نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الأيمان
11714 - الأصل في الأيمان الآيات المشتملة على ذكرها وبيان كفارتها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة: " يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة؛ فإنَّك إن أُوتيتها عن مسألة، وُكلت إليها، وإن أُوتيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإذا حلفت يميناً، ورأيت غيرَها خيراً منها، فكفّر عن يمينك ثم ائتِ الَّذي هو خير منها " (1). واليمين تحقيقُ الشيء وتقريره بذكر الله تعالى، أو باسم من أسمائه، أو بصفةٍ من صفات ذاته، نفياً وإثباتاً في الماضي، وإقداماً وإحجاماً في المستقبل.
يقول الرجل: " بالله ما دخلت الدَّار " يقرر به نفْي الدخول- ويقول: " والله لقد دخلتُ الدَّار "، فيقرر به إثبات الدخول، وفي المستقبل يقول: " واللهً لأدخُلَنَّ الدَّار "، ويقول: " والله لا أدخلُ ".
وحقيقة مذهب أبي حنيفة (2) رحمة الله عليه في تحقيق اليمين أنها تحقيق الوعد بما يكفر بضدِّه، وقيد بالوعد؛ فإنَّ اليمين على الماضي لا تنعقد عنده، ومعنى قولهم بما يكفر بضده أن قوله: والله لأفعلن كذا فيه تعظيم الرب تعالى، والإنسان يكفر بضده.
وإذا قال: إن دخلت الدَّار، فأنا يهوديٌّ، ففيه تعظيم الإسلام، والإشعار بامتناع الخروج منه، والمذكور في اليمين ضده المجتنب.
__________
(1) حديث عبد الرحمن بن سمرة متفق عليه (ر. البخاري: الأيمان والنذور، باب قول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]، ح 6622. مسلم: الأيمان، باب ندب من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير ويكفّر عن يمينه، ح1652).
(2) ر. مختصر الطحاوي: 305، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 235 مسألة 1337، المبسوط: 12618، الهداية: 2/ 355.

(18/291)


ثم إن الشافعي ذكر في صدر الكتاب (1) ما يُقسَم به، والألفاظَ المستعملة في القسم، وما يقع منها صريحاً، وما يقع منها كنايةً.
فصل
11715 - قال: " من حلف بالله تعالى أو باسم من أسمائه ... إلى آخره " (2). قال الأئمة: الألفاظ الدائرة في الأيمان تقع في أربعة أقسام، ونحن نذكرها، ونمهد قواعدها، ونوضح طُرق الأصحاب فيها، ثم إذا نجزت، نذكر مسائلَ مرسلةً في الألفاظ، ونُلحق كل مسألة بقسمٍ من الأقسام، إن شاء الله تعالى.
فالقسم الأول- إذا قال: بالله، أو قال: والله، أو ذكر اسماً آخر من أسماء الله تعالى: ما يرجع منها إلى ذاته، أو إلى صفات ذاته، أو إلى صفات أفعاله، كالخالق، والرازق، فهذا هو القسم الأعلى في ترتيب الألفاظ. قال الأصحاب: إذا نوى يميناً بما ذكره، أو أطلق، ولم ينو شيئاً، فهو حالف على التحقيق، ولو زعم أنه نوى غير اليمين، على ما سنذكر -إن شاء الله تعالى- وجهَ التورية ومحملَها (3) - فلا يُقبل ذلك منه فيما يتعلق بحق الآدمي، وهل يُقبل قوله فيما بينه وبين الله تعالى؟ قطع القاضي بأنه لا يُقبل بينه وبين الله تعالى أيضاً، وفي بعض التصانيف [ذكر وجهين في أنه هل تُقبل التورية بينه وبين الله تعالى] (4) وذكرهما شيخي على هذا الوجه أيضاً.
توجيه الوجهين: من قال: تقبل، احتج بأن التورية إذا كانت محتملةً ممكنةً، فالأصل قبولها وثبوتها باطناً، بدليل (5) ما لو قال لزوجته: أنتِ طالق، ثم زعم أنه
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 224.
(2) ر. المختصر: 5/ 223.
(3) هـ 4: "ومحلها".
(4) عبارة الأصل: " وفي بعض التصانيف في أنه هل تقبل التورية بينه وبين الله تعالى، فيه وجهان ".
(5) هـ 4: " كما لو قال لزوجته ".

(18/292)


أراد طلاقاً عن وثاق، فهو مُديَّنٌ في الباطن، وإن لم يُقبل منه ذلك في الظاهر، والطلاق أولى بالوقوع والنفوذ.
ومن نصر الوجه الثاني، احتج بأن الكفارة تتعلق باللفظ المحترم الذي أظهره، ثم خالف، وإضمار ما يخالف اللفظ لا يُسقط ما ذكرناه من إظهار اللفظ ومخالفته، وهذا لا يتحقق في لفظ الطلاق، وقد ذكر الأصوليون أن من صرّح بكلمة الردة، وزعم أنه أضمر تورية، فإنه يكفر ظاهراً وباطناً.
وذكر العراقيون في طريقهم أن من قال: " بالله لأفعلنَّ "، ثم زعم أنه أضمر " وثقت بالله "، ثم ابتدأ قوله " لأفعلن " فهذا مقبول منه، ولم يفصلوا بين الظاهر والباطن، وحق الله تعالى وحق الآدمي، وهذا زلل لا يعتمد مثله، ولا يعتد به أصلاً، ولا آمن أن يكون الخلل في نقله من ناسخٍ. هذا بيان أصل المذهب في القسم الأول.
11716 - والقسم الثاني - إذا حلف بصفة من صفات الله، فقال: وقُدرة الله، وعلمِ الله وكلامه -والصفاتُ الأزليّة [معلومة] (1) - ومن الألفاظ الملتحقة بذكر الصفات أن يقول: وجلالِ اللهِ وكبريائه وعزته، وما في معنى ذلك، مما يدل على الذات، أو على صفة أزلية من صفات الذات (2).
قال الأئمة: إن نوى الحلف بهذه الصفات، أو أطلق ذكرها، ولم ينوِ ولم يُوَرِّ، فهو حالف، وإن نوى غير اليمين وورَّى، قُبل بينه وبين الله تعالى، وهل يُقبل في حق الآدمي [ظاهراً] (3)؛ فعلى وجهين.
وإذا أطلقنا حق الآدمي، أردنا الإيلاء عن المرأة وما يُثبته لها من طَلِبة. هذه الطريقة المشهورة.
ومن أصحابنا من ألْحقَ هذا القسم بالقسم الأول في كل تفصيلٍ تقدم، وهذا
__________
(1) زيادة من (هـ 4) و (ق).
(2) في (هـ 4) ش " مما يدل على الذات، أو على صفة الذات، أو على صفةٍ أزلية من صفات الذات " وفي (ق) مثل الأصل تماما.
(3) زيادة من (هـ 4).

(18/293)


متجه؛ فإنَّه صرح بما يصح الإقسام به، وذكر صلةً تُعَدُّ صَرِيحاً في القَسَم، فلا يبقى فرق.
وذكر العراقيون طريقة ثالثة، وقالوا: إذا ذكر القدرةَ، والعلم، والكلام، وزعم أنَّه ورَّى، قُبل منه ظاهراً، وباطناً، ولو أطلق، كان حالفاً، ولو قال: وجلال الله وكبريائه، فهذا يلتحق بالقسم الأول، والفرق أنَّ الصفات التي ذكرناها متعلقة بمتعلقاتها، وقد تُطلق ويراد المتعلقات، فيقول القائل: رأيت اليوم قدرة الله تعالى، وهو يريد مقدوره، وقد لا يتحقق هذا الوجه في الجلال والكبرياء.
وهذا تخييل لا حاصل وراءه؛ فإن الإنسان قد يقول: عاينتُ كبرياء الله، كما يتجوز بمثل ذلك في القدرة وكلِّ متعلق من الصفات الأزلية.
11717 - القسم الثالث - إذا قال: أقسمت بالله، أو قال: أقسم بالله لأفعلن، أو قال: حلفت، أو أحلف، فقد قال أرباب اللسان: الجالب للباء في قول الحالف: (بالله) إضمار أقسمت، أو أقسم، أو لفظٍ في معناهما، فإذا قال: أقسمت بالله، أو قال أقسم بالله، فهذا تصريح بجالب الباء، أما حكمه في غرض الفقه، فالطريقة المشهورة أنه إذا قال: نويت بقولي: " أقسمت " إخباراً عن قسم مضى، وقصدت بقولي: " أقسم " إشعاراً بقَسَمٍ سيكون مني في مستقبل الزمان، فهذا مقبول منه ظاهراً، وإذا صدق، فلا شك في قبوله باطناً، وإن قصد إنشاء يمينٍ، كان حالفاً على التحقيق، وإن أطلق، ولم ينو شيئاً، ولو يُورِّ بالوجه الذي ذكرناه، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يكون حالفاً، ووجهه أن أقسمت صريحٌ في الماضي، وأقسم صريح في الصلاح للمستقبل؛ فلم يأت بلفظٍ صريح في الإنشاء.
والوجه الثاني - أن مطلق لفظه يمين؛ فإن العرف جارٍ مطرد باستعمال هذه الألفاظ في إرادة الإنشاء لليمين، والعرف يقيد الألفاظ المترددة.
(1 وقال صاحب التقريب: من أصحابنا من فرق بين قوله: أقسمت، وبين قوله: أقسم 1)؛ فإن قوله: أقسمت صريح في الإخبار عن الماضي لا يصلح للإنشاء،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (هـ 4).

(18/294)


وأقسم يصلح للحال والاستقبال جميعاً، وهذا بعيد، لا حاصل له؛ فإن هذا التردد كله فيه إذا أطلق ولم ينو، وإذا سلم صاحب هذا الوجه أن " أُقسم " متردد، فالتردد كافٍ في افتقاره إلى النية، ثم العرف هو المعتمد عند من يجعله يميناً في الإطلاق، وهذا يجري في " أُقسم " و" أقسمت "، وما ذكره المراوزة أنه لو قال: " أشهد بالله "، أو " شهدت بالله "، فهو كما لو قال: " أقسمت لا، و" أقسم ".
وقال العراقيون: " أشهد " و" شهدت " كناية لا تعمل من غير النية وجهاً واحداً؛ فإن الشهادة لا تستعمل في الأيمان عموماً، بخلاف " الإقسام " وما يصدر منه من صيغ الألفاظ، وهذا حسن متجه.
وذكر صاحب التقريب أن المُلاعن إذا قال في لعانه: أشهد بالله، ثم كان كاذباً، فهل تلزمه الكفارة؟ فعلى وجهين، وهما يقربان عندي من اختلاف القول في أن المُولي هل يلتزم الكفارة، ووجهُ الشبه أن الإيلاء من مقتضيات الفراق، وكأنه -في قولي- خارجٌ عن الأيمان المحضة، واللعان بهذه المثابة؛ فإنه يبتُّ النكاح، ويوجب الفراق ويوقعه، وهذا فيه إذا زعم أنه نوى اليمين، أو قلنا: مطلقهُ يقتضي اليمين إذا لم يكن تورية، ففي الكفارة ما ذكرناه.
ومن لطيف القول في ذلك أنه وإن ورّى يمكن أن يقال: الوجهان جاريان في الكفارة، فإن الألفاظ معروضة عليه في مجلس الحكم، وسنوضح أن التورية لا أثر لها في الأيمان الجارية في مجلس الحكم، إن شاء الله تعالى.
11718 - ومما يتم به مقصود هذا القسم سؤال وجواب عنه: فإن قيل: قد ذكرتم [أن الجالب للباء في الحلف إضمار أقسمت أو أقسم] (1) ثم ألحقتم قوله: " بالله " بالقسم [الأول] (2) وألحقتم قوله: " أقسم بالله " بالقسم الثالث، والصريح حقه أن يتقدم على المنوي المضمر.
__________
(1) عارة الأصل: " أن الجالب للباء في قول الحالف. أقسمت أو أقسم ".
(2) في الأصل: " الأعلى ".

(18/295)


قلنا: إذا قال: " أقسمت "، فهو موضوع للماضي، وإذا فسَّر مُطلِق اللفظ لفظَه بالإخبار عما مضى، كان التفسير منطبقاً على ما مضى، وكذلك القول في " أُقسم "، وإذا قال: " بالله "، فهذا في صريح اللغة عقد يمين في الحال لا تردّد فيه بين الماضي والمستقبل، فكأن حذف المضمر الجالب أوجب تخصيص اللفظ بالإنشاء، ثم يُفرض فيه جالب يليق بهذا الغرض، وهذا بيّن لاخفاء به، وكم من مضمَرٍ يقدره النحوي، واللفظ دونه أوقع، وهذا بمثابة قولهم: " ما أحسنَ زيداً " تقديره: شيء (1) حسّن زيداً، وهذا التقدير لو صرح به، لأفسد معنى التعجّب أصلاً، ونظير ذلك كثير، ومهما (2) أطبق العرب على مضمر يحذفونه، فذلك لاعتقادهم أن الحذف أولى في إفادة المقصود.
وحكى العراقيون نصاً عن الشافعي أنه قال: إذا قال: أقسمت بالله. أو أقسم بالله، أو أطلق كان مطلقه يميناً، وهذا غريب، ولذلك أخّرته عن ترتيب الطرق.
11719 - القسم الرابع - إذا قال: أقسمت أو أقسم، ولم يذكر المقسم به، ولم يُجرِ في كلامه اسماً معظماً من أسماء الله تعالى، فلا يكون حالفاً وإن نوى؛ فإنّ التعويل في اليمين على ذكر اسم معظم من أسماء الله تعالى، أو من أسماء صفاته، فإذا أخلى كلامه عنه، لم ينعقد يمينه وإن أضمر الحلف بالله تعالى، وقد اتفقت الطرق على ذلك، وقال أبو حنيفة (3): إذا أضمر ذكر الله تعالى، ونوى الإقسام به، وقد قال: أقسمت، كان حالفاً، وذكر العراقيون أنه لو قال: والموجود، أو الشيء، وزعم أنه أراد الرب تعالى، فلا يكون حالفاً، لأنه لم يذكر اسماً معظماً، وقد أوضحنا أن التعويل في اليمين على تأكيد الكلام بذكر اسم من أسماء الله تعالى أو صفةٍ من الصفات الأزلية.
وقد تمهدت الأقسام الأربعة، وهي القواعد.
__________
(1) هـ 4: " أي شيء حسن زيداً ".
(2) ومهما: بمعنى: وإذا.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 305، المبسوط: 8/ 126، الهداية: 2/ 457، حاشية ابن عابدين: 3/ 54.

(18/296)


11720 - ونحن نبتدىء بعد هذا ببيان المسائل الزائدة على ذكرنا، ونبدأ بتفصيل القول في الصِّلات التي يقع الإقسام بها، فنقول أولاً: الأصل في صلة القسم الباء، والجالب لها لفظ يصدر (1) من الحلف أو الإقسام أو الإيلاء، ثم الواو تخلف الباء وتبدلها، فيقول المقسم: واللهِ، والبدل لا بد وأن يقصُر عن المبدل قصوراً لا يظهر في مجاري الكلام، وقصور الواو أنه لا تتصل في القسم بالضمير بخلاف الباء، فإنك تقول به لأفعلن، ولا تقول: وه لأفعلن.
ثم أقاموا التاء مقام الواو، لأصلٍ قريبٍ من الاطراد عندهم في إقامة التاء مقام الواو؛ فإنهم قالوا: تخمة، وتراث، وتهمة، من الوخامة، ومن قولهم: ورث، والتهمة من الوهم، فلما وقعت التاء بدل البدل، ظهر قصورها، فلا تُلفَى متصلةً بغير قولهم " الله " فيقولون: تالله، قال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم عليه السلام: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الأنبياء: 57]، فإذا قال القائل: تالله، فالذي نص عليه هاهنا أنه بمثابة قوله بالله ووالله، وهذا ما نص عليه في الإيلاء أيضاً. ونص في القسامة على أنه ليس بيمين.
فمن أصحابنا من جعل في المسألة قولين: أصحهما - أن التاء كالباء، والواو، والثاني - أنها ليست صريحاً؛ لأن العادة لم تجر باستعمالها، وقال المحققون: نقطع القول بأن قوله تالله كقوله بالله، فإن الضِّلتين في هذا الاسم مستويتان باتفاق مذاهب العرب، وما ذكره في القسامة محمول على تصحيف القراء والناسخين، وفي كلام الشافعي ثَمَّ ما يدل على هذا؛ فقد (2) قال الشافعي رضي الله عنه: " يا الله " لا يكون يميناً، ثم قال في سياق الكلام: وليس بيمين بل هو دعاء، وأراد بالدعاء النداء، ولا يتجه إلا ما ذكرناه (3)، فإن جرينا على قطع القول -وهو الأصح- فلو قال القاضي
__________
(1) يصدر: أي يشتق. وفي (هـ 4): لفظُ مصدرٍ.
(2) هـ 4: " قيل ".
(3) زاد الغزالي في تعليل الخطأ في نقل كلام الشافعي، فقال: " أو أراد ما إذا قال القاضي: قل: " بالله " فقال: "تالله" لا يكون يميناً، ويجري ذلك في كل صيغة ". (ر. البسيط: جزء6 - ورقة: 40 شمال).

(18/297)


لمن يستحلفه: قل بالله، فخالفه وقال: تالله، قال الأصحاب: لا يحسب ما جاء به، واليمين معروضة عليه بعدُ، وليس هذا من جهة أن التاء في هذا الاسم لا تقوم مقام الباء، ولكن السبب فيه أنه خالف القاضي، وحق المستحلَف أن يحلف على موافقة الاستحلاف.
ولو قال القاضي: قل بالله، فقال: بالرحمن، لم يكن حالفاً حلفاً محسوباً، لما ذكرناه. ولو قال: قل بالله، فقال: والله، فهذا لم أجد له ذكراً، وفيه تردد؛ من جهة أن الواو والباء لا يكادان يتفاوتان في مجاري الكلام. وهما متساويتان في الظهور.
ولا يمتنع ألا يُجعل حالفاً؛ من جهة المخالفة، كما لو استعمل التاء، والعلم عند الله تعالى.
ولو قال: قل بالله العلي الذي لا إله إلا هو، فقال المستحلف: بالله واقتصر، فهل يكون ناكلاً عن اليمين؟ فيه خلاف سيأتي في موضعه، إن شاء الله تعالى، وسبب الخلاف أنه وافق في الحلف بالله، وامتنع عما بعده مما يُعدّ تغليطاً في اللفظ.
وإن قلنا: تالله بالتاء ليست بمثابة قول القائل بالله بالباء، فالمراد أن هذا يلتحق بالقسم الثالث، وهو إذا قال: أقسمت، أو أقسم بالله، وهذا ضعيف لا وجه له، وما تكلفه بعض الأصحاب من ندور هذه الصلة في الاستعمال، فهو غاية الإمكان.
11721 - ولو قال: الله لأفعلن، فهذا يُذكر على وجوه: منها أن يقول: اللهُ بالرفع، فيقع الاسم المعظم مبدوءاً به، وليس معه صلةُ قسم، والجواب أنه لا يكون حالفاًَ إلا أن ينوي الحلف، ولو أطلق لا تكون يميناً.
ولو قال: اللهِ، بخفض الهاء، فلو نوى اليمين، كان يميناً، ولو أطلق، فوجهان، وظاهر النصّ يشير إلى فرض المسألة في الرفع، ولذلك قال: لا يكون يميناً إلا أن ينويها، ثم قال: لأنه كلام مبتدأ، وهذا إنما يتجه في الرفع، فإذا خفض، أشعر بالصلة الخافضة وإن لم يأت بها، وقد تفعل العرب ذلك، ولسنا نطوّل بذكر الشواهد فيها.

(18/298)


ولو قال: اللهَ بنصب الهاء، فإن نوى اليمين، كان يميناً وإن أطلق، فوجهان مرتبان على الخفض، والأَوْلى هاهنا أن يكون يميناً في الإطلاق، ومن صار إلى أنه يمين في الإطلاق حمل النصبَ على نزع الخافض، وهذا غير متجه، وقد نطقت العرب بهذا أيضاً.
11722 - ولو قال بلّه، يأتي بلامٍ مشدّدة، ولم يأت بعدها بألفٍ؛ فالذي ذكره معناه الرطوبة (1) [وصورتها بلّه] (2) وليس ذاكراً اسمَ الله، وكان شيخي يقول: إن نوى يميناً، كان يميناً، وحُمل حذف الألف على اللحن، وهذا يعضده جريانه على الألسنة على هذا الوجه على ألسنة المحصلين، فضلاً عن العوام، وقد يستجيز العرب حذفَ الألف في الوقف؛ فإن الوقف يقتضي إسكانَ الهاء، فيجتمع ساكنان، وقد يستجيز العرب حذف أحدِ الساكنين، والوجه الإتيان بالألف؛ فإن اجتماع السّاكنين في الوقف سائغ.
ولو قال: وحقِّ الله تعالى أو قال: وعظمةِ الله تعالى، فقد تمهد تفصيل المذهب في الحلف بصفات الله، ولا يخفى أنه لو قال: وخَلْق الله وإحياء الله، ورزق الله تعالى، فليس حالفاً لأنه أقسم بخلق، والخلق والمخلوق واحد.
ولو قال: وحقِّ الله، فالذي صار إليه أئمة المذهب أن ذلك كناية؛ فإن قوله:
وحق الله متردد بين الواجبات التي تجب لله تعالى على عباده وبين استحقاقه الألوهية، وموجب التردد الالتحاق بالكنايات، وإنما تردد القول في هذا اللفظ مضافاً، وإلا فالحق من أسماء الله تعالى، وأبعد بعض أصحابنا، فألحق قولَه: وحقِّ الله بالحلف بصفات الله تعالى، وهذا لا أصل له.
وإذا قال: وعظمة الله، فالأصح أنه بمثابة الحلف بصفات الله تعالى، ومن أصحابنا من نزّله منزلة قوله " وحق الله تعالى "، وهذا لا اتجاه له، ومتعلق (3) هذا
__________
(1) الرطوبة: أي من البلل.
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) هـ 4: " ولكن يتعلق هذا القائل ".

(18/299)


القائل أن الشافعي جمع بين قول القائل: " وحق الله تعالى " وبين قوله: " وعظمة الله ".
وإذا قال: " وحرمة الله "، فقد قال بعض الأصحاب: هو كقوله: " وحق الله " ومال طوائفُ من المحققين إلى أنه بمثابة الحلف بصفات الله تعالى.
11723 - ولو قال: " لعمرُ الله " فهذا مما اختلفوا فيه أيضاً، فمنهم من جعله إقساماً ببقاء الله تعالى، فيلتحق بالإقسام بصفات الله تعالى، ومنهم من جعله كناية.
وكان شيخي يفصل بين أن يقول: وعَمرُ الله وبين أن يقول: لعمرُ الله، ويقول: الصلة المشهورة في القَسَم الواو، والباء، واللامُ في قولهم لعمرُ الله ليس من صلات القسم، حتى قال أهل التحصيل (1): تقدير الكلام إذا حمل على القسم أن يقال لعمرُ الله ما أُقسم به، وهذا التفصيل حسن.
ومن أصحابنا من ألحق اللفظين بالكناية: ما يستعمل بالواو وما يستعمل باللام؛ لأن العَمْر بمعنى البقاء ليس بالشائع.
ولو قال: " وايم الله " فهذا مما اختلف الأصحاب فيه؛ فذهب طوائف إلى أنه يلتحق بالحلف بصفات الله تعالى؛ فإن قوله " ايم الله " [أصله] (2) أيمن الله، والأيمن جمع اليمين، فكأنه قال: حلفت بالله، وغلا غالون؛ فقالوا: هو كما لو قال: بالله؛ فإن هذا شائع مستفيض في العرف، ولا معنى له إلا ما ذكرناه.
ومن الأصحاب من ألحقه بالكناية.
__________
(1) أهل التحصيل: هم النحاة كما صرح بذلك الغزالي في البسيط.
وقد علق ابن الصلاح على مسألة (عمر الله) قائلا: " وجه من قال: إنه كناية: أنه ليس من الشائع في العرف استعماله في صفة البقاء، لأنه ليس فيه شيء من أدوات القسم. وتقرر في علم العربية أن تقدير (لعمر الله): ما أقسم به، أو قسمي، أو نحو هذا، وليس ذلك الوجه بشيء؛ فإن استعماله في القسم شائع في لسان العرب، حذف الخبر منه تخفيفاً؛ لكثرة الاستعمال، كما حذف في قولهم: (بالله) الفعلُ، وهو: (أحلف)، أو (أقسم). والله أعلم ". (ر. هامش الوسيط: 7/ 207).
(2) في النسختين: صلة. والمثبت من البسيط للغزالي. وأيدته (ق).

(18/300)


ولو قال: " عليّ عهد الله " أو قال: " وعهد الله "، فهذا كناية محضة باتفاق الأصحاب.
11724 - ومما بقي من الكلام في الألفاظ أنه لو ذكر اسماً من أسماء الله تعالى لا يختص به كالعليم والرحيم والجبار، فقد كان شيخي يقول: في القلب من هذا شيء، ثم كان يميل إلى أنه كناية، وليس كقوله: والموجود؛ فإنه ليس من أسماء الله تعالى، ولا تعظيم في لفظه، وألحق بما ذكرناه ما لو قال: والحقِّ؛ فإنه مشترك، وإن ذكر في أسماء الله تعالى.
وقد نجز الكلام في ألفاظ الأيمان تمهيداً أولاً، وتفريعاً لآحاد المسائل.
فصل
قال: " ومن حلف بغير الله تعالى، فهو يمين مكروهة ... إلى آخره " (1).
11725 - يكره الحلف بغير الله، فلا ينبغي أن يقول من يريد تأكيداً: " وحق محمد، والكعبة " وما أشبه ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان حالفاً، فليحلف بالله أو فليصمت " (2) وروي " فليسكت " وقال عمر رضي الله عنه سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي فقال: " ألا إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " (3) فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي العُشَراء: " وأبيك لو طعنت في خاصرته لحل لك " (4) قلنا: جرى هذا في كلامه صلى الله عليه وسلم من غير قصدٍ كما يقول الواحد منا: لا والله وبلى والله من غير أن يجرد إلى الحلف قصداً.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 223.
(2) حديث " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " متفق عليه من حديث عمر رضي الله عنه (البخاري: الأيمان والنذور، باب لا تحلفوا بآبائكم ح 6647، مسلم: الأيمان باب النهي عن الحلف بغير الله تعالى ح 1646).
(3) حديث " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " هذا جزء من حديث عمر السابق.
(4) سبق هذا الحديث في الصيد والذبائح.

(18/301)


ثم قال الشافعي في الحلف بغير الله: " أخشى أن يكون معصية " فتردد أصحابنا، فقال قائلون: هذا ترديد قولٍ من الشافعي، وقد يشهد لكونه معصية مطلق قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم " والأصح القطع بأنه مكروه وليس بمحرّم، ولفظ الشافعي محمول على مبالغات المتحرجين.
11726 - ومما ألحقه الأصحاب بذلك أن قالوا: الاستكثار من اليمين بالله تعالى من غير حاجة مكروه، ولفظ الشافعي: " وأكره الأيمان على كل حال " قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، فلا ينبغي أن يحلف إلا عند حثّ على طاعة الله أو زجر عن معصية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لأغزون قريشاً".
فصل
قال: " من حلف على يمين، فرأى غيرها خيراً منها ... إلى آخره " (1).
11727 - مذهبنا أن الأيمان لا تغير الأشياء عن موضوعها وحقائقها، فالمحظور على الحظر، والواجب على الوجوب، والمندوب على الندب، وسنذكر في المباح كلاماً شافياً، إن شاء الله تعالى. وقاعدة المذهب أن الأيمان لا أثر لها في تغيير الأحكام.
وأما أبو حنيفة (2) رحمة الله عليه، فإنه صار إلى أن الأيمان إذا انعقدت، أثرت وغيرت حتى انتهى إلى أن من قال: والله لا أصلي، فقد حرمت الصلاة عليه وإن كانت واجبة شرعاً، فهي مفروضة محرمة، ولو حلف ليكفرن، قالوا: وجب ذلك، وبنى على هذا الأصل مسائلَ: منها التكفير قبل الحنث مَنَعه؛ مصيراً إلى أن اليمين مُحرِّمة مانع من الحنث، والمانع من الشيء لا يوجب ما يوجبه ذلك الشيء.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 223.
(2) ما قاله الإمام عن تأثير الأيمان عند الأحناف وأنها إذا انعقدت أثرت وغيرت موجود عند الأحناف، ولكن لم نر الصلاة مثالاً على ذلك، كما ذكر الإمام (ر. المبسوط: 8/ 134، 139، مختصر الطحاوي: 305، 316، مختصر اختلاف العلماء: مسألة 1343، الهداية: 2/ 376).

(18/302)


ومما بناه على ذلك قوله: لا ينعقد اليمين الغموس، لأن شأن اليمين أن تؤثر، وما انقضى لا يقبل التأثير، فلا تنعقد اليمين عليه، وقال بناء على ذلك: إذا قال: حرّمت هذا الطعام، التزم الكفارة، كما لو قال: والله لا آكل هذا الطعام؛ فإن مقتضى اللفظين التحريم، وحَكَم بأن من قال: إن دخلت الدار، فأنا يهودي فهو كما لو حزم دخول الدار على نفسه، وزعم أن يمين الكافر لا تنعقد، لأنه لا يخاطب بالتحريم الشرعي.
وعندنا اليمين لا يحرِّم ما ليس محرّماً، ولا يحلل محرماً، ثم إذا حلف لا يفعل طاعةً، فعلها، ولا يخفى موجَب الحنث، والندب لا يزول بسبب يمينه.
11728 - ولو عقد يمينه على مباح، فكيف السبيل فيه؟ حاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أن الأَوْلى ألا يُقدّم على ذلك المباح؛ فإن اليمين على حالٍ محترمة، فتحقيقها، وتصديقها والمحلوف عليه مباح أقرب إلى التعظيم، وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يرشد إلى ذلك؛ فإنه قال: " أما إني لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير " (1) فخصص صلى الله عليه وسلم حلّ اليمين بما لو كان حَلُّها خيراً وطاعة، مثل أن يحلف لا يتصدق، فدل مفهوم الحديث على أن الحَلَّ إذا لم يكن طاعة، فلا ينبغي أن يختاره ويؤثره الحالف (2).
وقال العراقيون: ينبغي أن يحنث نفسه وهو محثوث على ذلك، ليتبين أنه بيمينه لم يغير حكمَ الله تعالى، وقد يشهد لهذا صدر سورة التحريم قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: 1]، ثم استحثه على الحل، فقال تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]، وهذان الوجهان متناقضان الأول لصاحب التقريب، وهو اختيار الصيدلاني، والثاني للعراقيين قطعوا به، وهو اختيار شيخي.
وذهب (3) ذاهبون إلى أنا لا نحث على الحَل، ولا ننهى عنه، ونرى المباحَ مباحاً كما كان، وقد أشار القاضي إلى هذا، فقال: المباح بعد اليمين مباح، ولو كرهنا
__________
(1) هـ 4: " بما إذا كان كلها خيراً وطاعة ".
(2) هذا هو الوجه الثاني من الأوجه الثلاثة.
(3) هذا هو الوجه الثالث من الأوجه الثلاثة.

(18/303)


الإقدام [عليه] (1)، لما بقي مباحاً، وهذا يعضَّدُ بالقاعدة الكلية في أن الأيمان لا تغير الأحكام.
ثم اتفق الأصحاب على أن من حلف عن الامتناع مما يقتضي الشرع الامتناعَ عنه، فلا تستحثه اليمين على المخالفة، وإنما التردد فيه إذا كان متعلَّق اليمين مباحاً، وأفرط العراقيون فذكروا وجهاً أن اليمين تستحث على الهجوم على ما يكون مكروهاً لولا اليمين، ومثال ذلك: أنا نكره دخول بلدة فيها بدع وأهواء، فلو قال: والله لا أدخل بلدة فيها بدع، قالوا: فنؤثر له في وجهٍ أن يدخل بلدة كذلك، وذكروا وجهاً أنه لا يدخلها، والوجه القطع بأنا لا نحمله على أن يدخلها ويبقى المكروه مكروهاً كما كان، والتردد الذي ذكره العراقيون على نهاية الفساد.
فصل
قال: " ولو قال: والله لقد كان كذا وكذا، ولم يكن، أثم وكفَّر ... إلى
آخره" (2).
11728/م- أراد بذلك اليمين الغموس، وهي اليمين المعقودة على ماضٍ نفياً كان أو إثباتاً، فاليمين منعقدة عندنا، على معنى أنها توجب الكفارة، ولم نعن بانعقادها أنها تنعقد انعقاد العقود ثم تنحل، وهذا يُستقصى في الخلاف. وقال أبو حنيفة: ليس على صاحب اليمين الغموس إلا المأثم.
11729 - ثم قال الشافعي: ولو قال: " أسألك بالله، أو أعزم عليك بالله، لتفعلنّ ... إلى آخره " (3) إذا قال لواحدٍ: أقسم عليك بالله، أو أحلف عليك، فإن أراد عقد اليمين على صاحبه، لم ينعقد عليه، ولغا، وإن أراد به المناشدة لتقريب غرضٍ، فالذي جاء به ليس بيمين، وإن أراد أن ينعقد اليمين في حق نفسه، انعقدت
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 5/ 223.
(3) ر. المختصر: 5/ 224. وفي النسختين: أو أقسم عليك بالله لتفعلن ". والمثبت نص عبارة المختصر.

(18/304)


اليمين في حق نفسه، وإذا أطلق اللفظ، فمطلق اللفظ محمول على المناشدة، فلا يكون يميناً.
ثم عقد المزني باباً في الاستثناء عن اليمين، وقد استقصيناه تمهيداً وتفريعاً على أحسن الوجوه في الطلاق، فلا نعيده.
***

(18/305)


باب لغو اليمين
قال: " لغو اليمين ما يجري على لسانه ... إلى آخره " (1).
11730 - قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225]، أراد ما قصدت قلوبكم، وقال تعالى في سورة المائدة [89]: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ} وعقّدتم بالتشديد والتخفيف، والمعنى القصد أيضاً، فلغو اليمين عندنا ما يجرى في أثناء اللِّجاج، كقول القائل: لا والله، وبلى والله، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " لغو اليمين قول الإنسان لا والله وبلى والله " (2) وهذا الباب على صغر حجمه يحتاج فيه إلى ثَبَت؛ فإن مثل هذا لو كان طلاقاً، لوقع الحكم بوقوعه، وكذلك لو جرى العِتاق على هذا الوجه، جرى الحكم بنفوذه، وليس القائل لا والله على خبل، أو في حال زوال عقل، وليس يلتف لسانه، فيجري بهذه الكلمة من غير قصد.
وقد نصّ الشافعي وأجمع الأصحاب على أن لغو اليمين ما يُجريه الإنسان في أثناء الكلام في هيْج غضب أو احتدادٍ في لجاج، فيقول: لا والله وبلى والله، والوجه في ذلك أن الناس يجرون أمثال ذلك إجراءً عامّاً، ولا يجردون القصدَ إلى عقد يمين،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 225.
(2) حديث عائشة " لغو اليمين .. لا والله، وبلى والله " رواه أبو داود، والبيهقي وابن حبان من حديث عطاء بن أبي رباح عنها مرفوعاً، ورواه البخاري والشافعي ومالك وعبد الرزاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفاً، وقد صحح الدراقطني الوقف. (ر. البخاري: التفسير، تفسير سورة المائدة، باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225]، ح 4613، الموطأ: 2/ 477، الأم: 7/ 242، أبو داود: الأيمان والنذور، باب لغو اليمين، ح 3254، البيهقي: 10/ 49، مصنف عبد الرزاق: 8/ 474 ح 15952، صحيح ابن حبان: ح 4318، معرفة السنن والآثار: ح 5804، التلخيص: 4/ 308 ح 2501).

(18/306)


ولكنهم يتكلمون به اعتياداً من غير قصد في عقد يمين، وما جرى اعتيادٌ بإجراء الطلاق والعِتاق.
والباب مُدار على ما يصدّقه العرف، فلو ادعى مطلِق اللفظ في الطلاق أنه أجراه لغواً، فالظاهر يكذبه، ومن كذبه الظاهر، لم يصدَّق، واللفظ صريح في وضعه، حتى لو جرى ممن يقول لا والله ما يدل على قصده في اليمين، فالذي جاء به ليس لغواً.
وخرج من مجموع هذا أن اللغو هو الذي يجري من غير أن يخطر فيه عقدُ اليمين، والجريان فيه على هذا الوجه عامّ.
***

(18/307)


باب الكفارة قبل الحِنث
قال الشافعي: " ومن حلف على شيء، وأراد أن يحنث، فأحبُّ إلي لو لم يكفر حتى يحنث ... إلى آخره " (1).
11731 - ما ذهب إليه أئمة المذهب أن الكفارة لا تجب قبل الحنث، وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من قال: تجب الكفارة باليمين، ووقتُ إخراجها الحِنث، وهذا كلام سخيف، لا يجوز عدُّه من المذهب، على أنه لا جدوى فيه ولا فائدة، وهو هجوم على المخالفة.
ثم من حلف وأراد التكفير قبل الحِنْث، نُظر: فإن كان التكفير بمالٍ، فالحنث لا يخلو: إما أن يكون محظوراً، وإما أن لا يكون محظوراً، فإن لم يكن محظوراً، فالتكفير قبل الحنث جائز مجزىء عندنا، وإن كان محظوراً محرماً، مثل أن يقول: والله لا أشرب الخمر، فإذا أراد التكفير قبل الحِنث، ففي إجزائه وجهان: أقيسهما - الإجزاء، طرداً للقياس.
ومن أصحابنا من قال: لا يجزىء التكفير قبل الحنث في هذه الصورة؛ لأن الحكم بتجويزه يُشابه تثبيت ذريعة إلى الإقدام على المحظور؛ والأول أصح؛ لأن الحظر في الفعل ليس من [حَيْثُ] (2) اليمين، ولكنه محظور في نفسه، فإذا وقع النظر في اليمين وكفارتها، ولم نجد لليمين أثراً في اقتضاء التحريم، فكما لا يتغير المحلوف عليه باليمين، لا يتغير حكم اليمين بالمحلوف عليه.
11732 - والذي ذهب إليه أئمة المذهب أن الحالف لو أراد التكفير بالصوم قبل الحنث لم يجزئه ذلك، بخلاف التكفير بالمال؛ فإن الصوم من العبادات البدنية،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 225.
(2) في الأصل: " جنس ".

