف.
10079 - وإن كانت المرأة مخدومةً على ما سنصف ذلك في الفصل المعقود له، فعلى المعسر والمتوسط مُدٌّ للخادمة، وعلى الموسر مدٌّ وثلث.
هذا الذي نقلناه أصل المذهب.
10080 - وقد حكى شيخي أبو محمد قولاً غريباً للشافعي مثلَ مذهب أبي حنيفة في أن الاعتبار بالكفاية، والرجوعُ عند فرض النزاع إلى اجتهادِ القاضي وفرضِه.
وهذا لم أره إلا لشيخي. نعم، حكى صاحب التقريب والشيخُ أبو علي في نفقة المتوسط والزيادة على المد في نفقة الخادمة في حق الموسر أنه لا تقدير في الزيادة، وإنما النظر إلى اجتهاد القاضي، هذا وإن كان بعيداً في النقل، فالحاجة ماسة إليه
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 69.
(2) في الأصل: مبلغاً. والمثبت من صفوة المذهب.
(3) في الأصل: ورأى في مدته الأذى ضرب مدّين ... إلخ وهو تصحيف مضلّل.

(15/420)


لدقة مأخذ التقديرين، كما سنخوض فيه الآن.
فإن أصل المذهب أن المد والنصف تقدير في حق المتوسط، والمد والثلث تقدير في حق الموسر في نفقة الخادمة، وهذا عسر؛ فإن الشافعي يُطنب في الوقيعة فيمن يتحكم بالتقدير من غير ثَبَت، ولئن وجدنا مستنداً في المد والمدين معتضداً بنصِّ القرآن في الفرق بين الموسع والمقتر، فالمدّ والنصف، والمد والثلث، لا نجد لهما مستنداً قويماً.
ثم الأصحاب ذكروا وجوهاً رأَوْها أقصى الإمكان في المُدّ والثلث في حق الخادمة، والذي دل عليه فحوى كلامهم في المد والنصف في حق المتوسط أنه على تردد بين المعسر وبين الموسر، فلا يبعد أن يقتضي تردده بينهما، تنصيف المُدّ، حتى كأنه من وجه يلتفت إلى المقتر، والإقتار يوجب الإسقاط، ويلتفت إلى الموسر من وجه وذلك يوجب الإثبات، فوزعنا المدَّ الزائد في حق الموسر على الإيجاب والإسقاط، فاقتضى ذلك إيجابَ نصفٍ وإسقاط نصف، وهذا على حالٍ كلام منتظم.
10081 - فأما إيجاب المد والثلث للخادمة تقديراً جازماً، فمشكل وقد ذكر أصحابنا فيه وجهين: أحدهما - حكَوْه عن القفال الشاشي أنه قال: من أصناف القياسِ القياسُ المقرّب، وهو عندنا إن صح من أقسام الأشباه.
ثم قال: الأب والأم [في الميراث] (1) لهما حالتان: حالة نقصان وحالة زيادة، فإذا كان في الفريضة ابن، فللأبوين السدسان، وإن كان وضع الفرائض يقتضي حطَّ الأم، ولكن إذا رُدَّ الأب إلى السدس، فكأنا نعتقد أن لا أقل منه في فرض الأبوين، فللأم السدس، وهذه الحالة تناظر حالة الإعسار، والأم بمنزلة الخادمة والأب بمنزلة الزوجة، فتستوي الخادمة والزوجة؛ إذ لا نقصان من المد.
فإن لم يكن في الفريضة ابنٌ، فللأب الثلثان بالتعصيب، وللأم الثلث، فنزيد للأب ثلاثة أمثال ما كان للأم في حالة النقصان، أو ثلاثةَ أمثال ما نزيد للأم، وهذا
__________
(1) زيادة من المحقق.

(15/421)


محل تعلقنا، فكذلك إذا فرض اليسار ينبغي أن نزيد للزوجة التي هي محل الأب ثلاثةَ أمثال ما نزيد للخادمة التي هي بمحل الأم، وذلك يقتضي أن نزيد للزوجة مداً، وللخادمة ثُلث مد، هذا ما حكوه عن القفال الشاشي.
10082 - وذكر بعض الأصحاب مسلكاً آخرَ مأخوذاً من نفقة المتوسط؛ فإنه يلتزم لزوجته مداً ونصفاً، والموسر يلتزم مدين، فيزيد ما عليه على ما على المتوسط بمثل ثلثه، [وعلى] (1) المتوسط مد ونصف، كذلك يزيد للخادمة في حال اليسار مثل ثلث ما كان لها في حالة التوسط، وللخادمة على المتوسط مُدّ بلا مزيد، فلها على الموسر مثل ما لها على المتوسط ومثل ثُلثه، وذلك مدّ وثلث.
وهذا عندي -وإن ذكره كافة الأصحاب- مما لا يسوغ اعتماده والتعويل على مثله، ولست أرى ما حكيته في درجةٍ من درجات الأقيسة، ولا معنى للإطناب في البينات، والوجه عندي أن نقول: ما ذكره الأصحاب في نفقة المتوسط قريب لائق بهذا الأصل، فليقع الاكتفاء به، وأما المد والثلث، فأقرب مسلكٍ فيه أن نقول: إذا اتسعت نعمة الله، لم يمتنع التوسع على الخادمة، ثم لا ضبط يصار إليه، ولا وجه لتبليغ الزيادة [مبلغ] (2) ما نزيد للزوجة في حالة التوسع، والثلث مما يقرب النظر إليه اعتباراً بثلث المال في الوصايا؛ فإن الرسول عليه السلام قال: " إن الله تعالى زادكم في آخر أعماركم ثُلثَ أموالكم زيادة في أعمالكم " (3) وهذا وإن لم يكن بالبيّن، فهو أولى مما قدمناه، وفي نص الشافعي في المختصر (4) ما يشبر إليه، هذا منتهى قولنا في التقدير.
10083 - ونحن نختتمه بالكلام على المعسر ومعناه، والمتوسط، والموسر، ولست أدري كيف طاب للمصنفين تخطي أمثالَ هذه المغمضات من غير التفاتٍ على
__________
(1) في الأصل: أو على المتوسط.
(2) في الأصل: ومبلغ.
(3) سبق تخريج الحديث في أوائل الوصايا.
(4) ر. المختصر: 5/ 71. والنص المشار إليه هو قول الشافعي: " وأجعل لخادمها -أي زوجة الموسر- مدّاً وثلثاً؛ لأن ذلك سعةً لمثلها ".

(15/422)


محاولة شرح فيها، مع العلم بأن هذه الأسماء مشتركة، وهذا مما تمس الحاجة إلى النظر فيه، في أوائل المراتب إذا رفعت الوقائع إلى المفتين، أو إلى الحكام.
فأما المعسر، فإن كان على رتبةٍ تستحق سهمَ المساكين، فهو معسر، ومن لا يملك شيئاً تستقر نفقةُ الزوجية في ذمته.
ومن جاوز حد المسكنة، فكيف السبيل فيه؟ [هل] (1) نقول: هو من المتوسطين؟ فإن قال بذلك قائل، فليس على علم بالباب؛ فإن الإنسان قد يخرج باكتسابه عن حد المسكنة، إذا كان قادراً على تحصيل القوت يوماً بيوم، ولست أرى مثل هذا الشخص من المتوسطين في نفقة الزوجات، بل هو معسر [ونفقتُه] (2) نفقة المعسرين، وهذا مما لا أتمارى فيه، فأما إذا كان يخرج بملك مالٍ لا بقدرةٍ على الكسب عن حدِّ المسكنة، فالذي أراه أنه في حد التوسط، وإن كان على اقتدارٍ وتوسع في الاكتساب بحيث يَرُدُّ عليه الكسبُ -على يسرٍ-[أضعافَ] (3) ما يحتاج إليه، فقد يتردد الفطن في هذا: أما إلحاقه بالموسرين، فلا سبيل إليه، وإنما تردد النظر في إلحاقه بالمتوسطين.
وأنا أقول بعد هذا التنبيه: هو معسر؛ فإنه يبعد تكليفه المزيد على قدر الحاجة بالاكتساب والله أعلم.
وأما المتوسط الذي يملك ما يرقِّيه عن حد المسكنة، فلي فيه نظر: فأقول: أرى المتوسط رجلاً يؤثِّر الإنفاق في ماله إذا زاد على الأقل الذي قدمناه، فكأنه لو أخرج مُدَّين أوشك أن ينحط إلى الإعسار، والموسر لا ينحط بمدّين إلى المتوسط فضلاً عن الإعسار، وهذا يؤخذ من التشطير في المد، حتى كأنه بإخراج الزائد، وهو نصف مدٍ لا ينحظ إلى الإعسار، وبإخراج المد يوشك أن ينحط إليه، وأقرب المآخذ ما يداني الحكمَ، فالحكمُ تشطير المد الزائد، فليكن التوسط مأخوذاً منه.
ومما يحق الاعتناء به أن اليسار لا ينظر فيه إلى المال فحسب، بل يُضَمُّ إلى اعتباره
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: بنفقته.
(3) في الأصل: أصناف.

(15/423)


رخاءُ الأسعار وانخفاضُها وارتفاعها، فالرجل في المكان الذي تتّسع الأقوات فيه يتبلّغ بمقدارٍ من المال لا يتبلّغ بمثله في موضع تغلو الأسعار فيه، [ولن] (1) يكون الطالب واقفاً على دَرْك اليسار والإعسار والتوسط ما لم نمزج ملكَ المال بما أشرنا إليه من رخاء الأسعار وغلائها؛ فإن الغرض في كل باب من الإعسار واليسار على حسب ما يليق بالمقصود منه، فإذا كنا نبغي الكلام في أقدار النفقات ثم دُفعنا إلى النظر في المراتب، فالوجه اعتبار اليسار على وجهٍ [لا يُنافي] (2) النفقة الدارّة، ومن ضرورة ذلك ما أشرنا إليه من اعتبار الأسعار رخاءً وغلاء.
فانتظم مما ذكرناه أن الموسر من لا يتأثر بالمُدَّين، والمتوسط من يتاثر بالمُدَّين ولا يتأثر بالمد والنصف، والمعسر مخرّج على ما قدمناه.
وهذا نجاز الكلام في أقدار النفقات.
10084 - فأما الكلام في الجنس المخرَج (3)، فإن كان في البلد الذي فيه الكلام قوتٌ واحد غالب يستوي في اقتياته أهل الموضع على اختلاف درجاتهم، فلا شك أن المعتبر ذلك الجنسُ، ولا يتأتى هاهنا أن نقول: يعتبر القوت الغالب، أو يعتبر قوت كل شخص؛ فإن القوت إذا عم طبقاتِ الخلق، على ما صورنا، فقوتُ كل شخص هو القوت الغالب.
وإن لم يكن في الموضع قوتٌ غالب نحكم بغلبته، ولكن كانوا يقتاتون على حسب الدرجات أقواتاً مختلفة، فلا وجه -والحالة هذه- إلا وأن نعتبر في حق كل شخص قوتَه جنساً؛ إذ لا غالب، والأقوات متعارضة، ولا بد من متعَلَّق، ونحن مدفوعون إلى مسالك ضيّقة، نقنع فيها بأدنى متعلَّق، فيكون الجنس في اعتبار حال الزوج معتبراً بالقدر، وقد ذكرنا أن النظر إلى حال الزوج في يساره، وتوسطه، وإعساره في المقدار، فليكن النظر إليه في جنس القوت.
__________
(1) في الأصل: فلو.
(2) في الأصل: لا يتأتى.
(3) هذا هو الفصل الثاني من الفصول التي وعد بها الإمام في صدر الباب.

(15/424)


ولو كان في البلد قوت يمكن أن يوصف بالغلبة، ولكن الفقراء قد يعتادون اقتياتَ غيره، فهذا موضع التردد: يجوز أن يقال: الاعتبار بالقوت الغالب، ويجوز أن يقال: يعتبر قوتُ ذلك المعسرِ، وإن كان الغالب في البلد غيرَه، وهذا إذا كان يعد اقتياتُ مثله الشعيرَ مثلاً نادراً في حال مثله، وقد ذكرنا مثل هذا الترددَ في الجنس الذي يُخرج في صدقة الفطر.
ومما يتعلق بذلك أن المخرَج يجب أن يكون حَبّاً أو تمراً، هذا هو الأصل، فإن أخرج خبزاً، فللمرأة ألا تقبلَه، وإن رضيت بقبوله، ففيه تفصيل سيأتي في بعض الفصول الموعودة، إن شاء الله.
10085 - فأما الكلام في نفقة الخادمة، فحقه أن يُصدَّر بمراتب النسوة؛ فإن نفقة الخادمة لا تثبت لكل زوجة، والمقدار الذي ذكره الأصحاب أن المرأة إذا كانت تُخدَم في العرف، ولو كلفت الاستقلالَ بحاجات نفسها، لكان ذلك غضّاً من قدرها، وحطّاً من منزلتها، فهذه مخدومة وإن كانت [لو خدمت] (1) نفسها، لم ينلها ضرر لكمال مُنّتها، واعتدال بنيتها.
وهذا يناظر ما ذكرناه في الكفارات في العبد الذي يَخدِم ملتزمَ الكفارة.
ولو كانت في العادة لا تعدّ على مرتبة المخدومات، فلا تستحق نفقة الخادمة.
ولو كانت تُخدم، ومنزلتُها لا تقتضي ذلك، بل تُعدّ مجاوِزةً قدرَها، فلا تُخدم في النكاح، ولو لم تكن على منزلة من المروءة يُخدم أهلها، ولكن كانت على ضعفٍ في بنيتها، فإن كان ذلك مرضاً عارضاً، فلا تستحق على الزوج إقامةَ مُمرِّضٍ متفقّد، كما لا تستحق عليه المعالجةَ والقيامَ بمؤنِ الأدوية.
وإن كانت على ضعفٍ لازم لبنيتها، ففي المسألة احتمالٌ ظاهر من جهة مشابهةِ الخادمةِ الممرّضةَ والمعينةَ على المعالجة، ويظهر عندي أن تستحق نفقةَ الخادمة؛ لأن الحاجة الدائمة أولى بالاعتبار من غضٍّ في المروءة، وقد ذكرنا في الكفارات أن من
__________
(1) في الأصل: وإن كانت خدمة نفسها.

(15/425)


كان له [عبد] (1) وهو يحتاج إلى خدمته لعجزه اللازم له، فلا نكلفه أن يعتقه، كما لو كان يحتاج إليه في حفظه مُروءته.
هذا قولنا في التي تُخدَم، والتي لا تُخدَم.
10086 - فإذا كانت مخدومة، فالذي قطع به الأئمة أن على الزوج القيامَ بمؤونة الخادمة، وقد ذكرنا من مؤنها النفقةَ، وسنذكر الباقي، ونقل بعض أصحابنا عن الشافعي أنه قال في عِشرة النساء: " ويشبه أن يكون عليه نفقةُ خادمها " فردد القول في ذلك، وقد جعل المزني المسألة على قولين في نفقة الخادمة، وهذا نُقل عنه في غير المختصر، وخالفه معظم الأصحاب في إجراء القولين.
ومن أصحابنا من ساعده وأجرى قولاً أن نفقة الخادمة لا تجب على الزوج قط، وهذا بعيدٌ جداً، ولكن ذكره صاحب التقريب، والشيخُ أبو علي، ومعظم الأئمة مع إطباقهم على تزييفه.
فإذا أوجبنا نفقةَ الخادمة، فإن استأجر الزوج حرّة أو أمةً لتخدِم الزوجة، فالذي يبذله أجرةٌ، وليس نفقةَ الخادمة.
وإذا أخدمها الزوجُ جاريةً من جواريه، سقط حق الخدمة بذلك، وليس هذا من نفقة الخادمة في شيء؛ فإن الزوج يُنفق على أمته بحق الملك.
وإن [كان للزوجة] (2) أمةٌ، وكانت تخدِمها، وأراد الزوج الإنفاق عليها، ورضيت المرأة بذلك، فهذه النفقة نفقةُ الخادمة، وهي التي تتقدر بالمد، والمد والثلث، على التفاصيل المقدمة، ولا يتصور نفقة الخادمة إلا في هذه الصورة؛ فإنا إذا صورنا استئجاراً، كان ذلك إخداماً بأجرة، ومقدارُ الأجرة على حسب التراضي.
وإن لم يكن لها أمةٌ، فلا يكلف الزوج أن يستأجر حرة أو أمة بأكثرَ من النفقة التي أثبتناها للخادمة؛ فإنه ربّما لا يجد من يخدِم بمدٍّ وأوقية زيت.
ولو قلنا: يجب أن يكفيَها الخدمةَ، فهذا وقوعٌ في مذهب أبي حنيفة في اعتبار
__________
(1) في الأصل: عذر.
(2) في الأصل: وإن كانت الزوجة أمة.

(15/426)


الكفاية، وأقرب لازم على هذا الأصل أن يلزمه أن يكفيها ما يسد جوعتَها إذا كانت رغيبة لا تكتفي بمدٍ، فإذا كنا لا نُلزمه ذلك، فلا يَلزمُه في جهة الخدمة إلا ما ذكرناه.
فلو كانت تجد حرة تخدِم بالمدّ وما [يُلحَق] (1) به، فلا يتصور أن تُلزم الحرةُ بغير طريق الاستئجار، ولكن القدر الذي علينا [أن نوضحه] (2) أن على الزوج تحصيل هذا القدر، فإن تيسر به استخدامُ حرة، فليس على الزوج النظر في التفاصيل.
ولو قالت المرأة: أنا أخدم نفسي فسلِّم إليّ نفقةَ الخادمة، فلست أرى لها ذلك؛ فإنها أسقطت مرتبة نفسها، والله أعلم، فلينظر الناظر في هذا الموضع.
10087 - ومما يتعلق بذلك أن الرجل إذا نكح أمة، وكانت تُخدَم لجمالها، فهل يجب عليه نفقةُ الخادمة؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا يجب على الزوج نفقةُ الخادمة؛ فإن الرق ينافي هذه المنزلة، والرقيقة تَخدِم ولا تُخدَم. والوجه الثاني - أنها تستحق نفقة الخادمة؛ لأن ذلك غيرُ مستنكر في العرف، ولا محمولٌ على الرعونة ومجاوزة الحد، والمحكّم في ذلك العاداتُ.
10088 - ولو قال الزوج لزوجته المخدومة: أنا أخدمك بنفسي، فلا تكلفيني نفقةَ الخادمة، فقد قال الأصحاب: الأمور التي لا تستحي المرأة من تعاطي الزوج إياها يتعاطاها الزوج، كالخروج وكنس البيت وغيرها من أشغال المهن، فيجوز أن يقوم بكفاية هذه الأمور، وأما خدمتها الخالصة كحمل الماء إلى بيت الماء، [وما في معناه] (3) من الأمور التي تستحي النساء من إظهارها للأزواج، ويؤثرن الاختفاء بها، فالمذهب الأصح أن الزوج لو قال: أتعاطى ذلك أيضاًً -والمرأة تأبى- فليس للزوج ذلك، فإنا إذا كنا نقيم الخادمةَ محافظةً على مروءتها، فالذي ينالها من إظهار هذه
الأمور للزوج أعظم مما ينالها من غضّ المروءة وتعاطي الخدمة.
10089 - هذا نجاز الفصل. وفي القلب منه غائلة وغُصّة، وذلك أن الأصحاب
__________
(1) في الأصل: وما يليق به. ومعنى ما يلحق به: أي وما يتبعه من أُدْمٍ، زيتٍ أو نحوه.
(2) في الأصل: أن نوضح.
(3) في الأصل: وما في معنا فيه من الأمور.

(15/427)


ذكروا أن الخادمة تُملّك الحَبَّ، وترددوا في الأدم، فكيف يتصور ذلك؟ فإن الإجارة لا ضبط للأجرة فيها، ومملوكة الزوج لا تملّك شيئاًً وإنما الإنفاق عليها من فن الكفاية.
فالذي أراه أن الزوجة لو رضيت بأن تخدمها حرة، ورضيت الحرة بأن تخدِم بالنفقة، فإنها تستحق نفقةَ الخادمة، ولكن مهما (1) شاءت فارقت؛ إذ لا ضبط ولا عقد على اللزوم يُلزمها الاستمرارَ، والنكاح لا يشملها، فيجب القطع بعد [الاستخارة] (2) وإطالة الفكر بأنها إذا خدمت يوماً، استحقت وظيفة الخادمة.
ثم الظاهر عندي أن استحقاقها يكون على حسب استحقاق الزوجة نفقتها، فلها وظيفتها في صبيحة كل يوم، كما للزوجة وظيفتها، ثم لا نجعلها بأخذ الوظيفة ملتزمةً [للخدمة] (3)، فإن بدا لها، ردّت الوظيفة وتطلقت (4)، وإن أرادت استكمال الخدمة، فعلت؛ فحقها مأخوذ قبل العمل، مستقر بالعمل، وحق الزوجة يُداني ذلك من وجهٍ، وإن كان يخالفه من وجهٍ، كما سنصف بعد ذلك، إن شاء الله.
وهذا شاذ لا أرى له نظيراً ولا أجد من القول به بُدّاً.
10090 - ثم الخادمة في الابتداء إلى تعيين الزوج (5)، [فأمَّا] (6) إذا كانت قائمةً بالخدمة، فإن هي ألفت خادمةً، وأراد الزوج أن يبدلها، فإن رابه منها أمرٌ،
__________
(1) مهما: بمعنى (إذا).
(2) في الأصل: الاستجارة.
(3) في الأصل: خدمة.
(4) وتطلّقت: المعنى أنها صارت مطلقة غير ملتزمة بالخدمة، والمراد من العبارة تقرير وإثبات أن هذا الاستخدام ليس عقداً لازماً ملزماً لها، بل لها أن ترد الوظيفة ولا تقوم بالخدمة.
(5) في صفوة المذهب: الزوجة. وفي المسألة وجهان: أظهرهما أن تعيين الخادمة في الابتداء إلى الزوج، وهو الذي ذكره الإمام، ولم يذكر غيره، والثاني - أن تعيينها إلى الزوجة، وهو الذي ذكره ابن أبي عصرون، ولم يذكر غيره، والذي رجحه الرافعي والنووي وجعلاه (الأظهر) هو ما ذكره إمام الحرمين: أنه إلى الزوج (ر. صفوة المذهب - جزء (5)، ورقة: 204 يمين، والشرح الكبير: 10/ 12، والروضة: 9/ 46).
(6) زيادة اقتضاها السياق.

(15/428)


فليفعل، ولا يكلَّف في مثل ذلك إقامةَ حجة، ولا ينتهي الأمر إلى محاكمة ومخاصمة، وإن أراد إبدالها -والزوجةُ قد ألفتها- من غير خيانة وريبة، فالذي رأيته للأصحاب أنه ليس للرجل ذلك من غير غرض؛ فإن انقطاع [النفس] (1) عن المألوف شديد، وربما انبسطت إليها، وستلقى عُسراً أن تنبسط مع أخرى، وهذا بيّن من هذا الوجه.
10091 - ومن تمام القول في ذلك أن الزوج لو قام بالأشغال الظاهرة وترك الأمور الخفية على خادمة، فهل تستحق تلك الخادمةُ الوظيفةَ التامة، ومعظم الأشغال مكفية؟ هذا يقرب عندنا من تردد الأصحاب في أن السيد إذا زوج أمته، وكان يستخدم الأمة نهاراً ويردها إلى الزوج ليلاً، فهل على الزوج كمالُ النفقة؟ فيه اختلاف قدمناه في كتاب النكاح: من أصحابنا من قال: يجب تمامُ النفقة، ومنهم من أوجب نصفَها، ومنهم من لم يوجب عليه شيئاًً.
ويخرج عندنا في الخادمة وجهان خروجاً ظاهراً: أحدهما - أن للخادمة نصف الوظيفة، ولا توزيع على أقدار الأعمال كالليل والنهار. والوجه الثاني - أن لها تمامَ الوظيفة؛ فإن الخادمة في الأمور السرّية لا بد منها، وهي تحتاج أن تتربص في جميع الأزمان لمسيس الحاجة إلى تلك الأشغال، ولا ترضى بأقلَّ من الوظيفة، والزوج هو الذي تجشم من عملها ما تجشم.
وهذا الوجه أفقه وأليق.
ولا يمتنع عندنا أن توزع الوظيفة إذا فتحنا بابَ التقسيط، بخلاف الليل والنهار في نفقة الأمة المزوجة؛ فإن الليالي والأيام جعلها الله خِلْفة، وهي تتناوب على نسب مستويةٍ في الطول والقصر، وأما الأعمالُ البادية والخفية؛ فإنها متفاوتة ليست متناسبة.
فأما إذا قلنا: لا تستحق الأمةُ شيئاًً من النفقة إذا لم يسلمها السيد إلى زوجها ليلاً ونهاراً، فلست أرى لهذا الوجه خروجاً هاهنا؛ فإن الخادمة لا بد منها على الوجه
__________
(1) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

(15/429)


الذي عليه نفرّع، والزوجة لا تجد خادمة متبرعةً بالخدمة، ففي إسقاط حقها تعطيلُ الخدمة في الأمور الخفية.
10092 - فأما القول في الأُدْم، فقد قال الشافعي: " لزوجة المعسر كلَّ يومٍ مكيلةُ زيتٍ أو سمن " (1) ولم يختلف علماؤنا في أن الأُدم ليس يتقدّر، وذلك أنا اعتمدنا في تقدير القوت ما وجدناه في أصل الشرع في المُدّ والمدين، ثم سلكنا مسالك في التقريب بينهما، فأما الأُدم، فلسنا نجد له أصلاً في الشرع مقدّراً.
والأُدم ثابتٌ مستحَقٌّ للزوجة، فلا سبيل إلى التقدير، ولكن أمره مبني على ما يكفي أُدماً لمدٍّ، وإن كانت النفقة مدّين، فما يكفي أُدماً لمدين، ولا شك أن الأُدم على الموسر يزداد استحقاقاً؛ على حسب ازدياد القوت، فإذاً الأدم تابع للقوت.
ثم ذكر الشافعي المكيلةَ والمكيلتين، والمكيلةُ مجهولة، وإنما أراد تقريباًً، وقد يُلفَى له ذكر الأوقية والأوقيتين، والأمر في ذلك مرتبط بما ذكرناه.
هذا كلامه في تقريب مقدار الأُدم.
وأما الجنس، فقد ذكر الشافعي الزيت أو السمن، ولم يعين جنساً تعيين إيجاب، ولكن الأُدم الغالب في كل موضع يُرْعى.
ثم إن تبرمت المرأة بالزيت والسمن، وأرادت جنساً آخر قيمته كقيمة ما يغلب أُدماً، فهذا فيه تردد بيّن: يجوز أن يقال: الرجوع في هذا إلى الزوج، ثم إن أرادت المرأة جنساً آخر، تصرفت بنفسها، أو تصرفت خادمتها لها. وهذا كقول الشافعي: إن أرادت المرأة مزيداً في القوت، زادت من أُدمها في قوتها، وإن أرادت مزيداً في الأُدم زادت من قوتها في أدمها.
ويجوز أن يقال: تعيين الأُدم إليها؛ إذ لا ضرار على الزوج في إسعافها، ويظهر تضررها بالمواظبة على أدم واحد، وقد تتضرر بصرف أدم في أدم.
ويظهر هذا الذي ذكرناه منه إذا لم يكن في البلد أدم غالب، فإن كان في البلد أدم غالب، فقد يخرج فيه وجه أن الرجوع إلى الغالب، ويجري الوجهان المقدمان.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 70. ونذكّر هنا أن القول في "الأُدم" هو الفصل الرابع في الباب.

(15/430)


هذا قولنا في مقدار الأدم وجنسِه كلَّ يوم.
10093 - قال الشافعي: " يشتري لها في الأسبوع رطلَ لحم إن كانت الوظيفة في القوت مداً، وإن كانت الوظيفة مدين اشترى لها في الأسبوع رطلين ... إلى آخره " (1).
قال العراقيون: هذا قاله الشافعي على عادةٍ ألفها في دياره؛ فإن أهل [مصر] (2) قد يستقلون من اللحم، وإذا فرضت عادة على خلاف ذلك في بعض البلاد، فلا [اقتصار] (3) على رطل ورطلين، ولكن المتبع العادة، فنقول: أي قدر يليق بنفقةٍ قدرها مُدّ؟ وكيف السبيل والنفقة مدان؟ ويختلف ذلك بالأصقاع والبقاع، وهو قول العراقيين، وهو حسن متجه، وكان شيخي [يحكي] (4) عن شيخه القفال اتباع الشافعي فيما ذكرناه [من أن المطاعم] (5) والملابس، تدور على سِدادِ الحاجة، ولا تنتهي إلى النعمة والترفه وانبساط بني الدنيا، والدليل عليه أنه أثبت مُدَّين على الملك العظيم،
وإن كان هذا نزراً وتْحاً (6) في حق [الموسر في حكم العادات] (7).
ويجوز للعراقيين أن يقولوا: ذلك تقدير، والتقدير لا يزول عن وضعه، وما يليق بالكفايات يجب الرجوع فيه إلى موجَب العادات.
ومما يجب التنبيه له أن المرأة إذا كانت تتزجَّى بالحَب القفر (8)، وكانت لا تأتدم، فحقها من الأُدْم لا يسقط، فهذا بمثابة استحقاقها أصل النفقة، ولو كانت قد لا تحتاج إليها في بعض الأحوال.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 70.
(2) في الأصل: (الجروم) وفي صفوة المذهب (الحروج). والمثبت من (الشرح الكبير: 10/ 8، والروضة: 9/ 42).
(3) سقطت من الأصل.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: في المطاعم والملابس.
(6) الوتح: مثلثة التاء: القليل التافه (المعجم).
(7) ما بين المعقفين مكان عبارة الأصل: " المقترن في حكم العالم ".
(8) أي تتطعم النفقة من الحبوب بغير إدام.

(15/431)


10094 - فأما أُدْم الخادمة، فالذي تحصل لنا من كلام الأصحاب وجهان في أنها هل تفرد بأُدم؟ منهم من قال: تفرد بالأُدم كل يوم؛ فإن الأُدم يتبع النفقة ولا تخلو نفقة عنه، وكما أفردت بالقوت، وجب أن تفرد بالأُدم.
والوجه الثاني - أنها لا تفرد بالأُدم، ولكنها تكتفي بما تُفْضِله المخدومة من الأدم، إذ العادة قد تقتضي الإفراد بالقوت مع الاختلاط في الأدم، فإن فرّعنا على هذا الوجه الأخير، فيجب أن نزيد للمخدومة في الأدم، ونُثبت لها من الأُدم أكثرَ مما نثبته للتي ليست مخدومة، ثم قد لا ننتهي إلى مقابلة مد الخادمة بمكيلة أوقية، فإن أُدْم الخادمة أقل. وإذا فرعنا على الوجه الأول ملّكنا الخادمةَ أُدمها، واعتقدناه ركناً مستحقاً لها في وظيفتها.
ثم الغالب على الظن أن من أثبت لها كلَّ يوم أُدماً لا يخصصها باللحم في أوان اللحم، والعلم عند الله.
ثم يزيد لحم المخدومة على لحم التي ليست مخدومة.
ولا خلاف أن قوت الخادمة من جنس قوت المخدومة، أجمع على ذلك الأصحاب في الطرق، وذكر العراقيون وجهين مفرعين على أنها مخصوصة بالأُدم في أن أُدمها هل يكون من جنس أدم المخدومة، أم يجوز أن يكون دون أدم المخدومة في الجنس؟ وهذا الاختلاف منقدح، وهو مأخوذ من العادات؛ فإن جنس القوت يتحد وأجناس الأدم تختلف.
وقد انتهى الكلام في الأُدم.
10095 - فأما القول في كيفية صرف النفقة إلى الزوجة (1) فنقول: أجمع الفقهاء على أن الزوج يتعين عليه تمليك زوجته النفقةَ، وأبو حنيفة وإن بنى مذهبه على الكفاية، وافق في أن المرأة إذا طلبت التمليك، أجيبت إلى غرضها، ثم قد ذكرنا أن حقها المتأصل الحَبُّ، كما مضى، فإذا ملكها الحَبَّ، فطالبته بالقيام بمؤن إصلاح الحب طَحْناً وخبزاً، فلها ذلك، وينتظم من هذا أن لها طلبَ تمليك الحب، ثم لها طلب مؤن الإصلاح.
__________
(1) هذا هو الفصل الخامس والأخير من الفصول التي وعد بها الإمام في صدر الباب.

(15/432)


ولو أخذت الحبَّ وملكته، واستعملته بذراً، أو باعته، فلو أرادت مطالبةَ الزوج بمقدار مؤنة الإصلاح، فهذا أراه محتملاً: يجوز أن يقال: لها ذلك؛ فإنها قد تبغي إصلاح [مُدٍّ] (1) عندها، وتُصيِّره خبزاً، وتتملّك ذلك؛ فإنه من حقها، وكأنا نقول: لها البرُّ والأُدم، والمقدارُ الذي يُصلح الطعام.
ويجوز أن يقال: إذا كانت لا تحتاج إلى الخبز، لم تملك المطالبة، بالمؤن التي تُنهي الحبَّ إلى الخُبز، فإن الإصلاح ليس من الأركان والوظائف [القائمة، وإنما هو إصلاح عند الحاجة.] (2) نعم، إذا كانت تحتاج إلى إصلاح البرّ، وقد أخرجت البرّ الذي قبضته، فيجب القطع بأنها تكلِّف زوجها ذلك، فأما إذا كانت لا تحتاج إلى الخبز في يومها، ففيه الخلاف والتردّد الذي أشرت إليه.
ولو اعتاضت المرأة عن البُرّ الثابت لها في ذمة الزوج [دراهمَ] (3)، أو ما أرادت من عِوض، فقد ذكر أصحابنا فيه وجهين: أحدهما - أنه لا يجوز؛ فإنه اعتياضٌ عن طعام ثابت في الذمة، بحكم عقد، فأشبه الاعتياض عن المسلم فيه.
والوجه الثاني - أنه يجوز، كما يجوز الاعتياض عن قيم المتلفات، وهذا الخلاف يقرب مأخذه من مأخذ القولين في جواز الاعتياض عن الثمن الثابت في الذمة، وقد سبق ذكرهما في كتاب البيع.
ولو اعتاضت المرأة عن الحب خبزاً، فقد ذكر بعض الأصحاب فيه خلافاً، وهذا يتطرق إليه تجويز بيع البُرّ بالخبز، وهو ممتنع في البيع وفاقاً، ولكن من جوّز هذا فيما نحن فيه، فوجهه -على بُعده- أنها تستحق الحَبَّ والإصلاحَ، فإذا رضيت بطعام مهيَّأ مُصْلَح، فكأن ما قبضته حقُّها؛ وليس عوضاً عن حقها، [فإنه كان لها أن تطلب الحَبَّ] (4)، ثم تكلِّف زوجَها إصلاحه، وهذا مما لم يختلف فيه أصحابنا.
__________
(1) في الأصل: بدّ.
(2) ما بين المعقفين تقدير منا، لما ذهب من عبارة الأصل بسبب امّحاء أطراف الكلمات والحروف.
(3) مطموسة في الأصل. والمثبت من صفوة المذهب.
(4) في الأصل: وإن كان لها أن تطلب الحب.

(15/433)


10096 - ومما أجراه الأصحاب في الخلاف والمذهب أنها لو رضيت بأن تأكل مع زوجها من غير إجراء تمليك وتملّك واعتياض، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من جرى على قياس المذهب، ولم يُسقط النفقةَ بهذا، وإن كان الزوج يرى إطعامها عوضاً عن حقها عليه، فما يتعاطاه سحتٌ.
ومن أصحابنا من أجاز ذلك، وبناه على مذهب المسامحة والاتباع؛ فإن الأولين كان يعمّ هذا الاعتيادُ منهم من غير إجراء اعتياض.
وحاصل هذا [أنا] (1) إن أردنا تخريجه على قاعدة المذهب، [قلنا] (2) إن المرأة تستحق النفقة تمليكاً إذا لم تَطْعم مع زوجها، فإذا طَعِمت معه واكتفت، سقط حقها من طلب التمليك، وإن لم يكن هذا على حقائق الأعواض، وكأن نفقتها على [هذا] (3) الرأي بين الكفاية إن أرادت وبين التمليك، على قياس الأعواض إن طلبت.
وهذا حسنٌ غائصٌ.
ومما نوصي به من يطلب التحقيق أن يؤثر ما يليق بالباب على القياس الجلي الذي يستند إلى غير الباب.
وما ذكرناه من الرضا بالتطعم لائق بباب النفقة، غيرَ أنها إذا آثرت الطلب، لاقَ بما تطلب التمليكُ والقدرُ (4).
10097 - ولو قدم الزوج لزوجته نفقة أيام، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنها هل تملك ما قدمه الزوج على نفقة يومها؟ أحد الوجهين - أنها تملكه، كما يملك مستحق الدين المؤجل ما يعجّل له قبل الأجل. والثاني -وهو الأظهر- أنها لا تملك؛ فإن الدين المؤجل ثابت، [وإنما] (5) المنتظر الحلول وانقضاءُ الأجل [لتوجيه] (6)
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) زيادة اقتضاها استقامة الكلام.
(3) زيادة من المحقق لا يتم الكلام إلا بها.
(4) والقدر: أي التقدير والتحديد بالمدّ والمدّين ... إلخ.
(5) في الأصل: فإنها.
(6) في الأصل: توجيه.

(15/434)


الطَّلِبة، والنفقةُ تجب يوماً يوماًً، فلا يقع المقدَّمُ مستحقاً.
ثم قال الشيخ: إن قلنا: إنها تملك ما يقدم لها، فتملك التصرف فيه، وإن قلنا: إنها لا تملكه، لم تملك التصرفَ فيه، والأمر على ما فرعه، وليس ذلك كالقرض- على قولنا: إن المقترض لا يملكه بمجرد القبض؛ فإنا مع ذلك [نسلّطه] (1) على التصرّف، فإنا نقول: يتوقف جريان ملكه على تصرّفه، وإذا جرى منه التصرف، تبيّنا انتقال الملك إليه قبيل التصرف، فالتصرّف على هذا القول شرطُ جريان ملكه، فيستحيل أن يمتنع التصرف.
10098 - وتمام هذا الفصل أن المرأة تملك على زوجها نفقة كل يوم مع [أول] (2) جزء من اليوم، فكما (3) طلع الفجر ملكت النفقة، وطالبت بها، وتصرفت تصرف الملاك، إما فيما في الذمة وإما فيما تقبض.
ثم قال الشيخ أبو علي: إذا قبضت المرأة نفقة يوم وماتت في أثناء اليوم، لم يسترد النفقةَ، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ولو كان قدم الزوج لها نفقة أيام، وقلنا: إنها لا تملك ما يزيد على نفقة اليوم،
فإذا ماتت، تركنا عليها نفقةَ يوم الموت، واسترددنا منها نفقاتِ الأيام بعد ذلك.
وإن قلنا: إنها ملكت ما قدمه الزوج لها، فهل يسترد من تركتها تلك النفقات الزائدة على نفقة يومها الذي ماتت فيه؟ فعلى وجهين- ذكرهما الشيخ: أحدهما - أنه [يستردّها] (4) وهو ما قطع به العراقيون؛ فإنها إنما ملكت على تقدير بقاء الزوجية، فإن انتهت الزوجية نهايتَها قبل الأيام التي قدّم الزوج نفقتها، يجب القضاء بانتقاض ملكها.
والوجه الثاني - أنا لا نستردّ ما قدمه الزوج، فإنما نفرع على أنها ملكته، فأشبهت نفقةَ اليوم إذا أخذتها ثم ماتت في صبيحة ذلك اليوم، فمعظم أوقات اليوم باقية، ثم النفقة غيرُ مستردة.
__________
(1) في الأصل: نسلطها.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) فكما: بمعنى عندما طلع الفجر، أو كلما طلع الفجر ...
(4) في الأصل: أنه مسترد.

(15/435)


ولا خلاف أنها إذا أخذت نفقة يومها، ثم نشزت، لم نترك عليها النفقة.
فانتظم من هذا أن نفقة اليوم لا تسترد إلا من ناشزة، وأما إذا ماتت، فلا، ونفقةُ الأيام المستقبلة تستردّ من الناشزة، وهل تسترد من تركة الميتة؟ فعلى الخلاف المقدم.
10099 - ومن تمام البيان في ذلك أنها لو كانت مطيعةً في بعض اليوم ناشزةً في بعضه، فهل تستحق النفقة لزمان الطاعة؟ فيه اختلاف بين الأصحاب، قريبُ المأخذ من مسألة الأمة المزوّجة إذا سلمها السيد ليلاً واستخدمها نهاراً، ولكنا ذكرنا ثلاثة أوجه ثَمّ: أحدها - أنه يثبت تمام النفقة على الزوج، وهذا الوجه لا يخرّج إذا انقسمت الطاعة والنشوز في اليوم الواحد، بل لا يجري هاهنا إلا وجهان: أحدهما - أنها تستحق قسطاً من النفقة، وهذا هو الأوجه هاهنا. والثاني - أنها لا تستحق شيئاً؛ فإن النفقة لا تتبعض.
ثم إن فرض النشوز في أحد الجديدين (1) على الاطراد والطاعةُ في الآخر، فالبعض الذي أطلقناه نصف النفقة.
وإن كان انقسام الطاعة والمخالفة على نسبةٍ أخرى من الزمان، فلا وجه إلا اعتبارُ الأزمنة والتقسيط عليها.
وهذا نجاز القول في الفصول التي وعدناها في النفقة.
فصل
في الكسوة
10100 - الزوجة تستحق على زوجها الكسوة، والكلام في قدرها، وجنسها، وجهة تسليمها.
فأما القدر، فلا قدرَ، والكُسوةُ مبناها على الكفاية، بخلاف النفقة، والدليل عليه
__________
(1) الجديدان: الليل والنهار، والمعنى الحرفي هنا غير مراد، وإنما المعنى: إذا فرض نشوزها يوماً وطاعتها يوماً على الاطراد، أو فرض نشوزها آناً بعد آن على التبادل، هذا هو المعنى المقصود.

(15/436)


أن الطعام مقدَّرٌ في الكفارة، والكُسوة مقدّرة ولكنها محمولة على دراهم في تفاصيلَ ستأتي مشروحةً في كفارة الأَيْمان، ولا يمكن الاكتفاء بالاسم فيما نحن فيه، فإن ستر المرأة من فوقها إلى قدمها محتومٌ إلا فيما يظهر منها ويبدو في الصلاة، فحقٌّ على الزوج القيامُ بالكُسوة. ثم الجثث والقُدود تتفاوت تفاوتاً عظيماً، [والقوت] (1) الذي يقع غنيةً وبلاغاً وقد يعم معظمَ طبقات الخلق (2). هذا هو القول في الأصل المرعي في ذلك.
10101 - فأما الجنس فقد قال الشافعي: الكسوة على المعسر من غليظ البصرة، يعني الكرباسَ الغليظ، وهي على الغنيِّ من ليِّن البصرة، يعني الكرباس الليّن الرقيق، والمتوسط بين المعسر والغني.
وإذا كان الأصل مبنياً على الكفاية، فالقول في التفصيل يجري على التقريب لا محالة.
قال العراقيون: هذا الذي ذكره الشافعي محمول على ما عهده في زمانه، ولعل أهله كانوا يكتفون بالليّن والغليظ، فأما إذا عمّت العادات في زمان بإلباس المرأة الحريرَ، والخزَّ، والكتان، وما في معانيها، وكان ذلك لا يعدّ سرفاً ومجاوزةَ حدٍّ، فيجب إلباس المرأة هذه الفنون، إذا هي طلبتها على شرط الاقتصاد والجريان على الاعتياد.
وعلى هذا لا منتهى للجنس، ويجب أن لا يعرض (3) موقف، حتى لو عظم يسار الرجل، ازداد شرفُ الأصناف التي يكسوها زوجاته.
__________
(1) في الأصل: والقوة.
(2) المعنى أن الكسوة تختلف عن النفقة، فالقدر الذي يعتبر غُنيةً وبلاغاً قد يتساوى فيه جميع الخلق، أما الكُسوة فلا يمكن اعتبار قدرٍ محدّد فيها لتفاوت الأشخاص جسامةً وطولاً، ونحافة وقصراً.
(3) المعنى أنه يجب ألا يوضع حدٌّ يوقف عنده، بل كلما زاد يسار الرجل، ازدادت قيمة الأصناف التي يكسوها زوجته.

(15/437)


وكان شيخي يقول: ما رآه الشافعي لا مزيد عليه، وهو لبس الدَّيِّن (1)، فأما ما عداه، فاعتياده من شيم [المترفين] (2).
هذا قولنا في جنس الكسوة.
ولا خلاف أن الخادمة في كُسوتها محطوطةٌ عن المخدومة، والجنس في القوت لا يختلف، وفي الكسوة يختلف، وفي الأُدم خلافٌ قدّمناه.
ثم على الزوج أن يكسو امرأته في الصيف خماراً وقميصاً وسراويل، على حسب ما يليق، كما تقدم التفصيل، ثم يُلبسَها في الشتاء جُبةً تُدفئها على حسب مسيس الحاجة إلى الإدفاء، وقد يكون للخادمة فروةٌ على ما تقتضيه العادة في المغايرة، والقميص الواحد يبلى ولا يدوم السنة.
ثم ذكر العراقيون في ذلك مسائل نذكرها في آخر الفصل.
10102 - فأما جهةُ الكُسوة، فقد اختلف أصحابنا فيها: فذهب بعضهم إلى أنها إمتاع ولا يجب التمليك فيها، فعلى هذا لو استأجر الزوج ثياباً وكَسَتْ (3) بها، كفى ذلك، وكذلك لو استعار.
والوجه الثاني - أنها تستحق تمليكَ الكُسوة، كما تستحق تمليكَ النفقة، وهذا قد يشهد [له] (4) العادة.
فإن قلنا: المستحق في الكُسوة إمتاعٌ، فلو سلم ثوباً إليها ولم يملِّكها، فتلف الثوب في يدها من غير تقصير منها، فالوجه عندنا القطع بأنها لا تضمن؛ فإنها تستحق أن تكسى ويدُ الاستحقاق في الانتفاع لا تُثبت الضمانَ في العين، ولو كنا نضمنها ما يتلف في يدها من الثياب، لتفاقم الضرر عليها، ولكانت على غرر طول زمانها، وعلى خطرٍ في شأنها.
__________
(1) عند ابن أبي عصرون: "اللين".
(2) في الأصل: المستريبين. والمثبت من صفوة المذهب.
(3) كست بها: أي لبستها، تقول: كسِيَ يكسَى: لبس الكسوة، فهو كاسٍ. (المعجم).
(4) زيادة من المحقق.

