نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب اللعان
9613 - اللعان عبارة عن الكلمة المذكورة في كتاب الله تعالى من قوله سبحانه: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} إلى قوله: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6 - 9]، وسميت الكلمةُ لعاناً لاشتمالها على اللعن، وإنما وقعت التسميةُ به، وهو أقل الكَلِم؛ لأنه غريب في مقام الشهادات والأيْمان، والشيء يشهر بالغريب الواقع فيه، وعلى ذلك جرى معظم تسميات سُوَر القرآن، ولم تقع التسمية بالغَضَب؛ لأن الأصل كلامُ الزوج، وقد يثبتُ دون لعانها.
والأصلُ في مضمون الكتاب قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآيات [النور: 6 - 9]، نزلت في عُويمر بنِ مالكٍ العجلاني، وقيل: هلال بن أمية رَمَى زوجتَه بشريك بن سَحْماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتأتينّ بأربعة شهداء، أو يُجْلدُ ظهرُك "، فاغتم به، وقال: " أرجو أن ينزل الله فيّ قرآناً يبرِّىء ظهري، فنزلت الآية، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم باللعان فتلاعنا " (1)، وحكم بالفرقة بينهما ونفى الولد.
واللعان في ظاهر القرآن مرتبٌ على أن لا يجد الزوج بيّنة على تحقيق زناها؛ فإنه عز من قائل قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]، وهذا الترتيب عرفناه في منازل البينات من نص القرآن.
فكان هذا خارجاً على ذلك المذهب، وإن لم يكن شرطاً، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، ثم شهادة الرجل والمرأتين مقبولة مع التمكن من إقامة شهادة رجلين، فكان قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} [البقرة: 282]،
__________
(1) قصة لعان عويمر العجلاني متفق عليها من حديث سهل بن سعد (البخاري: الطلاق، باب اللعان ومن طلق بعد اللعان رقم 5308، مسلم: اللعان رقم 1492).

(15/5)


محمولاً على اتفاق شهادة رجلين، والتقدير: إن لم يتفق شهادة رجلين، فشهادة رجلٍ وامرأتين.
9614 - ثم أول ما نصدر به الكتاب أن الرجل إذا قذف زوجته وسوّغنا له أن يلاعن على ما سيأتي تفصيل ذلك في مسائل الكتاب، فلسنا نقول: اللعان من موجَبات القذف، بل موجَب القذف الحدّ أو التعزير، ولكن لو قذف الرجل أجنبية، فلا نخلّصه من القذف إلا ببينةٍ على زناها، أو على إقرارها بالزنا، وقد تُنشىء الإقرار فيتخَلّصُ.
وإذا قذف الرجلُ زوجتَه المحصنةَ، فما ذكرناه من المخلِّص في حق الأجنبيةِ ثابتٌ في حق الزوِج، وله مُخلِّصٌ آخر ضمّاً إلى تلك الجهات، وهو اللعان، فقد أثبت الشرع اللعانَ مُخلِّصاً للزوج يليق بحالة الضرورة، فإن المرأةَ إذا لطّخت فراشه وتحقق ذلك عند الزوج، فلو صمت وسكت، لاطّردَ العارُ، وقد [يلحقه] (1) نسب متعرض للثبوت وهو في علم الله تعالى منفيٌّ، فخصه الشرع بمخلِّصٍ، والرجل على الجملة مبرّأٌ عن التهمة في قذف زوجته هَزْلاً من غير علم أو ظن غالب.
ثم اللعان يضاهي البينة ويشابهها في رد الحد عن القاذف وإثبات الزنا عليها، وله مزية على البيّنة؛ فإنه يتضمن قضايا لا تناط بالبينة واحدةٌ منها، وهي نفيُ الولد، ووقوعُ الفرقة، وتأبُّدُ التحريم.
وإذا ضممنا خصائصَ اللعان إلى ما يساوي اللعانُ فيه البينة قلنا: ما يتعلق باللعان خمسُ خصال: درءُ الحد عن الزوج، ووجوبُ الحد عليها إلا أن تلتعن، ويلتحقُ بهذا نفي الولد، ووقوعُ الفرقة، وتأبُّدُ التحريم.
وأبو حنيفة (2) يجعل اللعان موجَب القذف، ويقضي بأنه عقوبة، وهو بالإضافة إلى قذف الزوجة كحدّ القذف بالإضافة إلى قذف الأجنبي.
فهذا تأسيس الكتاب في ماهية اللعان.
__________
(1) في النسختين: يلحق.
(2) ر. المبسوط: 7/ 39، بدائع الصنائع: 3/ 237، فتح القدير: 4/ 111، اللباب: 3/ 74.

(15/6)


9615 - ومما يُجريه العلماء في ذكر حقيقةِ اللعان أن أصحاب أبي حنيفة يدّعون أن اللعان شهادة، وأصحابُنا يقولون: اللعان يمين، والمنصف من أصحابنا يقول: في اللعان شَوْب اليمين والشهادة، فأما شوب اليمين، فأصدق شاهد فيه صَدَرُ اللعان عمّن هو في مقام الخصومة وهو يحاول تصديق نفسه، ولا يتصور هذا في مساق الشهادات، ثم يثبت في اللعان من أحكام الشهادة قضيةٌ واحدة، وهي أن الزوج إذا لم يلتعن، ونكل، ثم رغب فأراد اللعان، فله ذلك، كما لو لم يُقم المدّعي ببينة، ثم أراد إقامتَها، وليس كاليمين في هذه القضية، فإن من نكل عن اليمين، ثم رغب
فيها، لم يُمكَّن من الحلف.
فصل
قال: " وفي ذلك دلالة أن ليس على الزوج أن يلتعن حتى تطلب المقذوفةُ حقها ... إلى آخره " (1).
9616 - الزوج إذا أراد أن يلتعن، فلا يخلو: إما أن يكون ثَمّ ولد يُريد أن ينفيه، وإما أن لا يكون، فإن لم يكن له ولد، نظر: فإن كان القذف يوجب حداً على الزوج لو لم يلتعن، فله أن يلتعن وتنتفي العقوبةُ، ثم تثبتُ سائرُ قضايا اللعان، كما ذكرنا جُمْلَها، وسيأتي تفصيلها.
وإن كان موجب القذف التعزير، فسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله.
وإن كان لا تتوجه العقوبة عليه بسبب عفوها، أو تصديقها إياه، أو بسبب قيام البيّنة على زناها، فلو أراد أن يلتعن والحالةُ هذه، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ إذ لا ولد، ولا عقوبة، فإن أراد الخلاص منها، فالطلاق ممكن.
والوجه الثاني - له أن يلاعَن؛ ليردّ العار (2) عليها؛ مجازياً إياها؛ إذ لطخت فراشه.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 143.
(2) (ت 2): اللعان.

(15/7)


9617 - ثم قال: " ولما لم يخص الله أحداً من الأزواج ... إلى آخره " (1).
غرض الفصل بيان من هو من أهل اللعان.
عندنا كل من كان من أهل الطلاق، فهو من أهل اللعان، وإن أردنا الضبط بأمرٍ أخصَّ قلنا: من كان من أهل استيجاب الحد بالقذف، كان من أهل اللعان، وإن قلنا: كلُّ مكلف ملتزم، فكل هذه العبارات جائزة، فالحر، والعبد، والذمي، والمسلم، مستوون.
ثم [إن] (2) تفاوتوا في أقدار الحدّ، فلا تفاوت في اللعان أصلاً وتفصيلاً.
وأبو حنيفة (3) يقول: من لا يكون من أهل الشهادة، فليس من أهل اللعان، وأخرج العبدَ، والذمي، والمحدودَ في القذف، ولم يُثبت لهما اللعان. وناقض في المُعْلِن بالفسق (4)، وحكم بانعقاد النكاح بحضور محدودين، وإن كان النكاح لا ينعقد إلا بحضور من هو من أهل الشهادة.
ومعتمد مذهبنا أن اللعان حجة خاصة أثبتت للضرورة، فهي لائقة بكل مضطر، فمن أراد أن يحمل اللعان على مرتبة الشهادة مع أن الملاعن يُثبت دعوى نفسه، فليس على مُسْكةٍ من البصيرة.
ثم إن الشافعي رضي الله عنه رأى اللعان حجةً نادرة، فبنى أصلها على كتاب الله، وليس في الكتاب فصلٌ بين [زوج وزوج] (5)، ولكن اللعان فيه معلقٌ بالرّمْي فمن كان من أهل الرّمْي، فليكن من أهل اللعان.
9618 - ثم قال: " وسواء قال: زنت أو رأيتها تزني ... إلى آخره " (6).
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 143.
(2) (ت 2): ثم فإن تفاوتوا. وفي الأصل: ثم وإن تفاوتوا.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 500 مسألة 1045، المبسوط: 7/ 39 - 41، مختصر الطحاوي: 215.
(4) ر. رؤوس المسائل: 372 مسألة 248، الغرة المنيفة 135، إيثار الإنصاف: 151.
(5) في النسختين: الزوج والزوجة. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق.
(6) ر. المختصر: 4/ 143.

(15/8)


أراد بهذا الرد على مالك (1)؛ فإنه قال: يختص اللعان ببعض صيغ القذف، وأجرى الشافعي هذا على الرّمي المطلق المذكور في كتاب الله تعالى من غير اختصاص.
ثم إنا نذكر بعد هذا أصلين يتعين على الناظر الاهتمامُ بهما؛ فإنهما يجريان من الكتاب مجرى الأُسّ والقاعدة: أحدهما - يشتمل على بيان اللعان حيث يجوز التسبب إليه ولا ولد.
والآخر - يشتمل على ذكر التسبب إلى اللعان وثَمَّ ولد يريد الزوج نفيه.
9619 - فأما إذا لم يكن ولد، فالغرض أن نبيّن أنه متى يجوز للزوج أن يقذف ليلاعن، ومتى يحرم عليه ذلك.
فنقول: إذا رآها تزني، فلا شك أن له أن يقذفَها ويلتعن، وكذلك لو سمع رؤيةَ الفاحشة ممن يثق به -سواء كان من أهل الشهادة أو لم يكن إذا كان موثوقاً به- فله التعويلُ عند حصول الثقة على قوله المجرد.
ولو استفاض في الناس أن فلاناً يزني بفلانة، واتفق أنه رآه معها في الدار، فاجتمعت الاستفاضة والرؤية في الدار على ريبةٍ، فاجتماعهما بمثابة السماع من موثوق به [يخبر عن] (2) معاينة الفاحشة.
والاستفاضة التي أطلقناها أردنا بها أن يلهج الناس بذلك، وليس فيهم من يخبر عن عِيان نفسه، ولو ثبتت الاستفاضة، ولم يُرَ معها على ريبة، فلا يجوز له أن يعوّل على مجرّد ذلك؛ فإنهم قد يلهجون بكلام مستنده سماعٌ من كاذب، ولو تجرّدت رؤيتُه الذي معها في الدار، فلا يجوز له أن يعوّل على ذلك؛ فإن هذا قد يكون ابتداءَ الأمر، وربما كان الرجل طالبها وهي أبيّة.
هذا ما ذكره العراقيون، والقاضي رحمه الله.
__________
(1) ر. الإشراف: 2/ 782 مسألة 1453، عيون المجالس: 3/ 1295 مسألة 904، حاشية العدوي 2/ 100.
(2) في الأصل: مخبر على.

(15/9)


9620 - والقول الجامع في ذلك أن ما ذكرناه على مراتب: المرتبة العليا فيه - إذا عاين، وهذا يورث اليقين، فيجوز إقامة الشهادة بمثله، فلا خفاء بجواز القذف والحالةُ هذه، ولا حاجة إلى أن يقيم شهوداً على زناها؛ فإنه عزّ من قائل قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، فوضع اللعان حيث لا شهود (1)، ثم الغالب أن الشهود لا يطّلعون، وهذه الفاحشة تهيأ لها خلوات: قد يطلع الزوج على بعضها، فلو توقف الأمر على اطلاع الأجانب، لعظم العار، وظهر الضرار، وعسر استدراكه.
وإذا لم يعاين فجواز القذف جارٍ أيضاً؛ فإن الغالب تحفّظُ المرأة عن زوجها، ولعل تصوّنها عنه يُبِرُّ (2) على تصوّنها على الأجانب، فوقع الاكتفاء بظنٍّ غالب، مستندٍ إلى أمارة لائحةٍ، أَظهرُها إخبارُ موثوقٍ به عن العيان.
ثم الاستفاضة [مع أنا لا نجد مخبراً عن عِيان نفسه] (3) لا تقوى (4)؛ فإنّ المطاعن كثيرة في البرآء؛ فإذا انضم [إليها] (5) رؤية رجل معها على ريبة، ثبتت العلامة، ومجرد الاستخلاء مرة لا يورث الاستفاضة في الناس.
والذي أراه أن الزوج لو رآها على استخلاء مراراً في محالّ الريبة، فهذا بمثابة انضمام الاستفاضة إلى الرؤية مرةً، ولو رأى الرجلَ [معها] (6) في شِعارٍ على النعت المكروه، ولم ير عِياناً من كل ما تتحمل الشهادة به على الزنا، فهذا أقوى من جميع ما قدمناه.
فهذا هو الأصل المرعي في الباب.
__________
(1) (ت 2): حيث لا يكون شهود.
(2) يُبرّ: يقال: أبرّ على القوم غلبهم (معجم). والمعنى هنا يزيد تصوّنها من زوجها على تصوّنها من الأجانب.
(3) في الأصل: " مع أنا لا نجد يخبر عن عيان نفسه " وفي ت: " مع أنا نجد مخبراً عن عيان نفسه " والمثبت من تصرّف المحقق. وما بين المعقفين جملة معترضة.
(4) لا تقوى: خبر لقوله: ثم الاستفاضة. فالمعنى أن الاستفاضة لا تقوى وحدها مع عدم وجود مخبرٍ يخبر عن عيان نفسه.
(5) في النسختين: إليه.
(6) زيادة من (ت 2).

(15/10)


9621 - ثم حيث يجوز القذف لا نوجبه، بل نجوّزه، ونؤثر لذي الدّين (1) ألا يقذفَ ويسترَ، ولا تُستحب مصابرةُ مسافِحةٍ؛ فإنه تعريض الفراش للتضمُّخ (2)، بل الأولى أن يخلي سبيلها.
ورب أصلٍ ظاهر يخوض فيه الخائضون -وهو بديعة الشرع- ولا يتفطنون [لسرّه. فَ] (3) الزوج يصرّح بقذفها على تهمة، والقذف في نفسه كبيرةٌ موجبةٌ للحد، [والطلاق] (4) ممكن -وقد يفرض هذا ولا ولد (5) - وهذا بعيد، مع أنه [جعل ليصدِّق] (6) نفسه (7) وكان يتفاقم (8) الأمر لو كان تجب العقوبة عليها وجوباً لا تجد لها دارئاً، فأثبت الشرع دارئاً من جهتها.
ثم العار في طرد العرف من زنا المرأة يرجع على الرجل، ولن يغضب الرجل ويجشَم (9) بأمرٍ أعظمَ من نسبة أهله إلى فاحشة، وهذه الخصلة تمنعه من القذف من غير ثبت. هذا موضوع اللعن.
__________
(1) (ت 2) لذي الزنا ألا يقذف ويستتر.
(2) (ت 2): فإنه يفرض للفراش في التضمخ.
(3) زيادة من المحقق حيث اضطرب نص النسختين معاً، فجاءت نسخة الأصل هكذا: " وهو بديعة الشرع ولا يتفطنون الزوج يصرّح بقذفها على تهمة، والقذف في نفسه كبيرة ... إلخ ".
وفي نسخة (ت 2): "وهو ربعة الشرع ولا يتفطنون الزوج يصرح بقذفها على تهمة ... الخ".
(4) في الأصل: فالطلاق، والمثبت من (ت 2).
(5) ولا ولد: هذا ترجيح وتأكيد لما آثره للزوج من عدم القذف، فالمفارقة بالطلاق ممكنة، ولا ولد يحتاج لنفيه.
(6) في الأصل: جعل مصدق نفسه، و (ت 2): جهل يصدق.
(7) العبارة مضطربة لما فيها من سقط وتصحيف. ولعل المعنى: إن الأولى للزوج أن يفارقها بالطلاق، بدلاً من القذف واللعان ما لم يكن هناك ولد، أما أن يلاعن ولا ولد فهذا بعيد عن سرّ الأصل الذي قدمه وبدائع الشرع، ومع أن اللعان جعل سبيلاً للزوج ليصدّق نفسه، فقد كان يتفاقم الأمر لو لم يكن لها وسيلة لدرء الحد ... هذا والله أعلم.
(8) (ت 2): يتقاحم.
(9) يجشم: من جشم يجشم (باب تعب) الأمرَ إذا تحمله على مشقة (المعجم والمصباح).

(15/11)


والذي ذكرناه بيان القذف ولا ولد.
9622 - فأما إذا كان على الفراش ولد، والزوج يبغي نفيَه، فهذا الأصل يترتب ويتفصل على مراتب أيضاًً: فإن استيقن الرجل أن الولد ليس منه بأن علم أنه ما وطئها قط منذ نكحها، فإذا أتت بالولد لزمان إمكان العلوق، فللزوج أن ينفي الولد، بل حقٌّ عليه أن ينفيه.
وهذا القسم يتميز في بعض صوره عن القسم الأول بما أشرنا إليه، وذلك أنا قلنا: يجب عليه أن ينفي إذا استيقن أن الولدَ ليس منه، ولا يحل للإنسان أن يستلحق دعيّاً، كما لا يحل له أن ينفي نسيباً.
وفي القلب من هذا شيء، وهو أن النفي إذا كان لا يتأتى إلا باللعان، فإيجاب اللعان والتعرض للفضيحة الكبرى على رؤوس الأشهاد صعبٌ، وربما يكون الإنسان بحيث لا تطاوعه النفس على احتمال ذلك، والذي أطلقه الأئمة من المنع من استلحاق الدّعي فيه إذا اعتمد استلحاق دعيٍّ قصداً، فأما إذا أَلحقَ الفراشُ به نسباً وهو ساكت، فلست أرى إيجابَ النفي باللعان مذهباً مقطوعاً به.
ويلتحق بهذه المرتبة ما لو كان يغشاها، ولكنها أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت النكاح، فالقطعُ قائم، كما ذكرناه، ومن هذا القسم ما لو وطئها، فأتت بالولد من وقت الوطء لأكثرَ من أربع سنين، والجامع بمسائلِ (1) هذا القسم حصولُ الاستيقان في انتفاء المولود.
والذي أطلقه العراقيون والقاضي وجوب القذف واللعان.
9623 - ومن (2) مراتب المسألة أن لا يستيقنَ الزوجُ الانتفاءَ، وهذا ينقسم أقساماً نأتي بها على صيغ المسائل: فلو وطئها الزوج، فأتت بالولد لستة أشهر فصاعداً من يوم الوطء في النكاح، ولم يستبرئها بعد الوطء بحيضة، فأتت بالولد للزمان الذي
__________
(1) (ت 2): المسائل.
(2) هذه هي المرتبة الثانية.

(15/12)


وصفناه (1)، فليس للزوج والحالةُ هذه أن يقذف ويلاعن؛ فإن كون المولود منه ظاهر الإمكان، حتى لو جرى الأمر كما ذكرنا، ورآها الزوج على الزنا بعد وطئه إياها أو قبل وطئه والاستبراء، فلا سبيل إلى نفي الولد.
ثم إذا ذكرنا هذا في معاينة الزنا، فما الظن بالتهم والأمارات التي وصفناها؟ والحاصل في ذلك أنه إذا لم يَجْر استبراءٌ بعد وطئه، وأتت بولد لزمانٍ يمكن أن يكون منه، فلا سبيل إلى نفي الولد؛ فإن العلوق من الزنا إن كان ممكناً، فالعلوق من وطء الزوج ممكن أيضاً، [ولا مُرجّحَ،] (2) وقد أمرنا بإلحاق الولد بالفراش، فلا يجوز التهجّم على نفي الولد بالإمكان، ولو فرض تساوي الإمكان حيث لا ولد، لما جاز القذف.
ثم هذا الذي ذكرناه بيّن في نفي الولد.
والذي ذكره العراقيون والقاضي أنه لا يقذف ولا يلاعن، ويعترض على هذا إشكالٌ وهو أن الولد إن كان لا يجوز نفيه، فالمنع من القذف واللعان لماذا؟ وقد علمنا أن القذف جائز حيث لا ولد، وذكرنا اختلافاً في جواز القذف حيث لا حدّ، ولا تعزير، فالمنع من القذف واللعان في هذا المقام بعيد عن القياس.
9624 - ونحن [نُجري] (3) بعد هذا شيئين- أحدهما - أن ما ذكره الأصحاب جرى منهم على وفاق؛ من حيث حصروا نظرهم، وردّوا فكرهم إلى الولد، ثم أجْرَوْا نفيَ القذف واللعان على مقصودهم، [فالمرأةُ] (4) لا تُقذف، ولا يُلاعِن لينفيَ الولد، فإن كان كذلك، فالأمر منتظم.
[فإن أرادوا] (5) بهذا أنه إذا لحق النسبُ، فلا سبيل إلى اللعان، فلست أرى لهذا
__________
(1) (ت 2): لستة أشهر فصاعداً.
(2) في النسختين، ولا يرجح.
(3) في الأصل: " نُخمّن " بكل وضوح: نون، فخاء، فميمٌ مشدّدة، فنون. والمثبت من (ت2).
(4) في الأصل: " فالمراد " والمثبت من (ت 2).
(5) في الأصل، وكذا في (ت 2): " فأرادوا " والمثبت تقدير منا صدقته (صفوة المذهب).

(15/13)


وجهاً؛ إلا أن يقول قائل على بعدٍ: تأَكَّدَ الفراشُ بالنسب اللاحق، [وإنما] (1) يجوز قطع النكاح حيث لا ولد؛ حذاراً من ولد سيكون، مع تضمخ المرأة بالفاحشة، فإذا وقع ما يُحذر توقّعاً، فالأصل أن لا لعان.
هذا وجه ذلك، ولم أذكر هذا إلا وظني غالبٌ في أنهم أرادوا المنع من القذف حيث يَلْحقُ النسبُ، فإنك (2) لا ترى مسألة في اللعان وفيها نسب متعرض للثبوت، ثم إنه يلحق واللعان يجري، فكأن اللعان حجةُ ضرورةٍ لقطع النسب، وهو الأصل؛ [فإنه] (3) الضرورة الحاقة، أو هو لقطع فراشٍ تلطخ بفاحشة الزنا.
وهذا لا يستقيم تعليله.
9625 - صورة أخرى: إذا استبرأها الزوج بحيضةٍ بعد ما وطئها، ثم أتت بولد بعد الاستبراء لزمانٍ يمكن أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فكيف سبيلُ النسب، وهل يجوز اللعان؟
ما حَصَّلْتُه من طرق الأئمة وجهان صريحان، وفي كلام الأئمة ما يدل فحواه على ثالت: أحدها - أنه لا يحرم القذف واللعان والنفي؛ فإن الاستبراء السابق أمارةٌ دالّة على [أن] (4) الولد ليس من الزوج، والدليل عليه أن وطء السيد أمته يُلحق نسب المولود الذي تأتي الأمة به لزمان الاحتمال بالسيد، ولو استبرأها بعد الوطء، انتفى النسب.
هذا كذلك في ملك اليمين، وفراش النكاح أقوى، فَجُوِّز للزوج أن يُقدم على النفي باللعان بما ينتفي بعينه النسب في ملك اليمين، ثم إذا ظهر جواز النفي، كان جوازُ النفي، أقوى أمارة في جوازِ القذف، وهو أَبْيَنُ من الاستفاضة ورؤيةِ الرجل من المرأة على ريبة.
__________
(1) في الأصل: فإنما.
(2) (ت 2): فإنك ترى مسألة في اللعان وفيها تسبب يعرض للثبوت، ثم إنه يلحق واللعان يجري مكان اللعان حجة ضرورةٍ لقطع التسبب وهو الأصل فإنه الضرورة الحاقة ... إلخ.
(3) في الأصل: فإن.
(4) زيادة من (ت 2).

(15/14)


وقال (1) العراقيون: إن استبرأها، ولم يجر بعد الاستبراء زناً، ولا تهمةَ يسلط مثلُها على القذف حيث لا ولد، فلا سبيل إلى النفي، فإن جرى بعد الاستبراء زنا أو تهمة تسلط على القذف، فينفي النسبَ، ويُقدم على القذف.
والوجه الثالث -الذي ذكرته آتي به تفريعاً -فأما من لم يشترط بعد الاستبراء سفاحاً، فقد قطع قوله بأنه لا يجب النفي، بل يجوز، ولما فَصَلَ العراقيون بين أن يجري بعد الاستبراء زناً أو تهمة، وبين أن لا يجري، قالوا: إن لم يجر، لم يجز النفي، وإن جرى، وجب النفي، وإيجاب النفي قد لا يتجه مع إمكان العلوق من الزوج -وهذا هو المسلك الثالث - كيف وقد قدّمت في صدر الفصل أن إيجاب اللعان التّهدُّفَ للشهرة والفضيحة مشكلٌ حيث يستيقن أن الولد ليس منه، فكيف إذا كان للاحتمال مساغ، واللحوق على الجملة أغلب في الشرع في فراش النكاح [من] (2) النفي.
فهذا حاصل الكلام في هذا الطرف.
9626 - ومما ذكره القاضي أن المرأة لو جاءت بالولد، وهو شديد الشبه برجل، فلو أراد التعويلَ على الشبه في النفي باللعان المسبوق بالقذف، لم يجد إليه سبيلاً.
ولو انضم إلى الشبه تهمةٌ يسلط مثلها على القذف لو لم يكن ولد، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن النفي جائز؛ تعويلاً على الشبه والتهمة، حيث لم يجر استبراء فاصلٌ، وذلك أن الشبه والتهمة، أو عِيان الزنا إذا اجتمعا، كانت دلالتهما أظهرَ من دلالة دمٍ [تراه] (3) المرأة، مع العلم أن الحامل قد ترى دماً، وإنما الخلاف في أن ما تراه هل يكون حيضاً أم لا.
وذكر العراقيون أمراً بدعاً، فقالوا: لو كان الزوج والزوجة على نعتِ [شديدِ] (4)
__________
(1) هذا هو الوجه الثاني من الثلاثة الموعودة.
(2) في النسختين: في.
(3) في النستخين: ترى.
(4) زيادة من (ت 2).

(15/15)


البياضِ، فأتت المرأة بالولد أسودَ ينأى لونُه عن لون الوالدين نَأْياً بعيداً، فهل يجوز التعويل على ذلك؟ قالوا: في المسألة وجهان: ولم يقيّدوا كلامهم بانضمام الزنا أو التهمة الظاهرة، إلى ما ذكرناه.
وظني بهم أنهم أرادوا ما ذكروه مع الزنا أو ظهور أمارة الزنا، وإذا كان كذلك، فهو في معنى الشبه، وإن كان يُحمل لونه البعيد على عرق نازعٍ من أحد الجانبين، فمثل ذلك ممكن في الشبه؛ فإنَّ الأجانب قد يتشابهون، وتُلقى مَشابهُ شخصٍ على شخص، وتعرُّضنا فيما ذكرناه للّون؛ إذ لا اعتبار بغيره من الخَلْق، فقد تلد حُسنى من أحسن الناس خَلْقاً ولداً مشوه الخَلْق، وقد تأتي به ناقص الخَلْق. فأما اللون البعيد، فهو الذي يثير غلبة الظن في انتفاء الولد.
ولو قرب اللون، فلا أثر له، كالأُدْمة والسمرة، والشُّقرة القريبة بالإضافة إلى البياض في الأبوين، فهذا كتفاوت الخَلْق.
وقد انتجز الأصلان الموعودان جرياً على أبلغ وجه في البيان، نقلأ [عن] (1) الثقة، وتنبيهاً على محالّ الإشكال.
9627 - ثم الذي نحب اختتام الفصل به أن تعويل الشرع في ظاهره على إلحاق النسب بمجرد العلوق في النكاح، وإن بعد، حتى إذا فرض الإتيان بالولد لستة أشهر فصاعداً من وقت النكاح، لحق النسب، وإن لم تُزفُّ الزوجةُ إلى الزوج، إذا كان التقاؤهما ممكناً. وإن لم يكن إمكان أصلاً، لم يلحق النسب، وقال أبو حنيفة (2): يكفى أن يمضي من النكاح مدةُ الإمكان، وإن قطعنا بامتناع العلوق من الزوج، بأن يكون أحدهما في الشرق والآخر في الغرب.
هذا حكم الشرع، وللزوج أن ينفي بالوجوه التي ذكرناها في الأصل الثاني، ثم الشرع لا يحتكم عليه بأن يبين تلك الأسباب التي بانت له، بل هو مؤاخَذٌ برعايتها بينه
__________
(1) في الأصل: على.
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 3/ 551، فتح القدير: 2/ 314.

(15/16)


وبين الله، وليس كذلك اللَّوثُ المعتَبرُ في القَسامة؛ فإنه ما لم يظهر للقاضي لا يبدأ في اليمين بالمدعي، وذلك أن تيك الدعوى على صورة الدعاوى في الخصومات، والقاضي لا يبدأ في اليمين (1) إلا بمن يستمسك بشيء يغلِّب على الظن صدقَه، وهذا المعنى إنما يحصل إذا ظهر اللوث عنده.
فصل
قال: " ولو جاءت بحملٍ وزوجها صبيٌّ دون العشر ... إلى آخره " (2).
9628 - تفصيل القول في السن التي تحيض عليه الصغيرة فتبلغ مما قدمناه في كتاب الحيض، وأعدنا طرفاً منه في كتاب الحَجْر، وكذلك القولُ في أقل الأسنان التي يُفرض احتلامُ الغلمان فيه مما قدمته.
والتي تمس الحاجة إلى إعادته في هذا الفصل سنُّ البلوغ في الغلام، فنقول: إذا استكمل عشراً، احتمل العلوق بعده قطعاً، ولو فرض انفصالُ مادة الزرع في العَشْر قبل استكماله العاشرة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك لا يكون بلوغاًً.
والثاني - أنه يكون بلوغاً.
ثم من قال: يُتصور البلوغ في السنة العاشرة، اختلفوا: فمنهم من ذهب إلى أن الإتيان بالولد ينبغي أن يكون والغلام ابنُ العشر، حتى يُقدَّرَ البلوغُ في أثناء السنة.
ومنهم من قال: يجوز أن [يحتلم] (3) على مُنْقَرض التاسعة، فتأتي الزوجة بالولد لستة أشهر، فيلحقه الولد وهو ابن تسع سنين وستة أشهر.
وحكى بعض المصنفين أنه يجوز أن يُفْرضَ بلوغُه في خلال السنة التاسعة، وقد ذهب كثير من الأصحاب إليه في حيض الصغيرة، وهو غريب في الغلمان جداً، وإن اشتهر في الصبيّة.
__________
(1) (في): تأتي مرادفة لـ (الباء).
(2) ر. المختصر: 4/ 44.
(3) في الأصل: يحتمل.

(15/17)


فهذا حاصل الاختلاف في أقل سنٍّ يبلغ الغلام فيه.
9629 - ونعود بعد ذلك إلى التصريح بمقصود الفصل.
فإذا قبل الأب نكاح امرأةٍ لابنه الطفل، ثم استكمل عشراً، ومضى بعد العشر ستةُ أشهر، فأتت زوجتُه بالولد، وزعمت أنه منه، فالولد يلحقه؛ فإن احتمال الاحتلام على منقرض السنة العاشرة ممكن غيرُ مدفوعٍ باتفاق الأصحاب، وإن أتت بالولد عند انقراض السنة العاشرة، فهذا يخرّج على الخلاف في أن احتلامه هل يمكن في خلال السنة العاشرة.
ولو أتت بالولد عند الطعن في العاشرة، فالمذهب أن الولد لا يلحق، وفيه الوجه البعيد الذي حكيته عن بعض المصنفين.
9630 - ومما يليق بتمام الفصل أن المرأة إذا أتت بالولد وهو ابن عشر، والتفريع على اللحوق في هذه الصورة، فلو لم يسبق منه ادعاء الصبيّ، فأراد وقد حقَّ الأمرُ أن يلتعن، وزعم أنه بالغٌ، فله أن يلتعن، فإن القول قولُه فيما يتعلق بهذا المعنى.
ولو قال: أنا صبي وأراد أن يلتعن، لم يكن له ذلك؛ فإن الصِّبا يمنع الالتعان، فالجمع بين دعوى الصبا وبين الالتعان متناقض، ولو ادّعى الصبا، ثم قال: كذبت فيما قلت، وإنما أنا بالغ، فألتعن، فله ذلك؛ فإنَّ كذبه لا يمنع من الاعتراف بالاحتلام؛ فان الإنسان لا يؤاخَذُ بما سبق منه في صباه، فإن كان صبياً إذ قال: أنا صبي، فقوله لغو، ولا مطّلع على الصبا بقوله، وإن كان بالغاً، فيجب تصحيحُ اللعان منه، وقبولُ قوله الثاني.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه إذا أكذب نفسه فيما قدّمه من دعوى الصبا لا يُقبل ذلك منه، ووجه القبول أن يدّعي أني بلغت بعد هذا، فإن ادعى ذلك، قُبِل منه؛ فإن احتمال الاحتلام مقترنٌ بكل حال، ولا يمتنع أن يكون صادقاً في ذكر الصبا، وهو صادق الآن في طريان الاحتلام.

(15/18)


فصل
قال: " ولو كان بالغاً مجبوباً ... إلى آخره " (1).
9631 - لا خلاف بين الأصحاب والعلماء الذين نعرفهم أن الممسوح يَنْكِحُ ويصح نكاحُه، فإذا بان ذلك فيه، فما (2) الظن بالخَصِيّ والمجبوب، فإذا أتت امرأة واحد من هؤلاء بولد [فالنصوص] (3) مضطربة والطرق على حسبها مختلفة.
والذي تحصّل هاهنا في ترتيب المذهب أن الرجل إذا كان مجبوباً، وبقيت خُصيتاه، فيلحقه النسب؛ فإن الماء كائن في الفطرة، وأوعية المني باقية ببقاء الأنثيين، وليس الذكر إلا آلة مزرِّقة توصّل المني إلى الرحم، وفوات التزريق لا يمنع إمكان الاحتلام، وربما يصل الماء إلى الرحم من غير إيلاج.
ولو قطعت خُصيتاه وبقي ذكره، فالذي رأيته للمحققين من الأصحاب أن النسب يلحقه أيضاًً، ولا حاجة إلى مراجعة أهل الطب في أنه هل يولد لمثله أم لا، ولا نبالي بنفيهم، وإن قالوا: قطعُ الخُصيتين يمنع إمكان الولد؛ لأن فيهما أوعيةَ المني والقوة المُحيلة للدم العبيط إلى المني الأبيض الثخين (4) الدفّاق.
وقال بعض المصنفين: يُرجع إلى قول أهلِ الخبرة والأطباءِ في ذلك، فإن قالوا: لا يولد للخَصِي، لم يُلْحق به، وإن قالوا: يولد للخَصِي ألحقنا الولد به، وهذا التفصيل لا أصل له.
هذا كله إذا كان مجبوباً والخُصية باقية، أو كان خَصِياً والآلة باقية.
9632 - فأما إذا كان ممسوحاً عديمَ الخُصيةِ والآلةِ: قال العراقيون: لا يلحقه النسب ولا مراجعة، وحكَوْا عن الإصطخري أنه قال: يلحقه الولد بلا مراجعة، وذكر
__________
(1) ر. المختصر: 14/ 44.
(2) (ت 2): فما الصبي والمجنون.
(3) في الأصل: فالمنصوص.
(4) (ت 2): للجنين.

(15/19)


القاضي هذا الذي أضيف إلى الأصطخري وصححه، وهو الذي ذكره الصيدلاني، واعتل من صار إلى ذلك بأن الماء معدنُه (1) الصُّلبُ ومنفذه ثُقبةٌ إلى الظاهر، وتلك الثُّقبة باقية.
وهذا قولٌ عريٌّ عن التحصيل.
وهذا مجموع ما ذكر في ذلك.
فصل
قال: " ولو قال: قذفتك وعقلي ذاهب ... إلى آخره " (2).
9633 - إذا قامت بيّنة على إقراره بالقذف، ثم إنه ادّعى أنه كان مجنوناً حين قذف، ففي المسألة طرق: من أصحابنا من قال: إن لم يثبت جنون القاذف في سابق الزمان، فلا يقبل قوله والقول قولُ (3) المقذوف [مع يمينه، فيحلف] (4) بالله لا يعلم جنونَه في حالة قَذْفه (5).
ان ثبت أنه كان يُجنّ فيما سبق، ففي المسألة قولان: أصحهما - أن القول قولُ القاذف، فإنه إذا عُهد له جنون فيما سبق، فلا يبعد وقوع قذفه فيه، والأصلُ البراءةُ من وجوب العقوبة، فالقول قوله.
والقول الثاني - أن القول قولُ المقذوف؛ فإن البينةَ شهدت على إقراره بالقذف مطلقاً، والقذف المطلقُ محمولٌ على الصحيح التام، كما لو شهد عدلان على البيع مطلقاً، فهو محمول على الصحة.
هذه طريقة.
__________
(1) معدِنه: أي مقره، وأساسه ومنبعه صُلْب الرجل، إشارة إلى قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7].
(2) ر. المختصر: 4/ 144.
(3) (ت): والقول قول المقذوف والقاذف أن يحلف.
(4) في الأصل: قول المقذوف يحلف بالله لا يعلم.
(5) (ت 2): في الالتزام وإن ثبت.

(15/20)


ومن (1) أصحابنا من قال: إن ثبت أنه كان يجن، فالقول قول القاذف [وللمقذوف أن يحلّفه] (2) بالله تعالى ما قذفه في حالة عقله.
وإن لم يعهد له جنون فيما سبق، فإن ادعى أن القذف كان منه في جنونه، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن القول قول القاذف؛ فإن الأصل براءتُه.
والثاني - القول قول المقذوف؛ فإن القذف ثبت، والأصلُ عدمُ الجنون، وهذا يقرب من تقابل الأصلين.
9634 - فإذا جمعنا الطرق، انتظم منها أقوال: أحدها - أن القول قول المقذوف في كل حال.
والقول الثاني - أن القولَ قولُ القاذف في كل حال.
والقول الثالث - أنه إن عهد جنون، فالقول قول القاذف، وإن لم يعهد جنون، فالقول قول المقذوف.
ثم إذا جعلنا القولَ قولَ المقذوف، ورأينا التفريع على هذا، فلو أقام القاذف بينة أنه قذف في حالة الجنون، وأقام المقذوفُ بيّنةً أنه قذف في حالة الإفاقة، فإن كانت البينتان مطلقتين، أو كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين، أو إحداهما مُطْلَقة والأخرى مؤرخة، فليست البينتان متعارضتين، بل هما محمولان على قذفين، فيثبت القذف بالإضافة.
وإن كانتا مؤرختين بتاريخٍ واحد -مع التضييق في التصوير-[فالبينتان] (3)
متعارضتين، وفي البينتين المتعارضتين قولان: أحدهما - أنهما يتساقطان. والثاني - أنهما يستعملان.
ثم للشافعي رضي الله عنه ثلاثة أقوال في كيفية الاستعمال إذا لم نحكم بالتهاتر (4): أحدها - قوْل القسمة.
__________
(1) هذه هي الطريقة الثانية.
(2) في الأصل: فالقول قول القاذف يحلف بالله ما قذفه ... إلخ.
(3) في النسختين: والبينتان.
(4) بالتهاتر: أي بالسقوط: سقوط البينتين بسبب تعارضهما.

