نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب السرقة
11086 - الأصل في أحكام السراق قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] واشتمالها على ذكر أصل الجريمة والحد. وتفصيلُ مكان السرقة، والمقدارُ، وصفةُ السارق والمسروق منه تُتلَقَّى من السنن [وغيرِها] (1) من مدارك الشرع، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله لو سرقت فاطمة، لقطعتها " (2)، وقال: " لعن الله السارق يسرق البيضة، فتقطع يده، ويسرق الحبل، فتقطع يده " (3) وحمل بعض المتكلفين البيضة على المغفر، والوجه حملها على جنس [البيض] (4) ومثل ذلك [منساغ] (5) في قصد التعليل.
والسرقة في اللسان: الأخذ في استزلالٍ ومخادعة، والمصدر السَرق والسرقة، والعلماء مجمعون على قواعد الكتاب، والمطلوب منه يتعلق بالمقدار الذي يسمى نصاب السرقة، وجنس المسروق.
والكلام في الحرز.
ومعنى السرقة، وذلك يتعلق بكيفية الإخراج.
__________
(1) في النسختين: " وغيرهما ".
(2) حديث " والله لو سرقت فاطمة ... " متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها (البخاري: الحدود، باب إقامة الحدود على الشريف والوضيع، ح 6787، مسلم: الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره والنهي عن الشفاعة في الحدود، ح 1688).
(3) حديث " لعن الله السارق يسرق البيضة ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (البخاري: الحدود، باب لعن السارق إذا لم يُسَمَّ، ح 6783، وباب قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وفي كم يقطع، ح 6799. مسلم: الحدود، باب حد السرقة ونصابها، ح 1687).
(4) في الأصل: " البيضة ".
(5) في الأصل: " ساغ ".

(17/221)


والقول في الشبهات الدارئة.
ثم الاختتام بما يثبت السرقةَ من بينةٍ وإقرار.
ووراء ذلك بيان القطع والمقطوع في السرقة.
هذا مجامع الكتاب.
ونحن نذكر [التقويم من] أجناسِ الأموال (1)، ثم ضوابطَ القول في الحرز، ثم معنى السرقة والإخراج، ونحرص أن نتبع ترتيب السواد.
11087 - قال الشافعي: " القطع في ربع دينار ... إلى آخره " (2).
ذهب داود إلى أن القطع يتعلق بالقليل والكثير، وذهب علماء الشريعة إلى أن القطع يتعلق بنصابٍ، ثم اختلفوا: فذهب أبو حنيفة (3) إلى أن النصاب دينار، أو عشرةُ دراهم، ثم التقويم عنده بالدراهم، والذهب في نفسه لا يقوّم بالدراهم، ولا يقوّم به شيء.
وقال مالك (4): النصاب ثلاثة (5) دراهم، أو ربعُ دينار، والتقويم بالدراهم، كما حكيناه عن أبي حنيفة.
وقال النَّخَعي (6)، وأبو ثور (7)، ..............................
__________
(1) في (ت 4): " التقديم ثم أجناس الأموال ".
(2) ر. المختصر: 5/ 169.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 269، رؤوس المسائل: 491 مسألة 355، المبسوط: 9/ 136.
(4) ر. الإشراف: 2/ 943 مسألة 1894، عيون المجالس 5/ 2117 مسألة 1531.
(5) ت 4: خمسة.
(6) النخعي: إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الكوفي، أبو عمران، الإمام الحافظ، فقيه أهل الكوفة، تابعي ولم يثبت له سماع من الصحابة. توفي سنة 96هـ. (تهذيب الأسماء: 1/ 104، سير النبلاء: 4/ 520، طبقات الشيرازي: 82، وفيات الأعيان: 1/ 25، تهذيب التهذيب 1/ 177).
(7) أبو ثور: إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، أحد أئمة الدنيا ففهاً وعلماً وورعاً، كان أول أمره على مذهب الحنفية ولما قدم الشافعي بغداد تبعه وصار من كبار أصحابه، وروى مذهبه القديم، قال النووي: ومع كونه من أصحاب الشافعي وأحد تلامذته=

(17/222)


وابن شُبْرمة (1): النصاب خمسة دراهم، وقيل: هذا مذهب علي.
ومذهب الشافعي أن النصاب ربعُ دينار، ولم يعيّن الدراهمَ، ومعتمد المذهب حديثُ (2) عائشة، وهو مذكور في الخلاف، ولو سرق من الذهب الخالص ربعَ مثقال، ولكن كان لا يسوى (3) ربعَ دينار مضروب، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القطع لا يجب، وهو الأظهر؛ فإن الوارد في الحديث ربعُ دينار، والدينار اسم للمضروب [وبه] (4) الاعتبار.
ومن أصحابنا من قال: إذا سرق ربعَ مثقال من الذهب الخالص، فلا سبيل إلى تقويمه؛ فإنه ليس جنسَ (5) الدينار، والأصح الأول، وينبني على هذا التردد أن من سرق خاتماً وزنه سدس مثقال، وقيمته ربع دينار، فكيف حكمه؟ إن رددنا الاعتبار إلى الدينار، فنوجب القطعَ، ونعتقد الخاتم سلعة، وإن لم نر تقويم الذهب بالدينار، لم نوجب القطع لنقصان وزن المسروق عن الربع.
ولو سرق ثوباً وما في معناه، فلا خلاف أن التقويم بربع دينار.
وقد يخطر للفطن أنا إذا أوجبنا القطع بربع مثقال من الذهب الإبريز، وإن كانت
__________
= والمنتفعين به والآخذين عنه والناقلين كتابه وأقواله فهو صاحب مذهب مستقل، لا يُعد تفرده وجهاً في المذهب. ا. هـ توفي أبو ثور ببغداد سنة 240هـ (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 2/ 200، طبقات السبكي: 2/ 74 - 80، طبقات الشيرازي: 75، طبقات العبادي: 22، تاريخ بغداد: 6/ 65، وفيات الأعيان: 1/ 7، طبقات ابن كثير: 1/ 98).
(1) ابن شبرمة: عبد الله بن شُبْرُمة بن طُفيل الضَّبي، القاضي، فقيه الكوفة، توفي سنة 144هـ (الجرح والتعديل: 5/ 82، سير أعلام النبلاء: 6/ 347، تهذيب التهذيب: 5/ 250).
(2) يشير إلى حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تقطع يد السارق في رُبعُ دينار " وهو متفق عليه، وله ألفاظ عندهما (البخاري: الحدود، باب قول الله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ح 6789، 6790، 6791، مسلم: الحدود: باب حد السرقة ونصابها، ح 1684، اللؤلؤ والمرجان ح 1097).
(3) ت 4: " لا يشتري بربع دينار ".
(4) في النسختين: " فيه ".
(5) في (ت 4): " فإنه جنس الدينار " والمعنى أنه يجب فيه القطعُ؛ لأنه غير مقوّم في نفسه، فنعتبر وزنه، وإن كان لا يقوّم به. كذا قال الغزالي في البسيط: جـ 5/ورقة 122 يمين.

(17/223)


قيمته دون المضروب، فنتخذ ذلك مرجعاً في اعتبار المالية، وهذا خبطٌ؛ فإن التقويم لا يقع إلا بالمضروب والسبيكة لا ضبط لقيمتها، وهي متقوّمة، وما يتقوم لا يقوّم به، ولست أنكر أن التقويم بربع دينار يوهن ذلك، فليكن كذلك، فإن الضعيف يضعف بالتفريع.
ولو كان المسروق عَرْضاً تبلغ قيمته بالاجتهاد ربعَ دينار، فقد يوجب الأصحاب الحدّ، والذي أرى القطع به أنه لا يجب ما لم يقطعوا بأن القيمة لا تنقص عن هذا.
والذي ذكره الأصحاب من اعتبار التقويم محمول عندي على الرجوع إلى المقومين، ثم لهم اجتهادٌ وقطعٌ، ولو قطع بذلك أقوام لا يُزكَّون (1)، فلا إشكال، ولو قطع بذلك [جماعة] (2) معدودون لا يبعد الزلل عليهم، فهذا فيه احتمال؛ من جهة أن الشهادة على السرقة معرضة لهذا، وهي مقبولة، والفرق إن أردناه أن شهود السرقة يُسندون شهادتهم إلى العِيان، بخلاف أقوال المقوّمين، فانتظم من هذا [أنهم] (3) إذا ترددوا -وإن أجرَوْا عن غلبة الظنون- فلا قطع، وإن قطعوا وكانوا عدداً لا يزكَّوْن، وجب القطع. وإن قطع عدلان منهم، ففيه التردد.
وقد نجز القول في نصاب السرقة.
11088 - فأما الكلام في المسروق، قال (4) الشافعي: " إن عثمان رحمه الله قطع في أُترجَّة قيمتها ثلاثةُ دراهم من صرف اثني عشر درهماً بدينار ... إلى آخره " (5).
القطع يتعلق بكل مملوك تام الملك، ولا نظر إلى تعرضه للفساد، ولا إلى أصله، فيتعلق القطع بالفواكه الرطبة، خلافاً لأبي حنيفة ويتعلق بالمملوكات التي أصلها الإباحة كالصيود والخشب والحشائش، وما في معانيها، خلافاً لأبي
__________
(1) كذا في النسختين: " يزكَّون " والمعنى أنهم معروفون بالعدالة لا يحتاجون إلى تزكية، ثم هم عددٌ يبعُد منهم الزلل.
(2) زيادة من (ت 4).
(3) زيادة من (ت 4).
(4) جواب أما بدون الفاء.
(5) ر. المختصر: 5/ 169.

(17/224)


حنيفة (1) في خبط ومناقضات، وتعويلُ المذهب على تحقيق الملك في الحال، ولسنا نلتزم الكلام في الأشياء الموقوفة، وما يَضعُف الملك فيه، وما يتطرّق إليه الشبهات، كأموال بعض الناس في حقوق البعض، وكأموال بيت المال، وإنما غرضنا الكلام على الأجناس، وتلك الفصول ستأتي في مواضعها، إن شاء الله عز وجل.
11089 - فأما الكلام في الحرز، قال الشافعي: " وجملة الحرز أن ينظر إلى المسروق ... إلى آخره " (2).
هذا الفصل مما يجب الاهتمام بضبطه؛ فإنه القطب الأعظم في الكتاب، وليس فيه ضبطٌ توقيفي، ولا معنىً يدركه قياسٌ جلي. فنقول: السرقة إخراج مالٍ مصون بحرز مثله عن حرزه، ووضع الشرع على أن يستفرغ المالك الوُسعَ في صون ماله، ثم إذا كان كذلك، والسراق لا يرجعون إلى شوكة وعُدة، وإنما مبنى أمرهم على الاختزال فيبعد أن يُؤْثروا التهجم على الحرز، والتعرض للخطر لمقدارٍ نزر تافه، وإذا عظم قدرُ المال، فقد ينتهض ذوو العرامة للتعلق بأسباب الاحتيال ومصادمة الأغرار، فرَدَعَهم الشرع بشَرعْ القطع، ثم الحرز لا يتصور ضبطه بتوقيفٍ، فورد مطلقاً محمولاً على ما يعد حرزاً، ويعد صاحبه غير مضيع، ثم النهايات ليست مرعية.
فانتظم من ذلك أن ما يعدّه الناس حرزاً، فهو حرز في الشرع، وما لا فلا، ويترتب على هذا اختلاف الاحتراز باختلاف أجناس (3) الأموال؛ فإن أعيان الدراهم والدنانير تعدّ ضائعة في عرصات الدور، بخلاف المفارش والأواني، وذلك في التحقيق يخرّج على القاعدة؛ فإن الدراهم إذا لم تكن في المخازن تشوّفَ إليها طالبوها، بخلاف ما يثقل محمله، أو تقل قيمته، ولذلك اطردت العادة بالإحراز بالمخازن.
والاصطبل حرز الدواب على نفاستها، وقد لا نراه حرز الثوب؛ من جهة أن
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 272، رؤوس المسائل: 492 مسألة 356، الهداية: 2/ 410.
(2) ر. المختصر: 5/ 169.
(3) ت 4: " الأجناس ".

(17/225)


إخراج الدواب [منها] (1) يظهر، ويبعد الاستجراء عليه، وما يخف محمله بخلافه؛ فانبنت الأمور على الرجوع إلى العادة، وما يعد فيها صوناً، وما لا يعد صوناً، وبان أنا لا نشترط أقصى الإمكان، ولا نكتفي بما يكون حرزاً للمال على الجملة.
11090 - ثم جماع القول في الحرز -إذا رمنا التفصيل- لا يخرج عن سببين: أحدهما - التعويل على اللَّحْظ والمراقبة، وقد يداخله مراعاة المعنى الآخر. والثاني - التعويل على الحصانة والوثاقة، ولا بد أن يداخله اعتبار الملاحظة، فأما ما يعتمد النظر والمراقبة، فله شرطان: أحدهما - ألا يكون اللاحظ المراقب مستضعفاً، والآخر - أن يكون الملحوظ بحيث لايطرقه جمعٌ يعسر المراقبة معهم بسبب مزدحمهم، وبيان ذلك أن من كان في الصحراء لا يعد ضائعاً فيها لقرب الغوث منه إن (2) قُصد، فإذا كان يلحظ متاعاً، فهو محرز باللحظ، وهو على التحقيق مصون بالمنعة والقوة وإمكانِ الاستنجاد، ولكن من ضرورة ذلك اللحظ.
فأما إذا وضع متاعه في مسجد يكثر فيه المختلفون، أو في شارع يكثر فيه الطارقون، فهذا مختلف، فإن انفرد بالملاحظة، ثم فرضت السرقة، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن المال ضائع، والثاني - أنه محفوظ؛ لأنه ملحوظ، ولكن لا ينكر مسيس حاجة اللاحظ إلى مزيد إدامة في اللحظ، وليس هذا الخلاف من كون المحل مشتركاً؛ فإن عماد هذا النوع من الحرز اللحظُ، لا المكان، فلا أثر لكون المكان (3) مشتركاً، فإنما ينشأ الخلاف من قصور اللحظ في الضبط مع ازدحام الطارقين.
ولو فرض وضع المتاع في شارع، ولم يختص باللحظ صاحب المتاع، ولكن كان المتاع ملحوظاً (4) بلحظ جمع من اللاحظين، يتعاونون على صيانة الأمتعة، فإذا كان كذلك، صار عدد اللاحظين في معارضة الطارقين، كلاحظٍ في الصحراء في
__________
(1) في النسختين: فيما.
(2) ساقط من (ت 4).
(3) ت 4: " المال ".
(4) ت 4: "محوطاً ".

(17/226)


معارضة طارق، ولهذا قال الأصحاب: الأمتعة ليلاً يبعد صونها باللحظ إلا في المواسم التي يتعاون فيها ملاك الأمتعة على التلاحظ.
ومما يتعلق بهذا أن المتاع الملحوظ في الصحراء لو نام صاحبه، فهو ضائع؛ فإن عماد صونه اللحظ، وقد انقطع بالنوم، ولو استدبره أو ذهل ذهولا ظاهراً يقطع مثلُه اللحظ، فكذلك. ولكن لا يتصور أن يُسرقَ المتاعُ إلا بموافقة رعاية السارق للفرص وتطبيقِه رعايتَه على فترات (1) لطيفة للاّحظ، [فإذا] (2) جرت السرقة، أوجبت الحدّ؛ فإن هجوم الآخذ على ما يتخيله من [فترة] (3) كهجومه على الحرز، فيما (4) يقرّبه [من الغرور] (5) وقد يزلّ [في تخيله الفترة] (6) وقد يعود اللّحظ في [الأثناء] (7)، وهو غالب، والقدر الذي ذكرناه كافٍ في تأصيل هذا الطرف.
11091 - فأما الحرز الذي عماده حصانة البقعة، وعُسْرُ الوصول منها إلى المال المصون بها، فالرجوع فيه إلى العادة، والدور الموثقة بالأغلاق والأبواب أحراز، وكذلك الحوانيت التي تعد حصينة، ثم لا تستقل الأبنية بالأحراز ما لم تكن على حظوظٍ من المراقبة، على موجب العادة.
وبيان ذلك أن الدار وإن كانت حصينة لو فرضت في قريةٍ، وفرض انجلاء أهلها، فالدار بما فيها ضائعة، وذلك أن التسبب إلى التسلق بالسلالم والاستمكان من [النقْب] (8) حيث لا مراقب مبطلٌ معنى الحرز، حتى لا يفرض حرز مستقل بنفسه، إلا إذا تكلفنا تصوير قلعة متعلّقة بقُلّة جبل لا طريق إليها، ولا طروق عليها، وهذا يعسر، فإن صاحبها لا بد أن يقدر على الوصول إليها، فإذا لم تكن مرقوبةً، يتيسر
__________
(1) فترات: من الفتور وعدم الانتباه.
(2) في النسختين: وإذا.
(3) في الأصل: " من قوة ".
(4) عبارة (ت 4): " فما أقربه من الغرر ".
(5) زيادة من (ت 4).
(6) في الأصل: " في تخيله في القوة ".
(7) في الأصل: " الأثبات ".
(8) في الأصل: " البيت ".

(17/227)


إعداد مثل العُدد التي للمالك في التوصل إليها.
وقال الأئمة: الدار الخالية في طرف البلد ضائعة، فإنها لا تكون منوطة بمراقب، وإذا كانت محفوفة بدورٍ يقطنها سكان، فهي حرز مصون، والدكاكين البادية في الأسواق ضائعة إذا لم تكن ملحوظة من الحراس أو الملاك.
ثم قال الأئمة: إذا كان صاحب الدار في الدار والأغلاق وثيقةٌ، فما في الدار مُحْرَز، وإن نام المالك؛ فإن الغالب أنه يتنبه بالأسباب التي يقدمها السارق للوصول إلى داخل الحرز.
وإن لم يكن الباب مغلقاً ونام، نُظر: فإن كان ليلاً، فالدار ضائعة إذا لم تكن محروسة بالحراس، ومن في معانيهم، وإذا كان كذلك، فيرجع الحرزُ إلى اللَّحْظ، وإن فرض ذلك نهاراً، فالغالب أن الشارع يطرقه الطارقون، فإذا نام صاحب الدار نهاراً، والباب مفتوح، ذكر الأصحاب وجهين في ذلك، وذكر الشيخ أبو علي نسقاً آخر، فقال: إذا كان باب الدار مفتوحاً، وصاحب الدار فيها يَلْحظ متاعَه، فتغفّله سارقٌ فدخل وسرق، ففي وجوب القطع وجهان، وذكر في ذلك جوابين للقفال في درسين، وعلينا أن ننبه على بيان كل مسلك.
فأما من ذكر وجهين في النائم فيهما فيه إذا كان باب الدار لافظاً في شارع مطروق، فقد يتخيل الاكتفاء في الصون بالطارقين، وتوسط الدور، والأحراز مهيبةٌ في حق السراق، فإن لم يكن باب الدار مطروقاً، وقد نام صاحب المتاع، والباب مفتوح، فلا خلاف أنه ضائع، وما قطعنا به من نوم صاحب المتاع في الصحراء وجهه يبين به، وسبيل الفرق واضح.
وأما ما ذكره الشيخ أبو علي من الوجهين في يقظة صاحب الدار، فطريقه أن من يكون متيقظاً في دار نفسه فمعظم اعتماده على الدار، لا على اللحظ، وعماد الكائن في الصحراء اللحظُ، فإذا فرض تغفل في الدار، فسبب التردد [فيه] (1) ظهور الفتور في اللَّحظ، حتى لو فرض في الدار من اللحظ ما لو فرض في الصحراء، لكان حرزاً، فلا
__________
(1) زيادة من (ت 4).

(17/228)


شك أن المال مُحْرزٌ، فإن اللحظ كاللحظ، والدار إن لم تزد حرزاً لا تنقص عن الصحراء. نعم، إن قال السارق: كان صاحب المتاع [لاَ يحُدّ] (1) في اللحظ حدَّ صاحب الصحراء، فقد يضطرب الرأي في المصدَّق.
ولعلنا نذكر طرفاً من هذا في الفروع، فإذاً ما حكيناه من النوم والخلاف فيه محمله التعويل على طروق الطارقين، وما ذكرناه من التردد في يقظة صاحب الدار محمول على اعتبار ترك الحدّ في اللحظ.
ولو فتح الفاتحُ البابَ للدار، وأذن للناس في الدخول لتجارة، أو غيرها من الأغراض، حتى صارت الدار محلاً لازدحام الداخلين، فاللحظ في مثل هذه الحالة بمثابة اللحظ في الشوارع والمساجد، وقد مضى تقسيمها وتفصيلها، ولا نظر إلى كون [الدار مملوكة لصاحب المتاع، ولا إلى كون] (2) المسجد والشارعِ مشتركين، وما ذكرناه ليس متلقى من إذنه، إذ لو دخل داره جمعٌ بغير إذنه، فالكلام في حفظ المتاع على ما ذكرناه.
هذا منتهى تأصيل الأحراز وتمهيدها، وفي هذا القدر مَقْنع، ولكنا نذكر مسائلَ (السواد) (3) ونُخرِّجها على ما مهدناه ونرسُم الفصولَ على المعتاد في أمثالها.
فصل
قال: " وإن كان يقود قطار إبل ... إلى آخره " (4).
11092 - من كان يقود قطاراً من الإبل -وقيل أكثرها [سبعة] (5) - قال الأئمة القطار
__________
(1) في الأصل: " لا يعد ". ويحُد من الحد والقوة. والمعنى لا ينتبه انتباه صاحب الصحراء.
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4).
(3) في النسختين: " الشواذ ". والسواد هو مختصر المزني، كما نبهنا كثيراً.
(4) ر. المختصر: 5/ 169.
(5) في البسيط والشرح الكبير " تسعة "، وهي كذلك في الوسيط، ووجدنا ابن الصلاح في مشكل الوسيط يقول: " في بعض النسخ بالتاء المثناة في أوله، والصحيح: سبعة بالباء الموحدة، وعليه العرف " (ر. مشكل الوسيط، بهامش الوسيط المطبوع: 6/ 469). والمراد بالعرف عرفُ الجمّالين في قَطْر الجمال. فانظر عناية أئمتنا بالتدقيق والتحقيق.

(17/229)


محرز بالقائد، إذا كان الإبل تمشي على استدادٍ (1)، ولو كان يدور في منحرف الطريق، فالذي يغيب عن عين القائد لو التفت ليس محرزاً. وقال أبو حنيفة (2): إن قادها، فالمُحْرز هو البعير الأول، وإن ساقها، فالجميع محرز به. وإن ركب واحداً، فمركوبه وما أمامه وواحد من ورائه محرزٌ به، وهذا المذهب منتظم.
والذي أطلق أصحابنا فيه إشكال، وأنا أعلم قطعاً أنه مُنزَّل على ما سأذكره، فإن [كان] (3) القائد لا يلتفت إلى القطار، [وكان يُمشي] (4) الإبلَ في مكانٍ خالٍ، فلا يتحقق الصَّوْنُ إلا في البعير المقود، وإنما قال أصحابنا ما قالوه فيه إذا كان يقود القطارَ في سوق آهلٍ، فالإبل مصونة بأعين اللاحظين، ولو فرض ازورار في السوق نفسه، فالإبل مصونة باللحظ أيضاً. وإن فرض استتار بعض القطار بسكةٍ لا لاحِظَ فيها، فذاك ضائع حينئذ، ولا يجوز أن يعتقد الأمر إلا كذلك، وليس ما جئنا به مخالفاً لما ذكره الأصحاب، ولكنه بيان له، وبالجملة الإبل مصونة باللحظ، وقد مهدنا فيه ما فيه مَقْنع.
...
[ثم قال] (5): " إن أناخها حيث ينظر إليها ... إلى آخره " (6).
11093 - ذكرنا النظر في الصحراء، ولا معنى لتكثير الصور.
والأغنام الملحوظة من الراعي إذا كان نظره متصلاً مصونةٌ، وإن انسرح طرفه، ثم أعرض في زمن لا يتصور أن يلحق مثله لاحق، فالأغنام مصونة باللحظ الأول.
__________
(1) استداد: أي استقامة.
(2) ر. فتح القدير: 5/ 151.
(3) زيادة من (ت 4).
(4) في الأصل: " كالذي يجري ".
(5) زيادة من (ت 4).
(6) ر. المختصر: 5/ 169.

(17/230)


ثم قال: " ولو ضرب فسطاطاً ... إلى آخره " (1).
11094 - الأخبيةُ والخيام ليست أحرازاً في نفسها، والتعويل فيها وفيما تحويه على اللحظ والمراقبة، وقد سبق التحقيق فيما عماده اللحظ، وقد يطرأ في ذلك تنضيد الأمتعة والاستيثاق فيها بضوابط الحبال، وليس ذلك لاعتقاد كون الربط حرزاً، ولكن قد يؤثر الربط في ترك نهاية الحدّ (2) في اللحظ، وما عندي أن من أحاط بما ذكرناه يخفى عليه خافية في الأحراز، والخيمةُ في نفسها لو سُرقت، فهو متاع ملحوظ، وقد تقدم التفصيل فيه.
وإذا كانت الإبل والبهائم مصونة باللحظ، فأحمالها مصونة باللحظ، وقد انتجز القول في الأحراز تأصيلاً وتفصيلاً.
...
11095 - ونحن نفتتح الآن القولَ في معنى السرقة وكيفيةِ الإخراج من الحرز، [ويتصل به] (3) هتكُ الأحراز، انفراداً واشتراكاً، فنحن نذكر هتكَ الحرز، وما يتصل به، ثم نذكر الإخراج من الحرز، فنقول:
من انفرد بنقب الحرز، ثم دخل وأخرج نصاباً، فهو سارق مستوجبٌ للحد، وفي ذلك ما يجب التنبه له، فإنه لما نقب، وقد خرج الموضع عن كونه حرزاً، والكلام فيما عماده التحصين، فجرى إخراجه عما ليس حرزاً، وكان لا يمتنع من طريق المعنى ألا يستوجبَ القطعَ؛ لأنه أبطل الحرز، ثم أخذ مالاً ضائعاً، ولكن أجمع العلماء على وجوب الحدّ إذا اتصل الإخراج بالنَّقب؛ فإن أفعاله المتواصلة في حكم الفعل الواحد، وأثبتنا هذه المسائل على العادة، ومن وصفناه يعدّ سارقاً من حرزٍ، ولا ينسب صاحب الحرز والمتاع إلى تضييعٍ.
ولو نقب الحرزَ ومرّ، وعاد بعد ليلة أو ليالٍ، ودخل من فتح النقب وأخرج،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 169.
(2) " الحد ": الحدة والقوة.
(3) في الأصل: " وما يتصل به ".

(17/231)


فإخراجه الآن منقطع عن هتكه الحرز، فإن شعر صاحب الحرز بالنقب، فقد ضيع الدار وما فيها (1)، ولو لم يشعر، أو نقب السارق، ورد لَبِنَه (2) بحيث لا يظهر النقب، وعزم على أن يعود في الليلة القابلة، ويدخل من النقبَ الذي يُعده ولا شعور [ولا تقصير] (3)، فهذا محتمل جداً، فإن نظرنا إلى تواصل الأفعال، فقد انفصل الدخول والإخراج عن الهتك، وإن نظرنا إلى حكم الاعتياد، فالأمر الكلي لا يوضّح فصلاً بين أن يتصل الإخراج بالنقب، وبين أن ينفصل [على] (4) الحد الذي صورناه.
11096 - ولو حضر الحرز رجلان، فنقب أحدهما، وانفرد بالنقب، وأخرج الثاني المتاعَ، أما الناقب، فلا قطع عليه عندنا؛ لأنه ليس سارقاً، وأبو حنيفة (5) يوجب القطع عليه بعلة كونه رِدْءاً وعوناً للسارق، وأما من أخرج المتاع، فالذي قطع به المراوزة أنه لا قطع عليه، فإنه أخرج المتاع من حرز مهتوك.
وذكر العراقيون وجهين في وجوب الحد عليه: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أن الحد يلزمه، كما لو نقب بنفسه، وأخرج، وهذا يتأكد بالقاعدة الكلية؛ فإن الحدَّ شُرع زاجراً، ولو كان النقب من واحدٍ، والإخراجُ من آخرَ غيرَ موجب للقطع، لصار هذا ذريعةً هيّنة ليست في حكم النوادر، ولا في حكم الأمور العسرة، والشافعي لا يحتمل أمثالَ هذه الذرائع إذا كانت تصادم القواعد الكلية.
ولو اشترك رجلان على النقب ودخلا الحرزَ، واشتركا في الإخراج، فقد قطع الأصحاب بوجوب القطع عليهما، إذا كان المخرج نصابين، كما سنصف هذا الفنَّ من بعدُ، إن شاء الله، واشتراكهما في الإخراج بمثابة انفراد الرجل الواحد بالنقب والإخراج.
__________
(1) أي إذا أهمل إصلاح النقب وتركه، كما عبّر بذلك العز بن عبد السلام.
(2) لبنه: جمع لبنة. والمراد اللبن الذي أخرجه بالنقب.
(3) في الأصل: " ولا تقسيم "، وفي (ت 4) انمحت عدة أسطر، والمثبت من المحقق، والمعنى: لا شعور ولا تقصير من المالك.
(4) في الأصل: " عن "، ومطموسة في (ت 4).
(5) ر. رؤوس المسائل: 501 مسألة 364، المبسوط: 9/ 198.

(17/232)


ولو اشتركا في النقب، ثم انفرد أحدهما بالدخول والإخراج، فالقطع يجب على هذا المنفرد بالإخراج وجهاً واحداً لمشاركته بالنقب، فصار كأنه انفرد بالنقب والإخراج.
ورأيت في بعض التعاليق عن شيخي وجهين في أنهما إذا اشتركا في النقب وانفرد أحدهما بالدخول والإخراج هل يجب القطع عليه (1)؟
ولا شك أنه لا قطع على الذي لم يشارك في الإخراج، وإنما شارك في النقب، والوجهُ القطع بإيجاب الحد على من أخرج منهما، فإن النقب إذا وقع بهما كان كل واحد منهما كالمنفرد بجميع النقب؛ بدليل أنهما لو اشتركا في النقب والإخراج قُطِع (2)، فلا تعويل على ما حكيته عن بعض التعاليق.
11097 - وتمام البيان في هذا الفن أنا إذا ذكرنا الاشتراك في قطع اليد في باب القصاص تناهينا في التصوير، وصورنا تحاملاً منهما على حديدةٍ واحدةٍ، حتى لو قطع أحدهما من جانب وقطع الآخر من الجانب الآخر والتقت الحديدتان، فليس ذلك اشتراكاً في القطع، ولكن انفرد كل واحدٍ منهما بقطع بعض اليد.
وإنما جدَّدنا (3) ذكر هذا لنفْصله عن الاشتراك في النقب، فلا يشترط في تصوير الاشتراك في النقب أن يأخذَا آلةً واحدة، ولكن لو كان أحدهما يخرج لبنة والآخر أخرى، حتى استتما التنفيذ، فهما مشتركان، فإنا لا ننكر أن المرعي في هذا الباب التعاون على النقب، ولا تشتدّ عناية الفقيه هاهنا بتصوير (4) الاشتراك؛ فإن النقب
__________
(1) عليه: أي على المخرج. وهذا وجه مزيف، والأصح وجوب القطع. صرح بذلك الرافعي نقلاً عن الإمام (ر. الشرح الكبير: 11/ 213).
(2) قُطِع: أي المخرج، ووجه الاستدلال أنه إذا كان يقطع وقد اشترك في النقب والإخراج، فلأن يُقطع وقد اشترك في النقب وانفرد بالإخراج أولى.
(3) في الأصل: " حددنا " (بوضع علامة الأهمال تحت الجيم).
(4) من هنا انمحت أجزاء كثيرة من صفحات نسخة (ت 4) تكاد في بعض الصفحات لا تجد كلمة مقروءة، وفي بعضها يذهب المحو بهذا الجانب أو ذاك، وواضح أنه من أثر بللٍ خطير أصاب النسخة، وسنحاول أن نستفيد من مقابلة ما يمكن مقابلته، كلمة كانت أو سطراً.

