نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب السبق والرمي
11601 - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا سبْق إلاَّ في خُف أو حافر أو نصل " (1). والسبْق المال الذي يُخرج في [مقابلة] (2) المسابقة والمناضلة. والسبْق بسكون الباء مصدر سَبَقَ. والسَّبَقُ بفتح الباء بالإضافة إلى السبْق بسكونها قريبٌ من القبْض والقبَض والنَّقْض والنقَض والخَبْط والخَبَط، وإن لم [يكنه] (3).
ومذهب الشافعي أن المالَ المخرج -على تفاصيلَ ستأتي مشروحة إن شاء الله- مستحق بالسبْق والنضْل، وخالف في ذلك أبو حنيفة (4) رضوان الله عليه وأرضاه في رواية مشهورة، ولا شك أنه راغم (5) الأخبار الصحيحة، وروي أنه قال بأصل المعاملة، واختار أنها جائزة، وهذا قريب، وهو قولُ الشافعي (6)، وللكتاب ركنان: أحدهما - المسابقة، والثاني - المناضلة.
وقد صدر الشافعي الكتاب بالمسابقة، وذكر أصولها، ثم اندفع في المناضلة وأحكامها، ولا يكاد تتمحض واحدة عن الاستشهاد بالأخرى، ونحن نحاول الجريان
__________
(1) حديث " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل " رواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، والحاكم من حديث أبي هريرة، ونقل الحافظ تصحيحه عن ابن القطان، وابن دقيق العيد، وصححه الألباني في الإرواء.
(ر. الأم: 4/ 229، المسند: 2/ 474، أبو داود: الجهاد، باب في السبق، ح 2574، الترمذي: الجهاد، باب ما جاء في الرهان والسبق، ح 1700، النسائي: الخيل باب السبق، ح 3585، ابن ماجه: الجهاد، باب السبق والرهان، ح 2878، التلخيص: 4/ 297 ح 2480، إرواء الغليل: 5/ 333 ح 1506).
(2) في الأصل: " معاملة ". والمثبت من (هـ 2)، ومختصر العز بن عبد السلام.
(3) في الأصل: " نكبته ".
(4) ر. بدائع الصنائع: 6/ 206، الفتاوى الهندية: 5/ 324، حاشية ابن عابدين: 5/ 258.
(5) هـ 4: " خالف ".
(6) في (هـ 4): " قولٌ للشافعي ".

(18/229)


على ترتيبه بعد أن نُمهِّد أصلاً فيهما يتعلق ببيان الخبر والاستنباط منه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا سبْق إلا في خُف أو حافر أو نصل " وأراد بالخُفّ الإبل، وبالحافر الخيل في ظاهر ما يظن، وأراد بالنصل السهم في ظاهر الظن، والمعنى الذي تخيله الأصحاب التحريض على تعلم الفروسية والرماية كما قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60]، قيل: القوة هي الرَّمي. ولا غَناءَ في إعداد القسيّ والسهام مع الخُرق، وعدم العلم بكيفية الرماية، وكذلك لا غناء في إعداد الخيل من غير معرفة بالفروسية، فالإعداد يُشعر بالتوصّل إلى ما لا غنى عنه في التعلم، فهذا ما ذكره الأصحاب.
ثم لا خفاء بأن الإبل معيّنة، وهي ذات الخفاف، والخيل كذلك، وهي ذات الحوافر، فيجوز المسابقة على الإبل، ويجوز على الخيل، وتفارق الإبل الخيلَ في استحقاق السهم في المغنم؛ فإن استحقاق السهم لا يتحقق إلا بالخيل، نعني الزائد على سهم الرجّالة، واستوت الخيل والإبل في جواز المسابقة عليها، وهذا قد يختلج في الصدر؛ فإن المسابقة عليهما [قد أثبتتهما] (1) عدتين للقتال، ولكن لا مطمع في تقريب أحد الحكمين من الثاني، ولا خلاف بين الأصحاب في افتراق القاعدتين.
والممكن في الفرق أن الخيل متهيئة (2) للانعطافات التي هي عماد القتال، وبها يتم الكر والفر والتدْاور، وسهم القتال يليق بعُدد القتال، وليس في الإبل ما أشرنا إليه، وإن كان فيها غناءٌ على حال، وما فيها كافٍ في التحريض على تعلم ركوبها وإجرائها.
11652 - ثم يطرأ في التفريع ما يندرج تحت الاسم ويوجد فيه المعنى، وما لا يندرج تحت الاسم ويوجد فيه المعنى، وما لا يندرج ويبعد عن مسلك المعنى.
وهذه الأقسام نبتديها بعد شيئين: أحدهما - الاكتفاء بجنس الخيل وجنس الإبل، وإن لم يكن فيما يقع التسابق عليه كثير عَدْوٍ وركْض؛ تعويلاً على الجنس،
__________
(1) في الأصل: " فإن المسابقة عليهما أثبتا عدتين للقتال " و (هـ 4): " قد أثبتتا ". وما في اللفظ من تصرفٍ هو من عمل المحقق.
(2) هـ 4: "متهيبة".

(18/230)


وقد نسلك هذا المسلك في جنس الخيل في استحقاق السهم. هذا أحد الأمرين.
والثاني - أنا نظن ظنّاً غالباً أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم لم يُرد بالحافر إلا الخيل وبالخُفّ إلاَّ الإبل.
فإذا تَمَهَّدَ هذا قلنا: الفِيَلة ذوات خفاف، وقصْدُ القتال فيها ظاهر، ولكن من حيث يبعد أنها خطرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذُكر الخُفَّ، ذكر الأصحاب فيها خلافاً، وقالوا الأصح جواز التسابق عليها؛ لاندراجها تحت الاسم واشتمالها على المعنى المطلوب، والمسابقة على البغال والحمر على الاختلاف، وهي أبعد من الفِيَلة، من جهة المعنى، فإنها لا تُغني غناء الخيل في القتال، وإنما المطلوب (1) منها تعلم الرِّكبة والهيئة في الثبات، وهذه الصفات هي الأصول، وقد لا يتأتى الهجوم على ركوب الخيل دون تعلم ما ذكرناه على الحمر والبغال، ولا شك أنَ ما ذكرناه بالإضافة إلى ركوب الخيل يخالف غَناء الفيلة بالإضافة إلى الإبل، ولكن اسم الحافر يتناول الحمر والبغال، فاقتضى ما ذكرناه ترتيب الحمر والبغال على الفيلة، ووجه الترتيب ما نبهنا عليه.
وقد ذكرنا في استحقاق السَّهم قولين في الفرس الرَّازح (2) الذي ليس فيه إلا الشهود والإرعاب، ولا يبعد على مذهب تتبع المعنى أن يجري مثله في المسابقة، فإن كانت الخيل معيّنة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكر الحافر هاهنا ذكر الفارس ثَمّ، واسم الفرس (3) يشتمل الجنس.
فهذا وجه التصرف فيما يدخل تحت الاسم لغةً مع غلبة الظن، [بأنه] (4) لم يخطر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذْ أطلق لفظه في الخُف والحافر.
والترامي بالزانات والمزاريق بالإضافة إلى السّهام يقرب من الفيلة بالإضافة إلى
__________
(1) هـ 4: " المقصود ".
(2) الرازح: الهزيل. (المصباح).
(3) هـ 4: " الفارس ".
(4) في الأصل: " فإنه ".

(18/231)


الإبل، وهي دون الفيلة إذا نسبت إلى الإبل، إذا قُدِّرَ نسبتُها إلى السَّهم، وفوق الحمر إذا نسبت إلى الخيل، وإنما ألحقناها بالسهام لاندراجها تحت اسم النّصل الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يخطر للإنسان في إمكان قصد التعميم عدول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإبل والخيل إلى الخف والحافر، وهذا في النصل أظهر؛ فإنَّ الكناية عن الإبل والخيل في الخف والحافر أشهر من الكناية عن السهام بالنصل.
وقد نجز القول في مرتبة من المراتب الثلاث التي ذكرناها.
11653 - فأمَّا المسابقة بالأقدام وبالزواريق في الماء، فإنَّها خارجة عن الإرادة المظنونة، وعن الاسم من طريق اللفظ، ولكن تخيل الأصحاب إلحاقَ ذلك من طريق المعنى بالخف والحافر، وأظهروا خلافاً، وهو مرتب على ما يقع في المرتبة الأولى، وهذا أولى بألا تصح المعاملة فيه من جهة خروجه عن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان شيخي يقرب التدْوَارَ بالسيوف من النصال، ويحرص على أن يدرجها تحت الاسم؛ فإن اسم النصل يتناول السيف، كما يتناول الزانات ولا يخفى غَناءُ السيف، فهو الآلة الكاملة في لسان أهل النجدة. وهذا الذي ذكره ظاهر في الغَناء، ولكن يبعد إدراج السيوف تحت اسم النصل المطلق.
والترامي بالأحجار والمقاليع يقع في المرتبة الثانية؛ فإنها على غناء ظاهر، وليست تدخل تحت الاسم.
11654 - وأما ما يقع في المرتبة الثالثة، فهو بمثابة التسابق على الطيور والحمامات الهادية وهي خارجة عن الاسم، وغناؤها نزر، وإذا تكلفناه، أشرنا إلى الكتب وفيها نقل الأخبار في الاستنفار.
فهذا بيان قواعد المذهب.
وألحق شيخي الصراع بالمرتبة الثانية وهو عظيم الوقع عند تَواخُذِ (1) الرجال في
__________
(1) تواخذ الرجال: المعنى عندما يأخذ الرجال بأعناق بعضهم البعض عند التحام القتال.

(18/232)


ضيق العناق، وقيل: هو الأصل الطبيعي، والسكين نِفَارٌ (1) منه، والسيف نِفَارٌ من السكين، والرماح نِفارٌ من السيف، وبعدها الرمي.
وأنواعُ القسي ملحقة بالنصول (2) لا تردد فيها، كالجروخ (3) والنازك (4) ورمي المسلات والإبر، ولئن شذت مسألة بالضوابط التي ذكرناها ننبه عليها.
11655 - ونحن نختتم الكلام بسؤال وجواب عنه، فإن قيل: من أدخل من الأصحاب كلّ ما فيه غناء في القتال تحت جواز المعاملة قياساً على المسابقة والمناضلة فكيف اعتذاره عن ضبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقسيمه المُدار بين النفي والإثبات؛ إذ قال: " لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل "؟ وهذا السؤال واقع سيّما على من أجرى الخلاف في المرتبة الثالثة، ثم الممكن فيه أنه أخرج كلامه عليه السلام على الغالب المعتاد، وقصد التنصيص على المعظم من آلات الجِدّ، لنفي (5) ما عداها من التقامر على الهُزء واللعب، وما لا خير فيه، والعلم عند الله، وقد تمهد الأصل المطلوب، ونحن نعقد بعده فصلاً في السَّبَق ومن يخرجه ومن يستحله.
__________
(1) النفار: النفور والفرار والفزع، والمعنى: أن الأصل في القتال هو الصراع (المصارعة) ثم فزعاً منها كان اللجوء إلى السكين، وفزعاً من السكين كان السيف؛ فهو أبعد عن الخصم، ثم نفاراً من السيف كان الرمح، ثم يأتي الرمي. والغرض من هذه العبارة وهذا الترتيب إثباتُ جواز السبق في المصارعة، فإنها الأصل في القتال.
حمداً لله جل وعلا، فقد رأينا ابن الصلاح في مشكل الوسيط فسر العبارة بهذا التفسير عينه ثم عقبه بقوله: " فاعرف الكلمة (نِفار)؛ فإنها قد خفيت، وصحفت في النسخ بوجوه من التصحيف أضاعت المعنى " ا. هـ (ر. مشكل الوسيط بهامش الوسيط: 7/ 176).
(2) هـ 4: " بالمنصوص، لا مردّ فيها ".
(3) الجروخ: من أدوات الحرب ترمى عنها السهام، والحجارة، مشتقة من جرخ، ومعناها الفلك، وتطلق على جميع الآلات التي تدور، كالدولاب والبكرة، وغيرهما، ومنها جرخ بالكردية والتركية (ر. معجم الألفاظ الفارسية المعرّبة).
(4) النازك: النيزك، وهو الرمح القصير، فارسيٌّ معرّب، وتكلم به الفصحاء في الجاهلية (اللسان، والمصباح، والمعجم) وهي في (ق): (الناوك) وهو أيضاً بنفس المعنى، واستعمله الغزالي في الوسيط.
(5) هـ 4: " ليبقى ".

(18/233)


فصل
11656 - السبَق هو المال المخرج، ثم يفرض فيه ثلاث صور: إحداها - أن يُخرج الإمامُ من مال المصالح ما يراه، ويقول للمتسابقَيْن وللمتناضلَيْن: من سبق منكما أو من فاز بالنضال، فله هذا المال، فهذا جائز على هذا الوجه، لا خلاف فيه، ولا حاجة إلى فرض محلِّل؛ فإنَّ جملة المتسابقين والمتناضلين على صورة المحلِّل، فإنَّ المحلل من يستحق لو فاز، ولا يُستَحق عليه لو تخلف، وجملتهم بهذه المثابة.
11657 - ولو أخرج المال واحدٌ من عُرض (1) الناس، وقال: من سبق منكم، أو فاز، فهذا المال له، فذلك جائز وفاقاً، [كما يجوز] (2) من الإمام، وهذان الوجهان لا خلاف فيهما على المذهب.
ثم نذكر حكماً من أصول الكتاب متعلقاً بهذين القسمين، ثم نذكر القسم الثالث، ونذكر ما يليق به.
فإذا شرط من يُخرج السبَق جميع المال للسابق، جاز، وهو الأصل، وإن شرط بعضه للسابق، وبعضه للمصلِّي وهو الذي يلي السابق، نظر: فإن شرط الكل للمصلي، فالمذهب أن ذلك باطل، لوجهين: أحدهما - أنَّ المطلوب السبْق، والآخر - أن السبَق مأخوذ من السبْق وهو لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مشعر بالسبْق.
ومن أصحابنا من قال: يجوز شرط السبَق بكماله (3) للمصلي، لأن ضبط الفرس في شدة العدو على مقام المصلّين حِذقٌ في الفروسية. وهذا الوجه ضعيف، وقد يؤدي إلى أن يطلب كل واحد الانخناس، فلا يحصل الغرض من الركض.
ولو قسم مخرج السبَق المالَ على السابق والمصلّي، وجعل نصيب السابق أكثر، فالمذهب الذي قطع به معظم الأئمة جواز ذلك، ووجه المصلحة فيه لائح. وذكر
__________
(1) عرض الناس: بضم العين وسكون الراء: عامتهم.
(2) في الأصل: " كما لا يجوز ". والمثبت من (هـ 4)، و (ق).
(3) هـ 4: " الأكثر ".

(18/234)


صاحب التقريب وجهاً آخر أن ذلك لا يجوز والسبَق للسابق، فإذا شرط لغيره، لم يصح، ولم يستحقه.
فإذا كان ما شرط للمصلّي أكثر مما شرط للسابق، فهو كما لو كان الكل مشروطاً للمصلي، ولو سوَّى بين السابق والمصلِّي (1) في الترتيب، كان كما لو فضّل المصلي على السابق.
وكل ما ذكرناه فيه إذا اشتمل مكان التسابق وهو المسمى الحَلْبة على فرسانٍ، فلو كان يتسابق رجلان فالمصلي فِسْكِل (2)، ولا خلاف أنه لا يجوز تخصيص الفِسكِل بالسبَق، فإنما التردد الذي ذكرناه فيه إذا اشتمل المكان على السابق والمصلّي وغيره.
ولو كان يرى مُخرج المال فضَّ ما أخرجه عليهم على التفاضل، والفضل للسابق، ثم للمصلي ثم للذي يليه، هكذا، فالأصح جواز ذلك إلا فيمن يأتي فِسْكِلاً؛ فإن في صحة اشتراط شيء له -وإن قل قدره- خلافاً بين الأصحاب متجهاً، فمنهم من منع؛ فإن أحداً لا يعجِز عن مقام الفِسكِل، فقد يكتفي بالقليل ويضن بفرسه، فيتخلف، ومنهم من جوّز، لأنه على حال يتعب ويدأب، فلا يبعد ألا يخيب على قدر كدِّه وجهده (3).
فخرج من مجموع الترتيب أن الفِسكِل لا يخصص بالسبَق، ولا يفضّل على متقدمٍ عليه، ولا يسَّوى بينه وبينه وفاقاً، وصرْفُ (4) شيءٍ إليه على شرط أن يكون أقل من حصص كل سابق عليه ففيه الخلاف. ويجوز تخصيص السبَق بالسابق، بلا خلاف، فإذا أُثبت للمصلِّي شيء، والفضل للسابق، فالمذهب الجواز، وفيه شيء بعيد حكاه صاحب التقريب.
__________
(1) المصلّي: فسره الإمام بأنه الذي يلي السابق، ونزيد التسمية وضوحاً، فنقول: سُمي المصلي لأنه يأتي ورأسه عند (صلا) السابق. والصلا: وزان العصا: هي مغرز الذنب من الفرس.
ومن هنا قيل للذي يلي السابق المصلي (القاموس. والمصباح).
(2) الفِسْكِل: بكسر الفاء والكاف: الفرس يجيء آخر الخيل (المصباح).
(3) هـ 4: " وحدّه ".
(4) هـ 4: " وفي صرف ".

(18/235)


وإن خصص المصلِّي بالكل أو بالأكثر، أو سوى بينه وبين السابق، فالمسألة على الخلاف، والأقيس المنع [وإن] (1) اشتهر الخلاف.
ولو فرض ما ذكرناه في الثالث الذي يسمى التالي، أو الرابع الذي يسمى المُرتاح (2)، فهو على الخلاف، على شرط ألا يكون فِسْكِلاً.
وقد تَمَّ المرادُ فيما قصدنا إلحاقه.
11658 - والقسم الثالث في إخراج السَّبَق أن يُخرج أحد المتسابقين مالاً، وهذا يفرض على وجهين: أحدهما - أن يكون المخرِج أحدَهما، على تقدير أنه إن سبق أحرز ما أخرجه، وإن سبقه صاحبه، فاز بالمال. والقسم الثاني - أن يخرج كل واحد منهما مالاً على تقدير أن من سبق أحرز ما أخرجه، واستحق ما أخرجه صاحبه.
فأما الصورة الأولى في القسم الثالث، فهي مجوّزة بلا خلاف، فإن من لم يخرج يستحق، ولا يُستحق عليه، وهذا هو المعتمد في تصحيح المعاملة، وسبب اعتماده أنه يخرجها عن صور القمار؛ إذ ليس فيها استحقاق على هذا [النّسق] (3).
فأما الصورة الثانية من القسم الثالث: وهي أن يخرج كل واحد منهما مالاً، ويقع التشارط على أن من سبق أحرزَ ما أخرج، واستحق ما أخرجه صاحبه، فهذا قمار باطلٌ لا خلاف فيه.
فلو أدخلا بينهما ثالثاً، وشرطا أنه إن سبق، استحق المالين، فهذا هو المحلِّل، ثم يُنظر: فإن وقع الشرط على تخصيص المحلّل بالاستحقاق إن سبق، وعلى ألا يستحقَّ أحدُهما مالَ صاحبه، بل لا يستفيد بسبقه، إلا إحراز ما أخرجه، فهذه المعاملة جائزة وفاقاً، وهي على حكم الصورة الأولى من القسم الثالث، وهو إذا أخرج أحدهما المال دون الثاني، فلا فرق بين أن يُخرج رجل واحد وبين أن يُخرج رجلان إذا كان المستحِق من لم يُخْرجِ.
__________
(1) في الأصل: " فإن ".
(2) المُرتاح: بضم الميم: الفرس الخامس من خيل الحلبة (كذا في المعجم الوسيط، وجعله الإمام الرابع).
(3) في الأصل: " السبق "، والمثبت من (هـ 4).