(15/21)


والثاني - قول القرعة.
والثالث - قول الوقف.
فإن حكمنا بالتهاتُر، فنجعل كأن البينة لم تكن، وإن حكمنا بالاستعمال، فلا تجري القسمةُ والوقف.
وحكى من يوثق به عن القاضي أن قول القرعة يجري هاهنا فنُقرع بين البينتين ونقضي بالتي خرجت القرعة لها.
وهذا بعيد عندنا؛ فإن القرعة يستحيل إجراؤها في إقامة العقوبة، (1 بل الوجه حسم استعمال البينتين 1)، والقطعُ بتهاترهما وردُّ الأمر إلى الحالة التي لا يفرض فيها إقامة البينة.
9635 - ومما يتعلق بالفصل أنه لو أقر بالقذف في مجلس القضاء، ثم قال عنيت بذلك قذفاً صدر مني في جنوني أو صباي، فهذا بمثابة ما لو شهدت بينة على إقراره بالقذف، ولو أقر الرجل ببيعٍ أو غيرِه من عقود المعاملات، فلما راجعناه قال: أردت بذلك أني بعت في صباي أو جنوني، فهو بمثابة ما لو قال: قذفت، ثم ادعى ذلك على ما مضى التفصيل فيه، ثم الفرق بين أن يُعهَد جنونٌ أو لا يعهَد فيه إذا أضاف ما صدر منه إلى حالة الجنون، فإن أضافه إلى حالة الصبا، فهو كما لو أضافه إلى حالة الجنون، وقد كان منه جنون معهود.
فصل
قال: " ويلاعن الأخرس ... إلى آخره " (2).
9636 - قد ذكرنا أن إشارات الأخرس في عقوده وحلوله ومعاملاته تنزل منزلة عبارة الناطق، وبيّنا أن إشاراته تنقسم إلى الصريح والكناية، وأشبعنا القول في هذا في كتاب الطلاق.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(2) ر. المختصر: 4/ 144.

(15/22)


ولم يختلف أصحابنا في شيء إلا في الشهادة، فإن منهم من قال: هو من أهل الشهادة كالناطق، والأظهر أنه مردود الشهادة؛ لأن الشهادة تتعلق بالغير (1) وللشرع تعبُّدٌ باعتبار كمالٍ فيها، ولهذا لا نقبلها من الرقيق.
فإذن الأخرس من أهل القذف، ثم هو من أهل اللعان عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (2).
ويختلج في الصدر إشكالٌ في تأديته كلماتِ اللعان، سيّما إذا عيّنا لفظَ الشهادة، ولم نُقم غيرَها مقامها، فكيف تُرشد الإشاراتُ إلى تفاصيل الصيغ.
والذي ينقدح في وجه القياس، أن كل مقصود لا يتخصص بصيغةٍ من لفظٍ، فلا يمتنع إقامةُ الإشارة فيه مقام العبارة، وما يتخصص بصيغة مخصوصةٍ، فيغمضُ إعراب الإشارة عنها.
ولو (3) كان في الأصحاب من يشترط في الأخرس الكِتْبة (4) إن كان يُحْسِنُها، أو يشترط من ناطقٍ أن ينطق بالصيغة ويشير إليه بها، ويقول: تشهد هكذا وهو في ذلك يقرّره، ويُقرّب (5) الإشارةَ جهده، فهذا يقرُب بعضَ القرب، فأما إشارةٌ مجردة تدل على صيغةٍ مخصوصة لست (6) أهتدي إليها.
9637 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا أشار بالقذف، وأشار بحكم اللعان إن أمكنت الإشارة بها، ثم نطق فانطلق لسانه، وزعم أني لم أُرد بالإشارة قذفاً
__________
(1) (ت 2): تتعلق باللغة.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 508 مسألة 1054، المبسوط: 7/ 42، رؤوس المسائل: 432 مسألة 303.
(3) ولو كان في الأصحاب من يشترط في الأخرس الكِتبة: (لو) هنا للتمني، فالإمام يتمنى لو كان هذا رأياً للأصحاب، حكى الرافعي هذا الكلام عن الإمام، ثم قال: " جاء الغزالي، فقال ما تمنى الإمام أن يكون في الأصحاب من يقوم به، وحكاه في البسيط عن بعض الأصحاب، وهو كالمنفرد بالقول به " ا. هـ كلام الرافعي (ر. الشرح الكبير: 9/ 398).
(4) الكِتْبة: الكتابة (المصباح).
(5) (ت 2): ويقرب الإشهاد جهته.
(6) لستُ: جواب (أما) بدون الفاء.

(15/23)


ولا لعاناً، فلا نقبل ذلك منه، ويكون كما لو صرح بالقذف ناطقاً (1)، ثم أنكر، وهذا لعمري موجَبُ ذلك الأصل، ولكن الأصل في نفسه مشكل.
ولو صرح بالقذف ناطقاً، ثم أُصمِتَ واعتُقِل لسانُه، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: نمهله رجاء أن ينطق لسانُه يومين. ثلاثة، فإن نطق، وإلا حملناه على إشارة الأخرس.
ونقل بعضُ الأصحاب عن الشافعي: أنه يراجَعُ أهلُ البصيرة، فإن قالوا: سينطلق لسانُه، ولكن بعد مدة، ننتظر، ولكن في إطالة الانتظار إبطالُ حق المقذوفة.
وقد اعتمد الشافعي في إشارة الأخرس ما روي أن أمامة بنت أبي العاص أصمتت، فقيل لها: " لفلان كذا، لفلان كذا، فأشارت برأسها أي نعم، فرُفِع ذلك إلى عثمان، فرأى أنها وصية " (2) وهذه تدل على أن من طرق التقريب إلى الفهم مع [اعتقال] (3) اللسان العرضُ على المُعْتَقَلِ لسانُه مع إشارتِه المتضمنة تقريباً.
فصل
قال: " ولو كانت مغلوبة على عقلها ... إلى آخره " (4).
9638 - نجمع بعون الله في هذا الفصل القولَ في القذف الذي يتعلق به اللعان، والذي لا يتعلق.
فأما القذف الذي يتعلق به اللعان، فأصله أن يجري في النكاح غيرَ مضافٍ إلى زناً
__________
(1) لم يتعرض الإمام لما لو اعترف بالقذف ولكنه قال: لم أرد لعاناً، وقد قال الرافعي: إذا قذف ولاعن بالإشارة، ثم عاد نطقه، وقال: لم أرد لعاناً بإشارتي، قبل فوله فيما عليه، حتى يلحقه النسب، ويلزمه الحد، ولا يقبل فيما له حتى لا ترتفع الفرقة، ولا التحريم المؤبد، وله أن يلعن في الحال، لإسقاط الحد، وله اللعان لنفي النسب أيضاًً إذا لم يمض من الزمان ما يسقط فيه حق النفي. ولو قال: لم أرد القذف أصلاً، لم يقبل قوله؛ لأن إشارته أثبتت حقاً لغيره ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/ 398).
(2) حديث وصية أمامة سبق تخريجه في الوصية.
(3) في الأصل: اعتقاد.
(4) ر. المختصر: 4/ 145.

(15/24)


متقدم على النكاح، والقذف المطلق في النكاح ينقسم إلى ما يوجب (1) الحدَّ، وإلى ما يوجب التعزير، فأما ما يوجب الحدَّ، فيتعلقُ به جواز اللعان.
ولكن المرأة لا تخلو إما أن تطلب الحد وإما أن تعفو عنه، وإما ألا تطلب الحدّ ولا تعفو، فإن طلبت، الْتعن الزوج، واندفع الحد عنه، ثم يُعرض اللعان عليها، فإن التعنت، اندفع حدّ الزنا عنها، وإن نكلت، حُدّت حدَّ الزنا، وإذا كان القذف بحيث يوجب الحدّ على القاذف، فالذي وقعت النسبةُ إليه يوجب حدَّ الزنا على المقذوفة، لو تحقق.
وإن عفت عن الحد وأسقطته، فلا يخلو: إما أن يكون ثَمَّ ولدٌ متعرض للثبوت لا ينفيه إلا اللعان أو لا يكون. فإن تعرض نسبٌ للثبوت، فالزوج يلتعنُ لا محالة؛ فإن المقصود الأظهر من اللعان نفيُ النسب المتعرض للثبوت.
يان لم يكن ثَمّ ولد، فهل يلاعن الزوج، [وقد] (2) عفت المرأة عن حد الزنا؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يلاعن؛ فإنه ليس في اللعان غرضٌ ظاهر، وهو أُثبت في الشرع حجةً للضرورة؛ ولا نسبَ ولا عقوبةً (3)، فلا معنى للعان.
والوجه الثاني - أنه يلاعن حتى [يَرْحَضَ ويغسل العارَ عن نفسه] (4)، ويرَّد العار إليها، وقد تنكُل، فتلتزم حدَّ الزنا.
فأما إذا كان القذف موجباً للحد، فلم تطلبه المرأة ولم تعْف، فالفذهب الصحيح أن الزوج له أن يلتعن.
وقال بعض أصحابنا: لا يثبت الالْتعان ما لم تطلب الحدّ؛ فإنّ اللعان أُثبت لدَرْء الحدّ ونفي النسب، ولا نسب في المسألة، وليس الحد مطلوباً، فيدرَأ.
والأصح أنه يلتعن حتى ينقطع توقُّع طلبها.
هذا كله إذا كان القذف موجباً للحد.
__________
(1) (ت 2): إلى موجب الحد.
(2) في الأصل: فقد.
(3) أي لا ضرورة لدرء العقوبة، ولا لنفي النسب.
(4) في الأصل: حتى يَرْحَضَ العار ويغسل عن نفسه.

(15/25)


9639 - وأما إذا لم يكن موجباً للحدّ، ولكن كان يقتضي تعزيراً، فالذي نقدمه أنه إذا كان في الواقعة نسبٌ، وهو يبغي نفيَه، فيلاعن كيف فرض الأمر، سواءٌ طلبت أو لم تطلب، عَفَتْ أو لم تَعفُ، سواءٌ كان التعزير تعزيرَ التكذيب أو تعزيرَ التأديب، على ما سنبين انقسامَ التعزير؛ وذلك أن أعظم المقاصد نفيُ النسب، كما ذكرناه، وهو ثابت، فلا مبالاة مع تعرض النسب لغيره.
وإن لم يكن في الواقعة نسبٌ والقذفُ موجِبُ التعزير، فلا يخلو التعزير إما أن يكون تعزيرَ التكذيب، وإما أن يكون تعزيرَ التأديب، وتعزيرُ التكذيب هو الذي يستوجبه الرامي، وهو مكذَّب في رميه في ظاهر الشريعة، والتعزيرُ يقام لتحقيق تكذيبه، وهو نحو أن يقذف الرجل أمةً أو كتابيةً، فلا حد، ولكنه يلتزم التعزيرَ تكذيباً له.
والنوع الآخر تعزيرُ التأديب، هو أن يقذف امرأةً بزنا قد ثبت عليها من قبلُ: إما ببينةٍ أو إقرار، وقد أقيم عليها حدُّ الزنا، فالرامي يستوجب التعزيرَ؛ من جهة تعرضه لها بالإيذاء، وليس المقصد من هذا التعزير إظهار تكذيب الرامي؛ فإنه مصدَّقٌ، وإنما الغرض منعُه عن معاودة مثل ذلك على طريق التأديب.
فأما تعزيرُ التكذيب فنصوّر فيه ثلاثَ مسائل: إحداها - أن يكون القذف متضمناً تعزيراً والطَّلِبةُ متوجهةٌ به، وذلك مثل أن يقذف الزوج زوجتَه الأمةَ أو الذميّةَ، وطلبت التعزير، فالمذهب الذي قطع به الأئمة المعتَبَرون أن للزوج أن يلاعنَ، ويرفعَ عن نفسه التعزيرَ؛ فإنه عقوبة تتعلق بالطلب كالحد، فإذا طلبته، كان له رفعُه باللعان، وفي بعض التصانيف ذكر خلاف في هذا؛ من حيث إن الواقعة عريةٌ عن نسبٍ متعرض للثبوت، وعن عقوبةٍ لها وقعٌ، وهي الحد. وهذا مما لا يجوز الاعتدادُ به، والوجه بناء المذهب (1) على القطع بجريان اللعان إذا فرض طلبُ (2) التعزير الذي يُثبت تكذيباً من المرأة.
__________
(1) (ت 2): بناء الأمر.
(2) (ت 2): إذا فرض الطلب والتعزير الذي يثبت تكذيباً.

(15/26)


*وأما (1) إذا لم يتوجه الطلب، فهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها - أن تعفوَ المقذوفةُ عن التعزير، فإن كان كذلك، فهل يلاعن الزوج؟ فعلى وجهين قدمنا توجيههما ومأخذهما.
والقسم الثاني أن تكون المقذوفةُ بحيث لا يَتأتى منها الطلب، وذلك بأن تكون مجنونةً أو صغيرةً، ولا ينوب غيرُ المقذوفةِ مقامَها في طلب التعزير وفاقاً، فإذا أراد الزوج أن يلتعن قبل أن تبلغ المقذوفة مبلغَ الطلب: بإفاقةٍ أو بلوغٍ، فهل له ذلك؟ فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا عَفَتْ المقذوفةُ، وكانت من أهل العفو، وهذه الصورة أولى بأن يثبت اللعان فيها؛ فإن الزوجَ لا يأمن توجُّهَ الطّلِبة عليه بالتعزير إذا زال المانع الذي بالمقذوفة.
ولو كانت المقذوفة من أهل الطلب، فلم تعف، ولم تطلب، وسكتت، فأراد الزوج أن يلْتعن قبل أن تطلب، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا كان بها مانع من الطلب، كالصغر والجنون، وهذه الصورة الأخيرة أولى بجريان اللعان من التي قبلها؛ فإن التعزير متعرضٌ للإقامة وهي مستمكنةٌ من الطلب متى شاءت.
هذا تفصيل القول فيه إذا كان القذف موجباً لتعزير التكذيب ولا نسبَ.
9640 - فأما إذا كان القذف موجباً لتعزير التأديب، وذلك مثل أن ينسب الزوج زوجته إلى زناً كان قد ثبت عليها ببيّنة أو إقرار، وأقيم الحد، فإذا نسبها الزوج إلى ذلك الزنا، استحق التعزير، من جهة انتسابه إلى إيذائها، فلو طلبت المرأة التعزير، فهل يلتعن الزوج في هذا النوع من التعزير؟ هذا مما اختلف النص فيه، فالذي حكاه المزني عن الشافعي أنه قال: " عُزّر إن طلبت ذلك، ولم يلتعن " (2) وظاهر الكلام أنه ليس له الالتعان أصلاً وإن طلبت التعزير.
وحكى الربيع عن الشافعي أنه قال: " عُزر إن لم يلتعن، فأثبت له اللعان لدرء
__________
(1) هذه هي المسألة الثانية أو الصورة الثانية في تعزيز التكذيب، من الصور الثلاث التي وعد بها.
أما الصورة الثالثة فقد اندرجت في أقسام الصورة الثانية، وعنى بها القسم الثالث، وهو أن تكون المقذوفة من أهل الطلب، ولم تعف، ولم تطلب.
(2) ر. المختصر: 4/ 146.

(15/27)


التعزير "، واختلف الأصحاب على طرق: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أنه يثبت اللعان كما يثبت في تعزير التكذيب في صورة الطلب، ويحمل لعانه أيضاً على قطع النكاح ودفع العار.
والقول الثاني - ليس له اللعان أصلاً؛ فإن اللعان بيّنةٌ خاصة متضمَّنُها تحقيق القذف، ولا معنى لهذا فيما نحن فيه؛ فإن الزوج مصدَّق فيما نسبها إليه، فلا يستفيد باللعان تصديقاً، ويخرج اللعان عن [وضعه] (1)، [و] (2) التعزير إنما أُثبت في هذا المقام تأديباً (3)، وهو مع اللعان [حريّ] (4) بالتأديب، فيجب ألا يكون للعان أثر في دفعه.
ومن أصحابنا من صوّب المزني وغلّط الربيع، ونفَى اللعان، وهذا هو القياس الحق، وهو الذي نبهنا عليه في توجيه أحد القولين في الطريقة الأولى.
ومن أصحابنا من صوّب الربيع وأوّلَ كلام المزني على ما سنصفه، وقال: الأصل في اللعان قذفٌ يصدر من الزوج يسوِّغ له الإقدامَ عليه، ليبتني عليه قطعُ النكاح باللعان الذي يتضمن غسلَ العار، وهذا المعنى متحقق فيما نحن فيه، وأوّلَ كلامَ المزني وحمله على موافقة منقول الربيع، فقال: قوله: " عزر إن طلبت ذلك، ولم يلتعن " (5 فيه تقديمٌ وتأخير، والتقدير عُزّر إن طلبت التعزَير، ولم يلتعن 5)، وهذا يقع على هذا التأويل على معرض الإخبار بأنه لا يلتعن معطوفاً على الشرط في قوله: إن طلبت، فكأنه قال: إن طلبت، المرأة، ولم يلتعن الزوج عُزِّر.
وهذا لا حاجة إليه، وقصاراه حمل منقول المزني على موافقة ما لا وجه له في الصحة؛ فإن اللعان إذا كان لا يفيد تصديقاً، فهو حائدٌ (6) بالكلية عن وضعه، وتغليط
__________
(1) في النسختين: وصفه.
(2) (الواو) زيادة من (ت 2).
(3) (ت 2): أثبت في هذا المقام ندماً.
(4) كذا. ويمكن أن تقرأ (جريٌ)، وضبطت في الأصل بضمة على الحاء وأخرى على الياء المشددة، والمعنى غير مستقيم، (وانظر صورتها) عسى أن يلهمك الله قراءتها الصحيحة.
(5) ما بين القوسين سقط من (ت 1).
(6) (ت 2): جائز.

(15/28)


الربيع هو الأولى، ولا يتوجه في القياس إلا نفي اللعان.
9641 - ثم يتعلق بتمام البيان في ذلك أمران: أحدهما - أنا إن نفينا اللعان فالتعزيرُ متوجه على الزوج تأديباً، ثم اختلف جواب الأئمة في أن هذا النوع من التعزير هل يتوقف على طلب المقذوفة؟ فمنهم من قال: لا بد من طلبها؛ فإنها المقصودةُ بالأذى، فعلى هذا يسقط بإسقاطها.
ومنهم من قال: لا يتوقف هذا على طلبها؛ والصادر من الزوج سوء أدب يستوجب (1) به من طريق الإيالةِ والسياسةِ تأديباً، وهو بمثابة ما لو قال الرجل: " الناس زناة "، فالسلطان يؤدبه، وإن كان لا يُفرضُ طلبُ التأديب من أحد.
وهذا غيرُ مرضيّ.
والوجه القطع بتعلّق التعزير بطلبها؛ فإنها مخصوصةٌ بهذا الإيذاء، ولفظ الشافعي رحمه الله مصرّح بهذا؛ فإنه قال: " عُزّر إن طلبت ذلك ".
وإنما يليق التردد بصورة أخرى: وهي أن الرجل إذا قال لامرأته: زنيتِ وأنت بنت شهر، أو بنت يوم، فالذي ذكره غيرُ ممكن الوقوع تصوّراً، وهو متعرض للتعزير، وفيه ظهر اختلاف الأئمة في أن هذا التعزير هل يتعلق بطلبها؟ ووجه تخريج الخلاف أنها لا [تتعيّر] (2) إذا نُسبت إلى مُحال، وليس كذلك إذا ما جدد ذكر الزنا، فالتأذّي لاحق.
فهذا بيان القول في الطلب.
9642 - ومما يتم الغرض به: أنا إذا قلنا: لا يتعلق التعزير بطلب المذكورة، فالسلطان يتولاه، وإن قلنا: لا بد من طلبها، فقد يعترض في هذا أمر، وهو أن قائلاً لو قال: ما الذي يمنع السلطان من زجر هذا عن معاودة أمثال ما نطق به تعلّقاً بالسياسة الكلية؟ قلنا: إذا رأينا ذلك متعلِّقاً بالطلب، فالوجه في هذه الواقعة ألا
__________
(1) عبارة (ت 2): ومنهم من قال: لا يستوجب به من طريق إيالة والسياسة.
(2) في الأصل: تتعسر، و (ت 2): تعتبر. والمثبت من المحقق.

(15/29)


يبادره السلطان بالتعزير، بل يصبر إلى أن يتبين (1) الطلبَ؛ لأنه لو ابتدر بالعقاب، لكان تاركاً حقَّ مَنْ له حق الطلب، وهذا إجحافٌ به، فإن الشرع إذا ربط شيئاً بطلبِ طالبٍ، فهو على غرضٍ في التردد بين الصفح والطلب، [وتفويتُ] (2) هذا عليه إبطال حقه.
فإن قلنا: لا يتعلق هذا التعزير بالطلب، فلا تنقسم المسألة، وإن قلنا: يتعلق التعزير بالطلب، وفرعنا على أنها لو طلبت، لالْتعن الزوج، فلو عفت، فوجهان، ولو لم تعف، ولم تطلب، فوجهان مرتبان على النسق المقدم.
وكل ذلك والقذف مُنْشأٌ في النكاح، من غير إضافة الزنا إلى ما قبل النكاح.
9643 - فأما إذا قذف امرأته بزناً أرّخه بزمانٍ متقدم على النكاح، فقال: زنيتِ قبل أن نكحتك، فلا يخلو إما أن يكون في الواقعة ولدٌ يحاول نفيه، وإما أن لا يكون ولد.
فإن لم يكن، فقد قطع الأصحاب بأنه لا يلتعن (3)؛ فإنه تعرض لنسبتها إلى الفاحشة في وقتٍ لم تكن فراشَه [فيه] (4)، وإنما أُثبت اللعان للزوج في مقابلة تلطيخها فراشه. هذا متفق عليه، ولا فرق بين أن يكون القذف موجباً حدّاً أو تعزيراً.
فأما إذا كان في الواقعة مولود والزوج يحاول نفيه، فإذا قذفها بزنا متقدمٍ على النكاح، ورام أن ينسب الولدَ إلى العلوق من ذلك الزنا، فهل يجوز له أن يلاعن والحالة هذه؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يجوز -وهو الظاهر- لضرورة نفي النسب المتعرض للثبوت، والزنا وإن أرّخه قبل النكاح، فضرورة الولد حاقّة في النكاح، ونحن نُثبت اللعان لنفي الولد الكائن في نكاح الشبهة، فلا يبعد ثبوته، وإن تأرّخ الزنا بما قبل النكاح.
__________
(1) (ت 2): يتبين الأمر.
(2) في الأصل: وتقريب هذا، (ت 2) والقريب هذا. والمثبت من المحقق، إلهاماً من فضل الله.
(3) (ت 2): بأنه يلتعن.
(4) في الأصل: منه.

(15/30)


والوجه الثاني -وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي- أنه لا يلاعن ويلحقه النسب؛ فإن عماد اللعان قذفٌ يتضمن نسبتَه إلى تلطيخ الفراش الكائن.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى إلحاق النسب به، كان الجواب أنه المقصّر؛ إذ أرخ الزنا، ولو أطلق النسبة إلى الزنا، ولم يتعرض لتأريخه، لأمكنه أن يلتعن، وينفي النسبَ، فهو الذي فوّت على نفسه الدّفعَ الذي أثبته الشرع [له] (1).
9644 - ومما يتعلق بتتمة الفصل أنه إذا قذفها (2) بعد البينونة وارتفاع النكاح؛ فإن كان ثَمّ ولد متعرض للثبوت، فله اللعان.
وإن لم يكن ثَمّ ولد، فلا سبيل إلى اللعان، سواء أطلقَ القذفَ، أو أضافه إلى النكاح المرتفع؛ فإنه لا حاجة إلى القذف، ولا فراش ولا نسب.
وكذلك لو نكح امرأة (3) نكاحاً فاسداً وقذفها، فإن كان ثَمّ ولدٌ يريد نفيه، فله اللعان عندنا، ثم حيث يلتعن لنفي النسب ولا نكاح، فإذا انتفى النسب، (5 اندفع الحدّ تبعاً؛ فإن اللعان حجة [متضمنها] (4) إثبات الزنا، ويستحيل أن تقوم حجة شرعية 5) على الزنا، ويقع القضاء بصحتها، ثم يُحدّ الناسب إلى ذلك [الزنا] (6).
ولو نكح امرأة وقذفها، وهو على اعتقاد الصحة في النكاح، فالْتعن [ولا] (7) ولد ثم يتبين فساد النكاح، فهل يُقضَى باندفاع الحد والحالة هذه؟ فعلى وجهين أوردهما المحققون من المراوزة: أحدهما - أن الحدّ يجب؛ فإنا تبيّنا بالأَخَرة (8 فسادَ اللعان، ولو علمنا ذلك ابتداءً، لمنعنا من الإقدام على اللعان، فإذا بان آخراً، تبيّنا 8) فساد اللعان.
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(2) (ت 2): فارقها.
(3) (ت 2): امرأته.
(4) في الأصل: " متضمناً " وهي ضمن الساقط من (ت 2).
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(6) زيادة من (ت 2).
(7) في الأصل: فلا.
(8) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

(15/31)


والوجه الثاني - أن الحد يندفع؛ لأنه جرى في مجلس القاضي ما هو في الشرع تصديق القاذف، فيبعُد مع جريانه إقامةُ الحدّ، وإذا علمنا فساد النكاح، لم نتركه يلتعن.
ثم مهما (1) جرى اللعان في بينونةٍ أو نكاح فاسد لنفي النسب، فالمرأة هل تلتعن؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنها تلتعن في مقابلة لعانه، كما لو كانت في نكاح صحيح.
والثاني - أنها لا تلتعن؛ فإن اللعان حيث لا نكاح مقصوده نفي النسب، ولا حاجة إلى لعانها في نفي النسب؛ فإنها (2) تتعرض لإثبات النسب في مضادة الرجل النافي، فيبعد إثبات اللعان في حقها.
فإن قلنا: إنها لا تلتعن، فلعان (3) الزوج لا يُثبت عليها الحدَّ، فينحصر الغرضُ (4) من هذا اللعان في نفي النسب، ثم يتبعه انتفاءُ الحد عن القاذف، وذلك أنا لو ألزمناها الحد، لكان ذلك إرهاقاً منا إياها إلى الحدّ على وجهٍ لا تجد له مَدْفَعاً، فهذا لا يليق بموضوع اللعان ومحاسن الشرع.
وإن قلنا: إنها تلتعن، فإن امتنعت عن اللعان، حُدّت، كما لو امتنعت عن اللعان في صلب النكاح.
ثم إذا جرى اللعان في بينونةٍ أو نكاح فاسد، فهل يفيد [اللعانُ] (5) [الحرمةَ] (6) المؤبدة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يفيده؛ طرداً لهذا الحكم مهما جرى اللعان على الصحة.
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) (ت 2): فلها متعرض.
(3) (ت 2): كلعان الزوج.
(4) (ت 2): العوض في هذا اللعان.
(5) في النسختين: النكاح.
(6) في الأصل: الحريّة.

(15/32)


والوجه الثاني - أنه لا يتضمن التحريم؛ فإنه لم يرد على نكاحٍ، والحرمة المؤبدة (1) معلّقةٌ بلعانٍ يتضمن قطعَ نكاح.
وقد انتجز ما أردنا جمعه في هذه القواعد، وإنما جمعناه لأنه مبثوث في الكتاب من غير انتظام، فرأينا أن يُلفى في مكانٍ واحد.
9645 - ثم نعود إلى ترتيب السواد ومسائله.
فإذا قذف الرجل زوجته المجنونة، فإن كان ثَمّ ولد، فله نفيُه باللعان، وتقع الفرقة وتتأبد، ويندرىء التعزير.
وإن لم يكن ثَمّ ولد، ففي جواز اللعان الوجهان المذكوران، فلا شك أنها ليست من أهل الطلب في الحال، ولا يقوم وليها مقامَها في الطلب؛ لأن هذا أُثبت ليشفيَ (2) الغيظَ ودَرْكِ الثأر كالقصاص، فلا سبيل إلى التفويت (3).
فإن قلنا: لي له اللعان، [فلو لَمْ] (4) يتفق حتى أفاقت، فلها طلب التعزير، وللزوج الدرء باللعان الآن، على المذهب الذي يجب القطع به.
ولو قذفها وهي مُفيقة (5)، فجُنَّت قبل اللعان، فإن كان ثَمّ ولد الْتعن الزوج، ولم يؤخّر، فإن لم يكن ولد وقد تعذر الطلب، ففي جواز اللعان الخلاف المقدم.
ولو قذفها في حالة الجنون بزناً في حالة الإفاقة، فهذا القذف موجِبٌ للحد، نظراً إلى وقت الإضافة، ولا اعتبار بصفة المقذوف في الحال (6)، وهذا بمثابة قذف الميت مستنداً إلى حياته، فإنه موجبٌ للحدّ، حملاً على التأريخ بالحياة، وكذلك القول في الجنون والإفاقة، غيرَ أنها إذا كانت مجنونة، لم تطلب، ولم ينُب عنها في الطلب
__________
(1) (ت 2): المترتبة.
(2) (ت 2): لنفي التغيظ.
(3) (ت 2): التقريب.
(4) في النسختين: لو لم.
(5) (ت2): معتقة.
(6) (ت 2): في كل حال.

(15/33)


أحد، فلو ماتت المجنونة قبل الإفاقة، قام بطلب الحد من يرثها الحدَّ، وللزوج اللعان لدرء الحد بعد موت الزوجة.
ولو قذفها وهي مجنونة، فموجَب القذف التعزير إذا لم يؤرِّخ الزنا بالإفاقة، فلو ماتت ورث التعزيرَ (1 من يرث الحد، ثم أَمْر اللعان على ما ذكرناه.
9646 - وإذا قذف امرأته الأمة، فطلبُ التعزير 1) إليها دون مولاها؛ لأن التعزير يجب [للاعتداء] (2) على العِرْض، ولا حق للمولى في عِرض المملوك، وإنما يملك منها ومن العبد ما يعود إلى المالية، والعِرْض والذمة خارجان عن ملك المولى، وعلى هذا قال فقهاؤنا: لو قذف السيد عبده، وجب للعبد على المولى التعزير، لأنه تصرّف فيما ليس له، وكان كما لو قذف مملوكَ الغير، وليس كالقصاص؛ فإن الجناية تَرِد (3) على الرقبة، وهي معدن المالية.
ويجوز أن يقال: لا يملك العبد طلبَ التعزير من مولاه، ولكن إذا شكاه، قيل له: لا تُؤذه، فإن أبى، كان كما لو زاد على الحدّ في الاستخدام.
والأوجه ما ذكره الأولون.
ولو قذف زوجته الأمةَ، فماتت قبل أن تطلب، فهل لمولاها طلب التعزير بعد موتها؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له ذلك؛ فإنه لا يخلفها (4)، وإنما الوارث يخلف موروثه الحرّ بسببٍ أو نسب.
والثاني - له حق الطلب؛ فإنه أخص الناس به، واختصاصُه قطَع سائرَ جهات الاختصاص عنه، حتى قطع اختصاصَه بنفسه، وما الوراثة إلا ضربٌ من الاختصاص.
9647 - وكل ما ذكرناه ينبني على مذهبنا في أن حدّ القذف موروث، وهذا الأصل
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(2) في الأصل: للاعتراض. وفي (ت 2): للإعراض. والمثبت اختيار من المحقق.
(3) (ت 2): تردد على الذمة.
(4) ت 2: لا يلحقها.

(15/34)


متفرّع على أن حد القذف حقٌّ للآدمي، وليس حقّاً لله تعالى، خلافاً لأبي حنيفة (1) وأقرب نتيجةٍ لهذا الأصل مسألتان: إحداهما - أن من قُذف فلم يطلب الحدّ حتى مات، ورثه ورثتُه على ما سنفصله، وعند أبي حنيفة لا يرثونه مع قوله: إن من قذف ميتاً، فلورثته طلب الحد.
والنتيجة الثانية - العفوُ والإسقاط، فعندنا يسقط حدُّ القذف بإسقاط المقذوف، إذا كان من أهل الإسقاط، خلافاً لأبي حنيفة.
ثم إذا قضينا بكَوْن الحد موروثاً، فقد اختلف أصحابنا فيمن يرثه: فمنهم من قال: يرثه جملةُ الورثة: من يتعلق منهم [بالنسب] (2) ومن يتعلق بالسبب.
ومنهم قال: يختص وراثته بمن يتعلق بالنسب؛ فإن الذب عن العِرضِ يتعلق بالذب عن النسب، فاتجه اختصاصه بأهل النسب.
ومن أصحابنا من قال: يختص بعصبات النسب، وهم الذين يثبث لهم حق التصرّف في ولاية التزويج.
فإذا فرعنا على هذا، فلا شك أن الأب يستحق، وفي الابن كلامٌ: من أئمتنا من ورّثه وجعله على ترتيبه في العصوبة، وقدّمه على من عداه.
ومنهم من لم يُثبت له هذا الحق، كما لا يثبت له حق ولاية التزويج.
ولو فرض القذف بعد الموت (3)، فالمقذوف الميتُ، والطالب بالحد من يرثه لو وجب في حياة المقذوف.
ورتب الأئمة الزوجين والقذفُ مُنشَأٌ بعد الموت عليهما والقذفُ في حالة الحياة، والصورة الأخيرة أولى بقطع الاستحقاق، والفرق أن القذف جرى في الحياة والسبب قائم وهو الزوجية، وهاهنا أنشأ القذف بعد ارتفاع [السبب] (4).
__________
(1) ر. رؤوس المسائل: 436 مسألة 307، طريقة الخلاف: 219 مسألة 88، إيثار الإنصاف: 218.
(2) ساقطة من الأصل.
(3) ت 2: ولو فرض القذف فالمقذوف الميت ويطالب بالحد ...
(4) في الأصل: النسب.

(15/35)


9648 - وإذا ثبت حد القذف بحق الورثة لجماعة، فعفا واحد منهم، ففي المسألة أوجه: أظهرها - أن للباقين استيفاء الحد بكماله، ولم يؤثّر عفوُ من عفا، لأنه ثبت للورثة، فلا سبيل إلى إسقاط حقوق الطالبين لا إلى عِوض، بخلاف القصاص.
والثاني - تسقط حقوق الباقين، كما تسقط حقوقهم عن القصاص إذا عفا بعض المستحقين.
والوجه الثالث - أنه يسقط بإسقاط من عفا مقدار حقه لو قُدّر التوزيع عليهم، حتى إذا كان الحد بين ابنين، فعفا أحدهما، سقط بعفوه أربعون جلدة، وبقي مثلها للابن (1) الذي لم يعف.
وهذا الذي ذكرناه الآن تنبيهٌ على التراجم، وسنعود إلى هذا الفصل قاصدين، إن شاء الله عز وجل، فإذ ذاك نوضح الأصول والتفريعات، إن شاء الله عز وجل.
ومن قذف [موروثَه] (2) فمات المقذوف، سقط الحد بوراثة القاذف، ولا يتصور فرضُ هذا في القصاص؛ فإن من جَرَح موروثَه، فمات، فالقصاص قائم عليه؛ فإنه قاتل والقاتل محروم عن الميراث.
9649 - ثم قال الشافعي رحمه الله: " ولو التعن وأبَيْنَ اللعان ... إلى آخره " (3).
فَرَضَ الشافعيُّ [اللعان] (4) في جمعٍ من النسوة، والحكم. لا يختلف، ومقصود الفصل الكلامُ في امتناع أحد الزوجين من اللعان، فإن امتنع الزوج (5) -والقذف موجِبٌ للحدّ- حُدّ حدَّ القذف.
وإن التعن الزوج وامتنعت، حُدّت حدَّ الزنا، ولا حاجة إلى تفصيل الحدود؛ فإنها ستأتي في كتابٍ، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) ت 2: في الآخر.
(2) في الأصل: مفروضه.
(3) ر. المختصر: 4/ 145.
(4) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام.
(5) ت 2: فإن امتنع الزوج من القذف حدّ حَدّ القذف.

(15/36)


فصل

قال: " ولا أَجبُر الذمّيةَ على اللعان إلا أن ترغب في حُكْمنا ... إلى آخره " (1).
9650 - إذا قذف الرجل امرأته الذمية ولاعَن، عُرض اللعان عليها، فإن أبت نصّ الشافعي على أنها لا تجبر على اللعان، ولا تُحد، فإن رضيت بحكمنا، حكمنا عليها حينئذ. هذا هو النص.
واختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قال: هذا يخرّج على القولين المذكورين في أن أهل الذمة هل يُجبرون على أحكامنا، وقد قدمنا هذا الأصلَ، وسيأتي استقصاؤه في أدب القضاء، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا: إنهم مُجْبَرون، فالذمية مجبرة على اللعان، سخطت أم رضيت، حتى إذا امتنعت، قضينا عليها بما نقضي به على المسلمة الناكلة عن اللعان.
والثاني - أنها لا تجبر.
ومن أصحابنا من قطع (2) القول بأنها لا تجبر على اللعان إلا أن ترضى بحكمنا، وهذا هو الذي صححه المحققون؛ لأنه لا يبقى بعد لعان الزوج إلا ما يتعلق بمحض حق الله تعالى، وحقوقُ الله تعالى مبناها على المسامحة، فلو حملناها على اللعان، لكان ذلك حملاً على أمرٍ مالُه -لو فرض النكولُ- إقامةُ حد الله تعالى، وكان هذا الطرف ليس متعلقاً بحق الزوج، وليس معدوداً من خصومة الزوج.
وألحق الأئمةُ بهذا أمراً بدعاً به تَبين القاعدةُ، فقالوا: إذا كان التلاعن بين مسلمين، فالتعن الزوج، لم يتوقف عرض اللعان عليها على طلبه، حتى لو رضي بأن لا يعرض اللعان عليها، لم نبال به، وقيل لها: قام عليك حجةٌ، فادرئيها، تسْلمي، وإن أبيتِ، أقمنا عليك حدَّ الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 145.
(2) هذا هو الطريقة الثانية.

(15/37)


ومن لطيف المذهب في هذا أن الخصومة إذا دارت بين المسلم والذمّي، فقد اتفق الأصحاب على أن الذمِّي محمولٌ على حكم الإسلام.
وهاهنا تردُّد، والتردد الذي ذكرناه سببه انقطاع جانبها عن جانبه، فليلتعن الزوج، وليتركها.
نعم، إن قذف الذمّي زوجتَه الذمية، ففي إجبار الزوج على اللعان إذا طلبت من غير أن ترضى بحكمنا القولان المشهوران في أن أهل الذمة هل يُجبرون على أحكام الإسلام؛ فإن اللعان في جانبه ومطالبته بالتعزير يتعلق بحقوق الآدميين.
9651 - ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " لو كانت امرأة محدودة في زنا، فقذفها بذلك الزنا ... إلى آخره " (1).
وهذا هو الفصل الذي أدرجناه في أثناء الأصل الذي ذكرناه، وأتينا به مقرَّراً، فلا حاجة إلى إعادته.
9652 - ثم قال الشافعي رحمه الله: " وإن أنكر أن يكون قذفها ... إلى آخره " (2). إذا ادّعت المرأة على زوجها أنه قذفها، نُظر: فإن سكت الزوج، ولم يُحِرْ جواباً، قام سكوته مقامَ الإنكار (3) في سماع البينة عليه، فإذا أقامت شاهدين على أنه قذفها، فله أن يلتعن، فإنه لم يصرح بإنكار القذف، وإنما أقمنا سكوته مقام الإنكار في قبول البيّنة، وهو ليس بإنكارٍ على الحقيقة، والبينة تسمع لعدم الإقرار، لا لحقيقة الإنكار.
ولو قال الزوج لما ادّعت القذفَ: ما قذفتُك وما زنيتِ، فأقامت شاهدين على أنه قذفها ونسبها إلى الزنا، فليس للزوج أن يلتعن، فإنه قد أنكر القذف وبرّأها؛ إذ قال: ما زنيتِ، واللعان يستدعي قذفاً.
فإن أنشأ قذفاً، التعن، ثم لا يتوجه عليه الحد بالقذف الذي ثبت وأنكره؛ فإن
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 146.
(2) ر. السابق نفسه.
(3) ت 2: الإمكان.