(17/233)


ذريعةٌ إلى المقصود، وليس عينَ السرقة، والفقيه من يطبق صور الأصول على أقدار الأغراض فيها.
ومن اعتبار التعاون صار أبو حنيفة إلى إيجاب القطع على الردء، وفي بعض التصانيف أنا نشترط في النقب حقيقةَ الاشتراك على النسق الذي ذكرناه في الاشتراك في قطع اليد، وهذا ضعيف، ثم مقتضاه أنهما إذا تعاونا وكان هذا يخرج لبنة وذاك أخرى، فلا قطع على واحدٍ منهما، وكأنهما صادفا الحرز منقوباً.
11098 - ولو اشترك الرجلان في النقب كما ذكرناه، ثم دخل أحدهما الحرز ووضع المتاع في وسط النقب، وأخذه الآخر من حيث وضعه الداخل، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا قطع على واحدٍ منهما؛ فإن الداخل لم يتمم الإخراج، والخارج الآخذ لم يأخذ من حرز تام. والقول الثاني - أنه يجب القطع عليهما؛ لاشتراكهما في الإخراج. وقطع الصيدلاني بنفي القطع عنهما، وزعم أن كل واحدٍ منهما يسمى السارقَ اللطيف.
وإن كانت المسألة بحالها، وأخرج الداخل يده [بالمتاع] (1) في النقب إلى خارج، فأخذه الخارج الواقف، وجب على الداخل دون الخارج.
ولو قرّب الداخل المتاع من النقب، وهو في حدّ الدار أو البيت، لم يُخرج يده من النقب، فأدخل الخارج يده وأخرج المتاع، فالقطع على الخارج؛ فإنه تناول المسروق وهو في حد الحرز، فأخرجه منه.
هذا تفصيل القول في هتك الحرز على الانفراد والاشتراك، مع صدور الشركة من الناقب أو من غيره.
11099 - ونحن الآن نذكر التفصيل في السرقة، ومعنى إخراج الشيء من الحرز:
فإذا دخل السارق الحرز وأخرج المسروق. فهذه سرقة، وإن لم يدخل الحرز، وألقى في الدار محجناً فتعلق به إناء أو ثوب، فأخرجه من الحرز، وجب القطع؛ فإن الإخراج من الحرز قد تحقق، فلا أثر لدخول السارق وخروجه، ولو دخل الحرز،
__________
(1) في الأصل: " من المتاع ".

(17/234)


ورمى المتاع إلى خارج الحرز؛ فإن خرج وأخذه، فالذي صدر منه سرقة على التحقيق، وإن رمى المتاع إلى خارج، ولم يأخذه وتركه حتى ضاع، أو أخذه آخذ آخر، أو اطلع عليه صاحبه، فأخذه، فالمذهب وجوب القطع على هذا؛ فإنه بإلقائه قد أخرج المتاع من الحرز.
وقال أبو حنيفة (1): لا يجب القطع على الملقي إذا لم يأخذ ما ألقاه، أو لم يأخذه مُعينه وردؤه، وفي بعض التصانيف وجهٌ أنه لا قطع على الملقي إذا لم يأخذه، وهذا بعيد، لا أعتد به، ولو فرعنا عليه، فألقاه إلى خارج الحرز، فأخذه صاحبه ومُعينه، فالوجه أنه لا يجب القطع على الملقي إذا كنا نعتبر أخذَه، ويجوز أن يقال: إذا أخذه الواقف خارج الحرز بإذنه، فهذا كافٍ في إتمام مقصوده على هذا الوجه الضعيف الذي نفرع عليه، ولا أصل لهذا الوجه.
ولو وقف خارجَ الحرز وأرسل محجنه، فعلق بطرف منديلٍ، فأخرج ذلك الطرف، ثم تركه ولم يفصله، ولم يخرج كله؛ إذ شُعر به مثلاً، فالذي وجدته للأصحاب أن هذا ليس بإخراج، وإن كان القدر البارز لو فصل، لكان نصاباً؛ فإن هذا لا يسمى إخراجاً من الحرز. والعلم عند الله.
ولو فتح أسفل كُندوج (2)، فاندفع ما فيه، فالمذهب الأصح أن الخارج إذا بلغ نصاباً، وجب القطع على فاتح الكندوج، وذهب بعض أصحابنا إلى أن ما انفصل وخرج لا يضاف إلى إخراج الفاتح؛ فإن هذا تسبّبٌ وليس إخراجاً حقيقةً، وهذا ضعيف، لا أصل له، والوجه القطع بوجوب الحد؛ لأنه المخرِج في الإطلاق، ولولاه، لما خرج من الكندوج شيء.
11100 - ولو كان في الحرز بهيمة فوضع عليها المتاع، نظر: فإن استاقها بسَوْقه إياها، فهذا إخراج من الحرز يتعلق القطع به، ولا نظر والحالة هذه إلى أن يتصل
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 273، الهداية: 2/ 415، تحفة الففهاء: 3/ 151.
(2) الكُندوج معرب كندوك. وهو شبه مخزن من تراب أو خشب، توضع فيه الحنطة ونحوها.
(ر. معجم الألفاظ الفارسية المعربة).

(17/235)


خروج الدابة أو ينفصل، فإذا افتتح سَوْقَها وأخرجها، فهو مخرِج للدابة وما عليها، وإن وضع الحمل على الدابة، ولم يسُقها، فسارت الدابة بنفسها، وخرجت من الحرز بما عليها، فللأصحاب طرق: منهم من قطع بأن واضع الحمل عليها ليس سارقاً؛ من جهة أن البهيمة ذات اختيار، وقد انفصلت بنفسها.
وقال العراقيون: إن تراخى مسيرُها عن وضع الحمل عليها، ثم افتتحت المسير، فلا حدّ، والإخراج غير مضافٍ إلى السارق، وإن خرجت الدابة على الاتصال بوضع الحمل عليها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الإخراج مضاف إلى الرجل، كما لو ساقها، والثاني - أنه ليس مضافاً إليه، بل هو مضاف إلى اختيار البهيمة.
وذكر بعض الأصحاب مسلكاً آخر، فقال: إذا اتصل مسيرُها بوضع الحمل عليها، فالرجل منتسب إلى الإخراج، وإن [تراخت] (1) البهيمة، ثم سارت، فوجهان.
وحقيقة هذا يُحْوِج إلى تجديد العهد بمسألة فتح القفص عن الطائر مع تصوير الطيران، وحاصل ما ذُكر ثَمَّ في إيجاب الضمان ثلاثة أقوال: أحدها - أنه لا يجب الضمان أصلاً، اتصل الطيران أو انفضل، والثاني - يجب الضمان اتصل أو انفصل، والقول الثالث - أنه إن اتصل الطيران وجب الضمان، وإن تراخى، لم يجب.
فالآن نقول: في مسألة الحمل على الدابة ومسيرها، وتحقيق السرقة من الرجل طريقان للأصحاب: منهم من نزل هذا الحكمَ المطلوبَ منزلة الضمان في مسألة الطيران حتى يخرج الأقوال الثلاثة، وتقريب القول فيه أن فتح القفص يُهيج الطائر والحمل على البهيمة والأرباط يَهِيجُها للسير، فقد تساوى المأخذان.
ومن أصحابنا من قطع فيما نحن فيه بنفي السرقة، وإن تردد القول في مسألة الطائر في الضمان، والسبب فيه أن التسبب مضمِّنٌ في الغصوب والإتلافات، والسرقة تعاطي الإخراج بالنفس، وهذا المعنى لا يتحقق مع اختيار البهيمة. ولو فصل فاصل بين بهيمة مطمئنة لا نِفارَ بها، وبين بهيمة ذاتِ نِفار، لكان هذا وجهاً في الاحتمال،
__________
(1) مطموسة في الأصل، وما زلنا في السطور التي انمحت من (ت 4).

(17/236)


وهذا الفرق يمكن إجراؤه في فتح القفص وحل الرباط عن طائر أليفة أنيسة (1)، فإنها إذا كانت مطمئنّة، فاختيارها الغالب، وإذا كانت نفورة، فقد يتجه الحمل على التنفير بفتح باب القفص، وحل الرباط.
11101 - ولو دخل السارق الحرز وفيه ماءٌ جارٍ، فوضع المتاع عليه حتى خرج به من الحرز، فالذي أطلقه الأصحاب أن هذا إخراج من الحرز؛ إذ الماء لا اختيار له في جريانه والملقَى عليه يخرج معه لا محالة.
فإن قيل: إذا شرطتم تولِّي الإخراج وأنكرتم حصول السرقة بالسبب، فلم تجعلوه سارقاً، وهو متسبب، قلنا: السبب الظاهر يُلْحق بالمباشرة فيما يبنى على المباشرة، ولذلك يجب القصاص على المكرِه، كما يجب على المباشر، فإذا لم يكن للماء اختيارٌ، فالتسبب والمباشرة لفظان يؤديان إلى التعلق بما يحصّل الخروج لا محالة من غير أن يعزى إلى اختيار غير السارق.
وقد يرد على هذا أنا إذا قلنا: من فتح كندوجاً أو دِنّاً، فانثال وسال منهما ما يبلغ نصاباً، فلا قطع من جهة التسبب، [فيتجه] (2) لا محالة أن نقول على هذا القياس: لا قطع على السارق إذا وضع المتاع في الماء، فإن صح ذلك الوجه في الكندوج، تعيّن مثله في الماء.
والوجه القطع بما قطع الأصحاب به في الماء، والاستدلالُ به في تضعيف الوجه المحكي في الكندوج.
11102 - ولو دخل السارق الحرز وأكل من الطعام ما بلغ نصاباً، وخرج، فلا قطع؛ فإنه أتلف في الحرز ما أكله، ولم يخرجه.
ولو تعاطى دُرّة، فبلعها، وخرج فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه مخرج للدّرّة سارق لها، وهذا هو الصحيح، بخلاف الطعام، فإنه يفسد كما (3)
__________
(1) كذا. تأنيث صفة الطائر، وإعادة الضمير عليه مؤنثاً.
(2) في الأصل: " متجه ". والمثبت من (ت 4).
(3) كما: بمعنى عندما.

(17/237)


غاب عن الفم، والدرّة لا تفسد. والوجه الثاني - أنه لا يكون سارقاً؛ فإن ما بلعه الإنسان لا يدري إلى ما يؤول إليه، فقد أتلف الدرّة إذاً. والوجه الثالث - أنه إن خرج وخرجت الدّرةُ منه، فهو مخرجِ لها سارق، وإن لم تخرج، فلا نجعله سارقاً، فإنما نتبين أنها فسدت وانمحقت.
11103 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو دخل الحرزَ وفيها شياه، فأخذ شاةً لا تبلغ نصاباً فتبعها شاة، وهي بمجموعها تبلغ نصاباً ويزيد، فقد قال الشيخ أبو علي: إن كانت الشاة بحيث تتبع هذه الشاة إما لكونها أماً لها وهي سِخال، أو لكونها هادياً في القطيع، فيجب القطع. وإن لم يكن الأمر كذلك، ولكن اتفق خروجها مع تيك الشاة، فلا قطع.
وهذا الذي ذكره كلام مبهم والرأي عندنا تخريجها على مسألة الحمل على الدابة ومسيرها؛ فإن هذه الحيوانات مختارة على الجملة، ثم يقع في التفاصيل الغلبةُ على الظن في مسيرها ونقيض ذلك، والاتصال والانفصال، فلْيخزج هذا على ما تقدم، فلا فرق.
هذا كلام بالغٌ في الإخراج من الحرز ومعناه، ويتصل به فصل هو منه، وله تعلق بتفاصيلَ في الأحراز، ونحن نأتي بها في فصل مفرد، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " وإن أخرجه من البيت والحجرة إلى الدار ... إلى آخره " (1).
11104 - مقصود الفصل يتم بالكلام في دارٍ وبيوتها، وفي خانٍ وبيوتها وحُجرها.
فأما القول في الدار يدخلها السارق، فإذا أخرج المتاع من بيت إلى العَرْصَة، ولم [يخرجه] (2) من الدار، نظر: فإن كان البيت مفتوحاً، أو كان غلقه ضعيفاً، وكان باب الدار مفتوحاً، فالمتاع ضائع غيرُ محرز؛ ذلك أن عماد الحفظ الحصانةُ،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 170.
(2) في النسختين: " يخرجها ".

(17/238)


لا اللّحظُ، فإن كان باب البيت مفتوحاً، وبابُ الدار مغلقٌ موثقٌ فإذا أخرج المتاع من البيت إلى الصحن، نظر: فإن كان ذلك المتاع لا يحرز بالعرصات، فهو ضائع، إذا لم يكن في مخزن يليق به، وإن كان المتاع بحيث يحرز بالعرصات والأبنية الظاهرة والبيت المفتوح، فإذا أخرج المتاع إلى العرصة، لم يكن سارقاً؛ لأنه لم يخرجه من حرز، وهو بمثابة ما لو نقل المتاع من جانب العرصة إلى جانب.
وإن كان البيت مغلقاً، فالبيت حرز في نفسه، والمتاع مما يُحرز بالعَرْصَة، فإن أُغلق عليه بيتٌ، فهو زيادة إيثاق، فإذا فرض الإخراج من البيت إلى العرصة، نظر: فإن كان باب الدار مفتوحاً، فالإخراج من البيت إلى العرصة سرقة موجبةٌ للقطع؛ فإن العرصة ضائعة بسبب فتح الباب، والبيت حرزٌ للمتاع المخرَج منه، فقد أخرج متاعاً من حرزه إلى موضع ليس بحرز، وهذا معنى السرقة.
فإن كان باب الدار مغلقاً، وكان باب البيت مغلقاً أيضاً، وكل واحدٍ من البيت والدار حرزٌ تام في المتاع المخرج، فإذا فرض الإخراج من البيت المغلق إلى العرصة التي كان بابها مغلقاً، ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما - أنه يجب نظراً إلى الإخراج، والثاني - لا يجب؛ لأن الموضع الذي نَقَل المتاع إليه لم يكن مضيعة، [فهذا] (1) نقل من حرز إلى حرز، والسرقة الموجبة للحد هي الإخراج من حرز إلى مضيعة، وما ذكرناه فيه إذا كان المتاع بحيث يحرَز بعرصة الدار.
فأما إذا كان المتاع بحيث لا يحرز بالعرصة، وكان في المخزن المستقل بكونه حرزاً؛ فأخرجه إلى عرصة الدار، فإن كان باب الدار مفتوحاً، فالذي جرى سرقةٌ موجبة للحد.
وإن كان باب الدار مغلقاً، فأخرج المتاع من البيت إلى العرصة، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين اللذين ذكرناهما في المتاع الذي يحرز بالبيت والعرصة في مثل هذه الصورة: فإن قلنا ثَمّ: يجب القطع بالإخراج من العرصة، فلأن يجب في هذه الصورة أولى، وإن قلنا: لا يجب القطع بتلك الصورة، ففي هذه الصورة
__________
(1) في الأصل: " لهذا ".

(17/239)


وجهان. والفرق أن الدار مضيعة بالإضافة إلى الدراهم والدنانير، فالإخراج من المخزن إلى العرصة إخراج من حرزٍ إلى مضيعة، وليس كذلك الصورة الأولى؛ فإن المتاع فيها أُخرج من حرزٍ إلى حرز.
فإن قيل: هذا الفرق ظاهر، فما وجه الخلاف؟ قلنا: باب الدار وإن كان مغلقاً على العرصة، فهو مزيد إيثاق للمال الموضوع في المخزن، فهي [تتمة] (1) الحرز، فإذا فرض إخراج من البيت إلى العرصة، فالعرصة، وإن لم تكن حرزاً بنفسها، فهي مزيد استيثاق للحرز إذا كان الباب مغلقاً عليها.
ومن الأصحاب من يقول: لا تتم السرقة إلا بالإخراج من تمام الحرز.
وإذا جمعنا بين هذه المسألة، وهي إخراج الدراهم من المخزن إلى العرصة المُغلقة بابها، وبين إخراج ثوب من الفرش من بيت مغلق إلى العرصة، انتظم في المسألتين ثلاثة أوجه: أحدها - وجوب القطع فيهما، والثاني - انتفاء القطع فيهما.
والثالث - الفرق بين أن يكون المخرج إلى العرصة مما يحرز بالعرصة، وبين أن يكون مما لا يحرز بالعرصة.
11105 - ووراء ذلك بحث به تمام البيان وهو أن السارق لو تسلق الجدار وتدلّى إلى العرصة، وأخرج المتاع من البيت إلى العرصة، فالأمر على [ما] (2) ذكرناه، وإن فتح الباب، وكان مغلقاً، ثم أخرج المتاع والدراهم من البيت إلى العرصة بعد فتح بابها، فكيف السبيل؟ هذا فيه نظر من جهة أن الحرز الذي يهتكه السارق في حكم الحرز الدائم، ولولا ذلك، لما أوجبنا القطع على من نقب الحرز، ثم دخل فأخرج؛ فإنه بنقبه أخرج الحرز عن كونه حرزاً، هذا وجهه.
ولكن لو قدرنا بقاء العرصة على الحرز، فقد يجرّ هذا تخفيفاً عن السارق، إذا قيل: أَخرجَ من حرز إلى حرز. وإن حكمنا بانتهاك حكم الحرز في العرصة، فإذا أخرج من البيت إليها، استوجب القطع، ونحن جعلنا الحرز في حق الناقب السارق
__________
(1) في الأصل: " قيمة "، والمثبت من (ت 4).
(2) زيادة من المحقق.

(17/240)


حرز التعلق تغليظاً عليه، فقياس هذا الفقه أن نجعل العرصة مضيعة ليلتزم الداخل بالإخراج من البيت إليها القطعَ.
والمسألة محتملة؛ من جهة أن ما أقمناه للتغليظ أو لغيره لا يمتنع أن ينفع السارقَ من وجهٍ، إذ ليس مبنى الباب على التغليظ، وإنما جعلنا الناقب إذا سرق سارقاً؛ لأن صورة السرقة في الغالب كذلك تكون، والذي يتسلق بمرقاةٍ أو حبل وعُقَدٍ ومحجن يُخرج الحرزَ مع تلك الآلة عن كونه حرزاً، فكان ذلك أيضاً تقديم هتك الحرز على الإخراج، فجرى ذلك على حكم الضرورة في تصوير السرقة، فلا نلتزم هذا الأصلَ في كل صورة.
وقد انتهى الكلام في الدور وبيوتها.
11106 - ونحن نبتدىء الآن القولَ في الخانات ذوات الحجر والبيوت، فنقول: إذا أُخرج شيء من عرصة خانٍ، وكان بحيث يُحرَز بالعرصة والباب مغلق، نظر: فإن أخرجه بعضُ سكان الخان، فلا قطع؛ فإن العرصة ليست ممنوعة عن سكان الخان، وهذا متضح إذا كان فتح الباب هيناً على الخارج، بأن يكون الإيثاق بالسلاسل والمرازب (1).
فأما إذا كان الباب موثقاً عن السكان، وعليه حارس بيده مقاليد الأغلاق، فإذا كان المخرج للمتاع يحتاج أن يعاني من الكلفة ما يعانيه من يحاول دخول الخان من خارج، فهذا فيه تردد: يجوز أن يقال: يجب القطعُ للإخراج من حرزٍ لا سبيل إلى الخروج منه من غير تسبب إلى هتك الحرز، وحقيقة السرقة التسبب إلى الإخراج من الحرز، ولهذا قلنا: من أرسل محجناً له وأخرج متاعاً من كُوّة، كان سارقاً، وإن لم يدخل الحرز.
ويجوز أن يقال: لا قطع؛ لأن يد ساكن الخان تتوصّل إلى المتاع. وصورة الحرز ما يمنع الآخذ من الأخذ، ويكون متضمناً حيلولة بين من يبغي الأخذ وبين المتاع، والمتاعُ الموضوع في العرصة ليس مصوناً عمن يسكن الخان، والدليل عليه أن من
__________
(1) المرازب: جمع مرزبة، والمرزبة، عُصيّة من حديد. (المعجم).

(17/241)


استحفظ إنساناً في متاعٍ، ونهاه عن النقل عن موضعه -وكانت المسألة مفروضة في الخان- ولو نقله المستحفَظ، لكان متعدياً ضامناً. فلو فرض من المودَع التعدي (1 بنقل الوديعة والاختيار بهتك الحرز والإخراج منه 1)، فيبعد أن يجب القطع عليه؛ لأن المتاع في يده (2). كذلك المتاع الملقى في العرصة، وإن لم يجر فيها استحفاظ فتمكُّن ساكن الخان من الوصول إليه في حكم السرقة يُلحقه بالمودَع، وإن لم يكن مودَعاً. هذا كلامنا في الساكن يسرق من العرصة ويخرج.
11107 - فأما إذا احتال سارق ودخل الخان، وأخرج المتاع، وهو محرز، فلا شك في وجوب القطع عليه.
فأما إذا سرق بعضُ السكان من بعض، وكان كل واحد في بيت محرز عن أصحابه، فإذا أخرج بعضُ السكان شيئاً من بيتِ ساكنٍ، فهو سارق، وصحن الخان في حق السكان كالسكة بالإضافة إلى الدور التي أبوابها لافظة إلى السكة.
ولو دخل سارق من خارج وأخرج شيئاً من بيتٍ إلى الصحن، فقد قال الأصحاب: تفصيل القول في هذا الفصل كالقول في إخراج متاع من بيتٍ في الدار إلى عرصة الدار، وقد مضى ذلك مفصلاً؛ فإن الخان بالإضافة إلى الخارج منه كدارٍ ذات بيوت وحُجر، فإن قيل: إذا كانت الدار لافظة الباب في سكة منسدّة، وعلى رأس السكة
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4)، وعبارة (ت 4) فيها زيادة، ونصها كالآتي: " والدليل عليه أن من استحفظ إنساناً في متاع، ونهاه عن النقل من موضعه، وكانت المسألة مفروضة في الخان، ولو نقله المستحفظ، لكان متعدياً ضامناً، فلو فرض من المودع التعدي، وكانت المسألة مفروضة في الخان، ولو نقله المستحفظ لكان متعدياً ضامناً، فيبعد أن يجب القطع عليه ".
(2) إلى هنا انتهى المشبه به، وبقوله: " كذلك المتاع الملقى ... إلخ " بدأ كاف التشبيه والمشبه، والمعنى أن المتاع في عرصة الخان، ووصول أيدي الساكن إليه يجعله كالوديعة في المودع، يضمنها بالتعدّي، ولكن لا يقطع بهذا التعدي. وعبارة الغزالي في البسيط توضح ذلك، فقد قال: " ويحتمل ألا يجب القطع، وهو الأظهر؛ لأن إغلاق الباب لا يحرز عن الساكن في الخان، وإنما الإحراز عن السكان بأعين اللاحظين، وهو صحيح، وكأنه مستودَع، وإن لم يشافَه به، ومن أودع شيئاً في ملك المودَع وحِرْزهِ، فتعدّى بالإخراج، فلا ينبغي أن يجب القطع عليه " (ر. البسيط: 5/ 131 يمين).

(17/242)


درب (1)، والسكة ملك لملاك الدور، فما قولكم فيه إذا دخل سارق وأخرج شيئاً من دار إلى السكة الموثقة بالدرب إيثاق عرصة الخان ببابه؟ قلنا: ما رأيناه للأصحاب أن هذا سرقة ثابتة، وليس هذا خالياً عن احتمال؛ فإن السكة المملوكة لملاك الدور كعرصة الخان لملاك البيوت أو لسكانها.
وقد انتهى الكلام في هذا الفن، ونجز مقصود الفصل.
فصل
مشتمل على بقايا من أحكام الإخراج من الحرز
11108 - وقد تقدم القول في مقدار النصاب في صدر الكتاب، ومقصود هذا الفصل شيئان: أحدهما - إخراج نصاب واحد من الحرز بدفعات. والآخر - اشتراك جمع في إخراج نصاب، أو نُصب.
فأما الفصل الأول: إذا نقب السارق الحرز وأخرج نصف نصاب واكتفى، واطلع صاحب الحرز على انتهاكه، فإذا عاد واستتم النصاب، لم يستوجب القطع، ووجهه بيّن.
وإن عاد الشخص وقد سُدَّ الحرز وأوثق، فنقب مرة أخرى، واستكمل النصاب بالدفعتين، فلا قطع؛ فإنه أخرج نصاباً واحداَّ بَسرقتين كل واحدة متميزة عن الأخرى، والفاصل بينهما عَوْد الحرز إلى ما كان عليه أولاً.
وإن لم يُسَدّ الحرز، ولم يشعر به، فعاد وأخرج ما كمل النصاب به، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها - أنه لا قطع لتعدد الفعل والإخراج، وقصور المخرَج في كل كرّة عن مقدار النصاب. والثاني - أنه يجب القطع؛ فإن الحرز لم يُسدّ، ولم يشعر به فيفرض الانتساب إلى التقصير (2)، فالفعلان في حكم الفعل
__________
(1) درب: هذا اللفظ ليس عربي الأصل، والعرب تستعمله بمعنى الباب، فيقولون لباب السكة: دَرْب. (ر. المصباح).
(2) أي لا يفرض انتساب المالك إلى التقصير، أي لا يعد مضيِّعاً؛ لأنه لم يشعر بالنقب، وعلى هذا لم يسدّه.

(17/243)


الواحد. والثالث - وهو أعدل الوجوه أن الفعلين إذا تواصلا -من غير تخلل فصلٍ - يجب القطع، وإن انفصل أحدهما عن الثاني بزمان طويل، فلا قطع؛ وكان شيخنا يقول: لو أخرج مقداراً، وانطلق به وعاد، فهذا فصل بين الفعلين، وإن قرب الزمانُ وأسرع الكرّة، وهذا حسنٌ في إيضاح معنى الفصل بين الفعلين في هذا الوجه الثالث.
ومما يتصل بهذا المقصود ذاته أنه لو فتح كُندوجاً، فانثال الحب منه حتى بلغ نصاباً، فلا شك أنه يخرج شيئاً شيئاً، والحبات متقطعة لا تواصل فيها، وإذا قلنا: لو أخرج نصاباً بفعلين متواصلين من غير فاصل لا يجب القطع، فإذا كمل النصاب بالانثيال في فتح أسفل الكندوج، ففي المسألتين وجهان: أصحهما - وجوب القطع؛ فإن ذلك يعد خروجاً بدفعة، ولا يُعَد مقطعاً، والفعل في نفسه غير متعدد، وقد أوردنا مسألة الكُندوج فيما تقدم في غرضٍ آخر؛ إذ حكينا أن من الأصحاب من يقول: الإخراج فيما ينثال لا يتحقق، وذلك مزيف، وقد أوردنا المسألة الآن في غرض
التواصل والتقطع، والأصح التواصل أيضاً، ووجوب القطع.
ولو تعلق بطرف منديل وأخذ يجذبه شيئاً شيئاً، يجب القطع وفاقاً، إذا كان المنديل نصاباً، فليس خروجه شيئاً شيئاً من التقطع في الإخراج وجهاً واحداً. وقد أوردنا هذا في غرض آخر، وهو يعضد ما ذكرناه الآن؛ فإنا قلنا فيما سبق: إذا أخرج من المنديل ما لو فصله، لكان نصاباً، فلا قطع، لأن الذي أبرزه ليس له حكم المخرج من الحرز، ويتضح بهذا أن إخراجه في حكم فعلٍ واحد؛ إذ البعض من غير فصلٍ لا حكم له.
هذا أحد مقصودي الفصل.
11109 - والثاني في اشتراك اثنين فصاعداً في الإخراج، فنقول: إذا دخل رجلان الحرز، وحملا معاً ما قيمته نصاب، فلا قطع على واحدٍ منهما، وإن تحقق اشتراكهما في الإخراج على أقصى الإمكان في التصوير، بخلاف ما لو اشتركا في قطع يدٍ، فإنا نقطع أيديهما، كما نقتلهما لو اشتركا في القتل.

(17/244)


وقال مالك (1) يجب القطع على المشتركَيْن في إخراج النصاب، والفرق المعتمد يرجع عندنا إلى انفصال قاعدة عن قاعدة، فالطرف مصون بالقصاص، والمال مصون بالقطع، ولكن لم يشرع الشارع القطع في أقل من نصاب، لأن النفوس لا تتشوف إلى مصادمة الأخطار لأخذ المقدار النزر، وهذا المعنى يتحقق في الشريكين في سرقة نصابٍ؛ إذ لا يخص واحد منهما نصاب. وهذا المسلك لا يتحقق في الطرف وقطعه، ولو أخرجا ثلث دينار، فلا قطع على واحدٍ منهما، وإن أخرجا نصف دينار، لزمهما القطع؛ إذ يخص كل واحد منهما نصابٌ.
ولو دخلا، فأخرج أحدهما ربعاً والآخر سدساً، فعلى الذي أخرج ربعاً القطع، ولا قطع على مخرج السدس.
وإن اشتركا في الإخراج على الحقيقة، فلا قطع عليهما، والمرتجى في حقيقة الاشتراك التحقيق المعتبر في قطع اليد، وليس هذا كالنقب؛ فإن النقب ليس بسرقة، وإنما هو توصل إليها، والسرقة الحقيقية الإخراج.
فصل
قال: " وإن سرق سارق ثوباً، فشقه ... إلى آخره " ثم قال: " ولو كانت قيمة ما سرق ربع دينار فنقصت القيمة ... إلى آخره " (2).
11110 - أما الفصل الأول، فمن فصول الغصب، فمن دخل الحرز، وأخذ ثوباً وشقه في الحرز طولاً أو عرضاً، فلا أثر لما فعل في تثبيت حق الملك له، وإذا أخرجه، وكانت قيمته معتبرة عند الإخراج نصاباً، فيجب القطع. والاعتبارُ في القيمة بحالة الإخراج، وأبو حنيفة (3) قد يجعل الشق طولاً مثبتاً حق الملك للشاق، ويرتب
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 647 مسألة 1904، عيون المجالس: 5/ 2123 مسألة 1534.
(2) ر. المختصر: 5/ 170.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 274، المبسوط: 9/ 163.