(18/236)


فلو [وقع] (1) التشارط على أن المحلِّل إذا سبق، استحق السبَقَين [وإن سبق] (2) أحد [المُسبِقَين] (3) أحرز ما أخرج، واستحق ما أخرجه صاحبه، ففي جواز المعاملة على هذا الوجه قولان: أحدهما - أنها تصح على هذا الوجه، ويجب الوفاء بالشرط؛ لأن الغالب في تعامل الناس هذا.
فإن قال قائل: يجب تخصيص المعاملة بغرض (4) التعليم والتعلّم، وهذا يحصل بأن يكون أحدهما مسبَّقاً (5). قيل: التسابق قد يجري بين المتكافئين، بل يشترط أن [يكونا] (6) متقاربين، كما سيأتي شرح ذلك في الفرسين، والراميين، فإذا كانا متكافئين، لم يسمح أحدهما أن يخرج المال دون الثاني، فهذا يؤدي إلى تعطيل المعاملة، ولكن إذا لم يكن محلِّل، كانت المعاملة على صورة القمار، وإن تخلل المحلِّل، مالت المعاملة عن مضاهاة القمار؛ إذ ليس في جنس القمار دخول محلل.
والقول الثاني - أنه لا يجوز تقدير استحقاق كل واحد منهما على صاحبه؛ فإنه لو اتفق سبق أحدهما، كان استحقاقه على صورة القمار، فوجب تخصيص الشرط بالمحلِّل إذا أخرج كل واحد [منهما] (7) مالاً، وعبّر الأئمة عن القولين بعبارة تصلح للضبط والتحقيق فيما قدمناه، فقالوا: " المحلل يحلِّل لنفسه، أم يحل لنفسه وللمستبقَيْن إن فرض السبق من أحدهما"؟ فعلى ما ذكرنا من القولين.
__________
(1) في الأصل: " يقع ".
(2) في الأصل: " فإن ".
(3) في الأصل، و (ق): " المسنبقين " وفي (هـ 4) بها أثر تصويب ويغلب على الظن أنها " المستبقين " وهو خطأ فإن المراد أحد اللذين أخرجا السبَقَ، فهما مُسبقان. أما صفة الاستباق، فيشاركهما فيها المحلل. وهذا واضح يدرك بشيء من التأمل. وقد نبه إليه ابنُ الصلاح في مشكل الوسيط (ر. 7/ 179).
(4) هـ 4: " بفرض ".
(5) المسبّق: مثقّل: اسم مفعول، وهو الذي يسبقه غيره كثيراً. (المصباح).
(6) في الأصل: " أن يكون ".
(7) زيادة من (هـ 4).

(18/237)


11659 - ثم إذا فرض [مُسبقان] (1) ومحلِّل، فيقع التسابق على صورٍ (2)، وأحكامها تتلقّى من الأصل الذي قدمناه، وقد يتعلق التفريع بأمر (3) آخر يتعلق باللفظ، ونحن نذكر المراد في صورة ثم نخوض في التفاريع:
فإذا قيل: لا سبَق إلا للمحلِّل، وقد أخرج المُسْبقان ماليهما، فسبَقَ أحد المُسْبقين، وصلّى (4) المحلِّل وجاء المسبق الثاني فِسكِلاً، فالسابق يحرز [ما أخرجه] (5)، ولا يستحق (6)، وهل يستحق المحلل سَبَق الفِسكِل؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يستحق؛ فإن السبَق للسابق، والسابق هو الذي ليس مسبوقاً، والمحلِّل مسبوق بأحد المُسْبِقَين، فخرج منه أن المُسْتقَيْن أحرزا سَبقَيهما، الأول لسبْقه، والثاني لأن المحلل مسبوق بالأول.
والوجه الثاني - أن المحلل يستحق سبَق المُسْبِق الفِسكِل؛ لأنه جاء سابقاً له، متقدماً عليه، فهو بالإضافة إلى الفِسكِل سابق. وهذان الوجهان مأخوذان من مطلق شرط السبَق للسابق، فرجع التردد إلى موجب اللفظ، وما ينشأ من الخلاف عن الأصل الأول يرجع إلى الفقه والحكم، وهو أن المُسْبق هل يستحق مال صاحبه؟ أم يختص بالاستحقاق المحلِّلُ؟
11660 - ثم تتفرع الصور، وتتركب الوجوه المختلفة من هذين الأصلين، والغرض يبين بثمان صور: فإذا تسابق مُسْبقان ومحلِّل، نظر: فإن أتَوْا الغاية معاً على التساوق: من غير سَبْق، فلا استحقاق، وقد أحرز كل مُسْبق [ما أخرجه] (7). هذه صورة.
__________
(1) في النسخ الثلاث: " مستبقان " وقد تكرر هذا الخطأ في بعض المواضع، وسنقوم بتصويبه حيثما وقع بدون أن نشير إلى ذلك في الحاشية.
(2) هـ 4: " صورة ".
(3) هـ 4: " بأصل آخر ".
(4) صلّى: أي جاء ثانياً، وهو المصلّي، كما شرحنا سابقاً.
(5) زيادة اقتضاها السياق، وصرح بها الغزالي في البسيط.
(6) ولا يستحق: أي لا يستحق السبَق؛ لأنهما شرطا أن السبَق للمحلل.
(7) في الأصل: " ما أحرزه ".

(18/238)


والثانية - أن يسبق المحلِّل، ثم يأتي المسبقان وراءه متساوقين، فالمحلل يأخذ السبَقين.
والثالثة - أن يأتي المسبقان معاً، ثم يأتي المحلل، فلا استحقاق؛ وقد أحرز كل واحد [ما أخرجه] (1).
الرابعة - أن يسبق أحد المُسبقين، وتلاه الثاني، وجاء المحلل فِسْكِلاً، فيحرز السابق ما أخرجه، ويخيب المحلل، وهل يستحق السابق ما أخرجه صاحبه؟ فعلى قولين ذكرناهما في الأصل الأول.
الخامسة - إذا سبق المحلل، وتلاه أحد المستبقين، وجاء الثاني فِسكِلاً، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أنَّ المحلل يستحق السبَقَيْن؛ فإنه سبقهما جميعاً، وهذا هو الأظهر. والثاني - أن المحلل يستحق سبَق المصلّي، والمصلّي يستحق سَبَق الفِسكِل؛ فإنه سابقه، وهذا ضعيفٌ لا أصل له، فإنه وإن كان سابقاً للفِسكِل، فالمحلل أيضاً سابقٌ له، فلا معنى لتخصيص سَبق الفسكل بالمصلي. والوجه الثالث - وهو أمثل من الثاني - أن سَبق الفِسكِل بين المحلل والمصلي، وهذا رديء أيضاً؛ فإن فيه تسوية بين السابق والمصلي أخذاً من مطلق اللفظ، وهذا لو صُرح به، كان بعيداً، فما الظن بالتلقي من مطلق اللفظ؟
فخرج من ذلك أن المحلل يستحق سبَق المصلي بلا خلاف، وفي سبَق الفِسكل أوجه: أصحها - أنه للمحلل، ويلي ذلك أنه بين المحلل والمستبق الذي جاء مصليّاً.
والثالث - أنه للمصلي، وهذا ساقط لا اتجاه له.
والسادسة - إذا جاء المحلل مع أحدهما متساوقين والآخر فِسكِلٌ. فإن قلنا: المحلل يحلّل المال لنفسه، فالسبَق له، وإن قلنا: إنه يحلّل لنفسه وللمستبق فسبَقُ الفِسكِل بينهما؛ فإنهما سابقان.
السَّابعة - إذا سبق أحدهما، ثم جاء المحلّل مع الآخر معاً، فلا يستحق المحلّل شيئاً، وهل يستحق المستبق السابق سَبق صاحبه؟ فعلى قولين.
__________
(1) في الأصل: " ما أحرزه ".

(18/239)


الثامنة - إذا سبق أحدهما، وصلى المحلل، وجاء الآخر فِسكِلاً، فقد أحرز (1) السابق ما أخرج. وفي سبَق من جاء فسكلاً أوجه: أحدها - أنه للسابق، وهو على قولنا أن المُسبق يستحق السبَق، وعلى حملنا للسْبق على حقيقته. والوجه الثاني - أنه لا استحقاق [وهذا] (2) يَخرجُ حسناً على قولنا: لايستحق المُسْبق السبَق، والمحلِّل مسبوق، وليس بسابق، فينقطع الاستحقاق عنهما (3). والثالث - أن سبَق الفِسكِل بين السابق وبين المحلل فإنّ كُل واحد منهما سابق للفسكل، وهذا يخرج على تحليل السبَق للمسْبق وعلى أن المصلّي له حكم السبْق بالإضافة إلى الفِسكِل، وهذا الطريق ضعيف.
وفي المسألة وجه رابع، وهو أن سَبَقَ الفِسكِل للمحلِّل، وهذا ضعيف؛ فإنا نثبت له حكم السبق وهو مسبوق، وله خروج إذا ضُمَّ إليه أن المُسْبِق لا يستحق شيئاً، فكأنه لا أثر لسبقه في الاستحقاق، فإنما أثره في الإحراز. وهذا بيان الصور ويتهذب [به] (4) ما قدمناه من الأصول، ونحن بعد ذلك نعقده فصلاً في جواز المعاملة ولزومها.
فصل
11661 - ظهر اختلاف القول في أن المعاملة التي الكتاب معقود لها جائزة أم لازمة؟ أحد القولين - أنها جائزة كالجعالة، والثاني أنها لازمة كالإجارة، ثم اختلف طرق الأئمة في تنزيل القولين، وبيان محلهما، فقال الإمام شيخي وطبقة من الأئمة لو كان المُسْبِق (5) أحدَهما، فالعقد لا يلزم في جانب من لم يضع سبَقاً أصلاً قولاً واحداً، ومهما (6) أراد أن ينكف، فلا معترض عليه؛ فإنه المستحِق ولا يُستحق عليه، وهذا
__________
(1) هـ 4: " فقد أخرج ".
(2) في الأصل: " هنا ".
(3) فيبقى للمتسابق الثاني الذي جاء فسكِلاً ما أخرجه.
(4) زيادة من (هـ 4).
(5) المُسْبِق: الذي يعطي السبق.
(6) مهما: بمعنى إذا.

(18/240)


كما أنَّ العقد يكون جائزاً من جانب المرتهن والمكاتب، فإنما القولان في حق من وضع السبَق لو أراد الامتناع بعد العقد، ورام الفسخَ، فهل له ذلك؟ فعلى ما ذكرناه من القولين. هذا مسلك.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في لزوم المعاملة في حق من أخرج السبَق وفي حق من لم يخرجه؛ فإن الذي وضع السبَق، رام أن يستفيد من عمل صاحبه في الرّمي والفروسية، فكأنه في مقام مستأجر يبذل الأجر، والذي يُطلب عملُه في مرتبة الأجير، فإن سلكنا الطريقة الأولى، فالمحلل بين مُسْبقين لا يلزمه الوفاء، وإن عممنا القولين فيمن يخرج السبَق وفيمن لا يخرجه، فقد أجرينا قولي اللزوم والجواز في المحلل؛ فإن من لم يخرج السبَق، فهو على صورة المحلِّل.
هذا بيان القولين.
وتنزيلهما، وتوجيههما: [هو أن] (1) من حكم بالجواز، اعتبر بالجعالة؛ فإنَّ المقصود من هذه المعاملة لا ينضبط؛ إذ لو كانت في المناضلة والمشروط القرعات (2)، فلا ضبط، فقد تتوالى من الأخرق، وقد يعرى عنها أرشاقٌ (3) من الحاذق، والجواز لائق بالعقد الذي مقصوده مجهول.
ومن نصر قول اللزوم، احتج بأن هذه معاملة مقصودة، ومبناها على اشتراط الضبط في المبدأ والمنتهى، والأرشاق وكيفية الفوز بالمبادرة أو المحاطة (4)، فيبقى وراء ذلك اتفاق القرعات، وهذا القدر محتمل؛ فإن الجهالة اللائقة بمقصود العقد لا تلحق العقد مما يشتمل على المجاهيل، ولذلك قضينا بلزوم المساقاة وإن كان الجزء المشروط من الثمار للعامل المساقي مجهولاً.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) القرعات: من قرع السهم القرطاس قرعاً، من باب نفع- إذا أصابه (المصباح). والمعنى أن المشروط للفوز بالسبَق عدد القرعات أي النجاح في الإصابة بالسهم. وسيأتي مزيد تفصيل من الإمام لمعاني هذه الألفاظ في فصل الرمي.
(3) أرشاق: أي رميات من قولك: أرشقته بالسهم. ورشقته به (المصباح). وسيزيدها الإمام إيضاحاً وتصويراً في فصل الرمي.
(4) المحاطة والمبادرة، اقرأ شرح الإمام لها في فصل الرمي الآتي قريباً.

(18/241)


التفريع بعد التنزيل والتوجيه:
11662 - فنذكر ضمان السبَق إن كان مالاً موصوفاً في الذمة، ونذكر الرّهن به، فالذي ذهب إليه الجماهير أنا إن حكمنا بلزوم المعاملة، صححنا الضمانَ والرهنَ إذا كان المشروط ملتزماً في الذمة، وإن حكمنا بجواز المعاملة، فالسبَق فيها بمثابة الجعل في [الجعالة] (1) وفي جواز ضمان الجُعل في الجعالة قبل تمام العمل قولان مشهوران في الترتيب الجديد، فإن قلنا: لا يصح الضمان، فلا يصح الرهن، وإن قلنا: يصح الضمان، ففي صحة الرهن بالسبَق وجهان، والرهن أبعد قليلاً عن الثبوت، ولذلك صححنا ضمان العهدة (2) على النص، ولم نصحح الرهن بها على مذهب الجمهور.
فينتظم في الضمان والرهن ثلاثة أوجه: أحدها - أن الرهن لا يثبت والضمان يثبت، والوجه عندنا التسوية بين الرهن والضمان في هذه المسألة، بخلاف ضمان العهدة، فإن ضمان العهدة أُثبت لمصلحة بيّنة لا تنفك عنها حاجة مشترٍ، ثم لا ضرار على الضامن؛ فإنه لا يتوجه عليه المطالبة قبل بَدْو (3) الاستحقاق، ولو جوزنا الرهن، لاحتبس المرهون عن التصرفات، وكان ذلك حَجْراً مستداماً على المالك، فلا سبيل إلى احتمال هذا، ولا يتضح على هذا الوجه فرق بين الرهن والضمان في السبَق، وليس من شيم الفقهاء أن يعتقدوا الفرق بين أصلين لافتراقهما في مسألة، بل الوجه اتباع المعاني.
وذكر القفال طريقة فقهية مرضية في الضمان نستاقها على وجهها، ثم نذكر بحثاً يتم البيان به، قال رضي الله عنه: نحن وإن حكمنا بلزوم المسابقة، فإذا كان المُسبِقُ أحدَ الرجلين، فلا يجب عليه تسليم المال إلى صاحبه قبل ظهور فوزه به، لم يختلف أصحابنا في ذلك، وليس كالأجرة المسماة في الإجارة المطلقة، فإنه يجب تسليمها
__________
(1) في الأصل: " الجهالة ".
(2) العهدة: تطلق على وثيقة البيع، لأنه يرجع إليها عند الالتباس، وضمان العهدة يراد به ضمان التزام كل من المتبايعين بما يلزمه به عقد البيع.
(3) الضبط بفتح وسكون من (هـ 4)، وهو صحيح.

(18/242)


إلى المكري إذا سلم المكري الدار، وإن كانت المنافع توجد شيئاً فشيئاً، ولا يجب تسليم السبَق إلى الذي وضع له السبَق إن فاز وسبق، حتى يبين فوزه، وهذا يشعر بأن السبَق لا يُستحق إلا بالشرط الذي نيط الاستحقاق به، فإذا لم يكن السبَق واجباً، ففي ضمانه قولان مبنيان على أن ما لم يجب وثبت سبب وجوبه هل يصح ضمانه؟ والذي نحن فيه أبعد من ضمان نفقة الغد، فإن الأمر محمول على استمرار النكاح واطراد الطاعة (1)، وهذا لا يتحقق في المسابقة؛ فإنَّ سَبْق من شُرط له السبَق ليس أمراً معلوماً ولا مظنوناً، ولكنه غيب.
هكذا قال رضي الله عنه. وهو حسن بالغ.
[وإنما انْقطعت] (2) هذه المعاملة عن مشابهة الإجارة؛ لأن مبناها على الخطر الذي يضاهي القمار لولا المحلل، ومعنى الخطر يؤول إلى تحقيق التعليق، فالاستحقاق معلق بما شرط.
11663 - ويتصل بهذا البحثُ الموعودُ، فنقول: لا يبعد عندنا أن يكون استحقاق السبَق موقوفاً مراعىً، فإذا سَبَق [من] (3) شُرط له السبَق، تبيّنا أنه استحق ذلك بالعقد، [وهذا هو الذي] (4) يليق بلزوم المعاملة، ثم إذا تبيّنا الأمرَ على الوقف، فيمكن أن يقال: ضمان السبَق كضمان العهدة، ولكن هذه عهدة تنجز (5) الرهن؛ فإنها ستبدو على القُرب، وليست كعهدة المبيع، ثم إذا ردّدنا القولَ في جواز الضمان على قول اللزوم، فلو قال قائل: إذا لم يكن السبَقُ مستحقاً، فيجب ألا يكون العمل مستحقاً، وإذا انتفى تنجّزُ الاستحقاق، التحق هذا بالجواز، وهذا السؤال هو الذي حملنا على تقريب الأمر بالحمل على الوقف، وهذا لا يشفي الغليل، والوجه أن
__________
(1) المراد طاعة الزوجة التي تستحق بها النفقة. وفي هامش (هـ 4): نسخة أخرى: اطراد العادة.
(2) في الأصل: " وإن من قطعت ". وهذا من عجائب التصحيف، وسببه هنا الاستماع؛ فإن الناسخ كان يكتب ما يسمعه من المملي عليه؛ فالأداء الصوتي واحد للصواب والخطأ.
(3) زيادة من (هـ 4).
(4) في الأصل: " وهذا والذي ".
(5) هـ 4: " تقبل ".

