نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الضحايا (1)
11588 - الأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]، وقوله: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32]، وقال صلى الله عليه وسلم: " عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم " (2). واتفق المسلمون على أن التضحية من الشعائر البيّنة، والقُربات الأكيدة، واختلف العلماء في وجوبها، فمذهبنا أنها سُنة مؤكدة، وليست واجبة إلاّ بنذر والتزام، على ما سيأتي تفصيل ذلك في أثناء الكتاب، إن شاء الله تعالى.
11589 - ثم إن الشافعي صدر الكتاب بما يستحبُّه للعازم على التضحية، فقال: " ينبغي لمن يريد التضحية ألا يأخذ من شعره وظفره شيئاً في عشر ذي الحجة " واختلف الأصحاب في تعليل ذلك، فقال قائلون: سبب هذا التشبُّهُ بالمحرمين؛ فإنهم الأصلُ، وهم أصحاب الهدايا والقرابين.
وهذا غيرُ سديد؛ فإنا لا نأمر العازم أن يجتنب الطيب ولبس المخيط، فتبيّن فسادُ هذا الاعتبار، ومن أصحابنا من قال: سبب ذلك أن التضحية في مشهور الأخبار سببٌ في استجلاب الغفران والعتق من النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن
__________
(1) يبدأ من هنا اعتماد النسخة (ت 6) أصلاً، والنسخة (هـ 4) نصّاً مساعداً، والله سبحانه المسؤول أن ييسّر ويعين على الإتمام والسلامة من الخلل، والهداية إلى الصواب.
والحمد لله جل وعلا، فبينما الكتاب ماثل للطبع جاءنا جزء من نسخة أخرى، من مكتبة الأقصى، فك الله أسره، وطهره من رجس الصهاينة الغادرين، ويبدأ هذا الجزء من أول الضحايا وينتهي بباب الامتناع من اليمين من كتاب الأقضية والشهادات، وقد راجعناه، ولم نر فروقاً تستحق التسجيل، اللهم إلا مواضع قليلة أثبتناها، وقد رمزنا لهذه النسخة بـ (ق).
(2) حديث " عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم " قال الحافظ: لم أره، وقال ابن الصلاح: هذا الحديث غير معروف ولا ثابت فيما علمناه (ر. التلخيص: 4/ 250 ح 2236).

(18/161)


كان [يحرِّضه] (1) على التضحية: " أكبر ضحيتك، يعتق الله بكل جزء منها جزءاً منك من النار " (2) وقد رُوي صريحاً أنَّ رسول الله صلى النه عليه وسلم قال: " إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يُضحِّي فلا يمسّ من شعره وبشرته شيئاً " (3).
فصل
قال: " ويجوز في الضحايا الجَذَع من الضأن والثنيّ من الأبل والبقر والمعز ... إلى آخره " (4).
11590 - هذا الفصل يشتمل على ذكر الأجناس التي يتعلق التضحية بها، وعلى ذكر الأسنان المعتبرة في الضحايا، وعلى ذكر الصفات المرعيّة فيها: أما الأجناس، فلا تضحية إلاّ بالنَّعم، وهي الإبل، والبقر، والغنم.
وأما السّنّ المعتبرة، فالمجزىء من الضأن الجذع، وهو الذي استكمل السنة الأولى، وطعن في الثانية، والذكر والأنثى سواء في الإجزاء، إذا استجمعا الصفات المعتبرة، كما سنذكرها.
والمجزىء من المعز والبقر والإبل الثنيّ، والثنيّ من المعز والبقر ما استكمل سنتين، وطعن في الثالثة، ويُسمى ما كان على هذه السّنّ من البقر المُسن والمسنّة، والثنيّ من الإبل ما استكمل الخمس وطعن في السادسة، وقد ذكرنا أن الذكر والأنثى في الإجزاء سواء، وإنما اختلفت أسنان الثنايا لغرضٍ جامعٍ لجميعها، وهو التهيّؤ
__________
(1) في الأصل: " يعزمه ".
(2) حديث " أكبر ضحيتك يعتق الله بكل جزء منها جزءاً منك من النار " قال ابن الصلاح: (هذا حديث غير معروف، لم نجد له سنداً يثبت " وقال الحافظ: لم أره هكذا. (ر. التلخيص: 4/ 252 ح 2368، مشكل الوسيط لابن الصلاح- بهامش الوسيط: 7/ 132).
(3) حديث " إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي ... " رواه مسلم، والترمذي، والحاكم.
(ر. مسلم: الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو مريد التضحية أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً، ح 1977. الترمذي: الأضاحي، باب ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي، ح 1523. الحاكم: 4/ 221. التلخيص: 4م 251 ح 2366).
(4) ر. المختصر: 5/ 211.

(18/162)


للحمل والطروق والنَّزَوان في الغالب، قيل: إنما يغلب هذا المعنى في الثَّنِيّ والثَّنِيَّة من الإبل، وهو غالب في الثني والثنية من المعز والبقر، والصفة التي ذكرناها من التهيؤ للحمل والنزوان تضاهي معنى البلوغ في الإنسان، ولا يحمل في الغالب إلا ثَنِيَّة من الإبل، وهي التي استكملت خَمْساً وطعنت في السادسة، وهذا المعنى بعينه يحصل على العموم والغلبة في الجَذَع والجَذَعَة من الضأن.
ثم كما أن ما دون البلوغ من الإنسان صغير، فما دون هذه الأسنان من النَّعم في حكم الصغر.
هذا بيان الأسنان وهي منصوص عليها في الأخبار.
11591 - أما الكلام في الصفات، فقد قال الشافعي " ولا يُجزىء في الضحايا العوراء البيّن عورُها ... إلى آخره " (1) روى البراء بن عازب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أربع لا تجزىء في الضحايا: العوراء البيّن عورها، والعرجاء البيّن عرجها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء الّتي لا تُنقي " (2) وقد رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه " أنه نهى عن الشَّرقاء، والخرقاء، والمقابَلة، والمدابَرة " وعنه رضي الله عنه أنه قال: " أمرنا أن نستشرف العين والأذن " (3) أي نتأملها ونطّلع
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 211.
(2) حديث " أربع لا تجزىء في الضحايا ... " رواه مالك، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي (ر. الموطأ: 2/ 482، المسند: 4/ 300، أبو داود: الأضاحي، باب ما يكره من الضحايا، ح 02802 الترمذي: الأضاحي، باب ما لا يجوز من الأضاحي، ح 1497، النسائي: الضحايا، باب ما نهي عنه من الأضاحي، ح 4369، ابن ماجه: الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به، ح 3144، ابن حبان: ح 5889، الحاكم: 4/ 223، البيهقي: 9/ 274، التلخيص: 4/ 254 ح 2374).
(3) حديث علي " أمرنا أن نستشرف العين والأذن " وأنه صلى الله عليه وسلم " نهى عن الشرقاء، والخرقاء ... " رواه أحمد وأصحاب السنن والبزار وابن حبان والحاكم والبيهقي (ر. المسند: 1/ 80، أبو داود: الأضاحي، باب ما يكره من الضحايا، ح 2804، الترمذي: الأضاحي، باب ما يكره من الأضاحي، ح 1498، النسائي: الضحايا، باب المقابلة وهي ما قطع طرف أذنها، ح 4372، ابن ماجه: الأضاحي، باب ما يكره أن يضحى به،=

(18/163)


عليها؛ كيلا يكون بها نقص أو عيب. أما الشرقاء فهي المشقوقة الأذن، والخرقاء هي المخروقة الأذن، والمقابَلة هي التي قطعت فِلقة من أذنها، ولم تفصل، بل تركت متدلية من قُبالة الأذن، والمدابرَة هي التي تدلت فِلقة مقطوعة غير مفصولة من دبر الأذن. وفي بعض الألفاظ النهي عن التَّوْلاء، وهي المجنونة التي تستدير في المرعى، ولا ترعى رعياً به احتفال، والعجفاء الهزيلة، وقوله: " لا تُنقي " معناه لا نقيَ لها، والنِّقيُ المخُّ، وأما العرجاء، فمعناها بيّن، وذِكْرُ البيّن فيها، وفي العوراء يأتي مشروحاً في تفصيل المذهب، إن شاء الله.
11592 - ثم ترتيب القول والضبط في الصفات أن نقول: هي منقسمة إلى ما يتعلق باعتبار اللحم، وإلى ما يتعلق بالاستحسان في الصورة والهيئة، فأما ما يتعلق باللحم، فينقسم: فمنه ما هو صريح في هذا المعنى، وهو المعنيُّ بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العجفاء، والعجفاءُ الهزيلة، ثم إن المصطفى صلى الله عليه وسلم تعرض للمبالغة في هذه الصفة؛ إذ قال: " العجفاء التي لا تُنْقي " أي لا تنيل ولا تعطي نِقياً، ويجوز أن يكون المعنى لا تنقي الأكل، أي لا تكسبه نِقْياً.
وتبيّن من مضمون الحديث أن السِّمن البالغ غيرُ معتبر في الإجزاء؛ فإن ابتداء الوصف بالعجف يناقض الوصف بالسِّمن، وابتداء العجف غيرُ مانع من الإجزاء حتى يبلغ مبلغاً ينافي الإنقاء، وهذا لا ضبط فيه؛ إذ لا يمكننا أن نقول: العجفاء التي لا تجزىء هي التي بلغت نهاية العجف، وغاية الهزال، ولعل أقرب معتبر في هذا أن تصير بحيث لا يرغب في تعاطيها والتناول منها طبقة غالبة من طلبة اللحوم في سني الرخاء. فهذا أقرب معتبر، والناس على اختلافٍ بيّن في طلب السمن، فمنهم من يبغيه ومنهم من يطلب لحماً ليس بالسمين، ولكنه رخْصٌ لطيف المطعم.
11593 - فأما ما يتعلق بصفة اللحم على تقريب، فالمريضة والتَّوْلاء والجَرباء والعرجاء والعوراء، فأما المريضة، فقد ورد تقييد المرض فيها بالبيّن، وهذا يرجع
__________
=ح 4143، مسند البزار: 2/ 321، ابن حبان: ح 5890، الحاكم: 1/ 468، البيهقي: 9/ 275، التلخيص: 4/ 255 ح 2376).

(18/164)


إلى اللحم؛ فإن المرض إذا بان وظهر، ظهر بحسبه العَجَف والهزال، وهذا صريح في أن عدم المرض لا يؤثر، والجرباء وإن ورد ذكرها في الخبر في معنى المريضة.
ثم لو فرضَ فارضٌ مريضة مرضها بيّن، ولم تبلغ بعدُ في الهزال مبلغاً لا تُنقي البهيمة المتصفة به، فالوجه القطع بأنها لا تُجزىء، ولو كان المرض يعني العَجَفَ، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتصر على العجفاء من بين هذه الصفات، فإذا ذكر العجفاء وذكر المريضة، تضمن تعديدُ هذه الصفات أن كل صفة في نفسها معتبرة معنية في المنع عن الإجزاء، ويمكن أن يقال: إذا بان المرض، فسد اللحمُ، وصار مضراً، فلحم المريضة إذا بان مرضها، كلحم العجفاء التي لا تُنقي.
وأما الجرباء، فقد قال شيخي: أدنى الجرب يُفسد اللحم، فهو في معنى المرض البيّن، وهذا أراه متروكاً عليه؛ فإن أدنى الجرب لا يظهر أثره [في اللحم] (1) ومهما (2) بدا شيء منه في طرف من أطراف البهيمة، لم يظهر أثره في اللحم. نعم، إذا عم، أو ظهر ظهوراً فاحشاً، فهو يُهزل إهزال المرض، ولا يبعد أن يفسد اللحم، فلا بد وأن يكون بيّناً، كما ذكرناه في المرض.
وأما التولاء، فإنها لا ترعى رعياً معتبراً، وإذا استحكم ذلك بها، بان هزالها على القرب.
وأمّا العرجاء، ففي الحديث التقييد بالعرج البيّن، وهذا دليل ظاهر على أن أدنى منازل العرج لا يمنع الإجزاء، كما ذكرناه في المرض. ثم قال العراقيون: العرجاء التي لا تُجزىء، هي التي لا تقدر على المشي، وهذا اللفظ فيه تجوُّز؛ فإنّ الّتي لا تقدر على المشي هي الزَّمِنة التي لا تعمل إحدى قوائمها، وإنما تزحف، ولا يشترط انتهاء العرج إلى هذا الحد، ولكن العرج البيِّن هو الّذي يؤثر أثراً بيّناً في المنع من التردد على المرعى، والنَّعم لا تأخذ حظوظها إلا بالتداور؛ فإن ما بالقرب منها ينفد على القُرب، وقد لا تصادف في كل وقت في مراعيها رياضاً أُنفاً، بل الغالب احتياجها إلى التردد، فإذا ظهر العجز عن التردد، ظهر بحسبه نقصان العَلف،
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) مهما: بمعنى إذا.