(18/308)


والمقصود بها امتحان الأبدان، فيجب اتباع موارد النصوص فيها تأقيتاً وقدْراً، وكيفيةً، فلذلك لا يجوز تقديم الصيام المفروض على وجوبه، ويجوز تقديم الزكاة على وجوبها بحولان الحول.
وذكر الخلافيون وجهاً في تجويز تقدم الصوم على الحنث، وهذا متجه بعضَ الاتجاه تعلقاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " فليكفر عن يمينه، ثم ليأت الذي هو خير"، ولم يفصل رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التكفير بالمال وبين التكفير بالصوم، وما ذكره بعض المصنفين من أن الكفارة تجب باليمين نفسِه يؤكد هذا، ومن نظر في تصاريف كلام نقلة المذهب، اطلع على رمزهم إلى ما حكاه الخلافيون، ولكن المذهب المعتمد ما قدمنا ذكره، وهو معتضد بترتيب الصوم في كفارة اليمين على الخصال المالية، ومعنى ترتبه عليها ألا يتحول المكفر إليه ما لم يتحقق عجزه عن الخصال الثلاث، وإنما يتحقق العجز عند وجوبها، فإذ ذاك يستبان العجز والقدرة.
11733 - والصائم في نهار رمضان إذا قدّم التكفير ثم واقع، فالمذهب المبتوت أن الكفارة لا تقع الموقع، كذلك القول في المُحْرِم إذا قدم كفارةً على موجِبها، ولا فرق بين أن يكون التكفير بالمال وبين أن يكون بالصوم، وذكر أئمة المذهب في المناسك وجهين آخرين مع ما ذكرناه.
فتجمع مما نقلوه ثلاثةُ أوجه: أحدها - المنع، كما قدمنا، والفرق بين هذه الكفارات وكفارة اليمين أن الإحرام ليس سبباً خاصاً في الكفارة، وكذلك الصيام، بل الإحرامُ والصيام بالإضافة إلى الكفارات عند ارتكاب المحظورات بمثابة الإسلام في التزام الأحكام، والدليل عليه أن الكفارة في لسان الشرع منسوبة إلى اليمين قال الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، وفي قوله: {إِذَا حَلَفْتُمْ} إشعار بأن التكفير جائز كما (1) تحقق الحلف؛ فإنه عزّ من قائل لم يقل: " إذا حنثتم ".
والوجه الثاني - أن تقديم الكفارة جائز في الإحرام والصيام، قياساً على كفارة اليمين.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.

(18/309)


والوجه الثالث - أن موجِب الكفارة إن كان بحيث يجوز الإقدام عليه لحاجةٍ، فتقديم الكفارة عليه جائز، وهذا بمثابة حلق الرأس لأجل الأذى، أو لبس المخيط للضرورة الملجئة إليه في برد شديد أو مكاوحة (1) قمال (2).
وكان شيخي يقول: المذهب المعتمد تجويز التكفير قبل الحِنث بالمال، وذكر الخلافَ فيه إذا كان الحِنث محظوراً، والمذهب القطع بمنع تقديم الكفارة في الإحرام والصوم إلا إذا كان موجِبُ الكفارة سائغاً، ففيه الخلاف، وكان يقول: إذا جوزنا تقديم الكفارة في الإحرام مثلاً عند جواز الإقدام على موجِب الكفارة، فلو كانت الكفارة على التخيير لا يترتب الصوم فيها على المال، فعند ذلك يظهر تخريج الخلاف في تقديم الصوم أيضاً وكأنَّ منع تقديم الصوم في كفارة اليمين معلل بعلتين: إحداهما- أنه بدني، والثانية - أنه مترتب، فإذا فقد أحد المعنيين، ظهر جريان الخلاف، فهذا ما أردنا أن نذكره.
11734 - ولو جرح رجل رجلاً، وكان المجروح لما به (3)، أو لم يكن كذلك، ولكن اتفق سريان الجرح إلى زهوق الروح، فلو قدم الجارح الكفارةَ على زهوق الروح، فالذي قطع به الأصحاب تجويز ذلك؛ فإن الجرح سبب ظاهر، وقد نسميه
__________
(1) كاوحه: قاتله (المعجم).
(2) هـ 4: قتال. وهو تصحيف واضح. وقِمال: جمع قملة مثل نملة ونمال، ولم أر هذا الجمع منصوصاً في المعاجم. والله أعلم بالصواب.
(3) هكذا تماماً في النسخ الثلاث، وهي كلمة بمعنى " محتضراً " وإخالها: " وكان المجروحُ منزولاً به " فقد عبر بها إمام الحرمين عن معنى الاحتضار، فقد روى البخاري حديثاً عن نافع أن ابن عمر ترك الجمعة، وذهب إلى سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل -وكان بدرياً- لما بلغه ما به من مرضٍ؛ فعدّ إمامُ الحرمين ذلك من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة قائلاً: لأن ابن عمر كان يطَّيب للجمعة، فتركها وذهب إلى سعيد بن زيد بن عمرو لما بلغه " أنه منزولٌ به، هذا، وقد مرّ هذا اللفظ (لما به) بهذا الرسم تماماً عدة مراتٍ من أول ربع الجراح، ودائماً كان يأتي في هذا السياق مؤدياً هذا المعنى.
فهل من المعقول أن يتصحف هذا اللفظ في هذه المواضع كلها، وفي أكثر من نسخة، ومن بينها نُسخ في غاية الصحة؟؟ أم أن للفظ بهذه الصورة قراءة صحيحة لم نلهم إياها؟ الله أعلم.

(18/310)


قتلاً، وقال الشيخ أبو علي: من أصحابنا من خرج تقديم الكفارة على زهوق الروح على الخلاف الذي ذكرناه في تقديم الكفارة على السبب المحظور في الحنث، وهذا لا اتجاه له؛ فإن وقوع القتل ليس فعلاً مبتدأً يوصف بالحظر، وإنما يتعلق الحظر بالجرح الذي سبق الإقدام عليه، وقياس ما ذكره الشيخ أنه لو حلف: لا يقتل فلاناً، ثم جرحه، وقدّم تكفير اليمين على وقوع الزهوق، فيُخرَّج إجزْاء الكفارة على الوجهين، وهذا بعيد.
وأحسن الطرق في ذلك ما كان يذكره شيخي قال رضي الله عنه: يجوز تقديم التكفير على زهوق الروح مذهباً واحداً إذا كان التكفير بالمال، وهو الإعتاق، وإن أراد تقديم الصوم، ففي المسألة وجهان مع جرياننا على أن الصوم لا يقدم على الحنث، وكان يبني الوجهين في التكفير بالصوم في مسألة الجَرْح على الخلاف الممهد في أن صفات الكفاءة إذا ثبتت بعد الجرح قبل زهوق الروح، فهل يجب القصاص؟ وقد مهدنا (1) ذلك في كتاب الجراح عند ذكرنا طريان الإسلام والحرية بعد الجرح قبل الزهوق، وهذا حسن متجه، ولا يبعد في مثل ذلك مذهبُ التبيّن عند وقوع الزهوق، حتى نقول: نتبين وجوبَ الكفارة قبل الزهوق.
ومما يتصل بهذا المنتهى الظهارُ والعود، والذي رأيته للأصحاب أن الظهار والعود بمثابة اليمين والحنث في كل تفصيل، والأمر على ما ذكروه، والذي يحقق ذلك أن الكفارة منسوبة إلى الظهار، كما أنها منسوبة إلى اليمين.
11735 - ثم عماد المذهب بعد ذكر المسائل من طريق المعنى أن اليمين سبب خاص في إيجاب التكفير، والتكفير معزيٌّ إليها، كما أن الزكاة معزيّة إلى المال؛ فتقديم الكفارة على الحنث بعد اليمين كتقديم الزكاة على حولان الحول بعد انعقاد الحول، ولا يخفى أن التكفير قبل اليمين غيرُ معتدّ به، كما أن الزكاة قبل كمال النصاب، أو قبل ملك المال أصلاً غير معتدٍّ بها.
__________
(1) في (هـ 4): ذكرنا.

(18/311)


11736 - وقد تفرقت مذاهب العلماء في الزكاة والكفارة، فجوز أبو حنيفة (1) تعجيلَ الزكاة، ومنع تقديم الكفارة على الحِنث وعكس مالكٌ (2) الأمرَ، فمنع تعجيل الزكاة، وحمل ما ورد فيه على استقراض الإمام من أرباب الأموال، وجوز تقديم التكفير للخبر الصحيح، وقد نقل الأثبات استسلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة، وجوز الشافعي التقديم في البابين، ثم قال الفقهاء: من عجّل الزكاة، ثم تغيرت حال آخذها، فقد لا تقع الزكاة موقعها، والأمر في الكفارة على هذا النحو، فلا فرق بين البابين.
ولا وجه لإعادة تلك التغايير، فإنها عويصة، وقد جرت على أحسن مساقٍ في كتاب الزكاة.
ثم ذكر الشافعي باباً في الحلف بالطلاق على ألا يتزوّج على امرأته، وليس هذا من مقاصدنا، وأبان أنه إذا تزوج عليها وهي رجعية، كان كما لو تزوج عليها قبل الطلاق. ومقصود الباب مذكور في قواعد الطلاق.
...
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 307، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 246 مسألة 1350، المبسوط: 8/ 147، الهداية: 2/ 358.
(2) للمالكية في المسألة -كما ذكر القاضي عبد الوهاب- روايتان، إحداهما الجواز، والأخرى المفع. انظر: الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 884 مسألة 1750، عيون المجالس له: 3/ 996، مسألة 699، القوانين الفقهية لابن جزي: 163، 164، الكافي لابن عبد البر: 198.

(18/312)


باب الإطعام في الكفارة
11737 - جرى الشافعي رضي الله عنه في كفارة اليمين على ترتيب ذِكْرِها في كتاب الله تعالى، وقد قال تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، الآية وكفارة اليمين مختصة بمزية لا توجد في غيرها من الكفارات، وهي الاشتمال على التخيير والترتيب؛ فإن الكفارات سوى هذه منقسمة: فمنها ما يبنى على التخيير، ومنها ما يبنى على الترتيب، وكفارة اليمين فيها تخيير؛ فإن الحالف يتخير بين الإطعام والكسوة والإعتاق، وفيها ترتيب؛ فإنه لا يعدل إلى الصيام ما لم يتحقق عجزه عن الخلال الثلاث، ثم وجد الشافعي الإطعام مبدوءاً به، وبعده الكسوة وبعدها الإعتاق، وبعد الخلال الثلاث الصوم على صيغة الترتيب؛ فخاض في الطعام، وأعاد مسائله، وقد استقصينا جميعها، فلا فرق إلا أن الأمداد عشرة هاهنا، وهي ستون في كفارة الظهار والوقاع، فلسنا نعيد شيئاً، وذكر بعد الكسوة الإعتاقَ، فاندفع فيما يُجزىء من الرقاب وفيما لا يجزىء منها، وقد قررنا جميع ذلك في الظهار، فلا نعيد شيئاً منها، وعقد بين الطعام والعتق باب الكِسوة، وعقد باباً في الصوم بعد الخلال الثلاث، ونحن نذكر الباب المعقود في الكسوة، ونتعدى بابَ العتق، ونذكر بعده باب الصوم، ثم نعود إلى ترتيب الأبواب والمسائل، إن شاء الله تعالى.
***

(18/313)


باب ما يجزىء من الكسوة في الكفارة
قال الشافعي: " أقل ما يجزىء في الكِسوة كل ما وقع عليه اسم الكِسوة ... إلى آخره " (1).
11738 - الكِسوة إحدى الخلال الثلاث في كفارة اليمين، فإذا اختارها المكفر، فيجب التمليك لا محالة، ثم الإطعام مقدّر بالأمداد، والكِسوة لا تقدير فيها، ويستحيل التعرض للتقدير فيها؛ فإن المدّ في الطعام سِدادُ الرَّغيب، وكفاية المقتصد، ونهاية الزهيد، والكِسوة لا سبيل إلى ضبطها، ولما رأى الشافعي تقدير النفقة في النكاح، لم يقدّر الكسوة، فإذا امتنع التقدير، ولم يختلف العلماء في أنا لا نوجب لكل مسكين دَسْتَ (2) ثوب، [فلم يبق بعد ذلك إلا الاكتفاء بالاسم، فكل ما يحصُل اسم الكسوة به، فالغرضُ يتأدى به] (3) ويكفي ثوب واحد: قميصاً كان، أو سراويل، أو منديلاً، أو جبة، أو رِداءً، أو إزاراً؛ فإن من سلم شيئاً من ذلك إلى إنسان يقال: كساه عمامةً، أو رداءً أو كذلك في جميع ما ذكرنا.
ثم لم يختلف أصحابنا في أنه لو تخير أطفالاً رُضعاً تواريهم الخرق، وسلم إلى قوّامهم [ما يكون كِسوة في حقوقهم تمليكاً، فذلك جائز، والفرضُ ساقط؛ فإن الاسم محقَّق، ولو أعطى الرجلَ التام] (4) ما لا يكون كِسوة في حقه، ولكنه كسوة في حق الطفل، فالذي ذكره القاضي أن ذلك يكفي، ولا يشترط أن يكون المملَّك بحيث يكتسى بما يتسلمه، فلو أعطى رجالاً كسوة أطفالٍ، جاز، ولا يؤاخذ بمراعاة حال
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 228.
(2) الدست من الثياب ما يلبسه الإنسان، ويكفيه لتردده في حوائجه، والجمع: دسوت.
(المصباح).
(3) ما بين المعقفين زيادة من (هـ 4).
(4) ما بين المعقفين لحق بهامش الأصل، استحالت قراءته، وأثبتناه من (هـ 4)، (ق).

(18/314)


من يعطيه، وهذا عنده كما إذا أطعم الرغيب مدّاً، وهو لا يستقل إلا بأمداد؛ فالمعتبر هاهنا أقلُّ الاسم في أقل من يُكسَى، والمعتبر ثَمَّ مقدّر [بالمد] (1) فأقل ما يُسمى كسوة بمثابة المد.
وقطع شيخي وغيره بأن ذلك يختلف باختلاف الآخذين، فليكن المسلَّم إلى الآخذ كِسوة له، ليقال: إنه كسا عشرة، وهذا يعتضد بقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89]، فأضاف الكسوة إلى من يُكسى، والذي يحقق ذلك أن الخرقة تواري ابنَ ساعة، ويبعد كل البعد أن يكتفي الكاسي بعشرِ خِرق يعطيها عشرةً من الرجال، وسنذكر تردّد الأصحاب في إجزاء التُّبَّان (2)، ولا يستقيم هذا الخلاف إلا بنسبة التّبان إلى الرجل الذي يأخذه، وإلا فالتُّبَّان يكسو الطفل الصغير، فقد تبين التردد فيما ذكرناه، والاحتمال فيه لائحٌ.
ثم لا يشترط أن يكون الثوب مخيطاً في نفسه، ولكن لو أعطى خرقَة (3) كِرباسٍ يتأتى منها اتخاذ كسوة، كفى ذلك، وفيه سرٌّ، سنشير إليه في الفصل.
11739 - والكلام يقع بعد هذا في الجنس المعتبر، والعيب المانع من الإجزاء، والصور التي اختلف الأصحاب فيها.
فأما الجنس، فيكفي كل ما يكتسى به، سواء كان رديء الجنس، أو فائق الجنس، أو متوسطاً، اتباعاً للاسم الذي هو أصل الباب.
قال القاضي: لو قلنا: تعتبر الكُسوة الغالبة في أهل البلد، لم نبُعد، قياساً على الطعام؛ فإنا قدمنا ذكر هذا الوجه في الطعام، وهذا الذي ذكره متجه، والمذهب المشهور ما قدمناه.
ولا فرق بين جنس وجنس، فالمتخذ من القطن، والكتان، والإبريسم، والخز، والقز، والصوف مجزىءٌ إذا كان يُكتَسى به، والكساء كسوة.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) التُّبَّان: فُعّال شبه السراويل، وهي قصيرة إلى الركبة، أو ما فوقها (المعجم والمصباح).
(3) هـ 4: "قطعة".

(18/315)


ومما يليق بذلك الدروع المسرودة، فهي ملبوسة، والمُحرم يلتزم الفدية بلبس الدرع، لأنه مُحيط بالبدن، فكان كالمَخيط، فلو ألبس مسكيناً درعاً وملّكه إياه، ففيه احتمال. والأظهر المنع؛ فإن هذا لا يسمى كُسوة، وإن كان يسمى ملبوساً، والإحرام مدار على اللبس واتباع هيئةٍ في الملبوس، والشرط تقرير كل بابٍ على أصله، والمتبع فيما نحن فيه اسم الكسوة.
ولو أعطى قلنسوة، أو مِكْعَباً (1) وهو الشُّمُشْك، أو خفين، أو تُباناً، ففي المسائل وجهان، وسبب الاختلاف أن اللُّبس مطلقٌ في هذه الأشياء، ولا يطلق فيها الكُسوة، فهذا منشأ الخلاف، وإذا أعطى تِكّة (2)، أو مِنطقة، لم يجزئه لانعدام اسم الكسوة واللبس جميعاً، فكان المدار على هذا، فكل مكتسٍ لابس، فإذا تحققت الكُسوة فالوفاق، وإن لم تتحقق الكسوة ولا اللبس، فلا إجزاء وفاقاً، وإن كان (3) مطلق اللبس ولا مطلق الكسوة، ففيه الخلاف.
واختلف أصحابنا في النعل على طريقين: فمنهم من ألحقه بالخف والمِكْعب، ومنهم من قطع بأنه لا يجزىء كالمِنطقة، والأشبه تخريجه على الخلاف، فإنه يقال: لبس فلان نعليه، كما يقال لبس خفيه.
وقال مالك (4) ينبغي أن يُعطى كل إنسان ما يستر به عورته، وتجوز صلاته معه، فهذا هو الستر الواجب الشرعي، فاتجه حمل الكُسوة الشرعية عليه، وهذا قولٌ للشافعي حكاه البويطي عنه، ومن ضرورة التفريع على هذا القول الاختلاف على حسب اختلاف الآخذين، فنعتبر في كل آخذ ما يستر عورته وأبو حنيفة (5) أوجب
__________
(1) المِكْعَب: وزان مقود: المداس، لا يبلغ الكعبين. وهو غير عربي. قاله الفيومي في (المصباح).
(2) التِّكة: رباط السراويل، جمعها: تِكك.
(3) كان بمعنى وجد؛ فهي تامة هنا.
(4) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 901 مسألة 1796، عيون المجالس: 3/ 1003 مسألة 706.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 306، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 246 مسألة 1349، الهداية: 2/ 358.

(18/316)


كسوة سابغة كالقميص والجبة، وما في معناهما.
11740 - فأما الكلام فيما يمنع الإجزاء من الصفات، فلا اعتبار بالعيوب المؤثرة في المالية التي يُثبت مثلها الردَّ بالعيب، وهذا كما أنا لا نعتبر إعتاق الرقاب في الكفارات أن تكون بريئة من العيوب المؤثرة في المالية، وإنما يعتبر ما يؤثر في العمل تأثيراً بيناً، كما تفصّل في موضعه، فاللائق بما نحن فيه النظر إلى ما يؤثر في الانتفاع؛ فإن الغرض انتفاع المكتسي بالكُسوة مع التمليك.
فلو كان الثوب بالياً، أو موفياً على البلى، لم يجز؛ فإنه قد انسحق وامّحق، وسقط معظم منافعه، وكذلك الثوب المخرق بطول البلى، وإن كان قد انخرق طرف منه بجَذْبةٍ، والانتفاع بالثوب باقٍ قائمٌ، فلا منع، والثوبُ الغسيل إن كان متماسكاً قويّاً لم ينته إلى حدّ الانسحاق، فهو مجزىٌ، نصّ عليه الشافعي والمحققون، ولا يشترط أن يكون الثوب جديداً، ويمكن أن يعتبر بقاء معظم التمتع به، والأسلم أن نقول: ما لا يعد خَلَقاً، فهو المجزىء، فهذا هو المعتمد في الباب.
وإن كان الثوب مرقعاً، فإن كان الترقيع للبلى، فلا إجزاء، وإن كانت الأرقعة متماسكة جديدة؛ فإن أطرافها لا تثبت على ثوب أُنهج (1) بالياً، وستتقطع مواضع الخياطة على قربٍ، وإن كان الترقيع لغرض آخر لا للبلى أجزأت الكسوة، ولو كسا مسكيناً ثوباً لطيفاً مهلهل النسج غير بالٍ في حينه، ولكن مثله إذا لبس لا يدوم إلا دوام الثوب البالي، فيظهر أن نقول: لا يجزىء؛ نظراً إلى الإمتاع والاستمتاع.
فهذا بيان ما حضرنا، وخطر لنا في الكُسوة، والله أعلم وأحكم.
...
__________
(1) أُنهج: من قولك: نهِج الثوب نَهَجاً: بلِيَ وأخلق، فهو نهِج، وأنهجه: أخلقه.
(المعجم).

(18/317)


باب الصيام في كفارة الأيمان
قال: " ومن وجب عليه صوم ... إلى آخره " (1).
11741 - إذا عجز الحانث عن الخلال الثلاث المالية، وقد ذكرنا حد العجز، ومعتبره في كتاب الظهار؛ فإنه يصوم ثلاثة أيام بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وهل يجب رعاية التتابُع فيها أم يجوز الإتيان بها مفرقة؟ فعلى قولين: قال في القديم: لا بد من رعاية التتابُع، وقال في الجديد: لا يشترط التتابُع، بل له أن يفرق الصيام في الأيام، وقيل: كان ابن مسعود يقرأ: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وهذه القراءة لم يصححها القراء، فلا تعويل عليها.
وتوجيه القولين بعدها: من قال: لا يشترط التتابع، احتج بأن التتابع غيرُ مذكور في كتاب الله تعالى، فلا يجب إلا صيام ثلاثة أيام، ومن شرط التتابع، احتج بمسلك الشافعي في حمل المطلق على المقيد، فالصيام مطلق في هذه الآية مقيد بالتتابع في كفارة الظهار والقتل، والمطلق محمول على المقيد، ومن نصر القول الجديد أجاب بأن القضاء في الكتاب محمول على جواز التفريق (2)، وصوم الكفارة متردد بين مقيد بالتتابع وبين محمول على التفريق، فالوجه الاكتفاء بالاسم.
ولناصر القول القديم أن يقول: حمل الكفارة [على الكفارة] (3) أولى من حملها على. القضاء؛ فإن القضاء تِلو (4) الأداء، وليس في الأداء تتابعٌ مستحق، وقد غلط
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 229.
(2) إشارة إلى قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، والمعنى أن حمله على التتابع في الظهار ليس بأولى من حمله على آية القضاء.
(3) زيادة من (هـ 4).
(4) تِلو الأداء: أي تبعٌ له، وتِلْو كل شيء ما يتلوه ويتبعه. (المعجم).

(18/318)


مالك (1) لما أوجب التتابع في القضاء، مَصيراً إلى أن التتابع مرعيٌّ في الأداء، والقضاءُ تِلوه؛ لأن ما تخيله في الأداء تتابع الزمان، لا تتابع [معتبراً] (2) شرعاً؛ بدليل أن من أفسد اليومَ الأخير لم يفسد صومه فيما مضى.
هذا بيان القولين.
فإن لم نشترط التتابعَ، فلا كلام، والخِيَرةُ إلى الصائم، وإن شرطنا التتابع، فقد قدمنا في كتاب الظهار ما يُبطل التتابع قولاً واحداً، وما لا يبطله، وما اختلف الأصحاب فيه: كالمرض والسفر، ونحن نقول هاهنا: ما يقطع تتابع الشهرين فهو بأن يقطع تتابع الصيام في الأيام الثلاثة أولى؛ فإن إيقاع الأيام الثلاثة بعيدةً عن أسباب القطع ممكن، وإن كان قد يتعذر في الشهرين.
وقد قطع الأصحاب بأن الحيض لا يقطع التتابع في الشهرين، واختلفوا في أنه هل يقطع التتابع في الأيام الثلاثة؛ والسبب في ذلك أنها تتمكن من تبعيد الأيامِ الثلاثة من نوبة حيضها؛ فإن لم تفعل، انتسبت إلى التقصير، والشهران لا يخلوان في الغالب في حق ذات الحيض من الحيض، ولعل الأصح أن الحيض يقطع التتابع؛ فإنها متمكنة من تخيّر أيامٍ لا يفرض فيها حيض، بأن تترك نوبتها من الحيض حتى تنقضي، ثم تصوم الثلاثةَ الأيام في مدّة لا يتوقع فيها معاودة الحيض.
وقد يتجه أن نقول: الحيض على هذا التقدير والتصوير أولى بقطع التتابع من المرض، وإن كان الحيض يقطع تتابع الشهرين وفي المرض قولان؛ فإن المتبع المعاني لا الصور.
...
__________
(1) التتابع في الصيام في كفارة اليمين مستحب وليس بواجب عند مالك (ر. المدونة: 2/ 43، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 902 مسألة 1800، حاشية العدوي: 2/ 23، الشرح الصغير: 2/ 214، حاشية الدسوقي: 2/ 133، الفواكه الدواني: 1/ 429).
(2) في الأصل: لا تتابع معنى شرعاً. وكذلك كانت (هـ 4) ثم صوّبت إلى: " لا تتابع معتبراً شرعاً ".

(18/319)


باب الوصية بكفارة اليمين والزكاة
قال الشافعي: " من لزمه حق للمساكين في زكاةٍ أو كفارة ... إلى آخره " (1).
11742 - ذكر في صدر الباب اجتماع الديون في التركة، وما كان فيها لله تعالى، وما كان للآدمي، وقد قررنا ذلك في مواضع واستقصينا الأصول وتفاريعها في كتاب الوصايا، فلا نعيد شيئاً مما تقدم مقرراً، والذي رأيته لشيخي هاهنا، فأحببت نقله: أنَّا وإن ذكرنا ثلاثة أقوال في تقديم دَين الله تعالى على ديون الآدمي بعد الوفاة، فلا خلاف أن من ضرب القاضي عليه الحجرَ بالفلس، فديون الآدمي مقدمةٌ لا يزاحمها دين الله تعالى إذا كانت مرسلة غير متعلقة بالأعيان، كالكفارات والنذور المطلقة، وإنما قلنا ذلك؛ لأن ديون الله تعالى تقبل التأخير ما دام الإنسان في قيد الحياة، بخلاف ديون الآدميين، فإذا مات الإنسان، فلا تاخير في تأدية ديون الله، فتجري الأقوال في التقديم والتسوية، وهذا بيّنٌ.
11743 - ثم الذي نرى ذكره هاهنا وإن كان الظن الغالب أنا ذكرناه في الوصايا أن من مات وعليه كفارة -والتفريع على أنه لا حاجة إلى الوصية في تأديتها- فإن كانت الكفارة مرتبة مبدوءة بالعتق، فالوارث يعتق عن الميت حتماً، ويقع العتق عن الكفارة، وينصرف الولاء إلى المتوفى.
وإن مات وعليه كفارة اليمين وفي التركة وفاء، فللوارث أن يطعم، وله أن يكسو، وهل له أن يعتق؟ فعلى وجهين: أصحهما - أن له ذلك، كما ذكرناه في الكفارة المرتبة التي لا تخير فيها، ثم الولاء للميت.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 230.

(18/320)


ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يعتق عنه؛ فإن الغرض يحصل، والحق يتأدى بالإطعام أو الكسوة، وليس يُعقب واحدٌ منهما ولاءً، وصرف الولاء إلى غير المعتِق وإلى غير الآذان في العتق بعيد، لا اتجاه له.
ولو لم يخلف تركةً، فأراد الوارثُ في كفارة اليمين أن يُطعم أو يُعتق، فقد قال الأصحاب: الإطعام والكسوة من الوارث يقع الموقع، وفي الإعتاق خلاف كما ذكرناه، والأولى ترتيب الخلاف على ما إذا خلّف التركة؛ فإن التركة عُلقة قائمةٌ، حتى كأنها بقيةٌ من الحياة، ويتعلق بها من الطلباتِ ما كان يتعلق بالحي في حالة الحياة، وإذا لم تكن تركة، [كان] (1) الإعتاق من الوارث في حكم التبرع المحض.
ولو كانت المسألة بحالها، فأطعم أجنبي عمن مات وعليه كفارة يمين، أو كسا عنه أو أعتق، فالترتيب المشهور إجراؤه، على عكس الوارث، فنقول: إن أعتق الأجنبي، لم يقع العتق عن الميت وجهاً واحداً؛ فإن أطعم عنه أو كسا، ففي وقوعه عنه وجهان، والفرق أن الوارث على الجملة له رتبة الخلافة، بخلاف الأجنبي، وفي العتق المزية التي أشرنا إليها، وهي استعقاب الولاء، وصرفُ الولاء إلى الغير من غير إذنه بعيد.
قال صاحب التقريب: لا يمتنع أن يخرّج العتق في حق الأجنبي على الخلاف أيضاً ونُرتبه على الوارث، والدليل عليه أن الوارث والأجنبي يستويان في حالة الحياة في أن واحداً منهما لا ينفرد بإعتاق ولا إطعام عمن عليه الكفارة من غير إذنه.
وقد ذهب طائفة من أصحابنا إلى ذكر خلافٍ في إطعام الوارث وكُسوته إذا لم يكن تركة؛ فإن الدين على الميت، فإذا لم يخلّف تركة، فالوارث كالأجنبي، وهذا الخلاف فقيه، وإن كان غريباً؛ فإن ما يطلق من خلافة الوراثة قد لا يتحصل إذا لم يكن مال، وإنما يتصرف الوارث إذا كانت تركة ليخلّص التركة، فإن استحقاقه يتعلق بعينها، فإذا لم يخلّف الميت شيئاً، فلا أثر للوراثة، وبالجملة إنه إذا لم يرث شيئاً للميت، ولم يجب عليه ما على الميت، فلا تعلق له.
__________
(1) في الأصل: " نخال ".

(18/321)


وعلى هذا التردّد خرّج الأصحاب خلافاً في أن الوارث لو أدّى دين المورث وما كان خلف شيئاً، فهل لمستحق الدين أن يمتنع عن قبوله؟ هذا خارج على الخلاف الذي حكيناه.
[ولو لم يخلف مالاً والتمس من وارثه أن يُعتق عنه، أو استدعى من أجنبي] (1) ذلك، ومات، فالذي أطلقه الأصحاب وقطعوا به أنه يصح إيقاع ما أوصى به كما يصح ذلك في حالة الحياة؛ فإن التماس هذه الأشياء بعد الوفاة بالوصاية لا يقطعه الموت، وما ينفذ على سبيل الوصاية في حكم الملحق بما يجري في حالة الحياة، والوصية تتمة معاملات الحياة، فهذا ما أردنا ذكره.
11744 - ومما [أراه] (2) متصلاً بذلك أن من مات وعليه صوم، وفرعنا على أن الولي يصوم عنه، فقد قال الأئمة: لو أوصى إلى أجنبي حتى يصوم عنه، صح ذلك، ويصير الأجنبي بالإذن بمثابة الوارث، ولو عجز عن الصوم في الحياة عجزاً لا يتوقع زواله، فالتمس من الغير أن يصوم عنه، فقد قال قائلون: بجواز ذلك؟ قياساً على الاستئجار في الحج؛ فإن النيابة لما تطرقت إلى الحج، جاز الاستئجار عليه بعد الموت، وجاز ذلك في الحياة عند العضب، فليكن الصوم كذلك.
وقال قائلون: لا سبيل إلى ذلك في الصوم؛ فإن المعتمد في تجويزه خبرٌ رواه الرواة، وهو مقيّد بما بعد الموت.
وقال شيخي أبو محمد: إذا جوّزنا للأجنبي أن يكفر عن الميت من غير إيصاء، فلا يمتنع أن يصوم عنه أيضاً من غير إيصاء، ولكن الصوم أبعدُ من وجهين: أحدهما - أنه بدني والقُرَبُ المالية تقبل ما لا تقبله القرب البدنية، وأيضا فإن الاعتماد على الخبر، وفيه: " من مات وعليه صوم صام عنه وليه ".
__________
(1) ما بين المعقفين عبارة (هـ 4)، بما فيها من زيادة وتبديل.
أما عبارة الأصل فقد كان فيها سقط، إذ جاءت هكذا: " ... الذي حكيناه، ولو أوصى بشيء لو لم يخلف ذلك ومات ... ".
وقد جاءت (ق) تؤيد المثبت من (هـ 4).
(2) في الأصل: " أردناه ".

(18/322)


ومما ذكره الأصحاب أن من عليه كفارة اليمين إذ أوصى بأن يُعْتَق عنه -ومعلوم أن الفرض يسقط بالطعام- فإذا زادت قيمة الرقبة على قيمة الطعام، فمن أصحابنا من قال: يتعين العتق، ولا يكون تبرعاً، وكذلك لو أعتق هو في مرض الموت؛ فإن العتق أحدُ ما يجب.
ومنهم من قال: ما فيه من الزيادة تبرع، إذ من الممكن إسقاط الواجب بغيره، فإذا وقع التفريع على هذا، ففي كيفية اعتبار الفَضْلة من الثلث وجهان، فنقول أولاً: إن وفّى الثلث، فلا كلام، وإن ضاق الثلث، فإذ ذاك يبين الوجهان، فمن أصحابنا من قال: يعتبر خروج جميع قيمة العبد من الثلث، فإن خرجت، فلا كلام، وإن لم تخرج القيمة من الثلث، انتقلنا إلى الإطعام والكسوة، وعليه يدلى ظاهر النص، وهذا الظاهر خارج عن القياس.
والوجه الثاني -وهو القياس- أنا نحط قيمة الطعام مثلاً من رأس المال، وننظر إلى المقدار الذي يزيد على قيمة الطعام إلى قيمة العبد، فيحسب ذلك من ثلث الباقي، فإن خرجت تلك الزيادة، أعتقنا العبد، وإن لم تخرج، انتقلنا إلى الإطعام، أو إلى الكسوة.
وقد مهّدت هذه الأصول في كتاب الوصايا على أبلغ وجه في البيان.
ونحن وإن كنا نجتنب المكرّرات جهدنا، فقد نقع في الإعادة بسببٍ، وهو أن لا نذكر مُضيَّ شيء، ونرى الأولى أن نذكر ما يتردد فيه.
***

(18/323)


باب كفارة يمين العبد
قال الشافعي: " ولا يجزىء العبدَ في الكفارة إلا الصوم ... إلى آخره " (1).
11745 - إذا حنث العبد ولزمته الكفارة، فيتصور منه الصيام، وأما التكفير بالمال، فإنه يترتب على أن العبد هل يملك بالتمليك، فإن قلنا: لا يملك، فلا يصح منه التكفير بالمال أصلاً، وإن قلنا: إنه يملك، فلو ملكه مولاه طعاماً أو كسوة، فلا يملك إخراجه في الكفارة دون إذن السّيد، فإن أذن في التكفير بالإطعام والكسوة، صح منه باتفاق الأصحاب؛ فإن تبرّعه بما ملَّكه مولاه نافذ بإذن المولى، والملك الذي يتهيأ فيه التبرع يُتصوّر أداء الفرض به على الوجه الذي يتصور التبرع به.
ولو ملَّك عبده عبداً، وأذن له في أن يعتقه عن كفارته، فهل يصح منه التكفير بالعتق أم لا؟
هذا يستدعي تقديمَ أصلٍ وهو أنه لو ملَّك عبده عبداً، وأذن له في إعتاقه تبرعاً، فإذا أعتقه، فلا شك أن العتق ينفذ؛ فإن الحق لا يعدو السيدَ والعبدَ، وما حكم الولاء؟ ذكر الأصحاب قولين مشهورين: أحدهما - أن الولاء يكون للسيد في الحال والمآل؛ فإن ثبوت الولاء للعبد الرقيق محال، كما سنصفه.
والقول الثاني - أن ولاء ذلك المعتَق موقوف: فإن عَتَق هذا العبدُ الذي أعتقه، فيكون ولاء ذلك المعتَق له تبيناً، وإن مات رقيقاً، فيكون ولاؤه لسيده.
وذكر صاحب التقريب في المسألة قولاً غريباً أن الولاء يكون للعبد المعتِق في حال رِقِّه؛ فإذا لم نُبعد أن يثبت له ملك، لم نبعد أن يثبت له الولاء، وهذا وإن كان متجهاً على ظاهر القياس، فهو بعيد في الحكاية، وسبب بعده تعليلاً أن الولاء لو ثبت،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 230.