(17/245)


عليه سقوط القطع، فإنه ملك الثوب في الحرز، وأخرج ملكه.
وكذلك لو ذبح شاة، فأخرج لحمها، أو تعاطى لحماً، فشواه وأخرجه مشوياً، فإن كانت قيمة المخرَج نصاباً وقت الإخراج، وجب القطع، ولا أثر لهذه التغايير عندنا [كثيرة أو قليلة] (1) مع العلم بأن الاعتبار في القيمة بحالة الإخراج وإنما اختبط أبو حنيفة فيها، فجعل بعضها مملِّكاً.
11111 - وأما الفصل الثاني [فمعموده] (2) ومقصوده أن السرقة إذا تمت موجِبةٌ للقطع، فلو فرض طريان تغير بعد تمام السرقة، فلا أثر له، ولا يسقط القطع بما يطرأ بعد الوجوب، فلو تلف المسروق، أو نقصت قيمته: إما بالسوق، أو بطريان آفة، فلا يسقط القطع بشيء من ذلك.
ولو وهب المالك المسروقَ من السارق بعد تمام السرقة، فلا أثر لشيء من هذا، خلافاً لأبي حنيفة (3) في مسائل أُخَر بيّنَّاها في الخلاف.
ومهما (4) وجب حد، فلا أثر لما يطرأ بعد وجوبه في إسقاط الحد، وقد ذكرنا في كتاب اللعان أن من قذف شخصاً، فلم يحد حتى زنى المقذوف، فالنص أن القاذف لا يحد، بخلاف ما لو ارتد المقذوف، وقد قدمنا تفصيل المذهب في ذلك ثَمَّ، فلا حاجة إلى إعادته هاهنا.
إذا أقر المالك بأن المسروق كان للسارق، وهو في الحرز، فلا شك أن القطع يسقط، والمعنيّ بسقوطه [تبيُّنُ] (5) عدمِ ثبوته في الأصل في ظاهر الحكم.
فأما إذا ادعى السارق أن المسروق كان لي، ولم يكن معه بيّنة، فظاهر كلام
__________
(1) في الأصل: " قصيرة غير طويلة " والمثبت من تصرف المحقق، حيث تقع هذه العبارات في الأجزاء التي أصابها المحو من صفحات (ت 4).
(2) فى الأصل: " فمعقوده ".
(3) ر. مختصر الطحاوي: 271، المبسوط: 9/ 186، طريقة الخلاف: 229 مسألة 92، تحفة الفقهاء: 3/ 155.
(4) مهما: بمعنى إذا.
(5) في الأصل: " بين ". والمثبت من المحقق.

(17/246)


الشافعي أنه يسقط عنه الحد، ونفسُ دعواه تنتصب شبهة في إسقاط الحد عنه. ومن أصحابنا من خرج قولاً أن الحد لا يسقط.
ووجه النص أن الدعوى مسموعة، فإذا لم تكن بينة، فالقول قول المالك مع يمينه، فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على السارق، فإن حلف قُضي له بالملك، ولا خلاف في انتفاء القطع، إذا أفضت الخصومة إلى ما ذكرناه. وإن حلف المدعى عليه، فلو أوجبنا القطع، لكان وجوبه متعلقاً بيمين، ويستحيل إيجاب قطع السرقة باليمين.
وعبر الأصحاب عن هذا المعنى، فقالوا: السارق يصير خصماً في المسروق، ويستحيل أن يقطع في الشيء من هو خصم فيه.
ووجه القول الآخر - أن الدعوى العريّة لا أثر لها، ولا وقع لها، ولو فتحنا هذا الباب، لاتخذ السراق دعوى الملك ذريعة إلى إسقاط حق الله تعالى، واللائق بقاعدة الشافعي [إسقاط] (1) الذرائع الهادمة للقواعد إذا كان الوصول إليها متيسراً لا عسر فيه.
ثم ذكر الشيخ في شرح التلخيص صوراً في استكمال هذه الأصول، ونحن نأتي عليها، فلو ادعى السارق أن الدار التي سرقتُ منها ملكي، غصبها المسروق منه، فدعواه الملك في الحرز -على الوجه الذي ذكرناه- كدعواه الملك في المسروق.
وكذلك لو قال: هذا الذي سرقتُ منه مملوكي، فهذا يخرج أيضاً على الخلاف المقدم.
والجملة في ذلك أنه إذا ادعى الملك في شيء لو تحقق ما قاله، لسقط عنه الحد، فمجرد الدعوى فيه تُسقِط القطعَ على النص، وفيه القول المخرّج.
11112 - ومما يليق بذلك أنه لو اشترك اثنان في سرقة نصابين، ثم ادعى أحدهما أن المال بمجموعه ملكي، فيسقط القطع عنه تفريعاً على النص، أما شريكه، فإن
__________
(1) في الأصل: " إثبات ".

(17/247)


صدقه فيما ادعاه، فيسقط القطع عنه أيضاً، وإن كذبه، وقال: كذب في دعواه، وقد سرقنا هذا المتاع من ملك المدعى عليه، فالمذهب أنه يجب القطع على الشريك المكذب، ووجهه ظاهر؛ فإنه لم يدع شبهة، ودعوى غيره لا تنتصب شبهة في حقه.
وذكر القفال وجهاً آخر أنه لا يجب القطع عليه؛ تفريعاً على النص؛ فإنه قد صدر في الملك دعوى لو صدقها، لسقط عنه القطع، فكذلك إذا كذب، كما لو قال المسروق منه: هذا ملك السارق، فكذبه السارق، وقال: إنما أنا سارق، فالقطع يسقط مع تكذيب المسروق منه، وبمثله لو سرقا كما ذكرنا، فقال أحدهما: هذا المال لشريكي وكذبه صاحبه، فالقطع يسقط عن المدعي على النص، وهل يسقط عن المكذب الذي أنكر الملك؟ فعلى وجهين كما ذكرناه، ولا فرق بين المسألتين.
وكل ذلك تفريع على النص.
ولو سرق العبد شيئاً من حرز مثله، ثم ادعى العبد أن الذي سرقته كان لسيدي، فإن صدقه السيد، اندفع الحد على النص، وإن كذبه السيد، فهل يندفع عنه الحد؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يندفع؛ فإنه ليس يدّعي الملك لنفسه، وإنما يدعيه لسيده، وقد كذبه سيده، فخرجت المسألة على وجهين. هذا بيان هذه المسائل.
فصل
" وإن أعار رجلاً بيتاً ... إلى آخره " (1).
11113 - من أكرى داراً من إنسان، فأحرز المستأجر بها ملكه، فلو سرق ملكه الآجر، وجب القطع عليه، وثبوت الملك في رقبة الدار لا يكون شبهة في درء الحد عن المكري؛ لأن المستأجر ملك منفعتَها بعقد الإجارة وإنما الإحراز بمنفعة الدار، وحق سكونها والإيواء إليها.
ولو استعار رجل حرزاً وأحرز به ماله، فسرق المعير مال المستعير، ففي المسألة
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 170.

(17/248)


أوجه: أحدها - يلزمه القطع، كالمكري مع المكتري، والثاني - لا يلزمه القطع؛ فإن المستأجر مَلكَ منفعة الدار، والمستعير لم يملكها، بل استباحها، وللمعير حق الرجوع في العارية متى شاء. والوجه الثالث - أنه إن قصد به الرجوع في العارية، فدخل الدار على هذا القصد، ثم أخرج ما وجد، لم يُقطع، وإن لم يقصد بدخول الدار الرجوعَ في العارية، قُطع، واستشهد القفال في اعتبار القصد وعدمه، بأن قال: لو دخل مسلمٌ دار الحرب فوطىء حربية، فإن قصد به قهرها وتملكَها عند إمكان ذلك، لم يكن ما صدر منه زنا، ولو علقت منه، صارت أم ولد بعد جريان الملك على رقبتها، وثبت النسب. وإن لم يقصد تملكها وقَهْرَها، كان الصادر منه زناً، ولو تعلقها لم تصر أم ولد.
ومال أئمة المذهب إلى الوجه الأول؛ فإن المعير وإن كان يملك الرجوع في العارية فإذا أراد ذلك، تعين عليه إمهال المستعير ريثما ينقل امتعته، فيظهر هاهنا أن العارية تُثبت تأكد الحق للمستعير، فلا يهجم على نقضه.
11114 - ومما يتصل بذلك أن من غصب حرزاً، وأحرز به ماله، فلا شك أن المغصوب منه لو دخله، وأخرج منه شيئاً، فلا قطع عليه، لأنه يستحق دخول الحرز عاجلاً، غيرَ آجل.
ولو دخل الحرز المغصوبَ غيرُ المغصوب منه، وسرق منه، فقد قال القفال: لا قطع على السارق، لأن ملك الغير لا يصير حرزاً له، وهو جانٍ متعد. وهذا قاله تخريجاً.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على خلاف ذلك، ففي المسألة وجهان: أحدهما - ما ذكرناه، والثاني - أن القطع يجب. ويمكن أن يقرّب هذا من التردد في أن الواحد من المسلمين إذا رأى عيناً مغصوبة في يد غاصب، فهل له إزالة يده عنها حسبةً؟ وفيه خلاف تقدم.
ونظير ما نحن فيه أن من غصب من إنسان مالاً وأحرزه بحرزه المملوك، فدخل المغصوبُ منه الحرزَ، وأخذ المال المغصوبَ منه، وأخذ من مال الغاصب ما بلغ نصاباً، وأخرجه من الحرز، ففي وجوب القطع عليه وجهان: أحدهما - لا يجب؛ لأنه أبيح له التهجم عليه والدخول في حرزه لانتزاع المغصوب من يده؛ فلا حُرمةَ

(17/249)


لحرزه في حقه. والثاني - يلزمه الحد لإخراجه مالَ الغاصب من حرزه، فلا شبهة له في المخرَج.
ولو غصب رجل مالاً، ودخل غيرُ المغصوب منه، وأخذ ذلك المال المغصوبَ، ففي وجوب القطع على هذا الآخذ خلاف يلتفت على ما ذكرناه من أن من رأى عيناً مغصوبة في يد إنسان، فهل له أن يأخذها منه قهراً ليردها على المغصوب منه؟ فعلى خلافٍ مشهور.
ولو دخل ربُّ الوديعة دارَ المودَع، وأخذ وديعته وأخذ معها مال المودَع، فيجب القطع؛ فإنه ليس له الهجوم على حرز المودَع، بل يسترد منه الوديعة بطريق استردادها. وما ذكرناه من الخلاف فيه إذا [أدخل] (1) المغصوب منه متاعاً دار الغاصب، وأخذ متاع نفسه ومتاعاً للغاصب معه، لا يختص بما إذا أخذ متاع نفسه، ولكن لو أخذ متاع المغصوب منه، وترك متاع نفسه، فالوجهان جاريان، والخلاف مستمر، كما تقدم.
ولو استعار الرجل عبداً ليرعى له غنماً، ثم إن سيد العبد تغفَّل العبد وسرق من الغنم ما يبلغ نصاباً، ففي ذلك طريقان: أحدهما - ينزل ذلك منزلة ما لو دخل الدار المستعارة، وأخذ مال المستعير؛ فإن الدار المستعارة حرز مال المستعير، ومراقبة العبد المستعار حرز مال المستعير، فلا فرق.
ومن أئمتنا من قطع بوجوب الحد على السيد؛ فإن التعويل في إحراز الغنم على لحظ الراعي، وهذا لا يضاف الملك إليه (2)، ومعتمد الحرز في الدار [الدارُ] (3).
وللمالك حق طروقها، فبان الفرق. ويجوز لصاحب الطريقة الأولى أن يقول: العبد لا يُحرز عن مولاه بصدق اللحاظ ما يحرزه عن الأجانب.
__________
(1) في الأصل: " إذا أوصل ".
(2) لا يضاف الملك إليه: أي لا يملك السيد لَحْظَ العبد.
(3) زيادة من المحقق.

(17/250)


فصل
قال: " وإذا سرق عبداً صغيراً لا عقل له ... إلن آخره " (1).
11115 - تصوير سرقة العبد الصغير بأن يُلقى نائماً في الحرز، فيحمل أو يخرج أو يلقى مسقطاً، فيربط ويحمل، والمجنون والأعمى الذي لا يعقل بهذه المثابة، فلو دعا هذا الذي لا يعقل، ولا يميز فاتبعه، وخرج من الحرز، فهو كبهيمة يدعوها فتتبع الدعاء، وتخرج، وقد ذكرنا في هذا تردداً للأصحاب.
ولو كان العبد يعقل عقل مثله، فتصوّر سرقته بأن يحمل مضبوطاً (2)، فأما إذا خدعه، فخرج مختاراً مخدوعاً، فهذا ليس بسرقة بلا خلاف، وإنما هو خيانة.
ولو حمل العبدَ المميِّز بالسيف على أن يخرج من الحرز، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا سرقة، كما لو استاق دابةً، فامتنعت عليه فضربها. والثاني - أنه لا يكون سارقاً لمكان اختيار المكرَه المميز، والدابة وإن كانت مختارة، فيسقط أثر اختيارها بالكلية إذا سيقت بالسوط والعصا.
ثم العبد الصغير حرزه دار المولى، أو حريم داره، إذا كان مطروقاً (3) بحيث يعد العبد مصوناً، وإن فارق الدار والحريم، فهو ضائع.
ولو أخرج من الحرز صبياً حراً نائماً أو [مضبوطاً] (4) مكرهاً، فالكلام في الثياب التي عليه، وللأصحاب فيها وجهان: أحدهما - أنها مسروقة يتعلق بسرقتها القطع.
والثاني - أنها ليست مسروقة، وهي في يد الحر وإن كان صغيراً ضعيفاً، فهذان
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 170.
(2) مضبوطاً: أي موثقاً مكرهاً. وضبطه من باب ضرب، أي حفظه حفظاً مبالغاً فيه (المصباح).
(3) إذا كان مطروقاً: المعنى أن حريم الدار -وهو ما حولها- يكون حرزاً إذا كان ملحوظاً من الطارقين، أما إذا كان غير مطروق، فما فيه ضائع غير محرز، فليس محفوظاً بأبواب ومغاليق، ولا بلحظ الطارقين.
(4) في الأصل: " مربوطاً ".

(17/251)


الوجهان يجريان في أن ثيابه في غير صورة السرقة هل تدخل تحت يد غاصب الحر وحامله؟
11116 - ولو كان المخرَج مستقلاً بنفسه، وعليه ثيابه، فهذا يستدعي تقديم
مسألة هي مقصودة في نفسها، ويتعلق بيان هذا الفصل بها، وهي أن من كان راقداً على بعير وتحته أمتعته، والبعير مملوك له، فإذا أخذ سارق زمام البعير، ونحاه عن سَنَن الطريق، حتى أفضى به إلى الموضع الذي يريده، فهل نجعله سارقاً للمتاع والبعير؟
حاصل ما ذكره الأصحاب أربعة أوجه: أحدها - أنه سارق، لأنه احتوى على البعير وما عليه. والثاني - أنه لا يكون سارقاً؛ فإن يد مالك البعير والمتاع قائمة عليه، وإنما تتحقق السرقة عند إزالة يد المالك عن ملكه. وعبر بعض الأصحاب عن هذا، فقالوا: " السرقة إخراج المال من الحرز " والحرزُ مصون في هذه المسألة بالمحرِز، فلا تفريق، ولا إخراج.
ومن (1) أصحابنا من فصل بين أن يكون الراكب ضعيفاً والآخذ أقوى منه، وبين أن يكون الراكب قوياً، فإذا تيقظ لم يقاومه من قاد بعيره، فقال: إن كان ضعيفاً، فالقائد سارق، وإن كان قوياً، فليس بسارق؛ فإن التعويل في الإحراز حيث يكون المتاع ملحوظاً بالمنعة من اللاحظ، فإن من يكون في يده متاع في الصحراء، ولا مستغاث بالقرب منه، فالمتاع -وإن كان ملحوظاً بلحظٍ- ضائعٌ غيرُ محرز.
ومن (2) أصحابنا من قال: إن كان الراكب عبداً، فالبعير والعبد جميعاً مسروقان.
هذا ما رأيناه للأصحاب، فنقلناه على وجهه، ودون المنقول بحثٌ عن أمورٍ: منها - أن ما ذكرناه من التردد في تحقيق السرقة يجب أن يكون مترتباً على التردد في أن يد القائد هل تثبت على البعير وما عليه؟ ويجب إجراء الخلاف في هذا على نسق واحد.
__________
(1) هذا هو الوجه الثالث من الأربعة الموعودة.
(2) هذا هو الوجه الرابع.

(17/252)


11117 - [و] (1) لا يتم الغرض إلا بمسائل نُطلقها: منها - أن من احتمل عبداً قوياً وأخرجه من الحرز في حالة نومهِ، وكان لا يقاوم العبد إذا تيقظ، فهل نقضي بثبوت اليد على العبد أوّلاً، حتى إن فرض تلفٌ قبل التيقظ يجب الضمان؟ الوجه عندنا القطع بثبوت اليد، وإن كانت عرضةً للزوال، والقول الجامع فيه أن المنقول لا يتوقف ثبوت اليد عليه على الاستيلاء والاستمكان من قدرة المقاومة عند طلب الاسترداد، وما ليس منقولاً، فلا معنى لليد فيه إلا الاستيلاء. هذا قولنا في اليد.
وأما تحقق السرقة، ففيه نظرٌ، لأن مثل هذا العبد محرز بيد نفسه، [ومع احتمال ضعفه] (2)، فليس منتهياً من صون إلى ضياع، وينشأ من هذا كلام تمس الحاجة إلى مثله في القواعد، وهو أن من جلس نبَذةً حيث لا مُستغاث يجاب إليه، ومتاعه ملحوظ [فتغفله] (3) ضعيفٌ وأخذه منزلاً، ولو شعر به صاحب المتاع، لطرده، فهل نقول: هذا من حيث عُدّ ضائعاً في حق قويٍّ، فلا قطع على آخذه وإن كان ضعيفاً، لأنه يعدُّ المال في مضيعةٍ، أم القول في ذلك ينقسم ويختلف على حسب اختلاف الآخذين؟
الرأي الظاهر عندي أن المال مصون عن الضياع في حق الضعفة، معرض للضياع في حق الأقوياء، [ولا] (4) يمتنع انقسام الأمر في بابه، فإنا وضعنا أصل الحرز على الانقسام بالإضافة إلى صنوف الأموال، فلا يبعد أن يكون منقسماً بالإضافة إلى الآخذين وهذا محتمل جداً.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) عبارة الأصل مضطربة، فقد رسمت هكذا: " محرزٌ بيد نفسه، فإذا احتملنا ضعيف باختيار فليس منتهياً ... " كذا تماماً (انظر صورتها).
والمثبت من معنى كلام الرافعي، فقد نقل المسألة كاملةً عن الإمام، وبألفاظه نفسها تقريباً. وهي كذلك عند الغزالي في الوسيط والبسيط. ولكنه في الوجيز أطلق القول بنفي القطع. (ر. الشرح الكبير: 11/ 219، والوسيط: 6/ 476، والبسيط: 5/ورقة 83 يمين، والوجيز: 2/ 176).
(3) في الأصل: " فتعلقه " والمثبت من حكاية الرافعي عن الإمام في الشرح الكبير (السابق نفسه).
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(17/253)


11118 - ومما يجب التنبه له أن ثياب الحر الذي هو لابسها تحت يده، فلو حمل حراً، [وحبسه] (1)، فتلفت عليه ثيابه، فلا ضمان، وأبعد نقلة المذهب، فحكَوْا وجهاً أن يد الغاصب تثبت على الثياب، وهذا بعيد في الحر المستقل.
وقد صرح أصحاب المذهب بنقل الوجهين في الثياب التي على الحر الصغير.
وشببوا بإلحاق الحر الضعيف البالغ بالحر الصغير، فانتظم في الحر الصغير وجهان؛ من حيث إنه لا يستحفظ ولا تصلح يده للحفظ، فلما كان كذلك تثبت يد آخذه عليه على وجهٍ. ومن أشار إلى أن اليد لا تثبت على ثياب الحر الصغير، نظر إلى الجنس، واستدل بثبوت [يد اللقيط] (2) على ملكه؛ فإن كون الثياب على الصغير يدل على ملكه فيها على ما تقرر ذلك في مسائل اللقيط وما عليه من شعار أو دثار، والحر الضعيف المستقل ممن يجوز أن يؤتمن ويستحفظ، فكان أولى بألا نثبت يد آخذه على ثيابه، والحرّ المستقل القوي بعيد كل البعد ثيابُه عن يد آخذه.
ويترتب على هذا المجموع أنا [إن] (3) لم نُثبت اليدَ في صورة، لم نثبت السرقة، وإن أثبتنا اليدَ ومن عليه الثياب قويٌ مستقل بالمقاومة، ففي ثبوت السرقة وجهان، والثياب التي على الإنسان أبعد عن يد آخذه من الحمل الذي تحته والبعير؛ فإن ثياب الإنسان في حكم [جِرمه] (4)، فهذا حكم ما أردناه في ذلك.
11119 - وإذا كان راكب البعير المقود عبداً، فهذا يلتفت على ما مهدناه من أن العبد القوي إذا أخرج، فهل تثبت اليدُ عليه، وإن ثبتت، فهل تتحقق السرقة فيه؟
__________
(1) في الأصل: " وحبس ".
(2) في الأصل: " يده الدالّة ". وتقع المسألة كلها فيما أصابه المحو من (ت 4)، والمثبت من المحقق على ضوء عبارة الغزالي.
هذا وعبارة الغزالي: " ... أحدهما - لا تثبت يد الحامل، بل الثياب في يد الصغير؛ فإن ليده تأثيراً في الشرع، ولذلك نخصص بالشعار والدثار اللقيط الذي وجد ملفوفاً فيه، ولا نسلّمه إلى الملتقط " (ر. البسيط: 5/ورقة: 83 شمال).
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: " جرمنه ".

(17/254)


وليس يخفى بعد هذا التمهيدِ والتنبيهِ تفريغ، ولسنا نكثِّر بعد الوضوح.
ثم قال الشافعي: " ويقطع العبد آبقاً وغيرَ آبق ... إلى آخره " (1).
11120 - إذا سرق العبد في إباقه، وجب القطع بالسرقة، خلافاً لمالك (2) وإياه قصد الشافعي بالرد، ومسلك المعنى واضح، وقد روي " أن ابن عمر أبق له عبد، فسرق، فرفعه إلى [سعيد بن العاص] (3) أمير المدينة، فقال: إنه آبق، ولا قطع على آبق، فقال: " في أي كتاب الله وجدتَ، وفطع يده " (4).
فصل
قال: " ويقطع النبّاش إذا أخرج الكفن ... إلى آخره " (5).
11121 - إذا نَبَش قبراً في بيت وثيق يعدّ حرزاً، وأخرج الكفن من القبر، ثم من البيت، وجب القطع عليه؛ إذا بلغ المأخوذ نصاباً. وإن نبش قبراً في مقبرة محفوفة بالعمارة يخلُف الطارقين عنها في زمان يتأتّى في مثلهِ النبش، أو كان عليها حراس مرتبون، فهي بمثابة البيت.
وإن كانت المقبرة على طرف العمارة، فإن كان لها حارس، فهي محرزة، وإلا فوجهان: أحدهما - أنها ليست محرزة. والثاني - أنها محرزة لأن الطروق ليس نادراً
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 171.
(2) ر. الإشراف: 2/ 949 مسألة 1909، عيون المجالس: 5/ 2137 مسألة 1551.
(3) في الأصل: " سعيد بن جبير "، والتصويب من كتب الحديث والآثار.
وسعيد بن العاص هو سعيد بن العاص بن سعيد بن أمية، صحابي، توفي الرسول صلى الله عليه وسلم ولسعيد تسع سنين، وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان. ولي الكوفة في عهد عثمان، والمدينة في عهد معاوية. توفي سنة 59، وقيل سنة سبع أو ثمان وخمسين، رضي الله عنه (ر. تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 218، الإصابة: 2/ 47).
(4) أثر عبد الله بن عمر رواه الشافعي (ترتيب المسند 2/ 83 رقم 269، وعبد الرزاق في مصنفه (18979). وانظر التلخيص 4/ 114، ح 2061).
(5) ر. المختصر: 5/ 171.

(17/255)


فيها، ومن يتعاطى النبش ظاهرٌ غير مستتر، وينضم إلى ذلك مهابة المدافن في النفوس.
وإن كان القبر منبوذاً في مضيعة، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن الكفن ضائع غيرُ محرز، وسمعت شيخي يحكي وجهاً أنه محرز، وكنت أستبعده حتى رأيته مختاراً للقاضي، واستمسك فيه بما لا يليق بقدره، فإنه قال: لا يعد الكفن مُضَيَّعاً، وهذا الذي ذكره ليس لصون الكفن، وإنما هو لضرورة الحال، وأشار إلى استشعار المهابة من القبور ولا ثبات لمثل هذا.
فهذا منتهى الكلام فيما يحرز من القبور، وفيما لا يعد محرزاً.
11122 - فإن قيل: لو وضع في القبر شيء من جنس الكفن، فهل يكون محرزاً؟ قلنا: إن كان في بيت فبلى (1)، وإن كان معرضاً للبلى.
وإن كان في مقبرة صونُها باللحظ والطروق، فالمذهب أنه ليس محرزاً؛ رجوعاً إلى العادة؛ فإن الأكفان اجتمع فيها ضرورة الدفن، ومسيسُ الحاجة، والصونُ بالطارقين، فلا يمتنع في حكمة الشرع التغليظ على النباش تحقيقاً للصون، وهذا لا يتحقق حيث لا ضرورة.
وحكم بعض الأصحاب بكون المدفون في القبر محرزاً إذا كان من جنس الكفن، وهو بعيد لا تعويل عليه.
وإن فرض إسرافٌ في الكفن، نظر: فإن كان من جهة الزيادة على الأعداد المرعيّة في الرياط (2)، فالزائد ليس محرزاً على الرأي الظاهر، والاحتساب في الأعداد المرعية بما يلي الميت إلى الانتهاء إلى الحد المعتبر في الكمال.
وإن كان الإسراف من حيث القيمة، ونفاسة الثوب، فقد قال الأصحاب: يجب
__________
(1) فبَلَى: بمعنى: فنعم، وهو جائز، وعليه شواهد من حديث البخاري، وقد قدمنا هذا البحث من قبل.
والمعنى هنا: إن كان القبر في بيت، فالثوب محرز، وإن كان معرضاً للبلى.
(2) رياط: جمع ريطة، وهي الملاءة: قطعة من القماش، وليست لِفْقَين (المصباح والمعجم).

(17/256)


القطع بأنه كفن، وكان شيخي إذا روجع في ذلك تردد؛ إذ لا حاجة إلى تعريض الديباج ودِقّ (1) مصر للبلى، وقد ذكرنا أن الحاجة مرعيةٌ في الباب، والأصح غير هذا.
ثم إنما يجب القطع على النباش إذا فصل الكفن عن [القبر] (2) بالكلية، فإنه بجملته حرز، ولا يقع الاكتفاء بالفصل عن اللحد.
11123 - [وتكلم] (3) الأصحاب في مالك الكفن، وحاصل المنقول عنهم أوجه: أصحها- أن الكفن ملك الورثة غيرَ أن الميت أحق به لكونه متعرّضاً لحاجته، ولا يملك الوارث النزعَ والإبدال بعد المواراة؛ لما فيه من الهتك، وغض الحرمة، ودليل هذا أن الميت لو افترسه السبع فالكفن المطروح للورثة.
ومن أصحابنا من قال: الكفن ملك الميت؛ لأنه مستغرَق بحاجته وإبقاء الملك له كما في إبقاء الدين عليه، مع وقوع اليأس من طلبته. وهذا القائل يعتذر من افتراس السبع، ويقول: إذا انقطعت حاجة الميت، فلا مصرف أقرب من الورثة، ويَرِدُ عليه أن الميراث مستند إلى حالة [الموت] (4)، وتعتبر تلك الحالة في [الوراثة] (5)، ولا يعتبر ما بعدها، وقد يعترض على ذلك التعلق بأسباب العدوان كاحتفار البئر في الحياة، وفَرْضِ التردّي فيها بعد الموت، ولا يخفى هذا المحالّ.
ومن أصحابنا من قال: الكفن ملكٌ لا مالك له.
ثم قَطْع السرقة واجب على النباش على الوجوه الثلاثة.
11124 - فإن قلنا: الملك للوارث، فحق المخاصمة له، وإن قلنا: الملك
__________
(1) دقّ مصر: كذا وجدته عند الغزالي في البسيط غير مشروح، ولم أجده عند الرافعي ولا في مختصر العز بن عبد السلام، ولا في المعاجم، ولا في غريب ألفاظ الشافعي، وواضح من السياق أن المقصود به نوع من جيد الأقمشة ورقيقها، كان يجلب من مصر. والله أعلم.
(2) في الأصل: " الغير ".
(3) في الأصل: " فتكلم ".
(4) في الأصل: " الميت ".
(5) في الأصل: " الورثة ".

(17/257)


فيه لله تعالى، فقد قال القاضي: المخاصمة للإمام، ومن يقيمه الإمام. وإذا قلنا: الملك للميت، ففي من يخاصم وجهان: أحدهما - أن الوارث يخاصم. والثاني - أن الإمام يخاصم، والمخاصَمة التي أطلقناها سيأتي شرحها في باب جحد السرقة، فإنا لا نقيم القطع ما لم يُخاصِم مخاصم عن المسروق، وإذا قلنا: يخاصم الوارث والملك له، فهذا قياسٌ بيّن، وإن قلنا: يخاصم الإمام، ففيه إشكال؛ فإنا إنما نتردد في محل ملك الكفن وهو مدرج فيه، وأما إذا أخذه النباش، فيجب أن يقال: للوارث أن يبدله بمثله أو [بخيرٍ منه] (1) كما لو فرض الافتراس، فإن ذهب من يصير إلى أن الملك للميت، أو لله إلى أن تلك الأكفان يجب ردها بأعيانها، فهذا كلام عري عن التحصيل وإن صح هذا، فالتفريع في تعيين المخاصم صحيح، والوجه عندي أن للوارث أن [يبدله] (2)، فعلى هذا يجب القطع بأنه المخاصم لا غير (3).
هذا إذا كُفِّن من ماله الذي خلفه.
11125 - فإن كفن من مال بيت المال، فعلى النباش القطع إذا أخذ ذلك الكفن بخلاف ما لو سرق من مال بيت المال؛ فإن فيه تفصيلاً يأتي، إن شاء الله تعالى، والفرق أن المال في بيت المال عرضة للحقوق كافّة، وإذا صرف شيء منه إلى كفن ميت، فقد انقطع عن ذلك المقدار الحقوقُ العامة، وهذا كما لو صرف إلى فقير ثوب ليستتر به فإذا اختص به وملكه، قطع سارقه، وإن كان لا يقطع لو أخذه من بيت المال.
__________
(1) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، صورتها هكذا: (ـحر ـلـ ـه) بهذا الرسم وبدون نقط (انظر صورتها).
(2) في الأصل: " يبدل ".
(3) نقل الرافعي كلام الإمام هذا بشيء من التصرف، ونحن نورده بنصه، قال: " وزاد الإمام فقال: إن كان من يذهب إلى أن الملك في الكفن للميت أو لله تعالى يقول: يتعين ردّه بعد ما أخذه النباش إلى الميت، ولا يجوز للوارث إبداله بغيره. فالتفريع والخلاف في أن الخصم مَنْ هو صحيح، لكن هذا قول عري عن التحصيل، والوجه عندي أن للوارث إبداله، بعد ما انفصل عن الميت، وحينئذ فيجب القطع بأنه الخصم لا غير " (ر. الشرح الكبير: 11/ 207).