(15/38)


اللعان يُثبت الزنا [عليها] (1) ولا يتصور مع ذلك أن نطالبه بالحد.
ولو قال الزوج لما ادعت القذفَ: ما قذفتُك، فأقامت شاهدين أنه قذفها، فللزوج أن يلتعن، فإن قوله ما قذفتك يمكن حمله على أن الذي تقدم مني لم يكن قذفاً، وإنما كان قولاً حقّاً، فإذا ذكر الزوجُ هذا التأويلَ الذي ذكرناه، وأراد الالتعان من غير قذفٍ جديد، فله ذلك.
ولو قال: ما قذفتك، فلما قامت عليه البينة، لم يذكر التأويل الذي ذكرناه، ولم يجدد قذفاًً، فهل له أن يلاعن؟ فعلى وجهين: أحدهما - ليس له اللعان؛ لأنه يصير [بهذا] (2) مكذباً نفسه، وقد أنكر أصل الرّمي، وعلى إنكاره قامت البينة، فكيف يقول: " إني لمن الصادقين فيما رميتها به "- وما كان رماها (3 بزعمه.
والوجه الثاني - له أن يلاعن؛ لأنه وإن أنكر القذف 3)، فقوله مردودٌ عليه بالبينة، فصار كأنه لم يكن.
وشبه هؤلاء هذه المسألة بما لو اشترى شيئاً، فظهر [أنه] (4) مستحَق، وقامت الخصومة، فقال: المشتري للمستحِق في أثناء الخصومة: هذا الشيء كان ملك فلان، فاشتريته منه، فإذا قامت البينة على الاستحقاق، وانتُزِع الشيء من يده، فله أن يرجع بالثمن على البائع، وإن كان أقر له بالملك في أثناء الخصومة؛ لأن إقراره رُدّ عليه بالبينة، وأيضاًً، فإن قوله: " أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتُها " يتضمّن قذفاًً، وكأنه ابتداء قذفٍ ولعانٍ.
وهذا ضعيف؛ إذ لو جاز اعتماده، لجاز ابتداء كل زوج باللعان من غير تقديم قذف.
فهذا بيان الفصل.
__________
(1) في الأصل: عليه.
(2) في النسختين: بها. والمثبت من المحقق.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(15/39)


9653 - وفيما قدمنا مباحثة في شيء واحد، وهو أنا ذكرنا في أقسام المسألة أن الزوج لو قال: ما قذفتُها، وما زَنَتْ، فنفى القذفَ وبرّأها، فليس له أن يلتعن. هذا سديد لا نزاع فيه.
قال القاضي: إن أراد اللعان ابتدأ قذفاً جديداً، وهذا فيه نظر؛ من جهة أن قوله: ما زنت يتضمّن الإقرار ببراءتها من الزنا، فإذا قذفها إنشاءً، فَقَذْفُه المنشأ يناقض إقراره ببراءتها من الزنا، فكيف يثبت قذفُه، وهو مناقض لقوله الأول؟
والممكن في الانفصال عن ذلك أن يقال: " ما زنت فيما سبق، وقد زنت على قرب العهد ".
والذي يحقق هذا أن الرجل لو برّأ إنساناً عن الزنا، ثم قذفه، فهذا قذفٌ موجبٌ للحد.
فلو قال: هذا القذفُ غير منتظم منّي، فإني قدمت الإقرار بالبراءة، قيل له: قد آذيتَ بقذفك، وتعرّضتَ للعِرْض المصون عن القذف بالحدّ، فلا يراعى في القذف، والمقذوفُ يزعم أنه كذَبَ -على كل حال- إمكانُ الصّدق.
هذا هو الممكن في ذلك.
والإشكال بعدُ قائم؛ فإن التبرئة مطلقةٌ مسترسلةٌ على جميع الأزمان، والقذف بعدها مناقض لها، وقوله وإن كان قذفاً في حق المقذوف، فهو مؤاخذ في حق نفسه [بسابق] (1) قوله.
والذي استقر الكلام عليه أنه إذا برّأ من الزنا، لم يصح القذف منه إلا أن يتخلل زمانٌ يمكن وقوع الزنا فيه، فينشىء قذفاً ويلاعن، ولكن لا يَسقُط الحدّ الأول، إلا على مذهب سقوط حصانتها بلعانه، كما سيأتي تفصيل ذلك.
وبالجملة ما ثبت من القذف بالبيّنة مع ما أنشأه بمثابة ما لو قذف أجنبيةً ثم نكحها وقذفها في النكاح، وسيأتي شرح هذه المسائل، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: يسابق.

(15/40)


9654 - ثم قال: " ولو قذفها، ثم بلغ ... إلى آخره " (ا).
قذْفُ الصبي لا يوجب حداً ولا تعزيراً للمقذوف (2) يتعلّق بطلبه، ولكن يعزره القائم عليه لإساءة أدبه، كما يفعل ذلك به في سائر جهات التأديب والتثقيف.
قال القفال: إذا همّ بتأديب المراهق، فبلغ، انكف عنه وإن كان والياً؛ فإن البلوغ أكمل الروادع، والعقل الذي قضى الشرع بكماله أَبْينُ وازع، فلا يؤدَّبُ مكلَّف على الوجه الذي يُؤدَّبُ عليه الصبي؛ فإن المكلفَ معاقَبٌ، وكل ما يقع به من إيلام، فهو عقابٌ، وما يقع بالصبيّ تأديبٌ بمثابة رياضة الدّوابِّ (3)، ولهذا نأمر الطفل بقضاء ما فات من الصلوات ما دام طفلاً، فإذا بلغ، كففنا الطلبَ عنه.
9655 - ثم قال: " ولو قذفها في عدة يملك فيها رجعتها ... إلى آخره " (4).
إذا قذف الزوج الرجعيةَ، لاعن عنها، فإنها ملحقة بالزوجات، ولا يتوقف جريان اللعان على أن يرتجعها، وليس كما لو ظاهر عنها، أو آلى، فإنه إن ظاهر، لم يصر عائداً ما لم يرتجعْها، ولو آلى، لم تحتسب المدة، ما لم تراجَع، وينتجز اللعان في الرجعية انتجازه في الزوجة، وكل أصل مُقَرٌّ على خاصيته وحقيقتِه.
أما العوْدُ، فمناقِضُه ترك الرجعة وهي محرّمة لا مناقضة فيه، ومدّة الإيلاء لا تحتسب، فإنها معتزلة عن زوجها، والمدة مَهَلٌ يتخير الزوج بين الوطء والترك، وهذا لا يليق إلا بحال الحِلّ.
9656 - ثم قال: " ولو بانت فقذفها بزنا ... إلى آخره " (5).
ذَكَر القذفَ بعد البينونة، وهذا مما قدمنا ذكرَه في أثناء القواعدِ التي مهدناها والأصولِ التي جمعناها، ووصلنا بذلك القذفَ المؤرّخَ في النكاح بغيره، وفي غير
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 146.
(2) أي من أجل المقذوف، فليس للمقذوف حقٌّ في طلب الحد أو التعزير إذا قذف الصبي، وإنما هو التأديب من وليه.
(3) ت 2: بمثابة رياضةٍ للصبي.
(4) السابق نفسه.
(5) ر. المختصر: 4/ 147.

(15/41)


النكاح بالنكاح، فلا حاجة إلى إعادة ما مضى، وَوَصَلَ بما ذكره (1) من القذف بعد البينونة القذفَ في النكاح الفاسد، وهو مما تقدم أيضاًً، وفيه مَقْنع تام، وقد قدمنا قذفَ الرّجعية واللعانَ عنها.
9657 - ولو ارتد الزوج والزوجةُ مدخولٌ بها، فقذفها في الردّة، فإن لم يلاعن، وعاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة، أمكنه أن يلاعن؛ فإن النكاح قائم.
وإن لاعن في الردة، نُظر: فإن أصرّ (2) حتى انقضت العدّة، فقد بيّنا أن اللعان وقع في حالة البينونة، فإن كان ثَمّ ولدٌ نفاه، فاللعان ثابت، والحد يندفع بجريان اللعان، كما قدمنا ذكره.
وإن لم يكن ولدٌ، فقد ذكر الأصحاب وجهين في أن الحدّ هل يندفع بذلك اللعان، وقد بيّنا أنه وقع بعد ارتفاع النكاح؟ وكان شيخي يبني هذا على تردد الأصحاب في أن الجاريةَ في العدة بسبب اختلاف الدين سبيلُها إذا بان ارتفاع النكاح سبيلُ الرجعيات أم سبيل البائنات؟ وقد ذكرنا تقديرَ ذلك في كتاب النكاح.
والوجه عندنا تقريبُ هذا من الخلاف الذي ذكرناه فيه إذا قذف زوجته في نكاحٍ ظنه صحيحاً، ثم بان فسادُه، وقد لاعن على ظن الصحة، ووجه التقريب بيّن.
ثم الأصحاب أطلقوا القول بأن المرتد يلاعِنُ، وإن كنا نجوّز أن يصرّ على الردة.
ويمكن فرض هذه المسألة فيه إذا التعن ولم نشعر بردّته، حتى يقالَ: إن علمنا كونه مرتداً، نأمرها (3) بالتوقف، ولم يصر إلى هذا أحد من الأصحاب، مع إمكان الاحتمال فيه.
9658 - ثم ذكر الشافعي رحمه الله: أن الرجل إذا قذف امرأته بالإتيان في الدبر، وأثبتَ اللعانَ (4)، وأخذ المزني يتعجب، وليس هذا موضع التعجب؛ فإن الشافعي
__________
(1) ت 2: وَوَصَل ما ذكرناه من القذف.
(2) ت 2: أخر. والمعنى أصرّ على الردة (أو أخر العودة إلى الإسلام) حتى انقضت العدة.
(3) ت 2: حتى يقال: إن علمنا كونه مرتداً ولم نأمرها بالتوقف.
(4) ر. المختصر: 4/ 147.

(15/42)


بنى هذا على الأصح في أن هذه الفَعْلةَ لو تحققت، وجب بها حدُّ الزنا، وكل ما يتعلق به حد الزنا إذا وقع يتعلق بالنسبة إليه حدّ القذف. ثم إذا كان قذفُ الزوج موجباً حدَّ القذف، [فلا استبعاد في جريان اللعان، وسيأتي الكلام في ألفاظ القذف] (1) في باب منفرد بعد هذا، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ولو قال لها: يا زانية بنت الزانية ... إلى آخره " (2)
9659 - إذا قال لامرأته، وأمُّها حرة مسلمة، على ظاهر صفات المحصنات: يا زانيةُ بنتُ الزانية، فعليه حدان؛ لأنه أتى بكلمتين مختلفتين، كلُّ واحدةٍ منهما قذفٌ صريح في حق محصَنةٍ، فكان كما لو قال لزوجته: أنت زانية، وأمك زانية.
ْولو قال لمنكوحتين أو أجنبيّتين: أنتما زانيتان، ففي تعدد الحدّ قولان سيأتي ذكرهما: أحدهما - أنه لا يجب إلا حدٌّ واحد، والفرقُ أن الكلمةَ متحدةٌ في المسألة (3) الأخيرة، وعلى اتحادها التعويلُ على هذا القول، ولا نظر إلى تعدد المعنى.
ولو قال في مسألتنا: أنتِ وأمك زانيتان، فقد رتب أصحابنا هذا على ما لو قال لأجنبيّتين (4)، أو منكوحتين: " أنتما زانيتان ". إن قلنا: يلزمه هناك حدان، فهاهنا أولى؛ لأن موجَب القذف يختلف في الأجنبية والمنكوحة، ولا يختلف في المنكوحتين والأجنبيتين.
وإن قلنا في الزوجة والأجنبية يلزمه حد واحد، فإن لم يلاعن حُدّ لهما حداً واحداً إذا اتحدت الكلمة، وإن لاعن بقذفها، سقطت طَلِبتُها، والحدُّ باقٍ للأم؛ لأن اللعان حجةٌ خاصة أثرها في قذف النكاح، فإن قيل: هلا كان لعانه شبهةً؛ فإن الحد واحد
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 2).
(2) ر. المختصر: 4/ 147.
(3) في الأصل: أن الكلمة متحدة في " مسألة " الأخيرة، هكذا بدون [أل] وهذا أحد المظاهر الدالة على آثار عجمة قديمة في لسان الناسخ.
(4) ت 2: لأختين.

(15/43)


لا ينقسم؟ قلنا: لم يتعرض الزوج في لعانه لزنا الأم، ولو تعرض له، لكان باطلاً، وليس اتحاد الحد على حقيقته، إنما هو على مذهب التداخل، وهذا ينافي حقيقةَ الاتحاد، وما ذكرناه فيه إذا قال لزوجته وأمها أنتما زانيتان.
فأما إذا قال: يا زانيةُ بنتُ الزانية، فقد ذكرنا أن الحد يتعدد قولاً واحداً، ثم طلبُ حد الأم إليها، أو إلى من تستنيبه، وحق البنت مفوض إليها.
9660 - واختلف أصحابنا في تقديم إحداهما على الأخرى: فمنهم من قال: لا يثبت لواحدة منهما حقُّ التقديم بعد ما قذفهما.
وكذلك لو قذف شخصين، فرتب أحدهما على الثاني، فإنه صار بكل قذف مستوجباً للحد، فلا أثر للتقدّم والتأخر، وهو كما لو أتلف مالَيْن على شخصين في زمانين، فلا يتقدم أحدهما، ثم هذا القائل يقول: إذا جاءتا تطلبان، فلا وجه إلا الإقراع بينهما.
ومن أصحابنا من قال: الأم هي المقدمة؛ لأن حدها بعيد عن السقوط، وحدّ البنت يسقط باللعان، فكان الحد المتأكد أولى بالتقديم، واعتل بعض الأصحاب بحرمة الأم، وهذا لا حاصل له.
ومن أصحابنا من قال: البنت مقدّمة، لأن الزوج بدأ بذكرها؛ إذا (1) قال: يا زانيةُ، فثبت الحد لها أولاً، ولا بُعْد في التقديم، بهذا السبب في العقوبات، ولذلك نقول: من قتل رجلين على الترتيب، فهو -[على الترتيب] (2) - مسلّم إلى أولياء القتيل الأول، وهذا [أبعدُ ترجيح] (3)؛ فإن المحل يفوت بالتسليم إلى أولياء الأول، فإذا كانت البداية تؤثر والحالة هذه، فلا بُعد في تأثيرها في حد القذف.
والذي يوضح ذلك أنا إذا حَدَدْناه لا نوالي عليه، بل نمهل رَيْثما يبرَأُ جلدُه، وفيه تأخير الحد الثاني.
__________
(1) إذا: بمعنى (إذْ).
(2) زيادة من (ت 2).
(3) في النسختين: وهذا إلى ترجيح. والمثبت تصرف من المحقق، على ضوء السياق.

(15/44)


ثم بنى الأصحاب على ما ذكروه أنه لو قذف أجنبيتين بكلمتين، فهل تُقدّم المذكورة أولاً بحق الحد؟ فعلى ما ذكرناه.
ولو قدم ذكرَ أم زوجته، ونسبها إلى الزنا، ثم ذكر زوجته، انقدح وجهان: أحدهما - القرعة، وهو حكمٌ بالاستواء.
والثاني - أن الأم مقدمة لتقدم ذكرها في القذف، ولحرمتها.
ولا يكاد يخفى التفريع، وترديد الصور على من أحاط بالمعاني المعتبرة.
9661 - ثم قال: " ومتى أبى اللعان ... إلى آخره " (1).
قد ذكرنا أن الشبه الظاهر في اللعان من الشهادة أن النكول عنه لا يمنع العودَ إليه، فلو امتنع الزوج عن اللعان، ثم رغب فيه لمّا همَمْنا بإقامة حد القذف عليه فليلتعن، والمرأة لو امتنعت عن اللعان، ثم رغبت فيه لما هممنا بإقامة حد الزنا عليها، فلها أن تلتعن.
قال الشافعي رحمه الله: لو امتنع الزوج وأقمنا عليه معظمَ حد القذف، [ولو لم] (2) يبق إلا سوطٌ، فإذا قال: دعوني ألاعن، تركناه حتى يلاعن، وكذلك لو أقمنا على المرأة معظمَ حد الزنا، وكانت بكراً، فرغبت في اللعان تركناها.
ولعلّ السببَ في ذلك -بعدَ الإجماع- أن الزوج يأتي باللعان إتيانَ المدّعي بالبينة، وإن كان لا تطلب منه، ويؤثِّر لعانُه في إثبات الحد عليها، فلما لم يقف اللعان على العرض والطلب، لم يسقط بالنكول، وشابَه البينةَ من هذا الوجه.
وحق الناظر في الأشباه أن ينظُر إلى أخصها، والنكول عن اليمين امتناعٌ عن المطالبة بها، [فقرب] (3) أخذ حكم النكول من الطلب من طريق الشبه.
وهذا تَرِدُ عليه أيمانُ القسامة، واليمينُ مع الشاهد، ويمينُ الرد، وللأصحاب
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 148.
(2) في الأصل: " أو لم يبقَ ".
(3) في الأصل: فضرب.

(15/45)


كلامٌ في [النكول] (1) عن هذه الأيمان؛ من حيث إنها تجري من غير طلب من الخصم [فيها] (2)، وستأتي أحكامها مشروحة، إن شاء الله عز وجل.
9662 - وإذا أقمنا حدَّ القذفِ على الزوج، فقال: أنا ألْتعن، لم يُمَكّن. قال الشيخ القفال: لم يَفْصِل الأحاب في هذا بين أن يكون ثَمّ ولد وبين ألا يكون.
والصواب عندي (3) أن نقول: إن لم يكن ولد، فالجواب كذلك؛ فإنه لا فائدةَ في اللعان بعد إظهار تكذيبه بإقامة الحد عليه، فأما إذا كان ثَمّ ولد، فالوجه أن يلاعن وإن أقيم الحد عليه.
فحصل إذاً في هذا [الطريق] (4) نقلُ القفال عن الأصحاب أنه لا يلاعن، ووجهُه أن القذف سقط أثره بإقامة الحد، فكأن الزوج بعد (5) الحد ليس قاذفاً، والقذف لا بد منه في نفي الولد، كما سيأتي شرح ذلك، إن شاء الله عز وجل.
وأختارُ (6) أن يلاعن؛ لظهور الغرض في نفي النسب، والقذفُ وإن أقيمت عقوبتُه كائنٌ، ولو قيل: تأكد القذف بالحد لم يكن بعيداً، فإن الذي يلاعن يُخرج نفسه عن كونه قاذفاً.
ثم ذكر الشافعي رحمه الله بعد هذا القذفَ في النكاح الفاسد، والتفصيلَ فيه إذا كان ولد أو لم يكن، وتعرض لمحاجّة أبي حنيفة، وذكر بعده الردَّ عليه في لعان الذمي والعبد، وقد تقدم جميع هذا.
__________
(1) في الأصل: النزول.
(2) في الأصل: منها.
(3) عندي: القائل هو القفال، وهذا حكاه عنه الرافعي متابعاً للإمام.
(4) في الأصل: الطرف.
(5) ت 2: بُعَيْد.
(6) وأختار: يمكن أن تقرأ بهمزة الوصل، فيكون الذي اختار هو القفال الذي فصل الكلام في المسألة، ويمكن أن تقرأ بهمزة القطع، فيكون الذي اختار هو إمام الحرمين. وهذا ما رجحته، لأنه الأقرب لأسلوب الإمام عندما ينقل أو يتحدث عن شيوخ المذهب، فإنه لا يتحدث بضمير الغائب، وإنما يذكرهم بألقابهم وكناهم وأسمائهم. ثم ساعدني على ذلك ما وجدته عند الرافعي، إذ قال: إن هذا اختيار الإمام. (ر. الشرح الكبير: 9/ 392).

(15/46)


فصل (1)
9663 - قد ذكرنا أن النسب الذي يتعرّض للثبوت في النكاح الصحيح أو الفاسد يُنفى باللعان، فكذلك لو فرض تعرُّض نسب للثبوت بسبب وطء شبهة، فاللعان ينفيه.
فأما النسب الذي يلحق بسبب ملك اليمين، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا سبيل إلى نفيه باللعان.
وقال أحمد بن حنبل ألا تعجبون من أبي عبد الله، يقول: [يلاعن] (2) الرجلُ عن أم ولده، فمنهم من قال: أراد مالكاً (3)، فإنه يُكنَّى بعبد الله، ومنهم من قال: أراد الشافعيَّ (4)، وأثبت هذا قولاً عنه، وقال: للمَوْلى أن يلاعن عن الأمةِ وأمِّ الولد، فحصل إذاً قولان على رواية أحمد بن حنبل: أحدهما - لا يلاعن [عن الأمة،] وهو المذهب (5)؛ لأن نص القرآن في الزوجات والأزواج، ولا مجال للقياس.
والذي يجب التنبيه له أن الشافعي في إثبات اللعان بِنَفْي النسب في النكاح الفاسد حاد عن النص (6) بعض الحَيْد، ولكنه وجَدَ مستمسَكاً قويّاً (7) في الشبه، مأخوذاً من مثل مسلكه (8) في إلحاق الشيء بالشيء لكونه في معناه، وأما ملك
__________
(1) في نسخة (ت 2): (فرع) مكان فصل.
(2) في الأصل: يقول: عن الرجل أم ولده. (سقط نصف كلمة يلاعن).
(3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 790 مسألة 1480، عيون المجالس: 3/ 1334 مسألة 931. وحاشية العدوى: 2/ 99.
(4) ومنهم من قال: أراد سفيان (الثوري) وضعَّف الروياني هذا قائلاً: روي عن أحمد: " ألا تعجبون من الشافعي " فهذا قطع للتردّد. (ر. الشرح الكبير: 9/ 379).
(5) عبارة (ت 2): قولان على رواية أحمد بن حنبل أنه يلاعن عن الأمة وهو المذهب، والمثبت عبارة الأصل بزيادة (عن الأمة) من (ت 2).
(6) يقصد بالنص الذي حاد عنه الشافعي نصَّ القرآن، لأن النكاح الفاسد لي بنكاح، ونص القرآن وارد في الأزواج والزوجات.
(7) ت 2: قريباً.
(8) ت 2: مذهبه.

(15/47)


اليمين، فإنه نأْيٌ عن النكاح بعيدٌ، فضَعُفَ تقدير اللعان.
ثم إن لم نثبت اللعان -وهو الرأي- فإذا أقر السيد بوطء أمته، فأتت بولد لزمان يحتمل أن يكون من الوطء المقَرّ به، فالنسب يلحق، ولا دفع باللعان، وتفصيل القول في هذا سيأتي في كتاب الاستبراء، إن شاء الله عز وجل.
ولو ادعى السيد أنه استبرأها بعد أن وطئها، ثم أتت بالولد لزمانٍ يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فتفصيل المذهب في هذا مما لا نرى الخوض فيه إذا لم يكن ملك اليمين مترتِّباً على نكاح؛ فإن ذلك يتعلق بأصول الاستبراء، والذي نذكره هاهنا يترتّب ملك اليمين على النكاح فيه إذا اشترى الرجل زوجته.
9664 - فنقول: إذا اشترى زوجتَه الأمةَ، وأتت بولد لأقلَّ من أربع سنين، ولم يُقرّ بوطئها في ملك اليمين، فله النفيُ باللعان -وإن كنا لا نرى إجراء اللعان فيما يتعلق بملك اليمين على الخصوص- والسببُ فيه أنه لو أبانها، فأتت بولدٍ، فأراد نفيه باللعان (1)، مُكِّن منه؛ فمِلْكُ اليمين لا ينقص عن زمان البينونة، وتحقيقه أن اللحوقَ [بسبب] (2) النكاح وتوقُّعِ العلوق فيه، فإذا كان اللحوق بسبب النكاح، فاللعان يترتب على النكاح.
وإن هو أقرّ بوطئها في ملك اليمين، وأتت بولدٍ لأقل من ستة أشهر من يوم الوطء المقرّ به، فلا حكم للإقرار بالوطء (3)، والمسألة كما قدمناها.
وإن كان لأقلَّ من أربع سنين (4)، فهو منفي عنه باللعان. فإن كان لأكثر من أربع سنين من يوم الشراء، ولأقل من ستة أشهر من وقت الوطء المقرّ به، فالولد منفي من غير لعان (5).
__________
(1) ت 2: فأراد نفيه باللعان لم يكن منه.
(2) في الأصل: بنسب.
(3) واضح أن الكلام مبني على ما هو مقرر عند الفقهاء من أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر بعد الوطء في ملك اليمين، فمعنى ذلك القطعُ بأنها حملت به قبل هذا الوطء، فيكون إلحاق الولدِ مستنداً إلى النكاح لا إلى ملك اليمين. فجاز نفيه باللعان.
(4) جرياً على أن أكثر مدة الحمل عندنا أربع سنين ثم هي في ت2 (لأقل من سبعة أشهر).
(5) لأنه لا احتمال لتعرضه للثبوت بالنكاح، نظراً لما هو مقرر من المدة المحدّدة لأقل الحمل وأكثره.

(15/48)


وإن أتت به لأكثرَ من أربع سنين من يوم الإقرار بالوطء، فهو منفي عنه بلا لعان (1).
وإن أتت بالولد لستة أشهر فصاعداً من يوم الإقرار بالوطء، فهو ملتحق به، إلا أن يدَّعي استبراءً وتأتي به لستة أشهر من انقضاء الاستبراء، فإن أتت به لأقلَّ من ستة أشهر من يوم الاستبراء (2) ولستة أشهر فصاعداً من يوم الإقرار بالوطء، فهو ملحق، فلا حكم للاستبراء؛ لأنا علمنا أن ما رأته من الدم، كان على الحمل.
9665 - فإن قيل: إذا أقر بوطئها، فأتت بولدٍ لستة أشهر من يوم الوطء، ولأقلَّ من أربع سنين من يوم الشراء، قُلتم: يَلْحقهُ بحكم اليمين ولا يملك النفيَ باللعان، ومن الجائز أنها علقت به في النكاح قبل الشراء، فهلا (3) أثبتم النفي [باللعان] (4) لهذه الجهة من الاحتمال؟
قلنا: وإن احتمل العلوقَ في النكاح، فالوطء بعده قَطَعَ حكمَ النكاح، وصيّر المملوكةَ مفترشَة بملك اليمين، فلئن جُوّز نفيُ ولد النكاح، فالتفريع على أن ولد ملك اليمين لا ينفى، وقد ثبت فراش ملك اليمين، فَنَسَخَ هذا الفراشُ ذلك الفراشَ في المعنى الذي نحن فيه.
وإذا اعتدت المرأة عن طلاقٍ، وَنَكحت زوجاً، وأتت بولد بعد النكاح الثاني لستة أشهر من النكاح الثاني، وأقلّ من أربع سنين من انقطاع النكاح الأول، فالولد ملحق بالزوج الثاني، وإن احتمل أن يكون العلوق به من الأول (5).
__________
(1) للقطع عقلاً بأنها حملت به بعد الوطء الذي مضى عليه أربع سنين، فهو غير متعرّض للثبوت أصلاً.
(2) فهذا يقين أنه كان حملاً مستكنّاً قبل الاستبراء، لاستحالة العلوق والولادة في أقل من ستة أشهر.
(3) ت 2: فهذا أثبتم بالنفي منه الجهة من الاحتمال.
(4) زيادة من المحقق. والمعنى: لمَ لا يثبت النفي باللعان في هذه الصورة ما دام احتمال كونه العلوق في زمن النكاح.
(5) أتى بهذه الصورة تأكيداً وتدليلاً على صحة قوله في الصورة السابقة.

(15/49)


ولو أقر بوطئها في ملك اليمين، وادعى استبراءً بعد الإقرار بالوطء، فأتت بالولد لستة أشهر من انقضاء الاستبراء، ولأقلَّ من أربع سنين من وقت الشراء قال ابن الحداد: ينتفي النسب بلا لعان؛ وذلك أن فراش ملك اليمين ثبت بالإقرار بالوطء، وانقطَعَ أثرُ النكاح، ثم انقطع النسب في ملك اليمين بدعوى الاستبراء وإتيان الولد بعد الاستبراء (1) لستة أشهر فصاعداً، وتابع معظمُ الأصحاب ابنَ الحداد.
قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قال: إذا انتفى النسب لأجل دعوى الاستبراء في ملك اليمين، فيلحَقُ بحكم النكاح إذا أتت به لزمانٍ يُحتَمل أن يكون العُلوق به من النكاح؛ فإن الأمة وإن صارت فراشاً بالوطء، فلا يقوى فراش ملك اليمين على نسخ حكم النكاح السابق بالكلية، والدليل عليه أن من وطىء معتدة بشبهة، فلا نقول: إذا (2) أمكن إلحاق الولد بالثاني لا نلحقه بالأول، بل يتعرض [ثبوت] (3) الولد لهما، وهو في مجال القيافة.
وهذا الوجه الذي ذكره الشيخ غريب، والمذهب ما اختاره ابن الحداد.
...
__________
(1) ت 2: بعد الأربع سنين لستة أشهر.
(2) ت 2: فلا نقول: إذا أمكن إلحاق الولد الثاني يلحقه الأول، بل سيتعرض الولد لهما ... إلخ.
(3) زيادة لإيضاح الكلام.

(15/50)


باب أين يكون اللعان
9666 - مقصود الباب ذكر ما يُؤَكَّدُ اللعان به، وهو أربعة أشياء: الألفاظ، والمكان، والزمان، وعددٌ من الناس.
فأما الألفاظ، فهي خمسة في الجانبين، وسيأتي شرحها في بابٍ.
فأما الزمان، فليقع اللعان بعد العصر فال الله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 106]، قيل في التفسير: أراد صلاةَ العصر، وإن لم يظهر ضررٌ في التأخير، ولم يثبت طلبٌ حثيثٌ يمنع منه، أخرناه إلى يوم الجمعة، فإنه معظَّم في النفوس، وروى أبو هريرة في حديثٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله شيئاًً إلا أعطاه إياه " (1)، قال كعب الأحبار: هي بعد العصر، فقال أبو هريرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة بعد العصر " فقال كعب: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد في صلاةٍ ما دام ينتظر الصلاة "، أشار إلى أنه بعد العصر في انتظار المغرب، فهو في حكم المصلي.
" وكُتب إلى عمر رضي الله عنه في جارية ادُّعي عليها القذف، فأنكرت، فكتب في الجواب: احبسوها إلى ما بعد العصر، ثم حلّفوها، ففعل فاعترفت " (2).
فهذا بيانُ الزمان.
وأما المكان، فليقع اللعان في أشرف المساجد وأحراها بالتعظيم، فإن كانت الواقعة في الحرم، فبين الركن والمقام، وإن كان بالمدينة، فبين المنبر ومدفن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو الروضة، وإن كان في القدس، فعند الصخرة، وفي سائر البلاد في المسجد الجامع في المقصورة.
__________
(1) حديث أبي هريرة متفق عليه (البخاري، الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، ح 935، مسلم: الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، ح 852).
(2) أثر عمر رضي الله عنه لم نقف عليه.

(15/51)


وأما العدد فإنا نأمر بإجراء اللعان على رؤوس الأشهاد، فينبغي أن يكود الذين شهدوا غير ناقصين عن عدد بينة الزنا، وهم الذين نُؤثر أن يشهدوا حدّ الزنا، تأسياً بقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2].
9667 - فأما التغليظ بالزمان والمكان، فمستحق أو مستحب؟ فعلى قولين، ولا اختصاص للقولين في المكان والزمان باللعان؛ فإن كلَّ أمرٍ له خطرٌ كالدماء، والفروجِ، والمالِ إذا بلغ نصاب الزكاة، فتغليظُ الأَيْمان في جميع ذلك في المكان والزمان يخرّج على القولين.
وأما التغليظ بحضور جمعٍ من الناس، ففيه طريقان: من أصحابنا من يراه كالتغليظ بالمكان والزمان، ومنهم من قطع بأنه مستحَبٌّ غيرُ مستحَق.
وقد ذكر بعض الأصحاب في التغليظ بالزمان طريقين أيضاً: أحدهما - القطع بأن التغليظ به مستحَب، فعلى هذا يجري القولان في المكان.
فأما تغليظ الأيمان بالأمور الخطيرة بألفاظ اليمين، فسيأتي مشروحاً في أدب القضاء.
ولا خلاف بين الأصحاب أن كَلِمَ اللعان لا بدّ منها، كما سنصفها على الاتصال بهذا.
وإن كنا نحلّف كافراً، فقد قال الأصحاب: نحلفهم في البقاع التي يعظمونها، كالكنائس والبيع، فنأتيها، ونحلّفهم فيها.
واختلف أصحابنا في أن المجوس هل يحقفون في بيوت النيران: فمنهم من قال: لا نحلفهم فيها، فإنه لا أصل (1) لتعظيم النيران، وبيوتها كمقارّ الأصنام.
ولم يختلف الأصحاب أنا لا نأتي بيوتَ الأصنام إن أمكن تصوُّرُها في طرف بلاد الإسلام، فأما الكنائس والبيع والصوامع؛ فإنها محال العبادات على الجملة.
واختلف الأصحاب في التغليظ بهذه الأسباب على الزنديق فمنهم من قال: لا معنى للتغليظ عليه، وهو لا يعبأ به شيئاً.
__________
(1) ت 2: لا وقع لتعظيم النيران وبيوتها لزمان الأصنام.

(15/52)


9668 - ولكن لا بد من أصل كلمات اللعان لإقامة الخصومة على قاعدة الشرع، ولئن أُكِّدت (1) الألفاظ باللعن في حق المسلمين، فالزنديق به أولى.
ثم إن الشافعي لما ذكر التغليظ بالمكان قال في الحائض المسلمة: تلاعن على باب المسجد، وذكر أن المشركة تلاعن في المسجد، فاعترض المزني (2) وقال: المشركة قد تكون حائضاً، وهي شرّ حالاً من المسلمة الحائض وهذا مما قدمنا الاختلافَ في أصله في كتاب الصلاة، فإن أصحابنا اختلفوا في أنا هل نمكِّن المشركَ الجنبَ من دخول مساجدنا: فمنهم من قال: لا نمكنه، ومنهم من قال: نمكنه، لأنه لا يؤاخذ بتفصيل عقد الإسلام في تعظيم الشعائر، وهذا نُجريه في المشركة، فإن علمنا كونها حائضاً، وخفنا تلويث المسجد، منعناها، وإن لم نخف التلويث، خرج على الخلاف الذي قدمناه.
...
__________
(1) ت 2: ولئن اتحدت الألفاظ.
(2) ر. المختصر: 4/ 151.

(15/53)


باب سُنّة اللعان ونفيِ الولد وإلحاقِه بالأم وغيرِ ذلك
9669 - غرض الباب أن قضايا اللعان: درءُ الحد عن الزوج، ونفيُ الولد، ووقوعُ الفُرقة، وتأبُّدُ التحريم، وكل ذلك يتعلق بلعان الزوج وحده، لا حاجة في شيء منها إلى لعانها، ولا إلى قضاء القاضي، فإنا نحتاج إلى لعانها في إسقاط الحد عنها فحسب، وأبو حنيفة (1) يخالف في ذلك، وقال: قضايا اللعان تتعلق بلعانهما جميعاً وتتعلق بقضاء القاضي، وأخذ الشافعي رضي الله عنه يحتج بما قررناه في المسائل.
ثم قال: وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الله يعلم أن أحدكما كاذب!! فهل منكما تائب؟ " هذا مما نؤثره للقضاة.
ثم إن الرسول حكم بالظاهر، ولم يتعلق بالأمارات المغلِّبة على الظنون، وكان قد ظهرت أمارةٌ دالّة على صدق الزوج، روي أنه عليه السلام قال: " إن جاءت به [أدعج العينين، عظيم الإلْيتين، خَدَلّج الساقين] (2) لا أراه إلا وقد صدق عليها "، فجاءت به على النعت المكروه، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن أمره لبيّن، لولا ما حكم الله به " (3)
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 215، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 505 مسألة 1050، المبسوط: 7/ 43، فتح القدير: 3/ 253.
(2) في الأصل: أدَيْعج، وفي ت 2: أوضح.
وليس في رواية الحديث لفظٌ من هذين اللفظين (أدَيْعج، أوضح)، فعند البخاري في حديث عويمر العجلاني: إن جاءت به أدعج العينين عظيم الإليتَين خدلّج الساقين، وفي حديث هلال بن أمية عنده وعند أحمد وأبي داود، بألفاظ قريبة من هذه، وهي: إن جاءت به أكحل العينين، سابغ الإليتين، خدلّج الساقين. (ر. البخاري: كتاب التفسير، ح 4745، 4747، وأحمد: 1/ 239، وأبي داود: كتاب الطلاق، باب اللعان، ح 2256) ولفظ (أديعج) مما رواه الشافعي رضي الله عنه في مختصر المزني: 4/ 152.
(3) هذا من معنى حديث البخاري الذي مضى آنفاً، وهو من نص رواية الشافعي في المختصر أيضاً.

(15/54)


وروي أنه عليه السلام قال: " لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن " (1).
ومما نؤثره تهديد النساء في أمثال ذلك، فلعلهن ينزجرن، وقال صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، فليست من الله في شيء، ولن يُدخلها الله جنته (2)، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين "، ومما جاء في تهديد النسوة ما روي في حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم رأى نسوة معلقات بثُدُيِّهن، فسأل جبريل عن حالهن، فقال: " إنهن اللاتي ألحقن بأزواجهن من ليس منهم " (3). وقال عليه السلام: " اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، يأكل جرايتهم، وينظر إلى عوراتهم " (4) فنُؤثر للقاضي أن يذكر هذه الأشياء حالة إنشاء اللعان، والهمِّ بنفي نسب متعرض للثبوت.
...
__________
(1) هذا في لفظ أحمد وأبي داود المشار إليه آنفاً.
(2) حديث أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم، رواه الشافعي، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة (ترتيب مسند الشافعي: 49/ 2 ح 159، أبو داود: الطلاق، باب التغليظ في الانتفاء، ح 2263، النسائي: الطلاق، باب التغليظ في الانتفاء من الولد، ح 3481، ابن حبان، ح 4096، الحاكم: 2/ 202، وانظر التلخيص 4/ 453 ح 1774).
(3) حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلم رأى النساء معلقات بثديهن ... لم نقف عليه.
(4) حديث اشتد غضب الله على امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم رواه البزار عن ابن عمر انظر: كنز العمال، ح 13002.

(15/55)


باب كيف اللعان
9670 - مقصود هذا الباب بيانُ كَلِم اللعان وكيفيةُ صيغها، وهي بيّنة في كتاب الله تعالى، فيقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، وهذا الولد ولد زنا ما هو مني، إن كان ثَمَّ ولد، ويقول في الخامسة: لعنة الله عليّ إن كنتُ من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا، وتقابله المرأة فتشهدُ أربعَ شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به، وتقول في الخامسة: غضب الله عليّ إن كان من الصادقين فيما رماني به.
وذهب معظم الأصحاب إلى تعيين لفظ الشهادة؛ وفاءً (1) بحقيقة الاتباع، وفي بعض التصانيف عن الشيخ أبي حامد أنه لم يُبعد إبدال لفظ الشهادة بالإقسام والحلف أو ترك هذه الصلات، فيقول: بالله إني لمن الصادقين.
والمذهب الظاهر أن اللعنَ في جانب الزوج والغضبَ في جانبها، فلو استعمل الزوجُ الغضبَ، والمرأةُ اللعنَ، فالمذهب أن ذلك لا يجزىء، وحكى بعض الأصحاب جواز ذلك، وعزى (2) هذا إلى الشيخ أبي حامد.
9671 - والمذهب أيضاً أنه يجب رعايةُ الترتيب، فلا يسوغُ تقديمُ اللعن على سائر الكَلِم، وكذلك القول في الغضب في جانبها.
ومن أصحابنا من جوّز ذلك، وهو يُحْكَى عن الشيخ أبي حامد أيضاً.
ولا خلاف بين أصحابنا أن معظم كَلِم اللعان لا يقوم مقام الكل، وخالف أبو حنيفة (3) فيه، [فأقامه] (4).
__________
(1) ت 2: وما يحققه الاتباع.
(2) عَزَى: الفعل واوي ويائي.
(3) ر. المبسوط: 7/ 43.
(4) في النسختين: فأقام.

