نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الأشربة والحد فيها (1)
قال الشافعي رحمه الله: " كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام ... إلى آخره " (2).
11200 - التعرض لما يحل ويحرم من الأشربة والأطعمة سيأتي في كتاب الأطعمة، إن شاء الله تعالى، وغرض هذا الكتاب ذكر تحريم المسكرات، وما في معناها، ومذهبنا أن كل ما أسكر كثيره، فهو نجس. والقليل منه كالكثير في التحريم. والمسكر ما يخبل العقل ويطرب، والمحرم باتفاق العلماء الخمرُ المطلقة، وهي المتخذة من عصير العنب إذا كان نيّئاً، واشتد وغلا وقذف بالزَّبَد، ثم إسكار ما يسكر كإشباع ما يشبع وإرواء ما يَروي. ومذهب أبي حنيفة (3) مشهور مذكور في الخلاف، مردود عليه بالأخبار والآثار وطرق الاعتبار.
ثم من شرب مسكراً، فقد تعاطى محرماً. وسبيل القول في الحد أن ما وقع الوفاق على تحريمه من الخمور؛ فلا خلاف في تعلق الحد بشربه، وهو الذي قال الفقهاء: يكفر مستحله. والمعنيّ به أنه يكفر من علم أنها محرمة شرعاً واستحلها؛ فإنّ
__________
(1) يبدأ تحقيق هذا القسم من الكتاب إلى أثناء باب الجزية على أهل الكتاب على نسخة وحيدة هي (هـ 2).
(2) ر. المختصر: 5/ 174.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 277، 278، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 365 مسألة: 2058، رؤوس المسائل للزمخشري: مسألة 503، بدائع الصنائع: 5/ 112 وما بعدها، تكملة فتح القدير: 9/ 22 وما بعدها، البحر الرائق: 8/ 247 وما بعدها، حاشية ابن عابدين: 5/ 288 وما بعدها. وأما الردود بالأخبار والآثار فانظرها في: مختصر خلافيات البيهقي: 5/ 5 - 27 مسألة: 305، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 925 مسألة 1860، رؤوس المسائل الخلافية للعكبري الحنبلي: 5/ 680 - 685 مسألة: 1939.

(17/325)


استحلالَه لها مع العلم بأن تحريمها ثابت في الشرع ردٌّ للشرع، ورادُّ الشرع مكذبٌ للشارع، وإطلاق القول بتكفير مستحل الخمر لم يصدره الفقهاء عن ثَبَتٍ وتحقيق، وكيف يُكفَّر من خالف الإجماع، ونحن لا نكفر من ردّ الإجماع، بل نبدّعه ونضلّله؟ والسرّ اللطيف في ذلك أنا نكفر من يصدق المجمعين في نسبتهم ما ذكروه إلى الشرع، ثم يرده.
وأما وجوب الحد، فلا شك فيه. فإن أسلم وكان قريب عهد بالإسلام، لم يبلغه تحريم الخمر فيما زعم، فجهله يدرأ الحد عنه، وهو بمثابة ما لو تعاطى شراباً حسبه حلالاً، ولم يشعر بكونه خمراً. وإن علم التحريم وجهل الحدَّ، حُدّ.
وأما الأشربة المسكرة التي أباحها أبو حنيفة؛ فقد قدمنا قول الشافعي في إقامة الحد على الحنفي مع قبول شهادته، ونقلنا خلاف الأصحاب في كتاب الحدود، وفصلنا بين استحلال الحنفي النبيذ وبين استحلال الذمّي الخمر.
11201 - قال الشافعي: " من شرب شراباً ظنه غير مسكر فسكر، ومرت عليه مواقيت صلوات، فلا قضاء عليه " وأجمع الأصحاب أنه أراد بما قال أن ما يظنه غير مسكر في جنسه، فيكون كالمغمى عليه تمرّ عليه مواقيت الصلوات. فأما إذا علم أن جنسه مسكر، وظن أن قدره لا يسكره، فإذا سكر لم يُعذر، ويلزمه قضاء الصلوات التي تمر عليه مواقيتها في حالة السكر. وقد تمهدت هذه الأصول فيما سبق.
11202 - والذي نرى الاعتناء به التداوي بالخمر عند فرض مسيس الحاجة إليه.
وقد أطلق الأئمة المعتبرون أقوالهم في الطرق أن التداوي بالخمر محرم، وأن التداوي بها محذور، وهذا كلام مبهم متروك على إشكاله. ونحن نذكر ما بلغنا من كلام الأصحاب وننقله على وجهه، ثم نَجري على دأبنا في البحث والتنقيح وردّ الأمر إلى ما يجب تنزيله عليه.
قالوا: من غُصَّ بلقمةٍ ولم يجد شيئاً يُسيغها إلا الخمر، فيجب تعاطيها، ومن أكره على شرب الخمر، لزمه شُربُها إذا خاف على روحه، أو ما يحل محل الروح.
وقد تقدم تفصيل القول في الإكراه.

(17/326)


فلو أشفى (1) بسبب العطش، ولم يجد ما يطفىء غُلته إلا الخمرَ، تعيّن عليه شُربُها، كما يتعيّن على المضطر أكلُ الميتة. هذا قول الأصحاب أجمعين.
ثم تعرضوا للتداوي بالخمر وأجرَوْا ترتيبَ المذهب على أن التداوي بالأعيان النجسة سائغ كالترياق، وفيه لحوم الحيات وما في معناها من المعاجين التي تشوبها الأعيان النجسة، ورأَوْا الخمرَ مستثناة من الأعيان لتخصيص الشرع إياها، ثم [من آثار التغليظ فيها] (2) الحدُّ، واسترْوَحوا في ذلك إلى ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن التداوي بالخمر، فنهى عنه. وقال: " إن الله تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " (3).
ثم بلغنا عن آحادٍ من الأئمة المتأخرين التشبيب (4) بجواز المعالجة (5) بالخمر من غير تدوين ذلك في تصنيف، وإنما ترامزوا به ترامز المتكاتمين. فهذا مسلك النقل.
11203 - ومسلك التحقيق فيه: أن التداوي بالأعيان النجسة عندنا بمثابة تعاطي الميتة بسبب الضرورة، والحد الذي يجوز أكل الميتة له سيأتي في كتاب الأطعمة، إن شاء الله.
والقدر الذي نذكره هاهنا أنا نشترط العلم بأن تعاطيه يدرأ الضرورة، ثم في حد
__________
(1) أشفى: أي قارب الهلاك.
(2) عبارة الأصل: " ثم أثار من التغليظ منها الحد ".
(3) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم " أخرجه ابن حبان، وأبو يعلى والطبراني في الكبير، والبيهقي في الكبرى، كلهم من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وذكره البخاري في صحيحه تعليقاً عن ابن مسعود، قال الحافظ: وقد أوردته في تغليق التعليق إليه من طرق صحيحة. وللحديث شاهد عند مسلم من حديث وائل بن حجر أن طارق بن سويد الجعفي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه عنها وكره أن يصنعها للدواء فقال: " إنه ليس بدواء ولكنه داء ". (ر. صحيح ابن حبان: 2/ 335 ح 1388، مسند أبي يعلى: ح 6966، الطبراني في الكبير 23/ 356، البيهقي: 10/ 5، البخاري: الأشربة، باب شراب الحلواء والعسل، مسلم: الأشربة، باب تحريم التداوي بالخمر، ح 1984، التلخيص: 4/ 140 ح 2112).
(4) في الأصل: " التسبيب "، والمثبت من المحقق على ضوء المعهود من ألفاظ إمام الحرمين.
(5) في الأصل: " المعاجلة ".

(17/327)


الضرورة كلامٌ سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
فالتداوي الذي يتلقى من الأطباء في غالب الأمر لا يبلغ هذا المبلغ قطعاً. والبصير المتبحّر في الطب لا يجزم قضاءً على المريض. وهو المعني بقول بقراط: " التجربة خطر والقضاء عسر " (1). والمراد أن القضاء بماهية المرض ثم بعلاج ناجع فيه عُسر؛ فإن صناعة الطب أسندها مُسندون إلى التجارب، وهي مُخطِرة (2)، مع اختلاف القوى والخَلْق، والعاداتِ التي سبقت المرور عليها، وأسندها المحققون إلى القياس ودَرْكه، والاطلاع عليه أعسر مُدركاً من كل معضل في المدارك، فكيف يتحقق القضاء من الطبيب على بتّ هذا، والحذّاق مجمعون على إقامة الأبدال في الأدوية، وقد صنف فيها العاري (3) كتاباً معروفاً.
ثم إن تحقق ما ذكرناه -وهيهات- فالحكم بأن ينفع [ويُدِرّ] (4) العافية لا سبيل إليه؛ فإن التعويل على القوة، وهي خوانة تخون، فلا سبيل -والحالة هذه- إلى إطلاق القول باستعمال الأعيان النجسة، فإن فُرض ظهور الحاجة، وغلبةُ الظن بالنفع، فيجوز استعمال الميتة في هذه الحالة، وقد قدمنا من كلام الأئمة أن الخمرة تستعمل حيث يحل تعاطي الميتة، فلا معنى لوضع المذهب على الفرق بين الخمر وغيرها.
ومما قَضَّيت العجبَ منه أن المتأخرين أوردوا حديثاً ولم يعوه، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن التداوي بالخمر، فلم يجب عنها بل قال: " لم يجعل الله
__________
(1) معنى عبارة بقراط كما فسرها الغزالي في البسيط: " إن الحكم بالشفاء عسير؛ فإن مستنده التجربة، مع اختلاف القوى والخلق، والقياس، والعثور على حدّ العلة، ثم على الصلاح، ثم الحكم بقبول الطبيعة للشفاء، أمور موهومة، فهذا يقتضي المنع من الخمر " (ر. البسيط: 5/ورقة: 140 يمين).
(2) مُخطِرة: أخطرتُ المال (إخطاراً) جعلته (خَطَراً) بين المتراهنين.
ويقال: بادية مخطِرة: كأنها أخطرت المسافر، فجعلته (خطراً) بين السلامة والتلف (المصباح) فالمعنى أن المتداوي بين السلامة والتلف، وليس مقطوعاً بتأثيره وفائدته.
(3) كذا. ولعلها مصحفة عن (الفارابي).
(4) في الأصل: " ويدرأ ". ويُدرّ العافية: أي يستخرجها ويجلبها.

(17/328)


شفاءكم فيما حُرم عليكم " فلم يخص الخمر بمزية، بل أبان أن كل محرم، فهو كالخمر المسئول عنها، فلا يجوز الهجوم على التداوي بها بناء على غير ثَبَتٍ في جلب نفع ودفع ضرر.
11204 - ووراء ذلك إشكالٌ وانفصالٌ عنه، وهو التتمة، ولا يتأتى الغرض إلا بفرض كلام يدركه من شدا شيئاً من صناعة الطب، وليس يضرنا تبرّم الجاهل به، فنقول: من حميت منه أجرام القلب وفاتحته (1) الحمى المحرّقة، وبدت مخايل المدقوقين (2)، فلا خلاف بين أهل الصناعة أن لحوم السرطان (3) إذا طبخت بماء الشعير، فهي أنجع علاج، ثم انفكاك الحمى المحرقة عسرٌ غيرُ موثوق به. فهذا مما حصل فيه العلم بأنه العلاج، ولا ثقة بالزوال، بل لا [بظنٍّ] (4) فيه غالب. فهذا موضع النظر، وهو محلّ التردد، يجوز أن يقال: لا يسوغ الإقدام عليه، فإن الانتفاع به غيبٌ، وهو كردّ السّغب، وسورة (5) الجوع بأكل شيء من الميتة، أو كإساغة غُصة أو تطفئة غُلة بمقدارٍ من الخمر، وهذا يعتضد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم ". وكذلك امتصاص ألبان الأُتُن من أطبائها (6).
ويجوز أن يقال: هو مباح، فإنه لو ترك كان في تركه غَرَر، ولا يسوغ تعريض الأرواح للخطر، بسبب الامتناع عن تعاطي النجاسة؛ وما حرمت النجاسات إلا إكراماً للآدميين حتى يتقذروا، ويتعففوا، وهذا الغرض لا يعارض خطر الروح، ثم لو فرضت مثل هذه الحالة في التداوي بالخمر، فلستُ أعتقد بينها وبين لحوم السراطين
__________
(1) فاتحته الحمى: أي بادأته وبدأت تظهر عليه.
(2) المدقوقين: أي الذين أصيبوا بحمى الدِّق، وهي حمى معاودة يومياً، تصحب -عادة- السلّ الحاد. (المعجم الوسيط).
(3) السرطان: حيوان بحري من القشريات العشريات الأرجل (المعجم).
(4) في الأصل: " نظر ". والمثبت من عمل المحقق.
(5) السغب: الجوع مع تعب، و (سورة الجوع) شدّته وحدّته.
(6) أطبائها: جمع طُبْي: وهو لذات الخف والظلف كالثدي للمرأة، مثل قفل وأقفال، ويطلق قليلاً لذات الحافر والسباع. (المصباح).

(17/329)


فرقاً، وإن كان المنقول عن الأصحاب الفرق مع أنهم أطلقوا الكلام، ولم يفصلوه.
وسمعت شيخي في بعض مجالس الإفادة [يقول] (1): إن الخمر في المعاجين تلتحق بالأعيان النجسة وأما إذا استعملت في نفسها، فهي تنفصل حينئذ عن الأعيان النجسة، والذي يحقق ذلك أن من شرب كوزَ ماءٍ وقعت فيه قطرات من خمر، والماء غالب بصفاته، لم يحدّ، وقد تقصَّيت ذلك في كتاب الرضاع، عند ذكر اللبن المشوب، فليطلب في موضعه.
فإذا خفي الخمر في المعاجين، سقطت ماهية الخمر، وصارت عيناً نجسة، وهذا حسنٌ. على أن الرأي السديد على ما قدمناه في المنع من التداوي بكل نجس إذا لم يقطع به أو لم يعلم مثله، وإن علم أنه ناجع، فيجوز من غير فرق. وإن علم أنه العلاج والنفع مغيب، ففيه التردد. وفي كلام القاضي ما يشير إلى تجويز التداوي، وإن أبهمه ولم يفصله؛ فإنه قال: لو شرب على قدر التداوي، لم نحدّه، وهذا يشير إلى تسويغ التداوي.
وقد نجز ما ذكرناه.
فصل
قال: " ولا يحدّ إلا بأن يقول: شربت الخمر ... إلى آخره " (2).
11205 - مقصود الفصل بيان ما يَثْبُت به حدُّ الشرب. فنقول: إن أقر بأنه شرب الخمر، ثبت الحد عليه. وفيه غائلة سنشير إليها. ولو شهد الشهود على إقراره، فالجواب كذلك. ولو شهدوا أنه يشرب الخمر، فالحكم ما ذكرناه، ولو قالوا: شرب من شرابٍ في قدحٍ شرب الغير منه، فسكر، فهذا بمثابة ما لو شهدوا على أنه شرب المسكر، ولو وجدناه سكراناً، لم نحدّه؛ لجواز أن يكون قد أُوجر الخمر، أو أجبر على تعاطيها، وكذلك إذا وجدنا رائحة الخمر تفوح من نكهته، لم نحده، لما ذكرناه، ولا نسائل، ولا نلح في المباحثة.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 5/ 174.

(17/330)


وأما ما أشرنا إليه من غائلة الفصل، فهو أن الإقرار بالشرب متردد بين شربٍ يقع إجباراً [وشرب يقع اختياراً] (1)، وقد أطلق الأصحاب القول بأن الإقرار بشرب الخَمر يُثبت الحدّ، وذكروا مثلَ ذلك من الشهادة على شرب الخمر. وهذا فيه إشكال، لما ذكرناه من التردد.
وقد ذكر أصحابنا خلافاً [في] (2) أن الإقرار بالزنا هل يكفي في إثبات الحد، أم لا بد من التفصيل، والزنا عبارة عن جريمة، وشرب الخمر عبارة عن جريمة، فإنا قد نوجب شرب الخمر؛ فإذاً [يحمل] (3) لفظ الإقرار والبينة على التردد، ووجه التردد في اللفظ ما ذكرناه، أما وجه الحكم بثبوت الحد، فهو أن الإنسان لا يقر على نفسه بالشرب وكان مكرهاً، فإطلاقه الإقرار قرينةُ أنه كان مختاراً، حالة محل التصريح، وكذا القول في الشهود.
والأوجه عندي أنه لا يثبت الحد ما لم يقع التعرض للاختيار. والعلم عند الله تعالى.
...
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، وهي النسخة الوحيدة. والمثبت تقديرٌ منا.
(2) زيادة من المحقق.
(3) مكان كلمة غير مقروءة.

(17/331)


باب حدّ الخمر ومن يموت من ضرب الإمام
11206 - حقنا أن نصدّر هذا الباب بأحاديثَ وآثارٍ، ثم نُنْزل المذهبَ عليها.
روي أنه صلى الله عليه وسلم أُتي بسكران، فقال: " اضربوه، فضربوه بالأيدي، والنعال، وأطراف الثياب، وحثُوا عليه الترابَ، ثم قال؛ بكّتوه، أي عيّروه ووبِّخوه- ثم قال: أرسلوه " (1).
فلما كان في زمن أبي بكر أُتي بسكران، فأَحضر الذين شاهدوا ذلك، فقوّموه بأربعين جلدة، أي عدّلوه بها، وكان يَجلد في أيام خلافته أربعين (2)، وكذلك عمر في صدر خلافته. ثم تتايع (3) الناس في شرب الخمر، فجمع الناس، واستشارهم، فقال: " إن الناس تتايعوا في شرب الخمر، واستقلوا هذا القدر من الحدّ، فماذا تَرَوْنَ؟ وكان عليّ رضي الله عنه فيهم، فقال: " أرى أن يجلد ثمانين؛ فإن من شرب، سكر، ومن سكر، هذى، ومن هذى، افترى؛ فأرى أن يبلغ حدَّ المفترين " (4)، وكان يجلد عمر
__________
(1) حديث " أُتي صلى الله عليه وسلم بسكران فقال: اضربوه، فضربوه بالأيدي والنعال .. " رواه الشافعي، وأبو داود، والنسائي في الكبرى، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن أزهر.
(ر. ترتيب مسند الشافعي: 2/ 90 ح 292، أبو داود: الحدود، باب الحد في الخمر ح 4477، 4478، وباب إذا تتايع في شرب الخمر، ح 4487، 4489. النسائي في الكبرى، ح 5281 - 5287، الحاكم: 4/ 373 - 375، الدارقطني: 3/ 158، البيهقي: 8/ 320، التلخيص: 42/ 14، 143 ح 2115، 2117).
(2) حديث تقدير الحد في زمن أبي بكر بأربعين جلدة، روي من حديث عبد الرحمن بن أزهر المتقدم، كما روي من حديث أنس، وهو في الصحيحين (ر. البخاري: الحدود، باب ما جاء في ضرب شارب الخمر ح 6773، مسلم: الحدود، باب حد الخمر، ح 1706).
(3) تتايع: التتايع: التهافت والإسراع في الشر واللجاجة. (القاموس المحيط).
(4) خبر عمر أنه استشار فقال علي " أرى أن يجلد ثمانين، فإن من شرب سكر ... " رواه مالك في الموطأ (2/ 842)، والشافعي في الأم (6/ 180) بسندٍ فيه انقطاع، قال الحافظ: ولكن=

(17/332)


في بقية زمانه ثمانين، وجلد عثمان في خلافته ثمانين.
فلما آل الأمر إلى علي، عاد إلى أربعين، وقال: " ليس أحدٌ أقيم عليه حدّاً، فيموت، فأجد في نفسي منه شيئاً [من أن] (1) الحق قتله، إلا شارب الخمر، فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن مات [منه] (2)، فالدية على عاقلة الأمام، أو قال: في بيت المال " فالشك من الشافعي (3)، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر حتى جُلد الشارب أربعين، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من شرب الخمر، فاجلدوه، فإن عاد، فاجلدوه، فإن عاد، فاقتلوه " (4) والقتل منسوخ بالإجماع في ذلك. وإنما نقل القول البعيد عن الشافعي في القتل في الكرّة الخامسة في السرقة.
11207 - فإذا ثبتت هذه الأخبار، وقد استقصينا طرقها في الخلاف، فنقول: أجمع الأصحاب على أن الشارب يجلد بالسياط، ثم قال الأئمة: لو رأى الإمام ضرب الشارب بالنعال، وأطراف الثياب، كما نقل عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاز ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ولم يثبت فيه نسخ، ولم
__________
=وصله النسائي في الكبرى، والحاكم من وجه آخر، ورواه عبد الرزاق (المصنف 7/ 378 ح 13542). (ر. التلخيص: 4/ 142 ح 2116).
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهي في كتاب (الغياثي) للإمام، حيث أورد الحديث هناك.
(2) في الأصل: منهم. والمثبت من لفظ الحديث.
(3) رواه الشافعي في الأم: 6/ 87، 176، 179، وهو في الصحيحين (ر. البخاري: الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال ح 6778، مسلم: الحدود باب حد الخمر ح 1707).
(4) حديث قتل شارب الخمر إذا عاد مراراً، رواه أبو داود وابن ماجه من حديث معاوية بن أبي سفيان، والترمذي من حديث معاوية وأبي هريرة والنسائي من حديث ابن عمر وأبي هريرة (ر. أبو داود: الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر، ح 4482، الترمذي: الحدود، باب ما جاء من شرب فاجلدوه، ومن عاد في الرابعة فاقتلوه، ح 1444، النسائي: الأشربة، باب ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر ح 5664، 5665، ابن ماجه: الحدود، باب من شرب الخمر مراراً، ح 2573).