(17/258)


ثم الخصومة إلى الإمام.
ولو افترسه سبع، عاد ملكاً لبيت المال، وهذا فيه توقيف؛ من جهة أنا ذكرنا أن الأصح أن الكفن المأخوذ من التركة مبقَّى على ملك الوارث، فيلزم من هذا القياس أن نقول: الكفن مبقى على [ملك] (1) بيت المال، وإنما للميت فيه حق الاختصاص، فيتجه أن نقول: لا قطع على سارقه إذا كان بحيث لو سرق من بيت المال [لم يقطع] (2)، وإذا فرعنا على أن الكفن المأخوذ من التركة ملك الوارث، فلو نبش الوارث وأخذ، لا قطع عليه، ولو أخذه ابنه، فكذلك.
11126 - ولو كفن الميتَ رجل محتسب، فإذا سرق سارق ذلك الكفن، استوجب القطعَ، والخصومةُ إلى ذلك المحتسب، هكذا ذكره المحققون. وفيه بحث يُطلع على سر الفصل، وذلك أن الكفن إذا كان مأخوذاً من التركة، انتظم الوجوه الثلاثة فيها، ومن جملتها أن الملك للميت، وهذا منزل على أن ذلك القدر مستبقىً على ملكه لحاجته.
وإذا جرى التكفين من بيت المال أو كفّنه محتسب، فتقدير استدامة ملكٍ كان في الحياة غير ممكن هاهنا إذا (3) لم يكن الكفن ملكَه في حياته، وابتداء تمليك الميت عسر على غير مذهب الاستدامة، فينقدح في الملك وجهان إذا كان المكفِّن محتسباً: أحدهما - أن الملك باقٍ للمحتسب، والثاني - أنه زائل عنه، وليس مضافاً إلى الميت، بل هو ملكٌ لا مالك له، فعلى هذا يعود ما يتفرع على هذين الوجهين، وفي كلام الأصحاب ما يدل على أنه لا يخرج زوال الملك حتى يكون الكفن ملكاً لا مالك له، فإن ابتداء إزالة الملك على هذا الوجه عسر، فعلى هذا لا يبقى إلا الحكم ببقاء ملك المحتسب، وهذا الوجه وهو مصير الكفن ملكاً لا مالك، فقد يظهر خروجه إذا كان التكفين من بيت المال، فإنه معتدٌّ لهذه الجهات، وليست هي مضافة إلى مالك متحقق.
__________
(1) في الأصل: " حكم ".
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(3) إذا: بمعنى إذ.

(17/259)


فانتظم من ذلك طرق: إحداها - أن الأوجه الثلاثة تجري في المحتسب المكفِّن، وفي بيت المال، كما ذكرناه في كفن التركة. والطريقة الثانية - أنه يتخلف من الوجوه تمليك الميت. والأخرى - أنه يتخلف القول بأنه ملكٌ لا مالك له أيضاً، ولا يبقى إلا مسلكٌ واحد، وهو تبقية الملك على ما كان عليه قبل التكفين، والطريقة الأخرى - الفرق بين بيت المال وبين المحتسب، كما تقدمت الإشارة إليه.
فرع:
11127 - من جمع من البذور المبثوثة في الأرض ما يبلغ نصاباً، والمكان مصون صَوْنَ مثله، ففي وجوب القطع وجهان: أصحهما - الوجوب، ووجهه بيّن.
والثاني - لا قطع؛ لأن مقرّ كل حبةٍ في حكم الحرز لها، فمن جمع من الحبات ما يبلغ نصاباً بمثابة من يسرق مالاً من أحرازٍ ولا يسرق من حرزٍ نصاباً كاملاً.
***

(17/260)


باب قطع اليد والرجل في السرقة
قال الشافعي: " أخبرنا بعض أصحابنا ... إلى آخره " (1).
11128 - مذهب الشافعي أن اليدين والرجلين مستوفاة في كَرَّات السرقة على ما سنذكر تفصيلَ استيفائها. والأصل في ذلك ما رواه الشافعي بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من سرق فاقطعوا يدَه، ثم إن سرق، فاقطعوا رجله، ثم إن سرق، فاقطعوا يده، ثم إن سرق، فاقطعوا رجله "، فالأطراف الأربعة مستوفاة، وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال في الكرّة الخامسة: " فإن سرق، فاقتلوه " (2). وقيل: للشافعي قول قديم أنه يقتل في المرة الخامسة؛ تعويلاً على هذه الرواية، فإن معتمد الباب الخبر، ولكن هذا القول في حكم المرجوع عنه، فلا اعتداد به، وتلك الزيادة شاذة، لم يتعرض لها الشافعي.
فإذا سرق أربع مرات، واستوفينا أطرافه وعاد وسرق، بالغنا في تعزيره. وإن رأى الإمام أن يحبسه، فعلى ما سنصف الحبسَ الواقعَ تعزيراً في كتاب الأشربة، إن شاء الله.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 171.
(2) حديث " من سرق، فاقطعوا يده، ثم إن سرق ... " رواه الشافعي، والدارقطني على نحو ما ساقه الإمام، وأما الرواية التي يشير إليها الإمام بزيادة (فاقتلوه) فهي عند الدارقطني من حديث جابر، وقد ضعفها، وكذا جاءت في رواية أبي داود والنسائي بغير سياق الإمام، وقد ضعفها الحافظ، ونقل عن ابن عبد البر قوله: حديث القتل منكر لا أصل له. (ر. معرفة السنن والآثار: 6/ 409 - 410، سنن الدارقطني: 3/ 180، 181، 137 - 138، أبو داود: الحدود، باب في السارق يسرق مراراً، ح 4410، النسائي: قطع السارق، باب قطع اليدين والرجلين من السارق، ح 4978، التلخيص الحبير: 4/ 127، 128 ح 2087، 2088).

(17/261)


فإذا تمهد أصل المذهب، فمن سرق وأطرافه الأربعة سليمة، قطعنا يده اليمنى، في الكرة الأولى، فإن اعتماد التناول عليها؛ فلما كانت هي الآخذة، كانت هي المأخوذة في الحد.
فإذا سرق مرة أخرى، فاليد اليسرى أقرب إلى التناول والأخذ، ولكن لو أخذناها، واستوعبنا جنس اليد، لعظُم الضرار، ولكان هذا في حكم ضم عقوبةٍ إلى عقوبةٍ، يعني الاستيعاب بالقطع، فَمِلْنا إلى الرجل؛ فإن غَناءها في السرقة بيّن، وأثرها يلي أثر اليد، فَنَقطع في المرة الثانية رجلَه اليسرى، لأصلين: أحدهما - أنا وجدنا أثر قطع اليد والرجل دفعةً واحدة في الحرابة على هذا الوجه والأخذة الواحدة مجاهرةً معدَّلةٌ بسرقتين. والثاني - أن الأخذ إذا وقع على خلافٍ أمكن أخذُ خشبة باليد الأخرى والاتكاء عليها في المشي، وإذا وقع القطع عن وفاق، لم ينتظم هذا الغرض.
فإذا عاد فسرق مرة ثالثة، لم نجد بُدّاً من استيعاب جنس [اليد] (1)، فعدنا إلى اليد، كما بدأنا به أول مرة، فنقطع اليد اليسرى، ثم نقطع في الرابعة الرجل اليمنى، هذا هو الترتيب المستحق في قطع الأطراف.
11129 - ثم إذا سرق في المرة الأولى ويمناه سليمة، قطعناها ولو كان عليها إصبع واحدة، اكتفينا وقطعنا اليدَ من المعصم.
ولو كان يمناه كفّاً، بلا أصابع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نكتفي بقطعها، كما لو كان عليها إصبع، ويحصل بهذا القطع الإيلام التام، والتنكيل.
والثاني - لا نقطعها؛ فإنها كالعديمة؛ إذ لا مقدّر فيها (2)، وننتقل إلى الرجل، كما نفعل ذلك في الكَرّة الثانية، ولا خفاء أنا نقطع الرجلَ اليسرى.
ولو كان على اليمين إصبعٌ زائدة، قطعنا اليد، ولم نبال بتلك الزيادة، وهذا يعادل اكتفاءنا بكف عليها إصبع، واستحقاقُ اليد في السرقة لا يشبه استحقاقها في القصاص؛ فإنا نَرْعَى في القصاص التساوي في الخلقة والسلامة، فلو قطعنا يداً عليها زيادة خلقية بيد معتدلة، لقابلنا يداً وزيادة بيد.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) لا مقدّر فيها: أي ليس في قطعها أرشٌ مقدّر.

(17/262)


ولو كانت اليد اليمنى شلاء، فإن كنا نخاف نزف الدم لو قطعناها، لم نقطعها، وقدّرنا كأنه سرق ولا يمنى له، وإن لم نخف نزفَ الدم، فالذي ذكره الأصحاب أنا نكتفي باليمين الشلاء إذا كانت ذات أصابع، وفي هذا احتمال؛ من جهة أنه لا تَقَدُّرَ فيها، وليست عاملة، فإذا سقط العمل، [وتَقُدُّرُ] (1) الأرش أمكن أن يقال: لا اكتفاء بها.
والأظهر الاكتفاء؛ فإن من قطعت يده السليمة، وكانت يد القاطع شلاء، فاكتفى بها مستحق القصاص، وقعت موقع الإجزاء، فإذا لم يبعد اكتفاء مستحق القصاص بالشلاء، لم يبعد اكتفاء الشرع بقطع الشلاء في السرقة، والعلم عند الله تعالى.
ولو كان على الساعد اليمنى كفّان، فقد قال الأصحاب: نقطعهما. ونعلم أن الأصلية إحداهما، ولا مبالاة بالأخرى إن قطعناها؛ لما ذكرناه من أن اليمين لو كانت عليها إصبع زائدة، لقطعناها، ولم نحتفل بتعطيل الإصبع الزائدة.
وهذا فيه تفصيل عندنا: فإن كانت اليد الأصلية بيّنة، فأمكن قطعها، فلا سبيل إلى قطع الأخرى، وإن كان لا يتأتى قطع الأصلية إلا بقطع الزائدة [فهل نقطعهما حينئذٍ] (2) إن كان قد أشكل الأصلي منهما؟ فالذي رأيته للأصحاب أنا نقطعهما ليتحقق قطع اليد المستحقة، ولا مبالاة بإبانة الزائدة. وهذا ظاهر التوجيه، فليتأمله الناظر.
11130 - ثم مذهب العلماء أن قطع اليد من مفصل الكوع، وقطع الرجل من الكعبين، وذهب بعض أصحاب الظاهر إلى أن اليد تقطع من المنكب (3)، وهذا
__________
(1) في الأصل: " وتعذر ". ومعنى سقط تقدّر الأرش: أي أن اليد الشلاء ليس في الجناية عليها بقطعها أرش مقدّر، بل سقط بالشلل أرشها الذي هو نصف الدية.
(2) عبارة الأصل: " ... إلا بقطع اليد الزائدة حينئذ نقطعهما ". والتصرف بالتقديم والتأخير والزيادة من المحقق.
(3) لم نجد هذا الذي نسبه الإمام إلى الظاهرية عند ابن حزم وهو عمدتهم ومحصل آرائهم، بل وجدناه ينسب هذا القول إلى الخوارج (المحلى: 11/ 357). لكن هذا لا يطعن فيما قاله الإمام، حيث قال: " وذهب بعض أصحاب الظاهر " فلعل هذا كان قولاً لبعض الظاهرية، ثم هُجر منهم.

(17/263)


ْمذهب متروك، وقد ذكرنا في مواضع من الأصول والفروع، أن أصحاب الظواهر ليسوا من علماء الشريعة، وإنما هم [نقلة] (1) إن ظهرت الثقة بهم.
ثم ينبغي أن نمد اليد والرجل حتى تنخلع، ثم تربط الجارحة على خشبة حتى لا تضطرب، أو على ما تيسّر.
11131 - ثم الحسم لابد منه؛ إذ ينقطع بفصل اليد شرايين لا يَرْقَأُ دمُها إلا بالحَسْم، والحَسْمُ أن يغلى الزيت بالنار، ويغمس موضع القطع فيه، فتنسد أفواه العروق، واختلف الأصحاب في أن الحسم حق لله تعالى أو من حق المقطوع: فمنهم من قال: هو تتمة حق الله تعالى، وفيه مزيد إيلام مع رعاية مصلحة، وهذا القائل يستشهد بأن السلاطين ما زالوا يفعلون هذا في المقطوعِ أطرافُهم لا [يتركونه، فتُحسم] (2) أيديهم على الكُرْه منهم، ولم يتعرضوا لهذا في قطع الأيدي قصاصاً.
ومن أصحابنا من قال: هذا حقٌّ للمقطوع، وهو الظاهر؛ لأن الحد إنما هو القطع، ولا يخفى على المنصف أن الحسم استصلاحٌ ومعالجة. فإن قيل: إذا عرّض الإنسان نفسه للهلاك، فللسطان أن يمنعه عنه قهراً، وترك الحسم تعرّضٌ للهلاك؟ قلنا: ليس الأمر على هذا الإطلاق، فإن الضعيف قد يهلكه ألم الحسم، والسعيُ في قطع الدم ممكن بوجه [آخر] (3)، والمالك لأمر نفسه لا يتعرض السلطان لتخير معالجته.
التفريع: إن حكمنا بأن الحسم حقُّ المقطوع، فالأمر إليه فيه: إن أراده، فالمؤنة عليه.
وإن قلنا: الحسم من حق الله تعالى، فالمؤنة فيه بمثابة مؤونة الجلاد، وقد سبق الخلاف في أن مؤونة الجلاد على من؟
ثم إذا قطعت يد السارق، ففي بعض الآثار أن يده المقطوعة تعلّق في رقبته؛
__________
(1) في الأصل: " نقلته ".
(2) في الأصل: " لا يزيدونه فحسم ".
(3) زيادة من المحقق.

(17/264)


تنكيلاً به (1)، وقد اختلف أئمتنا في هذا: فمنهم من لم يصحح الخبر، ولم ير هذا، ومنهم من رآه، ولا ينتهي الأمر إلى الإيجاب في ذلك، ولكنه إلى رأي الإمام. ثم أشار هؤلاء إلى أنه تبقى في عنقه ثلاثة أيام.
11132 - ومما يتعلق بذلك أن السارق إذا استحق قطع يمينه، فلو لم يتفق قطعُ يمناه حتى سقطت بآفة سماوية، فالذي اتفقت عليه الطرق أن الحد سقط في هذه الكرّة؛ فإن اليمين كانت مستحَقَّة، وقد سقطت، فسقط الحد عقوبة بسقوط محله.
ونص الأصحاب على أن من استحقت يده قصاصاً، واستحقت يده حداً؛ فإذا قطعت يده قصاصاً، سقط الحد بفوات المحل في القصاص. وفي بعض التصانيف أن اليمين إذا سقطت بعد الاستحقاق، فإنا [نَعْدل] (2) إلى الرجل اليسرى، فنقطعها، ونجعل كأنه سرق ولا يمين له، ولو كان كذلك، لتعلق الوجوب بالرجل اليسرى.
وهذا غلطٌ لا مراء فيه، والمذهب الذي عليه التعويل ما ذكره الأصحاب.
ومما نذكره متصلاً بذلك أن من سرق أول مرة، فقال له الجلاد: أخرج يمينك فأخرج يساره، فقطعها الجلاد، نص في الأم على سقوط قطع السرقة وحكى الحارث بن سريج النقال، وقيل البقال (3): إن الجلاد إن تعمد ذلك فعليه القصاص
__________
(1) خبر تعليق اليد المقطوعة. رواه أصحاب السنن من حديث فضالة بن عبيد " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فأمر به فقطعت يده، ثم علقت في رقبته ". وقد ضعفه الحافظ، ثم نقل عن الرافعي كلامَ الإمام في النهاية وعقّب قائلاً: " هو كما قال: لا يبلغ درجة الصحيح ولا يقاربه " ا. هـ (ر. أبو داود: الحدود، باب في تعليق يد السارق في عنقه، ح 4411، النسائي: قطع السارق، باب تعليق يد السارق في عنقه، ح 4982 - 4983، الترمذي: الحدود، باب ما جاء في تعليق يد السارق، ح 1447، ابن ماجه: الحدود، باب تعليق اليد في العنق، ح 2587، التلخيص: 4/ 129 ح 2090).
(2) في الأصل: " نعد ". والمثبت من بسيط الغزالي.
(3) الحارث بن سريج النقال (بالنون والقاف)، أبو عمرو البغدادي، الخوارزمي، روى عن الشافعي، وسمّي بالنقال لأنه نقل (رسالة الشافعي) إلى عبد الرحمن بن مهدي. توفي سنة 236 هـ. هذا. ولم نجد في كتب الطبقات من أشار إلى الاختلاف في لقبه بين النقال، والبقال، مما يجعلنا نتوقف في الأمر ونظن ظناً أن الترديد بين الإمامين: النقال، والقفال، وليس بين اللقبين، وكان المعنى: وقيل عن القفال. فالرافعي ذكر هذه المسألة بعينها=

(17/265)


في اليسرى، وقطع السرقة باقٍ في اليمين، وإن قال: دهشت فحسبت أن الذي قطعته اليمين، وجبت الدية بسبب قطع اليسرى، وقطع السرقة باقٍ في اليمين: فحصل قولان: أحدهما - أن قطع السرقة لا يسقط، كما لا يسقط القصاص لو وجب في اليمين بالعدول في اليسرى. والثاني - يسقط الحد، وهو ظاهر النص في الأم.
وقد استقصيت مسألة الدهشة في القصاص [والحد] (1) في كتاب الجراح، وأتينا بها على الاستقصاء، وأوضحنا أن اختلاف القول فيه إذا جرى القطع على الدهشة، ثم فصّلنا الدهشة.
فأما إذا جرى قطع اليسار عمداً على علم، فالحد باقٍ، والقصاص واجب.
وحكى العراقيون عن أبي إسحاق المروزي أنه قال مفرِّعاً على أن القطع لو صادف اليسرى غلطاً، لسقط الحد: لو سقطت اليسرى قبل اليمين بأَكِلَةٍ (2)، لم يمتنع أن يكون سقوطها بالآفة بمثابة غلط الجلاد إليها بالقطع، وهذا سخيف لا اعتداد به، وقد زيفه العراقيون فيما نقلوه.
فصل
قال: " ولا يقطع الحربي إذا دخل إلينا بأمان ... إلى آخره " (3).
11133 - العقوبات ضربان: حق الله تعالى، وحق الآدمي، كحد القذف،
__________
=مرتين، مرة في الكلام على استيفاء القصاص ونقل الحكم بعدم الاكتفاء بقطع اليسار منسوباً إلى القفال ثم أعادها في آخر حدّ السرقة وذكر الحكم عينه وقال: إنه يروى عن الحارث بن سريج النقال (وهو في مطبوعة الشرح الكبير: ابن سريج القفال، خطأً) وقد أشار الإسنوي في ترجمته للنقال إلى هذا الاحتمال في كلام الرافعي. (ر. طبقات العبادي: 19، طبقات الشيرازي: 83، طبقات السبكي: 2/ 112، طبقات ابن كثير: 1/ 126، طبقات الإسنوي: 1/ 23، طبقات ابن قاضي شهبة: 1/ 60، طبقات ابن الملقن: 219، الشرح الكبير للرافعي: 10/ 287، 11/ 246).
(1) في الأصل: " والحيد ".
(2) الأَكِلة: بفتح ثم كسر، داءٌ في العضو يأتكل منه (القاموس).
(3) ر. المختصر: 5/ 171.

(17/266)


والقصاص، فإذا صار سببهما من الذمي والمعاهد، وجبا عليهما وفاقاً.
فأما العقوبات التي هي حدود الله تعالى، فهي أقسام: منها حد الشرب، وقد قال المحققون: لا يجب على الذمي حد الشرب، لأنه يعتقد حِل الخمر، وقد ذكرنا خلافاً بعيداً في ذلك.
وقد ذكرنا نصَّ الشافعي على أن الحنفي إذا شرب النبيذ حُدّ، وذكرنا تخريجاً في هذا، والذي نزيده أن من أصحابنا من قال: إنما أحد الحنفيّ إذا شرب وسكر؛ فإن ما يُعقب السكرَ حرام وفاقاً، فيعود الخلاف إلى نفي الحد ووجوبه، والخلاف في الحد لا يمنع الإمام من الجريان على موجَب عقده في استيفاء الحد، وهذا فيه تأمّل؛ فإنا إن لم نجر على نص الشافعي أن الحنفي يحد إذا شرب وإن لم يُسكر، فالحكم بتحريم المقدار المسكر على رأي أبي حنيفة عسر، وللاحتمال على الجملة مجال، والمعتمد النص. هذا قولنا في حد الشرب.
11134 - فأما قطع السرقة، فإنه يجب على الذمي، فإن سرق من مال المسلم، قطعه الإمام، ولا يتوقف الأمر على رضاه بحكمنا؛ فإن الذمي مزجور عن التعرض لمال المسلم بالحد، فلو توقف الحد على رضاه، لبطل هذا المعنى، وإذا سرق الذمي من الذمي، فذاك مما يتوقف إقامة الحد فيه على ترافعهما، ثم يجري القولان في أنا هل نحكم على الممتنع إذا ارتفع إلينا الخصم المطالِب في المال؟ (1).
وكذلك لو زنى الذمي بمسلمة، فالوجه عندنا القطعُ بإقامة الحد عليه؛ لما حققناه في السرقة، فأما إذا زنى بكافرة، فيقع ذلك في تفصيل حكمنا عليهم قهراً واختياراً.
ثم كما يجب على الذمي القطع بسرقة مال المسلم يجب على المسلم القطع بسرقة
__________
(1) كذا. والمعنى على أية حال: إذا ارتفع إلينا الخصم المطالب في السرقة.
وقد نقل الرافعي هذه العبارة عن الإمام قائلاً: " وأشار الإمام إلى القطع فيما إذا سرق مال مسلم، بأنه يقطع، ولا يتوقف الأمر على رضاه، وذكر أنه إذا سرق مال ذمي، فإنما يقطع إذا ترافعوا إلينا، ويجري القولان في إجبار الممتنع إذا جاءنا الخصم " (ر. الشرح الكبير: 11/ 225).

(17/267)


مال الذمي، فالعصمة [لماله] (1) والحد لله تعالى، وليس مبنياً على معنى المكافأة بخلاف القصاص.
وفي كلام أصحابنا ما يدل على أنا لا نفصل بين زنا الذمي بمسلمة أو ذمية في رد الأمر إلى القولين في قهرهم إلى أحكامنا، ويؤول الكلام إلى أن عهده هل ينتقض؟ وهذا غلط لا يعتقده خبير بسر المذهب؛ فإنا إذا لم نر إقامة الحد قهراً -وليس في حق الله تعالى خصمٌ مطالِب إلا الإمام- لجرّ ذلك فضيحةً عظيمة، والحكم بانتقاض عهده لا نراه شيئاً مع أنه يطلب الذمة فنجددها له، ولا وجه إلا ما قدمناه.
وهذا كلام في الذمي المؤبد العهد.
11135 - فأما المعاهَد إذا سرق، فقد تعارضت النصوص فيه، والحاصل مما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها - أن الحد لا يجب عليه؛ فإنه بالعهد المؤقت لم يلتزم الاستسلام لأحكام الإسلام، وحدود الله تعالى، وإنما تقام (2) على ملتزم. والقول الثاني - أنه يقطع كالذمي؛ فإنه حال السرقة في عهد، وموجَب العهد العصمة، ومن الوفاء بها التزامُ الزواجر عند ركوب موجِباتها. وذكر أصحابنا قولاً ثالثاً - أنه إن شرط عليه القطع لو سرق، لزمه، وإن لم يشرط عليه القطع لو سرق، لم يلزمه.
ولو سرق المسلم مال المعاهد، فالتفصيل فيه كالتفصيل في المعاهد إذا سرق مال المسلم؛ إذ يبعد أن يُقطع المسلم في مال المعاهد، ولا يقطع المعاهد في مال المسلم.
ولو زنى المعاهد بمسلمة، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجراه مجرى السرقة، ومنهم من رأى القطعَ بأن حدّ الزنى لا يتوجه عليه؛ لأنه محض حق الله تعالى، ولا يتعلق بطلب الآدمي وخصومته.
ولا خلاف أن ما أخذه المعاهد أو أتلفه من المال، فهو مطالب بالأحكام المالية، وإنما التردد الذي ذكرناه في العقوبة التي تجب لله تعالى.
__________
(1) في الأصل: " ماله ".
(2) في الأصل: " تقدم ".

(17/268)


فصل
11136 - العين الواحدة إذا تكررت السرقة فيها، فيتكرر القطع عندنا سواء سرقها من مالكين أو مالك واحد، وخلاف أبي حنيفة (1) مشهور في ذلك، وكل سرقة عندنا جريمة على حيالها، ثم لا يشك الفقيه أن ما ذكرناه في تخلل الحدّ بين السرقتين؛ فإنه لو سرق مراراً، ولم يتفق استيفاء الحد منه، فإنا لا نقيم عليه إلا حداً واحداً، فنقطع يمناه، وتكرر السرقات من غير تخلل قطع بمثابة سرقة نُصب بدفعة.
...
__________
(1) ر. الهداية: 2/ 413، المبسوط: 9/ 165.

(17/269)


باب (1) الإقرار بالسرقة والشهادة عليها
قال الشافعي رحمه الله: "لا يثبت على سارق حد إلا بأن يثبت على إقراره ... إلى آخره" (2).
11137 - لا شك أن وجوب القطع واستيفاءه يترتب على ثبوت السرقة الموجبة له، والسرقة تثبت بالإقرار، أو البيّنة، ثم الإقرار ينقسم قسمين: إقرارٌ قبل الدعوى، وإقرار بعدها، وكذلك البيّنة تنقسم على هذا الوجه، وسنستوفي الأقسام، ونأتي في كل قسم بما يليق به.
ونقول أولاً: إذا ادعى مالك مالٍ السرقةَ على إنسان، فلا يخلو، إما أن يكون له بينه أو لا يكون له بيّنة؛ فإن لم يكن له بينة، فلا يخلو إما أن ينكر المدعَى عليه أو يقر، فإن أنكر، فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، حلف المدعي، واستحق دعواه، وغرّمه المال؛ لأن النكول مع ردّ اليمين كالبيّنة، أو كالإقرار، ولا شك في ثبوت الدعوى بهما جميعاً، ثم كما يثبت المال، يثبت القطع حقاً لله تعالى، هكذا ذكره الأصحاب؛ فإن يمين الرد إن جعلناها كالإقرار، فالقطع يثبت به، وإن جعلناها كالبينة، فهي كبينة كاملة، والدليل عليه أن القصاص يثبت بها، والقصاص لا يثبت إلا ببينة.
وقد يخطر للناظر في هذا أدنى إشكال؛ من حيث إن الدعوى لا تتعلق إلا بالمال، والقطع لله تعالى، [وإجراء حدود الله تعالى] (3) بالأيمان فيه إشكال.
ولو قال رجل: استكره فلانٌ جاريتي وزنى بها، فأنكر المدعى عليه، وأفضت
__________
(1) من هنا بدأ ظهور بعض السطور والفقرات في نسخة (ت 4) ولم ينته أثر البلل والمحو بعدُ.
(2) ر. المختصر: 5/ 171.
(3) زيادة من (ت 4).

(17/270)


الخصومة إلى يمين الرد، فالمهر يثبت بها، ويبعد أن يثبت حد الزنا.
فإذاً يجب ترديد الرأي في ثبوت حد السرقة؛ لما أشرنا إليه، ويجب القطع [بأن] (1) حد الزنا لا يجب (2)؛ من جهة أنه يثبت حقاً لله تعالى، وسنذكر بعد هذا مسائلَ تشير إلى التسوية بين حد السرقة والزنا، حتى صار كثير من الأصحاب إلى إجراء الخلاف فيهما بطريق النقل من أحدهما إلى الثاني. هذا فيه إذا أنكر.
11138 - وإن أقرّ، ثبت الغرمُ والقطعُ بإقراره، وإن أصر على الإقرار؛ فلا كلام، وإن رجع عن الإقرار، فللأصحاب طريقان: قال قائلون: إذا رجع، لم نقبل رجوعَه في المال، والغرم قائم عليه، وفي قبول رجوعه في القطع قولان: أحدهما - يقبل، وهو قياس العقوبات حقوقِ الله تعالى، ولا خلاف أن حد الزنا (3 إذا ثبت بالإقرار، سقط بالرجوع، والقول الثاني - أن القطع لا يسقط، لأنه قرين الغرم، فإذا لم يؤثِّر رجوعه 3) في المال، وجب ألا يؤثِّر في القطع.
وهذا قد يشير إلى فقهٍ لائق بالباب، وهو أن قطع السرقة يرتبط بحق الآدمي من وجهٍ؛ لأنه أثبت عصمةً لماله، ولهذا يتعلق بمخاصمة المالك في المال، وللغلوّ في هذا المعنى صار أبو حنيفة إلى أنه لا يجمع بين القطع، وتغريم السارق. هذا مسلك لبعض الأصحاب سديد، وهو طريقة القاضي.
وذهب طوائف من الأئمة إلى عكس هذا، وقالوا: إذا أقر بالسرقة الموجبة للقطع، ثم رجع عن إقراره، فرجوعه عن الإقرار مقبولٌ في القطع ساقطٌ قولاً واحداً، وهل يسقط الإقرار بالمال؟ فعلى قولين، فهؤلاء قطعوا بسقوط القطع، ورددوا القول في إتباع المال القطعَ وشبهوا ذلك بإقرار العبد بالسرقة، فإن إقراره في وجوب القطع مقبول، وفي المال قولان.
والطريقة الأولى أفقه؛ فإن قبول الرجوع عن الإقرار بالمال بعيد عن القولين،
__________
(1) في الأصل: " على أن ". والمثبت من (ت 4).
(2) ت 4: يثبت.
(3) ما بين القوسين سقط من (ت 4).