(15/56)


ثم يتعلق بإقامة هذه الكَلِم ما هو من فن التأكيد، وفي الحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأتِه على المنبر " (1) وقد تردد الأصحاب في هذا: فمنهم من قال: كان الملاعِن على المنبر؛ لظاهر الحديث.
ومنهم من قال: لم يكن الملاعِن على المنبر. ثم اختلف هؤلاء في معنى الحديت: فقال قائلون: جرى اللعان على المنبر، وقال آخرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر.
ومما نرعاه في التأكيد أن الرجل يلاعن قائماً، فإذا انتهى إلى كلمة اللعن أتاه آتٍ من ورائه، وقبض على فيه، وقال صاحب المجلس: اتق الله؛ فإنها موجبة.
ثم تقام المرأة، فتلتعن، فإذا انتهت إلى كلمة الغضب أتتها امرأة من ورائها، وقبضت على فيها، وقال صاحب المجلس: اتقي الله؛ فإنها موجبة.
فصل
قال: " ولو قذفها برجل ولم يلتعن ... إلى آخره " (2).
9672 - إذا قذف الرجل امرأته برجل عيّنه، ثم لاعن وسماه، لم يجب عليه الحد لذلك الأجنبي، وإن كان محصناً على ظاهر الحال.
هذا مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، ثم لا يجب حد الزنا على الأجنبي المسمَّى في القذف؛ إذ لو أوجبنا حدّ الزنا عليه، لاقتضى ذلك إثباتَ اللعان في جانبه، وهذا لا سبيل إلى القول به، ولا وجه لالتزامه حد الزنا بلعان الزوج.
ولو سمى الزوج ذلك الرجلَ في القذف، ثم لم يتعرض لذكره في اللعان، ففي
__________
(1) حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأتِه على المنبر، رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/ 398) من حديث عبد الله بن جعفر، (انظر التلخيص 3/ 461 ح 1790).
(2) ر. المختصر: 4/ 156.

(15/57)


المسألة قولان: أحدهما - أنه يسقط حدّه كما لو سماه؛ لأنه صدق نفسه في ذلك الزنا باللعان.
والقول الثاني - أنه يُحد للأجنبي لأنه قذفه، ولم يُقم عليه حجةً على تصديق نفسه.
ثم إن فرعنا على هذا القول الأخير فأراد إسقاط الحد عن نفسه، فإنه يعيد اللعان بكماله، ويعيد ذكرَ المرأة قطعاً، ولا يمكنه أن يقتصر في اللعان المعاد على إثبات الزنا على الأجنبي المسمى.
ثم خلاف أبي حنيفة (1) مشهور، ووجه الرد عليه مذكور، وقد صح أن العجلاني رمى زوجته بشريك بن سحماء، ولم يسمّه في اللعان، ولم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لإيجاب الحد عليه.
وينشأ من هذا الذي ذكرناه أصلٌ، وهو أن من قذف بحضرة القاضي رجلاً، فهل يتعين على القاضي أن يُخبر ذلك المقذوفَ حتى يطلب حقَّه من حد القذف؟ فيه وجهان ذكرهما صاحب التقريب وغيُره: أحدهما - أنه يجب؛ حتى لا يضيع حقٌّ مستحَق.
والثاني - لا يجب ذلك؛ لأن العقوبات مبناها على الدرء.
ثم تكلم الشافعي في حديث العسيف على ما سيأتي في موضعه، إن شاء الله عز وجل، وفيه أنه قال: " واغد يا أُنيس، فإن اعترفت فارجمها " ولم يكن غرضُ الرسول صلى الله عليه وسلم ببعثه أُنيساً أن يستنطقها بما يوجب عليها حدَّ الزنا، وإنما فعل ذلك ليخبرها بحقها في حدّ القذف " فإنَّ أبا العسيف قَذَفها: إذ قال: إن ابني زنا بامرأة هذا " (2).
9673 - ثم قال: " وأي الزوجين كان أعجمياً ... إلى آخره " (3).
إذا كان الزوج أعجمياً، التعن بلسانه والمترجم يترجم، ثم اختلف الأئمة في عدد
__________
(1) ر. المبسوط: 7/ 49.
(2) حديث العسيف متفق عليه، وسيأتي تخريجه مفصلاً في أوائل كتاب الحدود.
(3) ر. المختصر: 4/ 159.

(15/58)


المترجم، فقال قائلون: ينبغي أن يكونوا على عدد شهود الزنا، ومن أصحابنا من اكتفى بمترجمَيْن، وسيأتي ذكر هذا في كتاب الحدود، إن شاء الله عز وجل (1).
...
__________
(1) هنا انتهت نسخة (ت 2) فهذا آخر الأجزاء الموجودة منها، وهي أجزاء متفرقة غير متتابعة.
وقد جاء في نهاية هذا الجزء ما نصه:
" آخر الجزء السابع والعشرون، ويتلوه -إن شاء الله- باب ما يكون بعد التعان الزوج من الفرقة ".
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً.

(15/59)


باب (1) ما يكون بعد التعان الزوجين من الفرقة
9674 - لعان الزوج يوقع الفرقة ويثبت الحرمة المؤبدة، فلا يحل للملاعن نكاحُ التي لاعن عنها أبداً، وهل يستحل وطأها بملك اليمين؟ فيه اختلافٌ ذكرتُه، وهو جارٍ في ثلاث مسائلَ على ثلاث مراتبَ: إحداها - إذا ظاهر وعاد، ثم اشترى التي ظاهر عنها، ففي استباحة وطئها بملك اليمين قبل التكفير وجهان.
وإذا طلقها ثلاثاً، واشتراها، ففي استباحة وطئها بملك اليمين قبل التحليل وجهان.
وإذا لاعن عنها، فاشتراها طريقان: أحدهما - القطع بأنها لا تستباح بملك اليمين لتأبّد الحرمة.
والثانية - أن المسألة فيها على الخلاف.
وخالف أبو حنيفة (2) في تأبيد الحرمة في خَبْطٍ من مذهبه معروف.
وكل لعان جرى في غير النكاح لأجل نفي الولد، ففي تعلّق الحرمة المؤبّدة به وجهان، وهذا يجري في البائنةِ، والمنكوحةِ نكاحاً فاسداً، واللعانُ إذا صادف الرجعيةَ، حرَّمها على الأبد؛ لأنها [في] (3) حكم الزوجات، وهذا من أصدق الشواهد فيما ذكرناه.
__________
(1) سيكون العمل بدءاً من هنا معتمداً على نسخة وحيدة (ت 6) وسنرمز إليها بـ (الأصل).
(2) ر. فتح القدير: 4/ 288، مختصر اختلاف العلماء 2/ 506 مسألة: 1051.
(3) في الأصل: من.

(15/60)


9675 - ثم قال: " وأيهما مات قبل يُكملُ (1) الزوجُ اللعان ... إلى آخره " (2).
إذا مات أحدُ الزوجين قبل التلاعن، فنقول: إن مات الزوج أولاً قبل أن يستكمل كلماتِ اللعان، فالنكاح قائم والوِراثةُ باقيةٌ، ووجودُ تلك الكَلِم وعدمُها بمثابةٍ، ونَسبُ المولود الذي تعرض [لنفيه] (3) ثابت، ولو أراد ورثة الزوج أن يلتعنوا لنفي ذلك المولود، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً؛ فإن اللعان لا يصدر قطّ إلا من زوج، فإذا امتنع اللعان منهم، استحال انتفاء النسب بلا لعان، وليس هذا كالاستلحاق؛ فإنهم يحلّفون الموروث في الاستلحاق، كما مضى ذِكْرُه في كتاب الأقارير.
والنسب على الجملة يثبت على وجُوهٍ، وليس للنفي وجهٌ غيرُ ما أثبته الشرع.
فإن ماتت المرأة في خلال لعانه، فإن كان ثَمّ ولد، فالزوجِ يستكمل اللعان لنفيه.
وإن لم يكن ثَمّ ولد، وكان القذف في أصله موجباً للحد، فالحدّ يثبت موروثاً لولا اللعان، والزوج من الورثة، أيضاً.
وهذا يخرّج على أصلٍ وهو أن من قذف زوجته، وماتت الزوجة، وقضينا بأن إرث الحد كإرث المال، فالزوج يرث قسطاً من الحد، وهل يتضمن هذا سقوطَ جميع الحد؟ هذا مُرتَّب على ما إذا عفا بعض الورثة عن حقه من الحد، فهل يَسقط حقوقُ الباقين؟ فيه خلافٌ قدمته.
فإن قلنا: لا يسقط، فكأنا أثبتنا لكل واحد منهم حدّ القذف بكماله، فعلى هذا إذا ماتت الزوجة، فحد القذف يقام على الزوج -وإن كان من الورثة- فإن ما تقتضيه الوراثة سقوط حق الزوص بجهة الإرث.
وإذا كان إسقاط البعض لا يُسقط الحد في الباقين، فإذا أتى التبعيض من جهة
__________
(1) هذا من خصائص لغة الشافعي، حذف (أن) المصدرية قبل المضارع. وهو جائز قياساً على قول، فاختلف في إعراب الفعل حينئذٍ، فقيل بوجوب رفعه، وقيل: يبقى عمل (أن) (ر. الرسالة للشافعي: تعليق الشيخ شاكر على فقرة: 168، وترى أيضاًً شواهد على حذف أن، غير هذه).
(2) ر. المختصر: 4/ 164.
(3) في الأصل: لنفسه.

(15/61)


الاستحقاق المستفاد (1) من الوراثة، كان الجواب كذلك إذا قلنا: إسقاطُ البعض يوجب سقوطَ حقوق الباقين، فالحد يسقط إذا ماتت الزوجة؛ فإن الزوج قد ورثها (2).
وغرضنا الآن أن الزوجة إذا ماتت في أثناء لعانه، ولا ولد يُنفَى، فقد ماتت على النكاح، والحدُّ موروث، فإن أسقطنا الحدَّ، تركَ الزوجُ اللعان؛ إذ لا فائدة فيه.
وإن حكمنا بأن الحد باقٍ، فله أن يكمل اللعان حينئذ لدفع الحد.
9676 - ثم إن ماتت في الأثناء، وقَرُب الزمانُ وأمكن البناء، قال القاضي: يبني على كَلِم اللعان، فلا يستأنفها، فإن طال الزمان استأنف اللعان.
أما البناء في قِصَر الزمان، فعلّته أن المقصود الذي بُني اللعانُ عليه [نفيُ] (3) الحد، وذلك مُسَتَمدُّه [لا] (4) تبدّل فيه -وإن انتهى النكاح نهايته- ويستحيل أن يلزَمه الحدُّ، لا محالة، وقد [أنشأ] (5) القذفَ في النكاح، فلا يجد دفعاً للحد الذي يلتزمه (6)، فبان أن المقصود واحدٌ، لم يتبدل.
وهذا فيه نظر.
وفي كلام الأصحاب [ ... ] (7) من قِبل أن مستحِقّ الحد قد تبدل، فكانت الزوجةُ هي المستحِقة، وانتقل الاستحقاق منها إلى الورثة.
ويجوز أن يقال: اللعان لا يجري في معارضة استحقاق الورثة، وإنما يجري لدفع الحد، من غير نظر إلى من يستحِق؛ إذ لو كنا ننظر إلى المستحِق، لأبطلنا اللعان بالموت قبل تمام الكلمات من الزوج، فإذا لم نحكم ببطلان اللعان مع القطع بأن
__________
(1) في الأصل: الاستحقاق من المستفاد ... إلخ.
(2) فعلى هذا يترك الزوج بقية اللعان.
(3) في الأصل: ففي.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: انتشأ.
(6) المعنى: أنه التزم الحد بقذفٍ أنشأه في النكاح، وهذا هو الذي شرع الله اللعان لدفعه.
(7) مكان كلمة غير مقروءة (انظر صورتها) وقد رسمت هكذا: (تشبييت) تماماً رسماً ونقطاً.

(15/62)


اللعان لا يتعلق بغير الزوجة، دل أن وراثة الورثة لا تغير حكماً، ولا تثبت لكلمات اللعان حكمَ التقطع.
فإذا فرض ابتداء اللعان بعد موت الزوجة، فمعتمد اللعان انتفاء الحد من أصله (1)، وليس يتضمن قطع حدٍّ وجب؛ فإن الحد الواجب لا يدرؤه إلا إبراء المستحق، فوضح أن مستند اللعان هذا، وذلك لا يختلف بتبدل المستحِق، فليقع التعويل عليه، وما عداه من الإحواج إلى ابتداء اللعان ظنٌّ من بعض الأصحاب لا يُلحَق بالمذهب.
هذا إذا حصل الموت في أثناء كلم اللعان، وأراد الزوج البناء على الاتصال.
9677 - فأما إذا تخلل [فصلٌ] (2) فكبف السبيل فيه؟
نُقدم عليه [أصلاً فنقول:] (3) إن كلماتِ اللعان لو انقطعت بفصولٍ متخِّلَةٍ وِفاقيّة، فهل نحكم بتقطّعها حُكْماً وبطلانِها؛ حتى [نقول] (4): يجب إعادتُها، أم يجوز البناء [عليها] (5) والاعتداد بما مضى؟
فيه تردُّدٌ للأصحاب، وكذلك ذُكر هذا التردُّد في أيمان القسامة إذا تخللها فصلٌ بقطع تواصلها.
وتحقيق القول في ذلك أن كَلِم اللعان لا بد منها، والاقتصارُ على بعضها إعراض عن طريق الاتباع؛ حيث لا مسلك إلا الاتباع.
فأما إبدال لفظ الشهادة بغيره، [فقد] (6) ظن بعض الأصحاب توهينَ الأمر فيه؛
__________
(1) المعنى أن غرض اللعان نفيُ وجوب الحد أصلاً، وليس قطع حدٍّ وجب للزوجة، ثم انتقل إلى ورثتها. فإن الحد إذا وجب لا يدفعه إلا الإبراء من المستحق، فاللعان دافعاً لحدٍّ وَجَبَ، نفيٌ لوجوبه أصلاً. ومن هنا كان وجه البناء على ما مضى من الكلمات إذا ماتت الزوجة.
(2) في الأصل: فعل.
(3) ما بين المعقفين زيادة اقتضاها السياق.
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: فيها.
(6) في الأصل: فما. والمثبت من المحقق.

(15/63)


لقرب المعنى والمقصودِ، وهذا غير صحيح، والوجه التزام صيغ الكلم، وفاءً بحق الاتباع.
وعكسُ كلمات اللعان وتركُ ترتيبها في معنى إبدال لفظ الشهادة بغيره.
فأما الوِلاء، فهو الأصل، وإن فُرض تقطّعٌ فالإتيان بالكلم ظاهرٌ، وقد نفهم من الوِلاء مزيدَ تأثير في التغليظ، فكذلك القول في القسامة، فليس أثر المولاة بين خمَسين يميناً بمثابة أثر خمسين يميناً في خمسين مجلساً، فيمكن حمل هذا التردد على ما يتعلق بالتعظيم والتفخيم [كإجراء] (1) اللعان في مشهدٍ وإيقاعِه في مكان مخصوص، وزمانٍ مخصوص، ولسنا ننكر أن تأثير الوِلاء أظهرُ من تأثير المكان والزمان، لاختصاصه بعَيْن الكلم، وليس ثرك الوِلاء في معنى ترك اللفظ أو تبديله.
فهذا مراتب الكلام في ذلك، ولا يستريب ذو تحصيل أن ما صورناه في التقطيع الوفاقي.
فأما إذا عرض السلطان أيمان القسامة، وفُرض النكولُ عن بعضها، فهو نكول محقق، وللنكول [حكمه] (2). نعم، لا يؤثر النكول في اللعان؛ من جهة أن الزوج لو صرح بالنكول عن اللعان، ثم رغب فيه مُكِّن [منه] (3)، فلا فرق بين أن تكون الفصول الواقعة وفاقية قدَريّة، وبين أن تكون مترتبة على نكول من الزوج وعَوْد.
9678 - ثم قال: " فإن امتنع أن يكمل اللعان، حُدّ لها ... إلى آخره " (4)
هذا بيّنٌ؛ فإذا كانت محصنةً وقذفها، ثم امتنع عن اللعان حَدَدْناه لها إن كان حُرّاً ثمانين، وإن كان عبداً، فأربعين، وإن قذفها برجل بعينه بكلمة واحدة، فقال: زنا بك فلان، فقد ذكرنا أن من قذف شخصين بكلمة واحدة يلزمه حدان أم حدٌّ؟ وسنعيد القولين، والتفريعُ عليهما.
__________
(1) في الأصل: كأجل.
(2) في الأصل: حكم.
(3) في الأصل: فيه.
(4) ر. المختصر: 4/ 164.

(15/64)


فإن قال لامرأته: زنا بك فلان، فقد قذف شخصين بكلمة واحدة، وقد رأى أصحابنا أن يُجروا القولين في هذه الصورة مرتَّبَيْن على ما إذا قذف أجنبيين أو أجنبيتين، وزعموا أن قذف الزوجة بأجنبي أولى بالاتحاد؛ فإنه نسبهما إلى فعل واحد، فاقتضى ذلك في اتحاد الحدّ تأكيداً.
وقد يخطر لمن يتمسك بطرق الترجيح أن القذف في حق الأجنبي يخالف حكمُه حكمَ القذف في حق الزوج، فيعادل هذا الاختلافُ ما أشرنا إليه من اتحاد الفَعْلة، ويقتضي هذا التعادل الاستواء في المرتبة، فيقال له: اللعان كما يدفع حدّ الزوجة يدفع حدّ الأجنبي، فلا اختلاف إذاً من هذا الوجه، والأمر في ذلك قريب، بعد جريان الخلاف واطراد القولين.
نعم، لو قال [لرجل] (1) وامرأة أجنبيين: زنيتَ أنت بهذه، فاتحاد الحد في هذه الصورة مرتب على ما إذا قال لأجنبيين: زنيتما؛ لما ذكرناه من اتحاد الفعل.
هذا إذا امتنع الرجل عن اللعان.
9679 - فلو أكمل اللعان، وامتنعت المرأة من اللعان، فنقول: يلزمها الحدُّ إذا تحقق امتناعها، فإن كانت بكراً، جُلدتْ وغُرّبت، وإن كانت ثيّباً، رُجمت.
وإذا كان حدّها بالسياط، فلا نحدُّها في شدة الحر والبرد، وهذا مطرد في كل حد هو جلدٌ، على ما سيأتي في الحدود، إن شاء الله.
وإن كانت محصنة تَوَجَّه الرجمُ، ثم المنصوص عليه: أنا لا نؤخر إقامة الرجم عليها عن شدة الحر والبرد، ونص الشافعي على أن من أقر بالزنا، وكان محصناً قال: لا نرجمه في شدة الحر والبرد، بل يؤخر.
وقال المرتِّبون: إن ثبت الزنا بالبيّنة العادلة، فلا توقّف؛ فإن الرجم قتلٌ، ولا محاذرة من الهلاك، ولا نبني الأمر على إمكان رجوع العدول عن شهاداتهم في أخطر الأمور، ومن ظن بهم هذا، فقد حطّهم عن رتبة العدالة، ولا ينتظم في وضع الشرع بناء الأمر الثابت بشهادة الشهود على خروجهم عن كونهم شهوداً.
__________
(1) في الأصل: الرجل.

(15/65)


9680 - فأما إذا ثبت الرجم بالإقرار أو بلعان الزوج للشافعي (1) نصان كما حكيناهما: نصّه في اللعان أنه لا يؤخَّر، ونصه في الأقارير أنه يؤخَّر ويتوقف، فاختلف أصحابنا في المسألة على طريقين: منهم من قال: فيهما قولان بالنقل والتخريج: أحدهما - أنا نتأنى فيهما إلى مُضيّ الحر والبرد؛ لأن المقرَّ قد يصيبه أحجارٌ، فيرجع، والملاعِنُ قد يكون كاذباً ثم يشاهد المرجومة، فيرِقُّ لها، ويرى تعريضَ نفسه لحد القذف أهونَ مما يتداخله من الرقة عليها.
فإن كان هذا ممكناً، لم نبتدىء الحد لتوقع ما ذكرناه، ولا يُقدّرُ مثلُ هذا في شهادة العدول.
ومن أصحابنا من أقر النصّين في اللعان والإقرار قرارهما، وفَرَّق بأن المُقر هو المرجوم، فيغلبُ أن يرجع؛ فإن الرجوع عن الإقرار مما تستحث عليه الطبيعة والشريعةُ، وهذا في الجملة بيّن: أما حث الشرع، فسنذكر في الحدود أنا لا نؤثر للإنسان أن يقر على نفسه بفاحشة، وقد قال عليه السّلام: " من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله " (2)، وهذا يستحثه والمقر صادقٌ، ثم يطرد هذا في الرجوع عن الإقرار، وفيه مسألتُنا، فأما تكذيبُ الزوج نفسَه في كَلِم اللعان، فهو مما لا نستحث عليه، ولا نأمر به، هذه الطريقةُ المشهور.
وذكر صاحب التقريب ما ذكرناه وطريقتين أخريين: إحداهما - طرد القولين في شهادة الشهود أيضاًً، بناء على تقدير الرجوع، سيّما وأدبُ الدين أن يحضروا موضع إقامة الحد، قال الله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ} [النور: 2]، قال معظم المفسرين: أراد شهود الزنا، فلعل الغرض أن يعاينوا؛ فإنْ كان من رَيْبٍ، رجعوا إذا عاينوا.
والطريقة الأخرى - القطع بأن الثابت بالإقرار لا يؤخَّر قولاً واحداً، والقولان في الثابت بشهادة الشهود واللعان؛ فإن الإنسان لا يقر بما يوجب هلاكه إلا على ثَبَتٍ
__________
(1) جواب أما (بدون الفاء).
(2) حديت: من أتى من هذه القاذورات شيئاً ... الحديث. رواه مالك في الموطأ (2/ 825) والحاكم في المستدرك (4/ 244، 383)، والبيهقي في معرفة السنن والآثار: (6/ 358)، وانظر التلخيص: (4/ 106 ح 2039).

(15/66)


وتوطين نفس على ما يلقاه، فالرجوع بعيدٌ -وإن كان مقبولاً لو وقع- والشهادةُ واللعانُ في معرض الريْب، وهذه الطريقة فاسدة مخالفة لما عليه جماهير الأصحاب.
فصل
9681 - ثم قال: " وزعم بعض الناس ألا يلاعن بحملٍ ... إلى آخره " (1)
أراد أبا حنيفة (2) فإن من مذهبه أنه لا يجوز اللعان على الحمل.
مقصود الفصل الكلامُ في نفي الحمل باللعان، والترتيبُ فيه أن الزوج إذا أبان زوجته، ثم قذفها، وثَمَّ ولدٌ متعرِّضٌ للثبوت، فقد ذكرنا أن للزّوج أن يلتعن لنفي النسب، فلو كان بها حملٌ، وقد ظهرت الأمارة، فقذفها، وأراد نفيَ الحمل باللعان، فهل له ذلك؟ فعلى قولين: أحدهما - له النفي؛ فإن حكم اللحوق يثبت في الحمل، كما يثبحت في الولد المنفصل، فأشبه الحملُ الولدَ المنفصل.
والثاني - لا يلتعن؛ فإن الحمل غيرُ مستيقَنٍ، واللعان خطرُه عظيم، فلا يسوغ الإقدام عليه بما ليس مستيقناً.
وبنى بعض أصحابنا القولين على القولين في أن الحمل هل يُعْرف؟ وقد أطلق الأئمة في ذلك قولين، ونحن نشرحهما في هذا المقام، ونستعين بالله تعالى.
اتفق العلماء على أن الحمل غيرُ مستيقن، فكيف يفرض التردد في أن الحمل هل يعرف؟ وكم من امرأة يبدو عليها مخايل الحمل غير أنه يتبين أن الذي بها ريح غليظة مختنقة في الرحم تجد المرأة لها من [خُبْث] (3) النفس، والغثيانِ، ورُبوِّ البطن، واحتباسِ الحيض، ما تراه الحامل، ثم تنفُش (4) الريح، وينفتح [ ... ] (5) الرحم.
هذا لا ننكره، وقد يتفق تورّمٌ في الرحم على نحو ما ذكرناه.
فإطلاق القولين في أن الحمل هل يُعلم لا وجه له، إلا أن يُحمل على التعبير عن
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 165. وفي الأصل: ألا يلاعن الحمل. والتصويب من المختصر.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 510 مسألة 1056، المبسوط: 7/ 44.
(3) في الأصل: " حيث ".
(4) تنفش من نفش ينفُش: أي انتشر وتفرق بعد تماسك (المعجم).
(5) مكان كلمة غير مقروءة قبل كلمة (الرحم).

(15/67)


الأحكام التي تنفي وتثبت، فعلى هذا تكون العبارة مائلةً عن النظم السديد؛ فإنا إذا قلنا في هذا الحكم مثلاً: الحمل هل يُنْفى باللعان؟ فعلى قولين بناء على أن الحمل هل يُعلم، رجع حاصل القول إلى أن الحمل هل يُلْحَقُ في اللعان عنه بالمعلوم أم لا؟
9682 - فحاصل الكلام أن القولين أصلهما أن الحمل في هذا الحكم هل يلحق بالمعلومات؟
ونحن نقول: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الخَلِفاتِ (1) من الإبل في الدية، وهذا حكم بثبوت الحمل والاكتفاء بالأمارة، ولا يتجه غيرُه؛ لأنا لو أوجبنا الفُصلان، لزِدْنا على العدد، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يُثبت الحمل صفةً، ثم لا فَوْت؛ فإن بان بعض الخَلِفات حوائل بدّلناها.
ووجوب الإنفاق على المعتدة البائنة الحامل على طريقين: منهم من خرجه على ما ذكرناه من القولين، فقال في قول: يجب تنجيز الإنفاق، ثم إن بانت حائلاً، استرْدَدْنا [ما أنفقناه] (2)؛ فإن في تأخير الإنفاق إضراراً بيّناً ناجزاً، واستردادُ النفقة أهون من تعجيل الإضرار بالحمل على الانتظار.
ومن أصحابنا من خرّج الإنفاق على قولين مَصيراً إلى أن الأصل براءة الذمة عن النفقة، وقد انقطع عصام النفقة، ولم نستيقن سبباً متجدداً، وإذا ظهرت أمارُة الحمل، لم نُقم حدّاً ولا قصاصاً محافظةً على الحمل، فلا ضرار في تأخّر العقوبة.
وفي نفي الحمل باللعان تردُّد، [وهو أنا في وجهٍ نرى النسب حريّاً بالثبوت] (3) فلا نبتدر، بل نتوقف إلى وقوع الاستقلال، وفي قولٍ يجوز اللعان خيفة أن يموت
__________
(1) الخَلِفة: الحامل من الإبل، وجمعها مخاض. كما تجمع المرأة: بالنساء، وهو من غير لفظها. (غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 838، والمصباح) وهنا جمعها الإمام بالألف والتاء.
(2) زيادة من المحقق لإيضاح المعنى.
(3) عبارة الأصل فيها اضطراب وغير مستقيمة، فقد جاءت هكذا: " وهو في أوانه لا نأمن وجه نرى النسب حرياً بالثبوت ".

(15/68)


الزوج، فيلتحق الولد الدَّعي بشجرته، [وليس] (1) منه، فالأحكام إذاً على التفاوت: لا خيفةَ (2)، فيجري بعضها على القطع بوجود الحمل، وبعضها على الاختلاف والتردّد، فأطلق بعضُ الناس قولَيْن في أن الحملَ هل يُعلم؟
9683 - هذا كله في الحمل بعد البينونة، فأما إذا كان الحمل في قيام الزوجية، فالذي ذهب إليه المحققون أنه يجوز نفيه باللعان.
وذهب بعض أصحابنا إلى تخريج القولين في حمل النكاح أيضاًً، وهذا إن كان محتملاً في مسلك المعنى [، فتقريب حالة الزوجية] (3) من حالة البينونة في أن نفس النسب فيهما على وتيرة واحدة، كما أن اللحوق فيهما على وتيرة واحدة [لا] (4) سبيل إلى القول به؛ لما صح أن العجلاني لاعن عن امرأته، ونفى حملَها، ثم أتت به بعد اللعان على النعت المكروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا الإيمان، لكان لي ولها شأن "، وهذا لا دَفْع له، وفي الحديث أنه برّأ ظهره، ونفى نسبه.
وقد يتجه فرقٌ من طريق المعنى؛ فإن اللعان في صلب النكاح، يجد معتمداً؛ إذ يُتصور جريانُ اللعان دون النسب [المتعرض للثبوت] (5) فلا يمتنع أن يجرى اللعان على أصله، ثم الحمل ينتفي تبعاً.
والتبعيةُ ليست منكرة في الحمل، فإن الحمل قد يثبت مبيعاً تبعاً للأم. نعم، لا يفرد الحمل بالبيع، فلذلك لا يمتنع ألا يفرد بالنفي بعد البينونة، والفرق بين ما يثبت تابعاً وبين ما يثبت مقصوداً بيّنٌ في أصول الشريعة، فالثمار قبل الزَّهو لا تباع مُطْلقة (6)، فإذا بيعت مع الأشجار، بيعت مُطْلقة، وزالت التبعية إلى غير ذلك من الأمثلة.
__________
(1) في الأصل: فليس.
(2) كذا تماماً: " لا خيفة "!!
(3) في الأصل: وتقريب الحالة الزوجية.
(4) في الأصل: فلا.
(5) في الأصل: لتعرض الثبوت.
(6) أي بدون شرط القطع.

(15/69)


هذا ما أردنا أن نذكره في نفي الحمل.
ثم سيأتي بابٌ في أن نفي الولد على الفور على الأصح من المذهب، ونفيُ الحمل ليس على الفور وفاقاً، لما فيه من التردد. فلئن كنا نحمل تأخير النفي في الولد على الرضا به واستلحاقه، فهذا لا يتجه في الحمل؛ [فإن الرجل ربما يبني الأمرَ] (1) على أن ما يَحسَبه حملاً ليس بحمل، فإذا لم يكن كُفي التعرضَ للشهرة والفضيحة، فلا يتجرّد في التأخير وجهُ الرضا، وهذا لم أر فيه خلافاًً.
9684 - ثم تعرض الشافعي لمحاجّة يطول ذكرها، فقال: " وزعم بعض الناس أن لو جامعها وهو يعلم حملها ... إلى آخره " (2).
أراد بهذا أبا يوسف؛ فإنه قال: إذا أتت المرأة بولدٍ، أُمهل الزوج في النفي مدة النفاس: أربعين يوماً، وعند أبي حنيفة يُمهل بعد الولادة ثلاثة أيام (3)، وسيأتي أقوال الشافعي في ذلك، وإنما نَقِم في هذا الفصل مذهبَ من يقدِّر بمدة النفاس، وأطال في هذا كلامه ولسنا له [الآن] (4).
وذكر محاجة أخرى في ماهيّة اللعان وأنه عقوبة أو حُجة، وتعرض للحبس في اللعان، وقد استقصينا هذه المسالك في (الأساليب).
...
__________
(1) في الأصل: "فإن الرجل بما يبين الأمر". والمثبت من تصرّف المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/ 165.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 216، المبسوط: 7/ 50، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 502 مسألة 1048.
(4) زيادة لإيضاخ الكلام.

(15/70)


باب ما يكون قذفاًً وما لا يكون قذفاً
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ولدت امرأته ولداً ... إلى آخره " (1).
9685 - إذا قال الزوج وقد ولدت امرأته ولداً: هذا ليس مني، أو هذا ليس بابني، فنذكر أولاً ما في كلامه من جهات الاحتمال، ثم نبني عليها الحُكمَ، فقوله المذكور يحتمل خمسة أوجه: أحدها - أن هذا لا يشبهني خلْقاً وخلُقاً.
والثاني - أن يريد نسبته إلى الزنا.
والثالث - أن يريد نسبته إلى شبهة.
والرابع - أن يريد نسبته إلى زوجٍ قبله.
والخامس - أن يقول: ما ولدتُ هذا [الوليدَ] (2) أصلاً.
والاحتمالات المتقدمة مفروضة فيه إذا سلّم ولادتها لو ثبتت ولادتُها بطريق من الطرق، ثم يقول ما يقول.
ونحن نذكر الآن الاحتمالات مع تسليم الولادة في الفراش، لزمانٍ يُحتمَلُ أن يكون العلوق به حاصلاً في الفراش، ثم نذكر إنكار الزوج الولادة.
فأما ما يقع مع تسليم الولادة، فيستثنى منها أنه لو فسر ما قاله بنسبتها إلى الزنا، فالذي جاء به قذفٌ؛ فإن القذف يتطرق إليه الصريح والكناية، فإذا أتى الإنسان بكنايةٍ وفسرها بالزنا، استوجب ما يستوجب المصرِّح، ومالك (3) يجعل كل ما يحتمل القذف احتمالاً ظاهراً بمثابة القذف الصريح، ويجعل معتمدَ الباب في إيجاب الحد
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 169.
(2) في الأصل: الدليل.
(3) ر. القوانين الفقهية: 350، جواهر الإكليل: 2/ 287.

(15/71)


الإيذاءَ، ويزعم أن [المكاني] (1) لا تقْصُرُ في الإيذاء [عن] (2) الألفاظ المصرّح بها.
وذهب بعض العلماء إلى أن الكناية لا تكون قذفاًً مع النية؛ فإن النية لا تتضمن إيذاء.
[والشافعي] (3) قسم القذف إلى الصريح والكناية، وفيه سرٌّ، وهو أن الكناية إنما تلتحق بالقذف الصريح إذا فسرها بالقذف الصريح، ثم لا يتأتى منه تفسيرها به إلا بأن يعرب عن قصده، فهذا معنى القصد.
وإن قال قائل: الحدُّ هل يجب بينه وبين الله؟ قيل هو كاذب، ولكن لا يبين كذبُه في حق المقذوف ما لم يفسَّر، ولو روجعنا، فقيل لنا: يجوز أن يترك التفسير أم عليه أن يفسر ليستوجب الحد؟ كان الظاهر عندنا أنه لا يلزمه أن يفسر لو تُرك ولم يُرهَق (4) إلى البيان بالتحليف، ثم إذا لم يبيِّن، فليس بدعاً أن نقول: لا يستوجب الحد بينه وبين الله تعالى، وإن حُمل على البيان وعُرضت عليه اليمين، فلا رخصة في يمين الغموس، فإن نكل، لم يَخْفَ إجراءُ الخصومة إلى منتهاها.
فحاصل القول: أن الكناية التي تُوقع حكماً مع النية كالطلاق، وتنزل منزلة الصريح باطناً، والحدُّ يجب زجراً للكاذب، والكاني [بالقذف مُؤذٍ] (5) وإيذاؤه يسلّط المقذوفَ عليه، حتى يكون أحدَ رجلين: إما أن يصرح فَيُحدَّ، وإما أن ينكل. ثم يَرجعُ النظر إلى [تورعّ] (6) المردود عليه [عن] (7) اليمين [أو إقدامه] (8) عليها.
هذا مأخذ الشريعة عندنا.
__________
(1) في الأصل: المكان.
(2) في الأصل: على.
(3) في الأصل: فالشافعي.
(4) يرهق: يقال أرهق فلاناً حمله على ما لا يطيق.
(5) في الأصل: والقذف.
(6) في الأصل: التورعّ.
(7) في الأصل: على.
(8) في الأصل: أو على إقدامه.

(15/72)


وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن الحد يجب باطناً، وليس للكاني أن يكتمه، كما ليس لمستوجب القصاص أن يكتم القصاص الواجب عليه، وهذا [مشكل] (1)؛ من جهة أن القذفَ ليس إتلافاً، ولا إنشاءَ حكم، وإنما هو إيذاءٌ بالنسبة إلى فاحشة، وهذا إن كان يحصل بالكناية، فينبغي أن يوجب الحدّ من غير مراجعة، وإن كان لا يحصل بالكناية، فالقصد لا يؤثر في مزيد الإيذاء.
وقد انتهى غاية ما نحاوله.
ثم إذا حلف أنه لم يقصد القذف، فالتعزير يثبت بالكناية، ولا يخلو ما جاء به عن نوعٍ من العقوبة الرادعة.
9686 - فإذا تمهد هذا الأصلُ، فليخرج من الاحتمالات تفسيرُ اللفظ الذي نحن فيه بالزنا؛ فإنه إن جرى ذلك، كان ما ذكره قذفاً، ويتعلق به أحكام قذف الأزواج.
9687 - فإن زعم أنه ما أراد نفيَ النسب، وإنما أراد أن الولد ليس يشبهني خلْقاً وخلُقاً، [فظاهر] (2) النص هاهنا أن هذا التفسير مقبول منه، وإن نازعت، فسنذكر كيفيةَ فصل الخصومة.
وقال الشافعي رضوان الله عليه بعد هذا: " إذا قال رجل لإنسان لست ابنَ فلان، فنفاه عن أبيه المشهور، ثم زعم أنه أراد بذلك أنك لا تشبهه شيمةً وسجيّةً وكرماً وخيراً، فلا يقبل هذا التفسير منه، ويجعلُ قذفاًً صريحاً، فاختلف أصحابنا في قول الزوج (3) وقول الأجنبي على طريقين: فمنهم من قال: فيهما قولان نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن اللفظ صريح في القذف، ووجهه جريانُ العرف على الاطّراد بإرادة القذف بهذا اللفظ، والنسبُ لا ينفى صريحاً إلا والمراد به النسبةُ إلى الغيّ ونقيض الرشد، والصرائح إنما تؤخذ من الشيوعِ وعمومِ القذف؛ إذا لم يكن [للشرع] (4) تعبد في حصر الألفاظ.
__________
(1) في الأصل: مسلك.
(2) في الأصل: وظاهر.
(3) أي قول الزوج لست ابني.
(4) في الأصل: للشيوع.

(15/73)


والقول الثاني - أن هذا اللفظ ليس بصريح؛ فإنه ليس فيه تعرّض للزنا، ولا لغيره، واللفظة مؤوّلة في نفسها.
[وهذا] (1) هو الأصح.
ومن أصحابنا من أقر النصين قرارَهما، وقال: إن كان القائل أباً، فهذا محتمل منه بتأويل تأديب الابن والتنديد عليه، وإن كان القائل أجنبياً، ولم يكن أباً، فالمحمل الأظهر -وليس الأجنبي في محل التأديب- القذفُ الصريح.
هذا بيان تردد الأصحاب في ذلك.
واختيار المزني طرد القولين، وهذه عادته؛ فإنه يتشوف إلى تخريج القولين مهما اشتمل الكلام على نوعٍ من التردد.
9688 - ونحن نستتم الآن هذا الفصل فنقول: إن لم نجعل هذا اللفظ صريحاً من الأب، فإذا فسره بما ذكرناه من أن هذا المولود لا يشبهني خَلْقاً وخُلُقاً، فلو قالت المرأة: أردتَ به القذفَ، فلها أن تحلّفه، فإن حلف أنه لم يرد به القذفَ والنسبةَ إلى الزنا، وإنما أراد ما أشرنا إليه، برىء من الحد، وإن عرضنا عليه اليمين، فنكل عن اليمين، رُدت على المدّعية، فإن نكلت، كان نكولها كيمين الزوج، وإن حلفت يثبت القذفُ والحدّ.
قال الأصحاب: للزوج أن يلتعن، ولم يتعرضوا لتجديد قذفٍ، والمذهبُ فيه أن الزوج إذا جدد قذفاًً بُني اللعان عليه، وانتفى الحد عنه، وإن لم يجدد قذفاًً، وأراد الاكتفاء بما مضى، فقد ذكرنا أصل هذا فيه إذا ادعت المرأة على زوجها أنك قذفتني، فأنكر الزوج، وأقامت المرأة البينة على أنه قذفها، فهل يلاعن من غير قذف جديد؛ فيه تفصيل قدمناه.
ويتجدد في هذه المسألة أصلٌ آخر لا بد من التنبه له، وهو أن الزوج إذا كنى وثبتت الكناية بيمينه، فقد ذكرنا أن الكناية توجب التعزير؛ من حيث إنها تؤذي،
__________
(1) في الأصل: فهذا.