(18/165)


وأفضى ذلك إلى الهزال، وليس ما ذكرناه مخالفاً لما ذكره العراقيون، بل لم نشك في أنهم أرادوا بالعجز عن المشي العجزَ عن المشي الذي يُراد لاستيفاء العلف.
وأما العوراء، فهي التي بفرد عين، وهذا يؤثر في تنقيص الرعي، فإنها لا ترعى من أحد الشقين، ولا ترعى إلاَّ من الشق الذي ترى فيه، فهذا يؤثر في اللحم، ولو كان على إحدى عينيها نكتة، وكانت ترى على حال، أجزأت، وإن كان البصر في تيك العين ضعيفاً، وتأكيد رسول الله صلى الله عليه وسلم العوراء بالعور البيّن نصٌّ في ذلك.
فهذا كلام على الجملة في تقدير رجوع هذه الصفات إلى اللحم.
15941 - ثم العجفاء على البيان الذي قدمناه لا تجزىء، والمريضة إذا هجم عليها مرض بيّن، وهي كأسمن ما يكون أمثالها لو ابتدرت وضُحيت (1)، فلا وجه للحكم بإجزائها وإن كانت سمينةً، وكذلك القول في الشاة السمينة التي انكسرت رِجلها، فابتدرت على وفورها وسمنها، فلا تُجزىء التضحية بها، وقد نص الأصحاب على ذلك، وردّدوا القول في أنها إذا أُضجعت على سلامتها، وشُدَّ منها اليدان والرجلان، فاضطربت وانكسرت تحت السكين قبل جريان الذبح، فقال بعضهم: لا أثر لهذا التكسير، وقال قائلون: يمتنع إجزاؤها، فوضح بهذا أنَّا لا نشترط في هذه الصفات أن تنتهي إلى العجف، وقد أوضحتُ أنا لو كُنا نشترط ذلك، لكان في ذكر العجفاء مَقْنع، فلا نستريب إذاً أن هذه الصفات لا يقتصر اعتبارها ومراعاتها على ظهور أثرها في اللحم، ولا بُد من اعتقاد التعبد فيها.
ولو قال قائل: إنما منعت هذه الصفات لإفسادها اللحم، لجرى هذا في المرض ولم يجرِ في العرج.
وقد نقل الأئمة عن أبي الطيب بن سلمة أنه قال: العوراء التي لا تُجزىء هي [البخيقة] (2) التي فسدت حدقتها، والحدقة من الشاة مقصودة بالأكل، فأما إذا ذهب
__________
(1) هـ 4: وصحت.
(2) في الأصل: " النحيفة ". والمثبت من (هـ 4). والبخيقة: فعيلة بمعنى مفعولة، وهي التي=

(18/166)


بصر إحدى العينين من غير اختلال في الجِرم، فلا امتناع من الإجزاء، وهذا لا يُلزمه أن يعتبر وقوع العجف بسبب المرض، أو حصول رداءة اللحم؛ فإنه اعتقد أن العور على طول الزمان لا يؤثر في العجف، بخلاف المرض والعرج؛ فإنهما يؤثران على امتداد الزمان، فلا يمتنع أن يكون النهي عنهما محمولاً على الجسم؛ فإن استبانة العجف قد يختص بها ذوو المعرفة. وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم العجف البيّن الظاهر لكل واحدٍ، والأسبابَ التي تؤدي إلى العجف، ولم يعتبر وقوع العجف (1 بها، فلم ير أبو الطيب العور مما يؤدي إلى العجف 1)، وإنما رآه مانعاً إذا فسد به جِرم العضو، وقد قال بعض الأئمة: امتناع إجزاء العجفاء يلتحق بالقسم الذي سنذكره من الاستحسان والاستشراف، كما قال علي رضي الله عنه: " أُمرنا بأن نستشرف العين والأذن ".
والأنثى التي ولدت مرة أو مراراً قد يظهر فساد لحمها بالولادة، أو [بتكررها] (2)، ولم يُلحِق أحد من الأصحاب التي تكرّر الولادة منها بالمريضة البيّن مرضها، واللحم قد يخبث من الفحل بكثرة النزَوان، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى أن الفحل يمتنع إجزاؤه، وإذا تطرق التعبد إلى قاعدةٍ، لم تجر المعاني فيها على حسب المراد في الطرد والعكس، فالأنثى إذا انتهت إلى العَجَف لا تجزىء، يعني العجف البيّن، وكذلك الفحل، وإن حدث بهما مرض، وبان، ألحقناهما بالمريضة، ولا نعتبر سوى العجف البين والمرض البيّن أمراً، ولئن كان لحم الأنثى الولود مضرّاً، ففي الناس من يضرّهُ لحم البقر والإبل، وإن كان لا ينهري (3)، ففي لحم البقر هذا المعنى، وليتنبه الناظر لما يجب الوقوف عنده حتى لا يقع في انتشار لا يعنيه.
هذا مجموع الكلام في قاعدة هذا القسم.
11595 - وإذا تناثرت أسنان الشاة، فالذي ذهب إليه المحققون أن ذلك بعينه
__________
= بخقت عينها: أي فقئت. (المعجم).
(1) ما بين القوسين سقط من (هـ 4).
(2) في الأصل: " بتردده ".
(3) ينهري: أي ينضج أشد النضج، يقال: هرأ فلان اللحم أنضجه جيداً (المعجم).

(18/167)


لا يمنع الإجزاء. نعم، إن كان هذا المرض بيّناً، فالمنع بسبب المرض، وإن أفضى إلى عجف بيّن، امتنع الإجزاء للعجف، ولفظ الأئمة المعتبرين أن الأصح أن سقوط الأسنان لا يمنع الإجزاء، وهذا تشبيب بذكر خلاف، وقطع بعض المصنفين بأن سقوط الأسنان لا يمنع الإجزاء، فأما إذا سقط سن أو سنّان لا (1) يمتنع الإجزاء، ولو كان ما ذكره هذا الرجل مذهباً معتبراً، لقلنا في ضبطه: ما يؤثر في تعذر الرعي والاعتلاف، فهو المؤثر.
ولكن في ذلك سرٌّ يجب التنبُّه له وبه يتهذّب الفصل، فالأمر البيّن المعنوي العجفُ البيّن؛ فإن اللحوم مقصودة من الضحايا، والغالب على الأوصاف الأُخر -وإن ضممناها إلى العجف- التَّعبّدُ، ويشهد لهذا ما ذكرناه من هواجم الأمراض والتكسر مع تصوير تعجيل الضحية (2)، وليس لساقطة الأسنان ذكر، حتى نتبع الشارعَ فيه تعبداً، فليس إلا رَدُّ الأمر إلى العجف، ولم يتصل ما نحن فيه بالقسم الثاني، وهو الاستحسان والاستشراف، فكان الأصح إخراج سقوط الأسنان عما يؤثر في الإجزاء، ومن شبب بخلاف فيه من غير اشتراط إفضائه إلى العجف، فهو ذهول منه عن مأخذ الكلام؛ إذ متعلق هذا القائل التشبيه بالعرج وما في معناه، وليس هذا من مواقع القياس؛ فإن اعتبار المعنى متقاعد، والغالب إذا تقاعد المعنى اعتبار الأشباه الخلقية.
فهذا منتهى الكلام فيما أردناه، وإذا مهدنا مضمون القسمين، ألحقنا بكل قسم مسائل تليق به، إن شاء الله.
11596 - وقد حان أن نتكلم فيما نراه في قسم الاستشراف، فلتقع البداية بالشَّرقاء والخَرْقاء، وما في معناهما، فنقول: أولاً المصطلمة الأذن لا تُجزىء وكذلك إذا
__________
(1) سقطت الفاء من جواب (أما).
(2) المعنى أن الضحية إذا كانت سليمة من جميع العيوب مستكملة جميع الصفات، ثم عندما هممنا بالتضحية وذبحها هاجمها مرض أو انكسرت رجلها، فلا تجزىء حينئذ مع أن المرض أو كسر الرجل لم ينقصها شيئاً، فدل ذلك على التعبد.

(18/168)


أبين من الأذن فِلقة ظاهرة، بحيث تبدو للناظر من غير تأمل، والذي تحصّل لنا في ترتيب المذهب طرقٌ: أصحها وأحسنها ترتيباً أن نقول: إذا أبين جزء من الأذن امتنع الإجزاء، وإذا شَرَقَ وخَرَق، ففي امتناع الإجزاء وجهان: ما ذهب إليه الأكثرون أنه لا يمتنع، إشارةً إلى أن الأذن مأكولة على الرؤوس، فإذا لم يُبَن منها شيءٌ، فالعضو باقية مهيأة للأكل، وإذا أبين منها شيء، فقد نقص ما يؤكل من العضو، وذهب القفال إلى منع الإجزاء واعتل فيما نقله الصيدلاني وغيره بأن قال: الأذن إذا شَرَقَت، فما يبرز بالخَرَق والشَّرَق ثم يلتئم، يصير موضع الالتئام جلداً، وكان في التواصل الخلقي في معنى اللحم، فكان ذلك مؤثراً.
هذا ما نقله أصحاب القفال عنه، وللبحث انعطاف عليه، كما سنصفه، إن شاء الله تعالى.
وقال قائلون من الأصحاب: الشَّرقاء والخرقاء، والمقابَلة والمدابَرة، إذا لم يُبن شيء من آذانها لا يمتنع إجزاؤها، ولكنا نؤثر ألا يكون كذلك، فأما إذا أُبين من الأذن جزء كبير بالإضافة إلى الأذن، فلا إجزاء، وإن قلَّ، فوجهان، وهؤلاء يعتبرون اللحم، ويقولون: الفلقة الصغيرة تحذف من الرؤوس المشويّة وترد الآذان إلى ما يُعتاد ويستطاب أكله، والأطراف تصير كالمستحشفة الجاسية (1)، ومضمون هذا يقتضي ألا يؤثر في الإجزاء إلا القطعة الكبيرة.
ولا يتصور ضبط القول فيه إلا بالتنبه لأصل عظيم، وهو أن النهي عن العجفاء والمذكورة معها في القسم الأول منقول عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلزم اتباع ما صح النقل فيه، والنهي عن الشرقاء والخرقاء موقوف على عليٍّ رضي الله عنه، وقوله: " أمرنا باستشراف العين والأذن " كلامٌ مبهم لا يمكن [أن يَستدَّ على تحقيق] (2) وقد ورد في الحديث النهي عن المصلومة، والمستأصلة، وهذا يشعر إشعاراً بيّناً بالإجزاء مع قطع البعض.
__________
(1) الجاسية: من جسا يجسو إذا صلب، ويبس. (المعجم).
(2) في الأصل وفي (هـ 4): " أن يسند إلى تحقيق " والمثبت من (ق).

(18/169)


وقد نحوَجُ في المضايق (1) إلى نقل مذاهب العلماء. قال أبو حنيفة (2) رضوان الله عليه: المانع من الإجزاء قطع الثلث، واعتبر أبو يوسف رحمة الله عليه النصفَ، ويترتب مما نبهنا عليه أن النظر إلى الأذن لا يجري مجرى النظر إلى العجفاء، والعرجاء، والعوراء، لما أشرنا إليه من وقوف النهي عن علي رضي الله عنه وأرضاه، ثم تحصّل من مذهبنا أن المقدار الكبير بالإضافة إلى الأذن [إذا أبين] (3)، مَنَعَ الإجزاء، وهذا ينقدح فيه مسلكان صرح بهما الأئمة: أحدهما - النظر إلى اللحم، وفي هذا سرٌّ، وإن كنا لا نرتضي هذه الطريقة، فإن قائلاً لو قال: لو قطعت فِلقة على حجم الأذن من عضو كبير، فقد لا يؤثر ذلك في المنع من الإجزاء على ما سنصفه -إن شاء الله تعالى- فما الوجه في ضبط هذا؟ قلنا: كأن كل عضو مقصودٌ في نفسه، والأعضاء متفاوتة في الصغر والكبر، فهذا هو المعتبر، وإلى قريب منه أشار أبو الطيب بن سلمة.
ومن أصحابنا من راعى التحسين في الأذن؛ فإن العين تبتدر إلى الأذن من النَّعم ابتداراً ظاهراً، ولكن إذا حمل هذا على هذا المحمل، فاشتراط الحسن في الإجزاء بعيد، وإنما يليق بالاستحسان الاستحبابُ.
فإن قيل: من فصل بين القطعة الكبيرة والفلقة الصغيرة، فإلى ماذا يرجع؟ قلنا: لسنا نرى التحكم بمقدارٍ كما يعتاده أبو حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم، ولكن مسلك الكلام في هذا عند القائل كمسلك الكلام في الفرق بين اليسير والكثير في دم البراغيث، وما يتطرق العفو إلى اليسير منه، وأقرب العبارات أن نقول: كل نقصان يلوح على البعد، فهو مانع، وكل نقصان لا يلوح على البعد، فليس مانعاً.
ونقل الأئمة اختلاف نصٍّ في التي لا أذن لها، وهذا عند ذوي التحصيل ليس تردُّدَ قول وتمثيلَ مذهب، ولكن إن كانت البهيمة صغيرة الأذن، وكانت أذنها لا تعدِم
__________
(1) في الأصل: " الضائقة "، والمثبت من (هـ 4)، وآثرنا لفظها على لفظ الأصل -مع صحته- لأنه هو المعهود في كلام الإمام.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 303، المبسوط: 12/ 15، 16، تكملة فتح القدير: 9/ 515.
(3) في الأصل: " أو العين ".

(18/170)


شكل الأذن في الجنس، فلا تعويل على الصّغر والكبر، وإن كانت سكّاء (1)، لا أُذن لها، أو كان على موضع الصّماخ فلقة نابتة ليست على هيئة الأذن، فهي غير مجزئة.
هذا تمام القول في الأذن. وسبب التردّد فيها ما ذكرنا من جريانها في الأثر دون الخبر، وانضمّ إليه أنها عضو بادٍ وإن كانت صغيرة، ثم تردد الرأي في الاستحسان وطلب الأكل، فانتظم من مجموع ذلك اختلاف الطرق، وإذا نحن رددنا القطع من الأذن إلى اعتبار الأكل، فيلتحق هذا القسم بالقسم الأول أيضاً، وما قدمناه من رسم التقسيم يرجع إلى إرادة التفصيل والتقريب من الأفهام.
11597 - ولم يبق من مضمون القسمين إلا مسائل نُرسلها ونلحقها بالأصول التي مهدناها، فمما نذكره إجزاء الخَصِيّ، فإن أبينت الخُصية منه، فإن الخُصية ليست معنيةً الأكل، ولا يتعلق بها خيالُ الاستحسان، وفقدُها يكسب اللحم من الوفور والمزيد ما لا يناسب الخصية فأجزأ الخَصِي لذلك وفاقاً.
فأما عدم الأَلية فنقول: قد تكون الشاة في جنسها عديمة الألية، وقد تكون ذات ألية في جنسها، فيتفق اقتطاع الذئب الأليةَ منها، وفي الصورتين تردد الأصحاب، منهم من قال: التي لا ألية لها في جنسها مجزئة، والتي سقطت أليتها على وجهين: أحدهما - المنع؛ للنقصان البيّن في اللحم المقصود، والثاني - الإجزاء قياساً على ما إذا كانت عديمة الألية في الجنس.
ومن الأصول المعتبرة أن سقوط الشيء قد لا يؤثر إذا كان عدمه في الخلقة لا يؤثر، وعلى هذا قال الأصحاب: الخَصِيّ مجزىء؛ فإنّ الأنثى مجزئة ولا خُصية لها خلقةً، وقال قائلون من أصحابنا: سقوط الألية بحالة أوآفة يمنع الإجزاء وجهاً واحداً، وهل تجزىء التي تكون عديمة الألية؟ فعلى وجهين، وينتظم في التي لا ألية لها بسبب السقوط أو كانت كذلك خلقةً في جنسها ثلاتة أوجه: أحدها - المنع فيهما.
والثاني - الإجزاء فيهما. والثالث - الفرق بين ما يرجع إلى الجنس وبين ما يسقط للآفة.
__________
(1) سكاء: أي صغرت أذنها، ولزقت برأسها وقل إشرافها (المعجم).