(17/271)


والذي يوضح ذلك أن ضمان السارق المالَ يسبق استيجابه القطعَ؛ فإنه إذا أثبت يده على مال الغير، ضمنه بالعدوان، ثم يستوجب القطع بالإخراج من الحرز.
والطريقة المُثلى المصير إلى أن القطع يسقط، والغرم يبقى، وقد ذهب إلى القطع بسقوط القطع وبقاء الغرم طوائف من المحققين، منهم الصيدلاني وغيره، وليس هذا كإقرار العبد؛ فإن سبب قبول إقراره انتفاء التهمة، ولولا ذلك، لما قبلنا إقراره في القطع، وفيه إتلاف طرف مملوك للسيد، ولو أقر الرجل بأنه استكره جارية على الزنا، وثبت عليه الحد والمهر بإقراره، فلو رجع عن الإقرار، لم يسقط المهر، وفي سقوط حد الزنا جوابان للقاضي. قال: يحتمل أن يكون كحد السرقة، ويحتمل أن يقال: يسقط الحد قولاً واحداً؛ لأن وجوب الحد ينفك عن المهر، ووجوب القطع لا ينفك عن مطالبةٍ بردّ عينٍ أو غرم، فارتباط القطع بالمال أشد من ارتباط الحد بالمهر.
ومن سلك الطريقة الثانية في حد السرقة وقال: إذا رجع عن الإقرار، سقط الحد، وفي الغرم خلاف قد يلتزم مثل هذا فيه إذا أقر بالاستكراه على الزنا ثم رجع عن الإقرار، فيقول: الحد يسقط، وفي سقوط المهر تردد.
وكل ذلك خبط، والوجه القطع ببقاء المال، وسقوط الحد.
11139 - ثم قال الأصحاب: إذا رأينا سقوط القطع بالرجوع عن الإقرار، فقطع الجلاد بعض اليد، فرجع، فعلى الجلاد أن يكف، فلو قال الراجع: اقطع البقية وأرحني، فإن كان الباقي على حياة، فلا يحل قطعه، وإن بقيت جلدة نعلم أنها لا تستقل، وستسقط، فيجوز قطعها.
وليس هذا من أحكام الحد، بل كل من قطع يده ظلماً أو حداً، أو انقطع بعض يده لمصادمة آلةٍ، فإن كان في الباقي حياة، فلا سبيل إلى قطعه، وإن كان كالجلدة التي وصفناها، فالخِيرةُ إلى صاحب اليد: فإن أراد قطعها، [فلمن يأمره بقطعها أن يقطعها] (1)، وإن أراد تركها، تركها، وقد استقصيت حكم ذلك في الجراح، [في
__________
(1) عبارة الأصل: " فلم يأمره بقطعها، وإن أراد تركها ... " والمثبت من (ت 4).

(17/272)


الطهارة] (1) والنجاسة، وأحكام الصلاة، ووجوبُ القصاص على من ينهي القطع من يد المجني عليه إلى هذه الغاية، فلا معنى للإعادة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت (2) الخصومة على إنكار المدعى عليه، أو إقراره.
وقد انتجز الكلام في إقراره مترتباً على دعوى المدعي.
11140 - فلو أقر بالسرقة قَبْل بدعوى المسروق منه، فإقراره ثابت، ولكن هل نقطع يده في غيبة المسروق منه، أو نصبر إلى أن يحضر؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنا نقطع يده، ولا نبالي، كما لو أقر أنه زنى بفلانة، أو زنى بجارية فلان، فحد الزنا يقام عليه بحكم إقراره في غيبة هؤلاء، وكذلك حد السرقة.
والوجه الثاني - أنه لا يقطع في غيبة المسروق منه، [والفرق] (3) أن المقَرَّ له بالسرقة من ماله لو حضر وقال: ما سرقه ملكُه، وليس ملكي، أو قال: كنت أبحتُ له أخْذ ما أخذه، فالقطع يسقط، وإن أنكر السارق ذلك. فإذا كنا نتوقع هذا، فلا معنى لابتدار القطع قبل حضور مالك المال، وليس كالزنا؛ فإن مالك الجارية لو قال: كنت أبحت الجارية للواطىء، فلا حكم لذلك، فلا معنى لانتظاره.
وقد نُنشىء من هذا المنتهى أن مالك الجارية لو قال: كنت بعته الجارية أو وهبته إياها، وقبضها، فيجب أن يقال: لا يسقط حد الزنا بذلك، مع إصراره على الإقرار بالزنا، وتكذيبِ مالك الجارية. وأبو حنيفة (4) يسقط الحد بمثل هذا.
ولو قال الرجل: زنيت بفلانة وذكر حرّة فقالت: كنت منكوحته، لم يسقط الحد بقولها مع تكذيبه إياها، وإصرارِه على الإقرار بالزنا. وفي هذا المقام يظهر انفصال حد الزنا عن حد السرقة.
11141 - فإن قلنا: لا يقطع السارق في غيبة المسروق منه، فهل يحبس السارق
__________
(1) في الأصل: " والطهارة ".
(2) ت 4: " دارت ".
(3) في الأصل: " والوجه ".
(4) ر. المبسوط: 9/ 87.

(17/273)


المقر؟ نُظر: فإن كانت الغيبة قريبة، حُبس، وإن كانت بعيدة، فقد قال الأصحاب: إن كانت العين التي أقر بسرقتها تالفة، حبس، وإن كانت قائمة فوجهان: أحدهما - يحبس، كما لو كانت تالفة. والثاني - لا يحبس، بل ينتزع الحاكم العينَ من يده، ويحفظها للمقَر له.
ومن تمام البيان في هذا أن العين لو كانت تالفة، فقال المقِر بالسرقة: أنا أبذل قيمتها، فخذها وخلِّ سبيلي، فهذا يخرج على الخلاف المذكور في بقاء العين.
ووراء ما ذكرناه سر، وهو أن من أقر لرجل بمال في غيبته، فالسلطان لا يحبسه؛ فإن الحبس موقوف على استدعاء مستحِق الحق، فهذا الحبس يستحيل أن يكون لأجل المال، فيجب رد النظر إلى القطع. فإن قلنا: القطع يسقط بالرجوع عن الإقرار؛ فلا معنى للحبس. وإن قلنا: لا يسقط القطع بالرجوع، فيجوز أن يقال: يحبس؛ فإنه لو خُلّي، لأوشك أن يفلت ويفوت الحق، فليكن الخلاف مأخوذاً من هذا المأخذ. ثم لا يختلف الأمر في هذا الترتيب بين أن يكون المقَرُّ به عيناً، أو ديناً.
وقد نجز مقدار غرضنا في الإقرار بالسرقة.
11142 - فأما إذا كان على السرقة بيّنة أقامها مدعي السرقة، فلا يخلو: إما أن تكون كاملة أو تكون ناقصة، فإن كانت كاملة، وذلك بأن يشهد رجلان عدلان، فالقطع يثبت، والغرم يثبت. ولو قال المدعى عليه: كان المسروق ملكي غصبنيه، فهل يسقط الحد عن السارق؟ هذا فيه اختلاف قدمته، ونص الشافعي رضي الله عنه على سقوط القطع بمجرد الدعوى.
وفي هذا فضل نظر؛ فإن ما ذكرناه من سقوط القطع على النص بالدعوى فيه إذا لم تكن بيّنة، فإذا قامت بينة كاملة يثبت بمثلها العقوبات، فيبعد المصير إلى إسقاط القطع إذا كانت الحالة هكذا.
[والذي] (1) تحصل لنا من قول الأصحاب تفصيلٌ نطرده على وجهه، فنقول: إن
__________
(1) في الأصل: " فالذي ".

(17/274)


ثبتت السرقة من حرز هو بما فيه تحت يد إنسان، فحكم الظاهر أن المسروق مردود على صاحب اليد، فلو فرض من السارق دعوى الملك، فهذا موضع النص، وسقوط القطع متضح فيه؛ فإنه لم يثبت إلا صورة السرقة والأخذ عن يد المسروق منه، ويجري في هذه الصورة القول المُخَرَّج.
ْوجه جريان النص: سقوطُ القطع، ثم يبقى الخصام في الملك، فإن ادعى المسروق منه أنه ملكه، ففو مردود في يده أولاً، والقول قوله مع يمينه، فإن حلف، ثبت له الملك، وانتفى القطع، وإن نكل، لم يخف جريان الخصومة على قياسها.
ووجه جريان التخريج: أنا نقول: القول قول المسروق منه مع يمينه، فإن حلف ثبت الملك، وثبت القطع، فيرجع الخلاف إلى أن القطع هل يثبت بيمين المدعى عليه ثبوته بالبينة القائمة على الملك، وسر المذهب في هذه الصورة أنا على التخريج لا نحكم بثبوت القطع ما لم نفرض يمين المدعى عليه ودعواه الملك، وعلى النص نفس الدعوى في الصورة التي ذكرناها يتضمن انتفاءَ القطع. هذا بيان ذلك.
11143 - صورة أخرى: إذا ادعى رجل على رجل سرقةَ متاعٍ من ملكه وحرزه، ووصف ما تفتقر السرقة إليه في اقتضاء القطع، وأقام شاهدين عدلين على أنه سرق من ملكه هذا المتاع، فلو قال السارق: كان أباح لي أخذه، فنُجري في هذه الصورة النصَّ والتخريجَ لانتظام الدعوى، ولا مضادة بينها وبين قضية البينة، فيجري في ذلك النصُّ في سقوط القطع، والتخريجُ في بقائه إذا حلف المدعى عليه، كما سنصف ذلك، إن شاء الله تعالى.
ولو قال المدعي: كنت اشتريته منه، فمنعنيه، فسرقته، فنُجري في هذه الصورة النصَّ والتخريج؛ فإن البينة لو تعرضت لنفي الشراء، لكانت شاهدة على النفي، ولو فرض دعوى على غير هذا الوجه في غير صورة السرقة- لسمعت على معارضة البينة المطلقة على الملك، ولقيل للمدعى عليه: احلف، فإذا جرى الدعوى وأمكن تقديرها مع البينة جرى النص والتخريج.
ولو قال السارق: لم يزل هذا المسروق ملكي، وإنما غصبنيه المسروق منه، فهذا إنكار منه لأصل الملك، والبينة قائمة على إثبات الملك، فتناقض الدعوى

(17/275)


يقتضي البينة، وفيه سر، وهو أن دعوى الملك لا تستند إلى يقين، كما أن البينة لا تستند إليه، وهذا فيه احتمال ظاهر، وفي كلام الأصحاب ما يدل على التردد فيه، فإن جرينا على التخريج، فلا خفاء، وإن جرينا على النص، فيجوز أن يقال: لا يسقط القطع في هذه الصورة؛ لأن الدعوى تبطل بالبينة في وضع الخصومات، وليست البينة كاليمين يفرض من المسروق منه.
ويجوز أن يقال: يسقط القطع، لإمكان الصدق وانتصاب السارق خصماً، وإن كان مقضياً عليه، فلا فرق بين أن يقضى عليه بالبيّنة وبين أن يقضى عليه باليمين. وإذا قضينا بسقوط القطع والملك مقضي به، فهل يحلف مقيم البينة؟ فيه كلام سيأتي الشرح عليه في أدب القضاء، إن شاء الله تعالى. وليس من غرض هذا الفصل، لأن القطع ساقط كيف فرض الأمر، وهذا مقصود الباب.
11144 - ولو قال السارق كان أباح لي أخذ ما أخذته، والتفريع على النص، فلا يحلف المغصوب منه بلا خلاف؛ لأنه [لا] (1) غرض له في نفي الإباحة باليمين؛ إذ لا يرتبط بها غرض مالي والقطع ساقط كيف فرض.
وذلك الذي أبهمنا الكلام فيه لا بد من رمز إليه الآن تفصيلاً، ثم يأتي شرحه في موضعه إيضاحاً وتقريراً: فإذا ادعى رجل على رجل عين مالٍ وأقام على ملكه وتحقيق دعواه بينة، فقال المدعى عليه: أسند الشهود شهاداتهم بظاهر (2) الحال، ولهم ذلك، ولكن المدعي يعلم سراً أنه كاذب، فحلِّفوه، ففي التحليف على هذا الترتيب خلاف سيأتي مشروحاًْ، إن شاء الله تعالى.
وقد نجز الغرض، وكل ما ذكرناه إذا قامت البينة مترتبة على الدعوى، بأن يدعي على رجل وفي يده ثوب أنه سرقه بعينه من ملكه، وقد تفصّل المذهب في هذا الطرف.
11145 - فأما إذا قامت بينة على أن فلاناً سرق هذا المتاع من ملك فلان،
__________
(1) زيادة من (ت 4).
(2) ت 4: " إلى ظاهر الحال ".

(17/276)


والمشهود له غائب، فقد نص الشافعي على أنه لا يقطع في الحال، ونص على أنه لو شهد شاهدان على واحد بأنه زنى بجارية فلان (1 أنه يجب الحد 1)، فاختلف أصحابنا في المسألتين: فمنهم من نقل وخرّج، وأجرى قولين في المسألتين؛ من حيث إن السبب ارتبط فيهما بملك لم يدّعه من نسبت البينةُ الملكَ (2) إليه، ويجوز فرض الجارية ملكاً للواطىء، كما يجوز فرض المسروق ملكاً للسارق.
ومن أصحابنا من أجرى المسألتين على ظاهرهما، وفرق بأن المسروق منه [ربما يقول لو حضر: كُنت أبحت له ذلك] (3) (4 ولو قرر هذا، لسقط الحد 4)، ولو قرر مثل ذلك في الجارية، ووطْئها، لم يسقط الحدُّ، فانتظار حضور الغائب في السرقة لتوقع شبهة دارئة لا يتأتى مثلها في الجارية ووطئها.
ومما ينتظم وراء ما ذكرناه أن من وطىء جارية، ثم زعم أنها ملكُه، أو وطىء حرة، ثم زعم أنها زوجته، فقد ذكرنا أن مضمون النص في ذلك سقوط القطع في السرقة، وهذا في حد الزنا متردد: ظاهر المذهب والنص أن الدعوى العرية لا تُسقط حد الزنا بخلاف السرقة، فإن القطع في السرقة يكاد يتبع حقَّ الآدمي، فترتبط الدعوى به، بخلاف حد الزنا، ولذلك لا يسقط حد الزنا بالإباحة، وينشأ هذا الاختلاف من تردد الأصحاب في النصين المذكورين في البيّنة المقامة وصاحب الملك غائب.
ثم إذا جرينا على النص، وقلنا: لا يقطع السارق ما لم يحضر المسروق منه، فقد قال الأصحاب: يحبس السارق إلى أن يحضر المسروق منه، وهذا مشكل؛ فإن البينة قامت على مالٍ قَبْل دعواه، وحق البينة إذا قامت قبل الدعوى أن ترد في حقوق الآدميين، وهذا الآن يوضحه ترتيب فنقول: ما تمحض حقاً لله تعالى، فشهادة الحسبة فيه مقبولة، وما تمحض حقاً للآدمي، فالمذهب أن شهادة الحسبة فيه مردودة، وفيه قول حكيناه وأجريناه في باب الشهادة على الجناية، ووعدنا استقصاءه
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 4).
(2) ت 4: " بينةُ الملكِ ".
(3) عبارة الأصل: " إنما يعول: لو حضرت، أبحت له ذلك " والمثبت من (ت 4).
(4) ما بين القوسين سقط من (ت 4).

(17/277)


في البينات، [والقطعُ] (1) المتعلق بالسرقة متردِّدٌ؛ من جهة أنه يتعلق بحق الله تعالى، ويتعلق بحق الآدمي، والقطع مشروع [لصون] (2) حق الآدمي، وقد ظهر لنا تردد الأصحاب في هذا، فقال قائلون: البينة مردودة، فلا يحبس السارق إذاً. وقال آخرون: البينة مسموعة لارتباطها بحق الله تعالى وإحياء حده.
التفريع:
11146 - إن قلنا: ترد، فمعنى ردّها أنا لا نُصغي إليها، ولا يترتب عليها حبس. وإن قلنا: هي مسموعة، فالمشهود عليه محبوس؛ لمكان الحد، وسبب الامتناع عن الإقامة توقعُ شبهةٍ تدفع [الحدَّ] (3).
فإذا جاء المسروق منه، فادعى، فهل نشترط إعادة البيّنة في المال وثبوته؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا بد من إعادتها، والتفريع على أن شهادة الحسبة لا تثبت في الأموال. وهذا وجهُ هذا الوجه.
والوجه الثاني - لا حاجة إلى إعادة البينة لتعلقها بحق الله تعالى، وكأن (4) حق الله تعالى أغنى ثبوتَ المال عن دعوى، وقد مهدنا [للإتباع] (5) أمثالاً: منها - أنه لو أقر بالسرقة، ثم رجع، ففي قبول رجوعه في المال تبعاً للقطع، أو في القطع تبعاً للمال خلاف قدمنا ذكره.
وتمام البيان في هذا عندنا أنا إن قلنا: البينة لا تعاد، فيكفي أن يحضر ويدعي، وتقطع يده، وإن قلنا: تعاد البينة لإثبات الملك، فظاهر كلام المشايخ أن القطع لا يتوقف على عَوْد البينة، وهذا فيه احتمال بيّن: يجوز أن يقال: نتوقف في القطع إلى إعادة البينة.
__________
(1) في الأصل: " فالقطع ".
(2) في الأصل: " مصون ". والمثبت من (ت 4).
(3) زيادة من المحقق سقطت من النسختين.
(4) ت 4: " فكأن ".
(5) زيادة من (ت 4).
ثم المعنى: أن هذا الوجه القائل بعدم إعادة البينة للمال، لأنها تتعلق أيضاً بالقطع، وهو حق لله تعالى، وإذا كانت البينة لحق الله حسبةً، فهي مقبولة، فهنا أُتبع المالُ حقَّ الله، وثبت بشهادة الحسبة، ثم قال: وقد ذكرنا أمثالاً للإتباع ... إلخ.

(17/278)


وكل هذا والسارق لا يدّعي الملك لنفسه، فإن ادعى الملك لنفسه، انعكس التفصيل إلى ما تقدم.
11147 - ووراء ذلك كلام هو الختام، وهو أنا إن لم نُسقط القطعَ بدعوى السارق، لم نسائله، وإن كنا نسُقط القطعَ بدعواه، فلو قال: لا ملك لي فيما سرقت، قطعناه، وإن ادعى الملك، فقد بيناه، وإن سكت، فهل يستفصله القاضي تذرعاً إلى السقوط، أم كيف السبيل؟ هذا فيه تردد ظاهر مأخوذ من مسألة: وهو أن من أقر بموجب حدٍّ، فهل يشبب القاضي بالرجوع عن الإقرار؟ فيه تردد، فما ذهب إليه الجمهور أنه لا يفعل ذلك.
ومن أصحابنا من قال: للقاضي أن يتعرض لهذا. ومنهم من قال: إن كان المقر ممن يعلم أن الرجوع عن الإقرار يُسقط الحد، لم يشبب، وإن كان ممن يجهل ذلك، فلا بأس، ثم حيث يشبب لا يحثه على الرجوع، بل يُجري مسألة الرجوع والحكمَ فيها، وإن صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع بتهمة السرقة إليه: " ما إخالك سرقت، أسرقت؟ قل: لا " فقوله له: " قُل: لا " يشهد للتشبيب بالرجوع؛ إذ لا فرق بين الحث على ترك الإقرار، وبين إجراء ذكر الرجوع.
وسمعت بعض أئمة الحديث لا يصحح هذا اللفظ، وهو " قل لا " فيبقى اللفظ المتفق على صحته، وهو قوله: " ما إخالك سرقت " (1) فهذا تعريض بالانكفاف عن
__________
(1) حديث " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمرفوع بتهمة السرقة: ما إخالك سرقت؟ أسرقت؟ قل: لا " نقل الحافظ في التلخيص حكم الإمام على لفظ " قل لا " وأيده في ذلك حيث قال: ولم أره عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد ورد هذا اللفظ " قل لا " موقوفاً على أبي الدرداء: " أنه أتي بجارية سرقت فقال لها: أسرقتِ؟ قولي: لا " رواه البيهقي (8/ 276) وكذا ورد عن أبي هريرة " أنه أتي بسارق فقال: أسرقت؟ قل: لا .. " رواه ابن أبي شيبة (8625) وكذا في مصنف عبد الرزاق " أُتي عمر بن الخطاب برجل فسأله أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه " (10/ 224 رقم 18919، 18920). (ر. التلخيص: 4/ 125، 126 ح 2083). وأما حديث " ما إخالك سرقت " بدون " قل لا " فقد رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه من طريق أبي أمية المخزومي، ورواه أبو داود في المراسيل من حديث عبد الرحمن بن ثوبان، ورواه الدارقطني والحاكم والبيهقي موصولاً من حديث=

(17/279)


الإقرار، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله تعالى " (1) (2 حديث متفق على صحته ولا بد من الكلام على مضمون هذه الأحاديث وإجراء المذهبين بحبسهما، فأما قوله فليستتر 2) فهذا دليل على أنه لا يجب على من قارف موجب حدٍّ، أن يظهره للإمام، وقد يستدل بذلك من يرى التوبة مسقطة للحد، وكان شيخي يقطع بأنه لا يجب إظهار موجب الحد للإمام.
وهذا فيه احتمال عندنا [إذا] (3) قلنا: الحد لا يسقط بالتوبة، (4 ولكن ما ذكره مستند إلى الحديث الصحيح، إذ قال صلى الله عليه وسلم: " فليستتر " ثم يقتضي طريقه أن التوبة 4) تُسقط تبعةَ الآخرة من العبد وبين الله عز وجل، فإن الحد لله تعالى، والتوبة تحط العقوبة الفستحقة بالذنب، فإذا ظهر استحقاق الحق عند الإمام، فردُّ التوبة على القول الأصح يرجع إلى عدم الثقة بها، أو إلى منع اتخاذ الفَجَرة إظهارَ التوبة ذريعةً تدرأ الفاحشة. هذا في قوله: " فليستتر بستر الله تعالى " وذلك قبل الارتفاع إلى مجلسه.
فأما إذا فرض الارتفاع إلى مجلس الإمام، فقد ظهر خلاف لأصحابنا في جواز التشبيب بالمنع عن الإقرار، ولعل الأصح الجواز لقوله صلى الله عليه وسلم: " ما إخالك سرقت " وإذا فرض الإقرار، ففي التشبيب بالرجوع ما ذكرناه من التردد.
__________
=أبي هريرة. (أبو داود: الحدود، باب في التلقين في الحد، ح 4380، النسائي: قطع السارق باب تلقين السارق، ح 4877، ابن ماجه: الحدود باب تلقين السارق، ح 2597، المراسيل لأبي داود، ح 244، الدارقطني: 3/ 12، الحاكم: 4/ 381، البيهقي: 8/ 271، 275 - 276، التلخيص: 4/ 124 ح 2080) هذا. وقد فسّر الحافظ قول الإمام إن الحديث متفق على صحته، بأنه ليس المقصود الاصطلاح المعروف عند المحدثين.
(1) حديث " من أتى من هذه القاذورات شيئاً ... " سبق تخريجه.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 4).
(3) في الأصل: " وإذا ".
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 4).

(17/280)


وكل ما ذكرناه في البينة الكاملة وهي إذا شهد عدلان، ثم انشعب الكلام.
11148 - وأما البينة الناقصة وهي إن شهد رجل وامرأتان على السرقة، ومِلْكِ المسروق، فالقطع لا يثبت وفاقاً، والأصح ثبوت المال، وأبعد بعض أصحابنا، فلم يُثبته إذا تضمنت الدعوى سرقةً، فلو ثبت، لأوجبت القطع، والشاهد واليمين كالشاهد والمرأتين.
ثم قال الأئمة: الشهادة على السرقة التي تقتضي القطعَ لا بد وأن تكون مفصّلة ناصّة على كل ما يُرعى في ثبوت القطع، والسبب فيه أن السرقة منقسمة: فمنها ما يوجب القطع، ومنها ما لا يوجبه، فإذا كانت السرقة مع تحققها، [منقسمة] (1) فلا بدّ من التفصيل، وليس كذلك الشهادة على البيع، فإنا في المسلك الأصح لا نشترط ذكر أسباب الصحة، كما سيأتي في الشهادات، إن شاء الله تعالى؛ فإن الذي لا يصحُّ ليس [بيعاً شرعاً] (2) والذي لا يوجب القطع سرقة، ولو أقر السارق بالسرقة، لم يثبت القطع بإقراره المطلق، وسنذكر أن شهادة الزنا لا بد فيها من التفصيل، كما لا بد في تحملها من الاطلاع على الحقيقة.
واختلف الأصحاب في أن الإقرار بالزنا هل يشترط فيه التفصيل، ولا خلاف أن النسبة إلى الزنا المطلق قذفٌ صريح، [وأما شرط] (3) التفصيل في البينة، فلغرض الشرع في ستر الزنا، وأما الإقرار بالزنا، فسبب التردد فيه أنه لا يطلق اللفظَ الصريحَ من يقرّ على نفسه إلا (4) بثَبَت، والإقرار بالسرقة المطلقة لا خلاف في أنه لا يوجب القطع، فإن من (5) السرقة ما لا يقطع فيها.
__________
(1) زيادة من (ت 4).
(2) في الأصل: " ليس شرعاً بيعاً "، و (ت 4): ليس بيعاً، والمثبت تصرف من المحقق.
(3) في الأصل: وإنما نشترط.
(4) في الأصل: " إلا بنسب " كذا ضبطاً ورسماً، وفي (ت 4): " على نفسه لا يثبت ". ولم يفد البسيط ولا الشرح الكبير في هذا.
(5) عبارة (ت 4): فإن السرقة تتحقق ولا قطع فيها.

(17/281)


فصل
قال: " وفي إقرار العبد بالسرقة شيئان ... إلى آخره " (1).
11149 - أقارير العبيد بديون المعاملات سبقت مستقصاة في أواخر البيع، فأما إذا أقر بإتلاف مالٍ أو أرش جناية مُتعَلَّقه (2) الرقبة، ولا يجب بسببها عقوبة، فإن صدقه السيد، تعلق برقبته، وإن كذبه، لم يتعلق برقبته، والأصح أنه يتعلق بذمته يتبع به إذا عَتَق.
وإن أقر بسرقة عينٍ موجبة للقطع، ثم زعم أنه أتلف ما سرق، أو أشار إلى عينٍ وذكر أنها مسروقة، فإذا كذبه السيد، لم يصدّق، وما في يده بمثابة ما في يد السيد.
وإن أقر بسرقة موجبة للقطع، فإقراره مقبول عند الشافعي في القطع، وقال المزني: لا يقبل إقراره في القطع، وهو مذهب أبي يوسف وزفر (3)، ومعتمد المذهب انتفاء التهم عن الإقرار، والذي يعضد ذلك ردُّ إقرار السيد بما يوجب القطع (4)، وإن تناول محل ملكه، فإذا لم نبعد الرد بالتهمة، لم نبعد قبول إقرار العبد. وكنت أود لو كان مذهب المزني قولاً مخرجاً، ولكن لم يشر إليه أحد من الأصحاب.
11150 - ثم إذا قبلنا إقراره وأوجبنا القطع، فهل نقبل إقراره في المال؟ فيه قولان: أحدهما - يقبل؛ لأن الإقرار في وضعه لا تهمة فيه. والثاني - لا يقبل، كما سنوضح الغرض في التفريع إن شاء الله تعالى ويظهر ما كنت أودّه من تردد القولين في قبول الإقرار في المال؛ فإن السرقة لا تستقل بنفسها، دون فرض مسروق، وانقطاع القطع عن المسروق بعيد، وما ذكرناه إبداء وجوه الإشكال، والمذهب ما ننقله.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 172.
(2) في (ت 4): " فتعلقه ".
(3) ر. المبسوط: 9/ 183.
(4) المراد إقرار السيد بما يوجب قطع العبد؛ وإن كان هذا الإقرار يتعلق بمحل ملكه، أي العبد، فإنه ملك السيد، وفي قطعه تفويت ملك السيد بإقراره نفسه.

(17/282)


فإذا ثبت القولان، فقد اختلف أصحابنا في محلهما: فمنهم من قال: القولان فيه إذا أقر بسرقة عين وتلفت في يده، ومعنى قبول إقراره على أحد القولين تعلّق قيمتها بالرقبة، وهذا القائل يقول: لو كانت العين القائمة في يد العبد وزعم أنه سرقها، وأنكر السيد ذلك، وقال: العين القائمة في يده ملكي، فإقراره مردود، واحتج هذا المرتِّب بأن قال: العين الموجودة في يد العبد بمثابة الأعيان الثابتة في يد السيد، فإن يد العبد يد السيد، ولو أقر العبد بأن الأعيان التي في يد سيده مسروقة، وأنه سرقها وسلمها إلى السيد، فإقراره مردود، والطرق متفقة على هذا.
ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: إذا ادعى العبد أنه سرق عيناً وأتلفها، (1 فإقراره مردود في تعلق قيمة العين التي ذكرناها بالرقبة قولاً واحداً، وإنما القولان فيه إذا أشار إلى عين كائنة في يده 1). وهذا المرتب يستدل، ويقول: العين القائمة معلومة منحصرة، فإضافة الإقرار إليها ذكر متعلَّق الإقرار مشارٍ إليه، ويد العبد في الظاهر ثابتة عليه، وقد أقر بأن هذه يد سرقة، فظهر ارتباط الإقرار بالمقَرّ به. وأما ما ادعى تلفه في يده، فلا نهاية له، ولا ضبط يفرض الوقوف عنده.
وهذه الطريقة ضعيفة؛ لما قدمناه في الطريقة الأولى، من أن يد العبد يدُ المولى، ثم حكينا اتفاق الأصحاب على أنه لو أضاف السرقة المدعاة إلى ما في يد العبد، لم [نقبل] (2) إقراره، وهذا أفقه مما خيله المرتب الثاني.
ومن أصحابنا من قال: نطرد القولين في العين القائمة، والعين التي ادعى العبد إتلافها.
11151 - وجمع بعض الأصحاب الطرق كلها وأنشأ (3) منها أقوالاً: أحدها - أن إقرار العبد مقبول فيما ادعى إتلافه، وفيما في يده. والثاني - أن إقراره مردود في الموضعين فيده مقطوعة، والغرم نازل على ذمته. والثالث - أن إقراره مقبول فيما ادعى إتلافه غيرُ مقبول في العين القائمة. والقول الرابع - عكس هذا.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4).
(2) في الأصل: " لم نبعد ".
(3) كذا قرأناها في الأصل، وفي (ت 4): يمكن أن تقرأ: " وتبينوا منها أقوالاً ".