(15/438)


وإن قلنا: إنها تُملَّك، فلا يخفى التفريع.
ثم [القول] (1) في تمليك الخادمة وإمتاعها كالقول في الزوجة سواء بسواء.
10103 - وهذا أوان الوفاء بما ذكره العراقيون. ونحن [نُجري] (2) مسلكاً نراه أضبط وأجمع، ونذكر في أثنائه كلامَ العراقيين، فنقول: إذا [سلّم] (3) إلى المرأة كُسوةَ الصيف مثلاً، فتلفت في يدها، فإن قلنا: الكُسوة إمتاع، ولم تُقصِّر، فعلى الزوج أن يجدد إمتاعَها بكُسوة أخرى، فإن إدامة الإمتاع محتومةٌ.
وإن قلنا: جهةُ الكسوة التمليكُ، فإن ملكها وظيفةَ الصيف، فتلفت في يدها من غير تقصير، ففي المسألة وجهان: أقيسهما - أنه لا يجب على الزوج تجديد الكُسوة؛ فإنه وفاها حقها ملكاً، وأقام لها حقها المستحَقَّ، فأشبه ما لو أعطاها النفقة وملّكها ثم تلفت في يدها.
والوجه الثاني - أنه يلزم التجديد؛ فإن الكسوة وإن كانت على التمليك، [فإنها] (4) على الكفاية، وهذا ضعيف لا اتجاه له، ولا خلاف أنه لو انقضت نوبةُ الكُسوة، والكُسوة معها (5)، فلو حكمنا بأن الكسوة إمتاع، لم يجب التجديد، وإن حكمنا بأن جهة الكسوة التمليك، فيجب الوظيفة.
10104 - ومما يتعلق بذلك ما ذكره العراقيون في النفقة والكسوة عند طريان الموت، قالوا: إذا أعطى زوجتَه نفقة يومها فماتت، لم يسترد نفقة ذلك اليومِ، وقد ذكرنا ذلك.
وإن قدم لها نفقة أيام، استرد الزائدَ على نفقة ذلك اليوم، هذا ما قطع العراقيون به، وفيه خلاف ذكرناه. وإن وفاها كُسوة الصيف، فماتت في أثناء الصيف، ذكر العراقيون في استرداد تلك الكسوة وجهين في ترتيبهم.
__________
(1) مطموس في الأصل، والمثبت تقدير من المحقق.
(2) في الأصل: نحوي.
(3) كذا قدرناها مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(4) مطموسة بالأصل، والمثبت من تصرّف المحقق واختياره.
(5) أي ما زالت الكُسوة باقية.

(15/439)


والذي نراه أن الكسوة إن كانت إمتاعاً، فهي مستردة؛ فإنها [ما] (1) ملكتها إلا أن يكون وهبها الزوج منها.
وإن كان التفريع على أن جهة الكُسوة التمليك، فالصيف في كسوة الصيف كاليوم الواحد في النفقة.
وما أطلقوه من الوجهين يخرجان على الإمتاع والتمليك، كما قدمناه.
10105 - ومما يتم به البيان أنا إذا جعلنا الكسوة إمتاعاً، فلو أتلفتها، فلا شك في وجوب الضمان، وهل تستحق كُسوةً جديدة إمتاعاً بها؟ الوجه الظاهر أنها تستحقها إدامةً للإمتاع، وفيه احتمال مأخوذ من إعفاف الابن أباه؛ فإنه إذا أعفه بزوجة فطلقها، فهل يجب على الابن أن يعفه مرة أخرى؟ فيه خلاف ذكرناه في موضعه، والوجه في الكسوة إيجاب التجديد.
وإن أتلفت وفرطت، فإنها تضمن، فكأنها ردّت ما أخذت. نعم، يجوز أن يقال: هذا الخلاف يجري في التقديم والتأخير، حتى إذا أرادت المطالبة بتجديد الكسوة قبل أن تغرَم للزوج قيمةَ ما أتلفت، فهل لها ذلك؟ هذا يخرج فيه الخلاف خروجاً مستدّاً وقد نجز القول في الكُسوة.
10106 - وما يتصل بهذا القولُ في الشعار، والدثار، وما يفرش. قال الشافعي: " لها مِلْحفةٌ ووسادة ومُضَرَّبةٌ وثيرة " (2)، ويختلف ذلك بالغنى والفقر اختلاف الكسوة.
وللخادمة ثياب ليلها على قدر الكفاية، مع التفاوت الظاهر في المرتبة، حتى قال الشافعي: ثوب ليل الخادمة في حق المعسر كساءٌ.
ثم الكلام فيما يفرش: قال العراقيون: تحت المضرَّبة لِبدٌ أو حصيرٌ، وهل لها زِلّيّة (3) تفرشها بالنهار؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون - واقتصروا في الفرش على
__________
(1) زيادة من المحقق، لا يصح الكلام إلا بها.
(2) ر. المختصر: 70، 71 (وهذا معنى كلام الشافعي وليس بلفظه).
(3) الزلّية: نوعٌ من البُسط (المعجم) وما زال أهل العراق والجزيرة العربية عموماً يطلقون على =

(15/440)


هذا القدر، ولم يردّوا الأمرَ إلى العادة، ونحن نعلم أن الفقير الذي نفقته في اليوم مدٌّ [يكفي] (1) مسكنَه فرشٌ يستر أبنيةً أو بناء واحداً (2).
ثم لم يرَوْا اعتبار هذا في حق الغني، [وردّدوا] (3) الخلاف في الزِّلّية، وتوسعوا في الكُسوة، وحملوا نص الشافعي حيث ذكر ليّن البصرة في حق الغني على عادة زمانه، وأثبتوا في عادات زماننا الخز والحرير.
وهذا في ظاهره تناقض منهم، تبيّن به أن الوجه اتباع ما لا بد منه، وما عداه تجملٌ وزينة لا يتعلق الاستحقاق به، ويمكن أن يقال: ما اعتبره الشافعي من ليّن البصرة على الغني لم يثبته زينةً، وإنما أُثبت إمتاعاً بالثوب الذي يلين حسّه ولا تتأثر البشرة به، وهذا ما أردنا التنبيه عليه.
10107 - والمسكن في النكاح لا بد منه، ثم رأيت للأصحاب في أبواب العِدد عند ذكرهم مسكن النكاح أنه يُسكنها مسكناًً يليق بها، فاعتبروا في ذلك جانبها، ولم يعتبروا في جنس القوت جانبها، وإنما اعتبروا فقر الزوج وغناه، كما قدمناه.
وقد يعترض في هذا سؤالٌ من جهة أن المرأة وإن كانت رفيعة المنصب والزوج يحصرها وحدها أو مع خادمة في الدار، وله أن يمنع أهليها من مداخلتها، وقد نوجب على الفقير أن يُخدِم زوجتَه، واتساعُ المسكن إنما تمس الحاجة إليه لكثرة الساكنين، فما وجه ذلك والطرق متفقة على أن المساكن تختلف باختلاف أقدار الزوجات؟ والأصل في هذا أن الكبيرة المنصب إذا كانت ألفت مسكناًً فسيحاً ينسرح الطرف فيه، فلو رُدّت إلى حجيرة منخفضةِ السقوف ضيقةِ الأبنية، كان ذلك بالغاً في الإضرار بها، وهذا واضح في العادات، ولذلك أطبق أهل المروءات على التباهي بالمساكن وارتياد
__________
= ما يسمّيه أهل مصر (السجّاد) يطلقون عليه (الزَّلّ) بفتح الزاي، وهو ما يفرش من البسط بأنواعه وأشكاله.
(1) في الأصل: ففي.
(2) كذا. ولعل المعني بالبناء الحجرة.
(3) في الأصل: وردّوا.

(15/441)


ما يليق بأحوالهم منها، حتى إذا فرض مسكنٌ محطوطُ القدر عُدّ الاكتفاء به نُكراً في العرف، وخَرْماً للمروءة.
والذي ينتظم عندنا في هذه الأبواب أن ما يكون إمتاعاً في حقوق الزوجة يجب أن يُرعى فيه منصبها وحالها، وما يكون مبناه على التمليك، فلا فرق فيه بين أن تكون رفيعةً أو خاملة، وإنما يختلف القدر فيه بتوسع الزوج في الثروة أو نقيض هذه الحالة تعلّقا بقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، وقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، وما أشار إليه العراقيون من التردد في الكُسوة أُدراه مبنياً على أنها إمتاع أو تمليك، والعلم عند الله.
فإذاً لا تمليك في المسكن، ولا في المفارش، وثياب الليل ملتحقةٌ بالفرش؛ إذ يبعد أن يجب عليه تمليكُهَا ثيابَ الليل، ثم يضاجعها في ثيابها، والنفقة والأُدم على التمليك، وفي الكُسوة الخلاف الذي قدمناه.
10108 - ثم قال الشافعي: " على الزوج أن يُهيىء لها عتادها في التزين والتنظف فيشتري لها مشطاً، وما يليق به إن كانت تحتاج إلى مزيد ... إلى آخره " (1).
ثم قال الأئمة: للخادمة أصل النفقة والأُدم تبعاً وأصلاً، كما تقدم، وهي تُمتَّع بالمسكن تمتعَ الزوجة، ولا بد لها مما يدفئها ليلاً على قدرها، وهي محطوطة عن المخدومة، وليس لها آلةُ التنظف كالمشط وغيره، ولها خُفان إن كانت تحتاج إلى الخروج، ثم كُسوتها في التمليك والإمتاع ككسوة الزوجة، وأرى خفَّها في معنى كُسوتها.
وللزوجة المشط والدهن الذي تترجل به، فإن كانت تبغي مزيداً تتزين به كالكحل والطيب، فلا تستحق شيئاًً من ذلك، والأمر فيه مفوّض إلى الزوج، والزوج يجنبها ما يتأذى به إذا تعاطته كالأطعمة التي لها روائحُ كريهة.
ولو كانت تتعاطى من الأطعمة ما يغلب على الظن أنه يُمرضها، فهل للزوج أن يمنعها منه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - لا يمنعها؛ فإن المرض غيبٌ
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 71.

(15/442)


ولا تتأذى في الحال، ولو فتحنا هذا الباب، لطال نظرنا في منع الزوج إياها من مزيدٍ في القدر تتعاطاه من الطعام، وفي تكليفها أموراً ظنيّة، وإن كان ما تتعاطاه مما يؤثر تأثير السموم، فلا شك في أنه يمنعها، كما يمنعها أن تقتل نفسَها.
ومما تعرض له الأصحاب في الخادمة أنها إذا احتاجت إلى إزالة الوسخ عن نفسها، ولو لم تفعل ذلك، لتأذت بالهوامّ والوسخ، ثم تأذت المخدومة بها إذا كانت [تخامرها] (1)، فيجب على الزوج أن يكفيَها ذلك، وقد يكون من حاجتها المشط، هكذا ذكره الصيدلاني، وهو حسن متجه.
وفي بعض التصانيف ليس لها المشط، فإنها إن تأذت، كان تأذيها بمثابة تأذيها بأمراضها، وليس على الزوج معالجةُ أمراضها فيما تتأذى به، وإنما عليه أن يهيىء لها ما سبق تمهيده. والأصح ما ذكره الصيدلاني، وليس تأذيها بالوسخِ من قبيل الأمراض؛ فإن الأمراض وإن كان يغلب طريانها في المدد، فليس مما يُقضى فيها بأنها ستكون لا محالة، وركوب الدرن والوسخ وتلبد الشعر، ووقوع الهوام، مما يقع وقوعَ الجوع، فيجب أن تُكفَى هذه الجهة، كما تُكفَى الحر والبرد.
10109 - فأما إذا طلبت المرأة الدهن لتترجل به، فقال الرجل: أما ما تتأذَّيْن به من وسخ، فعليّ أن أهيىء لك ما تستعينين به على إزالة ذلك، وأما الزينة بالترجل، فلست أبغيها منك، وهي حظِّي وليس من ضرورتك، فظاهر كلام الأصحاب أنه يجب عليه إقامة آلة الزينة لها، وليس يبعد من طريق الاحتمال ألاّ يجب ذلك لما أومأنا إليه، ولها الطيب، [ولم] (2) يوجب أحد على الزوج بذلَه لها ما يقطع الروائح الكريهة، ولا يتأتى قطعها إلا به كالَمْرتَك (3) في قطع الصِّنان، فهذا فيه نظر؛ فإن الماء قد يكفي فيه، مع استعمال ترابٍ أو غيره، فإن كان لا يتأتى القطع إلا بما ذكرناه، فنقطع
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل.
(2) في الأصل: فلم.
(3) المرتك: وزان جعفر، ما يعالج الصنان. معرّب، ولا يكاد يوجد في الكلام القديم (المصباح).

(15/443)


بتحصيله لها، فإن هذا مما [يؤذيها] (1) في نفسها، وعلى الفقيه ألاّ يَغفُل نظرُه عن الرواتب من هذه الأمور، وعما يطرأ بعارض.
والكحل لم يوجبه أحد وألحقوه بالطيب، ولم يختلفوا أنه لا يجب على الزوج مؤن المعالجة، كالأدوية ومؤنة الحجامة والفصد، وما في معانيها.
10110 - ومما يجب إعداده ماعون الدار كظروف الماء، والقِدْرِ للطبخ، وما في معناه من المغارف وغيرها مما يظهر التضرر بسبب فقدها، ثم ظروف الماء قد تكون خزفية، وقد تكون نحاسية، والسبيل فيها الإمتاع، كما ذكرناه في المسكن والمفارش، ويتجه أن تكتفي الخاملة بظروف الخزف، والشريفة تبغي النحاسية.
ويجوز أن يقال: طلب أواني النحاس من رعونات الأنفس، وليس كالمسكن، فإن المسكن الضيّق يغُمّ ويضر إضراراً بيّناً، والعلم عند الله.
وإذا تعلق الكلام بالكفايات، وأثبتت على خلاف المراتب، لم يكن استيعاب المقاصد منها بالمسائل، وإنما الممكن تمهيد الأصول على أقصى الإمكان في التقريب، والله المستعان.
فصل
10111 - المكاتب وإن كان موسعاً عليه، فنفقته نفقة المعسرين؛ فإن ملكه غيرُ تام، ولهذا قبض الشرع على يديه، ومنعه من الاستقلال بالنفس في التبرعات، وردّد الشافعي القولَ في نفوذ تبرعاته بإذن المولى.
والعبد ينفق نفقةَ المعسرين سواءٌ كان محجوراً عليه أو مأذوناً له في التجارة، وسواء ملكه المولى وفرعنا على أنه يملك بالتمليك، وسواء أذن له في إتلاف (2) جميع ما ملكه أو لم يأذن.
فأما إذا كان بعضه رقيقاً وبعضه حراً، وقد كثرت أمواله،
__________
(1) في الأصل: يرزيها.
(2) المراد بالإتلاف هنا الإنفاق.

(15/444)


[بالبعض] (1) الحر منه، فالذي أطلقه الأصحاب أن نفقته نفقة المعسرين لما فيه من نقص الرق، وكل ما يبنى على كمال، فمن بعضه رقيق فيه ملتحق بالأرقاء، كالشهادات والولايات.
وقال المزني: إذا كان غنياً ببعضه الحر، نظرنا إلى الرقيق منه والحر، فإن كان النصف منه رفيقاً، فيخرج نصف نفقة المعسرين، وهو نصف مُدّ ويخرج نصف نفقة الموسرين وهو مد، فيجتمع مد ونصف بهذا الاعتبار، وإن تفاوت مقدار الرق والحرية، فيتفاوت الحساب، والمتبع الاعتبار الذي ذكرناه، وهذا المسلك مشهور للمزني، ومعظم الأصحاب على مخالفته.
وذهب بعض أصحابنا إلى اتباعه واختيار مذهبه، وإلحاقه بمذهب الشافعي رضي الله عنه.
...
__________
(1) في الأصل: فالبعض.

(15/445)


باب الحال التي تجب فيها النفقة
قال الشافعي: " إذا كانت المرأة يجامَع مثلُها ... إلى آخره " (1).
10112 - النكاح في القواعد معدود من موجِبات النفقة، كالقرابة، وملك اليمين، ثم اشتهر في الطرق من الأصحاب ذكرُ قولين في أن النفقة تجب بالعقد أم بالتمكين، وهذان القولان مستخرجان من معاني كلام الشافعي وتعاليله في المسائل على ما قد ننبه على بعضها، على حسب مسيس الحاجة.
والغرض من منشأ القولين يتبيّن بما ننبّه عليه، فنقول: النفقات الدارّة لا تجري مجرى الأعواض على التحقيق، وإنما هي [كفاية] (2) في مقابلة ارتباط المرأة بحِبالة الزوجية؛ فإن للزوج سلطانَ منعها عن التبسط، فقابل الشرع ما أُثبت له من الاحتكام عليها بإيجاب كفاية مؤنها عليه، والصداق هو المذكور على صيغة [الأعواض] (3) في مقابلة البضع، ثم صح عند المحققين أنه خارج عن حقائق الأعواض، فإذا كان لا ينتصب الصداق عوضاً محققاً، فالنفقات لا يتخيل ثبوتها عوضاً في العقد، ولكن انقدح معنيان: أحدهما - احتباسها بالعقد على الزوج، والآخر - تمكينها الزوجَ من الاستمتاع.
ولم يختلف العلماء أنها لو نشزت، فلا نفقة لها في زمان النشوز، فلما لم تكن النفقة عوضاً لمنافع البضع حتى يتوقف استقرارها على توفية المنافع، كما يتوقف استقرار الأجرة على توفية المنافع المقابَلَةِ بها مقابلةَ الأعواض على التحقيق، فقال قائلون: النفقة تجب بالعقد: معناه أنها تجب بالاحتباس الذي أوجبه العقد، وذلك
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 73.
(2) في الأصل: كناية.
(3) في الأصل: الأعراض.

(15/446)


مشروط بعدم النشوز، وللشافعي لفظ في (السواد) ينطبق على هذا، وهو أنه قال في نفقة الصغيرة: " ولو قال قائل ينفق لأنها ممنوعةٌ به من غيره، لكان مذهباً " (1) وهذا تعلق منه رضي الله عنه بما يقتضيه النكاح من المنع، وإشارة إلى أن سبب وجوب النفقة ذلك.
ثم هذا يعتضد بقواعدَ لا خلاف فيها، وهي أن المريضة التي لا تؤتَى تستحق النفقة، وإن انحسمت جميع وجوه الاستمتاعات بها، والرتقاء تستحق النفقة، وإن عسر مقصود النكاح عُسراً يُثبت الاطلاع عليه الخيارَ في فسخ النكاح، غير أنها إذا نشزت وامتنعت على زوجها، أسقط الشرع نفقتَها؛ استحثاثاً لها على الطاعة، ودُعاءً إليها كما بين الله تعالى في لطيف كتابه، [ردّهن] (2) بالموعظة، والهجران في المضجع، والضرب إلى الطاعة.
وصاحب القول الثاني يقول: إيجاب المؤن على الزوج على مقابلة التمكين من الاستمتاع، فالتعويل على التمكين، ولا يُفرض التمكين على الحِلّ إلا في عقد.
ويتبين القولان بشيئين: أحدهما - أن الزوجين لو اختلفا: فقال الزوج: لم تمكّني، وقالت: مكنتُ، وذكرا على مُوجَب النزاع مدةً، وحاول الزوج سقوطَ النفقة بها (3)، وأرادت المرأة استقرارها في تلك المدة، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن القول قول الزوجة. والثاني - أن القول قول الزوج.
ولا خروج لهذين القولين إلا على القولين المذكورين في موجَب النفقة.
فإن قلنا: النفقة تجب باحتباسها في حِبالة النكاح، ودوامُها مشروط بعدم النشوزَ، فكأن الزوج يدّعي عليها النشوزَ، والأصل عدمُه، ولا حاجة بها إلى ادعاء التمكين، وإنما [تنفي] (4) النشوز.
وإن قلنا: موجِب النفقة التمكينُ، فهي تدعي صدورَ التمكين منها، والأصل
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 73.
(2) في الأصل: وُدّهن.
(3) الباء تأتي مرادفة لـ (في).
(4) في الأصل: يبقى.

(15/447)


عدمه، فالقول قول الزوج. فهذا أحدُ ما يبيّن القولين.
والثاني - إن نكح امرأة ولم يطلب زفافَها، ولم تُظهر المرأة وأهلُها امتناعاً، وتمادى على ذلك الزمنُ، فهل تستقر النفقة في زمان السكوت؟ على القولين المقدّمين، لست أشك في سماعهما من شيخي.
وقطع العراقيون بأن النفقة لا تثبت في زمان السكوت، وليس من الممكن القطع بهذا مع إجراء القولين في الاختلاف الدائر بين الزوجين، فنقول: إن قلنا: موجب النفقة العقد ولا تسقط إلا بالنشوز، فلم يصدر منها نشوز، فاستمرّت النفقة، واستقرت لقيام موجِبها، وانتفاءِ مسقِطها.
وإن قلنا: النفقة تجب بالتمكين كما تستقر الأجرة بالتخلية والتمكين، فلم يوجد من المرأة تمكين، كما لم يوجد منها نشوز، فلا تستحق النفقة.
هذا ما رأينا تصدير الباب به.
10113 - ثم إن الشافعي ذكر نفقة الصغيرة المنكوحة، وذكر النفقةَ على الزوج الصغير، والمسلك الذي نراه أقربَ إلى البيان وإيضاحِ الغرض، تفصيلُ الصور، ثم جمعها، فإذا نكح الرجل صغيرة لا يؤتى مثلُها لصغرها، فهل تثبت نفقتها؟ فعلى قولين منصوصين للشافعي، وتوجيه القولين يعسر افتتاحه، مع القطع بأن المريضة المُدنِفة تستحق النفقة، لا نعرف في ذلك خلافاً، فإذا تعلق موجِب النفقة بذلك، عسر على ناصر القول الثاني الفرق، وليس على قول من يقول: [لا تنحسم جميع وجوه الاستمتاع في حق المريضة معوّلٌ؛ فإن التصوير الحاسم لجميع وجوه الاستمتاع ممكنٌ في حق المريضة] (1).
والوجه في تنزيل القولين أن نقول: الصبا المانع، ثم الكبر الذي يتهيأ معه الوقاع مما يترتب على ترتيب الخلق وأطوار التردد، فكأن الصبية في نوبة من عمرها لا تقصد
__________
(1) في الأصل: معوّل في حق المريضة. وفي عبارة الأصل خلل ظاهر، هكذا: لا تنحسم جميع وجوه الاستمتاع معول، في حق المريضة؛ فإن التصور الحاسم لجميع وجوه الاستمتاع معوّل في حق المريضة، فإن التصوير الحاسم ممكن، والوجه تنزيل ...

(15/448)


للاستمتاع، وإنما يعتقد أوان الاستمتاع بعد الترقي عن الصغر المفرط، والأمراض عوارض لا ترتّب لها، ولا تعدّ من الأطوار التي يقع عليها أدوار النشوء، فلم ير الشرع اعتبارَها، وأمّا الرتَق، فأمر دائم لا يزول، وهو من ضرورة الخلقة، والنكاح يدوم، فلو أسقطنا نفقتها، لأدمنا حبسها من غير كفاية.
فإذا وقع التنبه لهذا، وظهر تميز الصغيرة عن المريضة، والرتقاء، فنوجه القولين بعد ذلك ونقول: تستحق النفقة للاحتباس، وهذا تعليل الشافعي وينطبق هذا بعد التحرز عن المرض والرتق- على ما ذكرناه من القولين في أن النفقة تجب بماذا؟
ومن لم يوجب النفقة لم يعتبر الصّغر بالمرض، واعتضد بأن الصغيرة لا تعدّ في العرف محتبسة بالزوجية، بل هي محتبسة بصغرها، والاستمتاع مرقوب ودرور النفقة موقوف على أوان الاستمتاع.
هذا إذا نكح الرجل صغيرة.
10114 - فأما إذا زُوِّجت امرأةٌ من صغير لا يتأتى الاستمتاع منه، ففي المسألة قولان أيضاًً، أما وجه وجوب النفقة، فبيّنٌ؛ فإن المانع في الزوج، والمرأةُ [متهيئة] (1)، وأما من أسقط النفقة، فتعويله ما قدمناه، من أنّ الصغر لم يعدّ في عرف أهل الدين من نُوب المطالبات بالنفقة، والأولى ترتيب القولين في صغره على القولين في صغرها، فإن قلنا: صغرها لا يسقط النفقة، فلأن لا يسقط صغره النفقةَ أولى.
وإن قلنا: صغرها يسقط النفقةَ بخلاف مرضها، ففي صغره قولان، والفارق أن الصغر من جانبها مانع في محل التمكين، بخلاف الصغر في جانبه.
ولو زوجت صغيرة من صغير، والصغر من كل واحد منهما مانع فالقولان في النفقة جاريان، وهما مرتبان على القولين في صغره. وإن أحْبَبْتَ رتبتهما على القولين في صغرها والزوج كبير.
10115 - وإن جمعنا الصور وأردنا أن نجريَ الأقوالَ في جميعها، قلنا: أحد الأقوال - أن الصغر ينافي وجوبَ النفقة في أي جانب فرض، والثاني - أنه لا ينافي
__________
(1) في الأصل: متهمة.

(15/449)


وجوب النفقة في أي جانب كان، والثالث - أن الصغر فيها ينافي وجوب النفقة، والصغر فيه لا ينافي وجوب النفقة.
ويجري قول رابع أن الصغر فيهما ينافي وجوب النفقة، والصغر في أحدهما لا ينافي الوجوب.
وسرّ هذا الفصل في تمييز الصغر عن البرص والرتق، وتنزيل القول فيه على نوب الخلقة، أو على احتباس المرأة بالعقد.
واختار المزني أن صغرها يسقط النفقة وصغر الزوج لا يسقط النفقة، إنما ذكرت اختيار المزني؛ لأن الفطن قد يرى إسقاط النفقة لصغر المرأة على خلاف القياس، وإذا اعترض مثلُ هذا الظن ورأينا المزني على مخالفته، قوي الاعتضاد بمذهبه.
وفي بعض التصانيف أن البالغة إن نكحت صغيراً على علم، ففي نفقتها قولان، كما ذكرناهما، وإن نكحت ولم تعلم صغر الزوج، استحقت النفقةَ قولاً واحداً.
وهذا التفصيل لم أره لأحد من الأئمة المعتبرين، وما يُسقط النفقة لا يختلف بالجهل والعلم. [والعلم] (1) عند الله.
فصل
في التمكين ومعناه والنشوز المسقط للنفقة، والأسباب المانعة من الاستمتاع التي تجب النفقة معها.
10116 - وأما التمكين، فإذا قالت المرأة المستقلة، أو قال أهلها -إن كانت محجوراً عليها- مهما سُقْتَ الصداقَ، زففناها، فهذا تمكين، فإذا أعرض الزوج، وامتدت المدة، استقرت النفقة، فإن نفقة الزوجية لا تسقط بمرور الزمن بخلاف نفقة القرابة، ولا يتوقف استقرارها دَيْناً في الذمة على قضاء القاضي وفرضِه،: خلافاً لأبي حنيفة (2)، هذا تصوير التمكين، ولو فرض السكوت، فقد أثبتنا جريان القولين في صدر الباب.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 223، فتح القدير: 4/ 394.

(15/450)


ولو كانت صغيرة لا يتأتى وقاعها، ورأينا إيجاب النفقة للصغيرة، فلا حاجة في تقرر النفقة في الصغر على وعدِ الزفاف عند إمكان الاستمتاع، بل تستقر النفقة في الصغر مع السكوت وترك التعرض وفاقاً، وإذا حان زمان الإمكان، [فتصوير] (1) التمكين والسكوت على ما مضى، ولا يتوقف إمكان الاستمتاع على البلوغ؛ فإن الاستمتاع ممكن قبله، وكذلك لا يتوقف تمكن الزوج من الاستمتاع على بلوغه، فإن الصبي ينتشر ويجامع.
ولو كانت المرأة مريضة لا يتأتى وقاعها، فنفقتها دارّة وإن امتنعت عن الاستخلاء بالزوج، ولو قال الزوج: زفوها إليّ، وأنا أمتنع عن وقاعها إلى أن [تشتد] (2)، لم يؤتمن عليها، هذا إذا ثبت المرض المانع، وإن أنكر الزوج امتناع الوقاع، فشهدت أربع نسوة على المانع، ثبت [المرض] (3) وقرت النفقة. وإن شهدت امرأة واحدة، ففي بعض التصانيف في ذلك وجهان، ذكرهما العراقيون، وتحصيل القول فيهما يؤول إلى أنا هل نكتفي في هذا المقام بخبرِ من يوثق به، وتقبل روايته؟ فعلى الخلاف الذي ذكرناه، والسبب في هذا التردد طريان العوارض عند فقدان أربع [يشهدن] (4).
ولو لم يكن بالحضرة شاهدة، وكانت في بيتها على ظاهر الصّحة، فادعت سبباً باطناً لا يبعد صدقها فيه، وزعمت أنه ينالها من الوقاع شدةُ ضرر، فلا تصدّق، ولها أن تحلّف زوجها على نفي العلم. ولو كانت على دَنَف ومرض ظاهر، ولكن كان لا يثبت ما ينالها من الضرر بمجرد ما يشاهَد منها، فهو كما لو كان ظاهرها الصحة.
هذا قولنا في التمكين، وما يليق به.
10117 - وأما النشوز، فإذا توفر عليها حقها، ووجب عليها تسليمها نفسها، فأبت، فهي ناشزة، ولا نفقة لناشزة بالاتفاق.
__________
(1) في الأصل: بتصوير.
(2) في الأصل: تستبد. والمثبت من صفوة المذهب.
(3) في الأصل: الغرض. والمثبت من تصرّف المحقق.
(4) في الأصل: شهدن.

(15/451)


ولو امتنعت، فكان الزوج قادراً على ردّها إلى الطاعة، فنفقتها تسقط، ولا نكلِّف الزوجَ معاناةَ ردّها وإن قدر عليه.
ولو امتنعت على زوجها في دار زوجها، فهي ناشزة، إلا أن يكون ذلك [محاولَة] (1) دلال يغلب جريانه من اللواتي لا امتناع بهن، ولا يخفى تمييزه عن النشوز.
ومن القواعد أنها لو فارقت مسكن النكاح غاضبة، فهي ناشزة، ولو فارقته بإذن الزوج في شغلِ الزوج، أو سافرت كذلك في شغله، فنفقتها دائمة، ولو خرجت أو سافرت بإذن الزوج في شغل نفسها، ففي سقوط النفقة قولان: أحدهما - أنها لا تسقط لإذن الزوج واتصافها بنقيض المخالفة. والقول الثاني - أن النفقة تسقط؛ فإنها استبدلت عن تمكينها شغلاً لها، فيبعد أن يجتمع لها قضاء وطرها من شغلها ودرور النفقة، وهذا الاختلاف له التفات على القولين المذكورين في صدر الباب: فإن قلنا: النفقة لا تسقط إلا بالنشوز، فهذه ليست بناشزة، وإن قلنا: لا تجب النفقة إلا
بالتمكين، فهذه ليست ممكنة.
10118 - فهذا قواعد الكلام في التمكين والنشوز، والأعذار العارضة، ونحن نفضّ عليها مسائل مقصودة في أنفسها، وهي تفيد تمهيدَ الأصول.
فمما ذكره المزني إحرام المرأة، والقول في ذلك يتفصّل، فنذكر التفصيل فيه إذا أحرمت بإذن الزوج، ثم نذكر التفصيل فيه إذا أحرمت بغير إذنه.
فأما إذا أحرمت بإذن الزوج، فلا يملك الزوج تحليلها لصَدَر الإحرام عن إذنه، ثم لها حالتان: حالة إقامة، وحالة ظعن: أما إذا ظعنت مسافرة آمّة بيت الله، فهي مسافرة بإذن زوجها في شغل نفسها، ففي سقوط نفقتها في هذه الأيام قولان جاريان إلى أن تقضي نسكها، وتؤوب إلى زوجها.
فأما إذا أحرمت وبقيت في مسكن النكاح أياماً إلى اتفاق الخروج، فالذي تحصّل
__________
(1) في الأصل: بجانبة دلال. والمثبت تصرف من المحقق.

(15/452)


لنا من طرق العراق وغيرها طريقان: ذهب الأكثرون إلى وجوب النفقة؛ فإنها تحت يد الزوص وامتناع [الوقاع] (1) صادر عن إذنه.
ومنهم من قال: في سقوط نفقتها قولان، كما لو خرجت؛ فإن الوقاع قد امتنع، وتبعه امتناع جميع وجوه الاستمتاع، فلا أثر لكونها في المسكن، ولا فرق بين إقامتها وظعنها، وهذه الطريقة أقيس، وطريقة القطع أشهر في الحكاية.
ولو أحرمت بإذن الزوج، وهمت بالخروج فنهاها الزوج عن الخروج، فالذي حكاه الصيدلاني عن القفال أنه كان يقول: تسقط النفقة إذا خرجت على مخالفته قولاً واحداً، والذي يقتضيه كلام الأئمة في الطرق إجراء القولين، وقد حكاهما الصيدلاني عن الأصحاب، والوجه فيه أنها إذا لابست الإحرام، فلا خلاص لها ما لم تلْقَ البيتَ، فكأن الزوج ورطها في ذلك، والوجه ما ذكره الأصحاب.
وكل ذلك وإحرامها بإذن الزوج.
10119 - فأما إذا أحرمت بغير إذنه، فللشافعي قولان في أن الزوج هل يملك تحليلها، وهل يفصل بين حج الفرض وحج التطوع؟ فيه تفصيل ذكرناه في باب الحصر من كتاب الحج، فإن قلنا: يملك الزوج تحليلها، فإن حللها، استمرت النفقة وزال المانع، وإن لم يحللها، فالذي ذهب إليه الجماهير أن نفقتها لا تسقط ما دامت مقيمة؛ فإنها في قبضته والزوج مقتدر على تحليلها، وفي بعض التصانيف حكايةُ وجهٍ أن نفقتها تسقط؛ فإنها فعلت ما يتصور منها، والإحرام على الجملة مانع، وقد ترتاع نفس الزوج عن تحليلها، ويمكن أن يقال: قدرته على تحليلها بمثابة قدرته جملى رد الناشزة عن استعصائها. ولو خرجت، لم يخْفَ أنها ناشزة.
هذا إذا قلنا: يملك الزوج تحليلها. فأما إذا قلنا: لا يملك الزوج تحليلها، فلا يملك أيضاًً منعَها من الخروج، فلا نفقة لها إذا خرجت؛ فإنها لم تستأذن زوجها، وهل لها النفقة ما دامت مقيمة إلى الخروج، فالوجه عندنا القطع بأنها لا تستحق
__________
(1) في الأصل: الوفاق. والمثبت تصرف من المحقق.

(15/453)


النفقة. وذكر الصيدلاني في ذلك وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - تستحق النفقة؛ فإنها لو أرادت التحلل، لم يمكنها، وإنما يُقضَى عليها بالنشوز إذا تمادت ي امتناعٍ هي [قادرة] (1) على النزول عنه والرجوع إلى الطاعة (2).
وهذا يقرب بعضَ القرب من مسائل ذكرناها في كتاب الصلاة: منها أن من ردَّى نفسه من شاهق، وانخلعت قدماه، وصلّى قاعداً أياماً ثم [استبل] (3)، فهل يلزمه قضاء الصلوات التي أقامها قاعداً؟ فيه تردد.
والوجه عندنا ما قدمناه من إسقاط النفقة؛ فإن الامتناع إذا نسب إليها، كفى ذلك في سقوط ما تستحق على مقابلة التمكين.
فأما الرخص؛ فإنما يمتنع ثبوتها بسبب العصيان، والعصيان يتحقق في الأفعال الاختيارية، وقد انقضى عصيان المُرْدي نفسه.
ولم أر هذين الوجهين إلا للصيدلاني.
10120 - ومن المسائل التي نذكرها صيام المرأة: أما الصيام في رمضان فلا يُسقط نفقتها، وهو بمثابة اشتغالها بوظائف الطهارات والصلوات في أوانها، ويعترض في ذلك أنا إذا جوزنا للمرأة أن تخرج لحجة الإسلام، وإن كان لا يحرم عليها التأخير، فهل تستحق النفقةَ كما تستحق في أيام رمضان، أم كيف السبيل فيه؟ هذا فيه تردد؛ من جهة أن الحج لا نوجب ابتداره على الفور. ونحن وإن جوزنا لها الخروج لتتخلص من [الغرر] (4)، فيبعد أن تستفيد ذلك، وتترك ناجزَ حق الزوج، ونفقتُها دارّة، ويجوز أن يقال: هي مقيمة فرضَ الإسلام، ولم نمنعها من إقامته على القول الذي انتهى التفريع إليه.
__________
(1) في الأصل: نادرة.
(2) المعنى أنها ليست ممتنعة على الزوج بإرادتها فهي غير قادرة على التحلل، وأما النشوز فهو الامتناع مع القدرة على الإجابة.
(3) في الأصل: استبدّ. واستبلّ: أي شفي وتعافى.
(4) في الأصل: العذر. والمثبت تقدير من المحقق. ثم المقصود بالغرر هنا الخطر في تأجيل الحج ومفاجأة الموت.

(15/454)


ولا ينبغي أن يعتمد الفقيه في الفرق بين الصوم وبين الحج تخلل الليالي، فإنها لو كانت تنشز نهاراً وتمكِّن ليلاً، لم يُطلق القول بثبوت نفقتها، وقد أجرينا في هذا اختلافاً [وتردّداً] (1)، ولا خلاف أن نفقتها لا تسقط في صوم رمضان.
ولو كانت صائمة تطوّعاً أو نذراً لم يصدر عن إذن الزوج: أما صوم التطوع، فللزوج قطعه عليها، وفي صوم النذر ترتيب: فإن نذرت في الزوجية من غير إذنه، كان له قطعه عليها، فنقول: إذا كان يملك القطع، فقد ذكر العراقيون أنه لا تسقط نفقتها، وهو مما كان يقطع به شيخي.
وفي بعض التصانيف وجهان، وقد ذكرنا نظيرهما في الإحرام على قولنا: للزوج أن يحللها إذا أحرمت بغير إذنه.
والوجه عندنا ترتيب الصوم على الإحرام؛ وذلك أن الزوج يُقدِم على الاستمتاع بالصائمة من غير تقديم أمرٍ، ويكون استمتاعه بها تحليلاً، وهذا لا يتحقق في الإحرام؛ فإنه يجب عليه أن يحللها أولاً، ثم يستمتع بها، فإن لم يكن من إجراء الخلاف بدّ على ما ذكره بعض المصنفين، فالوجه ترتيبه على الخلاف المذكور في الإحرام، وطريق العرف (2) ما أشرنا إليه.
هذا إذا أصبحت صائمة والزوج قادر على الاستمتاع، وقد ساغ له قطع الصوم عليها.
وأما إذا حاول إفساد الصوم عليها، فامتنعت، فقد ذكر العراقيون وجهين في أن نفقتها هل تسقط في ذلك اليوم، ولعلهم قالوا هذا في يومٍ أو أيام قلائل مفرقة على كُثر الأيام وسأبيّن أصله.
فأما إذا أكثرت الصيام، وامتنعت لأجل الصيام على الزوج نهاراً، فيجب القطع بتنزيل ذلك منزلة النشوز منها في تلك الأيام مع التمكين ليلاً، ثم لا يخفى التفصيل.
10121 - ونحن الآن نجمع فصولاً تَمَس الحاجة إليها فنقول: لا شك أن الزوج
__________
(1) في الأصل: مترداً.
(2) كذا. ولعلها طريق (القطع): أي القطع بعدم سقوط النفقة. والله أعلم.

(15/455)


لا يمنع الزوجة من وظائف الشريعة المفروضة، ولو أراد أن يمنعها عن إقامة الصلاة في أول الوقت، ففيه اختلاف مشهور بين الأصحاب.
وكذلك لو منعها من إقامة السنن الرواتب، ففيه الخلاف أيضاً؛ فإن في تعجيل الصلاة فضيلة، والزوج بتكليفها التأخير يفوّتها عليها.
وكان شيخي يجري الخلاف في صومها في يوم عرفة وعاشوراء؛ فإن الأخبار المُرغِّبة فيها ظاهرة، فنزل صومها منزلة اشتغالها برواتب السنن.
وأما إذا كانت تعتاد صوم الأثانين والخمايس، فللزوج منعها من المواظبة على ذلك؛ فإنها لو [فعلت] (1) هذا على مخالفة الزوج، لكانت معطِّلة عليه أياماً من الشهر، وما حكيناه من خلاف العراقيين في صوم يومٍ هو بالإضافة إلى الأيام بحيث لا يعد قادحاً في استمرار الاستمتاع.
ولست أردّ فكري إلى ضبطٍ فيه، ومعتقدي أنها ناشزة إلا في صوم عرفة وعاشوراء، ثم في صومها الخلاف الذي ذكرته في رواتب السنن.
هذا إذا كان الزوج يرهقها (2)، وأما إذا أتت بما يبدو لها من صوم في غيبة الزوج، فلتفعل من هذا ما بدا لها، ولو أرادت أن تحج، فتفصيله في كتاب الحج.
وإن فاتتها أيام من رمضان، فوقتُ القضاء السنةُ، فإن أرادت ابتدارَها، وأراد الزوج منعها من الابتدار، فهذا على الخلاف في تعجيل الصلاة وتأخيرها. فإن قلنا: لها أن تعجل القضاء، فالأولى أن نفقتها لا تسقط بخلاف الحج؛ فإنا وإن جوزنا الخروج فيه، فهو انقطاع عن الزوج إلى اتّفاق الأوبة.
هذا منتهى الغرض في هذه المسائل.
فرع:
10122 - إذا فارقت المرأةُ مسكنَ النكاح في غيبة الزوج ناشزةً، سقطت نفقتها بنشوزها، فإن عادت إلى المسكن، واستمرت على الطاعة، فهل نقول: تعود
__________
(1) في الأصل: " ملكت ".
(2) يَرْهقها: أي يقيم معها.

(15/456)


نفقتها بعودها إلى الطاعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن نفقتها تعود كما (1) عادت؛ فإن علة سقوط النفقة [النشوز] (2) وقد زال.
ومن أصحابنا من قال: لا تعود نفقتها بنفس العَوْد إلى الطاعة، حتى يعلم الزوج عودَها إلى الطاعة على ما سنصفه الآن، فإن حكمنا بعَوْد النفقة، فلا كلام، وإن حكمنا بأن النفقة لا تعود بنفس العود إلى الطاعة، فلو جاءت إلى القاضي وأخبرته، والتمست منه أن ينهي إلى البلدة التي بها الزوج عودَها إلى الطاعة، فإذا فعل القاضي ذلك، ومضى زمان بعد بلوغ الخبر لو أراد الزوج الرجوع فيه، لرجع، فإذا مضت هذه المدة، فتعود نفقتها حينئذ.
وذكر الأصحاب إعلامَ (3) الزوج القاضيَ ورفْعَ الأمر إليه، ولست أرى الإعلام مقصوراً على القاضي، [فلو] (4) حصل الإعلام من جهة أخرى لا يمتنع أن يكفي، ولكن فحوى كلام [الأصحاب] (5) يشير إلى أنه لا بد من حكم الحاكم بعودها إلى الطاعة، وهذا يبعد اشتراطه.
10123 - ومن تمام البيان في ذلك أن المرأة لو ارتدت بعد المسيس في غيبة الزوج، ثم عادت، فالمذهب أنها لا تستحق النفقة في زمان الردة.
ومن أثبت من أصحابنا للمشركة المتخلفة عن إسلام الزوج النفقة إذا هي أسلمت في العدة في أيام شركها، خرّج وجهاً في أن المرتدة تستحق النفقة إذا عادت قبل انقضاء العدة، وهذا بعيد جداً، والجريانُ على أن نفقتها تسقط بالردة.
فإذا أسلمت قال العراقيون: عادت نفقتها، وإن لم يبلغ الخبرُ الزوجَ، وأما أئمتنا المراوزة، فإنهم لم يفصّلوا بين أن يكون سقوط النفقة بالردة، وبين أن يكون سقوطها بالخروج من مسكن النكاح.
__________
(1) كما عادت: أي عندما عادت.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: "في إعلام الزوج".
(4) في الأصل: ولو.
(5) زيادة اقتضاها السياق.

(15/457)


والذي أرى نظمَه بعد ذلك أن نشوزَها إن ظهر وانتشر، فتَركَتْه ورجحت إلى الطاعة، ففي عَوْد النفقة واشتراط [الإعلام] (1) الخلافُ الذي ذكرتُه، والظاهر في النقل اشتراطُ الإعلام، وانقضاءُ مدة الرجوع.
وإن جرى نشوز خفي من غير إظهار، ثم فُرض العَوْد إلى الطاعة، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بأن لا اشتراط للإعلام، بخلاف النشوز الظاهر، ومنهم من أجرى الخلاف. هذا هو التفصيل في ذلك.
فصل
قال الشافعي: " ولا يبرىء الزوج من نفقتها ... إلى آخره " (2).
10124 - أشار إلى ما قدمناه من أن استقرار نفقة الزوجية لا يتوقف على فرض القاضي، فلو مرت الأيام، والنفقة منقطعة واستحقاقها دائم، فتصير وظائف تلك الأيام دَيْناً، ولا شك أن هذا فيما يشترط التمليك فيه، فأما ما يستحق فيه الإمتاع، فالإمتاع في الزمن الماضي لا يتصور استدراكه.
ثم ذكر الشافعي أن الزوج والزوجة إذا اختلفا، فأنكرت المرأة قبضَ النفقة، وادّعى الزوج تسليمها، فالقول قول المرأة، فإن الأصل عدمُ القبض، قياساً على الديون، ولا فرق بين أن يكون الزوج غائباً أو حاضراً، وقصد بهذا الرد على مالك (3)، فإنه قال: إذا كان الزوج حاضراً، فالقول قوله، وزعم أن الغالب أنه ينفق، وهذا إنما قاله والزوجة معه في الدار، ونحن لا نفرق.
ثم ذكر الشافعي تفصيلَ القول في نفقة الكافرة إذا تخلفت عن إسلام الزوج، ثم أسلمت في العدة، وقد ذكرنا ذلك مستقصىً في نكاح المشركات وذكر طرفاً من نفقة زوجة العبد، وقد تقدم استقصاء جميع ذلك، ولله الحمد والمنة.
...
__________
(1) في الأصل: الأعمال.
(2) ر. المختصر: 5/ 74.
(3) ر. المدونة: 2/ 192، عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/ 1398 مسألة 979.

(15/458)


باب الرجل لا يجد النفقة
قال الشافعي: " ولما دل الكتاب والسنة على أن حق المرأة على الزوج أن يعولها ... إلى آخره " (1).
10125 - إذا أعسر الرجل بنفقة امرأته، وتحقق ذلك، فالمنصوص عليه في معظم الكتب أنه يثبت حقُّ رفع النكاح، وقال الشافعي في تحريم الجمع: لا يثبت حق رفع النكاح، ففي المسألة قولان إذاً، وتوجيههما مستقصىً في طيول المسائل، ولكنا نذكر المقدار الذي يُقْنع، ويتعلق بضبط المذهب:
من قال: لا يثبت لها حق رفع النكاح احتج بأن النفقة من التوابع، ومقصود النكاح المستمتع، وهو بعيد عن الفسخ، والمطالبةِ بالرفع، فلا يجوز طلبُ رفعه بتعذرِ تابعٍ، ويتبين كون النفقة تابعة بكونها غير معقودٍ عليها.
ومن نصر القولَ الثاني اعتقد كفايةَ المؤن في جانبها حقَّها المطلوب؛ فإن استحقاق الاستمتاع للرجل، ولا استحقاق للمرأة إلا في كفايتها، ثم تعذرُ الاستمتاع -التي هي تابعة فيه غير مستَحِقة- يُثبت لها حقَّ الفسخ، فلأن يثبت لها حق الفسخ بتعذر ما هو مقصودها المطلوب، وحقها الذي يوصف باستحقاقِه وملك طلبه أولى.
ثم الكلام بعد هذا التمهيد في فصول: أحدها - في تفصيل التعذر الذي يناط به حق الرفع. والثاني - فيما يتعذر من المؤن. والثالث - في تفصيل الرفع وكيفيته.
والرابع - فيمن يثبت له هذا الحق، ثم إن شذت مسائلُ عن مضمون هذه الفصول، رسمناها فروعاً.
10126 - فأما القول في معنى التعذر: فإن كان الزوج ينفق يوماً فيوماً، فلا تعذر
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 76.