(18/243)


نقول: إن لزم الشيء، فلزومه على حسب ما يليق بوضعه، ووضعه الخطر، فاللزوم فيه يرجع إلى الوعد، ووجوب الوفاء به.
وقد نجز تفريع الضمان على اللزوم والجواز.
11664 - ومما يبنى على القولين القبولُ: فإن ألزمنا المعاملة، فلا بد من القبول؛ إذ لا سبيل إلى إلزام الإنسان عملاً [بقولٍ] (1) يصدر من غيره.
وإن قلنا: العقد جائز، فالمذهب أنه لا حاجة إلى قبول الغير (2) العمل، وفيه وجه ضعيف أنه لا بُد من القبول، وقد أجرى أصحابنا هذين الوجهين في الجعالة المعلّقة بمعيّن، وهي أن يقول لمعين: إن رددت عبدي الآبق، فلك كذا، فلا خلاف أن الجعالة المبهمة لا يُتخيلُ فيها [قبول] (3)، وهي أن يقول (4): مَنْ ردَّ.
والسبَقُ يجب أن يكون معلوماً، سواء حكمنا بلزوم المعاملة، أو بجوازها، فإنا إن ألزمناها، فالسبق مشبه بالأجرة، [وإن] (5) حكمنا بجوازها، فالسبَق مشبه بالجُعل في الجعالة.
وقد انتهى الغرض من هذا الفصل.
ونحن نرى أن نعقد فصلاً في حكم هذه المعاملة إذا فسدت.
فصل
11665 - إذا فسدت المعاملة فكيف سبيلها؟ الوجه أن نفرض فسادها من فساد السبَق، ثم نُلحق به وجوهَ الفساد، فنقول: إذا فسد السبَق لكونه مغصوباً، أو مجهولاً، أو خمراً، واستتم المشروط له العملَ، وأتى بما هو سبب الفوز [لو] (6)
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) هـ 4: " المعين ".
(3) سقطت من الأصل.
(4) عبارة الأصل: " وهي أن يقول: إذا قال: من ردّ " وعارة (هـ 2): لا إذا قال: من ردّ ".
(5): " فإن ".
(6) في الأصل: " أو ".

(18/244)


صح السبَق، فأول ما نبدأ به اختلاف الأصحاب في أن الفائز بفعله هل يستحق شيئاً؟ فمن أصحابنا من قال: لا يستحق شيئاً أصلاً، ووجهه بيّن؛ فإنّ مقتضى العقد التعليق والغرر، فلينحصر الاستحقاق على السَّبَق إن أمكن استحقاقه، وإن لم يمكن، فلا شيء له، وهذا يتأكد بأن العامل يستحق بعمله، والعمل في المسابقة يرجع معظم نفعه إلى السابق؛ فإنه يتمرّن بعمله، كما يستفيد مَن يجاريه من مجاراته، فرجع الاستحقاق إلى الشرط والمشروط، وخرج المستحَق عن قياس الأبدال حتى يرجعَ عند فسادها إلى عوض شرعي. هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أن العوض -وإن فسد- إذا تمم المشروطُ له العملَ الذي به يستحق، فيثبت له العوض؛ فإنَّ عمله إذا تم، يلتحق بالأعمال المقابَلة بالأبدال، والدليل عليه أن القراض إذا فسد، استحق المقارض أجر مثله، وإن كانت المعاملة على الغرر في إصابة ربح إن اتفق. وللأول أن يجيب عن القراض، ويقول: رجوع النفع من عمل المقارض ظاهر بخلاف المسابقة.
التفريع:
11666 - إن حكمنا بأنَّ الفساد يوجب الرجوع إلى بدل، فينظر في السبَق: فإن كان غير قابل للتقويم، فالرجوع إلى أجر مثل السابق، ثم لا يعتبر المقدار الذي يسبق به، بل يعتبر ركضُه أو رميُه؛ فإنه بمجموع عمله، توصّل إلى السّبْق والفوز.
وإن كان السبَق مما يقبل التقويم، [بأن كان] (1) مغصوباً، فقد اختلف أصحابنا على طريقين: فمنهم من قطع بالرجوع إلى أجر المثل قياساً على الإجارة إذا فسدت بفساد العوض وتوفرت المنفعة، وهذا القائل يفصل بين ما نحن فيه وبين الصداق وبدل الخلع؛ فإن مبنى النكاح والخلع على ألا يفسدا بفساد العوض، وإذا لم يفسدا، بَعُد الرجوعُ إلى قيمة ما لم يفسد. ورأى (2) الشافعي في قولٍ الرجوع إلى قيمة الصداق أولى. والمسابقة تفسد بفساد العوض، فيتعين الرجوع إلى أجر المثل؛ فإن
__________
(1) في الأصل: فإن. والمثبت من (هـ 4)، ولعل الأولى: (وكان). كذا تصرفنا في العبارة ثم جاءتنا نسخة (ق) وقد أسقطت هذا الخلل، حيث جاءت عبارتها هكذا: " وإن كان السبَق مما يقبل التقويم، فقد اختلف أصحابنا ... ".
(2) هـ 4: " وكان ".

(18/245)


المنفعة مستوفاة على الفساد، وهذا فقه لا بأس به.
وقال آخرون: إذا أمكن تقويم البدل، خرّجنا المسألة على قولين: أحدهما - أن الرجوع إلى أجر المثل. والثاني - أن الرجوع إلى قيمة السبَق، والقولان كالقولين في بدل النكاح والخلع، ووجه ذلك أنَّ الصداق ليس على حقائق الأبدال؛ لما لا يخفى في موضوع الصداق، كذلك السبَق ليس على حقائق الأعواض، ولهذا تخيل بعض الأصحاب أنه لا مرجع إلى شيء بعد فساد الشرط، فكان الرجوع إلى قيمة المسمى متجهاً؛ من حيث إن منفعة السابق لم تتلف عليه، ولم يظهر انتفاع الغير بها، وكان حَصْرُ النظر في البدل أفقه وألْيق بوضع هذه المعاملة.
فهذا تفصيل القول في فساد المعاملة وحكمها إذا تم العمل فيها.
11667 - ولو فسدت المعاملة لا من جهة العوض، ولكن من جهالة في الأمد، أو غيرها مما سنصف، فإذا فرض السبْق على الجهالة من أحدهما، فيعود الترتيب الذي ذكرناه حرفاً حرفاً من غير تباين، وليس هذا كفساد الصداق بما يرجع إلى العقد؛ فإنا قد نقطع ثَمَّ بالرجوع إلى مهر المثل، وذاك الفقه أبديناه في موضعه، ولا ينقدح مثله فيما نحن فيه؛ فإن الذي يحملنا على اعتبار البدل تعذرٌ أبديناه في اعتبار المنفعة، وهذا لا يختلف، وتستوي الصور فيه.
فصل
يشتمل على ما يجب الإعلام فيه في المسابقة
11668 - فنقول: لا بُد من إعلام المدى، ولو وقع التعاقد على أن يتساوقا إلى أن يتفق سَبْقُ أحدهما، فالمعاملة فاسدة؛ فإنهما قد يتساوقان الفرسخ والفرسخين حتى ينقطعا، ولا يسبق أحدهما، فلم تصح المعاملة من غير ضبط في المنتهى.
وأما المبتدأ، فحيث يتفق الوقوف فيه والوجوه في تلقاء الغاية المُعْلَمة، ويشترط استواؤهما في الموقف، فلو وقع التشارط على أن يتقدم أحدهما بمقدارٍ، فالشرط فاسد وفاقاً.

(18/246)


فإن قيل: قد يتفاوت الفرسان في الفراهة ونقيضِها فإذا وقع التراضي على التعديل بتقدم الفرس الذي هو دون الجواد الفاره، فما المانع من ذلك؟ قلنا: هذا لا يدخل تحت الضبط، وليس من الممكن أن يستبان تفاوت الفرسين بخطوات، فالوجه طلب الضبط بالتساوي في العَيان (1).
11669 - ثم لو كان أحد الفرسين بحيث يغلب (2) على الظن سبقُه، فلا يجوز إيراد المسابقة مع هذا التفاوت، وقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك في المحلِّل، فقال: " من أدخل فرساً كفئاً بين فرسين لا يؤمن أن يسبق، فهو حلال " (3) وإذا تبين أن المحلِّل لو كان بحيث يغلب استئخاره لرداءة فرسه، فليس محلِّلاً، وإن كان يظن أن يسبق؛ إذ لا يبعد سبقُه، فهو المحلِّل، وإن كان المحلل بحيث يَغْلِب لا محالة، بأن كان على جواد من العِتاق والمُسْبِق على بِرْذَوْن لا يُدرك [شأْوَ المحلِّل] (4)؛ فلا تصح المعاملة؛ فإن هذا العقد مبناه على الخطر، ومن ضرورة الخطر التردد.
قال الشافعي في بعض مجاري كلامه: " التعامل والحالة هذه من باب بذل المال بالباطل " والمراد بذلك أن الغرض المطلوب المخاطرةُ، وشرطها التردد والاحتمال،
__________
(1) هـ 4: " العنان ".
(2) هـ 4: " بحيث لو غلب على الظن ".
(3) حديث: " من أدخل فرساً بين فرسين ... " رواه من حديث أبي هريرة مرفوعاً أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، وقال في البدر المنير: " وأقر البيهقي في خلافياته مقالة الحاكم ". ورواه الدارقطني، والبيهقي في الكبرى، وابن حزم في المحلى محتجاً به.
ورجح ابن الملقن في البدر المنير وقفه على سعيد بن المسيب، نقل هذا عن ابن أبي حاتم، وابن معين، وابن عبد البر. والحديث ضعفه الألباني مرفوعاً وصحح وقفه.
(ر. المسند: 2/ 505، أبو داود: الجهاد، باب في المحلل، ح 2579، 2580، ابن ماجه: الجهاد، باب السبق والرهان ح 2876، الحاكم: 2/ 114، البيهقي: 10/ 20، المحلى لابن حزم: 7/ 354 التمهيد لابن عبد البر: 14/ 87، البدر المنير: 9/ 429، التلخيص: 4/ 300 ح 2485، إرواء الغليل: 5/ 340 ح 1559).
(4) في الأصل: " شيئاً والمحلل ".

(18/247)


والذي يحقق ذلك أن من يُسْبَق لا محالة ليس بمسابق، وإنما هو في حكم الراكض بنفسه.
وفي المسألة وجه آخر أن المحلِّل إذا كان بحيث يَسبق، صح. وسيأتي ذلك مشروحاً، إن شاء الله.
11670 - ولو أعلمنا المنتهَى الذي لا حكم للسبْق وراءه، ولكن وقع التشارط على أن السبْق إن اتفق في خلال الميدان، كفى، وكان فوزاً، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - أنه يجوز؛ فإن المعنى المحذور في ترك إعلام الغاية، وهو إمكان التساوق إلى أمد بعيد زائلٌ هاهنا؛ فإن الميدان مضبوط، ومنتهاه معلوم.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز هذا؛ فإن الفرس النَّزِق قد يظفر في أول الميدان، ثم يقف أو تنكسر حِمِرَّته (1)، والجواد يتمطى (2) ويضبِر (3) في أواخر الميدان، فالاكتفاء بالسَّبْق قبل الغاية يوجب تقديم برذون نَزِقٍ على جواب.
ومما ذكره الأصحاب أن المُتَسابِقِين لو شرطوا غاية وعينوها، ثم قالوا إن اتفق السبق عندها، فذاك، وإلا تعديناها إلى غاية أخرى، عيّنوها، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما - الصحة لتحقق الإعلام. والثاني - الفساد؛ لتردد المعقود عليه وتميُّله (4)، ولعل الأصح الصحة؛ لأن ما وصفناه ليس مناقضاً لمقصود العقد، وحق الفقيه أن يفهم مقصودَ العقد، وُينْزل عليه ما يطرأ من شرط، فقد تبين وجوب إعلام السبَق، ووجوب إعلام الغاية.
وقد تجري مسائل في أثناء الكتاب تلتحق بمضمون هذا الفصل، وفيما ذكرناه مَقْنع في تمهيد القاعدة. وهذا هو الذي نبغيه بعدُ.
__________
(1) حِمِرَّته: أي شدته وقوته (المعجم).
(2) يتمطى: يتبختر في مشيته. (المعجم).
(3) يضبر: يقال ضبر الفرس يضبِر (من باب ضرب) إذا جمع قوائمه للوثب والعدو.
(المصباح). وهذا التفسير مقحم في صلب (هـ 4).
(4) كذا. والضبط من (هـ 4).

(18/248)


11671 - ثم ذكر الأصحاب ما يقع السبق به، ونحن ننقل ما ذكروه على وجهه، ثم ننظر: وقد ظهر تردد الأصحاب في أن السبق يعتبر بتقدم الرأس والعنق والهادي (1)، أو يعتبر بمواقع الأقدام والكتف، وهذا التردد مشهور، وقد نسبه بعض الأئمة إلى النصوص، وجعل في المسألة قولين.
وذكر العراقيون في ذلك تفصيلاً وقالوا إن كان عنق أحد الفرسين أطول، فسبق بذلك القدر من الطول، من غير زيادة، فلا يكون سابقاً، وإن استويا في الطول، فهو موضع الخلاف، ونقل العراقيون أيضاً عن الشافعي أنه قال: الاعتبار في الخيل بالعنق والهادي، والاعتبار في الإبل بالكَتَد (2) والخف، ثم قال: ذلك لأن الإبل تَمُدُّ أعناقها إذا عَدَت، والخيلُ ترفع رؤوسها في وقت العدو، وهذا الذي ذكروه من التعرض لطول الرقبة فيه إشكال؛ من جهة أن المتسابقين [لا يتعرّضان] (3) لتساوي العنقين وتقديرهما، مع العلم بأنَّ تفاوت الأعناق من الأمور الشائعة الظاهرة، فترك التعرض لهذا دليل على أنه لا اعتبار به، وأيضاً؛ فإن الفرسين إذا استويا في طول الرقبة وقصرها، وكانا يمدّان عنقيهما في العدو، فالسابق بالهادي يكون سابقاً بمواقع السنابك لا محالة، فلا يبقى للتردد بين العنق وموقع القدم وجه، والتردد في اعتبار ما به السبق معروف.
وقد كثرت إشارات الشافعي إلى اعتبار الهادي، ومما يشهد لذلك أنَّ أصحاب التسابق (4) ربما يمدّون خيطاً في المنتهى المعلوم، والغاية المشروطة، ويبين السبْق بخرق الخيط، ومعلوم أن رأس الفرس ينتهي إلى الخيط الممدود فيخرقه. هذا بيان ما ذكره الأصحاب.
__________
(1) الهادي: العنق. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: كتاب السبق والرمي) فالعطف هنا عطف بيان.
(2) الكَتَد: مجتمع الكتفين، وبعضهم يقول: ما بين الكاهل إلى الظهر. (المصباح، والمعجم).
(3) في الأصل: " يتعارضان ".
(4) هـ 4: " السابق ".

(18/249)


والوجه في ذلك أن التردد إنما يظهر من حيث إن من الخيل ما يعتاد مدّ العنق في العدو، والتمطي، وذلك مما يستحسن ويستحب، وقد يكون له أثر في استعمال الأسلحة، ومن الخيل ما يكون شائلاً رأسَه صُعداً، وهذا غير محبوبٍ في العدو، وإنما يؤثر ويستحَب في السير الهملجة (1)، وقد يصدم وجهَ الفارس إذا كان يستعمل سلاحاً في عدوه.
فمن اعتبر السبق بالهادي، فمأخذه ما ذكرناه، والأقيس اعتبار السبق بالقدم؛ فإنه السبق حقّاً، والهادي لا يحصل السبق به؛ إذ العدو بالقدم. وما ذكره العراقيون من اعتبار الأعناق في أقدارها متجه إذا كان الفرسان يمدّان أعناقهما، فيتعيَّنُ والحالة هذه اعتبار التساوي في الطول والقِصر، وما ذكرناه من أن أصحاب التسابق ما اعتبروا ذلك، فهو على وجهٍ، ولكن سببه أنَّهم كانوا يعتبرون القدم، فلم يلتفتوا إلى طول العنق وقصره.
11672 - فانتظم مما ذكرناه أن الفرسين إن تفاوتا في مد العنق، اتسق خلافٌ في اعتبار العنق والقدم، ولا نظر إلى أقدار الأعناق.
وإن كانا يمدان الأعناق، وقلنا: الاعتبار بالأقدام، فلا نظر إلى الأعناق، وإن قلنا: الاعتبار بالأعناق، فيتجه اعتبار التساوي في العنقين.
وأما ما حكاه العراقيون من أن الاعتبار في الإبل بمواقع الخفاف، فلم يتعرض لهذا المراوزة، والذي بلغنا ما نقلناه، وما نقله العراقيون فالثقة حاصلة بمنقولهم، وهذا قليل النَّزَل (2) والفائدة.
وكان شيخي يقطع بأن الاعتبار في التساوي في ابتداء الميدان بالأقدام لا غير، وإنما التردد في آخر الميدان، وهذا حسنٌ متجه لا يجوز غيره، فإنَّا إذا اعتبرنا السبق
__________
(1) الهملجة: المشي في سهولة وسرعة (المصباح).
(2) قليل النَّزَل: يقال: رجل ذو نَزَل (بفتح الزاي): كثير الفضل والعطاء. ويقال: أرض نَزْلة (بالسكون) زاكية الزرع (ر. القاموس والمعجم) فلعل المعنى هنا من أحدهما: أي أن هذا الخلاف لا طائل وراءه. هذا وقد تكرر هذا اللفظ في كلام الإمام من قبل.