(18/171)


ولم يختلف الأصحاب في إجزاء الثنيّة من المعز وإن كانت عديمة الإلية في جنسها وهذا يكاد يقطع عذر من يمنع الإجزاء في الشاة العديمة الإلية في جنسها، ولكن الخلاف مذكور فيها، وكان شيخنا أبو محمد إذا روجع في الفرق بين الشاة العديمة الألية وبين الثنية من المعز يقول: صح عندنا أن شحم المعز يخلف ألية الضان، وبين الجنسين تفاوت بيّن لا ينكر في هذا المعنى، وإذا كانت الضانية عديمة الألية، فالشحم منها كالشحم من صاحبة الألية وهي فقيدة الألية.
وعندي أن الفقيه لا يلتفت إلى أمثال هذا، فالوجه القطع بإجزاء الفقيدة الألية في جنسها، والعلم عند الله تعالى.
وأما ما يتعلق بالقرن، فلا أثر له في المنع من الإجزاء: فالجمَّاء خلقةً مجزيةٌ، وكذلك الجلحاء والعقصاء وهي المكسورة القرن (1)، فلا يتعلق بالقرن غرض معتبر، فإن القرن لا يعنى للأكل، ولا تعويل عليه في الاستشراف، وقد بان أن الغرض الأظهر من الأذن يؤول إلى اللحم.
والصغيرة الضرع مجزية، وكذلك الصغيرة الألية، وإذا قطع ضرع الشاة، فللأئمة تردد: منهم من ألحقه بقطع الألية، وفيه التفصيل المقدم، ومنهم من قطع بالإجزاء، فإن لحمة الضرع قريبة الشبه من الخُصية في معنى أنها لا تعنى بخلاف الألية، وإنما مثار الخلاف في الضرع مع حصول الوفاق في الخُصية من قِبل أن سلّ الخُصية مقصود لتوفير اللحم وتطييبه، وهذا لا يتحقق في الضرع، والأذن يؤثر قطعها بلا خلاف، وإن كان غضروفاً غير معدود من أطايب اللحوم، ولكن لا يلفى فقيده في الجنس الغالب والضرع يلفى فقيداً في غير الأنثى.
ونذكر وراء هذا مسألة ثم ننظم بعد ذكرها مراتبَ، فإذا اقتلع الذئب قطعةً صالحةً من فخذ الشاة، وظهر النقصان البيّن، فهذا مانع من الإجزاء وكذلك الأعضاء التي لا تخلو البهيمة عنها.
__________
(1) فسّر العقصاء بالمكسورة القرن، والمنصوص في المعاجم (اللسان والمصباح والمعجم) أنها التي التوى قرناها حول أذنيها. أما مكسورة الخارج فهي (القصماء) ومكسورة القرن الداخل هي (العضباء) (ر. اللسان).

(18/172)


11598 - ومن أحاط بهذه المسائل نظمناها له في مراتب: إحداها - نقصانٌ بيّن في لحم مقصود لا يخلو عنه جنس، فما كان كذلك أثَّر في المنع. والمرتبة الثانية - نقصان في عضو مقصود معدود من الأطايب قد يخلو عن ذلك العضو جنس، وهذا كقطع الألية. والثالثة - نقصان في عضو غير معدود من الأطايب لا يخلو عنه الجنس الغالب، وهو الأذن. والرابعة - نقصان في عضو ليس من الأطايب وقد يخلو عنه جنس ولا [يقطع] (1) لتطييب اللحم، وهو كقطع الضرع. والمرتبة الخامسة - في نقصان يخلو عنه الجنس، وهو يقصد لتطييب اللحم، كنقصان الخُصية.
هذا بيان المراتب، ويعترض في أثناء الكلام خيالُ الاستحسان في الأذن، وخبطٌ للأصحاب في الشاة العديمة الألية في جنسها.
وهذا منتهى البيان في تأصيل الصفات وتفصيلها، وبيان محل التعبد والمَعْنَى منها، وفي بعض التعاليق عن الإمام (2) أن المرض الهاجم إذا لم ينته إلى الهزال، وفُرض ابتدار التضحية مانعٌ من الإجزاء على الأصح، ومن أصحابنا من قال: لا يمتنع إذا لم يظهر أثره في اللحم، وهذا غلط غير معدود من المذهب، ولذلك أخرته؛ فإن التعبد غالب في هذه الصفات، ولذلك قطع الأصحاب بأن رِجل الشاة إذا انكسرت قبل البطح للذكاة، لم تجزىء والله المستعان.
فصل
11599 - تعرض الشافعي رضي الله عنه لما هو الأولى من الضحايا فقال: " الضأن أحب إلي من المعز؛ لأن لحمها أطيب " وقال قائلون: سبع من الغنم أحب إلينا من بقرة أو بدنة؛ لأن جنسها أطيب، والبدنة مقامة مقام سبع من الغنم، وكذلك البقرة، وقد تحقّق أن السبع في محل البدنة، وهي مختصة بطيب اللحم، ولم أر هذا مجمعاً عليه بين الأصحاب، ولست أرى القطع بهذا، وكيف أقطع به والبدنة
__________
(1) في الأصل: " يقصد ".
(2) الإمام: يقصد والده.

(18/173)


مخصوصة بالذكر في كتاب الله، معدودة من الشعائر، وإذا ذكرنا البدنة في بعض الكفارات في المناسك صادفنا ذكرها مُصدَّراً، والبقرة بعدها، والسبع من الغنم بعد البقرة، وإن كنا قد نحمل هذا على التخيير.
11600 - قال الشافعي في كتاب الحج " الأنثى أحب إلي من الذكر " (1) وإنما قال هذا في القرابين والهدايا، وقد تردد أصحابنا في هذا النص، فقال قائلون: إنما ذكر هذا في إجزاء الصيد عند تقويمنا الحيوان للرجوع إلى مقدار قيمتها من الطعام، والأنثى أكثر قيمة، وقال قائلون: أراد الأنثى التي لم تلد، فهي أولى من الذكر؛ لأن لحمها أرطب، وإنما يذهب الطيب من الأنثى إذا ولدت، وكذا من الذكر إذا أكثر النزوان، وإنما عمّ في الناس تفضيل الذكر على الأنثى في الطيب، لأنهم يعتادون أكل لحوم الخِصيان، ولحومها أطيب.
والوجه عندنا تقديم الذكر على الأنثى من طريق الأولى، وحمل نص الشافعي على التقويم، كما قدمناه، ثم لا ينبغي أن يُعدّل الشيء إلا بما يساويه، فالفحل الذي أكثر النزوان لا يقاس بالأنثى الرخْصة الرطبة التي لم تلد، ولكن يعتبر بالتي ولدت؛ فإن النزوان في الذكور كالولادة في الإناث، وإذا فرضنا ذكراً لم ينزُ وأنثى لم تلد، فالذكر أولى، وهذا مستبين في العرف، وما يشار إليه من رطوبة الأنثى ليس أمراً يحس ويُبالَى به، وفي الحديث: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحَّى بكبشين أملحين " (2) والأملح الأبيض، وفي بعض الأحاديث " أنه صلى الله عليه وسلم قال: لَدَم عفراءَ أفضل عند الله تعالى من دم سوداوين " (3) والرجوع في هذا إلى التعبد المحض.
وروي: " أنه صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين يمشيان في سواد، ويأكلان في
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 110.
(2) حديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين " متفق عليه (البخاري: الحج، باب من نحر هديه بيده، ح 1712. مسلم: الأضاحي، باب استحباب الأضحية، ح 1967).
(3) حديث " لدم عفراء أفضل ... " رواه أحمد، والحاكم، والبيهقي من حديث أبي هريرة (ر. المسند: 2/ 417، المستدرك: 4/ 227، البيهقي في الكبرى: 9/ 273، التلخيص: 4/ 259 ح 2387).

(18/174)


سواد، وينظران في سواد " (1): معناه: أن قوائمهما، ومشافرها، ومحاجرها كانت سُوداً، وهذا محمول على الوفاق، لا يتعلق به استحسان. وفي الجملة استحسان الضحية واستسمانها مستحب، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " عظموا ضحاياكم، فإنها على الصراط مطاياكم " (2) قيل: تُهيأ مراكب للمضحّين يوم القيامة، وقيل: المراد إن التضحية بها تسهل الجواز على الصراط، وقيل في قوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج: 32]، المراد به استحسان البُدْنِ، واستسمانها، وفي قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]، معنىً لطيف، وهو أن إقامة مراسم الشريعة قد يَستحِتُّ عليه المرونُ والاعتياد والنشوء (3)، واعتماد التعظيم والاستحسان لا ينشأ إلا من تقوى القلوب.
فصل
قال: " ولا وقت للذبح يوم الأضحى إلا في قدر صلاة النبي عليه السلام ... إلى آخره " (4).
11601 - الضحايا والهدايا مؤقتة، ودماء الحيوانات في المناسك لا وقت لها، فمهما (5) وجبت، ساغ إراقتها، ولا اختصاص لها بزمانٍ، والضحايا المنذورة
__________
(1) حديث " أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين يمشيان في سواد ويأكلان في سواد ... " لم نجد الحديث بلفظ (كبشين) على التثنية، وإنما ورد بلفظ (كبش) على الإفراد عند مسلم وأبي داود من حديث عائشة، وعند أصحاب السنن الأربعة من حديث أبي سعيد الخدري (ر. مسلم: الأضاحي، باب استحباب الضحية، ح 1967، أبو داود: الضحايا، باب ما يستحب من الضحايا، ح 2792، 2796، الترمذي: الأضاحي، باب ما جاء فيما يستحب من الأضاحي، ح 1496، النسائي: الضحايا، باب الكبش، ح 4390، ابن ماجه: الأضاحي باب ما يستحب من الضحايا، ح 3128، التلخيص: 4/ 250 ح 2363).
(2) حديث " عظموا ضحاياكم ... " سبق تخريجه في أول كتاب الضحايا.
(3) كذا. والمعنى الدربة والعادة والنشأة تستحث على إقامة مراسم الشريعة، أما التعظيم والإتقان والإحسان فلا ينشأ إلا من تقوى القلوب.
(4) ر. المختصر: 5/ 211.
(5) مهما: بمعنى إذا.

(18/175)


سنصف القول فيها في أثناء الكتاب، وإنما غرض هذا تفصيل الكلام في وقت الضحية المقطوع بها، وجواب الأئمة متردد في أول وقت التضحية، وقد ذكر العراقيون فيه وجهين جامعين لما فرقه الأئمة: أحدهما - أن أول وقت التضحية يدخل بأن تطلع الشمس، ويزول وقت الكراهية، وقد وصفنا ذلك في كتاب الصّلاة، فإذا زال وقت الكراهية، ومضى بعده ما يسع صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبته، فقد دخل أول وقت التضحية، و" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب وسورة: ق، وفي الثانية بالفاتحة وسورة الساعة " (1) فنعتبر ركعتين على هذا الحد، وكان يخطب خطبتين طويلتين. هذا أحد الوجهين.
فإذا انقضى بعد زوال الكراهية ما يسع ما وصفناه، دخل أول الوقت.
قالوا: والوجه الثاني - أنا نعتبر ركعتين خفيفتين، واعتل هؤلاء بأنا نعلم، أو نظن ظناً غالباً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خفف الصلاة والخطبة، لكان يضحي بعد ذلك، أو كان يأذن في التضحية، ثم إن اعتبرنا ركعتين، كما نقلنا عن رسول الله عليه السلام، فلا يخفى تقريب القول فيهما، وما ذكروا من اعتبار الخطبتين الطويلتين، فهو مما اختص به العراقيون، وقطع المراوزة باعتبار خطبتين خفيفتين، وردّوا الخلاف إلى اعتبار ركعتين طويلتين أو الاكتفاء بركعتين خفيفتين؛ فإنه لم يصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يطوّل الخطبة، وقد ندب صلى الله عليه وسلم إلى تخفيف الخطبتين في الجمعة، وهما ركنان، فقال: " قِصرُ الخطبة، وطول الصلاة مَئِنةٌ من فقه الرجل " (2) فكيف يصح منه تطويل الخطبة يوم العيد والناس على وِفاز (3) وشتات من الرأي في إقامة الضحايا.
__________
(1) رواه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، كلهم من حديث أبي واقد الليثي (ر. مسلم: صلاة العيدين، باب ما يقرأ في صلاة العيدين، ح 891، الترمذي: أبواب العيدين، باب القراءة في العيدين، ح 534 النسائي: صلاة العيدين، باب القراءة في العيدين، ح 1568، ابن ماجه: الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة العيدين، ح 1282، التلخيص: ح 693).
(2) سبق هذا الحديث في كتاب الجمعة.
(3) وفاز: وزان سهام، جمع وَفْز كسهم. والوفَز بفتح الفاء: السفر وزناً ومعنىً. وسكون الفاء=

(18/176)


ومما نذكره في التفريع على اعتبار الركعتين الخفيفتين والاكتفاء بهما أن نقول: من صار إلى ذلك فما أراه يكتفي بركعتين مشتملتين على أقل ما يجزىء في الصلاة، وكذلك ما أراه يعتبر ركعتين مع إسقاط شعار صلاة العيد، والعلم عند الله. وفي بعض التصانيف أنه إذا زال وقت الكراهية، ومضى بعده من الزمان ما يسع ركعتين، كفى ذلك، ولا نعتبر الخطبتين؛ فإن الشعار هو الصلاة، والخطبتان بعد الصلاة واقعتان بعد الفراغ عن شعار اليوم، ولهذا لم تكونا ركناً في صلاة العيد. وهذا ضعيف لا أصل له، وهو مخالف للنص.
فخرج من مجموع ما ذكرنا أن الأئمة اتفقوا على اعتبار خروج وقت الكراهية، ثم اعتبر بعضهم ركعتين طويلتين، واعتبر بعضهم ركعتين خفيفتين، واتفق المعتبرون، الذين على نقلهم تعويل، على اعتبار الخطبتين، وقطع المراوزة بوصف الخطبتين بالخفة، وذكر العراقيون وجهاً في اعتبار خطبتين طويلتين، وهذا وجه ضعيف.
ولا اعتداد بما نقلناه عن بعض التصانيف من إسقاط اعتبار الخطبتين.
11602 - فإذا بان أول وقت التضحية؛ فإن زمانها يمتد إلى انقضاء أيام التشريق، فإذا غابت الشمس في اليوم الثالث وهو المسمَّى النفر الثاني، فقد فات وقت التضحية.
ويجوز التضحية في ليالي هذه الأيام، والأحسن الاتباع، وإيقاع التضحية نهاراً.
فإن قيل: التضحية عندكم سنة مؤقتة والسنن المؤقتة إذا انقضت أوقاتها، فلكم في قضائها قولان، فهلا أخرجتم قضاء التضحية على هذا الخلاف؟ قلنا: إن أراد تدارك التضحية، فلينتظر وقتها في قابل، والسنن التي تفوت مواقيتها لو لم يجر القضاء فيها، لتحقق الفوات فيها وانقطع المستدرك.
وكل ما نذكره في التضحية المسنونة التي لم يتعلق بها التزام النذر، ثم إذا فاتت التضحية وفُرض قصد التدارك عند دخول وقت التضحية في السَّنة القابلة، فهذا القصد
__________
=لغة، هي التي جاء عليها كلام الإمام. ويقال: على وفز وأوفاز، أي على عجلة من أمرهم.
(المصباح، والمعجم).