(17/333)


يعدل الصدّيق عنه إلا على تعديلٍ (1) وتقريب صدر عن اجتهاد، والسبب الذي سوّغ ذلك للصدّيق أنه لم ير لما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم ضبطاً يسير إلى التحديد، وعلم أن ما كان كذلك، فللاجتهاد فيه مساغ. فإذا جاز العدول إلى السياط، [فلئن يجوّزوا الضرب] (2) بالنعال وأطراف الثياب أولى. ثم الضرب معدلاً بمقدارٍ أمكنُ من تقدير ضربات ملتبسة بأربعين.
فإذا ساغ للصدّيق ما فعل، فلا منعَ من الرجوع إلى الأصل، هذا هو المذهب.
وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر أنه لا يجوز لنا الضرب بالنعال وأطراف الثياب؛ فإنا كُفينا مؤنة التعديل، وقد بعد العهد وتناسخت العصور، ونحن لو ضربنا بالنعال بين أن نحط عن القدر المستحق، وبين أن نزيد. وهذا وإن أمكن توجيهه، فالمذهب غيره، وقد نقله العراقيون، وزيفوه.
ولو رأى الإمام أن يجلد الشارب ثمانين تأسياً بما استقر عليه رأي أمير المؤمنين عمر، فالذي ذكره شيخي ومعظم الأئمة أن ذلك سائغ، على ما سنوضحه بالتفريع، إن شاء الله تعالى.
وقال القاضي: الصحيح من مذهبنا أنه لا مزيد على ما رآه الصدّيق في زمنه؛ من أنه عدله الشهادة (3) الذين شاهدوا ما جرى في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان مستندُ حكمه ما ذكرناه. والذي رآه عمر رأيٌ له، ونحن لا نلتزم أن نتبع آحاد الصحابة رضي الله عنهم، إلا ما نراه معتقداً بأوجه المسالك، ثم قال: وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يجوز تبليغ الحد ثمانين، فانتظم وجهان إذاً في هذا الطرف.
ولا خلاف أنه لا يجوز أن يتلقى من تردد الصحابة رضي الله عنهم في ذلك جواز المزيد على الثمانين.
__________
(1) تعديل: أي معادلة وتقدير ما حصل من الضرب للشارب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأربعين جلدة، فكانت هذه المقايسة اجتهاداً.
(2) في الأصل: " فلئن يجوز ويضرب ".
(3) كذا. الشهادة: بمعنى الشهود.

(17/334)


11208 - فإذا تبين ما يعاقب به الشارب، فنحن نذكر ما يتعلق بعقوبة الشارب لو أفضت إلى الهلاك.
قال الأصحاب: لو وقع الضرب بالنعال وأطراف الثياب، وأفضى إلى الهلاك، فلا ضمان. هكذا قاله الأصحاب، ولا شك أن من منع ذلك على الوجه الغريب الذي حكاه العراقيون؛ فإنه يثبت الضمان، ثم نفى الأئمة الضمان وهو مشروط بوقوع الضربات على حد يُعدَّل بأربعين جلدة من غير مزيد.
ثم قال الأئمة: إن جلدَ الإمامُ الشاربَ أربعين تأسياً بالصدّيق، فأفضى إلى الهلاك، ففي وجوب الضمان قولان: أحدهما - يجب، لما روينا عن علي رضي الله عنه، أنه قال: " إلا الشارب، فإنه شيء رأيناه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم "، وفيه معنىً، وهو أنه معدول عن المنقول عن زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما يستقيم لو لم يصح أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلد الشارب أربعين، وقد روى الأثبات ذلك. فعلى هذا إن صح الخبر يجب نفي الضمان كما يجب ذلك في حد الزنا، وحدّ القذف.
فإن لم نوجب الضمان، فلا كلام، وإن أوجبناه فالذي ذهب إليه أهل التحقيق أنا نوجب عليه الضمان بكماله؛ من جهة اتفاق العدول عما كان إلى جنسٍ آخر، وإذا اختلف الجنسان، امتنع التقسيط، ولم يتجه إلا نفيُ الضمان أو إيجابُه وكمالُه.
وذكر العراقيون وجهاً آخر أن الإمام يضمن ما بين الضرب بالنعال والضرب بالسياط، فإنه يكون أشدَّ إيلاماً وأنجعَ وقعاً، فيقدر بينهما شيء بالتقريب والاجتهاد، ويلزم ذلك القدر، وهذا الذي ذكروه في نهاية البعد، والمذهب ما ذكرناه. وقد بان حكمُ الضمان فيه إذا جلد الشارب أربعين، أو أمر حتى ضرب بالنعال وأطراف الثياب.
11209 - وأما إذا جلده ثمانين على رأي عمر رضي الله عنه، فمما نذكره في ذلك أن الأربعين المضمومة إلى أربعين غريبة في وضع الحدود والعقوبات؛ فإنا إن قدرناها من الحدّ، كان محالاً؛ فإنها زائدة على ما جرى في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم

(17/335)


وزمن الصديق، مع الاتفاق على التعديل بالأربعين، فإذا لم تكن من الحد، فضم تعزير إلى الحد بعيد، وتبليغ التعزير مبلغ الحد بعيد، والممكن في الجواب عما ذكرناه أن التعزير رآه من رآه لما يتعلق بالتصدي للافتراء والهذيان، وحد المفترين ثمانون، والأربعون الزائدة ناقصة عنها.
وإذا حصل التنبه لما ذكرنا، وجلد الشارب ثمانين، فإن رأينا تمام الضمان لو حصل الموت بالأربعين، فلا إشكال، [وإن لم] (1) نوجب الضمان بالأربعين، وهو الظاهر، فلا إشكال أنا نوجب الضمان بالثمانين. ثم اتفق الأصحاب على التنصيف، فنوجب شَطر الضمان، ونهدر شطره؛ إذ الزائد مثلُ المزيد عليه.
ولو زاد الجلاد سوطاً على حدٍّ محدودٍ، لا اجتهاد فيه، كحدّ القذف مثلاً، فإذا فرض الموت، وجب الضمان للزيادة. ثم في قدره قولان مشهوران: أحدهما - أنا نسلك طريق التنصيف، ولا ننظر إلى أعداد الجلدات بل يعدّل الضمان: يوزع بين الحق والباطل، فيهدر نصفه، ويثبت نصفه، وهذا كما لو جرح رجل رجلاً مائة جراحة، وجرحه آخر جراحة واحدة، فإذا خرجت الروح، فالدية نصفان، توزيعاً على الجنايتين ولا نظر إلى أعداد الجراحات.
ولو أمر الإمام الجلادَ أن يضرب ثمانين، فامتثل أمر الإمام، لم يتعلّق الضمان بالجلاّد أصلاً، وإن كان مختاراً غير مكره؛ لأن فعله يضاف إلى الإمام، وسنذكر إن شاء الله تعالى في الجلاّد كلاماً شافياً، في الأصل الذي يعقب هذا الفصل.
11210 - وإذا لم نعلق الضمان بالجلاد في مسألتنا، فإنا نعلقه بالإمام، ثم يجب شطر الضمان على قولٍ، وتمامه على قول.
ولكن إن أوجبنا الضمان بالأربعين، فلو أمر الجلادَ بالثمانين، فضرب أحداً وثمانين، فينتظم من الأصول (2) -إذا فُرض الموت- في هذه الصورة أوجه: أحدها - أن الدية تقسط وتبسط على الجلدات، فنجعل أحداً وثمانين جزءاً، في مقابلة أربعين
__________
(1) في الأصل: " ولم ".
(2) عبارة الأصل: " من الأصول الموت إذا فرض الموت في هذه الصورة ".

(17/336)


جلدة، فنوجب أربعين على الإمام، لأمره بالأربعين الزائدة- وإذا أضفنا على الإمام، فهو على عاقلته أو على بيت المال، وفيه كلام يأتي إن شاء الله عز وجل، وتجب واحدة من أحدٍ وثمانين جزءاً على الجلاد. هذا وجه.
والوجه الثاني - أن نجعل الضمان نصفين؛ توزيعاً على الحق والباطل، ونسقط نصفاً، والنصف الثاني نوجب منه نصفاً على الإمام، نصفاً على الجلاد.
والوجه الثالث - أنا نسقط نصفاً، ونوجب من النصف الثاني أربعين جزءاً على الإمام، وجزءاً على الجلاد.
والوجه الرابع- أنا نجعل الدية أثلاثاً، فنهدر ثلثاً، ونوجب على الجلاد ثلثاً، ونعلق بالإمام ثلثاً.
وهذه الوجوه مستندةٌ إلى الأصول إلا وجهاً واحداً، وهو قوله: نهدر نصفاً ونجعل النصف أحداً وأربعين جزءاً، بين الإمام والجلاّد؛ فإن هذا جمع بين التنصيف واعتبار عدد الجلدات، وهذا فيه اختلاط. والأمر فيه واضح.
فصل
قال: " وإن ضرب أكثر من أربعين ... إلى آخره " (1).
11211 - مضمون هذا الفصل الكلامُ في تعليق الضمان إذا أخطأ الإمام، فنقول: ما يصدر عن الإمام مما لا يتعلق بمصالح الإمامة، ولكنه من خواص أفعاله، فهو منه كآحاد الناس، فلو رمى سهماً، فأصاب إنساناً، فهذا خطأ منه، والدية على عاقلته بلا خلاف. وإن تعمّد قتلاً موجباً للقصاص، استوجب القصاص. ولا خفاء بهذا.
والفصل غير معقودٍ له.
11212 - فأما ما يعرض من أخطائه في استيفاء الحدود والتعزيرات، وإقامة
السياسات، التي هي على شرط السلامة، كما سنفصل ذلك من بعدُ، إن شاء الله
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 175.

(17/337)


تعالى، وإنما الغرض الآن اعتقاد الضمان حيث يجب، فإذا لم ينسب الإمامُ إلى تقصيرٍ بيّن، وإنما جدّ واجتهد، ولكنه زلّ وأخطأ، فاقتضى الشرعُ الضمانَ، نُظر: فإن كان ذلك في مالٍ، ففي تعلّق الضمان قولان: أحدهما - أنه يتعلّق بمال الإمام.
والثاني - أنه يتعلّق بمال بيت المال، يعني السهمَ المرصد للمصالح، وسنوجه القولين إذا استوعبنا الصور والتقاسيم.
فإن كان الخطأ في نفسٍ، فقولان: أحدهما - أن الدية على عاقلة الإمام، كما لو جرى منه الخطأ في أفعاله التي تخصه.
والثاني - أنها تتعلق ببيت المال.
التفريع:
11213 - إن حكمنا بأن الدية مضروبةٌ على عاقلته الخاصة، فالكفارة في ماله؛ فإن العاقلة لا تتحمل الكفارة. وإن قلنا: الدية مضروبة على بيت المال، ففي الكفارة وجهان: أحدهما - أنها على الإمام؛ فإن التحمل لا يتطرق إلى الكفارة، ولذلك لا تتحملها العاقلة الخاصة حيث تتحمل العقل.
والثاني - أنها في بيت المال؛ فإن المعنى الذي يوجب صرفَ الدية إلى بيت المال التخفيفُ عن الإمام، وعن عاقلته، وهذا يعم الكفارة والدية.
ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من القولين فيه إذا لم يظهر تقصير الإمام في الواقعة، فإن ظهر تقصيره، فلا خلاف أن ما يلزم لا يُضرب على بيت المال، وهذا يتبين بمثالين، فنقول: الحامل إذا زنت لا يقام الحدّ عليها، فلو أقام الإمام الحدّ على علمه بالحمل، فالغُرة إذا ألقت الجنين لا تضرب على بيت المال، بل تضرب على عاقلته الخاصة، وإنما خصصنا هذه الصورة بالذكر، لأن العمد المحض لا يتصوّر في الجناية على الجنين، ومع ذلك لم نضرب الغرة على بيت المال، وفي هذا لطيفة، وهي أن الإمام إذا أقام الحد على الحامل، فهو في الحيد عن حكم الصواب عامد، ولكنه في الجناية على الجنين على حدّ شبه العمد، وهذا التنبيه كافٍ. والمقاصد بكمالها تستوفيها الصور، ثم تضبطها التراجم على أثر الفصل.

(17/338)


توجيه القولين في الأصل:
11214 - من قال إن خطأ الإمام في إقامة أحكام الإمامة مضروب على بيت المال احتج بأن الوقائع المرتفعة إلى الإمام لا تعد كثرةً، ولا يتصوّر أن يستقلّ الإمام بالعصمة فيها، فلو كانت الغرامات المتعلقة بما يقع من خطئه مضروبة على ماله، أو على عاقلته، لافتقر، وأفضى الأمر إلى ما لا يطاق، وهو نائبٌ عن المسلمين، فاعل عنهم، وتعلّقه بالمسلمين كافة كتعلّق الجلاّد به، ثم الضمان محطوط عن الجلاد إذا لم يصدر من جهته عدوان، فينبغي أن يُحَطَّ عن الإمام.
هذا وجهُ هذا الوجه.
ومن قال بالوجه الثاني: احتج بأنه نُصب ليكون هو الناظر، ثم هو نائب المسلمين في الصواب، وأما الجلاّد، فإنه سيف الإمام، ولا نظر له، وقد يشهد لهذا القول ما روي أن عمر بن الخطاب ذكر عنده أن امرأة من نساء الأجناد يغشاها الرجال بالليل، فأرسل إليها عمر يدعوها، وكانت ترقى في درج، ففزعت فأجهضت ذا بطنها، فاستشار عمر رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم، فقال عبد الرحمن بن عوف: إنك مؤدِّب، ولا شيء عليك، فقال علي رضي الله عنه: إن اجتهد، فقد أخطأ، وإن لم يجتهد، فقد غشَّك. عليك الدية"، فقال: "عزمتُ عليك لتقسمها على قومك" (1) قيل: أراد بذلك عاقلة نفسه، وأضافها إلى علي إكراماً له وإعزازاً، وإعراباً عن اتحادهما. وقيل: أراد قوم علي لأنهما كانا من قريش يجتمعان في كعب بن لؤي بن غالب.
واختلف في قول علي: إن اجتهد، فقد أخطأ، فقال بعض المتكلفين: أراد بذلك الرسولَ، معناه: إن اجتهد الرسول في رعاية الوقت والمكان في تأدية الرسالة، فقد أخطأ، وإن لم يتعرض لتخيّر مكان وزمان، فقد غش. وهذا بعيد.
والصحيح: أنه أراد بما قال عبدَ الرحمن بنَ عوف. وكان قد يغلظ البعض على البعض القولَ في المناظرات.
__________
(1) أثر عمر والمرأة التي أرسل إليها فأجهضت، سبق تخريجه في الديات.

(17/339)


11215 - وإذا تمهد القولان وتفريعهما، فإنا نذكر صوراً ونخرّجها على ما مهدنا: فإذا ضَرَبَ في الشرب أربعين، فمات المحدود، وأوجبنا الضمان، ففي المسألة قولان. وإن جلد الشاربَ ثمانين، وقلنا: له ذلك على شرط سلامة العاقبة، ففي تضمينه قولان أيضاً؛ فإنا نجوز له من طريق السياسة أن يفعل ما فعل، والتعزيرات إذا أفضت إلى الهلاك، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى إن لم يظهر تقصيره فيها، ففي محل الضمان قولان، وإن ظهر سرفُه ومجاوزته الحد، فهذا يختص به قولاً واحداً- والتعويل على ما قدمناه من ظهور التقصير، ووقوعِ الأمر خطأ [في] (1) الاجتهاد في إقامة السياسة.
11216 - ومن الصور التي نذكرها ملتحقة بخطأ الإمام أنه لو شهد عنده على العقوبة شاهدان، فعليه البحث عن أحوالهما، فإن لم يفعل وترك البحث، وأجرى العقوبة، فالذي جاء منه ليس من خطأ الأئمة؛ فإنه تناهى في التقصير، وترك ترتيبَ الخصومة، والقيامَ بما هو مأمور به من البحث والتنقير، فإذا بانا عبدين أو فاسقين أو كافرين، فالإمام يختص بالضمان إذا حكم، قولاً واحداً.
وإنما يتردد نظر الفقيه في وجوب القصاص، والأظهر الوجوب إذا تحقق الزلل؛ فإن الهجوم على القتل ممنوع منه بالإجماع، وقد يُحتمل أن يقال: أسند القتل إلى صورة التثبت، فيندفع القصاص، وهذا له التفاتٌ إلى صورتين يضطرب الرأي فيهما: إحداهما - أن يقتل الإنسان مسلماً في ديار الكفر على زي مشرك، ثم يبين أنه كان مسلماً، فلا قصاص، وفي الدية قولان.
والصورة الأخرى: أن يقتل مسلماً في ديار الإسلام على زي المشركين، ففي وجوب القصاص قولان، وقيام الشهادة وصورتها لا ينقص عن زي مشرك في دار الإسلام، ومن الصور الناظرة إلى هذه المسائل، ما لو قتل رجلٌ رجلاً، وقال: حسبتُه قاتلَ أبي. فهذه مسالك النظر ومجامع الرأي، [وليست] (2) غرضَ الفصل.
__________
(1) في الأصل: " من ".
(2) في الأصل: " وليس ".