(18/250)


بالعنق من جهة استحباب مد الفرس عنقه، فهذا لا يتحقق في ابتداء الموقف؛ فيتعيّن اعتبار الأقدام؛ إذ بها السبق في الحقيقة، ولو اعتُبر الهادي، لجرّ ذلك تفاوتاً في السبْق مهما اختلفت الأقدام.
هذا تمام المراد في قواعد المسابقة، وستأتي مسائل ممتزجة بالمناضلة، ونحن نتبع ترتيب كلام الأصحاب فيها.
فصل
في قاعدة المناضلة
11673 - نقول: إخراج المال فيها كإخراج المال على المسابقة، ويجري في إخراج المال الصور الثلاث: فقد يُخرج الإمام المالَ، ويتناضل المتناضلون، ولمن فاز المالُ، وقد يخرجه أحدٌ من عُرض الناس، وهو ملتحق بالقسم الأول، وقد يخرج المالَ أحدُ المتناضلين، وقد يخرج كلُّ واحد منهما. وإذا كان كذلك، فلا بُد من محلِّل، على الترتيب الذي ذكرناه في المسابقة.
ثم في المناضلة ألفاظٌ يستعملها الرُّماة، ويتداولها الفقهاء، ونحن نذكرها ونبيّن معانيها، ثم نخوض: فمما أطلقوه الرّشق، وهو نوبةٌ من الرمي، تجري بين الرَّاميين أو الرُّماة سهماً [سهماً] (1)، أو على ما يتشارطان، هذا هو الرشق.
والهدفُ في بلاد العرب مثل الترس، يُنصب ويعلّق من وسطه شَنٌّ صغير، والتراب (2) للعجم في محل الهدف للعرب، والشَّنُّ للعرب في محل القرطاس للعجم، ثم ينصبون الغرض على جريدة [وهي الغصن من النخل] (3) والإصابة تسمى القَرْعة.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) التراب: المراد التراب الذي يُجمع لينصب فيه الغرض، كذا قال الرافعي. (الشرح الكبير: 12/ 200).
(3) زيادة من (هـ 4).

(18/251)


ومن الأسماء المستعملة الخارق، والخاسق، والخازق، ومعانيها قريبة، لا تكاد تختلف (1). والزاهق هو الذي يعلو أو يمرُّ وراء الهدف، والمارق هو الذي ينفذ في الهدف، ولا يخفى القريب (2).
11674 - ثم للنضال سبيلان مسوّغان: أحدهما - المبادرة. والثاني - المحاطّة، أمَّا المبادرة، فمعناها أن يتشارطا قرعات معلومة، على أنَّ من يتبدر إلى الفوز بها، فهو فائز، وذلك -لا محالة- إذا ساواه صاحبه في أعداد الأرشاق، فلو رمى كل واحد خمسين، وحصل لواحد عشر قرعات، وللثاني تسع قرعات، فالفوز لصاحب العشر، هذا معنى المبادرة على الجملة.
وأما المحاطة، فمعناها أن من أصاب قرعة حطها من قرعات صاحبه، وإنما يقع الفوز إذا خلصت القرعات لواحد، وهذا قد يطول ويعسر، ولكن المعاملة مع اشتراطها جائزة وفاقاً.
ثم أول ما نذكره بعد تصوير المبادرة والمحاطّة تردُّدُ الأصحاب في أن إعلام الأرشاق هل يشترط؟ وحاصل ما ذكروه ثلاثة أوجه: أحدها - أن إعلام الأرشاق يشترط في المبادرة والمحاطة جميعاً؛ فإن الترامي قد يطول؛ فلا بُد من ضبط مبلغٍ، والأرشاق في المناضلة بمثابة الميدان في السبق.
والوجه الثاني - أنا لا نشترط إعلام الأرشاق، ويكفي إعلام القرعات، فإن الرَّمي لا يجري على نسق واحد، فقد تتوالى القرعات، وقد تندر، فليقع التعويل عليها، لا على الأرشاق، وليس كذلك السبق على الخيل، فإنه لا يختلف اختلاف الرَّمي.
والوجه الثالث - أنا نفصل بين المبادرة والمحاطة، فنشترط إعلام الأرشاق في المحاطَّة، حتى ينفصل الأمر؛ فإن اتفق فوزٌ فيها، فذاك، وإلاَّ حكم بأنَّ العقد قد انتهى نهايته. ولا استحقاق، وكلٌّ يُحرز ما أخرجه، كما إذا تساوق الفرسان إلى
__________
(1) هـ 4: "تخفى".
(2) القريب: وهو ما يقع قريباً من الهدف.

(18/252)


الغاية المذكورة، وأما المبادرة، فلا نشترط إعلام الأرشاق فيها، فإن نَيْل القرعات على حكم المبادرة ليس عسيراً على الرّماة.
11675 - ومما يتصل بما ذكرناه أنهما لو كانا يتناضلان والمشروط عشر قرعات، وقد توافقا على مائة رشق، ونحن وإن لم نشرط إعلام الأرشاق، جوزنا إعلامها، فلو رمى كلُّ واحد خمسين، وبادر أحدهما فأصاب القرعات العشر، فقد أصاب وفاز، وهل يلزمه أن يستتم المائة أم لا؟ فيه وجهان، وليس الغرض من هذا التردُّدَ في استرداد المال من المبادر، فذاك حكمٌ لا ينقض، ولكن أثر الاختلاف أن من أصحابنا من لم يُلزمه الاستكمالَ؛ من جهة أنه استتم العمل الذي به الاستحقاق، فلا معنى لإلزامه عملاً بعد ذلك، ومنتهى العمل في هذا الكتاب ما يتعلق الاستحقاق به.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه استتمام الأرشاق؛ فإنَّ صاحبه إنما بذل المال لينتفع بالمناضلة، ويستفيد من رمي صاحبه، وإذا فاز صاحبه بالقرعات، قال له من استحق المال عليه: قد فزتَ بالمال، فوفّر العمل (1)، وهذا التردد قريب المأخذ مما ذكرناه في أنا عند فساد المعاملة هل نرجع إلى أجر المثل، ووجه التلاقي أنا نقول في وجه: لا أجرة؛ فإنَّ كُلاً يعمل لنفسه، وإنما استحقاق المال بالشرط على حكم المخاطرة، فعلى هذا لا نكلفه إتمامَ الأرشاق بعد استحقاق المال، وإن أثبتنا أجرة المثل عند فساد المعاملة، فقد اعتبرنا العمل، وقدرناه كالمنافع المستحقة، فعلى هذا لا يبعد أن نكلفه استكمال العمل بعد الفوز بالمال هذا في المبادرة.
فأما في المحاطة إذا وقع التشارط على أن يخلص للفائز عشر قرعات، وتوافقا على مائة رشْق، فإذا أصاب أحدهما عشر قرعات خالصة من خمسين، فهل يستحق السبَق؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه يستحقه كما في المبادرة؛ فإنهما استويا في الأرشاق، وتحقق خلوص العشر لأحدهما، والخلوص في المحاطة كحصول القرعات العشر في المبادرة.
__________
(1) وفّر العملَ: أي أكمله وأتمه.

(18/253)


ومن أصحابنا من قال: لا يستحق المال حتى يستتم الرّمي؛ فإن صاحبه يقول: قد [أُصيبُ] (1) في الأرشاق الباقية ما أحطه عن العشر التي خلصت لك، وهذا لا يمكن تصويره في المبادرة؛ فإن الشرط وقع فيها على الاستحقاق بالمبادرة، فمن ابتدر وفاز، فما يقع بعد ابتداره لا يناقض ابتداره السابق.
التفريع:
11676 - إن قلنا: لا يستحق المال ما لم تكمل الأرشاق، فلا كلام، وإن قلنا: يستحق المال، حتى لو فرض استكمال الأرشاق، فلا حطَّ بعد الخلوص، فيتصل تفريع المحاطة من هذا المنتهى بتفريع المبادرة، فقد وقع القضاء باستحقاقه على وجهٍ لا يُنقض، ولكن هل لصاحبه أن يكلفه إتمام العمل، واستكمال الأرشاق؟ فعلى الوجهين المذكورين في المبادرة.
ومما يجب الاعتناء به أن أحدهما في المبادرة لو رمى خمسين، وأصاب العشرة المشروطة، وصاحبه رمى تسعة وأربعين فأصاب تسعة، فلا بُد من ردّ السهم إليه، فلعله يصيب، وليس من المبادرة أن يتقدم أحدهما بقرعة إذا كان صاحبه غير مساوٍ له في أعداد الأرشاق، وهذا واضح لا خفاء به.
ولو أصاب أحدهما من الخمسين عشراً، وأصاب الثاني من تسع وأربعين ثماني قرعات، فقد فاز من أصاب العشر؛ فإن أكثر ما في الباب أن يرد السهم إليه، فيرمي ويصيب، ولو أصاب، فهو على تسعٍ، وصاحبه فائز بالعشر، وهذا متضح. وإذا لم تكن أرشاق معلومة، أو كانت، وقلنا: لا يجب استكمال الأرشاق، فللفائز ألا يرد السهم إلى صاحبه؛ فإنه يقول: قد استحققت المال، وليس عليَّ بعد استحقاق المال عمل، ولو كانت المعاملة محاطّة، فخلص لأحدهما من الخمسين عشر قرعات وهي المشروطة، وقد رمى صاحبه تسعاً وأربعين ولم يصب فيها، فله أن يقول: ردوا علي السهم، فلعلي أصيب، فلا بد من رد السهم إليه؛ فإنه قد يصيب، فيحط عن عشر صاحبه، ويبطل خلوصها له، فهذا ما أردنا تأصيله في النضال.
__________
(1) في الأصل: " أصبت ".

(18/254)


فصل
يشتمل على تمهيد أصل عظيم تستند إليه مسائلُ جمّة
11677 - نقل الأئمة تردد الشافعي في أن المتبع في النضال القياسُ، أو العادة التي تجري بين الرُّماة، وهذا مشهور على هذه الصيغة، وهو مشكل؛ فإن القياس حجة في الشرع، فإن كانت العادة موافقة لموجب الشرع، فلا معنى للتردد، والمتّبعُ الشرعُ وقياسُه، وإذا كان للرماة عادة يناقضها [القياسُ] (1) المعتبرُ في الشرع، فلا معنى لاتباع عادتهم، والوجه القطع بالتعلق بالحجة الشرعية، قال الصَّيدلاني: أراد الشافعي عادة الفقهاء. وهذا [كلام] (2) غير متين؛ فإن الفقهاء الذين تعتبر مذاهبهم أوّلاً هم المجتهدون، والمجتهد الرامي مُعْوِز (3)، وقد يوجد في القطر الواحدُ فحسب، فما معنى العادة مع الاتحاد (4)، ثم هذا الفقيه بماذا يأخذ؟ فإن أخذ بالقياس، فالرجوع إلى مأخذه، وإن كان يستجيز مخالفة القياس، فما وجهه؟
وقال شيخنا أبو محمد: المعنيُّ بالرجوع إلى العادة أنه لو أطلقت في المناضلة لفظة، والرماة يفهمون منها معنىً، فعادتهم تُتَّبع، وهذا الذي قاله ليس مما نحن فيه، بسبيل؛ فإن الأمر إن كان كذلك، وصح فَهْمُ الرُّماة من الألفاظ التي يطلقونها، فلا يجوز أن يكون في اتباع العادة خلاف إن تحقق اطرادها، وهذا بمثابة حملنا الدراهم على النقود الجارية في العقود، وإنما الذي نطلبه قياسٌ في مقابلة عادة، والذي يقتضيه القياس تنزيل اللفظ على حسب التفاهم، وهذه قاعدة ممهدةٌ في جميع العقود، فلا يبقى إذاً لتنزيل القولين في تعارض القياس والعادة وجه سديدٌ.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) سقطت من الأصل: وزدناها من (هـ 4).
(3) المعنى أن الفقيه الذي بلغ مرتبة الاجتهاد، وهو في الوقت نفسه من الذين بلغوا مرتبة المناضلة والرمي، الذي جمع بين الدرجة العليا في الفقه والرمي نادر الوجود.
(4) المعنى: أن الفرد الواحد لا تثبت به عادة، مهما درج عليها، والتزمها.

(18/255)


وأقصى الإمكان في ذلك أن نقول: إذا رأى الرُّماة أمراً فيما بين أظهرهم (1 من مصالح المعاملة 1)، وليس ما رأوه مما يشهد له قياس، فهل نتبع ما رأوه مصلحةً، أم نرد المعاملة إلى موجب القياس؟ هذا محل التردد، وبيانه بالمثال أن للرماة مناقشة فيمن يبدأ بالرمي، ولهم في ذلك غرض: فالذي يبتدىء يصادف القرطاس نقياً سوياً، ويكون هو على جمام قوته، فيطلب الرمي، وحكم القياس أنه ليس البعض أولى بهذا من البعض.
والذي رآه الرماة مصلحةً أن يفوضوا الحكم في ذلك إلى من يُخرج المال، وهذا يحرّض على إخراج المال، فالاعتبار بالقياس الذي إليه الإشارة في أحد القولين، ولا احتكام لأحدٍ، كما سنفرع عليه. والاعتبارُ بما يعتاده الرماة في القول الثاني، فلا مرجع لما يتردد فيه المذهب من ذكر القياس والعادة إلا ما ذكرناه.
ثم لست أرى ذلك أمراً مطرداً يُهتدى إليه كالمآخذ التي تبنى المسائل عليها، وإذا عظم وقع القياس، وبعُد ما يُرعى من عادة الرماة عن القياس بُعداً ظاهراً مصادماً للفقه والمعنى، فليس إلا اتباع القياس، وإنما يحتمل مجانبة القياس إذا قرب الأمر، كالبداية التي ذكرناها، فإن الأمر فيها وإن كان مقصوداً ليس [واقعاً] (2)، وهذا قريبٌ من التردد في أن إعلام المعاليق هل يجب في الدّابة المكتراة، أم يُقْتَصَرُ فيه على ما يجري العرفُ به؟ هذا هو الممكن في ضبط ذلك وسيزداد أُنْس الناظر به إذا تكررت المسائل.
11678 - والآن إذا ذكرنا البداية، فنستتم القول فيها ونقول: إن وقع التعرّض لمن يبدأ ذكراً، فهو متبع، وإن لم يتعرض المتعاقدان لمن به البداية، ففي المسألة قولان: أحدهما - ينزل العقد على ما يراه الرماة، وقد نقل الناقلون أنهم يحكِّمون مُخرِج السبَق، كالوالي والواحدِ من عُرض الناس، ومن حكمهم المتعارف بينهم، هذا الذي ذكرناه، والأمر فيه قريب، والعقدُ عقد خطر، لا يبنى الأمر فيه على نهاية الإعلام.
هذا قولٌ، وهو ضعيف.
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (هـ 4).
(2) في الأصل: " واقفاً ".

(18/256)


والقول الثاني - أنا نتبع القياس، ولا نحكّم أحداً فيما يفرض التنافس فيه.
التفريع:
11679 - إن حكمنا باتباع المعنى والقياس -ولم يجر في العقد للبادئ ذكر- فعلى هذا القول قولان: أحدهما - أنَّ العقد يفسد لاشتماله على ما يجرّ تناقشاً، لا سبيل إلى التحكم بقطعه.
والقول الثاني - أنا نُقرع بين الرماة بعد انعقاد العقد؛ فإن البداية إذا جُهلت، لم ينته الجهل بها إلى حد منافاة الصحة، والقرعةُ مرجوعٌ إليها في أمثال ذلك.
ومما يتعلق بذلك أنهم لو شرطوا من يقع البداية به، أو اقتضت القرعة -كما ذكرناه في التفريع- تقديمَ واحدٍ، فإذا وقعت البداية في الرشق الأول، فما السبيل في سائر الأرشاق بعده؟
أمَّا إن اتبعنا آداب الرماة، فالرجوع عندهم إلى تحكّم مُخرج المال مرةً ومراراً، إلى نجاز مقصود المعاملة. ولكن هذا إنما ينقدح إذا كان [المُسْبِق] (1) واحداً، فأما إذا أخرج الرماةُ أسباقاً (2) وتخلّلهم محلِّلٌ، فليس البعض منهم أولى بالتحكم من البعض، والتفريع يرجع والحالة هذه إلى اتباع القياس.
ثم إن أفسدنا، فذاك، وإن أقرعنا ووضعنا القُرعةَ على تأسيس البداية في كل رشق فهذا الحكم متبع، وإن وقع الإقراع مطلقاً، ففي المسألة وجهان. وكذلك لو جرى ذكر من يُبدأ به، نُظر: فإن وقع التصريح بتمهيد البداية أبداً، اتبعناه، وإن جرى ذكر البداية مطلقاً من غير تعرض للتخصيص بالمرة الأولى، ففي المسألة الوجهان المذكوران في القرعة: أحدهما - أنا نطرد ما جرى في المرة الأولى إلى انتهاء المقصود. والوجه الثاني - أنا نعود إلى الإقراع في كل مرة أو نقطع اللبس، فنُجري الإقراعَ على الاطراد تصريحاً به.
وفي كلام بعض الأصحاب ما يدلّ على أن البداية لا تمهد بالقرعة في جميع المعاملة، بل لا بد من إنشاء القرعة في كل رشق إذا تنافسوا، وهذا بعيد لا اتجاه له،
__________
(1) في الأصل: " السبق ".
(2) أسباقاً: جمع سَبَق.

(18/257)


والأمر يطول به، وتبردُ أيدي الرماة ويزيد ضُرُّ هذا على نفعه، فهذا ما أردنا ذكره.
ثم يُتصوَّر في المناضلة عادةً عامة تنزل المعاملة عليها، على قياس تنزيل الإجارة على منازل معتادة، وكذلك القول في كيفية تزجية البهيمة واستحثاثها على السير، فإذا جرت المناضلة وألفينا أمراً (1) لا يشكل، نزلنا المعاملة عليه، وإن تردد الرأي ترتب عليه اختلافٌ (2) في الحكم.
11680 - ونحن نختتم هذا الفصل بمسائلَ توفي بالناظر على استيفاء الغرض في ذلك: فمما تردد الأئمة فيه إعلامُ المسافة التي تكون بين مواقف الرماة وبين الغرض، وقد ذكر الأئمة قولين في ذلك، ومال شيخي إلى إعلامها؛ فإنهما من أصول الأمر، ويختلف الغرض فيها بالقصر والطول، وقوة القسي والرماة وضعفها، ولا يمكن التحكم فيها بمسافة.
وأما إعلام مقدار الغرض في اتساعه، فقد ذكر الأصحاب فيه قولين مرتبين على المسافة، ورأوا هذا أهونَ وأولى بأن ينزل على العادة.
وكذلك ذكروا قولين في مقدار ارتفاع القرطاس من الأرض وجعلوا هذا أهون من الذي يليه، ورتبوه على ما قبله، وإنما ترتبت هذه المسائل على حسب ترتب الأغراض فيها ظهوراً وخفاءً، ثم العادات في اطرادها، وتطرق [المناقشة] (3) إليها تجري على حسب ظهور الأغراض وخفائها، فاقتضى ما نبهنا عليه ترتب هذه المسائل: [فأظهر] (4) الأغراض المسافة، ويليها اتساع الغرض المطلوب، ويلي ذلك ارتفاعه من الأرض. والبداية في الرماية لا تقع على هذا السنن؛ فإن ما ذكر من تحكيم المُسْبق لا أراه منتهياً إلى الحد الذي خرَّجنا هذه المسائل المتسلسلة عليه، ولولا ضعف الغرَض فيه، لما احتملنا فيه تحكماً، وكذلك لم نقطع القول بالفساد عند إبطالنا التحكم، ورأينا فصل النزاع بالقرعة.
__________
(1) هـ 4: " الأمر لا يشكل ".
(2) هـ 4: " نرتب عليه اختلافاً في الحكم ".
(3) في الأصل: " المسافة ".
(4) في الأصل: " فالأظهر ".