(18/177)


عندي لا معنى له؛ فإن ما يُوقعه من التضحية يكون أداءً، ويتصوّر من الرجل أن يتقرّب بأضاحيَّ في نوبة واحدة، فلا يكاد ينقدح معنى القضاء فيما هذا سبيله، وإذا كان الرجل يعتاد صوم أيام تطوعاً، فترك الصومَ، فليس يتحقّق عندي قضاؤه، وكذلك لو أفسدهُ بعد التحرم به؛ فإنَ الّذي يأتي به يكون ابتداء تطوع، والأيامُ الّتي رغَّب الشارع في التطوع بصيامها إذا لم يصمها المرء، فلا معنى بتقدير القضاء فيها، ولو تحرّم بالضوم، ثم أفسده، فقد يتخيّل المرء إمكان القضاء، ولست أراه أيضاً، والعلم عند الله.
والذي بقي من الفصل الكلام في الأضحية المنذورة وأنها هل تتأقت؟ وسنذكر هذا في فصلٍ جامع هو غمرة الكتاب، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " وأحب ألا يذبح المناسك إلا مسلم ... إلى آخره " (1).
11603 - ذكرنا من هو من أهل الذكاة ومن ليس من أهلها، وأوضحنا أن من يحل مناكحته تحل ذبيحته، وأخرجنا من حكم التجاري (2) الأمة الكتابية، ثم مقصود هذا الفصل أن المستحب أن يتولى الرجل التضحية بنفسه إن استمكن منها، ولم يستشعر ضعفاً وانخناساً في [المُنّة] (3)، وإن عجز، فالأولى أن يشهد ضحيته وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابنته: " يا فاطمة اشهدي ضحيتك؛ فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها " (4).
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 212.
(2) كذا. والمراد أخرجنا من حكم جريان القاعدة: " من يحل مناكحته تحل ذبيحته " أخرجنا من ذلك الأمة الكتابية، فلا يحل نكاحها، وتحل ذبيحتها.
(3) في الأصل: " الجثة ". ثم المعنى: أنه إذا استشعر انخناساً، أي انقباضاً ونقصاً في القدرة على الذبح، فليشهد الذبح، ويذبح غيره.
(4) حديث " يا فاطمة، اشهدي ضحيتك ... " رواه الحاكم من حديث أبي سعيد الخدري، وعمران بن حصين، وعلي. ورواه البيهقي من حديث علي. وقد ضعّف الحافظ سند كل تلك الطرق (ر. الحاكم: 4/ 222، البيهقي: 5/ 239، 283، التلخيص: 4/ 261 ح 2396).

(18/178)


فإن استناب مسلم كتابياً، لم يمتنع ذلك إذا لم يفوض النية إليه، بل تولى النية بنفسه. ولو وكل الكافرَ بالنية، لم يصح؛ فإن النية لا تصح منه، وكذلك لو وكل كتابياً بتأدية الزكاة، وفوض إليه النية، فتفويض النية باطل، ولو تولى النية بنفسه، وفوض إليه التفرقة، جاز.
وبالجملة كل من تصحّ ذبيحته وتحل، يجوز أن يكون وكيلاً في التضحية، والذبيحة إنما تحل من مسلم قاصد، أو من كتابي قاصد، وقد ذكرنا القصد وتفصيله، وحكينا خلافاً في المجنون، وكنا على تلوّمٍ وتردد فيه حتى رأينا قولين حكاهما الصيدلاني وغيره في أن المجنون الذي يتصوّر منه نظمُ الفعل، إذا نظم الذبحَ وأقامه على حد الشرع، فهل تحلّ الذبيحة؟ أحد القولين - أنها لا تحل، ولعله الأصح، فإن قصد المجنون ساقط الأثر. والقول الثاني - أن ذبيحته تحلُّ لوجود حقيقة القصد منه، وذكرنا التفصيل في الصبي، والأصح فيه إذا انتظم تمييزه أنه من أهل الذكاة، فإن جمعنا المجنون والصبي المميز، طردنا فيهما ثلاثة أقوال: أحدها - الفصل بين الصبي والمجنون.
والسكرانُ إن جعلناه كالصاحي، فلا كلام، وهو من أهل الذكاة، وإن جعلناه كالمجنون، فقد مضى تفصيل القول في المجنون.
وفي بعض التصانيف ذكر خلاف في أن الأعمى لو أرسل كلباً أو سهماً، فاتفقت إصابة صيد، فهل يحل؟ وهذا في الصّيد، وهو عندنا مفروض فيه إذا استشعر رِكْزاً (1) من الصّيد وأدركه بحسّ نفسه، وبنى الإرسال عليه، ولا خلاف في أنه من أهل الذبح في الحيوان المقدور عليه.
فصل
قال: " وأحب أن يوجه الذبيحة إلى القبلة ... إلى آخره " (2).
11604 - مضمون الفصل في كيفية الذبح في الحيوان المقدور عليه، والغرض يتعلق بما يجب مراعاته، وبما يستحب: فأمّا ما يجب مراعاته، فقَطْعُ الحلقوم
__________
(1) الركز: الصوت الخفي. (معجم).
(2) ر. المختصر: 5/ 212.

(18/179)


والمريء، ثم الأوداج المطبقة بهما، ولا بد من انقطاعهما إذا حصل قطع الحلقوم والمريء بإمرار المُدية على الاعتياد في إمرارها، فإن تكلّف متكلف آلة تهيأ بها قطع الحلقوم والمريء مع ترك الأوداج، فالذبح يكمل عندنا بقطع الحلقوم والمريء.
واعتبر مالكٌ (1) قطع الأوداج مع قطع الحلقوم والمريء.
وقال أبو حنيفة (2) رضي الله عنه: الأوداج والحلقوم والمريء محل الذبح، فينبغي أن يحصل قطع معظم هذه الأشياء، ولا يشترط أن يقطع الذابح من كل شيء معظمه، ولكنه يعتبر معظم هذه الأعداد فقطْعُ الحلقوم والودجين كافٍ، وقطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين كافٍ. هذا أصله.
والاعتبار عندنا بالحلقوم والمري، ولو أبقى الذابح من الحيوان المقدور عليه جزءاً من الحلقوم أو من المريء، فهو ميتة، ولو لم يَبْقَ من المريء إلا مقدارٌ نزرٌ، والحيوان -على القطع- إذا قطع منه الحلقوم والمريء إلا هذا المقدار، فينتهي إلى حركة المذبوح، فالحِلّ لا يحصل إلاَّ بقطع الجميع؛ فإن التعبُّد غالب في الباب، فلزم الاتباع.
ولو أمرّ السكين فويق الحلقوم والمريء ملتصقاً باللّحيين، وأبان الرأس، ولم يقطع الحلقوم والمريء، فهذا ليس بذبح يُحلُّ؛ لعُروِّه عن قطع الحلقوم والمريء، فالذي جاء به قطع الرأس، وهو متعبّد بقطع الحلقوم والمريء.
ومن الأركان المرعية في الذبح أن يحصل فري الحلقوم والمريء، بطريق القطع، حتى لو رمى بندقة إلى عصفورة، فاختطف رأسها، فهي ميتة؛ فإن قيل: قد حصل القطع، فهلا أحللتم؟ قلنا: هذا ليس بقطع، وهو بمثابة ما لو اعتمد رأس عصفورة واقتلعها، والتعبد بالقطع لا بالقلع.
__________
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 912 مسألة 1821، شرح الخطاب: 3/ 210.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 295، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 209 مسألة 1308، رؤوس المسائل: 516 مسألة 375، المبسوط: 12/ 1، 2، البدائع: 5/ 41، تكملة فتح القدير: 9/ 493، 494.

(18/180)


ومن المعاني الكليّة التي فهمها العلماء إراحة الذكيّة، ولا يخفى أن خطف الرأس وقلعها في معنى الخنق، لا في معنى القطع.
ثم كل آلة حادة تفري، فهي صالحة للذكاة إلا السن والظفر؛ فإن الذبح إذا وقع بواحد منهما -وإن كان حادّاً فارياً- فالمذبوح حرام، ولا اختصاص بالسنّ والظفر، بل ما ذكرناه في كل عظم، حتى لو كان نصل النشابة من عظم، فأصابت صيداً، ومرقت فيه، وقتلت الصيد، فهو حرام، وإن كان غير مقدور عليه، والتعويل في هذا على نهي النبي عليه السلام عن الذبح بالعظم، فروي هذا مطلقاً، وروي أنه نهى عن الذبح بالسن والظفر، وقال: " إنهما من مدى الحبشة " (1).
11605 - وأهمّ ما يجب الاعتناء به في هذا الفصل ذبح البهيمة التي أصابته (2) نكبة من افتراس أو تردٍّ من موضعٍ [عالٍ] (3)، أو وقوع شيء على الحيوان يقرّبه من حركة المذبوح، أو يُبقي فيه حياة مستقرة، فالتعرض لهذه الفصول حتى ينتظم ويتضامّ ما فيه من نشرٍ لا بُدّ منه، والوجه أن نذكر صوراً أرسالاً، ونوضح في كل صورة ما يليق بها، ثم نعقّبها بما هو الضابط:
فمن الصور أن يقطع رأس شاة من قفاها، فأَمَرّ الآلة الجارحة من جهة القفا، وانتهى إلى المريء، (4 فقطعه، وقطع الحلقوم، فكيف الوجه؟ قال الأصحاب: إن انتهت الشاة إلى حركة المذبوح، فانتهى إلى المريء 4)، فهي ميتة، وقطْعُ الحلقوم والمريء بعد هذا لا ينفع، ولا يُحِلّ؛ فإنه ذبحٌ في ميتة.
ولو لم تنته إلى حركة المذبوح، وكانت فيه حياة مستقرة، فأمرّ السكين من الجهة
__________
(1) حديث النهي عن الذبح بالسن والظفر وأنها من مدى الحبشة، متفق عليه من حديث رافع بن خديج (البخاري: الذبائح والصيد، باب ما ندّ من البهائم هو بمنزلة الوحش، ح 5190.
مسلم: الأضاحي، باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظم، ح 1968).
(2) كذا بضمير المذكر في النسخ الثلاث والتأويل قريب، على معنى الحيوان، مثلاً.
(3) زيادة من المحقق.
(4) ما بين القوسين سقط من (هـ 4).

(18/181)


التي انتهى إليها، فكيف السّبيل؟ قال الأصحاب: تحلّ الشاة؛ فإنه أخذ في قطع الحلقوم، وفي الحيوان حياة مستقرة، فجرى الذبح مُحلاً، [وطردوا] (1) هذا المسلك في جملة الأسباب التي تتقدّم على ابتداء القطع في المذبح الذي ورد التعبد به.
والذي يختلج في النفس في هذا المقام أن قائلاً لو قال: السكين الذي يفري من جهة القفا لو انتهى إلى المريء لا تصير الشاة بها في حد المذبوح، ولكن لو فرض - وحالتها هذه- قطْعُ المريء وبعض من الحلقوم، لصارت إلى حركة المذبوح قبل استتمام إبانة الحلقوم، وهذا لما نالها بسبب قطع القفا من قبل، فماذا ترون في ذلك؟ قلنا: إذا تحقق عندنا أنها لم تصر إلى حركة المذبوح عند ابتداء قطع المريء، فلا ننظر إلى التفاصيل التي وقع السؤال عنها، بل نفري المريء والحلقوم ونستحلّ، وأقصى ما تُعبّدنا به في الباب أن نبتدىء القطع في المحل المعين، وفي الحيوان حياة مستقرة، ولو فتحنا هذا الباب، لم نأمن أن يتوجه مثلُ هذا التقدير من غير قطع يتقدم على الأخذ في فري المذبح، ولكن لا مبالاة بهذا.
ومما يوضح الغرض في ذلك أن الذي يذبح الشاة لو قطع الحلقوم وبعض المريء على أناةٍ مجاوِزةٍ للعادة، حتى نتبين مصيرَ الشاة إلى حركة المذبوح قبل استكمال القطع فيما يجب قطعه، ثم فرى البقية، فالشاة تحرم.
ويخرج مما ذكرناه وجوب الإسراع في الفري على حدٍّ لا يُحَسُّ فيه ما ذكرناه من تفصيل الأمر وانتهاء الذكية إلى حركة المذبوح. وهذا واضح لمن صرف الدَّرَك إليه.
11606 - ومما نلحقه بما ذكرناه أن الذابح لو أخذ في قطع الحلقوم والمريء، وأخذ [آخرُ] (2) معه في إخراج الحُِشْوة (3) والنخس في الخاصرة، بحيث يخرج قطعُ الحلقوم والمريء عن أن يكون هو المذفِّف، فلا شك في التحريم، ولا فرق بين أن يكون ما يجري مع قطع الحلقوم مما يذفف لو انفرد، أوكان يُعين على التذفيف.
__________
(1) في الأصل: " وطرحوا " والمثبت من (هـ 4) و (ق).
(2) في الأصل: " آخذ ".
(3) الحُِشوة (بضم الحاء وكسرها): الأمعاء.

(18/182)


وقطع رقبة الشاة من قفاها إلى المريء لو اقترن بقطع الحلقوم، بأن كانت آلة تجري من جانب القفا، وأخرى تجرى من جانب الحلقوم، حتى التقت المديتان، فالوجه التحريم في هذه الصورة.
ولو تقدم قطع القفا والحياة مستقرة عند انتهاء المدية إلى المذبح، ثم أسرع الذابح في القطع، فالذكية مستحلّة، وهذا الذي نذكره على شريطةٍ، وهي أن يكون للقطع الجاري مع قطع المذبح أثر في التذفيف متحقَّق أو مظنون، فإن تبينا أن الأثر كله في التنجيز والتذفيف لقطع المذبح، فلا مبالاة بما يقترن به، إذا تحققنا أن التذفيف يقطع المذبح لا غير.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أمران واقعان في مساق الفصل: أحدهما - رعاية الإسراع في قطع المذبح إذا فرض الانتهاء إليه والحياة مستقرة. وحدّ الإسراع ألا يُحسّ ولا يدرك انتهاء الشاة قبل استتمام (1) قطع المذبح إلى حركة المذبوح، والآخر ألا يقترن بقطع المذبح ما يعين على التذفيف، وإن كان لو تقدّم مثله لا يضر، وهذا على نهاية اللطف.
ومن محاسن كلام صاحب التقريب في ذلك ومنه تلقينا ما ذكرناه أنه قال: لو أشار ذو سيف بسيفه القاطع إلى رأس شاة من قفاها، وأبان الرأس بضربةٍ، نحكم بالحل، وقد نُعمل سكيناً في القفا أو في إحدى صفحتي العنق، فلا نحكم بالحل إذا كان ينفصل لنا مصير الشاة إلى حركة المذبوح قبل استكمال المذبح، وليس هذا مما يؤثر فيه أن نجهل، ولكن القطع بسرعة يمنع التذفيف، فهذا ما يجب التنبه له.
11607 - ونحن نبتدىء بعد هذا الخوضَ فيما هو مقصود الفصل، فنقول: إذا استللنا فريسة من براثن سبع، وترددنا في أنها هل صارت إلى حركة المذبوح، وقطعنا مذبحها ابتداراً من غير تقصير، أو انهدم سقف على شاة، فلم ندر أنها صارت إلى حركة المذبوح أم لا، وقطعنا منها الحلقوم والمريء، ونحن على تردد من أمرنا، أو قطع قاطع رقبة الشاة من قفاها، ثم أشكل الأمر، فلم ندر هل صارت إلى حركة
__________
(1) في (ق): " انتهاء".