(15/74)


وإنما يختص بالصريح وبالكناية مع النية الحدُّ، فأما التعزير، فإنه يتعلق بدون ما نحن فيه.
ثم إذا [كان] (1) يَثْبتُ التعزيرُ، فهل له أن يدفع عن نفسه التعزيرَ الذي قُدّر ثبوته باللعان؟ الوجه أنه ليس له دفعه باللعان؛ فإن المدفوع باللعان عقوبةٌ تجب بالنسبة إلى الزنا، سواء كانت حداً أو تعزيراً. فأما إذا أثبت الزوج أنه لم ينسِب إلى الزنا، فاللعان لا يتعلق بكل إيذاء.
فيخرج منه أنه إذا ادعى أولاً أنه كنى وما قذف، ثم ثبت بيمين الرد كونُه قاذفاً، فهو كما لو أنكر أصل القذف، وأقامت المرأة بينة على أنه قذف، فإن [أراد] (2) أن يلتعن، فقد [تصرّم] (3) القول فيه، والذي ذكرناه من إلحاق الكلام في هذا المنتهى، فذلك بيّن لا إشكال فيه.
9689 - ولو قال: أردت نفي النسب مع الإقرار بالولادة، ولكني رُمت نسبة هذا الولد إلى وطء شبهة أو إلى زوجٍ قبلي، فإن أراد فيما زعم [النسبةَ] (4) إلى وطء الشبهة، فالقول قوله مع يمينه، ثم كيفية إدارة الخصومة كما تقدم، فإن أراد نسبة الولد إلى زوج زعم أنه كان قبله، نُظر: فإن عُهد لها زوجٌ قبله، فتفسيره مقبول مع يمينه، وسياقة الخصومة على نحو ما مضى، فإن لم يعهد لها زوج قبله، فلا يقبل قوله.
9690 - وحقيقة هذا القسم ترجع إلى نفي ولادتها على فراشه، وهذا نقرره الآن في القسم الثاني، فنقول:
إذا قال الزوج لزوجته: ما ولدتِ هذا الولد، بل استعرتيه (5) أو التقطتيه، فالقول قول الزوج في نفي الولادة؛ فإن الأصل عدمُها، ولئن كنا نُلحق الولد المولود على
__________
(1) في الأصل: كانت.
(2) في الأصل: الراد.
(3) في الأصل: يضرّ.
(4) في الأصل: بالنسبة.
(5) استعرتيه بإثبات ياء المخاطبة، وسبق أن أشرنا إلى أن ذلك جائز وواردٌ في الفصيح وعليه شواهد من الحديث الشريف.

(15/75)


الفراش بالفراش لقوّته، فلا نحكم بأن الفراش يقتضي وقوعَ الولادة، فالقول إذا قول الزوج.
فإن أقامت المرأة بيّنةً: أربعَ نسوة ثقاتٍ على أنها ولدت هذا الولد على الفراش، فيثبت النسب إلى أن يتكلم في نفيه، وإن لم يكن لها بيّنة، فجاءت بقائف يُلحقه بها بالشبه، [فهل] (1) ينزل منزلةَ البينة على ثبوت الولادة؟ فعلى وجهين ذكرهما بعض المصنفين: أصحهما - أن الولادة لا تثبت بهذا؛ فإنها أمر محسوس يمكن إثباته بطريق العِيان، والقيافة إنما أُثبتت شرعاً عند الالتباس وانحسام المسلك.
وهذا قريب من الاختلاف في أن المولود إذا تداعى ولادتَه امرأتان، فهل يحكم القائفُ في الإلحاق بحداهما، مع إمكان إثبات الولادة بالمشاهدة على الجملة؟ وعليه ينبني أن المرأة هل لها دعوى؛ فإنها على الجملة متمكنة من إثبات الولادة؟ ولهذا قلنا: الأصح أن الزوج إذا علّق الطلاق بولادتها، فذكرت أنها ولدت، فلا يقبل قولها إلا على رأي ابن الحداد، كما قدمناه في الفروع، ولو كان التعليق على حيضها، ثبت الحيض بقولها؛ إذ لا مُطَّلَع عليه إلا من جهتها.
9691 - ونعود بعد ذلك إلى ترتيب الخصومة: فإن لم تقم بينة، ولم نجد قائفاً، أو قلنا: لا حكم للقيافة في هذا المقام، فالقول قول الزوج؛ فإن حلف، انتفت الولادةُ والنسب، وهل يَلحق المولودُ بالأم؟ فوجهان، بناءً على أن المرأة هل لها دعوى، وفيه جوابان أشرنا إليهما.
فإن نكل الرجل عن اليمين، فقد نص الشافعي هاهنا على أن اليمين تردّ عليها، فتحلف، ويثبت النسب، ونص في كتاب العدة على أن المعتدة لو أتت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم طلاق الزوج، وادّعت أنه راجعها أو وطئها بالشبهة، فالقول قول الزوج، فإن نكل لا ترد اليمين عليها في دعوى المراجعة والوطء بالشبهة.
واختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسالتين قولان بالنقل والتخريج:
__________
(1) في الأصل: فهذا.

(15/76)


أحدهما - أن اليمين غيرُ مردودة على المرأة في دعوى الاستعارة ودعوى الرجعة؛ فإن النسب ليس حقَّها، فيستحيل ردّ اليمين عليها.
والقول الثاني - أن اليمين ترد عليها لتغسل العار عن نفسها؛ إذ نُسبت إلى الكذب في دعوى الولادة، وللأم على الجملة حق ولاية على الولد، ولهذا جوز الشافعي لها أن تأخذ نفقة ولدها سراً، كما دل عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند: " خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف ".
فإن حكمنا بأن اليمين لا ترد عليها، فتصبر إلى أن يبلغ الطفل، فتُرد اليمين عليه.
وإن قلنا: ترد اليمين عليها، فإن حلفت، ثبتت الولادة، وترتب عليها ثبوت النسب، والنسبُ لا يثبت قصداً بشهادة النسوة ولا بيمين الرد، ولكن الولادة تثبت، ثم الولد للفراش، هذا إذا حلفت.
فأما إذا نكلت عن اليمين، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنه يوقف الأمر إلى أن يبلغ المولود ويحلف؛ لأن الحق له.
والثاني - ليس للمولود أن يحلف بعد البلوغ؛ لأن يمين الرد لا ترد بهذا.
9692 - ولهذا نظائر سيأتي ذكرها في كتاب الدعاوى إن شاء الله تعالى: منها أنه لو أقرّ الراهن بأن العبد المرهون قد جنى قبل الرهن، وقلنا: لا يُقبل قوله، وجعلنا القول قول المرتهن، فإذا نكل عن اليمين ورددنا على الراهن، فلو نكل عن يمين الرد، ففي ردها على المجني عليه قولان، [وإذا] (1) أقام الوارث شاهداً واحداً بدينٍ [لأبيه] (2)، وامتنع عن الحلف معه، فقال غرماء المتوفى: نحن نحلف مع الشاهد (3) فهل لهم ذلك؟ ولعلنا نُحْوَج إلى ذكر هذا الفصل مستقصىً في القسامة، إن شاء الله.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قال: في [مسألة] (4) الاستعارة والنكاحُ قائم: اليمينُ مردودة
__________
(1) في الأصل: فإذا.
(2) في الأصل: لابنه.
(3) مع الشاهد: أي مع شاهدٍ واحد.
(4) في الأصل: المسألة.

(15/77)


على الزوجة، فإذا كان النزاع في الرجعة أو وطء الشبهة بعد الطلاق، فلا ترد اليمين كما اقتضاه النصان، والفرق أن النكاح إذا كان قائماً، فادعى الزوج الاستعارة فجانبها متقويّة بالفراش الدائم، فصدقناها. وفي المسألة الأخرى صارت تدعي رجعةً ووطء شبهة والأصل عدمُ ما تدعيه، ودوام الفراش قد يدل على الغِشيان المفضي إلى العلوق.
هذا منتهى الكلام في المسألة، وقد أجرينا في أثناء الفصل نسبةَ الولد إلى وطء الشبهة، ونحن نعقد الآن في هذا فصلاً جامعاً؛ فإنه من غوائل الكتاب من وجه، وهو أيضاًً من الأصول الظاهرة التي [يبتدرُ] (1) السائل ويستفصل فيها، ونحن بعون الله نأتي به موضحاً مصححاً.
فصل
9693 - اللعان لا يجري إلا بعد أن تُنسبَ المرأةُ إلى وطء محرَّمٍ في النكاح، وإن أحْبَبْنا، قلنا: إلى وطٍ؛ لا نحكم بتحليله حتى لا يمنعَ [وطءُ] (2) الشبهة عن الدخول تحت موجَب الكلام، فإذا أتت المرأة بولدٍ في النكاح لمدة يُحتَمل أن يكون العلوق [به] (3) في النكاح، وتثبت الولادة بلا نزاع، فأراد الرجل أن ينفيه، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يملك نفيَه ما لم ينسبه إلى وطءٍ غيرِ حلال، فلو [ذكر زنا] (4) ونسب الولدَ والمرأةَ إليه، فهذا أصل كتاب اللعان، فليلتعن.
وإن نسبها إلى وطءٍ غيرِ مُحلَّلٍ ولا مباحٍ، فحاصل القول فيه وجهان على الترتيب المرضي: أحدهما - أنه لا يصح اللعان إلا بقذفٍ صريح، حتى لو نسبها إلى وطء شبهة أو وطء استكراه، فلا سبيل إلى اللعان.
وهذا الوجه ضعيف، ولكن معتمده التعلُّقُ بظاهر القرآن فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ
__________
(1) في الأصل: يبتدل.
(2) في الأصل: ووطء.
(3) في الأصل: بها.
(4) في الأصل: وإن ذكرنا دنا ونسب.

(15/78)


يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6]، والرمي في مرتبة الصريح، ثم هو مؤكد بالتعرّض لعدم الشهود، وهذا إنما يليق بالقذف الصريح.
والوجه الثاني -وهو الأصح- أنه لو نسبها إلى وطءٍ غيرِ مباح، وأضاف الولد إليه؛ فإنه يلاعن، كما لو صرح بالقذف. والوجهان ذكرهما المراوزة.
قال الشيخ أبو علي في التفريع عليهما: إذا قلنا: لا بد من القذف الصريح، فلا يُظنّ أنا نشترط قذفاًً يتعلق بالنسبة إليه وجوب الحد، ولكن يكتفى بأن يكون القذف في نفسه صريحاً، ثم لا يضر لو سقط الحد، بمعنىً من المعاني، فلو قذف زوجته الأمة أو الكتابية، فله اللعان ونفي الولد، وإن لم يستوجب حداً، [كما إذا] (1) نسبها إلى وطء استكراه، مثل أن يقول: أكرهك فلان، ووطئك، وهذا الولد من ذلك الوطء، ففي المسألة وجهان؛ فإنه وإن قذف الواطىء يقذفها، والنظرُ في قذفها إلى [جانبه] (2).
وهذا الترتيب ساقه صاحب التقريب، وهو حسن.
9694 - وأما العراقيون، فقد ذكروا في ذلك تفصيلاً: أنا ذاكره، إن شاء الله تعالى، وذلك أنهم قالوا: إذا نسب الولدَ إلى وطء شبهة، فإن قلأرَ الواطىءَ واطئاً بشبهة وقدَّرها ممكِّنةً بشبهة، أو عالمةً زانية، فلا لعان. هكذا قالوا؛ لأنه إذا وصف الواطىء بالشبهة، فالولد يلحقه، فقد أسند الولدَ إلى شخصٍ في جهةٍ يلحق النسب فيها، وإنما يثبت اللعان إذا نَفى نسبَ الولدِ عن نفسه.
وعللوا هذا بأن قالوا: إذا نسب الولد إلى وطء شبهة، فهذا مكان القيافة؛ إذ المنكوحة إذا وطئت بالشبهة في صلب النكاح، ثم تردد الولد بين الواطىء بالشبهة وبين الزوج، فالحكم أنا نُري الولدَ القائفَ، وكان من الممكن لو أريناه القائف أن ينفيه عن الزوج، وإذا أمكن نفيٌ سوى اللعان، لم يجز اللعان؛ فإن اللعان حجةُ ضرورة.
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة.
(2) في الأصل: جانبها.

(15/79)


وقالوا على هذا القياس: لو نسبها إلى الزنا بأن قال: كنتِ عالمة بما يجري، وإنما الواطىء بالشبهة هو الذي اشتبه عليه الأمر، قالوا: فلا تلاعن في هذه الصورة؛ ذلك لأن النسب ثابت في هذه الصورة.
وحاصل كلامهم أن الزوج إذا نسب الولد إلى جهةٍ يثبت النسب فيها، فلا لعان.
ولو قال لها: زنى بك فلان، واستكرهك على الزنا، فأتيتِ بهذا الولد عن هذه الجهة، فهل يلاعن؟ قالوا: في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يلاعن؛ لأنه لم ينسبها إلى زنا هو زناً من الجانبين، فصار كما لو كان الواطىء بالشبهة.
فانتظم من كلامهم: أنه إذا نسبها إلى ما هو زنا محض وأضاف الولد إلى تلك الجهة، فعند ذلك يلاعن قطعاً، فإذا أضاف الولد إلى جهة يثبت نسبه فيها من الأب، فلا لعان؛ فإن الجهة التي [ذكرها] (1) جهةُ نسب.
وبمثله لو نسبها إلى الاستكراه، ولم ينسبها إلى الزنا، وذكَرَ الزنا في جانب الواطىء، ففي المسألة وجهان.
9695 - فإذا جمعتَ ما ذكرناه عن صاحب التقريب إلى ما ذكره العراقيون، كان مجموعُ ذلك أن الولد إذا نُسب إلى الزنا المحض، لاعن بلا خلاف.
وإن نسبه إلى وطء الشبهة، والشبهة شاملة للجانبين جميعاً، فالذي ذكره العراقيون القطعُ بأن اللعان لا يجري.
وفي طريق صاحب التقريب تردُّدٌ وإشارةٌ إلى خلاف، ووجه الخلاف أنا في مسلكٍ نقول: لا يلاعن أصلاً؛ فإنه لم يُضفها إلى الزنا، والإضافة إلى الزنا مشروطة في كتاب الله تعالى.
والوجه الثاني - أنه يكفي في نفي الولد أن يقطعَه عن نفسه وينسبَه إلى جهة أخرى، ولا معنى لاشتراط كون تلك الجهة زنا، والذي ذكره من أن القيافة ممكنة، لا حاصل له؛ فإن القيافة إنما تجري إذا اعترف الواطىء بالشبهة، ووُجد التداعي بين الزوج وبين الواطىء بالشبهة؛ فإذ ذاك نري الولدَ القائفَ، فلا معنى
__________
(1) في الأصل: ذكرناها.

(15/80)


للتعليل بما ذكروه والأولى التمسك بالكتاب والدعاء إلى اتباع مقتضاه.
وأما فرق العراقيين بين أن ينسبها إلى الاستكراه والواطىء زانٍ وبين أن يكون الواطىء بشبهة، فحسنٌ.
والأَوْلى في الترتيب أن نقول: إذا نسب الولد إلى وطء شبهة والشبهة تشمل الجانبين جميعاً، فوجهان: أحدهما - أنه يلاعن (1).
والثاني - لا يلاعن، وهو الذي قطع به العراقيون.
فإذا نسبها إلى الاستكراه والرجل زانٍ، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الأولى، وهذه الصورة أولى بجريان اللعان.
فأما إذا قال: هذا الولد ليس مني، فإنما هو من غيري، ولم يتعرض للزنا والشبهة، فهذه صورة لم يتعرض لها العراقيون، وإنما ذكرها صاحب التقريب وحكى فيها خلافاً، وهي مردّدة بين النسبة إلى الوطء بالشبهة وبين صورة الاستكراه.
قال: "ولو نفينا عنه ولدها باللعان، ثم جاءت بعده بولد ... إلى آخره" (2).
فصل
9696 - إذا نفى نسبَ مولودٍ، فلا يخلو: إما أن يقع ذلك في النكاح، وإما أن يقع بعد البينونة، فإن وقع ذلك في النكاح، فإذا نفى الولدَ الموجودَ في النكاح باللعان، ثم أتت بعد ذلك بولد لأقلّ من ستة أشهر، فقد تبين أن الولدين جميعاً من حمل واحد، فإنهما توأمان، فنقول له: إن لاعنت مرة أخرى ونفيت الثاني، انتفى عنك الولدان، وإن أبيت يلتحق بك الأول والثاني.
والجملة أن التوأمين لا يتبعض أمرهما، فإذا نفى الأول، لم يكف نفيُه، ولو قال: إذا نفيتُ الأول، فقد نفيتُ الثاني أيضاً، قيل له: لا، بل إذا امتنعت عن اللعان
__________
(1) في الأصل: لا يلاعن.
(2) ر. المختصر: 4/ 173.

(15/81)


عن الثاني، فكأنك امتنعت عن اللعان عن الأول، ولم تتعرض في لعانك لغير الأول، ولا سبيل إلى التبعّض.
ولو جرى اللعان الأول في النكاح، كما صورناه، ولكن كان بين الولدين ستةُ أشهر، فنعلم أن الولد الثاني تجدد العلوق به بعد انفصال الولد [الأول] (1)، فإذا نَفَى الأولَ، انتفى عنه، وهو رأس أمره (2) في الولد الثاني، فإن نفاه بلعانٍ مجدد، انتفى عنه، وهذا اللعان، وإن كان مُنْشأً في حالة البينونة، فهو يتعلق بنسب متعرِّض للثبوت، والعلوقُ بالولد ممكن في حالة النكاح، فإنه [وإن] (3) نفى الولد الأول، فلعله وطىء بعد انفصال الولد وقبل إنشاء اللعان، فحصل العلوق بالولد الثاني، ثم إنه ابتدأ فنفى الأول باللعان الأول.
وكل ما ذكرناه [فيه] (4) إذا نفى الولدَ الأولَ بعد انفصالٍ، ثم تخلل بين الولدين أقلُّ من ستة أشهر أو ستة أشهر فصاعداً، وقد وقع التعرض للولد.
فأما إذا نفى الحملَ باللعان، ثم انفصل ولدان بينهما أقلُّ من ستة أشهر، فهما جميعاً [منفيان] (5) عنه، ولو أتت بأكثرَ من ذلك عن بطن واحدة، فاللعان الأول كافٍ؛ فإنه تعرض فيه لنفي الحمل، واسمُ الحمل ينطلق على ما اشتمل الرحم عليه واحداً كان أو أكثر.
ولو نفى الحملَ كما ذكرناه، فأتت بولدين بينهما ستة أشهر فصاعداً، فنقول: ينتفي باللعان الولدُ الأول، ولا ينتفي الولد الثاني باللعان، بل ينتفي بلا لعان، والسبب فيه أن الفرقة وقعت باللعان، فلما أتت بالولد الأول، انقضت عدتها بوضع ذلك، فلا يحتمل وقوع العلوق بالولد الثاني في النكاح، وإن كان كذلك، فنسبه منتفٍ بلا لعان.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) رأس أمره: واضح أن المعنى: هو صاحب الرأي في الولد الثاني: استلحاقاً أو نفياً.
(3) زادها المحقق لاستقامة الكلام.
(4) في الأصل: منه.
(5) في الأصل كلمة غير مقروءة، رسمت هكذا (شنان) بهذا الرسم تماماً وهذا النقط (انظر صورتها).

(15/82)


هذا كله تفصيل القول فيه إذا جرى إنشاء اللعان في النكاح، ثم أتت بتوأمين عن بطني واحد، أو أتت بولدين عن بطنين.
9697 - فأما إذا أبانها بالطلاق، ثم أتت بولد، فنفاه باللعان، فأتت بولدٍ آخر لأقلَّ من ستة أشهر، قلنا له: إن [نفيته] (1) بلعانٍ آخر، فذاك، وإن [أبيت] (2)، لحقك الثاني، وإذا لحقك الثاني يلحقك الأول؛ فإن الحمل الواحد لا يتبعض، فلا يجوز فرضه من شخصين، وقد ذكرنا أنه لا ينتفي باللعان إلا من نفاه.
وقد تكلف أئمتُنا في هذا كلاماً لا حاجة إليه، فقالوا: في التوأمين نفيٌ ولحوق، فالحمل الواحد لا يتبغض، فإذا اجتمع النفيُ واللحوقُ وجب تغليبُ الأقوى، واللحوق أقوى من النفي في الأولاد الذين استند العلوق بهم إلى الفراش تحقيقاً أو إمكاناً.
والدليل عليه شيئان: أحدهما - أن الولد يلحق من غير استلحاقٍ إذا كان على النعت الذي ذكرناه، ولا ينتفي من غير نفي، والدليل على ذلك أيضاًً أن الولد الذي نفاه الملاعن باللعان لو استلحقه بعد النفي، لحقه، فإذا استلحق مولوداً، ثم أراد نفيه باللعان، لم يجد إليه سبيلاً.
فظهر من ذلك أن اللحوق أقوى، فإذا تعارض اللحوق والنفيُ في التوأمين، وجب تغليب اللحوق.
وهذا الكلام مستفاد، ولكن لا حاجة إليه في تعليل ما ذكرناه في التوأمين، وذلك أن الحمل الواحد لا يتبعض، وصورةُ ثبوت ولدين فيه إذا كثرت مادّة الزرع، فَيُخلَقُ منها ولدان، ولا يفرض اشتمال الرحم على ولد، ثم [يفرض] (3) علوق بعده بولدٍ آخر؛ فإن الرحم إذا اشتمل انسد فوهةُ الرحم، فاشتغل بتقدير الإله بتربيته، فلا يتأتى منه قبول منيٍّ آخر، فإذا كان كذلك، وقد نفى الملاعن أحد التوأمين، فلا ينتفي
__________
(1) في الأصل: نفيت.
(2) في الأصل: ثبت.
(3) في الأصل: فرض.

(15/83)


الثاني؛ فإنه لم ينفه، فإذا لم ينتف واستحال التبعض، لزم اللحوق، وهذا القدر كافٍ.
والدليل عليه أن اللحوق والنفيَ لو كانا متكافئين في القوة، لكان الجواب كذلك.
هذا إذا أنشأ اللعان بعد البينونة، وتعرض لنفي المولود المنفصل، ثم بان توأمان.
فأمّا إذا تعرض لنفي الحمل، انتفى الولدان الكائنان من بطن واحد، لما قررناه قبلُ.
ولو نفى الولدَ المنفصلَ بعد البينونة، فأتت بالولد الثاني لستة أشهر فصاعداً، انتفى الولد الثاني بلا لعان؛ فإن الأول تعرض للثبوت لإمكان وقوع العلوق به في النكاح، والولد الثاني تحقق العلوق [به] (1) بعد ولادة الولد الأول، وهذا بيّنٌ.
9698 - وإذا نفى الرجل في النكاح أو بعد البينونة توأمين، إما أن يتعرض للحمل وإما أن يلاعن مرتين، فلا شك أن التوأمين أخوان من الأم، فإن اللعان لا يتضمن قطعَ أحكام الولادة من جانب الأم، وولد الزنا من أمه الزانية كالولد النسيب، فكل قرابةٍ تترتب على الأمومة، فهي ثابتة لا شك فيهما.
ونسبهما ينقطع عن الملاعن، فليس أباهما حكماً، وليسا ولديه.
وهل يثبت بينهما أخوة الأب؛ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنه لا تثبت ولعله الأصح؛ فإن الأخوة من الأب مترتبة على ثبوت الأبوة والبنوة، فإذا لم تثبت الأبوة بَعُدَ أن يثبت فرعها.
والوجه الثاني - أنهما يتوارثان بأخوة الأب؛ فإن الأب إنما يقْطَعُ باللعان الذي بينه وبينهما، فأما ما يثبت بينهما، فلا يؤثر اللعان في قطعه.
وهذا ضعيف لا اتجاه له.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(15/84)


9699 - ثم قال: "ولو مات أحدهما ثم التعن نَفَى عنه الحيَّ والميتَ ... إلى آخره" (1).
إذا ولدت المرأة توأمين، ومات أحدهما أو ماتا جميعاً، فأراد الزوج نفيهما بعد الموت، أو نفي الميت منهما والحيَّ، جاز له ذلك [فإذا وُلدا معاً أو بينهما أقلُّ من ستة أشهر] (2) فيكفي فيهما لعان واحد.
ولو أراد الزوج أن ينفي أولاداً أتت [بهم] (3) امرأته عن بطن واحد أو بطون مختلفة بلعان واحد، فله ذلك، ولا نكلفه أن يخصص كل مولود باللعان.
ولو عدد قذفها ونسبها إلى زنيات، وأضاف كل مولود إلى زنية منها، ثم أراد اللعان، كفاه لعان واحد يشتمل على تسمية الأولاد، وسيأتي طرف من هذا بعد ذلك، وغرضنا الآن تامٌّ في المقدار الذي أوردناه.
9700 - ومن أصول المذهب أن المولودَ الميتَ يلحقه النفي والاستلحاق جميعاً؛ فإن الموت لا يقطع النسب ولا يغير أحكامَ النفي وجريانِه.
فلو أتت امرأة بولدٍ ومات، فله نفيه بعد الموت، ولو لاعن عنه في الحياة، ثم استلحقه بعد الموت، لحقه، ويترتب عليه ثبوت الإرث، ولا نظر إلى ما تخيله أبو حنيفة (4) من ردّ الاستلحاق بسبب التهمة في خبطٍ له طويل.
ولو نفى النسبَ بعد الموت، وقُسِّم ميراثُ الميت، ثم أراد الاستلحاقَ، فله ذلك، وتَنتقِضُ القسمةُ وتعود وراثتُه تبيناً، وقد يحجُب (5) الذين مَضَوْا، أو يزاحم (6).
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 173. والمذكور هنا معنى كلام الشافعي، وليس نصّ المختصر.
(2) في الأصل: فإذا ولد فيكفي فيهما ... وهذه الزيادة، والتصرف في العبارة من عمل المحقق، نرجو أن يكون صواباً.
(3) في الأصل: به.
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 515 مسألة 1063.
(5) وقد يحجبُ: أي الأب، فقد صار وارثاً لولده الميت بعد استلحاقه إياه.
(6) هذا هو الأصح، كما عبر بذلك الرافعي والنووي، فقد قال الرافعي: "فلو نفاه بعد الموت ثم عاد واستلحقه فيه وجهان: أصحهما - اللحوق، لأن النسب يُحتاط لثبوثه، وإذا ثبت النسب، =

(15/85)


وهذا خَرْمٌ عظيم لأحكام الأقارير، فإنه إذا نفاه، فقد اعترف بأنه لا يستحق تركته، فإذا عاد واستلحق، فهذا يناقض قولَه الأول، وكنتُ أود لو قلنا: إذا نفاه في الحياة ثم استلحقه بعد الموت يلحقُه، فإنه لما نفاه لم يكن ثمَّ استحقاقُ مال تقديراً، فإذا وجد النفي بعد الموت، فقد قطع استحقاق نفسه عن التركة حين ثبوت الاستحقاق للورثة، فإذا أراد العَوْد، لم يكن له ذلك (1).
وقد وجدت في كلام الأصحاب رمزاً إلى هذا، فأنا أنظم بعدُ هذا التنبيهَ، فأقول: إذا نفاه حياً واستلحقه حياً، أو نفاه حياً واستلحقه ميتاً، فالاستلحاق ثابت، فإذا نفاه ميتاً واستحلقه ميتاً، فالنسب يلحق، وهل يثبت الإرث؟ فعلى التردد والاختلاف: يجوز أن يقال: لا يثبت؛ لما أشرنا إليه من أنه قطع حقه عن التركة، فلا يعود حقَّه إليها.
ويجوز أن يقال: يثبت حقه؛ لأنه لم يتعرض للتركة أولاً وآخراً، وإنما تعرض لاستلحاق النسب، والنسب يلحق، ثم يترتب عليه حكمه.
والدليل عليه أن من مات وخلف ابنين، وزعم أحدهما أن هذا الغلام ابنُ أبينا وأنكر الثاني، فظاهر المذهب أن المقَرَّ به لا يستحق من الميراث شيئاً وإن تضمن إقرارُ المقِر إثباتَ استحقاقٍ له فيما في يده، ولكن لما كان ذلك الاستحقاق مترتباً على النسب، والنسب لم يثبت، فلم يثبت ما يترتب عليه فالتعويل إذاً على ثبوت النسب في النفي والإثبات.
فصل
قال: " ولو قال لامرأته: يا زانية فقالت: زنيت بك ... إلى آخره " (2).
9701 - إذا قال لامرأته: يا زانية، أو قال: زنيتِ، فقالت: زنيتُ بك،
__________
= ثبت الإرث، وعلى هذا فلو قسمت تركته، أَتبعتُ القسمةَ بالنقض". وهذه عبارة النووي نفسها تقريباً. (ر. الشرح الكبير: 9/ 414، والروضة: 8/ 359).
(1) هكذا يعرب إمام الحرمين عن اختياره الوجه المقابل للأصح، ويتمنى أن لو قال به الأصحاب.
(2) ر. المختصر: 4/ 175.

(15/86)


[فلكلامها] (1) جهاتٌ في الاحتمالات: أحدها - أن تريد نفي الزنا، وقد يعتاد مثل هذا، فكأنها قالت: لم أزن، وهو بمثابة قول القائل - وقد قال له صاحبه: يا سارق: سرقتُ معك، والمراد لم أسرق كما لم تسرق.
قال الأصحاب في مسألة الكتاب: إن أرادتْ ذلك، قُبل قولُها مع يمينها، فإن حلفتْ، فلا حدّ عليها للزوج.
ونحن نستتم النقلَ، ثم نرجع بالمباحثة إلى محالّ الإشكال.
[فلو] (2) قالت: زنيتُ بك، وزعمتْ أنها أرادت ما مكّنت أحداً سواك، وأنت أعلم، فإن كان زِناً، فاحْسبه كذلك، فتأويلها هذا مقبول مع يمينها، كما قدمناه.
ولو قالت: أردت بذلك أني زنيتُ به قبل النكاح، فهي قاذفةٌ ومقرّةٌ بالزنا، فيسقط حدُّ القذف عن الزوج [لإقرارها] (3) بالزنا، وتُحدّ هي حدَّ القذف أولاً، ثم تحدّ حدّ الزنا.
فإن رجعت عن إقرارها بالزنا، نفعها رجوعُها في سقوط حد الزنا عنها، ولم ينفعها في إسقاط حد القذف؛ فإنه حدٌّ لآدمي، والعقوبات التي هي حقوق الآدميين لا تسقط بالرجوع عن الإقرار بها.
والذي يجب إنعام النظر فيه أن الرجل إذا قال لأجنبيةٍ أو لزوجته: قد زنيتُ بك، فلست أرى هذا اللفظ قذفاً لها صريحاً، فإنه إذا استكرهها، فهو زانٍ بها، وليست هي زانية، وإذا لم تكن زانية، لم يكن نسبتُها إلى ذلك قذفاًً منه، فيراجَع، فإن ذكر ما أشرنا إليه، كان محتملاً، وإن فسره بكونها مطاوعةً، فالذي تقدم منه قذفٌ؛ فإنّ قوله زنيتُ بك مشعرٌ بمطاوعتها، وقد يحتمل خلاف ذلك، ولو قلنا إشعاره بالمطاوعة في مجرى العرف أغلب لم نبُعد، فكان قوله كنايةً في القذف.
كذلك إذا قالت المرأة زنيتُ بك، فما جاءت به كنايةٌ في قذفه؛ فاتسع المجال في
__________
(1) في الأصل: ولكلامها.
(2) في الأصل: ولو.
(3) في الأصل: لإقرار.

(15/87)


الرجوع إلى قصدها، وأما قولها: زنيتُ؛ فإنه صريحٌ في الإقرار بالزنا، وحمل هذا على التعقيدات التي ذكرناها يُحْوِجُ إلى مزيد تقرير.
9702 - وأنا أقول فيه: إذا أمكن تأويله -وإن بَعُد- فقبوله في دراء حد الزنا غير بعيد؛ فإنها [لو] (1) أقرت بالزنا الصريح، ثم رجعت قُبل رجوعُها، فإبعادها في التأويل لا يبعُد أن يُقبل.
وإنما محل الإشكال أن المقذوفة إذا أقرت بالزنا، سقط حدُّ القذف، فإذا حملت كلامَها على المحمل الذي ذكره الأصحاب، فقبول قولها مع يمينها وإثباتِ حق الطلب لها في حد القذف قد يغمض، ثم لا سبيل فيه إلاّ جريانُ العرف بمثله في المهاترات والشتائم، وإذا تنبه المرء لما ذكرناه مهّد عذرنا بعد التنبيه للإشكال.
وقد قال الأصحاب: إذا ادعى رجل على رجل مالاً، فقال: زِنْه هل يكون هذا إقراراً أم لا؟ فيه تردُّدٌ، ولو قال: زِن، ثم زعم أنه لم يُرد الإقرارَ، قُبل قوله، وقوله: زنه لم يبعد حمله على المهاترات، ولكن التعقيدات والمكاني بالمشاتمات أَلْيق، ولا خلاف [أن] (2) من يدعى مالاً، فلا حاجة إلى حمل الإجابة على الهُزْء.
فهذا ما أردنا أن نذكره في ذلك.
وقد ذكر الصيدلاني: أن المرأة إذا قالت: زنيتُ بك، وأرادت الاعترافَ بالزنا على نفسها، فهذا قذف منها للزوج، ومساق هذا يقتضي أن الرجل إذا قال لامرأته: زنيتُ بك، فيكون قاذفاً لها، وهذا عندي غير سديد؛ فإن القذف نسبة المقذوف إلى صدور الزنا منه، وهذا لم يتحقق في المسألتين: إذا قال الرجل: زنيتُ بكِ، أو قالت المرأة: زنيت بكَ، فما أرى هذا إلا غفلة (3).
__________
(1) في الأصل: له.
(2) في الأصل: على.
(3) تعقب ابن أبي عصرون إمام الحرمين، وردّ عليه نسبةَ الصيدلاني بالغفلة، فقال: "قلت: والحكم بعدم السداد فيه غفلة؛ لأن قوله: زنيت بك إن كان لفظه إضافة الزنا إليه، فهو أمر مشترك بينهما، فمن ضرورته أن يكون أضافه إلى صاحبه، إلا أن يقول: كانت مكرهة أو نائمة، أما إذا لم يرد شيئاً، فالقول سديد" ا. هـ (ر. صفوة المذهب: ج 5 ورقة: 126 شمال).

(15/88)


فإذا تكلفنا في إقامة هذا اللفظ [جعلناه] (1) كناية - إذ ليس فيه التعرّض لنسبتها إلى الزنا.
9703 - قال: "ولو قال الرجل لزوجته يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني ... إلى آخره" (2).
هذا منها لا يكون قذفاً صريحاً؛ لأنها لم تعترف بالزنا، حتى يكون قول: أنت أزنى مني إثبات زنا.
وكذلك لو قال رجل لآخر: أنت أزنى من فلان، ولم يُثبت الزنا في حق المشبه به، فلا يكون هذا الذي ذكره قذفاً صريحاً.
ولو قال: فلان زانٍ وأنت أزنى منه، فهذا الذي خاطب به قذفٌ، وقد قذف المشبه به، فيلزمه حدان إذا كانا مُحْصنين؛ فإنه قذفَ شخصين بالكلمتين.
ولو قال: أنت أزنى من فلان، وكان ثبت زنا ذلك المشبّه به ببيّنة، قامت عليه، أو بإقرار، نُظر: فإن كان هذا القائل جاهلاً بزنا فلان المشبهِ به، فالذي صدر منه لا يكون قذفاً؛ فإنه لم يُثبت زنا ذلك الشخص أولاً حتى يكون التشبيه به قذفاً.
ولو كان عالماً بأن فلاناً ثبت عليه الزنا بإقراره أو بالبيّنة. فقال: أنت أزنى من فلان، قال القاضي: هذا الآن قذف منه؛ فإنه شبه المخاطب بمن ثبت عنده زناه، فكان التشبيه مترتباً على علمه.
فإن قيل: إذا لم يعلم زناه أو لم يَثبت زناه، فهلاّ جعل قوله: أنت أزنى من فلان قذفاًً في حق المخاطب ونسبة للمشبه به إلى الزنا؛ فإن من ضرورة المبالغة إثبات الاستواء في الأصل، مع تثبيت مزيّة، ثم يعبر عنه بهمزة المبالغة؟
قلنا: هذا غير سديد؛ فإن الكلام قد يجري على غير هذا النسق، وإن كان الكلام [القويم] (3) يقتضي التسوية في الأصل، والتعرضُ بعد التسوية للمبالغة وإثبات
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/ 175.
(3) في الأصل: القديم.

(15/89)


المزيّة، ولكن العبارات لا تجري على النظم المختار في المعنى، بل هي مردّدةٌ بين النظم [القويم] (1) والمنهج المستقيم، وبين الحيْد [عنه] (2)، حتى يقلَّ في الناس من يرتاد النظم الأقوم، وإذا ندَرَ الخروجُ عن النظم في كلام شخص، عُدّ مُعْتَبرَ الدهر، فلا مؤاخذةَ بما يجب أن يكون بناء الكلام عليه، وإنما التعلق بالصيغ في مبانيها ومعانيها.
ولو قال لامرأته: يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني، وأرادت بذلك أني زانية، وأنت أزنى مني، فهذا إقرار منها بالزنا، إن فسرت لفظها بذلك، ويجب عليها حدُّ الزنا، وحدُّ القذف، ويسقط حدُّ القذف عن الزوج (3).
وإن قالت: أردت بذلك أنك الزاني، ولستُ بزانية، فإنت أزنى مني، فيقبل ذلك، وتكون قاذفةً غيرَ مقرة بالزنا؛ إذ لفظها يحتمل هذا الوجه.
وهذا أورده صاحب التقريب عن ابن سُرَيْج، وذكره الشيخ أبو علي على هذا الوجه، ولا خفاء به.
9704 - ولو قال لرجل: أنت أزنى الناس، فقد أطبق الأصحاب أن هذا لا يكون قذفاًً؛ فإنه لم ينسب الناسَ إلى الزنا، ولو قال: في الناس زناة، وأنت أزنى منهم، فهذا قذف.
وقد يعترض في ذلك [سؤال] (4)، فإنه إذا قال: يا أزنى الناس، فليس يخفى عليه أن في الناس زناة، وقد ذكرنا أن من علم زنا شخصٍ ببينة أو إقرار، ثم قال لرجل: أنت أزنى من فلان، فيكون ذلك قذفاً، فليكن قوله: أنت أزنى الناس بهذه المثابة. وهذا فيه تعقيد.
قال القاضي: قوله: أنت أزنى الناس، تأويله أنت أعلم الناس بالزنا.
__________
(1) في الأصل: القديم.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) يسقط حد القذف عن الزوج، لإقرارها بالزنا، كما هو واضح.
(4) في الأصل: سؤاله.

(15/90)


وهذا كلام سخيف؛ فإن التعرض للزنا لا يجوز أن يُحمَلَ على العلم بالزنا، ولو جاز هذا، لجاز أن يقال: إذا قال: أنت أزنى من فلان وكان عَلِمه زانياً، فلا يكون ذلك قذفاًً؛ حملاً على العلم، فلا تعلق فيما ذكره.
والوجهُ أن نقول: لما ذكر الناس وليسوا زناة، فقد اعتنى بالتشبيه بالجنس، وليس يتحقق من الجنس الزنا، وإنما يتحقق من آحادهم، والآحاد من الناس ليسوا بالناس، والإشكال مع هذا قائم، ولم أر في ذلك خلافاًً للأصحاب.
وغايتنا التثبت في النقل والإشارة إلى الإشكال ووجوه الاحتمال، فإن فاتنا نقلٌ نحرص على أن نذكر جهات [الإمكان] (1)، والله المستعان وعليه التكلان.
فصل
قال: " ولو قال لها: يا زانِ، كان قذفاًً ... إلى آخره " (2).
9705 - إذا قال لامرأة أو لزوجته: يا زانِ، فحذف ما يقتضيه النظم من (هاء) التأنيث، فالذي جاء به [قذف] (3). والصيغةُ مختلفة أو لحن - إن كان لا ينقدح لحذف علامة التأنيث سبب.
والمرأة إذا قالت للرجل: يا زانية، فأتت بالهاء في خطاب من يُذكَّر، فهي قاذفة، ووافق أبو حنيفة (4) في الصورة الأولى، وخالف في الصورة الثانية والمسألة مشهورة معه.
ومما يُجريه الفقهاء أن حذف الهاء محمول على مذهب الترخيم في مثل قول القائل في (عزّة) يا (عزّ) و (بثينة) يا (بثين) على اختلاف المذهبين في رفع الحرف الأخير ونصبه بعد الترخيم.
__________
(1) في الأصل: جهات (الأمر كان) وهو من طرائف التصحيف.
(2) ر. المختصر: 4/ 176.
(3) في الأصل: وقذف.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 268، تحفة الفقهاء: 3/ 144، فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية 3/ 476، مختصر اختلاف العلماء 2/ 516 مسألة 1067.