(18/258)


فصل
فيما يطرأ على الرماة من النكبات
11681 - قاعدة الفصل أنَّ السهم إذا أفرط تباعده أو سقط دون المقصود بمسافة بعيدة، فهذا يحمل على سوء الرمي، فهو محسوب على الرامي في الرشق، ولا يرد السهم إليه ليرميَه مرة أخرى؛ مَصيراً إلى أن ما أساء فيه غيرُ معتد به، وما يحمل على نكبةٍ لا ينتسب الرامي فيها إلى تقصير، فذلك السهم غير محسوب عليه. هذه قاعدة الفصل، وهي تبين بتفصيل المسائل.
فإن سلمت الآلة والْتوت يد الرامي، فهذا من تقصيره، والسهم محسوب عليه، وقال الأصحاب: إذا انقطع الوتر أو انكسر القوس، فهذا من النكبات. والتفصيلُ الحسن فيه للعراقيين قالوا: إن تجانب السهم على إفراط (1)، لم يحسب على الرامي، كذلك إن وقع دون الغرض بمسافةٍ بعيدة، ولو وقع بالقرب من الغرض، بحيث لا يستبعد إصابة مثله، فهل يحسب السهم من أرشاق الرامي؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه غير محسوب عليه؛ لأجل النكبة المعترضة. والثاني - أنه محسوب لوقوعه على حدٍّ غير بعيد عن توقع الإصابة، فكأن النكبة لم تكن، وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي.
ثم إن كان السهم محسوباً عليه إذا لم يُصب، فلو أصاب، فلا شك أن الإصابة محسوبة له معدودة من القرعات المشروطة، وإن قلنا: لا يحسب السهم عليه من الرشق لو لم يُصب، فإذا أصاب [السهم] (2) فهل تحسب الإصابة له؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه محسوبة له، وهو الذي قطع به المراوزة؛ لأن الإصابة مع النكبة تدلُّ على نهاية الحَذاقة، وأيضاً فالإصابة مشروطة، وقد وقعت، والتوجيه بهذا أولى.
__________
(1) أي بسبب نكبة معترضة، كما يظهر من التفصيل الآتي.
(2) زيادة من (هـ 4).

(18/259)


والوجه الثاني - أنها لا تُحسب له كما لا تُحسب عليه لو لم يُصب، وأيضاً فإنَّ الإصابة مع انكسار الآلة تُحمل على الوفاق؛ فإن الرمي [لا ينبني] (1) إلا على سداد الآلة وبقائها.
16682 - هذا بيان حظ الفقه من هذا الفصل، وبعده نظر لا بُد من التنبه له، وذلك أن الأئمة عدّوا انقطاع الوتر وانكسار القوس نكبةً وبنَوْا عليها التفصيل الذي ذكرناه، والوتر لا ينقطع إلا بعد مروق السهم على الموضع الذي يسدده الرامي عليه، وكذلك لا ينكسر القوس إلا بعد نفوذ (2) السهم، وسبب انكسارها صدمةُ الرجوع، فإن انقطع الوتر في النزع، وأفلت السهم من غير حل الرامي شِصَّه، أو انكسر القوس في النزع (3) فذلك نكبة لا شك فيها، ومن لم ينتبه لهذا، فهو جاهل بالرماية، ولم نأت بما ذكرناه مخالفةً للفقهاء، ولكنهم ذكروا فقه النكبة وجنسها، ولم يفصّلوها، ولو تبيّن لهم ما ذكرناه، لحكموا فيه بأن ما يقع بعد نفوذ السهم لا يُعدّ نكبة، وقلما ينقطع الوتر بعد حل الشص من رامٍ ماهرٍ إلا ويقرب السهم أو يصيب، فهذا ما يجب التنبه له.
وانكسار السهم ينقسم فإن كان لِوَهاءٍ فيه غير محسوب، فهو نكبة، وإن كان لسوء الرمي، فهو خُرقٌ، والسهم محسوب، وذلك بأن يخلي الفُوقَ في النزع عن الوتر، فهذا ترك تحفظ، وسوء رمي، وهو مُخْطِر، وكذلك إذا أفرط في النزع حتى انتهى النصل إلى كبد القوس، ونشب فيه وتكسَّر وتشظى، فهذا قلة تحفظ، وسوء رمي، وإذا بان فقه الفصل، فلا معنى للإطناب.
11683 - ولو رمى فاعترض بين السهم في مَرّه وبين الغرض بهيمة، فأصابها السهم، فهذا عارض، والسهم غير محسوب، ولو مرق السهم، وأصاب الغرض، فوجهان، ولعل الأصح أنَّ الإصابة محسوبة له؛ فإنَّ السهم لا يمرق ولا يصيب إلاَّ مع
__________
(1) في الأصل: " لا يبقى ".
(2) نفوذ السهم: المراد هنا انطلاقه، لا إصابته الهدف ونفوذه منه.
(3) النزع: المدّ، يقال: نزع في القوس: مدّها. (المصباح والمعجم).

(18/260)


رعاية السداد في الرمي على أبلغ وجه في الإمكان.
وأما هبوب الرياح، فالتفصيل فيه أن هبوب الريح إن اقترن بابتداء (1) الرمي، فلا مبالاة به، والسهم إن زهق (2) أو مال محسوب عليه، لأنه ابتدأ الرمي مع الريح، فكان هو المقصر، وللرماة نيقة (3) في تسديد السهم مع جريان الريح، وذلك بوضع النصل في المنظر (4) مائلاً قليلاً، حتى إذا انضم إلى الميل صَرْفُ الريح السَّهمَ استدَّ على الغرض.
ولو نفذ (5) السهم، فهجمت ريح، فإن كانت رُخاءً ليّنة؛ فلا أثر لها؛ فإنَّ السهم لا يميل بمثلها، وإن هجمت ريح عاصفة بعد نفوذ السهم، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه معدود من النكبات، وقد مضى تفصيلها.
والثاني - أنه لا يعدّ من النكبات؛ فإنا لو فتحنا هذا الباب، لطال المراء والنزاع، ولا يخلو عن الريح الهواءُ، ويندر هجوم الريح الشديدة؛ فإنه تظهر (6) مباديها، ثم تشتد، والسهم أسرع مَرّاً من الريح، فالوجه حسم ذلك.
ولو انقطع السهم حيث يُعَدُّ ذلك نكبةً، وأصابتْ قطعة منه الغرض، فإن انقلب وأصاب الغرض بفُوقه (7) أو بعَرْضه، فلا يحتسب هذا؛ فإن الإصابة هي التي تجري على استدادٍ في السهم، فإذا انقلب، فلا احتفال بالمماسة التي جرت.
ولو حصلت الإصابة بقطعة مستدّة على سمت طول السهم، فهل تحتسب الإصابة؟ فعلى الوجهين المذكورين في النكبات المعترضة.
__________
(1) هـ 4: "بانتهاء".
(2) زهق السهم: أي جاوز الهدف من غير أن يصيبه، ويسمى الزاهق. (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: باب ما جاء في الرمي والسبق).
(3) نيقة: النِّيقة: المبالغة في التجويد. (المعجم).
(4) في المنظر: أي في النظر. يعني فيما يراه الرائي. (المعجم).
(5) نفذ السهم: أي انطلق، هذا هو المراد هنا.
(6) هـ 4: "تبدو".
(7) الفُوقُ من السهم حيث يثبت الوتر منه، جمع فُوَق وأفواق مثل قفل وأقفال. (المعجم والمصباح).

(18/261)


ثم اختلف أصحابنا وراء ذلك، فقال قائلون: إن أصاب الجانبُ الذي فيه النصل بل أصاب النصلُ، فهو الإصابة التي فيها الخلاف، ولو أصابت القطعة التي فيها الفوقُ من غير انقلاب، ولكن أصاب موضع الانقطاع، فلا (1) يحسبُ ذلك وجهاً واحداً.
ومن أصحابنا من عكس هذا، وقال: إن أصابت قطعةٌ الفُوقَ مستدةً، فهذه إصابة، وفي احتسابها خلاف؛ فإن هذه القطعة هي المقروعة بالوتر، ولا معنى للرمي إلا قرع الفوق بالوتر، والقطعة التي فيها النصل إذا باينت السهم، لم يبق فيها تحامل اعتمادات الوتر على سداد، فإصابتها وفاق، والمسألة محتملة كما وضحناها.
فصل
في بيان الإصابة المشروطة
11684 - إذا شرط أصحاب النضال إصابة القرطاس، فليست الإصابة خافية، ولكن لا تُحسب الإصابة عَرْضاً، وكذلك إذا انقلب السهم وأصاب فُوقُه، فهذا غير محسوب؛ فإن ذلك لا يُعد إصابةَ السهم المرمى، ولو أصاب السهم شجرة مائلة عن قُبالة الغرض، أو جداراً، ثم ارتد، وردّته الصدمة إلى سنن الغرض، وأصاب فهذا فيه تردّدٌ، والأصح أنه لا يعتد به، فإن سبب الإصابة الصدمة، وإلا فالسهم في مَرِّه مائل عن سنن المطلوب، ولولا الصادم، لبعد موقعه عن القرطاس.
ولو كان السهم على السنن، ولكن صدم الأرضَ قبل الوصول، وارتد من الأرض، وأصاب، فقد اختلف الأصحاب في ذلك أيضاً، وجعلوا الاعتداد بالإصابة في هذه الصورة أولى؛ فإنَّ السهم واحتكاكه بالأرض يدل على انخفاض ممره، وطلب خفض السهم نهاية الحَذاقة، وهو أول الرماية وآخرها.
والأصح عندنا أنَّ الإصابة غيرُ معتد بها، فإنَّ السهم إذا احتك بالأرض، فقد انتهى أثر رَمْي الرامي، وبان أنه سدَّد سهمه على هذا الموضع، ولم يشعر، وما كان من ارتدادٍ، فهو بعد انتهاء السهم.
__________
(1) هـ 4: " فهل يحسب ذلك ".

(18/262)


ولا خلاف بين الرماة أنَّ ذلك غير محسوب، وإنما التردد للفقهاء، ويمكن أن يخرج هذا على العادة وأنها هل تُتّبع؟ فإن اتبعناها، فلا يُحتسَب بها، وإن لم نتبعها، فهذا يُسمى إصابة، وعلى الرامي القصاص إذا قصد إنساناً وأصاب كذلك.
ولو أصاب السهمُ وارتد من الغرض، فالإصابة محسوبة بلا خلاف، ولا يشترط الخزق والثبوت والمشروط الإصابة.
وإذا كان المشروط الإصابة -كما ذكرنا- فأصاب السهمُ طرف الغرض، وخزقه، نظر: فإن تفطّر الطرف وجِرمُ السهم في حيز الغرض بكماله، فهو محسوب، فإن كان بعض جِرم السهم في حيز الغرض، والبعض منه خارج، ففيه خلاف بين الأصحاب، ولعل الأوجه أنه إصابة.
11685 - ولو وقع التشارط على الخوازق والخواسق، فالإصابة لا تكفي حتى يحصل الخروج المشروط، ولو وُجد الخَزْق على الطرف، فهو كما ذكرناه إذا كانت الإصابة هي المشروطة، وكان شيخي يقول: " إذا كان المشروط الخازق، ولم يكن كل السهم في حيز الغرض، فهذا أولى بالا يحتسب ممّا إذا كان المشروط الإصابة؛ فإن هذا قد لا يُسمى خزق الغرض، وإنما هو شق طرفه ". وهذا خيال لا حاصل له، والذي يعترض في الخاسق المشروط شيئان: أحدهما - أن السهم لو أصاب الغرض وخرقه ومرق منه لحموته وقوته، فقد ذكر صاحب التقريب والإمام (1) قولين في أن هذا هل يحتسب خاسقاً: أحدهما - لا يحتسب ما لم يثبت في الغرض، وهذا لا أعرف له وجهاً، ولكني رأيت الرماة يميلون إلى هذا، فالاعتداد به؛ فإن الخزق قد حصل، والمروق بعده زيادةٌ تُشعر بالقوة.
والثاني - أن السهم يحسب، وهو القياس الذي لا دراء له، وهو منطبق على مقتضى اللفظ ومعناه.
ولو كان المشروط الخاسق كما ذكرناه- فأصاب السهم سهماً كان في الغرض، فهذا مما اختلف الأصحاب فيه: فمنهم من احتسبه، وربما كان يقطع به شيخي.
__________
(1) الإمام: يقصد والده.

(18/263)


ومنهم من قال: لا يحتسب، وهو مقتضى اللفظ، وعلى هذا إن أصاب خَزْقاً في الغرض، وثبت فيه، فمنهم من احتسبه، ومنهم من لم يحتسبه؛ فإن النصل صادف هواء الثقب، ولم يؤثر في خزق، والمشروط الخزق. والأفقه عندنا الاعتداد به إذا كان السهم في قوته بحيث يخرق لو أصاب موضعاً صحيحاً؛ فإن الغرض من ذكر الخَزْق ألا ينبو السهم، ومن ضرورته الإصابة، وليس معنى اشتراط الخاسق أن يرجع الغرض في حق الرمي إلى مواضع لم تُصبها السهام من الغرض؛ فإن هذا في التحقيق قد يرد الغرض إلى نصفه، وهذا يستبينه الفطن، إن شاء الله تعالى. والمسألة محتملة.
11686 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو أصاب الجريدة، وهي السعفة التي ينتصب الغرض عليها، فقد فصل العراقيون ذلك؛ فقالوا: إن شرطا إصابة الشَّن الذي على وسط الهدف، فلا تحسب إصابة الجريدة.
وإن شرطا إصابةَ الهدف، وهو الترس الذي الشَّن في وسطه، فإصابة الجريدة محسوبة؛ فإنها متصلة بالغرض اتصال إثبات، وهي بمثابة جزء من الغرض، وذكر شيخي قولين في هذه الصورة الأخيرة، وهما متجهان: أحدهما - وهو الذي ذكره العراقيون- أنه إصابة إذا كان المشروط إصابة الغرض.
والثاني - أنه غير محسوب؛ فإن الجريدة تُسمى عماد الغرض وقائمته، وليست من الغرض. والمسألة محتملة. والأوجَهُ ما ذكره العراقيون؛ فإن قائمة السرير من السرير، ويجوز أن ينفصل عن ذلك فيقال: قائمة السرير من الخشب الذي منه السرير.
فصل
11687 - إذا وقع التشارط على احتساب القريب، جاز، فإن أبانوا مقدار القرب بشبرٍ أو فترٍ، أو قِيدَ سهم، ولم يعتدّوا بما يقع وراء ذلك، فشرطهم متبع، وكأن الحد الذي راعَوْه من القُرب هو الغرض المطلوب، والقرطاس في وسطه لتسديد النظر، فلو شرطوا الاحتساب بالقريب على الجملة من غير تعرض لضبط، ففي صحة

(18/264)


المعاملة وجهان: الأصح - أنها لا تصح؛ للجهالة، والقرب لا ضبط له. والثاني - أنها تصح.
ثم في تفريع ذلك وجهان: أحدهما - أنه يحمل على قِيد سهم، وهذا كلام سخيف، لا أعرف له قياساً، ولا أمراً يرجع إلى عادة الرماة، وصاحبه يدعي أن هذا حد القُرب في عادة الرماة. ومنهم من قال: مطلق القرب محمول على الاعتداد بالقرب، فالأقرب، بتأويل أن القريب يُخرج البعيد، ثم هؤلاء اختلفوا على وجهين آخرين: فقال بعضهم: إذا اتفقت سهام قريبة لأحدهم، والبعضُ أقرب من البعض، وأبعدها أقرب من أقرب صاحبه، فالسهام بجملتها محسوبة له.
ومنهم من قال: أقربه يُسقط أبعده أيضاً.
وكل ذلك خبطٌ، والذي يجب القطع به أنه لا بد من ذكر ذلك وضبطه بالشرط، والرماة يعتادون إبانة ذلك.
ولو ذكروا مقدار القرب، وتعرضوا للغرض والقرب منه، فالسهم الذي يثبت أسفل الغرض على الحد المشروط من القرب، أو على جانبه قريب محسوب، والسهم الذي يقع فوق الغرض، ويثبت على حد القرب المشروط محسوب على الأصح.
وذكر شيخي قولين: أحدهما - ما ذكرناه، وهو الذي يجب القطع به، والثاني - أنه لا يحسب، فإنه يشير إلى الزهوق والسهم الزاهق لا يعتد به، وكان يشير في هذا إلى عادة الرماة، ولا أصل له؛ فإن القُربَ محقّق، والسهمُ سديد ثابت، وفي الرماة من يستحسن ما يقع فوق القرطاس.
وإذا شرط القريب، فوقع السهم بالقُرب من الغرض، ولم يثبت، فهذا غير محسوب؛ فإن القريب وجب أن يثبت أو يصيب ثم يرتد، فإذا لم يُصب، فهو ساقط، والمعنى يُحسب القريب احتساب السهم المصيب لحيّز القُرب، فقد ذكرت أن القُرب إذا ضبط، فكأن الغرض قد اتّسع.
11688 - وممَّا كان يذكره شيخي أن المناضلة إذا عقدت على احتساب القريب، ووقع التعرض لمنتهى القُرب ضبطاً بالشرط، فمقتضى المعاملة أن يُخرج قريبُ أحد

(18/265)


المتناضلين ما هو أبعد منه من سهام صاحبه، إن كان ذلك البعيد في حد القُرب المضبوط المشروط.
وأنا أقول: إن شرطوا أن يُخرج الأقرب ما وراءه، فالشرط متّبع، وإن لم يكن (1) لهذا تعرض، فليس في معنى احتساب القريب ما يشعر بإخراج الأقرب ما فوقه؛ فإن لم يثبت للرماة في ذلك عادة مستمرة، فالوجه الاحتساب بكل ما يقع على حد القُرب المعتبر، وإن ثبت في ذلك عادة للرماة، فيجتمع موجب اللفظ وحكم العادة، فإن اعتبرنا العادة، حكمنا بإخراج الأقرب ما فوقه.
وفي هذا يتبين أمرٌ به انكشاف أغراضٍ، وهو أن القُرب لو كان مفهوماً في عادة الرماة معتبراً بِقِيد سهم، فإخراج القريب يحمل على العادة الجارية، وهذا لا يُدرج تحت القولين، بل هو في معنى حمل الدراهم المطلقة على النقد الغالب، من جهة أن القريب لا ضبط له في اللسان، واللفظ المبهم تبيّنه قرينة الحال، كذلك القول في القريب؛ فإنه لا ضبط له في وضع اللغة، فإن صح ضبط في العادة على اطرادٍ، كانت العادة قرينة اللفظ، فأما إخراج الأقرب لما فوقه، فليس من باب تفسير لفظ مبهم، فلا يصح أن يكون هذا قرينةً للّفظ مفسرةً له، فيثبت القريب مضبوطاً والمسألة مفروضة في الضبط، فالكلام مستقلٌّ إذاً، ولكن يعارضه عُرفٌ يليق بالاستصلاح، فخرج القولان، وهذا كالقولين فيمن يُبدأ به؛ إذ ليس في اللفظ تعرض للبداية، ولا يصير اللفظ مع العادة مشعراً بها، فبقي لفظٌ مستقلٌّ (2) وعادة تعارضه.
11689 - ومما نذكره في فصل القريب أن التناضل إذا وقع على احتساب القريب، فقرب سهم من القرطاس، ولم يلق ما يثبت فيه، فهذا قريب، ولكن أهم أمر فيه التصوير، فإن كان القرطاس مفرداً، ولم يكن وراءه ترس أو تراب، فاشتراط القريب لا يحمل على ما يقرب في مرِّه، فاذا وقع التشارط كذلك (3)، اتبعناه، ولكن هذا
__________
(1) هـ 4: " يقع ".
(2) هـ 4: "مستعمل".
(3) هـ 4: " على ذلك ".