(18/183)


المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح أم لا، فكيف السبيل، وما المسلك الذي نعتمده في التحريم والتحليل؟
فالذي نقله المزني، وذهب إليه جمهور الأصحاب اعتبار الحركة، ومعناها أنا نقطع الحلقوم والمريء بعد تقدم ما صوّرناه من الأسباب المفضية إلى الإشكال، وننظر: فإن تحركت الشاة بعد استكمال قطع الحلقوم والمريء، تبيّنا أنها لم تكن منتهية إلى حركة المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح، وإن لم تتحرك بعد قطع الحلقوم والمريء، تبينا أنها كانت ماتت أو انتهت إلى حركة المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح.
هذا ما اعتمده المزني وطوائف من الأصحاب واعترض عليه صاحب التقريب محقاً، فقال: لا تعويل على التحرك بعد قطع المذبح بدليل أن الشاة التي لا آفة بها إذا قطعنا منها الحلقوم والمريء وأخذت في الاضطراب الشديد، فلو بقرنا على الفور بطنها وأبنّا حُِشوتها، فقد تتحرك بعد ذلك، وإن كان إبانة الحُِشوة مذففاً كقطع الحلقوم والمريء، فإذا كان كذلك، فلا تعويل على الحركة؛ فإن البهيمة قد تنتهي إلى حركة المذبوح بسببٍ يوجب ذلك، ثم يقع بها مذفف، فتتحرك بعده.
ولا تعويل قطعاً (1) على إنهار الدم وإن ضري به عوام الناس؛ فإن البهيمة بعد انتهائها إلى حركة المذبوح بقطع الحلقوم والمريء يتدفق منها الدم زمناً طويلاً، ورقبة الإنسان تحزّ بالسيف المرهف ثم ينذرف الدم من بعد [زمان] (2) منفصلٍ محسوسٍ، فلا وجه لاعتماد الحركة، واتخاذها معتبراً في النفي والإثبات.
وإذا كان كذلك، فالوجه أن نقول: إذا استيقنا حياة مستقرة عند ابتداء الأخذ في القطع، قطعنا بالتحليل على الترتيب الذي ذكرناه في رعاية الإسراع، وإن استيقنا مصير البهيمة إلى حركة المذبوح قبل الأخذ في قطع المذبح، قطعنا بالتحريم. وإن لم نعلم حالها، طلبنا غلبة الظن بعلاماتٍ لا تدخل تحت الوصف، بل تنزل منزلة قرائن الأحوال التي لا يضبطها الوصف، كعلامات الخجل والوجل والغضب ونحوها،
__________
(1) هـ 4: " أيضاً ".
(2) في الأصل: " بزمانٍ ".

(18/184)


ومنها ما يقتضي العلم، ومنها ما يُغلِّب على الظن؛ فإن حصلت علامةٌ مغلّبة على الظن في أن البهيمة لم تنته إلى حركة المذبوح حتى أخذنا في قطع المذبح، فنحكم بالحِل؛ فإن الأصل بقاء الحياة.
فإن غلب على الظن سقوط الحياة قبل الأخذ في قطع المذبح بعلامةٍ [لا نكيِّفها] (1)، فنحكم بأنها ميتة، وإن قطعنا الحلقوم والمريء.
وإن استوى الاحتمالان، فالتحريم أغلب؛ إذ ليس التذفيف بأن يُحال على الأول أولى من أن يحال على الثاني، وفي ظن بقاء الحياة قبل الأخذ في قطع المذبح أدنى تردد، وفي كلام صاحب التقريب إشارة إليه؛ التفاتاً إلى مسألة الإنماء.
فهذا غاية البيان في ذلك.
ويخرج مما ذكرناه أنا لا نُبعد تلقِّي ظنٍّ من الحركة، إذا كانت شديدةً، ولكن الذي ننكره اتخاذ الحركة عَلماً في الباب يَثبت الحلُّ بها وينتفي بانتفائها.
11608 - والذي ندعو المحقق إليه ألا ينصّ على جنس من الأعلام، ثم حاله فيما شاهدَ لا يخرج عن درك اليقين، وغلبة الظن، واستواء الأمرين، وقد ذكرنا في كل قسم ما يليق به: فاليقين لا يخفى حكمه، والظن إن غلب في التحريم حكم به، وإن غلب في التحليل، فالظاهر الحكم به، وفيه شيء، وإن استوى الأمران، غلب التحريم، ولا التفات على استصحاب الحياة؛ فإنا إنما نستمسك بالاستصحاب في غير هذا المقام؛ فإن التمسك بالحظر مع وقوع الشك أولى، ولو كان معنا توقيفٌ في التمسك بعلامةٍ، لاتبعناه، فإذا لم يكن، ورُددنا إلى ما نعلم، أو نظن، فلا نستريب في أن الوجه ما ذكرناه لا غير.
وتنخّل من مجموع المذكور أن من الأصحاب من اتبع الحركة عموماً، ومنهم من سلك المسلك الذي ذكرناه، وهو الذي قطع به صاحب التقريب، ولا وجه غيره.
وقد نجز القول فيما يجب الاهتمام به في الذبح المذفف المحلِّل، وفيما لا يكون كذلك.
__________
(1) في الأصل: " لا يكفيها ".

(18/185)


11609 - ونحن نذكر الآن أموراً تتعلق برعاية الآداب في الذبح: فمن أهمها تحديد الشفرة، والتحامل عليها بالقوة، وإراحة الذبيحة، ونؤثر أن توجه بالمذبح قِبل القبلة، ويتوجه الذابح أيضاً، والتسمية من أهم المسنونات. ثم قال الشافعي إن صلى الذابح على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فلا كراهية، ولو قال الذابح: باسم محمد، لم يجز هذا على هذه الصيغة، فليقع الذبح باسم الله تعالى، والصّلاة إن جرت، فهي من الأذكار المحبوبة، وليس الغرض من إجرائها إيقاع الذبح باسم محمد عليه السلام.
ومما ورد استحبابه عند التضحية أن يقول المهدي أو المضحِّي: " اللهم منك وإليك، فتقبّل مني ".
ثم الشاة والبقرة مذبوحتان، والبعير منحور في اللَّبة، والمقطوع من البعير الحلقوم والمريء أيضاً، ولو ذبح البعير حل، ولكنا نكره هذا؛ فإن الأمر قد يعسر عليه لطول العنق، وقد تبيّن أنا أمرنا بالسعي في الإنجاز والإيحاء جهدنا.
فصل
يجمع قواعد القول في نذر الضحايا، وتعيين البهائم لها،
وما يتعلق بأحكام التعيين والنذر
11610 - فنقول أولاً: الضحيةُ ملتزَمة بالنذر، والقول فيها كالقول في كل منذور ملتزم، فإن جرى النذر فيه تبرّراً، ثبت، ولزم، وإن كان النذر مطلقاً غيرَ معلق بطلب نعمة، أو دفع مضرة، ففي المسألة قولان، كما سيأتي ذكرهما في كتاب النذور، إن شاء الله تعالى.
ثم أول ما نصدر الفصل به أن نقول: إذا ابتدر الرجل، وقال: جعلت هذه الشاة ضحية، صارت ضحية بهذه الصيغة التي تضمنت تعييناً محضاً، وما أشعرت بالتزام في الذمة. وهذا متفق عليه. ثم ليس تعيينها مما يتصور الانفكاك عنه، حتى يسوغ للمعيِّن أن يخرجها عن قضية الضحية، وشبه الأئمة تعيين الشاة للتضحية بتوجيه العتق

(18/186)


تنجيزاً على العبد، وتشبيه التعيين للتضحية بتعيين الشيء للحبس والوقفِ أقرب؛ فإن الضحية لا تخرج عن المالية -وإن تعيّنت- كالعين المحبسة، والعبد الذي وجّه مالكُه العتقَ عليه يخرج عن المالية بالكلية.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بشاة، فالتزم في الذمة، لزمه الوفاء بالنذر، على التفصيل الذي أشرنا إليه، فلو قال: عيّنتُ هذه الشاة لنذري، أو جعلتها عن نذري، فهل تتعيّن للانصراف إلى جهة النذر؟ فعلى وجهين هما قاعدة الفصل: أحدهما - أنها تتعين؛ فإن التعيين إذا كان يلزم الوفاء بمقتضاه من غير التزام، فكذلك إذا جرى التعيين صَرفاً إلى جهة الالتزام يجب الوفاء به.
والوجه الثاني - أن التّعيين لا يعمل عملاً بعد تقدم الالتزام؛ فإن الملتَزَم في الذمة دَينٌ، وتعيين شاة للدَّين بمثابة جعل الدَّين عيناً، وهذا متناقض، والدَّيْن لا يتعيّن إلاّ بالإيفاء، وليس التعيين إيفاءً.
ولو كان نذر الرجل أن يعتق عبداً، ثم قال: عيّنت هذا العبدَ لنذري، ففي المسألة وجهان كالوجهين في الضحية.
ولو قال الرجل مبتدئاً: لله علي أن أضحي بهذه الشاة، فالتضحية تلزمه، ولكن هل تتعين الشاة؟ فعلى وجهين مرتبين على ما إذا قدم النذر التزاماً، ثم ابتدأ بعده التعيين، والصورة الأخيرة أولى بثبوت حكم التعيين لها؛ فإنه لم يجرد الالتزام، بل قرنه بالتعيين، فرجع الالتزام إلى الإخبار عن لزوم التعيين، والتعيينُ مما يثبت لو تجرّد.
ولو قال: لله عليّ أن أعتق هذا العبد، فيلزمه العتقُ على الجملة، ولكن هل يتعين العبد المعيّن للوفاء؟ فعلى وجهين، قال المحققون: العتق أولى بالتّعيين؛ من جهة أن للعبد حقاً، وحظاً في العتق؛ فإذا عيّنه للاستحقاق، ظهر وجوب الوفاء، والضحية لا حق لها في تعيينها.
ولو عيّن دراهم فقال: لله عليَّ أن أتصدّق بهذه الدراهم، ففي تعيينها وجهان مرتبان على الأضحية، وهي أولى بألا تتعين؛ فإنه لا فائدة في تعيينها، والشاة قد يفرض في تعيينها فائدة، من حسنٍ، وكبرٍ، وسمن، فيجوز أن يؤثر التّعيين فيها،

(18/187)


ولسنا نذكر هذه الأسباب حتّى يظنّ الظان أنا نشترطها لتعيّن الشاة، ولكنا ذكرناها ليتبيّن المتبيّن أن للتعيين مساغاً ومساقاً على الجملة.
ولو كان على الرجل دراهم مطلقة عن جهة من جهات القربة، فقال: عيّنت هذه الدراهم لما عليَّ، فقد وجدت الطرق متفقة على أن التّعيين يلغو في هذه الحالة.
11611 - فإذا ثبت ما أرسلناه من المسائل، فلا بد من ضبطها، وفي التضحية ثلاث صور: إحداها - التعيين المجرد من غير التزام مقترن أو سابق، وهو موجبٌ ملزم على ما سيأتي أحكام التعيين.
والصورة الثانية - أن يتقدم التزام مطلق غيرُ متعلِّق بعينٍ ثم يُفرض تعيين ضحية عن جهة النذر، ففي حصول التعيين وجهان، ولو فرض مثل هذا في العتق ففي التعيين وجهان أيضاً، والعتق أولى بقبول التعيين، لما نبهنا عليه من استحقاق العبد حق العتاقة.
والصورة الثالثة - الجمع بين صيغة الالتزام والتعيين، وفي التعيين في هذه الصورة وجهان مرتبان على الوجهين في الصورة الثانية، والأخيرة أولى بقبول التعيين، لما نبهنا عليه. والخلاف يجري في نظير هذه الصورة من العتق، ولكن العتق يترتب على التضحية، وهو بالتعيين أولى.
ولو قال الرجل: لله عليَّ أن أتصدق بدراهم على هذا الشخص، فلا يبعد أن ينزل هذا منزلة ما لو قال: لله عليَّ أن أعتق هذا العبد، وهذه الصور الثلاث التي أجريناها في التضحية والعتق نجريها في الدراهم وغيرها، فلو قال مالك الدراهم: جعلت هذه الدراهم صدقة، فالتضحية في مثل هذه الصورة تتعيّن وجهاً واحداً، وفي تعيين الدراهم خلافٌ للأصحاب إذا جرى التعيين المحض على الصيغة التي ذكرناها.
ولو قال: عيّنت هذه الدراهم لزكاتي أو نذري، فالذي قطع به الأصحاب أن هذا يلغو؛ لأن التعيين ضعيف في الدراهم، والتعيين ضعيف في معنى الصرف إلى الملتزِم المطلق، فإذا جمع الأمران، اقتضيا إلغاء (1) التعيين، وهذه الصورة ليست خالية عن
__________
(1) في (هـ 4): فساد.

(18/188)


احتمال بعيد؛ من جهة أن الدراهم قابلة للتعيين على الجملة عند بعض الأصحاب.
ولو قال: لله عليَّ أن أتصدّق بهذه الدراهم، ففي تعيينها الخلاف المشهور، وهو مرتّب على تعيين الضحية في مثل هذه الصورة، فالعتق أولى بالتعيين، والضحيةُ تليه، والدراهم تلي الضحية، والفروق واضحة. فهذه قواعد كلية فيما يتعلق بالتعيين، والكلام بعد هذا يختص بتعيين الضحايا.
ونحن بعد ذلك نذكر أنواعاً تتعلق مقتضياتها بالتعيين وعدم التعيين، ونُعيد فيها الصورة الثالثة التي ذكرناها في التعيين، ونذكر في كل صورة ما يليق بها من ذلك المقتضى.
11612 - النوع الأول في النية، فنقول: إذا [لم يجب] (1) التعيين، فعماد التضحية التقرب إلى الله بالنية، [ولذلك] (2) لو جرى نذر مطلق، ثم أراد الناذر تأدية المنذور بالذبح، فلا بد من النية. ثم النية في التضحية كالنية في تأدية الزكاة، وقد مضى القول فيها، وفي جواز تقديمها، وفي الاستنابة فيها مفصلاً، ولا فرق بين البابين.
فأما الصور الثلاث في التعيين، فإن قال: جعلت هذه الشاة ضحيّة، فالمذهب أنه لا حاجة إلى النية، كما إذا قال لعبده: أعتقتك، ومن أصحابنا من شرط النية عند الذبح أو قبله. ولو نذر مطلقاً ثم قال: هذه الشاة عن نذري، فهذا يتفرع على الوجهين في أن الشاة هل تتعين؟ فإن قلنا: لا تتعين، فلا بد من النية إن أراد انصراف الذكيّة إلى نذره، وإن قلنا: بتعيين الشاة، فحكم النية على هذا كحكمها إذا قال: جعلت هذه الشاة ضحية. ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بهذه الشاة، فالنية تخرج على الوجهين في التعيين وعدم التعيين كما ذكرنا.
11613 - النوع الثاني -في التلف والإتلاف- نذكر حكمها في الصور الثلاث: فإن
__________
(1) في الأصل: " لم يجز ".
(2) في الأصل: " وكذلك ".