(15/91)


وهذا يُشعر بقلة الدراية بمذهب العرب في باب الترخيم؛ فإنهم إنما يرخمون الألقاب التي تجري أعلاماً، فأما الأسماء التي تجري صفاتٍ مشتقةً كالقاتل والزاني، فلا يتطرق إليها ترخيم إلا في ضرورة الشعر إذا دُفع الشاعر إلى مضائق التَّقْفِية والأوزان (1).
ومما أجراه بعض الفقهاء أن [لفظ] (2) (الزانية) في مخاطبة الرجل محمولة على مذهب المبالغة، كالعلاَّمة والنسّابة، وفلان راوية الشافعي.
وهذا [أمثل] (3) قليلاً من الترخيم، ولكنه باطلٌ أيضاً، فإنه وإن جرى، فلم يتمهد قياساً مطرداً، فلا يقال لمن كثر القتل منه: فلان (قاتلة) ولسان العرب ينقسم إلى ما لا قياس فيه أصلاً، وإنما المتبع فيه السماع المحض، وإلى ما يطرد فيه القياس، وإلى ما يجري فيه قياسٌ مقرون بالسماع.
ولا حاجة إلى التعلق بأمثال هذا، ومعتمد المذهب أن النسبة إلى الزنا تحققت، ولا تعويلَ بعد ذلك على لحنٍ في الكلام، وعلى تحريف عن السداد، أو لحنٍ بعد تأدية المعنى (4)، ولا خلاف أن الرجل لو قال للمرأة: زنيتَ بنصب التاء، أو قالت المرأة للرجل زنيتِ بكسر التاء الضمير، فاللفظان قذفان، وإن جريا على ما لا يقتضيه التذكير والتأنيث.
وقال القفال الإشارة أغلب من العبارة، فإذا أشارت إلى الرجل وقالت: يا زانية، فليقع التعلق بالإشارة.
__________
(1) العجب أن يقول إمام الحرمين هذا، ونصُّ الشافعي في المختصر: "ولو قال لها (يا زان)، كان قاذفاً، وهذا ترخيمٌ، كما يقال لمالك: (يا مال) ولحارث (يا حار) ".
والمعروف أن الشافعي تؤخذ منه اللغة، فهو ممن يحتج بقوله، شهد له بذلك أئمة اللغة، وقد صحح عليه الأصمعي ديوان الهذليين (اقرأ مقدمة العلامة أحمد شاكر لتحقيق الرسالة).
هذا إذا لم يكن في العبارة تصرفٌ من المزني. والله أعلم.
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: أشدّ. والمثبت من صفوة المذهب.
(4) يظهر اللحن بعد تأدية المعنى في مخاطبة الرجل بقول: (يا زانية) فهذه اللفظة تتضمن الوصف الصحيح (زاني) وتزيد بعده الثاء. فاللحن هنا بعد تأدية المعنى.

(15/92)


وذكر صاحب التقريب أن الشافعي رضي الله عنه ذكر فيه إذا قال الرجل للمرأة: يا زان، أو قالت المرأة للرجل: يا زانية قولين: أحدهما - أن ذلك لا يكون قذفاً صريحاًً؛ فإن كل واحد منهما نسب صاحبه إلى زنا لا يتصور منه.
وهذا غريب جداً، ولكنه حكاه عن القديم، ولم [أره] (1) لغير صاحب التقريب، ولا تعويل على مثل هذا.
9706 - ثم قال: لو قال: " زنأت في الجبل ... إلى آخره " (2).
إذا قال: للرجل زنأتَ في الجبل، فهَمَزَ وذكرَ الجَبَلَ أو غيرَه مما يُرقى فيه، فليس قاذفاً؛ فإنه يقال: زنأ في الجبل أي رقا، ومنه قول القائل:
وارْق إلى الخيرات زنْأً في الجبل (3).
ولو قال: زنيت في الجبل، فأتى بالياء ولكن أضاف إلى الجبل، ثم زعم أنه أراد بذلك الزنوّ بمعنى الرقي، فهذا مما اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا يقبل ذلك منه؛ فإن قوله (زنيت) صريح، وإضافته إلى الجبل منتظم على معنى بيان ذكر المكان، وهذا ظاهر المذهب.
ومنهم من قال: يقبل ذلك منه لذكرِ الجبل، وقرب زنيتَ من زنأت، وغلبة حذف الهمزة على الألسن.
__________
(1) في الأصل: لم أر.
(2) ر. المختصر: 4/ 177. وفي الأصل: (زنيت) والتصويب من المختصر.
(3) هذا من رجزٍ قاله قيس بن عاصم المنقري يرقِّص صبيّاً له (وهو حُكَيْمُ بنُ عاصم) وقد تناوله من أمه: منفوسة بنت زيد الفوارس. وقبل هذا قولُه:
أشْبه أبا أمّك أو أشبه عملْ
ولا تكوننّ كهِلَّوفٍ وكَلْ
يُصبح في مضجعه قد انجدلْ
وارْقَ إلى الخيرات زنأً في الجبل.
[عمل: اسم رجل. الهِلَّوف: الثقيل الجافي البطين لا غناء عنده. والوكَلْ: الذي يكل أمره إلى غيره] (ر. لسان العرب: مادة: زنأ ومادة عمل) قلت: والعامة في ريف مصر يقولون: (هِلْف) مكان (هِلّوف) تماماً.

(15/93)


ومنهم من فصل بين أن يكون مُعْرِباً وبين أن لا يكون، وزعم أن ذلك مقبول من غير المُعْرِب، وليس مقبولاً من المُعْرب.
ولو قال زنأتَ مطلقاً، فهمز، ولم يذكر الجبل، ففي المسألة أوجهٌ إذا زعم أنه أراد الرقي: من أصحابنا من لا يقبل ذلك منه؛ لأنه ظاهر في معنى الرقي، ومنهم من قال: يجعل قذفاً؛ فإن الهمزة والياء تعتقبان في الكلام، ومنهم من فصل بين المُعْرِب وغير المُعْرِب، فقال إن كان الرجل معرباً، لم يكن ذلك قذْفاً منه، فإن استعمال لفظ الزنأ ليس بدعاً من العامة، فأما إيراده لمعنى الرقي فمما يختص به أهل البصائر.
فصل
" ولو قال لامرأته: زنيتِ وأنت صغيرة ... إلى آخره " (1).
9707 - إذا قال: زنيتِ وأنت صغيرة، فلا يخلو عن الصغر في أول الأمر مفطور (2)، فلا يكون ما جاء به قذفاًً؛ فإن القذف مأخوذ من حد الزنا، فكل منسوب إليه لو تحقق، لكان موجباً لحد الزنا، فالنسبة إليه [توجب] (3) حدّ القذف، وإذا لم يكن المنسوب إليه مما يوجب حدَّ الزنا -لو تحقق- فالنسبة إليه لا تكون قذفاً موجباً للحد، فإذا قال: زنيتِ وأنت صغيرة، فوجود صورة الفاحشة في حالة الصغر لا يتضمن حدّ الزنا، فلا جَرَم لم يكن النسبة إليه قذفاً موجباً لحد القذف. نعم، هو إيذاء موجبٌ للتعزير.
ولو قال لامرأته: زنيتِ وأنت أَمة أو مُشركة، أو مجنونة، فإن كان عُهد منها هذه الحالات، فالذي قاله الزوج ليس قذفاًً، كما إذا نَسَب إلى الصغر.
وإن لم يعهد منها هذه الحالات، قلنا للزوج: إن أثبتَّ بالبيّنة منها حالةًْ من الحالات التي ذكرتها، فلست قاذفاً، [إنما أنت بريء] (4)، وإن لم تُثبت بالبينة
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 177.
(2) مفطور: أي مخلوق.
(3) في الأصل: موجب.
(4) في الأصل غير واضحة. هكذا: (فإنها أنت ـرذى) بهذا الرسم تماماً. (انظر صورتها).

(15/94)


ما ذكرتَه، فالذي جئتَ به قذفٌ؛ فإنه نَسَبَ إلى الزنا، ثم ذَكَر حالةَ لم تُعرف ولم تُعهد، فسقط ما ذَكَره من الإضافة، وبقي القذفُ الصريح.
وذكر صاحب التقريب قولاً آخر: أنه لا يلزمه الحد أصلاً؛ فإنه لم يجرد القذف، بل أضافه، فإن صحت الأضافة، فذاك، وإن لم تصح، بطل إطلاق القذف بها.
وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فليس بعيداً في الاتجاه.
9708 - ولو قال لامرأة: زنى بك فلانٌ وأنت مستكرهة، فالذي ذكره ليس بقذفٍ في حقها؛ فإن المستكرهةَ لا تكون زانية، واختلف أصحابنا في أن هذا هل يوجب إيذاءً موجباً للتعزير: فمنهم من قال: هو إيذاء موجبٌ للتعزير؛ فإنه على التحقيق آذاها صادقاً كان أو كاذباً، فصار كما لو قال: زنيت وأنت مجنونة أو صغيرة.
ومن أصحابنا من قال: لا يستوجب الناسبُ إلى الاستَكراه [التعزيرَ] (1)؛ لأن المستكرهةَ لا مَلام عليها بوجهٍِ، ولا يتطرق إليها منع من مانع، والصبية ممنوعة والمجنونةُ كذلك.
وهذا ساقط لا أصل له، وإن كان مشهوراً حكاه القاضي والعراقيون.
ولو قال: زنى [بك] (2) فلان الممسوح، فهذا كلام غيرُ منتظم.
وكذلك لو قال لرتقاء: زنيتِ، فقد نسبها إلى ما ليس ممكناً، واتفق الأصحاب على أنه يعزر لمكان الإيذاء بهذا الإسماع، ثم ذكرنا فيما تقدم التفصيل فيما يُدرأ باللعان من التعزيرات إذا جرت هذه الألفاظ في النكاح، وما يُخْتلَف فيه.
فإذا نَسب المرأة إلى مُحالٍ مما ذكرناه وأثبتنا التعزير، فقد قال القاضي: لا يُدرأ هذا التعزير باللعان؛ لأن اللعان في مقابلة تلطيخ الفراش، حتى كأن الزوج يَرْحَض ويغسل بلعانه ما ألحقته به من العار، فإذاً ينبغي أن يجريَ اللعان حيث يتوقع التلويث، وحيث لا، فلا.
[وقد] (3) ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - ما ذكره القاضي. والثاني - أنه يلاعن.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) مزيدة من عمل المحقق.
(3) في الأصل: فقد.

(15/95)


وهذا بعيدٌ، ولكنه إذا جرى في تعزير التأديب اختلافُ النصوص وتخريجُ الأقوال، [لم] (1) يبعد إجراؤه هاهنا، ولكن لا وجه إلا ما قطع به القاضي؛ من جهة أن الزوج إن ذَكَر المُحالَ الذي نسبها إليه، [لا يمكنه أن يزعم صدقه بل هو محال] (2) وإن لم يذكره، فاللعان من غير ذكر التصديق فيما جرت النسبة إليه محال غير منتظم.
ولو قال لها: زنيت وأنت أمة أو مشركة، أو مجنونة، وقد عُهدت هذه الأحوال منها، فقد ذكرنا أن الرجل لا يكون قاذفاً، وقال أبو حنيفة (3) إذا قال لها: زنيت وأنت أمة أو مشركة، كان قاذفاً، فإن زنا الأمة يوجب عليها حد الزنا، وكذلك زنا المشركة.
وهذا غير سديد؛ فإنا نجعل القذف بالزنا المضافِ إلى الحالة السابقة بمثابة إنشاء القذف في تلك الحالة، ولو قذف أمة أو مشركة، لم يستوجب حداً، فإضافة القذف إلى حالة [الشرك] (4) والرق بمثابة إنشاء القذف في الحالتين.
فرع:
9709 - إذا قال: زنى فرجُك، فهذا صريح في القذف، ولو قال: زنت يدك أو رجلك، وأضاف الزنا إلى بعضٍ من الأبعاض سوى الفرج، هل يكون ذلك صريحاًً في القذف؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون وأشار إليهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه كناية، وهو الصحيح، الذي قطع به المراوزة، فإن الزنا لا يضاف إلا إلى الفرج، أو إلى الجملة، والقذف خبر عن مخبَر، وليس مما يفرض فيه وقوعٌ وسريان، بخلاف الطلاق والعتاق، كيف وقد يضاف الزنا إلى الأعضاء، على معنى صدور مقدّماتٍ منها ومراودات. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العينان تزنيان، واليدان تزنيان، والفرج يصدّق ذلك ويكذبه " (5).
__________
(1) في الأصل: ولم.
(2) ما بين المعقفين كله من عند المحقق، حيث كانت العبارة غير مستقيمة، ولعل فيها خرماً، أو تحريفاً، أو هما معاً. فقد كانت هكذا: " إن ذكر المحال الذي نسبها إليه كان تمكينه من ذكره محال، وإن لم يذكره ".
(3) ر. مختصر الطحاوي 266.
(4) في الأصل: المشركة.
(5) حديث "العينان تزنيان" أخرجه مسلم من حديث ابن عباس عن أبي هريرة رضي الله عنهما =

(15/96)


والثاني - أنه صريح؛ فإن اللفظ في نفسه صريح، والجزءُ من الجملة، فكانت الإضافة إلى الجزء كالإضافة إلى الجملة، كالطلاق.
والذي يحقق ذلك أن إضافة الطلاق إلى الجزء عُدّ صريحاً قطعاً، بخلاف ما لو قال لامرأته: أنت الطلاق، وقد نقل المزني في (السواد) (1) ما يدل على الوجه الأخير، وذهب المراوزة إلى تغليطه في النقل.
ولو قال: زنا يداك وعيناك، فثنَّى اليدَ والعينَ، قال العراقيون: في المسألة وجهان مرتبان على ما إذا ذَكَر اليدَ والعينَ على صيغة التفريد، وجعلوا هذه الصورة أولى بألا يكون اللفظ صريحاً؛ لأن الحديث وارد في صيغة التثنية (2)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " العينان تزنيان واليدان تزنيان ".
وقد ذكر الشيخ أبو علي قريباً مما ذكره العراقيون، ولم أُضف ما ذكره إلى طريقة المراوزة، فإنه كثير النقل عن العراقيين في مسائل اللعان.
صورة مكررة رددها المزني ولست لها (3).
فصل
قال: " ولو قذفها، ثم تزوجها، ثم قذفها ... إلى آخره " (4).
9710 - قد ذكرنا الاختلاف في أن الحد هل يتعدد إذا قذف جماعةً بكلمة واحدة، وذكرنا أيضاًً الخلاف في أنه إذا قذف شخصاً واحداً بكلمتين دالّتين على زنيتين، وقرّبنا إحدى المسألتين من الأخرى ظاهراً وعبّرنا عنهما، فقلنا: إذا تعدد القذف
__________
= (مسلم: ك القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره رقم 2657. وانظر التلخيص 3/ 451 رقم 1772).
(1) السواد هو مختصر المزني، وانظر هذا في جزء 4 ص 184.
(2) وجه الأولويّة والترجيح واضح، وهو أن الحديث الشريف وَرَدَ بالتثنية، وهو غير جار على الحقيقة، لا شك في ذلك.
(3) كذا. بالإشارة إلى الصورة التي رغب عنها دون ذكرها.!! فأية صورةٍ هي؟؟
(4) ر. المختصر: 4/ 178.

(15/97)


والمقذوف، تعدد الحدّ، وإن اتّحد القذف وتعدد المقذوف، أو اتحد المقذوف وتعدد القذف، ففي تعدد الحد واتحاده قولان. والمعنيُّ بتعدد القذف تعدد الكلمة على شرط أن تُشعر كل كلمة بزنا.
وتمام التفصيل في هذا يأتي في كتاب الحدود، وإنما نذكر منه هاهنا المقدارَ الذي يتعلق باللعان، وإلا فأصلُ الحد وتعدده واتحادُه، وبيانُ القول في مستحِقه وتفصيلُ المذهب في العفوِ والاعتياضِ [والإقالةِ] (1) يأتي في كتاب الحدود.
فنقول هاهنا:
9711 - إذا قذف الرجل امرأةً ونكحها، ثم قذفها، فإن قلنا: الحد يتعدد ويتوجه عليه الطلب في الحال، فإن لاعن، سقط الحد الواجب بسبب القذف الواقع في النكاح، وبقي الحد المتوجِّهُ بالقذف السابق.
وإن حكمنا باتحاد الحد، فإن لم يلاعن، لم يتوجّه عليه إلا حدٌّ واحد، وإن لاعن، لم يسقط عنه الحدّ؛ لأن استيجاب الحد سابق على النكاح، والحد الذي استقر قبل النكاح يستحيل أن يسقط بلعانٍ في النكاح، فلا يخلو القذف الثاني إما أن يُفرض في حكم الإعادة للقذف الأول، فيقع الحكم بالأصل لا بالمعاد، وإن قيل: أوجب كلُّ واحدٍ من القذفين حداً، ولكن اندرج أحدهما تحت الثاني، فإذا قدّر سقوط حدٍّ باللعان، وجب أن يبقى الأصلُ الذي تحته الاندراج.
فيخرج من مجموع ما ذكرناه أنه إن لم يلاعن، ظهر الاختلاف: فإنا في قول نقيم عليه حدّين، وفي قولٍ نقيم حداً واحداً.
وإن لاعن، لم يظهر أثر؛ [فإنا] (2) على القولين نقيم عليه حداً. نعم، يختلف التعليل، والحكم واحد.
9712 - ثم قال: " ولو قال: يا زانية، فقالت: بل أنت زانٍ ... إلى آخره " (3).
__________
(1) في الأصل: والإقامة.
(2) في الأصل: فإن.
(3) ر. المختصر: 4/ 178.

(15/98)


صورة المسألة أن يقذف الزوج زوجته، فيقولَ لها: يا زانية، فتعارضه المرأة، وتقول: بل أنت زانٍ، فقد قذف كل واحد منهما صاحبَه، وقولُ المرأة: بل أنت زانٍ، لا يتضمن اعترافاً بالزنا؛ فإنّ (بل) معناه ردّ لما سبق، واستئنافُ الكلام بعده، ثم لا يكاد يخفى حكم القذفين: أما قذفُها، فموجبه حد القذف عليها، ولا يدرؤه إلا بيِّنةٌ تقوم على زناه، أو اعترافُه، أو انخرامُ الحصانة والعفة.
وأما موجَب قذفه، فالحد، ولكن يدرؤه اللعان، فإن لم يلتعن، حُدّ كل واحد منهما لصاحبه.
وليس حدُّ القذف مما يخَيّل فيه السقوط بالتقاصّ، وإن استوى القدْران، والسبب فيه شيئان: أحدهما - أن حد القذف لا يقبل المقابلة بالعوض، والمقاصّةُ باب من المعاوضة، والثاني - التماثل لا يتحقق؛ فإن الجلدات لا تتأتى رعاية التماثل فيها؛ فإن الضربات تتفاوت في أنفسها وتتفاوت. مواقعها في الأبدان، على تفاوت القوى والضعف، والتقاصّ إنما يجري بين المتماثلين.
قال أبو حنيفة (1): [كل] (2) شخصين تماثلا لم يُحدّ واحدٌ منهما وعلّل، فقال: إني أستقبح أَنْ أَحُدَّ كلَّ واحدٍ منهما بصاحبه. قال الشافعي رضي الله عنه: أقبح من ذلك تعطيل حدٍّ من حدود الله، وهذا لا يليق بأصل أبي حنيفة مع مصيره إلى أن حدّ القذف يجب لله تعالى.
9713 - ثم قال " لو قذفها وأجنبيةً بكلمةٍ ... إلى آخره " (3).
إذا قذف زوجته وأجنبيةً بكلمة واحدة، ففي تعدد الحد قولان مرتبان على القولين فيه إذا قذف أجنبيتين أو زوجتين، وهذه الصورة أولى بالتعدد، لاختلاف أثر القذف الذي يُفرض مضافاً إلى الزوجة والأجنبية، ثم إذا فرعنا على التعدد، فَلاعَنَ، سقط حد المرأة، وبقي [حدُّ الأجنبية] (4).
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 7/ 43.
(2) سقطت من الأصل.
(3) ر. المختصر: 4/ 179.
(4) في الأصل: الحد للأجنبية.

(15/99)


وإن قضينا باتحاد الحد، فإذا لاعن عن زوجته، فللأجنبية مطالبتُه بالحد الكامل؛ فإن اللعان [لا] (1) يسقط الحدَّ الواجب للأجنبية، فإذا على قول الاتحاد إن لم يلاعن، فالحد واحد والطالبة اثنتان، فإن لاعن، فالحد واجب والطلب لواحدة، وهي الأجنبية.
ثم قال:
9714 - " ولو قذف أربع نسوة له بكلمة واحدة " (2)، ففي المسألة قولان - إذا فرض الامتناع من اللعان: أحدهما - أنه يلزمه حد واحد لهن، والقول الثاني - يلزمه حدود.
فإن قلنا: يلزمه حدود لو امتنع عن اللعان، فلو طالبْنه، فأراد أن يقتصر على لعانٍ واحدٍ عن جميعهن، لم يكن له ذلك؛ فإن كل واحدة منفردة بحدّها وحقّها، والخصومات منفصلة متميزة، واللعان على مثابة الأيْمان، واليمين لا يعمل في خصومتين متعددتين.
ولو قُلْن: رضينا باللعان الواحد، فهذا مما يجب إنعام النظر فيه؛ فإن طلبت واحدة وأعرض الباقيات، فلا إشكال فيها، فليلتعن مع الطالبة، والخصومات عتيدة (3) مع الباقيات مهما (4) طَلَبْن، وإن أراد الزوج أن يلتعن في حقوقهن من غير طلبهن الحدّ، ففيه الخلاف الذي قدمته في أوائل الكتاب:
إذا جوّزنا ذلك والتفريعُ على تعدد اللعان، فإنه يلتعن عن كل واحدة لعاناً تاماً.
ولو اجتمعن، وطلبن، وادّعَيْن، ورضين بلعانٍ واحد -والتفريع على قول تعدّد اللعان- فللزوج أن يمتنع عن اللعان مع بعضهن، ثم تجري عليه أحكام الممتنعين عن اللعان، فإن كان الزوج راضياً بأن يلتعن عنهن لعاناً واحداً، [وقد] (5) رضين بذلك، فالذي نراه أن اللعان الواحد لا يقع موقعه، ولا يصح فرضه على الاشتراك بينهن؛ فإن
__________
(1) زيادة اقتضاها استقامة الكلام.
(2) ر. المختصر: 4/ 179.
(3) عتيدةِ: مستقرة باقية ثابتة.
(4) مهما: بمعنى إذا.
(5) في الأصل: " فقد ".

(15/100)


الأيمان لا تقبل هذا الفن من التصرف، فلا يختلف الأمر بالرضا ونقيضه.
فإنه لو ادّعى على رجلٍ واحد أقوامٌ حقوقاً، وزعموا أنا رضينا بأن يحلف يميناً واحداً، فهذا يخالف نظم الشريعة وترتيبَها في فصل الخصومات، فلا عهد بيمين ينفي قصاصاً ومالاً وحدَّ قذف، ونفرض أيضاً يمين الرد، فيقع التعرض لإثبات حق، وهذا مما لا سبيل إليه.
وكل خصومة تنفرد بيمينها عن الأخرى، بل الخصومات لا تقام على الازدحام، ولا يُصغي القاضي إلى دعوى قبل فصل الدعوى الأولى. وإذا لم تنتظم الدعاوى، كيف يفرض عرض اليمين من الجميع؟ نعم، إذا سبقت واحدة في مسألتنا بالدعوى، واتفق أن الزوج أجرى ذكرها في اللعان، انصرف إليها، والخصومات الأخرى باقية، والدعاوى السابقة باطلة والرضا مضمحلّ، فلتدّع بعد الأولى من تدّعي بقرعة، أو رضاً بتقديمها.
هذا ما نراه بالجملة، والقول في اللعان كالقول في الأيمان مع تعدد الخصوم والحقوق، فإن كان في رأي الناظر التفاتٌ إلى إشكال في تعدد الأيْمان، ففيما ذكرناه مَقْنَع.
وإذا انتهينا إلى كتاب الدعاوى، وبيّنا أحكام الأيمان، ومنازلَ الحُجج والبيّنات، لاح الغرض من هذا، وقد نقول ثَمّ: لا يشهد شاهد في خصومتين بلفظةٍ واحدة، وإذا أحلنا مشكلةً على كتاب، فليُنتظر إلى الانتهاء إلى ذلك الكتاب.
هذا تفريعٌ على تعدد الحد في اللعان.
9715 - فأما إذا قلنا: لا يتعدد الحد، فهل يتعدد اللعان؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يتعدد، فليلتعن في حق كل واحدة منهن، وهذا هو المذهب الظاهر؛ لأن الحد، وإن كان متحداً، فالخصومات متعددة بتعدد الخصوم، وإذا تعددت الخصومات، فليتعدد أيمانها.
والوجه الثاني - أنه يكفيه لعان واحد في حقوقهن، فيذكرهن ويسمّيهن في حكم اللعان، ويحصل الغرض في حق كل واحدة منهن.

(15/101)


وهذا القائل يحتج بأن الزوج يُثبت بلعانه عليهن (1) حقاً، هذا صيغةُ لعانه، ثم يندفع عنه حد القذف تبعاً، [واليمين] (2) إذا كانت تُثبت حقاً، فلا يمتنع أن تُثبت حقوقاً كالبينة، فإنها قد تشهد على جمعٍ من الناس لشخص واحد.
وحقيقة هذا الخلاف يعود إلى أنا في أحد الوجهين ننظر إلى طلبهن الحدَّ، ونقدر الزوج مطلوباً من جهاتهن، فعلى هذا لا بد من تعدد اللعان، وعلى الوجه الثاني نقدر الزوج مُثبتاً عليهن الزنا، فعلى هذا لا يمتنع اتحاد اللعان كالبينة تشهدُ على حقوقٍ مختلفاتٍ على خصوم.
فإن حكمنا بأن اللعان يتحد، فإذا اجتمعن الْتعن عنهن لعاناً واحداً، وإن لم يطلبن، وأراد الزوج أن يلتعن، وفرّعنا على أن اللعان يجري من غير طلب من جهتهن، فيكفيه أن يذكر جميعَهن في لعان واحد.
فإن قلنا: لا يجري اللعانُ من غير طلب، فلو لاعن مع طالبةٍ، وأراد ذكر اللواتي تخلَّفن عن الطلب، لم يكن له ذلك، فإذا جاءت أخرى، فلا بد من التعان جديد معها، وهذا بمثابة ما لو الْتعن، فذكر واحدة، واقتصر على ذكرها، فإذا أراد أن يلْتعن مع أخرى، فلا بد من لعانٍ جديد.
هذا كله تفريع على اتحاد اللعان عند فرض اجتماعهن وطلبهن.
ْفأما إذا حكمنا بتعدد اللعان، فلو اجتمعن ورضين بلعانٍ واحد، فالقول في رضاهن باتحاد اللعان -والتفريعُ على تعدده- كالقول بأن اللعان يتعدد تفريعاً على تعدد الحد، وقد ذكرنا هذا في صدر الفصل.
9716 - ومما نذكره متصلاً بهذا أنهن إذا ازدحمن وتشاحَحْن، وطلبت كل واحدة منهن البداية، فيقرع بينهن قال الشافعي: " لو بدأ القاضي بواحدة منهن من غير قرعة رجوت ألا يأثم " (3) فاختلف أصحابنا: فمنهم من جعل هذا ترديد قولٍ، ثم هذا
__________
(1) أي يثبت عليهن الزنا الذي رماهن به، واستحقاقهن عقوبة ذلك، حدّاً أو تعزيراً، ولا يتعرض لسقوط الحد عنه، ولكنه يسقط تبعاً. هذا معنى العبارة.
(2) في الأصل: والبينة.
(3) ر. المختصر: 4/ 179.

(15/102)


يجري في الخصوم إذا ازدحموا، كما سيأتي ذكره في كتاب أدب القاضي.
ومن أئمتنا من خصص هذا التردد بالقذف واللعان في الصورة التي ذكرناها؛ من حيث اعتقد أن الأمر قريب والخصومة متجانسة.
9717 - ثم قال: "فلو أقر أنه أصابها في الطهر الذي رماها فيه ... إلى آخره" (1).
إذا أراد نفيَ الولدِ المتعرضِ للثبوت باللعان، فله ذلك، كما قدمناه، فلو اعترف بأني وطئتها، ولم يدّع استبراء بعد الوطء، وقد أتت بالولد لزمان يُحْتَمل أن يكون العلوق به من الوطء الذي اعترف به، فله أن ينفي الولدَ باللعان -وإن لم يدّع بعد الوطء استبراءً- خلافاً لمالك (2)؛ فإنه قال: إذا اعترف بالوطء، لم يكن له أن يلاعن حتى يدّعي الاستبراء بعد الوطء، فإذا ادعاه، كان له الالتعان، ويكفي الدعوى، فلا حاجة إلى إثبات الاستبراء بإقامة البينة على إقرارها به.
ثم لما ذكر الشافعيُّ مذهبَ مالك [قال: وقد نجد] (3) لمذهبه متعلقاً من قصة العجلاني؛ فإنه لما قذف امرأته بشريك بن السحماء، قال فيما قال: لم أقربها في الطهر الذي زنت فيه، فكان ذلك ادّعاء استبراء منه. ثم أجاب الشافعي بأن العجلاني إنما قال ما قال، اتفاقاً، لا أنه شرط، فليس كل ما أجراه العجلاني يجب أن يُعتَقَدَ شرطاً؛ فإنه سمى المدَّعَى به، وذكر أنه ما أصابها منذ أشهر، وتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوصاف المولود فقال: إن جاءت به أُدَيعج خَدَلّج الساقين، فلا أراه إلا وقد صدق عليها، وكل ذلك مما لا يشترط.
ومن تمام كلام الشافعي أنه قال: ولا معنى للاستبراء في انتفاء الولد؛ فإنها قد ترى الدم على الحَبَل، وإن اختلف العلماء في أنها حيض أم فساد. فأشار بهذا إلى أن
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 180.
(2) ر. القوانين الفقهية: 242، جواهر الإكليل: 2/ 287.
(3) زيادة اقتضاها السياق، وعبارة الشافعي في المختصر: "وذهب بعض من ينسب إلى العلم أنه إنما ينفي الولد إذا قال: " استبرأتها "، كأنه ذهب إلى أن نفي ولد العجلاني إذا قال: لم أقربها منذ كذا وكذا" (ر. المختصر: 4/ 180).

(15/103)


الاستبراء وإن جرى، فلا يمتنع أن يكون العلوق من الزوج.
9718 - وهذا منتهى كلام الشافعي في التفصيل (1)، وفيه غائلةٌ عظيمةُ الوقع، وذلك أنا قدمنا أن الرجل إذا وطىء امرأته في طهرٍ، لم يستبرئها، ثم عاينها تزني في ذلك الطهر، ولم يتخلل استبراءٌ، فإذا أتت بولدٍ لزمانٍ يُحْتَملُ أن يكون العلوق به من وطئه، ويحتمل أن يكون العلوق به من الزنا، فلا يحل له نفي المولود والحالة هذه، وإنما يَنْفي المولودَ إذا استبرأها بعد الوطء، وجرى الزنا بعد الاستبراء، وأتت بالولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من وطء الزوج ومن السفاح؛ فإذ ذاك نقول: له [أن] (2) ينفي، وذكرنا تردداً في وجوب النفي وجوازه، وقد قال الشافعي في هذا الفصل ما قال.
فإن حمل حامل كلامه في هذا الفصل على أن الاستبراء لا أثر له، واعتضد بقول الشافعي في آخر الفصل: " لا معنى للاستبراء في نفي الوليد "، فيكون مضمون هذا الفصل مخالفاً لما قدمناه لا محالة، ويجب على قياسه أن [يكون] (3) له النفي إذا جرى الزنا -وإن لم يتخلل استبراء- إذا أمكن أن يكون العلوق من ذلك الزنا.
وهذا ليس بعيداً من جهات الاحتمال لو كان مذهباً لذي مذهب.
ويجوز أن يقال: ليس يحل له أن يلتعن إذا لم يجر استبراء بين الوطء والزنا، بينه وبين الله، ولكنه إذا جاء يلتعن، فليس عليه أن يذكر أني استبرأتها؛ وذلك أنه لو ذكر هذا، لكان مدّعياً في ذكره، ولو مست الحاجة إلى ذكره، لمست الحاجة إلى إثباته، والقذف في اللعان يبتني على لوب لا يجب إظهاره للقاضي، ولكنه مرعي في حق الزوج بينه وبين الله، واللوث الذي يجب إظهاره لوثُ الدم في أيمان القسامة.
والشافعي كرر في الفصل تعرضَ الزوج لذكر الاستبراء، وأبان أنه لا يجب ذلك، ولولا قوله في آخر الفصل: " إن الاستبراء لا أثر له "، لكنا نقطع بأنه أراد بما قال أن
__________
(1) كذا. ولعلها: في الفصل.
(2) زيادة لوضوح الكلام.
(3) في الأصل: كل.

(15/104)


الزوج لا يلزمه ذكر الاستبراء، ولكن خَتْمُ كلام الشافعي ما ذكرناه من إسقاط أثر الاستبراء.
فانتظم من هذا إشكال، والظاهر الذي ذكره الأئمة: " أنه لا يحل نفي النسب إذا جرى وطء في الطهر وزِناً بعده، ولم يتخلل بينهما استبراء "، ولكن وإن كان كذلك، فلا يجب على الزوج ذكر الاستبراء، خلافاًً لمالك، فإنه أوجب الذكر، وما احتج له الشافعي ولكن تعلق بقصة العجلاني وأنه ذكر الاستبراء.
هذا هو الظاهر.
9719 - ولا [يمتنع] (1) أن يقال: يجوز نفيُ الولد، وإن لم يجر استبراءٌ؛ تعلقاً بنص الشافعي في الآخِر، ثم هذا لو كان مذهباً لا يعدِم ناصره تعليلَه بما ذكره الشافعي من أن الاستبراء لا أثر له؛ فإنه لا يفيد القطعَ، وإذا لم يُفد، فالاحتمال كافٍ في إلحاق النسب، فإن لم نشترط الاستيقان، فلا معنى لترجح ظن واستواء احتمالين في نفي النسب، مع ابتناء القاعدة على أن النسب يَعْتَمِد أدنى إمكان.
ويعتضد هذا أيضاً بما نصفه، ونقول: إذا وطىء الرجل زوجته في طهر، ثم وطئها واطىء بشبهة في ذلك الطهر، فما وقع من اللبس يدرؤه القائف، فإذا جرى زناً ووطءٌ، فلا قائف، واحتمال النسب مع تلطيخ الفراش عظيم، -والانتساب إلى الآباء ليس أمراً مقطوعاً به، فلا يبعد أن يثبت اللعان-.
هذا منتهى الإمكان. والتعويل على المسلك الأول.
فصل
قال: " ولو زنت بعد القذف أو وُطِئَت وطْئاً حراماً ... إلى آخره " (2).
9720 - هذا الفصل مضمونه التعرض للحصانة، وهو من الأصول، وقد كثر فيه الخبط على ظهوره، فنقول والله المستعان: نشترط أن يكون المقذوف بالغاً، عاقلاً، حراً، مسلمة، عفيفاً من الزنا.
__________
(1) في الأصل: " لا يلتزم ".
(2) ر. المختصر: 4/ 81.

(15/105)


هذا معنى الإحصان في المقذوف؛ فإن القذف جنايةٌ على العرض، وإنما يكمل العرض عند تجمع هذه الصفات، وغرضُنا من جميعها الكلامُ على العفة من الزنا، فنقول أولاً: إذا زنى الشخص، وثبت زناه بالبيّنة أو بإقراره، فهذا شخص لا عِرْضَ له، وكأن أصل العرض العفةُ من الزنا، وبقية الصفات في حكم التكميل له؛ فإن القذف نسبةٌ إلى الزنا، وإنما يتعيّر بالنسبة إلى الزنا عفيفٌ عنه، فأما الزاني فيخجل (1) من ذكر الزنا، فقال العلماء: من قذف زانياً، لم يستوجب الحد بقذفه. نعم، يستوجب التعزير بإيذائه.
ثم ذكر القاضي أن من زنا مرة واحدة في عنفوان شبابه، ثم تاب وأناب، وصار من أعف خلق الله، وأزهد عباده، فلا حدَّ على من يقذفه، وإن تمادى الزمن، ونيّف على المائة. وكذلك القول فيما إذا زنت مرّةً ثم قُذفت.
وهذا دعوى عريضة، وما أراها تَسْلَمُ عن الخلاف؛ فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوبةُ تمحو الذنبَ، وتردُّ العدالةَ، وما يخرِم المروءةَ إذا تُرك، عادت المروءة، وانجبر ما كان فيها من خرم، وإذا كنا فسّقنا الرجل لزناه، ثم لما تاب واستبرأناه، قبلنا شهادته وعدَّلناه، فهذا عَوْد إلى الاعتدال والكمال، وما العرض إلا نباهةٌ تسمى الجاه، ولا شك أن من يُخْرَم جاهُه، فقد يعود إلى ما كان عليه (2)، ولم أر هذا التصريح على هذا الوجه في شيء من كتبنا.
__________
(1) كذا. ولعلها: لا يخجل.
(2) جعل إمامُ الحرمين عَوْد الحصانة بالتوبة وصلاح الحال احتمالاً، ولم يجعلها وجهاً، وقد رمز الرافعي إلى كلام إمام الحرمين، ولم يصرّح باسمه، بعد ما قطع بعدم عودة العفة، ونص كلامه: " من زنى مرة، سقطت حصانته، ولم يوصف بالعفة والصلاح بعده، فلا يحد قاذفه، ولكن يعزر للإيذاء، وهذا ظاهر إن قيدَ القذف بالزنا السابق، أو أطلق، فإنه صادق في أنه زنى، فأما إذا قيد القذف بزنا متأخر، فقد استَبعَد سقوطَ الحد مستبعدون، ولم يقيموه مع ذلك وجهاًً " ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 9/ 352) وبمثله قال النووي موجزاً (الروضة: 8/ 325).

(15/106)


ثم [ادّعاء] (1) القاضي فيه الوفاقُ مع أبي حنيفة (2) [وجَرْيٌ] (3) معه في معارضات في مسألة [سنذكرها] (4) الآن.
ومن أهم ما يجب الاعتناء به أن العفة عن الزنا لا يُنحَى [بها] (5) نحو التعديل، فإذا كان الأمر كذلك، ثم التائب من الزنا يعدّل إذا حسنت حالته، وظهر عدالته، فكيف يسوغ القطع بتأبّد سقوط الحصانة، ولو لم يكن فيه إلا تهدّف الإنسان [لشتيمة] (6) الخلق من غير أن يحاذروا حدّاً رادعاً، لكان في هذا كفايةٌ في إيضاح ما ذكرناه من الاحتمال.
9721 - ووجدت الطرق متفقةً على أن من رأيناه يراودُ ويشبِّب ويحوّم على طلب الزنا، ولم يثبت منه الزنا، فهو مُحصَنٌ في القذف، فلا أثر للمراودَات والمقدِّمات.
9722 - ومما يليق بما نحن فيه أنه لو قذف شخصاً والتزم الحدّ في ظاهر الحكم، ثم زنى المقذوف قبل إقامة الحد، قال الشافعي: يسقط حدُّ القذف، فإنا نستبين بصدور الزنا منه سقوطَ عِرْضه، وقيل: " أتُي عمرُ بنُ الخطاب بزانٍ، وقُدِّم لإقامة الحد، فقال يا أمير المؤمنين: إن هذا مني لأول مرة، فقال: كذبتَ إن الله أكرم من أن يفضح عبده بأول جريمة " (7).
هذا نصُّ الشافعي.
وقال المزني: لا يسقط الحد بطريان الزنا، وكنا نقدّر هذا تخريجاً في المذهب،
__________
(1) في الأصل: ادّعى.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 266، بدائع الصنائع: 7/ 40 - 41.
(3) في الأصل: وأجراه معه.
(4) في الأصل: فسنذكرها.
(5) في الأصل: به.
(6) في الأصل: بشتيمة.
(7) قال الحافظ في التلخيص: هذا لم أره في حق الزاني، إنما أخرجه البيهقي (8/ 276) عن أنس أن عمر أُتي بسارق فقال: "والله ما سرقت قط قبلها. فقال: كذبت، ما كان الله ليسلم عبداً عند أول ذنب، فقطعه". وإسناده قوي. (ر. تلخيص الحبير 2/ 450).