(17/340)


11217 - فأما إذا بحث عن أحوال الشهود، ولم يظهر منه تقصير، ثم بان الشهود عبيداً، أو كفرة، أو مراهقين، فلا شك في وجوب الضمان، ثم يعود القولان في أن الضمان يتعلق بعاقلة الإمام المختصين به، أم يتعلّق ببيت المال، وقد تقدم التوجيه والتفريع.
والذي نزيده أن الأئمة قالوا: إذا جرى الغرم، ثبت الرجوع على الذين تصدَّوا للشهادة، والسبب فيه أنهم تعرّضوا لمنصب ليسوا من أهله، حتى جرّ ذلك قتلاً أو إتلافَ مال، ونحن نقول: من ليس من أهل الشهادة، وعلم ذلك من نفسه، فليس له أن يتعرّض لإقامة الشهادة، وإن كان صادقاً، فهذا سبب الرجوع، [وأشبه أصلٍ بما نحن فيه] (1) الغرم الذي يثبت على المغرور في قيمة الولد مع ثبوت حق الرجوع على الغارّ، ولعلّ الشاهد أقوى في هذا المعنى، لأنها (2) تحمل القاضي حمل اضطرار، والمغرور مستبيح لا ضرورة به. هذا هو المذهب الظاهر.
11218 - وذكر بعض المحققين وجهاً آخر أنه لا رجوع على الشهود، وذلك أن القاضي أُتي من تقصيرٍ خفي في البحث، فارتبط الضمان بجهته وانحصر، وليس كالغار والمغرور، وذلك أن المغرور لا يُلزمه الشرعُ بحثاً، بل له الجريان على ظاهر الحال، والشرع يُلزم القاضي التناهي في البحث، فإذا وقع ذلك، كان محمولاً على ترك البحث، فإن لم نُثبت الرجوعَ، فلا كلام.
وإن أثبتنا الرجوعَ، نُظر: فإن كان الشاهد كافراً، فالرجوع عليه بيّن، ويرجع على الكافرَيْن اللذَيْن شهدا في الحال، وإن بان الشاهدان عبدين، والتفريع على إثبات الرجوع، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الرجوع به يتعلق بذمّة العبدين يُتبعان به إذا عَتَقا. والوجه الثاني - أن المرجوع به يتعلق برقابهم؛ فإن هذا غرمٌ يلزمهما عن جهة معاملة صَدَرُها عن رضا من له الحق، وإنما يتعلق بذمة العبد ديون المعاملات الصادرة عن رضا أصحاب الحقوق من غير إذنٍ من السيد، والشهادة بهذه المثابة.
__________
(1) في الأصل: " وأشبه فيه أصل مما نحن فيه ".
(2) لأنها: أي الشهادة.

(17/341)


وهذا متجه، ولكنه غريب عديم النظير؛ من جهة أنه جناية قولية ليس فيها اضطرار محقق، وإنما الأمر مظنون.
فأما إذا بان الشاهدان مراهقين، وقد يمكن التباس ذلك -بأحوالٍ تعرض فيهما من بقول (1) الوجه، وطول القامة وغيرهما من الصفات- على القاضي، ولم يتعرض الأصحاب للمراهقَين، والمفهوم من فحوى كلامهم أن لا رجوع عليهما، إذ لا قول لهما، بخلاف الكافرَيْن، والعبدَيْن.
...
ثم قال: " ويجوز تعليق الضمان بهما، إذا قلنا: قول العبد بمثابة الجناية، فإن الجناية الحسيّة تصدر من الصبيان صُدورَها من البالغين " (2).
11219 - ولو بان الشاهدان فاسقَيْن، ففي انتقاض القضاء خلاف واختلاف، على ما سيأتي في الشهادات، إن شاء الله عز وجل.
فإن قلنا بانتقاض القضاء -كما إذا بان الشاهدان كافرين أو عبدين، أو مراهقين- فالقاضي يغرم إذا أضفنا الغرم إليه، ولا تقصير في الظاهر. هو إشارة منا إلى القولين في أن الغرم يختص به أو بعاقلته، أم يتعلق ببيت المال، وهل بيتُ المال له الرجوع على الفاسقين؟
فإن قلنا بالرجوع على الكافر والعبد، ففي الفاسق تفصيل. فإن كان ما رآه القاضي فسقاً مجتهداً فيه، فلا رجوع على الفاسق قولاً واحداً؛ فإنه مصر على شهادته وعلى أنه من أهل الشهادة.
ولو كان ما فُسّق به مما يوجب التفسيق وفاقاً، ففي هذا نظر: فإنا بلغنا عن مذهب أبي حنيفة (3) أن الفاسق من أهل الشهادة، وقيل: إنه استثنى من ذلك حدّ الزنا، وقيل: إن كان فاسقاً كذوباً يغلب على القلب كذبه، فليس من أهل الشهادة. وأطلق
__________
(1) بقل وجه الغلام بقولاً: إذا نبت شعْره (المعجم).
(2) لم أصل لهذه العبارة في المختصر المطبوع الذي بين أيدينا. وتكرر ذلك أكثر من مرة مما يشهد بأن هناك فرقاً بين النسخة المطبوعة والنسخة التي كانت بين يدي الإمام.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 335، تحفة الفقهاء: 3/ 363، تبيين الحقائق: 3/ 191.

(17/342)


أبو حنيفة كونَ الفاسق من أهل الشهادة، وكذلك قضى بانعقاد النكاح بحضور فاسقين، وجعل الفاسق من أهل اللعان، ولا تعويل على مذهبه في طلب القواعد، فإنه حكم بانعقاد النكاح بحضور محدودَيْن في القذف، ولم يجعل المحدود من أهل اللعان.
ولنا عَوْصاء (1) بالتنبيه على ذلك أن الأصحاب أطلقوا أقوالهم بأن القاضي لا يرجع على الفاسق؛ فإن الفاسق من أهل الشهادة على رأيٍ. وهذا فيه نظر؛ فإن العبد من أهل الشهادة عند شطر الأمة، وهو من أهل الرواية بلا خلاف، فينبغي أن يكون مأخذ هذا من أصل آخر، وهو أن نقول: إن كان التفسيق مجتهداً (2) فيه، فلا رجوع بما ذكرناه، وإن كان التفسيق بما يوجب التفسيق وفاقاً، فيحتمل أوجهاً: أحدها - ثبوت الرجوع بما ذكرناه في الكافر والرقيق. والثاني - أن لا رجوع أصلاً، لأن الفاسق مأمور بكتمان فسقه، والعبد والكافر مأموران بإظهار حالهما. والثالث - أنه إن كان مستسرّاً بالفسق مكاتماً، فلا رجوع، وإن كان معلناً بالفسق غير مبالٍ به، فهو كالرقيق، وهذا يقرب من اختلاف الأصحاب في أن المعلن بالفسق لو شهد، فردّت شهادته ثم أظهر العدالة وأعاد الشهادة، ففي قبول تلك الشهادة خلاف.
هذا منتهى القول في الصور التي أردنا ذكرها في غلط الإمام. ثم ذكر الشافعي على أثر هذا الكلامَ على الجلاد، وهذا لائق بهذا المنتهى.
11220 - قال: " وليس على الجالد شيء ... إلى آخره " (3).
الجلاد سوطُ الإمام وسيفُه، فإذا قَتل وقَطع وجَلد- وهو يُصدر جميعَ أفعاله عن أمر الإمام- فلا يتعلّق به ضمان إذا لم يكن مطلعاً على حقيقة الحال، وإنما يَتَّبِع، ويرتسم، ولا يُشترط أن يكون مكرهاً؛ فإنا لو شرطنا ذلك، ضاق التصرف على الإمام، واحتاج إلى التكفل بالجلاد، والتوثق منه بالحبس، وذلك يخالف قاعدة الشرع وسِيَر الأولين، ولو راعينا الإكراه، لخرّجنا الجلاد على اختلاف الفقهاء في
__________
(1) عوصاء: أي شدة ومشكلة. (المعجم).
(2) في الأصل: " مجتهد ".
(3) ر. المختصر: 5/ 176.

(17/343)


المكرهين. فقد تأسس الشرعُ على أن الجلاد لا ينتاط به غرمٌ ولا طِلْبَة، وأمرُه من النوادر؛ فإنه قاتلٌ مباشر مختار، لا يتعلّق به في القتل بغير حق حكم، والكفارة من أسرع أمرٍ يثبت في القتل، ولا كفارة على الجلاّد.
ثم ينشأ من هذا أن الإمام إذا ظلم، وأمر بالقتل من غير إكراه، فالقصاص واجب عليه، فإنا إذا أقمنا الجلاد سيفاً، فالإمام في حكم الضارب به، ويترتب على هذا الأصل أن الجلاد ليس عليه بحث، وإنما عليه انتظار المراسم والابتدار إليها؛ إذ لو تعيّن عليه ذلك، لما تولى الأمرَ إلا ذو نظر. وذلك يطول. ثم ما ذكرناه في الإمام الحق.
فإن فرض متغلبٌ في الدهر، وشغورُ الزمان عن الإمام، فالقول في ذلك يطول، وقد نرى تعليق الأحكام بالمتغلّب، وهذا عمرةُ (1) أحكام الإيالة، وقد فرّعنا أبوابها في الكتاب المترجم (بالغياثي).
11221 - ولو علم الجلادُ أن القتل ظلم إجماعاً، وهو مختار، فإذا قتل، التزم القصاص، فإنه إنما يؤجر بالامتثال فيما يعلم كونَه حقاً، أو فيما يعتقده حقاً، وهو يتبع فيه رأي الإمام تقليداً، فأما إذا علم أن القتل ظلم، فلا يحل له الإقدام، ولا إكراهَ حتى يُخرَّجَ فعلُه على تردّد العلماء، وإذا كان كذلك، فلا ضمان على الآمر؛ فإن أمره حيث صوّرنا ليس إجباراً، والمباشرة تامة، فلا أثر للسبب معها.
ولو قتل الجلاّدُ رجلاً، ثم قال: كنت أعتقد تحريم قتله، ولكني قلتُ: لعل الإمامَ اعتقد تحليله على رأي بعض العلماء، وتصوير ذلك أن حُرّاً لو قتل عبداً، فقتله الجلاّد بأمر الإمام، وهو يعتقد أن الحرّ لا يقتل بالعبد، والإمام كان يرى وجوب
__________
(1) عمرة أحكام الإيالة: بالعين المهملة: أي تاج أحكام الإيالة ورأسها، وأُسّها، فالعمرة كل شيء على الرأس من عمامة ونحوها، والفاصلة بين حبات العقد. (المعجم) وهذا اللفظ يجري على لسان الإمام كثيراً.
أما إذا قرأناها: غمرة. بالمعجمة، فمعناها واضح، وهي الشدة والمضطرب والمتاهة، أي دقائق أحكام الإيالة وأخطرها التي تحتاج إلى اتئاد وكد فكر وإعمال نظر.

(17/344)


القصاص على الحرّ، فهل يضمن الجلاّد؛ من حيث إنه خالف اعتقاد نفسه؟ ذكر العراقيون في ذلك وجهين: أحدهما - أنه يلزمه الضمان، اعتباراً بعقده، وكونِه مختاراً. والثاني - لا يلزمه اعتباراً باعتقاد الإمام. ثم قالوا: إذا علّقنا الضمان بفعل الجلاّد، فهو قصاص؛ فإنه قتل حُرّاً بغير حق على موجَب عقده، وصار كما لو فعل ذلك من غير أمر الإمام. وإن قلنا: الحكم لاعتقاد الإمام، فلا شيء على الجلاد أصلاً، وكان لا يبعد لو درأ القصاص وأثبت المال (1) والكفارة. ولكن الذي ذكروه هذا.
11222 - وهذا التردد ينتج كلاماً، وهو أن الجلاّد هل له أن يخالف عقدَ نفسه، ويتبع عقد الإمام؟ فعلى وجهين. فإنا قلنا: لا ضمان عليه مع كونه مختاراً، فهو مبني على أن له أن يُقدم عليه، ولهذا نظائر: منها أن يقضي القاضي الحنفي للشافعي بشفعة الجوار، أو بالتوريث بالرحم والرّد، فهل يحل للمقضي له ما يجرى القضاء به؟ فيه اختلاف، رمزنا إليه فيما تقدّم، وسنذكر أصله وحقيقته في آداب القضاء، إن شاء الله عز وجل. وامتثال الجلاد أمر الإمام فيما نحن فيه أَوْجَه، وإن كان يخالف عقده، لأن أمر الإمام مطاعٌ ممتثل، وحقه أن يُتّبع، وإقامة العقوبات ليست حقَّ الجلاّد، وإنما هو فيها متابع متَّبِع، والمقضي له بالشفعة على خِيَرته في ترك حق نفسه، وكان الوجه ألا يحلّ له ما يجرى القضاء به إذا خالف عقده، فإن القضاء لا يغير أحكام البواطن، وهذا ظاهر في الفرق.
والوجه عندنا القطع بأنه لا يحلّ للشافعي أن يأخذ ما يخالف معتقده، ورَدُّ الخلافِ إلى أنه هل يمنع من ذلك ظاهراً؟ فيقال: إن دعواك هذه باطلة، بمخالفتها عقدك؟ ويجوز أن يقال: لا يتعرض له في ظاهر الأمر، لجواز أن يكون منتحلاً هذا المذهب. فأما ذكر الخلاف في الاستحلال باطناً، فبعيد، والتردد الذي ذكرناه في الجلاد متجه لما أشرنا إليه من الاتباع ومعاونتِه على ما يريد إمضاءه موافقاً لعقده.
__________
(1) المال: المراد الدية.

(17/345)


11223 - ثم صوّر العراقيون صورة على عكس ما تقدّم، فقالوا: لو كان الإمام لا يعتقد وجوب القصاص على الحر بقتل العبد، ولكنه أمر بقتله بغير فحصٍ وتجسيس، ولو اطلع، لمنع قتله، وكان الجلاد يعتقد أن الحرّ مقتولٌ بالعبد، فإذا قتله على موجب عقد نفسه.
قالوا: إن قلنا في المسألة الأولى: إنا نعتبر رأي الإمام، ففي هذه المسألة يجب القصاص، اعتباراً برأي الإمام، فإنه لو اعترف (1) حقيقةَ الحال، لما أمر بالقتل، والجلاّد عارف إن لم يكن الإمام عارفاً، وقد فرّط لما لم يُخبر الإمامَ، فصار كأنه قتل بنفسه من غير إذنٍ من الإمام.
وإن قلنا في المسألة المتقدمة: إن الاعتبار بعقد الجلاد، ففي هذه المسألة احتمال [عدم إيجاب القصاص] (2) على الجلاد؛ تعويلاً على عقده، وقد وجد الأمر من الإمام على الجملة. وهذا الوجه عندي ضعيف في هذه الصورة؛ فإن الجلاد مختارٌ عالم بحقيقة الحال والإمام لو أُخبر، لما أمر، فلا يبقى لأمر الإمام هاهنا أثر الاستتباع، والسبب فيه أن الإمام لا يفوِّض إليه الاجتهاد، وإنما استعمله للعمل فحسب، فإذا امتنع عمله بعقده، واقترن بأمر الإمام جهله بحقيقة الحال، صار الجلاّد مستقلاً بالقتل.
ثم لو أَخبر الإمامُ الجلادَ بأنه ظالم، فتابعه الجلاد، فعليه الضمان (3). وهذا على القطع فيه إذا كان الإمام مُكرِهاً، والجلاد محمولاً مكرهاً، ثم يخرج فيه تفاصيل الإكراه. فأما إذا كان الجلاد مختاراً، فلا يتوجه الضمان على الإمام قطعاً، وهذا لا خفاء به. وعلى هذا الوجه فصّله الأصحاب، والصيدلاني، وهو مما لا يتمارى فيه.
__________
(1) اعترف القومَ استخبرهم وعرف حقيقتهم (المعجم).
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) أي على الإمام.

(17/346)


فصل
قال: " ولو خاف نشوز امرأته ... إلى آخره " (1).
11224 - للزوج تأديب زوجته إذا نشزت، والأب يؤدب ولده، والمعلّم يؤدب الصبي، ولكن هؤلاء المؤدِّبين مطالبون شرعاً بأن يقتصروا على ما يقع التأديبُ به، على شرط السلامة، وتحقيق هذا أن التأديب لو كان لا يحصل إلا بالضرب المبرِّح الذي يُخشى من مثله الهلاك، فلا يجب تحصيل التأديب، وليس هذا بمثابة عمل الأجير في تحصيل الغرض الملتمس منه في العين المملوكةِ المسلَّمةِ إليه؛ فإن المستأجِر إذا التُمس منه ما لا يتأتى تسليمه إلا بعيب يلحق العين المسلّمة إليه، فإذا حصل الغرض، ولحق العيب، لم يجب الضمان، على الرأي الظاهر، كما فصلناه.
وإن كان التأديب يحصل بما لا يُفضي إلى الهلاك، يباح تحصيله، وإن لم يجب.
وقال المحققون: إذا كان لا يحصل التأديب إلا بالضرب المبرِّح، فلا يجوز الضرب الذي لا يبرّح أيضاً، فإنه عريٌّ عن الفائدة. ثم إذا اعتقد المؤدب أنه اقتصر واقتصد، واتفق الهلاك، فنعلم أنه مخطىء في ظنه، فإن القتل لم يحصل إلا لمجاوزته الحدَّ.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن قتيل التعزير مضمون، فإن كان التعزير على حدّ الإسراف، فهو قتلُ عمد إذا كان يُقصد بمثله القتل غالباً، وإن كان بحيث لا يقصد به القتل، فهو شبه عمد، وليس خطأ. وإن كان التحصيل في الأصل جائزاً. وهذا من لطيف الكلام.
11225 - وأما الإمام إذا عزر، فأفضى تعزيره إلى الهلاك، فنقدم على هذا القولَ في أن التعزيرات هل تُستحَق؟ أطلق الأئمة الأقوال بأنها لا تجب، وهي مفوّضة إلى الإمام، واستدلوا بترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعزيراتٍ في وقائعَ أساء أصحابها آدابهم.
وهذا الكلام لا مزيد عليه، ولكنه يحتاج إلى فضل بيان، فليس ما ذكرناه من
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 176.

(17/347)


التفويض إلى الإمام تخيّراً صدَرُه الإرادة من غير سبب، ولكنْ حقٌّ على الإمام أن يرعى مصالح الخلق، فإن رأى إقالةَ عثرةٍ، وجرَّ ذيل الصفح على هفوة، فليفعل ذلك. ولا يسوغ والحالة هذه التعزير، وإن غلب على ظنه أن وجه الاستصلاح في ضرب من تعرّض للتعزير، فحق عليه أن يضرب.
والحدود تتميز عن التعزيرات بأنها إذا ثبتت، فلا اجتهاد ولا تردد فيها، وقد قطعت النصوص رأيَ كل ذي رأي فيها، فلا وجه إلا إقامتُها إذا حُقت، وإن ثبت ما يدفع ويدرأ، فلا وجه للإقامة، والتعزيراتُ مفوضة إلى الاجتهاد. هذا مراد الأئمة لا غير.
ثم قتيل التعزير مضمونٌ؛ من جهة أن الإمام يجب عليه الاقتصار في التعزير على المبلغ الذي لا يُهلك، كما ذكرناه في تعزير الزوج، والولي، والمؤدب، فهذا مأخوذ على الإمام، وهو مؤاخذ بما ذكرناه، وليس هذا عن جهة خروج التعزير عن المقدار المتلقى من التوقيف، فإنا لا نضمِّن الدافع (1) إذا رأيناه مقتصراً على حاجة الدفع، وإن لم تكن أبوابه محدودة توقيفاً، ولكن قيل: لا موقف لك، فاتبع حاجتك في الدفع، وإن أتى على القاصد (2).
وليس للإمام أن يعزر إلى حصول القتل، بل إلى حصول التأدّب.
11226 - ومما تردد الأئمة فيه أن التعزير إذا تعلق بحق الآدمي، مثل أن يُعرِّض بقذف محصن، أو يصرّح بقذف من ليس بمحصن، أو يكرر القذف بزنا قد حُدّ فيه، فهذه التعزيرات متعلّقةٌ بحقوق الآدميين، فإذا طلبوها، فهل للإمام ألاّ يقيمها، إذا رأى الصفح، والتجاوز أولى؟ اختلف أئمتنا: فصار صائرون إلى أنه لا خِيرةَ للإمام، وحقٌّ عليه أن يسعف الطالبَ قياساً للتعزير في هذه المقامات على الحدود إذا وَجَبَتْ.
__________
(1) المراد أن الدافع الذي يدفع عن نفسه لا نضمّنه ما يترتب على الدفع المأذون له فيه، إذا اقتصر على قدر الدفع.
(2) القاصد: هو المعتدي الذي أجزنا للدافع أن يدفعه، فلو أتى على القاصد وقتله لا يضمن إذا كان لا يتأتى الدفعُ إلا بقتله.