(18/189)


قال: جعلتها ضحية، فلو تلفت (1)، فلا ضمان؛ فإنه لا مستند لهذا القسم إلى التزامٍ في الذمة، بل تعلق بالمعيّنة حقٌّ، وقد فات بفواتها. ولو أتلفها المضحي أو غيره، التزم القيم، ثم إن كان المتلف أجنبيّاً، لم يلتزم إلا القيمة، وإن كنا لا نجد بها ضحية -ولا يخفى تصوير ذلك على من أراده- ولا نقول: فوّت الجاني ضحيةً، فعليه تحصيل ضحية، لأن الجناية لا تَرِد إلا على محل التقويم، وكونها ضحية يتعلق بالقُربة والقُربة لا تُضمن، ولو كان المتلِف صاحبَ الضحية، فإن وجدنا بالقيمة ضحية من غير زيادة ولا نقصان، فذاك، وإن قصرت القيمة عن ثمن ضحية، فهل على صاحب الضحية أن يبلّغها ثمن ضحية؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه كالأجنبي. والثاني - يلزمه؛ لأنه التزم التضحية، فعليه الوفاء بها، وقد فوّتها، فعليه تحصيل ضحية.
ونستتم القول في القيمة إذا انتهى الكلام إليها، فإن كانت القيمة ثمن ضحية، فلا كلام، وإن زادت على ثمن ضحية، ولم يجد ضحيَّةً كريمةً بها، فيشتري ضحية، وفي الفاضل وجهان: أحدهما - أنه يُشترى بها شقصٌ من شاة؛ فإن الشاة وإن كانت لا تتبعض في التضحية ابتداءً، فإذا أفضت الحاجة إلى التبعيض فيها، احتمل التبعيض، ثم البعيدُ إثباتُ بعضٍ في الضحية ابتداء. والوجه الثاني - أن الفاضل نصرفه مصرف الضحايا، حتى إن أراد أن يتخذ منه خاتماً يقتنيه ولا يبيعه، فله ذلك، فأما ابتياع بعض ضحية به، فلا، وهذا الاختلاف يقرب من تردد الأصحاب في بعض الصور في الزكاة، حيث تجتمع الحِقاق، وبنات اللبون، فقد تُفضي التقاسيم إلى تقدير صرف فضلٍ من القيمة إلى جزء من الحقاق، أو بنات اللبون، ثم فيه الاختلاف على حسب ما يليق بقاعدة الزكاة.
فإن قيل: إذا كان لا يبعد صرف القيمة مصرف الضحايا، فالبعض من الشاة أقرب إلى الضحية من الدراهم، وليس ذلك كالزكاة؛ فإن للدراهم مدخلاً فيها على الجملة، ويشهد لذلك بَذْلُ الدراهم في الجبران. قلنا: هذا سؤال متجه يقتضي ترتيب الخلاف فيما نحن فيه على الخلاف في الزكاة. ومقتضى الترتيب أن التبعيض
__________
(1) أي بآفة سماوية.

(18/190)


أَوْجهُ في التضحية منه في الزكاة، ثم إذا فاتت الضحية، ولم ينقطع الحق، صارت القيمة التي يتعذر صرفها إلى الضحية بمثابة الضحية نفسها. هذا إذا فضل من القيمة فاضل، وتعذر ابتياع ضحية كريمة بجملة القيمة.
ولو قصرت القيمة عن الضحية وملتزمُها أجنبي، فالقول فيها كالقول في الفاضل من القيمة.
وما ذكرناه من الإتلاف أردنا به إهلاكاً بإحراق أو غيره، فأما إذا ذبح الأجنبي الضحية في وقت التضحية، فهذا يخرج على أن النية هل تُشترط في التضحية بالشاة المعينة، التي قال صاحبها: جعلتها ضحية؟ فإن قلنا: لا يشترط النية، فالضحية تقع موقعها، وإن قلنا: لا بد من النية، فالضحية لا تقع موقعها؛ فإن صاحب الضحية لم يستنب هذا الأجنبي في التضحية، فقد فاتت النية، وفات بفواتها القُربة.
التفريع:
11614 - إن حكمنا بأن التضحية تقع موقعها، فنفرض فيه إذا لم يفرق اللحم على مستحقيها، ونقول: هل يجب على هذا الذابح ما بين هذه الشاة حية وبينها مذبوحة؟ في المسألة قولان: أحدهما - يجب؛ لأنه اعتدى بالذبح. والثاني - لم يجب، وهو الأقيس، لأن الذبح وقع مستحقاً، ولم يتعلق به تفويت، والقيمة تلزم على مقابلة التفويت.
ولو ذبح الأجنبي الضحية، وفرق لحمها، فالتفريق لا يقع موقع الاعتداد، واللحم محرّمٌ على آخذه؛ فإن تعيين الآخذ إلى صاحب الضحية.
ويخرج من ذلك أنه بتفرقة اللحم يكون مفوّتاً للحم، فيلتزم بسبب تفريق اللحم العوضَ لا محالة.
ثم إذا كنا نفرع على أن الأجنبي الذابح لا يُغرّم بالذبح لوقوع الذبح مستحقاً، فإذا انضم إلى الذبح تفريق اللحم، فالذي رأيته للأصحاب القطع بأنه يُغرَّم في هذه الحالة النقصَ الذي يقتضيه الذبح، وإنما القولان فيه إذا اقتصر على الذبح، وترك [تفرقة] (1) اللحم على صاحب الضحية.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).

(18/191)


هذا ما وجدته، وليس يبعد عن القياس طرد القولين في صورة تفريق اللحم؛ فإن الضحية بالذبح وقعت موقعها، وتفرقة اللحم جناية على ضحية قد بلغت محلها.
ثم إذا قلنا: يجب الضمان بسبب تفرقة اللحم وبسبب الذبح، فكيف السبيل في الجمع بين الغرمين؟ فعلى قولين حكاهما صاحب التقريب: أحدهما - أنا نغرمه الشاة حيةً؛ فإنه بالذبح والتفريق فَوَّتها. والقول الثاني - أنّا نغرمه ما نقصه الذبح، ثم نغرمه قيمة اللحم، فإن الذبح والتفريق فعلان مختلفان، فيتعلق بكل واحد منهما غرم على حياله، والمسألة محتملة حسنة.
والوجه عندي طرد القولين فيه إذا ذبح رجل شاة إنسان، ثم أتلف لحمها من غير فرض في الضحية؛ فإنا لا نرى لجريان القولين اختصاصاً بمقتضى الضحية، والمسألة محتملة، لطيفة.
وكل ما ذكرناه تفريع على الأصح وهو أن الشاة تقع ضحيةً إذا ذبحها الأجنبي.
فإن قلنا: لا تقع ضحية، فاللحم كيف حكمه؟ فيه وجهان: أحدهما - أن الضحية انفكت، واللحم مملوك لصاحب الشاة، فعلى هذا يتوجه على الذابح ما نقصه الذبح. والوجه الثاني - أن اللحم مستحق لجهة الضحية؛ فإن قول صاحب الشاة: جعلتها ضحيّةً لا يغير استحقاق جهة الضحية، -وإن لم يقع الاعتداد- فمصرف اللحم إذاً مصرف الضحية المستحقة، كما سنصفه إن شاء الله، ثم لا يجب على الذابح إلا ما نقصه الذبح، وإن فوّت الاعتداد بالضحية، فإن تفويت الضحية لا يغرمه الأجنبي كما قررناه.
فإذا ثبت ما ذكرناه فيه إذا قال: جعلتها ضحية، فلو نذر ضحية، ثم قال: عيّنت هذه الشاة لنذري، ثم فُرض تلف أو إتلاف، فهذا يتفرع على أنَّ الشاة هل تتعيّن؟ فإن قلنا: إنها لا تتعيّن، فالتعيين لغوٌ، فإن تلفت الشاة، فالشاة مملوكة تلفت أو أتلفت، ولا يخفى الحكم، والذمةُ مشتغلة بالنذر، وإن قلنا: الشاة متعينة لجهة النذر، فلو تلفت، فهل تبرأ ذمة الناذر؟ فعلى وجهين: أحدهما - تبرأ كما لو قال ابتداء: جعلت هذه الشاة ضحية. والثاني - لا تبرأ لتقدم النذر، فكأن فائدة التعيين وجوب صرف الشاة المعينة إلى جهة النذر، فإن فاتت، فالنذر قائم، فهذا هو الذي

(18/192)


زدناه في هذه الصورة. فإن قلنا: الذمة تبرأ بالتلف، فلو فُرض الإتلاف، فتفريع الإتلاف على هذا كتفريع الإتلاف إذا قال: جعلتها ضحية، وقد مضى.
فأما إذا قال: لله عليَّ أن أضحيّ بهذه الشاة، فهذه الصورة أولى بالتعيين وحكمه كما إذا قال: لله عليّ ضحية، ثم ابتدأ فَعيّن شاة عن نذره، وهذا القدر الذي نريد.
ثم التفريع في التعيين وعدم التعيين ما ذكرناه.
11615 - النوع الثالث - في تعيّب الضحية، وهذا يدور على الصور الثلاث، فإن قال: جعلتُ هذه الشاة ضحية، ثم عابت عيباً يمنع مثله الإجزاء ابتداء، فالشاة مستحقة كما كانت، ولا ينفك التضحية عنها، وليس على صاحبها شيء بسبب طريان العيب؛ فإن التعيب لا يزيد على التلف، ولو تلفت في هذه الصورة، لم يجب على صاحبها شيء، فالتعيب لا يُلزم شيئاً.
ولو نذر، ثم عيّن عن النذر، فإن قلنا: التعيين باطل، فلا أثر له، وإن قلنا: التعيين صحيح، فإذا عابت تيك الشاة، فهل يجب الإتيان بسليمة؟ فعلى وجهين، وهذا الاختلاف يناظر ما ذكرناه في التلف في هذه الصورة، ثم إن لم نُوجب الإبدال، فهذه المعيبة مجزئة، وإن أوجبنا الإتيان بسليمة، فهذه المعيبة هل ينفك الاستحقاق عنها؟ فعلى وجهين: وسنذكر لهما نظيراً في ضلال المعيّنة من بعدُ، إن شاء الله تعالى.
ونستتم القول في التعيب الطارىء. قال الأصحاب: إذا شدّ الرجل قوائم الشاة، ونوى التضحية بها، فاضطربت وانكسرت رجلها، فهل يجزىء التضحية بها والحالة هذه؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: يجزىء؟ فإنها كالمسلّمة (1) إذا اتصل به (2) الذبح، ومنهم من قال: لا تجزىء؛ فإن التضحية إنما تحصل بالذبح ولا تضحية قبله (3).
__________
(1) كذا في النسختين. والشدّة على اللام من (هـ 4) وفوقها علامة (صح) تأكيداً لصحة الرسم.
(2) به: أي بالتسليم.
(3) كما سيظهر من شرح باقي المسألة خصّ الإمام الوجهين فىِ صورة ما إذا عين هذه الشاة عن نذرٍ سابقٍ في الذمة، وسيذكر الإمام ذلك صراحة في هذه الفقرة.

(18/193)


وكان شيخي أبو محمد يقول: هذا التردد قبل قطع شيء من الحلقوم، وكان القفال يقول: إذا ساق الرجل هدياً، فتعيّب قبل الانتهاء إلى الحرم، أثر في الإجزاء، وإن دخل الحرم، ثم تعيب أجزأ؛ فإن الهدي قد بلغ محِله، وهذا مما اختصّ به القفال، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أن التعيب في الحرم كالتعيب قبل البلوغ إليه، والدليل عليه أن من أراد أن يهدي هدياً في الحرم نفسه، فتعيب، فهذا هدي في المحل، ويجب القطع بأن التعيب يؤثر، ولا نرى للسَّوْق من الحل إلى الحرم أثراً في الإجزاء، ومَنْعه.
وما ذكره الأصحاب من التعيب بعد شد القوائم إذا اتّصل الذبح به. وما ذكره القفال من التعيب بعد الانتهاء إلى الحرم مبهم بعْدُ، فإن كان الكلام مفروضاً في المتطوَّع به من غير نذر ولا تعيين، فالذي أراه أن التعيُّب قبل الذبح يخرجه عن الإجزاء، وهذا في التعيب بعد الانتهاء إلى الحرم أظهر؛ فإن النية المجردة لا أثر لها، والدليل عليه أنه لو نوى وانتهى الهدي إلى الحرم، أو نوى بعد شد القوائم، ثم أراد بيع ما انتهى إلى الحرم وبيع الشاة بعد شد القوائم، فهو جائز، والتعيب إذا جرى في وقت يجوز البيع فيه يستحيل أن يقع التضحية بعده مع قيام العيب، فالوجه فرض ما ذكره الأصحاب فيه إذا عين الضحية والهديَ عن نذر سابق، وقلنا: التعيب بعد التعيين والحكم بالتعيين يمنع الإجزاء، فلو فرض التعيب بعد الوصول إلى الحرم، أو بعد شدّ القوائم، فعلى هذا الوجه تردد الأصحاب.
11616 - وقد نجز القول في التعيب الطارىء، ونحن نُلحق بهذا المنتهى توجيهَ التعيين على شاة معيبة، وهذا نذكره في الصور الثلاث، فإن قال: جعلتها ضحية، ومثلها لا يجزىء، فالذي أطلقه الأصحاب أنه يلزمه إجراؤها مجرى الضحايا، وإن كان بها عيب، وهو بمثابة ما لو قال لعبدٍ لا يجزىء إعتاقه عن الكفارة: أنت حر عن كفارتي، فالعتق ينفذ، والذمة لا تبرأ عن واجب الكفارة، ولو أشار إلى ظبية وقال: جعلتها ضحية، لغا لفظه، ولم يلزمه صرفها إلى حكم التضحية. ولو أشار إلى حُوارٍ أو فصيل، وقال: جعلته ضحية؛ ففي المسألة وجهان، هكذا رتب الأئمة، ونقصان السّنّ مردّد بين العيب وبين الجنس المخالف للنَّعم، ورأيت للأصحاب رمزاً في تعيين

(18/194)


المعيبة إلى خلافٍ، من حيث إنها لا تُجزىء، كما أن الفصيل لا يُجزىء، ثم إذا جرينا على الأصح، فلا يلزمه في المعيبة المعينة غيرها؛ فإنه لم يلتزم شيئاً، بل عين، وتعيينه بين أن يصح، وبين أن يلغو.
ولو كان نذر ضحية، ثم عيّن عن نذره معيبة، فلا شكّ أن الذمة لا تبرأ بهذه المعيبة، وهل تتعيّن هذه المعيبة مع بقاء اشتغال الذمة بضحية مجزية؟ فعلى وجهين.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحيّ بشاة عرجاء، أو عجفاء، لا تنقي، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يلزمه صحيحة، ومنهم من قال: لا نلزمه شيئاً؛ فإنه التزم ما لا أصل له في الشرع، ومنهم من ألزمه ما التزم، ولم يُلزمه صحيحة، وجعل الالتزام في المعيبة، والظبية، والفصيل، على الترتيب الذي ذكرناه في التعيين الذي لا التزام فيه.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بهذه، وكانت معيبةً، فهذه الصورة الثالثة يغلب التعيين عليها، لأن الالتزام مقرون بالتعيين فيها، وقد ذكرنا التعيين المحضَ، وذكرنا الالتزام المطلق والتعيين بعده، والالتزامُ المقرون بالتعيين بينهما. ومن انتهى إلى هذا الموضع بفهم ودركٍ، لم يخف عليه كيفية الترتيب.
11617 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أنه إذا التزم في الذمة صحيحةً، ثم عين معيبةً عن جهة النذر، فقد ذكرنا أن ذمته لا تبرأ عن الضحية المطلقة، وهي محمولة على السليمة عن العيوب المانعة من الإجزاء، فإذا قلنا: المعيبة تتعين لجهة التضحية وإن كانت الذمة لا تبرأ بها، فلو زال العيب قبل التضحية والذبح، فقد قال الأصحاب: لا تبرأ الذمة بها؛ فإنها تعينت وهي غير مجزئة، وطريان السلامة لا حكم له.
وهذا فيه تردد عندي؛ فإنا قلنا: إذا عين عن النذر المطلق شاةً سليمة، وقضينا بتعيينها، فلو غابت، فمن أصحابنا من يقول هي مجزئة مع العيب الطارىء؛ فإذا كان العيب الطارىء عند بعض الأصحاب يؤثر في المنع ولا يؤثر عند البعض، فلا يمتنع تخريج السلامة الطارئة على الخلاف؛ اعتباراً بالعيب الطارىء. وقد نجز القول في التعيب.