(18/324)


للزم، ويبعد أن يثبت للرقيق حقٌّ لازم لا يمكن قطعه، وليس هذا كالنكاح، فإن النكاح وضعه أن يلزم للعبد والولاء تبع الملك، فإذا كان الملك لا يلزم، فيبعد أن يلزم ما هو تابع للملك.
فإذا ثبتت هذه المقدمة في الولاء، رجعنا إلى التكفير، فإن قلنا بالقول الغريب الذي حكاه صاحب التقريب، وهو أن الولاء يثبت للعبد الرقيق في حال رِقه، فإذا أذن له مولاه في إعتاق العبد الذي ملّكه عن كفارته، فإذا أعتقه، وقع عن الكفارة، ولا إشكال.
وإن قلنا: الولاء موقوف، فمن أصحابنا من قال: يقع العتق عن كفارته ناجزاً في الحال وإن قضينا بوقف الولاء، هكذا حكاه الصيدلاني وغيره من أئمة المذهب، وقال الصيدلاني: الوجه عندي أنا إذا حكمنا بوقف الولاء، فينبغي أن تكون الكفارة موقوفة أيضاً، فإن الإجزاء في هذه المسألة يتبع الولاء، ويبعد أن نقطع بالإجزاء مع التوقف في الولاء، وهذا الذي قاله من تلقاء نفسه واختاره لم يذكر القاضي غيرَه، وقطع به، ووجهه بيّن.
ولو أعتق المكاتَب عن كفارته بإذن السيد على قولنا بنفوذ تبرعاته إذا صدرت عن إذن السيد، قال (1): فالذي ذكره الأصحاب أن ذمته تبرأ عن الكفارة، والذي عندي فيه أن الأمر موقوف؛ فإن المكاتب ربما يعجِز فيَرق، ثم إذا عاد رقيقاً، فيجب أن يكون الولاء موقوفاً، وإذا كان موقوفاً، وجب وقف الكفارة. هذا كلام الصيدلاني نقلاً واختياراً.
وحكى الإمام شيخي قولاً غريباً أن العبد إذا أَعتق بإذن مولاه العبدَ الذي ملّكه إياه، ينفذ العتقُ والولاء للسيد، ويقع العتق عن كفارة العبد.
11746 - هذه طرق الأصحاب، وبعدها بحثٌ قريب: وهو أنا إذا حكمنا بأن الولاء للسيد، فالعتق عمّن؟ ينقدح فيه من قول الأصحاب وجهان: أحدهما - أن العتق يقع عن السيد، وكأن الملك ينقلب إليه، وينفذ العتق عنه، ولذلك انصرف
__________
(1) أي الصيدلاني، كما سيصرح باسمه بعد قليل.

(18/325)


الولاء إليه، ولهذا قلنا: إن العتق لا يقع عن كفارة العبد. والوجه الثاني - أن العتق يقع عن العبد، ولكن يتعذر صرف الولاء إليه، ولا بُدّ من الولاء، فكان السيد أولى من يُصرف إليه الولاء، وهذا يتضح على القول الغريب الذي حكاه شيخي في أن العتق يقع عن كفارة العبد والولاء [للسيد] (1).
ومما يُبحث عنه أن التردد الذي حكاه الصيدلاني على قول وقف الولاء في أن العتق يقع ناجزاً عن الكفارة أو يتوقف فيه إنما يظهر أثره في مثل كفارة الظهار، فإن تحليل المظاهَر عنها موقوف على براءة الذمة عن الكفارة، فإن نجّزنا الحكم أحللناها، وإن لم ننجز توقفنا في إحلالها حتى نتبين الأمر، ولا خلاص إن أراد أن يستحلها إلا الصيام.
ومن لطيف ما نفرعه أن السيد إذا أذن لعبده في الإعتاق عن الكفارة المرتبة وقلنا العتق يقع عن كفارته في قولٍ من الأقوال التي قدمناها، فلو أراد العبد أن يصوم ولا يكفر بالمال، فهذا فيه احتمال عندنا؛ من جهة أن ملكه ضعيف، وليس العبد موسراً به، بدليل أن نفقته على زوجته نفقة المعسرين، وإن ملكه السيد مالاً جمّاً، وأذن له في صرفه فيما يشاء؛ إذ لا ثقة بإذن السيد، وله أن يرجع متى شاء، ويجوز أن يقال: ليس له أن يصوم مع التمكن من الإعتاق، والعلم عند الله تعالى.
11747 - وكل ما ذكرناه تفريع على قولٍ ضعيف، وهو أن العبد يملك بالتمليك.
فإن فرعنا على الجديد وهو أنه لا يملك أصلاً، فلا يكفِّر إلا بالصيام، وفي صيامه تفريع لابد منه، فإن كان العبد أيِّداً، لا ينهكه الصوم، ولا ينقص عنه (2)، ولا يُعجزه عن القيام بخدمة السيد، فله أن يصوم متى شاء، ولا معترض عليه، فإن الصوم إذا كان لا يؤثر فيه بمثابة إدامة ذكر الله تعالى، أو قراءة القرآن في متصرفات أحواله، وأجمع أئمتنا على أن للعبد أن يتطوع بالصوم إذا كان لا يؤثر الصوم في رقبته وقوته، وإن كان الصوم يؤثر فيه، ويعجزه عن القيام بتمام الخدمة، نُظر: فإن كانت
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) كذا في النسختين. ولعلها: ولا ينقص قيمته. وعبارة الغزالي في البسيط: " إن كان قوياً لا يضر به الصوم ". وجاءتنا (ق) وفيها: " عينه " مكان عنه.

(18/326)


اليمين والحنث جميعاً بإذن السيد، فليس له منعه من الصوم، وحمله على تأخيره، وإن كانت الكفارة على التراخي، هذا هو المذهب الصحيح، ولو دخل عليه أول وقت الصلاة، فأراد إقامة الصلاة في أول وقتها، فهل له ذلك؟ في المسألة وجهان مشهوران، والفرق بين الحمل على تأخير الكفارة وبين محل الوجهين في الصلاة أن العمر محل الكفارة، وهو مجهول الآخر، فكان في تأخيرها غررٌ، ووقت الصلاة مضبوط.
ومن أصحابنا من قال: يجوز للسيد حمل العبد على تأخير الصوم وإن كان الحلف والحنث صادرين عن إذنه، تخريجاً على أن للزوج أن يمنع زوجته عن حجة الإسلام على قول؛ لأن أداء الحج على التراخي، وحق الزوج ناجزٌ في الحال، وكان شيخي يقول: هذا القول وإن جرى في الحج موجهاً بما ذكرناه، فالوجه القطع بأن العبد لا يُحمل على تأخير الصوم في الكفارة إذا جرى الحلف والحنث بإذن السيد؛ لأن موجب الكفارة تعلّق بالمولى ووجوب الحج لا تعلق له بالزوج، ولا يمتنع أن يقال: لا تتم استطاعة الزوجة حتى يأذن الزوج لها، وهذا لا بأس به، وكل ذلك ناشىء من تردّد الأصحاب في أن من أخر الحج، ومات هل يأثم؟ وكيف يأثم ولو أخر الصلاة من أول الوقت إلى وسطه فاخترمته المنية، فهل يأثم؟ وكل ذلك مما مضى مقرراً في الكتب السابقة.
وكنت أحب أن يقال في الكفارة: إنْ ظَاهَرَ العبدُ وعاد بإذن المولى، فليس له أن يمنعه من التكفير؛ لأن في منعه إضراراً به وإدامةً للتحريم، وإن فرض في كفارة اليمين ما ذكرناه، فقد يُخرّج فيه الوجه البعيد الذي ذكرناه في أن السيد يحمل عبده على تأخير الصوم.
وما قدمناه من جواز الصوم تبرعاً أو فرضاً، حيث لا يؤثر الصوم في القيمة (1) والقوة، فهو في العبد، أما الأمة، فللسيّد أن يفطرها في صوم التبرع، وفي صوم الفرض إن لم يكن سبب وجوبه بإذنه، وهذا واضح.
__________
(1) هـ 4: " الرقبة ".

(18/327)


لو حلف العبد وحنث بغير إذن المولى، وكان الصوم يؤثر، فالسيد يمنعه من الصوم، وإن فرضنا المسألة في الأمة، كان له أن يمنعها ويقضي مستَمْتَعه منها.
ولو حلف العبد من غير إذن السيد، وحنث بإذنه، فهل له أن يمنعه من الصوم؟ فعلى وجهين مشهورين مُفرّعَيْن على أن اليمين والحنث لو كانا بالإذن، فلا يُمنع العبد من الصوم، والفرق لائح، ولو كانت اليمين بإذن السيد والحنث بغير إذنه، فالذي ذهب إليه المحققون أن للسيد أن يمنعه من الصوم إذا حنث، والسبب فيه أنه إذا حلف بإذن مولاه على الامتناع من دخول الدار، ودخل الدار من غير إذن، فالذي جاء به مبالغة في مخالفة المولى، فإنه أذن له في أن يمتنع عن الدخول، ويؤكد ذلك باليمين، فإذا دخل الدار مع اليمين، كان أبلغ مما إذا دخلها من غير يمين.
ومن أصحابنا من قال: يجري الوجهان إذا كانت اليمين بإذن المولى، وإن لم يكن الحنث بإذنه؛ فإن اليمين إحدى سبَبَي الكفارة، فإذا صدرت عن إذن المولى، كانت كالسبب الآخر، وهو الحِنث، وقد ذكر الوجهين العراقيون، وصاحب التقريب.
11748 - وكل ما ذكرناه من تفريع التكفير بالمال والصوم مصوّر في حياة العبد، فلو حلف العبد، وحنث، ومات أو استوجب الكفارة بجهة أخرى، فقد قال الأصحاب: للسيد أن يُطعم ويكسوَ عن عبده بعد موته، وإن كان لا يجد إلى ذلك سبيلاً في حياته إذا فرعنا على أن العبد لا يملك بالتمليك، والسبب فيه أن التكفير عنه بالمال موقوف على دخول المال في ملكه، وخروجه عن ملكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعي هذا، فانا وإن كنا [نقدر للميت ملكاً، فلا تحقيق له، والميت أبعد خلق الله عن الملك، وكيف] (1) يتحقق له ملك، وهو في حكم المعدوم في أحكام الدنيا؟ ثم جاز التكفير عن الميت بعد موته على التفاصيل المقدمة، فالعبد والحر بعد الموت بمثابةٍ، هذا ما ذكره شيخي وهو الذي قطع به القاضي، وتحقيقُه أن العبد يخرج بالموت عن كونه عبداً، فلا معنى للنظر إلى التفاوت بين الحر والعبد بعد الموت.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).

(18/328)


هذا ظاهر المذهب، ويتطرق إليه احتمالٌ من أصلٍ نقدّمه، ثم نذكر وجه إشعاره بالاحتمال، فإذا التزم العبد كفارةً، والتفريع على أنه لا يملك بالتمليك، ولا يتصور منه التكفير بالمال، فلو أُعتق، وأراد أن يكفر بالمال -والتفريع على أن الاعتبار في صفة التكفير بحالة الوجوب- فالمذهب أنه لو أراد التكفير بالمال بعد العتق، أمكنه، فإن من لا يلتزم إلا البدل لو تكلف إخراج المبدل، كان مقبولاً منه، كما لو كان معسراً عند التزام الكفارة، ثم أيسر قبل أدائها، وفرعنا على أن الاعتبار بحالة الوجوب، فلو أدّى ما يليق بحال الموسرين أجزأه ذلك.
ومن أصحابنا من قال: العبد لا يجزئه إلا الصوم؛ فإنا نسند حالة الأداء إلى حالة الالتزام، ولقد كان في حالة الالتزام بحيث لا يتصور منه التكفير بالمال بوجهٍ، فعلى هذا يظهر المصير إلى أن السيد لا يكفر عن عبده بعد موته بمالٍ يخرجه؛ فإن ما يعترض بعد الموت لا بدّ من تقدير استناده إلى حالة الحياة، وهذا الوجه (1) في هذا المقام ظاهر؛ نإن ما بعد الموت استدراك أمر مشرفٍ على الفوت، فيجب الالتفات إلى حالة الحياة.
ثم فرع الأصحاب على الوجه الظاهر، وقالوا: إذا جوزنا للسيد أن يطعم ويكسو عن مملوكه بعد موته، فهل يجوز له أن يُعتق عنه، فعلى وجهين، وهذا التردد لمكان الولاء، وما فيه من الاضطراب للأصحاب، ثم المعتمد في السيد أنه في التصرف في عبده حالّ محل الوارث لما بينهما من العُلقة، وقد مضى لهذا نظائر في المسائل.
ثم الذي يقتضيه الترتيب أن ينزل السيد في حق عبده الميت منزلة الوارث في حق صاحبه الذي لم يخلّف شيئاً، وقد قدمنا تفصيل المذهب في حق الذين لم يخلفوا شيئاً، ثم السيد أبعدُ عن الخلافة من الوارث، والعبد أبعد عن قبول التكفير من الميت المعسر، لما نبهنا عليه، وكل ذلك يقتضي ترتيب محالّ الخلاف في السيد [على] (2) أمثالها في الوارث.
__________
(1) هـ 4: " وهذا الغرض ".
(2) في الأصل: في.

(18/329)


فصل
قال: " ولو حنث ونصفه عبد ونصفه حر ... إلى آخره " (1).
11749 - من بعضه حر وبعضه رقيق إذا خلص له مال بطريق المهايأة، أو القسمة، فمِلكُه تام فيما خلص له، وتصرفاته نافذة من غير احتياج إلى استئذان ومراجعة من يملك رقَّ بعضه، ولا معترض عليه في التبرع إن أراده؛ فإذا لزمته كفارة مرتبة، وأراد التكفير بالمال، فالمنصوص عليه للشافعي أنه يطعم ويكسو لكمال ملكه.
وقال المزني (2): يجب ألا يصح منه إلا التكفيرُ بالصوم؛ لأنه لو كفر بالمال، وقع ذلك عن جملته؛ إذ يستحيل أن يختص لزومُ الكفارة ببعضه، والأداء على حسب اللزوم، فإذا كان اللزوم يكفي جملته من غير تبعيض، فالأداء بحسبه، فلو كفر بالمال، كان مخرِجاً عن بعضه الرقيق مالاً، ثم أكد هذا، فقال: إذا كنا لا نحتمل التبعيض بين أصلين، ونقول: لو أطعم الحر خمسةً، وكسا خمسة، أو أطعم خمسة، وأعتق نصف رقبة، لم يجزئه، فالتبعيض في المودِّي أولى بذلك. هذا مذهب المزني.
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى موافقته، وإلحاق مذهبه بالقاعدة، فانتظم خلاف؛ إذ المنصوص التكفير بالمال والمُخَرَّج وهو مذهب المزني أنه لا يجزئه التكفير بالمال.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 230.
(2) ر. المختصر: 5/ 230.

(18/330)


باب جامع الأيمان
قال الشافعي: " وإذا كان في دار وحلف أن لا يسكنها ... إلى آخره " (1).
11750 - التصرف في الألفاظ ومقتضياتها ممّا تمهّد تحقيقه في كتاب الطلاق على وجوهٍ يكتفي الطالب بها، واليمين بالله تعالى في معنى اليمين بالطلاق والعَتاق في تعلّقها بالألفاظ، ورجُوعُنا في فحواها إلى اللسان، ثم إلى العرف، والذي يتجدّد في هذا الكتاب أن اليمين بالله تعالى إن تعلّق بحق الآدمي مثل أن يُفرضَ إيلاء، فلا فرق بينها وبين اليمين بالطلاق في المؤاخذة بالظاهر، وإجراء أحكام التديين في الباطن.
وإن لم تكن اليمين متعلقة بحق الآدمي، وإنما حلف الرجل على الابتداء بالله تعالى على ماضٍ أو مستقبل في نفي أو إثبات، فلا يتحقق الفرق بين الظاهر والباطن مؤاخذةً وتدييناً، [فإن كل ما يُقبل] (2) في منازل التديين إذا أضمره الحالف، فيمينه منزلة عليه وباطن أمره وظاهره سواء.
وإن أطلق اللفظ، ولم يضمر أمراً، فمسائل الأيمان مما يدار على هذا المقام، ثم يعترض فيه ما نصفه، وهو أنه إذا زعم أنه لم ينو شيئاً، بل أطلق اللفظ، فالقول في ذلك ينقسم: فإن ادّعى أنه كما لم ينو لم يطلع على معنى لفظه، فهذا لا حاصل له؛ إذ لا سبيل إلى إلحاق ما جاء به باللغو؛ فإن اللغو إنما يحتمل في كلمة يخرجها في أثناء الكلام على اعتيادٍ في الناس مطّرد: مثل أن يقول: لا والله، وبلى والله، وأما عقد يمين مع تجريد القصد إليه، وقد يكون هو الكلام أو هو المقصود من الكلام الّذي أجراه، فحمله على اللغو لا معنى له. فهاذا قال: لم أدر ما قلت، وصدقناه، حملنا
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 231.
(2) في الأصل: " فإن كان ما يقبل ".

(18/331)


هذا على خطور المعنى له عند اللفظ، وذهوله عنه لتغاييرَ لحقته من هَيْج وسكون بعده، لا يجوز (1) لما جرى محمل إلا هذا؛ فإن العاقل الفاهم لمعنى اللفظ لا يقصد به إلا معناه إذا لم يضمر شيئاً سواه، فهذا ما أردنا تقديمه على مسائل الباب.
وسنذكر إن شاء الله تعالى قاعدةً أخرى عظيمة الوقع ظاهرة الأثر في صدر بابٍ آخر بعد هذا مترجمٍ بجامع الأيمان أيضاً. وعندي أن من أحاط بالقاعدة، وعرف معنى اللفظ، اكتفى بما ذكرناه وتصدى لما يُسأل عنه من الألفاظ؛ فإن مسائل سائر الكتب تذكر للإيفاء بها على ضبط مقصود الكتاب إذا كان مقصوده فقهاً وحكماً، ولا مطمع في ضبط (2) ما يمكن تقديره من الألفاظ؛ فمسائل الكتب اللفظية تذكر لتمهيد معاني القواعِد والإيناس بها.
11751 - وقد عاد بنا الكلام إلى مسائل الباب: فإذا قال الحالف وهو في دارٍ: والله لا أسكن هذه الدّار؛ فإن فارقها على الفور والبدار، برّت يمينه، وإن سكنها مطمئناً إلى السكون، ولو في ساعة، حنث. واعتبر أبو حنيفة (3) فيما يحنث به السكون في مدة يوم وليلة، وأمثال هذه التحكمات تشعر [بضجر] (4) المتكلم بها في محاولة ضم نشر الكلام والتقريب فيه مع خروجه عن الضبط الحاصل.
ولو خرج بنفسه، وخلّف الأهلين [والضِّنَّ] (5)، والأموال، برَّ؛ فإن اليمين معقودة على ألا يسكن، وقد فارق، ولو سكن، وأخرج المال، والأهلَ، فهو حانث، والتعويل عليه -سكن أو فارق- في البرّ والحنث، ولو قال: والله لا أسكن،
__________
(1) هـ 4: " يكون ".
(2) هـ 4: "ذكر".
(3) ر. المبسوط: 8/ 162، مختصر الطحاوي: 308، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 267 مسألة 1376.
(4) في الأصل: " بضم".
(5) الضِّن: ما يضن به (المعجم)، والمراد هنا النفائس. وهي غير مقروءة في الأصل. وفي (هـ 4): " الضبن " ولم أجد لها وجهاً. وفي (ق): والصبي.

(18/332)


ثم قام يجمع أمتعته وشمَّر في نقلها، والانتقالِ معها، فالذي ذكر المراوزة أنه لا يحنث، والذي ذكره العراقيون القطعُ بتحنيثه، وقالوا: إن أراد البرّ، فليبتدر خارجاً، ولْيكل نقلَ الأمتعة إلى مستناب يثق به، وهذا نقلناه على ثبت وثقةٍ، واستقراءِ نُسَخٍ.
ووجه ما ذكره العراقيون بيّن، ووجه ما قطع به المراوزة أن السكون (1) ليس الكون نفسه، وإنما هو ركون إلى الكون، أو تمهل وانحلال من غير تشمير للاشتغال بالانتقال، فإذا ابتدر النقلَ والانتقالَ سُمّي كائناً في الدار، ولم يُسمَّ ساكناً فيها، والدليل عليه أنه لو ابتدَرَ الخروج والمفارقة من صدر الدار الفيحاء، فقد يحتاج معها إلى خطوات، وهو معها كائن في الدار، ولا احتفال بها؛ فإنه لا يُسمى في تخطّيه ساكناً، ولا يكلف أيضاً خروجاً عن العادة في العدو والهرولة، ولا يقال: من حلف كذلك، فقد ربط برّه بمستحيل.
ولو قال: والله لأخرجن في لمحة عين، وأراد تحقيق الوفاء بهذا، ثم لم يتمكن منه؛ فإنه يحنث، كما لو قال: لأصعدنّ السماء، فإذا لم يؤاخذ بهذه الدقائق، تبين أن اليمين منزلةٌ على ترك الرّكون إلى السكون، واستشهد الأئمة بما هو مبني على الفور، كالرد بالعيب، ثم من اطلع على عيب، فاشتغل برفع صاحبه إلى مجلس القاضي، فلا يعد مقصراً مؤخِّراً، كما بيناه في موضعه.
وسرّ كلام المراوزة يُتلقى من الأصل الذي جعلناه قاعدة الباب؛ فإن الحالف لو زعم أنه نوى أمراً، فإن قوله منزل على ما نواه وما يتصور فيه التورية فيه متسع على النهاية، فإذا قال: لم أنو، فلا محمل له إلا أنه قصد أمراً، ثم ذَهِل عنه، والغالب أنه [لم يقصد] (2) إلا ما يقصد مثله في العرف، وتجويز ما لا يجري في التعارف لا حكم له؛ إذ لا نهاية للممكنات، فالوجه التنزيل على ما ذكرناه، وسيتضح هذا، إن شاء الله تعالى بالمعاودات وتكرير التقرير في المسائل، إن شاء الله.
__________
(1) السكون: أي السَّكن في الدار.
(2) في الأصل: " لا يقصد ".

(18/333)


فصل
قال: " وإن حلف ألا يساكن فلاناً ... إلى آخره " (1).
11752 - ذكرنا اليمين المعقودة على السكون، والمساكنةُ قريبة المأخذ من السكون، فإذا قال: لا أساكن فلاناً، وكان معه في بيت، أو دارٍ على حقيقة المساكنة، فابتدر وفارق المكان، برّ، ولو شمّر ليفارق، فهو على التفصيل المذكور في الحلف على نفي السكون.
ولو حلف لا يساكن فلاناً، فابتدر ذلك الإنسان وفارق، برّ الحالف بمفارقته، كما يبر بمفارقته في نفسه.
والذي نزيده في هذا الفصل تفصيلُ القول في الأماكن ومعنى المساكنة فيها، فنبدأ بالخان وما فيه من البيوت: فإذا قال واحد ممن يسكن بيتاً من بيوت الخان: [والله لا أساكن فلاناً، وكان المذكور في اليمين ساكناً بيتاً من بيوت الخان] (2) فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه، جمعها صاحب التقريب: أحدها - أن الحالف إذا كان منفرداً ببيت عن الشخص الذي ذكره، وكان ذلك الشخص منفرداً ببيت، فلا حِنث؛ إذ لا مساكنة بينهما، واجتماع سكان الخان في الخان كاجتماع سكان المَحِلّة فيها، والدليل عليه أن الذي لا يساكن عدواً له في حجرة [أو دار، قد يسكن بيتاً] (3) في خان وممقوته في بيت آخر من ذلك الخان، فلا مساكنة إذاً.
ومن أصحابنا من قال: الكائنان في بيتين من خانٍ متساكنان؛ فإن الضرورة تلجىء إلى الازدحام على المرافق، والبيوتُ في الخان كالأبنية في الدار.
ومن أصحابنا من قال: إذا حلف وهو مع صاحبه المذكور في بيتٍ واحد، فيمينه تقتضي أن يفارق ذلك البيت؛ فإن انحاز إلى بيت آخر من الخان، لم يكن مساكناً.
__________
(1) ر. المختصر: 231.
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) في الأصل: " أو زاوية يسكن بيتاً ". وهو تصحيف مزج كلمتين في كلمة.

(18/334)


وإن أنشأ اليمين وهما في بيتين، فاليمين تقتضي الخروج من الخان، وهذا القائل يقول: ينبغي أن يُحدث الحالف بعد يمينه أمراً مما ذكرناه، ثم اجتمعت المراوزة على أن الدار الواحدة إذا اشتملت على بيوتٍ، فليست بيوتها بمثابة بيوت الخان.
11753 - ولو قال: لا أساكن فلاناً، فاختص ببيت من دار، وصاحبُه ببيت آخر، فهما متساكنان وإن (1) لم نجعل سكان البيوت في الخان متساكنين، والتعويل على العرف في الموضعين.
وذكر العراقيون وجهاً آخر أن بيوت الدار كبيوت الخان، وهذا بعيد، وإن كانت البيوت في الصورة كالبيوت، ولكن الأيمان محمولة على العرف.
وكل هذه المسائل (2) مفروضة في الإطلاق.
فإن نوى الحالف بنفي المساكنة ألا يساكنه في بيت من الدار، فاللفظ يحتمل، والحالف مصدَّق، والله مطلع على السرائر. وإن فرعنا على طريقة المراوزة، وهي الأصح في بيوت الدار، فلو كان في الدار حجرة، فانحاز الحالف إليها لمّا حلف وترك من ذكره في الدار، نظر: فإن لم تكن الحجرة مستبدّة بمرافقها، وكان لا يستغني ساكن الحجرة عن الارتفاق بمرافق الدار، فالحجرة في الدار بمثابة بيت من بيوت الدار، وإن كانت الحجرة مستقلة بمرافقها، وكان بابها إلى السكة، ولا ممرَّ منها على عَرْصة الدار، فإذا أوى الحالف إليها، فقد خرج عن المساكنة قطعاً.
وإن كانت الحجرة منفردة بمرافقها كبيت الماء، والمطبخ، وما في معناهما، ولكن كان باب الحجرة لافظاً في الدار، وكان صاحب الحجرة لا يحتاج إلى شيء من الدار إلا المرور والطروق، فقد اختلف أصحابنا المراوزة في ذلك، فذهب المحققون إلى أنه ليس بمساكن والاشتراك في الممرِّ كاشتراك سكان الدور في الممر في السكة.
ومنهم من قال: هذه مساكنة: فإن مثل هذه الحجرة تعد من الدار، كما تعد بيوتها منها.
__________
(1) هـ 4: " ومن لم ".
(2) هـ 4: " الأيمان ".

(18/335)


ولم يختلف أصحابنا أن الخان لو كان فيه حُجرٌ منفردة المرافق، ولكنْ مَمَرُّها على عرصة الخان، فلا مساكنة بين سكان الحُجَر، واشتراكهم في طروق الخان كالاشتراك في طروق السكة، والفرق بين الخان والدار يرجع إلى العرف في عَدِّ كل ساكن حجرة منفرداً بنفسه، والحجرة في الدار قد تعد من الدار بمحل البيت منها.
ولو قال ساكن حجرة من خان: والله لا أساكن فلاناً، وكان ذلك المسمى ساكن حجرة أخرى، وكل حجرة منفردة بمرافقها؛ فإن كان اللفظ مطلقاً، فلا حِنث عند الأصحاب.
وذهب بعض أصحابنا فيما حكاه القاضي إلى أنه إذا حلف وهو منفرد بالحجرة، فيبنغي أن يحدث بعد اليمين مفارقة، فيخرج من تلك الحجرة، ومن خِطة الخان، وهذا يخرج على الوجه المفصّل الذي حكيناه عن صاحب التقريب: إذْ قلنا: لو كان مع إنسان في بيت من الخان، فقال: والله لا أساكن فلاناً، فإذا خرج من ذلك البيت إلى بيت آخر، كفاه ذلك، ولو حلف وهو منفرد ببيت، فليزد مفارقةً، وهي أن يخرج من الخان. وهذا القائل يقول: لو كان في بيت وصاحبه في بيت آخر، والمرافق مشتركة، فلو انحاز إلى حجرة ذات مرافق [برَّ في يمينه؛ فإنه فارق المرافقَ والاشتراك فيها، ولو كان في حجرة ذات مرافق] (1) لما حلف، فلا بد من إحداث أمر آخر، وهو الخروج من الخان. وما ذكرناه في البيوت جارٍ على حدٍّ من الاعتدال، فأما إيجاب المفارقة وكلٌّ في حجرة منفردة بمرافقها، فلا أصل لهذا، وهو على نهاية الضعف.
وحكى القاضي هذا الوجه في الدور التي أبوابها لافظةٌ في السكة، وقال: إذا حلف لا يساكن فلاناً، فصاحب الوجه الضعيف يقول: إن كان منفرداً بدارٍ لما حلف، فعليه أن يخرج من المحلة، وحق هذا الوجه أن لا يُحكى إلا للمبالغة في تضعيفه؛ فإن صاحبه يقول ما يقول واليمين مطلقة، وكون رجلين في دارين من سكة واحدة لا يعد مساكنة، إلا على تقييد، والمساكنة مطلقة في اليمين معرّاة عن النية.
11754 - وتمام الغرض في هذا يبين بصنفٍ آخر من الكلام، هو أن الرجل لو
__________
(1) زيادة من (هـ 4).

(18/336)


قال: والله لا أساكن فلاناً، وكانا في بلدة واحدة لا يجمعها سكة ولا مَحِلَّة، وزعم أنه نوى نفي مساكنته في البلدة، فلا خلاف أن مطلق اللفظ لا يحمل على هذا، فإن نوى هذا، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا ليس مساكنة، فإن نوى أمراً لا يطابق اللفظ، فالنية بمجردها لا تعمل عملاً، كما لو قال: لا أساكن فلاناً، وزعم أنه لا يساكنه في خراسان، أو في إقليم بعينه، والمعتبر في الباب أن ذلك لا يكون مساكنة، فإن نوى بذلك مساكنة، فهذه نيةٌ لا لفظ معها، فإن قلنا: تنعقد اليمين في البلدة اتباعاً للنية، فلا شكّ أنها تنعقد على المحلّة، وإن قلنا: لا تنعقد على البلدة، ففي المَحِلّة تردد وإن كانت مفتوحة، ثم السكة المنسدة يظهر القطع فيها باتباع النية مع الانفراد بالدار.
هذا تفصيل القول في المساكنة.
ومن تمام الكلام فيها أنه إذا قال: لا أساكن فلاناً، ثم شمّر لتأسيس جدار يميز النصف الذي يسكنه من الدار عن النصف الذي يسكنه صاحبه، فالظاهر أنه مساكن إلى اتفاق الجدار، والحنث يحصل، بخلاف التشمير لنقل الأمتعة [على الاعتياد فيه.
وفي بعض التصانيف وجه أن الاشتغال بذلك ابتدار إليه بمثابة التشمير لنقل الأمتعة] (1)، وهذا بعيد لا أصل له؛ فإن أهل العرف يعدونه مساكناً في الحال متأهباً لقطع المساكنة إذا تهيأ له السبب.
فصل
قال: " ولو حلف لا يدخلها، فرقَى فوقها، لم يحنث ... إلى آخره " (2).
11755 - إذا حلف لا يدخل داراً إن كان خارجاً منها، فدخلها، حَنِث، وإن كان فيها لما حلف، فاستدام المقام، فالصحيح أنه لا يحنث؛ فإن استدامة الكون في الدار لا يُسمّى دخولاً، بخلاف ما لو قال: لا أسكن الدار، فاستدام المقام؛ فإن هذا السكونُ بعينه.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).
(2) ر. المختصر: 5/ 231.

(18/337)


ولو قال: والله لا ألبس ثوباً، وكان لابسه لما حلف، فإن نزعه على الفور، لم يحنث وإن استدامه، حَنِث، والاستدامة في الثوب على قياس السكنى في الدار.
ولو كان راكبَ دابّة، فقال: والله لا أركبها، فاستدام ركوبها، حَنِث وفاقاً، وعبر الأصحاب عن غرض الفصل في الفرق والجمع فقالوا: ما يعبّر عن استدامته بما يعبر به عن ابتدائه، فالاستدامة فيه كالابتداء في اليمين، وما لا يعبر عن استدامته بما يعبر به عن ابتدائه فليست الاستدامة فيه كالابتداء في البِرّ والحِنْث، وخرجوا على ذلك مسألة اللبس، والركوب، والدخول، فقالوا: يقال للابس الثوب: البسه إلى غروب الشمس، ويقال لراكب الدابة: اركبها إلى المنزل، أي استدم ركوبها، ولا يقال للكائن في الدار: ادخلها أي استدم الكون فيها، وأقرب من هذا أنه لا يقال للكائن في الدار: استدم دخولها، ويقال للراكب واللابس: استدم الركوب واللبس.
ومن أصحابنا من قال: إذا قال الكائن في الدار: والله لا أدخلها، فأقام فيها، حَنِث، قياساً على اللبس والركوب، وهذا ضعيف جداً، ولا خلاف أن المتطهر لو قال: والله لا أتطهر، فلا يحنث باستدامة الطهارة واجتنابه الحدث.
وسرّ هذا الفصل أن مقصود اللُّبس والركوب في الدوام كمقصودهما في الابتداء واللفظ صالح، فحمل اللفظ المطلق على المقصود العام؛ فإن الألفاظ إذا استقامت عُني بها في الإطلاق مقاصدُها العامة، وإذا قال الرجل: لا أدخل الدار، فليس يبعد أن يقال: مقصوده اجتناب الدار، وعن هذا تخيل صاحب الوجه البعيد أنه لو أقام، حَنِث، ولكن لفظ الدخول لا ينطبق على هذا المقصود، ومجرّد المقصود لا يكفي حتى ينطبق لفظ اليمين عليه، سيّما إذا كان اللفظ مطلقاً. نعم، إذا فرعنا على الأصح، [وهو أنه لا يحنث بالمقام إذا قال: لا أدخل واللفظ مطلق] (1) فلو نوى اجتناب الدار، فالأصح أنه يحنث بالمقام.
ومن أصحابنا من قال: لا يحنث وإن نوى؛ لأن اللفظ إذا لم يطابق المقصود، تجردت النية، والنية المجردة لا تُلزم أمراً.
__________
(1) زيادة من (هـ 4).

(18/338)


11756 - ولو قال: والله لا أدخل الدار، فرقى فوقها وانتهى إلى سطحها، ولم يدخل الدار؛ فإن كان السطح أجمَّ (1)، لم يحنث لأن هذا لا يُسمَّى داخلاً، وإن كان السطح محوطاً، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحنث؛ [فإنه على سطح الدار، وإن كان السطح مستَّراً] (2) والثاني - أنه يحنث؛ لأن السطح إذا كان محوطاً، فهو كِنٌّ من الدار، وقد يكون سور الدار من معظم الجوانب محيطاً بالعرصة المحضة من غير بناء، ولو كانت الحيطان مسقّفةٌ، فهذه غرف، وهي من الدار، فمن انتهى إليها، فقد دخل الدار.
ولو كان السطح مستَّراً من جانب، فما أرى ذلك مؤثِّراً، ولو كان مستَّراً من جانبين، أو من ثلاثة جوانب، ففي هذا تردد، والعلم عند الله تعالى، والأصح أن الحاصل على السطح المحوط من جميع الجوانب لا يكون داخلاً، والتفريع على الضعيف ضعيف.
ولو حلف على الخروج، فصعد السطح، فقد قال القاضي: إذا قلنا: الحاصل على السطح ليس داخلاً، فالذي رقى من الدار إلى السطح خارج في حكم البر والحِنث. وكان شيخي يقطع بأنه ليس بخارج، ويقول: الحاصل على السطح ليس داخلاً ولا خارجاً، وهذا متجه، وكان يشبه هذا بما لو قال: لا أخرج فأخرج بدنه والبعض في خِطَّة الدار، فليس خارجاً، ولو قال: لا أدخل، فأدخل بعض بدنه، والبعض خارج، فليس داخلاً، كذلك الحصول في السطح.
11757 - ولو قال: لا أدخل الدار، فدخل الدهليز، فالوجه أن نذكر قاعدة المذهب، ثم ننقل نصاً فيها، قال أصحابنا: إن دخل ما يقع وراء باب الدار، وكان لا يُسكن ووراءه منفذٌ إلى العرصةِ والأبنيةِ المسكونة، فالدِّهليز الذي يغلق الباب عليه من الدار، فمن دخله، فقد دخل الدار.
ولو كان أمام الدار طاقٌ يسكن به من أراد، والباب عند منقطعه، فالحالف على
__________
(1) أجمّ: أي بغير سُترة. (المعجم).
(2) ما بين المعقفين سقط من الأصل.

(18/339)


نفي الدخول هل يحنث بالحصول في هذا الطاق؟ فعلى وجهين. هكذا ذكره الأصحاب، وقالوا: الأظهر أنه لا يحنث؛ فإن الدار وراء الباب، ووجه من قال: يحنث أنه يدخل تحت اسم الدار إذا بيعت الدار. والذي أراه أن محل الخلاف الطِّيقان أمام أبواب العظماء، فأما الآزاج (1) التي تُخرَج قوابيلَ إلى الشارع، وليست من تربيع الدار، فالحصول فيها لا يكون حصولاً في الدار وجهاً واحداً، وكأن الطاق الذي يبنى أمام الدار من خِطة الدار، ولكنه مهيأ للأتباع الذين يشهدون، ولا يُحجبون (2)، وكأن ذلك الكِنَّ قطعةٌ مسلمة لا غلق عليها من الدار، ووراءها الدِّهليز، وهو فوق الطاق ودون العرصةِ، ومواضعِ السكون، وبعد ذلك مواضع السكون.
هذا بيان المذهب، وقد نقل الأئمة عن الشافعي أنه قال: " إذا حلف لا يدخل داراً، فدخل الدِّهليز، لم يحنث " وحمل الأئمة هذا على الطاق أمام الباب، وليس يبعد عندنا أن يحمل هذا على الدِّهليز وراء الباب؛ فإن الإنسان قد يقول: دخلت الدِّهليز، ولم أدخل الدار، وليس في نص الشافعي تفصيل، ولكن ما رآه الأصحاب حملُ النص على الطاق، كما قدمناه.
فصل
قال: " وإن حلف لا يسكن بيتاً، وهو قَروي أو بَدوي، ولا نية له ... إلى آخره " (3).
11758 - هذا الفصل قطب الباب، وبه يتضح معظم الغرض، إن شاء الله تعالى.
قال الشافعي: " إذا حلف لا يسكن بيتاً، فدخل بيتاً مبنياً مسقّفاً أو بيتاً مضروباً من شَعرٍ
__________
(1) آزاج: جمع أَزَج، مثل سبب وأسباب، وتجمع أيضاً على أُزج، والأزج بناء مستطيل مقوس السقف. والقابول: سقيفة بين حائطين تحتها ممر نافذ، جمعها قوابيل. (المصباح والمعجم).
(2) هـ 4: " يشهدون ويحجبون ".
(3) ر. المختصر: 5/ 231.