(17/348)


ومن أصحابنا من قال: لو رأى الإمامُ الصفحَ والسعي في الإصلاح، فعل، كما يفعل في الأمور العامة. وهذا الوجه أعوص (1) من الأول؛ فإن مقدار التعزير إلى الإمام، والتغليظ بالقول من التعزير، ونحن لا نعتقد تصوّر صورة لا يرى الإمام فيها [رأيه] (2)؛ فإن من أساء أدبه بالجهات التي ذكرناها لا نسكت عنه، ولا نُكره على مقابلة (3) سوء أدبه. فيؤول هذا إلى أن الإمام لو أراد الاقتصار من التعزير على كلامٍ، فهل له ذلك؟
ومما يتعلّق بهذا أن المُؤْذَى بالتعريض أو التصريح لو عفا (4) ورأى الإمام أن يؤدبه (5) حقاً لله تعالى؛ حتى لا يستجرىء على أمثال ما صدر منه؟ فهذا فيه تردّدٌ نجمعه إلى آخر، وهو أن من استحق الحدّ أو استحق القصاص لو عفا عن حقه، فهل للإمام أن يعزره بما يراه استصلاحاً؟ فيه تردّد.
وإذا ضممنا صور التعزير إلى صور الحدود، انتظم منها أوجه: أحدها - أن الإمام لا يضرب إذا عفا صاحب الحق. والثاني - له أن يعزر نظراً إلى الصلاح الكلي.
والثالث - أنه لا يعزر في مقام الحدّ إذا عفا مستحِقُّه؛ لأنه غير مفوّض إلى اجتهاد الإمام إذا طلب؛ فلا يفوّض إليه الأمر إذا عفا المستحِق، والتعزيرات في قاعدتها مفوضة قدراً ومحلاً إلى اجتهاد الإمام.
هذا مقدار ما أردناه في ذلك، وفي المبالغ المرعية في التعزيرات كلام للأصحاب يأتي في الباب، إن شاء الله.
__________
(1) كذا. ولعلها: أفقه من الأول.
(2) مكان كلمة تعذرت قراءتها، فقد رسمت هكذا: (توصحا) بدون نقط.
(3) مقابلة: أي لقاء، وهي هنا بمعنى مباشرة ومعاناة سوء أدبه.
(4) المعنى: لو عفا من وقع عليه الإيذاء بقذفٍ يستدعي تعزيراً لا حدّاً كما صوره.
(5) يشير إلى الصورة التي فرضها آنفاً، وهي: لو أن شخصاً عرّض بقذف محصن، أو صرح بقذف من ليس بمحصن، أو كرر القذف بزنى حُدّ فيه، ففي هذه الحالات يكون التعزير حقاً للمقذوف، فلو عفا المقذوف، فهل للإمام أن يؤدب في هذه الحالة؟ هذا معنى العبارة التي نحن فيها.

(17/349)


فصل
قال: " وإذا كان برجل سِلْعَةً، فأمر السلطان بقطعها ... إلى آخره " (1).
11227 - هذا الفصل قد يعدّ من الجليات، وفيه غوائل، أكثرها يتعلّق بالزلل في التصوير ونحن لا نألو جهداً في البيان، إن شاء الله عز وجل. فنقول: أولاً السِّلعة غدد تخرج بعضوٍ من الأعضاء، لا تكون مفضيةً إلى ضرر، [ولكنها] (2) تشوّه الخَلْق، وتسوء، وقد [يُخشى] (3) منها الإفضاء إلى أمرٍ مخوف، فإذا تأكَّلَت جارحةٌ، وكانت تتداعى، فلا يخفى أن قطعها إذا استصوبه أهل البصائر مما يؤثر في الدفع على ما سنفصل ونصف.
ونحن نفرض ما نريدُ من ذلك في البالغ المستقلّ المالك لأمر نفسه، ثم نعود إلى أحكام الولاة، فنقول: إذا لم يكن في قطع السِّلعة خوفٌ، فأراد صاحبها قطعَها لإزالة شَيْن، فلا حرج عليه في ذلك. ولو كان في قطعها تخوّف، وليس في بقائها إلا الشين، فلا يحل للإنسان أن يقطعها من نفسه؛ فإن التعرّض للخوف لا يعادل الشَّيْن.
ولو كان في قطعها خوف، فنقول في تفصيل ذلك: إن كان لم يظهر الخوف في القطع، وظهر الخوف في التبقية، فيجوز القطع لا خلاف فيه، فإن قطع من نفسه، جاز، وإن أمر من يقطعها منه، فللغير أن يقطعها بأمره؛ فإنه أمير نفسه، وتصرّفه على هذا الوجه أولى من تصرّف الغير في الغير، وهو بمثابة الأمر بالحجامة والفصد، وما في معناهما.
وإن كان في القطع خوف، وفي التبقية خوف، [ومقادير] (4) الخوف وأوزانه لا تعتدل، فإن كان الخوف في التبقية أكثرَ وأغلبَ على الظن، وكان في القطع خوف أيضاً، فالذي صار إليه الأصحاب في الطرق أن له أن يقطع، ويأمر بالقطع لاستفادته
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 176.
(2) في الأصل. " ولكنه ".
(3) مكان كلمة غير مقروءة في الأصل.
(4) في الأصل: " فمقادير ".

(17/350)


غلبةَ الظن، على ما وصفناها، وإن استوى الأمران، واعتدل الخوفان، ولم يترجح أحدهما على الثاني، فقد كان شيخي يختار أنه لا يحل له القطع هاهنا؛ إذ لا فائدة فيه، والعواقب مغيبة.
وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا معترض عليه إذا اعتدل الأمران، ولم يُخْلِ الأصحابُ الصورة عن خلاف أيضاً، فاستبان لي في الصورتين من كلام الأصحاب أوجه: أحدها - أن القطع إذا كان مخوفاً، لم يجز، والثاني - أنه جائز في الصورتين، والثالث - أنه يجوز إذا كان خوفُ التبقية أغلبَ، ولا يجوز إذا اعتدلا في الظن.
وإن كان خوف القطع أغلب، فلا خلاف أنه لا يجوز.
واتفق الأصحاب على أن من عظمت الآلام عليه، وصار بحيث لا يستقل بها، فليس له أن يسعى في إهلاك نفسه، ولذلك إذا كان به عِلَّة مُهلكة، وقد قيل لا خلاص، فليس له أن يذبح نفسه بسبب مذفِّف، ولو أُضرمت النار في إنسان وكان لا يطيق الصبر [على] (1) لفحاتها فأراد أن يلقي نفسه في بحر ورأى ذلك أهونَ، فهذا قد اختلف فيه أبو يوسف ومحمد، وراجعنا شيخنا في ذلك، فقال: له (2) أن يبتدئ مهلكاً باختياره. وفي المسألة احتمال؛ فإن الإحراق مذفف، وكذلك الإغراق، والرأي ما ذكره شيخنا.
هذا رأينا في المستقل وما يجوز له من القطع وما لا يجوز.
11228 - وأما تصرّف الولاة، فإن أراد السلطان أن يقطع أنملة من مستقلٍّ بنفسه مُطْلَقٍ (3)، فليس له ذلك، فإن النظر فيه يَدِق، وهذا بمثابة ما لو رأى الوالي أن يفصِد
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في هامش الأصل: لعله ليس له أن يبتدىء مهلكاً باختياره.
ولكن الغزالي في البسيط صرح بأن الشيخ أبا محمد قال: " له ذلك " واختاره الغزالي، قائلاً: " وهو الصحيح " (ر. البسيط: 5/ورقة: 143 شمال).
وكذلك حكاه الرافعي عن الشيخ أبي محمد، وقال: هو الأصح. (ر. الشرح الكبير: 11/ 301).
(3) مُطَلق: أي غير محجور.

(17/351)


حيث يرى الطبيب ذلك، فليس إليه هذا، والناس موكولون في هذه المصالح إلى رأيهم، حتى قال الأئمة: لو قطع الإمام ما ذكرناه من بالغ على الكره منه، فأفضى إلى الهلاك، التزم القود، فهذا بيّن.
11229 - فأما القول في المَوْليّ عليه، فهذا موضع التأمل التام. فنقول: إن فرضنا أكَِلَةً أو سِلْعة بطفلٍ أو مجنون، فنتكلم في تصرّف الولي الخاص فيه، ونتكلم في تصرف السلطان. فأما السلطان، فإنه ولي الطفل والمجنون إذا لم يكن له ولي خاص، فله بنظره أن يأمر بالفصد والحجامة، فإن كان قطعُ السِّلعة على النسق [الذي وصفناه] (1) فللسلطان الأمر به (2)؛ فإنه والٍ، وإذا كان يلي مالَه خيفة أن يضيع، فلأن يلي بدنه في جهات المعالجات أولى؛ فإن أبدان الحيوانات عرضةٌ للتغايير، وعِللها في أُهبها، فلو أهملت، لأدى إلى الهلاك، وقد نقل الأصحاب مطلقاً أن السلطان [لا] (3) يقطع السلعة، ولم يريدوا هذه الصورة؛ فإنها من المعالجات.
فأما إذا كان قطع السلعة مُخطِراً (4) وكانت تبقيتُها مُخطِرةً أيضاً، ومست الحاجة إلى النظر في تغليب أحد الظنين، فهاهنا قال الشافعي: لا يقطع السلطان السلعة والأَكِلة.
ونقتصر على هذا القدر الآن من الكلام في السلطان، ثم نعود إليه بالإتمام.
فأما الأب والجد أبو الأب، فقد أطلق الشافعي قوله: بأنه يقطع الأَكِلَة [في هذه الصورة] (5)، ولم يرد بها صورة المعالجة، حيث لا ضرار في القطع؛ فإن ذلك يسوغ للسلطان، كالفصد والحجامة، فلا يخفى جوازه للولي الخاص. فأما إذا تعارض خطران في القطع والتبقية، فعند ذلك قال الشافعي: " للولي الخاص أن يقطع إن كان القطع صواباً " (6).
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من المحقق لاستقامة الكلام.
(2) أي إذا كان في قطعها درءٌ لخطر، وكان بقاؤها مخوفاً، على النسق الذي وصفناه.
(3) في الأصل: " لم ".
(4) مخطِراً: من أخطر فلاناً المرض: أي جعله بين السلامة والتلف. (المعجم).
(5) في الأصل: " يقطع الأكلة والصورة " والمثبت تصرف منا على ضوء التفصيل الآتي.
(6) وهذا النص أيضاً لم أصل إليه في المختصر.

(17/352)


وسبب هذا أن الإقدام على القطع يحوج إلى نظرٍ دقيق لا يصدر إلا من شفيق متناهٍ في الشفقة، وهذا يضاهي الاستصلاح بالتزويج، فأب الأب يزوّج ابنته البكر استصلاحاً، وإن كان يوقعها في رق الأبد، ويزوّج من طفله. والسلطان لا يملك ذلك؛ فإن التزويج يحتاج إلى نظرٍ دقيق مفوّض إلى الولي الخاص الشفيق، فإذا تصوّرت الصورة، فتمام القول أنا حيث نجوّز للرجل القطع [أي] (1) يقطع من نفسه نجوّز للولي أن يقطع من طفله، وحيث لا، فلا. وقد ذكرتُ تردّداً عند استواء الخوفين من أن الإنسان هل يقطع من نفسه، ولعل الأظهر هاهنا ألا يقطع من طفله، والعلم عند الله تعالى.
11230 - ونحن ننعطف بعد هذا التصوير إلى أمور في الضمان، أما المستقل إذا أمر الغيرَ بالقطع منه، فقطع، وأفضى إلى الهلاك، فقد قال الأئمة: لا ضمان على القاطع المأمور، وهذا فيه إذا كان القطع جائزاً، وليس كما لو أباح يده، أو أمر بقطعها، فقطعها إنسان، وأفضى القطع إلى الهلاك، فإن في ضمان النفس قولان تقدم ذكرهما، والفرق أن القطع المسوَّغ لغرضٍ يستحيل أن يجرّ ضماناً على القاطع المأمور، ولو قيل هذا، لامتنع القاطعون من القطع. وأما إباحة اليد، فلا غرض فيها، والقطع محرم في نفسه.
وأما الإمام إذا قطع من صبيٍّ سلعة حيث قلنا: لا يجوز له قطعها، فقد قال الأصحاب: تجب الدية، وفي القود قولان، وإن كان يجوز للأب القطع في هذا المقام؛ لأنه قطع قطعاً لا تقتضيه ولايته؛ فصار كالقطع من بالغ. ثم قيل: إذا لم نوجب القود، فالدية في ماله، وهذا هو الظاهر، وسبيله كسبيل من قتل إنساناً على زيّ مشرك في ديار الإسلام حسبه كافراً، وكان مسلماً، ففي وجوب القود قولان، والمذهب أنا إذا أوجبنا الدية، لم نضربها على العاقلة، وقد قدّمتُ في ذلك فصلاً حاوياً مشبِعاً.
وإذا قلنا: للأب أن يقطع، فالذي أطلقه الأصحاب قاطبة أنه إذا قطع وأفضى إلى
__________
(1) في الأصل: " أن " والمثبت تقدير منا.

(17/353)


الهلاك، فلا ضمان على الأب. قال القاضي: الذي عندي هو أنه يضمنه بالدية، وإنما يباح له ذلك بشرط سلامة العاقبة، وهذا بمثابة الضرب للتأديب.
وهذا عندي غير سديد؛ فإن الضرب للتأديب أُمر به على شرط الاقتصار على ما لا يقتل، وإذا جُوِّز للأب أن يقطع مع الخطر في القطع، فإلزامه الضمان محال، ويبعد كل البعد أن يسوغ للأب أن يعالج ولده المجنون بالفصد، ثم يقال: إذا أفضى إلى الهلاك يضمنه، والمتبع في التأديب ما ذكرناه.
وقال الأئمة: إذا ختن الوالد ولده على حسب المصلحة، فاتفق الموت منه، فلا ضمان عليه، وقال القاضي: الذي أراه وجوب الضمان، وهذا الذي قاله في الختان أوجه؛ فإن الختان لا يجب في حق الصبي والمجنون كما سنصفه، وليس من المعالجات التي لو تركت، لجرّ تركها فساداً في البدن، فلا يمتنع ما قاله القاضي في الختان. وسنعود إن شاء الله تعالى إلى هذا في فصل الختان على أثر هذا.
فصل
قال: " ولو كان رجل أغلف ... إلى آخره " (1).
11231 - الختان واجب عند الشافعي في الرجال والنساء، والمستحَق من الرجال قطع القُلْفة وهي الجلدة التي تغشى الحشفة، والغرض أن تبرز، ولو فرض مقدار منه على الكَمَرَة لا ينبسط على سطح الحشفة، فيجب قطعه، حتى لا يبقى جلد متجافٍ متدلٍّ.
والمقدار المستحق في النساء، ما ينطلق عليه الاسم، وفي الحديث ما يدل على الأمر بالإقلال، قال صلى الله عليه وسلم لخاتنةٍ: " أشمي ولا تنهكي " (2) أي اتركي
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 176.
(2) حديث: " أشمي ولا تنهكي "، رواه الطبراني في الأوسط، قال الهيثمي: " وإسناده حسن، ورواه ابن عدي في الكامل، والبيهقي في الكبرى، من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم عطية: " إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي؛ فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج " (ر. المعجم الأوسط للطبراني: 3/ 133 برقم 2274، مجمع الزوائد: 5/ 172، الكامل لابن عدي: 3/ 30 ح 1083، البيهقي: 8/ 324).

(17/354)


الموضع أشمّ، والأشمّ المرتفع، والقطع يقع في أعلى المدخل على لحمة بادية، ولا حاجة إلى الإطناب في وصفها.
وقال أبو حنيفة (1): الختان لا يجب أصلاً في الرجال، ولا في النساء.
ثم مؤنة الختان من مال المختون.
[ومعتمد المذهب] (2) أن الختان قطع عضو، فلو لم يجب، لم يجز، ولا ينبغي أن نفهم منه أنه (3) كافٍ، لا يجوز لو لم يجب لما فيه من خوف، ولكن لكل جزء حي من الإنسان حرمة الحياة، فلا يجوز فصلها بغير حق، وليس كالأخذ من الشعور والأظفار؛ فإنها ليست على حقيقة الحياة، وإن اختلفت المذاهب في ثبوت حكم الحياة لها.
ولو كان الرجل على خلقة من الضعف بحيث لو ختن لخيف عليه، فلا يجوز أن يختن، ولكن ينتظر التمكن من الختان، حتى يغلب على الظن السلامة.
وقد قال الأئمة: لا يجب الختان قبل البلوغ، لأن الصبي ليس من أهل أن تجب عليه العبادات المتعلّقة بالأبدان، فما الظن بالجرح الذي ورد التعبد به، وليس هذا كالعدّة (4)؛ فإنه لا تعب عليها منها، وإنما هي مضي الزمان.
فإذا بلغ الرجل أقلفَ، وبلغت المرأة غيرَ مخفوضة، ولا عذر، فلا يجوز تأخير الختان، فإذا ظهر ذلك للسلطان، أَمر بالختان، فإن أبى، أُجبر عليه، فإن جرّ ذلك هلاكاً، فلا ضمان على السلطان هاهنا؛ فإن ما فعله استيفاء شعار الدين من ممتنعٍ عن إقامته.
__________
(1) رؤوس المسائل: ص 504 مسألة 366، الاختيار: 4/ 167، الفتاوى الهندية: 5/ 356، 357.
(2) في الأصل: والمعتمد المذهب. والمثبت تصرف من المحقق، شهد له عبارة الغزالي، إذ قال: " ودليل وجوبه أنه قطع جزء حيٍّ، وفي كل جزء حي حرمة، وفيه خوف، فلولا استحقاقه، لما جاز الإقدام عليه " (ر. البسيط: 5/ورقة: 144 شمال).
(3) الضمير يعود على هذا الاستدلال للمذهب، والمعنى: لا ينبغي أن نفهم أن هذا كافٍ، بل نزيد عليه أن لكل جزء حي حرمة، فلا يمكن فصله بغير حقٍ.
(4) كالعدّة: أي حينما تجب على الصغيرة.