(18/195)


11618 - النوع الرابع - في ضلال الشاة المعيّنة فنقول: لو عين من غير نذر ضحيةً، فقال: جعلتها ضحية، فَضَلَّت، فلا نُلزم المعيِّن شيئاً؛ فإنّها لو تلفت، لم نُلزمه شيئاً، وإن نذر، ثم عيّن شاةً عن نذره؛ فإن قلنا: التّعيين لاغٍ، فالشاة الضالة كانت مملوكة والنذر باقٍ، وإن قلنا: تتعيّن الشاة المضافة إلى جهة النذر، فلو ضلت، فهو كما لو تلفت، وفي وجوب البدل وجهان، فإن أوجبنا البدل وضحى بالبدل، فوجد الأصل، فهل نلزمه التضحيةَ بالأصل؟ فعلى قولين: أحدهما - لا نلزمه؛ لأن الفرض قد سقط، وانفك الاستحقاق. والثاني - نُلزمه الأصلَ؛ لارتباط الاستحقاق به أوّلاً.
ولو عين شاة عن جهة النذر، فضلّت، والتفريع على التعيين، فعين بدلاً لمّا أوجبنا عليه البدل، فيتعيّن، فلو وجد الأصل قبل ذبح البدل، فحاصل ما ذكره الأصحاب من مجموع الأصول أربعة أوجه: أحدها - أنه يضحي بالأصل. والثاني - يضحي بالثاني؛ لأن الوجوب انتقل إليه، وانفك عن الأول. والثالث - يضحي بهما لتعلق التعيين بهما، والرابع - يلزمه التضحية بإحداهما، والخِيَرةُ إليه، ولا معدل عنهما.
ومن لطائف المذهب أنه إذا عين عن نذره شاة، وقضينا بتعيّنها بالتعيين، فلو ضحّى بشاةٍ أخرى، ونوى صرفها إلى النذر، فهذا يخرج على أن الشاة المعينة لو ماتت هل تبرأ الذمة كما لو قال: جعلتها ضحية من غير نذر والتزام؟ فإن قلنا: تبرأ الذمة -وهو ضعيف جدّاً- فعلى هذا لا تنصرف الشاة الثانية بالنية إلى جهة النذر، فإنا نصرف النذر إلى العين، ونقطع أثره من الذمة، ونجعله كما لو قال: جعلتها ضحية.
ولو قال ذلك ابتداء، لم تكن الشاة الثانية عن تعيينه، وإن قلنا: لو ماتت الشاة المعينة عن جهة النذر، لم تبرأ الذمة، فإذا ضحّى بشاة أُخرى، ففي وقوعها عن النذر تردُّدٌ بسبب التمكن من الضحية بالشاة المعينة، وهذا محتمل، ثم إن أجزأت الشاة المنوية، وأبرأت الذمة، فهل ينفك الاستحقاق عن المعينة؟ فيه الخلاف المشهور.
ولو قال من عليه كفارة: عينت هذا العبدَ للإعتاق عن الكفارة، ففي تعيينه خلاف، ولو أعتق عبداً آخر عن كفارته مع التمكن من إعتاق المعين، فالظاهر أن الذمة

(18/196)


تبرأ، ولا خلاف أنَّ العبد المعين لو مات قبل إعتاقه، فاشتغال الذمة بالكفارة باقٍ، كما كان، والفرق بين مسألة الكفارة وبين ما نحن فيه أنَّ النذر وإن كان التزاماً، فهو تبرّع بالالتزام، فإن قَبِلَ النقلَ إلى عين، كان له وجه على بُعد، والكفارة الواجبة شرعاً لا تحتمل هذا المعنى.
11619 - النوع الخامس - في بيان الوقت، وقد ذكرنا وقت الضحية المتطوع بها من غير تعيين ولا التزام، وذكرنا أن دماء الجبرانات في المناسك لا وقت لها من أيام السنة، ومهما وجبت أمكن أداؤها وإقامتها.
ولو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فيتعيّن التضحية بها في يوم النحر وأيام التشريق، كما ذكرنا في المتطوع به.
ولو قال: لله عليَّ أن أضحّي بشاةٍ، فهل تتأقت التضحية بالأيام الأربعة؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يتعينّ لها وقت، كدماء الجبرانات ووجه المشابهة الوقوع في الذمة. ومنهم من قال: يلزمه إيقاع ما التزمه في الأيام الأربعة؛ فإنه التزم ضحية، والضحيّة مؤقتة. ثم إذا قلنا: تتأقت المنذورة المطلقة، فلا كلام، وإن قلنا: لا تتأقت فلو قال: جعلت هذه الشاةَ عن جهة نذري، وفرّعنا على أنّ التعيين يؤثر، فهل تتأقت التضحية، كما لو قال: جعلتها ضحيةً، من غير التزام. فعلى وجهين: أحدهما - أنها لا تتأقت كالمنذورة المطلقة؛ فإنها مصروفة إلى النذر. والثاني - تتأقت تغليباً لحكم التعيين ولا يخفى منشأ هذا.
11620 - النوع السَّادس: في الأكل من لحم الضحية، ونحن نبدأ بتفصيل القول في الأكل من الضحية المتطوع بها بالنيّة، فنقول: أولاً لا خلاف أن للمضحِّي المتطوع الأكلَ من ضحيته، قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28]، وفي الخبر: " فكلوا وائتجروا " (1) معناه اطلبوا الأجر بالتصرف.
ثم قاعدة المذهب أن الأئمة اختلفوا في أن المضحي لو أراد أن يأكل جميع لحم الأضحية، ولا يتصدق بشيء منها، فهل له ذلك؟ أم يلزمه التصدق بشيء؟ فمنهم من
__________
(1) حديث " فكلوا وائتجروا " سيأتي تخريجه بعد قليل.

(18/197)


قال: يلزمه التصدّق بمقدارٍ، تعلّقاً بقوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28]، ومنهم من قال: له أكلُ الكُلّ؛ إذ لو امتنع أكل الكُلِّ، لامتنع أكل البعض، والدّعاء إلى الإطعام استحثاث على مكارم الأخلاق. فإن قلنا: يجب التصدُّق بشيء، لم يختلف أصحابنا في أن الغرض يسقط بما ينطلق عليه الاسم وإن قلَّ، ويجب التثبت في هذا؛ فإنه على ظهوره مزِلّةٌ، وما ذكرناه مقطوع به، فلتقع الثقة به.
ثم لا شكَّ أنَّه لو تصدّق بالجميع، لكان أفضل، غير أن ما يقتضيه شعار الصالحين أن يأكل من ضحيته مقداراً وإن قلَّ، وكان شيخي يرى ذلك مكرمةً وإحياءً للشعار، وقيل: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل يوم الأضحى من كبد أضحيته " (1) وروي قريب منه عن عليٍّ رضي الله عنه: إذ قال في أثناء خطبته بالبصرة في أيام خلافته: " أما أن أميركم هذا رضي من دنياكم بطِمْريه لا يأكل اللحم في السنة إلا الفِلْذَة من كبد أُضحيته " (2).
ثم من أئمتنا من قال: لو تصدق بالنصف، فقد أقام شعار الدين في الإطعام.
ومنهم من قال: لو تصدّق بالثلث، فقد أكمل القُربة.
فمن راعى التنصيف، تعلّق بظاهر قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28]، وتقابلُ الجهتين يُشعر بالتنصيف، ومن مال إلى الثلث، احتج بما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأضحية، وكان نهى عن الأكل منها، فقال بعد نهيه:
__________
(1) حديث أكل الرسول صلى الله عليه وسلم من أضحيته رواه مسلم من حديث ثوبان قال: " ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحيته، ثم قال: " يا ثوبان! أصلح لحم هذه " فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة ". والحديث رواه أيضاً أبو داود، وأحمد، والدارمي، والحاكم، والبيهقي. أما خبر أكله صلى الله عليه وسلم من كبد أضحيته فرواه البيهقي من حديث بريدة. (ر. مسلم: الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي ... وبيان نسخه وإباحته ... ، ح 1975، أبو داود: الأضاحي، باب في المسافر يضحي، ح 2814، المسند: 5/ 277 - 278، الدارمي: 2/ 79، مستدرك الحاكم: 4/ 230، البيهقي: 3/ 283، 9/ 291).
(2) أثر علي قال عنه الحافظ في التلخيص: " لم أجده، وقال ابن الصلاح في الكلام على الوسيط: إن صح فمعناه أنه رضي بثوبيه الخلقين ". (ر. التلخيص: 4/ 267 ح 2414).

(18/198)


" أما إني نهيتكم للدافّة التي دفّت إلى المدينة -وأراد طائفة من الفقراء والمحاويج كانوا دخلوا المدينة لإضاقة أصابتهم- ثم قال: ألا، فكلوا وادّخروا، وائتجروا " (1). فذكر ثلاثَ جهات، وأشعر قوله بأن التصدق بالثلث.
ثم هذا الفصل وإن كان من الجليات، فيجب التحفظ فيه عن الزلل. ونحن نقول: لم يصر أحد من الأصحاب إلى وجوب التصدق بالثلث أو النصف، ومنهم من لم يوجب التصدق أصلاً، وجوّز أكل الكل، ومن أوجب التصدق، اكتفى بما ينطلق عليه الاسم، وإن قل، ثم تلك الصدقة التي نراها مفروضة يجب صرفها إلى المساكين، ويكفي صرفها إلى مسكين واحد، فإنَّا لا نرى في الشرع لذكر الجمع في هذا الباب أصلاً، والتردد في الثلث والنصف آيل إلى إحياء الشعار، وبيان المستحب، وذكرنا استحباب أكل شيء، ولا ينتهي القول فيما نستحبه إلى نصف ولا إلى ثلثين، ولكن كلما قَلَّ المأكول، وكثر المتصدق به، كان أحسن وأفضل.
فإن قيل: ما وجه جواز أكل الكل؟ قلنا: نحن في المتطوع به، وقد يبعد في نفس الفقيه وجوب التصدق من غير نذر.
ومن تأمل هذا، غمض عليه وجه وجوب التصدق بمقدار، ولا خلاف أن الضحية إذا ذبحت وكانت منوية غير متعيّنة لفظاً ولا منذورة، [فليست] (2) هي شاةَ لحم، حتى يجوز بيعها، كما سنصف ذلك في فنٍّ مفرد، ثم ما يجوز أكله يجوز صرفه إلى الأغنياء على جهة الإطعام، ولا نحسب ما يُطعمه الأغنياء مما يُستَحَب
__________
(1) حديث نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكل من الأضحية للدّافّة التي دفّت إلى المدينة ثم الإذن فيه وقوله " فكلوا وادّخروا وائتجروا " رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه (فكلوا وتصدقوا، وادخروا) وفي الباب عن جابر، وسلمة بن الأكوع، متفق عليهما، وعن بريدة وأبي سعيد عند مسلم، أما برواية (وائتجروا) فمن حديث نبيشة الهذلي، رواه أحمد، وأبو داود. (ر. مسلم: الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي، ح 1971 - 1977، البخاري: الأضاحي، باب ما يؤكل من لحوم الأضاحي وما يتزوّد منها، ح 5567، 5569، أحمد: 5/ 75، أبو داود: الأضاحي، باب في حبس لحوم الأضاحي ح 2812، التلخيص: 4/ 265 ح 2408).
(2) في الأصل: " وليست ".

(18/199)


التصدق به إذا تصرفنا في الاستحباب، وإذا أوجبنا التصدق بمقدارٍ، فالصدقة على محتاج.
11621 - ثم في بقية الفصل ثلاثة أشياء ببيانها يتم الغرض: أحدها - أنه لو وَهَب من غني شيئاً من الضحية هبة تمليك حتى يتصرف فيه المتهب بالبيع، [وما يراه] (1) الملاك، فالذي يظهر لنا أن ذلك ممتنع؛ فإن الهبة ليست صدقة، والضحية ينبغي أن تكون مرددة بين التطعّم والإطعام، وبين الصدقة. فكأن الأغنياء ضيفان الله على لحوم الضحايا، وللفقراء حظ من الصدقة على وجه، والضيف لا [يوهب] (2)، ولكن يطعم.
ولو أتلف المضحِّي شيئاً من اللحم، وقال: إذا كان لي أن آكله، والأكل إتلافٌ، فَلِي أن أُتلفه، فالذي نراه أنَّ ذلك لا يسوغ؛ فإن المضحّي موسَّعٌ عليه في الانتفاع بالضحية، وليس مخيّراً بين الانتفاع والإتلاف. ولو جاز هذا، لكان جوازُ البيع أقربَ منه.
وأما التصدّق، فلست أعرف خلافاً أن تمليك الفقير اللَّحمَ تصدُّقاً عليه جائز، ويشهد له قصة بريرة إذ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بُرْمةً تفور، فقدم إليه خبز قفار، فقال عليه السلام: " ألم أر البرمة تفور باللحم؟ فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها صدقة على بريرة، فقال: " هو عليها صدقة، ولنا منها هدية " (3).
ولو أصلح الطعام ودعا إليه الفقراء وأضافهم من غير تمليك، فقد تمهَّد من أصل الشافعي أن إطعام المساكين في قوله عز وجل: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]،
__________
(1) في الأصل: " وما لا يراه " والمثبت من (هـ 4) و (ق).
(2) في النسخ الثلاث: لا يهب. والأصل أن الفعل وهب يتعدى لمفعوله الأول باللام، ولا يتعدى إليه بنفسه: تقول: وهبتُ لزيد مالاً. ولا تقول: وهبت زيداً مالاً. ولكن الفقهاء يقولونه. (المصباح) وعليه جاز لنا أن نقول: الضيف لا يوهب لحماً ولكن يطعم.
(3) حديث " هو عليها صدقة، ولنا منها هدية " متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (البخاري: الهبة، باب قبول الهدية، ح 2577، والزكاة باب إذا تحولت الصدقة، ح 1495، مسلم: الزكاة باب إباحة الهدية للنبي صلى الله عليه وسلم، ح 1074).