(17/283)


وأما الأموال الكائنة في يد المولى، فإضافة الإقرار إليها مردودة، فإنا لو قبلناه، لجر هذا أمراً عظيماً، وهو أن يوطّن (1) العبدُ نفسَه على قطع اليد، و [يُفقرَ (2)] السيدَ من آلافٍ مؤلفة، وسيكون لنا إلى هذا التفات في تفريعٍ نذكره، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: إقراره مقبول في العين القائمة في يده، فقد ذكر القاضي وجهين في ذلك: أحدهما - أن فائدة قبوله أداءُ العين إلى المقر له بالغة ما بلغت؛ لأنه غير متهم.
والثاني - أن فائدة قبول إقراره تعلق قيمة العين برقبته، والعين للسيد، لما ذكرناه من [نكتة] (3) السيد، إذ قلنا: يد العبد يد المولى، وهو ليس إضراراً عظيماً؛ فإن القول الأصح أن العبد يفدى بأقل الأمرين، [فأقصى] (4) ما يقرّ به لا يجاوز قيمته فيكون للكلام موقف يُنتهى إليه، وإذا قلنا: السيد يفدي عبده بالأمر اللازم بالغاً ما بلغ، فيمكنه أن يسلم العبد، والعبد يمكنه أن يفوّت رقبته على مولاه، بأن يقر بجناية توجب إهلاكه.
فإذا لاح هذا [انعطفنا] (5) من هذا المنتهى على أمرٍ تقدم. وقلنا: أطلق الأصحاب القولَ بأن إقرار العبد لا يقبل مضافاً إلى ما في يد السيد، فلو قال قائل: إقرار العبد بالعين يقصر عن قدر قيمته، فلا يبعد أن يقال: يقبل إقراره على هذا النسق فيما يضيفه إلى يد مولاه.
...
__________
(1) ت 4: وهو أن من يوطن العبد نفسه.
(2) في الأصل رسمت هكذا: " ويفقوا " وبدون نقط. (انظر صورتها)، والمثبت من (ت 4) ومن (البسيط).
(3) في الأصل: رسمت هكذا: (وـ ـ ـوا) بدون نقط. والمثبت من (ت 4).
(4) في الأصل: ففي، والمثبت من (ت 4).
(5) في الأصل: انقطعنا.

(17/284)


باب غرم السارق
قال الشافعي رحمه الله: "أغرم السارق ما سرق قطع أو لم يقطع ... إلى آخره" (1).
11152 - إذا كانت العين المسروقة قائمة في يد السارق، فلا خلاف أنه يقطع، وتُسترد العين منه، ولو كانت تلفت في يده أو أتلفها، فمذهب الشافعي أنه يقطع، ويغرّم، فإن القطع حد الله تعالى، والغرم بدلُ مال الآدمي، فإذا كان لا يمتنع اجتماع الكفارة والدية، كيف اجتماع الغرم والقطع؟ وخلاف أبي حنيفة (2) مشهور.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 172.
(2) ر. رؤوس المسائل: 494 مسألة 358، طريقة الخلاف: 223 مسألة 89، المبسوط: 9/ 156.

(17/285)


باب ما لا قطع فيه
11153 - هذا الباب يحوي وجوهاً تتضمن سقوط القطع، ونحن نأتي بها على الترتيب أولاً، فأولاً.
قال الشافعي: " لا قطع على من سرق من غير حرز " (1) وهذا واضح، وحمل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا قطع في ثمر ولا كَثَر " (2) على النخيل التىِ لا تكون محرزة وروي باقي الحديث في تحقيق ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: " لا قطع في ثمر ولا كَثَر، فإذا أواه الجرين، وبلغ قيمةَ المجن، ففيه القطع " (3).
11154 - ثم قال: " ولا عبد سرق من متاع سيده ... إلى آخره " (4).
إذا سرق العبد متاع سيده، لم يستوجب القطع، لأنه يستحق عليه النفقة، فله شبهة في مال المولى، وإذا قتله استوجب القود، لأنه لا شبهة له في دم سيده،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 172.
(2) الكَثَر: بفتح الكاف والمثلثة، وهو جُمّار النخيل، وهو اللبُّ الأبيض الذي يكون في رأس النخلة، وفي رأس الفسائل التي تنبت حول النخلة متصلة بها.
(3) والحديث أخرجه أصحاب السنن، ومالك في الموطأ، وأحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الكبرى من حديث رافع بن خديج. قال الحافظ في التلخيص: " واختلف في وصله وإرساله، وقال الطحاوي: هذا الحديث تلقت العلماء متنه بالقبول " ا. هـ وقال في البدر المنير: هذا الحديث حسن.
(أبو داود: الحدود، باب ما لا قطع فيه، ح 4388، 4389، الترمذي: الحدود، باب ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر، ح 1449، النسائي: قطع السارق، باب ما لا قطع فيه، ح 4963 - 4973، ابن ماجه: الحدود، باب لا يقطع في ثمر ولا كثر، ح 2593، الموطأ: 2/ 839، المسند: (3/ 463، 464، 4/ 140، 142)، السنن الكبرى: 8/ 263، تلخيص الحبير: 4/ 121، ح 2074).
(4) ر. المختصر: 5/ 172.

(17/286)


ولا قصاص على السيد بقتل عبده وإن كان مكاتباً؛ لأن القصاص لو ثبت لثبت للسيد، وكل ذلك مما تمهد، والله أعلم.
فصل
قال: " ولا على زوج سرق من متاع امرأته " ثم قال بعده: " ولا يقطع من سرق من مال ولده ... إلى آخره " (1).
11155 - فنقول كل شخصين يستحق أحدهما على الثاني عند فرض الحاجة في المستحِق وفرض الغنى في المستحَق عليه نفقةَ الكفاية، فلا يقطع واحد منهما في سرقة مال صاحبه، فلا يُقطع إذاً ولدٌ سرق مال والده، ولا والد سرق مال ولده، وهذا يطرد بين كل شخصين بينهما بعضيّة، يعني كون أحدهما أصلاً، وكون الثاني فرعاً وفصلاً، على ما تمهد في النفقات، ثم لا يتوقف سقوط القطع على أن يكون السارق محتاجاً، والمسروق منه غنياً، بل انتفاء القطع جارٍ في الأحوال كلها؛ من جهة أن مال كل واحد منهما محلُّ تنفيذ حاجة الآخر. وهذا فائدة الباب.
وقيدنا الكلام بالكفاية لتميز النفقة الواجبة بالقرابة عن نفقة الزوجية؛ إذ فيها من التفصيل ما نصفه.
والأخ مقطوعٌ بسرقة مال أخيه، وأبو حنيفة (2) وإن أوجب على الأخ نفقة أخيه لم يدرأ القطع عن السارق منهما من مال صاحبه.
11156 - واختلفت النصوص في أن أحد الزوجين هل يقطع إذا سرق مال الثاني؟ وحاصل ما جمعه الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها - أن الحد لا يجب على واحد منهما، ومعتمد هذا القول ما بين الزوجين من الاتحاد، وكل واحد منهما يتكثر بمال صاحبه، وتقرير هذا في مسائل الخلاف.
والقول الثاني - أن كل واحد منهما مقطوع بسرقة مال صاحبه: أما الزوج، فلا حق
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 172.
(2) ر. المبسوط: 9/ 151.

(17/287)


له في مالها، والتكثر بالمال لا أصل له، وأما الزوجة، فلها حق النفقة، ولكن نفقتها تضاهي الأعواض، ولهذا لا يعتبر فيها الكفاية، ولا تسقط بمرور الزمان.
والقول الثالث - أن المرأة لا تقطع بالسرقة من مال الزوج، والزوج مقطوع.
والفرق بينهما النفقة.
11157 - ثم قال الأصحاب: كل من لا يقطع بالسرقة من مال إنسان، فلا يقطع عبده بالسرقة من ماله أيضاً، فإذا لم يقطع الزوج بالسرقة من مال زوجته، لم يقطع عبده في سرقة مالها، وكذلك القول في سرقة عبد الإنسان من مال ولده، أو والده.
وحكى الصيدلاني هذا مقطوعاً به عن القفال، ثم قال من عند نفسه: الصحيحُ أن يقطع العبد، وإن كان لا يقطع سيده؛ فإن للسيد شبهة النفقة إذا وقع الفرض في الوالد والمولود، وليس لعبده شبهة النفقة في مال ولده، ثم استتم هذا، وقال: إن بهنا لا نقطع عبد الوالد فمال ولده كماله في معنى أنه لا قطع عليه فيه (1)، فيلزم منه أن نقول: لا قطع على الأخ بسرقة مال أخيه، لأنه ابن أبيه، وهو لا يقطع في مال أبيه، ومال الولد كمال الوالد.
وهذا الذي ذكره متجه، لا دفع له إلا بتمويهٍ سنشير إليه. والعجب أن القاضي فرع على الأقوال في الزوجين، وقال: إذا لم يقطع أحدهما في مال الثاني، لم يقطع عبد واحدٍ منهما في مال الثاني، ثم قال: إذا لم يقطع أحدهما في مال الثاني، وجب ألا يقطع ولد أحدهما في مال الثاني وإن كان ربيباً. وهذا قبيح؛ فإن القول به يُلزم إسقاط القطع عن الأخ إذا سرق من مال أخيه، وليس هذا إلزاماً بل هو عين ما قال به لو رُدّ التفريع إلى الوالد والولد؛ فإن ابن الأب أقرب إلى الولد من ابن الزوج -وهو ربيب- إلى الزوجة، فهذا غلط صريح.
ثم لا شك أنّ ما أجريناه من ذلك الوفاق والخلاف في الأموال المحرزة عن السارق على التحقيق.
فإن قيل: إذا زيفتم ما حكيتموه في ولد الزوج، فما الرأي في العبد؟ قلنا: الوجه
__________
(1) ساقطة من (ت 4).

(17/288)


القطعُ بإيجاب القطع على الرَّبيب، والأخ، وولد الزوج والزوجة (1)، وفي قطع العبد -إذا كنا لا نقطع السيد- وجهان: أحدهما - وهو اختيار الصيدلاني أنا نقطعه، كالأخ. والثاني - لا نقطعه؛ لأن يده يد السيد، فكأن السيد أخذه.
وهذا ضعيف لا أصل له؛ فإن العبد إذا سرق حيث يستوجب القطع، فالحكم لا يتعداه، وإن سرق بإذن مولاه، ويجوز أن يقال: هذا وإن كان لا يؤثر في إيجاب القطع على المولى، يجوز أن يؤثر في إسقاط القطع عن العبد؛ لأن بناء الباب على تغليب الشبهة.
11158 - ومما يتصل بهذا المنتهى أن من له دين على إنسان إذا سرق من ماله نصاباً؛ فإن كان مماطلاً وعسر استيفاء الدين منه طوعاً، فإن كان المسروق من جنس دينه، لم يقطع؛ فإنه [أخذ ملكه] (2). وإن كان من غير جنس ماله، فالمذهب أنه لا قطع عليه أيضاً، وخرّج بعض أصحابنا هذا على القولين في أنه هل يحل له أن يأخذ غير جنس حقه، إذا ظفر به، على ما سيأتي القولان في موضعهما، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "ولا قطع في طنبور ولا مزمار ولا خمر ولا خنزير ... إلى آخره" (3).
11159 - أما الخمر والخنزير، فليسا مالَيْن، ولا يتعلق القطع [بأحدهما] (4)، فأما آلات الملاهي، وهي التي يستحق كسرها، فالقول في أنها إلى [أي] (5) حدٍّ تنتهي
__________
(1) وولد الزوج والزوجة والمعنى: وولد الزوجة.
(2) في الأصل: فإنه ملكه أخذ، وفي (ت 4): وإن ملك ما أخذ.
والمثبت من تصرف المحقق على ضوء المعنى، وعلى ضوء عبارة الغزالي في البسيط.
(3) ر. المختصر: 5/ 172.
(4) في الأصل: " بأخذهما ".
(5) زيادة من المحقق لا يستقيم الكلام بدونها.

(17/289)


في التكسير والترضيض (1) مذكور في موضعه من الغصوب، والغرض الآن القول في السرقة، فإن كان [مترضَّض] (2) ما أخذه لا يبلغ نصاباً، فلا قطع بلا خلاف، [وإن] (3) كان الرُّضاض الذي لا يجوز المزيد في ترضيضه بحيث [يبلغ] (4) نصاباً، فإذا أخرجه السارق من الحرز، ففي وجوب القطع وجهان: أصحهما - أنه لا يجب؛ لأن الحرز لا يتحقق في حق هذه الآلات، ويجوز الهجوم على الدور لأجلها، والوجه الثاني - أنه يجب (5) القطع؛ لأن حقها -إن فرض الظفر بها- أن ترضض على مكانها، فأما نقلها وإخراجها، فغير سائغ.
ولو قال قائل: يختلف هذا بالقصد، فإن قصد السرقة، فينقدح الخلاف، والأصح أن لا قطع. وإن. قصد إخراجها ليُشهر كسرها، فلا قطع أصلاً مذهباً واحداً، لكان ذلك متجهاً، ثم الرجوع في هذا القصد إليه.
وما ذكرناه من الخلاف يجري في كل ما يسلِّط الشرع على تكسيره، حتى لو فرضت صور أصنام، فهي كآلات الملاهي، وإن كانت من الذهب والفضة، ويلتحق أواني الذهب والفضة بها إذا قلنا: إنها تُكسر.
وهذا بعيد.
فصل
يشتمل على ثلاثة مقاصد
11160 - أحدها - الكلام في المال المشترك، والقول في مال بيت المال، والثالث الكلام في الأملاك التي توصف بالضعف.
__________
(1) المعنى إلى أي حد يجوز ترضيضها وتكسيرها، بمعنى هل الجائز تكسيرها إلى حدّ إبطال عملها فقط، وما عداه مجاوزة للحدّ إتلاف مالٍ، أم يجوز ترضيضها وجعلها جذاذاً إلى أبعد مدى؟
(2) في الأصل: " يترضض ".
(3) في الأصل: " فإن ".
(4) في الأصل: " يبلغه ".
(5) ت 4: لا يجب القطع.

(17/290)


فأما الأملاك المشتركة، فإذا سرق أحد الشريكين يوماً مشتركاً بينه وبين شريكه، أو سرق البعضَ منه، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع القول بانتفاء القطع لشبهة الشركة، وقال: ما من جزء (1) من المأخوذ إلا وله فيه حق، ثم هذا القائل يقول: لو كان المسروق مالاً جمّاً، وليس فيه شركة إلا جزء يسير، فلا قطع، لما أشرنا إليه.
ومن أصحابنا من قال: إذا سرق [نصف دينار] (2) من مالٍ مشترك هو شريك فيه بالنصف، فيلزمه القطع؛ لأن النصف مما أخذه ليس [له] (3)، ونصفه نصاب كامل.
وسلك بعض أصحابنا مسلكاً في التفصيل، وقال: إن كان المال المشترك مما يجري فيه الاستقسام [جبراً، وهو ذوات الأمثال؛ إذ لا منقول يجري فيه الاستقسام غيرها] (4)، كالحبوب وغيرها، فإذا كان المال المسروق من هذه الأصناف، وكان المسروق مقدار ملك الشريك بالجزئية، فلا قطع، فإنا نحمل أخذه ذلك المقدار على إيقاع القسمة، وإن كانت فاسدة، وإن زاد على مقدار حقه، وبلغت الزيادة نصاباً، وجب القطع حينئذ، وهذا كما لو كان بينهما ديناران لكل واحد منهما النصف على الشيوع، فإذا سرق ديناراً، فلا قطع حملاً على مذهب الاستقسام، وإذا سرق ديناراً وربعاً، وجب القطع، هذا فيما يتطرق إليه الاستقسام قهراً.
فأما [ما] (5) لا يجري فيه الاستقسام قهراً بالجزئية، كالثياب وغيرها من ذوات القيم، فإذا سرق الشريك منها مقدار نصف دينار، وهو شريك بالنصف، فيجب القطع.
وميلُ معظم الأئمة إلى إسقاط القطع من غير تفصيل في جميع الأموال المشتركة.
هذا بيان أحد المقاصد.
__________
(1) ت 4: "حرز".
(2) زيادة من (ت 4).
(3) في الأصل: " هذا ".
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وزدناه من (ت 4).
(5) سقطت من الأصل.

(17/291)


11161 - الثاني - في أموال بيت المال، فحاصل ما ذكره الأئمة وجهان: أحدهما - أنه لا قطع أصلاً في أي مال سُرق إلا ما نستثنيه، سواء كان المأخوذ من مال الصدقات، أو من مال المصالح، فإن لكل مسلم حقاً في أموال بيت المال، حتى لو أخذ من الصدقات، ولم يكن مستحِقاً لها، فهي عتيدة لسد حاجته إذا صار من أهل ْالصدقات، وعلى هذا الأصل نفينا القطع عن الأب الموسر إذا سرق من مال ابنه، وإن لم يكن مستحِقاً للنفقة؛ لمكان يساره. هذا وجه.
ومن أصحابنا من فصّل، وقال: إن كان السارق من مستحقي الصدقات، وقد أخذ منها، فلا قطع عليه، وإن لم يكن من مستحقي الصدقات، وسرق منها، قُطع، وليس كالأب في حق ولده، فإن بينهما اتحاد من جهة البعضية ولكل واحد منهما اختصاص بمال الثاني. وإنما أموال الصدقات يصرفها الإمام إلى من يعيّنه، ولا يُعتَرضُ عليه في ذلك المعنى.
فأما مال المصالح، فإن سرق منه محتاج، فلا قطع عليه، وإن سرق منه غيرُ محتاج فوجهان: أحدهما - أنه يلزمه القطع، لأنه لا يستحق من أعيانها شيئاً. والثاني - لا قطع، فإن أموال المصالح قد تصرف إلى الرباطات والخانات وغيرها، ثم يعم نفع هذه الأشياء في الأغنياء والفقراء. هذه طريقة، والأولون ينفون القطع من غير تفصيل.
فإن قيل على طريقة التفصيل: هل توجبون القطع على الذمي إذا سرق من مال المصالح؟ قلنا: ما قطع به معظم الأصحاب أن القطع يلزمه، وإن فرض انتفاعهم بالرباطات، فذلك على طريق التبع؛ من حيث إنهم قاطنون ديارَ الإسلام. وأشار بعض المحققين إلى خلافٍ فيهم، وهذا بعيد.
وأما ما [وعدنا] (1) استثناءه، فهو الفيء المعتد للمرتزقة، فإذا سَرق منها من ليس منهم -والتفريع على أنه ملكهم- وجب القطع، [وكذلك ما أُعد من الخمس لذي
__________
(1) زيادة من (ت 4).

(17/292)


القربى واليتامى، فإذا سرق من ليس من هؤلاء] (1)، وجب القطعُ بإيجاب القطع.
والعلم عند الله تعالى. وقد نجز هذا المقصود.
11162 - الثالث - الكلام في الأملاك الضعيفة التي لا تنطلق التصرفات فيها، وذكر أئمتنا وجهين في سرقة أم الولد، قالوا أصحهما وجوب القطع، فإنها مملوكة مضمونة باليد.
ومن أصحابنا من قال: لا قطعَ؛ لنقصان الملك، وهذا غير سديد؛ فإن ما يضمن باليد، فأَخْذُهُ على حكم الاستزلال من الحرز سرقةٌ إذا لم يكن الأَخْذُ فيه شبهة، فإن القطع شرع لصون الأموال المصونة بالحرز، ولا يدخل على ما ذكرناه الحرّ؛ فإنه لا يضمن باليد، فكان لا يد فيه.
11163 - ولو كان سرق عيناً موقوفة، فالصحيح تنزيلها منزلة المستولدة من غير تفصيل، سواء قلنا: الملك فيها للواقف أو للموقوف عليه، أو لله تعالى، فقال قائلون: إن حكمنا بأن الملك في رقبة الموقوف لله تعالى، وجب القطع على السارق، كما سنذكره في سرقة أبواب المساجد. فإن قلنا: الملك للواقف أو للموقوف عليه، فعلى وجهين، لأن ملك الواقف -على قولنا: له الملك- ضعيفٌ، لحق الموقوف عليه، وملك الموقوف عليه -على قولنا: له الملك- ضعيفٌ، لحق الواقف.
وهذا ليس بشيء، لأن صاحب هذا الترتيب يشير إلى أنه لا يصفو القول بإضافة الملك إلى جهة من هذه الجهات، وهذا يتحقق إذا قلنا: الملك لله تعالى؛ فإن الملك وإن أضيف إلى الله تعالى ليس يتمحض- حقاً لله عز وجل، فالوجه تنزيل الموقوف منزلة المستولدة على الأقوال كلها.
11164 - فأما المساجد فقد أطلق أصحابنا الوفاق على أن من قلع باب مسجد [مستزلاً] (2)، وهو موقوف، وجب عليه القطع، إذا بلغ نصاباً، وأثبت اليد عليه
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل.
(2) في الأصل: منزلاً. ومستزلاً أي آخذاً خفية، كما ظهر من تعريفه للسرقة في أول كتابها.

(17/293)


بأن نقله، والسبب فيه أنه مضمون بالإتلاف واليد.
وهذا يتطرق إليه نوعان من الإشكال: أحدهما - أن القطع بهذا يوجب القطع بإيجاب القطع بسرقة المستولدة، وإن ضعف الملك فيها، لامتناع (1) بعض التصرفات. هذا وجه. والثاني - وهو أبلغ أن المساجد يشترك فيها المسلمون ويتعلق بها حقوقهم، وقد ذكرنا [التفصيل في أموال بيت المال، فيتجه من الوجه الأخير تخريج وجه في نفي القطع.
ثم قال الأصحاب] (2): إن من سرق حصير المسجد وفُرشَه المحرزَة، ففي وجوب القطع وجهان: أحدهما - لا يجب للاشتراك في الانتفاع بها، وهذا يتحقق لا محالة في أجزاء المسجد. وقال العراقيون: ما يظهر الانتفاع به، فالظاهر أنه لا قطع على سارقه؛ للاشتراك الذي ذكرناه، وما أثبت في المسجد للزينة، كالقناديل التي تزين المساجد بها، ففيه وجهان.
فانتظم في الفُرشِ وآلاتِ الزينة ثلاثةُ أوجه: أحدها - وجوب القطع. والثاني - نفي القطع. والثالث - يفصل بين ما ينتفع به وبين آلة الزينة، وكل ذلك متجه. ولكن لا ينتظم معه القطع بإيجاب القطع على من سرق جزءاً من المسجد.
ومن سرق من ثمار بستان محبّس، ولم يكن موقوفاً عليه، لا خصوصاً، ولا عموماً، وجب القطع، لا شك فيه؛ فإن الثمار مملوكة، وليست موقوفة، وإنما الحبس في الرقاب المثمّرة، وكذلك القول في دراهم المستغل.
11165 - فأما السرقة من المغنم، فإن فُصِل الأربعةُ الأخماس التي للغانمين، فالسارق منها يستوجب القطع إذا لم يكن منهم، وإن كان منهم، فالتفصيل فيه كالتفصيل في سرقة الشريك شيئاً من المال المشترك.
وأما السرقة من الخمس، فقد مضى في تفصيل مال بيت المال.
__________
(1) عبارة (ت 4): " وإن ضعف الملك فيها، إذ معنى ضعف الملك فيها امتناع بعض التصرفات ".
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4).

(17/294)


ولو سرق سارق قبل إفراز الخمس، فليقع التفريع على أنه لو سرق من الخمس لا يقطع، وإن [كان يعترض] (1) فيه حصة ذوي القربى [واليتامى] (2)، ولكن إذا أظهرنا غرضنا، لم يخف التفصيل بعده، فنقول: كأن السارق شريك بالخمس أو بما لا قطع عليه فيه، ثم يعود الكلام إلى تفصيل المال المشترك.
التفريع:
11166 - إذا وطىء الرجل جاريةً من مال بيت المال، وقلنا: لو سرق منه، لم يقطع، فلو سرق الجارية في نفسها، لم يقطع، فإذا وطئها، فالمذهب أنه يستوجب الحد، كما يستوجب الابن الحد بوطء جارية الأب، وإن كان لا يستوجب القطع بسرقتها من أبيه. والوجه الثاني - لا حدّ على الذي يطأ جاريةَ بيت المال، وهذا لا يتجه له وجه نتكلف (3) إظهاره، وقد رأيته في طريقة القاضي، [ولا] (4) يجب أن يعتد به.
11167 - ثم ذكر الأصحاب مسائل [بيّنة] (5) في قاعدة مذهبنا خالف فيها أبو حنيفة- منها أنه لو سرق ما يجب القطع بسرقته مع ما لا قطع فيه، مثل أن سرق شاة وخنزيراً معاً، فالقطع يجب عندنا في الشاة، خلافاً لأبي حنيفة، واشتهر تفريعه فيه إلى أن قال: لو سرق إناء من ذهب في بطنه ماء، فلا قطع عليه، وهذا فاسد. وقال: لو سرق مصحفاً مذهباً، والذهب نصاب، فلا قطع عليه، لأن سرقة المصحف عنده لا قطع فيه (6)، وعندنا يجب القطع بسرقة المصحف.
11168 - ومما ذكره الأصحاب أن لو شهد شاهدان، فقال أحدهما: إنه سرق ثوراً
__________
(1) في الأصل: وإن كان لا يعترض. والمثبت من (ت 4).
(2) زيادة من (ت 4).
(3) في الأصل: " ونتكلف إظهاره ".
(4) في النسختين: (فلا) والتغيير (بالواو) من عمل المحقق، وإلا فسيكون المعنى أن عدم الاعتداد به يرجع لكونه من اختيار القاضي، وهذا لا يمكن أن يكون مقصوداً.
(5) غير مقروءة بالأصل. والمثبت من (ت 4).
(6) ر. رؤوس المسائل: 498 مسألة 361، مختصر الطحاوي: 272، المبسوط: 9/ 152، تحفة الفقهاء: 3/ 154.

(17/295)


أبيض، وشهد الآخر: إنه سرق ثوراً أسود، فلا تلفيق بين الشهادتين، ولا يثبت قطع، ولا مال، فلو أراد أن يحلف مع أحدهما وقد وافقت شهادته دعواه فليفعل، وفي هذا دقائق في التفريع، ستأتي في الشهادات، إن شاء الله تعالى.
ولو شهد أحدهما أنه سرق ثوباً قيمته ربع دينار، وشهد الآخر أن قيمته سدس دينار، وقد فات الثوب، فلا يجب القطع، ولا يثبت الغُرم، إلا في المقدار المتفق عليه وهو السدس، وقال أبو حنيفة (1) يثبت الربع أخذاً بالأكثر، ولو كان التردد فيما هو نصاب عنده أو فيما دونه، فيثبت النصاب أخذاً بالأكثر، ولا يثبت القطع.
فرع:
11169 - من سرق شيئاً بالغاً نصاباً، وهو جاهل بأن قيمته تبلغ نصاباً، فالقطع واجب عليه إذا كان الجهل آيلاً إلى جنس المسروق، أو إلى قيمته. فأما إذا سرق قميصاً رثَّاً، فلما أخرجه كان في جيبه دينار، ففي وجوب القطع عليه وجهان: أظهرهما - أنه يجب، كما لو أخرج مدوَّراتٍ منقوشة حسبها فلوساً، وكانت دنانير، أو دراهم؛ فإن القطع يجب، ولا اعتبار بجهله، وهذا ما قطع به معظم الأئمة.
والوجه الثاني - حكاه القاضي (2 أنه لا يجب القطع 2) ووجهه [أنه] (3) جهل أصل سرقة الدينار في مسألة القميص بخلاف ما إذا جهل الجنس؛ فإن المسروق معلوم، والصفة مجهولة، ولا يكاد يتضح الفرق.
...
__________
(1) لم نصل إلى قول أبي حنيفة في كتب الأحناف التي راجعناها.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 4).
(3) في الأصل: " أن ".

(17/296)


باب قطاع الطريق
قال الشافعي رضي الله عنه: " رُوي عن ابن عباس في قطاع الطريق ... إلى آخره " (1).
11170 - الأصل في أحكام قطاع الطريق قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } [المائدة: 33] وقد تكلم المفسرون في سبب نزولها، والأصح اللائق بغرضنا أنها وردت في قطّاع الطريق، كما سنصفهم، ناسخةً لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من عُرَيْنة، وهم جماعة دخلوا المدينة، فاسْتَوْخموها، واستَوْبئوا هواءها، وماءها، فاصفرّت ألوانهم، ونُهكت أجسامهم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " لو خرجتم إلى إبل الصدقة، وشربتم من أبوالها وألبانها، فإنها شفاء للذَّرب (2)، فخرجوا إلى إبل الصدقة، وشربوا من أبوالها وألبانها، فآبت إليهم نفوسهم، وصحت أجسامهم، فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل، فبعث في أثرهم، فأُخذوا، فأمر حتى قطعت أيديهم، وأرجلهم، وسُملت أعينهم، -وفي بعض الروايات: وسمّرت أعينهم- وأُلقوا في الحَرَّة، فكانوا يستسقُون فلا يُسقَوْن، وكان الواحد يعض على الحجر عطشاً، حتى ماتوا، فنزلت آية المحاربة ناسخة للمثلة " (3).
ثم اعتمد الشافعي رحمه الله تفسيرَ ابنِ عباس لآية المحاربة، وقد قال في
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 172.
(2) الذّرب: داء يصيب المعدة. (المصباح).
(3) حديث العُرنيين الذين استاقوا إبل الصدقة وارتدوا، متفق عليه من حديث أنس (البخاري: الوضوء، باب أبواب الإبل والدواب والغنم ومرابضها، ح 233، وأطرافه كثيرة منها في كتاب الحدود الأبواب 15، 16، 17، 18، ح 6802 - 6805. مسلم، القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، ح 1671 ورقم أحاديث الباب 9 - 14).