(18/340)


أو غيره مطنَّباً (1)، حَنِث سواء كان بدوياً أو قروياً، إذا كان اللفظ مطلقاً، ولا نية للحالف " فدل كلامه على أن اسم البيت ينطلق على الخيام والأخبيةِ وبيوتِ الشعر والكِرباس انطلاقه على البيوت المبنية، واستشهد في بعض مجاري كلامه بقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا} [النحل: 80]، أراد البيوت التي تضرب من الأدَمِ، هذا كلام الشافعي، وبيان ظاهره، وبيان ادعائه أن اسم البيت ينطلق على هذه الأصناف.
واضطرب أصحابنا بعد ذلك، وحاصل ما قالوه يحصره ما نصفه إن شاء الله تعالى، قالوا: إن كان الحالف بدوياً، فالأمر على ما ذكره الشافعي سواء حلف في البادية أو حلف في القرى والبلاد؛ فإنه لا يطلق لفظه إلا ويعنى به التعميم، ولا نشك أن اسم البيت في حقيقة اللغة ينطلق على جميع هذه الأجناس، فإذا أَطلق هذا الاسم من يليق به إطلاقَه على حقيقة اللسان، فمطلقُ لفظه محمول على موجَب اللغة، فأما القَروي إذا ذكر البيتَ، ففي المسألة ثلاثةُ أوجه: أحدها - أن لفظه محمول على البيت المبني؛ فإنه لا يعني في الغالب إلا ذلك، فيحمل مطلق لفظه على ما يغلب على الظن أنه المراد باللفظ.
والوجه الثاني - أنه يحنَث بما يحنَث به البدوي؛ تعلقاً بموجب اللسان.
والوجه الثالث - أنه يفرق بين أن يكون من قرية قريبة من البادية يطرقها البدويون، ويناطقونهم فيها، فإن كان كذلك، يحنث القروي، وإن كانت القرية بعيدة عن البادية، فالبيت من أهله محمول على المبني، والبدوي إذا قطن البلد، وأطال الثواء به، وصار يناطق أهل البلدة بما يتعارفونه، فحكمه حكم البلدي، والقروي إذا تبدّي، وصار يناطق أهل البادية بلغتها، فهو كالبدوي. هذا ما ذكره الأصحاب في ذلك.
11759 - ومن هذا المنتهى نضطر إلى ذكر أصلٍ ذكره المزني في بابٍ بعد هذا،
__________
(1) مطنَّباً: الطُّنُبُ بضمتين، وبضم وسكون أيضاً: الحبلُ. وطنّب الخيمة ونحوها: جعل لها أطناباً وشدها بها. (المصباح، والمعجم).

(18/341)


وهو أنه قال: " من حلف لا يأكل اللحم، لم يحنث بلحم الحيتان، ومن حلف لا يأكل الرؤوس، لم يحنث بأكل رؤوس الحيتان والطيور ونحوها مما لا يفرد في العادة بالشيِّ والأكل " (1)، واسم الرأس في حقيقة اللسان ينطلق على رؤوس الحيتان والطيور، كما ينطلق اسم البيت على الخيام، والأخبية.
قال الشيخ القفّال: سمعت الشيخ أبا زيد يقول: " لست أدري على ماذا بنى الشافعي مسائل الأيمان؟ فإن كان يتبع الاسم اللغوي، وجب أن يحنَث من يأكل رؤوس الطير والحيتان، وإن كان الاعتياد لا يجري بإفرادها بالاكل، وإن كان يبني المسائل على العرف، فأصحاب القرى لا يعدون الخيام بيوتاً. وقد قال الشافعي: لا فرق بين البدوي والقروي ".
وقد حوم الصيدلاني على ما هو المقصود بعضَ التحويم، وإن لم يستكمل البيان، ونحن نسوق كلامه على وجهه، قال: " إذا كثر الشيء وتقاعد الاسم عنه، تبين أنه غير معني بالاسم في الوضع، وبيان ذلك أن لحوم الحيتان كثيرة في بلاد العرب، وهم لا يعنونها إذا ذكروا اللحم، فكان خروجها عن مطلق اسم اللحم غيرَ محمول على عزّة الوجود، بل هو محمول على أن اسمَ اللحم لم يوضع لها، وأما البيوت، فحيث تكثر الخيام والأخبية، فيفهم من إطلاق البيوت الخيامُ، فإذا ندرت في بقعة، فالاسم متناول، ولكن عدم البيوت والأخبية أو قلتها يخرجها عن القصد. هذا منتهى كلامه.
وخرّج عليه خبزَ الرّز قائلاً: لو حلف في بلاد طبرستان: والله لا آكل الخبز، حنث بخبز الرّز، ولو عقد اليمين في بلادٍ غيرها على الخبز، فيبعد أن يعني خبز الرّز.
هذا منتهى كلامه، وليس عرياً عن الفائدة وإن لم يشف الغليل.
11760 - والمقصودُ عندنا يبين ويتضح بأن نقول: ما لا يفهم من الاسم مع عموم وجوده كلحوم الحيتان، فيعلم أنه ليس معنيّاً، فلا يحمل عليه الاسم المطلق، وإن نواه الحالف، نزلت يمينه على نيته؛ فإن الرّب تعالى سماها لحماً، فقال عز وجل:
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 235.

(18/342)


{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] فهذا بين، فأما البيت، فهو في وضع اللغة حقيقةٌ في بيت الشعر وما في معناه، ومنه شبه الخليل بن أحمد (1) بيت الشِّعْر ببيت الشَّعَر وقطعه في العَروض على الأسباب والأوتاد، والفواصل والفواضل (2) المقرونة والمفروقة (3)، فشيوع البيت في الأخبية والخيام ظاهر في اللغة، وهو مأخوذ من بات يبيت، وهو الموضع الذي يبات فيه، فإذا تمهّد هذا في اللسان، فإذا أطلقه من يغلب منه إرادة بيت الشعر، فقد [اجتمع] (4) الوضعُ وغلبةُ الإرادة، فحمل مطلق اللفظ عليه.
وإذا نطق القروي، فحكم اللسان ما ذكرناه، ولكن الغالب أنه يريد بالبيت البيوتَ المعروفة المبنية، فإن نواها، نزل لفظه على نيته، وإن أطلق اللفظ، انقدح فيه مسلكان: أحدهما - أن يقال: لا يطلق اللفظ إلا عن قصد، ولعله ذَهل عنه بعد ما صدر منه، والقصد اللائق به الكلامُ على المتعالَم المتعارف في المكان الذي هو ساكنه، فعلى هذا يحمل على بيوت المدر.
والمسلك الثاني - أن يقال: إذا قال: لم يكن قصدٌ، فقد قصد إلى اللفظ، ولم يُنزله على شيء فأُخذ باللفظ ونحن إنما نُزيل وضعَ اللفظ بالقصد، فإذا لم يوجد منه قصد إلى ما يزيل اللفظ واللفظ صريح، كان مؤاخذاً باللفظ، وكأنه حلف على معنى اللفظ.
ولو قال الرجل: والله لا آكل ما يسمّى تفاحاً، وكان لا يدري التفاح، انعقدت يمينه على ما يُسمّى تفاحاً، وعلى هذا إذا قال: لا آكل اللحم، فلحم الحيتان خارج، والتحقيق أنه لحم، ولكنه خرج عن عرف اللسان وأحَدٌ لا يترك العرفَ في اليمين، ولكن الكلام في أن المرعي عرف اللفظ، أو عرف اللاّفظ.
__________
(1) الخليل بن أحمد الفراهيدي: إمام العربية، وواضع علم العروض، مذكور في الروضة، توفي بالبصرة سنة 170 هـ (تهذيب الأسماء واللغات: 1/ 177).
(2) الفواضل هي الفواصل (كشاف اصطلاحات الفنون: باب الفاء فصل اللام).
(3) لا يحتاج إلى شرح ما أراده الإمام من بيان وجه الشبه بين بيت الشَّعْر وبيث الشِّعر؛ فكل من لديه أدنى إلمام بمبادىء علم العروض يدرك ذلك.
(4) في الأصل: " احتمل ".

(18/343)


ولو أردنا بسطاً، لَزدنا، وفيما ذكرناه مَقنَع للطالب الفطن.
ولم أتعرّض للكلام فيما يضاهي اللحم من البيض وغيرها؛ فإنها بين أيدينا.
ولستُ أجد بداً من ذكر طرف من الكلام في الرؤوس، فإذا حلف لا يأكل الرؤوس، لم يحنث برؤوس الطير، وفي تحنيثه برؤوس البقر والإبل ثم برؤوس الصيود وبرؤوس الحيتان إذا كانت تفرد بالشيّ كلام وتفصيلٌ سيأتي في الجامع الثاني، إن شاء الله تعالى. وهذا أشبه المسائل بالبيت.
وإذا انتهينا إليها أعدنا طرفاً من فصل البيت، وحكمنا على نَصَفَةٍ وعَدْلٍ بين المسألتين، إن شاء الله.
ولم يختلف أصحابنا أن الألفاظ المطلقة لا تحمل على المجازات في اللسان إذا لم يشتهر التجوّز اشتهار الحقيقة، فالبساط لا يحمل على الأرض، والوتد لا يحمل على الجبل، وإن سمى الله الأرض بساطاً والجبال أوتاداً.
وقد انكشف في هذا الفصل معظم مشكلات الباب وتبين بالضبط الأخير الذي ذكرناه أنّ التردد يعود إلى التعلق بعادة اللافظ أو بعرف اللفظ عند أهله، وحكى أصحاب القفال عنه أنه كان يقول: لو عقد اليمين في فصل البيت بالفارسية، فقال- (اندرخانه تشوم)، فاليمين ينعقد والحالة هذه على البيوت المبنية دون الخيام والأخبية، وهذا حسن متجه؛ من قِبل أنا إن راعينا عرف اللفظ، فمقتضاه الاختصاص بالبيوت المبنية، وإن راعينا اللفظ، فاللفظ أعجمي لا يراد به الخيام إلاّ على استكراهٍ وتشبيهٍ بالبيوت المبنية.
11761 - ولو قال لا أدخل بيتاً، فدخل مسجداً مسقّفاً، أو دخل الكعبة، فالذي دخله على صورة البيت ولو فرض مسكناً أو مخزناً وهو على ما هو عليه يحنث، فإذا كان مسجداً، فالذي مال إليه جماهير الأصحاب أنه لا يحنث؛ فإن هذا لا يُعنى بالبيت المطلق، ولا يُسمّى بيتاً ما لم يُضف ولم يقل بيت الله تعالى، وهذا بمثابة ما لو عقد اليمين على الامتناع عن أكل الرأس، فرأس الطائر رأس، ولكن لا يُعْنَى بإطلاق الرأس حتى يضافَ، وقال بعض أصحابنا: يحنث داخلُ البيت وإن كان

(18/344)


مسجداً؛ لأنه كان يحنث قبل أن جُعل مسجداً، والتحبيس والصرف إلى جهة الخير لا يغير الاسم، وهذا التردّد لا يتحقق في رؤوس الطير؛ فإنها لا تعهد إلا وهي غير معنية بإطلاق الرؤوس.
وما حكيناه من الظاهر والتردد يجري عندي في الحمام والبيت الذي فيه الرحى، فإنها بيوت من طريق الصورة، ولكنها اختصت بأسماء شاعت فيها، فصارت لا تراد بإطلاق اسم البيوت.
فصل
قال: " ولو حلف لا يأكل طعاماً اشتراه فلان ... إلى آخره " (1).
11762 - إذا حلف لا يأكل طعاماً اشتراه فلان، فورثه فلانٌ أو اتهبه، أو قبل الوصية فيه، فلا حِنث، ولو أسلم ذلك المعيّن في طعامٍ واستوفاه، فهذا طعام اشتراه فلان؛ فإن السلم صنف من البيوع، ولم يغلب عليه لقب السلم غلبةً تمنع اندراجه تحت مطلق الشراء، ولو كان باع فلان طعاماً وسلّمه، ثم رُدَّ عليه، فليس هذا مما اشتراه، ولو استقال البيعَ فأُقيل، فالطعام الذي ارتد إليه بالاستقالة ليس مما اشتراه، ولا يخرج هذا على القولين في أن الإقالة فسخ أو بيع؛ فإنا وإن حكمنا بكونها بيعاً، أردنا أنها من طريق الحكم بيعٌ، والأيمان تؤخذ من موجبات الألفاظ في عرف التفاهم، والمستقيل لا يُسمّى مشترياً.
ولو قال: لا أدخل داراً اشترى بعضها فلان؛ فأخذ ذلك المعين شقصاً من تلك الدار بالشفعة، فلا يحنث الحالف بدخولها؛ فإن الأخذ بالشفعة لا يُسمّى شراء، وإن كان في معناه، ولو كان بين المعيّن وبين إنسانٍ طعامٌ مشترك فاستقسم، وتحصل على حصة معينة، فليس ما حصل له مما اشتراه، وإن جعلنا القسمة بيعاً حكماً.
ولو كان لذلك الرجل المعين دَين على إنسان، فصالح عنه على طعام، فقد قال الصيدلاني: ليس ذلك الطعام مما اشتراه في حكم اليمين، فإن الصلح لا يسمّى
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 231.

(18/345)


شراءً، وهذا لست أراه كذلك؛ فإنه شراء على الحقيقة مشتمل على الإيجاب والقبول، وثمنه الدَّين الذي في ذمة البائع، وغلبة اسم الصلح عليه بمثابة غلبة السلم والصرف.
ولو ملك ذلك المعين عن الاشتراك والتّولية، فالحاصل مشترىً عندي لا شك فيه؛ لأنه تملك اختياري مبني على الإيجاب والقبول، ولو أخذ طعاماً عن أجرة داره، فلست أراه مشترياً لبعد الإجارة وعوضها -في حكم اللسان والعرف- عن اسم البيع، وإن قال الشافعي: الإجارة صنف من البيوع.
وقد يليق بهذا المنتهى ذكرُ شيئين: أحدهما - أن يكون المعين وكيلاً في شراء الطعام لغيره أو موكِّلاً غيره بالشراء، وقد يشتري شراء فاسداً، والقول في هذين النوعين مذكور في أثناء الباب، فأخرناه.
11763 - ولو قال: لا آكل طعاماً اشتراه فلان، فاشترك فلان وفلان في ابتياع الطعام أو اشترى ذلك المعين طعاماً ثم خلطه بطعام اشتراه غيره خلطاً يتعذر الميْز معه، فهاتان الصورتان استدَّ فيهما المحققون، وتخبط طوائف من الأصحاب، فنذكر ما لا يجوز، غيره، ثم نذكر وجوه الخبط.
قال الشافعي وفقهاء أصحابه إذا اشترك فلان وفلان في الشراء، لم يحنث الحالف بالأكل، وإن أتى على جميع الطعام؛ فإنه لا يقال: إنه أكل طعاماً اشتراه فلان، بل لا ينص على جزء منه وإن قلّ قدره، فيقال: هذا مما اشتراه فلان، بل يقال في الكل والجزء: هذا طعام اشترى بعضه فلان، وموجب اليمين الامتناع عن طعام اشتراه فلان، فلا يكفي أن يقال: اشترى بعضه، وخالف أبو حنيفة (1)، فحنَّث الحالف بأكل جزء مما اشتراه فلان وفلان، وإن قل قدره، ووافق أنه إذا قال: لا أدخل داراً اشتراها فلان، فاشترك فلان وفلان في شرائها، لم يحنث الحالف بالدخول، ولا فرق، وإن تخيل الإنسان فرقاً ببوادر الوهم، [لم يستدّ] (2) له إذا تثبّت، هذا هو المذهب في هذه الصورة.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 259 مسألة 1363، المبسوط: 9/ 3، البد ائع: 3/ 57.
(2) في النسختين: لم يستمر.

(18/346)


فأما الصورة الثانية وهي إذا انفرد فلان بالشراء، ثم خلطه، مثل أن يشتريَ دقيقاً ويخلطَه بدقيق الغير، فالذي يجب القطع به أن الحالف إن أكل من المختلط ما يعلم قطعاً أنه أتى على شيء مما اشتراه المعين في اليمين فيحنث؛ فإن فيما أكلهُ طعاماًً اشتراه فلان، وما ذكرناه من رعاية اليقين لا يقف على أن يأكل من الطعام المختلط مقداراً زائداً (1) على المقدار الذي اشتراه شريك فلان؛ فإن اليقين يحصل دون ذلك؛ إذ لو خلط صاعاً من دقيق كان اشتراه منفرداً بشرائه بصاعٍ من دقيق، وأنعم الخلط وقلّب، فقد يستيقن الحِنث بالحِفنة يتعاطاها، وهذا يختلف بالقلة والكثرة، وإنعام الخلط، ونحن نتبع اليقين، ولا يحنَث الحالف إلا به.
11764 - فإذا تبين المذهب في الصورتين، خضنا بعدهما في تخليط طوائفَ من الأصحاب. قال بعض المصنفين: إذا قال: لا آكل طعاماً اشتراه فلان، فاشترى فلان وفلان طعاماًً على الاشتراك، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - ما ذكرناه، ورأيناه المذهب، وهو أنه لا يحنث بأكل الجزء، ولا بأكل الكل.
والوجه الثاني - أنه يحنث بأكل مقدارٍ قليل من ذلك المشترى، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، ولست أنكر دخول هذا الوجه تحت الإمكان المعتبر في مسائل البرّ والحنث في الأيمان، ولكنه ليس مذهبَ الشافعي، وليس ناقلُه معتَمَداً، وليس على مقامٍ يُقبل تخريجه. ووجهه -على بعده- اتباعُ المقصود مع أن اللفظ ليس نابياً عنه؛ فإن غرض الحالف الامتناعُ عما يثبت للمعيّن فيه شراء، وقد تحقق هذا المعنى.
والوجه الثالث -وهو سخيف في الحقيقة- أنه إن أكل أكثر من النصف، حَنِث، وإن أكل النصف فما دونه، لم يحنَث؛ أخذاً من أنهما لو اقتسما، لأخَذَ كل واحد منهما نصفاً، وكان يجوز أن يكون المأكول واقعاً في حصة من لم يحلف عليه.
وهذا هذيان، لا التفات إلى مثله، ثم هذا الرجل إذا حكى الأوجهَ الثلاثة، لم يذكر مثلها في الدار، ولم يتعرض لها، ولا وجه إلا القطع بما ذكره أبو حنيفة
__________
(1) هـ 4: "شاملاً".

(18/347)


رضي الله عنه، وهو أنه لا يحنَث الحالف بدخول الدار التي اشتراها فلان وفلان إذا كانت اليمين معقودة على ذكر فلان وحده، فأما إذا اشترى فلان طعاماًً وخلطه بطعام آخر، فقد ذكر بعض الأصحاب في هذه الصورة أوجهاً: أوجهها وما يجب القطع به - ما قدمناه من اتباع اليقين، فإذا أكل مقداراً يستيقن أن فيه مما اشتراه فلان، حَنِث.
والوجه الثاني - أنه لا يحنَث وإن أتى على الكل؛ فإن الاختلاط ينافي التعيين، واليمين معقودة على انتحاء طعامٍ اشتراه فلان بالأكل قصداً إليه، وهذا ممتنع في المختلط، وهو رَديءٌ، لا أصل له.
والوجه الثالث - أنه يحنث إذا أكل أكثر مما اشتراه شريك فلان، وهذا إشارة إلى أن الاستيقان يحصل عند ذلك، ولا ينبغي أن نستجيز عدّ هذا من المذهب، مع تحقق اليقين دونه.
فتحصّل في الصورتين: أنا نقول في مسألة الخلط: المتبع اليقين، وكل ما عداه غلط غير معتد به، ونقول في مسألة الاشتراك في الشراء: مذهب الشافعي أن الحالف لا يحنث وإن أكل الكل، وما سواه ليس بمذهب، ولكن ما حكي موافقاً لمذهب أبي حنيفة رضي الله عنه لو صح النقل فيه، ليس يبعد توجيهه، كما أشرنا إليه.
ولو كان في يد إنسان تمرة، فسقطت واختلطت بصُبْرةٍ من التمر، فقد قال الأصحاب: إذا حلف الإنسان ألا يأكل تلك التمرة، لم يحنث حتى يأتي على جميع الصُّبرة، واثقاً بأنه لم يغادر منها تمرة، ولم ينسلّ من جملتها واحدة، حتى لو بقي تمرة واحدة، لم نحكم بأنه يحنث، وهذا بناه الأصحاب على طلب اليقين.
وقد يعترض صورة يحصل اليقين فيها دون ذلك، وذلك بأن تقع التمرة في جانب من الصُّبْرة، ولا شك أنها لم تغص فيها، فإذا أخذ الحالف يلقط التمرة ويأكلها من الجانب الذي وقعت التمرة عليه، حتى استيقن أنه أتى عليها، فالمتبع اليقين لا غير.

(18/348)


فصل
" إذا حلف لا يأكل مما طبخه فلان ... إلى آخره " (1).
11765 - فالطبخ هو الإيقاد تحت الآلة التي فيها الطبيخ، فلو هيّأ رجلٌ اللحمَ وقطّعه قِدداً، وصبّ الماء على قَدَرٍ في القِدْر، وجمع التوابل، وأخذ غيرُ هذا الشخص في الإيقاد، فالطابخ الموقدُ، هذا ما ذكره الأصحاب، وقد يتطرق إلى هذا تفصيل عندي فأقول: إن تُصورت المسألة بالصورة التي ذكرنا، ثم انفرد الموقد بالإيقاد، فكان لا يراجع في إيقاده جامعَ الأخلاط في القدر، فهو الطابخ حقاً، وإن جمع (2) الحاذق بالطبخ (3) العليم به، وجلس بالقرب، وكان يستخدم صبياً في الإيقاد على قِدْرٍ، وهو فيه يأمر ويزجر ويستقلّ ويستكثر، فليس من يتعاطى قَطْعَ الحطب مستقلاً بالإيقاد، فهذا فيه تردد، فقد يُعزى الطبخ إلى الأستاذ والحالة هذه، فلا يبعد أن يقال: الطابخ هو الحاضر الآمر.
وقد صار بعض أصحابنا إلى قريب منه، وإن كان مأخوذاً من أصلٍ آخر، فقالوا: من حلف على الامتناع من فعلٍ وكان مثله لا يتعاطاه، وإنما يأمر به إذا أراده مترفعاً عن مباشرته، فإذا أمر ولم يباشر واليمين معقودة على إضافة الفعل إليه، ففيه كلام سيأتي مشروحاً، إن شاء الله تعالى.
ولو قال: لا آكل مما طبخه فلان، وكان فلان وفلان يوقدان على اشتراك تحت القدر، فهذا خارج على الاشتراك في شراء الطعام، والمذهب القطع بأنه لا يحنث.
ولو كانت المسألة بحالها، فأوقد المحلوف عليه حتى انتهى الطعام إلى حد يُسمى طبخاً، ثم انكفّ وجاء موقد آخر، وزاد الإيقاد، فتأثر الطبيخ مزيد تأثر، فالمذهب أنه يحنَث، فإنه تعاطى طعاماً طبخه فلان، وليس الطبخ على التصوير الذي ذكرناه على حكم الاشتراك.
__________
(1) لم أصل إلى هذه العبارة في المختصر.
(2) هـ 4: " حضر".
(3) هـ 4: "بالطبع ".

(18/349)


ومن أصحابنا من ألحق هذا بالاشتراك في الطبخ من أول مرة إلى نهاية الطبخ، وهذا بعيد، فلو أوقد الأول فتسخن الماء، ولم يتأثر ما في القدر وانكفّ، فهذا ليس بشيء، فالطابخ من أتى بعده، وإذا فرعنا على المذهب، وقلنا: إذا طبخ الأول بعض الطبخ، وحصل الاسم، فيحصل الحِنث، فلو كان الحلف معقوداً على طبخ من أتى ثانياً، فهذا محتمل جداً، يجوز أن يقال: يحصل الحِنْث بطبخ الثاني أيضاً في حق من حلف عليه؛ فإن إيقاده مؤثر، والطعام به متأثر، ويجوز أن يقال: لا يحصل الحِنث في اليمين المعقودة على طبخ الثاني، فإن اسم الطبخ إذا حصل من الأول، فما يصدر من الثاني لا يُسمى طبخاً، بل يسمى استتماماً واستكمالاً.
ولو قال: لا آكل مما طبخه فلان، وكان ذلك المعين يوقد وبالحضرة من يقطع له الخشبة ويناوله إياها، فلا أثر لهذا، والتعويل على إدخال قطع الحطب تحت القدر.
فصل
" ولو حلف لا يسكن دارَ فلان هذه فباعها ... إلى آخره " (1).
11766 - إذا حلف لا يسكن دار فلان، أو لا يدخلها، فاللفظ مطلق، فهو محمول على الدار التي يملكها فلان، فلو دخل داراً استأجرها فلان أو استعارها، أو أوصى له بمنفعتها لم يحنث، فإن الإضافة المطلقة مقتضاها الملك، ولو قال: لا أدخل مسكنَ فلان، ثم دخل الموضع الذي يسكنه بإعارة أو إجارة أو وصيّة، حَنِث، ولو قال من في يده الدار: هذه الدار مسكن فلان، فالذي يقتضيه قياس قول الأصحاب أنه لا يكون مقراً برقبة الدار لذلك الإنسان.
فلو قال: لا أدخل دار فلان، فدخل داراً مملوكةً له، وهو لا يسكنها، حَنِث؛ تعويلاً على الملك. ولو قال: لا أدخل دار فلان، وكان لفلان دار مملوكة، فباعها، ثم دخلها الحالف، لم يحنث بناءً على ما ذكرناه، ولو قال: لا أدخل دار فلان هذه، فجمع بين الإضافة والإشارة، وكانت الدار إذ ذاك ملكَ فلان، فباعها،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 231.

(18/350)


وأزال ملكه عن رقبتها، فإذا دخلها الحالف بعد زوال الملك، فظاهر المذهب أنه يحنث تغليباً للإشارة.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه (1): لا يحنث تغليباً لاعتبار الإضافة، وخرّج بعض الأصحاب قولاً موافقاً لمذهب أبي حنيفة، ووجهه أنه اعتمد الإشارة والإضافة، فكأنه ربط اليمين بهما، فلا يحصل الحنث بأحدهما، وناصر المذهب يغلّب الإشارة، ويجعل الإضافة معها كالتأكيد الذي لا يُعتنى به؛ من جهة أن الإشارة إذا اعتمدت وحدها فهي لا تزول والإضافة تتبدل وتزول.
وهذا الفصل مفروض في الإطلاق، فلو نوى الحالف اعتبارَ الملك والإشارة، فلفظه مُنزّل على نيته، ومسائل الأَيْمان مجراةٌ على الإطلاق؛ فإن جهات الاحتمال متسعة [إذا كنا نعتبر الظاهر] (2)، ونكتفي بما نكتفي به في التّديين، ومسائلُ الباب تُخرَّج على قواعدَ، فإذا كانت منويّة، اتبعنا النية [إذا كنا نجد بين اللفظ] (3) والنية ارتباطاً وإن كان على بعد، وإن لم يكن بين اللفظ وبين النية ارتباطٌ أصلاً، فلا تعويل على النية، وإن كان قد يطلق مثلُ ذلك اللفظ على بعد (4) في التجوز، وهذا كقول القائل: والله ما ذقت لفلانٍ ماءً، فهذا قد يستعمله المُبَالغ وغرضه أني لم أذق له طعاماً، فلو كان أكل طعامه ولم يشرب له ماء، لم يحنث؛ فإن حَمْلَ الماء على الطعام ميلٌ عن صريح اللفظ، وإزالةٌ لحقيقته، وإذا لم يكن من اللفظ بد، فلا سبيل إلى تعطيل أصله.
وإن ذكر الحالف لفظاً له عرف عند أهل اللسان وعُرْفُ اللاّفظ خلافَه، فإن قصد تنزيله على عُرفه ينزل عليه، وإن لم يقصد تنزيله على عرفه، وتحقق أنه لم يقصد شيئاً، فهذا موضع التردد: فمن أصحابنا من اعتبر اللفظ وعُرفه، ومنهم من اعتبر
__________
(1) وهو قول أبي يوسف أيضاً، وقولُ محمد وزفر كالشافعي، ر. المبسوط: 8/ 165، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 269 مسألة 1379.
(2) في الأصل: " إذا كنا لا نعتبر الظاهر ".
(3) زيادة من (هـ 4).
(4) هـ 4: " إبعاد ".

(18/351)


اللافظ وعرفه، وميْلُ النص إلى اعتبار اللفظ إذا تحققنا أنه لم يكن للاّفظ قصد، وهذا غائصٌ حسن؛ لأنه لم يصرفه عن موضوعه بقصد، وليس هو من لغة الحالف، ولا سبيل إلى إبطال اللفظ، وعلى هذا أَلْزمنا المقرَّ بالدراهمِ الوازنةَ الخالصةَ، غير أنه إذا ادّعى تغيير اللفظ لم يقبل منه، ومن راعى عرف اللاّفظ نظر [إلى الملتزِم] (1) واللائقِ بحاله، وجعل كأن التلفظ منه لغته، ولفظ العرب يعتبر فيه عرف العرب، فكذلك لفظ هذا اللاّفِظ [ينبغي أن يعتبر فيه عرف اللاّفظ] (2) ولو اعتبر عرف غيره، لكان هو خارجاً عن طريق تخاطب أقرانه، وهذا يبعد، فلا يحمل على البعد إلا بقصد، وهذا فيه إذا أخبر أنه لم يقصد شيئاً.
فلو قال: قصدت، ثم ذَهِلت، فالظاهر هاهنا اعتبار (3) عرف اللافظ؛ فإن الغالب أنه يخاطب على موجب العرف الغالب إذا كان يقصد إجراء الكلام على حد التفاهم بين بني جنسه، والأصحاب طردوا الخلاف في هذه الصورة أيضاً.
وفي هذا بقية ستأتي في أول الجامع الثاني إن شاء الله تعالى.
11767 - ثم قال: " ولو حلف لا يدخلها، فانهدمت " (4).
إذا حلف لا يدخل دارَ زيد، فانهدمت، وصارت فضاءً، فطرقها، لم يحنث عندنا؛ فإن الموضع الذي تخطَّى فيه لا يُسمَّى داراً، والمسألة مفروضة فيه إذا لم يُشر، فإن أشار، فسيأتي شرحه على إثر هذا، إن شاء الله تعالى. ولو خربت السقوف، وبقيت الجدران، أو انهار من الجدران أقدار وبقيت جراثيمُ شاخصة، فالذي يجب اعتماده في ذلك أن البقعة التي دخلها إن كان يقال فيها إنها دارٌ خربة، فيحنث الحالف، وإن قيل: كانت داراً، فلا حنث، وإن قيل هذه رسوم دار فلان، فلا حنث، فالمتبع في النفي والإثبات هذا. وقال أبو حنيفة يحنَث بطروق العرصة،
وإن لم يبق شيء من الأطلال في مناقضاتٍ لهم، لا حاجة إليها.
__________
(1) في الأصل: " نظراً إلى المسلتين ". (كذا).
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) هـ 4: "اتباع ".
(4) ر. المختصر: 5/ 232.

(18/352)


فصل
قال: " ولو حلف لا يدخل من باب هذه الدار ... إلى آخره " (1).
11768 - الفصل يشتمل على صور نذكرها واحدة واحدة: فإن قال الحالف: لا أدخل هذا الباب من هذا الموضع، نظر: فإن قُلع البابُ، وفُتح موضعٌ آخر من جدار الدار، وعُلِّق الباب عليه، فلو دخل المنفذَ الجديد الذي عُلّق الباب المقلوع عليه، لم يحنث؛ فإنه قال: لا أدخل هذا الباب من هذا الموضع، فنص على تعيين الموضع، وعلق اليمين بالمنفذ المعين، [وتعرض] (2) للباب أيضاً.
ولو دخل المنفذ الذي عينه بعد قلع الباب، فهل يحنث؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يحنث؛ لأن اسم الباب ينطلق على ما يُردّ ويفتح، ويقلع وينصب، والمنفذ مدخل عليه باب، فإذا علق اليمين على الباب والمدخل، ثم قلع الباب، وجب ألا يحنث بأحد الأمرين، واليمين متعلقة بهما.
والثاني - يحنث، لأن المقصود هو التعرض للدّخول، والدخول هو الذي يليق بالمنفذ، ولو قال: لا أدخل هذا الباب مطلقاً، ولم يقل من هذا الموضع، ففي المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - أن الاعتبار بالباب حتى لو قلع وعلّق على منفذ آخر، ودخل الحالف المنفذ الجديد الذي عليه الباب، حنث، ولو دخل المنفذ الأول الذي كان الباب معلقاً عليه، لم يحنث؛ فالمعتبر عند هذا القائل الباب نفسه.
والوجه الثاني - أن الاعتبار بالمنفذ، فلو دخل المنفذ الأول، حنث وإن قلع الباب منه، ولو دخل المنفذ الثاني، لم يحنث، وإن كان الباب معلقاً عليه.
والوجه الثالث - أنا نعتبر الباب والمنفذ جميعاً -إذا قال: لا أدخل هذا الباب- فلو قُلع الباب وعُلّق على منفذ آخر، لم يحنث؛ لأن الأول منفذ تعلقت اليمين به قد زايله
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 232.
(2) في الأصل: " ويفرض ".

(18/353)


الباب، والثاني عليه باب، ولكن ليس المنفذ الأول، والحنث يحصل باجتماعهما.
ولو قال: والله لا أدخل باب هذه الدار، ولم يُشر إلى المنفذ، ولا إلى الباب، ثم فَتحَ باباً جديداً غير الباب الموجود حالةَ اليمين، فهل يحنث بدخول الباب الجديد؟ فعلى وجهين، والمسألة مفروضة فيه إذا لم يُشر، وسبب الخلاف التردد في أن اليمين هل تنزل على المنفذ والباب الموجودين حالة اليمين.
ولو قال: لا أدخل باب هذه الدار، فَرقى، وأتى من جهة السطح، ونزل من باب السطح، فهل يحنث؟ فعلى وجهين.
وكل ما ذكرناه واليمين مطلقة.
فأما إذا نوى المنفذ، وعين الدار، أو جهةً من الجهات التي ترددنا فيها، فيمينه منزلة على نيته.
11769 - ولو قال: لا أدخل مسكن فلان، فدخل مسكنه المستعار أو المستأجَر، حَنِث، كما تقدم، ولو دخل مسكنه الذي يأوي إليه، وكان مغصوباً، ففي تحنيثه وجهان: أحدهما - يحنث؛ لأنه دخل موضع سكونه.
والثاني - لا يحنث؛ فإن المسكن إذا أضيف، وجب أن تكون سُكناه مستحقة للمضاف إليه، ومسوّغة له، فإضافةُ الرقبة في قوله: " دارَ فلان " تقتضي استحقاقَ الرقبة، وإضافةُ المسكن يقتضي استحقاقَ السكنى.
ولو كانت له دار لا يسكنها، وقد قال الحالف ": لا أدخل مسكن فلان، ففي المسألة أوجه: أحدها - أنه يحنث؛ لأن الدار رقبتها وسكناها مستحقتان للمضاف إليه.
والثاني - لا يحنث، والمسكن من السكنى ولا سكنى للمضاف إليه في الدار.
ومن أصحابنا من قال: إن سكنها في أقل زمان يتحقق اسم السكنى فيه، حَنِث الداخل، وإن لم يسكنها أصلاً لم يحنث.

(18/354)


فصل
قال: " ولو حلف لا يلبس ثوباًً وهو رداء ... إلى آخره " (1)
11770 - إذا قال: لا ألبس ثوباًً، ثم لبس ثوباً أيَّ ثوبٍ كان، حَنِث، فإن اللُّبس مطلق، والثوب مطلق، ثم قال الأصحاب: إذا كان لفظ الحالف كذلك، فلو لبس شيئاً على الاعتياد فيه، أو لبس على خلاف الاعتياد في لبسه، حنث، والمتبع في هذا الفصل تحقق اسم اللّبس والثوب، ولا يتوقف الحِنث على وقوع اللُّبس على مقتضى الاعتياد في الثوب الذي لبسه، فلو كان لفظه كما ذكرناه، فاعتمد قميصاً، فاتزر به أو توشّحَ به، أو تَعَمَّمَ به، أو ارتدى، حنث، وإن كان القميص لا يُستعمل على هذه الجهات.
ويجب أن يكون في هذا بحثٌ، فلو جمع القميص وطواه، أو لفّه ووضعه على رأسه، أو على عاتقه، فهذا حملٌ وليس بلُبس، وقد مضى في كتاب المناسك في إيجاب كشف الرأس فصولٌ، والوجه أن يتفطن الإنسان لتميز اللبس عن الستر، فرب سترٍ يوجب الفدية ولا يُسمى لُبساً، فالذي يضع قميصاً على رأسه مطوياً ساترٌ مفتدٍ وليس بلابسٍ في حكم اليمين المعقودة على اللُّبس، فإن قيل: المرتدي بالقميص ليس لابساً، وإنما هو ساتر بدنه، كالذي يضع الثوب المطوي على رأسه، قلنا: لو ارتدى بالقميص مثلاً، فالطاقة التي تلي بدنه لو كانت وحدها، لكان المرتدي بها لابساً، فاتصال طاقة [أخرى] (2) بها لا يخرجها عن اسم اللُّبس، والدليل عليه أنه يقال: ارتدى فلان بالقميص، والمرتدي لابسٌ، وكذلك المتزر لابسٌ، ولو فرش ثوباًً، ورقد عليه، لم يكن لابساً، ولو تدثر به، ففيه خلاف الأصحاب (3)، وهو محتمل.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 232.
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) هـ 4: تردّد للأصحاب.