(17/355)


ثم إن ختن السلطان طفلاً لا ولي له في اعتدال الهواء، حيث يجوز للأب -لو كان- أن يختن، فإن أفضى إلى الهلاك، فلا ضمان، كما لو عالج بالفصد والحجامة على حسب المصلحة، وقال القاضي: يجب الضمان، وهذا محتمل؛ فإنه ليس من قبيل المعالجات، والختان ليس واجباً في الحال، ووجه ما ذكره الجماهير أن الختان لا بد منه، فإجراؤه في الصغر والبدن غض رخص، والمختون مقدار صغير أولى، فيلتحق من هذا الوجه بالمعالجة، وطرد القاضي ما ذكره من الضمان في وجوب الضمان على الأب إذا ختن الطفل، وهذا في الأب أبعد، وقد صح في الخبر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يحلق رأس المولود، ويعق عنه، ويختن في السابع من ولادته ".
ولو ختن السلطان في حر شديد، أو برد مُفْرط، فأدى إلى الهلاك، نص الشافعي على أنه يضمن، ونص على أنه لو أقام الحد في الحر الشديد أو البرد، فأدى إلى التلف لا يضمن، وقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في النفس، وتردّد الطرق؛ فلا نعيده.
والنص الذي ذكره في السلطان يجري في الأب إذا ختن في الحر الشديد، والبرد المفرط، فإن جرى خلافٌ في نفي الضمان عن السلطان، فالأب أولى بانتفاء الضمان عنه؛ فإن الختان في حقه كالحدّ في حق الإمام؛ من حيث إنه يتولاه هو.
***

(17/356)


باب صفة السوط وما فيه
قال: " ويضرب المحدود بسوط بين السوطين ... إلى آخره " (1).
11232 - الغرض من هذا رعاية الوسط في حجم السوط وصفته، وكيفية الضرب به، والإيلام لا بد منه مع بناء الأمر على تجريد القصد إلى إبقاء النفس، وهذا يوجب التوسط، فإن الإفراط ينافي البُقيا، وقصد الإبقاء وترك رعاية الإيلام الناجع يبطل حكم الحد، ومجموع ذلك يقتضي التوسط.
وأول ما نبدأ به حجم السوط، ولا متعلّق فيه إلا اسم السوط، والقضيب المستدق ليس بسوط، والزائد الحد المعتبر عصا، فحدُّ السوط المعتاد معتبر. هذا قولنا في الحجم.
فأما صفة السوط بعد حجمه، فلا ينبغي أن يكون رطباً قريبَ العهد؛ فإنه يَفْطُرُ (2) الجِلدَ لما فيه من ثقل المائية، وتلدّن المعاطف والغوص في البدن إذا اشتدّ، لو أطاقه. والخشبةُ اليابسة خفيفة، وهي على خفتها لا تنعطف، فيسقط الإيلام المطلوب بها وقد [تتشظَّى] (3). وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كان يقيم الحدّ على إنسان، فأتي بخشبة لم تكسر ثمرتُها (4)، أي كانت قريبة، وعليها عُقَدُها التي هي منابت الغصون الدقيقة، فردّها، وقال: " هلاّ دون ذلك "، فأتي بخشبة خَلَقة، فقال صلى الله عليه وسلم: " فوق هذا " فأتي بخشبة لا جديدة، ولا خَلَقة، فأقام بها الحد " (5).
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 176.
(2) يفطُر الجلد: أي يشقه.
(3) لم نستطع قراءتها إلا بمعاونة عبارة الغزالي في البسيط.
(4) ثمرة السياط: عقد أطرافها (قاله الجوهري) وقال أبو عمرو: " لم يمتهن ولم يلن ".
(5) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الحد على إنسان فأتي بخشبةٍ لم تكسر=

(17/357)


11233 - ثم ما ذكرناه في صفة السوط، من رعاية التوسط يُرعى في الضرب، فلا ينبغي أن يرفع الضارب يده إلى انتصابها بحيث تبدو عُفرة الإبط من شَيْله (1)، حتى يكتسب السوط ثقلاً ورَزَانةً إذا أرسل، وفي كيفية الضرب، وأعمال الأصابع وإرسال رأس السوط، أو ما ينحدر عنه دقائق لسنا جاهلين بها، ولكن لا معنى لذكرها، وذكر التوسط كافٍ فيها.
ثم لا ينبغي أن تُشَدَّ اليدان من المحدود، بل تُتركان مطلقتين حتى يتقي بهما إن أراد، ويتقي الجلادُ المَقاتل، كالأخدع (2) والقُرط (3)، وثُغرة النحر، والفرج، ويتقي الوجه؛ فقد صح الخبر عن اتقاء وجوه البهائم، فما الظن ببني آدم، وقد كرمهم الله تعالى، والوجه مجمع المحاسن والحواس، ويترك الرجل قائماً،
__________
=ثمرتها ... " لم نجد الحديث بهذا اللفظ، بل قال ابن الصلاح: اشتبه هذا على إمام الحرمين، فغيّر ألفاظ الحديث، وقال فيه " فأتي بخشبة " وفسّر الثمرة بعقدها التي هي منابت الغصون الدقيقة، وتبعه على ذلك الغزالي فى (بسيطه)، ونسأل الله عصمته وتوفيقه.
(مشكل الوسيط- بهامش الوسيط 6/ 511).
والحديث رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم بلفظ " ... فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوط مكسور فقال: " فوق هذا " فأتي بسوطٍ جديد لم تقطع ثمرته، فقال: " دون هذا " فأُتي بسوطٍ قد رُكب به ولان، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد " وثمرة السياط: عقد أطرافها (قاله الجوهري) وقال أبو عمرو: " أي لم يمتهن ولم يلن ". ورُكب به: أي ذهبت عقد طرفه. (الموطأ: الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا: 2/ 825 وتفسير الألفاظ عن محمد فؤاد عبد الباقى بهامش الموطأ).
هذا، وللحديث شاهد عند عبد الرزاق عن معمر بن يحيى بن أبي كثير (مصنف عبد الرزاق: 7/ 369 ح 13515). وشاهد آخر عند وهب من طريق كريب مولى ابن عباس.
قال الحافظ في التلخيص: فهذه المراسيل الثلاثة يشدّ بعضها بعضاً. (التلخيص: 4/ 145 ح 920).
(1) شيْله: أي رفعه: من شال يده إذا رفعها يسأل بها، والفعل واوي، والمصدر: (شولاً) لا شيلاً. (المعجم) و (المصباح).
(2) الأَخدع: عرق في جانب العنق، وهما أخدعان في جانبي العنق. (المعجم).
(3) القرط: من المجاز العقلي. والمراد مكان القرط.

(17/358)


ولا يوالي بالسياط على موضعٍ من بدنه، ولا بأس بضرب الرأس عندنا، وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال لمن كان يقيم الحدّ اضرب الرأس، فإن الشيطان في الرأس، ومنع أبو حنيفة (1) ضرب الرأس.
ولا يضرب في الحر الشديد، والبرد المفرط، فإن فعل فأدى إلى التلف، فنص الشافعي أنه لا يجب الضمان. وقد مضى هذا على أبلغ وجه في البيان.
ولو وقع الضرب بخشبة فوق الوسط أو فُرض تحامل مفرط في الضرب، فالذي نراه أنه يتعلق الضمان به، وليس كالضرب في الحرّ الشديد، فإن سبب نفي الضمان على القول الظاهر امتناعُ تأخير حدود الله تعالى إذا رأى الإمام ألاّ يؤخر، والزيادة على المطلوب في جِرم السياط خروجٌ عن المقدار المستحق، وكذلك القول في التحامل المفرط في الضرب.
والمرأة تُضرب جالسةً وتُربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف.
11234 - ومما يجب الاعتناء به أن الضربات أصلها أن تكون متوالية، فإن فُرّقت، فكيف الوجه؟ وإلى ماذا الرجوع؟ إن فرّق الأسواط على الأيام، فكان يضرب في كل يومٍ سوطاً. قال القاضي: لا يعتد بهذا. والأمر على ما ذكره؛ فإن مقصود الحد من الإيلام الناجع الزاجر لا يحصل على هذا الوجه، وكذلك لا يحصل. التنكيل أيضاً، ثم لو أقام خمسين سوطاً وِلاءً في يومٍ، وأقام خمسين أخرى في يومٍ آخر، جاز.
وهذا الفصل فيه انتشار، والممكن في ضبطه: أنه إن ظهر سقوط أثر الألم لتفرق الأسواط على الزمان، كما فرضه القاضي من وقوعها [آحاداً] (2) في أيامٍ، أو كان يقع سوطان في كل يومٍ، فهذا ليس بحد.
وإن كان المقدار الواقع مؤثراً، أي لم يتخلل من الزمان ما ينقطع فيه أثر الأول،
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 264، فتح القدير: 5/ 18، تبيين الحقائق: 3/ 170، الاختيار: 4/ 85.
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل، رسمت هكذا: " أملا " والمثبت تصرف منا على ضوء ما مضى من حكاية قول القاضي.

(17/359)


فالظاهر إجزاء هذا؛ إذا (1) تجمّع كونُ الواقع مؤلماً، وبقاء الألم إلى وقوع الآخر.
وإن كان الواقع مؤلماً وتخلل من الزمان ما يُسقط أثر التألم [بالأول] (2)، فهذا محل التردد. ظاهر كلام القاضي أن ذلك حدٌّ معتدٌّ به.
والوجه عندنا أنه لا يعتدّ به إذا انقطع أثر الأول (3)؛ فإن التتابع والوِلاء [لو] (4) عُدِّل بالأسواط، [لبلغ] (5) أثره عدداً منها صالحاً، ففي ترك الموالاة إسقاط جزء من الحد (6). وما ذكره القاضي محتمل أيضاً، وفي كلامه إشارة إلى الخمسين، فإن كان يتشوف بذكرها إلى أن الخمسين حدٌّ كامل، فهذا الفن يدِق مُدركه، ولا ينبغي أن يُتشاغل بمثله؛ فإن الأمور في الكليات لا تنطاع من التضيّق والضبط، وشرطُ الفقه ألا يطلبَ من كل شيء إلا ما يليق به، والتقدير (7) من موضع غايةُ المطلوب فيه التقريبُ وإبانةُ مسلك الاجتهاد لا يحسن.
فإن قيل: لو حلف الرجلُ ليضربنّ فلاناً مائة سوط، ثم إنه فرّق عليه السياط في الأيام، يَبَرّ في يمينه، فهلاّ وقع الاكتفاء بتحصيل الاسم في الحدود؟ قلنا: تعويل الأيمان على موجَبات الألفاظ، والتعويل في فهم معاني التكليف على المقاصد. وقد ظهر من مقصود الشرع أن الغرض من الحد الزجر والتنكيل على قدرٍ يقرب من الفهم، فيجب اعتباره.
__________
(1) إذا بمعنى: إذ.
(2) في الأصل: بالواقع. والمثبت منّا على ضوء السياق وما حكاه الغزالي والرافعي والنووي عن الإمام.
(3) عزا النووي هذا الضابط إلى الإمام، فكأنه لم يسبق إليه. (ر. الروضة: 10/ 173).
(4) سقطت من الأصل. والمثبت من عبارة الرافعي في الشرح الكبير: 11/ 286.
(5) في الأصل: " التلقي " ومن فضل الله أن وجدنا الرافعي حكى العبارة كاملة عن الإمام وإلا لاستحال علينا تصويبها. (ر. السابق نفسه). وانظر إلى أي حد بعُد التصحيف برسم الكلمة.
(6) المعنى أن في ترك الموالاة إسقاط جزء من الحد؛ لأن الموالاة إذا قيس أثرها وعدّل بالأسواط وقوبل بها لبلغ عداداً معتبراً من الأسواط.
(7) أي أخذ التقدير واستنباطه من مواضع التقريب غير حسن.

(17/360)


فصل
قال: " ولا يبلغ بعقوبةٍ أربعين، تقصيراً عن مساواته عقوبة الله تعالى في حدوده ... إلى آخره " (1).
11235 - التعزيرات لا مبالغ لها تقديراً من الشارع، ولكن يتطرّق إليها في جهة الأقصى مردٌّ يُنتَهى إليه، ويتخذه المجتهد شوفَه بين يديه، فالذي تمهد في الأصل أن التعزير لا يُبلغ به الحدّ، كما أن الرضخ لا يبلغ به السهم في المغنم، والحكومة لا تبلغ الدية.
ثم اختلف طرق أئمتنا في المبالغ التي نجعلها شَوْفنا في الاعتبار: فقال قائلون: يُحط أعظم التعزيرات عن أقل الحدود، وقال آخرون: يُنسب مقتضى كل تعزير إلى ما يقتضي الحدّ في قَبيله، حتى إن كان ما صدر من الإنسان هي مقدمات الزنا، فالتعزير فيما جاء به محطوط عن حد الزنا، وإن عرّض بقذف، أو قذف من ليس محصناً، فتعزيره محطوط عن حدّ القذف، وإن فرض ملابسةٌ لأسباب الشرب، فالمعتبر الذي إليه الرجوع حدّ الشرب، وهذا فقهٌ حسن.
توجيه الوجهين: من قال يُحط أبلغ التعزيرات عن أقل الحدود، احتج بأن قال: أعظم الأشباه بالإضافة إلى أقل أسباب الحدود محطوط عنه، وإنما توجد العقوبات من موجباتها، ومن يصير إلى الوجه الثاني احتج بأن النِّسب حقها أن تقرر باعتبار كل نوعٍ بالغاية المطلوبة فيه أولى، ولذلك تعتبر كل حكومة بحسب الجناية على عضو بما يجب الأرش المقدّر في ذلك العضو، على تفاصيلَ انتجز شرحها في الديات.
وما ذكره ناصر الوجه الأول من أن ما يوجب أقلَّ الحد أعظمُ مما يوجب أبلغ التعزيرات ليس كذلك؛ فإن منازل الزلات والجرائم لا يُتلقَّى من هذا، ورب شيء هو أكبر من كبار موجبات الحدود لا يحدُّ في قبيله، كأكل مال اليتامى ظلماً، وكإمساك
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 176.

(17/361)


المولّي (1) حتى يُدركه قاصدُه، فيقتله، فلا يشك ذو تحصيل أن ما ذكرناه أبلغ من قطرةٍ من خمرٍ يتعاطاها ولوعٌ بها مذمّم في نفسه.
التفريع:
11236 - إن حكمنا بأن أبلغ التعزيرات محطوط عن أقل الحدود، فأقل الحدود حدُّ الشرب، فليحط التعزير عنه، ثم اختلف أصحابنا إذا كان المعزَّر حرّاً، فمنهم من قال: يحط تعزير الحر عن حدّ الحرّ، وهو أربعون، ويحط تعزير العبد عن حدّ العبد في الشرب، وهو عشرون. ومن أصحابنا من قال: أبلغ التعزيرات محطوط عن عشرين؛ فإنه أقل الحدود على الجملة، وهذا الوجه إن كان ضعيفاً في طريق المعنى، فإنا سنذكر إن شاء الله تعالى في آخر الفصل ما يعضده.
وإن فرّعنا على أن كلَّ تعزيرٍ معتبر بالحد الذي يناسبه، فيعتبر تعزير الحر بحدّ الحر، وتعزير العبد بحد العبد بلا خلاف، فإنا إذا كنا نرعى تقارب الأسباب في السبب، فاعتبار الأشخاص المعزرين أولى.
والذي نراه أن تعزير من يتعلّق بأسباب السرقة يجب أن يعتبر بأبلغ الحدود الواقعة بالجلد، وهو حد الزنا؛ فإن القطع أبلغ من مائة جلدة.
11237 - ثم قال الأئمة بعد ذلك.: ليس للإمام أن يبتدر الضربَ بل نرعى في ترتيب التأديب من التدريج والاكتفاء بأقل المراتب ما يرعاه الدافع في الاقتصار على حاجة [الدفع] (2)، حتى إن علم أن التوبيخ بالكلام كافٍ، اكتفى به. وإن لم يره ناجعاً ترقى إلى [التعنيف] (3) فيه، ثم يرقى من هذه المرتبة إلى ما يرى من حبسٍ، أو دفعٍ في الصدر، أو ما جرى هذا المجرى، ثم هكذا إلى أن ينتهي رأيه.
ومن آداب الإمام في ذلك، أن يتوقَّى هيجه وغضبه [ويتأتَّى] (4) لما يأتي به مُعْمراً (5) إشفاقاً، واستصلاحاً للمؤدَّب. وقصة عُمر في ذلك مشهورة: إذ رفع دِرّته
__________
(1) أي المولّي عن الصائل الذي يقصده بالقتل، فإمساكه عن الهرب حتى يُقتل ذنب عظيم.
(2) في الأصل: " الرافع ".
(3) في الأصل: " التصنيف ". وفيها أثر تصويب زادها تشويهاً.
(4) في الأصل: " ويأتي ". وتأَتَّى للأمر: أي ترفق له وأتاه من وجهه. (المعجم).
(5) معمراً: (كذا) ومعناها: ملتزماً: من أعمر الرجل ماله وبيته: إذا لزمه (القاموس المحيط).

(17/362)


لمن كان يبذُؤ بلسانه على صاحب له، فأطلق المعزَّر لسانه في عمر غير شاعرٍ به، فردّ الدرّة، حتى روجع في ذلك، وقيل (1): تعرّض لرجلٍ من آحاد المسلمين، فهممتَ به، وأساء القولَ في أمير المؤمنين [ووَزَرِ] (2) المسلمين، فكففتَ عنه، فقال: " أما إني رفعتها لله، فمَن ابن أم عمر حتى يُنتَقمَ له مع الانتقام لله " (3)؟ وأشار بهذا إلى ما لحقه من مبادئ الغيظ.
وقد روي من صفح رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفوه ما يظهر حملُه على قريب ممَّا ذكرناه. وهو مثل ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان في سفرٍ على بعيرٍ فجاء أعرابي، فجذب رداءه، حتى أثرت جذبته في عنقه، وقال: احملني؛ فإنك لا تحملني على بعيرك ولا بعير أبيك " (4) فقال أبو هريرة: فهممنا به كالخيل من الحديد نبغي قتله، فقال عليه السلام: " عزمت على من سمع كلامي أن يثبت مكانه "، فوقفنا، وأيدينا على مقابض السيوف ننتظر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا أسامةَ بن زيد، وقال: " احمله على بعير الزاد " ولم يعزره. وقصة الرجل الذي خاصم الزبير في سقيه بستاناً مشهورة، وهي محمولة على ما ذكرناه (5).
11238 - ومن أهم ما يجب الاعتناء به، [فهمُ] (6) سؤال مع الجواب عنه. فإن
__________
(1) أي قيل لعمر.
(2) في الأصل: " ووزير ".
(3) أثر عمر رضي الله عنه لم نقف عليه.
(4) حديث الأعرابي الذي جذب ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " احملني ... " رواه أبو داود، والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وضعفه الشيخ الألباني (ر. أبو داود: الأدب، باب الحلم وأخلادتى النبي صلى الله عليه وسلم، ح 4775، النسائي: القسامة، باب القود من الجبذة، ح 4780، ضعيف سنن أبي داود للألباني، ح 1022).
(5) حديث الرجل الذي خاصم الزبير في سقي بستان متفق عليه. (البخاري: المساقاة، باب سَكْر الأنهار، ح 2359، 2360، مسلم: الفضائل، باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم، ح 2357).
(6) في الأصل: " فهو ".