(18/200)


تمليك، ولكن قد يخطُِر للفقيه أن الإطعام في كتاب الله مقابل بالأكل؛ فإنه قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28]، فيظهر أن المراد كلوا ومكّنوا البائسين من أكل، وقد ورد في ماثور الأخبار: " النهي عن مأدبة يدعى إليها الأغنياء ويحرم الفقراء "، ولكن هذا ينصر قولَ من لا يوجب التصدق ويوضّحه، فإذا أوجبنا صرف شيء إلى الفقراء، لم ينقدح عندي فيه إلا التمليك.
وقد نجز الكلام في أكل من الضحية المنوية المتطوع بها.
ولا خلاف أنه لا يحل الأكل من دماء الجبرانات.
11622 - والضحية المنذورة إذا أداها الناذر بالنية، ففي جواز الأكل منها وجهان: أحدهما - المنع؛ من جهة أنها ملتزمة في الذمة، فشابهت دماءَ الجبرانات. والثاني - أن الأكل منها كالأكل من الضحية المنوية، وهذا هو الأفقه؛ فإنه نذرَ الضحية، والضحية يجوز الأكل منها، فلا تتميز المنذورة عن المتطوع بها، إلا من جهة أن الإقدام على الوفاء بالنذر واجب، ولا يجب ذلك دونها.
ولو قال: جعلت هذه الشاةَ ضحيةً، ولم يتقدم نذر والتزام، فهل يحل الأكل منها؟ إن قلنا: يحل الأكل من المنذورة المطلقة المصروفة بالنية إلى النذر، فلأن يجوز أكل من المعينة من غير التزام أولى، وإن منعنا أكل من المنذورة، ففي الأكل من المعينة وجهان: والأصح - جواز الأكل؛ فإن اللفظ كما عين المعينة، فالذبح على نية التطوع بالتضحية يعيّن اللحم لجهة الضحية الشرعية، فلا فرق إذاً، وإذا فرضنا تعييناً بعد نذر، لم يخف التصرف بعد الترديدات التي ذكرناها في ترتيب المنازل، وقد نجز الغرض في هذا النوع.
فرع:
11623 - إذا ضحى المتطوع وأوجبنا التصدق، فأكل الكل، ففي مقدار ما يغرمه لجهة التصدق وجهان ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه يلزمه ما يقع الاسم عليه، والثاني - يلزمه الثلث، أو النصف.
وهذا عندنا زلل؛ فإن هذا القبيل من الخلاف ذكره الأصحاب فيه إذا حرم المزكي واحداً من المساكين، وصرف السهم إلى مسكينين، وذلك لا يناظر ما نحن فيه؛ فإن

(18/201)


التصدق بالكل حتم، فإذا حرم واحداً ثار منه خلاف، وفي التضحية لا يجب التصدق إلا على واحد بأقل ما يجوز التصدق به، والأصح في الزكاة أنه لا يغرم إلاَّ أقل القليل.
11624 - النَّوع السَّابع - في جهات التصرف في الضحية المتطوع بها، وقد قدمنا القول في الأكل والإطعام والتصدق، فأمَّا البيع، فلا مساغ له في شيء من أجزاء الضحية، ومنع الأئمة أن يصرف جلد الضحية إلى أجرة القصاب؛ فإن ذلك تعويض، وهو ممتنع، وحكى صاحب التقريب قولاً بعيداً منصوصاً للشافعي في جواز بيع جلد الضحية، وصرف ثمنه إلى الجهة التي يصرف لحم الضحية إليه، وهذا بعيد لم أره إلاّ له. ثم ذكر في الجلد كلاماً مستفاداً، فقال: إذا أوجبنا التصدق، واكتفينا بما ينطلق الاسم عليه، فالظاهر أن التصدق بالجلد لا يكفي، وهذا حسن، وفيه احتمال كما ورد جوابه فيه.
11625 - النوع الثامن - في ولد الأضحية: إذا قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فولدت، فولدها بمثابتها، وهو تبعٌ على التحقيق؛ فإن التضحية بالحمل غير جائز على الابتداء، ولكنا قدرنا الولد جزءاً من الأم وسلكنا به مسلكها، ثم ذكر صاحب التقريب فيه كلاماً، فقال: من أئمتنا من جعله كالضحية المنفردة، وفائدة ذلك أنَّا لا نجوّز أكله كله على مذهبٍ كالأم، ومن أصحابنا من قال: هو بمثابة عضوٍ من الأم، فيجوز أكله كله، والتصدق بشيء من الأم، وهذا التردد لطيف حسن.
ولبن الشاة المعيّنة بمثابة لحمها لو ضحيت. ولعلّ الظاهر جواز اسعتيعاب اللبن بالتعاطي إذا جوزنا الأكل من لحمها، وقدّرنا أنها ضحية.
11626 - ثم قال الشافعي: " ولو أن مضحيين ذبح كل واحد أضحية صاحبه ... إلى آخره " (1) وهذا مما قدمنا ذكره، إذ قلنا: لو ضحّى الإنسان بضحيةِ غيره، فكيف السبيل فيه؟ والفرْضُ في مضحيين لا يزيد حكماً، فلا نعيد ما قدمناه.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 213.

(18/202)


وقال الشافعي: " وأكره بيع شيء منه، والمبادلة به " (1) وهذا كراهية تحريم، والشافعي والأئمة الماضون كثيراً ما يطلقون الكراهية، ويريدون به التحريم، وهذا من ذلك.
ثم قال: " ولا يجوز التضحية لعَبدٍ " (2) وهذا مفرع على الجديد، وهو أن العبد لا يملك بالتمليك، فلا تقع الضحية عنه وإن فرعنا على القديم، فإذا ملكه مولاه شاة، وأذن له في التضحية بها، فيقع التضحية عنه، كما لو أذن له في التصدق.
وفي المكاتب قولان إذا أذن المولى مبنيان على تبرعاته.
ثم ذكر الشافعي: " أن البقرة تجزىء عن سبعة، وكذلك البدنة " (3) وهو مبيّن مذكور، والشاة لا تقبل الشركة، ولو ضحَّى رجلان بشاتين، وكان لكل واحد منهما النصف من كل شاة، فهذا مختلف فيه بين الأصحاب، وله التفات على إعتاق نصفي عبدين عن الكفارة.
فرع:
11627 - إذا اشترى الرجل شاة ونوى التضحية بها، فهي مملوكةٌ بعدُ، ولا أثر للنية المقارنة في إزالة الملك، ثم الّذي قطع به المراوزة أنّ مجرد نية التضحية عند الذبح، أو قبله، على أحد الوجهين، يحقق الضحيّة، ويُوقع القُربة، وهذا ما صححه العراقيون، وحكَوْا وجهاً آخر أن مجرد النية لا يثبت القربة، ثم ذكروا على هذا الوجه وجهين: أحدهما - أنه لا بُدّ من اللفظ، وهو أن يقول: جعلتها ضحيّة.
والوجه الثاني - أن اللفظ لا بُدّ منه، أو تقليد الضحية، وهذا بعيد عن مذهب الشافعي.
وظاهر كلامهم القطعُ بأن النية مع الشراء لا أثر لها، وإن جوزنا تقديم النية على الذبح، إذا قلنا: النية بمجردها كافية في إيقاع القربة، وهذا الذي ذكروه ظاهر إذا قلنا: البيع لا ينقل الملك بمجرده. وإن قلنا: إنه ينقل، فيقع الكلام في الملك الجائز، فإن البيع لا يخلو عن خيار المجلس، والتنبيهُ في ذلك كافِ، ولا شكَّ أن
__________
(1) السابق نفسه.
(2) ر. المختصر: 5/ 213.
(3) السابق نفسه.

(18/203)


النية بين الإيجاب والقبول لا تكفي، وإنما الذي عَنَوْه بالنية مع الشراء أن ينوى مع الفراغ عن القبول.
فرع:
11628 - إذا اشترى الرجل شاة، ولزم ملكه فيها، فقال: جعلتها ضحيةً، فقد تعينت فلو وَجَدَ بها عيباً قديماً يُثبت مثلُه الردَّ، ولا يمنع الإجزاء، فلا سبيل إلى الرَّد، وهو كما لو اشترى عبداً وأعتقه، ثم وجد به عيباً، وله الرجوع بأرش العيب.
ثم قال العراقيون: إذا أخذ الأرش، صرفه في مصرف الضحايا، كالذي يفضل من قيمة الضحية. والذي يقتضيه قياس المراوزة أن ذلك الأرش يملكه ولا يلزمه صرفه إلى مصرف الضحية؛ فإن التعيين للتضحية ورد عليها، وهي معيبة؛ فلا ينعكس الاستحقاق إلى ما تقدم، ولا يصح على السبر إلاَّ هذا.
***

(18/204)


باب العقيقة
11629 - العقيقة عندنا سنة، وقال أبو حنيفة (1) رضي الله عنه: بدعة. وقال داود (2): هي واجبة. قال الشافعي رضي الله عنه: " أفرط في العقيقة رجلان رجل قال: إنها بدعة، ورجل قال: إنها واجبة " ولعله أراد رجلاً غير داود؛ فإن داود كان بعد الشافعي.
ثم لا يُرعى في العقيقة انتظار وقت التضحية، والمستحب ذبح العقيقة في اليوم السابع من الولادة. قال الأئمة: يستحب ذبح العقيقة في السابع، وفيه يستحب أن يحلق رأس الغلام، وفي السابع يسمى المولود، وفي الحديث: " يُعَقُّ عن الغلام بشاتين، وعن الجارية بشاة " (3)، والشاة الواحدة عقيقة عن الغلام كافية، والمستحب شاتان، وروي: " عن الغلام شاتان مكافئتان " أي تكافىء كل واحدة الأخرى وتماثلها.
ومن السنن التي تقام يوم السابع أن يتصدق بزنة الشعر المحلوق فضةً أو ذهباً، وقيل العقيقة اسم لذلك الشعر الذي يكون على الصبي، فسميت الشاة باسم ذلك الشعر، فإن الحاج يحلق ويضحي، والشعر يحلق في السابع، ويتقرب إلى الله بالعقيقة.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 299 وفيه أن العقيقة تطوّع، من شاء فعلها ومن شاء تركها، وانظر مختصر اختلاف العلماء: 3/ 232 مسألة: 1336.
(2) ر. المحلّى: 7/ 523.
(3) حديث " يُعقّ عن الغلام بشاتين ... " رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي كلهم من حديث عائشة رضي الله عنها. وأما رواية " عن الغلام شاتان مكافئتان " فهي عند ابن ماجه (ر. الترمذي: الأضاحي، باب ما جاء في العقيقة، ح 1513، ابن ماجه: الذبائح، باب العقيقة، ح 3163، ابن حبان: ح 5286، البيهقي: 9/ 301، الثلخيص: 4/ 268 ح 2415).

(18/205)


ثم دلَّ مضمون الأخبار على أنَ الشاة تُعَضَّى (1)، ولا تكسر عظام الأعضاء، بل تفصل من مفاصلها، وهذا كالفأل بسلامة أعضاء الصبي.
ثم يتعين القطع بإجراء العقيقة مجرى الضحية في الأكل من اللحم، والتصدق، وامتناع البيع والاستبدال، واشتراط السلامة المؤثرة في إجزاء الضحية، فلا فرق إلا أنَّ الضحية تتأقت بالأيام الأربعة، والعقيقة يدخل وقتها بولادة المولود، وهذا في التعلق بالسبب بمثابة دماء الجبرانات المتعلقة بأسبابها الموجبة، ثم دماء الجبرانات كالضحايا في اشتراط سلامتها من العيوب المؤثِّرة في الضحايا، إلا في جزاء الصّيد، فإنا نقابل المعيبة من الصّيود بالمعيبة؛ فإن مبناها على اعتبار المماثلة في الصورة.
ونعود إلى العقيقة قائلين: إذا أوجبنا التصدّق بمقدارٍ، فيجب إجراء التمليك فيه، وتنزيل الصدقة على اللحم النيَّيء، وأطلق الصيدلاني في مجموعه أنَّ الشاة تعضَّى كما ذكرنا، وتطبخ، ويفرق اللحم طبيخاً مع المرق، وهذا سديد إذا لم نُوجب التصدق، وهو مستقيم فيما لا نوجب التصدّق به.
فأما المقدار الذي يجب التصدّق به، فلا وجه فيه إلا ما ذكرته.
ومما أجراه أن تفرقة اللحم أولى من دعاء الناس إليه. هذا مقصود الباب.
ثم روى الشافعي حديث أمّ كُرز، وتكلم عليه، قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله عن لحوم الأضاحي فسمعته يقول: " عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، لا يضركم ذكراناً كُنَّ أو إناثاً " وسمعته يقول: " أقروا الطير على مَكِناتها " (2).
وفي الحديث ما يدل أنها ما افتتحت سؤالها، فانها لو سألت عن لحوم الأضاحي لما كان تفسير العقيقة جواباً لها ولكن جاءت لذلك، ثم سمعت ما سمعت، فلم تبُح بسؤالها وقوله عليه السلام: " أقروا الطير على مَكِناتها " مما اختلف العلماء في تفسيره
__________
(1) تعضَّى: تقول: عضَّيت الذبيحةَ بالتشديد إذا جعلتها أعضاءً (مصباح).
(2) ر. المختصر: 5/ 214.
ومكناتها بفتح الميم وكسر الكاف. المعنى على بيضها. والمكنات في الأصل: بيض الضباب ثم استعيرت للطير. وقيل: المكنات الأمكنة. (النهاية في غريب الحديث: مادة: م. ك. ن).

(18/206)


قيل: معناه النهي عن الصيد ليلاً، كأنه نهى عن ذلك نهي كراهية، وقال لا تنفروا الطير (1) بياتاً.
وقيل: أراد النهي عما كانت العرب تفعله إذا أراد أحدهم الخروج إلى سفر، فإنه كان يبكر إلى عش طائر ويهيج الطير، فإن طار يمنة تفاءل وإن طار يسرةً تشاءم، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التفاؤل والتشاؤم.
ثم قال الشافعي رضي الله عنه في بعض كلامه: كانت العرب تلطخ رأس الصبي بدم العقيقة، وهذا مكروه في الدين لا أصل له. والله أعلم.
...
__________
(1) هـ 4: " الصيد ".

(18/207)