(18/266)


لا يراه أحد، ولا يعتاده جيل (1) من الرماة، غير أن شرط القرب -والحالة كما وصفناها- تصريح بوضع المعاملة على خلاف العادة، ونحن إنما نتبع العادة في قولٍ إذا كان اللفظ مطلقاً، فأما إذا صرح اللفظ بمناقضة العادة، ولم يخالف مقتضىً شرعيّاً، فلا تعويل على العادة. وهذا بمثابة البيع بدراهم غريبة موصوفة، غير الدراهم الجارية في عرف المعاملة، ولو كان القرطاس أمام تراب أو ترس، فلا يتصور الاحتساب بقريب لا يلقَى الترابَ في مرِّه، فإن وقع الشرط كذلك، عاد التفصيل الذي ذكرناه، وإلا فالقريب لا بُد وأن يثبت فيما وراء القرطاس، ثم القول في القرب والبعد ما ذكرناه.
فصل
مشتمل على أنواع القسي والسهام، والتعامل عليها
11690 - فنقول: تقدم أنَّ التناضل على جميع أجناس القسيّ والسهام جائز، ونحن نصدر هذا الفصل بأمور متفق عليها: أجمع الأصحاب على جواز التناضل مع اختلاف أجناس القسيّ، فلا يمتنع أن يرمي البعضُ عن القوس العربية، والبعض عن الفارسية، وهذا بمثابة المسابقة بين البراذين والعتاق العربية، وسنختم هذا الفصلَ، إن شاء الله تعالى بطرف من الكلام في هذا، ونعطفه على أصول المسابقة، [وإذا كان لا يمنع المسابقة] (2) بين البرذون والعربي، مع أن التعويل في المسابقة على الفرس، والتعويل في الرماية على الرامي، فاحتمال اختلاف الأنواع في القسي أقرب، والمسابقة بين الفرس والحمار والبغل -إذا جوزنا التسابق على الحمر والبغال- بعضها مع بعض مختلف فيه:
فمن أصحابنا من منع المسابقة بين الفرس والحمار والبغل؛ لاختلاف الجنس والتفاوت العظيم، ثم ذكر الفقهاء في مناظرة الفرس والحمار، السهم والمزراق،
__________
(1) الجيل: الأمة والجنس من الناس، فالترك جيل، والروم جيل. (المعجم) فالمعنى أن هذا شيء لا يعتاده أحد من الرماة.
(2) زيادة من (هـ 4).

(18/267)


وأَجْرَوْا وجهين في جواز التعامل بينهما في إصابة مُعيَّنٍ شاخص، ورأَوْا هذه المعاملة أقربَ إلى الجواز؛ لما أشرنا إليه من ظهور التعويل على الرمي والرامي فإن قيل: لم قلتم التعويل في المسابقة على الفرس، والتعويل في المناضلة على الرامي؟ قلنا: لسنا ننكر أثر الفارس، ولكن الأثر الأغلب محال على الفرس، وليس المقصود من الركض تعلم الفروسية، فإن الفروسية لا تتعلم بهذه الجهة، وإنما تتعلم بمعرفة الرياضة ثم كيفية الرِّكْبة (1) والهيئة، وضبط العِنان في الخبب والهرولة، والإدارة على الحلقة المسماة (آورد) (2)، والغرض الأظهر من ركض الخيل تضميرها وتمرينها على العدو، وهذا لا يحصل إلا بالركض، وأما القسي فلا تصلح بالرمي، وإنما يصلحها القواس، والغرض تمرن الرامي على الرمي، والعبارة القريبة في الفرق: أنَّ الفرس حيوانٌ يعدو باختياره، وليس على الفارس إلا تزجيته، والاختيار كله في الرمي للرامي.
11691 - ومما نقدمه أنَّ التعامل إذا وقع على القسي العربية، فأراد أحد المتناضلين أن [يُبدّل] (3) القوس العربية بالفارسية (4)، لم يكن له ذلك لما بين الفارسية والعربية من البَوْن البعيد، والفارسية أشدّ، والرمي منها أسدّ، ومدى سهمه أبعد، ونحن لا ننكر أثر الآلة، وإن كان التعويل على الرامي.
ولو وقع التناضل على القسي الفارسية، فأبدل أحدُهما القوسَ بعربية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك جائز؛ فإنه انتقل من الأجود إلى ما دونه، فليس فيما فعل إجحاف.
والثاني - لا يجوز ذلك حسماً لإبدال الجنس بالجنس، وقد يكون أعرف بالرمي
__________
(1) هـ 4: " الركضة ".
(2) كذا في النسخ الثلاث، وفي بسيط الغزالي (أورد) بهذا الرسم. ولم أجد في المعاجم هذا المعنى. وأخيراً وجدناها في المعجم الذهبي (فارسي- عربي) للدكتور محمد التونجي، ومعناها: ميدان الحرب.
(3) في الأصل: " يقول ".
(4) الباء هنا لم تدخل على المتروك، وذلك جائز عند أمن اللبس، كما في عبارتنا هذه والعبارة التي بعدها.

(18/268)


على القسي العربية وأمهر فيها، فالوجه حسم ذلك بالكلية.
ولو وقع التناضل من غير (1) تعرضٍ لتعيين نوع من القسي: نُظر، فإن كانت الناحية تشتمل على الأنواع والترامي غيرُ نادرٍ بالجميع، فقد اختلف أصحابنا: فقد ذهب بعضهم إلى أن المناضلة المطلقة فاسدة في مثل هذه البقعة؛ فإنها أنشئت على الجهالة، مع تفاوت الغرض، واختلاف المقصد، وهذا ما مال إليه صاحب التقريب، ووجهه بيّن. وذهب الأكثرون من الأصحاب في طرق العراق وغيرها إلى تجويز المناضلة المطلقة.
فإن أفسدنا، فلا كلام، وإن حكمنا بالصحة، وهو الذي صار إليه الجمهور، فقد قال العراقيون: لا بُد وأن يقع الترامي على نوع واحد، فإذا أخذ واحدٌ العربية، امتنع على الآخر أَخْذُ الفارسية، ثم قالوا: الخيرة إليهما في تعيين نوعٍ يريدانه.
وهذا كلام مبهم، لا أقنع بمثله، وإشكاله يبين بسؤال، وهو أن قائلاً لو قال: إذا اختار أحدهما العربية، واختار الثاني الفارسية، وتنازعا، فكيف التفاصيل؟ وليس أحدهما أولى من الآخر، وهذا يُفضي إلى تعذر إمضاء العقد. هذا هو السؤال. والجواب عنه عسرٌ.
[والوجه] (2) بعد بيانه أن نقول: إن حكمنا بلزوم هذه المعاملة، فالوجه أن نحكم بأن الإطلاق فيه مفسدٌ؛ لإفضائه إلى ما وصفنا، وليس ذلك كفرض اختلاف المتبايعين في الثمن والمثمَّن؛ فإن اختلافهما في حكم النادر الذي يطرأ، وليس من مقتضيات العقد، والمعاملة التي نحن فيها تُفضي لو صحت إلى الخيرة التي ذكرها العراقيون، ثم ينشأ منها التنازع لا محالة، فقد أدت المعاملة بمقتضاها إلى ما يوجب رفعها. وإن حكمنا بأن هذه المعاملة جائزة، فلا يمتنع على ذلك الحكمُ بانعقاد العقد، ثم إن توافقا على نوع، فذاك، وإن تمانعا، فالمعاملة عرضة الفسخ، وليس جريان الفسخ فيه مناقضاً لوضعه.
__________
(1) هـ 4: " من ذكر جنس من القسيّ ".
(2) في الأصل: " فالوجه ".

(18/269)


فهذا إيضاح الخلاف، وتنزيله على الأصل الذي لا بُد منه.
ومما نقدمه أن الأنواع إذا اختلفت ووقع التراضي من المتناضلين على الترامي على الأنواع المختلفة، فهو جائز.
11692 - وانتظم من مجموع ما قدمناه أنَّ التوافق على نوع يمنع العدول إلى ما هو أعلى منه، وفي العدول إلى ما دونه خلاف.
ولو وقع التوافق على التناضل على نوعين، جاز بلا خلاف، وفي الإطلاق -وفي الناحية نوعان، أو أنواع- خلافٌ منزل على الوجوب والجواز، فلو اتحد النوع في الناحية، فالعقد المطلق منزل عليه، كما أن الدراهم المطلقة منزلة على النقد الغالب.
ولو كان الترامي على نوع معلوم، فتشارطا على ألا يُبدل واحد منهما قوسَه، فنقول: أولاً إن لم يجز في ذلك ذكر، فالإبدال سائغ بلا خلاف، سواء فرض اختلال في القوس أو لم يفرض، وعند ذلك يظهر (1) انفصال النضال عن السباق؛ فإن الفرس المتعين للمسابقة لا يبدل بغيره، والقوس المتعينة تبدل بغيرها من نوعها، والمعتمد في الفرق ما قدمناه، من أنَّ التعويل في المسابقة على الفرس وفي النضال على الرامي.
فإذا وضح هذا في القوس، فلو شُرط تعيين القوس، ومُنع إبدالها، فالأصح أن هذا الشرط فاسدٌ؛ فإن الرامي قد تطرأ عليه أمور خفية، هو أعرف بها، فتُحوجه إلى إبدال القوس، [وفي حسم هذا تضييق] (2) وإرهاق لا فائدة فيه، وهو قريبٌ من تعيين الصاع في السلم.
ومن أصحابنا من قال: يصح الشرط، ويجب الوفاء به، على ما سنصفه في التفريع، إن شاء الله تعالى، ويحتج هذا القائل بأنه قد يظهر غرض بيّن في تعيين القوس؛ فإن إبدال القوس اللينة بالشديدة يتفاوت تفاوتاً قريباً من إبدال العربية بالعجمية.
__________
(1) هـ 4: " يفرض ".
(2) في الأصل: " وفي هذا حسم تضييق ... ".

(18/270)


التفريع:
11693 - إن حكمنا بإفساد الشرط، فهل تَفسد المناضلة أم يُلغى الشرط، ويقدّر كأنه لم يكن؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب ومهد ضبطاً حسناً في ذلك، وقال: كل شرط لو فرض طرُحه لاستقل العقد بإطلاقه، فيجري فيه الوجهان إذا فسد، وكل ما لو طُرح، لم يستقل العقد، فإذا فسد، فلا بُد من فساد العقد، فهذا مثل ألا يذكر في المسابقة غاية، ولا في المناضلة قرعات، فالمعاملة فاسدة، لا وجه إلى تصحيحها مع تقديرها، وسبيل طلب الصحة ابتداء عقد على شرط الشرع.
وإن قلنا يصح تعيين القوس، فتقديره ألا يبدل القوس ما بقيت، فإن انكسرت، فكيف الوجه؟ إن وقع الشرط على أن لا إبدال إلا إذا انكسرت، فيصح العقد وينزل على هذا المقتضى، وإن وقع الشرط على أن لا إبدال، وإذا (1) تكسرت القوس، انقطعت المعاملة، فيجب الحكم بفسادها، فإن هذا إبلاغ في تعيين الآلة، وحقها ألا تتعيّن.
11694 - هذا منتهى الغرض في ذلك، وقد وعدنا أن نذكر مسائل في المسابقة من هذا النمط، فنقول أولاً: إذا تعينت الأفراس في التسابق، فلا إبدال بوجه على ما تمهد من ارتباط المعاملة بالخيل أو الإبل، وهي العمدة والعماد، ولو تعاقدا المسابقة من غير إحضار الأفراس، واعتمدا الوصف فقد قال العراقيون: يجوز ذلك، ثم قالوا إذا كان التعويل على الوصف، فيجب أن يحضرا فرسين من نوع واحد، إما من العتاق أو البراذين، قالوا وهذا إذا [لم يجر لها] (2) ذكر، وجرت المسابقة على الإطلاق، والمسابقة المطلقة مع وجود البراذين والعتاق في الناحية، كالمناضلة المطلقة مع وجود القوس العربية والعجمية في الناحية.
ولو لم يُحضرا فرسين ورضيا بالتسابق على البرذون والعربي، جاز ذلك كما يجوز ذلك في النوعين من القوس إذا وقع التراضي بالتناضل عليهما.
__________
(1) هـ 4: " فإذا ".
(2) في الأصل: " لم يجر لهذا ".

(18/271)


وهذا الذي ذكروه سديد لو صحت المسابقة من غير تعليق بأعيان الخيل. وكان شيخي يقطع باشتراط تعيين الخيل في المعاملة؛ فإن المعول في المسابقة على أعيانها، وفي هذا احتمال ظاهر، والأوجه ما ذكره العراقيون. والعلم عند الله تعالى.
واختلاف السهام وإن اتّحد نوعُ القسي (1) كاختلاف نوع القسي (2)، وبيانه أن الرمي بنبال الحُسْبان (3) التي تسمى نازك (4) إنما يكون على القوس الفارسية، ولكن لا بُد من إلحاق آلةٍ بالقوس، فيخرج القوس عن طريق الرمي باليد، ويصير مع الآلة المتصلة بها كنوع آخر من القوس وكذلك قوس الجَرْخ مع قوس اليد، والجَرْخ مع النازك (5) مختلفان، وهذا مستبين عند أهل المعرفة، وكان شيخي يُلحق بهذه المسائل المسابقة بين الإبل والخيل، ويقول: هي أقرب من المسابقة بين الخيل والحمر؛ من جهة اجتماع الخيل والإبل في كونهما أصلين في المسابقة.
ومع هذا الخلافُ قائم في جواز المسابقة؛ لمكان اختلاف الجنسين، وليس كاختلاف النوعين، نحو اختلاف البراذين والعتاق، وكان يتردد بين البغال والحمر، وليس يخلو ذلك عن خلاف. وهو أقرب من الخيل والحمر.
فصل
مشتملٌ على إلحاق الزوائد في المسابقة والمناضلة
11695 - ومقصود هذا الفصل يترتب على القولين في أن هذه المعاملة جائزة، أو لازمة؛ فإن حكمنا بلزومها، فلا يلتحق بها الزيادة طرداً لقياس المذهب في أن العقود
__________
(1) هـ 4: " القوس ".
(2) هـ 4: " القوس ".
(3) الحُسْبان: نوع من السهام، وهي سهام صغار يرمى بها عن القسي الفارسية، الواحد حسبانة (المصباح).
(4) في (ق): " ناوك ".
(5) سبق تفسير الجرخ والنازك.

(18/272)


اللازمة لا تلحقها الزوائد والتغايير التي تشبه إلحاق الزوائد، كما سنصفها، إن شاء الله تعالى.
ولا فرق بين أن يتراضيا عليه، وبين أن ينفرد بالإلحاق أحدهما، فإن أرادا ثبوت الزيادة، فالوجه فسخ العقد الأول عن تراضٍ، وإعادتُه على حسب المراد، ثم قد قدمنا التفريعَ على قول اللزوم، وحكينا عن القفال: أنا وإن ألزمنا المعاملة، فلا يجب تسليم السبَق؛ فإن استحقاقه موقوف على تمام العمل المشروط، وهذا هو الذي لا يجوز غيره، وفي بعض التصانيف أنه يجب تسليم السبَق إذا قضينا بلزوم المسابقة والمناضلة قياساً على تسليم الأجرة في الإجارة، وهذا غلط بيّن، وذهول عن درك مقصود هذه المعاملة ومغزاها؛ فإن مبناها على الخطر والتوقع، وليس ذلك كتوقع انهدام الدار المستأجرة؛ فإن الأصل بقاؤها، والنفوس مطمئنة إلى استمرار وجودها، وفوز السابق ليس في هذا المعنى.
وقد يعترض وضع سبَقين من شخصين وبينهما محلِّل، فالتسليم إلى من؟ وكيف الحكم إذا فرّعنا على أن مخرج (1) السبَق يستحق السبق؟ ومما يتفرع على هذا القول أن المناضل إذا مات، فالمعاملة تنقطع، وإن حكمنا بلزومها؛ فإن المناضلة تتعلق بعين الرامي، فموته كموت الأجير المعيّن. ولو مات المسابق والفرس قائم لم يعطَب. والتفريع على اللزوم، فيتجه إيجاب الوفاء على الورثة؛ لأنَّ التعويل على الفرس، كما تقرر من قبل.
هذا إذا حكمنا بلزوم المعاملة.
11696 - فأما إذا حكمنا بجوازها فلو تراضيا بإلحاق زيادة بالعقد، مثل أن يُلحقا مزيد قرعات، أو أرشاق، أو مزيداً في السبَق، فالمذهب أنَّ الزيادة تلحق، لمكان جواز العقد.
وقد ظهر اختلاف الأصحاب في أنَّ الزيادة هل تلحق الثمن أو المثمن في زمان
__________
(1) هـ 4: "شخوص".