(17/297)


تفسيرها: أن يقتلوا: إذا قتلوا، أو يصلّبوا: إذا قتلوا وأخذوا المال، أو تقطعَ أيديهم وأرجلُهم: إذا أخذوا المال، أو يُلحَق بهم إذا ولَّوْا، وهو نفيهم.
وذهب داود إلى تخيير الإمام في هذه العقوبات، من غير نظر إلى الجرائم، وإنما ظن ذلك؛ من حيث اعتقد ظهور معنى التخيير في (أو) وهو على رأي المفسرين للتنويع والتصنيف، لا للتخيير، وهو بمثابة قول القائل: الزاني يجلد أو يرجم، والمراد الإشارة إلى تنويع العقوبة عند تقدير اختلاف الحال.
وعن مالك (1) أن قاطع الطريق إن كان شاباً، قطعت يده ورجله من خلاف، وإن كان شيخاً ذا رأي وتدبير، قتل، وإن لم يكن على نجدة الشباب، ولا على رأي الشيوخ نُفي من الأرض.
11171 - ومقصود الكتاب يشتمل عليه [فصول] (2): أحدها - في صفة قطاع الطريق، وتمييزهم عن المختلسين.
والثاني - في تفاصيلِ حدودهم، والعقوباتِ المقامةِ عليهم، ويمزج بهذا الفصل جرائمهم التي يستوجبون العقوبات بها.
والفصل الثالث - في مآل أمرهم لو تابوا قبل الظفر أو بعده، أو عفا عنهم أولياء الدم، وإذا تمهدت هذه الفصول، كان الباقي من غرض الكتاب هيّن المُدرك.
فأما الكلام في صفتهم، فهم طائفة يرصدون الرفاق في المكامن، حتى إذا وافاهم الرفاق (3)، برزوا، وأخذوا المال، وقتلوا عن المقدرة والقوة (4)، والغالب أنهم يَشْهرون الأسلحة، ثم يقع ذلك في مكان يبعد الغوث فيه عن المستغيثين، فهذا صورة قطاع الطريق.
فلو لم يرجعوا إلى قوة، ولكن كانوا يختلسون، ثم يولّون [مرتكضين] (5) أو
__________
(1) ر. المعونة للقاضي عبد الوهاب: 3/ 1366، الكافي لابن عبد البر: 582.
(2) في الأصل: " أصول ".
(3) في الأصل: " وافوهم الرفاق ".
(4) ت 4: " عن مقدرة وقوة ".
(5) في الأصل: غير مقروءة، رسمت هكذا: (مرتكهين) تماماً رسماً ونقطاً.=

(17/298)


عادين، فهم أصحاب خَلْسٍ، ودفعُهم بالتحفظ، ولا عقوبة عليهم لله تعالى، والتعزير لا يجب عليهم (1) متحتماً، كما سيأتي أصله، فيُغَرَّمون ما يأخذون إن فاتت الأعيان (2)، وإلا ردوها بأعيانها، وإن اتفق منهم قتلٌ أو قطع، فالقصاص على تفاصيله.
ولو كان فيهم نجدة، ولكن أخذوا الرفقة حيث لا يبعد الغوث، مثل أن يقع على القرب من العمران، وأصحاب السلطان مشمِّرون وأيديهم غالبة، والأغلب تخوف (3) القطاع، فهذا من فن الاختلاس، وقد أشرنا إلى حكمه.
ثم قال الأئمة: لا يتوقف تصوير المحاربة على أن يكونوا مع أسلحة، بل [لو] (4) أخذوا الأموال بالقوى واكتفوا بالوخز (5) واللكز، والضرب [بجُمْع] (6) الكف [والصراع] (7)، فهذا قطع الطريق.
11172 - وممّا ذكره الأصحاب أن الرجل لو خرج وحده أو في شرذمة من الضَّعَفَة، واستمكن منهم طائفة لا يقاومهم الرفاق في مكان يبعد الغوث فيه، فهذا قطع الطريق.
وقد يختلج في النفس من هذا شيء؛ فإن خروج الإنسان وحده يعد تضييعاً، وكان يليق أن يكلّف المسافر ألا يخرج إلا على عُدّة وأهبة، واستظهارٍ، فإذا لم يفعل، كان ذلك بمثابة ترك المال في موضع لا يعدّ حرزاً له، وهذا يعتضد بأمر [لا
__________
=والمعنى: ولَّوْا يركضون خيولهم، أو يَعْدون على أرجلهم.
(1) ساقطة من (ت 4).
(2) ساقطة من (ت 4).
(3) ت 4: " لحوق ".
(4) زيادة من (ت 4).
(5) ت 4: " الزجر ".
(6) في النسختين: " بجميع ". والمثبت من تفسير اللكز واللكم في المعاجم.
(7) في الأصل: " والصرايح ". كذا بدون نقط. والمثبت من (ت 4) والمعنى: بالمصارعة، مع الضرب واللكز ...

(17/299)


ينكره مَنْ يمارس] (1) هذه الأحوال، وهو أن الإمام ينفض الطرق عن أهل العرامة بأيْدِه وبطْشه، وليس من الممكن إخراج آحاد الرجال عن التعرض لمستضعف، [فإن] (2) الداخل تحت الإيالة فضُّ الجماعات، ونَفْضُ الطرق عن أهل العرامات، وهذا يقرب من التصوّن اللائق بطريق الإحراز، فعلى رب المال أن يتصون جهده بالإحراز، ثم إن فرض استجراءٌ عليها، فالشرع يردع المستجرئين بالقطع. هذا وجهٌ بيّنٌ عندنا.
ولكن ما وجدته للقاضي وفي طرقٍ: أن الواحد إذا أخذه مغالب في مضيعة، فهو قاطع طريق، والرأي عندي اتباع الاعتياد، وأخذ طرفٍ من [العتاد] (3) بحيث يعد اجتماع الرفاق (4) منعة عن آحاد الرجال، في معارضة منع الأحراز، ولو [فترت] (5) بسطةُ السلطان، وثار من البلاد أصحاب العرامة، فهم عند الشافعي بمثابة قطاع الطريق إذا أخذوا وقتلوا على اقتهار.
11173 - ولو فرض جمع [من] (6) المتلصصة في طرفٍ من البلدة، وقد دخلوا داراً ليلاً بالمشاعل، وشهروا الأسلحة ومنعوا أهل الدار من الاستغاثة، حتى قَضَوْا أوطارهم، فهذا منهم استيلاء في الحال، وليس استزلالاً (7)، فقد اضطرب الأئمة في ذلك، فقال بعضهم: هم سراق؛ فإن الطلب يلحقهم على القرب، واليد الطولى من الإمام تنالهم، وقال قائلون: حكمهم حكم قطاع الطريق؛ فإن الاستيلاء ثابت في
__________
(1) في الأصل: " لا ينكره ويمارس ". والمثبت من (ت 4).
(2) في الأصل: " فلأن "، و (ت 4): " فإذا ". والمثبت من تصرّف المحقق.
والمعنى: أنه مما يدخل في أعمال الإيالة والسياسة، حماية الطرق، وتطهيرها من أهل الشِّرَّة والحدة والعنف والعدوان، وتشتيتهم وتفريق جمعهم، وليس من عملهم -أو لا يستطيعون- منع آحاد الرجال من التعرض للمستضعفين.
(3) في النسختين: " العناد ".
(4) ت 4: " الرفاع ".
(5) في الأصل: " قرب ".
(6) زيادة من (ت 4).
(7) في الأصل: " استرسالاً، واستزلالاً: أي خفيةً، ظهر هذا المعنى من تعريف الإمام للسرقة في أول كتابها. ولم أر هذا منصوصاً في المصباح، ولا المعجم، ولا القاموس المحيط، ولا اللسان. ولكنه يفهم من معاني مادة (ز. ل. ل).

(17/300)


الحال، والغوث لا يلحق غالباً، وهذا معنى التصدّي للحرابة.
فإن جعلناهم محاربين، فلا كلام، وإن لم نجعلهم محاربين، فالذي يدل عليه كلام الأصحاب أنهم سراق، ولا يبعد عندنا أن يكونوا مختلسين؛ فإن السارق بناء أمره على الاختفاء وهؤلاء يجاهرون بفعلهم، يخفون أمرهم عن صاحب الأمر، والعلم عند الله تعالى.
11174 - ومما نذكره في تتمة ذلك أنه لو ظهر جمعٌ أصحاب قوة، وصادفوا رفقة، وكانت تقاوم القطاع، [فاستبسؤوا] (1) واستسلموا حتى قُتلوا، وأخذت أموالهم، فليس هذا قطع الطريق، فإن الجمع مع الجمع إذا كانوا على حكم التقاوم والتساوي؛ فليس للقطاع والحالة هذه فضل نجدة.
وهذا يحتاج إلى فضل بيان. فإن استسلموا، ولم يدفعوا مع القدرة على الدفع فهؤلاء مُضيِّعةٌ، بلا خلاف. وهذا يقوي [ما ذكرته] (2) في خروج الرجل الفرد على خلاف الاعتياد.
ولو اقتتلوا قاصدين [ودافعين] (3)، ونال كل فريق من أصحابه، وكانت الفئتان على تقاوم، وقد [تشمّر] (4) القاصدون، ولم يقصِّر الدافعون، ثم انكفوا، وقد نال كل فريق من أصحابه، فكيف الوجه؟ وهل لما أخذه القاصدون من المال حكم ما يأخذه القطاع؟ وهل يستوجبون الحد إذا قتَلوا، ولم يتبين منهم استيلاء القهر، واستعلاء الغلبة، وقد تكون الدائرة عليهم في [الأَخَرة؟] (5).
هذا فيه تردد؛ من جهة أنهم لم يكونوا أصحاب ضعف بالإضافة إلى الرفقة،
__________
(1) في الأصل: " فاستبسلوا " وهو عكس ما يقتضيه السياق، وفي (ت 4): " فاستسبلوا "، ولا معنى لها. وما أثبتناه أقرب صورة تؤدي المعنى المناسب للسياق، فاستبسئوا: أي تهاونوا، واستسلموا، وخضعوا. (ر. القاموس، والمعجم، والأساس).
(2) في الأصل: ما ذكروه. والمثبت من (ت 4)، وهو الصواب؛ لأن هذا التوجيه انفرد به الإمام، وليس ناقلاً له عن الأصحاب.
(3) في الأصل: " مدافعين ". والمعنى: اقتتلوا: وهؤلاء قاصدون، وهؤلاء دافعون.
(4) في الأصل: " يشتمر ".
(5) في الأصل: " الآخر ".

(17/301)


والحرب سجال، ينال الإنسان فيها ويُنال، ويظهر (1) ألا يثبت لهم حكم قطع الطريق؛ إذ لا غلبة، ولا استيلاء، وسبيل الفئتين المتقاتلتين كسبيل رجلين يلتقيان أحدهما قاصد والثاني دافع، ولم يفرّ، والاحتمال الأول أن نقول: [هؤلاء] (2) ممن يتأتى منهم قطع الطريق، وإنما صادمتهم هذه الرفقة المعدّة وفاقاً، وقد يلقون رفاقاً (3) غير معدة، فالرأي أن يعاملوا معاملة أهل الحرابة. هذا تمام القول في صفة قطاع الطريق.
11175 - ويتصل به أن النسوة إذا قطعن الطريق واستجمعن الصفات التي ذكرناها، كن بمثابة الرجال، كما أنهن إذا سرقن، فحكمهن حكم الرجال، وقال أبو حنيفة (4) لا تستوجب المرأة حد قطاع الطريق، وزاد فقال: لو كان في قطاع الطريق امرأة، لم يجب الحد على واحد منهم، وكذلك لو كان فيهم مراهق، فقتلوا وأخذوا المال، لم يُقطع واحد منهم ولم يُقتل.
فصل
11176 - إذا تقرر نعت قطاع الطريق، فإنا نذكر تفصيل عقوباتهم وموجِباتها، كما وعدناه، فنقول: من أخذ منهم ربعَ دينار بالمحاربة والمجاهدة -كما تقدم- قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، وكان الأخذ على سبيل المجاهدة على سبيل التضعيف، فالأخذة الواحدة تنزل منزلة سرقتين، وقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى حدٌّ واحد.
__________
(1) ويظهر: أي يحتمل، وليس المراد هنا المصطلح الذي استقرّ عليه المذهب (الظاهر) في مقابلة الضعيف. وإنما المراد هنا مجرد (الاحتمال) وسيأتي أن الاحتمال (الأول) أي الأقوى هو المقابل لهذا.
(2) زيادة من (ت 4).
(3) رفاقاً: جمع رُففة: بضم الراء وسكون الفاء، وزان: بُرْمة وبرام. (المصباح).
(4) ما ذكره الإمام عن الأحناف رواية في المذهب نقلها صاحب المبسوط عن ابن سماعة عن محمد عن أبي حنيفة، ولكن ظاهر الرواية، واختيار الطحاوي أن النساء في قطع الطريق كالرجال.
(ر. المبسوط: 9/ 197، مختصر الطحاوي: 277، رؤوس المسائل: 500 مسألة 363، تحفة الفقهاء: 3/ 249، فتح القدير: 5/ 186).

(17/302)


ولا يشترط أخذ نصابين في مقابلة عضوين، وفاقاً.
ولو أخذ أقل من نصاب، لم يستوجب القطع. هذا ما ذهب إليه جماهير الأصحاب (1 وقال ابن خَيْران: يجب قطع العضوين، وإن قل المأخوذ، ونقص عن نصاب 1)، وزعم أن هذا قولٌ خرّجه على ما سيأتي ذكره، إن شاء الله في أن المحارب لو قتل من لا يكافئه هل يقتل به؟ فقال: إذا رأينا قتله بمن لا يكافئه؛ تغليظاً للقتل الواقع في الحرابة، فلا يبعد أن نقطع عضويه وإن نقص ما أخذه عن نصاب.
وهذا متروك عليه مزيف باتفاق الأصحاب؛ فإنا إذا أخذنا عضويه بنصاب واحدٍ، كان هذا التغليظ كافياً، هذا موجب أخذ المال.
11177 - وإن قتل المحارب ولم يأخذ المال، استوجب القتل [متحتماً، وسنعقد في تحتم القتل] (2) وما يتصل من الكلام فصلاً على أثر هذا، وقدر غرضنا الآن أنه لا يجب بالقتل المجرد إلا القتل، ومزية التغليظ بسبب الحرابة تحتُّمُ القتل، كما سنصفه إن شاء الله تعالى.
11178 - فإذن على من جرّدَ أخْذَ المال قطْعُ العضوين، وإن لم نجد له اليدَ اليمين والرجل اليسرى، قطعنا يده اليسرى ورجله اليمين، وقدرنا كأن هذا أخذٌ ثانٍ منه على حكم المحاربة. ولو وجدنا يده اليمنى، ولم نجد له الرجل اليسرى فقد قال العراقيون: نكتفي بقطع اليد اليمنى، واعتلّوا بأن قالوا: اليد والرجل في حد المحاربة كاليد الفردة في حد السرقة، ثم لو وجدنا يد السارق ناقصة، اكتفينا بما وجدنا -على التفاصيل المقدمة- فكذلك إذا وجدنا أحد العضوين اكتفينا به.
ولم أر هذا منصوصاً عليه في طرق المراوزة، ولكن الذي يقتضيه القياس ما ذكروه، ووجهه بيّن، وقد يخطر للفقيه إذا وجدنا اليدَ اليمنى، ولم نجد الرجل اليسرى، فإنا نعدل إلى اليد اليسرى بدلاً عن الرجل اليسرى؛ فإنا لو لم نجد اليد اليمنى والرجل اليسرى، لقطعنا اليد اليسرى والرجل اليمنى، وهذا لا تعويل عليه،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 4).
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4).

(17/303)


ولا وجه إلا ما ذكره العراقيون من اتحاد الحدّ، ووجدان بعض المحل، وذلك يتضمن الاكتفاء بالموجود، وفي قطع اليسار استيعاب جنس اليد وهذا ضم عذاب إلى عذاب.
11179 - ولو أخذ المال على وجهٍ يوجب القطع، وقتل، فالمذهب المشهور أنا لا نقطعه ولا نقتصر على قتله، ولكنا نقتله ونصلبه، فيكون القتل في مقابلة القتل، والتنكيل بالصلب في مقابلة أخذ المال، وأبو حنيفة (1) يقول: صاحب الأمر بالخيار إن أحب قطع وقتل ولم يصلب، وإن أحب قتل وصلب، ولم يقطع والمسألة مشهورة معه، وقال أبو الطيب بنُ سلمة من أئمة المذهب: إذا أخذ المال وقتل، قُطعت يده ورجله لأخذه المال، وقُتل لقتله، وصُلب لجمعه بين أخذ المال والقتل، ورأى ما ذكرناه محتوماً، وهذا بعيد عن القانون. وكان يكفيه إذا صار إلى هذا المذهب أن يوجب القطع والقتل من غير خِيَرة، ولكن اضطر إلى الصلب لكونه منصوصاً عليه في القرآن، وليس للصلب محلٌّ إلا في حق من يجمع بين أخذ المال والقتل.
وذكر صاحب التقريب قولاً آخر يخالف ما ذكر أبو الطيب، فقال: من أخذ نصاباً وقتل، قُطع وقُتل، ولم يصلب. وإن قتل وأخذ ما دون النصاب، لم يقطع، ولكن يقتل ويصلب، فالقتل على مقابلة القتل، والتنكيل بالصلب على مقابلة أخذ مقدارٍ من المال لا يوجب القطع.
وهذا وما حكيناه عن أبي الطيب لا أصل لهما، والمذهب ما قدمناه من القتل والصلب إذا أخذ نصاباً، وقتل.
ثم إذا فرعنا على ما هو المذهب وأردنا الجمع بين القتل والصلب، فالمذهب الصحيح أنه يقتل على الأرض، ثم يصلب قتيلاً، وذهب بعض السلف إلى أنه يصلب [حيّاً] (2) ويقتل مصلوباً، وقد حكى الشافعي هذا المذهب حكاية أشعرت بارتضاه، فصار صائرون من الأصحاب إلى أنه قولٌ للشافعي، والصحيح أنه حكايةُ مذهب الغير.
__________
(1) ر. الهداية 2/ 423، ملتقى الأبحر: 1/ 352، تحفة الفقهاء: 3/ 250.
(2) زيادة من (ت 4).

(17/304)


التفريع:
11180 - إن حكمنا بأنه يقتل مصلوباً، ففي كيفية قتله وجهان: من أصحابنا من قال: إنه يصلب حياً، ويمنع الطعام والشراب، حتى يموت جوعاً وعطشاً، وهذا مذهب بعض السلف، ولا ينبغي أن يعد هذا من متن مذهب الشافعي.
ْومن أصحابنا من قال: يقتل على الصليب بحديدة يعمد (1) بها مقتله على وجه يوحي (2). وهذا مذهب أبي حنيفة (3).
11181 - ثم إذا صلب قتيلاً، أو قتل مصلوباً، فكم يترك على الصليب؟ في المسألة قولان: أحدهما - أنه لا يترك أكثر من ثلاثة أيام. والثاني - أنه يترك على الصليب حتى يتهرّأ قال الصيدلاني: ويتفتت ويسيل ودكه عليه؛ مبالغة في الردع والتنكيل، والصليب اسم للودك، والاصطلاب [استخراج] (4) الودك، ومنه قول القائل:
" وبات شيخ العيال يصطلب " (5).
وتلك الخشبة على هيئتها سميت صليباً لسيلان الصليب عليها.
ثم قال الأصحاب: إن قلنا: لا يترك مصلوباً أكثر من ثلاثة أيام، فلو نَتُن وكان يتفاحش تغيره قبل الثلاث، فهل يُنزل من الصليب؟ فعلى وجهين. وإذا قلنا: إنه يترك حتى يسيل صديده، فقد صرح الصيدلاني بأنه يترك حتى يتساقط.
__________
(1) ت 4: يغمز.
(2) يوحي: أي يسرع.
(3) ر. المبسوط: 9/ 196، فتح القدير: 5/ 180.
(4) في الأصل: (اسحرال) كذا بدون نقط.
(5) هذا عجز بيت للكميت الأسدي، وتمامه:
واحتلّ بَرْك الشتاء منزله ... وبات شيخ العيال يصطلب
احتلّ: بمعنى حلّ. والبرك: الصدر، واستعاره للشتاء، أي جاء صدر الشتاء، ومعظمه في منزله، يصف شدة الزمان وجدبه، لأن غالب الجدب إنما يكون في زمن الشتاء. (ر. لسان العرب/مادة: ص. ل. ب).

(17/305)


وفي القلب من هذا شيء، فإني لم أر هذا لغيره، والذي ذكره بعض الأصحاب أنه يترك حتى يسيل صليبه وودكه، والتساقط يقع بعد هذا بمدة طويلة، وإذا كنا ننتظر سيلان صليبه، فلا نبالي بإنتانه؛ إذ لا بد من هذا.
11182 - ثم إذا قلنا: يترك على الصليب ثلاثة أيامٍ أو أقل، فيُنزل، ويسلّم إلى أهله، حتى يغسلوه، ويكفنوه، ويصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين.
وقال أبو حنيفة (1): لا يغسل ولا يصلى عليه تغليظاً، ولا يبعد أن يقول ذلك هاهنا، وقد صار إليه في البغاة المتمسكين بالتأويل.
وإن قلنا: يترك على الصليب حتى يسيل ودكه، فقد قال الصيدلاني: يقتل على الأرض ويغسل ويصلى عليه، ثم يصلب، ثم اتفق الأصحاب في الطرق أن الغسل والصلاة لا يتركان، وذكر وقت الصلاة والغسل الصيدلاني، وهذا الذي ذكره يتفرع على ما هو ظاهر المذهب، وهو أنه يقتل على الأرض، فإن فرّع متفرع على أنه يقتل بعد الصلب، ويترك على الصليب، فتصوير غسله والصلاة عليه عسر؛ سيّما إذا بالغنا ورأينا أن يترك حتى يتساقط، ولو قال: نجمع عظامه ونصلي عليها، كان في نهاية البعد.
فهذا منتهى القول في ذلك، نقلاً وإمكاناً، وقد انتجز الكلام في عقوبة من يأخذ المال ولا يقتل، وفي عقوبة من يقتل ولا يأخذ المال، وفي عقوبة من يجمع بينهما.
11183 - وبقي الكلام في قوله تعالى: " وينفوا من الأرض " وهذا مذكور على سياق ذكر عقوبات المحاربين، ولأصحابنا في معنى النفي من الأرض مسلكان: أصحهما -وهو الذي ذكره الجماهير- أن معنى نفيهم من الأرض إذا ولَّوْا لما شعروا بأنهم مطلوبون، فالإمام يُلحق الطلب بهم، وهم يدأبون في الهرب، وأصحاب الإمام لا يقصرون في الطلب فيتشردون مطلوبين، والغرض أن يُلحقوا، فإن كانوا استوجبوا حدوداً، أقيمت عليهم، وإن لم يقترفوا ما يوجب الحد، ولكن تجمعوا
__________
(1) ر. المبسوط: 10/ 131.

(17/306)


وتكثروا [وهيبوا] (1) وخوَّفوا، فالإمام إذا ظفر بهم بالغ في تعزيرهم على ما سيأتي مراتب التعزير، بعد هذا، في باب، إن شاء الله.
هذا هو المسلك المرضي.
ومن أصحابنا من قال: النفي من جملة العقوبات الملتحقة بالحدود، وليس المراد به الطلب إذاً، ولكن التجمع والتكثر والتهيب وتخويف الرفاق (2) يوجب النفي بعد القدرة والظفر، ثم إذا نفاهم الإمام في صوبٍ عينه لهم، حجر عليهم أن يحيدوا عنه، ولم يتركهم ينطلقوا حيث شاؤوا، والأولى أن يُسيِّبهم (3) في جهة يحتف بهم فيها أهل النجدة والبأس؛ حتى لا يتأتى منهم الترصد للناس، والعود إلى ما كانوا عليه، ثم اختلف الأصحاب، فقال قائلون ينفَوْن إلى بلدة، ثم يعزرون فيها ضماً إلى النفي، إما بالضرب، وإما بالحبس، وقال آخرون: للإمام أن يقتصر على النفي إذا رأى ذلك.
ثم قال هؤلاء: إذا رأى النفي أو الحبس، لم يبلغ مدة الحبس والنفي سنة، فإن التغريب سنة من حد الزنا، وهؤلاء ما اقترفوا موجِب حد.
وكل ذلك عندي خبط وتخليط؛ فإنهم لم يرتكبوا ما يستوجبون به حدّاً، فإن كان هذا التفي تعزيراً، فينبغي أن لا يجب، فإن ما يتعلق بحقوق الله تعالى من التعزيرات لا يُقضى بتحتمه، كما سيأتي ذلك، إن شاء الله، ثم إن كان تعزيراً غيرَ متحتم، فيبعد أن يختص بالنفي حتى (4) لا يجد الإمام منه بداً إن أراد التعزير؛ فإن أصله إلى رأيه ونظره، فإذا تخير في أصله، وجب أن يكون جنسه [وصنفه] (5) إلى رأيه، وإن صار صائرون إلى أن هذا النفيَ تعزير واجب ليس للإمام تركه، فهو مخالف لقاعدة المذهب
__________
(1) في النسختين: " وتبينوا ". والمثبت من البسيط للغزالي.
(2) الرفاق: جمع رفقة: والمعنى: وتخويف القوافل.
(3) كذا في النسختين. والمعنى أن يتركهم في جهة بحيث يكونون تحت أعين رجال النجدة وفي قبضتهم، فهم يحيطون ولا يغفلون عنهم. وليس المعنى أن يسيِّبهم يذهبون حيث شاءوا، كما هو المعنى الحرفي لكلمة (يسيبهم) بل المعنى: ألا يحبسهم، فهم مطلقون، ولكن يحتف بهم أهل النجدة.
(4) سقطت من (ت 4).
(5) في الأصل: " وصنعة ".

(17/307)


في التعزيرات التي تجب في حقوق الله تعالى. فالوجه حمل النفي على أن يُطلبوا، حتى إذا صودفوا أقيمت عليهم الحدود إن استوجبوها، وإن لم يستوجبوها، رأى الإمام رأيه في تعزيرهم.
ثم إذا كان الطلب لأجل التعزير، لم يتعين على الإمام الطلب، كما لا يتعين عليه التعزير لو ظفر بهم.
نعم، يجب عليه بالنظر الكلي (1) نفضُ جميع الطرق عن أهل الفساد، وكان شيخي يقول: من تغليطات حدود المحاربين أن الأئمة اختلفوا في أن من استوجب حداً وهرب هل يسقط الحد عنه؟ وهؤلاء إذا استوجبوا الحدود [وهربوا] (2)، فلا يجوز أن يتركوا، بل يلحق الطلب بهم؛ فإنّ تركهم يجر شراً عظيماً قد يتفاقم، ويبلغ مبلغاً يعجز الإمام عن استدراكه. وقد انتهى بعضُ التفصيل في عقوبات الحرابة.
11184 - ونحن الآن نعقد فصلاً في استيجاب القتل بالقتل في حالة المحاربة، فنقول: إذا صدر القتل من المحارب خطأ، أو على وجهٍ شبه العمد، فلا خلاف أنه لا يستوجب القتل، وإن قتل عمداً محضاً من يكافئه، وجب القتل، وهذا القتل متحتم، لا يجد ولي القتيل إلى إسقاطه سبيلاً. هذا متفق عليه.
وذكر الأئمة قولين مستخرجين من أصول المذهب في أن هذا القتل [يتمحض] (3) حقاً لله تعالى، [أم فيه حقّ لله تعالى] (4) ويشوبه حق الآدمي: أحد القولين - أنه [يتمحض] (5) حدَّاً، والثاني - أنه مشوب بحق الله تعالى، وحق الآدمي.
وبنى الأئمة على هذين القولين مسائل: أحدها - أنه لو قتل المحارب من لا يكافئه، ولا يستوجب القصاص بقتله في غير المحاربة، فهل يجب القتل عليه؟ إن حكمنا بأن قتل المحارب يتمحض حقاً لله تعالى، فلا ينظر إلى صفات الكفاءة،
__________
(1) في الأصل: " يجب عليه التعزير بالنظر الكلي ". والمثبت من (ت 4).
(2) فى الأصل: " وخرجوا ".
(3) في الأصل: " يمحض ".
(4) زيادة من (ت 4).
(5) في الأصل: " تمحض ".

(17/308)


ونقول: لو قَتَل المحاربُ ذمياً من الرفقة، والقاتل مسلم، أو قتل الحر المحارب عبداً من أهل الرفقة، أو قتل الأب ابنه، أو قتل السيد عبده، وكان عبدُه في الرفقة، فإنه يستوجب القتل حداً لله تعالى في هذه المواضع، ولا ننظر إلى الصفات التي نعتبرها في نفي القصاص.
وإن قلنا: قتل المحارب يشوبه حق الآدمي، ولا بد من رعاية صفات الكفاءة، حتى لا يستوجب المحارب القتل إلا بقتل يستوجب بمثله القصاص لو صدر منه في غير حالة الحرابة، وهذا التفريع على وجهه.
وفي قتل السيد بعبده إذا قلنا: القتل محض حق الله تعالى نظرٌ، وقد قطع القاضي بأن السيد يُقتل إذا قتل عبدَه، والعبد في الرفقة، وقال الصيدلاني: يستوجب المحارب القتلَ بكل قتلٍ محرم يقع بأهل الرفقة، إلا إذا قتل عبده، واعتلّ بأنه لا يفرض انحياز العبد عن المولى، ومصيره إلى [حزب] (1) الرفاق، فإذا وقع القتل به، فليس القتيل من (2) حزبٍ هم على اللصوص (3).
ثم لو فَرَض فارض مكاتَباً لهذا المحارب القاتل، وهو في الرفاق، فإذا فرض موت المكاتَب، انقلب رقيقاً، ولو فرض العبد مستأجَراً للرفاق، فله أن يذب سيده عن الرفقة، ولكنه مملوك [قن] (4)، والقتل يقع برقبته، هذا مسلك الصيدلاني.
والقاضي قطع بما قدمناه، وألحق القتل الواجب حداً بالكفارة التي تجب [حقّاً] (5) لله تعالى.
وإذا كنا نوجب القتل حداً على السيد على طريقة القاضي، فلا بد أن نصور له اختصاصاً بالرفقة، [ولا وجه إلا أن يكون] (6) مستأجراً لخدمة الرفاق، أو يفرض
__________
(1) في الأصل: حرب (بوضع علامة الإهمال على الراء).
(2) ت 4: فليس القتل على حزب هم من اللصوص.
(3) والمعنى أن العبد القتيل ليس قتيل المحاربين، فهو ليس حرباً عليهم؛ إذ فيهم سيده، الذي لا يتصور الصيدلاني أن ينحاز عنه.
(4) زيادة من (ت 4).
(5) في النسختين: " حدَّا " والمثبت تصرف من المحقق.
(6) عبارة الأصل: " ولا وجه له أن يكون .. ".

(17/309)


مأذوناً له من جهة السيد، والسيد قتله غير شاعر به.
11185 - ومما فرعه الأصحاب على القولين المذكورين في أن المحارب إذا قتل استوجب القتل حتماً، فلو مات قبل أن يُقتل، فإن قلنا: يتمحض قتله حداً لله تعالى، فليس لولي الدم حقٌّ في تركته، وإن قلنا: حق الآدمي مشوب بحق الله تعالى، فإذا فات الحد بفوات محله، كان لأولياء القتيل أن يطلبوا الدية من تركة المحارب القاتل.
وإذا قتل جماعةً، إن قلنا: يتمحض قتله حداً لله تعالى، لم يلزمه إلا قَتْلُه في مقابلة جميع القتلى (1 وإن قلنا: يشوبه حق الآدمي، فقَتْلُه يقع لواحدٍ منهم، فإن كان قتلهم على الترتيب، قتل بالأول، وللباقين ديات القتلى 1) وإن قتلهم دفعة واحدة، أُقرع فيما بينهم، فيقتل بمن خرجت له القرعة وللباقين الدية.
والأصح عندنا في قياس المذهب أن القتل يقع مشوباً؛ فإن من قتل في غير المحاربة استوجب القصاص حقاً للآدمي، فإذا قتل في حالة المحاربة، استحال أن يسقط حقُّ الآدمي [وقد اتفق الأصحاب على أنه إذا اجتمع في محلٍّ واحد عقوبةٌ هي حق للآدمي] (2)، وعقوبةٌ لله تعالى، فالمغلب حق الآدمي؛ فإسقاط حق الآدمي بالكلية لا وجه له.
والذي يتمم التفريع في ذلك أنا إذا قلنا: حق الآدمي ثابت في القتل، فإن (3) لم يعف ولي الدم، أقمنا الحد. والوجه أن نقول: القتل بالقتل، والتحتم حقٌّ لله تعالى، وإن عفا ولي الدم. فإن قلنا: [لا حق للآدمي في هذا القتل، فالعفو لغو، ولا حق له في الدية] (4)، وإن قلنا: حق الآدمي ثابت في الدم، فإذا قال الولي: عفوت على مالٍ، فله الدية، والمحارب مقتول حدّاً لله تعالى، وهو بمثابة مرتد
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 4).
(2) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4).
(3) ت 4: " فلو لم يعف ".
(4) ما بين المعقفين سقط من الأصل. وأثبتناه من (ت 4).