(15/459)


والنكاح على استمراره، وإن كانت تعتقد أن كسبه إنما يفي بحاجات [الصّيف] (1) وهي [تظنّ] (2) أنها لو أخرت الفسخ إلى الشتاء، لم تُخطب ولم تطلب (3)، فهذا من [الوساوس] (4) وللأحوال تحوّل، فلا يثبت حق الرفع قبل وقوع التعذر.
ولو لم يجد ما ينفقه، ولم يستمكن من كسبِ يجمع القوتَ، فهذا هو الإعسار.
ولو كان غنياً، ولكنه امتنع عن الإنفاق، فللأصحاب طريقان: فمنهم من قطع بأن حق [الرفع] (5) لا يثبت، ولكنها تحرص على تحصيل حقها من زوجها، فإن تمكنت، فذاك، وإلا استعاذت بمن إليه الأمر.
ومن أصحابنا من جعل في الامتناع قولين؛ فإن النظر إلى التعذر، وقد تحقق التعذر.
والذي يجب القطع به أنها إذا قدرت على تحصيل حقها بأخذ طائفة من ماله، أو كان التحصيل ممكناً بالوالي على قُرب، فهاهنا [نقطع] (6) بأنه لا يثبت الفسخ، وإن كان لا تمتد يدها إلى ماله، وكان التحصيل بالوالي عسراً، فهذا محل الطريقين.
فإن قيل: خصصتم حقَّ فسخ البيع والرجوع إلى المبيع بإفلاس المشتري. قلنا: إذا امتنع عن توفية الثمن، ففي إثبات حق الفسخ كلام ذكرناه في البيع، ثم في الإفلاس.
ولو كان الرجل كسوباً، ولم يكن ذا مال، فامتنع من الاكتساب، فهذا إعسارٌ
__________
(1) في الأصل: المضيف.
(2) في الأصل: تضمن.
(3) المعنى أنها تريد رفع النكاح من الآن (الصيف) مع أن زوجها يملك نفقة الصيف بطوله، وهي تخشى إن أخرت إلى حين تحقق الإعسار في الشتاء، أن تضيع منها فرصة الخاطب الطالب للزواج منها. فلا يحق لها ذلك، فإن هذا من الوساوس، والأحوال قد تتبدّل وتتغير، ويصبح زوجها واجداً لنفقة الشتاء وما بعده.
(4) في الأصل: المساوس.
(5) في الأصل: حق الزوج.
(6) في الأصل: فقطع.

(15/460)


بالنفقة على التحقيق، وإن كان متمكناً من تحصيل النفقة بالكسب، [وسيأتي] (1) فصلٌ جامع في أنا هل نوجب على الرجل أن يكتسب لينفق على غيره، وقدر غرضنا الآن ما نصصنا عليه.
10127 - فأما القول فيما يتعلق حق الرفع بتعذره (2)، فالقوت هو الأصل، فإذا تعذر كله، ثبت حق الرفع، وكل هذه الفصول وما يتبعها من الفروع تبنى على إثبات حق الرفع لا محالة.
10127/م- وإذا بأن ما ذكرناه في القوت، فأول مذكور بعده الإعسار بالصداق، فإذا أعسر الزوج بالصداق، لم يخل إما أن يكون ذلك قبل المسيس وإما أن يكون بعد المسيس، فإن كان قبل المسيس، ففي المسألة طريقان: إحداهما - أن المسألة تخرّج على قولين في حق الرفع قياساً على الإعسار بالقوت.
والطريقة الأخرى وهي المرضية أنه لا يثبت حق الرفع؛ فإن الصداق ليس على حقائق الأعواض؛ إذ رده لا يوجب ارتدادَ النكاح وفسادَه، فتعذره ينبغي أن لا يسلِّط على رفع النكاح، وليس الصداق مؤونةً دارّة وكفاية عامةً بخلاف النفقة، فإذا خرج عن كونه كفاية، وعن كونه عوضاً محققاً، بَعُد أن يُثبت الإعسارُ به حقَّ الرفع.
هذا إذا لم يجر المسيس.
فإن جرى دخولٌ ومسيس، فقد تقدم في أحكام الصداق أن المرأة، إذا مكنت مرة، لم يكن لها منعُ نفسها عن زوجها ليوفر الصداق، بل تسليمُها نفسَها مرة يُلزمها التسليمَ أبداً.
ولو استكرهها الزوج أول مرة ووطئها، فقد استقر مهرها، وهل يبطل حقها في حبس نفسها عن الزوج؟ فعلى وجهين تقدم ذكرهما فيما تقدم.
وإذا تجدد العهد بهذا، فلو فُرض الإعسار بالمهر بعد المسيس، فالذي قطع به الأئمة أنه لا يثبت لها حق الفسخ قولاً واحداً.
__________
(1) في الأصل: فسيأتي.
(2) هذا هو الفصل الثاني.

(15/461)


وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من يطرد القولين بعد المسيس، وهذا غلط صريح غير معتد به؛ من جهة أنا لو أثبتنا حقَّ الفسخ بالإعسار بالمهر بعد المسيس، [لزمنا] (1) أن نثبت لها حق منع النفس إذا مكنت مرة، وهذا أهون من التسليط على رفع النكاح. فإن تشبّث من يطرد القولين بخلافٍ في منعها نفسها، لم يقبل ذلك [منه] (2)، وكان كلاماً مسبوقاً بإجماع الأصحاب.
وإن سلم أن حق الحبس لا يثبت بعد جريان وطئه، فلا مطمع في الفرق.
ومما يتصل بهذا الفصل الكلامُ في المفوّضة، فإذا رضيت المرأة إسقاط المهر من النكاح، فالقولان في أنها هل تستحق المهر بالنكاح مذكوران على أكمل وجه في البيان. فإن قلنا: لا يثبت للمفوضة مهر مثلها، فلها حق طلب الفرض، ثم إذا فرض لها وتحقق الإعسار، التحق تعذر المفروض بتعذر المهر المسمى.
وإن قلنا: إنها تستحق بالعقد المهرَ، وتحقق التعذر، فهل يتوقف حق الفسخ -إذا أثبتنا حقَّ الفسخ في المهر- على أن يفرض لها أم تملك الفسخ قبل الفرض؟ فعلى وجهين لا يخفى توجيههما على من أحاط بأسرار التفويض، ولم يخف عليه أصل الباب.
هذا قولنا في المهر.
10128 - ولو كان الزوج موسراً فأعسر، [فنفقتُه] (3) نفقةُ المعسرين، ولا نقول: تعذر المُدّ الزائد، بل رجعت وظيفة النفقة إلى هذا المقدار.
ولو كان يَقْدِر كلَّ يوم على نصف مدّ، وأقل النفقة مد، فهل يثبت للمرأة حقُّ الفسخ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبت، وإليه صار الجماهير. والثاني - وهو مذكور في بعض التصانيف أنه لا يثبت لها حق الرفع؛ فإن نصف القوت كفافٌ على حالٍ.
ولو كان يقدر على تحصيل ثلث المد، فلها حق الرفع، والذي ذكرناه من الخلاف
__________
(1) في الأصل: لزماً.
(2) في الأصل: منها.
(3) في الأصل: فنقصه.

(15/462)


مخصوص بالنصف، وهو مأخوذ من عرف متأيد بقول الشارع، وذلك أن القوت الكافي إذا شارك الرجلَ فيه مؤاكل، فبالحري أن يمكن [تزجية] (1) الوقت به؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طعام الواحد يكفي الاثنين " (2).
وهذا بعيدٌ؛ فإن النفس في الغالب لا تقوم بنصف مد، وإن تَزجّى يومٌ على هذا، لم يحتمل استمراره.
فأما الإعسار بالأُدم، فالذي عليه الأئمة أنه لا يُثبت حقَّ رفع النكاح، قال الشيخ أبو حامد: لست أقول غير هذا [و] (3) إن قاله غيري، وهذا تشبيبٌ منه بخلافٍ في الأُدم، هكذا حكاه الشيخ أبو علي عنه، ثم قال: يحتمل عندي احتمالاً ظاهراً أن يثبت حق الفسخ، بتعذر الأدم، لأنه من النفقة، ولا يخلو عن استحقاقه نكاح، وليس كنصف المدّ في حق المتوسط، ولا كالمد الزائد في حق الموسر؛ [فإنه] (4) إذا أعسر، سقط وجوب الزائد، ورجعت وظيفة النفقة إلى المد، والأُدم لا يسقط بحال، وإن تعذر، صار ديناً ملتزماً في الذمة، فكأنه جزء من القوت.
10129 - ومما اختلف الأصحاب فيه تعذُّر الكسوة والمسكن: فمن أصحابنا من أثبت حق رفع النكاح [بتعذرهما] (5)، لما في عدمهما من الضرر.
[ومنهم] (6) من لم يُثبت حقَّ الفسخ بهما؛ فإن النفس تقوم دونهما، وهذا لا يؤخذ من التردد في أن التمليك هل يراعى في الكسوة؛ فإن هذا إن كان يجري في الكسوة، فلا تردد في المسكن، والخلاف فيهما مطرد، ثم التمليك واستحقاقه
__________
(1) في الأصل: توجيه.
(2) حديث " طعام الواحد يكفي الاثنين " رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه (مسلم: الأشربة، باب فضيلة المواساة في الطعام القليل وأن طعام الاثنين يكفي الثلاثة، ونحو ذلك، ح 2059، الترمذي: الأطعمة، باب ما جاء طعام الواحد يكفي الاثنين، وابن ماجه: الأطعمة، باب طعام الواحد يكفي الاثنين، ح 1820).
(3) الواو زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: فإنها.
(5) في الأصل: وتعذرهما.
(6) في الأصل: فمنهم.

(15/463)


لا يُثبت حق الرفع، وإنما يُتلقى حق الرفع من الضرار العظيم، الذي لا تستقل به، سواء كانت إزالته بإمتاع أو تمليك.
وقد يتلقى مما ذكره الشيخ أبو علي وهو أنه لا يخلو عن استحقاقه نكاح.
وقد يعترض على هذه الطريقة نكتة لطيفة وهو أنا إذا جعلنا الكسوة إمتاعاً، فإذا عجز الزوج عنها، استحال أن نلزمه ما لا يقدر عليه، والإمتاع لا يقرّ ديناً في الذمة.
فينتظم من مجموع ذلك أن نكاح العاجز عن الكسوة خالٍ عن وجوبها، فليتأمل الناظر ذلك، وليردّ اعتماده إلى الضرار الذي ذكرناه.
واختلف أئمتنا في أن الإعسار بنفقة الخادمة هل يُثبت حقَّ الفسخ؟ وهذا قريب المأخذ من الإعسار بالكسوة والمسكن، فإن ضرر المخدومة يظهر بانقطاع الخدمة عنها.
فقد تحصَّل من مجموع ما ذكرناه تفصيلٌ في المذهب [يقطع] (1) عما نريد أن نذكره بعده.
ثم الإعسار بأقل النفقة مثبتٌ لحق الرفع، والخلاف الذي حكيناه في نصف المد بعيدٌ غيرُ معتد به، والزائد في حق المتوسط والموسر يسقط وجوبه أصلاً.
وفي الأُدم تردد، والأظهر أنه لا يتعلق بالإعسار به حق الرفع.
وفي الكسوة والمسكن خلاف ظاهر متأصل في المذهب؛ لأنه ضرار ظاهر، وإن كان النفس قد تقوم دون الكسوة والمسكن، فمن الممكن فرض حالة يُهلك العُريُ فيها، ويقرب من الكسوة المسكنُ.
والخلاف في نفقة الخادمة أظهر؛ فإن سقوط الخدمة محتمل على الجملة.
فهذا قواعد القول فيما يتعلق حق الرفع بالإعسار به، تفصيلاً وعقداً.
10130 - فأما الكلام في رفع العقد وجهته (2)، فهذا يتشعب ويتعلق بأطرافٍ: منها الكلامُ في ماهية الرفع، ومنها الكلام فيمن يرفع، ومنها الكلام في وقت الرفع.
__________
(1) في الأصل: مقطع.
(2) هذا هو الفصل الثالث من الفصول التي وعد بها الإمام أول الباب.

(15/464)


فأما القول في ماهية الرفع، فالظاهر أنه فسخ، فإنه منوط بتعذر حقٍّ مستحَق بالعقد، فكان فسخاً؛ اعتباراً بما يضاهي ذلك من الفسوخ، المتعلّقة بتعذر الحقوق.
وذكر بعض الأئمة قولاً آخر في المسألة: أن النكاح يُرفع بالطلاق.
فإن قلنا: الرفع فسخ، فهو إلى [المرأة] (1)، ولكن قال المحققون: ليس لها أن تفسخ ما لم تُثبت الإعسار أو الامتناع في مجلس الحكم، فإذا ثبت ذلك ببيّنة مقامة أو بإقرار الزوج، فحق الفسخ يثبت للمرأة.
وتمام هذا إذا أوضحنا الوقتَ والأجلَ إن كنا نرى ضربه (2)، ولكن حق الناظر أن يأخذ الكلام مرسلاً، ثم تفصيله موقوف على نجاز الفصل.
ثم إذا أثبتنا للمرأة حقَّ الفسخ، وقد ثبت الإعسار في مجلس الحكم، فالذي اقتضاه كلام المحققين أنها تنفرد بالفسخ في غير مجلس الحكم؛ فإن الذي يتعلق بمجلس الحكم إثباتُ علة الفسخ، [وسبيل] (3) ذلك إقامة البينات أو الأقارير الثابتة، والبيّنة لا تقام إلا في مجالس الحكام، والإقرار وإن كان يثبت في غير مجلس الحكم، فلا يُفضي إلى الغرض ما لم يثبت في مجلس الحكم، بأن يسمعه الحاكم أو تقوم بينة عليه، فإن المقر في غير مجلس الحكم قد يجحد، فلا يفيد ما سبق من الإقرار ثبوتاً.
فإذا تقرر الإعسار، فلا حاجة إلى الحكم والحاكم في إنشاء الفسخ.
ولو تحقق الإعسار، ففسخت المرأة قبل إظهار الإعسار في مجلس الحكم، ففي نفوذ الفسخ باطناً تردد وتقابلٌ في الاحتمال، ويظهر أثر هذا بأنها إذا ثبت التعذر أمس وقد فسخت، وثبت في مجلس الحكم الإعسار المتقدّم على فسخها، فهل نقول: تبين نفوذ الفسخ باطناً أمس، ثم يظهر ذلك الباطن بقضاء القاضي بالإعسار السابق، حتى لا تحتاج المرأة إلى إنشاء فسخ.
هذا محل التردد: فيه احتمالٌ ظاهرٌ لا ينكره الفطن، ولا يتجه مثل هذا في
__________
(1) في الأصل: المردة.
(2) المعنى أن هذا الكلام لا يتم إلا إذا أوضحنا وقت الفسخ، وحكم الأجل.
(3) في الأصل: أو سبيل ذلك.

(15/465)


الفسخ بالعُنة، فإن الفسخ لا يثبت بثبوت العنة؛ إذ الزوج إذا أقر بالعنة أُمهل مع إقراره سَنَة، ثم تلك المدة لا حكم لها ما لم يضربها الوالي.
فانتظم من ذلك أن ما يقتضيه كلام الأئمة أن الفسخ لا ينفذ ظاهراً وباطناً ما لم يثبت الإعسار في مجلس الحاكم.
ومن الأصحاب من أظهر تردداً في الظاهر والباطن على الترتيب الذي سقناه.
وهذا عندنا يحتاج إلى مزيد كشف، فإن لم يكن في الصُّقع حاكم ولا مُحَكّم، فيظهر ملك المرأة الفسخَ عند تحقق التعذر، وإن كان حاكمٌ، ففيه التردد، ولا نعدَم نظائرَ هذا في المسائل التي ترفع إلى الحكام إذا أمكن الرفع، ويثبت الحكم من غير حاكم إذا شغرت البقعة.
هذا كله تفريع على أن الرفع طريقه الفسخ.
10131 - فأما إذا قلنا: الرفعُ طريقه الطلاق، فهذا موجه بالتشبيه بالإيلاء؛ فإن المدة إذا انقضت وظهر الضرار، فالزوج يُرفع إلى الحاكم ليفيء، فإن لم يفعل، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القاضي يطلّق. والثاني - أنه يحبس حتى يطلّق، وقد مضى القولان وتفريعهما في الإيلاء، فقال قائلون: ليكن رفع النكاح بالإعسار على هذا النسق إلا فيما نستثنيه.
وهذا قول ضعيف يبين ضعفه بالمعنى واضطراب التفريع، [فأما] (1) المعنى فالإعسار بالنفقة يتعذر به حقٌّ مستَحَقٌّ، هو القوام، وعليه تعويل المرأة في احتباسها في حِبالة النكاح، وليس الوطء مستحَقاً على الزوج، فإنه لو لم يُولِ، لم يكلّف الطلاق، وإن امتنع عن [الوقاع] (2) سنيناً (3) وأعواماً.
وأما فساد التفريع، فنقول: أولاً قول حبس الزوج ليطلّق لا يخرّج، فإن الضرار
__________
(1) في الأصل: وأما.
(2) في الأصل: الطلاق. وهو سبق قلم من الناسخ.
(3) " سنيناً " وهو صحيح؛ قال ابن مالك عن هذا الباب: " ... مثلَ (حينٍ) قد يرد بابُه وهو عند قومٍ يطردّ" وجاء عليه دُعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعلها عليهم سنيناً ... " في روايةٍ.

(15/466)


يشتد بانقطاع النفقة، وليس كالضرار بانقطاع الوقاع، فبقي أنه إن لم يطلِّق، طلق القاضي، ثم في المُولي يكفي الطلاق الرجعي، وهاهنا لو طلقت طلقة رجعية، لكانت مستحقة للنفقة مع وقوع الطلاق، كما تستحق النفقةَ في صلب الزوجية.
ولكن إذا فرعنا على هذا القول، فلا وجه إلا احتمال هذا، فإن العدّة لا بد منها وإن جعلنا الرفع فسخاً، غير أنها إذا فسخت تخلصت، وإذا طلقها القاضي طلقة رجعية، فللزوج الرجعة، ولكن إن راجعها ولا نفقة، طلقها القاضي طلقة أخرى، فإن عاد، فراجع، استتم القاضي الطلقات الثلاث. هذا منتهى التفريع على خبطه.
10132 - وقد انتجز ماهيّة الرفع ومن يرفعُ في قَرَنٍ، وبقي الكلام في الطرف الثالث، وهو أن من أعسر وثبت إعساره، فهل يُمهلُ أم يثبت حقُّ الرفع من غير إمهال؟ ذكر الأصحاب في ذلك قولين: أحدهما - أنه لا إمهال. والثاني - أنه يمهلُ ثلاثةَ أيام، وقرب المرتبون هذا من إمهال المرتد ثلاثة أيام في الاستتابة، فإنا نرتجي أن نرادّه بالحجاج، ونحل ما اشتبه عليه كما نرتجي للزوج أن يجد ما ينفقه، والمأخذان قريبان، والثلاثةُ على حالٍ مدةٌ معتبرة في أمثال هذه الأشياء، وهذا الطرف تهاون به الباسطون والمتعمقون، فضلاً عمّن يُؤثرِ أن يَروِي أطرافَ الكلام
ويقنع بظواهرها، ونحن نستفرغ الوسعَ في ذلك [ونبرأ] (1) عن الحول والقوة، فنقول:
أما من أطلق ترك الإمهال، فلست أرى هذا الإطلاق سديداً؛ من جهة أنا قدمنا أن للمرأة أن تطلب النفقة في صبيحة كل يوم، وإذا أطلقنا أول اليوم عنَيْنا وقت طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر يوماًً وطلبت النفقة، فإن قال الزوج: إذا أصبحنا حصّلتُ النفقة، فلا يجوز أن يُعتقَد أنها تملك الفسخ، وإن جرى ذلك في مجلس الحاكم، حتى لا ينتشر في مسلك التصوير، والدليل عليه أن من أقر بدين في مجلس الحكم للمدَّعي، فطلب المدعي حبسَه، فقال: أَدخلُ السوقَ [فأَزِن] (2)، أو أُحضر من
__________
(1) في الأصل: وندْرأ.
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل (انظر صورتها).

(15/467)


مخزني، وقد يكون من مجلس الحاكم إلى المخزن مسافة، فلا يُحبس، ولكن للمدعي أن يستدعي من القاضي أن يوكِّل به من يدور معه، على ما سيأتي هذا في أدب القضاء، إن شاء الله.
فلو قالت المرأة: لا نُخلِّيك، فانطلِق وحصِّل، ولكن يوكِّل القاضي بك من يدور معك، فليس لها ذلك، ولا يجوز أن نعتقد في هذا الطرف خلافاًً؛ فإن شطر البريّة يصبحون ويأخذون في التمحل إما من رؤوس الأموال، وإما من الحرف والأكساب، ولا يُوكَّل بأحد في تحصيل النفقة، وهذه الأمور تحمل على مقتضى العادات.
10133 - فإذا انحسم ما ذكرناه من اعتقاد السرف في البدار، فنحن [نخوض] (1) وراء هذا في البيان: قد يخطر للفقيه أنها لا تفسخ ما لم ينقضِ اليومُ؛ فإن استقرار النفقة بانقضاء اليوم؛ إذ هي وظيفة اليوم، فإن صار إلى ذلك صائر، فالمهلة مقولٌ بها، ولكن الخلاف في مقدارها.
ويظهر أثر هذا بنقيضه، وهو أنا إن لم نر إمهال المرتد، فلا مزيد على الاستتابة بكلمة، فإن أبى، طيّرنا رأسه، فكأنا نقول في النفقة على الرأي الذي أظهرناه: إذا استقرت نفقة يوم واستمر الإعسار والتعذر، فلها حق الفسخ، وهذا بعيد جداً.
ثم ينقسم الكلام فيه: فيجوز أن يقول القائل: إذا غربت الشمس، انحسم المضطرب، وملكت الفسخَ، وإن كانت النفقة لليوم والليلة، ويجوز أن يقال: لا تفسخ حتى تنقضي الليلة؛ فإنها بالفسخ لاتملك متعلقاًً في الليل، فلتسكن، والليلة تتبع النهار في أحكام.
هذا مسلكٌ.
ويجوز أن يقال: إذا تأخر الغَداء تأخراً يظهر منه الضرار في حق من لم يتهيأ للصوم، حان وقت الفسخ. وهذا بعيد، ولو اعتبر معتبر انقضاء النهار؛ فإن جَوْعة الصوم محتملة في الشرع، لكان قولاً.
__________
(1) في الأصل: نحرض.

(15/468)


10134 - وكل ذلك باطلٌ دالٌّ ببطلانه على فساد الأصل؛ فإن الأظهر الإمهال، كما سنصفه. وإن لم نر الإمهال، فلا يتجه إلا اعتبارُ انقضاء اليوم والليلة، والعلم عند الله.
ولو اعتاد الزوج -والتفريع على ترك الإمهال- ألاَّ يأتي بالطعام إلا ليلاً، فهو ممنوع عن هذا، فإنه في التحقيق [يكلفها] (1) صومَ الدهر، وليس كل (2) ما لا يُثبت حقَّ الفسخ اتفاقُه وندوره إذا تكرر لم يثبت حق الفسخ، والوجه اعتبار ظهور الضرار.
على أن الطعام إذا كان يأتيها ليلاً، فيمكنها أن تكتفي في الحال بسِدادٍ وتؤخِّر من طعامها شيئاً إلى غدها، فإن كان ذلك ممكناً، فلا ضرار، وإن كانت رغيبة والقوت مدٌّ، ولو قطّعته، لم تنتفع به، فقد كلّفت الصومَ.
ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أن المرأة إذا كانت لا تملك إرهاقَ الزوج عند طلوع الفجر، ولا تملك أن تستدعيَ التوكيلَ به، فليس يتحقق الوجوب على التضييق.
ولست أشبه ما أطلقه الأصحاب من الوجوب في هذا إلا بقولنا: تجب الصلاة بأول الوقت وجوباً موسّعاً.
والذي أراه أن الزوج إن قدر على إجابتها، فهو حتم لا يسوغ تأخيره وإن كان لا يُحبس، ولا يُوكَّل به، ولكنه يعصي [بمنعه] (3).
وإن لم يكن في يده، أو كان يلقى عسراً، فله أن يتوسع (4) على الاعتبار.
ولو طلبت النفقةُ في صبيحة اليوم في مجلس القاضي، فقال الزوج: لست أملك شيئاًً، وأنا معسر حقاً، ولست على ظنٍّ في تحصيل القوت- والتفريع على [أنْ
__________
(1) مكلفها.
(2) المعنى: أن ما يحتمل نادراً، ليس يحتمل إذا تكرر وكثر.
(3) في الأصل: ويمنعه.
(4) أن يتوسع في الوقت، فلا تجب النفقة وجوباً مضيقاً في حقه، ومعنى "على الاعتبار" أي على القياس.

(15/469)


لا إمهال] (1)، وقد ذكرنا أن الزوج إذا كان يستمهل لينبسط (2)، أُمهل على حالٍ، والتفصيل في مقدار الإمهال ما قدمناه في ذكر وجوه الاحتمال.
فإذا قال: لست أنبسط ولست أملك شيئاًً، فهل تملك المرأة مبادرة الفسخ مع اجتماع هذه الأصول؟ فيه احتمال ظاهر: يجوز أن يقال: إنها تملكه، ويجوز أن يقال: لا تملك ما لم يَنْقَضِ الزمان الذي اعتبرناه في حق من يقول: أنبسط.
وكل هذا تفريع على أنْ لا إمهال.
10135 - فأما إذا قلنا: يمهل الزوج ثلاثةَ أيام بلياليها، فتنقسم الأحوال وتتشعب الفصول، ونحن نأتي بما يحضرنا.
فأول ما نبدأ به أنه إذا وجد النفقةَ في اليوم الثالث، وعَدِمَها في الرابع، فهل يفتتح ثلاثة أيام لتخلّل الإنفاق؟ ظاهر المذهب أنا لا نفتتح ثلاثة أيام، ولكن نكمل المدة باليوم الرابع الذي عسر عليه الإنفاق فيه، وقد تمت المدة، ثم نرى بعد هذا رأينا، كما سيأتي.
وفي بعض التصانيف وجه بعيد أنا نستفتح المدة، فمهما (3) تخلل الإنفاق في يوم، فإن الإنفاق يقطع ما يقدّر من العسر، وهذا ضعيف مزيف، ومآله يؤول إلى تحلُّلٍ غيرِ محتمل، وهو أن ينفق يوماًً ويترك الإنفاق ثلاثة أيام، ويتخذ ذلك عادته، وهذا يجرّ ضراراً عظيماً. وما عندي أن صاحب ذلك الوجه الضعيف يسمح بهذا، وإنما يقول ذلك إذا لم يتكرر ولم ينته [إلى الاعتياد] (4)، ولستُ لضبط ما أقطع ببطلانه؛ فإن بين أيدينا في هذا الفصل أموراً مهمة.
10136 - ونقول بعد ذلك: إذا انقضى المهل في الأيام الثلاثة مع استمرار الإعسار، وأصبحت المرأة في اليوم الرابع متشوفة إلى الفسخ، فقال الزوج: مهلاً
__________
(1) في الأصل: على أن الإمهال.
(2) لينبسط: المعنى ليتردّد في طلب النفقة وتحصيلها.
(3) فمهما: بمعنى: فإذا.
(4) في الأصل: ولم ينته أن الاعتبار.

(15/470)


حتى نصبح وأنبسط وآتيك بالنفقة في وقت العادة، فلا يجاب الزوج إلى هذا؛ فإن الإعسار قد تحقق، فلو لم نقُل هذا، لزدنا المَهَل، ثم هذا يجر مثلَ ذلك في اليوم الخامس. نعم، إذا جاء الزوج بالنفقة صبيحة اليوم الرابع، لم تفسخ، وليس لها أن تقول: ائتني بنفقة الأيام الثلاثة وإلا فسخت، ولست أكتفي بنفقة اليوم الرابع؛ فإن نفقة الأيام الثلاثة صارت دَيْناً، وليس لها فسخ النكاح بالإعسار بالنفقة التي صارت ديناً في مقابلة ما مضى من الزمان، ونحن لا نضرب المَهَل حتى يثبتَ حقُّ الفسخ لأجل تعذر النفقة في مدة الإمهال، وإنما اعتبرنا الإمهال ليتحقق الإعسار بها، ويزول توقع البسط، وسيزداد هذا وضوحاً في أثناء الكلام، إن شاء الله.
وليس للمرأة أن تقول: أقبض ما جئتَ به عن نفقة ما مضى، وأطالب بنفقة اليوم؛ فإن الرجوع فيما يؤديه مَنْ عليه الحق إلى قصده، لا إلى قصد القابض.
هذا إذا أتاها بالنفقة في صبيحة اليوم الرابع.
فإن أتاها كذلك بالنفقة في صبيحة اليوم الخامس والسادس، فلا كلام.
وإن قال في اليوم الخامس: نعود إلى اعتياد الإنفاق، فاتركي الإرهاق إلى المطالبة بالنفقات في صبيحة اليوم، فكيف السبيل؟ إن قلنا: الرجل يجاب إلى ما ذكر، فهذا إمهالٌ آخر. وإن قلنا: لا يجاب الرجل، فإلى متى وأين الموقف؟ وهل يحبس [إلى] (1) أن يلتزم؟
إن الإعسار إذا اطرد ثلاثة أيام، فقد ثبت للمرأة حقُّ الفسخ في كل [مرة] (2) إذا لم توافها النفقة.
هذا سؤال عن ضربٍ من الإشكال.
10137 - ويتصل به أنا إذا فرعنا على الأصح، فلو استمر الإنفاق بعد المَهل المنقضي ثلاثةَ أيام أو أكثر، ثم فرض الإعسار، فلا نعودُ إلى ضرب المدة قط، ونقول: لا مهلة للإعسار إلا مرة واحدة في النكاح، هذا موقف لا يجوز للفقيه
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: عزرة.

(15/471)


فيه الاكتفاء [بالاتباع] (1) ولا يسوغ أن يخطوَ بالخطو الوِساع، ونحن نقول والله المستعان: هذا لا يُحَلُّ (2) إلا بالنظر إلى حال الرجل، فإن استمر الإعسار في الثلاثة الأيام المضروبة أجلاً ومَهَلاً، ثم فُتح له قوت يوم، فلا فسخ، ولو فتح له كذلك في يوم الخامس، وليس على اعتمادٍ في مُنَّته، ولا في مال، وإنما يجري ما يجري على الوفاق والفتوح، فلو تمادى الزمن ما تمادى، فإذا لم تُفرض النفقة في يومٍ، فلا مَهَلَ أصلاً.
وأنا أقول قولَ قاطع لا يرتاب: إنه لو كان كذلك في أول الأمر، فلا يمهل مثله، وإنما التردد الذي ذكره الأصحاب في الإمهال إذا كان على وثيقةٍ من مال أو استغلال وقفٍ، أو الرجوع إلى قدرةٍ على الكسب، ثم تُفرض آفة تعد من جوائح الدهر، فمثل هذا يمهل.
أما من لم يكن قط راجع إلى عُدّة ومُنّة، فلا معنى لإمهال مثلِه؛ فإن أصله الإعسار، فإن اتفق شيء فهو يدرأ الإعسار، وإن لم يتّفق، فصفة الرجل الإعسار، وأنا أقول بحسب هذا: إذا أمهلنا صاحب الجائحة، فإن وجد شيئاًً موثوقاً به، ثم فرض طريان اجتياح، فالاختلاف في الإمهال يعود، وإن لم تدم تلك العُدة يوماً.
فهذا هو المعتبر لا غير.
والآن، لا ضبط ولا موقف ينحصر الفكر فيه، فإن قيل: هل من ضبط فيما يتجدد له من مال؟ قلنا: إن كان بحيث يغلب على الظن التبلّغ به عند فرض تصرفٍ فيه من غير أن يقال: هذا ينقطع لا محالة إلى مدةِ كذا، فهذا نقيض الإعسار بالنفقة، وإن كان ذلك القدر ينقطع لا محالة، فهو ملتحق بالفتوح، وقد يكون ما ينفتح على الإنسان ليوم، وقد يكون لأسبوع، فهذا منتهاه.
وإذا حركنا وجوه الإشكال، فالرأي مشترك على شرط أن يكون الزائد على ما نذكره خيراً منه.
__________
(1) في الأصل: الإقناع.
(2) كذا. ولعلها: لا يتضح، أو يتم، أو نحو ذلك.

(15/472)


10138 - وعلينا بحثٌ آخر أجريناه في أثناء الكلام ولم نجب عنه، وذلك أنا قلنا: للمرأة مبادرةُ الفسخ صبيحةَ اليوم الرابع، ثم قلنا: هل لها ذلك صبيحة اليوم الخامس؟ وهذا وإن لم نبح به، فهو مندرج تحت ما مهدناه؛ فإن حدث للرجل بعد المهل عُدَّة (1)، عادت الطّلبة والمضايقة إلى موجب العادة، ويجب طلب هذا أيضاًً إذا علمت المرأة ظهورَ عُدَّة في اليوم الرابع إذا لم يبدُ من الرجل تقصير.
وإن لم يظهر للرجل عُدّة، وإنما فُتح له في اليوم الرابع شيء، وكان على انتظار مثله في اليوم الخامس، فالذي أراه أنه في اليوم الخامس بمثابته في أول يوم قبل المهل، إذا فرعنا على أنه لا إمهال، وقد أوضحنا أن صاحب الفتوح الذي لا يرجع إلى عُدّة لا معنى لإمهاله، فإن قيل: فاطردوا هذا في اليوم الرابع. قلنا: الأيام الثلاثة قبله كالحَمْل على الاعتياد في اليوم الخامس، ولو لم أقل هذا في الخامس، لزمني أيضاًً أن أثبت حق الفسخ في صبيحة السادس، ثم إلى متى وينحل انحلالاً لا ينضبط، فهذا غايتي في هذا الفصل.
ولست أدّعي الاستيعاب في وجه الصواب، ولكني استوعبت التنبيه على وجوه الإشكال، ثم استفرغت الوسمعَ في حلّها، وأرخيتُ طِوَل مَنْ بعدي للنّظر السديد.
10139 - وهذا نجاز هذا الفصل. ويتصل به شيء قريب المأخذ به، وهو أن المَهَل إذا انقضى، وثبت حق الفسخ، فرضيت بالمقام تحت المعسر، ثم بدا لها، فهي على طلبها وحقها، وإبطالُها حق الفسخ يختص بما ثبت لها، والضرار متجدد عليها حالاً على حال.
فيخرج من مجموع هذا أن ما أبطلته نفذ إبطالها فيه، ولكن تجدد لها حق في الزمان المستقبل، وليس هذا كما لو رضيت بالعُنّة والمقام تحت العنين، ثم بدا لها؛ فإنا لا نملكها الفسخَ، والسبب فيه أن [العُنّة] (2) في حكم الخَصْلةِ الواحدة، وهي عيب قائم، فإذا رضيت به، فالعُنة لا تتجدّد، بل يناظر ما نحن فيه رضا امرأة المولي
__________
(1) في صفوة المذهب: جِدَة.
(2) في الأصل: العقد.

(15/473)


بالمقام تحت زوجها بعد انقضاء المدة، وإذا صدر ذلك منها، ثم بدا لها أن تعود إلى الطلب، فلها ذلك؛ فإنها ما رضيت بعيبٍ في زوجها، وإنما رضيت بما لحقها من الضرار، وهو متجدد عليها في الزمان المستقبل.
وسر هذا الفصل يوضحه ما نصفه، فنقول: الحقوق التي لا مقدار لها، ولا انحصار، لا يصح إسقاطها. نعم، اختلف القول في أن ما لم يجب، وثبت سببُ وجوبه، هل يصح الإبراء عنه على شرط التقدير، وكذلك اختلف القول في ضمان ما لم يجب، وثبت سببُ وجوبه.
فلا جَرَم نقول: لو أبرأت المرأة زوجها عن نفقة خمسين سنة من السنين المستقبلة، فليس لها حق الفسخ بالإعسار حتى تنقضي هذه المدة، ولو قالت امرأة المولي: أسقطت حقي من طلب الفيئة سنة، فلست أرى لهذا الإسقاط حكماً، والإبراء إنما يصح في حقوق ثابتة، ولا حق للمرأة على الزوج في الاستمتاع، وإنما يثبت لها طلب الفراق للضرار، فإلى ماذا يضاف الإبراء، وحاصل قولها يؤول إلى بذل اللسان بمصابرة الزوج مع إضراره، ولا حاصل لذلك.
ومما يتصل بهذا أنا إذا فرعنا على الأصح، وانقضت المدة، فرضيت، ثم عادت إلى الطلب، فقد قال الصيدلاني: لا بد من ضرب مدة أخرى، وإن كنا نرى أن المهلة لا تجدّد، كما تفصّل المذهب، واعتل بفقه حسن، فقال: رضاها يُسقط ما تقدم، فإذا عادت فكأنها مطالِبة على الابتداء فيعتبر المَهَل، ثم طلب أن يفرق بينها وبين امرأة المولي؛ فإنها بعد انقضاء المدة [لو رضيت] (1) بالمقام تحت الزوج، ثم بدا لها، لم نَضرب مدةً أخرى أربعة أشهر، بل هي على حقها الناجز، فقال: تلك المدة اقتضى النص ضربها غير متعلّقة بطلبها، والمهل في الإعسار بالنفقة يتعلّق بطلبها، فإذا رضيت، سقط أثر المهل.
وليس يبعد عندي أن يقال: لا يُضرب مهلٌ آخر في الإعسار، حيث انتهى التفريع إليه كالإيلاء، والفرق ليس بالواضح؛ فإن امرأة المولي رضيت بما لحقها من الضرار في المدة.
__________
(1) في الأصل: ولو رضيت.

(15/474)


ثم هاهنا فقهٌ، وهو أنها مع تحقق الإعسار رضيت بأن لا تفسخ، وتحقق الإعسار لا يزول برضاها، والفقه ما ذكره الصيدلاني، فليتأمله الناظر.
10140 - ومما يتصل بذلك أنها لو نكحت معسراً عالمة بإعساره، فهي على حقها من الفسخ إذا ثبت الإعسار بعد النكاح، واستمر، ولا حكم في حقها لاستمرار الإعسار قبل النكاح، وغرضُ هذا أن علمها بإعساره لا يُبطل حقَّها، على الترتيب الذي تقدم، بخلاف ما لو نكحت مجبوباً وعلمت بذلك منه، فليس لها حق الفسخ.
وقد نجز الغرض من هذا الفصل.
10141 - فأما الكلام فيمن يثبت له حق الطلب (1)، فليس هذا من الصنف الذي تقدم في أنها هي الفاسخة أم القاضي يطلق، بل غرض هذا الفصل بيان من إليه حق الطلب حتى ينتهي إلى الفسخ أو إلى الطلاق، فنقول: إذا كانت الزوجة حرةً مستقلة، فلها حق الطلب، ولو رضيت بالمقام، فلا اعتراض لأحد عليها.
ولو كانت صغيرةً أو مجنونة، فلا يقوم الولي مقامها في الطلب، وإن تناهى الضرر، وقد يفرض هذا في سنين الجدب والأزم، ولو كانت خليّة، لخُطبت وطُلبت، وكُفيت المؤن، ومع هذا هي في رباط الزوجية، فإن افتقرت، [فهي] (2) فقيرة من فقراء المسلمين، لا نعرف في ذلك كله خلافاًً.
10142 - ولو كانت الزوجة أمةً، فإذا أعسر الزوج بالنفقة، والتفريعُ على ثبوت حق الرفع (3)، فللأمة حق الرفع، لم يختلف الأصحاب فيه.
ولو قال السيد: قَرِّي تحته، وأنا أنفق عليك، فلها الفسخ؛ فإن المَوْلى فيما قاله
__________
(1) هذا هو الفصل الرابع والأخير.
(2) زيادة من المحقق. والمعنى أنها في رباط الزوجية: فقيرة من فقراء المسلمين، تجب نفقتها على من كانت تجب عليه لو كانت خلية.
(3) المراد -كما هو واضح- رفع النكاح.

(15/475)


بمثابة [الأجنبي] (1) في هذا المقام، وإن [ثار] (2) نفس الفقيه، فليتئد، [فالبيان] (3) بين أيدينا.
فتحصّل مما ذكرناه أن الأمة تفسخ على السخط من السيد.
ولو أبرأت زوجها عن النفقة، لم يصح إبراؤها؛ فإنها ليست مالكة للنفقة، وإنما يصح الإبراء ممن يملك ما يبرىء عنه. وهذا أيضاًً متفق عليه.
ثم ما ذكره الأصحاب: أن السيد لا يملك الفسخَ بوجهٍ؛ فإنه إذا ثبت استقلال الأمة بالفسخ من غير حاجة إلى مراجعة السيد، فانفراد السيد بالفسخ بعيدٌ.
وقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في الأمة المجنونة أولاً، وفي الصغيرة إذا فرض إعسار الزوج بنفقتها: أحدهما - أن السيد يفسخ؛ فإن الضرار يلحقه؛ فإنه بين أن ينفق على أمته؛ فيصير غارماً للنفقة مع قيام الزوجية، وبين أن يضيّعها فتهلك، فإذا كان الضرار يلحقه، فينبغي أن يثبت له حقُّ الفسخ، وليس كالفسخ بسبب العُنة، فإن ذلك يتعلق بمحض حظّ المرأة.
والوجه الثاني - أنه لا يثبت للسيد حق الفسخ، فإن الأمة لو عقلت أو بلغت، فلها الفسخ، فإذا كان حق الفسخ ثابتاً لها، فيجب أن لا تشارَك.
فأما إذا كانت الأمة بالغة عاقلة متمكنة من الفسخ بنفسها، فإذا لم تفسخ، فهل للسيد الفسخ؟ ذكر الشيخ وجهين أيضاًً مرتبين على الوجهين المقدمين في المجنونة والصغيرة، ووجه الترتيب لائح، وتوجيه إثبات الفسخ له [ما ذكرناه] (4) من التحاق الضرار به عند امتناعها من الفسخ، فلا فرق بين أن تمتنع من الفسخ وبين أن يمتنع الفسخ بالجنون والصغر، فإذا أثبتنا حق الفسخ بالمهر، فلا خلاف أن حق الفسخ مخصوص بالسيد، وهو مستقلٌّ به، لا مشاركة للأمة فيه، [فإن] (5) السيد هو مستحق
__________
(1) غير مقروءة بالأصل.
(2) كذا قرأناها بصعوبة. (انظر صورتها).
(3) في الأصل: بالبيان.
(4) في الأصل: وما ذكرناه.
(5) في الأصل: بأن السيد.

(15/476)


المهر، وليس للأمة فيه حق من طريق الإمتاع، أما الملك، فلا وجه لتصويره، والنفقة تتعلق باستمتاعها، وإن كانت لا تَمْلِك.
فهذا قواعد المذهب.
10143 - ثم إنا نُخرج بالمباحثة منها أموراً لا بد من الإحاطة بها، منها: أن نقول: إذا زوج السيد أمته، ووجبت النفقة، فقاعدة النفقة على التمليك، والأمة لا تملك، فحق الملك هل يثبت للسيد أم كيف السبيل فيه؟ هذا ما يجب إنعام النظر فيه، والذي يميل إليه ظاهر الرأي أن السيد يملك النفقةَ، ويخرج فيه [أنه] (1) لو أراد إبدال ما يبذله الزوج بمثله، فعل ذلك، ولو أراد أن يأخذ من الزوجة ما بذله الزوج، فللأمة أن تستمسك به حتى يأتيَها ببدلٍ، فإن حقها متعلق بالنفقة على الاختصاص، ولها طلب النفقة، ولها الفسخ بتعذر النفقة، واختصاصها كالاستيثاق، وهذا بمثابة قولنا: إن نكح العبدُ، فالنفقة تتعلق بكسبه، ومنافعُه ليست خارجةً عن ملك المولى، والزوجة لا تملك منافعَ زوجها.
ولو بذل السيد النفقة من ماله، ومنع العبدَ من الاكتساب، فلا حرج عليه، ثم يبتني على هذا أن السيد لو أبرأ عن النفقة، فكيف الوجه؟
قد ذكرنا اختصاص الزوجة بالنفقة من جهة الزوج، وإن لم يكن لها ملك، فحق الاختصاص إذا لزم، منع تصرف المالك بالإسقاط، وتردُّدُ الأقوال في إعتاق الراهن لمكان قوة الملك وسلطانه، والإبراء ليس كالعتق. نعم، لو أنفق على الأمة من عند نفسه، فالنفقة تؤخذ من الزوج، وهذا يفتح حدقةَ البصيرة في أن السيد مالكٌ للنفقة، والذي يعترض فيه أن السيد لو غاب، فالزوج منفق على الأمة ولا تمليكَ، ولكن السيد هو المملَّك، وهو المستحق لتلك النفقة، وهو مأذون من جهة السيدِ والشرعِ في صرف ما يجب عليه من النفقة يوماً يوماًً إلى الزوجة، فهذا ما أفضى إليه مساق البحث السديد.
10144 - وإذا زوج السيد أمته من عبده، فعلى العبد أن ينفق على الأمة، وهذا
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.

(15/477)


إنفاق لا تمليك فيه. نعم، هو إنفاق عن ملك السيد؛ فإن ما يكتسبه يقع ملكاً للسيد، ثم هو مستحق الصرف إلى الأمة.
هذا ما أردنا بيانه في ذلك.
وقد ذكرنا في كتاب النكاح أن السيد لو أذن لعبده في النكاح، فتزوج وصار كسبه متعلَّقاً للنفقة، فلو أراد السيد أن يستخدمه أو يسافر به، فله ذلك على الجملة، وقد يختلج في النفس من هذا شيء، وكنت على فكرٍ غائص منه قديماً، وهذا أوان إظهاره: يجوز أن يقال: ليس للسيد أن يستخدمه، فقد صارت منفعته متعيّنة للنفقةِ والمهرِ ما لم يبذل (1) حقَّ المرأة. وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه يُقدِمُ على الاستخدام، ثم يلتزم ما سبق تفصيله، وسنشير إليه.
وذكر العراقيون وجهاً أنه لا يستخدمه ما لم يضمن ما يجب ضمانه، أما إيجاب تعجيل ما يجب للمرأة، فخارج على القياس الذي قدمناه من أن ما تعين لحق الزوجية لا يجوز التصرف فيه قبل توفية الحق، كالنفقة التي يعجلها الزوج لا يتصرف فيها السيد، ووجه ما صار إليه معظم الأصحاب أن المنفعة ليست أشياء عتيدة حتى يتحقق الاستيثاق فيها، ولكن حق السيد مقدم على شرط أن يَضْمن.
وصاحب الوجه الذي حكاه العراقيون قابلوا (2) توقع وجود المنافع بوعدٍ لازم، وهو الضمان، وهذا فقيه حسن.
وأما ما تشبثنا به من إيجاب [تعجيل] (3) ما يجب، فهذا يستدعي تجديدَ العهد بما يجب على السيد إذا استخدَم، وفيه قولان: أحدهما - أنه يجب أقل الأمرين من أجر المثل لذلك الزمان، أو النفقة والصداق، والقول الثاني - أنه يلتزم باستخدام العبد في ساعةٍ (4) المهرَ بالغاً ما بلغ، وفي النفقة خبط ذكرته في النكاح، ولست لإعادته.
__________
(1) المعنى: ما لم يبذل السيد حق المرأة من المهر والنفقة.
(2) " قابلوا توقع وجود المنافع " الواو للجماعة الذين هم أصحاب الوجه الذي حكاه العراقيون، وإن عبر عنهم بلفظ (صاحب) فهم جمع، ولذا قال: قابلوا.
(3) في الأصل: تحصيل. والمثبت من صفوة المذهب.
(4) المعنى: أنه باستخدامه العبد مجرد استخدام لأي مدة طالت أو قصرت، عليه أن يلتزم المهر بالغاً ما بلغ.