(18/355)


هذا إذا قال مطلقاً: لا ألبس ثوباًً، ولو قال: لا ألبس قميصاً، فأخذ قميصاً، وفتقه، وخاط من مفتوقه رداء، فهل يحنث؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه لا يحنث؛ فإنه ليس قميصاً.
ولو كانت صيغة اليمين كما ذكرنا، فأخذ قميصاً وارتدى به، فهذا فيه خلاف أيضاً؛ لأنه لما ذكر القميص أشعر ذلك بلبسه على هيئة القمصان، والقميص لا يلبس كذلك.
ولو قال: لا ألبس هذا القميص، ثم فتقه، وخاط قَطْعه، واتخذه إزاراً أو رداءً، ففي المسألة وجهان مرتبان على ما لو قال: لا ألبس قميصاً ولم يُشر، وهذه الصورة أولى بالحِنث؛ من جهة أنه أشار إلى القميص، فقال: هذا القميص، وليس كما لو أطلق اسم القميص، ولم يخصص تعليق اليمين بمعين.
ولو قال: لا ألبس هذا الثوبَ وكان قميصاً، ففتقَ وخاطَ، كما وصفنا، ثم لبس، فوجهان، وهذه الصورة أولى بالحنث من التي قبلها؛ لأنه قال: لا ألبس هذا الثوب، وليس في لفظه تعرض لذكر القميص، حتى يفهم منه لبس مخصوص يليق بالقميص، ولكن سبب الخلاف أنه أشار إلى الثوب وكان قميصاً.
ولو قال: لا ألبس هذا القميص قميصاً، ثم غيّره، وأخرجه عن كونه قميصاً، فلا شك أنه لا يَحْنَث، ووجهه بيّن.
ولو قال: لا ألبس هذا القميص قميصاً، فلم يغيّره وارتدى به، ففيه احتمال من جهة بقاء اسم القميص.
11771 - فإذا ثبتت هذه [الصور] (1) وتميز البعض منها عن البعض، فهي مع الإشارة مُدارة على أصلٍ، وهو أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا، ثم زالت التسمية بالتغيير، فكيف الحكم؟ فيه تردد مشهور للأصحاب نطلقه في المسائل، ثم نذكر ما يلتحق بها من الصور التي ذكرناها.
فإذا قال: لا أكلم هذا وأشار إلى عبد، فَعَتَق، فكلمه، حنث.
__________
(1) في النسختين: الصورة. وبمثلهما جاءت (ق). والأمر قريب.

(18/356)


وإن قال: لا أكلم هذا العبد، فَعَتَق، فكلمه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحنث لزوال اسم العبد، والثاني - يحنَث، لأن عين الشخص قد ارتبطت الإشارة بها، والإشارة لها غلبة وسلطان.
وإذا قال: لا آكل لحم هذا، وأشار إلى سَخْلة، فكبرت وزايلها اسم السخلة، فأكله، حنث.
وإذا قال: لا آكل لحم هذه السَّخْلَة، فكبرت، وزال الاسم، فأكل من لحمها، ففي الحنث وجهان.
وإذا قال: لا آكل هذا وأشار إلى حِنْطة، [فإذا أكلها كما هي: قَضْماً (1) فالحنث حاصل وفاقاً، ولو قال: هذه الحنطة] (2) وغيّرها بالطَّحْن أو بالطحن والخبز، فوجهان.
وإذا أشار إلى رطب فقال: لا آكل هذا، فصار تمراً، فأكله، حنث، وإن قال: هذا الرطب، فصار تمراً، فوجهان.
وجمع بعض الأصحاب هذه المسائل، وذكر فيها ثلاثة أوجه: وجهان ذكرناهما، والثالث - أن التغير إن كان من جهة الخلقة من غير صنع آدمي كالسخلة تكبر والرطب يجف، فالحنث يحصل، ولا حكم للتغير، وإن كان زوال الاسم بصنعة آدمي كطحن الحنطة وخبزها، لم يحصل الحنث.
ولو قال: لا أدخل هذا، وأشار إلى دارٍ، فانهدمت، وصارت فضاء، حنث بالطروق؛ لأنه لم [يذكر] (3) الدار، ولم يجر اسمها، ولو قال: لا أدخل هذه الدار، فصارت فضاء وطرقها، فالوجهان جاريان؛ لمكان الإشارة، وزوال التسمية، والذي ذكرناه خلافاً مع أبي حنيفة رضوان الله عليه فيه إذا قال: لا أدخل داراً، ولم يُشر، فإذا طرق عرصةً كانت داراً، لم يحنث؛ فإن تعويلَ اليمين على
__________
(1) هنا كلمة غير مقروءة، صورتها هكذا: (عر ـما) انظر صورتها.
(2) زيادة من (هـ 4).
(3) في الأصل: " لم يدخل ".

(18/357)


التسمية المحضة، وقد زالت وقد ذكرنا في مسائل الثياب أنه لو قال: والله لا ألبس هذا الثوبَ، وكان قميصاً، ففتقه، وسواه رداءً وارتدى به أنه هل يحنث؟ والخلاف في هذه الصورة ضعيفٌ؛ لأنه لم يسمّ القميص، واقتصر على الإشارة.
ولو أشار إلى سخلة فقال: لا آكل من لحم هذه، ولم يسمها سخلة، ثم كبرت وصارت كبشاً، يحنث بأكل لحمها، وإن زال الاسم، والسبب فيه أن التغير إذا كان من حيث الخِلقة، ورجع إلى ازدياد أجزاءٍ خلقها الله تعالى، أو إلى نقصان أجزاءٍ نقصها الله تعالى، فذاك التغير في نفسه ضعيف، وانضم إليه أنه لم يجر اسم الجنس، وإنما جرت الإشارة المحضة، وفي المسألة التي ذكرناها في الثوب إشارة ولم يسم القميص، ولكن التغيير بالفتق والرتق أقوى، والإشارة نزلت على الثوب بصفته، ومع هذا الأصحُّ- أنه يحنث إذا أشار ولم يسم، وإنما يظهر الخلاف إذا أشار وسمّى، فقال: لا ألبس هذا القميص، ثم فتق ورتق، وعلى هذا لو قال: لا أدخل هذا، وأشار إلى دار، ثم صارت فضاء، فهو كما لو قال: لا ألبس هذا الثوب وكان قميصاً فتخرق ثم سوّى منه رداءً، أو إزاراً، فهذا ما أردنا أن نذكره.
11772 - ومن تمام البيان في هذا الفصل أنه إذا قال: لا أدخل دار فلان هذه، فقد ذكرنا أن المذهب أن ملك فلان لو تبدل، فيحنث الحالف بالدخول، تغليباً للإشارة، فإن قيل: أشار وأضاف، وإذا قال: لا آكل من لحم هذه السخلة، فقد سمّى وأشار، فهلا جعلتم زوال الإضافة بمثابة زوال التسمية؟ قلنا: قد صار إلى هذا صائرون من أصحابنا وقالوا: زوال التسمية في كبر السخلة ونظائرها كزوال الإضافة، فيجري الخلاف في الأصلين والفرق عسير على التحقيق.
ولو قال في البيع: بعتك هذه السخلة، وأشار إلى فرس، فقد أشار وغلط في التسمية، ففي صحة البيع وجهان، فمن اعتمد الإشارة، صححه، ومن اعتمد التسمية أفسد البيع، وهذا ذكرناه في مسائل البيع.
ولو قال: لا آكل من لحم هذه البقرة، وأشار إلى سخلة، فالذي رأيت من دلالة كلام الأصحاب القطع بانعقاد اليمين وتحنيث الحالف بالأكل مما أشار إليه، وإن جعلنا المسألة على وجهين في صورة البيع في هذه الصورة، لأن علينا تعبدات في

(18/358)


تهذيب ألفاظ العقد، واليمين إذا عقدت على قضيةٍ، فلا يتطرق إليها في مثل هذا الموضع الانقسام إلى الصحة والفساد، ووضوح ذلك مغنٍ عن بسطه.
11773 - وألحق القاضي مسائلَ مستفادةً بآخر الفصل منها أنه قال: سئل القفال، وهو يتكلم على العوام (1) عمن حلف بطلاق زوجته لا يأكل البيض، فلقيه إنسان، وفي كُفه [شيء] (2) فقال: إن لم آكل مما في كم فلان، فامرأته طالق، وكان في كُمه بيض، فما الحيلة في ألا يقع طلاقه؟ فتفكر ولم يحضره الجواب، فلما ترك، قال المسعودي من تلامذته: الوجه جعل ذلك البيض الذي في كُم ذلك الرجل في القُبَيْطاء (3) ثم يأكله، ولا يقع الطلاق؛ لأنه عقد اليمين الثانية على الإبهام، واكتفى بالإشارة من غير تسمية؛ إذ قال: إن لم آكل مما في كُمه، فإذا جعلت البيض في القبيطاء، فقد أكل ما في كمه، ولا معوّل على تغير التسمية؛ فإنه أشار إلى ما في الكم، ولم يسمّ، وهذا بيّن.
ومما ألحقه أنه إذا قال: لا ألبس ما غزلته فلانة، انصرف ذلك إلى ما غزلته في الماضي، فلو غزلت في المستقبل، لم يتعلق الحنث به، ويحنث بلبس ما نسج من غزلها الماضي، سواء غزلته للغير بأجرة، أو غزلته لنفسها، فالتعويل على الغزل لا غير، ولو حلف لا يلبس من غزلها، ولم يذكر فعلاً موضوعاً للماضي والمستقبل، فاسم الغزل ينطلق على ما غزلته، وعلى ما ستغزله في المستقبل، ولو قال: لا ألبس مما تغزله، انصرف هذا إلى المستقبل، ولم يدخل تحت اليمين ما غزلته بالزمان الماضي، وإذا قال: لا ألبس من غزلها، فلبس ثوباًً خيط بخيوط غزلتها، لم يحنث، هكذا قال القاضي، ووجهه بيّن؛ فإن الخيوط لا حظ لها من اللُّبس في الاسم.
ولو كانت المسألة بحالها، فقال: لا ألبس من غزلها، فلبس ثوباًً لُحمته من
__________
(1) يشير إلى أن مثل هذه الأيمان بالطلاق تكون من العوام والدهماء.
(2) في الأصل: بيض. والمثبت من (هـ 4) و (ق).
(3) القُبَّيطى: بضم القاف وفتح الباء مشددة، فيقصر، وتخفف، فيمدّ (القبيطاء) وهو نوع من الحلوى، ويسمى الناطف.

(18/359)


غزلها، وسَداه من غزل غيرها، أو على العكس، قال القاضي: لا يحنث، وذلك أن اسم الملبوس ينطلق على الثوب، وليس البعضُ يسمى ثوباًً على حيالِه، واللبس يتناول الثوب، فإنه لو التف بالغزل، لم يكن لابساً.
وهذه المسألة فيها نظر: من جهة أنه يقال: لبس فلان من غزلها، وذِكْرُه الغزل من غير تعرض للثوب أصدق شاهدٍ في هذا.
ولو قال: لا ألبس من غزل نِسوتي، فغزلن ونسج النّاسج، فالثوب من غزلهن، فلو قلنا: لا يحنث، كان بعيداً، وإذا قلنا: يحنث وهو الوجه، فواحدة منهن لم تهييء من غزلها ثوباً على حياله. نعم، لو قال: لا ألبس ثوباً من غزل المرأة، فإذا لبس ثوباًً فيه غزلها وغَزْلُ غيرها، فالوجه أن لا يحنث قطعاً، فإنه لم يلبس من غزلها ثوباًً.
فصل
قال: " ولو حلف لا يلبس ثوباًً منّ به فلان عليه ... إلى آخره " (1).
11774 - إذا حلف لا يلبس ثوب فلان، فاتّهبه، أو اشتراه، واللفظ مطلق، لم يحنث؛ فإنه ما لبس ثوب فلان، وإنما لبس ثوب نفسه إذا (2) ملكه.
ولو قال: لا ألبس ثوباًً منّ به فلان عليّ فوهبه منه، فلا شك أنه يحنث بلبسه، فلو باعه بثوب آخر، ولبس الثوب الثاني، لم يحنث؛ فإن الملبوس ليس ممنوناً به، فلو باع فلان منه ثوباً مسامحةً، كأن يساوي مائة، فباعه منه بدرهم مثلاً، فإذا لبسه، لم يحنث؛ فإن المن لم يحصل بالثوب، وإنما حصل بالحط من ثمنه.
ولو قال: لا ألبس مما وهب فلان، لم يحنث بما سيهبه بعد اليمين؛ لأن قوله: " وهب " للماضي لا غير وهو كما ذكرناه في قوله لا ألبس مما غزلت، والباب وقياسه بينان.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 232.
(2) إذا: بمعنى (إذ).

(18/360)


فصل
يجمع القول في الإكراه والنسيان الواقعين حالة الحنث
11775 - فنقول: عماد الحنث ثلاث صور، والمسائل بعدها ملحقة بها، فإذا حلف لا يدخل داراً، فحمل مكرهاً، وأدخل الدار، فالمذهب الذي قطع به المعتمدون أنه لا يحنث؛ لأن الذي جرى لا يُسمى دخولاً، وليس هذا من صور الإكراه، بل هو من باب عدم الحِنْث صورةً؛ إذ لا يُسمى ما وجد به دخولاً، وإنما هو إدخال، وينتظم النفي والإثبات فيه؛ فإنه يقال: فلان ما دخل بل أُدخل.
وذكر صاحب التقريب عن بعض الأصحاب مسلكاً بعيداً في تخريج هذه الصورة على قولي الإكراه، واعتل هذا القائل بان قال: لو أَمَر حتى حُمل وأُدخل، حَنِث، فاستبان أن هذه الصورة ملحقة بالدخول مشياً في حالة الاختيار، وكل صفة تقتضي الحنث وحَلَّ اليمين لو صدرت عن اختيار، فإنها تقتضي الخروج على القولين لو اقترن بها الإكراه.
وهذا الذي حكاه بعيد، وفيه غفلة عن مُدرك المعنى، وذلك أنه إذا أمر حتى حمل وأدخل، فهذا في الحقيقة ليس دخولاً، ولكن غلب في العرف والصورة هذه النظرُ إلى المقصود، وهو الحصول في الدار، وكثيراً ما يميل العرف الغالب إلى المقصود، فإذا حمل مكرهاً، فلا قصد له حتى نجعل الدخول في الدار مقصوده، ولم يوجد منه فعل، فاليمين في ظاهرها معقودة على الفعل، فالوجه القطع بما قطع الأصحاب به، وإذا حمل بإذنه، فهذا بمثابة ما لو ركب دابّة ودخل الموضع المحلوف عليه راكباً، فحركات الدّابة مضافة إلى الراكب، فلو حمل من غير أمره وأدخل، ولكنه كان قادراً على أن ينسلّ ويتراخى ويزجر الحامل، فسكت، فهذا فيه تردد ظاهر للأصحاب: ألحقه الأكثرون منهم بحالة الاختيار والأمر؛ فإن الحال يشعر برضاه، والمتبع صدور الحصول في الدار عن الرضا، ومن أصحابنا من ألحق هذه الصورة بما إذا حمل مكرهاً. هذه صورة.

(18/361)


11776 - الصورة الثانية - أن يقول: لا أدخل، ثم يحمل على الدخول، ويتحقق الإكراه -على ما مضى تفصيل الإكراه في كتاب الطلاق- فإذا دخل بنفسه مكرهاً واليمين مطلقة، ففي حصول الحنث قولان ذكرناهما في الطلاق.
11777 - الصورة الثالثة - أن يحلف، ثم ينسى اليمين، ويقدم على ما هو صورة الحِنث ناسياً ليمينه، ففي حصول الحِنث قولان تقدم ذكرهما، وللأصحاب خلاف في ترتيب الناسي على المكره: فمنهم من [يجعل] (1) الناسي بالحنث أولى لاختياره في المحلوف عليه، ومنهم من يجعل المكره بالحنث أولى [لذكره] (2) اليمين، وعموم قوله لا أدخل، وهذا مما تقدم أيضاً.
11778 - فإذا تمهدت هذه الصور ألحقنا بها مسائل، وهي مقصود الفصل، فلو قال: " والله لأشربن ماء هذه الإداوة غداً "، فأريق ذلك الماء قبل مجيء الغد من غير اختيار الحالف، فهل يحنث؟ ذكر الأصحاب قولين في الحنث، وقربوهما من المكره، وكان شيخي يقول: هذه الصورة أولى بألا يتحقق الحنث فيها من قِبل أن الشّرب في الغد -وقد أريق الماء في اليوم- غيرُ ممكن، والمكره على الدخول يتصوّر منه أن يمتنع من الدخول. فإن قيل: ما وجه تخريج القولين والحالة كما وصفتموها؟
قلنا: إذا قال: لا أدخل، فالبِرّ في ترك الدخول، فإذا [دخل، فقد] (3) تحقق عدم البرّ اسماً ولفظاً إلى أن يحكم الفقيه بما يقتضيه الحكم، وأما إذا قال: لأشربن غداً، فبرّه في مقتضى الاسم، وهو أن يشرب، فإذا لم يشرب، فلا برّ، فقد تحقق عدم الشرب، كما تحقق الدخول، فهذا هو الوجه. والذي ذكرناه سؤالاً يقتضي ترتيب القولين في مسألة الشرب على أصل القولين في الإكراه.
ومما يتعلق بأصل القول في الإكراه أن اليمين يصح عقدها بما لا يدخل تحت اختيار
__________
(1) في الأصل: " فعل ".
(2) في الأصل: " لردّه ".
(3) زيادة من (هـ 4).

(18/362)


الحالف، ولا يعد من فعله، كاليمين تُعلّقُ على طلوع الشمس وغروبها، هذا صحيح غير ممتنع.
11779 - ولو علّق اليمينَ بفعل الغير مثل أن يقول: والله لا يدخل فلانٌ الدارَ، ثم وجد منه الدخول مخالفاً للبر في اليمين، فاليمين تنحلّ، وتجب الكفارة، ولا فرق بين أن يكون ذلك الدخول على اختيارٍ من ذلك الشخص، أو كان مكرهاً فيه، فلا أثر للإكراه والاختيار في حق من لم يحلف، وإنما يقع الفصل بينهما إذا تعلّقت اليمين بفعل الحالف. هذا أصل متمهّد.
وقد ذكرت في كتاب الطلاق مسائل فيه إذا جرى الحلف متصلاً بعلم من ذكر فعله، أو عدم فعله، وكان يتوقع أن يكفه اليمين، فإذا جرى إكراه في حق ذلك الشخص، والحالة هذه، ففي هذا تفصيل قدّمته، فلا أعيده، والذي ذكرناه فيه إذا لم يقصد الحالف أن يمنع ذلك الشخص بيمينه عن الفعل، وإنما أراد عقد اليمين على الإخبار عن وجودٍ أو عدمٍ في الغيب، وعداً (1) ذكره ثم أكده باليمين. وقد قال صاحب التقريب: لو حلف على غريمه، فقال: بالله لا يفارقني غريمي حتى أستوفي حقي منه، ثم فرّ الغريم ففارقه، قال: في المسألة قولان، واليمين معقودة على فعل الغير.
وهذا مأخوذ على صاحب التقريب؛ من جهة أنه أطلق إجراء القولين، ولم يفصل، والوجه أن يقال: إذا لم يقصد منع الغريم، فالحنث يحصل إذا وُجدت المفارقة منه؛ حملاً لعقد اليمين على الوعد وتأكيده، وإن أراد أن يمنعه بما أسمعه من يمينه؛ فإذا فرّ كما ذكرناه، فهو في فراره مختار، والمفارقة موجودة على اختيار، فتخريج القولين والحالة هذه لا وجه له أيضاً، وإن قيل: قصده بالحلف أن يمنعه من ْمفارقته، فإذا فر وهو قادر على مساوقته، أو على ردِّه وضبطه، فالحنث يحصل أيضاً، قولاً واحداً.
__________
(1) هـ 4: أو عدمٍ في الغيب، وهذا عد ذكره ثم أكده باليمين ".

(18/363)


وإن أفلت منه على وجهٍ لا يُنسب فيه إلى التقصير، فلا يبعد في هذا الطرف إجراء القولين إذا تخيلنا [مقصود] (1) اليمين منعه من المفارقة، وقد يجري مثل هذا في العرف، فللمسالة إذاً محامل: أحدها - عقد اليمين على الوعد، والآخر - عقد اليمين ليمتنع الغريم بسبب اليمين، واستقصاء هذا في مسائل الطلاق، والوجه القطع بالحنث، والصورة الأخيرة عقد اليمين والمراد منعه، ولو أطلق ولم يذكر محملاً، فاللفظ في الإطلاق محمول على الوعد لا غير.
11780 - ومن الصور التي نلحقها بما مهّدناه من الأصل، وهو من مسائل الكتاب أنه إذا قال: لا أسلم على زيد فلو سلم عليه في اختلاط الظلام، وهو ذاكر ليمينه، ولم يعلم أنه زيد، بل حسبه شخصاً آخر، ففي الحنث قولان مرتبان على ما لو نَسِيَ يمينه، وهذه الصورة -وهي إذا جهل زيداً عند تسليمه، وكان ذاكراً لليمين- أولى بالحنث، والدليل عليه أن من نَسِي الصوم، وأكل، لم يفطر، ومن كان يأكل ظاناً أنه في بقية من الليل، وهو ذاكر للصوم، أفطر على ظاهر المذهب، فرقاً بين أن يجهل الصوم على ذكر له وبين أن ينسى الصوم، فكذلك القول في الحنث.
ولو سلم على قوم وزيدٌ فيهم، ولم يعلم أنه فيهم، وهو ذاكر ليمينه، ففي هذه الصورة قولان مرتبان على القولين فيه إذا سلم عليه قصداً، ظاناً أنه غير المحلوف عليه، والصورة الأخيرة أولى بألا يحنث فيها؛ لأنه لم يقصد زيداً بعينه، ولم يسلم عليه تعييناً.
ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً، وهو فيه مع جماعة، ولم يعلم به الحالف، ففي الحنث قولان مرتبان على القولين في السلام، وهذه الصورة أولى بالحنث من نظيرتها في السلام؛ فإن دخول البيت فعل لا يقتضي التخصيص، والسلام قول ذو صيغة قابلة للتخصيص والتعميم.
ولو قال: لا أسلم على فلان، فسلم على قومٍ والمحلوف عليه فيهم، وعلم أنه
__________
(1) في الأصل: " معقود ".

(18/364)


فيهم، ولكنه استثناه بالنية، وقصد السلام على الباقين، فقد قال العراقيون: إنه لا يحنث، وقطعوا القول به، ووجهه بيِّن، لأنه وجه سلامه على من أراد منهم، واللفظ محتمل للتخصيص كما قدمناه، قال شيخي: في المسألة احتمال إذا لم يستثنه لفظاً؛ فإن مخاطبة جمعٍ بالسلام توجهاً إليهم في حكم النص في إرادتهم؛ فإنه إذا أشار [إلى عَبيد، وقال: هؤلاء] (1) لفلان، ثم زعم أني استثنيت واحداً منهم، فالوجه ألا يقبل ذلك منه، قال العراقيون: لو سلّم عليهم، مع علمه بأن المحلوف عليه فيهم، ولم يستثنه بالنية، ولا قصد إدراجه تحت عموم السلام، قالوا: في
الحنث قولان: أحدهما - أنه لا يحنث؛ فان اللفظ يحتمل التعميم والتخصيص، وهذا ساقط على قياس طريقنا.
والوجه القطع بأنه يحنث عند الإطلاق، إذا كان عالماً بصورة الحال، ولم يستثن لفظاً، ولا عقداً، واللفظ العام يجري على عمومه ما لم يُخصص، قال صاحب التقريب إذا حلف لا يسلم على فلان، فسلم على قومٍ، وهو فيهم، وعزله بالنية، لم يحنث، وهذا لعمري منقول الأصحاب وما قطعوا به، وفيه الاحتمال الذي أبداه شيخنا، وهو غير معتد به.
11781 - ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً فيه قوم (2)، وهو فيهم أيضاً، وعلم ذلك، ولكنه عزل المحلوف عليه بالنية، وقصد الدخول على غيره، فهل يكون هذا بمثابة ما لو عزل المحلوف عليه عن السلام في مسألة السلام؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه لا يكون كذلك، بل يحنث في مسألة الدخول؛ لأن الدخول فعل، فلا يتصور منه تخصيصه بواحد، أو بجمعٍ من الكائنين في البيت، والسلام لفظ معرض للتخصيص [والتعميم.
والوجه الثاني - أن التخصيص] (3) ممكن بالقصد في مسألة الدخول أيضاً؛ إذ قد
__________
(1) عبارة الأصل: " إذا أشار إلى عينه، وقال: هو لفلان ". والمثبت من (هـ 4) و (ق).
(2) هـ 4: " فيه قوم وفيهم المعين ".
(3) زيادة من (هـ 4).

(18/365)


ينتظم أن يقول الداخل إذا روجع: ما دخلت على هذا، ولم أقصده، بل (1) دخلت على هؤلاء المشايخ، فلا يمتنع هذا، والنيات إذا وَجَدَتْ مساغاً في الأيمان، فاحتمالها متسع.
وفي هذه المسألة سِرٌّ، لا بد من التفطن له، وهو أنه في ابتداء العقد لو أراد بقوله: لا أدخل على فلان، أني لا أقصد الدخول عليه، ولا أقصده بالدخول، ثم اتفق دخوله على حسب ما صوره صاحب التقريب، فالوجه القطع بأنه لا يحنث؛ لأنه عقد اليمين على هذا الوجه، فاتبعنا عَقْده، وقصده؛ فإنا ذكرنا أن ما يتسع لقبول التديين، فهو مقبول في اليمين بالله تعالى، والذي ذكره صاحب التقريب فيه إذا أطلق يمينه، ولم يُخصصها بقصدٍ ثم وُجد منه هذا التخصيص عند الحنث، ولا تخصيص في عقده وحلفه الأول، فهذا ما أردنا ذكره.
ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، ثم دخل البيت، وهو فيه عالماً بمكانه، وكان في البيت وحده، فعزله بنيّته، وقصد شغلاً آخر سوى الدخول عليه، ففي تحنيثه وجهان ذكرهما القاضي مبنيان على ما ذكرنا عن صاحب التقريب، وهذا يبُنى على أن التخصيص بالدخول هل يمكن في ذلك؟ والمسألة مُحتملة، وهذا كما إذا دخل البيت لشغل من حمل شيء أو وضع شيء وقصد ذلك، وعزل المحلوف عليه، أو قصد الدخول مع عزله، ليقعد أو يرقد، كل ذلك خارج على الخلاف.
ولو قال: لا أدخل على فلان بيتاً، فدخل بيتاً، ولم يعلم أن فيه فلاناً، فظاهر المذهب أنه لا يحنث، والسبب فيه عدمُ قصده، وإن الدخول عند بعض الأصحاب مما يقبل التخصيص قصداً؛ فإذا انضمّ عدم علمه إلى تعرض هذا المقصود لقبول التخصيص، ظهر منه انتفاء الحنث، وقال الربيع: يحتمل أن يقال: سبيله كسبيل [الناسي] (2) ليمينه، وهذا تخريج صححه معظم الأصحاب، ووجهه بيّن.
__________
(1) هـ 4: " إنما دخلت ".
(2) في الأصل: " الباقين ".

(18/366)


فصل
قال: " ولو حلف ليأكلن هذا الطعام غداً ... إلى آخره " (1).
11782 - مقصود هذا الفصل يتعلق بالأصول التي مهّدناها في الإكراه والنسيان، فإذا قال: لآكلن هذا الطعام غداً، فلا يخفى تصوير وجهِ البرّ، فلو فرض تلف الطعام، أو تلف الحالف، نظر: فإن جاء الغدُ والطعام باق، والحالف متمكن، فأخّر الأكلَ، فتلف الطعامُ، أو مات الحالف -وفي النهار بعدُ بقية- فظاهر المذهب القطع بتحنيثه؛ فإنه تمكن من تحقيق البرّ فأخّر.
ومن أصحابنا من خرّج تلف الطعام وموت الحالف في أثناء الغد على خلاف الأصحاب في أن من أخّر الصلاة عن أول وقتها، ومات في أثناء الوقت، فهل يعصي، ووجه التشبيه أن الصلاة مؤقتة بوقت مُتّسع، والبرّ مؤقت أيضاً، فقرب مأخذ الكلام في المسألتين، والأصح عندنا القطع بالتحنيث، والصحيح الحكم بأنه لا يعصي بتأخير الصلاة إذا مات في أثناء الوقت، والفرق أن الأيْمان معتمدها اللفظ، والذي أخر عن أول وقت الإمكان يسمى من طريق اللفظ مخالفاً تاركاً للبرّ، والتأقيتُ في الصلاة مبناه على إثبات الفسحة والتخفيف، فاللائق به ألا نُعصِّي المؤخِّر.
ولو تلف الطعام الذي حلف على أكله غداً قبل مجيء الغد، فقد ذكرنا إجراء الأصحاب القولين في ذلك؛ فإن حكمنا بأنه لا يحنث -وهو الأصح- فإن الحنث إنما يتجه عند تصوّر البرّ، واليمين ليست معقودة على وعد غيبي، وإنما المقصود بها تأكيد الإقدام على أمرٍ، فالوجه ألا يحنث إذا لم يتصوّر البرّ، وإن قلنا: يتعلق الحنث بهذه الصورة، فمتى يحنث؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه يحنث غداً، فإن اليمين مضافة إلى الغد، فكأن لا يمين قبله.
والثاني - أنه يحنث في الحال؛ لأن البرّ صار مأيوساً منه؛ فلا معنى [للتوقف] (2)
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 232.
(2) في الأصل: " التوقع ".

(18/367)


والحالة هذه، وقد ذكرنا هذا النوع مستقصىً في كتاب الطلاق، إذا علّق الرجل الطلاق بمستحيل قيّده بوقت منتظر، مثل أن يقول: إن لم أصعد السماء غداً، فعبدي حُر، أو امرأتي طالق، فهل يعجل الطلاق، أو العتاق في الحال؟ فيه خلاف مشهور، وهذا ذاك بعينه.
التفريع:
11783 - إن حكمنا بأنه يحنث في الحال، فلا كلام، وإن أخرنا الحنث إلى الغد، فمتى يحنث غداً؟ فعلى وجهين آخرين: أحدهما - أنه يحنث كما (1) مَرّ وقت يسع الأكل، لو كان المأكول باقياً.
والثاني - أنه لا يحنث ما لم تغرب الشمس من الغد؛ فإن الوقت أُثبت للاتساع في طلب البرّ، وهذا الوجه ضعيف في هذا المقام؛ فإنا إن أخرنا الحكم بالحنث إلى الغد، فسببه أنا نعتقد انعقاد اليمين في الغد، فأما انتظار غروب الشمس بناء على الفسحة، وقد فات الإمكان، فبعيد لا أصل له.
11784 - ولو قال: لآكلن هذا الطعام غداً، ثم إنه أكله في يومه؛ فإنا نحنّثه؛ فإنه المتسبّب إلى تفويت البرّ، ثم متى يحنث؟ فيه الخلاف الذي قدمناه.
ولو أكل بعض الطعام وبقَّى بعضه، حَنِث أيضاً؛ لأن البرّ إنما يحصل بأكل جميع الطعام في الغد؛ فإذا تعذّر هذا باختياره، كان كما لو أكل الجميع (2).
ولو قال قائل: إن كنتم تؤخرون الحنث إلى الغد، فلا تعتبروا بالأكل في اليوم، وإن كان عن اختيار، فإنه اختيار في غير الوقت المعتبر، قلنا: حقُ هذا السؤال أن يستمسك به في تضعيف ذلك الوجه، والمذهب الحكم بحصول الحنث في الحال، ثم فائدة الاختلاف في تعجيل الحنث وتأخيره النظر في صفة الحانث في التفريع على [أن] (3) الاعتبار بحالة الحنث في صفة الكفارة، أو بحالة الأداء، ولو صام وقد حكمنا بالحنث أجزأه، وإن لم نحكم، لم يجزئه؛ فإن الصوم لا يقدم على وجوبه.
__________
(1) كما: بمعنى عندما.
(2) أي أكل الجميع قبل الغد.
(3) زيادة من (هـ 4).

(18/368)


فصل
قال: " ولو حلف ليَقضينه حقه ... إلى آخره " (1).
11785 - إذا قال: لأقضين حقك غداً، فمات صاحب الحق قبل دخول الغد، فالبرّ ممكن بأن يؤدي ما عليه إلى ورثته، والمسألة فيه [إذا قال] (2) لأقضين حقك، فأما إذا قال: لأقضينّك حَقّك، فإذا مات، فقد عسر الأمر لكونه (3) علق القضاء بالمخاطب، ثم التفصيل فيه، كما تقدم في مسألة الأكل، فإذا قال: لأقضبن (4) حقك غداً، فمات الحالف قبل دخول الغد، ففد تعذّر منه القضاء، واليمين معقودة على فعله في القضاء، فقال الأصحاب: موت الحالف قبل الغد كفوت الطعام المحلوف عليه قبل الغد، ووجه التماثل بيّن، ولكن تصوير الحنث -وقد مات الحالف- أبعد، ولا خروج لهذا إلا على الخلاف في أن الحنث يتعجل أو يتأخر، فإن قلنا: يحصل الحنث غداً، فلا وجه لتحنيث ميت. وإن قلنا: يحصل الحنث في الحال، فإذ ذاك يجري الخلاف، والأصح في فوت الطعام وفوت الحالف قبل الغد ألاّ يحصل الحنث.
11786 - ثم ذكر صوراً في الاستثناء بيّنةً نرمز إليها: فإذا قال: لأقضينّك حقّك غداً إلا أن تشاء، فمعناه إلا أن تشاء تأخيره، فإذا جاء الغد وشاء تأخيره، لم يحنث بالتأخير، وإن لم يشأ، أو مات، وحصل اليأس من مشيئته، تحقق الحنثُ على التفاصيل المقدمة.
ثم نَقل (5) عن الشافعي أنه قال: إذا قال: لأقضينّك حقّك إلا أن يشاء زيد، فمات
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 233.
(2) زيادة اقتضاها إيضاح الكلام ونظمه.
(3) هـ 4: "لكنه".
(4) في هـ 4: " لأقضينك".
(5) ضبطت خطأ في الأصل بالضم (نُقل) والناقل هو المزني، والحكاية عنه. (انظر النقل وتغليط المزني في المختصر: 5/ 233).

(18/369)


زيد، لا يحنث، قال المزني: عَطْفُ هذه المسألة على المسألة المتقدمة غيرُ صحيح؛ فإن المسألة المتقدمة على هذه مفروضة في موت صاحب الحق قبل مجيء الغد، وقد قال: لأقضينّك حقّك غداً، فإذا مات قبل مجيء الغد، تعذّر الوفاء بالبرّ، وإذا قال: إلاّ أن يشاء زيد، فمات، فإنما يتعذر بموته المشيئة، فإذا تعذّر الاستثناء، اتجه البرّ والحنث، فالوجه أن نقول: إذا مات زيد، فقد زال بموته الاستثناء، فإن قَضى حقه غداً، بز، وإن لم يقض حَنِث.
قلنا: هذا الذي ذكره المزني صحيح، لا يجوز غيره، ولكن لم نر هذا العطفَ في شيء من كتب الشافعي، والخلل في النقل، ووضع المسائل، وقيل: قال الشافعي: إذا مات زيد وصاحب الحق قبل مجيء الغد، فلا حنث، فحذف المزني ذكر صاحب الحق.
فصل
قال: " ولو حلف ليقضينّه عند رأس الهلال ... إلى آخره " (1).
11787 - قال الأصحاب: إذا قال: لأقضينّك حقّك عند رأس الهلال، فشرْطُ برّه أن يقضيه مع الاستهلال، فلو قدم، كان ساعياً في منع البرّ، فإن البرّ منوط بإيقاع القضاء مع الاستهلال، فإذا قدم، فقد فات البرّ، وإن أخر على اختياره، تحقق الحنث، فليقع مع أول جزء من الهلال، وهذه المسألة فيها انتشار من قِبل أن إيقاع القضاء مقترناً بأول جزء من الوقت الذي ذكره عسير، ومراعاة ذلك لا تفي بها القوة البشرية، فما الوجه والأمر كما ذكرناه؟ وعُسْر ضم النية إلى أول النهار تضمّن جَعْلَ جملة الليل وقتاً للنية، ولم يُكلّف الخلقُ إيقاعَ النية في وقت يعسر عليهم إيقاعها فيه، وقيل: لا يتأتى تمام الصوم إلا بأخذ طرف من الليل، كما لا يتأتى استيعاب الوجه إلا بأخذ أجزاء من الرأس.
وهذا الذي تخطاه الأصحاب من أعسر مواقع الكلام، وأنا أقول فيه: عماد اليمين تنزيلها على العُرف، وإذا قال: لأقضين عند رأس الهلال، فالمعنيُّ به بذل المجهود
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 233.