(15/107)


فرأيتُ للشيخ أبي علي في شرح التلخيص أن هذا قولُ الشافعي في القديم، فانتظم إذاً قولان: أحدهما - وهو الصحيح المنصوص عليه في الجديد أن الحد يسقط، ولا فرق بين أن يقرب الزمان المتخلل بين القذف والزنا [وبين] (1) أن يبعُدَ ويَتَمادَى.
وفي المسألة قولٌ آخر -على ما حكاه الشيخُ، وهو منسوبٌ إلى القديم- أن الحد لا يسقط.
9723 - [ولا] (2) خلاف أن المقذوف إذا ارتد، لم يسقط الحد عن قاذفه بردّته، وفي الفرق بين الردة وبين الزنا عُسرٌ؛ فإن الزنا إن دلّ على إضمار خبث فيما سبق، حيث إنه لا يتفق الهجوم على الزنا من غير إضمار [ذلك] (3) فيما تقدّم، فكذلك الردة، لا يُظهرها المرء إلا وقد سبقت منه ترددات.
فمما قيل في الفرق أن الردة لا تصدِّق القاذف في معنى القذف، والزنا يصدقه في معنى القذف على الجملة، وهذا يؤول إلى أن أصل العِرض يُتلقى من عدم الزنا، وباقي الصفات تكميل للعِرض.
ثم قال القاضي: الزنا المتقدم على القذف يؤثر في إسقاط الحد، وكذلك الزنا المتأخر، ولو ارتد الرجل، أو كان كافراً أصلياً، ثم أسلم، وقُذف، وجب الحد على قاذفه، فلما افترق الكفر والزنا إذا تقدما، فلا يمتنع أن يفترقا إذا تأخرا.
هذا كلامُ القاضي وتصرفُه.
وفي النفس شيء من الزنا المتقدم، وقد ذكرنا صدراً صالحاً فيه، ونحن نزيده إيضاحاًً وتفصيلاً، فنقول: إذا سبق الزنا، فقال القاذف: قد زنيتَ، وصرح بما سبق منه، فلا شك أنه ليس بقاذف، وإن قال: زنيتَ مطلقاً وتردّد لفظه، فالوجه القطع بأن الحد لا يتوجه عليه أيضاًً.
__________
(1) في الأصل: فبين.
(2) في الأصل: فلا.
(3) مكان كلمة غير مقروءة. (انظر صورتها).

(15/108)


فإن قال: زنيتَ اليومَ، وكان تقدم منه الزنا منذ سنين، فهذا موضع النظر، فالقاضي قاطع بأن الحد لا يلزم.
ويظهر عندنا الحكمُ بلزوم الحد، [إذا ظهرت] (1) التوبةُ وقُبلت الشهادة، قَبْل الزنا المذكور في صيغة القذف، وإذا كنا نذكر قولاً في الزنا بعد القذف، فهذا يهوّن أمر ارتفاع حكم الزنا السابق بالعفة اللاحقة.
وكان شيخي يقول مفرعاً على أن الزنا بعد القذف يُسقط الحد: هذا دليل على أن [مقدمات] (2) الزنا إذا ظهرت، قدحت من العفة، ووجهُ الاستدلال أن الزنا المتأخر لا يدل على زناً آخر مقترنٍ بالقذف أو متقدم عليه، وإنما يدل على أن الزنا لم يقع فجأة، وإنما تقدمت عليه مقدمات.
وهذا ظنٌّ لا تعويل عليه، ولم يصر أحد من الأصحاب إليه، ولكن الزنا يُسقط العفة، ويبين أن الرجل عديمُ العِرض، وإن لم تسبق منه مراودة، فهذا ما يجب تنزيل المذهب عليه.
9724 - وقد حان الآن أن نتكلم في جهات الوطء وما يؤثر منها في العفة وما لا يؤثر.
والوجه أن نرسُمَ مسائلَ نأتي بها أرسالاً، ثم نذكر بعد نجازها ضوابطَ، فنقول: أما الزنا الذي يوجب الحد، فلا شك أنه يخرِم العفةَ ويُبطلها، ولو وطىء أخته من الرضاعة أو النسب في ملك اليمين، فإن قضينا بأن الحد يجب، وهو أحد القولين، فتبطل العفة لا محالة، وإن قلنا: لا يجب الحد [لشبهة] (3) الملك، ففي سقوط العفة وانهتاك العرض وجهان: أحدهما - أن العفة لا تسقط، فإن المرعيّ العفةُ من الزنا، وهذا الذي صدر منه ليس من الزنا.
والوجه الثاني - أن العفة تسقط؛ فإن من وطىء أختَه على علمٍ بالمحرّم، تبين أنه
__________
(1) في الأصل: وإذا ظهرت.
(2) في الأصل: متقدمات.
(3) في الأصل: بشبهة.

(15/109)


لا يتحاشى من الزنا؛ فإن النفوس أبعد عن احتمال اقتحام هذه الكبيرة مما هو زنا محض في أجنبية، فليس لمن وصفناه عِرضٌ وتماسُكٌ يحفظ عليه نباهتَه وجاهَه، أو تورعه عن هذا [التردّي] (1).
وإذا وطىء الأب جاريةَ ابنه، أو وطىء أحد الشريكين الجارية المشتركة، والتفريع على أن لا حد، ففي بطلان الحصانة وسقوط العفة وجهان مرتبان على الوجهين المقدّمين في وطء ذوات المحارم، والصورة الأخيرة أولى بأن لا تسقطَ العفةُ فيها؛ فإن أحد الشريكين يتوصل إلى نقل ملك شريكه إلى نفسه بطريق الاستيلاد، وإذ ذاك يثبت الحِلّ، وذوات المحارم لا تستحل، وجارية الابن في حق الأب تقع في مرتبة الجارية المشتركة في حق أحد الشريكين.
ولو نكح الشافعيُّ بغير وليٍّ مخالفاً عقده (2)، وألمّ بالمنكوحة، ففي سقوط الحصانة بهذه الجهة وجهان مرتبان على المسألة الأخيرة، وهذه المسألة أولى بأن لا تُسقط العفة، فإن الحل في المنكوحة بغير وليٍّ مختلف فيه، وليس في المسألة إلا أنه خالف عقد نفسه.
ولو وطىء بشبهة في نكاح فاسد أو على ظن زوجية، ففي سقوط العفة وجهان مرتبان على المسألة الأخيرة قبلها، وهذه أولى بأن لا تسقط العفة فيها؛ فإن صاحب هذا الوطء ليس ملوماً في عقده، ولا تسقط عدالته بما جرى منه.
فإن قيل: قد طال الترتيب، فما وجه إسقاط الحصانة والرجل معذور؟ قلنا: هذا محمول [على ترك التحفظ] (3)، وقد تعلّق بترك التحفظ ما نعلّقه بالهجوم على المحرّم، وهذا كمصيرنا إلى أن القتل المحرَّم يُحرِّم الميراثَ، ثم ألحقنا به القتلَ الواقعَ خطأً (4).
وألحق أئمتنا بهذه المرتبة ما لو جرت صورة الفاحشة في حالة الصِّبا، وهذا أبعد
__________
(1) ما بين المعقفين مكان كلمة تعذر قراءتها.
(2) عقده: المراد اعتقاده ورأيه، وهو هنا المذهب الشافعي.
(3) في الأصل: على ترك اللفظ الحفظ.
(4) أي علق الحرمان من الميراث بالقتل الخطأ، لترك التحفظ.

(15/110)


الصور، وإن لم يكن من الخلاف فيها بدّ، فَلْترتب على وطء الشبهة من المكلّف، والفارق سقوط التكليف عن الصبيان بالكلية، فلا لوم، ولا توبيخ، والواطىء بالشبهة قد يتعرض لترك الأمر بالتحفظ.
فأما الوطء في حالة الحيض والإحرام، فالذي قطع به الأئمة أجمعون أنه لا يؤثر في خرم الحصانة.
وحكى القاضي فيه وجهاً غريباً أنه يخرِم عند بعض الأصحاب، وهذا بعيدٌ، لا احتفال به، وليس معدوداً من المذهب.
9725 - وإذا جمعنا المسائل وفهمنا ترتب البعض منها على البعض، فأردنا أن نجمع ما في القاعدة بمسائلها من الأقوال، فنقول: انتظم من المسائل ومراتبها أوجه: أحدها - أنه لا يُسقط العفةَ إلا ما يوجب الحد.
والثاني - أنه يُسقطها ما تقدم، ووطءُ ذوات المحارم.
والثالث - يسقطها ما تقدم، ووطء الأب (1) والشريك.
والرابع - يسقطها ما تقدم والوطء في النكاح على خلاف العقد، وإن أحلّه بعض العلماء.
والخامس - يسقطها ما تقدم ووطء الشبهة من المكلف.
والسادس - يسقطها ما تقدم ووطء الصبي أيضاً.
وأما وطء الحائض والوطء في زمان الإحرام، فخارج عن القانون.
ولا أثر لمقدمات الوطء أصلاً، وما حكيته عن شيخي محمول على ترديد الاحتمال، فهذا قول بالغ فيما يُسقط العفة، وفيما لا يسقطها.
فصل
9726 - ثم قال: " ولو لاعنها، ثم قذفها، فلا حدّ لها ... إلى آخره " (2).
مضمون هذا الفصل يَبِينُ بفرض مسائلَ تقع نوعين: أحدهما - في قذف الزوج.
__________
(1) أي لجارية ابنه، والشريك للجارية المشتركة.
(2) ر. المختصر: 4/ 182.

(15/111)


والثاني - في قذف الأجنبي.
أما مسائل قذف الزوج فنقول: إذا قذف الزوج زوجته وتلاعنا، فلا يخفى حكم هذا القذف، وإنما مقصود الفصل ما يقع من قذفٍ بعد هذا، فنقول: إذا قذفها بعد التلاعن، لم يخل: إما أن يقذفها بذلك الزنا الذي جرى التلاعن عليه، وإما أن يقذفها بزنية أخرى، فإن قذفها بتلك الزنية، فلا يستوجب الحدَّ؛ فإنه أقام الحجة على تصديق نفسه، ولكن انْدرأ الحدّ عنها بلعانها. نعم، يُعزّر الزوج لإيذائه إياها.
ولو قذفها بزنيةٍ أخرى بعد تلك الزنية، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الحد لا يجب؛ لأن الزوج أقام الحجةَ على زناها، فسقطت حصانتها في حقه.
والقول الثاني - أن الحد يجب؛ فإن تلك الحُجةَ ما أَثْبَتت الزنا على الإطلاق، وإنما أثبتت تصديق الزوج في ذلك القذف المعيّن، ثم إن انخرم عِرضُها بلعانه، فقد تداركه لعانها.
ومن أصحابنا من قطع القول بوجوب الحد على الزوج إذا نسبها إلى زنية غيرِ الأولى لما ذكرناه من أن اللعان حجةُ خصوص، وإذا عورض الزوج باللعان (1)، لم يبق للعانه أثر إلا إسقاط حد القذف الأول، وإلا فلعانها في تبرئتها لا ينحط عن لعانه في نسبتها إلى الزنا.
ولو قذفها بعد اللعان بزناً قبل اللعان، ففي المسألة وجهان: أظهرهما - أنه يحد؛ فإن اللعان لم ينعطف على ذلك الزنا.
والوجه الثاني - أنه يعزر كما لو قذف شخصاً، ثم أقام على زناه بيّنة (2)، وهذا فيه إذا لم يَعْنِ بقذفه الزنا الذي عناه من قبلُ ولاعن عليه.
ولو تلاعنا، ثم قذفها بعد التلاعن، ولم ينصّ على زنيةٍ جديدة، فهذا عندي بمثابة ما لو قذفها بتلك الزنية التي جرى التلاعن عليها، هذا إذا تلاعنا.
__________
(1) إذا عورض الزوج باللعان: المعنى أن لعانها عارض لعانَه وقَذْفَه.
(2) أي إذا كرر قذفه بتلك الزنية التي أقام البينة عليها، فهو وإن أسقطت البينةُ عنه الحدَّ أول مرّة، فلا يسقط عنه التعزير بتكرير القذف.

(15/112)


9727 - فأما إذا لاعن الزوج وامتنعت عن اللعان، وأقمنا عليها حدَّ الزنا، فلو قذفها بعد ذلك بذلك الزنا، فلا يخفى الحكم فيه، والإيذاء محقق وموجبه بيّنٌ.
ولو قذفها بزنية أخرى سوى الأولى، فهذا فيه وجهان مشهوران: أحدهما - أنه لا يجب الحد؛ فإنه ثبت زناها في حقه، وأقيم الحدُّ عليها، فسقطت عفتها في حقه بالكلية.
ولو قذفها الزوج وامتنع عن اللعان، فيتوجه عليه حد القذف، فإذا قذفها مرة أخرى بتلك الزنية، فالحد واحد، وإن قذفها بزنية أخرى، فهذا محل اختلاف القول في قذف شخص واحد بكلمات، وقد تمهد هذا.
وانتجز ما أردناه في أحد النوعين، وهو قذف الزوج بعد التلاعن أو قبله.
9728 - فأما مسائل الأجنبي، فإنا نأتي بها على التفصيل الذي ذكرناه، فنقول: إذا تلاعنا، ثم قذفها أجنبي بزناً آخر غيرِ الذي لاعن الزوج عليه والتعنت في معارضته، التزم الحد؛ فإن اللعان لم يغيّر حصانتها في حق الأجانب، ولم يثبت عليها الزنا في هذه الصورة، فإنها مفروضة في تلاعنهما.
ولو قذفها الأجنبي بالزنا الذي جرى التلاعن عليه، فالمذهبُ الظاهر أنه يلتزم الحدَّ، لما ذكرناه من أن الزنا لم يثبت، إذ عارضته بلعانها، ولكن اندفع حد القذف عنه لحجةٍ خاصة أقامها الشرع له على الخصوص، فلا يتضمن ذلك سقوطُ الحد عن الغير.
ومن أصحابنا من قال: لا يجب على الأجنبي الحدُّ إذا قذفها بالزنا الذي وقع التلاعن عليه؛ لأنه جرى في الواقعة حجةٌ على الزنا لأجلها انتفى الحد عن القاذف به، فلينتصب ذلك شبهة في حق الأجنبي إذا قذف بذلك الزنا.
هذا إذا تلاعنا.
ولو لاعن الزوج، وامتنعت من اللعان، وحُدّت حدَّ الزنا، فترتيب المذهب أن الأجنبي إن قذفها بزنا آخر غيرِ الذي نسبت إليه وحدت فيه، ففي وجوب حد القذف عليه وجهان: أظهرها - أنه يستوجب الحد؛ لأن الأحكام المتعلقة باللعان لا تعدو الزوجين والزوجية؛ من جهة أن اللعان حجةٌ خاصة، فاختص أثرها.

(15/113)


وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر أن الحد لا يجب على القاذف؛ فإنها حُدّت في الزنا، فإذا وقع الحد بها، فلا نظر إلى خصوص الحجة، فيبعد إقامة حد [القذف] (1) والمقذوفة محدودة في الزنا. هذا إذا وقعت النسبة إلى زناً غيرِ ما حُدت فيه.
فأما إذا قذفها الأجنبي بالزنا الذي حُدَّت فيه للِعانه وامتناعِها، ففي وجوب الحد عليه وجهان مرتبان على الوجهين فيه إذا نسبها إلى زنية أخرى غيرِ الذي حُدت فيه، وحد القذف أولى بالاندفاع في هذه الصورة.
هذا ما ذكره الأئمة.
وقطع القاضي بأن الأجنبي يستوجب حدّ القذف إذا نسبها إلى غير ما حُدت فيه وجهاً واحداً. وإن نسبها إلى ما حُدت فيه وجهان: أظهرهما - وجوب الحد، وعلل هذا بتحقيق اختصاص اللعان وأثره.
فهذا تفصيل القول في قذف الزوج والأجنبي بعد جريان اللعان.
فصل
قال: " ولو شُهد عليه أنه قذفها ... إلى آخره " (2).
9729 - فإذا ادعى محصنٌ على رجل أنه قذفه، فأنكر، وأقام المدعي شاهدين، فإن كانا عدلين، ابتدر القاضي تنفيذ الحكم، وأسعفَ الطالبَ بقامة الحد، وإن كان ظاهرهما السداد، ولكن القاضي كان جاهلاً بحقيقة الحال، فإنه يبحث عن أحوالهما ويراجع المزكِّين. قال الشافعي: " ويحبس المدعَى عليه إلى أن تبين عدالةُ الشاهدين أو جرحهما " وهذا هو الذي قطع به أئمة المذهب.
ووجدت في بعض الطرق رمزاً إلى أن المدعَى عليه لا يُحبس، وسيأتي ذكره في كتاب الدعاوى، إن شاء الله، ووجهُه على بعده أن الحق لا يتوجه إلا بظهور العدالة، والحبسُ في الحال إقامةُ عقوبة.
__________
(1) في الأصل: القاذف.
(2) ر. المختصر: 4/ 183.

(15/114)


والتعويلُ على ظاهر المذهب.
ولو أقام المدعي شاهداً واحداً، وهو مُشمّرٌ لإقامة شاهدٍ آخر، وطلب من الوالي حبسَ المشهودِ عليه إلى قيام الشاهد الثاني، ففي المسألة وجهان - وفي نص الشافعي تردد- نشير إليهما: أحدهما - أنه لا يحبس؛ لأن الشاهد الواحد ليس بحجة، وليس كالشاهدين إذا جهل القاضي حالَهما؛ فإن العدالة إذا بانت، تبين لظهورها قيامُ الحجة مستنداً إلى وقت الشهادة، لكن علم القاضي لم يكن محيطاً بحقيقة البيّنة، والحبس في الأمر القريب لائقٌ بمسالك السياسة صيانةً للحقوق عن البطلان، وإذا استُعدي الوالي على شخص، فالارتفاع إلى مجلسه قد يُتْعِبُه، وذلك قبل ثبوت الحق، ولكن لا بد من احتمال ذلك، فلا تقوم الإيالة دونه.
والوجه الثاني - أنه يُحبس، لأن الخَصْم ساعٍ في إكمال البينة، وقد لا يتفق حضور الشاهدين معاً، ولو خلَّينا المدَّعى عليه، لولّى، وغيّب وجهه عنا، ثم إن لم يأت المدعي بالشاهد في الزمان الذي يتوقع في مثله إكمال البينة، خلّينا سبيل المدعى عليه.
وهذا الفصل من أركان البينات والدعاوى، والوجهُ تأخيره إلى موضعه، ولكن التزام الجريان على ترتيب السواد قد يقتضي مرامزَ إلى مقدماتٍ، ولا ينبغي للناظر المنتهي إلى ما يُذكرُ بحق (1) السواد أن يطلب تحقيقَ الفصل منه، فهذا مما يحال على كتاب الدعاوى والبينات.
9730 - ومما نرمز إليه لانتظام الكلام أن من ادعى دَيْناً على إنسان، وأقام شاهدين وأقبل القاضي على البحث ومراجعة المزكِّين، فالمذهب أن المدّعى عليه يحبس كما إذا كان المدَّعى حدّاً: قذفاً أو قصاصاً؛ فإنا إذا رأينا الحبسَ تفريعاً على الأصح في العقوبات، وشأْنُها الاندراءُ بالشبهات، فهذا في الأموال أولى.
[وقال] (2) الإصطخري: لا يحبس المدعى عليه في المال، وإن رأينا الحبس في
__________
(1) بحق السواد: أي من أجل الجريان على ترتيب السواد.
(2) في الأصل: فقال.

(15/115)


حد القذف والقصاص؛ لأن الحق المدَّعَى فيه يتعلق ببدن المدعَى عليه، فلو تركناه [والأغلبُ] (1) أن يغيّب وجهه حِذاراً [من] (2) وقوع العقوبة به -لأدى هذا إلى تعطيل الحق، وليس كذلك الدَّيْن المدعَى، فإنه يتصور استيداؤه مع غيبة المدعى عليه.
ولو كان المدَّعى عيناً من الأعيان، وقد قام شاهدان، فالقاضي يحول بين المشهود عليه وبين العين المدعاة؛ فإن الحق ينحصر فيها انحصاره في بدن من ادُّعيت عليه العقوبة.
ولو أقام المدعي للدين شاهداً واحداً، والتفريعُ على أن المدعَى عليه يُحبس إذا شهد شاهدان، فهل يحبس والشاهد واحد، فعلى وجهين مرتبين على الوجهين فيه إذا شهد شاهد واحد على قذف أو قصاص، والشهادة على المال في هذه الصورة أولى باقتضاء الحبس، والسببُ فيه أن الشاهد الواحد يتيسر ضمُّ اليمين إليه في المال، فهو أقوى من الشاهد الواحد في العقوبة.
وقد يعارض ذلك أن الحلف مع الشاهد إذا كان ممكناً، فيجب أن يقال للمدعي: أنت متمكن من إثبات حقك باليمين، فإذا حلفت ثبت حقك، فافعل هذا، أو خلِّ فصل
وهذا الكلام فيه فقهٌ، وإذا عارض ما قدمناه في الترتيب، أسقطه.
9731 - ولو شهد شاهدان أو شهود على موجِب حدٍّ لله تعالى، فلا يحبس المشهود عليه إلى إثبات عدالة الشهود، فإن حقوق الله في العقوبة على المساهلة، ولهذا يُقبل [رجوعُ] (3) المقِرِّ عن الإقرار بها، وقد نقول: إذا هرب من يثبت عليه الحد لا يتبع، وقد تسقط الحدود بالتوبة.
وهذا الفصل سيأتي مستقصى مرتباً في كتاب الدعاوى والبينات، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: الأغلب.
(2) في الأصل: في.
(3) في الأصل: الرجوع.

(15/116)


9732 - ثم قال: " ولا يُكفَل رجل في حدٍّ ولا لعانٍ ... إلى آخره " (1).
ذَكَر كفالةَ الأبدان في العقوبات، وقد استقصيناها في كتاب الضمان.
وقال بعده: " لو قال: زنى فرجُك أو يدُك، فهو قذفٌ ... إلى آخره " (2) وهذا مما قدمنا ذكره، وذكرنا أن النص دال على أن إضافة الزنا إلى غير الفرج من الأعضاء صريح، وفيما قدمناه بيان تام.
ثم قال الأئمة: الألفاظ المستعملة في هذا النوع أقسامٌ: قسم هو صريح، وهو لفظ الزنا مضافاً إلى الجملة، أو إلى الفرج، أو الألفاظ الناصّة على المعنى كالنيك، ولفظ الإيلاج مع التصريح بالوصف بالتحريم المطلَق، وانتفاءِ الشبهة.
وقسم هو كناية: إن أراد اللافظُ به القذفَ، كان قذفاً، وإلا فلا.
ومن جملته قولُ القائل: زنى يدُك، على الأصح. ولستَ بابنِ فلان، وكذلك إذا قال لعربي: يا نبطي، أو لنبطيّ يا عربي.
ومن الأقسام ما ليس بكناية ولا صريح، ولكنه تعريضٌ، كقول القائل لمن يخاطبه: يابن الحلال، وقوله أما أنا، فلست بزانٍ، وقال مالك (3) التعريض بالقذف قذفٌ، ثم ألطف الشافعيُّ في محاجّته (4)، فقال أباح الله التعريضَ بالخِطبة، وحرم التصريحَ بها؛ فدل ذلك على أن التعريضَ خلافُ التصريح، وقال: روي أن رجلاً من فزارة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاماً أسود، وعرّض بأنها أتت به من زنا، فقال عليه السلام: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما لونها فقال: حُمْر، فقال: هل فيها من أسود، فقال: نعم، قال: ولم ذلك؟ فقال: لعل عرقاً نزعه، فقال صلى الله عليه وسلم: لعل عرقاً نزعه" (5) ولم يجعله قذفاً.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 183.
(2) ر. المختصر: 4/ 184.
(3) ر. القوانين الفقهية: 350، جواهر الإكيل: 2/ 287.
(4) ر. المختصر: 4/ 184.
(5) حديت: " لعل عرقاً نزعه "، متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (البخاري: الطلاق، باب إذا عرض بنفي الولد، ح 5305. مسلم: اللعان، ح 1500).

(15/117)


9733 - ثم قال: " ولا يكون اللعان إلا عند السلطان ... إلى آخره " (1) إذا تلاعن الزوجان وحدهما لا يتعلق بتلاعنهما حُكمٌ، فإن حكّما رجلاً صالحاً، [ففي] (2) أصل جواز [التحكيم] (3) قولان. وإن جوزناه، ففي تجويزه فيما يتعلق بالعقوبات وجهان، [وكل] (4) ذلك بين أيدينا؛ فلا معنى للاستقصاء فيه، وإنما فرقنا بين العقوبات وبين عفوها طلباً لدرائها.
ثم العقوبات تترتب: فمنها ما يجب لله، ومنها ما يجب للآدميين.
وما يجب لله تعالى أولى بأن لا يجرى التحكيم فيه، ثم إن اللعان يترتب على ما إذا كان المطلوبُ الحدَّ المحضَ، ووجه الترتيب أن اللعان قد يتعلق بثالث، وهو الولد، ومبنى التحكيم على ترتبه على رضا الخصمين.
ثم إن استخلف القاضي من يُجري اللعان بحضرته، نُظر: فإن نَصب حاكماً في أمور، وكان فَوّض إليه أن يستخلف، فيجوز ذلك، وقد قام مقام قاضٍ، وإن لم يَنصب حاكماً، أو ما كان فَوّض إليه أن يستخلف، فلو استناب من يعوِّل على مثله في أمر خاص: مثل أن يقيمه مقام نفسه في طرفٍ من خصومة، أو في خصومةٍ فَرْدة، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - لا يجوز، ولا ينفذ منه ما فَوَّضَ إليه، فإنه ليس قاضياً بنفسه، وإنما ينفذ حكم الحاكم. وهذا من أصول أدب القاضي، وسيأتي مشروحاً في موضعه، إن شاء الله.
فرع:
9734 - إذا قذف رجلاً أو امرأةً، وتوجه الحدّ، فلو قال للمقذوف: لا بينة لي على زناك، ولكنك تعلم أنك زانٍ، فاحلف بالله ما زنيتَ، فهل عليه أن يحلف؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه لا يحلف؛ فإن القذف في نفسه موجِبٌ للحد، فإن أراد القاذف درءَ الحد، فليُقِم بيّنةً من تلقاء نفسه، وأيضاًً فالتحليف في نفي الزنا يتعلق بنفي
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 184.
(2) في الأصل: في.
(3) في الأصل: التحكم.
(4) في الأصل: فكل.

(15/118)


كبيرة [توجب] (1) حداً لله تعالى، فلا معنى للتحليف فيما هذا سبيله.
والقول الثاني - أن له أن يحلّف المقذوفَ لإمكان الصدق أو الكذب، وغرضُه نفيُ حدِّ القذف -عند فرض النكول- لا إثباتُ الزنا، ثم إذا نكل المقذوف، رَدَدْنا اليمين على القاذف، فيحلف على الزنا، ولا يثبت الزنا على المقذوف به، بل يندفع الحد.
فرع:
9735 - ذكر الشيخ أبو علي في فصلٍ قدمناهُ وجهاً غريباً، لم أحب ذكره في ترتيب المذهب، ولست أرى أيضاًً إسقاطَه لعلُوّ قدر الناقل:
فإذا قال الرجل لامرأته: زنيتِ فقالت: زنيتُ بك، وفسرته بزنيةٍ جرت لها على زعمها قبل النكاح، فقد قذفت زوجها، واعترفت على نفسها بالزنا، ولا يخفى حكمُها لو أصرت على إقرارها.
ولو رجعت، قال الشيخ: أما حد الزنا، فيسقط عنها، وأما حدُّ القذف، ففي سقوطه عنها قولان: أحدهما - أنه لا يسقط، وقياسه بيّن.
والثاني - يسقط؛ لأن الفعل المعتَرفَ به واحد، وإن وقع الإخبار عنه اعترافاً بالزنا من وجهٍ وقذفاً من وجه؛ فإذا فُرض الرُّجوعُ، وجب أن لا يتبعض، وقرّب هذا من إقرار العبد بسرقة نصاب؛ فإنه مقبولٌ في وجوب القطع، وفي قبوله بالمال قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى.
ووجه التشبيه اشتمال الإقرار على ما لا تُهمة فيه.
وهذا بعيد؛ فإنا قبلنا الإقرار في وجوب القطع، لانتفاء التهمة، وإلا فالقطع واردٌ؛ على ملك المولى، وهذا المعنى يشمل الطرفَ والمالَ المذكورَ في الإقرار، وأما الرجوع عن الإقرار، فقبوله من خصائص الزنا، ولا يشتمل هذا المعنى على حد القذف.
فصل
ذكر الشيخ في شرح الفروع وجهاً غريباً في مسألة لم أحكه فيها لما ذكرته الآن، وذلك أنه قال: إذا بانت المرأة عن زوجها، فقذفها بعد البينونة، ولم يكن ثَمّ ولد،
__________
(1) في الأصل: موجب.

(15/119)


نُظر: فإن ذكر زنا بعد البينونة، حُدّ، ولم يلتعن، وكذلك إذا أطلق ذِكْرَ الزنا، ولم يؤرّخه.
ولو نسبها إلى زنية، وذكر أنها جرت في النكاح، فالمذهب المقطوع به أنه لا يلتعن. وحكى الشيخ وجهاً غريباً أنه يلتعن لإسناده الزنا إلى حالة النكاح، ولو جرى ما ذكر، لكان ذلك تلطيخاً للفراش.
فرع:
9736 - إذا منعنا اللعان عن الحمل، فلو قال الزوج: دعوني ألتعن، فإن وافى اللعان حملاً، نفاه، وإن لم يكن، فإذ ذاك يتبين أن لعاني كان لغواً، فقد ذكر الشيخ وجهين عن ابن سريج في ذلك، وهذا مضطرب، فإنا إذا فرعنا على منع اللعان على الحمل، ففائدته المنع منه إذا كان بعد البينونة أو في نكاح شبهة، وإلغاء أثره إذا فرض في النكاح، وما أشار إليه من إعمال اللعان على وجهٍ هو تفريعٌ على جواز اللعان على الحمل.

(15/120)


باب الشهادة في اللعان
9737 - مذهب الشافعي أن الزوج لو شهد على زنا زوجته، فشهادته مردودة، وخلاف أبي حنيفة (1) مشهور في ذلك، ثم اعتمد الأئمة نكتتين: إحداهما - أن الزنا تعرّضٌ لمحل حقِّ الزوج؛ فإن الزاني منتفع بالمنافع المستحَقة له، فشهادته في صيغتها تتضمن إثباتَ جناية الغير على ما هو مستحَقٌّ له، وهذا يخالف صيغَ الشهادات.
والنكتة الثانية - أن من شهد بزنا زوجته، فنفس [شهادته دالّة] (2) على إظهار العداوة، فلا شيء يستثيرُ المغيظةَ مثلُ تلطيخِ الفراش، فإذا كنا نرد شهادة العدوّ، فالشهادة التيِ صيغتُها إظهارُ العداوة لا تُقبل.
ولو شهد أَبُ الزوج بزنا زوجة ابنه، فهذه المسألة لم يتعرض لها أئمة المذهب إلا شيخي فيما حكاه لي عنه بعضُ الثقات، فإنه ذكر وجهين، وقربهما من النكتتين: إن عوّلنا في رد شهادة الزوج على إشعار شهادته بإظهار عداوته، فهذا المعنى قد لا يتحقق في شهادة الأب، وإن عولنا على النكتة الأخرى، وهي التعرض لمحل الحق المستحَق [فطرْد] (3) هذه النكتة يتضمن رَدّ شهادة أبيه؛ فإن شهادة الأب للابن في حقه مردودة، كما أن شهادة الرجل لنفسه مردودة.
وهذا غريبٌ لا تعويل عليه، فالوجه القطع بقبول شهادة أب الزوج.
ولو شهد ثلاثة على زنا الزوجة، فشهد الزوج معهم، فشهادته مردودة على ما ذكرناه.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 515 مسألة 1064، المبسوط: 7/ 54، رؤوس المسائل: مسألة 308، بدائع الصنائع: 3/ 240، حاشية ابن عابدين: 4/ 7.
(2) في الأصل: شاهدته دالّ.
(3) في الأصل: وطرد.

(15/121)


9738 - ثم شهود الزنا إذا نقص عددهم، فقد اختلف القولُ في أنهم قَذَفَة يُحدّون، أم شهودٌ لا يتعرض لهم؟ وسيأتي ذلك في كتاب الحدود، إن شاء الله تعالى.
ولهذا [إذا جاء الزوج وثلاثة يشهدون، فكيف نفرّع قوله، أنجعله قاذفاً] (1) أم كيف سبيله؟ اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع القول بأنه قاذف؛ لأنه ليس من أهل الشهادة على هذا الزنا، ومنهم من أجرى فيه القولين، وجعل نقصان الصفة بمثابة نقصان العدد، وعلى هذا خرّج الأصحابُ شهادةَ الفسقة على الزنا إذا تبين فسقُهم بعد إقامتهم الشهادة، وسيأتي ذلك.
9739 - ثم ذكر الشافعي: " أن حدّ الزنا إذا توجه عليها وهي حامل؛ فلا سبيل إلى إقامة الحدّ إلى أن تضع ثم تَفْطِم ... إلى آخره " (2) ولسنا نخوض في هذا الفصل، فإنه مستقصًى في كتاب الجراح، وفيه تفصيلٌ بين الحد والقصاص، وتبيين ترتيب المذهب.
9740 - ثم ذكر الشافعي قيام شاهدين على الإقرار بالزنا (3)، وهذا من كتاب الحدود، والمقدارُ المقيمُ لرسم الترتيب أن القول اختلف في أن الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة عدلين؟ فإن قلنا: يثبت [فيتعلّق] (4) به وجوب الحد.
فإن قال المشهودُ عليه: رجعت عن إقراري، سقط الحد، وقُبل الرُجوع، وإن قال في معارضة شهادة العدلين: ما أقررتُ وأنتما كاذبان، فلا يكون ذلك رجوعاً منه، والحدّ يقام عليه على القول الذي عليه نفرّع.
فإن قال لما شهد العدلان أو العدول: ما زنيتُ. فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن هذا رجوع عن الإقرار، وذهب شرذمةٌ إلى أن ذلك في حكم التكذيب،
__________
(1) عبارة الأصل مضطربة، فقد جاءت هكذا: " ولهذا الزوج فقد جاء بمجيء الشهود، فكيف نفرع قوله الجعله فإذا فاام كيف سبيله ... " (انظر صورتها). والمثبت ثصرف من المحقق على ضوء السياق.
(2) ر. المختصر: 4/ 187.
(3) ر. المختصر: 4/ 188.
(4) في الأصل: متعلق.

(15/122)


ولا يصح الرجوع ما لم يعترف بالإقرار، ثم ينشىء الرجوعَ إن أراد.
وإن قلنا: لا يثبت الزنا بشهادة عدلين على الإقرار بالزنا، فلو قذف رجلاً أو قذف الزوج زوجته، ثم أقام عدلين، فشهدا على الإقرار بالزنا، فهل يسقط حدُّ القذف والحالة هذه عن القاذف والتفريعُ على أن الزّنا لا يثبت؟ فعلى وجهين.
9741 - ثم قال: " ولو قذفها، وقال: [كانت] (1) أمةً أو مشركةً ... إلى آخره " (2).
لا اختصاص لهذه المسألة وكثيرٍ من المسائل التي نُجريها بالزوج والزوجة.
فإذا قذف الرجل شخصاً، ثم قال: أنت عبد أو مشرك، وكان مجهول الحال، فقال المقذوف: بل أنا مسلم حُرٌّ، فقد اختلف نص الشافعي في ذلك، وهذا مما استقصيناه في أحكام اللقيط، وفرضنا فيه أنه لو قُذف -ثم فرض النزاع على هذا الوجه - ففيمن يصدَّق قولان: أحدهما - أن المصدَّق هو المقذوف؛ فإن الأصل الحرية والدار تُثبت الإسلام.
والقول الثاني - أن المصدَّقَ القاذفُ، فإن الأصل براءةُ ذمته، وهذا مما ذكرناه مستقصًى، فألحقناه بتقابل الأصلين، والقولان مفروضان في اللقيط إذا بلغ وقُذف، والأمر على الاستبهام.
فأما إذا فرض ذلك في رجلٍ مجهول لم يعهد لقيطاً، ولكن ليس يعرف نسبه ودينُه، فقد ذكر الصيدلاني طريقتين فيه: إحداهما - طردُ القولين، كما ذكرناه في اللقيط، والأخرى - القطع بأن القول قولُ القاذف؛ فإنا إنما صدقنا اللقيط في قولٍ؛ من حيث تؤكّد الدّار ما يدعيه من الحرية والإسلام، وهذا المجهول إذا لم يكن لقيطاً في دار الإسلام لا تعلق له بمقتضى [حكمٍ] (3) من الدار.
ولو قال القاذف: قذفتك وأنت مرتد، فأنكر المقذوف، فإن لم يُعهد له ردة، فقد
__________
(1) في الأصل: وقال: "أنت أمة أو مشركة" والتصويب من نص المختصر.
(2) ر. المختصر: 4/ 188.
(3) في الأصل: فحكم.

(15/123)


قدمنا أنّ القول قول المقذوف، وعلى القاذف إثباتُ ما ادّعاه، وقد سبقت نظائر هذه المسألة.
ولو قال: كنتُ مرتداً فأسلمت، وجرى قذفُك بعد إسلامي، فلا يقبل ذلك منه.
نعم، له أن يحلّف القاذف.
وكل هذا مما تمهدت أصوله فيما سبق.
9742 - ولو قال: قذفتكِ وأنت صغيرة، وأقام على قذفها في الصغر بينةً، وقالت: بل قذفتني وأنا كبيرة، وأقامت بينةً على حسب قولها، فإن كانت البينتان مطلقتين أو مؤرختين بتاريخين مختلفين، فقد ثبت قذفان، ويتوجّه الحد بالقذف الثابت في حالة الكبر.
وإن وقع التعرضُ لوقتٍ واحد، وآل النزاع إلى كونها صغيرةً في ذلك الوقت أو بالغة، فلو أقامت المرأة بيِّنة على أنها كانت بالغةً في ذلك الوقت، وأقام القاذف شاهدين على أنها لم تكن بالغةً في ذلك الوقت، فهذه شهادة على النفي، فإن وقع التعرض لإثبات الحيض، فنفيه مردود والتعويل على الإثبات.
وقد يعترض في هذه المسألة سؤال، وهو أن قائلاً لو قال: كيف يمكن إثبات الحيض، ولا اطلاع على ذلك إلا من جهتها، إذ لو فرض اطلاع على ظهور الدّم من منفذه على صفة الحيض، فقد تعلم تلك أنه دمُ فسادٍ راجعةً إلى ترتيب أدوارٍ، وهي أعرف بها من غيرها، فكيف سبيل تصور الشهادة على الحيض؟
قلنا: ليس يبعد ذلك؛ فإن نسوة لو رأين نفوذ الدم في أول وقت إمكان البلوغ، ثم تمادى الدم إلى انقضاء أقل الحيض، فيمكن فرض العِيان على عُسرٍ فيما ذكرناه، ويمكن حمل الشهادة على إقرارها بالحيض في ذلك الوقت، والنزاع مفروض بعد انقضاء زمانٍ من تاريخ الإقرار. هذا وجه التصوير.
ومما نجريه في ذلك: أنها لو أقامت بينة على أنها كانت بالغة في ذلك الوقت، وأقام القاذف بينة على أنها كانت صغيرة في ذلك الوقت، فالصغر في ظاهر الأمر صفةٌ ثابتة، ولكنه يكاد يرجع في هذا المقام إلى النفي؛ إذ المقصود منه عدم البلوغ.
هذا وجه.