(15/478)


فإذا قلنا: يعجل ثم يستخدم، وجرينا على الأصح، وهو إيجاب الأقل، فلا يقدِّم إلا نفقةَ اليوم، وإن كان قد يستخدمه في غَرْمه (1) أياماً؛ فإن إيجاب تعجيل ما لم يجب محال، وقد ذكرنا أن نفقة كل يوم تجب من صُبحه.
وهذا القدر من التفريع كافٍ منبهٌ على الغرض، على أني لست على اعتقاد سديد في إيجاب التعجيل، ولا أوثر أن يُلحق بالمذهب، وإنما الملتحق بالمذهب الوجهان الآخران، وليس كالنفقة ينقدها الزوج فلا يملك السيد التصرف فيه قبل الإتيان ببدله؛ فإن ذلك المنقود شيء موجود تعلق به وثيقة الزوجة.
10145 - ومما أجراه العراقيون في أثناء الكلام أن قالوا إذا أعسر العبد بنفقة زوجته، وعجز عن الكسب، فهل تتعلق النفقة برقبته؟ ذكروا في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يتعلق بالرقبة، وهذا لا يعرفه المراوزة، وهو ساقط؛ من جهة أن النفقة والمهر من حقوق المعاملات المتعلقة بالعقود، وحقّ ما هذا سبيله ألاّ يتعلق إلا بالكسب، ولست أرى لهذا الوجه الغريب الذي حكاه العراقيون وجهاً إلا التحاقَ العقد بأروش الجنايات، وقد ذكرنا في النكاح الفاسد قولاً أن مهر المثل يتعلق بالرقبة، وإن صدر النكاح عن إذن من له المهر.
فإن قلنا: النفقة لا تتعلق بالرقبة، فإذا تحقق الإعسار، ثبت الفسخ، فلو قال السيد: لا تفسخي حتى أنفق، فهل لها أن تفسخ؟ أوَّلاً - إذا أعسر الحر بنفقة زوجته، فتبرع أجنبي بالنفقة، لم يمتنع حقُّ الفسخ على الزوجة. وإن تبرع على الزوج، فهو الممنون عليه، ثم الزوج ينفق، فلا تفسخ، ولا شك في هذا.
أما السيد إذا تبرع بالنفقة، ففيه تردد ظاهر، وسببه أن المنافع ملكُ السيد، وكان للسيد أن يستخدم العبد ويؤدي النفقة من خاص ماله، فإذا أدى الآن، فليس على حكم المتبرعين. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: لا يجب على السيد أن ينفق إذا أعسر العبد، فهو إذا بذل عند إعسار العبد متبرعٌ.
__________
(1) المعنى: أنه لا يقدّم إلا نفقة اليوم، مهما كان عدد الأيام التي استخدمه فيها قبلاً.

(15/479)


ويتصل بهذا المنتهى أن الأمة لو أرادت الفسخ، وقد أعسر الزوج بنفقتها، فقال السيد: لا تفسخي حتى أنفق، فظاهر كلام الأصحاب أن لها أن تفسخ، وليست هذه المسألة خاليةً عن احتمال جلي؛ من جهة أنا ذكرنا في قاعدة المذهب أن حق الملك في النفقة للسيد، فلا يبعد أن يقول لأمته: إنما حقك الاستمتاع بالنفقة، وليست ملكَك شرعاً، فإني مالك الرقبة ومالكٌ لأصل النفقة.
وهذا منتهى ما حضرنا.
فرع:
10146 - إذا أعسر الرجل بنفقة مملوكه، لم يترك المملوك في الضرار، وكُلِّف المالك البيعَ، فإن أبى، بيع عليه المملوك، وسيأتي تفصيل هذا في باب نفقة المماليك، إن شاء الله.
ولو أعسر بنفقة أم ولده، ولا سبيل إلى بيعها -على ما عليه علماء العصر من منع بيع أمهات الأولاد- ثم إذا ظهر الضرار، فالمذهب الذي عليه التعويل أنها لا تعتِق، فإن الإعتاق على خلاف رأي المالك لا نظير له في الشرع، والفسوخ والحَلّ بطريق الطلاق متمهد في مواضع، وصار بعض أصحابنا إلى أنها تعتِق، ثم الذي بلغنا أن القاضي يعتقها، ولم أر أحداً من الأصحاب يقول: هي تُعتِق نفسَها قياساً على الزوجة إذا ملكناها فسخ النكاح، وهذا لأنا لا نجد مملوكة تُعتق نفسَها، ولست ألتزم فرقاً من طريق المعنى بين الفسخ وبين إعتاق أم الولد نفسها، ولكن إذا ضعف أصل الوجه، فلا معنى لتضعيف الضعف بالتفريع، ولكن الوجه الاختصار على المنقول، والتنبيه على الاحتمال.
فإن قلنا: يعتقها القاضي، فلا كلام. وإن قلنا: لا يعتقها، فالوجه تسييبها لتكتسب، ثم إن لم تتمكن من اكتساب القوت، فهي فقيرة من المسلمين.
فرع:
10147 - إذا فرعنا على الوجه الضعيف الذي حكاه العراقيون في أن النفقة تتعلق برقبة الزوج المملوك إذا أعياه تحصيلها من الكسب، فلا يُفضي الإعسار إلى الفسخ، ولكنا نبيع من رقبته شيئاً شيئاًَ على حسب مسيس الحاجة إن لم يَفْدِه السيد، وإن استوعبنا بيعه، فنأخذ في بيعه على المشتري، ولا يؤدي والحالة هذه الإعسار

(15/480)


إلى الفسخ، وهذا الاضطراب في التفريع يدل على [فساد] (1) الأصل.
فصل
10148 - إذا أعسر الزوج بالنفقة وقلنا: لا يثبت حقُّ رفع النكاح، فقد أطلق الأصحاب أن للمرأة أن تخرج وتكتسب.
وهذا مفصل عندنا: فإن كان لا يتأتى منها تحصيلُ القوت إلا بالخروج، فلا شك أنها لا تُمنع منه، وإن كانت موسرة قادرة على الإنفاق من مالها، وكانت مكَّنَتْ ووطئها الزوج، وبطل حق امتناعها بسبب المهر، فهل يلزمها أن تلزم مسكن النكاح، أم ينحلّ حق احتباسها في المسكن؟ [تردّد] (2) الأصحاب في هذا، فقال قائلون: لها أن تخرج، وليس للزوج أن يمنعها. وقال آخرون: حقٌّ عليها أن تلزم مسكن النكاح، وهذا هو الأفقه عندنا.
وكذلك تردد الأصحاب فيه إذا كانت قادرة على أن تحصِّل قوتها بحرفة تعانيها في المسكن من غير مفارقة، فهل يلزمها الملازمة أم لا؟ فعلى ما ذكرناه.
فإذا قلنا: يثبت لها حق فسخ النكاح، ولكنها لا تبتدره، بل تمهل الزوجَ، على التفصيل المقدم، فينحلّ حق الاحتباس عنها في مدة المَهَل على الرأي الظاهر، وإن كانت موسرةً، أو محترفةً، وفيه [وجه] (3) بعيد، وإن اضطرت إلى الخروج، خرجت كيف فرض الأمر.
...
__________
(1) في الأصل: يسار.
(2) في الأصل: فتردد.
(3) في الأصل: " شيء ".

(15/481)


باب نفقة التي لا يملك زوجها رجعتَها
قال الشافعي: " قال الله تعالى {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الآية [الطلاق: 6] ".
10149 - مضمون الباب الكلام في نفقة المعتدات، والمعتدة لا تخلو: إما أن تكون رجعية، وإما أن تكون بائنة، فإن كانت رجعية، فهي بمثابة الزوجات في استحقاق النفقة والسكنى، وسائرُ حقوق النكاح دارّةٌ عليها إلا ما يتعلق بالاستمتاع، كالقَسْم.
ولو طلقها الزوج طلقةً رجعية -وكانت من ذوات الأقراء- فجرت في العدة ووطئها واطىء بشبهة، وعلقت عن الواطىء بولد يقتضي الشرعُ إلحاقه به، فعدة الواطىء مقدمة على الضرورة؛ فإن عدته بالحمل، وهو موجود حسّاً لا يمكن تأخير الاعتداد به.
ثم للأئمة طريقان في نفقتها، وأنها هل تجب على الزوج، واختلافهم يستدعي تجديدَ العهد بأصلٍ سابق، وهو اختلاف الأصحاب في أن الزوج هل يملك رجعتها وهي حامل عن الواطىء؟ فهذا ما قدمنا فيه وجهين، وفرعنا عليهما ثَمَّ تردُّدَ الأصحاب في مقصودنا من النفقة، فقال قائلون: إذا حكمنا بأن الزوج يرتجعها، فيجب عليه الإنفاق عليها وجهاً واحداً.
وإذا قلنا: لا يملك ارتجاعَها ما دامت حاملاً، فهل يجب عليه الإنفاق عليها من جهة أنها ستعود بعد وضع الحمل إلى بقية عدة الرجعة؟ فعلى وجهين. هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: لا يرتجعها، فلا يجب عليه الإنفاق عليها، وإن قلنا: يرتجعها، ففي وجوب الإنفاق عليها وجهان، وهذه الطريقة لها رسوخ في الفقه، لا يبين إلا بذكر مسألة [ومباحثة] (1) بعدها.
__________
(1) مطموسة بالأصل، والمثبت تقدير من المحقق على ضوء السياق.

(15/482)


10150 - أما المسألة فإذا وطئت المنكوحة بالشبهة، وعلقت من الواطىء، فلأصحابنا تردد في وجوب النفقة على الزوج: قال قائلون: لا نفقة عليه، فإن الاستمتاع بها تعذر على الزوج بسببٍ هي [متسببة] (1) إليه، فصارت كالناشزة، وإن لم تنتسب إلى قصدٍ وعصيان، وهذا بمثابة إسقاطنا النفقة عن الزوج بسبب امتناع المجنونة، وإن كان التكليف محطوطاً عنها.
وقال قائلون: نفقتها دارّة؛ فإنها لم تعتمد نشوزاً.
والأولى عندنا تفصيل ذلك، فإن وطئت في حالة [نوم] (2) أو وطئت وهي مضبوطة كرهاً، والواطىء على اشتباه في نفسه، فالوجه القطع بثبوت نفقتها على الزوج، والمصير إلى إلحاق المنع الطارىء بالمرض والحيض.
ولو مَكَّنت على ظن أن الواطىء زوجُها، فهذا فيه التردد الذي ذكره الأصحاب؛ من جهة أنها بتمكينها [متسببة] (3) على الجملة، فإن لم نعصّها، لم ننكر فعلها، وإذا تسببت المرأة، فأمرضت نفسها، ثم استمر المرض، فهذا فيه التردد الذي ذكرناه في إحرامها، على قولنا: لا يملك الزوج تحليلَها، وما ذكرنا من طريان العدة على صلب النكاح إن فرض من غير حمل، فهو واضح، والبيان المقدم فيه كافٍ، وإن علقت بمولودٍ في صلب النكاح، فهي معتدة ما دامت حاملاً.
وقد يعترض في هذه الصورة أصلٌ سيأتي مشروحاً، ولكنا لا نجد بُدّاً من الرمز إليه الآن لتنجيز غرضٍ في هذه المسألة، فنقول: إذا وطىء الرجل أجنبية بشبهة، وعلقت منه بمولود، ففي وجوب نفقتها على الواطىء قولان، سيأتي ذكرهما -إن شاء الله- بناء على أن النفقة للحمل، أو للحامل؟ فإن قلنا: لا نفقة للمعتدة عن الواطىء في صلب النكاح، فلا كلام. وإن قلنا: للمعتدة في صلب النكاح النفقة على الزوج إذا لم تحبل من الواطىء، فإذا حبلت منه، وقلنا: لا نفقة على الذي يطأ أجنبية
__________
(1) في الأصل: منتسبة.
(2) في الأصل: يوم.
(3) في الأصل: منتسبة. والمثبت من صفوة المذهب.

(15/483)


بشبهة وإن علقت منه، فالنفقة على الزوج إذا اتفق العلوق عن الواطىء في صلب النكاح.
وإن قلنا: على الواطىء بالشبهة النفقةُ للأجنبية التي حبلت عنه، فماذا نقول والزوجية توجب النفقة، حيث انتهى التفريع إليه، والحمل يوجب النفقة على الواطىء، ولا سبيل إلى الزيادة على نفقة واحدة، ويبعد إيجابها عليهما من حيث إنها في حالة الزوجية والحمل عن الواطىء؟
والذي يظهر عندنا في هذه الصورة إيجاب النفقة على الواطىء؛ فإن النفقة لا تجب عليه إلا تخريجاً على أن النفقة للحمل، فكأنه استعمل رحمها واستعملها في نفسه لحفظ مائه، وهذا متجدد ناجز، وقد تحقق انقطاع حق الزوج عنها؛ فالوجه إيجاب نفقتها على الواطىء.
فإن لم تكن ناشزة، فقد استبدلت عن نفقة الزوجية، فلا ضرار، فهذا ما أردناه.
10151 - ونعود بعد ذلك إلى الرجعية التي حبلت عن الواطىء بالشبهة في أثناء العدة، فإن قلنا: يجب على الواطىء النفقة لمكان الحمل، فلا وجه إلا إسقاط النفقة عن المطلّق، وإن قلنا: لا نفقة على الواطىء لمكان الحمل؛ فإذ ذاك يجري ما قدمناه من اختلاف الطريق.
وهذه هي المباحثة الموعودة، وعليه يخرّج أنا وإن أثبتنا للزوج حق الرجعة، فلا نفقةَ عليه، مع إيجابنا النفقةَ على الواطىء، على القياس الذي مهدنا في جريان الحبل عن الواطىء في أثناء النكاح.
ثم إذا أوجبنا للرجعية النفقة، أوجبنا لها الكسوة، وهي لازمةُ مسكن [النكاح] (1) والإدام تابع للنفقة، وينحط من حقوقها ما تتزين به؛ فإنها منعزلة، والطلاق قد حرّم الاستمتاع بها.
هذا كله إذا كانت رجعية.
10152 - فأما إذا كانت بائنة، فلا يخلو إما أن تكون حائلاً وإما أن تكون حاملاً،
__________
(1) مزيدة من صفوة المذهب.

(15/484)


فإن كانت حائلاً، فلا نفقة لها عند الشافعي، والسكنى ثابتة.
وقد صدّر الشافعي الباب بأمر يحسبه الشادي رجوعاً منه إلى الظاهر ووراءه ما يشعر بدَرْك الغايات؛ وذلك أن الفرق من طريق المعنى لا يكاد يتضح بين النفقة وبين السكنى، ولا تعويل على كلام ملفّق للخلافيين، فالاعتمادُ على نصّ القرآن، كما أشار إليه إمام المسلمين رضي الله عنه، فإنه عز من قائل أطلق السكنى، ولم يشترط فيها الحمل، وقال: ({أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} ثم لما انتهى البيان إلى النفقة خصص ثبوتها بالحمل، فقال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} فالوجه إطلاق
ما أطلق وتقييد ما قيد، وإذا لم تكن البائنة حاملاً، فلا نفقة سواء كانت البينونة عن فسخ، أو طلاق، أو فُرقة لعان، وأما السكنى، فقد فصلناها في كتاب العدد، فلا نعيدها.
10153 - وأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو إما أن تكون بينونتها بسبب الطلاق، وإما أن تكون بسبب آخر: فإن كانت البينونة بسبب الطلاق، فلا خلاف أنها تستحق النفقة.
ثم أطلق الأئمة قولين مأخوذين من معاني كلام الشافعي: أحد القولين - أن النفقة تجب للحمل. والقول الثاني - أنها تجب للحامل.
توجيه القولين: من قال: إنها تجب للحمل، احتج بأنها بائنة في ففسها، فلا تستحق النفقة بنفسها، ولم يطرأ إلا الحمل، فلتكن إضافةُ الاستحقاق إليه، وإذا وجبت النفقة بسببه، فالنفقة للحمل إذاً. ثم لا نظر إلى قول من يقول: الحمل يكتفي بالشمة والمقدار النزر؛ فإنه لا يتوصل إليه ما يبقى به إلا بعد اكتفاء الأم، وأيضاًً؛ فإن مؤونة الحمل واجبة، ولو انفصل المولود، فمؤونة الحاضنة واجبة، واستقلالُ الحامل بالحمل لا ينحط عن قيام الحاضنة بحفظ الولد وإرضاعه، والغرض إحالة الوجوب على الحمل.
ولا يتم بيان الفصل إلا بنجازه.
ومن نصر القول الثاني، احتج بأن النفقة لو كانت تجب للحمل، لسقطت بمرور

(15/485)


الزمن، ولما كانت متقدّرة، ولاختلفت بالزهادة [والرغابة] (1) بناء على اعتبار الكفاية؛ فإن المرعي في مؤن المولود الكفاية.
وما ذكرناه من توجيه القولين استفتاحٌ، وإلا فالبيان بين أيدينا، ثم الذي نراه من الرأي أن نجري على ترتيب الأصحاب في إرسال مسائلَ بنَوْها على هذين القولين، فإذا انتجزت، انعطفنا عليها، وربطناها بروابط الفقه على حسب ما يليق بها.
10154 - فمما فرّعه الأصحاب أن المطلَّقةَ البائنةَ الحامل لو كانت مملوكة، فمعلوم أن ولدها مملوك، ولو انفصل، لكانت نفقته على مالكه، قالوا: المسألة خارجة على أن النفقة للحامل أو للحمل، فإن قلنا: النفقة للحمل، فهي على السيد، وإن قلنا: النفقة للحامل، فهي على الزوج، قياساً على نفقة الزوجية؛ فإن النكاح ولو زال، فعَلْقته إذا أوجبت النفقةَ بمثابته.
ومن المسائل: أن الزوج لو كان عبداً، والزوجة حرة بائنةٌ حامل، فإن قلنا: النفقة للحمل، فلا نفقة على الزوج؛ فإن المملوك لا يلتزم نفقة ولده، وإن قلنا: النفقة للحامل، فتجب النفقة على العبد، كما تجب عليه نفقة الرجعية، والنفقة في حالة الزوجية.
10155 - ومما ذكره الأصحاب أن النكاح لو ارتفع بالفسخ، وذلك بأن تفسخ المرأة النكاح بعيبٍ في الزوج، أو يفسخ الزوج النكاح بعيبٍ فيها، فإذا كانت حاملاً، قالوا: في النفقة قولان مبنيان على أن النفقة تضاف إلى الحمل أو إلى الحامل، فإن قلنا: هي مضافة إلى الحمل، فالنفقة واجبة على الزوج الحر إذا كان الولد حراً، وإن قلنا: النفقة للحامل، فلا نفقة.
وهذا فيه غموض؛ من جهة أن المفسوخ نكاحها كما لا تستحق النفقة، فالبائنة بالطلاق لا تستحق النفقة أيضاً.
وهذا مما يعسر الفرق فيه، ولم يذكر أحد من الأصحاب فيه كلاماً يقرُب مأخذه من الفقه إلا الصيدلاني، فإنه رمز إلى ما يكاد أن يكون فقهاً، فقال: الطلاق إلى
__________
(1) في الأصل: والرعاية.

(15/486)


الزوج تجنيسه وتصنيفه، بدليل أنه إن أوقعه رجعياً، كانت المرأة على عُلقة من الزوجية واضحة، وإن أوقعه على وجه البينونة، فالأمر إليه، وإن أوقعه قبل المسيس تعلقت البينونة، وهذه الجهات مضافة إلى تصرف الزوج بالتفهيم (1) والتأخير واستبقاء العود والإنفاء منه، فيجوز أن يقال: إذا طلقها مبيناً وهي حامل، فقد اختار استبقاء استعمالها في مقصود النكاح وعُلقته، فتجب النفقة لها، وإن كانت بائنة، وأما الفسخ، فلا انقسام فيه حتى يضاف إلى إيثار الزوج، ولا يقع الفسخ إلا [باتَّاً] (2) مبيناً.
وهذا تخييل لا تحصيل وراءه عندي، ولكن لم يختلف الأصحاب في إيجاب النفقة للبائنة بالطلاق الحامل، ورددوا القولين في المفسوخ نكاحها، وما أطلقوه من المسائل في المملوكة، والزوج المملوك ففيها قياسٌ جارٍ على حالٍ.
وإنما الغموض في محاولة الفرق بين البينونة الحاصلة بالطلاق وبين البينونة الحاصلة بالفسخ، والذي أراه في المسائل إذا غمضت مآخذها وضاقت مداخلها ومخارجها أن أرجع إلى القانون الذي [عوّل] (3) عليه الصاحب (4)، وقد لاح إلى أن معتمده القرآن، ولولا تنصيص الكتاب على إثبات النفقة للحامل، لقلنا من طريق القياس: في البائنة المطلقة الحامل قولان مبنيان على أن النفقة للحمل أو للحامل، ولو جرينا على المسلك الحق، لأوجبنا النفقة لكل حامل، تجب النفقة على صاحب الحمل إذا انفصل الحمل لاستعمال المرأة بالاستقلال بالحمل، ولكن الشافعي رأى النفقة ثابتة للحمل، والآيات مسوقة في الطلاق، والطلاق ثابتٌ على الإطلاق من غير فرق بين المبين منه وبين الرجعي، فلا معول إلا على نص الكتاب.
والمفسوخ نكاحها ليست مطلّقة، وحكم الفسخ يمتاز عن حكم الطلاق في
__________
(1) كذا. ولعلها (بالتعجيل) أو (بالتقديم).
(2) في الأصل: إلا باقاً مبيناً.
(3) في الأصل: عود.
(4) الصاحب: المراد به الإمام الشافعي إمام المذهب.

(15/487)


وجوه، فلم يبعد أن يُردَّ الرأي في الفسوخ إلى النظر، ويخصص وجوب النفقة للمطلَّقة بحكم القرآن.
وقد ينقدح وجه آخر، وهو أن الفاسخة هي التي تسببت إلى رفع النكاح، ولذلك سقط مهرها قبل المسيس، وقد تمهد أن فسخ الزوج بعيبها كفسخها بعيبه، فيجوز أن يستعمل هذا في قطع الفسخ عن الطلاق، من غير أن نلتزم إبداء معنىً في استحقاق المطلقة، فهذا ما أردنا ذكره.
10156 - ومما يتعلق بذلك أن كلَّ انفساخ يشابه الطلاقَ في اقتضاء التشطير، فهو في معنى الطلاق باتفاق الأصحاب، وذلك كارتداد الزوج؛ فإن النكاح وإن كان ينفسخ به، فالصداق يتشطر، وسبيله كسبيل الطلاق، وارتدادها بمثابة إنشائها الفسخ فليتخذ الناظر ما ذكرناه معتبراً.
10157 - وإذا لاعن الزوج عن زوجته [وانبتَّ] (1) النكاحُ، فإن كانت حائلاً، فلا شك أنها لا تستحق النفقة.
وأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو الزوج: إما أن ينفي الحمل باللعان -إذا رأينا نفيه - وإما ألا ينفيه، فإن لم ينف الحمل، [ولحقه] (2) النسب، فهذا نكاح انفسخ، ونسبُ الحمل لاحق، وقد اختلف أصحابنا في هذا الانفساخ، على طريقين: فمنهم من ألحقه بفسخ الرجل النكاحَ بعيبٍ فيها، حتى يخرَّجَ على القولين، كما قدمناه في الفسوخ.
ومنهم من ألحق ارتفاع النكاح بهذه الجهة مع لحوق الحمل بارتفاعه بالطلاق؛ من جهة أن الزوج إذا فسخ النكاح بعيبٍ فيها، فهي مسلِّمة أن الزوج يستحق سلامَتها عن العيوب. وأما اللعان؛ فإنه مبني على نسبة الزوج إياها إلى ما هي بزعمها متبرئة عنه، فلا يمتنع أن يكون اللعان من هذا الوجه كالطلاق.
وهذا هو المذهب الصحيح، وإن جرى الاختلاف في هذا؛ وجب بحسبه التردُّدُ
__________
(1) في الأصل: وأثبت.
(2) في الأصل: ولحقها.

(15/488)


في أن فُرقة اللعان هل تشطِّر الصداق، فإن نظرنا إلى جانبها، وجب القضاء بالتشطر، وإن نظرنا إلى إثبات الزوج ما نسبها إليه بحجة اللعان، فهذا بمثابة تمهيد عذر يقطع فراق اللعان عن الطلاق، هذا إذا لم ينف الزوج الحمل ولحقه.
فأما إذا نفى الحمل، فلا نفقة عليه أصلاً، فإن نظرنا إلى النسب، فهو منتفٍ عنه، وإن نظرنا إلى المرأة، فليست حاملاً عنه بولد منتسب إليه، فهي في حقه بمثابة [الحائل] (1)؛ فينتظم منه أنها لا تستحق النفقة قولاً واحداً.
وهذا قد يعترض فيه إشكالٌ واقع، وهو أن الزوج إذا كان عبداً، وقد طلق امرأته الحامل طلاقاً مبيناً، فقد خرّجنا وجوب النفقة عليه على قولين، وقلنا: إن صرنا إلى أن النفقة للحمل، فلا نفقة على المملوك، وإن قلنا: النفقةُ للحامل، لزمته.
فلو قال قائل: ما وجه إلزامكم إياه النفقة مع العلم بأنا وإن أضفنا وجوب النفقة إلى الحامل، فهي بسبب الحمل، وليس هذا الزوج المملوك مما (2) يلتزم نفقةَ المولود، فينبغي ألاّ يلتزمَ نفقةً بسبب المولود، فإن ذلك النسب وإن كان ثابتاً ينبغي أن لا يؤثر إذا كان لا يوجب النفقةَ فأي فرقٍ بين نسب ثابت لا يوجب النفقة وبين نسب منتفٍ باللعان، وهذا غامض جداً.
أما قطعنا بسقوط النفقة في مسألة اللعان فمنقاس، وأما ترديد القول في الزوج المملوك، فمشكل، وكذلك القول فيه إذا كانت الزوجة مملوكة وكانت حاملاً [فولدها] (3) مملوك، ولكن النقل عن الأصحاب ما ذكرناه، ولعلنا ننعطف بالبحث انعطافاً [يوضح] (4) بعضَ الإشكال على حسب الإمكان.
10158 - وإذا انتهينا إلى اللعان، فنستتم ما ذكره الأصحاب فيه، فنقول: إذا نفى الحملَ ونفينا النفقة، فولدت المرأة، وأخذت تنفق على ذلك المولود، فإن انتماءه
__________
(1) في الأصل: الحامل.
(2) كذا، وقد ترد (ما) للعاقل.
(3) في الأصل: فولد مملوك.
(4) في الأصل: نوع بعض الإشكال.

(15/489)


إليها ثابت، فلو أن الزوج [أكذب] (1) نفسه، واستلحق الولد، فالولد يلحقه لا محالة، ثم يقع الكلام بعد هذا في النفقة التي أخرجتها المرأة. قال الأصحاب: ظاهر المذهب أن المرأة ترجع على الزوج بما أنفقته على المولود على اقتصادٍ، وهذا يخالف قياساً كلياً، من جهة أن من لم ينفق على ولده أياماً ظلماً وضيْعةً، فلا تصير نفقة الأيام الماضية ديناً عليه، بخلاف نفقة الزوجية، هذا هو المذهب الذي عليه التعويل، وسنذكر في بعض الصور خبطاً من بعض الأصحاب، وإنما جرياننا الآن على ما هو المذهب المعتمد.
فإذا تمادى الزوج على نفي المولود بعد الانفصال، فأنفقت المرأة، فحكم ما أشرنا إليه من القياس [ألاّ تجد] (2) المرأةُ مرجعاً، ولكن سنذكر في نفقات القرابة أن الأم تملك الاستدانة على الأب في نفقة المولود، وهذا من ولايتها، كما سيأتي موضحاً بعد ذلك، إن شاء الله، فالذي أخرجته في تمادي الزوج محمول على سلطانها، فإذا اكذب الزوج نفسه، ثبت حق الرجوع.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً أنها لا ترجع، وهذا يعتضد بالقياس الذي ذكرناه، وفي كلامه تشبيبٌ بأن الأم لا تملك الاستدانة على الزوج، وإن استدانت من غير مراجعة القاضي، لم تجد مرجعاً، وسنوضح هذا، إن شاء الله.
وهذا القائل يقول: قول رسول الله صلى الله عليه: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف " قضاء منه لها، وهو سيد السادة وقاضي القضاة، فإن طردنا هذا الباب، فلا كلام، وإن قلنا: للأم الاستقراض في الولد الملتحِق، فصاحب الوجه الضعيف في مسألة اللعان قد يقول: هي ما أخرجت النفقة لترجع بانية أمرَها على تكذيب الزوج نفسه، إذا كان الأصل ألا يُكْذِبَ [نفسه] (3) بعد اللعان، فإنفاقها محمول على التبرع بالإنفاق، وهذا المعنى لا يتحقق [في] (4) الولد الملتحق.
__________
(1) في الأصل. كذب.
(2) في الأصل: "أن تجد" وهو خطأ لا يستقيم الكلام معه.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: إلى.

(15/490)


10159 - ومما يتعلق بهذه المسائل أن الرجل إذا وطىء امرأة خليّةً عن النكاح بشبهة، وعلقت عنه بمولود، وزمانُ الحمل عِدتُها، [فقد] (1) قال الأصحاب: في استحقاقها النفقة على الزوج (2) قولان مأخوذان مما تمهد من قبل، وهو أن النفقة للحمل أو للحامل، فإن قلنا: إنها للحمل، فعلى الواطىء النفقة إذا كان ممن يستوجب نفقة القريب، وإن قلنا: النفقة للحامل، فلا نفقة لها؛ فإنها ليست في عُلقة نكاح.
وهذا مشكل؛ من جهة أن الرجل إذا كان من أهل التزام نفقة الولد، فيجب القطع بالتزام نفقة الأم لقيامها بحفظ الولد، واستقلالها بحمله، كما نوجب عليه نفقةَ المرضعة والحاضنة بعد انفصال المولود، فهذا من مواضع النظر.
10160 - فقد أدينا ما بلغنا من قول الأصحاب في محل الوفاق والخلاف، ونقلنا ما ذكروه على تثبت، وهذا أوان الانعطاف على ما سبق، ونحن الآن نذكر مسلكين: أحدهما - في ضبط المسائل وترتيبها بعقدٍ جامع، والآخر - في تتبع العلل على مبلغ الوسع.
أما الترتيب فنقول: الكلام في الحامل: فإن لم ينتسب الحمل كما قدمناه في الحمل المنفي باللعان، فلا نفقة أصلاً، وإن كان منتسباً إلى الزوج، وهو ممن يلتزم (3) نفقة الولد [والفراقُ] (4) طلاق، فهذا موضع القطع بوجوب النفقة.
وإن انتسب الولد والزوج ممن لا يلتزم نفقتَه منفصلاً والفراق طلاق، فقولان، وهذا يشمل صورتين: أمة حامل بولدٍ مملوك، والزوج حر، وحرة حامل والزوج مملوك.
__________
(1) في الأصل: ثم قال الأصحاب.
(2) على الزوج: أي الزوج الذي خلاّها.
(3) قيّد بمن يكون من أهل الالتزام بالنفقة، ليخرج المملوك مثلاً، فإنه ليس من أهل التزام النفقة لولدٍ ولا قريبٍ كما سيذكر في الأسطر الآتية.
(4) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

(15/491)


وإن كان ارتفاع النكاح بالفسخ الذي يُسقط المهر قبل المسيس، والولد منتسبٌ، والزوج ممن يلتزم نفقةَ المولود، فقولان.
وإن كان الولد منتسباً والزوج ممن لا يلتزم نفقة المولود -كالصورتين في المملوكة والزوج المملوك- فالقطع بسقوط النفقة؛ لأن النفقة إن أتت، أتت من قبل الولد، فإن انتفت من جهته، فلا نفقة، بخلاف ما إذا كان الفراق بالطلاق.
وفي الفراق الحاصل باللعان مع انتساب الولد وكون الزوج ممن يلتزم نفقة المولود الخلافُ الذي قدمناه، والواطىء بالشبهة إن كان ممن لا يلتزم نفقة المولود، لا يلتزم النفقة التي حُملت عنه، وإن كان ممن يلتزم نفقة المولود، ففي المسألة قولان.
فهذا ترجمةٌ لما قدمنا مفرقاً.
10161 - ونحن بعد ذلك نفتتح حَلَّ ما يشكل على حسب الإمكان، والله المستعان فلنرجع القهقرى، ولنبتدىء بالواطىء بالشبهة، حيث أجرى الأصحاب القولين، فكان الوجه القطع بيجاب النفقة، لما نبهنا عليه، ولكن حاصل هذا الخلاف عندي يؤول إلى أن مَنْ منه الحمل، ولا علقة سواه، هل يلتزم مؤنتَه قبل وضعه؟ فيه قولان: أحدهما - أنه يلتزم، وقياس ذلك بيّنٌ. والثاني - لا يلتزمها؛ فإنه جزء منها ملتحق بها، ولا يثبت التزام مؤنته إلا إذا انفصل عنها، واستقل بنفسه، وهذا كما أنا لا نثبت على الأب إخراجَ فطرةِ حمل، ولا نوجب الزكاة في ماله -إن كان له مال- على الرأي الظاهر، ولا يجوز إعتاقه عن الكفارة، فهذا هو الوجه في تخريج هذا الخلاف، وأما النظر إلى الحمل والحامل، فلا يشفي الغليلَ في هذا المقام.
وأما ما ذكرناه في المفسوخ نكاحُها، فهو يخرّج على هذا النَّسق؛ فإنها في نفسها -وقد بانت بالفسخ- لا تستحق النفقة لعلقة النكاح، فلا يبقى إلا النظر في الحمل، فالقولان يرجعان إلى أن مؤنة الحمل هل تجب على من ستجب نفقة المولود [عليه] (1) إن انفصل، وفيه ما بيّناه الآن من القولين.
10162 - وأما المطلَّقةُ المملوكةُ الحاملُ، والحرة المطلقةُ تحت العبد المملوك
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(15/492)


أجرى (1) الأصحاب في وجوب النفقة على الزوج في المسألتين قولين، وكان ترتيبهم ما نقلناه عن الأصحاب، فنجدده، قالوا: إن قلنا: النفقة للحمل، فلا نفقة على الزوج في المسألتين؛ فإن ولد المملوكة مملوك، ونفقته على مالكه، لا على أبيه، وإذا كان الزوج مملوكاً، لم يلتزم نفقة ولده الحر.
هذا إذا قلنا النفقةُ للحمل.
وأما إذا قلنا: النفقة للحامل، والحامل مطلَّقةٌ في المسيس، فيجب على الزوج النفقة، وهذا مشكل؛ لأنها إن اعتبرت في نفسها، فهي بائنة، فكانت مع رفع الحمل من [البين] (2) بمثابة الحائل، ولو كانت حائلاً، لما وجبت النفقة، ولا يخرج قياس الكلام في هاتين الصورتين على القاعدة المقدمة في الموطوءة بالشبهة، والمفسوخ نكاحُها؛ فإنا قلنا: إذا أوجبنا على الوالد نفقة الولد عند الانفصال، فهل نوجب القيام بمؤنة الحمل وتربيته قبل الانفصال؟ فعلى ما ذكرنا من القولين، وهاهنا لا يجب على الزوجين نفقةُ الولد إذا انفصل قولاً واحداً، والبائنة في نفسها لا تستحق النفقة قولاً واحداً لو قدر انعدام الحمل، فلا مطمع في تخريج المسألتين على ما ذكرناه قبل.
10163 - ولو ظن ظان أنه ينقدح في هذا معنىً يعوّلُ على مثله في مجاري الأحكام، فظنه خائب، ورأيه غير [صائب] (3)، ولكن تثبت نفقة الحامل [المطلَّقةِ] (4) بنص القرآن؛ فإنه عز من قائل قال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فيثبت بالنص نفقةُ الحامل على الزوج، وليس في القرآن فصلٌ بين الزوج المملوك والزوج الحر.
وليس في مساق الخطاب فرقٌ بين أن تكون المطلقة أمةً أو حرة، ولكن الظاهر
__________
(1) جواب أما بدون الفاء، وهو لغة كوفية جرى عليها الإمام كثيراً.
(2) في الأصل: "اليمين" والمثبت تقديرٌ من المحقق؛ فهذا اللفظ يستعمله في مثل هذا السياق غالباً.
(3) في الأصل: غير صاحب.
(4) في الأصل: المطلق.

(15/493)


إجراء ظاهر الخطاب على المعتاد الغالب، وتوجيهُ الخطاب على الأزواج بالإنفاق من الوُجد يصرِّح بوصف الأحرار، ومخاطبةُ الحرائر بملازمة مسكن النكاح، ورفع الحجر عنهن بطريق المفهوم عند انقضاء آماد العِدد، يدلى على أن الكلام منزّل على الحرائر، كيف والشافعي يرى الإماء مستثنيات عن قاعدة النكاح، وعلى ذلك بنى مسائله في منع الحر القادر على طَوْل الحرة من نكاح الأمة، فظهر أن الآيات منزلة على الحرّ مطلِّق الحرة.
ثم اعترضت المسألتان: إحداهما - في المملوك يطلق الحرةَ الحاملَ، والأخرى - في الحر مطلِّقِ الأمةِ الحامل، فتردد فيهما الكلام؛ من حيث إنه ليس في القرآن نص على الحرّ والحرّة، وإنما الذي ذكرناه إجراء على غلبة الاعتياد، وتحويمٌ على تلقٍّ من قرينة، فأمكن إجراء النفقة، حتى كأنها نفقة النكاح، وعارض هذا ما أشرنا إليه من القرائن، وبعُدَتْ المسألتان من جهة سقوط نفقة الولد عن كونهما في معنى الحر مطلِّقِ الحرةِ الحامل، فكان التردد مأخوذاً من هذا المأخذ، من غير تمسكٍ بطردِ معنىً وعكسه.
10164 - فهذا ما نراه، [ولا يستدّ] (1) على قوانين الشافعي [غيرُه] (2)، فلتقع المسائل التي ذكرها الأصحاب [نوعين] (3): أحدهما - يشتمل على ما يدار على نفقة المولود، وهو مسألة الواطىء بالشبهة ومسألة المفسوخ نكاحُها، والنوع الثاني - يشتمل على الحر مطلِّق الحرة، وهو منصوص عليه في القرآن قطعاًً، والمسألتان الأخريان في الحرِّ مطلِّق الأمة الحامل [والمملوكِ] (4) مطلِّق الحرة الحامل مردَّدتان في الإلحاق بالحر مطلّق الحرة على النسق الذي ذكرناه، من غير تمسك باعتبار نفقة الولد.
__________
(1) في الأصل: ولا يستمرّ. وهو تصحيف تكرر كثيراً. ومعنى لا يستذ: أي لا يستقيم، وهذا اللفظ معهود في لغة الإمام كثيراً.
(2) في الأصل: عنده.
(3) في الأصل: " فلتقع المسائل التي ذكرها الأصحاب لو عين ". وهو تصحيف مضلل.
(4) في الأصل: المملوك (بدون الواو).

(15/494)


وهذا ليس أمراً نتكلفه، ولكنه تصرف في لُباب مذهب الشافعي واقتصاصٌ لآثاره في بناء مسائل الباب على الآية، وبها صدّر أولَ مسائل الباب.
وقد نجز بهذا المسلكان الموعودان في الترجمة والمباحثة [ورَدُّ] (1) المسائل إلى قواعدها.
10165 - ونحن بعد ذلك نذكر قاعدةً تلتحق بالأصول، وتقع تتمةً لها، ونذكر ما يتصل بها، ثم نختتم الكلام بمسائلَ بعضها منصوصة، وبعضها نجريها فروعاً، فنقول: إذا أوجبنا النفقة للحامل: إما في جمورة القطع، وإما على أحد القولين في صور الخلاف، فقد أطلق الأئمة وراء ذلك قولين في أنا هل نوجب تعجيل النفقة إذا ظهرت أمارات الحمل، أم نقول: لا يجب تعجيلُها، ونتوقفُ، وقد يكون ما نتخيله ريحاً فتنفُشُ، فإن وضعت الحملَ، أوجبنا حينئذ نفقةَ زمان الحمل؟
أحد القولين - أنه يجب التعجيل، والقول الثاني - أنه لا يجب التعجيل، وبنى الأصحاب هذين القولين على قولين اشتهر ذكرهما في أن الحمل هل يُعرف؟ وقالوا: إن قلنا: الحمل لا يعرف، فلا يجب التعجيل، وإن قلنا: الحمل يعرف، فيجب التعجيل في الحال.
وهذا عندي اكتفاء بظاهرٍ من غير تشوّفٍ إلى درْك حقيقة؛ فإن القول لا يختلف في أن الحمل لا يُقطع به، ولا ينكر أحدٌ كونَه مظنوناً، ثم لا ينكرون أن الظنون تتفاوت: فهي على حدٍّ في أوائل العلامات، وإذا توافت، ورَبَا البطنُ، وانضم إلى الرّبُوّ اختلاجُ المولود، فهذا يكاد يقرب من اليقين، فكيف يسوغ إطلاق القول بأن الحمل [هل] (2) يعرف؟ نعم، إذا بدت العلامات، فقد نقطع في بعض الأحكام بتقدير الحمل، وقد نتردد في بعضها، ومواضع القطع تتميّز عن مواضع التردد بطرق فقهية، وقد ألحق الأصحاب هذا الحكم الذي فيه نتكلم بمواضعِ التردد.
ونحن نُجري ما ذكره الأصحاب بطريق توجيه القولين، فنقول: من لم يوجب
__________
(1) في الأصل: ويردّ.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(15/495)


التعجيلَ، قال: النكاح منبتٌّ، ولقد كان سبباً لإيجاب النفقة، فزال، ولم يتحقق الحملُ، والأصل براءةُ الذمة، فلا وجه للمصير إلى تنجيز النفقة إيجاباً.
ومن نصر القول الثاني، وهو الأصح، بل حُكم أصل الشافعي القطعُ بإيجاب
التعجيل؛ فإنه تلقى وجوبَ النفقة من ظاهر القرآن، وقد قال عز من قائل: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فصرّح الخطابُ باستفتاح الإنفاق وامتداده إلى وضع الحمل، ومن أخر الإنفاق، فهو في حكم المخالف لنص القرآن، وهذا المسلك في التمسك بظاهر القرآن يضاهي تعلُّقَنا بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الدية المغلّظة: [إذ قال] (1): " وأربعون خلفة في بطونها أولادها " فاقتضى فحوى قول المصطفى الحكمَ بتقدير الأجنة في بطون الأمهات إذا ظهرت العلامات، فكان الحمل في هذا في حكم المعلوم المقطوع به.
ويتأيد هذا القولُ بمسلكٍ آخر عليه ابتناءُ النفقات، وهو أنها لو أُخرت النفقة عنها قد تتضرّر، وقد يُفضي الأمر إلى الإجهاض، فلا يليق بمحاسن الشريعة تجويزُ تأخير الإنفاق، والغرض من الإنفاق تربية الحمل.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه من التعلق بالقرآن والمعنى مرتفعٌ عن درجة الظنون؛ فأي متعلَّقٍ يبقى للقول الآخر؟ قلنا: لعل ذلك القائل يجعل فحوى الخطاب في الكتاب لتقدير مدةِ النفقة لا للتعجيل، وليس هذا كقوله عليه السلام في الديات: " الأربعون خلفة "؛ فإنه قال: " في بطونها أولادها " فإن الأولاد إذا انفصلت، وصارت فُصلاناً وأَحْوِرة (2)، فليست هي خَلِفات، وليس في بطونها أولادها، فلا يتطرق إلى ذلك إمكان التأويل، ولو انفصلت أولادُها واستُحِقت تابعةً، [لزاد] (3) العدد على المائة بخلاف ما نحن فيه. وأما إفضاء تأخير الإنفاق إلى إهلاك الجنين، فليس بذاك؛ فإنها ستنفق من مال نفسها، وإن لم تجد، لم تضِع في وضع الشرع،
__________
(1) في الأصل: أن قال.
(2) الفصلان والأحورة: جمع فصيل وجمع حُوار، وهما من أسماء الإبل في أول عمرها. ثم هي في الأصل (أجورة).
(3) في الأصل: أراد العدد.

(15/496)


ويؤول الكلام إلى الرجوع والاسترداد عند تبيُّن الأمر.
ولسنا ننكر -مع هذا التكلّف- أن الأصح تعجيلُ النفقة.
وفيه دقيقةٌ سيأتي التفريع عليها -إن شاء الله- وإذا انتهينا إليها، نبّهنا على بديعةٍ هي سر المذهب.
التفريع على القولين:
10166 - إن قلنا: يجب تعجيلُ الإنفاق، فإن أنفق، لم يخل: إما أن يَبِينَ أنها حامل، وإما أن يَبِين أن ما بها ريحٌ [قد نَفَشت] (1).
فإن بان أنها حامل: فقد وقعت النفقة موقعها، ويجب على الناظر أن يعلم أنا لا نوجب استفتاح الإنفاق ما لم تشهد نسوةٌ من ذوات الخبرة على كونها حاملاً، وإنما خصصناهن بالذكر لمسيس الحاجة إلى الاطلاع على ما لا يظهر إلا في وقت الحاجة من النساء، ولا ننكر إحاطة الرجال بذلك.
فلو جئن وقلن: إنها حامل، وهن أثبات، فذاك، وإن قلن: لا سبيل إلى القطع بذلك، ولكن توافت علاماتُه، فهل يثبت الحمل بهذا أم لا؟ هذا فيه تردد عندي: يجوز أن يقال: لا بد وأن يَجْزِمْن إقامةً لمراسم الشهادات المقامة في مفاصل الخصومات، وهذا كما أن الشهود يجزمون شهاداتهم بالملك، وإن كانوا على القطع لا يستندون إلى ما يقتضي العلمَ، ولو أبدَوْا ترددَهم، بطلت شهادتهم، فلتكن شهادات النسوة على الحمل بهذه المثابة.
ويجوز أن يقال: إذا أخبرن بحقيقة الحال، كفى ذلك، وهذا يمكن تقريبه مما ذكر من أن الحمل هل يعلم؟ حتى تكون فائدة هذا أنا هل نكلّف الشهود [الألفاظ] (2) المشعرة بالعلم أم يكتفى بما يدل على الظنون الغالبة، ومن يكتفي بما يدل على الظنون الغالبة يستشهد بشهادة العدل الرضا الذي هو من أهل مخالطة الرجل على الإعسار، فإنه لو قال: خبرت ظاهره وباطنه، فظهر لي إعساره، ولا أعلم له مالاً، فقد يُكتفى
__________
(1) في الأصل: فرا نفشت.
(2) زيادة اقتضاها السياق، وساعد عليها معنى كلام ابن أبي عصرون.