(18/370)


في ضم القضاء، وذلك يتأتى بإحضار الحق عند مستحقه ومبادرة التأدية عند الاستهلال، فإذا فرض أدنى استئخار مع استفراغ الوسع، فما أرى ذلك حنثاً؛ فإن الناس لا يطلقون هذا، وهم يكلفون أنفسهم دركَ الأولية التي لا اطلاع على حقيقتها بالمُنّة البشرية، وإذا كنا نُنْزل اسمَ الرؤوس على الرؤوس المعتادة ونَحيد عن حقيقة اللغة، فما ذكرناه أولى في حكم العُرف، ولكن غاية الاحتياط ما ذكرناه من إحضار المال عند مستحقه ومراقبة الاستهلال، وإن لم نعن رؤية الهلال، فقد يَغُم الهلال على الناس، فيستكملون الشهر الماضي ثلاثين يوماً، فالمعني بالهلال أول جزء من الشهر، وهو أول جزء من الليل، ثم سبيله ما ذكرناه.
وقد ذهب ذاهبون من العلماء إلى أنا نوسّع الأمرَ على الحالف الليلة ويومها، وهذا خارج عن الاعتدال، وقد لاح أنه قصد الضم، فهذا ما عندنا في ذلك.
11788 - ثم نقل المزني عن الشافعي أنه قال: " لو حلف لأقضينه عند رأس الهلال، أو إلى رأس الهلال " والجمع بين هاتين الجملتين مشكل؛ فإن ظاهر قوله: إلى رأس الهلال، إيقاع القضاء قبل رأس الهلال، ومعناه بسط الأداء على الأوقات المتقدمة على رأس الهلال وقوله: (عند) يقتضي الضم، والتقديمُ يفوّت البرّ.
وقد تعرض المزني بعد نقل الجمع بين الكلمتين للاعتراض الذي ذكرناه، فقد اختلف أصحابنا في المسألة، فقال المحققون: إن كانت المسألتان مطلقتين، فلا شك أن الفقه ما ذكره المزني، وإن زعم أنه أراد بقوله: " إلى رأس الهلال " مع رأس الهلال، ففي قبول ذلك وجهان: أحدهما - أنه لا يقبل، فإنَّ (إلى) صريح في المدّ والبسط والتأقيت والحدّ، وهي مناقضة للضم والجمع. والثاني - أن ذلك مقبول منه؛ فإنَّ (إلى) لا يمتنع إطلاقها بمعنى الجمع إذا لم تكن قرينة، قال الله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] معناه مع الله وقال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] معناه مع أموالكم.
وهذه الطريقة غير مرضيّة؛ فإن (إلى) محتملة لمعنى مع؛ فإذا نوى الحالف ذلك، فلا معنى للاختلاف في القبول؛ فإنا نكتفي في محامل الأيمان بالله تعالى بمواقع التديين في مسائل الطلاق والعتاق.

(18/371)


وقد ذكر بعض أصحابنا وجهاً أن مُطلَق هذا اللفظ محمولٌ على معنى (عند) لما ذكرنا، وقد أشار القاضي إلى هذا الوجه، وكل ذلك خبط، فالوجه القطع بالفرق بين المسألتين في الإطلاق، والمصيرُ إلى أنه لو نوى الجمع، نزلت يمينه على نيته، وما سوى ذلك وإن ذكره الأئمة، فلا وجه له.
ومما يبلغ منّي المبلغ التّام استشعاري أن تجري الوجوه على نسق واحد، ويكثر فيها الهفوات وترك نقلها إخلال بالمبسوطات، وترك التنبيه على ما ذكرتُه خبط وتخليط.
11789 - ثم قال: ولو قال: " إلى حين، فهذا ليس بمعلوم " (1)، والأمر على ما قال، فإذا قال: لأقضين حقّك إلى حين، انبسط هذا على منتهى أمَد الإمكان من غير تحديد.
ولو قال: إلى دهرٍ، أو إلى حِقَبٍ، أو إلى عصرٍ، أو إلى وقتٍ، فكل ذلك منبسط على الأبد وأقصى الأمد، وإنما يتحقق الحنث عند تحقق التعذر، وفي الفصل على ظهوره غائلةٌ، لا بد من التَّنْبيه لها، والتوصُّلِ إليها [مع أن إيضاح الغرض] (2) يحصل بسؤال وجواب: فإن قيل: قد ذكرتم في مسائل الطلاق أنه إذا قال الرجل لامرأته: إذا مضى حين، فأنت طالق، فإذا مضى أقل زمان قُضي بوقوع الطلاق، فإذا قال: لأقضينّ حقك إلى حين، وجب أن ينبسط القضاء على الحين الذي إذا انقضى وقع الطلاق بانقضائه في قوله: " إذا مضى حين، فأنت طالق " والدليل عليه أنه إذا قال: إذا مضى شهر، فأنت طالق، فيقع الطلاق إذا مضى شهر كامل، فلو قال: لأقضين حقك إلى شهر، انبسط القضاء على شهر، فَليَكُن القول [إلى] (3) حين على هذا النسق.
وهذا مشكل جداً، ويمكن فرض لفظ المضي في اليمين بالله تعالى، فإذا قال:
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 233.
(2) في الأصل: " مع اتضاح الغرض ".
(3) في الأصل: " في ".

(18/372)


إذا مضى حينٌ، لأقضين حقك، فيجب القضاء بأن البرّ في إيقاع [القضاء] (1) بعد أدنى وقت، كما أن الطلاق يقع بعد أدنى وقت إذا قال: " إذا مضى حين، فأنت طالق " وليس ينقدح في هذا جواب يستقيم على موجَب اللّسان، إلا أن الأيْمان منزّلة على العرف، فإذا قال: لأقضين حقك إلى حين، اقتضى هذا فُسحةً من غير ضبط في النهاية، وإذا ثبتت فسحة عرفية من غير نهاية، [اقتضى] (2) ذلك أبد الأبد، والمعنيّ بالأبد مدّة البقاء، وتصوّر القضاء، ولو طلب طالب أن يحمل لفظ الطلاق على أمثال ذلك، لم يقبل منه، وللتعبد في صريح الطلاق أثر بيّن، فهذا ما نراه.
ووراء هذا سؤالان: أحدهما - أنه إذا قال: إذا مضى حين لأقضين حقك، فمقتضى ما ذكرناه الفسحة بخلاف الطلاق، فإذا قال: والله لأقضين حقك إذا مضى حين، كان ذلك على الأبد، وهذا مما لا يجوز غيره، فقد اتضح الغرض في اليمين، وارتدّ الإشكال إلى الطلاق.
فإن قيل: هلا قلتم: إذا قال: " إذا مضى حين، فأنت طالق " لا يقع الطلاق بأقل وقتٍ يمضي؟ قلنا: هذا الآن إشكال في الطلاق، والممكن في الانفصال عنه أن الطلاق إيقاع، والبرّ والحنث تحقيقُ موعد أو إخلاف موعد، وفي الطباع عدم القطع بالخلف ما أمكن محملٌ في التصديق، والطلاق إيقاع، فيعتمد أوائل الصفات، والمشكل في الطلاق أنه إذا قال: " إذا مضى دهرٌ، فأنت طالق "، يقع الطلاق بانقضاء أقل وقت، وهذا أمرٌ لا أهتدي إليه، وقد أبديت فيه خبطاً في كتاب الطلاق.
فصل
قال: " ولو حلف لا يشتري، فأمر غيره ... إلى آخره " (3).
11790 - إذا حلف لا يشتري، أو لا يتزوج، أو لا يطلق، أو لا يبيع، فلو وكل بهذه الأشياء، فتعاطاها الوكيل بإذنه، لم يحنث الموكِّل.
__________
(1) في الأصل: الطلاق.
(2) في الأصل: " انتظم ".
(3) ر. المختصر: 5/ 233.

(18/373)


ولو قال: " لا أضرب فلاناً "، وكان ممّن يتعاطى مثلُه الضربَ، فأمر غيره حتى ضرب، لم يحنث، وإن كان محتشماً لا يتعاطى الضرب بنفسه، فأمر غيره حتى ضرب، فالنصّ، وما إليه مصير الأصحاب أنه لا يحنث، إذا كان اللفظ مطلقاً، وقال الربيع: إذا حصل الضرب بأمر من لا يتعاطى الضربَ، كان ذلك بمثابة صدور الضرب منه.
وهذا وإن ألحق بالمذهب بعيدٌ، لا تعويل عليه، [ثم] (1) إنما يجري في الفعل الذي وصفناه وأمثاله، فأما العقود، فيتعاطاها العظماء والأماثل.
ولو قال الرجل: لا أبني بيتاً، وكان لا يحسن البناء، أو لا أطين السطح، وهو ممن لا يُحسنه، فتخريج الربيع في أمثال هذه الصورة أظهر.
ولو قال: لا أتزوج، فانتصب وكيلاً، وقبل نكاح امرأة لموكله، لم يحنث، وليس ما جاء به تزوّجاً منه، وإنما هو سفارة، والنكاح مضاف إلى الموكل، وسِرُّ الفصل أنه عقد اليمين على التزوج المطلق، ولا يصح من الوكيل بالتزوج مطلقُ لفظ التزوج حتى يضيفَه، وما لا يستقل إلا مضافاً لا يندرج تحت المطلق الذي لم يضف.
والغرض من هذا يبينُ بصورتين، فإذا قال زيد: لا أتزوج، وقال عمرو لا أتزوج، ثم وكل زيد عمراً حتى يقبل له نكاح امرأة، فلا يحنث الموكل، ولا الوكيل، أما الموكِّل؛ فلأنه، لم يتعاط التزوّج، بل تزوّج الوكيلُ له، وأما الوكيل لم (2) يتزوج مطلقاً، فلم يحنث واحد منهما، وقد قطع الأصحاب بهذا في الطرق.
11791 - وذكر الصيدلاني هذا على هذا الوجه، فوافق الأصحابَ، ولكن وقع في كتابه ما يخالف هذا صريحاً، وأنا أذكره على وجهه، وأُنبه على الزَّلل فيه: قال: ولو قال: " والله لا أكلم امرأة تزوجها زيد، فقبل وكيل زيد له امرأةً، فكلمها الحالف، حنث ". هكذا قال، ثم أكّد وعَلَّل، وكرّر، وأنا أسوق معنى كلامه،
__________
(1) في الأصل: " له ".
(2) جواب أما بدون (الفاء)، واردٌ عند الإمام كثيراً، جرياً على لغة الكوفيين.

(18/374)


قال: المعني بالتزوج التسبب إلى تحصيل الزوجة، ولا أثر للتعاطي فيه، والموكِّل قد حصل على زوجةٍ إذا (1) قبل الوكيل النكاح له، ثم قال: التزوج في مجرى العرف بمثابة [التَملُّكِ] (2)، ولو قال: لا أكلم عبداً ملكه زيد، فوكل زيد وكيلاً حتى اشترى له عبداً، فإذا كلمه الحالف، حَنِث؛ بخلاف ما لو قال: لا أكلم عبداً اشتراه زيد، فإذا وكل وكيلاً حتى اشترى له عبداً، لم يحنث الحالف بمكالمته.
هذا كلامه، وهو على القطع خطأ على المذهب، والأصحاب بأجمعهم [نصّوا] (3) على خلاف ذلك، وقَضَوْا بأنه إذا حلف لا يكلم امرأة تزوجها فلان، فوكل فلان من يقبل له نكاح امرأة، لم يحنث الحالف بمكالمتها، ولست أنكر أن ما ذكره الصيدلاني وجهٌ من الكلام، ولكنه مذهب أبي حنيفة (4) رضوان الله عليه؛ فإنه فصل بين لفظ التزوج ولفظ الشراء، فقال: التزوج في اليمين محمول على تحصيل الزوجة إما بتعاطي القبول، وإما بالتوكيل به إذا قبل الوكيل، بخلاف الشراء، والعجب أن الصيدلاني ذكر [بعد] (5) هذا الردّ على أبي حنيفة رضي الله عنه في التزوج، وجاء بما يناقض هذا الكلام، فلا اعتداد إذاً بما ذكرناه له، وهو هفوة أطلنا الكلام في بيانها، فإنا (مجموعه) في المذهب معتمد؛ فما يندر فيه من زَللٍ يوشك أن يُعتمد، فأبلغنا في التنبيه لذلك.
11792 - ولو قال: " والله لا أشتري " فاشترى له وكيله، لم يحنث وفاقاً، ولو قال الوكيل: والله لا أشتري، ثم توكل واشترى لموكله مطلقاً، ولم يسم الموكِّل، ولكنه نواه، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه يحنَث، وإن لم يملك ما اشترى، لأنه يُسمّى مشترياً، وقوله: " اشتريت " يناقض قوله: " والله لا أشتري " ويمينه مطلقة، وقوله في إنشاء العقد مطلق.
__________
(1) إذا: بمعنى (إذ).
(2) في الأصل: " الملك ".
(3) في الأصل: " قضوا ".
(4) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 274 مسألة 1392، المبسوط: 9/ 9.
(5) في الأصل: " بغتة ".

(18/375)


وذكر القاضي هذا الوجه كما ذكره الأصحاب، وذكر من طريق التخريج وجهاً آخر أنه لا يحنث؛ لأنه مستناب، وليس مشترياً لنفسه، والعقد ينصرف إلى موكله، فكان انصرافه إليه شرعاً بمثابة صرفه العقد إليه لفظاً.
ولا شك أن الكلام مفروض في اليمين المطلقة، وهذا التردد في الوكالة بالشراء، وما في معناه من العقود التي لا يشترط ذكر الموكِّل فيها، والوكيل بالتزويج خارج عن ذلك؛ لأنه يسمي موكله لا محالة. نَعم، لو قال: " والله لا أزوج فلانة " ثم توكل وزوجها وكيلاً تزويجاً صحيحاً، حَنِث في يمينه؛ لأنه زوجها حقاً، والتزويج بالوكالة كالتزويج بالولاية في الصيغة وحكم الاسم، والوكيل بالتزويج بمثابة الوكيل بالبيع، وإنما يختلف البابان في الوكيل بالتزوج والوكيل بالشراء.
فصل
قال: " ولو حلف لا يفعل فعلين ... إلى آخره " (1).
11793 - قد تبين في مسائل الطلاق أن من علق الطلاق بشرطين فصاعداً، لم يقع الطلاق إلا باجتماع الصفات والشرائط، والسبب فيه أن الشرائط إذا عُقّبت بالجزاء، اقتضت صيغةُ الشرط ارتباط الجزاء بجميع ما تقدم شرطاً، وما يسميه الفقهاء تعليقاً هو الشرط بعينه.
فإذا وضح هذا، رجعنا إلى غرضنا في اليمين، فإذا قال مشيراً إلى رغيفين: " والله لا آكلهما " أو صرّح، فقال: " لا آكل هذين الرّغيفين "، لم يحنث ما لم يأت عليهما جميعاً، لأنه علق يمينه على التثنية، فتعلّق البر والحنث بهما.
ولو قال: والله لا آكل هذا الرغيف، وهذا الرغيف، فالذي ذكره الأصحاب أنه لا يحنث إلا بأكلهما، كَمَا لو عبر عنهما بصيغة التثنية قائلاً: لا آكل هذين الرغيفين.
وهذا قد يعترض فيه إشكال من جهة أن المعطوف إذا ارتبط بفعلٍ صُدّر الكلام به،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 233.

(18/376)


كان صدر الكلام في حكم المستأنف مع المعطوف، فإذا (1) قال الرجل: رأيت زيداً وعمراً كان التقدير رأيت زيداً ورأيت عمراً، فإذا قال: والله لا آكل هذا الرّغيف، وهذا الرغيف، أو قال: والله لا آكل هذا الرغيف ولا أكلم زيداً، فالتقدير: والله لا آكل هذا الرغيف، والله لا أكلم زيداً، ولو كرر اليمين تحقيقاً، لانفردت كل يمين عن الأخرى، ولاستقلت كل واحدة بمعقودها ومقصودها، ثم ترتب عليه أنه يحنث بأحد المذكورين في اليمين المربوطة به، وليست صيغ الأيمان بمثابة صيغة الشرط، هذا هو السؤال، وأقصى ما ذكره الأصحاب أن الاسم المعطوف على الاسم بمثابة الاسمين المجموعين في صيغة التثنية، هذا وجه التنبيه، والإشكالُ قائم في المسألة، وما قطع به الأصحاب ما نقلته، والعلم عند الله تعالى.
فصل
قال: " ولو قال: والله لا أشرب ماء هذه الإداوة ... إلى آخره " (2).
11794 - إذا قال: لأشربن ماءَ هذه الإداوة، فالبر في شرب الكل، وإذا قال: لا أشرب ماء هذه الإداوة، لم يحنث إلا بالنزف، وشُربِ الكُلِّ، وإن قال: لأشربن من ماء هذه الإداوة، فالبر يحصل بشرب البعض؛ فإن (مِنْ) صريح في اقتضاء التبعيض، ولو قال: لأشربن ماء هذا النهر، فلا شك أن استيعاب ماء النهر بالشرب غير ممكن، فإذا كان لفظه مطلقاً على هذا الوجه، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: هذا عقد يمين على غير ممكن، ولا يتأتى طلب البرّ فيه، كما لو قال: لأصعدن السماء، هذا وجهٌ، وهذا القائل يقول: لو شرب من ماء النهر، لم يبرّ.
ومن أصحابنا من قال: قوله لأشربن ماء النهر معناه لأَرِدَنَّه، ولأشربن من مائه، ومن شائع الكلام: فلانٌ [شرب] (3) الدِّجلة، معناه شرب منها.
__________
(1) هـ 4: " فأما إذا قال ".
(2) ر. المختصر: 5/ 234.
(3) في الأصل: " يشرب ".

(18/377)


11795 - ثم جمع الأئمة فصولاً في الباب متماثلة قريبة المأخذ، ونحن نذكرها ونستعين بالله تعالى، فإذا قال: لأصعدن السماء، فقد قال محالاً، ولكن يلزمه الكفارة على الفور، والذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه يحكم بانعقاد يمينه، ثم يحكم بانحلالها، وسبب الانعقاد أنها معقودة على المستقبل، والله تعالى قادر على أن يُقدر عبده على الرُّقي في السماء، ولكنا أَيسنا من حصوله، فانعقدت اليمين بما قدمناه من انتظام اللفظ، وانتجز الحِنث لليأس من البرّ.
وقال قائلون: تجب الكفارة، ولا نحكم بانعقاد اليمين؛ فإن سبب حَلِّها مقترن بها لو قُدّر حَلٌّ وعَقْد، وهذا القائل يقول: الكفارة إنما تلزم إذا حَنِث الحالف في اليمين المنعقدة على ممكن، لمخالفة المحلوف عليه الحلف، ومن قال: لأصعدن، فمعنى الحنث (1) قائم، والرجل منتسب إلى ترك التعظيم (2).
ولو قال: " لأقتلنّ فلاناً "، وهو عالم بأنه ميت، فقد قال أصحابنا: هذا بمثابة ما لو قال: لأصعدن السماء، وبمثله لو قال: والله لأشربن ماء هذه الإداوة، ولم يكن فيها ماء، فقد اختلف أصحابنا (3) في المسألة: فمنهم من قال: اليمين لا تنعقد، بل تلغو، ولا تجب الكفارة، وليسَ كالحلف على الصعود؛ فإن في مقدور الله تعالى الإقدار على ذلك، وكذلك قتل الميت مقدور لله تعالى، بتقدير أن يحييه ليقتله الحالف، وأما شرب ماء الإداوة ولا ماء، فمستحيل كيف قدر.
وذهب الأكثرون إلى أن الكفارة تلزم، ثم اختلفوا في أن اليمين هل تنعقد أم لا.
11796 - ولم يختلف الأصحاب في أن من قال: " والله ما قتلت وما فعلت " وكان قد فعل أن الكفارة تلزم، وهذه يمين الغموس، وليس من الحزم أن نسلم للخصم انتفاء الكفارة إذا قال: لأشربن ماء الإداوة بناء على أن الماء معدوم، ولو فتحنا هذا الباب، ونفينا الكفارة إذا كان المحلوف عليه بحيث يستحيل تصويره، فيلزم منه أن
__________
(1) هـ 4: " الحلف ".
(2) هـ 4: " التعاظم ".
(3) هـ 4: "أئمتنا".

(18/378)


نقول: إذا قال الحالف على الماضي: " والله ما فعلت "، وكان فعل، لا يلزمه الكفارة؛ لأن ما فعله يستحيل أن يقدّر عدمه بعد وجوده، وليس ذلك من المقدور، فيجب انتفاء الكفارة. وقد أجمع الأصحاب على وجوب الكفارة في يمين الغموس.
فقد انتظم من مجموع ما ذكرناه وجوب الكفارة في يمين الغموس، ثم لا يتجه عندنا الحكم في الغموس بالانعقاد، فإنا إن كنا نمنع انعقاد عقد لاقترانه بما يحله، فالغموس في عينه خُلف، فيستحيل فرض الانعقاد فيه، ولكن وجوب الكفارة لا يتوقف عندنا على تقدير عَقْدٍ وحَل، كما قررناه في (الأساليب).
وإذا حلف ليفعلن ما لا يستريب أنه ممتنع، ولكنّ وقوعَه ليس خارجاً عن قبيل المقدورات، فالكفارة تلزم، وفي الحكم بالانعقاد خلاف أشرتُ إليه، ومعظم الأصحاب على أن اليمين تنعقد، وتنحل، كما انعقدت على الفور، وهذا كقوله: لأصعدن السماء، أو لأقتلن فلاناً، وكان ميتاًً، وإن كان الحلف على محال ليس فيه إمكان، فالمذهب وجوب الكفارة، ثم لا يتجه الحكم بانعقاد اليمين بل يجب صرف وجوب الكفارة إلى مخالفة التعظيم -على حكم الخُلْف- لاسم الله تعالى المذكور تأكيداً على صيغة الحلف.
ومن أصحابنا من لم يوجب الكفارة، لانحسام مسلك الإمكان من كل وجه.
ولو قال: " والله لأصعدنّ السماء غداً " ففي تحنيثه في الحال خلاف مشهور بين الأصحاب، وقد قدمنا توجيه الخلاف بما فيه مقنع.
ومن الصور المعترضة أنه لو قال: لأقتلن فلاناً، وكان يحسبه حياً، ثم تبيّن أنه كان ميتاً حالة الحلف، فقد قال الأئمة: في وجوب الكفارة قولان مأخوذان من تحنيث الجاهل والناسي، ووجهه أنه عَقَد اليمينَ وهو يعتقد الإمكان، فخرج الخلاف على ما قدمناه، وليس كما لو كان على علم من موته، فإنه يكون مجرداً قصده إلى عقد اليمين على ممتنع.
***

(18/379)


باب من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه
قال الشافعي: " من حلف على غريمه ألا يفارقه ... إلى آخره " (1).
11797 - إذا حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفيَ حقَّه، فلا يخفى ما يتعلق من البر، والحنث بفعل الحالف إن فارقه مختاراً ذاكراً، أو ناسياً، أو مكرهاً، ولا يخفى الحكم لو اختُطف، وحُمل، وفرّق بينه وبين الغريم، وغرض الفصل الكلام فيه إذا كانت المفارقة (2) من الغريم المحلوف عليه، ولأصحابنا طريقان: فذهب الأكثرون إلى أن الغريم الذي ذكره الحالف لو فارق، لم يحنث الحالف؛ لأنه لم يعقد اليمين على فعل الغريم، وإنما عقد اليمين على فعل نفسه، ولم يوجد منه فعل في المفارقة، ثم صور الشافعي فرار الغريم وترك المسألة على العادة، فإن من يبغي ملازمة غريمه لا يترك غريمه يفارقه على اتئادٍ، وإنما تقع المفارقة فيه على هيئة الفرار، ولكن لو لم يتفق فرارٌ، وفارق الغريمُ على التؤدة، والحالف ماكث لا يبرح، فلا يحنث أيضاً على هذه الطريقة، لما ذكرنا من أنه لم يوجد منه فعل، ثم لا نظر إلى فرار الغريم، ولا إلى اتئاده، فإن فعله ليس محلوفاً عليه. هذه طريقة.
وذكر صاحب التقريب، وبعض المصنفين أن الغريم إذا فارق مكان الحالف متمكناً من مساوقته، فمكث، ولم يساوقه، كان ذلك بمثابة فعله في الفراق؛ فإنّ ترك المصاحبة مفارقة، والشاهد لذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام علق لزوم البيع بتفرق المتبايعين عن مجلس العقد، إذ قال: " ما لم يتفرقا " ثم لو فارق أحدهما المجلس، ومكث الثاني، كان ذلك تفرقاً منهما بمثابة ما لو أخذ كل واحد منهما صوباً، وافترقا بأبدانهما، ثم قال هؤلاء: هذا فيه إذا كان الحالف الناكث على استمكان واختيار،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 234.
(2) من هنا بدأ خرمٌ في (هـ 4) حيث فقدت ورقة.

(18/380)


فتَرَكَ المساوقَة، فأما إذا فرّ غريمه، وعجز عن مساوقته، فهذا يُخرّجُ على قَوْلَي الإكراه.
وهذه الطريقة مستهجنةٌ لا أصل لها، والمعتمد المسلكُ الأول، لما قدمناه.
11798 - ثم إذا فرعنا على الطريقة الأولى، فلو كان الحالف وغريمه يتماشيان مصطحبين، وصورة الحلف كما تقدم، فوقف الحالف، والغريم على سجيته في المشي، فقد نقل عن القاضي أنه يحنث بالوقوف في هذه الصورة، وليس كما لو كانا ساكنين في مكان، ففارق الغريمُ، واستدام الحالف السكونَ، وذلك لأن الحالف إذا سكن في المكان الذي كان فيه، فإنه ليس مستحدثاً صنفاً من الفعل يصير به منتسباً إلى الفراق. وإذا كانا يتماشيان، فوقف عن المشي، كان ذلك إحداثَ فعلٍ مؤثر في الفراق، فلا يبعد أن يسمّى فراقاً؛ فإن الواقف عن المشي قد يقول: كنت أماشي فلاناً، فوقفت، وفارقته، وقد لا يتحقق هذا فيه إذا كانا في مكان ساكنين فمشى أحدهما وسكن الثاني.
وهذا عندنا تخييل لا حاصل له، ولا يجوز أن يكون بين وقوفه عن المشي، وبين استدامته السكون في المكان؛ [فرقٌ] (1)؛ فإنه في الموضعين [تارك] (2) مصاحبة الغريم مع التمكن منها.
ومما نفرعه على الطريقة الأولى أنه لو قال: " لا أفترق أنا وأنت أو نفترق ". فعقد اليمين على هذه الصيغة، ولم يقل: لا أفارقك، فإذا فارق الحالفُ، حَنِث، وإن سكن الحالف، وفارق الغريم، ففي المسألة وجهان: أظهرهما -وهو الذي لا يتجه غيره- أن الحالف يحنث؛ لأنه عقد اليمين على فعليهما، إذ قال: لا نفترق، ومكثه مع مفارقة غريمه يسمى افتراقاً، وعليه يخرّج قول الرسول صلى الله عليه وسلم في خيار المجلس: " ما لم يتفرقا "، فيجتمع في هذه الصورة ارتباط المحلوف عليه بهما، وتمكن الحالف من المصاحبة، ويتسق لذلك انطلاق (3) اسم التفرق أو الافتراق.
__________
(1) زيادة من المحقق. والحمد لله فقد صدقتنا (ق).
(2) زيادة اقتضاها السياق. وقد صدقتنا (ق).
(3) انتهى هنا الخرم الموجود في (هـ 4).

(18/381)


ومن أصحابنا من قال: لا يحنث إذا لم يكن الفراق من جهته، وهذا بعيد وإن كان مشهوراً في الحكاية؛ إذ لا خلاف أن هذا لا ينزل منزلة قول القائل: " والله لا نتناظر "؛ فإنه لو نزل هذه المنزلة، لاشترط في تحقيق الحنث أن يتفرقا بأبدانهما حتى يقال: على موجبه لو فارق الحالف، ومكث الغريم، لا يحنث؛ فإن قيل: إنه يحنث مذهباً واحداً، تبين بذلك انفصال التفرق والافتراق عن التناظر لو فُرِضَ محلوفاً عليه.
هذا مقصود الفصل.
11799 - ثم وصل الأصحاب بذلك صُوراً تستند إلى الأصول المقدمة، فقالوا: إذا حلف لا يفارق غريمه، فقضى القاضي بفَلَس الغريم، وألزم الحالفَ مفارقته، فهذا يلتحق بوجود المحلوف عليه على صفة الإكراه، وفيه القولان، ولو فَلَّسه الحاكم، أو تحقق للحالف فَلَسُه، ورأى ملازمته محظورة، وما ألزمه القاضي مفارقته، فإذا فارقه، حَنِث، ولا نجعل علمَه بفَلَسه بمثابة ما لو أجبر على مفارقته.
ولو حلف كما وصفنا، فاستوفى في ظاهر الحال حقّه، وكان دراهم، فتبيّن أنها مستحقة، أو خرجت زُيوفاً، فهذه مفارقة قبل استيفاء الحق؛ فإن كان عالماً، فهو حانث، وإن كان جاهلاً بحقيقة الحال، ففي المسألة قولان مأخوذان من الجهل والنسيان.
ولو حلف لا يفارق حتى يستوفي حقه، فاعتاض عن حقه عوضاً وفارق، فقد نقل المزني عن الشافعي أن العوض الذي أخذه إن كان يساوي مقدار حقه، لم يحنث، ثم أخذ يعترض ويقول: أخذ عوض حقه ولم يأخذ حقَّه، واليمين معقودة على استيفاء الحق، وقد أجمع الأصحاب على أن المذهب ما ذكره المزني، والحالف يحنث، ثم اتفقوا على أن الخلل جاء من جهته، والشافعي حكى ما ذكره مذهباً لمالك (1)، ولم يقل به، ولم يصر إليه.
__________
(1) ر. الإشراف: 2/ 891 مسألة 1768 و2/ 984 مسألة: 1996، عيون المجالس: 4/ 1595 مسألة 1123.

(18/382)


ولو أبرأ غريمه عن حقه، حنث بنفس الإبراء، وكذلك لو أبرأه عن بعض حقه، حنث وإن قل قدره، لتسببه إلى تفويت البرّ.
11800 - ثم قال: " لو حلف ليقضينه حقه غداً، فقضاه اليوم، حِنَث ... إلى آخره " (1).
إذا حلف من عليه الحق ليقضينه غداً، ثم إنه ابتدر، وقضى في اليوم -واليمينُ مطلقة- حَنِث لتفويته البرَّ بتعجيله القضاء، وهذا بيّن، وكذلك لو قضى مما عليه بعضه، فالبر يفوت.
ولو قال: لأقضين حق فلان غداً، فأبرأه مستحق الحق، والتفريع على الأصح - وهو أن الإبراء لا يفتقر إلى القبول- فقد تعذر البرّ في الغد على حكم الإكراه، فيخرج القولان، وإن قلنا: لا يصحُّ الإبراء ما لم يقبل المبرأ عنه، فقبل الحالف، حَنِث قولاً واحداً بتسببه إلى الحنث بسبب القبول، ولا معنى لتكثير الصور، بعد ذكر خاصية الباب.
...
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 234.

(18/383)


باب من حلف على امرأته لا تخرج إلاّ بإذنه
11851 - مضمون هذا الباب من مسائل الطلاق، ولكن المزني وضعه في هذا الكتاب، وفي الباب مسألتان إحداهما- أنه إذا قال لامرأته: إن خرجت من الدار إلا بإذني أو بغير إذني، فأنت طالق، فلا يخفى حكم المسألة في البر والحنث، فلو أذن لها، فخرجت بالإذن، لم تطلق، ثم قال الشافعي: " إذا خرجت مرة بالإذن، انحلت اليمين على البرّ، فلو عادت، وخرجت مرة أخرى مراغِمةً، من غير استئذان، لم تطلق.
وقال أبو حنيفة (1) رضي الله عنه: لا تنحل اليمين بخروجها الأول مع الإذن فيه، وهذا هو القياس؛ فإن اليمين إنما تنحل إذا جرت صورة الحنث، حيث لا يجد الطلاق نفاذاً، مثل أن يعلّق طلاق امرأته بدخول الدار، ثم يُبينها، ثم تدخل الدار بعد البينونة، وفي هذا خبط وتخليط، ذكرته في موضعه، فإذا خرجت بالإذن، فليس ما أتت به مُخالفة، فاليمين باقية في خروجها بغير الإذن، فإذا خرجت بغير الإذن، فهذا أول مخالفتها.
وتوجيه مذهب الشافعي عسرٌ عندي، وحكى شيخي قولاً مُخرَّجاً مثلَ مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وكان يُفتي به، وَوَدِدتُ لو وجدتُ هذا القول في طرق الأصحاب، وهو على اتجاهه في القياس غريب، لم أره إلا لشيخي.
11802 - ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار لابسةَ حرير، فأنت طالق، فدخلتها ولا حرير عليها، لم تطلق فلو دخلت بعد ذلك، لابسةَ حرير، طلقت، هكذا ذكره الأصحاب، ثم طلبوا الفصل بين هذه المسألة، وبين ما إذا قال: إن دخلت الدار بغير إذني، فأنت طالق، ولا فرق عندنا قطعاً بين المسألتين؛ فإن الدخول في المسألة
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 322، المبسوط: 8/ 173.

(18/384)


الأولى إنما كان متعلقاً بالطلاق إذا كان موصوفاً بالمراغمة، فكأن الطلاق علق بالدخول وصفةٍ منضمّةٍ إليه، وهو بمثابة ما لو قال: إن دخلت الدار لابسةَ حريرٍ، فدخلتها ولا حرير، ثم دخلتها ثانية لابسةَ حريرٍ، وإذا لم يكن للشافعي نص في مسألة الحرير فأي حاجة (1) إلى تصويرها وتسليمها وتكلف فرق لا ينتظم قط.
هذا أحد مقصودي الباب.
11803 - المقصود الثاني - أنه إذا قال: إن خرجت من الدار بغير إذني، فأنت طالق، ثم أذن لها، ولم تشعر، فخرجت على قصد المراغمة مثلاً غيرَ شاعرة بجريان الإذن من الزوج، فهذا عند المحققين يقرب مأخذه من بيع الوكيل ما وكل ببيعه، وقد عزله الموكِّل من حيث لا يدري، ولكنْ توجيه هذا الخلاف في اليمين على نسق آخر، والظاهر أنها لا تطلق؛ فإنها خرجت بعد الإذن.
ومن أصحابنا من قال: إنها تطلق؛ فإن ظاهر اليمين منعها عن الاستبداد بالخروج والمراغمة به، وإذا لم يبلغها الإذن، فخروجها على نعت المراغمة وقصد المخالفة.
هذا مأخذ الكلام.
ويمكن أن يقال: هذا الخلاف يقرب مما إذا قال لها: إن خرجت، فأنت طالق، وظهر أنه قصد منعها من الخروج، فلو نسيت اليمين وخرجت، ففي وقوع الطلاق قولان.
وقد ذكرتُ هذا وأمثاله في كتاب الطلاق، ووجه التشبيه أنها إذا خرجت ناسية، فليس خروجها على حكم المخالفة، ويمكن أن يقال: قصد الزوج بالطلاق أن يمنعها مما يدخل في وسعها، وليس يدخل في الوسع طرد النسيان.
هذا منتهى المراد من ذلك.
...
__________
(1) هـ 4: " فأي وجهٍ ".

(18/385)


باب من يعتق عليه من مماليكه إذا حنث
قال الشافعي: " من حلف يعتق ما يملك ... إلى آخره " (1).
11804 - إذا قال: مماليكي أحرار، دخل تحت لفظه العبيد، والإماء، والمدبرون، وأمهات الأولاد، والظاهر أن المكاتب لا يدخل، لما ثبت له من الانحياز والاستقلال بالنفس، وفي المسألة قول آخر أنه يَعتِق؛ لأنه مملوكٌ ما بقي عليه من النجم شيء، والمستولدة وإن ضعف الملك فيها، فاحتكام السيد (2) جارٍ عليها، وإنما ينحسم من تصرفاته فيها البيع والرهن.
وإذا قال: عبيدي أحرار، لم يدخل الإماء على ظاهر المذهب، وهذا هو الذي يجب القطع به.
وذهب ضعفة الأصحاب إلى إدخالهن؛ من جهة أن العبودية تشمل الإماء، ويسوغ أن يقول الرجل: استعبدتها، كما يسوغ أن يقول: استرققتها، وقد نطقت العرب بتسمية الأمة عبدة، وهذا وإن كان جارياً في فنه، فليس على مأخذ الأيمان، فإن الإماء [لا] (3) يُرَدْن في العرف بإطلاق اسم العبيد، والتعويل الأظهر في اليمين على غلبة العرف.
ثم ذَكَر في الباب مسائل من عَوْد الحِنْث، ولَسْنا لها، وذكر فيه أنه لو قال لعبده: إن بعتك، فأنت حر أنه إذا باعه، عَتَق أخذاً من القول في خيار المجلس، وكل ذلك مما تمهد وتقرر في الأصول السابقة.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 235.
(2) هـ 4: " فأحكام السيد جارية عليها ".
(3) سقطت من الأصل.

(18/386)


فصل
قال: ْ " ولو قال: إن زوّجتك، أو بعتك، فأنت حر ... إلى آخره " (1).
11805 - إذا عقد اليمين على عقدٍ وأطلق، فاليمين محمولة على العقد الصحيح، فلو قال: لا أبيع، أو لا أشتري، أو لا أتزوج، ثم صدرت منه صورة عقد من هذه العقود على الفساد، لم يحنث، فإن الفاسد ليس عقداً، وكذلك لو قال: " لأبيعن " لا يبرّ إلا بالبيع الصحيح، وهذا متفق عليه بين الأصحاب.
ولو قال الزوج: لا أبيع مالَ زوجتي، أو قالت الزوجة ذلك في مال زوجها، ثم انفرد الحالف بالبيع من غير إذن، فلا شك في فساد البيع، ثم ما صار إليه الأصحاب أنه لا يتعلق به الحِنث؛ بناءً على ما مهدناه، وذكر صاحب التقريب في ذلك وجهاً بعيداً أن الحنث يحصل، لأن أحد الزوجين قد يتبسط (2) في مال الثاني، فإذا أطلق اليمين على ما وصفناه، ظهر أنه عنى بذلك ترك الانبساط بالبيع، وإن كان على الفساد.
وهذا بعيد، لا أصل له، ولا يسوغ خرمُ المذهب بمثله.
ولو قال: والله لا أبيع مال فلان، فهذا محمول على البيع الصحيح، ولو قال: لا أبيع ماله بغير إذنه، فباعه بغير إذنه على الفساد، فالذي قطع به الأصحاب أنه لا يحنث، وصاحب التقريب يُجري الوجهَ الضعيفَ في ذلك؛ فإنه قد يظهر من غرض الحالف الانكفاف عن صورة التصرف من غير إذن.
ولو قال: والله لا أبيع الخمر، فقد قال الأئمة: إذا قال: بعت هذه الخمر، لم يحنَث لأن البيع في اليمين محمول على الصحة، وبيع الخمر فاسد، ولو قال: لأبيعن الخمر، لم يبرّ بصورة البيع، فهو كما لو قال: لأصعدن السماء.
وقال المزني: إذا قال: لا أبيع الخمر، حنث ببيعها؛ فإنه لا يقصد إلا الامتناع
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 235.
(2) هـ 4: "يتسلط".