(17/310)


يستوجب القصاص، فإذا عفا ولي الدم، يرجع إلى المال، وقُتل المرتد بردته.
11186 - ونختم ما ذكرناه بمسألةٍ من الفصل الذي سيأتي إن شاء الله تعالى، فنقول: إذا قتل قاطع الطريق واستوجب القتلَ، وتاب قبل الظفر به، فسنوضح أنه يسقط ما كان حقاً لله تعالى مختصاً بالمحاربة، وأثر هذا أن تحتّم الضل يسقط، قال الأصحاب: يبقى القصاص إلى خِيَرة الولي، وقال بعض أصحابنا: هذا يفرع على أن القتل على قاطع الطريق محض حق الله تعالى أم للآدمي فيه حق؟ فإن قلنا: للآدمي فيه حق، فيبقى القصاص، وإن سقط تحتُّم القتل حقاً لله تعالى.
وإن قلنا: لا حق للآدمي، فإذا سقط القتل بالتوبة، فلا قصاص للآدمي، ولا دية، وهو كما لو مات المحارب وفات الحد، وقلنا: القتل محض حق الله تعالى، فلا دية لولي الدم، وهذا لا ينكر ضعفَه فقيه، ولكنه قياس ما قدمناه من التفاريع.
فانتظم مما ذكرناه أنا إن قلنا: للآدمي حقٌّ، بقي القصاص، وسقط التحتم بالتوبة، وإن قلنا: لا حق للآدمي، فإذا تاب قبل الظفر، ففي بقاء القصاص وجهان: أحدهما - أنه يسقط، وهو قياس هذا القول الضعيف. والثاني - لا يسقط، وهو الذي صححه الأئمة (1).
ونحن نقول: إن كان هذا هو الصحيح، فإطلاق القول بأن القتل محض حق الله تعالى لا وجه له، بل الوجه أن نقول: الغالب حق الله تعالى، أو حق الآدمي. والذي يقتضيه قياس المذهب إثبات الحق على الشَّوْب والاشتراك من غير تغليب، فإن حصل التوافق على القتل، [فذاك] (2)، وإن فات الحد، بقي حق الآدمي، وإن عفا الآدمي، فله المال، وحق الله يستوفى، فهو إذاً قتلٌ معلل بعلّتين، ولو أمكن قتلان لأثبتناهما.
__________
(1) ت 4: " القاضي ".
(2) سقطت من الأصل.

(17/311)


فصل
11187 - المحارب إذا جنى جنايةً على بعض من في الرفقة، فإذا كانت تلك الجناية لا توجب القصاص كالجائفة، وما في معناها، فلا يُجرح المحارب بسبب جرحه، وإن جنى جناية يتعلق بمثلها القصاص، مثل أن يُبين عضواً من أعضاء القصاص، فقد قال بعض الأصحاب: إن قَطَع من الجوارح، وهي اليدان والرجلان، فمعلوم أنها تُستحق (1) لله حداً، فإذا تضمنت الجناية إبانة عضو من هذه الأعضاء فيتحتم قطع ذلك العضو من المحارب، كما يتحتم قتله إذا قَتل، ثم يجري التفريع في الطرف على حسب جريانه في القتل.
ولو قطع المحارب عضواً [من أعضاء] (2) يتعلق بقطعها القصاص، ولكنها لا تُستحق حقاً لله تعالى، كقطع الأذن والأنف وفقء العين، فهل يتحتم قطع ذلك العضو منه، أم يجب القصاص على حكم الخِيَرة؟ فعلى وجهين وتوجيههما بيّنٌ، هذه طريقة.
وذهب معظم الأصحاب إلى طرد القولين في اليدين والرجلين، فقالوا: في تحتم [قطع] (3) هذه الأعضاء من المحارب إذا قطعها قولان: أحدهما - أنه لا يتحتم قطعها، [وإنما التحتم في القتل، فحسب. والثاني - أنه يتحتم قطعها] (4) ثم طردوا هذا الخلاف في الأعضاء كلها، إذا كانت أعضاءَ القصاص.
ومن جمع طرق الأصحاب نظم في الأعضاء التي هي أعضاء القصاص ثلاثةَ أقوال:
أحدها - أنه لا يتحتم استيفاؤها من المحارب، إذا أبانها. والثاني - أنه يتحتم من غير فصْل. والثالث - أن التحتم يجري في اليدين والرجلين دون غيرهما.
ولو جرح المحارب واحداً من الرفقة، وانجلى القصد والدفع، فمات ذلك
__________
(1) ت 4: " أنها مما يستحق لله تعالى حداً ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) زيادةٌ منا حيث لا وجود لها في النسختين.
(4) ما بين المعقفين زيادة من (ت 4).

(17/312)


المجروح بعد أيام مثلاً، فالقتل يجب حداً، وإن لم يتم في حالة المحاربة، ولو جرح وتاب قبل الظفر، وحصل الموت والزهوق بعد الظفر، [فالتوبة قبل الظفر] (1) هل تؤثر في إسقاط تحتم القتل؟ (2 هذا فيه احتمال؛ لأن القتل يجب عند الزهوق، وهو إذ ذاك مظفور به، ولعل الأظهر سقوط تحتم القتل 2) نظراً إلى حالة الجرح، وهذا يلتفت على مسائلَ من هذا الجنس ذكرناها في أول الجراح، منها: أن كافراً لو جرح كافراً ثم أسلم الجارح، ومات المجروح، ففي وجوب القصاص على الجارح وجهان.
فصل
قال: " ومن تاب منهم قبل أن نقدر عليهم ... إلى آخره " (3).
11188 - قاطع الطريق إذا تاب قبل الظفر به، فالتوبة تُسقط الحدودَ المختصة بالحرابة، قال الله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]. ثم قال الأئمة: العقوبات المختصات بالحرابة ثلاثة (4): التحتم في القتل إن كان قتلٌ، والصلب إن استوجبه بسببه، وقطع الرجل، فأما قطع اليد، فليس من خصائص الحرابة؛ فإن السارق تقطع يمناه، ففي سقوط قطع اليد إذا وقعت التوبة قبل الظفر وجهان: أحدهما - أنه لا يسقط، لما ذكرناه من أنه ليس مختصاً بالحرابة. والثاني - أنه يسقط؛ فإن اليد والرجل كالعضو الواحد؛ فإذا سقط قطع الرجل، لم يتبعض
الأمر، وترتب على سقوط قطع الرجل سقوط قطع اليد.
هذا إذا تاب قبل الظفر.
__________
(1) زيادة من (ت 4).
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 4).
(3) ر. المختصر: 5/ 173.
(4) إذا تقدم المعدود يجوز الموافقة في التذكير والتأنيث. نقول: العقوبات ثلاث (على المشهور) والعقوبات ثلاثة. وهذا أيضاً صحيح، وإن لم يكن دائراً على الألسن.

(17/313)


11189 - وإن تاب بعد الظفر، ففي سقوط العقوبات [مما] (1) يختص بقطع الطريق وما لا يختص به قولان، وأجرى الأصحاب هذين القولين في سائر الحدود كالقطع في السرقة، وحد الشرب، والزنا، وقد ذكرنا هذا في كتاب الحدود.
والذي نريده هاهنا أن تخصيص التوبة بما قبل الظفر وتقييدها به، يكاد أن يكون نصّاً في أن التوبة بعد الظفر لا تؤثر، ولكن من نَصَر قولَ قبول التوبة في الحدود كلها، عارض هذا التقييد أوّلاً بجريان ذكر التوبة على أثر آية السرقة؛ فإنه تعالى قال بعد آية السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] فاقتضى هذا تأثيرَ التوبة في حد السرقة، فلو قال قائل: ليس لسقوط الحد ذكرٌ في هذه الآية، وإنما ذكر الله تعالى المغفرة؟ قيل: لم يجر في التوبة قبل الظفر في آية المحاربة أيضاً ذكر الحدود وسقوطها، ولكن ذكر المغفرة في الموضعين في العقوبات الثابتة لله تعالى، ظاهرٌ في
إسقاطها.
11190 - ومما تعرض له بعض المحققين أن الله تعالى ذكر توبة المحارب قبل الظفر، ولم يقيده بالإصلاح، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} وذكر التوبة بعد آية السرقة وقيدها بالإصلاح، فقال تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} [المائدة: 39] فالتوبة المجردة قبل الظفر تُسقط الحدودَ على التفصيل المقدم من غير إصلاح الحال. وإذا قلنا بقبول التوبة (2) بعد الظفر، فنفس إظهار التوبة لا يُسقط الحد حتى ينضم إليها إصلاح الحال، وكذلك القول في سائر الحدود إذا قلنا: إنها تسقط بالتوبة.
وهذا كلام حسن مستند إلى ظاهر القرآن، وفيه طرفٌ من المعنى، وهو أن التوبة قبل الظفر في غالب الأمر لا تصدر إلا عن إضمار (3) صحيح، وإذا فرض إظهار التوبة
__________
(1) في الأصل: ما.
(2) في الأصل: " التوبة المجرّدة "، والمثبت من (ت 4)، حيث أطلقت التوبة ولم تقيدها (بالمجردة)، وهو الذي يقتضيه القياس.
(3) ت 4: " احتمال ".

(17/314)


بعد الظفر، فالغالب أنه صادر عن [ضبطٍ] (1) تحت القهر واستيلاء يد الإمام.
وهذا وإن اتجه على الوجه الذي ذكرناه، فتفريعه عسر، كما سنذكره، إن شاء الله تعالى. وهذا التفصيل يحكى عن القاضي. والأصحابُ مجمعون على أنا إذا حكمنا بأن التوبة تُسقط الحدود، فمجرد إظهارها كافٍ، وهو بمثابة إظهار الإسلام تحت ظلال السيوف.
ثم سبيل التفريع على ما ذكره القاضي أن من أظهر التوبة امتحناه سراً وعلناً، فإن ظهر الصلاح في أعماله، حكمنا بسقوط الحد، وإن بدا نقيض ذلك، فالتوبة لا تُسقط الحد.
وهذا كلام مضطرب، فإن هذا التائب إن حُبس، كان محالاً، وإن خلّي سبيله، فلا معنى لاتباعه بهناة تصدر منه، وقد [يزلّ بعضَ الزلل] (2)، ثم [لا ندري] (3) أن الإصلاح مرعيٌّ في قبيل من تاب عنه، أو في جميع الأحوال، ولا ضبط لهذا الكلام.
وأنا أقول: ذكر التوبة المجردة قبل الظفر يدل على سقوط الحد بها، وذكْر التوبة مع إصلاح العمل يدل على المغفرة باطناً، والحدود مقامة، والوجه تصحيح منع قبول التوبة إلا في المحاربين (4)، وتنزيل الكلام على الآية المطلقة والمقيّدة على ما ذكرناه.
__________
(1) في النسختين: " خبط ". ولعلها محرفة عن (ضبط) التي أثبتناها. فالضبط هو الأخْذ بالحزم والشدة والقهر. (المعجم).
(2) في الأصل: " وقد ترك بعد الزنا " وت 4: " وقد نزل بعض الزنا " والمثبت من تصرف المحقق على ضوء السياق.
(3) في الأصل: ثم لا بد في أن، والمثبت من (ت 4).
(4) ما استقرّ عليه المذهب هو ما قاله الإمام هنا،، قوله: إن الصحيح قبول التوبة في المحاربين قبل القدرة عليهم وسقوط الحد بها، وعدم سقوط الحد بها في غير المحاربين (ر. الشرح الكبير: 11/ 258، والروضة: 10/ 158).

(17/315)


فصل
قال: " ولو شهد شاهدان من أهل الرفقة ... إلى آخره " (1).
11191 - إذا شهد شاهدان من الرفقة على المحاربين وقالوا: هؤلاء تعرضوا لهؤلاء، فأخذوا أموالهم، وقتلوا منهم، وفصّلوا ما يجب تفصله، ولم يتعرضوا لقصد المحاربين إياهم، فالشهادة مقبولة، ووجهه بيّن، وليس على القاضي أن يستكشف ويبحث ويقول: هل أنتم من أهل الرفقة؟ فإن سأل عن هذا، فلهم ألا يجيبوه، وإن ألحّ، قالوا: لا يلزمنا الجواب عن هذا، وإنما عندنا شهادة أقمناها، وسيأتي نظائر هذا في الشهادات، إن شاء الله تعالى.
ولو قال الشهود: تعرضوا لنا، فذكروا أنفسهم وأصحابهم، فشهاداتهم مردودة؛ لأنهم صدّروها بإظهار العداوة، وكذلك لو شهد شاهدٌ أن فلاناً قذف أمه وفلانة، فشهادته غير مقبولة لأمه، ولا لفلانة؛ لأنه أظهر بها سبب العداوة.
ولو شهد شاهد بمالٍ مشترك بينه وبين صاحبٍ له، فشهادته لنفسه مردودة في حصته، وفي قبول شهادته لشريكه قولان، سيأتي أصلهما وتفريعهما، إن شاء الله تعالى والقدْر الذي هو غرضنا هاهنا أن الشريك بشهادته لم يظهر عداوةً توجب تعميم الرد في شهادته، فلذلك لم نقطع برد شهادته لشريكه.
فصل
قال: " وإذا اجتمعت على رجل حدود ... إلى آخره " (2).
11192 - إذا اجتمعت على رجل عقوبات، فلا يخلو إما أن يكون الكل حقاً لله تعالى، أو حقاً للآدمي، أو البعض حق لله تعالى، والبعض للآدمي، فإن كان الكل
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 173.
(2) ر. المختصر: 5/ 173.

(17/316)


حقوقاً للآدمي مثل: أن يجتمع على رجل حد قذف، وقطعُ يدٍ لإنسان قصاصاً، وقتلٌ في النفس على سبيل القصاص.
قال الأئمة: إذا ازدحم الطالبون، فالبداية بحد القذف، ثم إذا جلدناه، نتركه حتى يندمل، ثم نقطع، [ولا] (1) يتركُ حتى يندمل، بل يقتل في الحال، إذا طلب المستحِق؛ لأن المقصود إهلاك (2) الجملة، ولم يبق غيره، وإنما لم نقطعه على أثر حدّ القذف، لأنا لو فعلنا ذلك، لأوشك أن يموت بالجلد والقطع، ويفوت حق القصاص في النفس.
هكذا ذكره الأصحاب.
11193 - وفي هذا بحثٌ وفضل نظر؛ من جهة أن الحدّ، والقطعَ، والقتلَ قصاصاً لو ثبت لثلاثة نفر، فإذا أقيم الحد، فإن كان تأخير القطع بسبب إبقائه، فهو مستحَق الدم، فلا معنى لتقرير الضنّة بدمه، وإن كان السبب في الإمهال وانتظار الاندمال ألا يسقط القصاص في النفس ولا يفوت.
[فإذا] (3) اجتمع مستحق الجلد والقتل والقطع، ورضي الكافة بإقامة الحقوق وِلاءً، وقال صاحب النفس: إن كنتم تتركونه بعد الجلد لحقي، فقد رضيت، فعجلوا القطع، فهذا محل النظر: يجوز أن يقال: إذا وقع الرضا، ابتدرنا الجلد والقطع بعده، ثم القتل.
ويجوز أن يقال: لا بد من المَهَل بين الجلد والقطع؛ لأن مستحق الدم قد يبدو له ألا يقتل، وقد رُتب تقدّم الجلد والقطع على حقه. ولو أتبعنا الجلدَ القطعَ، فليس ما يفرض من موتٍ بسبب توالي العقوبتين واقعاً عن القصاص المستحق في النفس، فهذا يُفضي إلى موتٍ غيرِ معتد به، ولا سبيل إلى إهدار الروح.
وهذا الوجه أظهر وأفقه.
__________
(1) في الأصل: فلا.
(2) ت 4: هلاك.
(3) في الأصل: وإذا.

(17/317)


وإن علمنا قطعاً أنه لو جلد وقطع على التوالي، لم تَفِض نفسُه على الفور -وإن صار لما به (1) - فإذا قال صاحب النفس: عجلوا، وأنا أقبل، فيجب القطع هاهنا؛ فإن له ذلك، وما قدمناه فيه إذا كنا نجوّز أن تفيض نفسه لتوالي العقوبتين جميعاً، فنقول: لو فعل ذلك، لهلكت النفس، لا عن جهة القصاص، فلو قال القائل: إذا كان يتأتى الموالاة في أزمنة متقاربة (2) بين هذه العقوبات، فقد يخطُِر (3) لمستحق النفس أن يعفو، ولو عفا، فربما يهلك من والينا عليه بين العقوبتين؟ قلنا: هذا لا مبالاة به الآن، فلا يجوز ترك حق الإنسان بناء على أنه قد يعفو.
11194 - فخرج مما ذكرناه أن مستحِق النفس إن كان غائباً في الصورة التي صورناها، فلا وجه إلا الإمهال بين الجلد والقطع، وإن حضر وكان من الممكن لو (4) والَيْنا بين العقوبتين أن تفيض النفس بالقطع [اختراماً] (5)، فهذا محل التردد، والأظهر الإمهال، وإن كنا نعلم أن [الاخترام] (6) لا يقع، فلا وجه للتأخير عند الطلب.
وتبينا من هذا المنتهى مسألةً وهي أن من استُحِقت يدُه قصاصاً، واستُحِقت نفسه
__________
(1) كذا في النسختين: (وإن صار لما به) ولم أدر لها وجهاً، ولم أعرف ما فيها من تصحيف وهي جملة معترضة على أية حال، ومعناها -كما هو واضح من السياق- أنه يوالي بين الجلد والقطع، وإن صار بذلك إلى مماته، ما دام ستبقى فيه حياة مستقرة بعد القطع تتيح استيفاء القصاص في النفس. هذا، ولم يتعرض الغزالي في البسيط ولا الرافعي في الشرح الكبير، ولا النووي في الروضة، ولا العز بن عبد السلام في مختصره- لم يتعرض أي من هؤلاء الكرام إلى هذا المعنى مع تفصيلهم للمسألة وحكمها.
(2) ت 4: متفاوتة.
(3) يخطر: من بابي ضرب وقعد.
(4) ت 4: وإن والينا.
(5) في الأصل: (احراما) بهذا الرسم وبدون نقط. وت 4: (احتراما) كذا رسماً ونقطاً.
والمثبت تقدير من المحقق، والمعنى: أننا إذا توقعنا أن تخرج نفسه بسبب توالي الجلد والقطع، فهذا محل التردد. وذلك أن الاخترام هو الهلاك بالجوائح، وليس حتف الأنف (ر. المصباح).
(6) في الأصل: الإحرام. و (ت 4): الاحترام.

(17/318)


أيضاً قصاصاً، فالبداية بإجراء القصاص في الطرف، ولا فرق بين أن يتقدم استحقاقه للقصاص وبين أن يتأخر، فإن المرعي في هذا الباب ألا نفوّتَ على ذي حق حقاً، وهذا لا يُتلقى من الترتيب في الاستحقاق، والدليل عليه أنا نقدم حدّ الله تعالى في الاستيفاء إذا كان دون النفس على القتل المستحَق قصاصاً، وإن كان حق الآدمي في العقوبة مقدماً على الحد.
والغرض من هذا المساق أن مستحِق الطرف لو عفا عن الطرف، فالقصاص قائم في النفس، ولو لم يعف مستحق الطرف، ولكن كان يؤخر استيفاءَ القصاص، [فإجباره] (1) على التعجيل محال، وحمله على [العفو محال] (2)، وتفويت حقِّه بتسليط مستحق النفس على القتل لا وجه له.
وينتظم من هذا المجموع أن من يستحق أنملة من إنسان يتسبب إلى تأخير القصاص في نفسه، وإنما فرضنا في القصاص، (3 لأن حق الله تعالى يعجل، والإمام محمول عليه، وهذا لا يتحقق في القصاص؛ فإن مستحق الطرف في القصاص 3)، لا يُحَثُّ على [الاستيفاء] (4) ولا يؤمر بالعفو، ولا نفوِّت حقّه، ولكن مستحق النفس لو ابتدر، وقتل، وقع القصاص في النفس موقعه، ويسقط القصاص في الطرف لفوات المحل وآل أمر مستحِق الطرف إلى المال، وما ذكرناه فيه إذا كانت العقوبات حقوقاً للآدميين.
11195 - فأما إذا اجتمعت عقوبات لله تعالى، كحد الشرب، وحد الزنا بالجلد، وقطع اليد، والقتل في الحرابة، فلا بد من البداية بالأخف منها، وهذا الترتيب مستحَق، فإنا إذا فعلنا ذلك، وضممنا إليه الإمهال بين العقوبتين، كان ذلك مسهِّلاً طريق إقامة الحدود، مانعاً من الفوات في البعض، ثم إذا حددناه للشرب،
__________
(1) زيادة من (ت 4).
(2) في الأصل: " وحمله على العقوبات، وتفويت ... إلخ ".
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 4).
(4) في الأصل: " استيفاء "، والمثبت من (ت 4).

(17/319)


[نتركه] (1) حتى يندمل، ثم نحده للزنا، ونتركه حتى يندمل، ثم يقطع، فإذا بقي القتل، فلا معنى للتوقف، والإنجاز والإراحة أوْلى.
ولو كان بعض العقوبات حقاً لله تعالى والبعض حقاً للآدمي مثل: أن شرب، وقذف، وقطع يد إنسان قطْعَ قصاص، وزنى وهو ثيب؛ فحد الشرب أخف، ولكنه حق لله تعالى، وحد القذف أغلظ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنا نبدأ بحد الشرب لخفته، ولما مهدناه [من الترتيب] (2) في توفية الحقوق. والثاني - البداية بحق الآدمي وهو حد القذف؛ فإن حقه أولى بالتقديم في العقوبات، ثم نتركه حتى يندمل، ونوفي بقية الحدود على الترتيب المقدم.
ولو اجتمع حدُّ زنا البكر، وقطعُ الطرف في القصاص، فهذا يخرج على الوجهين المذكورين في حد الشرب وحد القذف إذا اجتمعا، فإن قلنا: البداية بالأخف ثَمَّ، فها هنا نبدأ بحد الزنا؛ فإن الجلد أخفُّ [من] (3) القطع، وإن قلنا: البداية بحق الآدمي، بدأنا بالقطع، ثم نمهله حتى يبرأ، ثم نحده.
هذا هو الترتيب في اجتماع العقوبات.
11196 - ومما يليق بهذا المنتهى أن المحارب إذا استوجب قطع طرفين، فقد قال الأئمة: نوالي بين القطعين ولا نمهله ليبرأ عن قطع اليمين، والسبب فيه أن قطع العضوين من المحارب حدٌّ واحد، والحد الواحد لا يتبعض استيفاءً، كما لم يتبعض وجوباً، ولو وجب عليه قطع الرِّجل قصاصاً، وقطْع اليمين عن جهة السرقة، فنبدأ بتوفية القصاص، ثم نمهله إلى أن يبرأ، ثم نقطع يمناه عن السرقة؛ فإن العقوبتين مختلفتان، ولا بد من رعاية هذا الترتيب.
والمحارب [إذا] (4) كان يستوجب قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى قصاصاً في غير حالة المحاربة، ثم حارب، وأخذ المال، فاستُحِقَّت يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم
__________
(1) في النسختين: " ونتركه ".
(2) زيادة من (ت 4).
(3) في النسختين: " في ".
(4) في الأصل: " وإذا ".

(17/320)


أجرينا القصاص في يده اليسرى ورجلِه اليمنى، فلا نقطع طرفيه الباقيين حداً حتى يبرأ، ولو قطع يمين إنسان، ووجب القصاص عليه في يمناه، ثم سرق سرقةً توجب عليه القطع، فقد ازدحم على يمناه الحد والقصاص، ولكن القصاص مقدّم، وهذا متفق عليه.
فإن قيل: [قطعتم] (1) القول بتقديم حق الآدمي في العقوبة إذا فرض الازدحام، كما صورتموه، وردّدتم الأقوال في حقوق الأموال، وقلتم في قولٍ: نقدم حق الله تعالى على حق الآدمي، فما الفاصل بين الأصلين؟
قلنا: حق الله تعالى في العقوبات يتعرض للسقوط بالشبهات، حتى انتهى الأمر فيها إلى قبول الرجوع عن الإقرار بها، وحق الآدمي في العقوبة آكد، ولا يسقط بما يسقط به حق الله تعالى؛ فاقتضى ذلك تقديم الآكد، والحقوقُ المالية وإن أضيفت إلى الله تعالى، فإنها لا تتعرض للسقوط بالشبهات، وانضاف إليه أن مصرف حقوقِ الله تعالى في الأموال للآدميين، فكأنه يجتمع فيه حق الآدمي والتأكد بالإضافة إلى الله تعالى. هذا هو الفرق بين الأصلين.
والذي يعضّد هذا أن من استحق القصاص فوافى الجاني في شدة حرٍّ أو برد، لم يجب عليه أن يؤخر الاقتصاص في الطرف، وقد نوجب تأخير الحد عن شدة الحر والبرد.
ولو جرى اقتصاص في طرفٍ، وفرض بعده استحقاق طرف في حدٍ، فإنا نؤخر استيفاء الحد إلى أن يبرأ، ولو فرض استيفاء حدٍّ في طرف، ثم وجب القصاص في طرف آخر، أو كان واجباً، فليس على مستحِق القصاص أن يؤخره.
والذي قدمناه في صدر الفصل من الإمهال بين الجلد والقطع قصاصاً مفروضٌ فيه إذا كان بعد القطع قتلٌ يخشى فواتُه، ثم فيه من التفاصيل ما مضى.
11197 - ولو وجب على الإنسان القصاص لأسبابٍ، فلم يتفق استيفاؤه حتى أخذ المال في المحاربة؛ فيجب عليه قطع اليد اليمنى قصاصاً وحداً، ويجب قطع الرجل
__________
(1) زيادة من (ت 4).

(17/321)


اليسرى حداً، فإذا طلب مستحق القصاص حقه، أجيب إليه، ثم إذا قطعت اليمنى قصاصاً، فهل نمهل المقطوعَ منه إلى أن يندمل؟ ذكر العراقيون وجهين: أحدهما - أنا لا نمهله، وهو الأقيس؛ لأن القصاص لو لم يكن، لَوالَيْنا بين القطعين، وقد تعلق وجوب الحد بالطرفين، غيرَ أنا قدمنا القصاص، ثم قلنا: بقيت الرجل للحد، فلتقطع.
والوجه الثاني - أنا نمهل؛ لأن اليد إذا قطعت قصاصاً، [فكأنها] (1) لم تكن مستحَقةً حداً، وكان لا يستحق في الحد إلا الرجل، ولو استُحِقَّ من الرَّجُل طرفان: أحدهما - عن جهة القصاص، والآخر - عن جهة الحد؛ فإذا قطع الطرف المستحَق قصاصاً، فلا بد من الإمهال إلى الاندمال.
ولو استُحِقت يمناه ورجلُه اليسرى قصاصاً، [وقَطَعَ] (2) في الحرابة الطريقَ [فاستُحِقت] (3) يدُه اليمنى ورجله اليسرى حداً، فإن طلب مستحق القصاص، مكناه من قطع الطرفين، ثم يسقط الحد بفوات المحل، على ما تمهد. وهذه المسائل، لا إشكال فيها.
ولكن [المخوف] (4) فيها على الناظر أن تزدحم عليه، ويُلهَى فكره عن التفصيل.
11198 - ومن تمام هذا الفصل أن من زنى مراراً، ولم يتخلل بين الزنيات استيفاءُ الحد، فإن كانت الحدود متفقة، وإنما يفيد فرضها بالجلد، حتى يتصور تكريرها، فإذا كان كذلك، اكتفينا بجلد مائةٍ وتغريبه عاماً، ثم لا يفضّ الحد على الزنيات، بل نقول: هو في مقابلة جملتها، وكان شيخي يقول: جملة الحد مقابل بكل زنية، وإذا انتفى عن فكر الفقيه التقسيط، فلا مشاحة بعد ذلك في العبارات.
وقد تردد العلماء على وجهٍ آخر، فقال قائلون: يجب حدودٌ على أعداد الزنيات، ثم تتداخل، وقال آخرون: الزنيات إذا لم يتخللها الحد كالحركات في زنية واحدة،
__________
(1) زيادة من (ت 4). ومكانها بياض بالأصل.
(2) في الأصل: " وقطعاً ". والمثبت من (ت 4).
(3) في النسختين: " واستحقت ".
(4) في الأصل: " الجواب ". والمثبت من (ت 4).

(17/322)


وهذا أقرب، فإن الوجوب والسقوط يجر خبلاً واضطراباً فىِ الكلام. ثم اتحاد الحد محمول على ابتناء حدود الله تعالى على الدرء والدفع، والعجب أنه لا يجب بالوطآت في نكاح شبهة إلا مهر واحد، فاشتمال الشبهة الواحدة على جميعها يجعلها كالوطأة الواحدة.
11199 - ولو زنى الرجل بكراً، ثم ثاب (1) وأحصن، فزنى مرة أخرى، فموجب الزنية الأولى يخالف موجبَ الزنية الثانية، والمذهب الاكتفاء بالرجم ومن أصحابنا من قال: يجمع بين الجلد والرجم؛ فإنهما مختلفان، ليس أحدهما في معنى الثاني (2)، فصارا كعقوبتين [لجريمتين] (3) مختلفتين، والله أعلم (4).
...
__________
(1) ثاب: أي صار ثيباً.
(2) لم يرجّح شيخا المذهب: الرافعي والنووي أحدَ الوجهين، مثلما فعل إمام الحرمين، بل اكتفيا بأن قالا: الأصح عند الإمام والغزالي أنه يكتفى بالرجم ويدخل فيه الجلد، والأصح عند البغوي وغيره أنه يجمع بين الحدين: الجلد والرجم.
ولكنهما رجّحا -عند الجمع بين الحدين- القول بدخول التغريب في الرجم، أي يجلد ثم يرجم، ولا تغريب، بل يدخل في الرجم. (ر. الشرح الكبير: 11/ 271، والروضة: 10/ 166).
(3) في الأصل: كعقوبتين ويمين. وفي (ت 4): كعقوبتين جريمتين.
(4) إلى هنا انتهى هذا الجزء من نسخة (ت 4)، وجاء في خاتمتها ما نصه:
" آخر الجزء التاسع عشرة (كذا) من نهاية المطلب، ويتلوه في الجزء العشرون كتاب الأشربة والحد فيها.
وبالله التوفيق وصلى الله على سيدنا محمد، وآله أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً".

(17/323)