(15/497)


بهذه الصيغة في إثبات الإعسار. وكذلك إذا شهد الشاهد حَصْرَ الورثة، فيكفي أن يقول: لا أعلم له ورثة سوى هؤلاء.
وأما الشهادة على الملك، فيعسر الانفصال عنها، ولكن حقيقة الملك ترجع إلى ملك التصرف، ومن تحقق عنده تسلط إنسان على تمادي الزمان من غير ظهور منازع، فيمكن أن يحكم له بملك التصرف، ولا معنى للملك -وإن جزم- إلا الاقتدار على التصرف.
فهذا ما أردنا أن نذكره. وحقائق القول في مراتب الشهادات وخواصها ستأتي في موضعها، إن شاء الله.
هذا إذا أوجبنا عليه تعجيل النفقة.
10167 - فلو أخذ في الإنفاق فأَجْهَضَت المرأةُ جنينَها بعد بُدوّ التخليق والتخطيط، فالنفقة واقعةٌ [موقعها] (1) وإن لم ينفصل الحمل حياً، وذلك أنا نوجب كفاية الحمل، ولا ننظر إلى خروجه حياً، فإن اتفق إجهاضٌ لعارضٍ عرض، فتلك المؤنة مصادفةٌ حقها.
فأما إذا بأن أنها لم تكن حاملاً، وقد أنفق الزوج على تقدير الحمل، فهذا موضعٌ يتعين صرف الاهتمام إليه، والغرض منه تفصيل القول في أن الزوج هل يرجع فيما أخرجه قائلاً: قد أنفقت على ظن الحمل، فإذا بأن أن لا حمل، ولا نفقة للبائنة الحائل، فأسترد ما أنفقته: سبيل الكلام في ذلك أن الزوج إذا كان يرى تعجيلَ النفقة قبل وضع الحمل مستحَقاً؛ فإنه يرجع إذا بان عدمُ الحمل، وكذلك إذا كان لا يرى التعجيل مستحقاً، ولكن ارتفعت الواقعة إلى مجلس حاكم يعتقد إيجابَ التعجيل، فإذا ألزمه التعجيل، فاتّبع إلزامَه وارتسم أمره، ثم تبين انتفاء الحمل، فيثبت الرجوع.
هذا إذا فرعنا على قول إيجاب التعجيل.
10168 - وأما إذا فرعنا على القول الآخر، وقلنا: لا يجب الإنفاق ما لم تضع
__________
(1) في الأصل: " موتها ". وهو تصحيف قريب إدراكه.

(15/498)


المرأة الحملَ، فيتفرع على هذا القول أمران: أحدهما - تتمة فصلٍ ابتدأناه والأوْلى تقديمُه، وهو أن الزوج إذا عجل النفقة على قولنا لا يلزمه التعجيل - وكان لا يعتقد هو في نفسه وجوب التعجيل، ولم يحمله قاضٍ عليه، ولكنه تبرع، فعجّل، فإن بان أنها حامل، وقع ما عجله موقعه، وإن بأن أنَّهَا حائل، ففي هذا اختباط الأصحاب، ونحن نجمعه مع ما قدمناه في ضبط حاوٍ، إن شاء الله.
فنقول: كل من أخرج مالاً على اعتقاد أنه واجب عليه في الحال، ثم تبين أنه لم يكن واجباًً عليه، فله الرجوع فيه، بلا خلاف، سواءٌ ذكر الجهةَ التي أخرج المال فيها أو لم يذكرها وأطلق الإخراج، فلو أدى إلى إنسان مالاً على ظن أنه يَستَحِقُّ عليه دَيْناً، ثم بأن أنه لا يَستحِق عليه شيئاًً، فيسترد ما دفعه إليه، وإذا كان للرجل مال غائب، فحسب بقاءه، وأخرج زكاتَه بعد حولان الحول، ثم تبين أن ذلك المالَ هالكٌ، فالذي أخرجه يسترده، فإنه أخرجه على قصد الوجوب، ثم تبين أن الزكاة ليست واجبةً عليه.
ولو كان يتوقع وجوباً، فعجل قبل تحقق الوجوب، ثم لم يثبت الوجوب المنتظر، فهل يرجع فيما أخرجه؟
هذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن يكون وقوع الوجوب متأخراً لا يستند إذا ثبت إلى الحالة الراهنة، وقد لا يقع الوجوب في الاستقبال، وهذه كالزكاة تعجل قبل حلول الحول، فالزكاة تجب عند انقضاء الحول إن توافت الشرائط، فإذا فرض التعجيل، ثم امتنع وجوب الزكاة، فهل يملك الرجوع فيما قدمه؟ [ذكرنا] (1) تفاصيلَ موضحةً في باب التعجيل من كتاب الزكاة، لا نجد بدّاً من رمزٍ إليها، وإلى تراجمها: فإن قال عند الإخراج: هذه زكاتي المعجلة فإن لم تجب، رجعتُ فيها، فله الرجوع.
وإن قال: هذه زكاة مالي المعجلة، ثم لم تجب الزكاة، ففي الرجوع كلام، والظاهر الرجوع.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(15/499)


وإن قال: هذا صدقة مالي أو زكاة مالي، ولم يقيّد بالتعجيل، ثم تبين الأمر، ولم تجب الزكاة، ففي ثبوت الرجوع خلاف مرتب، وهاهنا أولى بأن لا يثبت الرجوع.
ولو أطلق الإخراج، ولم يتعرض لذكر شيء، فالظاهر هاهنا أنه لا يرجع، وفيه خلاف.
فإذا تبينت هذه المراتب في هذا القسم، ابتدأنا بعده القسم الثاني، وهو مقصودنا، فإذا عجل النفقةَ، فلو تبين الحملُ، لترتب عليه أن النفقة أُخرجت في وقت وجوبها، فإن الوجوب يستند (1)، وإنما لا نوجب التعجيل على هذا القول الذي نفرع عليه، لأنا لسنا نتبين الحمل، ولا نرى الإخراج من غير ثبت.
10169 - فإذا تُصوِّر هذا القسم وتميز عن القسم المذكور قبله، فنذكر ما أرسله الأصحاب فيه، ثم نوضّح الأصل الذي عليه التعويل.
قال الأصحاب: إن عجل النفقة، وشرط الرجوع، ثم بان انتفاءُ الحمل، رجع.
وإن لم يشترط الرجوع، ثم بان انتفاء الحمل فهل يرجع؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع؛ لأنه أخرجه على تقدير الوجوب، فإذا بان أن لا وجوب، ثبت له حق الرجوع، كما لو دفع مالاً إلى إنسان، وهو يعتقد أنه يستحق عليه دَيْناً، ثم بان أنه لا حقّ له، فالباذل يرجع.
والوجه الثاني - أنه لا يرجع؛ لأنه متبرع بالإخراج في الحال، فإن لم يثبت الوجوب، حمل ما أخرجه على التبرع، وما قدمناه من المراتب في الزكاة المعجلة لا حاجة إلى ذكرها هاهنا؛ فإنها تَعلم أن النفقة تأتيها من قِبل ظن الحمل، والعلم (2) في هذا بمثابة الزكاة، والمسكين إذا جاءه مال عن ذي ثروة، فيجوز أن يكون متصدقاً عليه على سبيل التطوع، فالتفصيل الذي لا بد منه هاهنا ما ذكرناه من شرط الرجوع والسكوتِ عنه. هذا ما تمسّ الحاجة إليه في هذا القسم.
__________
(1) يستند: أي يقع مستنداً إلى تحقق الحمل الذي لم يكن محققاً وقت إخراج النفقة.
(2) أي علم الزوجة التي تتلقى النفقة يكون بمثابة المسكين الذي يتلقى الزكاة.

(15/500)


10170 - والسر الموعود الذي به بيان التفاصيل أن من أعطى على اعتقاد الوجوب وظنِّ توجّه الطَّلِبة، ليس يخطر له التبرع بوجهٍ، فلا جرم إذا لم يقع عن الجهة المعيّنة، فلا وجه إلا الاسترداد؛ فإن الرجوع إلى قصد المعطي، فإذا جرّد قصده وحملَه على عقدٍ لا تردد فيه عنده، ثم بان بطلانُ القَصْد، والعَقْدِ، فيبقى مجرد البذل، ومجرد البذل لا يملّك القابض؛ إذ تسليم المال يقع على وجوهٍ، والمملّك منها بعضُها، فإذا بطل ما قصد، ولم يثبت مملِّك، وصورةُ الإقباض لا تملّك، فلا يخفى ثبوت الاسترداد.
واستدل الأصحاب على هذا مع وضوحه بحديث أُبي بنِ كعب، قال رضي الله عنه: كنت آتي بعضَ الأنصار، فأقرئه وأعلِّمه القرآن، فأعطاني قوساً، فأتيت به رسول الله صلى الله عليه، وقصصت عليه القصة، فقال عليه السلام: " أتحب أن يقوّسك الله بقوس من نار؛ فقلت: لا، قال: فارددها " (1)
وقد يستدل أصحاب أبي حنيفة بهذه القصة إذا قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على
تعليم القرآن، وهذا لعدم إحاطتهم بمعنى الحديث؛ فإن أُبيّاً رضي الله عنه، ما كان
يعلّم الأنصاري بأجرة، وإنما كان يتقرب إلى الله بتعليمه، فظن الأنصاري المتعلم أنه
يستحق عليه أجراً، فأعطاه القوسَ ظاناً أنه باذلٌ حقاً عليه، فلما اطلع رسول الله على
حقيقة الحال أمره بردّ القوس؛ فإنه لم يقع حقاً مستحَقّاً على ما ظنه الأنصاري، ولو
كان الأنصاري متبرعاً، فالتبرع [غيرُ] (2) مردود باتفاق المذاهب. هذا إذا اتحد القصد
والعَقْدُ، ثم بأن خلافه.
10171 - فأما إذا علم الباذل أنه لا حق عليه في الحال، وكان لا يتوقع وجوباً في
المآل، وهو فيما بذله على قصد تعجيله، فبذْلُه تبرع، فإن كان هبة، فقد نقول:
__________
(1) حديث أبي بن كعب أنه علم رجلاً القرآن ... الحديث. رواه ابن ماجه (التجارات) باب:
الأجر على تعليم القرآن، ح2158، والبيهقي في الكبرى (6/ 126) من رواية
عبد الرحمن بن سلم عن عطية الكلاعي عن أبي به. وقد أعل الحديث بوجهين، أطال
الحافظ في مناقشتهما (ر. التلخيص: 4/ 13 ح1849).
(2) زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.

(15/501)


لا حاجة إلى اللفظ فيه إذا لم يكن معتاداً، وقد نُحْوَج إلى اللفظ فيه على [ما] (1) تمهد في كتاب الهبات.
وإن قصد الصدقة [فالرأي] (2) الظاهر أنه لا حاجة إلى اللفظ، ثم لا رجوع [في] (3) الصدقة.
وإذا كان لا يجب إخراج شيء في الحال، فأخرجه على قصد أن يكون عما سيجب، فللأصحاب تردُّدٌ وتفصيل في أن الزكاة إذا لم تجب في المآل، فهل يملك هو الرجوع؟ وسبب هذا التردد أنه يملِّك ذلك القابض، ويبعد تنجيز الملك عن واجبٍ، ولا واجبَ، وإذا ثبت للقابض تصرفُ الملاك ناجزاً، فليتنجز له مملّكٌ، وإنما يتحقق هذا بأن يقال: إن وقع عن الواجب فذاك، وإلا وقع عن جهة أخرى مملّكة؛ فإن القابض ليس مستقرضاً، فإذا أعطى المعجّل عن خِيَرة وتسلط [القابض] (4) على التصرف في الحال، أثبت هذا منعَ الرجوع على تفاصيلَ عند بعض الأصحاب.
فهذا هو الذي أوجب تردد الأصحاب، وإذا قيّد بالرجوع، رجع، وهو يوهي التعليل الذي ذكرناه من تنجيز التسليط على التصرف، ولكن إذا قيَّدَ، لم يُبق إمكاناً، وحمل جوازُ تصرف المسكين على الحاجة الحاقّة الناجزة، وعليها بناءُ الاستحثاث على التعجيل.
وأما تعجيل النفقة في مسألتنا، فالرجوع فيه أولى وأقرب؛ لأن الوجوب يستند إلى حال الإخراج إذا بان الحمل، وكلما كان الوجوب أظهر وأوقع، كان الرجوع إذا لم يتحقق الوجوب أوْلى.
ثم إذا كنا نثبت الرجوع، فجواز تصرّف المرأة محمول على حاجتها الناجزة، كما ذكرناه في تعجيل الزكاة، ولا حاصل لقول من يقول: قد تكون موسرة بمال نفسها؛
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: بالرأي.
(3) في الأصل: إلى.
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(15/502)


فإنّ قبضها ما يُستَحَق وتصرفها فيه وإن كانت مستغنية عنه بمثابة قبض المسكين حقَّ نفسه.
فهذا بيان هذه المنازل.
10172 - وقد يعترض على الترتيب الذي نظمناه شيء، وهو أن من أخرج زكاةَ ماله الغائب بعد انقضاء الحول، على ظن بقاء المال، فالقاعدة التي استثنيناها تقتضي القطعَ بثبوت الرجوع في هذه الحالة؛ فإن مُخرج الزكاة مُجَرِّدٌ قصدَه إلى جهة الوجوب ظانٌّ أن الزكاة واجبة منتجزةٌ في الحالة الراهنة، ولكن ذهب طوائف من الأصحاب إلى ترديد القول في أنه هل يملك الرجوع، وهذا يكاد يخرِم ما ذكرناه، ووجه ما ذكره هؤلاء أنا لا نوجب عليه إخراج الزكاة عن ماله الغائب ما لم يكن على تحقُّقٍ من بقائه، فلعل الترددَ في الرجوع محمولٌ على هذا، ووجه القياس إثباتُ الرجوع بخلاف تعجيل الزكاة، وبخلاف تعجيل النفقة فيما نحن فيه.
هذا تمام المراد في أحد المقصودين، وهو أنه هل يملك الرجوعَ إذا عجل وقلنا: لا يلزمه التعجيل، ثم بأن أنْ لا حمل.
10173 - فأما المقصود الآخر فنقول: مبنى نفقة القرابة على السقوط بمرور الأيام، كما سيأتي شرح ذلك في نفقة القرابة -إن شاء الله- فإن قلنا: النفقة للحامل، ظهر إلحاقها بنفقة الزوجية، وهي لا تسقط بمرور الزمن، وكذلك نفقة الرجعية، وإن قلنا: النفقة بحال وجوبها على الحمل، ثم قلنا: لا يجب التعجيل، فإذا وضعت حملَها، لم يختلف الأصحاب -حيث انتهى التفريع إليه- أنه لا تسقط النفقة بمرور زمان الحمل، وإن كان الوجوب تبيّن مستنداً إلى ما تقدم، وذلك أنا لو أسقطنا النفقة بمضي الزمان، وقلنا لا يجب تعجيل الإنفاق إلى الوضع، فهذا إسقاط النفقة قصداً،
فيتعين القطع بأن النفقة لا تسقط بمضي زمان الحمل، وإن قلنا: النفقة للحمل.
وأما إذا أوجبنا تعجيلَ الإنفاق كما (1) بدا الحمل ووضحَ بطريق وضوحه، فإن
__________
(1) كما: بمعنى عندما.

(15/503)


قلنا: النفقةُ للحامل، لم تسقط بمرور الزمان، حتى لو أخرها، ولم يخرجها حتى وضعت المرأة الحملَ- استقرت النفقة في ذمته دَيْناً.
وإن قلنا: النفقة للحمل، وأوجبنا تعجيلَها، فلو أخرها حتى وضعت المرأة، ففي سقوط النفقة وجهان في هذا المنتهى، سنعيد ذكرهما من بعدُ، إن شاء الله.
10174 - ومما يتعلق بتمام البيان في هذا الفصل أنا إذا قلنا: النفقةُ للحمل، فلو كانت المرأة لا تكتفي بالمُدّ أو بالمدّيْن -والغرض تصوير حاجتها إلى مزيدٍ على نفقة الزوجية- فهل نزيد ترقّياً إلى الكفاية؟ اضطرب الأصحاب في ترتيب هذا الفصل: فقال قائلون: إن قلنا: النفقة للحمل، فالواجب الكفاية، زادت على حقيقة النكاح أو نقصت، وإن قلنا: النفقة للحامل، فوجهان: أحدهما - الكفايةُ مرعية، فإنا لو لم نكفها، لأضررنا بالحمل. والثاني - أنه لا مزيد على نفقة النكاح، وإن فرضنا إضراراً، كما أن الاقتصار على المُدّ قد يضرّ بها، ثم لا مبالاة بذلك.
ثم إن كانت تكتفي بدون المدّ، فلا نقصان من نفقة النكاح، وإنما هذا التردّد على هذا القول في الزيادة.
ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إذا قلنا: النفقة للحامل، فلا مزيد على مقدار النكاح، وإذا قلنا: النفقة للحمل، فهل تعتبر الكفاية أم يلزم التقدير؟ فعلى وجهين، وسبب هذا التردد أنا إذا قلنا: النفقة للحمل.، فلسنا نُخلي قولَنا عن رعاية حق الحامل، وإذا قلنا: النفقة للحامل، فلسنا نخلي قولَنا عن الالتفات على الحمل، وكأن الحمل في المطلّقة يُبقيها في عُلقةٍ تضاهي علقةَ الرّجعة في استحقاق النفقة. والعلم عند الله.
ولم يختلف أصحابنا في أن المرأة إذا حملت في صلب النكاح، لم نزدها على مقدّر النكاح شيئاً، والتردد الذي ذكرناه في حالة البينونة، فإنَّ عصام النكاح قد زال، فعظم النظر في الولد، فهو المتعلَّق.
وإذا كان النكاح قائماً، فلا مزيد على حق النكاح، وإن خطر لناظرٍ أنها ازدادت بالحمل إقلالاً له واستقلالاً به، فكأنها منكوحةٌ حاضنة، فهذا فقهٌ على حال. ولكن

(15/504)


لم [يعتبره] (1) أحدٌ من الأصحاب؛ فإن الحمل لا يمكن اعتباره على حياله، ومنه التفّ أحد القولين بالثاني في أن النفقة للحمل أو للحامل.
وهذا نجاز الكلام في هذا الفن الذي رأيناه قاعدةً في الباب، ولم يبق بعد نجازه إلا فصلٌ منصوصٌ عليه للشافعي تخبط المزني في فهمه، ثم في الاعتراض عليه، ونحن نذكره، ونبيّن وجهَ الصواب فيه، ثم نذكر بعده فروعاً متفرقة.
فصل
قال: " ولو كان يملك الرجعةَ، فلم تقر بثلاث حِيضٍ ... إلى آخره " (2).
10175 - والوجه أن نذكر مراد الشافعي ووجه الصواب حتى إذا انتهى الحظّ الفقهي، رجعنا إلى ظن المزني واعتراضه، وبيان خطئه.
فلتقع البداية بتصوير المسألة: إذا طلق الرجل امرأته طلقةً رجعية، ومرّت عليها ثلاثةُ أقراء، ثم بدا بها حمل، ولو وضعت دون أربع سنين لَلَحِقَ الحملُ، ولاعتقدنا أن ما رأته من الدماء كانت في زمان الحمل، ثم التردد في أنها حيضٌ أو دمُ فساد، فلو لم تضع الحملَ حتى مضت أربعُ سنين على وجهٍ يقتضي الشرعُ نفيَه عن الزوج، فيقدّر العلوق به وراء الأقراء، ويُقضَى بانقضاء العدة بمضيها.
هذا هو الأصل.
فإن زعمت المرأة أن أقراءها انقضت في أربعة أشهر مثلاً، وما قالته محتمل، فتستحق النفقة لهذه المدة على زوجها، وإن اتهمها الزوج، حلَّفها، فإنهن مؤتمنات في أرحامهن، والرجوع في آماد العِدد إليهن.
ولو قالت المرأة: لست أدري في كم انقضت أقرائي، فهي لا تخلو إما إن كانت على عادة معلومة في أدوارها، وكانت تعلم عادتَها، ثم جوزنا لما سألناها ازدياداً أو نقصاناً، فإن كان كذلك، فقد قال الأصحاب: لها النفقة أيام عادتها.
__________
(1) في الأصل: لم يعتبر.
(2) ر. المختصر: 5/ 80.

(15/505)


وإن زعمت أن عاداتها مضطربة، وكانت لا تعرف أقل عاداتها، فهي محمولة على أقل ما يتصور انقضاء الأقراء فيه، ولا تستحق النفقة إلا لأقلِّ زمنٍ يُتصور انقضاء عدتها فيه؛ فإن هذا القدرَ هو المستيقن، ولا متعلّق معنا من عادتها، حتى نتخذه أصلاً مرجوعاً إليه.
ولو كانت تعرف أقل عاداتها، وكان ذلك أكثرَ من الأقل الذي وصفناه، فقد قال الأصحاب: ليس لها إلا نفقةُ أقلِّ عاداتها، ويحتمل أن يقال: إذا كانت عاداتها مستقيمة، ولم تدّع أن الأقراء جرت على حسب العادة التي ألفتها قديماً، بل ادعت الجهالة، فليس لها إلا نفقة أقل الأزمان؛ فإن هذا هو المستيقن، وهي ما ادعت مزيداً، فتُصَدَّق، وليست الأدوار وإن تكررت بعيدة عن الزيادة والنقصان، وهذا الوجه يجري إذا كانت عاداتها مختلفة، وكانت تعرف أقلّها، فيتجه أن لا نوجب لها إلا الأقلَّ الذي لا أقل منه؛ لأنها لم تدع، بل ردّدت قولها، وليس النقصان ولا الزيادة مستنكَرَيْن في أدوار الحيض والطهر.
هذا فقه الفصل وبيانُ مراد الشافعي، وتفصيل الأصحاب على سَنَن الصواب.
10176 - وأما المزني، فإنه ظن أن الشافعي صور المسألة فيه إذا ادعت المرأة أن أقراءها [انقضت] (1) في زمان ذكرته، ثم قال: لا تُصَدّقُ فيه. فأخذ يعترض قائلاً: إنهن مؤتمنات في أرحامهن، فكيف لم نصدقها، واستشهد بالرجعة عند فرض التنازع في انقضاء العدة في كلامٍ يطول (2)، ولا حاصل لما جاء به؛ فإن اعتراضه غير واقع على تصوير الشافعي، فإنه رضي الله عنه صوّر الكلام فيه إذا لم تدع المرأة مدةً، وأبهمت قولَها، ثم تفصيل المذهب في اضطراب عاداتها واستقامتها كما ذكرناه.
فأما إذا ادعت المرأة وقوع أقرائها في زمن ذكرته، فهي مصدّقة مع يمينها، لا خلاف فيه. هذا بيان مقصود الفصل.
__________
(1) في الأصل: نقصت.
(2) ما رأيناه في مختصر المزني إشارة عابرة إلى المسألة، وليس "كلاماً يطول" فهل ذكره المزني في جامعه الكبير مثلاً، أم في غيره (ر. المختصر: 5/ 80) لترى إشارة المزني الموجزة جداً.

(15/506)


فرع:
10177 - إذا طلق الرجل امرأته الحامل طلاقاً مبيناً، فنفقتها واجبة، كما ذكرناه، فلو مات الزوج في أثناء العدة، استكملت المرأة عدة الطلاق، ولم تنتقل إلى عدة الوفاة.
قال ابن الحداد: إذا مات الزوج كما صوّرنا، سقطت النفقة في بقية العدة، لأنا إن قلنا: النفقة للحمل، فلا تجب نفقة القرابة في تركة الميت، وإن قلنا: النفقة للحامل، فهي في محل الحاضنة، ولا يجب مؤونة الحاضنة في تركة المتوفَّى.
قال الشيخ أبو علي: الصّواب غيرُ ما ذكره ابنُ الحداد، فإن نفقة العدة وجبت لمكان الحمل دُفعة واحدة، والتحقت بالديون؛ فطريان الموت لا يُسقطها، واحتج على ذلك من جهة النص، بأن قال: نص الشافعي على أن [مؤنة] (1) سكناها في بقية العدة مأخوذة من التركة، وقطع قوله به، ثم ردد قوله في أن المتوفى عنها زوجها في غير هذه الصورة هل تستحق السكنى؟ فقَطْعُه القولَ بإثبات السكنى للمطلقة الحامل دليلٌ على أن ما يجب لها لا يسقط بطريان الموت.
وهذا الذي ذكره الشيخ أبو علي من تغليط ابن الحداد إن كان من كلامه، فهو بعيد عن الصواب، والصواب ما ذكره ابنُ الحداد، وإن نقله عن الأحاب، فالأوجه ما ذكره ابن الحداد؛ وذلك لأن نفقة الحامل في العدة لا تجب دفعة واحدة، وإنما تجب يوماًً يوماً، كنفقة الزوجية، فإذا فرض الموت، فإيجاب النفقة ابتداءً على ميتٍ لحاملٍ بعيدٌ عن قياس المذهب، [وإنما] (2) وقع لهؤلاء ما وقع؛ من جهة أن النكاح ينقطع بالموت، فلو مات الرجل عن زوجته الحامل، فلا نفقة لها، لأن النكاح قد زال، ونفقة القرابة لا تجب في تركة ميت، وعِدة المطلقة لا تنقطع بالموت إذا كانت
بائنة.
فقال من خالف ابنَ الحداد: المعنى الذي أوجب النفقة قائم، لم ينقطع؛ لأن المرأة مستبرأة بها، والنفقة لا تجب لصورة العِدة، وإنما تجب للحمل أو لحضانة
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: أنا وقع لهؤلاء ...

(15/507)


الحمل، بدليل أن الحائل البائنة لا تستحق شيئاًً، [ولا] (1) وجه عندنا إلا ما ذكره ابن الحداد.
فرع:
10178 - إذا وضعت المرأة حملها، وكان الزوج طلقها طلاقاً رجعياً، فاختلف الزوجان في تاريخ الطلاق، فللمسألة صورتان متعارضتان: إحداهما - أن الزوج لو قال: طلقتك بعد الوضع، فاستقبلتِ عدة الطلاق الرجعي، فلي الرجعة، وقالت المرأة: بل طلقتني قبل الوضع، فانقضت عدتي بوضع الحمل.
قال الأصحاب: القول قول الزوج في أنه يلزمها استقبال العدة، وتثبت الرجعة في أمد العدة بعد الوضع؛ فإن الزوج هو المطلق، والمرأة تدعي عليه تطليقاً قبل الوضع، والقول قوله في نفيه، ولكن لا نفقة للمرأة، فإنها مؤاخذة في حق نفسها بقولها، وهي زاعمة أنها بائنةٌ حائل.
الصورة الثانية - أن يقول الزوج: طلقتك قبل الوضع، فإذا وضعتِ، انقضت عدتك، فلا نفقة لك ولا رجعة لي، وقالت المرأة: بل طلقتني بعد الوضع، فنفقتي ثابتة، قال ابن الحداد: النفقة لا تسقط، فإن الزوج يدّعي سقوطها بوضع الولد، والأصل بقاؤها، ولكن لا رجعة له؛ لأنه مؤاخذ بقوله، وهذا ظاهر.
ويتطرق إليه احتمال؛ من جهة أن الزوج يقول: أنا المطلق، وأنا أعرف بتاريخ الطلاق، فليكن الرجوع إليّ، وهذا ظاهر.
ومن أحاط بالفصول التي ذكرناها في اختلاف الزوجين في كتاب الرجعة، لم يَخْفَ عليه ظهور هذا.
فرع:
10179 - إذا نكح الرجل امرأة نكاحاً فاسداً، على ظن الصحة، وكان ينفق عليها، ثم تبين له [فساد] (2) النكاح، ومعلوم أن النكاح الفاسد لا يوجب النفقة للمرأة، فالذي رأيته للأصحاب أنه لا يرجع فيما أخرجه في نفقتها، وهذا يكاد يعترض على بعض أطراف الكلام في الفصل الجامع القريب منا؛ حيث [ذكرنا ما يَثبت
__________
(1) في الأصل: فلا.
(2) في الأصل: بفساد.

(15/508)


الرجوعُ به، وما لا يَثبت الرجوعُ به] (1) وذلك أن من قواعد ذلك الفصل أن من أخرج شيئاً على اعتقاد الوجوب، ثم بان عدم الوجوب، فإنه يملك الرجوع، والأمر كان كذلك في النكاح الفاسد.
والذي اعتمده الأصحاب فيما قطعوا به أن قالوا: كان الزوج متسلطاً عليها في ظاهر الحال بناء على ظن الصحة، فوقعت النفقة على مقابلة سلطانه عليها ظاهراً.
وهذا فيه إشكال؛ فإن ذلك السلطان كان منوطاً بظن وبحسبان، فإن [بان] (2) الأمر على خلاف ما حسبه، فليس يبعد عن الاحتمال أن يثبت له حق استرداد ما أخرجه، ولكن لم أر للأصحاب إلا القطعَ بأنه لا يملك الرجوع.
وكان شيخي يقول: لو قال الناكح: [هذا الذي أقدمه أقدمه] (3) وأنا على اعتقاد صحة النكاح، فإن بان فساده، رجعت به، فلا يملك الرجوع إذا بأن الفساد. هذا ضمُّ إشكالٍ إلى إشكال، والاحتمال جارٍ، وجريانه في الصورة الأخيرة أظهر.
والممكن في توجيه ما ذكره الأصحاب ضمّاً إلى السلطان الذي اعتمدوه أن العادات مطردة أن من ينكح، ويتسلط وينفق لا يضمر الرجوع، هذا ما عليه دأب الخلق، سواء بان الفساد أو الصحة، فهذا إذاً بذلٌ يقع متجدِّداً على وجهٍ لا يضمن الرجوعَ معه، وهذا إنما يجري إذا لم يقيَّد بالرجوع، والعلم عند الله.
فصل
10180 - كان يليق بالفصل الذي جمعنا فيه القول فيمن يرجع بما ينفق وفيمن لا يرجع، وليس بعيداً عن هذا المنتهى، قال الصيدلاني: كان القفال يقول: من دفع
__________
(1) عبارة الأصل: " حيث ذكرنا ما يثبت الرجوع به، إذا تبين الأمر بخلاف الظن، وما لا يثبت الرجوع به " وواضح ما بها من حشو وخلل.
(2) في الأصل: ابتنى.
(3) عبارة الأصل: " هذا الذي قدمته وأنا علي اعتقاد صحة النكاح " وسوّغ للمحقق هذا التصرف وهذه الزيادة، أن عبارة الأصل ليس فيها فرق بين الصورة الأولى. وهذه التي اشترط فيها الرجوع والسياق يشهد لهذا التعديل وهذه الزيادة. والله أعلى وأعلم.

(15/509)


إلى دلاّل [عَرْضاً] (1) حتى يبيعه، فباعه، فأجرته على الذي أمره، إن ذكر الأجر، وإن أطلق فعلى تفصيلٍ معروف مذكور في موضعه، ولا شيء على المشتري؛ فإنه لم يأمر الدَّلاَّل بشيء.
والمسألة مفروضة هاهنا، فلو وهب المشتري شيئاً من الدلال على اعتقاد أنه يستحق عليه شيئاً، فله الرجوع فيما وهبه؛ [لأنه] (2) اعتقده واجباًً، فإذا بأن خلافُ [ما] (3) يعتقده، رجع.
وهذا فيه نظر على حالٍ، لأن المسألة مفروضة فيه إذا وهب من الدلال، والهبة عقد تمليك، والظنون لا تغيّر مقتضيات العقود، ويمكن تخريج هذا على أن النظر إلى المقصود أو إلى [مقتضيات] (4) الألفاظ في العقود، فإن نظرنا إلى المقصود، فالكلام على ما ذكره القفال، وإن نظرنا إلى صيغة العقد، فالهبة مملّكة، فإذا اتصل القبض بها، فلا رجوع؛ إذ لا يرجع واهب فيما وهب إلا الوالد فيما وهب لولده.
...
__________
(1) في الأصل: عوضاً.
(2) في الأصل: لا مما اعتقده واجباًً.
(3) سقطت من الأصل، وزادها المحقق.
(4) في الأصل: قضيات الألفاظ.

(15/510)


باب النفقة على الأقارب
قال الشافعي: " في كتاب الله تعالى وسنة رسوله ... إلى آخره " (1).
10181 - نفقة القرابة ثابتة، والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، فأما الكتاب، فقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وروى أبو هريرة: " أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: معي دينار، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر. فقال: أنفقه على ولدك، فقال معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على خادمك، فقال: معي آخر، فقال: افعل ما شئت " (2) قال أبو هريرة: " ولدك يقول: أنفق عليّ، إلى من تكلني؟ وزوجتك تقول: أنفق عليّ أو طلقني، ويقول خادمك: أنفق
عليّ أو بعني " ثم كان يقول: هذا من كَيْس أبي هريرة، وقال رسول الله صلى الله عليه لهندٍ: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
وأجمع المسلمون على ثبوت نفقة القرابة.
ثم القرابة المقتضية للنفقة عند توافي الشرائط المرعية في وجوب النفقة هي البعضية عندنا على القُرب والبعد، فتستوجب [على] (3) الموسر -على ما سنصفه إن شاء الله - نفقةَ بعضه: دنا أو بَعُدَ، وتستوجب نفقةَ أهله: دنا أو بعد، ولا نظر مع قيام البعضية إلى اختلاف الدِّين، فيجب على الإنسان نفقة قريبه إذا كانت قرابتهما بعضية سواء كانا على دين واحد أو اختلف الدِّين بينهما، ولا يعتبر في استحقاق أصل القرابة الإرث، وإن كنا قد نرعاه في التفصيل وفي التقديم، على خلافٍ للأصحاب مشهور
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 81.
(2) سبق تخريج هذا الحديث.
(3) زيادة من المحقق.

(15/511)


سيأتي، إن شاء الله: فتثبت نفقة أبي الأم، وبنت البنت مع انتفاء الإرث.
[وأبو حنيفة جعل الاستحقاق باجتماع الرحم والمحرمية] (1) ولم يخصصه بالبعضية (2)، ثم شرط في ثبوت النفقة بالقرابة التي ليست بعضية الاتفاق في الدين، ولم يشترط الاتفاق في الدين بين شخصين بينهما بعضية.
فهذا هو الأصل.
10182 - ثم إذا أوجبنا نفقةَ الابن الصغير على الأب، فيشترط كونُ الابن معسراً، حتى لو كان في ملكه ما ينفق عليه، لم تجب نفقتُه على أبيه، ولا يشترط أن يكون عاجزاً عن الكسب، بل اتفق الأصحاب على أن استكسابه وإن كان يَرُدّ مقدارَ نفقته، فعلى [الأب] (3) الإنفاقُ عليه.
وينشأ من هذا أصلٌ قد ينسلّ عن فكر الفقيه القيّاس، وبانسلال أمثالها تُظلِمُ أرجاء مسالك الفقه، وذلك أن الأب إليه استصلاحُ ولده، فلو رأى أن يحمله على الكسب، لم يبعد في النظر أن يجوز له، ولو جُوّز له ذلك، ففيه إسقاط النفقة معه، ولا ينتظم مع هذا إطلاقُ القول بأن النفقةَ تجب على الأب وإن كان الصبي المراهق كسوباً [فكيف التصرف في هذا؟] (4).
أولاً - لا خلاف أن الأب لو أراد أن يعلّمه بعض الحرف لاستصلاح معاشه والنظرِ في عاقبة أمره، فله ذلك، وإذا علّمه حرفة، فكيف ينتظم في النظر له تعطيلها؟ وقد ينساها إذا تركها؟ وإذا كان يتجه هذا الرأي [وإعمالُه] (5)، فأيُّ معنى لإحباط منفعته؟ وإذا تجمع مما ذكرناه أنه يحمله على الاكتساب، فكيف يتسق مع هذا إيجاب النفقة على الأب للابن المحترف؟ ولو عمل، لرَدَّ بيومٍ قوت أيام.
هذا وجه التنبيه على غامضة يجب إنعام الفكر فيها، وقد رأيت لبعض الأصحاب
__________
(1) في الأصل: وأبو حنيفة على استحقاق باجتماع الرحم والمحرمية.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 224، فتح القدير: 4/ 419.
(3) زيادة من المحقق.
(4) عبارة الأصل: فكيف التصرف فيه في هذا. والمثبت تصرّف من المحقق.
(5) في الأصل: إعماله (بدون الواو).

(15/512)


[أنه] (1) ليس للأب أن يجشم ولده الكسب، وهذا غفلة عظيمة. نعم، لا يمتنع في
هذا تفصيلٌ فيقال: إن كان يليق بذلك الولد حفظ المروءة ولو استكسبه الأب لغضَّ ذلك من قدره، وصارت عبرة لا تنسى على طول عمره، فليس من النظر له الاستكسابُ، ويجوز أن يقال: ليس من النظر لمثله أن يعلّمَ الحرفَ.
وأما إذا كان يليق به [وببنيته] (2) الاستكسابُ، فلا وجه لمنع الأب من استكسابه، وعلى الجملة لا يَخْرجُ الاستكساب في بعض الأشخاص والأحوال عن كونه وجهاً من وجوه النظر، ولكن يبقى ما اتفق الأصحاب عليه من وجوب نفقته على الأب مع كونه كسوباً.
وأثره يظهر فيما نصفه، وهو أن الصغير إذا عطّل الكسب يوماًً وغيب وجهه عن أبيه، أو لم يُطعه جمع تكليفه، ولما جاع، عاد طالباً للنفقة، فعلى الأب الموسر الإنفاقُ عليه، والابن [البالغ] (3) قد يشترط في استحقاقه النففة ألا يكون كسوباً، حتى لو اقتدر على الكسب وعطله لم يستحق النفقة.
هذا طرف من الكلام في نفقة الصغير.
10183 - وأما الابن البالغ، فيشترط في استحقاقه النفقة على أبيه كونُه فاقداً لما ينفقه، وهل يشترط ألا يكون كسوباً؟ فعلى قولين: أحدهما - لا يشترط ذلك، ويستحق النفقة على أبيه الموسر، وإن كان كسوباً، كما ذكرناه في المراهق، وجه هذا القول أن الغرض في إيجاب النفقة كفُّ الضرار، وتكلفُ الكسب وتحصيلُ القوت بالكدّ مضرٌّ مع اتساع مال [الوالد] (4)، ومبنى الإنفاق على الإرفاق.
والقول الثاني - أنه لا يستحق النفقة إذا كان قادراً على كسبٍ يردّ قوتَه؛ [فإنّ استحقاق النفقة يتعلق بالحاجة] (5)، كاستحقاق سهم المساكين في الزكاة، ثم كون
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) غير مقروءة بالأصل إلا بصعوبة بالغة.
(3) في الأصل: النابع.
(4) في الأصل: الولد.
(5) في الأصل: فإنه استحقاق لنفقة يتعلق بالحاجة.

(15/513)


الشخص كسوباً يخرجه عن استحقاق سهم المسكنة، فليخرجه عن استحقاق النفقة، وهذا القائل ينفصل عن المراهق، ويقول: [إلزامه] (1) شرعاً ولا تعلق للتكليف به بعيد، ومعاقبتُه بقطع الإنفاق إذا لم يكتسب بعيدٌ، والبالغ العاقل معرض لتوجيه الأمر عليه أولاً، ومعاقبتُه بقطع النفقة عنه إذا لم يمتثل الأمر آخراً.
وللقائل الأول أن ينفصل عن سهم المسكنة، ويقول: ذلك مخصوص بذوي الحاجات الحاقة، ولو شاركهم في ذلك المكتسبون، لتقاعد سداد الحاجة عمن اشتدت حاجته.
التفريع:
10184 - إن حكمنا بأن الكسوب يستحق النفقة على الموسر، فلا كلام.
وإن حكمنا بأن الكسوب لا يستحق، فهل يشترط أن يكون امتناع الكسب بزمانَةٍ أم لا يشترط ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نشترط الزمانة، وفي معناها المرض اللازم المعجز مع صحة الأعضاء، فإن الصحيح السليم لا يخلو عن التمكن من نوعٍ من الكسب.
ومن أصحابنا من لم يشرط الزمانة، واكتفى بألاّ يكون مستقلاً بتحصيل قوته، وقد ذكرنا مثلَ هذا التردد في استحقاقه سهمَ الفقراء، ثم انتهينا في التفريع على أحد الوجهين إلى اشتراط العمى، ولم ينته إلى اشتراطه أحد من الأصحاب في النفقة.
ومما يتعلق بتمام ذلك أنه لو كان يقدر على تحصيل مقدار من القوت، فذاك القدر لا يستحقه، ويستحق ما يعجز عنه، إذا اشترطنا ألا يكون كسوباً، فهذا مما يجب التنبه له، وكل ما ذكرناه في نفقة الولد على الوالد الموسر.
10185 - فأما إذا كان الولد موسراً والأب معسراً، فهل يشترط ألا يكون كسوباً؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بأنا لا نشترط ذلك في حق الأب قولاً واحداً؛ فإن إحالة الابن الموسر أباه الطاعن في السن على العمل في الطين (2)،
__________
(1) في الأصل: التزامه. والمثبت من عمل المحقق.
والمراد بإلزامه هنا إلزامه الاكتساب.
(2) كذا. وفي صفوة المذهب: على العمل الدني.

(15/514)


لا يليق بما أوجبه الله تعالى من احترام الآباء والإحسانِ إليهم، ولا يبعد عن الأب إحالة ابنه على الكسب، كما لا يبعد منه استخدامُه.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في جانب الأب المعسر، كما ذكرناه في الابن المعسر، وهذا وإن أمكن توجيه القياس فيه، فالمذهب المعتدُّ به القطعُ بأن ذلك ليس شرطاً في الأب.
وقد يتصل بهذا الفصل النظر في تفاصيل الكسب؛ فإن الرجل ذا المروءة لو تكلف نقل القاذورات وشَيْل الكناسات، فقد يجتمع له ما يقوته، ولكن ذلك [يحطّ] (1) من مروءته [فكيف] (2) الطريق فيه؟ هذا عندنا يخرج على اشتراط الزمانة: فمَن شَرَطَها، فموجب مذهبه أن لا فرق بين كسب وكسب، إذا فُرض الاقتدارُ عليه، ومن لم يشترط الزمانة، فالرأي على التردد في رعاية ما أشرنا إليه من اعتبار المروءة والنظر إلى أقدار المناصب.
ولا خلاف أن عبد الرجل مبيعٌ في نفقته، وإن كان ذلك يلجئه إلى التبذل والتبسط بنفسه في الحاجات الدنيّة كاستقاء الماء وما يشبهه.
وقد تنجز أصلٌ من أصول القول في ذلك.
10186 - ونحن نأخذ من هذا المنتهى في أصلٍ آخر، ونقول: لا خلاف أن نفقة القريب مبناها على الكفاية، وليست متقدَّرة، بخلاف نفقة الزوجية، فإن اكتفى في يومٍ ولم يحتج لعارضٍ، فلا نفقة له، وإن كان رغيباً، لزمت كفايته، وإن كان زهيداً، فعلى قدر حاجته.
ولا يضرّ أن نصرف الاهتمامَ إلى بيان الكفاية، فنقول: لا ينتهي الإنفاق إلى رد النهم والقَرَم (3) وحَسْم الشهوة، ولكن الكفاية المطلقة ما [يقي] (4) البدنَ ويدرأ عنه الضرار في الحال والمآل.
__________
(1) في الأصل: يحطه.
(2) في الأصل: أم كيف.
(3) القَرَم: شدةُ الشهوة إلى أكل اللحم.
(4) في الأصل: " يقلّ ". والمثبت من تقدير المحقق.

(15/515)


وبيان ذلك أنه إذا كان [يغضُّ] (1) المقدارَ النزرَ من كفايته، فقد لا يظهر أثر هذا في يوم، ولكن لو فرض التمادي عليه، لظهر إضراره.
فالذي أراه أنه لو كان يسد جوعته ويستأصل نَهْمتَه، ثم أراد في بعض الأيام أن يقتصر على ما يقع به الإقلالُ في اليوم، ثم يتداركه في غده - أن هذا غيرُ سائغ؛ فإن هذا جزء من الضرر، والغدُ غيب.
ثم يجب أن يُطعَم ما يأتدم به؛ فإن الخبز القفار يحُلّ القوى، والمرعي في الأُدم الأصل الممهّد في نفقة الزوجات، غير أن المرعي في القوت الكفاية [فالأُدْم] (2) على قدرها.
والكُسوة واجبة، وقد وَضَحَتْ في مؤن الزوجات، والمطلوب إزالة الضرر، والقيام بالكفاية.
ثم ما يبتني على الكفاية، فلا يشترط التمليك فيه، بل يكفيه أن يقول لقريبه الذي يستحق الإنفاق عليه: كُلْ معي.
10187 - وإذا مضت أيام لم يتفق الإنفاق فيها، سقطت نفقتها، ولم تثبت ديناً بخلاف نفقات الزوجات، فإن ما لا يجب التمليك فيه، وابتنَى على الكفاية، استحال مصيره دَيْناً في الذمة.
هذا أصل المذهب وقاعدته.
ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهين في أن نفقة الولد الصغير هل تسقط بمرور الزمان، أم تصير ديناً في ذمة الأب الموسر؟ أحدهما - أنها تسقط، وهذا القياس الحق، وتوجيهه ما أوضحناه من اعتبار الكفاية وسقوط التمليك.
والثاني - أنها تثبت في الذمة، وهذا الوجه على ضعفه موجّه عند الصائر إليه بأن نفقة المولود محمولةٌ على نفقة الزوجية، فإنها من أتباع النكاح، وإن كان المطلوب منها الكفاية، حتى يكون احتباسها مقابلاً بكفاية الزوج إياها لا يسقط بمرور الزمان،
__________
(1) في الأصل: نعص.
(2) في الأصل: فلازم.