(18/387)


عن صورة البيع، وإلا فالخمر لا يصح بيعها، وهذا الذي ذكره منقاس متجه، ولا شك أن الوجه الضعيف الذي ذكرناه عن صاحب التقريب في بيع مال الغير يجري هاهنا؛ فإنه إذا قال: لا أبيع مال الغير بغير إذنه، فصاحب الوجه الضعيف يحمله على صورة البيع، وهذا في الخمر أوجه وأظهر.
ولو قال: لا أشتري شراءً فاسداً، أو لا أبيع بيعاً فاسداً، فلا وجه عندنا، إلا القطع بأنه يحنث بصورة البيع والشراء، وإن جرت على الفساد؛ لأنا إن حملنا مطلق العقد على الصحيح، فمقيده بالفساد كيف يتوقع حمله على الصحيح، وإذا امتنع تقدير خلاف في هذا، فيظهر معه مذهب المزني في منع بيع الخمر (1).
...
__________
(1) إلى هنا انتهت نسخة (هـ 4) وجاء في خاتمتها ما نصه:
" آخر الجزء السادس والعشرين من نهاية المطلب ويتلُوه في الذي يليه بمشيئة الله تعالى:
باب جامع الأيمان
قال الشافعي إذا حلف ألا يأكل الرؤوس إلى آخره.
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله أجمعين.
قوبل لجميعه وما قبله ".

(18/388)


باب جامع الأيمان [الثاني] (1)
قال الشافعي رضي الله عنه: " إذا حلف لا يأكل الرؤوس ... إلى آخره " (2).
11806 - إذا حلف لا يأكل الرؤوس، فالذي أطلقه الشافعي رضي الله عنه والأصحاب معه أنه لا يحنث بأكل رؤوس الطير والحيتان، وبناءُ الفصل على اتباع العرف، ومن قال: أكلت الرأس، أو لم آكله، لم يُفهم من مطلق كلامه التعرض لرؤوس الطير والحيتان، وسبب اطراد هذا العرفِ أن الناس في جميع البلاد لا يعتادون إفراد رؤوس الطير بالشيّ، أو الطبخ، أو الأكل، وإنما اتسق ما ذكرناه لاطراد العادة بأكل رؤوسٍ تفردُ بالشيّ والطبخ، فكان انتظام ما ذكرناه متلقى من [اعتياد] (3) أكل رؤوس على الإفراد، وعدم ذلك في رؤوس [الطير والحيتان] (4) فلا يُنكِر أحدٌ أن اسمَ الرأس ينطلق في صريح اللغة على رأس الطائر والحوت، ولكن لما لم يفرد بالأكل، لا يفرد بالذكر، والتعويل على العرف إذا غلب، وهذا هو المذهب.
وذكر صاحب التقريب ما ذكرناه، وجعله معوّل المذهب، وحكى قولاً آخر أن اسم الرأس يحمل على رأس الطائر والحوت تمسكاً بحقيقة اللغة، وليس اسم الرأس مزالاً مماتاً (5) عما عدا النَّعم، ولكن ما اعتاد الناس إفراد رؤوس [غيرها] (6)، وهذا
__________
(1) هكذا العنوان بنصه في "مختصر المزني " ومن هنا بدأ الاعتماد على نسخة وحيدة هي ت 6. والله المستعان. وأشرنا من قبل إلى أنّ جزءاً من نسخة أخرى جاءنا والكتاب ماثلٌ للطبع، فعارضنا نسخة الأصل عليها وهي التي رمزنا لها بـ (ق) وهي مستمرة إلى باب الامتناع عن اليمين.
(2) ر. المختصر: 5/ 235.
(3) في الأصل: " اعتبار ".
(4) زيادة من (ق).
(5) كذا تماماً (رسماً ونقطاً) ولعل المعنى: أن اسم الرأس ليس مزالاً، فلم يَمُت استعماله في غير رؤوس النعم. وهذا اللفظ (مماتا) ساقط من (ق).
(6) في الأصل: رؤوس. والمثبت تصرف من المحقق. كنا قدرناها [رؤوسها] فجاءت (ق) باللفظ الساقط، فاعتمدناها.

(18/389)


لا يغير اللغة الشائعة الحقيقية. ولم أر هذا القول لغير صاحب التقريب، ولا عود إليه بعد ذلك.
فإذا قال: لا آكل الرؤوس، حَنِث بأكل رؤوس الغنم، فإنه معتاد بكل مكان، وأطلق الشافعي التحنيث بأكل رؤوس البقر والإبل، وإنما بنى هذا على اعتياد طوائِفَ من الناس أكلَها في بعض البلاد. والذي يتحصل من هذا الفصل بعد حط القول الذي حكاه صاحب التقريب في جميع الرؤوس طرقٌ: أحدها - أن الحنث يحصل برؤوس النَّعم في جميع البقاع، ولا يحصل الحنث بغيرها.
والثاني - حكاه صاحب التقريب أن الحنث لا يحصل إلا برؤوس الغنم؛ فإنها هي المفهومة من إطلاق الرؤوس المفردة على الإطلاق.
والطريقة الثالثة -وهي أعدل الطرق- أن كل بقعة يُعتاد فيها إفراد رؤوس بالأكل، فمطلق اسم الرؤوس فيها محمول على ما يُعتاد في تلك البقعة، حتى لو اعتاد طائفةٌ أكلَ رؤوس الظباء وغيرِها من الصيود -حيث تكثر الصيود-، فإذا أطلق الحالفُ منهم اسم الرؤوس، دخل تحتها ما يعتادون إفراده بالأكل من تلك الرؤوس. هذا قولنا فيهم.
فأما غيرهم من أهل البلاد والقرى إذا كانوا لا يعتادون إفراد تلك الرؤوس التي ذكرناها بالأكل؛ فاسم الرؤوس في أيمانهم هل يتناول تلك الرؤوس التي يعتاد أكلها أهل ناحية؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن الاسم في حقهم لا يتناولها اعتباراً بعادتهم.
والثاني - اسم الرؤوس في حق الكافة (1) يحمل في الإطلاق على الرؤوس التي يأكلها أهل ناحية. والترتيب للعراقيين، استاقوه كذلك، وهو حسن.
والوجهان مأخوذان من الخلاف فيه إذا حلف القروي لا يدخل بيتاً، فدخل الخباء والخيام، ووجه التقريب لائح؛ فإن اسم البيت حقيقة في وضع اللسان للخيام والأخبية، وقد جرى بذلك عرفٌ على حسب اللسان، فإذا استعمل أقوام اسم البيت، وهم لا يساوون أهل اللسان في عرفهم، فينشأ الخلاف المقدم، كذلك اسم الرؤوس
__________
(1) في (ق): "الله".

(18/390)


في أصل الوضع يتناول كل رأس، فإذا انضم إليه عرف أهل ناحية، التحق بإطلاق اسم البيت، فهذا بيان الطرق من جهة النقل.
ولا بد من عطف البحث عليها.
11807 - أما من أدرج رؤوس النعم وأخرج ما سواها، فهذا محمول على اعتقاد هؤلاء أن رؤوس الإبل مأكولة في بعض البلاد، ورؤوس البقر أعم من رؤوس الإبل، ورؤوس الغنم يعتاد أكلها في طَبَقِ الأرض، فبنى هؤلاء المذهب على ما وجدوه في الاعتياد، ولم يتكلموا على التقدير.
ومن قدّر أكل رؤوس الصيود، استوعب الكلام على الموجود والمقدر، وما عندنا أن أهل الطريقة الأولى ينكرون الكلام على هذا التقدير لو روجعوا فيه، وما حكاه صاحب التقريب من التخصيص برؤوس الغنم مخالفة، وكأنَّ صاحب [هذه] (1) الطريقة يعتبر العموم، ولا [يعتبر] (2) الحكم بما يندر من الأكل في رؤوس الإبل والبقر. ولو روجع هذا القائل في تقدير عموم الأكل في بعض النواحي، لم ينكر نزول الاسم على ما يعم أكله. والذي يختص هذا القائل به أنه لا يحكم على أهل البلاد بما يندر فيهم، وغير هؤلاء يقولون: إذا كان الشيء مفرداً مأكولاً -وإن كان لا يعم- كان بمثابة لحم الإبل بالإضافة إلى لحم الغنم في كثير من البلاد. وعلى الجملة لا معنى لاعتبار العموم، ورَجَع حاصلُ الكلام إلى المنهج الأعدل الذي ذكرناه للعراقيين في الخلاف والوفاق.
11808 - وإذا قال الحالف: " لا آكل اللحم "، لم يحنث بالحيتان، وإن كانت تعم؛ فإنها حيث تعم لا تسمى لحماً مطلقاً، فمأخذ الكلام فيها من الاسم لا من الاعتياد، وأما الرؤوس، فالاسم لجميعها حقيقة، ومأخذ الكلام فيها من اعتبار الإفراد حتى ينزل عليها مطلق اسم الرؤوس إفراداً.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: " ولا يغيّر ". والمثبت تقدير من المحقق. ونحمد الله فقد صدقتنا نسخة (ق).

(18/391)


11809 - ومما يضاهي الرؤوسَ، البيض. قال الشافعي (1): إذا حلف لا يأكل البيض، حمل لفظه المطلق على كل بيض يزايل البائض: كبيض الدجاج، والوز، والبط، ونحوها وأراد إخراج بيض الحيتان؛ فإنها لا تُلقى مزايلةً، فتؤكل، وإنما توجد في بطونها، واسم البيض على الإطلاق لا يتناول بيضَ الحيتان، كما لا يتناول اسم اللحم عند الإطلاق الحيتان.
ثم قال الأئمة: البيض التي لا تفرد بالأكل اعتياداً، وإن كانت تزايل البائض كبيض العصافير والحمام ونحوها، فهي بالنسبة إلى البيض التي يعتاد أكلها كرؤوس الطير بالإضافة إلى الرؤوس التي تفرد بالأكل اعتياداً، وإنما ذكر الشافعي مزايلة البيض البائضَ ليُخرج بيضَ الحيتان، لا ليدخل بيض العصافير، هذه الطريقة المرضية.
وفي كلام بعض الأصحاب رمز إلى إجراء نص الشافعي على حقيقته في كل بيض يزايل بائضه، وهذا يضاهي طريقةَ صاحب التقريب في إدخاله جمنة الرؤوس تحت اسمها المطلق في الأيمان.
فصل
قال: " ولو حلف لا يشرب سويقاً، فأكله ... إلى آخره " (2).
11810 - مضمون هذا الفصل الكلام على الأكل والشرب والذوق. فإذا كان الحلف على الأكل، لم يقع الحنث بالشرب، وإذا كان على الشرب، لم يقع الحنث بالأكل. وإذا كان اللفظ الجاري شاملاً لهما، وقع الحِنث بالأكل والشرب.
وبيان ذلك بالتفصيل: أن من قال: لا آكل السويق، فلو استفّه، حَنِث. وكذلك لو لتّه بسمن أو ماء، ولم ينته إلى الانمياع، وكان يتعاطاه أكلة أكلة، فهذا الأكل، ولو ماثه (3) وخلطه بالماء الكثير حتى انماع وتحسّاه شرباً، فهذا شرب، وليس بأكل،
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 235.
(2) ر. المختصر: 5/ 236.
(3) ماثه: أذابه ومرسه بيده، وألانه. (المصباح، والمعجم).

(18/392)


والذي يتردد الرأي فيه أن يكون خاثراً يتأتى تعاطيه بالملاعق، ويتأتى تحسّيه على ثخونته، فكيف الوجه؟ هذا محتمل عندي: يجوز أن يقال: تحسّيه شربٌ في حكم البر والحنث، ويجوز أن يقال: يتناوله اسم الأكل والشرب جميعاًً. والإهالة (1) الخاثرة وإن كان تتحسى لا يبعد انطلاق اسم الأكل فيها، والعلم عند الله.
ولو قال في يمينه: لا أطعم أو لا أتناول، عمّ ذلك الأكلَ والشربَ. ولو قال بالفارسية " نخورم " تناول الأكل والشرب. ولو قال: والله لا آكل، فإذا أدرك الطعم وازدرد منه المقدار الذي يزدرده الذائق، فهذا ليس أكلاً ولا شرباً، هذا ذكره القاضي الأصحاب.
ولو حلف لا يذوق، فأدرك الطعم، ثم مجّ ما ذاقه ولفظه، بحيث لا يفطر الصائم، ففي حصول الحنث وجهان: أحدهما - لا يحصل؛ فإن الذوق لا يطلق حقيقة إلا عند وصول شيء نَزْرٍ إلى الباطن، فإذا مج، ولفظ، يقال: أدرك الطَّعْم، والأصح أنه ذائق وإن لم يزدرد.
ولو قال: لا أذوق، فأكل وشرب، فالأصح أنه يحنث؛ فإنه ذاق وزاد، وأبعد بعض الأصحاب فيما نقله بعض المصنفين، وقال: لا يحنث إذا أكل وشرب؛ فإن اسم الذوق يستدعي اقتصاراً، فإذا استتم الإنسان أكلاً، لا يقال ذاق، وهذا [تخييل] (2) لا حاصل له.
ولو قال: لا آكل السكر والفانيذ، فوضع سكرة أو فانيذة في فيه، وترك حتى ذاب، وابتلع الذائب؛ فالذي ذهب إليه الأكثرون أن هذا ليس بأكل؛ فإن الأكل إنما يجري فيما يمضغ ويردّد ويزدرد.
ومن أصحابنا من قال: هو أكل، وهذا متجه؛ فإن الذي فعل ما وصفناه لا يقال: شرب السكر، ولو مضغ وازدرد الرضاض، فهو آكل، وإن مضغ حتى انماع بمضغه، ففيه الخلاف، والحنث هاهنا أولى لجريان المضغ.
__________
(1) الإهالة (بالكسر): الشحم، والزيت، وكل ما يؤتدم به (المعجم).
(2) في الأصل: تحصيل، والمثبت من تصرف المحقق، على ضوء المعهود من عبارات الإمام.
والحمد لله فقد صدقتنا (ق).

(18/393)


ولو قال: لا آكل العنب والرمان، فاحتوى بفيه على المحلوف عليه ولم يزدرد من الثُّفْلِ شيئاً، فقد قال القاضي: لا يحنث، وفيه الاحتمال الذي ذكرته، في انمياع السكر والفانيذ؛ فإن من كان يمجّ الثُّفْلَ يسمى آكلاً للرمان والعنب، والمتبع في الأيمان خاصةً العرفُ والإطلاقُ [لا] (1) حقاًئقُ الصور. نعم، لو جمع ماء الرمان والعصير وشربهما، فليس أكلاً، ولو قال قائل: ليس المصّ شرباً، ولا آكلاً، كما أن الذوق ليس أكلاً ولا شرباً، لكان ذلك قولاً، ولم يصر إليه أحد فيما أظنه.
11811 - وفيما قدمته من المسائل دقيقة، يجب التنبيه لها، وهي أن من قال: لا آكل، فالحنث يحصل بالقليل والكثير، وإذا كان كذلك، فالمقدار الذي يتجرعه الذائق، لم [يخرج] (2) عن الأكل والشرب مع قول الأصحاب؛ فإن الحنث يحصل بالقليل حصولَه بالكثير، وإذا جمع الجامع بين هذا وبين ما ذكره الأصحاب من أن ما يحصل به الذوق ليس حنثاً في الأكل، ولا في الشرب، تنشّأ (3) له بعد هذا التنبيه مسلكان: أحدهما - أن المقدار الذي هو على حد الذوق ليس أكلاً ولا شرباً، وإنما يحصل الأكل والشرب بعد ذلك. ثم ينقسم إلى القلة والكثرة.
والمسلك الثاني - أن يقال: الزائد على حد الذوق لا يعتبر فيه القصد، وهو أكل أو شرب، والقدر الذي يحصل الذوق به قد يختلف الأمر فيه بالقصد؛ فإن قصد الأكل ولم يَبغْ درك طعمه، فهو آكل أو شارب، وإن قصد به درك الطعم، فهو ذائق، وليس بآكل ولا شارب. فهذا هو الممكن عندنا في ذلك.
فصل
قال: " ولو حلف لا يأكل سمناً، فأكله بالخبز ... إلى آخره " (4).
11812 - إذا حلف لا يأكل سمناً، وكان ذائباً فتحسّاه، لم يحنث، لأنه شرب
__________
(1) في الأصل: " إلا ". وقد صدقتنا (ق).
(2) في الأصل: " خرج ".
(3) تنشأ لحاجته: إذا نهض ومشى لها (المعجم) والمعنى هنا ظهر له بعد هذا التنبيه مسلكان.
(4) ر. المختصر: 5/ 236.

(18/394)


وما أكل، وإن كان جامداً، فأكله على جموده، فهو آكل، ولا يشترط في اسم الأكل المضغُ والترديد، بل لو بلعه على جموده فهو أكل.
ولو قال: لا آكل السمن، فأكله في العصيدة [أو] (1) الفالوذ، فهذا يستدعي تمهيدَ أصل يتضح به ما انتهينا إليه وأمثالِه، فنقول: من عقد اليمين على جنسٍ، فاختلط ذلك الجنس بغيره؛ فهذا يفرض على وجوه: أحدها - أن يختلط اختلاطاًً يصير مستهلكاً بحيث لا يظهر أثره في الحسّ، فإن كان كذلك، فلا يحصل الحنث، فإذا قال: لا آكل السمن، فاستعمل السمن في الدقيق والماء، وكان يُعَصِّد ويُلوي على النار، حتى لم يبق جرم السمن محسوساً، ولم يبق له أثر مدرك، فالحكم ما ذكرناه.
ولو بقي أثره كالطَّعم واللون، ولكن استجد ذلك المختلط اسماً، وكان لا يفرد أركانه المختلطة بالاسم، ففي حصول الحنث وجهان، إذا كان يتحقق الأكل فيه، والحلف على الأكل، أو كان يتحقق الشرب فيه، والحلف على الشرب. ولو كان ما حلف عليه ممتازاً في الحسّ، كالسمن الممتاز عن العصيد، فإذا أكل العصيد والسمن معه، فالمذهب أنه يحنث. وحكى العراقيون عن الإصطخري أنه قال: لا يحنث؛ لأن الأكل إذا أضيف في صيغة اليمين إلى جنس، اقتضى إفرادَه بالأكل، وهذا ضعيف مردود عليه.
ونقل القاضي والعراقيون عنه أنه لو حلف لا يأكل السمن، فأكله مع الخبز لا يحنث، وهذا على نهاية البعد، فإن السمن لا يؤكل إلا كذلك، ولا يُتَعاطى وحده فيُبلع، وقوله في أكل السمن بالخبز أبعدُ من قوله في أكل العصيد مع السمن الظاهر.
ولو قال: والله لا آكل الخل، وكان يروغ اللقمة فيه، فهذا أكلٌ، وإن كان الخل مائعاً في نفسه، ولكن إذا تشربه الخبز تناوله اسمُ الأكل.
ولو حلف لا يأكل الخل، فاتخذ منه مرقة وأكلها بالخبز، فقد نص الشافعي أنه لا يحنث في يمينه، وأطلق ذلك. ولم يفصّله، فصار معظم الأصحاب إلى أنه إن كان
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(18/395)


طعمه ظاهراً في المرقة، فالحنث يحصل، قال صاحب التقريب: من أصحابنا من يجري على ظاهر النص، ويقول: لا يحنَث؛ لأن الاسم قد تغير باتخاذ المرقة، فلا يقال لمن أكل السّكباج (1): [إنه أكل] (2) الخل، بخلاف السمن المتميز الحائر على العصيد، وهذا ذكره صاحب التقريب وزيّفه، وفي المسألة احتمال على حال.
فصل
قال: " ولو حلف لا يأكل لحماًً، فأكل شحماً ... إلى آخره " (3).
11813 - إذا حلف لا يأكل لحماً، لم يحنث بأكل الشحم، نعني ما على الثِّرب، والمِعَى، والكُلى، ولا نعني سَمن اللحم.
ولو حلف لا يأكل الشحم، لم يحنث بأكل اللحم الأحمر، ولو حلف لا يأكل اللحم، فأكل الأَلْية؛ ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحنث، كما لا يحنث بأكل الشحم؛ فإن الألية تتميز عن اللحم تميّز الشحم.
ولو قال: لا آكل الشحم، فأكل سَمْن اللحم، وهو ما يعلو اللحم الأحمر، وقد يوجد في خلله أيضاً، فهذا يستدعي بيانَ مقدمة: فإذا قال: لا آكل الشحم، هل يحنَث بأكل سمن اللحم؟ ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهين: أحدهما - أنه يحنث؛ فإنهما يقربان صورة وطعماً. والثاني -وهو الأصح- أنه لا يحنث؛ فإن اسم [الشحم] (4) لا ينطلق عليه عرفاً. ثم قال الشيخ: من أدرجَه تحت اسم الشحم يقول: لو قال: لا آكل اللحم، لم يحنث بأكل السمن. وهذا بعيد.
وحكى الشيخ عن أبي زيد المروزي أنه قال: إن قال ذلك عربي، فالسمن في حقه شحم، وإن قاله أعجمي، فهو لحم، ثم لا يخفى التفصيل إذا اختلف عُرف أهل
__________
(1) السكباج: بكسر السين لا غير: طعامٌ يعمل من اللحم والخل، مع توابل وأفاويه، أعجمي معرب (المعجم والمصباح).
(2) زيادة من المحقق.
(3) ر. المختصر: 5/ 236.
(4) في الأصل: " اللحم ". والمثبت تقدير منا، وجاءت (ق) مثل الأصل.

(18/396)


اللسان، وأصحاب القرى والبلاد، وهذا فيه إذا استعمل القروي لغة العرب.
فأما إذا عقد اليمين على الاسم الأعجمي للشحم، فقال: " بيه نخورم "، فهذا لا يتناول سمن اللحم. والأصحُّ من بين ذلك أن سمن اللحم جزء من اللحم، لا يتناوله اسم الشحم، فيرجع الخلاف إلى الأَلْية بالإضافة إلى اللحم، ولا تكون الألية شحماً على الطريقة المرضية. وسنام البعير فيه بمثابة الألية من الشاة، وليس كالشحم.
ولو حلف لا يأكل لحماًً، فالمذهب أنه لا يحنث بأكل الكرش والأمعاء والكبد والطِّحال والرئة؛ فإن شيئاً من ذلك لا يسمى لحماً. وحكى الشيخ أبو علي عن الشيخ أبي زيد أنه حكى في هذه الأشياء كلِّها قولين عن ابن سريج: أحدهما - أنها بجملتها تُعدّ في حكم اللحم. وهذا غريب جداً، لم يحكه غيرُ الشيخ، ولم يتعرض في هذه الطريقة للشحم. وقد وجدت اتفاق الأصحاب على أن اللحم لا يتناول الشحم.
وإذا حلف على اللحم وجرينا على ما هو المذهب في إخراج الأصناف التي ذكرناها عن اسم اللحم، فالحالف على اللحم هل يحنث بأكل القلب؟ فيه وجهان: أحدهما -وهو الذي ذكره الصيدلاني- أنه يحنث؛ فإن القلب لحم. والثاني -وهو الذي قطع به العراقيون- أنه لا يحنث بأكل القلب، كما لا يحنث بأكل الكبد؛ فإنه لا يسمى لحماًً، والمسألة محتملة، والكُلية عندي في معنى القلب، وقد قدمنا أن الكبد خارج عن اسم اللحم.
11814 - ولو حلف لا يأكل اللبن، حَنِث بالرايب، وإن صار قارصاً؛ فإن العرب تسميه لبناً تحقيقاً.
ولو حلف على اللبن، فأكل الزُّبْد، فإنه لا يحنث على المذهب، وذهب بعض الأصحاب إلى أنه يحنث؛ لما في الزُّبد من الرغوة، وهذا ليس بشيء؛ فإن المتبع الاسم، كما قدمناه، ولو حلف على اللبن، لم يحنث بالسمن، ولو قال: لا آكل زُبداً، أو لا آكل سمناً، فأكل اللبن، فقد ذكر بعض المصنفين وجهين، وهذا ليس بشيء، والوجه القطع بأنه لا يحنث.

(18/397)


ولو ذكر اللبن ثم تعاطى المَخيض الذي انتزع السمن منه، ففي المسألة وجهان، وسبب الخلاف أن العرب في بلادها تسمي المخيض لبناً، وتسمي اللبن -قبل أن يُمْخَضَ- الحليبَ، والصريف.
ولو حلف لا يأكل الزُّبد، لم يحنث بالسمن، ولو حلف لا يأكل السمن، فالمذهب أنه لا يحنث بالزبد، وفيه وجه غير معتد به، ولو حلف لا يأكل السمن، لم يحنث بالأدهان. ولو عقد اليمين على الدّهن، فهل يحنث بالسمن؟ تردد فيه جواب القاضي، والمختار عندنا أنه لا يحنث.
وإن قال بالفارسية: " روغن " تناول السمن والأدهان.
11815 - وإن حلف على الجوز [قال القاضي] (1) يحنث بجوزنا، ويحنث بالجوز الهندي، وإذا حلف على التمر، لم يحنث بالتمر الهندي- هكذا قال، وهو حسن؛ فإن اسم التمر لا يطلق فيه ما لم يضف إلى الهند، ولهذا اتجاه في الجوز الهندي أيضاً، ولكنه في التمر الهندي أظهر.
والعرب لا تسمي التمر الهندي تمراً، وإنما تسميه [الحُمَر] (2)، فإن عورضنا بتسمية الجوز الهندي الرانج، فالعرب لا تعرف ذلك، وأنا أراه اسماً معرباً؛ وليس في الأبنية الأصلية ما يتركب من الراء والنون والجيم.
ومما ذكره القاضي أنه إذا حلف لا يأكل لحم البقر، حَنِث بأكل بقر الوحش.
ولو قال: لا أركب حماراً، فركب حمار الوحش، ذكر القاضي فيه تردداً، وليس يبعد إجراء هذا التردد في بقر الوحش.
ثم قال: " ولو كتب إليه كتاباً أو أرسل إليه رسولاً ... إلى آخره " (3).
11816 - إذا حلف لا يكلم فلاناً، فرمز رمزاً مُفهماً، وأشار إشارة مفيدة، فقد ذكر الأصحاب في تحنيثه قولين: أحدهما -وهو المنصوص عليه في القديم- أنه
__________
(1) زيادة من (ق).
(2) في الأصل: " الجمر ". والتصويب من المعجم الوسيط.
(3) ر. المختصر: 5/ 236.

(18/398)


يحنَث؛ لأن هذا كلامُ قومٍ، والعبارات دلالات كالإشارات، واحتج على ذلك باستثناء الرمز من الكلام في قوله تعالى في قصة زكريا عليه السلام.
والقول الجديد أنه لا يحنث بالرمز؛ فإنه لا يسمى كلاماً، ومن فرّع مسائل الأيْمان على غير اتباع الاسم والعرف، فهو حائد عن وضع الكتاب، وإذا فرّعنا على الجديد، [فقد يتردد الفطن] (1) في إشارات الخُرس؛ من جهة أنا نقيم إشاراتهم مقام عبارات الناطقين، فيما يفتقر إلى النطق، وهذا مما [حذرت] (2) منه الآن؛ فإنه تمسك بالأحكام التي قد تبنى على الضرورات ومسيس الحاجات.
والوجه القطع بأن الخرس إذا ترامزوا، لم يكن ذلك منهم كلاماًً، فإنما إشاراتهم خَلَفٌ عن العبارات، وعلى هذا إذا أشار الأخرس في الصلاة، فمن جعل الإشارة كلاماًً وحنَّث بها، فلا يبعد أن يقضي ببطلان صلاة الأخرس إذا باع في الصلاة، أو طلّق بالإشارة.
والكتابةُ في جميع ما ذكرناه في معنى الإشارة؛ فإنها وإن كانت تُفهم، فليست كلاماًً، فيجري فيها القولان والتفصيل.
وقال الأصحاب: المهاجرة التي حرّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين -وهي قطع المكالمة- لا تزول بالمكاتبة. ولو حلف ليهاجرن فلاناً، ثم كتب إليه، لم يحنث وفاقاً، وهذا بيّن للمتأمل. وإذا رمز إلى صاحبه، ففي قطع المهاجرة بالرمز تردد عندنا، والعلم عند الله.
فإن قيل: من ألحق الكتابة بالكلام، كيف لا يقطع المهاجرةَ بها؟ قلنا: رب شيء يكون كلاماً، فلا يقطع المهاجرة، كالشتم والسب، وكل ما يوغر القلب بشيء من ذلك لا يقطع المهاجرة، وإن كان كلاماًً، ولو قال: لا أكلم فلاناً، فزجره على إثر اليمين، كان ذلك مكالمة مُحْنِثة. وقال أبو حنيفة (3) رضي الله عنه: إن اتصل الزجر
__________
(1) في الأصل: " فهو تردد النظر ". والمثبت من (ق).
(2) في الأصل: " صدرت " والمثبث من (ق). والمعنى أنه حذر من الحيد عن وضع الكتاب بأخذ أحكام الأيمان من غير اتباع الاسم والعرف، فقد أخذها من أحكام الضرورات.
(3) لم نصل إلى قول أبي حنيفة في كتب الأحناف.

(18/399)


بالحلف، لم يقع الحِنث به، وإن انفصل عنه، حَنِث.
ولو قال: لا أتكلم، فقرأ القرآن، أو سبّح، وهلّل، فقد قال الأصحاب: لا يحنث- وهذا ظاهر في قراءة القرآن، ولو قال: لا أتكلم، فأخذ يردد شعراً، كان ذلك كلاماً، ومذهب أبي حنيفة (1) رضي الله عنه أنه يحنث بالتسبيح والتهليل، وفيه احتمال، أخذاً مما ذكرناه من إنشاد الشعر وما في معناه.
فصل
قال: " ولو حلف لا يرى منكراً إلا رفعه إلى القاضي ... إلى آخره " (2).
11817 - إذا قال لا أرى منكراً إلا رفعته إلى فلان القاضي، فإذا رأى منكراً وأراد البر، فليرفعه إليه إذا تمكن، وإن أخر الرفع، ثم رفع إلى من عَيَّنَ مع اطراد الولاية، برّ في يمينه؛ فإنه ليس في لفظه ما يتضمن [تعقيب] (3) رؤية المنكر بالرفع، ولو تمكن من الرفع، ولم يرفع إلى من عَيَّنَ حتى مات [ذلك الشخص، يحنث حينئذٍ. ولو رأى المنكر ولم يتمكن من الرفع حتى مات] (4)، فقولان.
ولو رأى وابتدر الرفع غير مؤخِّرٍ، فمات القاضي قبل انتهاء الرفع إليه، ففي المسألة طريقان: أحدهما - القطع بأنه لا يحنث، ومن أحاط بما جمعناه في فصل الإكراه والنسيان، وذكرناه في ترتيب المسائل بعضِها على البعض، لم يخف عليه أمثالُ ما نحن فيه.
ولو عُزل القاضي ورأى منكراً بعد عزله، فهل يتعلق البر برفعه إليه بعد العزل؟ إن كانت له نية في تخصيص الرفع بحالة القضاء أو في تعميم الرفع في الأحوال، فلا
__________
(1) ر. المبسوط: 9/ 22، حاشية ابن عابدين: 3/ 104.
(2) ر. المختصر: 5/ 236.
(3) زيادة من المحقق، استئناساً بلفظ الغزالي في البسيط، حيث قال: " ... فإن أخره مع التمكن يوماً ثم رفعه، فقد حصل البر، إذ ليس في لفظه ما يوجب التعقيب " (البسيط: 6/ ورقة: 79 شمال). وقد صدقتنا (ق).
(4) زيادة من نسخة (ق).

(18/400)


خلاف أن نيته متبعة. وإن كان لفظه مطلقاً، ففي المسألة قولان مأخوذان من تمييل (1) الشافعي قوله، فإنه قال: " إذا لم يكن له نية، خشيت أن يحنث "، يعني إذا لم يرفع بعد العزل، وهذا الاختلاف مأخوذ من الإشارة والوصف في قول القائل: [لا آكل] (2) لحم هذه السخلة، فإذا كبرت، ففي الأكل من لحمها الكلامُ المقدم. فإذا قال: إلى فلان القاضي، فتسميته بمثابة الإشارة، والقضاءُ وصفه.
ولو قال: لا أرى منكراً إلا رفعته إلى قاضٍ، لم يتعين عليه قاضٍ، ولا أثر لموت من مات، وفوت من فات، ولو قال: لا أرى منكراً إلا رفعته إلى القاضي، فهل يتعين لهذا الشأن القاضي الذي في البلد وقتَ التلفظ؟ فعلى وجهين مذكورين في بعض التصانيف.
وفي المسألة احتمال إذا كان اللفظ مطلقاً؛ من جهة اقتضاء الألف واللام التعريف، والتعريف يتردد بين صاحب الأمر المنتصب في المكان والزمان، وبين الجنس، وهذا أغلب وأوقع. وهو كقول القائل: القاضي لا يداهن، ولا يفضل خصماً على خصم، فليس المراد بهذا معيناً. ولكن المراد الكلام على جنس القضاة، ولو قال: " إلى فلان القاضي "، فعُزل، رأينا أن الرفع إليه بعد العزل لا يدخل تحت مطلق اليمين.
فلو كان رأى منكراً في حالة قضائه، ولم يرفعه حتى عزل، فلو وُلّي بعد العزل، رفعه إليه؛ فإن الشخص [ذاتُ] (3) الشخص، والولاية محققة، على هذا إذا عُزل لا نقطع بالحنث، ونحن ننتظر أن يولَّى مرة ثانية.
وإن قال: [أرفعه] (4) إلى القاضي، فلو مرّ القاضي بمنكر وعاينه، فهل يرفعه إليه؟ نُظر: فإن كان مع القاضي، فيبعد أن يقال: يرفعه إليه؛ فإنهما مشتركان في الاطلاع على المنكر، ولو رآه القاضي وحده، أو رفع إليه لا من جهة الحالف، فهل
__________
(1) تمييل: أي عدم قطع؛ فإنه قال: " خشيت " وفي (ق) تمثيل.
(2) في الأصل: " لا أكلم ".
(3) في الأصل: " ذلك ". والمثبت من تصرف المحقق.
(4) في الأصل: " ارفعوا ". وصدقتنا (ق).

(18/401)


يرفعه الحالف؟ فيه تردد للأصحاب: منهم من قال: يرفعه للبرّ. ومنهم من قال: لا معنى لرفعه؛ فإن معنى الرفع إعلامُه بما ليس عالماً به، ثم إن قلنا: يرفعه، فلا كلام، وبرّه في الرفع، وإن قلنا: لا ينفع رفعُه، فهذا مما تعذر البرّ فيه، فكأنه كما لو قال: لأشربنّ ماء هذه الإداوة، ولا ماء فيها.
فصل
قال: " ولو حلف ما له مالٌ ... إلى آخره " (1).
11818 - إذا حلف على المال انصرف إلى كل ما يتمول، ويتهيأ للتصرفات التي تستدعي الملك، وهل ينصرف لفظ المال إلى أمهات الأولاد والمكاتبين -واللفظ مطلق- فعلى ثلاثة أوجه: وجهان عامّان في النفي والإثبات. والثالث - أن المكاتب لا يدخل؛ لاستقلاله، وأم الولد تدخل، والمدبر عبد يعتق كسائر العبيد، وما ذكرناه في كتاب السرقة من سرقة أمهات الأولاد يدنو مما نحن فيه، وإن كان معتمدُ اليمين الاسمَ، وحكم المالية في السرقة معتبرٌ على نسق آخر.
وأجمع الأصحاب في الطرق أن المنافع لا تندرج تحت مطلق اسم المال، فلو كان لا يملك إلا منافعَ بقعة استأجرها، فهي خارجة عن اسم المال، إلا أن تُعنى وتُنوى، [و] (2) إذا كان للحالف على المال شيءٌ موقوف عليه، فإن قلنا: لا يملك الموقوف عليه رقبةَ الوقف، فلا حِنث إذا قال [ما قال] (3). وإذا قلنا: الموقوف مِلكُ الموقوف عليه، فهذا يخرج على الخلاف الذي ذكرناه في أمهات الأولاد.
والديون أموال وإن كانت على معسرين أو مماطلين، وهي بمثابة العبد الآبق، ولم يختلف الأصحاب في الآبق، وإن ترددوا في المكاتب، والعَوْد إلى الرق في المكاتب منتظر، حسب انتظار إياب الآبق.
وردّد بعض الأصحاب الجواب في الدين المؤجل أخذاً من إبعاد بعض الناس في أن
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 237.
(2) الواو زيادة اقتضاها السياق، وهي موجودة في (ق).
(3) في الأصل: " إذا قال ما لو قال ".