(17/363)


قيل: لَمْ يقف بعضُ العلماء في التعزيرات على موقف، حتى رأى مالكٌ (1) القتلَ تعزيراً، وهذا [يوافق ظن مَنْ] (2) لا يدق نظره إلى الإيالة التامة؛ فإن الهَنة التي تصدر من آحاد الناس في الخطر لا يدرؤها جلدات نكال، سيّما وقد بعد العهد، وتمادى الزمن، ولا يزداد المستأخرون إلا شرّاً.
قلنا: لا مزيد على ما ذكرناه. والسؤال (3) برعاية الإمام وكلاءته؛ فإنه إن أحسن إقامة الضوابط، وألزم نفسه الاطلاعَ، ومهَّد طرقَ تقاذف الأخبار إليه، وعضد كلَّ قُطرٍ بقوّامٍ به، وتقدم إلى أصحاب الأعمال، إذا بدا من الناس ما يستوجبون الآداب به أن يعزّروا، ولا يتسامحوا، وإن تكررت الهَنات تكررت الجلدات، فهذا كافٍ، وإنما الشرّ كله في الإهمال، وقطع عين المراقبة عن الناس، وإن تألّبت طائفة، وسلّت يدها عن الطاعة، رُدّت إلى الطاعة بغرار (4) السيوف.
ولو كانت قضايا الشرع تختلف باختلاف الناس، وتناسخ العصور، لانحلّ رباط الشرع، ورجع الأمر إلى ما هو المحذور من اختصاص كل عصر ودهر برأي. وهذا يناقض حكمةَ الشريعة في حمل الخلق على الدعوة الواحدة، ولما ذكر صاحب التقريب مقالات الأصحاب في التعزيرات ومبالغها روى عن أبي بُردة بن نِيار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجلد فوق العشرة إلا في حدّ " (5). قال صاحب التقريب: هذا خبرٌ صحيح، لو [بلغ الشافعي] (6)، لقال به، وقد صح من أقوال الشافعي أن من يبلغه مذهبٌ منه، ويصح عنده خبر على خلافه، فحق عليه أن يتّبع الخبر، ويعتقدَ أنه مذهبُ الشافعي؛ فإنّ كل ما أطلقه في المسائل مقيد باستثناء
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 928 مسألة 1863، 1864، المعونة: 3/ 1406، حاشية الدسوقي: 4/ 355.
(2) في الأصل: " يوافق من ظن من لا يدق نظره ".
(3) كذا قدرناها. (انظر صورتها) والمعنى أن السؤال يندفع برعاية الإمام ... إلخ.
(4) الغِرار: حد السيف ونحوه (المعجم).
(5) حديث أبي بُرْدَة بن نيار الأنصاري متفق عليه (البخاري: الحدود، باب كم التعزير والأدب، ح 6848، مسلم: الحدود، باب قدر أسواط التعزير، ح 1708).
(6) في الأصل: " لو بلغه " والتغيير لمجرد الإيضاح.

(17/364)


الخبر، وكأنه لا يقول قولاً في واقعه إلا وهو مصرّح معه بأن الأمر كذلك إن لم يصح خبرٌ على خلافه.
11239 - ثم قال الشافعي، في آخر الباب: " لا تقام الحدود في المساجد " (1)
وهو كما قال، وسيأتي، إن شاء الله، هذا وأمثاله في آداب القضاء. روى معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " جنبوا مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم، ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسلَّ سيوفكم " (2).
ثم عقد الشافعي باباً مترجماً بقتال أهل الردّة (3)، مضمونه ثلاثة أشياء: أحدها - أحكام الردة، وقد مضت في باب مفرد، والآخر - مقاتلة أهل الردة إذا اجتمعوا، وقد مضى هذا في أثناء قتال أهل البغي، والثالث - يحثّ على البداية بهم، وهذا بيّن، وليس على هذا الإطلاق، فقد يطأ الكفار طرفاً من [بلاد] (4) الإسلام، ولو لم نَطِر إليهم، لخفنا فتقاً لا يُرقع، فلتقع البداية بالأهم.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 177.
(2) حديث " جنبوا مساجدكم صبيانكم ... " رواه ابن ماجه، والبيهقي وضعفه، كما ضعفه الحافظ في التلخيص (ر. ابن ماجه: المساجد والجماعات، باب ما يكره في المساجد، ح 750، البيهقي: 10/ 103، ضعيف ابن ماجه للألباني ح 164).
(3) ر. المختصر: 5/ 177.
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(17/365)


باب صول الفحل
قال الشافعي رضي الله عنه: " إذا طلب الفحل رجلاً ... إلى آخره " (1).
11240 - البهيمة إذا صالت على إنسان، وعلم المصول عليه أنها لا تدفع إلا بما يهلكها، ويأتي عليها، دفَعَها، واقتصر على مقدار الحاجة في دفعها، فإن كانت [لا تدفع] (2) إلا بما يقتل، قتلها، وكانت هدراً غير مضمونة، خلافاً لأبي حنيفة (3).
وكذلك إذا صال آدمي على إنسان، فإنه يتولى دفعه بالأيسر فالأيسر، فلو لم يتأت الدفع إلا بالقتل، قَتَل، ولا ضمان. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في صيال الصبي والمجنون. فقال في رواية: لو أهلكهما في الدفع، كانا مضمونين، وقال في رواية: لا ضمان على الدافع؛ لأن فعلهما لو تم، لتعلّق الضمان به. بخلاف فعل البهيمة.
ومعتمدنا في المذهب أن البهيمة بصيالها صارت مستحقَّةَ القتل بصيالها، فقامت مقام السبع الضاري، والكلب العقور.
ولو اضطر في المخمصة، واقتضت الضرورة إتلافَ بهيمة الغير، والأكلِ منها، فالإهلاك سائغ، بل واجبٌ لإحياء المهجة، وضمانُ البهيمة واجب على المضطر، فإن البهيمة لم تتصف بما يسلّط على إهلاكها، بخلاف الصائلة.
ولو رَبَضت بهيمة على باب بيت فيه زادٌ لإنسان، وقد ظهرت الحاجة، ومست
__________
(1) ر. مختصر المزني: 5/ 178.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 258، مختصر اختلاف العلماء: 5/ 210 مسألة 2308، رؤوس المسائل: 506 مسألة 367، إيثار الإنصاف: 400، طريقة الخلاف: 493 مسألة 197).

(17/366)


الضرورة، ولا وصول إلى البيت إلا بإتلاف البهيمة، فلا شك أنه يُتلفها، وفي ضمانها وجهان: أحدهما - أنه يجب كما لو أتلفها للمخمصة، وأكل منها. والثاني - لا يجب الضمان لوقوفها وربوضها على سبيله الموصل إلى الزاد.
ولو كان الإنسان في طريقه عابراً، وسطقت جرّةُ أو ما في معناها في ملك إنسان واستوت على [رأسه] (1)، ولو لم يكسرها، لأهلكته أو خيف عليه منها (2)، فإذا كسرها، فللأئمة أصلان في ذلك، فقال قائلون: كسرها بمثابة قتل البهيمة الصائلة، وقال آخرون: يجب الضمان، وإن ساغ الكسر؛ لأنه لا اختيار لهذا الساقط على سمت رأسه. ولاختيار الحيوان أحكام لا تُنكر.
11241 - ثم تكلم الأئمة فيما يجب من الدفع، وفيما يسوغ، فنستتم ذلك، ثم نخوض بعده في إيضاح تدريج الدفع، فنقول: إذا قصدته بهيمةُ إنسانٍ، وصالت عليه، وجب عليه دفعها، وإن كان الدفع يأتي عليها، ولا يجوز أن يستسلم للتهلكة، ولا [بُعدَ] (3) في هذا، ونحن نوجب قتل البهيمة الضارية بالإهلاك، وإن لم تكن صائلة في وقتها، لقطع توقع الصيال منها.
ولو صال مرتد أو حربيّ على مسلم، لم يحلّ له أن يستسلم، ويؤثر الهلكة؛ فإنه لا حرمة للصائل، والاستسلام لهما ذلٌّ في الدين.
11242 - ولو كان الصائل رجلاً مسلماً محقون الدم، فهل يجوز الاستسلام للهلكة؟ وكيف السبيل فيه؟ اختلف النص، وحاصل المذهب في أصل التمهيد قولان: أحدهما - أن الاستسلام غير جائز؛ فإن المهجة المصول عليها محترمة، والشخص الصائل ظالم ساقط الحرمة، فيجب إيثار الذب عن المهجة المحترمة، ولا يسوغ بذلها لشخص ساقط الحرمة.
__________
(1) في الأصل: " رأسها ". والمثبت من المحقق رعاية للسياق.
(2) صورة المسألة أن تهوي جرة مملوكة لإنسان من ملكه لسببٍ ما، وتهوي مسامتة لرأس إنسان، فهل له أن يعاجلها، ويكسرها قبل أن تصل رأسه.
(3) في هذا أي في الحكم بوجوب الدفع وعدم الاستسلام.

(17/367)


والقول الثاني - يجوز الاستسلام، ومعتمده الأخبار الصحيحة، ومنها ما روي عن حذيفةَ بنِ اليمان: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ما سيكون من الفتن، فقال حذيفة: يا رسول الله لو أدركني ذلك الزمان، فقال: ادخل بيتك، واخمل ذكرك، فقال: أرأيت لو دخل بيتي؟ فقال: إذا راعك بريق السيف، فاستر وجهك، وكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل " (1). وفي بعض الأخبار: " ولأن تكن خير ابني آدم " (2) عَنَى صلى الله عليه وسلم قابيل وهابيل. وصح عن عثمان رضي الله عنه: " أنه استسلم يوم الدار، وقال: لا أحب أن يراق فيّ مِحْجَمة دم "، وكان معه في الدار أربعمائة من الغلمان الشاكين السلاح، فقال: " من ألقى سلاحه، فهو حر" (3).
فإذاً لاح في الدفع وإن أفضى إلى القتل، وفي الاستسلام قولان: أحدهما - أنه محرّم، والثاني - غير محرّم.
ثم اختلف أصحابنا في تأويل هذا القول، فمنهنم من قال: الاستسلام جائز، ومنهم من رآه مندوباً إليه مستحباً، وإليه إشارة الأخبار في استحسان الإيثار، وإن أدى إلى هلاك المَؤْثر، وهو شِيمُ الصالحين، ويتصوّر من أوجه، يدل البعض منها على
__________
(1) حديث " كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل " سبق تخريجه.
(2) حديث: " كن خير ابني آدم "، أخرج أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم " الحديث. وفيه: فإن دخل عليَّ بيتي وبسط يده إليّ ليقتلني، قال: " كن كابن آدم ". وفي الباب من حديث ابن عمر، رواه أحمد، ومن حديث أبي موسى، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان (ر. المسند: 1/ 169، 185، 4/ 408، 416، الترمذي: الفتن، باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها، ح 2194، أبو داود: الفتن والملاحم، باب في النهي عن السعي في الفتنة، ح 4259، ابن ماجه: الفتن، باب التثبت في الفتنة، ح 3961، ابن حبان: ح 5931، التلخيص: ح 2146).
(3) حديث استسلام عثمان يوم الدار وصرفه المدافعين عنه، وأنه قال: " من ألقى سلاحه فهو حر " قال الحافظ في التلخيص: لم أجده، وفي ابن أبي شيبة من طريق عد الله بن عامر سمعت عثمان يقول: " إنّ أعظمكم عندي حقّاً من كفّ سلاحه ويده " (ر. ابن أبي شيبة: 15/ 204 ح 19507، التلخيص: 4/ 161 ح 2154).

(17/368)


الكل. فإذا اضطُر الرجل، وانتهى إلى المخمصة، ومعه ما يسدّ جوعته، وفي رفقته مضطرٌ فآثره بالطعام، فهو حسن، وكذلك القول في جملة الأسباب التي تتدارك بها المهج، ولا خلاف أنه لا يحل إيثارُ بهيمةٍ، وكيف يظن الظان هذا، ويجب قتل البهيمة لاستبقاء المهجة.
11243 - ولو كان الصائل على الإنسان مجنوناً أو مراهقاً، فمعلوم أنه لا يبوء واحدٌ منهما بالإثم، ولو استسلم للقتل، وللأصحاب طريقان فيهما: منهم من لم يجوّز الاستسلام، ونزلهما منزلة البهيمة في هذا المقام، واستمسك بما أجرى الله تعالى ذكره في قصة هابيل؛ إذ قال عز وجلّ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك} [المائدة: 29].
ومن الأصحاب من أجرى قولي الاستسلام في الصبي والمجنون (2)؛ لأن المعنى المتبع في ضبط هذا القول محاذرة الزيادة على قدر الحاجة في الدفع، والصائل آدمي محترم، وهذا المعنى يتحقق، وإن كان الصائل لا يبوء بالإثم، وأيضاً فإن للقتيل القرب من مرتبة الشهادة، وهذا المعنى يجري في الصبي والمجنون إذا صالا.
11244 - وأما الذميّ إذا كان هو الصائل، فالوجه الدفع؛ فإنه لا يجوز الاستسلام، وإن كانت الذمة توجب حقن دمه؛ لأنه بصياله ناقصٌ عهده؛ فتسقط حرمته، ويبقى كافراً صائلاً على مسلم، فإن قيل: أليس من الأصحاب من يقول: لا تنتقض الذمة بالقتل؟ قلنا: ذلك وجه ضعيف، ثم لا حرمة للذمة حالة القتال، والصيال. وعلى الجملة الاستسلام للكافر ذُلّ.
11245 - وتمام البيان في هذا أنه كما يدفع الصائلَ عن نفسه كذلك يدفعه عن قريبه وحميمه، وعن الأجنبي منه. وهل يجوز له ترك الذبّ، أم يجب عليه أن يبذل وسعه في الدفع عن غيره؟ فيه تردّدٌ للعلماء، وهو من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن
__________
(1) وجه الاستدلال بالآية: أن الصبي والمجنون لا يبوءان بالإثم، فهما كالبهيمة من هذه الناحية.
(2) وهذا الوجه هو الأشبه، كما عبر بذلك الرافعي. (ر. الشرح الكبير: 11/ 315).

(17/369)


المنكر، والذي اختاره المحققون من الفقهاء أن ذلك يجري في حق الغير مجراه في حقه، لو كان هو المصول عليه.
ويخرج من هذا وجوب الدفع عن الغير في قولٍ، وتحريمُ [تركه] (1).
وعلماء الأصول اضطربوا في هذا، فذهب المحققون منهم إلى أن هذا محتوم على الولاة وأصحاب السيوف المرتصدين للذب عن الدين، فأما آحاد الناس، فلا يلزمهم هذا، ثم منهم من لم يجوّز شهرَ السلاح للدفع عن الغير، ومنهم من جوّزه فلم يوجب.
وهذا لا يختص [أثره] (2) بصول الإنسان على غيره قاصداً قتله، فمن كان مُقْدماً على محرّم، فيمنع منه، فإن أبى، دُفع عنه، فإن أتى الدفعُ عليه، فهو على التفصيل الذي ذكرناه، حتى قيل: لو رأى رجلاً يرضّ رأسَ شاة الغير وقدر أن يمنع، فإن أبى (3)، دُفع، ثم الدفع لا موقف له إلا إهلاك القاصد. وكذلك لو كان يتعاطى الشرب أو غيره من المنكرات، فالقول على ما ذكرناه.
والخارج من النظم أن السلطان لو دفع -[من ارتكب أو هم بارتكاب هذه لماثم] (4) - دفعه بالرّد إلى الطاعة، وأما آحاد الناس، ففي الفقهاء من يسلّطه على
__________
(1) في الأصل: قتله، والمثبت من لفظ الإمام الغزالي في الوسيط. ونص عبارته بتمامها: المرتبة الثانية - ما يتعلق بحق الغير من أجنبي أو قريب -في الدفع- فحكمه ما سبق في الدفع عن النفس: وفي جواز ترك الذب، أو وجوب بذل المجهود في الدفع ترددٌ للعلماء مأخذه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واختار المحققون تنزيلَ ذلك منزلة ذبه عن نفسه، من غير فرق، ويخرج منه قول -لا محالة- في وجوب الذب وتحريم الترك، وأما الأصوليون، فإنهم قالوا: ذلك على الولاة محتوم، لا يسعهم تركه، ولا يجب على الآحاد قطعاً، وميل أكثرهم إلى أنه لا يجوز لهم شهر السلاح فيه أيضاً؛ لأن ذلك يجرّ خطراً وخبلاً، ومنهم من أباح، ولكنه لم يوجب، ومنهم من رمز إلى موافقة الفقهاء " (ر. البسيط: 5/ورقة: 146 شمال، 147 يمين).
(2) مكان كلمة غير مقروءة بالأصل رسمت هكذا: " تارة " رسماً ونقطاً.
(3) المعنى: إذا رأى رجلاً يتلف مال الغير، وقدر أن يمنعه، منعه، فإن أبى المتلِف دفعه بما يستطيع على التدريج المذكور في الدفع عن النفس، حتى لو وصل إلى هلاكه.
ما بين المعقفين من المحقق، ولا علاقة له بما في الأصل، حيث استحال علينا إقامة عبارته،=

(17/370)


ذلك، وهذا لا يرتضيه الأصوليون. إلا أن قُربَ خطر الشرب؛ من حيث إن قصاراه لو استتمه جلدات، فإن أمر الدفع لو صح لا يؤخذ من هذا المأخذ؛ فإن الإنسان - كما سنذكر إن شاء الله تعالى- يذب عن ماله، والعبد يذبّ سيدَه عن نفسه، وإن كان قتلُ السيد إياه غيرُ موجب ضماناً عليه في قودٍ ولا قيمة. ولكن تمكين الناس من السيوف يجرّ خبلاً عظيماً.
11246 - فخرج من مجموع ما ذكرناه أن الإنسان يدفع عن نفسه بكل وجهٍ [والكلام] (1) في وجوب الدفع. وهذه مرتبة.
والمرتبة الأخرى - في الدفع عن الغير وهو مقصود بالقتل، أو بفاحشة الزنا، وهاهنا افتراق الفقهاءِ وأربابِ الأصول، كما قدمناه، وفي مسلك الأصوليين رمزٌ إلى موافقة الفقهاء.
المرتبة الثالثة - في الدفع عن المنكرات والمحرّمات جُمَع سوى ما ذكرناه، والأصوليون مطبقون على أنه لا يجوز لآحاد الناس شهرُ السلاح، وذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه لا مبالاة بشهر السلاح إذا اقتضت الحاجة إليه. وهذا نجاز القول في هذا الأصل.
11247 - وإذا كان المصول عليه يدفع عن نفسه، وقد قلنا: إنه لا يجوز له أن يستسلم، فإن استمكن من الوصول إلى الخلاص بالهرب، فقد اختلف أصحابنا الفقهاء في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز المكاوحة (2) مع إمكان الهرب، فإن الغرض الخلاصُ بالأهون فالأهون، وإذا أمكن الهرب، فلا شيء أسلم منه.
ومن أصحابنا من قال: يجوز الثبوت، ودفع الصائل، وهذا يُوجَّه بأن الصائل
__________
=مع الاستعانة بمختصر العز بن عبد السلام، وبسيط الغزالي، وشرح الرافعي، وروضة النووي. فأدينا المعنى بألفاظِ من عندنا.
وعبارة الأصل رسمت هكذا " لو دفع مراعمه الهام بامره ... دفعه ... إلخ " كذا تماماً رسماً ونقطاً. (انظر صورتها).
(1) في الأصل: " الكلام ".
(2) المكاوحة: المقاتلة والمدافعة (المعجم).

(17/371)


يبغي إزعاجه عن مكانه، فله ألاّ ينزع (1)، ثم يجر ذلك الدفعَ وارتفاعَ الحرجِ فيه.
والوجهان يجريان على جواز الاستسلام أيضاً؛ فإنا أجريناهما على تحريمه، غير أنا إذا جوزنا الاستسلام، فالأوجه وجوب الهرب حتى لا يهلِك، ولا يورّطَ صاحبه في التسبب إلى الهلاك.
11248 - والذي قطع به الأئمة، أنه يجوز للإنسان الذبُّ عن ماله كما يذب عن مهجته. وقال بعض الأئمة: للشافعي في القول القديم أن الدفع عن المال إذا كان لا يتأتى إلا بقتل القاصد أو إتلاف عضو من أعضائه، فلا يجوز دفعه، وهذا وإن أمكن توجيهه في القياس، فهو بعيد في الحكاية.
11249 - وقد حان أن نبتدىء القولَ في تدريج الدفع. قال الأئمة: ينبغي أن يقع الدفع بالأهون فالأهون، حتى إن أمكن الدفع بالكلام، فلا مَعدل عنه، وإن أمكن الدفع بالَّلكْم، فلا يعلو بالسوط، ولا ينتقل عنه إلى العصا والمثقّلات. ثم بعد ذلك كله يَشْهَر السلاح.
ثم [إذا قلنا:] (2) الاقتصار على الدفع، [فلو] (3) كان الصائل يندفع بسوطٍ -لو كان- فلم يجده المصول عليه، ولم يشتمل إلا من (4) سيفٍ أو سكين، ولو حذفه بالسيف، لقتله، فهذا فيه تردد؛ فإن الدفع ممكن من غير قتل. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: ليس يتأتى منه الدفع والحالة هذه إلا بما يجد، ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب السوط. والدليل عليه أن البصير الماهر بالسلاح يدفع صيال الصائل بوجوه لا [تأتي] (5) على الصائل، ولا [يستمكن] (6) منها كل أحد. ثم
__________
(1) ألا ينزع: أي لا يترك مكانه، يقال: نزع عنه إذا تركه، ونزعه عنه أخرجه منه، وأبعده عنه.
(المعجم).
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) في الأصل: " ولو ".
(4) من بمعنى (على). وجاء على هذا قوله جل وعلا: " ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا "
[سورة الأنبياء: 77].
(5) في الأصل: يتأتى. والمثبت من المحقق رعاية للمعنى.
(6) في الأصل: " يستمد ".