(15/516)


فلتكن نفقة المولود بهذه المثابة؛ إذ الولد المضاف إلى النكاح من آثار الاستمتاع، وأيضاً اهتمام المرأة بولدها من زوجها يقرب من اهتمامها بنفسها، فلو كانت نفقة المولود تسقط بتعطيل الزوج إياها، وهي لا تعطّل ولدَها، فيقرب تضررها بسقوط نفق مولودها من تضررها بسقوط نفقتها في نفسها.
وهذا الوجه ضعيف لا أصل له، ولا ينبغي أن يعتدّ به، ولولا علوّ قدر الحاكي، لما استجزت حكايته؛ لما حققته من أن نفي التمليك وإثباتَ الكفاية مع المصير إلى أنه يجب تداركُ ما مضى أمسِ كلامٌ متناقض؛ فإنه يستحيل أن يكْفى الإنسانُ أمرَ أمسه، والماضي لا مستدرك له. نعم، إذا أثبتنا النفقة للحامل البائنة، وقضينا بأن النفقة للحمل، فيترتب عليه أنا إن لم نوجب تعجيل النفقة، وقضينا بأن الزوج يُخرج نفقة زمان الحمل يومَ الوضع، فهذه نفقة منسوبة إلى القرابة، وليست ساقطةً بمضي الزمن.
وإن قلنا: يجب تعجيل النفقة، فلو لم يتفق تعجيلُها حتى وضعت المرأة الحملَ، فهل نقضي بسقوط نفقة أيام الحمل -والتفريع على أن النفقة للحمل-؟ فعلى وجهين معدودين من أصل المذهب، وإنما اتجه عدمُ سقوط النفقة بمضي الزمان لاتصالها باستحقاق الحامل؛ فإن انتفاعها بها سبق انتفاعَ الحمل، وإن أضيفت إلى الحمل، فالمرأة مستحقتُها، فكان انتظام الوجهين لهذا، وفيه يتجه ما أطلقناه من التبعية، ثم هذا في الحمل، أو في الولد الصغير على ما حكاه الشيخ.
فأما نفقةُ الولد البالغِ، ونفقةُ كل قريب يستحق النفقةَ سوى الولد الصغير تسقط (1) بمرّ الزمان ولا تصير ديناً قط.
10188 - وهذا نجاز هذا الأصل، ونأخذ بعده في أصل آخر، فنقول: الزوجة إذا كان لا يتوصل إليها نفق مولودها، وكان الأب حاضراً ممتنعاً، أو غائباً، والطفل فقير لا مال له، فالذي ذهب إليه الأصحاب أن لها أن تأخذ نفقة ولدها من مال زوجها إذا كانت يدها تمتد إليه، واحتجوا في ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) تسقط: (جواب أما بدون الفاء).

(15/517)


لهند: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " وقال عليه السلام ذلك، لما شكت إليه شُحَّ أبي سفيان وامتناعَه عن الإنفاق عليها وعلى ولدها.
وهذا خارج عن قياس الأصول؛ من جهة أن الأم لا تلي على الرأي الظاهر، ومن ولاّها من الأصحاب فذاك إذا لم يكن للمولود والد، وإثبات الولاية لها مع الأب ليس على قاعدة القياس، ولكن رأى الأصحابُ الاستمساك بالحديث [وتقديمَه] (1) على القياس، وفيه مصلحة لائقة بالحال؛ فإنها لو كانت تحتاج إلى مراجعة القاضي في نفقة الولد، لعسر ذلك عليها، وإذا كانت تنفق من مال زوجها بالمعروف على ولدها، فقد تتزجّى الأيام وتنطوي عريةً عن نزاع وضرار.
وأبعد بعض الأصحاب، فلم يثبت لها ذلك، إلا أن [يفوض] (2) القاضي إليها، ورأى هؤلاء قولَ الرسول صلى الله عليه وسلم تسليطاً منه إياها على الأخذ بمثابة [تسليط] (3) القاضي، ولم يَروْا ذلك حكماً ثابتاً شرعاً على وجه الفتوى، وهذا بعيدٌ.
ثم إذا جوزنا للأم أن تأخذ من مال الزوج من غير إذنه، فلو لم تجد لزوجها مالاً واستقرضت عليه، فإن قلنا: ليس لها أن تأخذ مالَ الزوج إذا وجدته، فليس لها أن تستقرض عليه، وإذا قلنا: لها أخذُ مال الزوج، فهل لها الاستقراض عليه من غير تفويض القاضي إليها؟ فعلى وجهين: أحدهما - لها الاستقراض؛ لأن الشرع أثبت لها ولاية الاستقلال في نفقة المولود، ومن نتائج [الولاية] (4) الاستقراضُ.
والثاني - ليس لها ذلك؛ فإن الأخذ من مال الزوج مأخوذ من فحوى الحديث، على خلاف أصول القياس، فالوجه الاقتصار على مورد الخبر من غير مزيد، وهذا مسلك الكلام في كل حكم تضمن الخبرُ إثباتَه على خلاف أصول القياس.
10189 - ولو نفى الرجل نسب مولوده باللعان، واضطرت المرأة للإنفاق عليه،
__________
(1) في الأصل: وتقديم.
(2) في الأصل: يفرض.
(3) في الأصل: تسليطه.
(4) في الأصل: الولادة.

(15/518)


ثم إن الزوج أَكْذبَ نفسَه [واستلحق] (1) النسبَ الذي نفاه، فهل ترجع المرأة على الزوج بما أنفقته من مال نفسها؟
هذا يستدعي تقديمَ مسألة أخرى ملتحقةٍ بما تقدم، وهي أن الزوجة لو لم تصادف مالَ الزوج، ولم تجد من يقرضُها على الزوج، فأنفقت من مال نفسها، فهل ترجع على الزوج؟ هذا يترتب على الاستقراض، فإن منعناه، فامتناع الرجوع على الزوج إذا أنفقت من مال نفسها أوْلى؛ فإنها تكون في مقام المقرضة لزوجها من غير استقراض منه، فكأنها المقترضة والمستقرضة، وهذا بعيد.
وانتظمت ثلاثُ مراتبَ: إحداها - أخذ مال الزوج من غير رضاه، والظاهر الجواز للخبر. والثانية - في الاستقراض على الزوج من غير تفويض من القاضي، وفيها الخلاف، والثالثة - في إنفاقها من مال نفسها، وطلبها الرجوعَ على الزوج.
ونقول بعد ذلك: إذا أنفقت المرأة على الولد المنفي باللعان، ثم اكذب الزوج نفسَه، ففي رجوعها وجهان مرتبان على الوجهين فيه، إذا [أنفقت] (2) المرأة على الولد النسيب من مال نفسها، والصورة الأخيرة أولى بألاّ يثبت الرجوع فيها؛ لأنها فعلت ما فعلت بانيةً على ظاهر النفي، وهي موطّنةٌ نفسَها على الانفراد بالإنفاق من غير تقدير مرجع.
ومما يتم به البيان في هذه المسائل أنا إذا أثبتنا للمرأة الرجوعَ على زوجها إذا أنفقت من مال نفسها، فذاك فيه إذا لم تقصد التبرعَ، وأما إذا قصدت التبرعَ، فلا مرجع، ويجب أن يقال: إنما ترجع على أحد الوجهين إذا قصدت الرجوع.
10190 - وممّا يتعلق بتتمة ذلك أنه أولاً إذا كان للمولود مال، وكانت نفقته من ماله، وله أب من أهل الولاية، فلا شك أن الأب هو الذي يلي مال الطفل، ولو أرادت الأم أن تنفق على الولد من مال الولد، فالوجه عندي أن يكون هذا أولى
__________
(1) في الأصل: وستلحق.
(2) في الأصل: انتفت.

(15/519)


بالجواز من إنفاقها عليه من مال الزوج، فإذا تسلطت على إنفاق مال الزوج عليه، فلأن تتسلط على إنفاق مال الطفل عليه أولى.
ثم إذا كانت متمكنةً من طلب نفقة الولد من الزوج وتحصيلها من جهةٍ، فأرادت الاستبداد بالأخذ (1)، فالوجه أن ذلك لا يجوز، وإنما يسوغ الأخذ من مال الزوج عند ظهور تعذر الاستيداء منه، ويشهد لذلك الحديث؛ فإن هنداً قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني وولدي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إخبارها هذا ما قال. وقد استدل الشافعي في كتاب الدعاوى على أن لمن تعذر حقُّه أن يأخذ من مال مَنْ عليه الدين قدرَ حقه، بحديث هند، ثم ينتظم في هذا أنها تملك مطالبةَ الزوج بنفقة الولد، وكل هذا والولد طفل.
10191 - ونحن نذكر بعد هذا تفصيلَ القول في الذين يستحقون النفقة بالبعضية في هذا الغرض الذي نحن فيه، ونقول: كل من يستحق النفقة على قريبه؛ فإنه يطالبه بها مطالبة الدُّيون، فإن امتنع ووجد مستحقُّ النفقة من جنس النفقة، أَخَذَ الكفايةَ مما وجده، وإن وجد من غير جنس النفقة، فعلى القولين في الظفر بغير جنس المال عند تعذر استيفاء الديون.
ولو أراد الابن البالغُ المعسر أن يستقرض على أبيه الموسر مقدارَ نفقة نفسه، فليس له أن يستبد بهذا، وكذلك القول في الأب الفقير مع الابن الموسر، ولكن يرفع مستحقُّ النفقة أمرَه إلى الحاكم، وللحاكم أن يستقرض على من عليه النفقة، فإن فعل، فذاك، وإن أذن لمستحق النفقة أن يستقرض عليه، جاز.
وإن استقرض عليه بنفسه من غير مراجعة القاضي -مع القدرة عليها- لم يلزم ذلك القرضُ ذلك الإنسانَ، ولو عدِم مستحق النفقةِ الحاكمَ، ومست الحاجةُ، فاستقرض على من عليه النفقةُ، ففي المسألة وجهان مأخوذان من مسألة الجمّال، وقد سبقت مستقصاة.
10192 - ومما يتعلق بهذا أن أبَ الطفل إذا غابَ وحضر الجدُّ، فقد ذكر الشيخ
__________
(1) أي من مال الزوج بغير إذنه.

(15/520)


أبو علي وجهين في أنه هل يستبد الجدُّ بالاستقراض على الغائب من غير مراجعة القاضي مع القدرة عليها، ولست أرى لجواز الاستقراض عليه من غير مراجعة القاضي وجهاً أصلاً؛ فإن الجد لا يلي في غيبة الأب، وما أثبتناه في الأم، فمعتمدنا فيه الخبر، فلعل الشيخَ نزَّل الجد في الغيبة منزلة الأم، وليس هذا من مواضع القياس، بل القاضي يلي الطفل في غيبة الأب.
وقد انتهى هذا الغرض.
10193 - ونحن نبتدىء مقصوداً آخر منعطفاً على ما تقدم، فنقول: من ملك عقاراً، فهو مبيع على قدر الحاجة في نفقة من يجب نفقته، وكل ما يباع في الديون، فهو مبيع في النفقات، وسنوضح في أثناء الكلام أن النفقة مقدمةٌ على الدين.
10194 - فإذا لم يملك الرجل شيئاًً يباع في دين، ولكنه كان كسوباً قادراً على أن يحصّل قوتَ نفسه وقوتَ قريبه، فهل يجب عليه أن يكتسب، وكيف السبيل فيه؟ قال الأئمة: إذا قدر على الكسب، فهل له أن يتكفف ويسال الناس إلحافاً؟ فعلى وجهين: أحدهما - يجب عليه أن يكتسب، ويتركَ التعرّض [للناس] (1)، وهذا يعتضد بقول المصطفى صلى الله عليه، إذ قال: " المسألة حرام إلا على ثلاثة الحديث " (2) ولولا الحديث، لما كان ينقاس تحريم المسألة والتعرض للناس بالسؤال.
ومن أصحابنا من لم يحرّم السؤالَ -مع القدرة على الكسب، وحمل قول رسول الله
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) حديت: " لا تحل المسألة إلا لثلاث " رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، والشافعي في الأم والدارقطني في سننه، كلهم من حديث قَبيصة بن مُخَارق رضي الله عنه (ر. مسلم: الزكاة باب من تحل له المسألة، ح 1044، أبو داود: الزكاة، باب ما تجوز فيه المسألة، ح 1640. النسائي: الزكاة باب الصدقة لمن تحمل بحماله ح 2580، 2581، وباب فضل من لا يسأل الناس شيئاً، ح 2592. الأم: 2/ 62، الدارقطني: 2/ 119، 120) وتمام الحديث " رجل تحمل حمالة، فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة ... " وهذا لفظ مسلم.

(15/521)


صلى الله عليه وسلم على الكراهية، والحرام هو المحظور، والمحظور الممنوع، والمنع ينقسم إلى الكراهية وإلى التحريم المحقق، وكما ترد الكراهيةُ على إرادة التحريم، يرد التحريم على إرادة الكراهية.
هذا قولنا في حقه (1).
فأما إذا قدر على الكسب، فلم يكتسب، وعطل قريبَه، فهل له ذلك؟ [هذا مما يجب الاهتمام به] (2)، فنقول أولاً: لا يجب على الإنسان أن يكتسب لأداء الديون المستقرة في ذمته، وهل يجب أن يكتسب لينفق على قريبه، فعلى وجهين: أحدهما - لا يجب ذلك، كما لا يجب لأداء الدّين.
والثاني - يجب؛ لأن النفقاتِ من الحاجات المتواصلة، والاكتساب على قدرها، ولعل السببَ في منع إيجاب الكسب للدين كونُه مستغرَقاً بالحاجات المتواصلة في غالب الأمر.
وفي وجوب الاكتساب للإنفاق على الزوجة وجهان مرتبان على الوجهين في نفقة القريب، ولأَنْ لا يجب الاكتساب لنفقة الزوجة أولى؛ لأنها مشابهة للديون، ومذهبنا الصحيح أنها تجد مخلصاً إذا أعسر الزوج بالنفقة وهذا لا يتحقق في القريب.
فإذا تحقق ما نعتبره في حق من يُنفق، فكل ما يباع في نفقة القريب فإذا ملكه القريب بنفسه، لم يستحق النفقةَ معه، وينتظم بحسب هذا أنا إذا أوجبنا الاكتساب بنفقة القريب لا نوجب النفقة للقريب الكسوب، وإنما يجري ما قدمناه من الخلاف فيه إذا كان من له النفقة غيرَ كسوب، ومن فيه الكلام كسوباً.
هذا منتهى الغرض من ذلك.
10195 - ومن الأحوال المنعطفة على ما تقدم أنا لا نوجب النفقةَ على البعيد مع القريب الموسر، وسيأتي فصلٌ في ترتيب من يستحق عليه النفقة، وهو غمرة هذه الأصول.
__________
(1) أي هذا قولنا في اكتسابه لحق نفسه ونفقة نفسه.
(2) في الأصل: هذا قولنا في حقه مما يجب الاهتمام به.

(15/522)


ومقدار غرضنا الآن أنه إذا كان للولد أبٌ موسر وجدٌّ: أبُ أبٍ موسرٌ، فلا شك أن النفقة على الأب، فلو فرضت غيبة الأب، ولم نجد مُضطرَباً، ولم نستمكن من الاستقراض على الغائب، [فالطفل] (1) لا يُلحق بمحاويج المسلمين؛ حتى ينفق عليه من بيت المال مع حضور الجدّ الموسر، بل على الجدّ أن ينفق، فإن راجع القاضي حتى أذن له بالإنفاق على شرط الرجوع، أنفق ورجع، وإن لم يراجع القاضي مع القدرة، وأنفق، فهذا ما تقدم ذكره، والمذهب أنه لا يرجع.
وإن لم يجد قاضياً، فأنفق على قصد الرجوع، فهل يرجع على الغائب؟ فعلى الوجهين.
والمقصود مما ذكرناه أن الجد يلزمه القيام بهذا المهم، ثم الكلامُ في الرجوع على ما قدمناه، فإذا تمكن القاضي من التصرف والاستقراض على الغائب، فهو ولي الطفل في غيبة الأب، فليس له تركُ النظر مع القدرة عليه.
فإن لم يجد مُقرضاً، كان كما لو لم يكن (2) قاضٍ، وكذلك إن لم يتفرغ إليه، وحاصل الكلام في هذا أن التصرف إلى القاضي، وليس له أن يلزم الجدَّ، كما ليس له أن يلزم آحاد الناس، فإن لم يكن قاضٍ، فالجد لا يعطِّل الطفلَ، ثم الكلام في كيفية الرجوع على ما قدمناه.
وقد انتجزت القواعد التي أردنا تقديمها في نفقة القريب.
فرع:
10196 - إذا كان الأب كسوباًً وقلنا: يجب على الابن الموسر أن ينفق عليه -على وجهٍ لبعض الأصحاب- فهل يجب عليه أن يعفّه إذا كان لا يستمكن من التعفف بنفسه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أصحهما - أنه يجب على الابن ذلك، فإن الإعفاف من الحقوق الواجبة، وقد تحقق احتياج الأب إليه، وكسبه غير وافٍ به.
والوجه الثاني - أنه لا يجب عليه أن يعفه؛ فإن الإعفاف إنما يجب لمن تجب له النفقة، فإذا سقطت النققة، سقط الإعفاف.
وهذا ركيك لا اتجاه له.
__________
(1) في الأصل: والطفل.
(2) لو لم يكن: أي لو لم يوجد (كان تامّة).

(15/523)


فرع:
10197 - [كما يجب] (1) على الابن الإنفاقُ على أبيه يجب عليه الإنفاق على زوجة أبيه، فلو كان له زوجتان، لم يجب الإنفاق عليهما، وذكر العراقيون وجهين في هذا المنتهى: أحدهما - أنه يسلم نفقةَ زوجةٍ إلى أبيه، ثم إنه يفضّ عليهما، وليس للابن أن يحتكم بتعيين واحدةٍ منهما.
والوجه الثاني - أنه لا يجب عليه الإنفاق أصلاً على واحدة من الزوجتين؛ لأن التعيين لا وجه له؛ إذ ليست إحداهما أولى من الأخرى، والإنفاق عليهما غيرُ واجب، فإذا عسر تفصيل المذهب، انتفى الأصل.
ْوهذا لا أصل له، والعراقيون يتولّعون بأمثال هذا في كثير من المسائل.
فصل
يشتمل على اجتماع الأقارب أصحابِ البعضية، وهم موسرون، ولهم قريب معسر على شرائطِ استحقاق النفقة، فمن الذي يقدّم بالتزام النفقة؟ وكيف طريق التقديم لمن يلتزم؟
10198 - وهذا الفصل من الفصول المنعوتة (2)، وقد تقطّع مهرةُ الفقهاء في إيضاح المقصود منه، ونحن نرى أن نذكر اجتماع الأولاد الموسرين، ثم نذكر اجتماعَ الأصول الموسرين، ثم نذكر اجتماع الأصول والأولاد الموسرين، ونذكر في كل فصلٍ ما يليق به، ونوضحه إيضاحاً لا يغادر إشكالاً وتعقيداً، إن شاء الله عز وجل.
10199 - فأما الكلام في الأولاد، فالرأي ذكر طرق الأصحاب على الجملة، ثم فضُّ المسائل عليها: اختلف أئمتنا في المعنى المعتبر في التقديم، فقال المحققون: الاعتبار بالقرب، فمن كان أقرب من الأولاد أولى بالتزام النفقة، حتى إذا وجد شخصان أحدهما أقرب وليس وارثاً، والثاني أبعد، وهو وارث، فالنفقة على
__________
(1) في الأصل: لا يجب.
(2) المنعوتة: المعنى المعروفة بالصعوبة والدّقة، وقدا تكرر هذا الوصف من الإمام لفصول أخرى من قبل.

(15/524)


الأقرب، وذلك مثل: بنت بنت، وبنت ابن ابن، النفقة على بنت البنت، ولا نذكر مسلكاً آخر ما لم نسْتقص القول في هذا.
فإذا لاح تقديم الأقرب فلو وجد من الأحفاد شخصان مستويان في القرب، وأحدهما وارث دون الثاني، فهل يقدم الوارث مع الاستواء في القرب؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا نقدم الوارث لا للإرث في صورته، ولكن لدلالة الإرث على القرابة.
والوجه الثاني - أنا لا نعتبر الإرث أصلاً، ولكنا نقول: إذا استويا في القرب، فالنفقة عليهما جميعاً وإن كان أحدهما وارثاً والثاني غير وارث، وذلك بمثابة بنت بنت وبنت ابن، أو ابن ابن.
وينشأ من هذا التردد أصل آخر على هذه الطريقة، وهو أنهما لو استويا في القرب، وكانا جميعاً وارثين، [ولكن] (1) حصة أحدهما من الميراث أكثر، فالنفقة عليهما للاستواء في القرب وأصل الميراث، ولكن نفض النفقةَ عليهما بالسوية، أو نفضها عليهما على أقدار استحقاقهما للميراث؟ فعلى وجهين مشهورين، وذلك مثل: ابن، وبنت، فهما مستويان في القرب وأصل الإرث، ولكنهما متفاوتان في مقدار الإرث، ففي وجهٍ نقول: النفقة عليهما بالسوية، وفي وجه نقول النفقة عليهما أثلاثاًً، على حسب قسمة الميراث.
هذا بيان طريقة واحدة للأصحاب تعرف باعتبار القرب.
10200 - طريقة أخرى لبعض الأصحاب في اجتماع المولودين، وهي أن الاعتبار في التقديم بالإرث، لا بالقرب، فإذا اجتمع اثنان بعيد وارث، والآخر قريب غير وارث، فالنفقة على البعيد الوارث، مثل ابن ابن ابن وبنت بنت، فالنفقة على ابن ابن الابن.
ولو كانا جميعاً وارثين، ولكن أحدهما أقربُ، فهؤلاء لا يقطعون بأن النفقة
__________
(1) في الأصل: ولكنه.

(15/525)


على الإرث، وذلك مثل بنت وبنت ابن، فالميراث ثابت لهما، وبنت الصلب مختصة بالقرب، فالنفقة عليها.
وينتظم من هذا أنا على الطريقة الأولى نقدم بالقرب، وهل نرجّح بالإرث مع الاستواء في القرب؟ فعلى وجهين.
وعلى الطريقة الثانية نقدم بالإرث، فإذا استويا في الإرث واختصاص واحد بالقرب، رجّحنا بالقرب وجهاً واحداً.
والطريقة المرضيّة هي الأولى؛ فإن الأصل القرابة في هذا الباب، ولم يعلّق الشافعي استحقاقَ النفقة بالقرابة المورّثة؛ إذ لو علق بها، لأوجب النفقة بالأخوّة وغيرها من القرابات المورِّثة. وأوجب (1) النفقةَ على القريب الذي لا يرث وهو أب الأم، وتجب النفقة مع اختلاف الدين، وإن كان الإرث منقطعاًً، وأبو حنيفة [مع] (2) مجاوزته قرابةَ البعضية لا يعتبر الإرثَ أيضاً، فإن ابن العم يرث، ولا يلتزم النفقة.
والفقه بعد هذا الاستشهاد أن عماد الأمر البعضية الدائرة بين الأصل والفرع، والإرث مبني على قاعدة أخرى، فلما كان كذلك، اتجهت الطريقة الأولى، ولأجل ما ذكرناه اتفق الأصحاب على اعتبار القرابة، فاعتبرها الأولون في التقديم، واعتبرها الآخرون في الترجيح، فهذا نراه قاعدة المذهب.
10201 - وذكر الشيخ أبو علي وجهاً عن بعض الأصحاب، أَخَّرته، ولم أمزجه بقواعد المذهب، وأنا أذكر ما ذكره، [وأوضح ما فيه: قال:] (3) إذا اجتمع الابن والبنت، فالمذهب اشتراكهما في الالتزام، كما قدمته، والخلاف في التسوية والتفاضل على قدر الإرث، قال: ومن أصحابنا من قدم الابن للذكورة، والعصوبة، وقال: الرجال أقدر على الاكتساب ولهذا أقامهم الله قوامين على النساء.
وهذا الوجه الغريبُ سيأتي له نظير في اجتماع الأصول في القسم الثاني مما ذكره
__________
(1) قوله: وأوجب النفقة على القريب الذي لا يرث ... إلخ. الواو هنا ليست عاطفة، فليس هذا الكلام واقعاً جواباً لقوله: (لو علق) وإنما هو كلام مستأنف.
(2) مزيدة من صفوة المذهب.
(3) عبارة الأصل: وأوضح فيه ما قال.

(15/526)


الأصحاب، فليس هذا الوجه إذاً عديمَ النظير، ثم الذي تحصّل لي منه ما يجب الثقة به، فالقرب مقدم على الذكورة، والوراثة مقدمة على الذكورة، وإذا وُجد الاستواء في القرب، وتحقق الاستواء في الوراثة ثبوتاً أو سقوطاً، وكان واحد ذكراً، فهل يكون أولى بالالتزام للذكورة؟ المذهب أنه لا أثر للذكورة، وفيه الوجه البعيد الذي حكاه الشيخ.
فهذا تمهيد طرق الأصحاب [في] (1) اجتماع الأولاد.
10202 - ولو اكتفينا بذلك، لم يَخْفَ تخريجُ المسائل عليه، ولكني أرى أن أفضّ المسائلَ على الطرق؛ حتى تزداد إيضاحاً: ابن وبنت: المذهب أنهما يشتركان في الالتزام، ثم يستويان أم يتفاوتان على حسب التفاوت في الإرث؟ فعلى وجهين، وفي المسألة الوجه الغريب، وهو أن الابن يختص بالالتزام.
صورة أخرى - بنت بنت، وابن ابن: من اعتبر الميراث أو رأى الترجيح بالذكورة، قال: ابن الابن أولى بالالتزام، ومن رأى التعويل على القرب ذكر وجهين: أحدهما - أنهما يستويان في الالتزام للاستواء في القرب. والثاني - أن ابن الابن أولى بالالتزام للاختصاص بالإرث.
صورة أخرى - ابن ابن ابن، وبنت بنت: من راعى القرب ضرب النفقة على بنت البنت، ومن راعى الإرث ضربها على ابن ابن الابن.
صورة أخرى - بنت وبنت ابن: النفقة على البنت على [الاتفاق] (2)؛ فإن من راعى القرب قدّمها، ومن راعى الإرث رجحها بالاختصاص بالقرب.
صورة أخرى - بنت بنت، وابن بنت: هما مستويان في القرب، ولا ميراث لهما، المذهب استواؤهما في الالتزام، وصاحب الوجه الغريب يقدم ابن البنت للذكورة.
وهذا القدر كافٍ، وبه نجز الكلام في اجتماع المولودين، ومن يُقدَّم منهم.
__________
(1) في الأصل: فمن.
(2) غير مقروءة في الأصل، لذهاب معظم الحروف.

(15/527)


10203 - فأما الأصول الموسرون إذا اجتمعوا، ومستحِق النفقة فرعهم، فالوجه أن نبدأ باجتماع الأبوين أولاً، فإذا كان للابن الفقير أب وأم موسران، فالابن لا يخلو: إما أن يكون صغيراً وإما أن يكون بالغاً، فإن كان صغيراً، لم يختلف الأصحاب في أن الأب يختص بالالتزام للإنفاق عليه، وهذا من الأصول المتفق عليها بين الأصحاب، وفيه عضد لما أجريناه في أثناء الكلام من أن نفقة الطفل من أتباع مؤن الزوجية.
وإن كان الابن بالغاً، فللأصحاب أوجه: منهم من قال: الأب أولى استدامةً لما مهدنا في حالة الصغر، ومنهم من قال: النفقة مضروبة على الأب والأم؛ فإن الأب كان مختصاً بالولاية على الصغير، وقد استقل المولود، وهما أبوان لو انفرد كل واحد منهما لالتزم النفقة عند انفراده.
ثم إن قلنا: النفقةُ عليهما، فهي مقسومة بالسويّة بينهما أم هي مفضوضة عليهما ثلثاً وثلثين على قدر اشتراكهما في الميراث إذا انفردا باستحقاق التركة؟ فعلى وجهين، كما تقدم ذكرهما في اجتماع المولودين، ونصُّ الشافعي دال على أن الأب أولى بالتزام النفقة.
هذا منتهى الكلام في اجتماع الأبوين لا غير.
10204 - وأما اجتماع الأجداد والجدات من يرث ومن لا يرث، فكيف السبيل فيهم؟ ومن المقدّم بالالتزام منهم؟ فنقول: مما لا يخفى -ونقدمه حتى لا يختلط بمزدحم الخلاف- أنه إذا اجتمع قريب وبعيد من جهةٍ واحدة، فالنفقة مضروبة على القريب لا يُتخيل [فيه] (1) تردد، وذلك مثل أب وأب أب. وأم، وأم أم، وهذا واضح مستبين عما نريد الخوض فيه.
وأما إذا فرض اجتماع جماعة من الأصول، فنذكر طرق الأصحاب على الجملة فيهم، كما ذكرناه في الأولاد ثم نأتي بالمسائل أمثلةً وصوراً، ونخرجها على الطرق.
__________
(1) في الأصل: منه.

(15/528)


فنقول: من أصحابنا من اعتبر القرب، فقدم به وسوّى به، ثم هؤلاء قالوا: لو فرض من الأصول مستوِيان في القرب، واختص أحدهما بالإرث، فهل يقدّم المختص بالإرث أم لا أثر للإرث مع الاستواء في القرب؟ فعلى وجهين، وقد تقدم ذكرهما في الأولاد.
هذه طريقة، وهي غير الطريقة الأولى المحكية في الأولاد، ولو اجتمع على هذه الطريقة قريبان مستوِيان في القرب، وكانا وارثين، فالنفقة عليهما بالسوية أم هي على مقدار الإرث؟ فعلى الوجهين المذكورين.
طريقة أخرى - من أصحابنا من قال: الأصل المعتبر في التقديم الإرثُ، فلو اجتمع بعيدٌ وارثٌ وقريب ساقط، فالنفقة على البعيد الوارث، وإن استويا في الميراث وأحدهما أقرب، قُدم الأقرب، وإن استويا في سقوط الميراث والقرب، استويا في الالتزام للاستواء في القرب، وهذا بعينه مذكور في اجتماع الأولاد.
طريقة أخرى - من أصحابنا من قال: التقديم بالولاية، فإذا اجتمع من الأصول اثنان أو طائفة، وكان الولي واحداً منهم، فهو المختص بالنفقة؛ لأن الولي يسوس المَوْليَّ عليه، ويقدَّمُ بالنظر له، فهو من هذا الوجه قائم بتربيته، فيليق بمنصبه أن [يختص] (1) بالإنفاق عليه، وهذا القائل يقول: الولي وإن كان بعيداً يلتزم النفقة.
فإن لم يكن في الأصول المجتمعين وليٌّ، تصدّى لهذا القائل الطريقان المتقدمان: اعتبار القرب أو اعتبار الوراثة، فكأنه زاد الولاية وجعلها مقدمة على كل معتبر، فإن لم تكن ولاية اعترض طريقان للأصحاب فأيهما رآه قال به.
10205 - وحكى الأصحاب عن الشيخ أبي حامد مسلكاً رابعاً ننقله على وجهه، ثم ننقّح الطرق على ما ينبغي.
قال رضي الله عنه: تعتبر الذكورة والإرث في اجتماع الأصول، وعبر عن الذكورة بالكسب، هكذا توجد المنقولات عنه، ثم قال: إذا وجد شخصان مثلاً في أحدهما ذكورة ووراثة، وفي الثاني ذكورة ولا وراثة، أو وراثة ولا ذكورة، فمن اجتمع فيه
__________
(1) في الأصل: يختصر بالإنفاق.

(15/529)


المعنيان مقدم في الالتزام، ولا يتصور أن يجتمع في كل واحد الذكورة والوراثة معاً؛ فإن الذكورة والوراثة إنما تثبتان للأب أو الجد أب الأب، ولا يتصور اجتماع الاثنين على هذا الوصف، ولو اجتمع ذكر غير وارث، وأنثى وارثة، [فهما] (1) مستويان، فالنظر وراء ذلك إلى القرب، فمن كان أقرب، كان أولى.
وحاصل هذا المسلك يرجع إلى اعتبار معنيين، والحكم بتعادلهما: إذا وجد أحد المعنيين في شخص ووجد المعنى الآخر في شخص، ثم إذا فرض التساوي إما بانتفاء المعنيين عن الجانبين، وإما بوجود المعنيين في كل واحد من الجانبين، وإما بوجود أحد المعنيين في أحد الجانبين، ووجود المعنى الآخر في جانب الآخر.
وإذا فرض الاستواء على جهة من الجهات التي عددناها، فالنظر في القرب، فإذا فرض الاستواء في القرب، مع الاستواء الذي صورناه، فهذا يقتضي الاشتراك في الالتزام.
ولو فرض من جانب ذكورةٌ وإرثٌ، ومن جانبٍ قربٌ، فالمعنيان مقدمان على القرب، ولو فرض من جانب ذكورةٌ محضة، ومن جانب قربٌ، فالذكورة مقدمة، ولو فرضت وراثة من جانب ومن جانب مزيدُ قرب، فالوراثة مقدمة.
هذا حاصل هذه الطريقة.
10206 - ومما ننبه عليه في هذا المنتهى أنا ذكرنا في اجتماع المولودين أن من أصحابنا من اعتبر القرب، وقدم به، ومنهم من اعتبر الإرث وقدم به، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أن القرب إذا وجد في جانب والإرث مع البعد إذا وجد في جانب آخر أوجب ذلك اعتدالاً، كما ذكر الشيخ أبو حامد أن الذكورة في جانب والإرث في جانب يُوجب اعتدالاً. والسببُ فيه أن من رأى التمسك بالقرب لم يقدم عليه الوراثة؛ فإن القرب هو الأصل، وأما الذكورة والإرث، فلا يبعد اعتقاد تعادلهما.
10207 - طريقة أخرى - لبعض الأصحاب- ذهب طائفة إلى اعتبار الذكورة المحضة من غير ضم الإرث إليها، وقدمها على الوراثة، قائلاً: لو كان في جانب ذكورة،
__________
(1) في الأصل: منهما.

(15/530)


وفي جانب إرث ولا ذكورة مع الإرث، ولا إرث مع الذكورة،. فالذكر مقدم، وقال: الذكورة مقدمة على القرب، والذكر البعيد مقدم على الأنثى القريبة، وهذا أبعد الطرق؛ فإن الذكورة المحضة يبعد تقديمها على الإرث.
فهذا بيان ذكر الطرق في اجتماع الأصول في معرض عقد التراجم وتمهيد القواعد.
10208 - ونحن نتتبع أولاً مآخذ هذه الطرق على ما ينبغي، ثم نذكر ما انفصلت به تصرفات الأصحاب في اجتماع الأصول عن تصرفاتهم في اجتماع المولودين، ثم نختتم الكلام بذكر المسائل في الأصول وتخريجها على الطرق.
10209 - فأما تتبع الطرق [فالقرب] (1) لا حاجة إلى تكلّفٍ في اعتباره، ولو قلنا: هو أوْلى الطرق، لم نكن مُبعدين؛ فإن مدار النفقة على البعضية، وهي من طريق القرابة أقربُ من التفرّعِ والتشعّب، والوقوعِ على الجوانب من عمود النسب، ثم يُثبت وجوبَ النفقة من غير إرث، كما تقدم تقريره.
وسرّ التقديم يؤول إلى الترجيح، وأَحْرى وجوه الترجيح ما ينشأ من مأخذ الأصل، ثم إن ذكر ذاكر مع الاستواء في القرب الترجيحَ بالإرث، لم يُبعِد، فيقع الإرث في المرتبة الثانية من القرب؛ فإن القرب هو الأصل، والإرث متلقَّى من صفة القرب.
وأما من اعتبر [الإرثَ] (2)، فقد أوضحنا أنه حائد، وقررنا ذلك في اجتماع المولودين.
والولايةُ فيها على حالٍ تعلقٌ بقيام الولي بتربية المَوْليِّ عليه.
والذكورة التي ذكرناها آخراً اعتمادُها أضعف الطرق؛ فإنه ليس في الذكورة إلا القدرة على الكسب، وأين يقع هذا من القرب، ثم أين وقوعها عن قوة القرب التي تفيد الوراثة.
__________
(1) في الأصل: بالقرب.
(2) في الأصل: الأرض.

(15/531)


والشيخ أبو حامد جمع بين الذكورة والوراثة، فاشتمل كلامُه فيما نقله الناقلون على الأمر [المنكر] (1) الغث الذي قدمناه؛ فإن مساق التفريع يؤدي إلى تقديم الذكورة على القرب، وهذا هو الغاية المحذورة عندنا؛ فإن القرب أولى [معتبر] (2) والذكورة أبعد معتبر، فمن باح بتقديم الأبعد على الأقرب، لم يغادر من الرّداءة شيئاًً.
نعم، لو قال: الوراثة لا تقدم على القرب، والذكورة لا تقدم على القرب، ولو اجتمعا في شخص قدمتا على القرب، لكان هذا قريبَ المأخذ، ولكن ما صح عندنا في النقل عنه ما ذكرناه. ولا سبيل إلى أن نطوّقه ما لم يعتقده، ونتقوّل عليه.
ولا أرغب أيضاًً في تقديم الوراثة مع الذكورة على القرب، حتى أرى هذا وجهاً من وجوه الاحتمال.
وإذا أردنا الاطلاع على منازل الكلام، فالقرب يقع أولاً، والمتمسِّك [به] (3) معتصِمٌ بأفضل الطرق، ثم يليه الوراثةُ، ويلي الوراثةَ الولايةُ. والذكورة، [واعتمادها في التقديم- على ما قدمناه من الأسباب باطل. وجَمْعُ الشيخ أبي حامد بين الوراثة والذكورة كلامٌ مختبط] (4) وليصرف الناظر فهمه إلى أول الكلام، فإن اعتبرنا القربَ، لم يبعد حينئذ مع الاستواء فيه التردد في الوراثة، فإذا فرض الاستواء في القرب والوراثة، لم يبعد بَعْد الاستواء فيهما التردد في الترجيح بالوراثة، والتردد في الوراثةِ والترجيحِ بها أقرب من التردد في الترجيح بالولاية.
وإذا فرض الاجتماع في القرب والوراثة ولا يتصور الاجتماع في الولاية (5)، فلو
__________
(1) في الأصل: كلمة غير مقروءة صورتها هكذا: (المتكدة) والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في الأصل: معتبرة.
(3) زيادة من المحقق لاستقامة الكلام.
(4) عبارة الأصل فيها خلل وحشو واضطراب وتكرار، هكذا: واعتماده في التقديم على ما قدمناه من الأسباب باطل، وجمع الشيخ أبي حامد بين الوراثة والذكورة واعتمادها في التقديم على ما قدمناه من الأسباب باطل، وجمع الشيخ أبي حامد بين الوراثة والذكورة كلامٌ مختبط ... إلخ" والمثبت من حدّفٍ وترتيب، تصرّف من المحقق.
(5) أي لا يتصور أن يجتمع أكثر من شخص كل واحد منهم وليٌّ، فالولاية لا تكون إلا لواحدٍ يجبّ من دونه.

(15/532)


انتفت الولاية، فالترجيح بالذكورة [محتمل على حالٍ] (1) وهو أبعد ما يرجّح به، وإنما يحتمل الترجيح به بعد ما قدمنا من التقديم بالأسباب التي اختلف الأصحاب فيها.
هذا تنقيح الطرق وتنزيل القول في تعاليها، وبيان سقوط بعضها، وبيان وضوح بعضها، وبيان الاحتمال على البُعد في بعضها.
10210 - وما ذكرناه يُغني عن ذكر ما التزمناه من بَعدُ، ولكن لا يضرّ الوفاء بالموعود، وتقريب المآخذ على الشادي الفطن، فنقول: استعملنا في المولودين القربَ والوراثةَ، والذكورة على وجهٍ بعيد، ولم نصادف منها ولاية فنذكر بحسبها طريقة.
وأما الجمعُ بين الذكورة والوراثة، فلست أراه طريقةً يُحتَفل بها، وحق الشيخ أبي حامد أن يطرد طريقته في المولودين.
10211 - وأما المسائل، فقد قدمنا الكلام في الأب والأم، ونحن نأتي بصورٍ في الأجداد والجدات: أب أب، وأم أم: من اعتبر القرب أوجب النفقة عليهما، وفي كيفية الفض وجهان: أحدهما - التسوية، والثاني - اعتبار مقدار الإرث.
ومن اعتبر الإرثَ فَضَّه عليهما على حسب الإرث، فإنه إذا اعتبر الإرثَ في أصل التقديم اعتبره في التفصيل.
ومن اعتبر الولايةَ أو الذكورةَ أوجب على الجد، ولم يوجب على أم الأم شيئاً.
صورة -أب أب، وأم- من اعتبر القرب أوجب النفقة على الأم، ومن اعتبر الوراثة فضّ النفقةَ على أب الأب والأم على حسب الميراث بينهما، ومن اعتبر الولاية أو الذكورةَ أوجب النفقة على الجد.
وقيل: للشافعي نصٌّ في أن النفقة على الجد دون الأم، وهذا لم يصححه أئمة المذهب نقلاً، فإن صح، فلا خروج له إلا على اعتبار الولاية، وإن أحببنا عبّرنا عنه، وقلنا خروج النص على تنزيل الجد عند عدم الأب منزلة الأب.
__________
(1) في الأصل: محتمله على مال.

(15/533)


صورة - أب أب وأب أم: من اعتبر القرب، ولم يرجح بالإرث سوى بينهما، ومن اعتبر القرب، ورجح بالإرث أوجب النفقة على أب الأب، ومن اعتبر الإرث أو الولاية قدم أب الأب.
صورة - أم أب الأب، وأب أم الأم: من اعتبر القرب، ورجح بالوراثة أوجب النفقة على أم أب الأب، ومن لم يرجح بالوراثة سوى بينهما، ومن اعتبر الذكورة قدم أب أم الأم. وهذا أخس الطرق، وهو مما يجب القطع ببطلانه؛ فإن تقديم الذكورة على الوراثة لا اتجاه له.
وما (1) عندي أن من وفق للإحاطة بما قدمناه، لم يحتج إلى مزيد في التصوير، والازديادُ على الكفاية في البيان يَجُرّ المللَ، ويورث الخللَ.
10212 - ونحن نختتم هذا المنتهى بشيء حقه أن يخرج عن الضوابط، قال من اعتبر الولاية: إذا فرض شخصان ليسا وليَّيْن، ولكن أحدهما مُدْلٍ بولي، فهو مقدم، وهذا إذا استعمل في التقديم بالغٌ في الخسة، وإن استعمل في الترجيح، كان بعيداً في مسالك الظنون، وقد ذكر من اعتبر الذكورة الإدلاء بالذكر أيضاً، وهذا مبلغٌ يكلّ عنه لسان الموبِّخ (2). وقد انتجز القول في اجتماع المولودين، ثم في اجتماع الأصول.
10213 - ونحن نذكر الآن اجتماع الأصول والمولودين، فنقول: إذا اجتمع الأب والابن الموسران، فللأصحاب أوجه، والاحتمالات فيها. متعارضة: منهم من قال: الأب أولى استصحاباً [لوجوب] (3) الإنفاق عليه في صغر المولود. وقد يتأكد هذا بتربية الأصل فرعه.
ومنهم من قال: النفقة على الابن؛ فإن حق الإنسان على ولده آكد من حقه على
__________
(1) وما عندي: ما هنا اسم موصول بمعنى الذي.
(2) كذا قرأناها بصعوبة بالغة لعدم النقط، ولعدم الوضوح. ولكنه جارٍ تماماً مع السياق والسباق.
(3) في الأصل: بالوجوب.

(15/534)


والده، وحقوقه في مال الولد أثبت، ولذلك اختص استحقاقَ الإعفاف من مال ولده، وقال المصطفى صلى الله عليه: " أنت ومالك لأبيك " (1).
والوجه الثالث - أن النفقة مضروبة عليهما لاستوائهما في القرب واتصاف كل واحد منهما بالالتزام عند الانفراد، ثم إذا ضربنا النفقة عليهما، ففي كيفية الضرب وجهان: أحدهما - أنا نسوي بينهما، والثاني - أنا نضرب النفقة عليهما على مقدار استحقاقهما للإرث، وقد تقدم هذا فيما سبق.
[فلو] (2) كان في المسألة أمٌ، وابنٌ، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بأن الابن أولى بالالتزام.
ومنهم من أجرى الابن مع الأم مجرى الابن مع الأب، ثم يعترض في هذا القسم الذي انتهينا إليه صورٌ في القرب والبعد، فيستخرج الفطن مما مهّدناه قبلُ اختلافَ الطرق فيه.
فلو اجتمع الأب وابن الابن، فيعترض في ذلك ما نشير إليه: مَنْ نظر إلى الاستصحاب، وقدم الأب، فلا شك أنه يقدمه هاهنا ومن نظر إلى تأكد الحق على الولد، اعترض له هاهنا اعتبار هذا التأكد في مقابلة اعتبار القرب، فمن راعى التأكد قدّمه على القرب، ومن راعى القرب أو الاستصحاب قدَّم الأب.
ولو فرضنا جداً عالياً وابنَ دِنْية (3)، فمن اعتبر القربَ أو تأكُّد الحق على الولد، قدم الابن.
__________
(1) حديت: " أنت ومالك لأبيك " رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد وابن حبان والطبراني في الصغير والطحاوي في شرح معاني الآثار، والبيهقي في الكبرى (ر. أبو داود: البيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده، ح 3530، ابن ماجه: التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، ح 2291، 2292، أحمد: 2/ 179، ابن حبان: ح 410، 4262، المعجم الصغير للطبراني: 1/ 23، 24 رقم 2، شرح معاني الآثار: 4/ 158، السنن الكبرى: 7/ 481). وانظر التلخيص: 3/ 383 ح 1670.
(2) في الأصل: ولو.
(3) دنية: أي قريب لاصق، يقال هو ابن عمي دِنياً ودنياً ودُنيا أي قريب لاصق النسب (المعجم).

(15/535)


ومن اعتبر الإرث في الطرق المقدمة، أثبت النفقةَ على الجد والابن على حسب قسمة الميراث بينهما.
ومن أثبت الولاية فالجد أولى بالولاية.
10214 - والجملة المغنية عن التفصيل أنه ازداد في اجتماع الأصول والفروع رعايةُ تأكد الحق على الولد، وباقي وجوه الاعتبار على ما تقدم، حرفاً حرفاً، ومن لم يعتبر ما مهدناه لا يزداد بتكثير التصوير إلا عَمايَةً [وتدوّخاً] (1).
وقد لاح أن تلك المعاني لا تختلف في هذا القسم، بل زاد معنى آخر، وقد نبهنا عليه، وكل ما ذكرناه بيان ازدحام من يلتزم النفقة، وذِكْرُ من يُقدَّم ويؤخر، والذي يسوّى بينهم.
ونحن الآن نعقد فصلاً يحوي كلاماً وجيزاً في اجتماع من يستحق النفقة مع ضيق النفقة عن جميعهم.
فصل
10215 - إذا فضل عن قوت الرجل في يومه كفايةُ شخصٍ مثلاً، وازدحم عليه الأهل، والمولودون، والأصول، فإلى من يصرف ذلك المُدّ الفاضل؟ ما رأيته أن الزوجة مقدّمةٌ، ولم أر ما يخالف هذا، ورأيت كثيراً من الطرق عريّةً عن التعرض لهذا، واعتل الذين قدّموا نفقة الزوجية بأن قالوا: في نفقة الزوجة رعاية معنى الكفاية على الجملة؛ على مقابلة احتباسها في رِبقة الزوجية، وهي أثبت النفقات؛ من جهة أنها لا تسقط بمرور الزمن، ولا تسقط باستغناء الزوجة، فاقتضى ما ذكرناه من التأكد تقديمَها على سائر الجهات، وهذا فيه احتمال معترضٌ، لا نقل عندي فيه.
والاحتمال يتضح بتجديد العهد بأصلٍ قدمناه في كتاب التفليس، وهو أن النفقات التي حقَّت وحلّت مقدمةٌ على الديون، وما دام القاضي يمهد بيعَ عروض المفلس، فنفقة المفلس، ونفقةُ أهله وأقاربه مؤداةٌ من تلك الأموال، وإذا فرض بيعها، فيجب
__________
(1) في الأصل: ونذوخا. وهو تصحيف مضلّل.