(18/273)


الخيار أو مكانه، فخرّج بعض أئمتنا (1) وجهاً على البُعد (2) في إلحاق الزوائد بالمعاملة التي نحن فيها وإن فرعنا على جوازها، وهذا قد يتجه بأن يُعتبر العقد غير معقول (3)، ولا بُد في الزيادة من عقد، والعقدُ لا يلحق العقد، ولا عَوْد إلى هذا الوجه البعيد، ويتّضح الفرق بين البيع في زمان الخيار -والعقدُ مبناه على اللزوم- وبين المعاملة التي نحن فيها، ومقصودُها غررٌ مغيّب، ولولا الشرع، لكانت على مضاهاة القمار.
وما ذكرناه فيه إذا تراضيا على الزيادة وإلحاقها.
11697 - فأما إذا انفرد أحدهما بإلحاق الزيادة، فإن قلنا: لو ألحقناها لحقت.
فإذا انفرد أحدهما ولم يقبل الثاني، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها - أنها لا تلحق وإن لحقت بالتراضي؛ تخريجاً على أن أصل العقد لا بُد فيه من القبول، وإن جعلناها كالجعالة، فإذا اشترطنا القبول في أصل المعاملة، وجب اشتراطها في الزيادة.
والوجه الثاني - أن الزيادة تلحق، وإن لم يقبلها من لم يَزِدْ لجواز العقد وقبولها (4) لفنون التغايير.
والوجه الثالث - أنا ننظر إلى الزائد، فإن كان فاضلاً، أو مساوياً لصاحبه، فالزيادة تصح، وإن كان مفضولاً، فلا يصح منه الانفراد بإلحاق هذه الزيادة من غير رضا صاحبه، فإنه بزيادته يفوّت على صاحبه حقَّه، ولو فتحنا هذا البابَ، لاتّخذه كل مفضول دأْبه مهما (5) أحسَّ بكونه مفضولاً.
والوجهُ الثاني الذي ذكرناه ساقط ضعيف؛ لأنَّ مضمونه التسوية بين الفاضل والمفضول.
__________
(1) هـ 4: " أصحابنا ".
(2) وجهاً على البعدَ: المعنى خَرَّجَ وجهاً يستبعد جواز إلحاق الزيادة وإن حكمنا بجواز العقد.
(3) هـ 4: " غير مشروعٍ ولا معقول ".
(4) وقبولها: أي المناضلة، أو المعاملة.
(5) مهما بمعنى إذا.

(18/274)


11698 - وينشأ من هذا المنتهى سرٌّ في المذهب، وهو أنا إذا فرقنا بين الفاضل والمفضول، فلو أراد المفضول أن يفسخ العقد بعد ما ظهر استيلاء (1) صاحبه عليه، فليس له ذلك؛ فإنا إذا كنا نمنعه من الزيادة لما فيها من تفويت حق المناضل الفاصل، فالفسخ أولى بأن يمتنع، وقد أفضى ما ذكرناه إلى أنا في التفريع على قول التفضيل إنما نحكم بجواز العقد إذا لم ينته الأمر إلى مصير أحدهما مفضولاً، فإذا صار مفضولاً، لزم العقد في حقه، وبقي الجواز في حق الفاضل؛ فإنه إذا كان يجوز للمساوي أن يفسخ، فلأن يجوز ذلك للفاضل أولى.
ومن تمام التفريع أنا إذا قلنا: ينفرد أحدهما بالزيادة، وتلتحق بالعقد، فلا ضرار على الذي لم يرض؛ فإنا نجوز له أن يفسخ العقد، فإن ثقلت الزيادة عليه، فليفسخ.
11699 - ومن بقية الكلام في هذا [المنتهى] (2) الكلام في المفضول، وقد اختلف أصحابنا فيه، فقال بعضهم: إذا زاد صاحبه عليه بسهم واحد، فهو مفضول، والكلام فيه ما سبق.
ومن أصحابنا من قال: القَرْعة والقرعتان قد لا يتحقق كون المفضول بهما متهماً في الزيادة وإنما تظهر التهمة إذا بلغ ما اختص به صاحبه [مبلغاً يعدُّ بذلك] (3) مستعلياً على مناضله، فعند ذلك يصير المفضول متهماً، ثم الحكم ما قدمناه.
ويتصل بهذا المنتهى أن من عقد جعالة على عوض ثم إن الجاعل زاد في العمل، فثبوت تلك الزيادة -وإن كانت الجعالة جائزة في وضعها- بمثابة زيادة المتّهم المفضول، فإنَّ الجاعل يبغي حظ نفسه فيما يزيده من العمل، كما أنَّ المفضول يبغي حظ نفسه، ثم الذي يقتضيه القياس أنَّا إنْ قُلْنا: لا تلحق زيادة العمل في الجعالة، فلا كلام، وإن قُلنا: إنَّها تلحق، وقد عَمِل المجعول له [بعضَ] (4) العمل الأول، فلم
__________
(1) كذا في النسختين: وهي بمعنى ظهر فوزه عليه.
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) في الأصل: " مثل ما يعد بذلك ".
(4) في الأصل: " بعد ".

(18/275)


يرض بالزيادة وأراد الفسخ، فالوجه أن يستحق على مقابلة ما عمله أجر المثل، فإنَّه ما تركَ إتمام العمل مختاراً حتى زيد عليه؛ فكان معذوراً في الفسخ، وليس كما لو عمل بعض العمل، حيث لا زيادة، ثم اختار الفسخ بنفسه؛ فإنه لا يستحق على مقابلة ما قدمه من العمل شيئاً.
11700 - ومما يتصل باستكمال الغرض فيما نحن فيه أنَّهما لو تعاقدا عقد المناضلة، ثم بدا لأحدهما أن يترك الرمي ويُعرض عنه، فإن قُلنا العقد لازم، فلا سبيل إلى الإعراض من غير اعتراض عذرٍ مانع من الرمي، وإن قُلنا المعاملةُ جائزة في وضعها، فإن كان المُعرِض غيرَ مفضول على ما سبق تفصيل المفضول، فله أن يُعرض من غير فسخٍ، وله أن يفسخ. وإن كان المُعرِض مفضولاً متهماً، فهل له الفسخ؟ فعلى قولين مبنيين على ما تقدم ذكره من أن الزيادة على القرعات هل تلحق المعاملة إذا صدرت من المفضول المتهم، وعلى هذا لو شرط في الجعالة جُعلاً لإنسان، فعمل المجعول له بعضَ العمل، وهو مقدم على إتمامه، ولو فسخ العقد الجاعل، لكان أجر مثله بمقدار عمله أقلَّ من حصة ذلك المقدار من المسمى، فانفراد الجاعل بالفسخ يُخرّج على الخلاف الذي قدمناه. وقد نجز الغرض في الزيادة في مضمون المناضلة.
11701 - فأما إذا أراد المتناضلون النقصان من القرعات أو من الأرشاق، فهذا يخرج لا محالة على التردد الذي ذكرناه في الزيادة؛ فإنَّ سبيل إلحاق النقصان بمقتضى العقد كسبيل إلحاق الزيادة، ولا يخطر للمحصّل تشبيهُ الحط في مسألتنا بإبراء البائع عن بعض الثمن؛ فإن ذلك نافذ بعدَ اللزوم، غيرُ ملتحق بالعقد، بل سبيله سبيل استيفاء الثمن؛ فإن الإبراء تصرفٌ من المستحق في الدَّيْن، وهو يجري في قيم المتلفات والعروض وحيث لا يتوقع إلحاق الزوائد، وحط شيء في هذه المعاملة من القرعات أو الأرشاق ليس في هذا المعنى، نعم لو حط من شُرط السَّبَق له قبل الفوز بالعمل المشروط، كان ذلك إبراء عن شيء قبل وجوبه، وهو في معنى ضمانه قبل وجوبه، وقد ظهر سبب وجوبه. وقد تم المراد.

(18/276)


فصل
11702 - ذكر المزني مسألة أخطأ فيها حُكماً وتعليلاً؛ فإنه قال: " لو أخرج مُخرج مالاً وقال لرامٍ: ارم عشرة، فإن كانت قرعاتك أكثر، فلك السَّبَق الذي أخرجته " (1).
قال المزني: " لا يجوز ذلك؛ لأنه ناضل نفسه "، وهذا الذي نقله عن الشافعي خطأ؛ فإنه نص على أن ذلك جائز؛ إذ لا مانع منه، والمقصود من إخراج السبَق التحريضُ على الرمي، ولا فرق بين أن يفرض صدوره عن رامٍ واحد، وبين أن يفرض عن جماعة. هذا خطؤه في النقل عن الشافعي.
وأما خطؤه في التعليل، فهو أنه قال: " لأنه ناضل نفسه "، وهذا خطأ لا شك فيه، فإنَّ الغرض أن يجدّ هذا الرامي ويحرص على تكثير القرعات، وهذه العلة التي ذكرها إنما ذكرها الشافعي في صورة أخرى، وهي أنه: لو قال: ارم عشرةً عن نفسك وعشرةً عني، فإن كانت القرعات في عشرتك أكثر، فلك ما أخرجت، فهذا غير جائز؛ فإنه قد يقصر في العشر المشروطة للمُسْبِق، فيكون مناضلاً نفسه، ولا يصح العمل على هذا النسق، فقد ظهر غلطه في الفتوى والتعليل.
وذكر العراقيون في المسألة التي ذكرها المزني وجهاً بعيداً موافقاً لمذهبه وفتواه، وقالوا: من أصحابنا من أفسد المعاملة؛ من جهة أن الكثرة التي ذكرها في القرعات مجهولة، وهذا ليس بشيء؛ فإن قوله: إن كانت قرعاتُك أكثرَ محمول على ما إذا أصاب من العشرة ستة، فتتحقق الكثرة بهذا، واللفظ صريح في اقتضاء الاكتفاء بست قرعات.
والوجه عندنا أنه إن أصاب ست قرعات وِلاءً، فقد بان أنه استحق المال، وإن لم يصب الأربعة الباقية، فلو قال: أقتصر على ما كان مني، فإني استحققت المال، وقال الشارط: استكمل العشرة؛ فإني علقت الاستحقاق بعشرة إصاباتها أكثر، فالظاهر أنا نلزمه استكمال العشرة؛ فإنَّ لفظ الشارط: " ارم عشرة "، فلا استحقاق دون رميها، والخلاف جارٍ في المسألة، على ما مهدنا من الأصول قبل.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 221.

(18/277)


فصل
11703 - لو كان يتناضل جمعٌ، فمرّ بهم مارٌّ، وقال لمن انتهت النوبة إليه، وكان على أن يفوّق ويرمي: إن أصبت بهذا السهم، فلك دينار، قال الشافعي نصّاً: " إذا رمى وأصاب استحق الدينار وتلك الإصابة محسوبة له من المعاملة التي هو فيها " وهذه المسألة لا يُؤثر فيها خلاف عن أحد من الأصحاب، وهي دالة على انقطاع هذه المعاملة عن مضاهاة الإجارة؛ من جهة أنها لو كانت بمثابتها، لاستحال أن يستحق بعمل واحدٍ مالين عن جهتين، ووجه الفصل أن سبب استحقاق الأسباق الشرطُ لا رجوع العمل إلى [الشارط] (1) وهذا يؤكد أن المعاملة إذا فسدت، فالرجوع إلى أجر المثل عَسِر، فإنَّ العامل ليس يعمل لغيره، وإنما استحق المالَ المشروط عند عمله على الشارط وفاءً بالشرط.
وقال الأصحاب قياساً على ما ذكره الشافعي: لو كان يناضل رجلاً والمشروط عشر قرعات، فشرط أن يناضل بها رجلاً آخر، ثم ثالثاً إلى غير ضبط، حتى إذا فاز بالقرعات كان ناضلاً لمن يراميه وإن تعددوا، فهذا جائز جرياً على ما مهده الشافعي، وتعليله تنزيله على موجب الشرط، وقطعه عن قياس الأعمال المقابلة بالأعواض.
ثم قال الشافعي: إذا انتهت النوبة إلى رامٍ، فأخذ يُطوّل، وقد تبرد بهذا السبب يدُ الرامي قبله، فإن قضينا بأن المعاملة جائزة، فلا اعتراض، ولا طلب على المطوّل، وإن قضينا بلزوم [المعاملة] (2) على التفصيل المقدم، فهو مطالب بالجريان على موجب العادة في الرمي بلا إرهاق ولا استعجال [في الرمي] (3) يحمله على ترك الحصافة والتأنق، ولا تطويل يخالف العادة، وهذا واضح.
__________
(1) في الأصل: " الشرط ".
(2) في الأصل: " المناضلة ".
(3) زيادة من (هـ 4).

(18/278)


فصل
في اختلاف المواقف
11704 - الرماة يقفون صفّاً في قبالة الغرض، ووضع المعاملة على استوائهم في القرب والبعد من الغرض، ولكن لا يخفى عن ذي الفطنة أن مقابل الغرض على المسامتة الحقيقية أقربُ ممن على يمينه ويساره، وبرهان هذا برسم خطوط من طرفي الصف مع رسم خط من موقف المقابل، ولا شك أن الخطوط تتفاوت، ثم ينضم إليه أن الغرض في حق المقابل أكبر، والمنحرف عن المقابلة يضيق الغرض في حقه، ولكن أجمع الفقهاء والرماة على احتمال ذلك، ولم يشترط أحد أن يتناوب الرماة على الموقف المقابل؛ فإن القيام والقعود عسر، ولو فرض تنافس في المقعد، فهو بحق، وسبيله كسبيل التنافس في البداية، بل التنافس في البداية أهون، والغرض فيها أخفى مما ذكرناه، ثم الفقه يُلحق المواقفَ بالبداية، وقد [تفصّل] (1) القول فيها.
ولو وقع التشارط على أن يكون موقف البعض أقرب حتى يتقدم، وموقف البعض أبعد، فلا سبيل إلى ذلك، كما لا سبيل إلى ذلك في المسابقة، ولو لم يشترطا هذا، ولكن أراد أحدهما أن يتقدم، مُنع، وإن رضي بذلك أصحابه، فإن كان قريباً، فلا بأس، وهذا القدر يحتمل بالرضا، لما قدمته من أن المواقف تقع متفاوتة في صف الرماة لا محالة.
ولو أفرط في القُرب ورضي بذلك مناضلوه، فهذا تفاوت لا يحتمل -وإن جوزنا إلحاق النقصان والزيادة بالعقد- لأن هذا تفاوت يخالف وضعَ العقد، وهو بمثابة ما لو وقع الرضا في أول العقد أوفي أثنائه بأن يفوز بعض المناضلين بتسع قرعات، والمشروط على كل واحد غيرِه عَشْرٌ عَشرٌ (2). فهذا غير سائغ. نعم، لو رضوا بأن يتقدموا جميعاً وينقصوا من المسافة، فهذا تغيير للعقد على معنى النقصان.
__________
(1) في الأصل: " تفسّر ".
(2) في (هـ 4): على كل واحد غيره عشر عسر (بالسين) وفوقها علامة الإهمال، وكلمة (صح) وهذا ما جعلنا لا نحملها على أنها سهو من الناسخ. هذا وجاءت (ق) تؤيد الأصل.

(18/279)


ولو كانت المسألة بحالها، فوقعت المناضلة على شرط الصحة، ثم أراد بعضهم أن يتأخر عن الموقف الثابت، فهل له ذلك، وقد زاد على نفسه؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: له ذلك، ولا معترض عليه، ووجهه بيّن؛ فإن سهمه يمر على المسافة المشروطة والزيادة عليها من شأنه.
ومنهم من قال: لا يجوز ذلك، فإن القوس الشديدة قد تتحامل على الرامي فيزهق سهمه في الموقف المشروط، وإذا بعُد انخفض السهم وحبا، فإذا كان هذا الفرض ممكناً، فليس إلا الحسم والمنع.
وعلى هذا الترتيب لو جرت المعاملة (1) على المسابقة صحيحةً، فأراد أحدهما أن يتقدم، مُنع ولو وقع الرضا به، فلا وجه له، ولو أراد أن يتأخر عن الموقف المعيّن، فعلى ما قدمناه، وقد يكون من طباع فرسه إذا تأخر ورأى متقدماً عليه أن يحتدّ يبغي إدراك المتقدم، ثم يتمادى كذلك في حُمُوَّته.
ومن أسرار هذا الفصل أن من تأخر عن الموقف في المسابقة أو المناضلة، فالباقي على الموقف المشروط في حكم المتقدم عليه، وقد ذكرنا أن التقدم ممتنع، ولكن تتميز صورة الوفاق على المنع عن صورة الخلاف بأنَّ الممنوع منه وفاقاً فيه إذا لزم قوم الموقف المشروط، فتقدّم من تقدّم، وصورة الخلاف فيه إذا لزم قوم الموقف، وتأخر باختياره من تأخر، والفرق وإن كان مُخيلاً في الظاهر، فلا فرق في الحقيقة إلا أنَّا نحتمل المقدار اليسير الذي لا يظهر لمثله أثر في الحس الظاهر بناءً على ما جعلناه قاعدة الفصل من تفاوت المواقف لا محالة، وهذا لا يفرق فيه بين التقدم والتأخر.
فصل
في المعاقدة على الأمور البعيدة
11705 - إذا وقع التناضل على ما لا يبعد مدركه، حكمنا بالصحة على وفق الشرع (2)، وإن جرى شرط لا يُدرك، فالعقد باطل، وهو بمثابة اشتراط مائة رشق مع
__________
(1) هـ 4: " المعاقدة على مسابقة صحيحة ".
(2) هـ 4: " الشرط ".