(17/372)


عدم الإحاطة بتلك الوجوه في الدفع لا يسبب ضماناً على الدافع المقتصر على ما يحسنه، والأمر كذلك إذا لم يجد إلا آلة يعظم أثرها.
وقد تمهد ابتدار الصائل، ووجوبُ الدفع، وجوازُه، ورعاية التدريج في الدفع.
وألحق الأئمة بهذا الفصل الأخير من استلب مالاً، وولّى، فاتّبعه صاحب المال، فإن ألقاه، لم يتبعه، ولو اتّبعه، وضربه، ضمن، وإن تشبث بذلك المال المسلوب، يجاذبه، فجرّ الأمرُ مكاوحةً، فهو قصدٌ ودفع كما ذكرناه.
فصل
قال: " ولو عضه كان له فكُّ لِحييه ... إلى آخره " (1).
11250 - إذا عضّ رجل عضواً من إنسان، فله أن يسلّها، وإن كانت تندُر (2) ثناياه، وإنما فُرض البناء على هذا الفصل لورود خببر فيه. وروي: " أن رجلاً عض يدَ رجل، فانتزعها فندرت ثناياه، فارتفعت القصّةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنايا العاض، وقال له: أيدع إصبعه في فيك تقضمها، كأنه في في فحل " (3) فإن لم يتأت منه سلُّ العضو، فله أن يعمد (4) فكَّه بما يفكه، حتى يخلِّيه، فإن لم يستمكن من الخلاص إلا باستعمال السلاح في العضو الجاني، فليستعمله، وإن كان لا يتأتى الخلاص إلا باستعمال السلاح في غير ذلك العضو مثل أن يعض العاض على قفاه، بحيث لا تناله يداه، ولا يجد مخلصاً إلا بوضع السكين في بطنه، فالأصح أنه يفعل ذلك، وإن خطر لذي خاطر أن منتهى عضِّ العاض خدشٌ وإيلام، فلا نظر إلى هذا، وقد مهدنا جواز قتل من يقصد إنساناً في الدفع عنه.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يضع السلاح في غير العضو الجاني. وهذا
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 178.
(2) تندُر: تسقط. (المعجم).
(3) حديث " أن رجلاً عضّ يد رجل فانتزعها ... " متفق عليه من حديث يعلى بن أمية، ومن حديث عمران بن حصين (البخاري: الديات، باب إذا عض رجلاً فوقعت ثناياه، ح 6892، 6893.
مسلم: القسامة والمحاربين، باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، ح 1673، 1674).
(4) يعمد: يقصد.

(17/373)


الوجه وإن كان مشهوراً في الحكاية، فلا أصل له، والذي أراه أن ينزّل فيه (1) إذا كان القصد من الجاني لا ينتهى إلى قتلٍ أو فساد عضو. فإن كان ينتهى إلى ذلك، وكان لا يتأتى تخصيص العضو الذي منه الجناية بالدفع، فالوجه القطع بتسليط المصول عليه على الدفع الممكن، وإن ظن ظان أن الوجه الذي حكيناه يوجب أن يخص يدَ الصائل بالدفع إذا احتوت على قبيعة (2) السيف، فهذا خطأ في ظنه، فإن الضرب بالسيف وإن كان صادراً من اليد، فالتحامل مضاف إلى جملة البدن، والرِّجل تلي اليد في حاجة الإقدام، فذلك الوجه إذاً يختص في العضو أو القبض باليد على عضوٍ، بشرط ألا يؤدي إلى الهلاك، أو إفساد عضو.
فصل
قال: " ولو قتل رجل رجلاً فقال: قد وجدته على امرأتي ... إلى آخره " (3).
11251 - مضمون هذا الفصل يتعلق بأمرين: أحدهما - أن من وجد رجلاً كما وصفناه، وحاول دفعه، فأبى، فيتعلّق هذا بالدفع والصيال، كما تمهّد، فإن أتى الدفع عليه، كان هدراً، بكراً كان أو ثيباً، هذا إذا اتصل الأمر بالقصد والدفع.
فأما إذا وجده بعده، فقتله، فإن كان رآه على حقيقة الزنا، وكان ثيباً، فهو هدر، وإن كان بكراً، وجب القصاص على القاتل، وإن اعترف بقتله، وادعى ما ذكرناه وكان محصناً، فإن لم يصدقه ولي القتيل، وأمكنه أن يُثبت الزنا ببينةٍ، فليفعل، وإلا فالقصاص واجبٌ عليه.
وأبو حنيفة يقول من قتل زانياً محصناً من غير إذن الإمام، لزمه الضمان، والمسألة مذكورة في الخلاف. وقد قيل: لما نزل قوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] قال سعد بن عبادة: " أرأيت لو وجدت رجلاً مع امرأتي قدَدْتُه بالسيف
__________
(1) ينزّل فيه: أي الصورة التي ينزل فيها هذا الوجه القائل: لا يجوز أن يضع السلاح في غير العضو الجاني.
(2) قبيعة السيف: مقبضه.
(3) ر. مختصر المزني: 5/ 178.

(17/374)


نصفين، قتلتموني أو تركتموني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتعجبون من غيرته، والله، لله أغير منه، ولأجله حرّم الفواحش " (1).
فصل
قال: " ولو تطلع إليه رجل من ثقب، فطعنه بعود ... إلى آخره " (2).
11252 - إذا تطلّع رجلٌ من صِير (3) بابٍ أو كوةٍ إلى حُرَم إنسان في الدار، ولا شبهة للناظر، فلا شك أن الذي جاء به جناية، وقد ثبت جواز قصد عينه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. فلو رمى إليه بمِدْرى أو حجرٍ صغير، مثل حصا الخذف، فأصاب عينه، وأعماه، كان هدراً. هذا مذهب الشافعي.
والمعتمد عنده في ذلك، ما روي: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في الحجرة، وكان بيده مِدْرى يحك بها رأسه، فتطلّع إليه رجل من صِير بابه، وقال: لو علمت أنك تنظرني أو قال: تطرفني، أو قال: تنتظرني، لطعنت بها في عينك، وإنما جعل الاستئذان لأجل البصر (4)، وروي أنه كان [يخاتله النظر، ليرمي عينه بالمدرى] (5) قال الراوي: أو كأنه لا يبالي لو لم يصرف عينه أن يَطْعَن بها في عينه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من اطلع إلى قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه، فلا قود، ولا دية " (6). هذا معتمد المذهب.
__________
(1) حديث سعد بن عبادة: " أرأيت لو وجدت رجلاً مع امرأتي .. " رواه مسلم من حديث أبي هريرة (ر. مسلم: كتاب اللعان ح 1499).
(2) ر. المختصر: 5/ 179.
(3) صِير الباب: شقه عند ملتقى الرتاج والعضادة. (المعجم).
(4) حديث: " أن رجلاً نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من صير الباب .. " متفق عليه من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه (البخاري: الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر، ح 6241، مسلم: الآداب، باب تحريم النظر في بيت الغير، ح 2156).
(5) ما بين المعقفين مكان عبارة مضطربة وألفاظ ملتبسة. والمثبت من لفظ الحديث.
(6) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وابن حبان والبيهقي، من حديث أبي هريرة (ر. المسند:=

(17/375)


11253 - ثم الغرض من الفصل ينتجز ببيان فصولٍ: منها - أنا نشترط أن يكون الناظر قاصداً في نظره، فلو وقع بصره وفاقاً، ولم يتبين أنه جرّد قصده إلى النظر، أو إدامتِه، فلا يجوز قصدُ عينه.
ومنها ألا يكون صاحبُ الدار مقصّراً، حتى لو كان باب الدار مفتوحاً، فنظر الناظر منه، لم يجز قصدُ عينه، فإن التقصير من رب الدار، وكذلك لو كان انهدم شيء من جدار الدار، فنظر ناظرٌ من تلك الثُّلمة، فلا يجوز قصدُ عينه.
فأما النظر من صِير الباب، ومن كوة يُعتاد مثلها، فهو النظر الذي يسلّط على قصد العين.
ومما نعتبره ألا يكون للناظر في الدار حُرَم، فإن كان، فلا يجوز قصد عينه، وإن كان لا يجوز له أن ينظر لجواز أن يكون في الدار حُرَمٌ لمالك الدار، ولكن ما له من الشبهة أسقطَ جواز قصد عينه.
واختلف أصحابنا في صورتين: إحداهما - أنه لو لم يكن في الدار إلا صاحب الدار، أو رجالٌ معه، فإذا نظر الناظر، ففي جواز قصد عينه وجهان: أحدهما - لا يجوز، ووجهه بيّن؛ إذ لا حُرم. والثاني - يجوز؛ فإن النظر حرام، وإن لم يكن حُرَم؛ إذ الرجل قد يكون منكشفاً، وقد يريد أن يكون آمناً من الاطلاع عليه، فينبغي أن يُحسمَ الباب، والأحاديث المسلِّطة على جواز قصد العين ليست مقيَّدةً بالحُرَم.
هذه واحدة.
والصورة الأخرى - أن يكون في الدار حُرَم، ولكن اتفق كونُهن متسترات ببيت أو غيره، ولم ينته اطلاع الناظر إليهن، فهل يجوز قصد عينه والحالة هذه؟ فعلى وجهين، والأظهر هاهنا الجواز، لاشتمال الدار على الحُرم، ولا يدري أن الاطلاع قد يتفق [وحالة التستر هذه] (1).
__________
=2/ 385، النسائي: القسامة، باب من اقتص وأخذ حقه دون السلطان، ح 4860، ابن حبان: 5972، البيهقي: 8/ 338، التلخيص: 4/ 160 ح 2152).
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

(17/376)


وهذه الصورة إذا ضمت إلى الأولى انتظم منهما ثلاثة أوجه: أحدها - جواز القصد، والثاني - منع القصد مطلقاً، وإن لم ينته النظر إلى حرم، والثالث - الفصل بين أن يكون في الدار حرم، وبين ألا يكون.
11254 - ثم إذا نظر الناظر حيث يجوز قصد عينه، فلا فرق بين أن يكون وقوفه في الشارع، أو في سكة منسدّة، أو يكونَ في ملكه الخالص، يعني ملك الناظر؛ فإن الجناية المردودة هي النظر، والنظر إذا امتدّ لم يختلف الأمر باختلاف موقف الناظر، ولا اعتذار له إذا ترك بصره منسرحاً إلى حرم غيره، بأن يقول: إني واقفٌ في ملكي، فيقال: فانظر إلى ملكك، وغُضَّ بصرك عن حرم الناس.
11255 - ثم ما صار إليه الأئمة في الطرق أن النظر إذا استجمع الشرائط التي ذكرناها، فيجوز قصدُ عين الناظر من غير تقديم إنذار، وفي الخبر ما يدلّ على ذلك؛ فإنا روينا أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاتل الناظر يرمي (1) عينه بالمدرى؛ وفيه طرف من المعنى يليق بتمهيد الأصول، وهو أن الغرض من جواز قصد العين المنعُ من النظر، فإذا كان المنظور إليه يقدّم النذير، فينتحي الناظر، ثم يعود وقد قضى وطره من النظر بالنظرة الأولى.
وقال القاضي: الذي أراه أنه ينذره، ويزجره عن النظر أولاً، ويجب ذلك، فإن لم ينزجر، قصدَ عينَه حينئذٍ. وهذا عند القاضي خارج على قياس الدفع؛ فإنه مبني على التدريج، والبداية بالأهون، فالأهون.
وهذا الذي ذكره، وإن كان منقاساً، فليست المسألة مدارة على القياس، وإنما المتبع الأخبار، ولا تفصيل فيها، بل في بعضها ما يدل على جواز القصد من غير تقديم إنذار كما قدّمناه.
قال صاحب التقريب في غير النظر: كل من قصد أمراً يسوغ دفعه عنه، فهل يجب على المصول عليه أن يقدم إنذاره أم يبتدىء الدفعَ فعلاً؟ من غير تقديم إنذار بالقول؟
__________
(1) في الأصل: " له من " والتصويب من نص الحديث.

(17/377)


قال: هذا عندي مخرج على استتابة المرتد، وقد ذكرنا قولين في وجوب استتابة المرتد.
وهذا الذي ذكره مما انفرد به، ولا بد فيه من تفصيل. وأما الأصحاب،
أطلقوا (1) أقوالهم بأن الدفع إن أمكن بالقول، فلا معدل عنه إلى الفعل، ثم التمسك في الأفعال بالأيسر، فالأيسر؛ فالوجه أن نقول: [التعويل] (2) على الذي يكون تخويفاً أو زعقة على الصائل، إن أمكن الدفع به، فلا يجوز أن يكون في وجوب البداية به خلاف، والذي ذكره صاحب التقريب هو إنذارٌ لا يكون دفعاً في نفسه، ولكنه من قبيل موعظة أو ما يقرب منه، فانتظم إذاً في الإنذار في غير مسألة النظر كلام لصاحب التقريب، كما ذكرناه، وإن لم نوجب الإنذار في غير النظر، لم نوجبه في النظر، وإن أوجبناه في غير النظر، ففي وجوبه في النظر تردّد للأصحاب على ما حكينا طريقةَ الأئمة، واختيار القاضي.
ثم مما يليق بتمام ذلك أنا إن لم نوجب الإنذار في سائر وجوه الدفع، فلا كلام.
وإن أوجبناه، فتَرَكَه، وقَتَلَ الصائلَ، ضمنه، بترك تدريج الدفع، وليس كما إذا أوجبنا استتابةَ المرتدّ، فلم يستتب، وابتدر مبتدرٌ، فقتله؛ فإن الضمان لا يجب؛ من جهة أن الردة مُهدرة، وهي واقعةٌ، فجرّت الاستتابةَ ثَمَّ بعد الإهدار.
11256 - ثم قال الأئمة: إذا جوزنا قصْدَ عينِ الناظر، فيجب ألا يزاد على ما يقصد بمثله العين، كبندقة أو حصاة خفيفة. وأما إذا رشقه المنظور إليه بنشابة، فهذا قتلٌ، وليس قصدَ عين، ولا شك في تعلّق القود والضمانِ به. نعم. لو كان لا يتأتى منه قصد عينه، وكان لا ينزجر عن نظره، فإنه يستغيث (3) عليه، ويقطع نظره عن نفسه، فإن أبى، فحينئذٍ [يدفع عن نفسه] (4)، ولا يتألّى (5) بأن يأتي الدفع عليه.
__________
(1) جواب أما بدون الفاء، وهو سائغ عند الكوفيين، وعليه جرى إمام الحرمين كثيراً، كما أشرنا من قبل مراراً.
(2) في الأصل: " القول ". والمثبت تصرف من المحقق.
(3) يستغيث عليه: أي يطلب الغوث.
(4) في الأصل: " يدفع عنه ".
(5) ولا يتألّى: أي لا يتحرّى ويجتهد أن يقتله. (المعجم).

(17/378)


11257 - ولو وقف الواقف بباب دارٍ، وكان يسترق السمع، فلا يجوز أن يَقصِدَ أذنَه، بخلاف ما إذا نظر؛ فإنه في استراقه السمع ليس يطلع على عورة، وإنما المحذور اتصال النظر بالعورات. هذا ما لا يجوز غيره. وقد قطع به القاضي لما سئل عنه، وفي بعض التعاليق عن شيخي تنزيل الأذن منزلة البصر.
وهذا لم أسمعه، ولست أثق بمن علّق عليه ذلك فيما زعم، ولم أردّد هذا ليعتدّ به، ولكن نبهت على غلطةٍ عظيمة للعاثر عليه حقيقة.
فرع:
11258 - إذا فتح رجل باب دار إنسان، ودخل داره، فلا شك أنه يُخرجه من الدار، فإن أبى، دفعه كما يدفعه عن ماله. ثم قال قائلون من أصحابنا: له أن يقصد عينه، لأنه متطلع ضامٌ إلى تطلعه هجومَه على الدار، وقال قائلون: يقصد رجله؛ لأنها المؤثرة، وإذا غلب أثرُ عضو خُصَّ بالدفع.
وهذا عندي كلام سخيف لا أصل له؛ فإنه دخل الدار ببدنه، [فله] (1) قصدُ جملته. فيخرج من مجموع ما ذكرناه أن الأصح قصدُ جملته، على التدريج المقدّم، ومن أصحابنا من أوجب تخصيص الدفع بالرِّجل. وهذا غلط. ومن جوّز قصد العين لا يوجب الاقتصار عليه وإنما الكلام في جوازه. فمن صائر إلى أنه يجوز، ومن صائر إلى أن تخصيص العين لا معنى له بعد ما ثبت دخوله، فهو الغالب، وعليه التعويل.
وهكذا يجب أن ترتب المسألة.
...
__________
(1) في الأصل: " فلو ".

(17/379)


باب ضمان البهائم
قال الشافعي رحمه الله: " الضمان على البهائم وجهان ... إلى آخره " (1).
11259 - مقصود الباب يحصره قسمان كما ذكره الشافعي أحدهما - القول فيما تتلفه البهائم إذا انتشرت، وليس معها ملاكها. والثاني - الكلام فيه إذا أتلفت شيئاً ومالكها معها.
فإن لم يكن المالك معها، وكان سيّب البهائم وانتشرت في المزارع، وأفسدت منها، فالذي يبتني عليه الفصل أن مالك البهيمة إذا انتسب إلى التقصير في التسييب، ولا ينسب مالك الزرع إلى التقصير في الحفظ، فالضمان يجب على مالك البهيمة.
هذا أصل الباب.
وإن لم يكن من صاحب البهيمة تقصير في التسييب، وكان التقصير من صاحب الزرع في ترك الصَّوْن المعتاد، فلا ضمان.
ومعتمد الباب: " أن ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائطَ قومٍ، وأفسدت زرعاً لهم، فرُفعت القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى بأن على أرباب الأموال حفظَها بالنهار، وعلى أرباب المواشي حفظها بالليل " (2). فما أتلفته البهائم
__________
(1) ر. مختصر المزني: 5/ 179.
(2) حديث ناقة البراء بن عازب وإتلافها الزرع ... ، رواه مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي. (ر. الموطأ: 2/ 847، ترتيب مسند الشافعي: 2/ 107 ح 358، المسند: 5/ 435، 436، أبو داود: البيوع، باب المواشي تفسد زرع القوم، ح 3570، النسائي في الكبرى: العادية، باب تضمن أهل الماشية ما أفسدت مواشيهم بالليل، ح 5784، ابن ماجه: الأحكام، باب الحكم فيما أفسدت المواشي، ح 2332، الدارقطني: 3/ 156، ابن حبان: 5976، الحاكم: 48/ 2، البيهقي: 8/ 341، التلخيص: 4/ 162 ح 2155.