(15/536)


توفية نفقات ذلك اليوم على مستحقها، ويصرف الفاضل [عن] (1) وظائفِ ذلك اليوم إلى الديون، وإنما لا ينتظر مجيء الغد؛ فإنه غيبٌ في حقوقهم، ونفقة الغد لا تجب في اليوم، ووجوب الديون ناجزٌ، وقد ذكرنا أن الإنسان لا يستكسب في ديونه، وذكر طوائف من أئمة المذهب أنه يستكسب لينفق.
فيخرج من مجموع ما ذكرناه أن نفقة الزوجة إنما لا تسقط بمرور الزمن، وتستقرّ في الذمة لما فيها من الدّينيّة ومضاهاة أحكام العوضية، ولهذا لم يلتفت الشافعي فيها إلى الكفاية، وأجمع العلماء على وجوبها للمستغنية، فالذي ذكره الأصحاب في تأكيد نفقة الزوجية، يحقق فيها مَشابِهَ الديون، والنفقاتُ المحضة المدارة على الكفاية والحاجة الحاقّة أولى بالتقديم (2)، وإن فرضت حاجة في الزوجة، فليست هي علة استحقاق نفقتها، فلا أثر لها، ولا وقع.
وهذا الاحتمال يتأكد بحديث أبي هريرة في الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه فقال: " معي دينار فقال: أنفقه على نفسك، فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على ولدك، فقال معي آخر، فقال: أنفقه على أهلك " وظاهر الحديث -إلى أن [يستدّ] (3) فيه تأويل- يدلّ على تقديم الولد على الأهل.
فهذا منتهى الكلام في ذلك.
والذي صح النقل فيه تقديم نفقة [الزوجة] (4)، ولم أر في الطرق ما يخالف ذلك، لا تصريحاًً ولا رمزاً.
10216 - وإذا بأن ذلك، ذكرنا بعده التفصيل في اجتماع أصحاب البعضية.
والقول الجامع فيه أن ازدحامهم، وهم مستحقون -مقيسٌ على ازدحامهم، وهم
__________
(1) مطموسة في الأصل.
(2) أولى بالتقديم بناء على الأصل الذي أشار إليه من كتاب التفليس، حيث تقدّم النفقات الحاقة الدائرة على الكافية (نفقة القرابة) تقدّم على الديون، ونفقة الزوجية أخص صفاتها مشابهة الديون.
(3) في الأصل: يستمر. وهذا تصحيف جرى عليه الناسخ في كل مرة يأتي فيها لفظ (يستدّ).
(4) في الأصل: الزوج.

(15/537)


ملتزمون، وقد سبق الترتيب في ازدحامهم وهم ملتزمون، فكل من يقدّم بالالتزام، فإذا وقف موقفَ الآخذ، قُدّم بالاستحقاق، وإذا فرض استواء جماعة في الالتزام، ثم قدّر اجتماعهم في الطلب والاستحقاق سوّي بينهم فضّاً عليهم، كما يُسوّى بينهم في الالتزام.
وبين القاعدتين فرقان يختلف المذهب بينهما: أحدهما - أنا في ازدحام الملتزمين، حكينا عن بعض الأصحاب تقديم الذكورة لأنهم أقدر على الاكتساب، وحكينا عن البعض الترجيح بالذكورة، وإذا فرض الازدحام في الأخذ والاستحقاق، فالخلاف يجري على العكس مما تقدم، حتى إذا اجتمع الأبُ والأمُّ والفاضل من نفقة الإنسان مُدٌّ، فمن أصحابنا من يقدّم الأم للأنوثة والضعف، ومنهم من يرى التسوية، فإذا كان الكلام في الأخذ والاستحقاق، فالأنثى عند بعض الأصحاب أولى وأحق لضعفها، كما [أن] (1) الذكر أولى بالالتزام لقوّته، وقدرته على الاكتساب.
وقد يخطر للفقيه أمر في ذلك، فيقول: إذا كان المزدحمون في الالتزام موسرين، فلا أثر للقدرة على الاكتساب، وإذا لم يكن لهم أموال، فيجوز اعتبار [الذكورة] (2) إذا كنا نوجب على الإنسان أن يكتسب لينفق.
هذا أحد الفرقين، فقد جرت الأنوثة في هذا الفصل مجرى الذكورة في هذا الفصل.
والثاني - أن أصحابنا اختلفوا في ازدحام الملتزمين حيث يضرب عليهم أنا هل نعتبر أقدارهم في الميراث أم نضرب على الرؤوس؟ والذي ذهب إليه الأكثرون في ازدحام المستحقين الآخذين أنا لا ننظر إلى الميراث، فإن الحاجة هي المرعية هاهنا.
وليس يبعد عندنا إجراء ذلك الخلاف؛ فإن اعتبار أخذ النفقة بأخذ الميراث قد يقرب بعض القرب.
10217 - ومما يتصل بتمام البيان في هذا الفصل أن الآخذين إذا اجتمعوا، وكثروا
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: الزكاة. وهو تصحيف مضلل أرهقنا كثيراً، إلى أن أُلهمنا صوابه.

(15/538)


واقتضت الحال التسوية على وفاقٍ أو على خلاف، والفاضل مد، ولو فُضّ عليهم لخصّ كلَّ واحد منهم حفنة لا تسد مسداً ولا تقع موقعاً، فالذي أراه في ذلك أن يقرع بينهم، وإن كان ما يخص كل واحد يسد مسداً، فذ ذاك لا ينقدح إلا القسمة. والعلم عند الله تعالى، وقد تلتفت القضية إلى قسمة الماء على المُحْدِثين، ولكن هذا تشابه الألفاظ، فليعرف [كل أصلٍ] (1) على ما يليق به.
فصل
قال: " ولا تُجْبر امرأةٌ على إرضاع ولدها، شريفةً كانت أو دنيئة، موسرة
كانت أو فقيرة ... إلى آخره " (2).
10218 - إذا ولدت المرأة ولداً، وكانت غيرَ مشتغلة بحق الزوج لبينونة، فإذا طلبت [إرضاعه] (3)، كانت أولى به على الجملة من غيرها.
ولو أراد الأب أن يضمه إلى حاضنة من الرضاع، لم يكن له ذلك، إذا كانت الأم متبرعة.
ولو طلبت أجرةً، وكان الأب لا يجد مُرضعةً إلا بأجرة، وكانت الأم لا تطلب مزيداً، فالأم أولى، ويتعين ضمُّ المولود إليها.
ولو كانت الأم تبغي أجرتَها، وكان الأب يجد متبرعة من المراضع، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يجب عليه التزامُ الأجر وضمُّ الولد إلى [الأم] (4)؛ فإنه يتمكن من تحصيل الرضاعة من غير احتياج إلى بذل مال.
والقول الثاني - أنه يجب عليه بذل الأجر؛ فإنَّ تحنّن الأم وحدَبَها لا يسوغ تفويته
__________
(1) في الأصل: " فليعرف كان أهل على ما يليق به " والمثبت من تصرف المحقق، نرجو أن يكون صواباً.
(2) ر. المختصر: 5/ 82. والمثبت من نص المختصر، حيث العبارة غير مقروءة -في جملتها- في الأصل.
(3) في الأصل: طلبت لرضاعه.
(4) في الأصل: الإمام.

(15/539)


على الولد، وليس هو خفي الأثر، والأجنبية لا تسد مسدّها في ذلك، والقولان يجريان والأجنبية تحابي وتسامح، والأم تطلب تمام الأجر.
ولا خلاف أن الأم لو كانت تطلب أكثر من أجر مثلها، فلا يلزم الأب التزام الزائد؛ إذ لا ضبط له ولا منتهى يوقف عنده، على أنه غبينة، وهي غير محتملة في الشرع، والدليل عليه أن الماء المفروض بثمن مثله يشتريه المسافر، وإن كان يباع بغبينة، تحوّل إلى استعمال التراب.
10219 - ثم تولّع الأصحاب رضي الله عنهم بأمرٍ واتفقوا على إجرائه في تفاصيلِ المذهب، ونحن نذكر ما ذكروه، فنقول أولاً: إن لم نجد للولد مرضعاً سوى الأم، تعيّن عليها الإرضاع بالأجر، ومؤونة الإرضاع على الأب بالاتفاق؛ فإنا قدمنا أن نفقة الصغير على الأب، ومؤونة الإرضاع مفتتحُ ما يلتزمه من النفقة، ولو لم نجد إلا أجنبية، ألزمناها أن ترضع الولد، إذا كان في ترك إرضاعه إشفاءُ على الهلاك، وهذا من إنقاذ الهَلْكَى، وهو يتعين على من يتمكن منه، إذا كان لا يوجد غيره، على ما سنذكر ذلك في تقاسيم فروض الكفايات في كتاب السير، إن شاء الله.
والذي أجراه الأصحاب أن قالوا: إذا وجدنا حاضنة مرضعة أجنبية، فلا يجب على الأم الإرضاع، ولكن يلزمها أن ترضعه اللِّبأ؛ فإن الولد لا يحيا دونه، وهو أوائل ما ينزل من اللبن.
هذا ما رأيته للأصحاب، ولم أر له تحقيقاً عند أهل البصائر، وكم من أم تُطْلَقُ وتموت في الطلْق، فتخلفها حاضنة في الإرضاع ويحيا المولود، ولكن ما ذكره الأصحاب هو المذهب وعليه التعويل، وقد يغلب موت ولد المطلوقة، وإن [احتضنه] (1) مراضع، وهذا من آثار انقطاع أوائل اللبن، والعلم عند الله تعالى.
وتمام البيان في ذلك أنا لا نشترط فيما نُلزمه من ذلك القطعَ بهلاك المولود، ولكن إذا ظننا هلاكَه، وووقعَه في سبب يُفضي إلى الهلاك بدرجة، فيجب السعي في دفعه، وإذا ظهر الضرار، وجب الدفع: فرضَ عين، أو فرضَ كفاية، فإن كان منعُ
__________
(1) في الأصل: احتضنها.

(15/540)


اللِّبأ مضراً، ونعتقد أن الأمر كذلك لاتفاق الأصحاب، فيتعين على الأم أن تسقي الولد اللِّبأ، ثم لا نكلفها التبرع بذلك، إذا كان لسقي اللِّبأ أجرٌ.
فانتظم من المسائل التي أرسلناها بدداً أن الأم لا يلزمها الإرضاع، والأب يجد غيرَها، فإن طلبت، فهي أولى إن كانت متبرعة، وهلم جراً إلى تمام التفصيل.
وفي اللِّبأ ما ذكرناه، فالمؤنة إذاً على الأب، وحق [الاحتضان] (1) للأم إن أرادته، وكل هذا وهي فارغة عن رعاية حق الزوج.
10220 - وأما إذا كانت منكوحة فولدت، وطلبت أن تُرضعَ الولد، وطلب الزوج منها الاستمتاع في أوقات همّها بالرضاع، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن حق الزوج مُتّبع، وليس لها أن تشتغل بالإرضاع عن حقه، وذكر صاحب التقريب وجهاً بعيداً أن لها أن تُرضع الولد، وإن كانت تنقطع عن توفية حق الزوج لزمان اشتغالها.
وهذا الوجه بعيد، ولكن يمكن أن يقال: إنه خارج على القولين في أن الأم إذا طلبت الأجر على الإرضاع، ووجد الأب حاضنة متبرعة أو راضية بدون أجر المثل، فهل يجب على الأب بذلُ الأجر للأم؟ فعلى ما قدمناه. فإن قلنا: لا يجب عليه تعطيل حظّه من المستمتع بها إذا كان يجد مرضعاً أجنبية، كما لا يجب عليه تعطيل ماله، وهو يجد متبرعة، فإن قلنا: يجب على الأب بذلَ المال للأم مع وجدان متبرعة، فلا يمتنع أن يجب عليه تعطيل حظه من المستمتع، حتى لا ينقطع عن الولد شفقتُها وحدَبُها.
وهذا يحتاج [إلى مزيد تفصيل، وهو إن كان ولدها من غير الزوج، لم يجب على] (2) الزوج تعطيل حقه من الاستمتاع، وإن كان الولد منه، فعلى القولين؛ لأنه يجب عليه القيام بمصلحة ولد نفسه، ومن مصلحته أن تكون الأم قوّامةً عليه.
فهذا نجاز الفصل، وقد انتهى به القول في النفقات والله المحمود.
...
__________
(1) في الأصل: الاختصاص. والمثبت من المحقق استرشاداً بعبارة صفوة المذهب.
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل، وزدناه من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 230 يمين.

(15/541)


باب أي الوالدين أحق بالولد (1)
روى الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خيَّر غلاماً بين أبيه وأمه (2).
10221 - الحضانة من الأحكام التي يجب صرف الاهتمام إليها، ويقلّ في العلماء من يستقلّ به (3)، فإنه جمع إلى غموض الأطراف انتشار المسائل، [والتفاف] (4) الكلام عند فرض الازدحام، واضطراب العلماء فيما يعتبر في التقديم والتأخير، ونحن بعون الله وحسن توفيقه [تقدّم] (5) قواعدَ في الحضانة ونذكرها أرسالاً، ومتواصلة، ثم نخوض في بيان الازدحام، وهو غمرة الباب.
فنقول: الحضانة حفظُ الولد، والقيامُ عليه بما يحفظه، ويقيه، ويستصلحه، وأول ما نبتدىء به أن الولد الرضيع والفطيم إلى أن يبلغ سنَّ التمييز إذا دار بين الأب والأم وهي بائنة عن الزوج، منعزلةٌ عنه، فالأم أولى بحق الحضانة إذا هي طَلبتْها، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ثم إنما تكون مستحِقة للحضانة إذا استجمعت أوصافاً: أحدها - الحرية. والثاني -
__________
(1) هذا الباب يتعلق بالحضانة، وقد جرى الإمام على ترتيب المختصر فلم يسمّه (كتاب الحضانة) ولكن جعله باباً من كتاب النفقات (برغم قوله آنفاً: "انتهى القول في النفقات".
وعلى هذا النسق جرى الإمام الرافعي في الشرح الكبير، والنووي في الروضة، إلا أنهما نصا على أن الباب في الحضانة. وخرج عن ذلك ابن أبي عصرون في صفوة المذهب فقال: (كتاب الحضانة) أما العز بن عبد السلام، فجعله باباً بنفس عنوان نسخة الأصل: (باب أي الوالدين أحق بالولد).
(2) ر. المختصر: 5/ 83. وسيأتي آنفاً مزيد تخريجٍ للحديث.
(3) أعاد الضمير إلى مذكر على معنى (باب الحضانة).
(4) في الأصل: والتفات.
(5) زيادة اقتضاها السياق.

(15/542)


الاستقلال بالعقل. والثالث - الأمانة. والرابع - الفراغ. والخامس - الإسلام إذا كان الولد مسلماً.
أما الحرية إنما شرطناها لتتفرغ إلى الحضانة؛ فإن الرقيقة مستوعَبَةُ المنافع، والحضانةُ ضرب من الولاية، وإن كانت المرأة تستحقها، والرقُّ يباين الولايات، وأما الاستقلال، فهو الأصل، وكذلك الأمانة.
10222 - وأما الفراغ، فالمعنيّ به أن لا تتزوج زوجاً غيرَ أب المولود، فإذا نكحت، بطل حقها من الحضانة وفاقاً، ولو رضي الزوج بأن تحتضنه، فلا يعود حقها لرضا الزوج باحتضانها، كما لا يثبت حق الحضانة للرقيقة [وإن] (1) رضي مولاها، فلو طلقها الزوج، نظر: فإن أبانها، عاد حقُّها في الحضانة، خلافاً لمالك (2) رضي الله عنه، فإنه قال: إذا بطل حقها من الحضانة بالنكاح، لم يعد بالإبانة، ولا خلاف أنها لو جُنت، ثم أفاقت، فحقها يعود بالإفاقة.
هذا إذا طلقها الزوج طلاقاً مبيناً، وأما إذا طلقها طلاقاً رجعياً، فالمنصوص عليه للشافعي رضي الله عنه أن حقها يعود بالطلاق الرجعي؛ فإن الرجعية تنعزل عن زوجها، وتتربص للاعتداد، فإذا انقطع عنها شغل مستمتع الزوج، كانت في الغرض المطلوب بمثابة البائنة.
وذهب المزني إلى أن حقها لا يعود؛ فإن سلطان الزوّج مطرد عليها: يرتجعها متى شاء، وهي في حكم الزوجات، فيبعد أن يعود حقها من الحضانة، وهي بعدُ على حكم الزوجية، وقد خرج ابن سريج وغيره قولاً موافقاًً لمذهب المزني، وهو منقاس حسن، ووجهه ما ذكرناه.
ثم مما يجب التنبّه له أن البائنة لو كانت في مسكن الزوج، وكانت تعتد فيه، فللزوج أن يمنعها من إدخال ذلك المسكن الولدَ، وكذلك لو كانت رجعية، ولو كان اتفق النكاح في مسكن المرأة، وكانت تعتد فيه، فحينئذ حكم عود الحضانة على
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) ر. المدونة: 2/ 244، عيون المجالس: 3/ 1407 مسألة 988، القوانين الفقهية: 223.

(15/543)


ما ذكرناه، ولو كان المسكن للزوج ورضي بإدخال الولد المسكنَ، فحق الولد ثابت في الحضانة، وليس كما لو رضي بأن تحتضن الولد مع قيام الزوجية، فإن حقها لا يقوم فإن الزوجية رقٌ، وإذن الزوج كإذن المولى للرقيقة، وأما ما يتعلق بالمسكن والرضا بإدخال الولد إياه، فهذا محتمل، وهذا كما لو كانت المرأة استعارت مسكناًً، وكانت خليّة، فأخذت تحتضن الولد في الدار المستعارة، فلها حق الحضانة، وإن كان من الممكن أن يسترد المعير العارية، وإذ ذاك لا تتمكن من الحضانة، فلا نظر إلى أمثال هذا، والعلم عند الله تعالى.
10223 - ومما يتعلق الكلام به أن الرجعية مستحقةٌ للنفقة، فلو أخذت تحتضن من غير استرضاء المطلِّق، وكان المسكن لها، كما تقدم التصوير، فالمذهب أن نفقتها لا تسقط؛ فإنها باشتغالها بالاحتضان ليست ناشزة على زوجها؛ فإن الناشزة هي المانعة حقاً لزوجها.
قال الشيخ أبو علي رضي الله عنه: الظاهر عندنا أن نفقتها تسقط، كما لو كانت في صلب النكاح، فإن الرجعية تستحق نفقة الزوجية، فتسقط نفقتها بما يسقط به نفقة الزوجات.
وهذا عندي هفوة؛ فإن الزوجة في غيبة الزوج لو احتضنت الولد أو أخذت تحترف على وجهٍ لو اشتغلت بمثله في حضور الزوج وزاحمت حقه، لكانت ناشزة، فلست أراها ناشزة في الغيبة. نعم، إن خرجت من مسكن النكاح في الغيبة، فقد انسلت عن الخدر، وفارقت رباط الزوج على خلاف ما يبغيه الرجل في الغيبة والحضور، فذاك يؤثِّر.
هذا منتهى الكلام فى تزوج المرأة، وما يفرض من طريان الطلاق المبين وغيرِ المبين.
10224 - وأما اشتراط إسلامها فبيّنُ [التعليل] (1) إذا كان الولد مسلماً تبعاً لإسلام الأب، فإن تسليمه إليها يجرّ خبلاً على دينه، وليس يخفى أثر المربية والمربي في حق
__________
(1) في الأصل: فبين التعديل.

(15/544)


الطفل فيما يتعلق بدينه، وبحقٍّ قيل: التلقُّف في الصغر كالنقش في الحجر.
ؤقال أبو سعيد الإصطخري من أصحابنا: لا يشترط إسلام الأم، واحتج على ذلك بما روي " أن أباً مسلماً وأماً كافرة تنازعاً مولوداً بينهما، ولم يكن المولود مميزاً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحضاره، وقال للأبوين: ادعواه، وقال عليه السلام في نفسه لما دعواه: " اللهم اهده "، فانسل الصبي إلى أبيه " (1) ولو لم يكن للكافرة حظ (2)، لبتَّ عليه السلام قوله في الإلحاق بالأب.
ومذهب الأصطخري لا ينطبق على مضمون الحديث، وقد يقول: إنما نخاف على دين الطفل إذا كان مميزاً، ولست أرى ما يقول إذا ميّز الصبي بين أمه الكافرة وأبيه المسلم، فإن قال: " يخير "، فقد ظهر تعريض دينه للفتنة، وإن قال: لا يضم إلى الأم إذا ميز، اضطرب أصله وتخبط مذهبه، والجملة أن ما قاله ليس معتداً به، والمذهب ما ذكرناه.
وكل ما أشرنا إليه فيه إذا لم يبلغ الولد مبلغ التمييز.
10225 - فإن بلغ سنَّ التمييز مميِّزاً وهو سبعٌ أو ثمان ولا ضبط في هذا السن، وقد يتقدم التمييز على السبع، وقد يستأخر عن الثمان، والغرض حصول التمييز، فإذا صار الصبي مميزاً، خيّرناه بين الأب والأم ونضمه إلى من يختار من الأبوين إذا كان كل واحد منهما أهلاً للحضانة، ولا فرق بين أن يكون غلاماً أو جارية، وأبو حنيفة (3)
__________
(1) حديث: " أن أباً مسلماً وأماً كافرة تنازعا ولداً ... " الحديث. رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، والحاكم، والدارقطني من حديث رافع بن سنان. قال الحافظ: وفي سنده اختلاف كثير وألفاظ مختلفة (ر. المسند: 5/ 446، 447، النسائي: الطلاق، باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد، ح 4395. أبو داود: الطلاق، باب إذا أسلم أحد الأبوين مع من يكون الولد ح 2244. ابن ماجه: الأحكام، باب تخيير الصبي بين أبويه، ح 2352.
مستدرك الحاكم: 2/ 206، الدارقطني: 4/ 43. تلخيص الحبير 4/ 20 حديث رقم 1857).
(2) هذا وجه الاستدلال بالحديث، فالمعنى أنه لو لم يكن للكافرة حق في الحضانة، لما كان التخيير.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 227، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 456 مسألة 975، فتح القدير 4/ 367 وما بعدها.

(15/545)


يضم الجارية إلى الأم على سن التمييز، والغلام إلى الأب، ونحن لا نفصل بينهما.
واعتمد الشافعي الخبر والأثر، فروَى في صدر الباب بإسناده عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم خيّر غلاماً بين أبيه وأمه" (1) وروى عن عمر رضي الله عنه " أنه خير غلاماً بين أبيه وأمه " (2) ونحن إذا أطلقنا القول بتقديم الأم في الحضانة، أو تقديم غيرها من الإناث، أردنا بذلك القيام بالحضانة قبل بلوغ الصبي سنَّ التمييز، وليس هذا مما يتطرق إليه القياس؛ فإن عبارة الصبيّ مستلبة، وإنما يظهر في مسلك المعنى اعتمادُ عبارته فيما يتعلق [بإعرابه عن] (3) حاجات نفسه؛ إذ لا اطلاع عليها إلا من جهته، فلا رجوع إلا إليه، فأما الاختيار بين الأبوين، فليس من هذا الفن، والقياس يقتضي إدامة حق الحضانة للأم، ولكن لا مبالاة بطرق القياس المظنون مع صحة الخبر.
ثم ليس هذا اختياراً من الصبي لازماً أو ملزماً، فلو اختار أحد الأبوين، ثم بدا له واختار الثاني، رددناه إلى الثاني، ولو عاد إلى الأول، لتبعنا اختياره، وليس هذا كاعتراف خنثى بكونه ذكراً أو أنثى، فإنه مؤاخذ بموجب اعترافه، لا يقبل رجوعه عنه.
وإذا تعذرت القيافة والإلحاق بها، فانتسب الولد إلى أحد المدعيَيْن، فذلك لازم، لا سبيل إلى الرجوع عنه.
قال الأصحاب لو تردد الصبيّ المخيَّر بين الأبوين تردداً كثيراً دالاً على خبلٍ به فنتبين أنه ليس مميزاً.
__________
(1) حديث أبي هريرة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاماً بين أبيه وأمه". رواه الشافعي في الأم: 5/ 82، وأحمد (2/ 246) وأبو داود: الطلاق، باب من أحق بالولد ح 2277، والترمذي: الأحكام، باب ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا، ح 1357 وقال: حسن صحيح، وابن ماجه: الأحكام، باب تخيير الصبي بين أبويه ح 2351. وانظر التلخيص 2/ 23، 24 حديث رقم 1859.
(2) حديث أن عمر خير غلاماً بين أبيه وأمه. رواه البيهقي في الكبرى: 4/ 18. وانظر التلخيص 2/ 24.
(3) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها).

(15/546)


ولو كان بالصبي خبل، فهو مُقَرٌّ في حضانة الأم كحالته قبل التمييز.
وهذا فيه نظر، فإنه لا ينكر في جبلّة الصبي وإن كان على كيْس تامٍ وتمييزٍ أن يقيم عند أحد الأبوين زماناً، [ويتشوق] (1) إلى الثاني، وتكرُّر ذلك ما أراه شاهداً على [الخبل] (2) والكلام عندي في أنه إذا كان يفعل ذلك، فلا وجه إلا اتباعه على شرط أن لا يتعطل أركان الحضانة بالتردد.
ولو خيرنا المميز، فسكت، ولم يُحِرْ جواباً، ولم يختر واحداً من الأبوين، فهذا أيضاًً غير مستنكر من الكيِّس المميز. والظاهر عندنا أن يبقى في حضانة الأم؛ فإن أصل الحضانة لها، ما لم يقطعها اختيار من المولود للأب في حالة التمييز.
ولو كان الصبي مخبَّلاً أو بلغ [مخبلاً، فحضانة] (3) الأم دائمة، فلو كانت الأم لا تستقل بحفظ المجنون الكبير، فالأب حينئذ؛ فإن الكلام فيمن يكون أولى بالحضانة مشروط بأن تُتصوّر الحضانة منه.
10226 - ولو بلغ الطفل عاقلاً رشيداً، فقد استقل بنفسه، ولم يبق عليه مراقبة إذا كان غلاماً.
وأما الجارية إن كانت بكراً، فظاهر المذهب أنها وإن كانت عاقلةً ظاهرةَ الرشد، فللأب أن يُسكنها حيث يستصوب، وليس لها أن تقوم بنفسها، وتكون حيث تشاء؛ وذلك أنها وإن استقلت لبلوغها ورشدها بسائر أحكامها، فالأب يجبرها على النكاح، فلتكن لهذا الوجه في ضبط الأب، وينقطع عنها سلطان الأم.
وحكى صاحب التقريب وجهاً أن البكر إذا كانت مأمونة ظاهرة الرشد، فلا معترض للأب عليها، ولها أن تسكن حيث تشاء، وهذا الوجه وإن كان غريباً متجهٌ في القياس؛ من جهة أنها [مستقلة] (4) بجميع أحكامها إلا النكاح؛ فإن الأب يجبرها على النكاح بحكم الجبر، وليس المسكن من النكاح في شيء.
__________
(1) في الأصل: ويتشرق.
(2) في الأصل: الخبر.
(3) في الأصل: مختلاً بحضانة الأم.
(4) في الأصل: مشتغلة.

(15/547)


ثم من قال: يسكنها الأب حيث يشاء يخصّص ذلك بالأب، والجدُّ في معنى الأب؛ فإنه يجبر على النكاح إجبار الأب.
فأما من عدا الأب والجد، فلا يملكون الاحتكام على البكر البالغة الرشيدة، فإن نوبة الحضانة قد انتهت، [وليس] (1) لهم إجبارُها على النكاح، فهي بمثابة الثيب في حقوقهم.
ولا خلاف أن الثيب إذا كانت مأمونة، فلا اعتراض للأب ولا لغيره [من] (2) العصبات عليها.
وإن كانت المرأة بحيث تُزَنّ بريبةٍ (3)، فللأب والجد، ومن سواهما من عصبات النسب أن يحضنوها في مسكنٍ يسهل عليهم مراقبتها فيه، وإنما أثبتنا لهم ذلك، حتى لا يلحقهم العار، وقد جوزنا لهؤلاء الاعتراض على نكاحها، إذا زوجها بعضُ الأولياء [ممّن] (4) لا يكافئها.
ولو ادّعى الولي ريبة، فإن أظهرها، فله الاحتكام، وإن عجز عن إظهارها، فهذا فيه بعض النظر، فإن الرِّيب قد تخفى حتى لا يدركها إلا من تبطّن من أهل القرابة، ولا يمتنع ألاّ يكلفَ من له حق الاعتراض أن يُظهر الريبة، وقد يكون وجه الرأي في الإخفاء؛ حتى لا تشاع فاحشة على المرأة.
هذا وجهٌ من الرأي، في الثيب والبكرِ في حق غير الأب والجد. ويعترض على هذا أنه يُفضي إلى تمليك الولي الاحتكام على المرأة المستقلّة من غير حجة وإظهارِ موجِبٍ ومقتضٍ، والعلم عند الله تعالى.
__________
(1) في الأصل: وليت.
(2) في الأصل: في.
(3) تُزنّ بريبةٍ: أي تتهم بسوء، من قولهم: زنَّ فلاناً زنّاً: اتهمه بسوء أو غيره (المعجم).
ونشير هنا إلى أن إمام الحرمين متأثر في عبارته بشعر حسان رضي الله عنه في مدح عائشة أم المؤمنين المبرّأة رضي الله عنها حيث قال: " حصانٌ رزانٌ ما تُزَنّ بريبةٍ " مما يشهد للإمام بالإحاطة بدواوين اللغة والأدب.
(4) في الأصل: فمن.

(15/548)


فرع:
10227 - ذكرنا أن المرأة إذا تزوجت، بطل حقها من حضانة المولود، وقد استثنى الأئمة من هذا الفصل أن تنكح الأم عمَّ الطفل، وقد يسهل تصوير ذلك، وقد تنكح جد الطفل، فقال الأصحاب: الأم إذا نكحت من له حقٌّ في الحضانة، لم يسقط حقها من الحضانة، وإن كان زوجها مؤخراً في استحقاق الحضانة عن الأب على ما سيأتي ترتيب ذلك من بعد، إن شاء الله.
وذكر الشيخ أبو علي وجهاً غريباً أن حق الحضانة للأب.
توجيه الوجهين:
من قال: الحق للأب، قال: لأنها اشتغلت بالنكاح، فبطل حقها، وبقي الجد والأب، أو العم والأب، والأبُ مقدّمٌ على من هو زوجها.
[ووجهُ] (1) الوجه الثاني، وهو الذي صار إليه معظم الأصحاب أن حقها لا يسقط من الحضانة؛ لأنها انضمّت بالزوجية إلى من له حق الحضانة، فلا تصير مشغولة بهذا التزوج، وهي بمثابتها لو كانت خليةً عن الزوجية.
والذي لا بد منه في إتمام ذلك أن المسألة مفروضة فيه إذا كان زوجها (2) طالباً للحضانة، فيتحقق ما ذكرناه، وتصير المرأة معتضدة [في معنى الحضانة] (3) ويزيدها النكاح إعانة.
وأما إذا كان زوجها لا يطلب الحضانة ويبغي منها التفرغَ له، والتهيؤ لحقوقه، فهي مشغولة والحالة هذه بالزوجية، فيستحيل أن يثبت لها حق الحضانة والحالة هذه.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) ننبه أن المراد (بزوجها) هنا، هو الزوج الذي تعيش معه (عم أو جد الطفل) فلا ينصرف الذهن إلى الزوج الأول، الذي هو أب الطفل.
(3) في الأصل كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) والمثبت من صفوة المذهب.

(15/549)


فصل
10228 - قد ذكرنا أن الأم أولى بالحضانة قبل بلوغ الطفل مبلغ التمييز، واستثنى الأئمة من هذا الفصل [ما إذا أراد الأب أن يسافر] (1) سفر النُّقلة، ونحن نقول فيه:
إذا أراد الأب المسافرة والانتقال إلى بلدة أخرى، فيبطل اختصاصُ الأم بالحضانة إذا كانت تؤثر الإقامةَ، والسبب فيه أن الأب إذا انتقل إلى ناحية أخرى، وترك الولد في حضانة الأم [فقد] (2) يُفضي هذا إلى أن يندرس وينمحق نسبه، وهذا يظهر أثره ووقعه في الحال والمآل؛ فإن اشتهار الأنساب بالرجال، والنسوة لازماتٌ خدورَهن، لا يظهر من تفاوضهن أنساب المولودين.
ثم الظاهر الذي مال إليه ذوو التحقيق أن هذا فيه إذا كان بين مكان الأم وبين الموضع الذي ينتقل الأب إليه مسافة إلى حد الطول، وأقل مراتب السفر الطويل مرحلتان، فإن كان الموضع الذي ينتقل إليه الأب دون هذه المسافة، فليس له أن ينتزع الولد من الأم؛ فإن النسب لا يخفى مع قرب الأب، ووقوعه من الولد على مسافة قصيرة؛ فإن طروق الوافدين والواردين من إحدى الناحيتين على الأخرى يُديم إشاعة النسب، وإنما يفرض الخفاء عند طول المسافة، ثم لا مرجع يُنتهى إليه ويتمسك به في الطول والقصر إلا ما ذكرناه.
وفي طرق بعض الأصحاب ما يدل على أن الانتقال يُثبت للأب حق انتزاع المولود وإن لم تبلغ المسافة حدَّ الطول، وهذا قد يمكن توجيهه بانقطاع نظر الأب عن رعاية المولود؛ فإنه إذا كان حاضراً، وكان الولد بمرأىً منه ومسمع، فالأم كالمستنابة في الحضانة ولحاظُ الأب دائم، وهو قائم عليه بالتأديب والذّبّ عند الحاجة، وكأن الاستقلال في تربية الولد دون رجل في حكم التعطيل، وإذا كان الرجل حاضراً، فكأنه الأصل والأم معتضدة به، وهي قائمةٌ بطرفٍ واحد من مصلحة المولود، كغسله وتنقيته ووقايته من المخاوف.
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: وقد.

(15/550)


وهذا كله إذا كان السفر سفر نُقلة، فلو هم الأب بالانتقال، وأرادت المرأة أن تستديم الحضانة، فانتقلت معه، فحقها يدوم، فإن الغرض عدم انقطاع المولود عن الوالد.
ولو كان السفر سفر تجارة أو نزهة، فإن كان ظاهرُ الأمر على أنه يعود على القرب، فلا ينتزع في هذه السفرة الولد من الأم، ونبني الأمر على إسراع الكرة، والأمر كما وصفناه، وإن طالت المسافة.
ولو كانت السفرة على حدٍّ من الطول أو الشغل فيه ثقيل لا ينتجز إلا في زمان طويل، يفرض في مثله نسيان الأنساب، سيّما في أصحاب الخمول، فالذي ذهب إليه الأصحاب في الطرق طردُ القياس في إدامة الحضانة؛ فإن بناء السفر على إضماره الكرّة، وحق الحضانة إنما يُقطَع بأمرٍ ظاهر الوقع.
وكان شيخي أبو محمد يقول: له المسافرة بالمولود إذا كان يطول أمر السفر على حدٍّ يظهر ضرره وأثره، والعلم عند الله.
فصل
10229 - إذا كان الولد مضموماً إلى الأم، فحق على الأب ألاّ يكله إليها فيما يعلم أنها لا تستقل فيه برعاية مصلحة المولود، وذلك كتأديب الطفل عند مسيس الحاجة، وحملِه إلى المكتب وردِّه، أو إلى من يعلّمه الحرفةَ إن كانت تقتضي ذلك؛ فإن هذه الأمور لا يتأتى من النسوة الاستقلالُ بها.
ولو ضممنا المولود إلى الأب عند اختيار الولد المميز للأب، فلا يجوز قطع الأم عنه؛ فإن ذلك [يؤذي] (1) الصبي ويبلغ به المبلغ العظيم، وقد قال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تولّهُ والدة بولدها " (2).
__________
(1) في الأصل: " يوفي " والمثبت من (صفوة المذهب).
(2) حديث: " لا توله والدة بولدها " رواه البيهقي: 8/ 5، وانظر كنز العمال: 14023، 25023.

(15/551)


فصل
10230 - ألحق الفقهاء رضي الله عنهم حقَّ الحضانة بالولايات، ولذلك قُدّم القريب على البعيد، غيرَ أنها تثبت للإناث، بل الإناثُ بها أولى على الجملة، كما سيتضح ذلك في التفاصيل، والولايات في غير ذلك مختصة بالرجال، والسبب فيه أن مقصود الولايات يليق بالرجال لتعلقه بالتصرف والتبسط، وهذا لا يتأتى من النساء، وحقهن أن يلزمن خدرهن ويُفوّضن إلى الرجال أمورَهن.
وأما الحضانة، فالنساء بمصالحها أعرف، [ولو حاولها] (1) الرجل، لأعياه أمرها ما لم يستعن بامرأة، فانفصلت الحضانة عن الولايات، لما ذكرناه.
واشتراطنا الصفات التي ذكرناها في الحاضنة والحاضن يشهد لالتحاقها بالولاية.
ثم من قولنا في الولاية: إن القريب المستحِق لها لو غاب وحضر البعيد الذي هو من أهل الولاية لولا القريب، فالولاية لا تنتقل إلى البعيد، بل يقوم بها السلطان -إن مست- قيامَ نيابة قهرية، كما قدمنا تقرير ذلك في كتاب النكاح.
وما ذكرناه يجري في ولاية التزويج والإنكاح إذا غاب الأقرب وهو الأبُ، وشهد الجدُّ أبُ الأب، ويمكن فرض ما ذكرناه في غير الأب والجد من العصبات، إذا كان الكلام في ولاية التزويج.
10231 - فأما الحضانة فإذا غاب عنها القريبُ المقدمُ لو حضر، وشهد البعيدُ المستحق لو لم يكن القريب، فالذي قطع به أئمة المذهب أن حق حضانة المولود يثبت للبعيد بخلاف سائر الولايات، وفرّقوا في ذلك فرقاً واضحاً، فقالوا: النظر في التزويج وحفظ المال يتهيّأ من السلطان بنفسه أو بإقامته غيرَه مقام نفسه.
وأما الحضانة فمبناها على الشفقة المستحَقَّة على إدامة النظر؛ إذ الصبي غير المميز يحتاج في كلاءته إلى شفيق به، وقد قلنا: لا يزوج السلطان الصغيرة؛ لأن مبنى تزويجها على كمال الشفقة، ويلي مالَها؛ لأنه لو خُلِّي عن النظر، لتعطل، ولو بُلي
__________
(1) في الأصل: ولو حار لها.

(15/552)


السلطان بحضانة طفل، لكان طريقه أن يستعين فيها بذي قرابة له إن وجد، وليس من النظر أن يسلّمه إلى أجنبي، أو أجنبية، وهذا الذي ذكرناه مما يجب، وليس أمراً يوصف بالاستحباب.
وإذا كان كذلك، فالوجه التسليم إلى القريب.
وقد أشاع الخلافيون وجهاً أن القريب إذا غاب، فحقّ النظر يتعلق بالقاضي قياساً على سائر الولايات، ولست أحكي مثل ذلك ليلحق بالمذهب، ولكني أذكره ليتبين أنه لم يذكره المعتمدون، فيقطع عن المذهب.
فصل:
" وإذا اجتمعت القرابة من قِبل النساء وتنازعن المولود ... إلى آخره " (1).
10232 - مضمون هذا الفصل غمرة الحضانة، وهو الذي يجب صرف الاهتمام إليه، والله المعين.
وغرضه الجُملي الكلامُ فيمن يكون أولى بالحضانة إذا فُرض [اجتماع] (2) أصحاب الحقوق، وحاصله يتعلق بنوعين: أحدهما - في ضمن التنازع في طلب الحضانة، والنوع الثاني - في التدافع في الحضانة.
فأما النوع الأول - فيشتمل على فصولٍ: أحدها - في اجتماع النسوة المنفردات.
والثاني - في اجتماع الرجال المنفردين.
والثالث - في اجتماع الرجال والنساء.
وقاعدة الفصل أن الحضانة ليست كوجوب النفقة؛ فإن وجوب النفقة يختص بالبعضية، والحضانةُ تتعداها لا محالة، وهي تتعلق بالقرابة والمحرميّة وفاقاً، إلا في
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 86.
(2) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

(15/553)


الجدات الفاسدات، وفيهن كلام سيأتي في التفصيل، وتتعلق بالقرابة والعصوبة من غير محرمية.
والقرابةُ المحضة التي لا محرمية معها، ولا عصوبة، ولا إرث فيها كلامٌ واختلافٌ.
هذا قواعد المذهب على الجملة.
ويخرج منها أنا في وجهٍ ظاهر نُعلّق الحضانةَ بالقرابة المحضة، وإن كنا نقدم القريب على البعيد، ومن يتمسك بقوة في القرابة على من لا يتمسك بها.
10233 - ونحن الآن نبتدىء بعون الله وتوفيقه القول في النسوة المتجردات إذا اجتمعن، وتنازعن الحضانة. وللشافعي في تأسيس المذهب مسلكان نطردهما أولاً، ثم نذكر ما نراه أَوْلى الطرق المفضية إلى البيان.
قال الشافعي في الجديد: أوْلى النساء بالحضانة الأم وأمهاتها، ما لم يتخلل بينهن ذكر، والقربى منهن أولى من البعدى.
ثم بعدهن أمهات الأب وإن علون، ما لم تدلين بمن لا يرث، والقربى منهن أولى من البعدى.
فإن لم يكن، فأمهات الجد وإن علون على الحدّ الذي ذكرناه في أمهات الأب، ثم بعدهن أمهات أب الجد على الترتيب الذي تقدم، والجدة البعيدة المدلية بمحض الأمهات إلى الأب، مقدمة على أم أب الأب؛ فإن الدرجة إذا تقدمت على الدرجة لم يُرْع بين الشخص الواقع في الدرجة القريبة وبين الشخص الواقع في الدرجة البعيدة التفاوتُ في القرب والبعد ممن يطلب القرب منه في الأصل، فإن الدرجة إذا قدمت قدم من فيها -وإن بعدوا- على من في الدرجة الأخرى البعيدة، وعلى ذلك يجري أصل الميراث والعصوبة وما يتعلق بها، ولذلك يقدم ابن ابن الأخ وإن سفل وتناهى بُعْدُه على العم.
ثم إن لم يكن للمولود واحدة من الجدات من قِبل الأم ولا من قبل الأب، فالرجوع بعدهن في الترتيب الجديد إلى الأخوات، ثم هن يترتبن: فالمقدمة الأخت من الأب

(15/554)


والأم، وبعدها الأخت من الأب، وبعدها الأخت من أم.
والرجوع بعد أخوات المولود إلى خالاته، وهن يترتبن ترتُّبَ الأخوات، فإنهن يقعن من أم المولود موقع أخوات المولود.
وبعدهن العمات وترتيبهن كترتيب الأخوات والخالات.
هذا هو الترتيب المنقول عن الجديد.
وقال في القديم: تقدم الأم وأمهاتها المدليات بالإناث، فإن لم يكن، فالأخوات، ثم الخالات، وهن مترتبات كما ذكرنا في الترتيب الجديد، وبعدهن أمهات الأب، وبعدهن العمات.
10234 - وأول ما نذكره بعد نقل الترتيبين الجديد والقديم محل اتفاق النصين ومحل اختلافهما، فالأم وأمهاتها مقدماتٌ على من عداهن جديداً وقديماً، والعمات مؤخرات عن الجميع في الترتيبين، والأخوات مقدمات على الخالات في القولين.
ومحل الخلاف أن القول الجديد يقتضي تقديم أمهات الأب إذا لم يكنّ فاسدات على الأخوات والخالات، وترتيب القديم يقتضي تقديم الأخوات والخالات على أمهات الأب.
هذا موضع اختلاف القولين، وبيان الترتيبين.
10235 - وإذا اتضح هذا، فالوجه أن [نذكر بعده] (1) متمسَّك القولِ الجديد، ومتعلَّق القول القديم، ونقدّم على رسم التوجيه التنبيهَ على ما يجب أن يكون معتبراً في هذا الباب، فنقول: مقاصد الأبواب تناسب عِللَها، وعللُها تلائم مقاصدَها، ومعلوم أن المقصود من الحضانة القيامُ بحفظ مولودٍ غيرِ مستقل، ثم الأمر في حفظه ليس مما يقبل الفترات، فإن المولود في حركاته وسكناته لو لم يكن ملحوظاً من مراقِب لا يسهو ولا يغفل، لأوشك أن يهلَك، وهذا يستدعي شفقةً تامةً تحمل على المراقبة بالعين الكالئة.
__________
(1) في الأصل: "نذكره بعد".

(15/555)


فهذا هو المعتبر [ولا شك] (1) [وهذا] (2) الأصل مع اختلاف المذاهب واحد، وهذا [كما أنا رأينا] (3) اعتبار القُرب في النفقة أولى المسالك.
ثم إن اتجه التَّدْوار على هذا المعنى، طردناه، وإن بعدت الدرجات ودقّ النظر في التفاوت في الشفقة، امتزج بالكلام اعتبار قوة القرابات، ويثور إذ ذاك وجوه التردد.
ومن الأصول اللطيفة أن النفقة اختُصَّت بالبعضية؛ إذ ليس في قطع تعلقها بالقرابة العامة ما يؤدي إلى تعطيل، فإن لأصحاب الحاجات أموالاً معتدة من جهات، والحضانة يعسر إقامة الأجانب والأجنبيات بها، فحَسُنَ ألاّ تُقْصَر على جهة في القرابة؛ فإن القريب وإن بعد أولى بالحدب من الأجنبي.
10236 - وإذا تمهد هذا، فالذي اعتبره في الجديد -مأخوذاً من الشفقة- أن الأمهات أولى النساء بالشفقة، والجدات من قِبل الأب رآهن -في الجديد- لمكان الأمومة والبعضية القائمة والاستنادِ على عمود النسب أولى من الأخوات بالشفقة، وهذا يبعد إنكاره في أحكام العادات، وموجَب الجبلاّت، ثم صوّر عدمَ الجدات، ولم يصادف على عمود النسب غيرَهن، فمال إلى الواقعات حاشيةً، ورأى الأخوات مقدماتٍ؛ لأنهن أشفق على المولود من الخالات، وهن أقرب، وقرابتهُن أقوى، ثم اعتبر الخالات، ورآهن مقدّمات على العمات لإدلائهن بالأمهات، فهن من الأمهات كأمهات الأم، والعمات كأمهات الأب.
فهذا سبيل تعليل القول الجديد.
وأما وجه القول القديم، فينشأ من القاعدة التي ذكرناها أيضاً، لكنه قدم الأخوات والخالات؛ لأنهن متصلات بقرابة الأم، فرأى قرابةَ الأم أحق بالشفقة، فاستوعب المتصلات بها، ثم رجع بعدهن إلى أمهات الأب، وأخَّر العمات عنهن؛ فإنهن يقعن حاشية.
__________
(1) في الأصل: ولا ننكر.
(2) الواو زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: كما أنا إذا رأينا.