(18/280)


الإصابة في جميعها، وهذا يجري من وجوه: قد يكون سبب التعذّر كثرة القرعات، وقد يكون سببه صغر القرطاس، وقد يكون سببه طُول المسافة، فإذا اجتمعت، تناهى التعذر.
وإن كان المشروط أمراً بعيداً، ولكن قد يتفق وقوعه على الندور، ففي جواز المناضلة على هذا الوجه وجهان: أحدهما - أنها تصح لإمكان تحصيل المشروط.
والثاني - أنها لا تصح لبعد الحصول، وإنما جوز الشرع بَذْلَ المال في هذه المعاملة تحريضاً على الرمي، فإذا كان المشروط أمراً بعيد المستدرك، تبرّمت النفوس [وانخنست] (1).
ثم تعرض الشافعي لإجراء ذكر المسافة، وقال: " لو تناضلوا على المائتين "، فاختبط العراقيون في هذا على ما نَصِف ما ذكروه، ثم نذكر المسلكَ الحق الذي ذكره المراوزة، إن شاء الله تعالى.
قال العراقيون: إن زادت المسافة على ثلثمائة وخمسين ذراعاً لم يجز، وإن كانت المسافة مائتين وخمسين، فوجهان.
وهذه تحكّمات، لا أصل لها في توقيف، ولا قياس، ولا مصلحة تتعلق بالمعاملة، ولا شك في بطلانها، والمرعيُّ عند أئمتنا أن المسافة إذا كانت بحيث لا يقطعها السهم، فالمناضلة باطلة، وإن كانت بحيث يقطعها السهم، ولكن تندر الإصابة، ففي المسألة الخلاف الذي ذكرناه، وإن كانت الإصابة تقرب، فالقطع بالجواز، فأما تقدير المسافات، فلا أصل له.
11706 - ومما يتعلق بهذا المنتهى أن التناضل لو كان على بعد المسافة من غير إصابة، وهو الغَلْوة (2) واسمها بالفارسية (بَرْتاب) (3)، ففي التناضل- والمقصود
__________
(1) في الأصل: " وانحبست " بالحاء المهملة (تحتها علامة الإهمال) والمثبت من (هـ 4).
(2) الغلوة: الغاية، وهي رمية سهم أبعد ما يقدر عليه، ويقال: هي قدر ثلثمائة ذراع إلى أربعمائة، والجمع غلوات، مثل شهوة وشهوات. (المصباح).
(3) بَرْتاب: " بالباء الموحدة المفتوحة ثم راء ساكنة بعدها تاء مثناة من فوق، بعدها ألف مد، بعدها باء موحدة، ومعناها الإبعاد في الرمي على حسب قوته، لا إلى غاية معينة، وهو الذي=

(18/281)


الإبعاد- وجهان: أحدهما - الجواز؛ فإنه من الأغراض الظاهرة عند الرماة، ومن يطول أمدُ سهمه يتوصل إلى إيقاع السهم في القلاع، وإيصاله إلى مواقف الكفار وإن بعدت، وهذا ظاهر. والثاني - المنع؛ فإن التعويل على الإصابة، وإذا كان لا يتجرد إليها قصدٌ، فلا تعويل على السهم بعُد أو قرُب.
ثم إن صححنا المعاملة على هذا الوجه، فالوجه الذي أراه أنه يجب أن يستوي القوسان في الشدة، فإن التفاوت في الشدة في القوس يجر تفاوتاً عظيماً في القُرب والبُعد يخفى معه الخُرق والدراية، ويجب أيضاً اعتبار خفّة السهم ورزانته، وينتهي الأمر عند المضايقة إلى اشتراط الرماة الرمي عن قوس واحدة بسهم واحد، فإنَّ القوسين قد يتساويان في الشدة، وإحداهما تفضل الأخرى في الحدة فضلاً لا ينكر، وبالجملة امتنع من امتنع من تصحيح هذه المعاملة لما يتطرق إليها من الجهالة، ولم يشترط أحد في المناضلة على إصابة الغرض التساوي في شدة القوس. نعم، إذا أفرطت شدة القوس وجلس صاحبه على مسافة تليق بقوسه، فقد يقع صاحب القوس اللين في مثل هذه المسافة على حد البعد في الفوز، ويتصل إذ ذاك بالخلاف المذكور فيه.
ومما يجب التنبه له في طباع النُّضَّال (1) أنه يتفق فيه أمور [بعيدة] (2) عن التوقع، ولا يجري مثلها في التسابق؛ فإن البرذون البليد لا يسبق الفرس العربي النجيب، إلا عند فرض نكبة في الجواد، وقد يَفْضُل الأخرقُ في الرمي الماهرَ به، فهذا مما يجب أن يكون على الذُّكر والبال.
ومما أنشأه الأئمة من ذلك أنهما لو تناضلا على سهم واحد على أن يرمي كلّ واحد منهما فردة، فالأصح الصحة، وقال بعض أصحابنا: لا يصح ذلك، لما أشرنا إليه
__________
=يقال فيه بالعربية: غلا بالسهم غلوة إذا رمى به بقدر ما يقدر عليه " هكذا ضبطها وفسرها ابن الصلاح في مشكل الوسيط، وقال: إنها أشكلت على مَنْ لا يعرف الفارسية، ثم هي تعرّب بالفاء في أولها، فيقال: (الفرتاب) (الوسيط: 7/ 189).
(1) الضبط من (هـ 4).
(2) في الأصل: " بديعة ".

(18/282)


من سجية النضال؛ فإن الأخرق قد يصيب في تلك المرة والحاذق لا يصيب، وإذا تعددت الأرشاق، زال هذا المعنى.
فصل
11707 - هذا الفصل يشتمل على مقدمةٍ لتحزب الرماة، وهي مقصودة في نفسها، بل هي بقية أسرار الكتاب، وقد أجملناها وأحَلْناها (1) وهذا أوان الوفاء بالشرح، فنقول: إذا تسابق رجلان أو تناضلا، وأخرج كل واحد منهما سبَقاً، والتفريع على أن المُسْبق يستحق سبَق صاحبه، وهذا هو الأصح، وعليه تجري مسائل [هذا] (2) الكتاب، وَلا بد من فرض المحلِّل، وإلا (3) كانت المعاملة على صورة القمار، فإذا فرضنا محللاً، وكنا نعلم أن فرسه في المسابقة يتخلف لا محالة، وإن كنا في النِّضال عرفنا أنه لا يُفلح، فهو ليس بمحلل، والمعاملة عريّة عن التحليل.
ونص الحديث والمعنى شاهدان على ذلك، كما تقدم.
ولو أخرج رجلٌ سبَقاً، وكان يسابق أو يناضل رجلاً على أن صاحبه إن فاز، فله السبَق، وإلا أحرز المخرج ما أخرج، ولا شيء على صاحبه، فإن كان ذلك المشروط له بحيث لا يُفلح، فهذه المعاملة لا أصل لها، وهي مسابقة أو مناضلة محضة من غير مال، وإن كان المشروط له بحيث يفوز لا محالة، ففي صحة المعاملة والحالة هذه وجهان: أحدهما - الصحة؛ فإن من أخرج مالاً، وقال لصاحبه: ارمِ كذا، فإن أصبت كذا، فلك هذا المال، فذلك جائز. وإذا جاز هذا، فأقصى الأمر أن يسبق المشروط له، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأنه إذا كان يناضله أو يُسابقه، فهذه الصورة تقتضي أن يكونا (4) على حد المخاطرة، حتى يُحرِز المخرِجُ إن فاز، ويستحق عليه صاحبه إن كان الفوز منه.
__________
(1) كذا في النسختين بالحاء المهملة، مع التأكيد على إهمالها برسم حاء صغيرة أسفلها في النسختين، وزيادة علامة الإهمال أعلاها في (هـ4).
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) هـ 4: وإذا.
(5) هـ 4: "يكون".

(18/283)


ولو تسابق رجلان، فأخرجا سبَقين، وبينهما محلِّل، وكان المحلل بحيث يسبق، فالخلاف الذي ذكرناه الآن جارٍ، ولا فرقَ، ولو أخرج رجلان سبَقين، وكان أحدهما بحيث يسبق لا محالة ولا محلل بينهما، فالذي يسبق لا محالة على صورة محلل يسبق لا محالة؛ فإن الذي أخرجه لا حكم لإخراجه؛ فإنه لا يستحق عليه، وتسميتُه لاغية، ولو أخرجا سبَقين، وبينهما محلل، وكان المحلل يساوي أحد المُسْبِقَيْن، أو يدنوَ منه، والمُسْبِق الآخر يتفَسْكل لا محالة، فالمسبق السابق والمحلل في حقه محللان، والخلاف المقدم جارٍ.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه أن الّذي يقف محللاً إن كان بحيث لا يتخلف لا محالة، فلا معنى للمعاملة، وإن كان بحيث يسبق، فالظاهر تصحيح المعاملة، وفيه خلاف.
فهذا ما أردنا أن نقدمه على فصل التحزب.
فصل
في تحزب الرماة
11708 - ومعظم التناضل يقع كذلك، ونحن نصوّره، ثم نندفع في حكمه، فإذا تحرب الرماة حزبين أو أكثر على أن ما يصدر من القرعات من أحد الحزبين يكون بمثابة صدورها من رامٍ واحد، وإذا فازوا (1)، فالسبَق بينهم، فهذا صحيح، ولكن لا بد من استواء الحزبين في الأرشاق والقرعات المشروطة، ولا اعتبار بعدد الرماة، فلو كان أحد الحزبين ثلاثة، والحزب الثاني أربعة، والأرشاق مائة على كل حزب، فلا بأس، فلو رامى رجل رجلين، جاز على هذا التنزيل، فيرمي كل واحد من الرجلين سهماً، ويرمي المناضل لهما سهمين، وكذلك لو رامى رجل رجالاً على شرط أن يكون على حد الإطاقة، فإن كان لا يفي، ولو رمى، لتخلف لا محالة، فهذا يقع في النظائر المقدمة في ذلك.
__________
(1) هـ 4: " وإذا فاز فاز بالسبق بينهم ".

(18/284)


ومما ذكر الأئمة في اعتبار التعديل أنهم إذا كانوا يقتسمون الأعوان، فلا ينبغي أن يحكّموا القرعة؛ فإن القرعة تَعْدِل وتَجُور؛ فقد يجتمع الحذاق في جانب، والخُرْق (1) في جانب، بل الوجه أن يقتسموا على اعتدالٍ، فيُضَمَّ حاذق إلى أخرق، وكذا في الجانب الثاني، حتى إن أرادوا بعد ذلك القرعة، فلا بأس؛ فإن القرعة تستعمل في القَسْم بعد تعديل الحصص والأقساط، وما ذكرناه أمر كلي بَعْدُ، والبيان بين أيدينا.
[فلو] (2) تعاقدوا عقد النضال على التحزب قبل تعيين الأعوان، فالعقد باطل، لا أصل له؛ فإنه لم يرد على مَوْرِد معيّن، ولا وجه لالتزام الرماة في الذمة؛ فإنَّ الرماة هم المقصودون، فيجب أن يتعينوا، وهذا يؤكد ما ذكرناه من الرد على العراقيين في تجويزهم عقدَ المسابقة على الإطلاق، من غير إحضار الفرس.
ومما يجب الاعتناء بدركه، وبَعْدَه المسائل أن رجلين لو أخذا في النضال، وعقدا العقد، ونحن لا ندري أنهما متدانيان في الصنعة أم متفاوتان، فهذا يُبنى على أن أحدهما لو كان بحيث يفوز لا محالة، فهل تصح المعاملة؟ وليقع التفريع على الأصح، وهو الصحة، ثم نقول: التعاقد مع الجهالة بمبلغ الدراية في الرماية لم يمنعه أحد، وهكذا يكون النضال في الغالب، فلم يشترط أحد جريانه بين المعارف، ومسألة الغريب الطارق سنصفها في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى، وهي شاهدة لما ذكرناه، ثم إذا تعاقدا وبانا متدانيين، فلا كلام، وإن بانا متفاضلين، لم يخف تفصيله.
ونقول بعد ذلك: لو اجتمع أخرقون في حزب، وحذاق في حزب، فهذا كما لو رامى ناضلٌ أخرقَ، وقد مضى التفصيل فيه، ولأمثالِ هذا قدّمنا المقدمة.
11709 - ونحن الآن ننعطف على ما ذكرناه من فصل القرعة، فنقول: إن اقترعوا ثم أنشؤوا رضاً بما اقتضته القرعة، فلا بأس، ولا منع؛ فإنهم لو تحكموا
__________
(1) الخرق: جمع أخرق مثل أحمر وحمر.
(2) في النسختين: " ولو ".

(18/285)


بذلك، جاز. وإن قالوا: رضينا بما اقتضته القرعة، ثم فرض رجوعٌ عن هذا الرضا، جاز. وإن استمروا على الرضا، ولم يُنشئوا رِضاً بعد انفصال الأمر بالقرعة، فالظاهر أن ذلك الرضا غير صحيح، فإنه في حكم المعلق بما سيكون، وتعليق الرضا باطل، ولا يمتنع أن يُحتمل في معاملة مبناها على الخطر، والأوجه المنعُ، وذلك الاحتمال بعيد؛ فإنّ الخطر في مقصود العقد إن احتمل، فلا ضرورة في غيره.
ووراء ما ذكرناه تأنق في التصوير يُسقط هذا؛ فإن ذلك إن فرض بعد العقد، فالعقد باطل لما قدمناه من اشتراط نزول العقد على معينين، وإن فرض قبل العقد، فالعقد يقع على معينين، فلتكن القرعة إذا كان التراضي يقع بعدها، ومن ضرورة إنشاء العقد الرضا بالذين تقع الإشارة إليهم.
11710 - ومن أغمض ما يجب الاعتناء به في التحزب تصوير المحلِّل، فلو تحزب الرماة حزبين، وأخرج كل واحد سبَقاً، وكان مع الحزبين حزب محللون، فهذا جائز، والأحزاب كالأشخاص، وإن سبق أحد الحزبين، ولم يسبق الحزب الثاني، فجائز، وهو كما لو ترامى رجلان وأحدهما مُسْبِق دون الثاني.
ولو تحزب حزبان، وقال أحد الحزبين لواحد منهم: أنت ترمي وتستحق إن فُزنا (1)، وإن فاز أصحابنا، فلا سبَق عليك من بيننا، ونحن نغرم السبَق دونك، فهذا الشخص من هذا الحزب على صورة المحلل، والحزب الثاني أخرجوا أسباقهم، فهل يقع الاكتفاء بما صورناه؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنَّ ذلك كافٍ لوجود المحلل، والأصح - أن ذلك لا يكفي؛ فإنَّ المحلل هو الّذي إذا فاز، استبد بالأسباق، وليس الأمر كذلك في الصورة التي ذكرناها، فإن حكمها (2) أن هؤلاء الذين فيهم المحلل لو فازوا، فأسباق الآخرين موزّعة عليهم، فليس يستبدّ المحلل؛ إذاً فليس محللاً.
ولو شرط الحزب الثاني لواحد منهم ما شرطه هؤلاء، فانطوى كل حزب على
__________
(1) أي تستحق كواحد منا، والمعنى يقسم لك في الفوز، ولا يقسم عليك في الغرم.
(2) هـ 4: "حكمنا".

(18/286)


محلل، على الصورة التي ذكرناها، ففي هذه الصورة وجهان مرتّبان على الأولى، وهذه الصورة أقرب إلى الصحة، لاشتمال كل حزب على محلِّل، والوجه المنعُ؛ فإنَّ المحلل من يفوز بالأسباق، ولو شرط كل حزب [كلَّ] (1) الفوز لمحللهم، فهذا ممتنع على كل وجهٍ؛ لأنه يكون فائزاً برميٍ من غيره، ولا سبيل إلى احتمال هذا.
وقد نجز الغرض في تصوير المحلل في الأحزاب، وذكر محل الوفاق والخلاف.
11711 - ومما يليق بحكم التحزب أن أحد الحزبين إذا فازوا، فسبَقُ الآخرين مقسوم عليهم بالسوية، وإن لم يصب بعضهم شيئاً؛ فإنهم كالشخص الواحد، وعلى هذا الوجه يتفق الترامي، ولو شرط رجال كل حزبٍ أنهم إن فازوا، فالسبَق مقسوم بينهم على أعداد إصاباتهم، حتى يأخذ كل واحد من السبَق بنسبة ما أصاب، لم يجز؛ لأنه لو جُوّز يُفضي إلى أن يُتمم بعضُهم الأرشاق ولا يستحقَّ شيئاً؛ إذ لم يصب، ويكون المصيبون مستحقين بأرشاقٍ ناقصة عن أرشاق الحزب الثاني، فإذا تُصور هذا، فالمسألة محتملة مع هذا، بناءً على الغرر الذي هو عماد المعاملة، وليس يُنكِر هذا الاحتمالَ فقيه، مع أنه لا خلاف أن مطلق المعاملة مع التحزب لا يقتضي ذلك، بل يقتضي تنزيلَ كل حزب محل شخص. وإذا اتفق إحراز السبَق، فهو في العقد المطلق مقسوم على رجال الحزب الفائزين بالسويّة.
ولو تحزّبوا وتعاقدوا، فمرَّ رجلان، فاختار أحدَ الحزبين أحدُهما، واختار الحزبَ الثاني الثاني، ثم خرج أحدهما أخرقَ، والثاني حاذقاً، فلا خيار، وقد جرى التعاقد على الإبهام، فلا تتبُّعَ، ولا نقضَ، وهذا فيه إذا كانا في التحزب، فجرى ما جرى، ثم أنشىء العقدُ بعده؛ فإن هذا لو خطر بعده، لم يحتمل بحكم العقد، وخرج على الإلحاق بالعقد، وقد مضى.
ولو جرى ما وصفناه على الحد الذي ذكرناه، ثم تبيّن أنَّ أحدهما ليس برامٍ أصلاً، فقد قال الأصحاب: نتبين أنَّ ذلك الأخرق ساقط، فإذا سقط، سقط مقابله، وهذا فيه مستدرك عندي؛ فإن كان الأخرق بحيث لا يتمكن من أخذ قوس ونزع وتر، فالأمر
__________
(1) في الأصل: " على ".

(18/287)


على ما ذكرناه من السقوط، وإن كان يتمكن من نزع الوتر وإرسال السهم، ولكن كان ما اعتاد الرمي قط، ولا يُعد مثله رامياً، فهذا فيه احتمال، وقد يتطرق احتمال إلى أن مثل هذا هل يُرامَى مع العلم بحاله، فيجوز أن يقال: يُرامَى لتصوّر الرمي منه، ويجوز أن يقال: لا يرامَى؛ فإن إقدام مثله على الرمي خطر لا فائدة له فيه، وقد يجر عليه ضرراً بيّناً، فلا ينبغي أن يسوغ مثله. وقد نجز الغرض.
فصل
11712 - إذا كان يتناضل رجلان، ففضل أحدهما صاحبه بقرعات، فقال المفضول: حُطّ فضلك، ولك عليَّ كذا، فهذا لا يسوغ، سواء جوزنا إلحاق الزيادة أو منعناه؛ فإن مقابلة الفضل بالمال لا مجيز له، سواء قدرت المعاملة جائزة أو لازمة وهذا بيّن.
[فصل] (1)
11713 - إذا تعاقدا على احتساب القريب وشُرط أن يُخرج الأقربُ ما هو أبعد منه، فهذا جائز، وكذلك لو شَرطا أن تُبطل الإصابةُ القريبَ، جاز ذلك.
وإذا كان في وسط القرطاس الذي هو المطلوب علامة، فوقع التشارط على أن إصابتها تُخرج إصابة ما حواليها من القرطاس، قال العراقيون: في جواز ذلك قولان: أحدهما - لا يجوز؛ فإن من أصاب القرطاس، فقد أبلغ في الحذق، والرميُ خَوّانٌ، فقد يصيب تلك العلامةَ أخرقُ على وفاقٍ، فيحبَطُ عملُ الحذاق، وهذا يضبطه أن تكون تلك العلامة بحيث يندر قصدها، وإذا اتفقت إصابتها حملت على الاتفاق (2)، فينشأ منها الخلاف الذي ذكرناه.
__________
(1) في الأصل: " فرع ".
(2) هـ 4: " الوفاق ".

(18/288)


ثم ذكر الشافعي الصلاة في المضَرَّبة والأصابع (1) ومقصود هذا الفصل يتعلق بالصلاة والطهارة. والله المستعان.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 223 وعبارة الشافعي: " والصلاة جائزة في المضرَّبة والأصابِع إذا كان جلدُهما ذكيا مما يؤكل لحمه " والمضربة معروفة، أما الأصابع، فلعلها ما يعرف الآن بالقفاز والله أعلم.

(18/289)