(15/124)


ويجوز أن يُحمل ثبوتُ الصغر على أمرٍ يتعلق بالسن، وتاريخ الولادة، فيرجع ذلك إلى الإثبات، والأصل حمل شهادة الشهود على الصحة، فإذا تعارضت بينتان في الصغر والكبر، على التأويل الذي ذكرناه، والوقت متعيَّنٌ باتفاق القاذف والمقذوف، فإن حكمنا بتهاتر البينتين، فلا كلام، فإن رأينا استعمال البينتين ففي الاستعمال في غير هذا الموضع أقوال، وقد زعم الأصحاب أنه لا يجري هاهنا إلا قولُ القرعة.
والذي أراه وقد تلقيتُه من مرامز كلام المحققين أن قول الاستعمال لا جريان له في العقوبات، وكما يتعطل قول الوقف، وقولُ القسمة، يتعطل قول القرعة أيضاً؛ لامتناع إقامة عقوبة لقرعةٍ وِفاقيّة، فلا وجه إلا المصير إلى التهاتر.
9743 - قال: " ولو شهد عليه شاهدان أنه قذفهما وقذف امرأته ... إلى آخره " (1).
إذا شهد شاهدٌ أنّ فلاناً قذفني وقذف فلاناً، فقوله مردود فيما يتعلق به؛ فإن شهادة الإنسان لنفسه مردودة، فأما شهادته على قذفه لغيره، فهي مقبولة لو تجرّدت، ولكنها أتت مقترنةً بشهادته لنفسه، فالذي صار إليه الجمهور ردُّ الشهادة للغير أيضاًً؛ لأنه بذكره قَذْفَ نفسه أقام نفسه خصماً وعدوّاً، وشهادة الخصم والعدو مردودة.
ولو قال الشاهد: قذف زوجتي وفلاناً، أو قال: أشهد أنه قذف أمي وفلاناً، فشهادته لأمه غير مقبولة، وهل تقبل شهادته لغيرها والشهادتان مذكورتان في قَرَنٍ.
هذا مما تردد فيه الأصحاب أيضاًً، على ما سينتظم المذهب بعد إرسال المسائل.
فأما شهادة الرجل بقذف زوجته، فيبتني أولاً على شهادة الزوج هل تقبل لزوجته؟ وفيه اختلاف قولٍ، سيأتي في الشهادات، إن شاء الله.
فإن قبلنا شهادة الزوج لزوجته، فهل تقبل شهادته بقذفها؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إنها مقبولة، كما لو شهد لها بقصاص، أو [مال] (2).
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 190.
(2) في الأصل: خالٍ.

(15/125)


ومنهم من قال: لا تقبل؛ فإن الشهادة [بقذفها] (1) تتضمن إظهار عداوة القاذف.
والرجل يتعيّر بقذف زوجته كما يتعير بقذف نفسه.
وعن هذا الأصل نشأ الاختلاف في الجمع بين الشهادة بقذف الأم وقذف أجنبي، فإذا تبينت المسائل، حان ترتيبها:
9744 - فأما إذا شهد بقذف نفسه وقذْف أجنبي، فشهادته لنفسه مردودة، وفي ردّ شهادته للغير طريقان: من أصحابنا من قطع بالرد؛ لإظهار العداوة.
ومنهم من أجرى قولين مأخوذين من أن الشهادة إذا اشتملت على شيئين رُدّت في أحدهما، فهل تُردّ في الثاني ولو قدِّر مُفرَداً، لقبلت الشهادة فيه؟ وفيه قولان.
فأما إذا شهد بقذف أمه وقذف أجنبي، فهل نجعل قذف الأم إظهاراً للعداوة؟ فيه اختلاف: منهم من لم يجعله إظهاراً للعداوة، فيتجرّد إذاً البناء على قولي تبعض الشهادة.
ومنهم من جعل ذكر قذف الأم إظهاراً للعداوة.
وأما قذف الزوجة إذا شهد به، وضمَّ إليه قذفَ أجنبي، ففي شهادته لزوجته الكلام الذي ذكرناه، ولكن هل نجعل هذا إظهار عداوة؟ فيه اختلافٌ: فإن جعلنا ذلك عداوة، فالشهادة للأجنبي مردودة، وإن لم نجعله إظهار عداوة، فهي شهادة متبعّضة وفيه القولان.
وهذا بيان قاعدة الفصل وترتيب المسائل فيه.
وربما قال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من قطع بأن شهادته بقذف الأجنبي مردودة، إذا اقترنت بشهادته بقذف نفسه قولاً واحداً، وإذا اقترنت بشاهدته بقذف أمه فطريقان.
ومنهم من قلب، وقال: إذا قرن بين ذكر الأم والأجنبي، فالشهادة للأجنبي تخرّج على قولي التبعيض لا غير، فإذا جمع بين الشهادة للأجنبي وبين الشهادة لنفسه، فطريقان.
__________
(1) في الأصل: لقذفها.

(15/126)


وقد نعلم أن القناعة قد تقع ببعض ما نُردِّده، ولكنا نقلّب العبارات، حتى يظهر المُدرَكُ، ويستبين الغرضُ.
9745 - ومما يتعلق بتمام الفصل أن من شهد على غيره بمال أو غيره، فقذفَه المشهود عليه، فلا يصير الشاهد خصماً بذلك؛ فإنه قد لا يبغي مخاصمةَ القاذف، ولو جعلنا هذا ذريعة إلى إسقاط الشهادة، لما عجز عن ذلك مشهودٌ عليه في أمرٍ خطيرٍ يهون احتمالُ حد القذف عن (1) مقابلة اندفاعه.
ولو سبق القذفُ، فشهد المقذوف على القاذف بحقٍّ من الحقوق، ولم يبد مخاصمةً في الحد وطلباً له، فشهادته مقبولة أيضاً، وِفاقاً كما لو طرأ القذف.
والقول في العداوة والخصومة وما يوجب ردّ الشهادة منهما وما لا يوجب لا مطمع في استقصائه هاهنا، وموضع ذلك في كتاب الشهادات.
فصل
9745/م- نقل المزني في الجامع الكبير عن الأم: أن ابنين لو شهدا على أبيهما أنه قذف ضَرّة أمهما، ففي قبول شهادتهما قولان: أظهرهما - القبول، والثاني - أنها لا تقبل؛ لتمكن التهمة، فإنهما يقصدان إثبات القذف على أبيهما، فيضطر إلى اللعان، وتبينُ الضَّرّة، وتنتفع أمهما، وهذا إبعادٌ [في] (2) التهمة، لا يجوز رد الشهادة بمثله.
وألحق العراقيون بذلك ما لو شهد الابنان على أبيهما على أنه طلق ضَرَّة أمهما، ولا شك أن المسألة كالمسألة، والطلاق أوقع إن كان لهذه التهمة موقعٌ في رد الشهادة، فإن الطلاق يُنجِّز الفراق، ولا أصل لقول رد الشهادة في المسألتين؛ فإن الزوج لا ينحسم عليه مسلك التزوّج.
__________
(1) (عن) جاءت هنا بمعنى (في). والمعنى: يهون احتمال حد القذف في مقابلة اندفاع المشهود عليه.
(2) في الأصل: وفي.

(15/127)


فصل
9746 - إذا شهد شاهدان على القذف، ولكن قال أحدهما: إن فلاناً قذف فلاناً بالعربية، وشهد الآخر أنه قذف بالعجمية، فالقذف لا يثبت باتفاق الأصحاب؛ لأن المشهود عليه قذفان [لا يجتمع] (1) على واحد منهما شاهدان.
وكذلك لو فُرض الاختلاف في المكان والزمان بأن شهد أحدهما أنه قذف فلاناً في الدار، وشهد الثاني أنه قذفه في السوق.
وكذلك لو فرض القذفان في زمانين، فلا ثبوت.
وكذلك لو شهد أحدهما على إنشاء القذف، وشهد الثاني على الإقرار بالقذف، فلا تلفّق الشهادة والإقرار بها، وهو بمثابة ما لو شهد أحد الشاهدين بأنه باع من فلان، وشهد الثاني أنه أقر بالبيع، فلا يثبت البيع، ولا يلفق الإنشاء والإقرار.
ولو شهد أحدهما أنه أقر بالعربية بالقذف، وشهد الآخر أنه أقر بالقذف [بالعجمية] (2) لفقنا وأثبتنا أصل القذف، ومعنى ذلك أن يكون لفظه في الإقرار بالعربية وبالعجمية والمقر به لا اختلاف فيه، ويفرض في لك بأن لا يتعرض للغة القذف، أو يتعرض على الاتحاد والاتفاق، وهذا من الأصول، فالأقارير مجموعة ملفقة.
ولو شهد شاهد على [إقراره] (3) يوم السبت وشهد آخرُ على [إقراره] (3) يوم الأحد، ثبت الإقرار بالشهادتين، وكذلك [لو] (4) فرض الاختلاف في المكان، [إذا] (5) اتحد المخبَر عنه، فتعدد الأخبار غير ضائر؛ فإن الإقرار يُعْنَى للمخبَر عنه، فلا نظر إليه اختلفَت صيغتُه ومكانُه وزمانُه أو اتفقت هذه الخصال، [فالقذف في
__________
(1) في الأصل: لا يجتمعان.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: إقرار.
(4) زيادة اقتضاها السياق.
(5) في الأصل: وإذا.

(15/128)


حقيقته خبرٌ] (1)، فهو مقصود في عينه وبه الجناية على العِرض؛ [فلم يعتبر فيه] (2) الاختلاف والاتفاق.
ولو شهد شاهد أنه أقر أنه قذف بالعربية، وشهد الآخر أنه أقر أنه قذف بالعجمية، قال المراوزة: يلفق، وقال العراقيون: لا يلفق؛ فإنه أخبر عن قذفين مختلفين، وهذا أوفق وأجرى على القياس المرتضى، والله أعلم.
9747 - ثم ذكر الشافعي إن كتاب القاضي إلى القاضي، والشهادة على الشهادة هل يتطرقان إلى حدّ القذف، وفيه اختلافُ قولٍ لا وجهَ للخوض فيه، فإنه يُستقصى في كتابه.
وتعرض الشافعي للتوكيل (3)، وهو مما سبق، فالتوكيل بإثبات القذف جائز، وفي التوكيل باستيفاء الحد واستيفاء القصاص اختلاف نصوص وأقوال، وقد مضى ذكرهما في كتاب الوكالة، وسيجرى ذكرها في الجراح، إن شاء الله عز وجل.
...
__________
(1) عبارة الأصل غير مستقيمة، فقد جاءت هكذا: " ... أو اتفقت هذه الخصال والقذف فإن ذلك خبراً (كدا) فهو مقصود في عينه ... إلخ ".
والمثبت من تصرف المحقق بناء على السياق الواضح من الجمل السابقة مباشرة، وقد أكد هذا كلام ابن أبي عصرون، ونص عبارته: " ولو شهد واحد على إقراره يوم السبت وشهد آخر على إقراره يوم الأحد يثبت الإقرار، وكدا لو اختلفا في مكان الأقرار، لأنه إذا اتحد المخبر عنه، فتعدد الإخبار لا يضر في صيغته، وزمانه، ومكانه؛ لأنه خبر مقصود في عينه، وهو الجناية على العرض، فلم يعتبر فيه الاختلاف والاتفاق " ا. هـ بنصه (ر. صفوة المذهب: ج 5 ورقة: 136 يمين).
وكذلك قال العز بن عبد السلام: " وإن اختلفت لغة الإقرار بالقذف أو زمانه أو مكانه، لفقت الشهادتان "، (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 ورقة 198 يمين).
(2) في الأصل: " فاعتبر فيه " وهو خلاف ما تقرّر في الجملة قبله.
(3) ر. المختصر: 4/ 191.

(15/129)


باب الوقت في نفي الولد
9748 - إذا ثبت للزوج حقٌّ نفي الولد، فقد اختلف القول في أنه على الفور أم فيه مَهَل؟ فالقولُ الصحيح المنصوص عليه في الجديد أنه يثبت على الفور؛ لأنه لدفع الضرر كالرد بالعيب، وقال في القديم يتقدّر بثلاثة أيام؛ فإنّ خطر النسب عظيم في النفي والاستلحاق، وما يعظم خطره يليق بالمراشد مَهَلٌ فيه للرّويّة، ثم الثلاث تقدّر بها مددٌ [شبيهة] (1) في مقاصدها بما نحن فيه.
وحكى الشيخ أبو علي قولاً ثالثاً: أن النفي على التراخي، لا يبطله إلا الاستلحاق، وهذا قول ضعيف، لا تفريع عليه، ولا عودَ إليه، والتفريعُ على الإمهال ثلاثةَ أيام بيّنٌ، وأما الفور ومعناه، فقد ذكرناه في كتاب الشفعة على أبلغ وجه في البيان، وذكرنا فيه الإشهادَ وبلوغَ الخبر في الغَيْبة؛ فلسنا نعيد شيئاً مما مضى؛ إذ لا فرق بين البابين.
والذي نذكر هاهنا: أنه لو أخبره مخبر بأن زوجتك ولدت، فأَخَّر، ثم لما روجع قال: لم أصدقه، فهو مصدَّقٌ.
ولو أخبره عدلان، كان يعرفهما بالعدالة، فلا يقبل قوله: لم أصدقهما، ولو أخبره عدل واحد، كان يعرفه بالعدالة، فهذا فيه تردد مأخوذ من قول الأصحاب؛ من جهة أن الغرض الثقة، وذلك يحصل بقول الشخص الواحد؛ إذ يجب التعويل على روايته، ويجوز أن يرعى في ذلك عددٌ يتعلّق بالخصومات، وهذا كالتردد في [عدد] (2) المترجم والخارص، وما في معناهما، مما يتعلق بأطراف الخصومات، فلا تكون شهادةً محضة.
__________
(1) في الأصل: تشيبهة.
(2) في الأصل: عود.

(15/130)


ولو قال: لم يبلغني خبر أصلاً، فإن كان غائباً، صُدِّق، وإن كان حاضراً والولادة في الدار أو المحِلّة -وما جرت حالةٌ تقتضي المكاتمة- فإذا ادعى عدمَ بلوغ الخبر -والحالة هذه- لم يصدق.
9749 - ولو كانت حاملاً، فقد ذكرنا في أصول الكتاب أنا وإن جوّزنا نفي الحمل باللعان، فليس على الفور؛ لأنه ليس مستيقناً، فلو قال: أؤخر اللعان، فلعله ريحٌ تنفُش، لم يبطل حقه.
ولو قال: أعلم أنها حامل، ولكني أؤخر اللعان، فعساها تُجْهِض وتُلقي جنينها ميتاً، قال الأصحاب: التأخير على هذا الوجه مع الاعتراف بالعلم ثَمَّ (1) بالحمل يُبطل حقه من اللعان على قول الفور، وإنما يكون معذوراً في التأخير إذا حُمل الأمر فيه على أن لا يكون الحمل أصلاً، ويَفْرِض ريحاً غليظة تنفشُ.
ورأيت في كلام الأصحاب ما يدل على وجهٍ آخر: وهو أن الحق لا يبطل؛ لأن الحمل لا يُستقين [قط] (2)، فقوله: " أعلم الحملَ "، لا حقيقة له؛ فإن المظنون يعتقد ولا يعلم.
وهذا متجه، والأظهر ما حكيناه عن الأصحاب.
9750 - ولو أخبره مخبر بمولودٍ أتت به امرأته على الفراش، وهنأه به فقال: متعك الله به، أو قال: ليهنك الفارس، أو ما جرى هذا المجرى من الألفاظ المعتادة في التهنئة عند الولادة، فإن قابل الدعاء بدعاء، ولم يصدر منه ما يتضمن تقريراً، فلا يكون مقابلة الدعاء بالدعاء إسقاطاً [لحق] (3) النفي، وهذا مثل أن يقول للمخبر: جزاك الله خيراً، أو أسمعك الله ما تُسرّ به، أو ما أشبه هذا، فهذه الدعوات لا تعلق لها بالتهنئة، وإنما جاءت مُقابَلةً للدعاء بالدعاء، ولأجل هذا لم نجعله مستلحِقاً، ولا مبطلاً حقَّ النفي.
__________
(1) ثمَّ أي في هذه الصورة بخلاف التي قبلها؛ إذ ظن حملها ريحاً.
(2) في الأصل: فقط.
(3) في الأصل: بحق.

(15/131)


وبمثله (1) لو قال على أثر دعوة المهنّىء: آمين، مثل أن يقول المبشر: بارك الله لك في المولود الجديد، أو ليهنك الفارس، فإذا قال: آمين، فهذا تقريرٌ للدعاء، ومساعفَةٌ في مقتضاه، وهذا متضمَّنُه الاستبشارُ والرضا بمعنى التهنئة، فيبطل به الحق في النفي.
فهذا القدر هو الذي رأينا أن نذكره.
وغائلةُ الفصل في معنى الفور، والتأخير، والإشهاد، وما يتصل بهما، وقد تقدم هذا مستقصًى في كتاب الشفعة، وسبق طرفٌ صالح منه في الرد بالعيب.
ولو قال: بلغني خبر المولود، ولكني لم أعلم أنه يَثبتُ لي حقُّ نفيه، وأخرت لذلك؛ فإن كان فقيهاً أو أنِساً بالفقه بحيث لا يخفى عليه مثل هذا، فلا يصدق فيما ادعاه.
وإن أمكن صدقه، في دعواه، فقد ذكر أصحابنا وجهين في أنه هل يبطل حقه، وبنوهما على القولين في أن الأمَةَ، إذا عَتَقَت تحت زوجها القنّ، وفرّعنا على أن خيارها في الفسخ على الفور، فلو أخرت الفسخ، ثم زعمت أنها لم تشعر بثبوت الخيار لها، ففي المسألة قولان مع ظهور الإمكان.
فصل
قال: " فأما ولد الأمة لا يلحق المولى ... إلى آخره " (2).
9751 - مضمون الفصل التفصيلُ في النسب الذي يَلْحق في ملك اليمين بالمَوْلى، وذِكْرُنا ما يوجب اللحوقَ، فنقول أولاً:
لا خلاف أن الإمكان بمجرده لا يتضمّن إلحاق النسب في ملك اليمين بخلاف النكاح؛ فإن الإمكان فيه كافٍ في الحكم بلحوق النسب، وإن لم يوجد من الزوج
__________
(1) المماثلة في التهنئة، وليس الحكم المترتب عليها، كما يتضح من باقي العبارة.
(2) ر. المختصر: 4/ 198.

(15/132)


إقرارٌ بالوطء، بل يلحق النسب والظاهرُ عدم الوطء، فإن من نكح عذراءَ كريمةً من بيتٍ رفيع النسب، ثم أتت بولد قبل الزفاف لزمان يحتمل أن يكون العلوق به واقعاً في النكاح، فالولد يلحق الزوج، والأصلان ثابتان، ولعل المعنى الفاصل بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش " (1) أن النسب مما اعتنى الشرع بإلحاقه وتغليب أسبابه، كما سبق تقريره، ثم وقع القضاء بهذا في الجهات التي تُعنى وتُطلب لأجل النسب، وهي المناكح.
فأما المملوكة، فالنسب في الغالب لا يُطلب منها، وكان المعتبرون في الأعصار يتعيّرون بإيلاد الإماء، ويذكرون في أوائل مفاخرهم أنهم بنو الحرائر، ومن الكلام الشائع للعرب: " لستُ بابن حرة إن كان كذا وكذا "، فيعدّون هذا من الألايا (2) التي يُقسم بها، ولهذا المعنى لم يُقم الشرع للإماء وزناً في القَسْم، فلم يُثبت لهن حقّاً، ولم يقع الاحتفال بمزاحمة الحرائر بهن، فهذا عُقر (3) الباب.
9752 - ثم لا شك أن ملك اليمين وإن تقاعد فيما ذكرناه عن النكاح، فيتصور لحوق النسب فيه، واختلف العلماء فيما يتضمن لحوقَ النسب: فقال أبو حنيفة (4): لا يلحق النسب إلا بالاستلحاق والدِّعوة (5) الصريحة، فلو اعترف المولى بوطء جاريته وأتت بمولود، فلا يلحقه نسبه عند أبي حنيفة ما لم يقل هذا ولدي، ثم قال: إذا لحقه نسب مولودٍ واحد، ثم أتت بعد ذلك بأولادٍ، لحقوه من غير احتياج إلى الدِّعوة، أو سبب من الأسباب غير هذا.
وقال الشافعي رضي الله عنه: إذا اعترف المولى بالوطء، وأتت الجارية بالولد، لزمان يحتمل أن يكون العلوق به من الوطء، فقاعدة الباب أن الولد يلحق وإن لم يوجد
__________
(1) سيأتي هذا الحديث بعدُ إن شاء الله.
(2) الألايا: أي الأيمان.
(3) عُقر الباب: أي أصله، فالعُقر من كل شيء أصله. (المعجم).
(4) ر. حاشية ابن عابدين 3/ 690، تحفة الفقهاء: 2/ 407، اللباب: 3/ 122.
(5) الدِّعوة بالكسر ادّعاء الولد واستلحاقه (المصباح).

(15/133)


دِعوةٌ [صريحة] (1) واستلحاقٌ ناصٌّ على الاعتراف بالوطء.
[فإن أتت] (2) الجاريةُ بالولد لزمانٍ لا يُحتَملُ أن يكون العلوق به من ذلك الوطء المقَرّ به، فذلك الولد لا يَلْحق؛ فإن معتمد اللحوق الوطءُ المقرّ به، فقد خرج ذلك الوطء عن كونه مستنِداً للولد الذي جاءت به.
وإن أقر بالوطء، وادّعى أنه استبرأها بعد الوطء: أي حاضت بعد الوطء، فالوجه أن [نطرد] (3) أصل المذهب، ثم نُلحق به وجوهاً حائدة عن القانون، والإحاطةُ بمضمون هذا الأصل موقوفةٌ على نجازه.
9753 - فنقول: إذا اعترف بالوطء، وزعم أنه استبرأها بعد الوطء المقرّ به، فإن أتت بالولد لدون ستة أشهر فصاعداً من وقت الاستبراء المدّعَى، فالولد يلحق استناداً إلى الوطء المقرِّ به؛ فإنا تبيّنا أن الذي جرى لم يكن استبراءً للرحم، وأنها رأت الدم على الحمل.
وإن أتت بالولد لستة أشهر، فصاعداً من وقت الاستبراء، فالمذهب الذي عليه التعويل أن الولد ينتفي.
ومرجع المذهب أنا لم نُلحق النسبَ في ملك اليمين بالإمكان المحض، بخلاف النكاح، ولم نشترط التصريحَ بالاستلحاق، بل اكتفينا بذكر سبب العلوق، وهو الوطء.
ثم كما اكتفينا بما لا يكون تصريحاًً بالاستلحاق نُجري ما يناقض ذلك على حسبه، فالوطء ظاهر في الإعلاق، وجريان الاستبراء ظاهر في براءة الرحم، فيصير الواطىء - بعد الاستبراء، وقد تعارض ظاهرٌ في الإلحاق، وظاهرٌ في البراءة- في حكم المتعلق بالإمكان المحض، وقد ذكرنا أن الإمكان المحض لا يُلحق النسبَ [في] (4) ملك
__________
(1) في الأصل: صريح.
(2) في الأصل: فأتت.
(3) في الأصل: يطّرد. (وهو غير مستقيم مع السياق).
(4) في الأصل: وملك.

(15/134)


اليمين، بل النفيُ مترجِّحٌ لتأخر الاستبراء، فهو في حكم الناسخ لما مضى.
9754 - ولو ادعى المولى الاستبراء مطلقاً بعد الوطء، وأنكرت الأمة، وزعمت أنها لم تحض بعد الوطء، فقد أطلق الأصحاب أن الرجوع إلى قول المولى.
وهذا فيه إشكال؛ من جهة أن الاستبراء وقوعُ الحيض، والرجوع في ثبوت الحيض ونفيه إلى النسوة؛ إذ لا مطّلع على ذلك إلا من جهتهن، فقد ذكرنا أن الزوج إذا علّق طلاق امرأته بحيضها، ثم زعمت أنها حاضت، صُدّقت مع يمينها، وجرى القضاء بوقوع الطلاق، والأصل استمرار (1) النكاح، فكيف صُدِّق المَوْلى فيما نحن فيه؟
والجواب عن هذا يُفصّل المسألةَ ويوضح الغرضَ منها، فنقول: هذه المسألة فيه إذا كانت الأمة لا تنكر جريان الحيض عليها، [وأن] (2) الزوج اعترف بالوطء، فإذا قالت: لم أحض بعد الوطء، فكأنها تدّعي وطأً بعد آخر حيض منها، والزوج ينكر ذلك الوطء، وإنما يعترف بوطء سابق على الحيض، [فيؤول] (3) الاختلاف إلى دعوى الوطء ونفيه؛ إذ أقر المولى بوطءٍ في وقتٍ عيّنه، وادعى بعد ذلك جريان حيض عليها، وأنكرت الأمة، فهذا محل النظر.
والظاهر أنه يُرجع إلى قولها؛ بناء على ما قدمناه من أن الرجوع إلى قولها في الحيض، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أن الرجوع إلى قول المولى في هذا المقام -وإن أرّخ الوطء كما صورناه- لأنه لم يعترف بالنسب، ولا اكتفاء بالإمكان، وكأن الشافعي يشترطُ أن يعترف بوطءٍ ويعترفَ بانتفاء الاستبراء، فإن لم يعترف بانتفاء الاستبراء فلا يدّعيه.
9755 - ثم أطلق الأئمة القولَ بأنها تحلِّف المولى في دعوى الاستبراء، وليس هذا
__________
(1) في الأصل: " والأصل عدم استمرار النكاح ". وهو مناقض للسياق.
(2) في الأصل: وإلى.
(3) كلمة غير مقروءة في الأصل.

(15/135)


لمخاصمتها في النسب، وإنما هو لتعلق حقها بأمية الولد، ثم ذكر الشيح أبو علي وجهين في كيفية التحليف: أحدهما - أنه يحلف بالله لقد حاضت بعد الوطء، ولم يطأها بعد الحيض حتى أتت بالولد، فإذا حلف هكذا، انتفى عنه الولد.
والوجه الثاني - وهو أن (1) اختيار الإصطخري -أنه يحتاج أن يحلف بالله لقد استبرأها بعد الوطء، ولم يطأها بعد الاستبراء، وليس الولد منه، فلا ينتفي النسب بعد الإقرار بالوطء إلا على هذا الوجه.
وقد يعنّ هاهنا إشكال، وهو أن الأمة لو لم تتعرض للتحليف وطلبِ الحلف، فكيف الوجه، ولا يخفى أن للشرع حقاً في تأكيد لحوق الأنساب، فلو أقر بالوطء وادعى الاستبراء ومات، فالنسب لاحق أو منتفٍ؟ الوجه عندنا الحكمُ بثبوت النسب؛ فإنه ذكر سببَ ثبوته، ولم يؤكد ما يناقضه، والاستبراء على حالٍ متعلقٌ بالأمة، فلا يعارض الإقرارَ بالوطء، ما لم يؤكَّد.
ويخرج من هذا أنه لا حاجة إلى دعواها، ولو حلف دونها، كفى.
وما ذكرناه من أميّة الولد صحيح في غرضها، ولكن لا حاجة إليه فيما يتعلق بالنسب.
9756 - ولو زعمت الجارية أنه وطئني فأنكر الوطء، فقد حكى القاضي أن الأمة لا تملك تحليفه، بل ليس لها التعرض لذلك، ثم قال: والوجه عندي أنها تملك تحليفه، وهذه الصورة ليست في معنى الأولى؛ فإن النسب في الصورة الأولى لا ينتفي بعد الإقرار بالوطء إلا إذا حلف على الاستبراء، كما فصلناه، وهاهنا لا حاجة إلى الحلف حتى ينتفي النسب، وهذا هو الذي أراده الأصحاب. نعم، إذا طلبت الأمة أمّية الولد، وقد ولدت، فلا يجوز أن يُتوهم خلافٌ في أنها تملك تحليفه.
__________
(1) تستقيم العبارة على تقدير: والوجه الثاني مما حكاه الشيخ أبو علي أن اختيار الإصطخري ... إلخ.

(15/136)


9757 - ولو قال السيد: وطئتها وعزلت عنها، فالذي قطع به المحققون أن دعوى العزل لا أثر لها، ومن ادعاه بمثابة من اعترف بالإنزال.
وكان شيخي يحكي وجهاً أن النسب لا يثبت إذا ادعى العزلَ، وهذا بعيد، لم أره إلا له (1)، وما رأيتُ في كتاب، ولست واثقاً بنقلي فيه (2).
نعم، إذا اعترف السيد بإتيانها دون المأتى مع الإنزال، فهل يكون هذا بمثابة الإقرار بالوطء؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه لا يكون كالإقرار بالوطء.
والوجه الثاني - أنه كالإقرار بالوطء؛ فإن الماء يسبق.
وهذا ضعيف لا أصل له.
9758 - فإذا أتت الأمة بولد بعد الاعتراف بالوطء وجرى الحكم بلحوق نسبه وثبتت أمية الولد، فإن أتت بولد بعد ذلك لأقلَّ من ستة أشهر، فهذا الولد يلحق لا محالة؛ فإن الأول إذا لحق (3) -والثاني من ذلك الحمل- وقد ذكرنا أن الحمل الواحد لا يتبعض لحوقاً ونفياً.
ولو أتت بالولد الثاني لستة أشهر فصاعداً، فلا شك أن العلوق به بعد انفصال الأول، فهل يلحق من غير اعتراف بوطء بعد الولادة؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمن أصحابنا من قال: لا حاجة إلى ذلك؛ فإن المستولدة مستفرشة، وقد تأكد الفراش فيها بالولد، فيكفي الإمكان؛ فإنها خرجت عن الرّق المطلق، وانتهت إلى حالة يستفرشها المولى على ضعف ملكه فيها- مع أن حِلّ الوطء يستدعي ملكاً كاملاً، فيظهر من هذا أن للشرع غرضاً في تثبيت حرمة الفراش [للتي] (4) ولدت نسيباً،
__________
(1) ولم أره إلا له: أي لم يحكه غيره.
(2) لعل معنى العبارة وتصويبها: والذي رأيته في كتاب، ولست واثقاً بنقلي منه. وذلك أنهم كانوا يرون أن الأخذ عن الكتب من أدنى درجات الثقة في الرواية، فكأنه يقول: لم أسمع هذا النقل من شيوخي. والله أعلم.
(3) جواب (إذا) مفهوم من الكلام.
(4) في الأصل: التي.

(15/137)


وأبو حنيفة مع مصيره إلى أن الولد الأول لا يلحق إلا بالدعوة والتصريحِ بالاستلحاق لم يعتبر هذا في سائر الأولاد بعد الأول.
ولكن (1) لا يجري على مذهب الشافعي ما أجراه أبو حنيفة في إثبات خواصّ الفراش، فإنه قال: المستولدة إذا عتَقَت، فاستبراؤها بثلاثة أقراء كالمطلقة الحرة، والشافعي يكتفي في استبراء المستولدة إذا عتَقَت بحيضة واحدة.
ومن أصحابنا من قال: لا يلحق الولد الثاني إذا تحقق أنه ليس من البطن بالأول ما لم يعترف المولى به أو بوطء جديد بعد انفصال الولد الأول؛ فإنها مملوكة وليست ملتحقة بالمنكوحات، والدليل عليه أن استبراءها إذا عَتَقَت بحيضة، ولا حق لها في القَسْم، كما لاحق للرقيقة، فلا يثبت لها حكم الفراش حتى يكتفى بالإمكان المجرد.
9759 - ثم قال الأئمة: هذا الاختلاف ينبني على الاختلاف في مسألةٍ، وهي أن السيد إذا زوّج أم ولده، فألم بها زوجُها، ثم طلقها، فانقضت عدتها، فهل تعود فراشاً للمولى كما (2) تصرّمت العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - بلى تعود، حتى لو مات، أو أعتقها، يلزمها الاستبراء.
والثاني - لا تعود، ولو أعتقها، لم يلزمها الاستبراء.
فإن حكمنا بأنها تعود فراشاً من غير إقرار بوطء جديد، فهذا قضاء منا بان أمية الولد تُغني عن الاعتراف بالوطء، وتقتضي الاكتفاء بالإمكان.
وإن قلنا: لا تعود فراشاً، فلا بد بعد التخلي من اعترافٍ بوطء.
فعلى (3) هذا إذا أتت المستولدة بولدٍ، فلحق، ثم أتت بولدٍ يقع العلوق به بعد الولادة، فلا بد من الاعتراف بوطء جديد.
__________
(1) الاستدراك هنا بمعنى أننا إن وافقنا أبا حنيفة في أن الأولاد بعد الولد يلحقون بالفراش وبالإمكان، لكن لا يجري مذهبنا على ما يجري عليه أبو حنيفة في الاستبراء.
(2) كما: بمعنى عندما.
(3) عودٌ إلى مسألة المستولدة، المشبهة بالمزوّجة.

(15/138)


هذا حاصل قول الأصحاب في ذلك.
فإن قلنا: لا حاجة إلى الاعتراف بوطءٍ، فقد ذكر بعض الأصحاب أنه لو ادعى الاستبراء، [لانُتفى] (1) النسب، [وهذا خرقٌ عظيم، لا يلحق بالمذهب] (2)؛ فإذا كان الولد الثاني يلحق من غير اعترافٍ بوطء، فلا حاصل لذكر الاستبراء (3).
وقد انتجز ما نقلناه عن الأصحاب (4).
9760 - ووراء ذلك كلِّه أمرٌ هو الأهم، فنعود على ما رسمنا مباحثين، ونقول: إذا اعترف بوطء مملوكةٍ، وادعى استبراءها بعد الوطء، أو جرى حيضُها حقاً، فإذا أتت بالولد لزمان يحتمل أن يكون العلوق به بعد الاستبراء، فهو منتفٍ على النص وظاهرِ قول الأصحاب.
ومن أصحابنا من قال: يلحق النسب لأن الموطوءة صارت فراشاً في قضية لحوق النسب، والتحقت في هذا المعنى على الخصوص بالمنكوحة.
والسبب فيه أن حرمة النسب في ملك اليمين كحرمة النسب في النكاح، غيرَ أنّا لم نؤاخذ بالإمكان المجرد في ملك اليمين؛ من حيث إن الوطء ليس مقصوداً فيه، فإذا اعترف به، لم يغادر شيئاًً يُطْلِع عليه، والذي يستلحق النسبَ لا يعرف منه إلا الوطء،
__________
(1) في الأصل: إلا بنفي النسب.
(2) زيادة ذكرها بلفظها ابن أبي عصرون، وبمعناها العز بن عبد السلام.
(3) عبّر عن ذلك ابن أبي عصرون والعز بن عبد السلام، فقالا: " إن ولادة الولد الأول أقوى من الاستبراء ".
(4) لعلنا نؤكد صحة هذا التصرف في العبارة والزيادة فيها إذا رأينا نص اختصار العز بن عبد السلام لها، فقد قال: " ومتى ألحقنا ولد الأمة ثبتت أمية الولد؛ فإن أتت بعد ذلك بأولادٍ، فإن كانوا من ذلك البطن، لحقوا، وإن كانوا من بطن آخر، فوجهان مأخوذان من القولين فيمن زوج أم ولده، فطلّقت بعد الدخول وانقضت العدة، ففي عود الفراش قولان، فإن قلنا: يلحقون، لم ينتفوا بدعوى الاستبراء، فإن ولادة الأول أقوى من الاستبراء، وأبعد من نفاهم بذلك، وعلى الأصح لا ينتفون إلا باللعان " (ر. الغاية في اختصار النهاية: ج 3 ورقة: 199 يمين).

(15/139)


وهذا واقع في المعنى، فإذاً دعوى الاستبراء بعد جريان الوطء كدعوى الاستبراء في النكاح.
ومن هذا المنتهى نقول: النسب على هذا الوجه تعرض للثبوت، ولا يتصور تقدير نفيه بدعوى الاستبراء على الرأي الذي أظهرناه، فنُجري فيه القولَ القديم المحكي عن أبي عبد الله (1) في أن النسب في ملك اليمين ينفى باللعان، ونحن نعلم أن النسب إذا أمكن نفيه بجهةٍ سوى اللعان لا ينتفي باللعان.
9761 - ومما ذكره الأصحاب أن المولى إذا اعترف بالوطء، فأتت الأمة بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوطء المعترف به، فهل يلحق بالنسب؟ ذكروا وجهين مرسلين، والوجه فيه عندنا أنا إذا قلنا: النسب ينتفي بدعوى الاستبراء، فينتفي في هذا المقام، بل هو بالانتفاء أولى؛ فإنا على قطعٍ نعلم أن الولد الذي أتت به لأكثرَ من أربع سنين بعد الوطء، ليس من الوطء، وهذا القطع لا يحصل بالاستبراء، فإن الحامل قد ترى دماً، فسبيل ذكر هذين الوجهين أن نقول:
إن حكمنا بأن دعوى الاستبراء تقطع أثر الاعتراف بالوطء، فالإتيان بالولد لأكثرَ من أربع سنين بذلك أولى.
وإن قلنا: دعوى الاستبراء لا تقطع أثر الاعتراف، فإذا أتت بالولد لأكثر من أربع سنين، لحق الولد، كما لو أتت المرأة بولد لأكثرَ من أربع سنين من وقت النكاح مع الإمكان.
ثم على هذا لا بد من إجراء قول اللعان.
وإذا قلنا: لا حاجة إلى الإقرار بوطء جديد بعد أُميّة الولد في سائر الأولاد فأنسابهم لا ينفيه (2) إلا اللعان.
فهذا وجه إجراء اللعان في نسب ملك اليمين.
__________
(1) المراد هنا: الشافعي، وليس مالكاً. كما هو واضح.
(2) الضمير المذكر هنا على معنى المفرد (النسب).

(15/140)


وكنا أطلقنا قول اللعان وأحلنا تفصيله على هذا الفصل، وقد وفّينا بالموعود، وعلى فضل الله التكلان.
9762 - ثم إن الشافعي رضي الله عنه أخذ يستبعد مذهب أبي حنيفة في ملك اليمين والنكاح ويقول: " لا يُلْحِقُ النسبَ في ملك اليمين مع الإقرار بالوطء، ويُلْحِقُ النسبَ في النكاح مع انتفاء إمكان الوطء، وهذا تناقضٌ بيّن " (1) وقد قررنا ذلك في (الأساليب) (2) و (المسائل) (3) والله أعلم.
...
__________
(1) هذا تلخيص ما جاء عن الشافعي في مختصر المزني (ر. المختصر: 4/ 201 - 204).
(2) الأساليب: أحد كتب إمام الحرمين في الخلاف، وإنما سمي بذلك لأنه كلما انتقل من قضية خلافية إلى أخرى قال: أسلوب آخر.
(3) (المسائل): لا شك أنه يريد بها (الدّرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية)؛ فإنها تُبنى على المسائل، حيث (يُعَنْوِن) كلَّ قضية خلافية بقوله: (مسألة) والدّرة بين أيدينا والمسألة منصوصة فيها (آخر مسائل اللعان) والأمل في فضل الله وعونه أن نُخرج القسم الثاني من الدرة ونلحقه بالقسم الأول قريباً، اللهم استجب وحقق أمل عبدك اللاجىء إلى حولك وقوتك، إنك واسع الفضل ونعم المولى، ونعم النصير.

(15/141)