(15/556)


وهذا غير سديد، أولاً في وضعه؛ لأن اسم القرابة لا يراعى، وإنما يراعى الشفقة، ونحن لا نشك في أن أم الأب في الغالب أشفق على المولود من أخته وخالته، وهذا على ظهوره قد لا ينتهي إلى القطع، والوجه الذي يَفْسُد القولُ القديم به ويخرج سلسلة النظام أنه قدم الأختَ من الأب على الأخت من الأم، ولا إدلاء للأخت من الأم إلا بالأم، فاضطرب بهذا تقديم الاتصال بجانب الأم، ثم الأخت من الأب بنت أب المولود، وأم الأب أم أب المولود فإدلاؤهما جميعاًً بالأب، وتقع إحداهما بالنسبة إلى المولود أصله، وتقع الثانية بالنسبة إليه حاشية من نسبه.
فلاح بمجموع ذلك إيضاح وجه القول الجديد، واضطراب القديم. ولما ظهر التناقض في تقديم الأخت من الأب على الأخت من [الأم] (1) في القول. القديم خرّج طائفة من الأصحاب في التفريع على القديم وجهاً أن الأخت من الأم مقدمة على الأخت من الأب، لمكان الإدلاء بالأم.
هذا أصل القولين.
10237 - ويتعلق باستيعاب الكلام عليهما أطرافٌ، ونحن نتبعها واحداً واحداً: فمن أهمها، وهو معضلة الباب، والمشكلة التي لا حل لها أن المزني نقل عن الشافعي في المختصر أنه لا يثبت لأم أب الأم حقّاً في الحضانة (2)، وكذلك لم يُثبت الحضانة لكل جدة ساقطة من جانب الأب، وهن الجدات المسميات الفاسدات ويجمعهن أن على طريق إدلائهن ذكَر مُدلٍ بأنثى.
وهذا وإن كان منصوصاً عليه، وهو الذي أثبته أئمة المذهب واستمروا عليه، وطاب لهم مأخذه، [فهو] (3) في نهاية الإشكال؛ من جهة أنها (4) على عمود النسب، وهي أصل المولود، وذلك حكم نيط بالبعضية، فهو متعلق بهما (5) كاستحقاق النفقة
__________
(1) في الأصل: من الأب.
(2) ر. المختصر: 5/ 87.
(3) في الأصل: فهن.
(4) أنها: أي الجدة الفاسدة.
(5) بهما: أي البعضية والقرابة.

(15/557)


والعتقِ عند جريان الملك على الرقبة، ورد الشهادة النافعة، وإن نظرنا إلى سقوطهن عن استحقاق الإرث، فالخالات ساقطات عند من لا يورث بالرحم، ولا خلاف أنهن يستحققن الحضانة، وإن قيل: الخالة ترث الأم فأم أبيها ترثها أيضاً، فكان هذا بالغاً في الإشكال.
وقد حكى الشيخ أبو علي رضي الله عنه أن الجدات الفاسدات تثبت لهن الحضانة بعد الوارثات، وهن في الترتيب الجديد مقدمات على الأخوات والخالات، وهذا متجه حسن.
وذكر بعض الأصحاب وجهاً ثالثاً أنهن مؤخرات عن كل أنثى مستحقة للحضانة، وإذا لم نصادف سواهن، فنُثبت لهن حق الحضانة حينئذ.
فانتظم فيهن ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا حق لهن أصلاً، وهذا ظاهر النص.
والثاني - أنهن مؤخراتٌ عن الجدات الوارثات مقدّماتٌ على من يترتب على الجدات، وهذا هو القياس، حكاه الشيخ أبو علي. والوجه الثالث - أنهن مؤخراتٌ عن الجميع، فإذا لم نجد أنثى حاضنة، فلهن حق الاحتضان.
وتوجيه هذه الطرق سيأتي في أثناء الفصل -إن شاء الله- إذا تمهد ما يفتقر التوجيه إليه.
هذا أحد الأطراف.
10238 - ومما يتعلق بالتفريع أنا في الجديد قدمنا الأخت من الأب؛ لأنه لم يتضح لنا تفاوت بينهما (1) في الشفقة، ولا حاصل لقول من يقول: إذا كانت الأم أشفق، فالأخت من الأم أشفق؛ فإن هذه المعاني لا تدرك بالألقاب ونظم العبارات، فلما لم يتجه للشافعي تفاوت بينهما في الشفقة، ورأى الأختَ من الأب أقوى في قرابتها، مزج اعتبار قوة القرابة بالأصل المستند إلى الشفقة، وقدم الأخت من الأب؛ فقال أئمتنا: إن اتجه هذا في أخت المولود، لم يتجه في الخالة من الأب، إذ لا إرث ثَمَّ، والخالة من الأب بنت أبي الأم، فقد ذكروا وجهين: أحدهما - أنا نقدم الخالة
__________
(1) المراد الأخت من الأب والأخت من الأم.

(15/558)


من الأب على الخالة من الأم، على قياس أخوات المولود.
والثاني - أنا نقدم الخالة من الأم على الخالة من الأب، وقطع به الصيدلاني؛ فإنها بنت أم الأم، وأم الأم أصل الحضانة، فالإدلاء بها أولى بالاعتبار، وإذا كان ينقدح هذا التردد في الترتيب الجديد، فهو في الترتيب القديم أوجه؛ لأن تعويله على اعتبار قرابة الأم، والتفصيل الذي ذكرناه منقدح في رعاية قرابة الأم.
10239 - ومما يتعلق بأطراف الكلام في ذلك القولُ في بنات الإخوة والأخوات، وبنات الخالات والعمات. قال بعض المصنفين: بنات الإخوة والأخوات مقدمات على العمات، والعمات مقدمات على بنات الخالات، وبنات الخالات مقدمات على بنات العمات، فأجرى هذا مطلقاً من غير تخصيص بالجديد أو القديم، واعتل بأن قال: بنات الإخوة والأخوات يقدّمن، كما يقدم بنو الإخوة على الأعمام، والعمات مقدمات؛ فإنهن محارم، فكن مقدمات على بنات الأخوال والخالات، وبنات الخالات مقدمات على بنات العمات، كما أن الخالات مقدمات على العمات.
وهذا فيه اختلاطٌ عندنا، كما سنصفه: أولاً - كيف يطيب إثبات بنات الخالات وبنات العمات حاضنات، مع إسقاط الجدات الفاسدات، ولا محرمية لبنات الخالات وبنات العمات، والمحرمية والأمومة والبعضية ثابتة للجدات الفاسدات؟ فمن أسقط الجدات الفاسدات، لزمه قطعاًً إسقاط بنات الخالات، وبنات العمات، وأما بنات الإخوة والأخوات، فهن مُدليات بأصول من الذكور والإناث، يثبت لهم حق الحضانة، وهن على قرابة تقتضي المحرمية.
وقد تبيّن من ترتيب كلام الأصحاب، بعد استثناء الجدات الفاسدات مع النص فيهن أن كل أنثى قريبة لها محرمية مع المولود، فلها حق الحضانة، والكلام في تقديمها وتأخيرها، وكل [أنثى] (1) لا محرمية بينها وبين المولود، وكانت قريبة منه، فلا حضانة لها ومعها أنثى محرّمة، فإن انفردت، فهل يثبت لها حق الحضانة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يثبت للقرابة والشفقة المتوقعة منها. والثاني - لا يثبت؛ لأن
__________
(1) في الأصل: ابن.

(15/559)


المحرمية تناسب الاختلاط وتأمّلَ الظواهر والبواطن في الحفظ، فإذا انعدمت المحرمية، اختل هذا المعنى.
وسنذكر في ترتيب الذكور إذا انفردوا أن الذكر القريب الذي ليس عصبة، ولا محرماًً، لا شك أنه يتقدم عليه الوارث من الذكور الأقارب، ويتقدم عليه المحرم القريب، وإن لم نجد من الأقارب وارثاً ولا محرماًً، فهل يثبت له حق الحضانة والمولود غلام، أو صغيرة لا تُرمق بعدُ، فيه طريقان: ذهب الأكثرون إلى أنه لا حق له. وأجرى مجرون فيه خلافاً في الاستحقاًق؛ فإنه على حالٍ أولى من الأجنبي.
وإذا ضممنا الذكر الذي ليس محرماًً ولا وارثاً إلى الأنثى التي ليست وارثة ولا محرماً، انتظم فيهما ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا حق لهما. والثاني - أنه يثبت لكل واحد منهما الحق عند الانفراد إذا لم نجد من نقدمه عليه، وعلى ذلك [يستدّ] (1) إطلاق القول بتعليق الحضانة بالقرابة. والثالث - أن الأنثى تستحق إذا انفردت، والذكر لا يستحق؛ لأن للأنوثة أثراً في استحقاق الحضانة، كما سيأتي شرح ذلك في اجتماع الذكور والإناث.
10240 - فإذا ثبت هذا ننعطف على الاتصال به إلى توجيه الوجوه في الجدات الفاسدات، أما إثبات الحق لهن، فبيّن منقاس، وأما إسقاطهن بالكلية، فلا خروج له إلا على مسلكٍ، وهو أن الذكر الذي ليس وارثاً، فقد نقول: لا حق له في الحضانة، وإن كان محرماً. وأم أب الأم مُدلية بأب الأم، ونحن لا نثبت لأب الأم حقاً، فلا نثبت للمدلية به حقاًً، ومن أثبت لها حقاًً بعد أن لا يجد حاضنة مستحِقة، فهو خارج على إثبات حق الحضانة للذكر المحرم الذي ليس وارثاً، فتكون المُدلية به بمثابته.
هذا منتهى القول في اجتماع الإناث المتمحّضات، ولا ذَكَر معهن، فإن قيل: هل تعتبرون القرب والبعد؟ قلنا: نعم مع اتحاد الجهة، فإن القربى في كل جهة تُسقط البعدى من تلك الجهة، ويعتبر تقديم الدرجة القريبة على الدرجة البعيدة، كما ذكرنا
__________
(1) في الأصل: يستمر.

(15/560)


في أمهات الأب مع أمهات الجد، إلى حيث يتفق الالتقاء، وتقديمنا أخوات المولود على خالاته قد يخرّج على اعتبار القرب، فإنهن أقرب إليه من الخالات.
10241 - فأما الكلام في اجتماع الذكور المتمحضين، فالأب أولاهم، ثم الجد أب الأب وإن علا -ما لم يُدل بأنثى- أَوْلى، لمكان البعضية، وقوة الولاية، وقد مضى أن الحضانة ضربٌ من الولاية، وكل ذلك إبعادٌ، وأوْلى معتبرٍ الشفقةُ، وإن كنا نرعى معها قوة القرابة.
ثم الكلام بعد الأب وآبائه يقع في أصنافٍ من الذكور، وهم أقسام: منهم العصبات المحارم، ومنهم المحارم الذين ليسوا عصبة، ومنهم العصبات [ولا محرمية] (1)، ومنهم أقارب بلا محرمية ولا عصوبة.
فأما العصبات المحارم، فمقدمون على من عداهم، فالعصبة المحرم مقدّم على من اتصف بالمحرمية دون العصوبة، أو بالعصوبة دون المحرمية، ثم هؤلاء الواقعون في هذا القسم يترتبون ترتُّبَهم في عصوبة الإرث، ويتصل بذلك أنا نعتبر لا محالة الأقرب فالأقرب، كما مضى ترتيب العصبات في المواريث، فأَفْرِدْ منهم المحارم ورتّبهم ترتيب المواريث: فالأخ من الأب والأم، ثم الأخ من الأب، ثم ابن الأخ من الأب والأم، ثم ابن الأخ من الأب، ثم العم من الأب والأم، ثم العم من الأب، ولا مزيد عليهم.
فأما العصبات بلا محرمية، فيثبت لهم حق حضانة الغلمان، وحق حضانة [الصبيّة التي] (2) لا تُرمق ولا تشتهى.
ثم لا ذكَر من المحارم من غير عصوبة مع استحقاق الإرث إلا الاخ من الأم، فلو فرض اجتماع ابن العم وهو عصبة غير محرم، والأخ من الأم، وهو محرم وارث، وليس بعصبة، فكيف السبيل؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قدّم العصوبة؛ لأنها تناسب الولايات على حالٍ، والحضانةُ ولاية، فيجب تقديم ابن العم، كما يجب تفويض ولاية التزويج إليه.
__________
(1) في الأصل: فلا محرمية.
(2) في الأصل: الصبي الذي.

(15/561)


ومنهم من قال: الأخ من الأم أولى؛ لأنه أقرب وبالحريّ أن يكون أشفق، ولعل الأظهر هذا.
ثم العصبات بلا محرمية يرتبون ترتيبهم في الميراث فيتقدم الأقرب على الأبعد منهم، وتتقدم الدرجة على الدرجة.
وأما القريب الذي هو محرم، وليس بوارث، فالخال، والعم من الأم، وأب الأم، وبني الأخوات، فهم مؤخرون عن الورثة الذكور، فإذا لم يوجد غيرهم، فلا شك أن السلطان يؤثر تسليم المولود إليهم، وهذا استحباب، أو استحقاق؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه استحقاق القرابة والمحرمية. والثاني - أنه استحباب.
والخلاف وإن جرى متجهاًً في الذكور الذين ليسوا ورثة، فلا جريان له في المحارم من الإناث، كالخالة، والعمة؛ لأن الأنوثة إذا انضمت إلى القرابة والمحرمية، أكدت استحقاق الحضانة، وهذا ينخرم بالجدة الفاسدة، ولكن سبب خروجها إدلاؤها بذَكَر من القرابة غير وارث.
وهذا ينتقض بالخالات؛ فإن إدلاءهن بأب الأم، وإن كان لما ذكرناه في الجدات ثبات، فمن ضرورته أن يخرج الخالة من الأب عن استحقاق الحضانة؛ فإنه لا إدلاء لها إلا بأب الأم.
هذا منتهى الكلام في الإناث المتمحضات، والذكور المتمحضين.
وإذا أخرجنا الخال أخرجنا ابنه، وإن أثبتنا الخال، فالمذهب الذي يجب قطع القول به أنه لا حق لابن الخال؛ لاجتماع الذكورة، وسقوط المحرمية، وانتفاء الميراث.
وفيه شيء بعيد لا يعتد به. نعم، في بنت الخال خلاف معروف، وكذلك في بنات الخالات والعمات، كما تقدم ذكره، وذلك لمكان الأنوثة مع القرابة.
10242 - وأما اجتماع الذكور والإناث فنقول في مقدمة هذا الفصل: إذا تبين أن الحضانة تتلقى من مقصودها وهي القيام بحفظ المولود، فلا شك أن النساء أقومُ به وأهدى إليه، وأصبرُ عليه، وهن يلزمن البيوتَ، والرجالُ ينشطون للتصرفات، ومن

(15/562)


رام منهم القيامَ بحفظ مولودٍ، فقد لا يستقل به دون الاستعانة بامرأة، فخرج من ذلك أن الإناث على الجملة أولى بالحضانة.
فإذا تمهد هذا فنقول: الأم وأمهاتها على الوصف المقدم مقدماتٌ على الأب، فالجدة العالية من قبل الأم مقدمة على الأب، باتفاق الأصحاب، وإذا قُدِّمت على الأب، لم يخْفَ تقدمُها على الجد وسائر الذكور.
وأما الجدات من قبل الأب إذا اجتمعن مع الأب، فظاهر النص الذي نقله المزني أن الأب مقدم عليهن. قال الشافعي: " لا يقدم على الأب إلا الأم وأمهاتها " (1)، فالأب إذاً على هذا مقدم، ووجهه أن الجدات مُدْلياتٌ به، فيبعد تقدم المُدْلِية على أصلها.
وحكى بعض أصحابنا قولاً آخر مخرّجاً أن أمهات الأب مقدمات -وإن بعدن- على الأب، لمكان الأنوثة والأمومةِ والاستقلالِ التام بمقصود الحضانة، ولا نظر إلى الإدلاء مع ما أشرنا إليه من المزيّة التي تنبني الحضانة عليها، وهي الشفقة والتهدّي، والإناث أشفق وأهدى، كما قدمنا.
ولو اجتمع مع الأب الأخواتُ والخالاتُ، فكيف السبيل فيه؟
نبدأ بالأخوات ونقول: إن جرينا على الترتيب الجديد في الإناث، فالجدات من قبل الأب مقدمات على الأخوات. فإن قدمنا الأبَ على الجدات، فلأن نقدمه على الأخوات أولى، وإن قدمنا الجداتِ على الأب، فهل نقدم الأخوات على الأب؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - أنا نقدمهن [للأنوثة] (2) وقوة القرابة، كما قدمنا أمهات الأب، وإن كن مُدْلِيات بالأب.
والثاني - نقدّم الأبَ عليهن؛ لأنه أصل، وهن فروع.
والوجه الثالث - أنه تقدم أخت الأب والأم، وأخت الأم، ولا تقدم أخت الأب، لأنه لا تعلق لها إلا بالأب، وهي فرع لا أمومة لها.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 87.
(2) في الأصل: كالأنوثة.

(15/563)


فأما القول في الخالات مع الأب، [فلَسْن] (1) مدليات بالأب، ولكن الأخوات مقدمات عليهن، فإن قدمنا الأب على الأخت، قدمناه على الخالة وأَوْلى، وإن لم نقدم الأبَ على الأخت، وقدمنا الأخت على الأب، ففي الأب والخالة وجهان، ولا ينقدح الوجه الثالث؛ فإن الخالة من الأب ليست مدلية بهذا الأب، وإنما إدلاؤها بأب الأم. وإن كنا ذكرنا على الجملة أن الخالة من الأب ضعيفة.
10243 - فإذا جمع الجامعُ هذه المسائل، قال: الأب في قول يقدم على كل أنثى إلا الأم وأمهاتها، وفي وجه يقدم [عليه] (2) كل أنثى حاضنة إلا العمة، فإنه لا خلاف في تقديم الأب عليها، وفي وجه يقدم على الأخوات والخالات، ولا يقدم على الجدات من قبل الأب، وفي وجهٍ يقدم على الأخت من الأب، ولا يقدم على الأختين الأخريين، وقد يجري من ترتيب الخالات على الأخوات وجهٌ متلقًّى لا يخفى.
وقد تناهى وضوح ما أردناه، وكل ذلك إذا جرينا على ترتيب الإناث في الجديد.
10244 - فإن قدمنا الأخوات والخالات على أمهات الأب في الترتيب القديم، فإذا اجتمع الأب معهم، انتظم الخلاف في الترتيب القديم معكوساً؛ فإن أمهات الأب في القديم يقعن آخراً، فمن هذا الوجه [ينشأ] (3) من الترتيب ومما يقع تتمة لذلك أنه إذا اجتمع جدٌّ عالٍ من قبل الأم وأم الأب القريبة، فأم الأب أولى بلا خلاف؛ لأنها ليست مُدْليةً بالجد العالي، وهي مختصة بالقرب والأمومة.
والجدات من قبل الأم والأب مقدمات على كل ذَكَرٍ من الأقارب، فإذا اجتمع أخ من أب وأم، وأم أب أو أم أب أب، فالذي عليه التعويل ويجب القطع به أن الجدة مقدمةٌ للأمومة، مع أنها ليست فاسدة.
10245 - فأما إذا فرض اجتماع الذكر والأنثى في جوانب النسب، فالقول الجامع أنهما إذا استويا في القرب والدرجة والإرث، فالأنثى أَوْلى: كالأخ والأخت، ولو
__________
(1) في الأصل: فليس.
(2) في الأصل: عليها.
(3) في الأصل: (سا) هكذا بدون نقط.

(15/564)


كان الذكر قريباً والأنثى بعيدة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الذكر أَوْلى نعني الذكر الذي هو من أهل الحضانة.
والثاني - أن الأنثى أولى، نعني الأنثى التي هي من أهل الحضانة لو انفردت.
وإذا فرض ذكر من درجة قريبة، وأنثى من درجة بعيدة، فالوجهان جاريان، كالأخ والخالة، ولو روجعنا في [خاتمة] (1) الكلام في ذكورِ أرحام ليسوا ورثة، وهم أصحاب محرمية، كالخال والعم من الأم، فالوجه أن نقول: نقدرهم إناثاً، ونقدم منهم من كنا نقدمه لو كان أنثى.
وكل ذلك في نوع واحد: وهو أن يتنازع المجتمعون في الحضانة، والمعنيّ بالحضانة في جميع ما ذكرناه حفظ الولد قبل التمييز. وفيه مجرى تقديمنا وتأخيرنا.
10246 - فأما إذا ظهر تمييز المولود، فقد مهدنا في أصل الباب أنه يتخير بين الأم والأب، مع القطع بأن الأم مقدمة على الأب في حفظ المولود قبل التمييز.
فلو فرض عم وأم، وقد ظهر تمييز المولود، فهل نخيره بين الأم وبين العم، أو الأخ، وكل ذكر يقع حاشية؟ في المسألة وجهان: أظهرهما - أنا نخيره، وإن كانت الأم مقدمة في أصل الحضانة قبل التمييز، كما خيرناه بين الأب والأم، واستدل الشافعي في صدر الباب بما رَوَى عن عمارةَ الجرمي " أنه قال: خيرني عليٌّ بين عمي وأمي، ثم قال لأخٍ لي أصغر مني: وهذا لو بلغ خيّرته " (2). وقال في الحديث: وكنت ابن سبع أو ثمان.
والوجه الثاني ذكره الشيخ والعراقيون- أنا لا نخيره، ويجعل كأن الأم منفردة؛ فإن التخيير بين الوالدين قد يَقْرُبُ، [فأما الأم] (3) -وهي الأصل- والعم، فيبعد التخيير بينهما. وأصل التخيير مأخوذ من الخبر، وحديث الرسول صلى الله عليه في التخيير بين الأبوين.
__________
(1) غير واضحة بالأصل، وهكذا قدرناها على ضوء ما بقى من أطراف الحروف.
(2) حديث عمارة الجرمي " خيرني علي بين عمي وأمي ... " الحديث. رواه الشافعي في الأم (5/ 92). وانظر التلخيص: 4/ 24 ح 1861.
(3) في الأصل: فأم الأم.

(15/565)


وإذا قدمنا الأبَ على الأخت، أو على الخالة، على الترتيب المقدم، فإذا ظهر تمييز المولود، ففي تخييره بين الأب والأخت من الخلاف ما في تخييره بين الأم والأخ (1).
وقد نجز الكلام في نوع واحد وهو التنازع في الحضانة.
10247 - فأما النوع الثاني وهو الكلام في التدافع، فإذا اجتمعت النسوة أو الرجال الذكور، أو الرجال والنساء، والحاجة ماسة إلى حضانة الطفل، فإذا امتنع عن القيام بها من جعلناه أهلاً لها، فهذا ينحو نحو النفقة، فكل من يجب عليه النفقة يجب عليه القيام بالحضانة؛ فإنها من المؤن المتعلقة بالكفاية، وعلى الأب نفقة المولود الصغير، فإذا تردد المولود بين الأب وبين الأم، وأبت الأم أن تحتضنه، فعلى الأب الاحتضان لما ذكرناه من أن إيجاب ذلك يتبع إيجاب النفقة.
فانتظم منه أن الأم، إذا طلبت الحضانة مع الأب، قُدّمت، وإن أبت، [وجب] (2) على الأب القيام بها، وإن لم يكن أب، على الأم حينئذ القيام بالحضانة على الترتيب المقدم في النفقات، وازدحام من يلتزمها.
ويخرج منه أن أب الأم لو طلب الحضانة، لم يُجَب إليها، وإذا احتاج الطفل إلى الحضانة ولم تطلبها الأم، فهي واجبة، على أب الأم؛ لأن النفقة تجب على أب الأم بحكم البعضية، ومؤونة الرضاع والحضانة جزء من النفقة.
ويخرج من ذلك أن العم والأخ، والذين يقعون على حاشية النسب لا يلزمهم الحضانة، كما لا يلزمهم النفقة؛ [فإنّا] (3) أوضحنا أن وجوب الحضانة يتبع وجوب النفقة ولم نستثن منه شيئاًً، وقد تبين فيما تقدم من يجب عليه النفقة ومن لا يجب عليه، وقد أبنّا حُكمَ وجوب الحضانة في الطرد والعكس.
10248 - ولو طلبت الأم الحضانة، وطلبت أجراً عليها، فهو بمثابة طلبها الأجرَ
__________
(1) كذا في الأصل، وفي صفوة المذهب، ولعل الصواب: ما في تخييره بين الأم والعم.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: وإذا أوضحنا.

(15/566)


على الإرضاع، ولكن إذا كان يتأتى من الوالد أن يتولى الحضانة بنفسه، ولا حاجة إلى الإرضاع، [فنمكنه من تولي الحضانة، وهل ينزل منزلةَ وجدانِه متبرعةً] (1) بالإرضاع والأم تطلب الأجرة على الإرضاع؟ فيه تردد بين الأصحاب: يجوز أن يقال: إنما نُجري القولين في تقديم الأم مع أنها تطلب الأجر في الإرضاع، أما الحضانة، فهي منها ومن غيرها على وتيرة واحدة، ويجوز أن تجعل الحضانة تابعةً للإرضاع، حتى نجري القولين في أن الأم هل تكون أولى بها أم لا؟ ثم تعبُ الرجل في حضانة الولد هل يكون كوجدان حاضنة بأجر، أم يكون كوجدان متبرعة حتى يجري الترتيب المقدم؟ هذا فيه احتمال، ولعل الظاهر أن ما يناله من التعب بمثابة الأجرة التي تطلبها الأجنبية، ولا يكون هذا كوجدان متبرعة، والعلم عند الله.
فرع:
10249 - قد ذكرنا أن الجدة أم الأم أولى بالحضانة من الأب، فلو فرضنا أباً، وأماً، وأم أم، ثم جُنت الأم أو فسقت، فولاية الحضانة تنتقل لا محالة إلى الجدة، ثم إن أفاقت الأم أو رجعت عن فسقها، عادت ولايتها في الحضانة، ولو تزوجت الأم، انتقلت الولاية إلى الجدة أيضاً؛ فإن موضع النكاح على التعبد، ثم إذا طُلّقت، عاد حقها.
ولو امتنعت الأم عن الحضانة، فالامتناع منها أولاً بمثابة عَضْل الولي الأقرب عن التزويج، ولو عَضَل الولي القريبُ، لم تنتقل الولاية إلى البعيد، بخلاف الأسباب القاطعة للولاية، فإنه مهما (2) أراد أن يزوج زوّج، وإنما السبب [البات] (3) للولاية هو الذي يبطل خِيَرَة الولي.
فإذا امتنعت المرأة عن الحضانة، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: حق الحضانة في حالة امتناعها للجدة؛ فإن الحضانة لا تقبل التأخير، وهذا بمثابة مصيرنا إلى أن القريب إذا غاب، فحق الحضانة للبعيد، ولا ينتقل إلى السلطان، فليكن امتناع الأم بمثابة غيبتها.
__________
(1) عبارة الأصل: "فيمكنه من تولي الحضانة هل نزل منزلة وجدانه متبرعة".
(2) مهما: بمعنى إذا.
(3) في الأصل: الثاني.

(15/567)


ومنهم من قال: الحق للأب إذا امتنعت الأم، وذلك أن الجدة إنما تتولى الحضانة إذا بطل حق الأم، وهي وإن كانت ممتنعة، فحقها قائم متى تشاء، والأب في القيام بالحضانة بمثابة السلطان في القيام بولاية التزويج عند [عضل] (1) القريب؛ إذ سلطان القاضي عامّ، وسلطان الأب في المال والبدن والحضانة عام، غير أن الأم اختصت بالحضانة، فإذا امتنعت، قام الأب مقامها.
والأقيس عندي الوجهُ الأول، وهذا الوجه الأخير ذكره الصيدلاني، وقطع به وأجرى الشيخ أبو علي الوجهين.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا حق لمن لم يكْمُل في الحرية ... إلى آخره " (2).
10250 - قد ذكرنا أن الرقيقة لا حضانة لها، وكذلك الرقيق، ومن بعضه حر وبعضه رقيق، فلا حق له في الحضانة أيضاًً؛ فإن الجزء الرقيق يمنعه عن الاستقلال، والحضانة تقتضي الاستقلال، فكانت ولايةً، أو كالولاية، وكما لا يلي الرقيق لا يلي من لم يكمل فيه الحرية.
ويعترض من الناظر طلبُ الكلام في أنه هل يجب عليه النفقةُ للقريب؟ أما نفقة الزوجة، فتجب، والكلام في أنا نوجب نفقة المعسرين، أم نبعّض إذا كان موسراً ببعضه الحر، فنوجب قسطاً من نفقة الموسرين، وقسطاً من نفقة المعسرين؟ فيه خلافُ المزني، وتردّدُ الأصحاب، فإذا رددنا النظر إلى نفقة الأقارب وهو موسر ببعضه الحر -وليس إخراج النفقة من قبيل الولايات، بل هو من الغرامات- فلا يبعد أن نوجب قسطاً من نفقة القريب على مقابلة الجزء الحر منه، ونُسقط من النفقة المقدارَ الذي يناسب الجزءَ الرقيقَ منه، وهذا يظهر إذا وزعنا نفقة الزوجية في اليسار والإعسار على
جزأيه.
__________
(1) في الأصل: عقل.
(2) ر. المختصر: 5/ 86.

(15/568)


ويجوز أن يقال: يجب عليه أن يخرج تمامَ نفقة قريبه لتحقق يساره، كما لو ملك مالاً وطائفة من البنين، فإن من [يُسقط] (1) يوجب عليه أنصافَ نفقات، فإذا لم يَبْعُد إيجابُ نصفي نفقتي ابنين، لم يبعد إيجاب نفقة تامة لابنٍ (2).
ويجوز أن يقال: كل شخص متميز عن غيره، فليقع إنفاقه عليه على قدر إنفاقه على نفسه، ومعلوم أنه إنما ينفق على نفسه بقدر ما فيه من الحرية.
وقد عنّ لي أن أجمع أحكام من بعضه حر وبعضه رقيق في كتاب العتق، وأجمع فيه كل ما بدّده الأصحاب في الكتب، والله ولي التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
ولو نكح حرّ أمة نكاح غرور، فولده منها حرٌ، ولا حضانة للأم؛ فإنها رقيقة، ولو كان على علم برقّها، فالولد رقيق، ولا حق للأب في الحضانة؛ فإن المالك أولى به، وحق الملك يتقدم على حق القرابة.
ولو فرضنا [ولداً بعضه حر وبعضه رقيق] (3) فحق الحضانة في القدر الرقيق لمالكه، وحق الحضانة في الجزء الحر منه للأم إن كانت الأم حرة، أو للأب إن كانت رقيقة، فإن اتسق بين المالك وبين من له حق الحضانة مهايأة في الحضانة، جاز، وإن اتفق التراضي على أن ينفرد أحدهما، ساغ، وإن امتنعا من المهايأة ولم يتراضيا، فالسلطان ينصب حاضنةً، ويوجب مؤنتها على من يجب عليه النفقة.
...
__________
(1) في الأصل: يقسط، والمثبت من صفوة المذهب، والمعنى من يسقط من النفقة بمقدار جزئه الرقيق.
(2) المعنى أنه إذا يملك مالاً بنصفه الحر وعنده طائفة من البنين، فيجب عليه -عند من يُسقط- أن يعطي نصف نفقةٍ لكل واحد من البنين، فإذا وجب عليه عدة أنصاف نفقة ألا يَجوز أن يقال: يجب عليه نفقة كاملة إذا كان عنده ابنٌ واحد، وهي لا تزيد على إيجاب أنصاف نفقات. هذا وجه هذا الجواز.
(3) عبارة الأصل: ولو أبعضه حر وبعضه رقيق.

(15/569)


باب نفقة المماليك
10251 - نفقة المماليك واجبة على السادة إذا لم يستقلّوا بالكتابة، والأصل فيها ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "وللملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلف من العمل إلا ما يُطيق" وتمام الحديث ما روي أن أبا ذرٍ رُئي بالربذة وعليه حُلة، وعلى غلامه حُلّة، فقيل له: أكسوت غلامك مما تلبس، فقال: إني ساببت غلاماً لي، فرفعت يدي لأضربه، فلم يَفْجَأني إلا رجل أخذ بيدي، فالتفت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل إلا ما يطيق " (1).
واتفق العلماء على إيجاب النفقة للمملوك على الموْلى، ثم تلك النفقة كفاية، وليست مقدرة، كما ذكرتها في نفقة القريب وفسرتُ الكفاية.
ثم وجب عليه أن يكسوَ عبده. ثم اختلف أصحابنا في أن الكُسوة هل تختلف في جنسها باختلاف أقدار المماليك؟ فمنهم من قال: نعم، يختلف جنسها باختلافهم، فكُسوة العبد الخسيس المستخدم في سياسة الدواب دون كُسوة العبد النفيس.
ومن أصحابنا من قال: لا فرق بينهم، وتفاوتهم في قِيَمهم لا يوجب تفاوتَهم في الكُسوة.
ومنهم من فرّق بين الجواري والعبيد، وقال: العبيد يجوز التسوية بينهم، وأما
__________
(1) حديث أبي ذر متفق عليه (البخاري: العتق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: العبيد إخوانكم، فأطعموهم مما تأكلون، ح 2545. مسلم: الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، ح 1661).

(15/570)


الجواري اللواتي يكنّ بمحل التسرِّي يجب (1) التفاوت بينهن.
هذا كلام الأصحاب، وتمام البيان فيه عندنا أن اللباس الذي يكسوه عبده يجب ألاّ يكون مُضرّاً به، كالثوب الخشن الذي تتأثر البشرة به، ولا يشترط أن يكون مفيداً بدنَه تنعماً وترفّهاً، والعبد لو اقتصر مولاه على إزارٍ يستر ما يجب ستره منه، وكان لا يتأذى في بدنه من مصادمة الهواء والحرّ والبرد، فلست أرى جوازَ الاقتصار على هذا؛ فإن هذا إهانةٌ وإذللٌ على حدٍّ بيّن لا يعتاده أحد من طبقات الخلق، وإن فعله فاعل، تطرقت إليه المطاعن وتوجّه عليه التوبيخ.
والذي اختلف الأصحاب فيه هو أن يكسو عبداً كُسوةً قد يجري مثلُها من مقتصد، أو ممن يُعرف من التقتير والتشوف إلى الشح، فهذا مما تردد فيه الأصحاب.
10252 - ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وتصرف فيه، وهو قوله عليه السلام: " إذا كفى أحدَكم خادمُه طعامَه، حرَّه ودخانه، فليُجلسه معه، فإن أبى فليروِّغ (2) له لقمة وليناولها إياه " (3) وروي أن رسول الله صلى الله عليه قال في المماليك: " إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن ملك مملوكاً، فليطعمه مما يطعم وليلبسه مما يلبس، ولا يكلّفه من العمل إلا ما يطيق " وظاهر هذا الحديث يدل على أنه يجب على السيد أن يسوّي بين نفسه وبين عبده في الملبس والمطعم.
قال الشافعي: هذا الحديث [قاله] (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأعراب
__________
(1) يجب التفاوت: جواب (أما) بدون الفاء.
(2) يروغّ له لقمة: أي يطعمه لقمة مشربة من دسم الطعام (النهاية في غريب الحديث).
(3) حديث: " إذا كفى أحدكم خادمُه طعامَه: حرَّه ودخانه ... " الحديث. رواه الشافعي بهذا اللفظ (الأم: 5/ 101)، والبيهقي (8/ 8) وصحح الحافظ إسناده. والحديث متفق عليه بألفاظ أخرى مقاربة (البخاري: العتق، باب إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، ح 2557.
مسلم: الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، ح 1663). وانظر تلخيص الحبير: 4/ 25 ح 186.
(4) في الأصل: قال.

(15/571)


أصحاب البوادي ولباسهم خشن، وطعامهم [خشن] (1) ولو فرض حط العبيد عن ملابسهم ومطاعمهم انتهى الأمر إلى الضرر، وقد ذكرنا أن الإضرار بالمملوك غيرُ سائغ.
وأما الحاضرة وأصحاب النعمة والترفّه، فمن ملابسهم الخُزُوز الفائقة، ورقيقُ الكتان والحرائر، فيلبسن نفائسَ الديباج، فلا نكلف هذه الطبقة أن يُلبسوا عبيدهم من جنس ما يلبسون (2).
وكذلك قد يعتاد هؤلاء أطايبَ الأطعمة [وصدورَ الدجاج] (3) ونفائسَ الحلاوات [فلا نكلّفهم] (4) أن يُطعموا عبيدهم من هذه الأجناس.
ثم أخذ رضي الله عنه في الكلام على الحديث (5) المشتمل على [إجلاس] (6) العبد وإطعامه لقمة مُروَّغة، وقد روينا الحديث، ومعناه مفهوم، قال الشافعي رضي الله عنه: وهذا أولاً مخصوص بالذي يتولى إصلاح الطعام ويُصادِمُ حرَّ النار ودخانَها، فإذا هيأ الطعام، فمقتضى الحديث الأمرُ بإجلاسه ليأكل مع المولى، وفيه أن ترويغ لقمة وتسليمَها إليه يُغني عن إجلاسه، ثم تردد، فقال: يجوز أن يكون الأمر محمولاً على الوجوب ويجوز أن يكون استحباباً محمولاً على مكارم الأخلاق.
وإذا كانت القاعدة على الكفاية، ودفع الضرر، واجتناب الإهانة، فما يجريه الشارع زائداً على هذا فيظهر أن الغرض الحثُّ على وطأة الخُلُق والاستكانة، واجتناب استعلاء الملاك.
ثم ذكر رضي الله عنه على تقدير حمل الأمر على الوجوب شيئين: أحدهما - أن الواجب أن يخصص بلقمة، هذا القدر هو المحتوم، وإن أجلسه، فهو أفضل،
__________
(1) غير مقروءة في الأصل.
(2) كذا بنون النسوة، ولا يعجز من تعاطَى علمَ النحو عن تقديرٍ وتخريج.
(3) في الأصل: وصدور الترجح (انظر صورتها) والمثبت من صفوة المذهب.
(4) في الأصل: ولا نكلفهم.
(5) ر. المختصر: 5/ 89، 90.
(6) في الأصل: أجناس.

(15/572)


ويحتمل أن يكون الواجب أحدَهما أو أيهما أقدم عليه أدّى الواجب به.
فينتظم إذا أردنا الجمعَ ثلاثة أقوال.
ثم اللقمة ينبغي أن تكون تامة مشبعة مروّغة بحيث تسدّ مسداً وتحط قَرَماً ونَهَماً، فإنها إن صغرت هاجت الشهوة وصار العبد بذوقه أشدَّ حالاً ممن لا يتعاطى من الطعام شيئاً.
فصل
قال: " وليس له أن يسترضع الأمةَ غيرَ ولدها ... إلى آخره " (1).
10253 - إذا أتت أمة الإنسان بولد مملوك، فليس للسيد أن يحولَ بينها وبين ولدها، وليس له أن يكلّفها إرضاعَ ولدٍ آخر؛ فإن ذلك يضر بالولد [ويكدّر] (2) قلب الأم، [ويُفضي إلى الوَلَه] (3) الذي نهى الرسول صلى الله عليه عن التسبب إليه، وقد ذكرنا أن الزوج لا يفرق بين الولد وأمّه، غير أنا ذكرنا أنه إذا كان يبغي الاستمتاع بها في أوقات الرضاع، وعَسُر الجمع بين توفية الاستمتاع وإدمان الرضاع، فللزوج أن يضم الولدَ إلى مرضع، والأم لا تُمنع منه في الفترات والغفلات.
هذا ظاهر المذهب.
وحكينا فيه وجهاً آخر.
ولو كان السيد يبغي الاستمتاع بالأمة، وذاك كان يعطل إرضاعها، كما صورناه في الزوجة، فالذي أراه أنها تنزل والحالة هذه منزلة الزوجة، فإن خطر لمن لا يغوصُ فرقٌ بأن الاستمتاع ليس مقصوداً من الأمة، فليس هذا أوان هذا الكلام؛ فإنّ حق
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 91.
(2) في الأصل: ويكدّ.
(3) في الأصل: ويفضي إلى الولد.
(4) وهو يشير إلى حديث الرسول صلى الله عليه: " لا تولّه والدة بولدها " والوله ذهاب العقل والتحيّر من شدة الوجد.

(15/573)


السيد في الاستمتاع بها كامل، لا سبيل إلى دفعه، فإن كان لا يستمتع، فليس له أن يمنعها من إرضاعه، ويخرّج فيها عند قصد الاستمتاع الوجه الذي حكيناه في الزوجة.
10254 - ثم قال الأئمة: للأم الحرة حقٌّ متأكد في الولد الحر لا يثبت مثله في الأمة؛ فإن الأب لو أراد فطام الولد قبل الحولين، لم يكن له ذلك دون رضا الأم، ولو أرادت الأم أن تفطمه، لم يكن لها ذلك دون رضا الأب، فإن توافقا على الفطام قبل الحولين، وكان لا يضر الفطام بالولد في غلبة الظن، فحينئذ يجوز.
هكذا قال الأصحاب، وتمسكوا فيه بظاهر قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} [البقرة: 233]، وظاهر الآية أن الأم إذا أرادت استكمالَ الرضاع حولين بنفسها، أو بإرضاع ظئر، فليس للأب الفطام، وعليه مؤونةُ الرضاع إلى انقضاء الحولين.
وعندي أن هذا وما قاله الأصحاب فيه إذا كان الرضاع ينفع المولود، وفَطْمُه قد يؤثر في إنهاكه، وإن كان يغلب على الظن سلامته، فلا بد من رضا الوالدين، وإن كان بحيث لا ينهكه الفطام، وقد صار الصبيّ مضرباً عن الرضاع لاهياً، فليس يبعد أن يقال: للأب ألاّ يلتزم المؤونة والحالة هذه.
وفي القلب من الصورة الأولى شيء إذا كان يجوز لأحد الأبوين لو انفرد أن يفطم، ويجوز لهما أن يفطما، فليس يبعد حمل ما ذكرناه على الأوْلى، حتى يكون صَدَر الفطام عن شفيقين، فهذا ما يظهر عندي، ولكن ما رأيته للأصحاب ذاك الذي قدمته.
وإن كان الولد يتضرر بالفطام.
ثم قال من ربط الفطام دون الحولين برضا الأم: لا يُربطُ الفطامُ برضا الأَمَةِ الوالدة؛ فإنه لا حق لها في طلب حق المولود، وطلب حق المولود طرفٌ من الولاية، وقد ذكرنا أن للأم أن تطلب نفقةَ المولود، ولها أن تستقرض على الأب، وهذا ممتنع مستحيل من الأم الرقيقة.
ثم ذكر الشافعي أنه كما يجب على السيد الإنفاق على أمّ ولده يجب عليه الإنفاق

(15/574)


على أولادها من السفاح، والنكاح؛ فإن ملكه فيهم بمثابة ملكه في الأم، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
10255 - ثم قال: " ويمنعه الإمام أن يضرب على أمته خراجاً إلا أن تكون في عمل واجب " (1).
ضربُ الخراج على المملوك حقيقةُ استكسابه، وللسيد أن يستكسب عبده على شرط ألاّ يكلفه من العمل ما لا يُطيق، فإن وظف عليه مقداراً كلّ يوم، لم يكن لذلك التوظيف حكم، وليس ضرب الخراج معاملةً توصف بالجواز واللزوم، ولكن على العبد ألا يألوَ جهداً، والمقدرات الموظفة على أقدار الاستمكان، وإنما ذكر الشافعي المخارجة لاعتياد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، حتى قيل: كان للزبير ألف عبد يؤدون الأخرجة، وكان يصرف إلى كفايتهم قدر الحاجة، ويتصدق بالباقي، لا يتأثَّلُ منها درهما، ولا ينفق على خاصته درهماً.
ثم إن جرت المواضعة على أن ينفق العبد مما يكتسب، فعل ذلك إن وفَّى كسبُه، وإن لم يتفق في بعض الأيام أو في أيام كسبٌ، فنفقته دارّة. وبالجملة لا تغيّر المخارجة حكماً، ولا تُلزم العبدَ إلا بذل المجهود في الكسب. قال أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه: " لا تكلفوا الصغير الكسبَ فيسرق، والجارية غير الصَّنِعَة فتكتسبَ بفرجها " (2)، وهذا مما يجب مراعاتُه، وليس بعد الوضوح للازدياد وجه.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 92.
(2) رواه الشافعي في المختصر: 5/ 92.

(15/575)


باب نفقة الدواب
10256 - ذوات الأرواح محترمة، وحقٌّ على مالكها أن يقيها الرَّدى والهلاكَ إلا في الوجوه المستباحةِ المستثناةِ شرعاً، كالذبح للمأكلة، والإكدادُ بتحميل الأثقال قد يَكُدُّها ويهُدُّها ويُفضي إلى هلاكها، ولكن ذلك على الاقتصاد اللائق بمثله مسوَّغٌ، ويجب القيام بكفايتها في العلف والسقي.
وإن كانت منسرحة سائمة، فإن كان في العُشب مَقْنع، فذاك، وإن أجدبت الأرض، [وكانت البهائم لا تكتفي بالرعي، وما تصادِف من رعي الأرض، فيجب علفها] (1) إلى أن ينتهي الأمر إلى الاكتفاء.
ومما يجب الإحاطة به أن البهائم وإن كانت محترمة الأرواح [فحرماتها] (2) محطوطة عن حرمة الآدمي، ولهذا يقتلها المضطرُّ ويأكلُها، وإن كانت محرّمة اللحم، وفي إباحة ذبح ما يؤكل منها لظهور الحاجة إلى اللحوم ما يوضّح أنها عرضة لحاجاتٍ لا تبلغ مبلغ الضرورات. ولا يجوز أكل ما لا يحلّ أكله لحاجةٍ [لا] (3) لحرمة روح ذلك الحيوان، ولكن لأن المحرمات في حكم الله مستخبثات.
وقال الأصحاب: إذا كان مع المسافر ماء ومعه ذو روح محترم مُشفٍ على الهلاك عطشاً، فليسقها، ولْيتَيَمّم، والمذهب الأصح أنه يجوز غصْبُ العلف للدابة الموفية على الهلاك، وكذلك يجوز غَصْب الخيطِ لخياطة جُرح البهيمة المحترمة، [و] (4) في المسألتين خلاف، والأصح ما ذكرناه.
__________
(1) عبارة الأصل: " وكانت البهائم لا تكتفي بالرعي، وما تصادف من رعي الأرض وكانت البهائم لا تكتفي بالرعي فيجب علفها ".
(2) في الأصل: فخدماتها.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة من المحقق.

(15/576)


ثم إذا ظهر لمن إليه الأمر إضرار مالك الدواب بها، راجعه فيها، [وكلفه] (1) في عاقبة الأمر القيام بكفايتها أو بيعها.
واللبون من البهائم لا يجوز نزف ألبانها حَلْباً؛ إذا كان يَهلِك أولادُها الرضع، والمعتبر فيها كالمعتبر في أمهاتها.
وهذا نجاز الربع (2). وإلى الله صدق الابتهال في تيسير الإتمام، وبسط النفع به وجعله خالصاً لوجهه الكريم (3).
...
__________
(1) في الأصل: وكأنه.
(2) كذا (الربع) بدون وصف ولا إضافة، فلم يقل: (الربع الثالث) ولم يقل: (ربع المناكحات).
(3) في خاتمة نسخة الأصل: الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وآله أجمعين.
يتلوه إن شاء الله كتاب الجراح.

(15/577)


وإذا عسر عليَّ في فصل تخريج المذهب المنقول على قياس، أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعاب وجه الإشكال، وإيضاح الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات.
الإمام
في نهاية المطلب

(16/4)