(17/380)


بالليل، فهو ضامن على أهلها: معناه فهو مضمون على أهلها. وهو كقولهم: سرٌّ كاتم. أي مكتوم.
ثم قال الأصحاب: إذا تمهد المقصود، واعتضد بخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالرجوع فيما يكون تقصيراً من كل جانبٍ إلى العادات، والعادة الغالبة أن المواشي تسرح نهاراً في المراعي، وأرباب الزرع يحفظون زرعهم بالنواطير والحفظة المترتبين. ثم إن أرباب المواشي يردّدون مواشيهم إلى مرابضها، ولا يتركونها تنتشر ليلاً، فإن هي انتشرت، فالتفريط معزيٌّ (1) إلى ملاكها، ويلزمهم الضمان، حتى قال الأصحاب: إن كان العادة في بعض الأقطار على العكس من ذلك، فكانت المواشي ترسل ليلاً لترعى، وتربط نهاراً، والزروع تحفظ ليلاً، فالأمر ينعكس. والمتبع التفريط، كما ذكرناه. هذا أصل المذهب.
وحكى الشيخ أبو علي قولاً: أنا نتخذ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مرجوعنا، فلا نعدل عنه، ولا ننظر إلى اختلاف عادات البلاد، فكل ما يقع نهاراً، فلا ضمان على ملاك البهائم، وكل ما يقع ليلاً، فعليهم الضمان؛ فإن تتبع العادات عسير، فالوجه البناء على غالبها، وترك المبالاة بما يندر.
11260 - ومما يتصل بما نحن فيه أن قائلاً لو قال: إن المواشي، وإن كانت ترسل نهاراً؛ فإنها لا تخلو عن راعٍ مراعٍ لها، ولا تسيّب من غير مراقبة، وإذا كان كذلك، فمن يرعاها يجب أن يكلأها، وقد تتسع المزارع حتى يعسر حفظها بالنواطير، وحفظ المواشي بالرعاة أقربُ في حكم الاعتياد.
وهذا متجه إن راعينا العادة، والوجه فيه أن نقول: هذا قول من لم يُحط بوضع الفصل، فإنا قلنا: مضمون الباب قسمان: أحدهما - في بهائم مسيبة لا حافظ معها، والآخر - فيه إذا كان معها من يكلؤها. فإذأ فرض الفارض مواشٍ عليها راعٍ مالكاً كان أو أجيراً، فلا خلاف أن ما تُتلفه يجب الضمان فيه، على ما سنشرحه في القسم الثاني، إن شاء الله تعالى. فإذاً هذا القسم في بهائمَ لا راعي معها. فإن قيل تسييبها
__________
(1) معزي: الفعل واوي ويائي: تقول: معزوّ ومعزي.

(17/381)


غير معتاد، فليس كذلك إذاً. وقد يعتاد التسييب في المواشي الممتنعة من صغار السباع كالإبل والبقر والخيل، وقد تسيب الأغنام حيث لا ذئاب ولا سباع، ففي مثل ذلك نقول: لا تفريط على المسيب.
فإذا اندفع السؤال يتكرر التصوير، فلو صوّر مصوّر التسييب في الأغنام تضييعاً، ففي هذا نظر، فإن التضييع -إن كان (1) - آيل إلى الأغنام، فلا يُعد هذا عدواناً على المزارع، ولا أُبعد أن يفصل الفاصل بين أن تتسيب في مواتٍ بعيدةً عن المزارع، ثم يتفق انتشارها إلى أطراف المزارع، وبين أن يرسلَها في أطراف المزارع. فإن فعل ذلك من غير راعٍ، فإنها تنتشر، ويعد مثل ذلك تسبُّباً إلى إفساد الزرع.
ومن اتخذ الخبر معتبره، لم يلتفت على هذه التفاصيل.
11261 - والمذهب الصحيح اتباع المعنى، وتنزيل الخبر على ما وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه، وإذا كنا نتبع المعنى، فيبعد كلَّ البعد ألا ينسب أرباب المواشي إلى التفريط إذا أرسلوها في إيتاء (2) الزروع، وتركوها غيرَ مرعية؛ فإن هذا على القطع يخالف العادة، والوجه أن تبعد عن المزارع، ثم قد تتسيب إذا لم تكن في مشابع ومواضع يتوقع ضياعها، وأرباب الزرع يحفظون أطراف الزرع حتى لا تنعكس عليها المواشي المسيبة.
ومما ذكره المفصلون المتبعون للمعنى: أن البساتين إذا كانت عليها أغلاقها، وأبوابها، أو كانت الزروع في محوطات على هذه الصفة، فالعادة جارية بردّ الأبواب، والاستيثاق بالأغلاق، فلو ترك أربابُ البساتين الأبوابَ مفتوحةً بالليالي، فانتشرت فيها المواشي، فقد قال الأصحاب: لا ضمان؛ تعويلاً على تفريط ملاك البساتين، ومعنى تفريطهم خروجُهم عن العادة، وتركُهم الاحتياط مع سهولة اعتياده.
فإن قيل: فقد فرط أرباب المواشي في إرسالها أيضاً. قلنا: نعم. ولكن تضييع البساتين مستقلٌّ في إسقاط الضمان، ولا نظر بعد هذا إلى تفريط ملاك المواشي. ثم
__________
(1) كان هنا تامة. والمعنى -كما هو واضح- إن وجد التضييع.
(2) إيتاء: من آتى الزرع إيتاءً: إذا ظهر ثمره وكثر حمله. (المعجم).

(17/382)


لا تفريط في إرسال المواشي ليلاً في حق أصحاب البساتين إن جَرَوْا على الاعتياد، حتى لو لم يكن إلا البساتين، فلا تفريط في إرسال البهائم ليلاً، وإن كان في الموضع بساتين ومزارع ضاحية (1)، فإرسال البهائم تفريط في المزارع، وليس تفريطاً في البساتين. وقد تمهد أصل [المذهب] (2) فيما تتلفه المواشي إذا انتشرت، ولا حافظ معها.
11262 - ونحن نضبط القسم الثاني، ثم نذكر فروعاً، فنقول: إذا كان صاحب البهيمة معها، فالغالب فيما تتلفه البهيمةُ سبَق مفصلاً في الباب المشتمل على الأسباب المقتضية للضمان. ولكنا نعيد معاقد المذهب، فنقول: ما تتلفه البهيمة مما يُقدّر التصوّنُ عنه بالرعاية والحفظ، ولا ينسدّ به رِفقُ (3) الطروق، فهو مضمون. ثم قال الأصحاب: يضمن الراكب ما تتلفه البهيمة بيديها إذا [خبطت] (4)، وبرجليها إذا رَمَحت ورفست، وبفمها إذا عضّت، وقضَوْا بأنه يضمن بهذه الجهات إذا كان قائدها أو سائقها [معها] (5).
وقد ضمَّنَّا ضبط المذهب قيوداً، وفي ذكر معناها تمام الغرض، فنقول: لا سبيل إلى منع البهائم من الطروق، ثم في طروقها فسادٌ لا سبيل إلى دفعه، ولا يمكن التحرّز منه، فإنها تثير الغبار لا محالة، ثم يتعلق بما يثور من الغبار ضِرار في ثياب البزَّازين، والفواكه وغيرها، ولكن ذلك محتمل، وقد ظهر الأمر في ذلك حتى انتهى إلى أن هذا لا يُعلم ضراراً إلا إذا رُدَّ النظر إليه (6)، وكذلك ممشاها في الشتاء، وكثرة الوحول والأنداء، تطيّر رشاشاً، لا يمكن دفعه بالتحفظ، فذلك القدر لا ضمان فيه؛
__________
(1) ضاحية: أي ظاهرة ومكشوفة غير محوطة.
(2) في الأصل: " المذاهب ".
(3) رِفق الطروق: أي لا يمنع من سهولة المرور. (المعجم).
(4) في الأصل: " اخطت ". والمثبت من عبارة الغزالي والرافعي وغيرهما. وخبطها: ضربها بيدها.
(5) زيادة من المحقق.
(6) أي إذا تأمله المتأمل.

(17/383)


فإن في تقدير الضمان فيه منعها من الطروق، وفي منعها [من] (1) المرافق التي يدنو بعضها من الضرورة ما يَبَرّ (2) على ضِرار رشاشها. نعم المفرط منه قد يمكن التصوّن منه، كأن يجري على رِفْق (3)، ولا يجري على مجتمع الوحول.
وما يجرّ ضِراراً لا يمكن دفعه، ولكن مثله غير معتاد، فإذا جرى، تعلّق الضمان به. وبيانه أن الإبل تقاد مقطّرة، ولو تركت أرسالاً، واستَبقَت في الأسواق، لخرج أمرها عن الضبط، وإمكان التصوّن. ولكن هذا النوع لا حاجة فيه، فسبيله أن يمنع أصلاً.
وكذلك الدابة النَّزِقَة التي لا تنضبط بالكبح والترديد في معاطف اللجام ولا يتأتى ضبطها، فلا جَرَمَ لا تركب في الأسواق، وينسب راكبها إلى الإتلاف؛ فإن مثل هذه الدابة تركب في متسع الصحراء، فما كان كذلك، فلا ضرر في منعه، فيمنع، فإن [اتفق] (4)، علَّقْنا الضمان به. [فما] (5) أمكن الضبط فيه إذا لم يتفق الضبطُ، تعلّق الضمان به، وما لا يمكن ضبطه بالتصوّن، ولو منعنا أصله، لانسدّت المرافق، فذاك محتمل لا ضمان فيه. وعلى صاحب الدابة بذلُ المجهود، وعلى صاحب المتاع صون المتاع.
هذا ضبط هذا القسم، وقد مهدناه مطوّلاً مفصلاً فيما تقدّم. وهذا الكلام الوجيز ينبّه على جميع ما تفصل.
فرع:
11263 - إذا انتشرت هِرَّةٌ لإنسان، وأهلكت طيوراً، أو عاثت في قدورٍ، فقلبتها، فقد اضطرب الأصحاب فيه، فقال قائلون: لا يتعلق الضمان بها، فإن العادة ما جرت بربط السنانير، وعمت العادة بحفظ الطيور والقدور وأمثالها عنها.
ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان على صاحب الهرّة على الجملة؛ فإنه إن
__________
(1) عبارة الأصل: " وفي منعها انقطاع المرافق ... ".
(2) يبرّ: يزيد (المعجم).
(3) رِفق: أي على مهلٍ واقتصاد في السير.
(4) في الأصل: " اتفقت ".
(5) في الأصل: " وإن ".

(17/384)


عسر ربطها، لا يعسر سدّ المنافذ حتى لا تنفذ منها إلى دور الجيران، ثم الذين أوجبوا الضمان اختلفوا: فقال قائلون: ما تتلفه نهاراً، فعلى صاحبها الضمان، وما تتلفه ليلاً، فلا ضمان؛ فإن الأشياء تحفظ عن الهرّ ليلاً، ولا يحتاط فيها نهاراً. فإذا تقدّر التلف نهاراً، فالتفريط غير منسوب إلى أصحاب الطيور وما في معناها.
ومن أصحابنا من يعكس ذلك، فيقول: ما تتلفه ليلاً يضمنه ربُّها؛ فإن أكثر شرِّها وانتشارها بالليل، إذا نام الحفظة، والأعين الكالئة، فينبغي أن يحتاط ربها، وما تتلفه نهاراً، فالتفريط فيه على ملاك الطيور؛ من حيث غفلوا عن مراقبتها.
وما ذكرناه في هرّة لا تعهد ضارية، فأما إذا ضَرِيتْ بالإفساد، وقتل الطيور، فأول ما نذكره فيها أنها إن كانت لم تقتل، وإن كانت مسيبة، فقد قال القفال: لا تُقتل أيضاً؛ فإن الاحتراس، والاحتراز منها ممكن، فتُدفع، فإن أتى الدفعُ عليها، فلا حرج.
وقال القاضي: إذا ظهرت ضراوتها، وبان شرها في إهلاك الأموال والطيور، فيجوز قتلها كما يقتل الكلب العقور. ثم قال: لا يختص جواز قتلها بوقت ظهور شرها، بدليل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمر بقتل الفواسق في الحل والحرم " (1)، ولم يخصص بوقت بدوّ شرها، وشرُّها في الأموال أو في البهائم، فإن مما أُمر بقتله الغراب والحدأة، وإن كان شرهما في ضِرارٍ وفي أمور تتعلق بالمعايش.
وهذا متجه، فإن اتفقت ضراوة الهرّة، التحقت بالمؤذيات، [فمساق] (2) هذا الكلام يتضمن جواز قتلها، وإن كانت ربيطة. وليت شعري ماذا نقول في الحدأة المَصِيدة التي اختص بها من اصطادها، وهي في قفصه أو رباطه، فهل يحلّ قتلها؟ الحديث يقتضي جوازَ قتلها، ولا يجري الملك فيها، كما لايجري الملك في الحشرات، ولا يحلّ إذاً على هذا اقتناؤها، بل على من يستمكن منها أن يقتلَها. وإن
__________
(1) حديث " أمر بقتل الفواسق في الحلّ والحرم " متفق عليه من حديث عائشة (ر. البخاري: جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، ح 1829. مسلم: الحج، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، ح 1198).
(2) في الأصل: ومساق.

(17/385)


بعد هذا عن فهم الناظر ضربت له اقتناء [الأسد] (1) مثالاً، وإن كان مربوطاً [مقيداً] (2)، فكذلك المؤذيات من الحشرات، فعلى هذا تقتل الهرّة، وإن كانت ربيطة. وقد انتظم لي من كلام الأصحاب أن الفواسق مقتولات؛ لأنه [لا] (3) يعصمها الاقتناء، ولا أثر للاختصاص فيها، ويلحق بها المؤذيات بطباعها، كالأُسْد والنمور، وما في معانيها.
11264 - وما لا يؤذي بطبعه، وفي جنسه ما يؤذي، والمؤذي منه يقبل التأديب، فإذا لم تكن مؤذية لم تقتل، وإذا اتفق فيها مؤذٍ، فإن كان عن وفاقٍ لا عن ضراوة، فتُدفع في وقت صيالها، ولا تُتْبع إذا أُتْلِفت، وما ظهر منها التولّع والضراوة، فإن كانت مسيبة ففي قتلها في غير حالة القصد كلام للقفال والقاضي، وفي قتلها وهي ربيطة على مذهب القاضي تردّد: يجوز أن تلتحق بالفواسق، ويجوز ألا تلتحق، وذكر بعض المصنفين أن الكلب العقور الضاري بالعَقْر، بمثابة الهرّة المؤذية، في التفصيل الذي ذكرناه. وهو غير سديد؛ فإنّ الكلب العقور إن لم يكن فيه منفعة، فهو بمثابة الفواسق، وإن كان فيه منفعة، فيشبه أن يكون كالهرّة في التفاصيل، وهي (4) على الجملة أولى بالقتل؛ لأن عَقْرها، وعدوانها عظيم. وقد يتعلق بالناس وكبار البهائم.
فرع:
11265 - إذا اقتضت العادة ربطَ البهائم ليلاً، فربطها مالكها، ولم يقصر في الاحتياط المعتاد في الرباط، فانسلّت، فأفلتت وانتشرت، وأفسدت الزرع، فالحكم فيها كالحكم في الدابة المركوبة إذا حرنت وانسلت [من] (5) عِنانها في نفارها، وأفسدت، وقد تقدّم ذلك في باب الاصطدام.
__________
(1) زيادة من المحقق على ضوء كلام الغزالي، ونصه " وكذلك نقول بقتل الحدأة المحبوسة في القفص، وكأنه لا ملك في الفواسق، ولا ينفع الاقتناء في الأسد، والذئب، والنمر، ويجوز قتل الكل في الحل والحرم بكل حال " (ر. البسيط: 5/ورقة: 149 شمال).
(2) في الأصل: " مقدماً ".
(3) زيادة من المحقق، وهي ثابتة في عبارة الغزالي، وفيما نقله الرافعي والنووي من عبارة الإمام.
(4) كذا في الأصل وفي البسيط للغزالي بنفس الألفاظ، والضمير (وهي) يعود على جمع الكلاب.
(5) زيادة اقتضاها السياق.

(17/386)


فرع:
11266 - إذا دخلت البهيمة المزرعة، فهيجها صاحب الزرع، فوقعت في زرع الجار، قال الأئمة: إن اقتصر على تنفيرها من زرع نفسه، فلا ضمان عليه، وإن اتبعها بعد الخروج من زرعه حتى أوقعها في زرع الجار، توجّه الضمان.
ولو كانت مزرعته محفوفة بمزارع الناس، وكان لا يتأتى إخراجها إلا بإدخالها مزرعة الغير، ولم يكن طريقٌ ومسلك إلا دخول زرع الغير، والمزرعة متصلة بالمزرعة، فسوق الدابة، وإخراجُها، وإدخالها في مزرعة الغير، وليس للإنسان أن يجعل مال غيره وقاية مال نفسه، فإنْ فَعَلَه كان ظالماً -والمزارع ليست لصاحب الدابة، حتى تنتشر الظنون وتتقابل الخيالات- فالذي أراه أن هذا الطارد المخرجَ للدابة مهلكٌ لزرع الغير على سبيل المباشرة، وترْكُ البهيمة تنتشر سببٌ من مالكها، والمباشرة تغلب السبب، فعلى صاحب الزرع أن يترك البهيمة، ثم يُغرِّم صاحبَها ما تتلفه.
وينشأ من هذا أن البهيمة لو انتشرت انتشاراً مضمَّناً في مزرعة إنسان، وتمكن المالك من طردها، فتركها حتى أفسدت، فالذي يليق بمضمون الباب أنه يطردها، فإنّ ترك الطرد مع التمكن تضييع، وإذا كنا نحط ضمان زرعه لتركه الباب مفتوحاً؛ من حيث إنه مضيع، فالذي يليق بما نحن فيه أنه بترك الطرد مُضيِّع.
فإن قيل: ما بال الأروش تتعلّق برقبة العبد، ولا تتعلق برقبة البهيمة حيث يتعلّق الضمان بفعلها؟ قلنا: الضمان في البهيمة محالٌ على تقصير المالك، والبهيمة كالآلة، والعبد ملتزمٌ ذو ذمة، وأقرب ما يؤدي منه ما يلزمه رقبتُه. فإن تُصوّر عبدٌ أعجمي يضرى ضراوة السبع، فهل يتعلق الأرش برقبته؟ خلافٌ قدّمناه في الأصول السابقة.
فرع:
11267 - إذا وقفت الدابة، فبالت وراثت، فالبول منها والروث لا يتعلّق بهما ضمان في الممرّ، وهذا لا سبيل إلى دفعه، فأما إذا اتفق مزيد انتشار بسبب وقوف الدابة، فقد قال الأصحاب: إن كان الطريق ضيقاً (1)، فوَقْف الدابة عدوان،
__________
(1) الطريق يذكر في لغة أهل نجد، ويؤنث في لغة الحجاز.

(17/387)


وما يترتب عليه يقتضي الضمان، وإن كان الطريق واسعة، فَوقْفُ الدابة معتاد، ووقوفها كمشيها. وهذا عندنا يلتفت على مسألة في باب الاصطدام، وهي إذا اصطدم الماشي بالواقف، فهل ينسب إلى الواقف عدوانٌ؟ فيه كلام، وما ذكرناه منزل عليه.
فرع:
11268 - إذا كان يسوق دابة عليها حطب فتخرَّق به ثوب، فإن كان الذي تخرق ثوبه بصيراً مقابلاً، ووجد مُنْحَرَفاً، فلا ضمان، فإن التقصير منه، وإن كان مستدبراً، فإن أعلمه سائق الدابة، فلم يتحرز، فلا ضمان، وإن لم يعلمه حتى تخرق ثوبه ضمن؛ فإن الإعلام في مثل ذلك معتاد.
***

(17/388)