(18/402)


الدين المؤجل هل يكون مملوكاً؟ وهذا هوس لا يعتدّ به. وكيف لا يكون المؤجل مملوكاً، وهو يثبت عوضاً في البيع مع استحالة تعرّيه عن العوض المملوك.
ثم لا يختص المال عندنا بأموال الزكاة، ولْتدخل تحته جميع الأصناف، حتى الثياب التي على الحالف، وقال أبو حنيفة (1) رضي الله عنه: المال في اليمين محمول على الأموال الزكاتية، وربما يقول: إنه محمول على الدراهم والدنانير.
فصل
قال: " ولو حلف ليضربن عبده مائة سوط ... إلى آخره " (2).
11819 - إذا قال لعبده: " إن لم أضربك مائة سوط فأنت حرّ " فكيف الحكم فيه؟ هذا الفصل خارج عن قياس الكتاب بعضَ الخروج على ما سننبّه عليه في أثناء الكلام، فإذا حلف ليضربنه مائة خشبة، فيبرّ في يمينه بأن يضربه بشمراخ عليه مائة من القضبان، وإن كانت دِقاقاً، وهذا متفق عليه، والأصل المعتمد قوله تعالى في قصة أيوب عليه السلام- وكان حلف ليضربن امرأته مائة خشبة: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44].
واتفق العلماء على أن هذا معمول به في ملّتنا، والسبب فيه أن الملل لا تختلف في موجب الألفاظ، وفيما يقع برّاً وحنثاً، ثم تأكد ذلك بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في المخدَج الذي خَبَث بامرأة؛ فإنه قال: " خذوا عثكالاً عليه مائة شمراخ، فاضربوه به " (3)، ولا يكاد يخفى أنا كنا لا نطلق القول على هذا الوجه لولا ما ثبت من التوقيف فيه، ولو لم نجد إلا حديث المُخْدَج، لما بنينا عليه أمر اليمين، فقد تأكد الغرض بقصة أيوب، كما ذكرناها.
ثم إذا كان قال: لأضربن مائة خشبة، فالوضع لا يكفي، فإنه لا يسمى ضرباً،
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 307، مختصر اختلاف العلماء: 3/ 255 مسألة: 1361.
(2) ر. المختصر: 5/ 236.
(3) سبق في حد الزنى.

(18/403)


ولا يشترط ضرباً يؤلم مثله ألماً [محتفلاً] (1) به، بل يكفي ما يسمى ضرباً.
ثم إذا تحقق اسم الضرب، فلا بد من أدنى أثر، وإن كان محتملاً، ثم إن كانت القضبان منبسطة [فلاقت] (2) بجملتها الجلد إذا وقع الضرب بها، فقد حصل البرّ، وإن لقي البشرةَ بعضُها، ولم يتكابس الباقي عليها بحيث تثقل التي لاقت البشرة، فلا يحصل البِرُّ، وإذا تكابست القضبان العالية على التي لاقت البشرة، وثقَّلتها بعضَ التثقيل، ففيه خلاف مشهور بين الأصحاب: فذهب بعضهم إلى أن البِرَّ لا يحصل، لأن أدنى درجات الضرب أن [تلقى] (3) الآلةُ المضروبَ. وقال آخرون: يكفي التكابس، والتثقيل، وهذا القائل يستشهد بقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} والغالب أن قضبان الضِّغث لا تنبسط، فجريان الاكتفاء في الضرب بالضغث يدل دلالة ظاهرة على أن المماسّة في الجميع ليست شرطاً.
ومما يجب التنبه له أنا أجرينا في أثناء الكلام ذكر مماسّة القضبان البشرة، ولم نعن بها حقيقة المماسّة، ولكن لو صادف الضربُ المضروبَ وبين القضبان والبشرة قميص أو ما في معناه، فالضرب يحصل على شرط أن [لا يمنع] (4) الحائل تأثر البشرة، وإن لم يعظم [أثره] (5).
ومن حلف ليضربن رجلاً، فلا يشترط أن ينال موضعاً بارزاً منه، ولكن لو ضرب المحلوفَ عليه بيده أو بآلة، وتأثر المضروب، كفى ذلك، وإن كان بينه وبين ما يقع الضرب به حائل.
11820 - وإذا اكتفينا في مسألة الشمراخ بأن يَلْقَى البدنَ بعضُ القضبان، وينكبس البعض على ما لقي المضروب انكباس تثقيل، فوقع الضرب، وأشكل الأمر، فلم ندر أحصل الانكباس أم لا؟ وإن شرطنا المماسّة، لم ندر أحصل المماسةُ أم لا؟ فالذي
__________
(1) في الأصل: " مختلفاً به ". وقد وافقتنا (ق) والحمد لله.
(2) في الأصل: " فماتت ".
(3) في الأصل: " لقى ".
(4) في الأصل: " يمتنع ". وأيدتنا (ق).
(5) زيادة من (ق).

(18/404)


نص عليه الشافعي (1) هاهنا أنه لا يحنث، ونص في مسائل الاستثناء على أنه لو قال: لا أدخل الدار إلا أن يشاء زيد، فمات زيد ولم يدر أشاء أم لا؟ وكان دخل الحالف: قال الشافعي: يحنث.
واختلف أصحابنا على طريقين: منهم من قال: في المسألتين قولان بالنقل والتخريج والجامعُ الإشكال. ومنهم من أجرى النصين، وفرّق، فقال: إذا حصل الضرب، فالغالب الانكباس إن اكتفينا به، فوجدنا لوقوع المقصود أصلاً نتخذه مستنداً للظن، والتعويل في مسألة المشيئة على أن يشاء زيد، ولم يتحقق أنه شاء أم لم يشأ؟ والأصل عدم المشيئة، ولا مستند لما نظنُّ، [أما] (2) مسألة المشيئة، فقد استقصيناها في موضعها من كتاب الطلاق، وذكرنا حقيقتها.
وأما هذه المسألة، فالنص فيها، [يقتضي] (3) أنا نبني الأمر على حصول المقصود، فالوجه عندنا أن يقع الضرب على حالة يغلب على الظن حصولُ المطلوب فيها، فلو لم يغلب على الظن، فيبعد اعتقاد البِرّ من غير ظن.
ثم من جرى على النص، ولم يذكر قولاً آخر، لم يتوجه ما قاله بإسناد المقصود إلى ظاهر الضرب، وإنما يتوجه بظاهر كتاب الله تعالى إذا (4) قال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44]، فأثبت الضرب، ونفى الحنث؛ والمسألة مبنية على طرفٍ صالح من التخفيف والرخصة. وإذا كان المعتمد في ذلك الكتاب، فينبغي أن يقع الاقتصار على ما يُشعر به ظاهر الكتاب، فأما تعليل ذلك بالظن مع القطع بأن البر لا يتحصل في قياس الباب إلا بالقطع، فلا وجه له.
فإن قيل: إن كان كذلك فلم اشترطتم غلبة الظن؟ قلنا: لا أقل منها، والضغث إذا تحقق الضرب به وقضبانه لدنة لينة المَهْصَر والمِعْطف، فيغلب على الظن -إذا كان ما جاء به الحالف ضرباً، ولم يكن إمساساً محضاً- أن المقصود يحصل إذا كانت الآلة
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 237.
(2) في الأصل: " أنها ".
(3) زيادة من (ق).
(4) إذا: بمعنى إذ. وجاءت (ق) بـ (إذ).

(18/405)


مُتهيِّئة لما ذكرناه، [وكل] (1) هذا، ولفظ الحالف لأضربنه مائة خشبة.
11821 - فأما إذا قال: لأضربنه مائة سوط، فالذي ذهب إليه جماهير الأصحاب أنه لا يكفي -واللفظ ما ذكرناه- الشمراخ ذو القضبان الضعاف، فإنه لا يسمى سياطاً، وهذا بيّن.
وذكر شيخي وجهاً آخر أن لفظ السياط ولفظ الخشبات لا يختلف، فإن السوط منه دقيقٌ ومنه متوسط، والباب مبني على التخفيف كما ذكرناه، وليس في معتمد الباب - وهو ظاهر الكتاب- ما يُشعر بالفصل بين لفظ الخشب والسوط.
فإن اكتفينا بالشمراخ، فذاك، وإن لم نكتف واشترطنا ما يسمى سوطاً، فلو جمع مائة سوط، وضرب بها دفعة واحدة، كان هذا بمثابة الضرب بالشمراخ، حيث يكون اللفظ الخشبة، ثم يعود التفصيل في أنا هل نشترط الإمساس في جميع السياط -على ما فسّرناه- أم نكتفي بمماسة البعض وانكباس البعض على وجه يثقل؟ وكل هذا إذا قال: مائة خشبة، أو مائة سوط.
11822 - فلو قال: لأضربنه مائة ضربة، فقد قال الأصحاب: لا بد من الضربات المتوالية؛ فإن الرجل اعتنى بإضافة العدد إلى الضرب، فلتقع الضربات على الاعتياد فيها متوالية: الضربة بعد الضربة، حتى تنتجز الضربات المذكورة.
وذكر العراقيون وجهين - حيث انتهى الكلام إليه: أحدهما - ما ذكرناه. والثاني - أنه لو أوقع الضربات بالسياط معاً كفى.
ثم كيف فرض الأمر، فلا يشترط الإبلاغ حتى يحصل الألم الناجع، ولا بد من أدنى أثر، وإن كان محتملاً حتى يتميز الضرب عن الإمساس المحض والوضع.
ولو قال: لأضربن ضرباً شديداً، فلا بد من الإيلام الناجع، ثم لا حد يقف عنده في تحصيل البِرِّ، والرجوعُ إلى ما يسمى شديداً [في العرف] (2)، وهذا يختلف لا محالة باختلاف حال المضروب، والله أعلم.
وهذا نجاز مقصود الفصل.
__________
(1) في الأصل: " ولكل ".
(2) زيادة من المحقق.

(18/406)


فصل
قال: " ولو حلف لا يهب له هبة، فتصدق ... إلى آخره " (1).
11823 - إذا حلف على الهبة حنث بالرُّقبى والعُمْرى والنِّحلة والتصدق، وإن كان التصدق يمتاز عن الهبة التي ليست تصدقاً، ولكن لفظ الهبة يتناول التصدق في أصل اللسان.
ولا يحنَثُ الحالف على الهبة بالعارية؛ لأنها ليست تمليكاً.
وإن وقف على الشخص المذكور، ابتنى هذا على أن الوقف هل يتضمن تمليك الموقوف عليه رقبةَ الموقوف؟ فإن قلنا: لا يملك الموقوف عليه الرقبة، لم يحصل الحنث بالوقف، وإن قلنا: يملك الموقوف عليه رقبةَ الموقوف، فيقع الحنث بالوقف.
وهذا فيه احتمال عندي ظاهر؛ من جهة أن الوقف (2) لا يسمى هبة في وضع اللسان وعرُفه، وإن تردد الفقهاء في أنه هل يقتضي تمليكاً أم لا؟ والمعتمد في الأيْمان العرف واللسان، فيجب (3) تخريج خلاف على قولنا يملك الموقوفُ عليه رقبةَ الوقف، وليس الوقف كالرقبى والعمرى؛ فإنها من الهبات تحقيقاً، وإن أُفردا بلقبين، وسبيلهما كسبيل اختصاص [ثمرة] (4) التفاح باسمها، وهذا لا يخرجها عن تناول اسم الثمار لها (5). والله أعلم.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 237.
(2) في الأصل: " الواقف ".
(3) المعنى أننا إذا قلنا: الموقوفُ عليه لا يملك رقبةَ العين الموقوفة، فلا يحنث قولاً واحداً. وأما على قولنا: بملك العين الموقوفة فيجب تخريج قولٍ آخر بعدم الحنث؛ لأن الوقف ليس هبة في وضع اللسان وعرفه.
(4) زيادة من المحقق على ضوء السياق.
(5) المعنى: أن الرقبى والعمرى من جنس الهبات، فلفظ الهبة يشملهما، كما أن لفظ الثمار يشمل التفاح، وإن أفرد باسم خاص.

(18/407)


وإذا حلف لا يهب، فوهب وقبِل المتهب، فهل يتوقف الحنث على الإقباض؟ اختلف أصحابنا فيه على ما حكاه القاضي: فقال بعضهم: يحنث؛ لأن اسم الهبة يتم بهذا القدر، وقال آخرون: لا حقيقة للهبة حتى يتصل بها القبض؛ لأن القبض هو الركن، وبه حصول المقصود، والألفاظ تعنى لمقاصدها.
وقد ذكر العراقيون الخلاف على وجه آخر، فقالوا: إذا حصلت الهبة والقبول، فالذي جرى هبة في حكم الحنث والبر، بلا خلاف، وإنما التردد فيه إذا قال الحالف وهبت، فهل نقول: يحصل الحنث بمجرد قول الواهب قبل القبول؟ قالوا المذهب أن هذا ليس بهبة، وحكَوْا عن ابن سريج وجهاً أنه إذا قال: لا أهب، ثم وهب، حصل الحنث، وإن لم يقبل المتهب، مصيراً إلى أن الإنسان قد يخبر عما جرى، ويقول: وهبت لفلان، فلم يقبل مني، ولا شك أنهم يطردون هذا الخلاف في البيع وغيره من العقود المشتملة على الإيجاب والقبول.
ولو قال: لا أهب، ثم أضاف الشخص المذكور، وقدم إليه الطعام؛ فإن لم يأكله، فلا حنث، وإن أكله، فهذا يخرج على أن الضيف هل يملك ما يأكله؟ إن قلنا: إنه لا يملكه، فالذي جرى ليس بهبة، وإن قلنا: إنه يملك، ففيه تردد واحتمال، من جهة حصول الملك من وجه، وبُعد ما جرى عن اسم الهبة من وجه، والوجهُ القطع بأن الحنث لا يحصل.
11824 - ولو كان المحلوف عليه التصدق مثل أن يقول: لا أتصدق، فلو وهب، ولم يقصد التصدق الذي يقع التقرب به، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يحنث؛ لأن الهبة لا تسمى صدقة، وإن كانت الصدقة تسمى هبة.
ومن أصحابنا من قال: يحنث بالهبة؛ فإنها تمليك من غير عوض، وهي في الاسم قريبة المأخذ بالإضافة إلى الصدقة، وهذا لا وجه له، والوجه ألا يحنث بالهبة إذا كان المحلوف عليه الصدقة. واختار القاضي التحنيث بالهبة مصيراً إلى أن الهبة لا تخلو عن ثواب كالصدقة، وهذا الاختيار لا يليق بمنصبه مع القطع بتحليل الهبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحريم الصدقة عليه.

(18/408)


11825 - ثم قال: " ولو حلف لا يركب دابة العبد ... إلى آخره " (1).
إذا حلف لا يركب دابة العبد، وقلنا: يملك العبد بالتمليك، وكان ملّكه سيّده دابة، فيحصل الحنث بركوبها؛ فإن الإضافة متحققة، كما ذكرناها.
وإن قلنا: لا يملك العبد بالتمليك، وكانت الدابة مختصة بالعبد، والعبدُ مختصٌّ بها، فالمذهب أن الحِنث لا يحصل بركوبها.
ولا يخفى أن ذلك في اللفظ المطلق. فلو أراد الحالف بالإضافة التي ذكرناها إضافة الاختصاص، فلفظه منزل على نيته، وقد أكثرنا ترديد ذلك في المسائل، وغرضنا أن يقف الناظر على أن مسائل الأيمان مفروضة في الإطلاق، وإنما حكمنا بأن الحنث لا يحصل إذا كان اللفظ مطلقاً، من جهة أن الملك يتوقع لذلك الشخص على الجملة، إما بتقدير أن يَعْتِق، وإما بتقدير أن يكاتَب، وإذا كان كذلك، توقف حصول الحنث على الملك المنتظر.
ولو قال: لا أركب سرج هذه الدابة أو لا أبيع جُلّها، وكان ما ذكره مضافاً إلى الدابة عن اعتيادٍ غالب وتخصيصٍ جارٍ، فيحصل الحنث إذا كان اللفظ مطلقاً؛ فإن الملك إذا لم يكن متصوراً، فالإضافة محمولة على الاختصاص الجاري. وهذا مستبين.
فصل
معقود فيما يسمى يمين اللجاج والغضب، ويسمى يمين الغَلَق (2)
11826 - وتصويره يستدعي ذكر تقاسيم:
فما يلتزمه المرء ينقسم إلى ما يكون نذراً، وإلى ما لا يكون نذراً. والنذر ينقسم إلى ما يكون على طريق التبرّر والنُّسُك، وهو المعلّق بشرط، والالتزام معه في حكم
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 237.
(2) يمين الغَلَق: أي يمين الغضب، قال بعض الفقهاء: سميت بذلك، لأن صاحبها أغلق على نفسه باباً في إقدام أو إحجام، وكأن ذلك مشبه بغلق الباب إذا أغلق، فإنه يمنع الداخل من الخروج، والخارج من الدخول، فلا يفتح إلا بالمفتاح، وغَلَقُ الباب جمعه أغلاق مثل سبب وأسباب (المصباح) وسيأتي قريباً شرح الإمام لهذا اللفظ.

(18/409)


الاستسعاف بالطّلِبة، أو الاستدفاع لبلية محذورة، وذلك كقول القائل: إن شفى الله مريضي، أو ردّ غائبي، أو رزقني ولداً، أو ما في معناه، فلله عليّ كذا، فإذا ذَكَر على هذا المعرض ما يصح التزامه، كما سيأتي مشروحاً في كتاب النذر، إن شاء الله عز وجل؛ فإنه يلزمه ما سماه، إذا تحقق ما سأله وطلبه، وهذا إذا قال: إن شفى الله مريضي، فعليّ صدقة لله.
فإن لم يُضف ما التزمه إلى الله تعالى، فقد ذكر القاضي وجهين حكاهما: أحدهما - أنه نذر ملزم يجب فيه الوفاء بالمسمى، وهذا هو الأصح، لأنه لا يلتزم بالنذر إلا القربات، وأجناسُ القربات مُشعرة بوقوعها لله تعالى، فصار ذلك كالمصرح به.
والوجه الثاني - أن الالتزام لا يصح، ما لم يُضَف الملتزَم إلى الله تعالى؛ فإن القربات إنما تصير قربات بالإضافة إلى الله تعالى لا بألقابها.
والضرب الثاني - النذر المطلق الذي لا يُعلّق باستدفاع أو استسعافٍِ وسؤال، وهو أن يقول القائل: لله علي عتق رقبة، أو صدقة، أو غيرها، مما يلتزم. وفي هذا القسم قولان: أحدهما - أنه لا يلزمه شيء؛ فإنه تبرع، فلا يلزم بالالتزام، كما لو التزم أن يهب لزيد شيئاً، بخلاف الملتزَم في القسم الأول، فإنه مذكور عوضاً، وسيأتي شرح ذلك في كتاب النذور، إن شاء الله.
ثم قال القاضي إذا قال: عليّ عتق رقبة، واقتصر على هذا القدر، ولم يضفه إلى الله تعالى، فلا يلزمه مذهباً واحداً، وإنما الوجهان في ترك الإضافة في نذر التبرّر.
ولا وجه للقطع الذي ذكره؛ فإن النذر المطلق إذا جعلناه ملزماً بمثابة نذر التبرّر عند وجود الشرط، فإذا جرى الخلاف عند ترك الإضافة في نذر التبرّر، وجب لا محالة إجراء مثله في النذر المطلق. على أن الأصح عندنا أن الإضافة ليست مشروطة، وإنما يظهر الخلاف في الإضافة في نيّات (1) العبادات كما تقدم ذكره في أبواب النيات- وما ذكرناه كلام في النذر.
__________
(1) في (ق): "باب".

(18/410)


فأما الغَلَق، فصورته أن يقول: إن دخلت الدار، فعليّ صدقة أو عتق، أو ما أراد مما يُلتزم بالنذر، وشرط تصوير الغلق أن يقصد بذكر الملتزَم منع نفسه من الإقدام أو الإحجام، على حسب صيغة اليمين، فإذا ذكر ما ذكر على حكم اليمين، ثم حنِث، فحاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أقوال: أحدها -وهو المنصوص الظاهر- أنه يلتزم كفارة اليمين بالله تعالى إذا حنِث، ولا يلتزم الوفاء بالملتزَم، وقال الشافعي في بعض المواضع في المسألة قولان: أحدهما - أنه يلزم كفارة اليمين، وسكت عن القول الآخر، فقال الأصحاب: الظاهر أن القول المسكوت عنه إيجاب الوفاء، فحصل قولان. والقول الثالث - أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين المذكور الملتزَم، وهذا القول مأخوذ من لفظ الشافعي في مسألة من كتاب الإيلاء، وقد ذكرناها.
فانتظم بما أشرنا إليه ثلاثة أقوال نوجهها على قدر الحاجة:
من قال: الواجب كفارة اليمين، وهو مذهب عائشة وعطاء، فمعتمده أن وضع اليمين على ألا يلتزم الحالف ما صرح به؛ من جهة أنه لا يذكر الالتزام [تقرباً] (1)، وإنما يذكره ليمتنع بسببه أو [ليُقْدم] (2)، وحكم الشرع فيما هذا سبيله الكفارة، والملتزَم في اليمين بالله الامتناعُ أو الإقدام، ولا يجب واحد منهما عندنا.
ومن أوجب الوفاء، احتج بأنه التزم أمراً يمكن التزامه، فإذا ألزمناه شيئاً، فالوفاء أقرب لازمٍ.
ومن قال بالتخيير -وإليه ميل القاضي- احتج بتردد الصيغة بين اليمين والنذر، وهذا التقاوم يقتضي تردداً بين الأصلين، ونتيجتُه التخيير (3).
11827 - ثم سميت الصيغة بيمين اللِّجاج لجريانها غالباً حالة اللِّجاج، وسميت يمين الغَلَق، لأن صاحبها يُغلق على نفسه باباً في إقدام أو إحجام، ثم قد يختلط يمين الغَلق بنذر التبرّر في كثير من الصور، ويختلف ذلك بقصد القائل، ثم الحكم أنه إن
__________
(1) في الأصل: " مقرّاً ". والمثبت من (ق).
(2) في الأصل: ليجد. والمثبت تصرف من المحقق على ضوء السياق. عسى أن يكون هو الصواب. والعبارة: مطموسة في (ق).
(3) عبارة (ق): " يقتضي تردداً بيّناً، ويتجه التخيير ".

(18/411)


قصد التبررَ، التزم الوفاء قولاً واحداً وكان ناذراً، ولم يكن حالفاً. وإن لم يقصد التقرب، ولكن قصد منع نفسه، فيكون حالفاً يمين الغَلَق، وفيه الأقوال الثلاثة.
ثم أطنب القاضي في التصوير في ازدحام التبرر واليمين، وقال: المذكور ثلاثة أضرب: واجب، ومحظور، ومباح. فالواجب يتصور في إثباته التبرر والغلق مثل أن يقول: إن صليت الظهر، فعليّ كذا. هذا محتملٌ للتبرر، وتأويله: إن وفّقني الله لفعلها، فعليّ كذا، ويحتمل الغلق بأن يمتنع الرجل عن الصلاة، فيقول له القائل مثلاً: صلّها، فيقول في جوابه: إن صليتها، فعلي كذا.
وأما إذا كان المذكور محظوراً، مثل أن يقول: إن لم أشرب الخمر، فعليّ كذا، فالتبرّر ممكن، وتأويله إن عصمني الله تعالى عن شربها، فعليّ كذا. ومحتمل للغَلَق على تقدير أن يقال له: لا تشربها اليوم. فيقول: إن لم أشربها اليوم، فعلي كذا.
ولو قال: إن شربتها، فعليّ كذا، فلا يتصور التبرر في هذا القسم، والغَلَق متصوّر.
وإن كان المذكور مباحاً تصور في نفيه وإثباته التبرر والغلق، ومثاله، أن يقول: إن أكلت هذا الرغيف، فعليّ كذا، واحتمال التبرر فيه إن شهَّاني الله وقوّاني، وأنعم بإدامة إمكاني، فعليّ كذا- والغلق لا شك في تصوره. وإن نفى، فقال: إن لم آكل هذا الرغيف، فعلي كذا- فالتبرر ممكن. وتأويله: إن وفقني الله لقهر النفس، وقلعها من نَهْمَة الأكل، فعليّ كذا. ولا حاجة إلى التكلف في تصوير الغلق. فهذا بيان يمين اللجاج والغضب.
وكان شيخي يقول: [إذا قال] (1): إن دخلت مكة، فعليّ كذا، انقسم فيه إمكان التبرر والغلق، والغلق وجهه بين. وإن قال: إن دخلت نيسابور، فعليّ كذا، فهو غَلَق محض، وما ذكره القاضي [يقتضي] (2) تصوير التبرر في جملة المباحات، وكان شيخي يخصص التبرر بما يظهر كونه مقصوداً وحصوله على غرر، وقد وافقه على هذا طائفة من الأصحاب.
وحاصل الطريقة أن لا تبرر في النِّعم المعتادة، كما أنا لا نستحب سجود الشكر
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق. ثم وجدناها في (ق).
(2) زيادة من (ق).

(18/412)


لها، وإن كانت نِعَماً، وما ذكره القاضي أفقه وأَوْقع. والمتبع في سجود الشكر التعبد، وقد وردَ خاصاً، فاتبعنا مورد الشرع، ونذرُ التبرر ورد مسترسلاً غير مختص، فالتعويل فيه على المقصود، فمهما (1) انتظم القصد إلى مقابلة نعمة [بشكر] (2)، فهو صورة التبرر.
وإذا قال الرجل ابتداء: " مالي صدقة "، فالذي قطع به القاضي أن هذا لغوٌ من الكلام؛ لأنه ليس بالتزام، والصدقة جهة لا بد من إيقاعها، وهي التصدق والقبول، وكذلك إذا قال: مالي في سبيل الله، فهو لغو، وتعليله بما ذكرناه.
وكان شيخي أبو محمد رحمه الله يذكر طريقتين: إحداهما- حمل ما ذكره على النذر المطلق. والثاني - تصحيح ذلك منه إيقاعاً، كما لو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، وهذا بعيد، ولا قياس على الضحية؛ فإن المتبع فيها أخبار وآثار، حتى انتهى الأمر إلى الاكتفاء بمخايل الأحوال كالإشعار والتقليد، فهذا ما أردناه.
ولو قال: إن دخلت الدار فعبدي حر، فلا شك في حصول العَتاقة عند الدخول؛ فإن هذا تعليق على صفة. ولو قال: إن دخلت الدار، فمالي صدقة، فهذا لغو عند القاضي. وهو على طريقة شيخنا تعليق إيقاع في طريقة، أو غَلَق في طريقة، وفيما قدمناه إيضاح هذا.
11828 - وكان شيخي يتردد فيه إذا ذكر صاحب الغَلَق أجناساً من القُرَب؛ مثل أن يقول: إن دخلت الدار، فلله علي حج، وعتق، وصدقة، فربما كان يقول: إن فرعنا على قول الكفارة، عدّدناها بتعدد الأجناس، وهذا أبداه في معرض الاحتمال، ثم استقر جوابه على اتحاد الكفارة، وهو الذي يجب القطع به؛ فإنا إذا كنا لم نوجب الوفاء، فلا حاصل للنظر إلى الملتزَم تعدّدَ أو اتَّحَدَ، بل التعويل على الالتزام فيما يصح التزامه، ثم يُحاد عنه إلى الكفارة، وما قدمناه غير معتد به، ولا خلاف أنه لو ذكر حِجَجاً لم تتعدد الكفارة.
__________
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) في الأصل: تُشكرُ (بهذا النقط والضبط).

(18/413)


ومما نذكره متصلاً بهذا أنا إذا قلنا: الواجب الكفارة، فلو وفى هل يخرج عما عليه؟ ذكر الأصحاب وجهين: وهذا زلل عظيم؛ فإنه قول التخيير بعينه، فلا معنى لاعتقاد مزيد في التفريع على قول التخيير.
فرع (1):
11829 - إذا قال: إن فعلت كذا، فعلى نذرٌ، نصّ الشافعي على أن عليه كفارة يمين، قال القاضي: عندي أن هذا يبتني على موجَب يمين الغَلَق، فإن قلنا: موجَبها الكفارة، فالجواب ما ذكره الشافعي. وإن قلنا: موجبه الوفاء، فيلزمه قُربة من القُرَب، وعليه تعيينها، وحق تلك القُرْبة أن تكون ملتزَمة بالنذر.
ولو قال: إن فى خلت الدار، فعليّ يمين، اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: هو لغو، وهو الصحيح؛ فإنه لم يأت بنذر، ولا بصيغة اليمين، ومنهم من قال: عليه ما على الحالف إذا حنث، والوجه عندنا على هذه الطريقة أن يلحق هذا بالكنايات المحضة، ويُرجع إلى نيته وقصده.
فإن قيل: ألستم ذكرتم أن الأيمان لا بد فيها من ذكر اسمٍ معظّم؟ قلنا: نعم، وإنما اتجه الخلاف هاهنا لتصريحه بالالتزام.
ولو قال: إن دخلت الدار، فعليّ كفارة يمين، فإذا دخل الدار، لزمته كفارة يمين، ثم هي كفارة يمين أم وفاء؟ فعلى ما ذكرنا من الأقوال.
فرع:
11830 - إذا قال: والله لا أصلي، فتحرّمَ بالصلاة، فالمذهب أنه يحنث بالتحرم، وإن بطلت الصلاة عليه. ومن أصحابنا من قال: لا يحنَث حتى يأتي بصلاة صحيحة، وأقلُّها ركعة، حتى لو صح تحرمه، أو صحت ركعات من صلاته، ثم أفسدها، فلا كفارة عليه.
فإن فرعنا على هذا الوجه، فإذا تمت الصلاة على الصحة، فيحنث عند نجازها، أو يتبين أنه حنث بالتحرم؟ فعلى وجهين. وما ذكرناه في الصلاة يجري في الصوم إذا قال: لا أصوم وأصبحَ صائماً.
ولو قال: والله لا أحج، وتحرم بالحج على الفساد- فالذي أراه أنه يحنث؛ فإن
__________
(1) في (ق): " فصل ".

(18/414)


الحج الفاسد حج موصوف بالفساد، وهذا يناظر مذهب أبي حنيفة (1) رضي الله عنه في
البيع الفاسد، فإنه اعتقده بيعاً وناط به الحنث والبر.
فرع:
11831 - ولو قال: لا آكل الفاكهة، حنث بالرَّطْب منها واليابس، ويحنث بالعنب، والرمان، خلافاً لأبي حنيفة (2) رضي الله عنه، والفواكهُ اليابسة أراها أجناساً يُتفكه بها، ولا تستعمل أقواتاً، والعلم عند الله، ولو كان يتعاطى اللبوب، كلُبّ الفستق وما يعتاد التفكه به، فيه تردد عندنا، والقِثاءُ ليس من الفاكهة، وفي البطيخ تردد، حكاه الشيخ أبو علي عن الشيخ أبي زيد. والثمار لا تحمل إلا على الرَّطْب بخلاف الفاكهة.
فرع:
11832 - إذا قال: والله لا أحمل خشبة، فحملها مع غيره، لم يحنث؛ فإنه شاركه ولم يستقل، ولو قال: لآكلن هذه الرمانة، فأكلها إلا حبة، لم يحنث، ولو قال: لآكلن هذا الرغيف، فخلف فتاتاً محسوساً، لم يحنث إذا كان لا يبعد جمعه والإتيان عليه في حق من يريد الاستيعاب، فأما الفتات التي لا يتأتى جمعها، ولا يَعتاد جمعَها من يريد الاستيعاب، فلا معتبر بها. وكان شيخي يقول: ما يمكن جمعه وإن عسر لا بد منه، وهذا فيه نظر، لأن صاحب الواقعة يسمى آكلاً للرغيف.
فرع:
11833 - لو قال: لأُثنين على الله تعالى بأحسن الثناء، فلا بد أن يقول: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
فإن قال: لأحمدن الله بمجامع الحمد، فقد قيل: مجامع الحمد ما ذكره جبريل لآدم عليه السلام، إذ قال آدم: علمني مجامعَ الحمد، فقال: قل: " الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافىء مزيده " (3).
__________
(1) ر. الاختيار: 4/ 75.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 320، الاختيار: 4/ 64.
(3) حديث، قال آدم (لجبريل): علمني مجامع الحمد ... " قال عنه ابن الصلاح في مشكل الوسيط: ضعيف الإسناد غير متصل روّيناه عن محمد بن النضر، وقال الحافظ: وجدته عن ابن الصلاح في أماليه وهو مفصل (ر. مشكل الوسيط (بهامش الوسيط): 7/ 247)، التلخيص: 4/ 316 ح 2524).

(18/415)


فرع:
11834 - إذا قال لا آكل الرطب فأكل المصنَّف (1)، فنصفه رطب، ونصفه بُسر، فإذا أكله، حنث إلا على مذهب الإصطخري؛ فإنه لا يرى التحنيث بالخلط.
فرع:
11835 - إذا حلف لا يأكل لحماً، فأكل لحم ميتة، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - أنه يحنث، وهو القياس، فإن اسم اللحم ينطلق في حقيقة اللسان على لحم الميتة انطلاقه على لحم الذكيّة.
والوجه الثاني - أنه لا يقع الاعتداد به؛ [من] (2) جهة أنه لا يُعنى ولا يقصد، ومطلق الألفاظ محمول على المقصود الذي يخطر للاّفظ، وهذا متلفِّت على الأصول الممهدة في التعلق بحقيقة اللسان، أو عرف اللافظ.
ولو قال: لا آكل الميتة، وأكل السمك، ففي تحنيثه وجهان إذا كان اللفظ مطلقاً، ومأخذهما قريب مما ذكرناه الآن، فمن اعتبر موجَبَ الاسم، حَنَّث، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحلت لنا ميتتان: السمك والجراد ". ومن اعتبر تنزيل اللفظ على العرف [فالسمك لا يسمى ميتة] (3)، ولو اتبعنا حقيقة الموت، فالذكية ميتة أيضاً، ولا تعلق بما رويناه؛ فإنه عليه السلام، كان يتكلم بوجوه لا تنزل الأيمان عليها، والدليل عليه أنه سمى الكبد والطحال دمين، ومن حلف لا يأكل الدم، لم يحنث بأكل واحد منهما.
فرع:
11836 - ومن حلف لا يشم الريحان، فأطلق لفظه فهو محمول على الريحان الفارسي المسمى الضَّيْمران، وهو " شاه اسْبَرَم ". ولو حلف لا يشم الورد، لم يحمل على الأزهار، وإنما يحمل على الورد المعروف. فلو قال: لا أشم البنفسج فشم دهن البنفسج فالوجه القطع بأنه لا يحنث، وإن أدرك رائحة البنفسج، فإن يمينه معقودة على شم البنفسج؛ وذكر صاحب التلخيص وجهاً أنه يحنث بشم دهن
__________
(1) المصنف: يقال: صنف التمر إذا أدرك بعضُه دون بعض، ولوّن بعضه دون بعض.
(المصباح).
(2) في الأصل: " في ".
(3) في الأصل: " والسمك لما يسمى ميتة ".

(18/416)


البنفسج، ولا سبيل إلى توجيه هذا بإدراك رائحة البنفسج، فإن من قال: لا أشم المسك، ثم أدرك ريحه العابق بثوبِ إنسان، لم يحنث، وقيل في توجيه ما ذكره إن الناس قد يسمون دهن البنفسج بنفسجاً، وهذا شيء لا يروج على مُحصِّل، ثم هذا الوجه مخصوص بدهن البنفسج من بين الأدهان.
***

(18/417)


باب (1) النذور
11837 - الأصل فيها قوله تعالى: ({يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]، وقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]،. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " أوف بنذرك " (2) والنذرُ ملزِم إجماعاً، والملتزَم به لازم على الجملة، والخلاف في التفاصيل.
ثم الذي يقتضيه الترتيب الذي وضعنا عليه الكُتب أن نقدم قواعدَ، منها منشأ المسائل، حتى إذا تمهدت، خُضنا بعد تمهيدها في المسائل.
وأول ما رأينا الاعتناءَ به بيانُ ما يلتزم بالنذر، ولم يتعرض للاهتمام به، ومحاولة ضبطه غيرُ القاضي، وأجرى الأئمة الماضون كلاماًً دلّوا به على مقاصدهم، ولم يحرّروه، ونحن نستعين بالله ونذكر ما تحصل لنا من كلام الأئمة.
كان شيخي يقول: إنما يُلتزم بالنذر ما له أصل في الوجوب الشرعي، كالصلاة والصوم، والصدقة والحج، وما لا أصل له في إيجاب الشرع لا يُفتَتَحُ بالنذر [التزامه] (3)، ثم كان يُعترض بالاعتكاف على هذا الأصل؛ فإنه ملتزم بالنذر وفاقاً، ولا أصل له في [الوجوب] (4) الشرعي، وكان يحكي في محاولة الجواب عنه أن الاعتكاف حصولٌ في بقعة مخصوصة، وهو يناظر الحصول بعرفة. والغرض من ذكر ذلك أنه ملتزم بالنذر إلحاقاً بإيجاب الشرع الحصولَ بعرفة.
وهذا كلام لا ينتظم، وليس الاعتكاف مضاهياً للحصول بعرفة، فلا حاجة إلى
__________
(1) في (ق): كتاب.
(2) حديث: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: " أوف بنذرك ". متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (البخاري: الاعتكاف، باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف، ثم أسلم، ح 2043، مسلم: الأيمان، باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم، ح 1656).
(3) في الأصل: " والتزامه ". والمثبت من المحقق. ثم صدقتنا (ق). (4) في الأصل: " وجوب " (بدون الألف واللام).

(18/418)


تقدير هذا. وكان يقول: لا يُلْتزَم تجديد الوضوء بالنذر؛ من جهة أنه لا أصل لإيجاب الوضوء من غير حدث فلا يُلْتزَم، في كلامٍ لا حاجة إلى ذكره على وجهه.
11838 - والذي [أرى] (1) التعلُّقَ به في ضبط كلام الأصحاب الأولين منهم والمتأخرين أن أقول: العبادات المقصودة التي شرعت عباداتٍ، وتحقق اهتمام الشرع بتكليف الخلق إيقاعَها على حقيقة العبادة ملتزَمةٌ بالنذر، ولا حاجة إلى تقدير وقوعها في واجبات الشريعة، فُتُعْمد (2)، على أن الاعتكاف لا أصل له في واجبات الشريعة، ولكنه شرع عبادةً مقصودة، فاتجه التزامه بالنذر، ولا فقه تحت اشتراط وقوع مثل المنذور واجباً في الشريعة؛ فإن الملتزَم يثبت وجوبه ابتداء، فانتظم هذا الأصل؛ من غير احتياج إلى الاعتذار عن الاعتكاف بما لا يتجه.
ثم هؤلاء يقولون: لو نذر الرجل عيادة مريض، أو زيارة قادمٍ، أو إفشاء السلام، فهذه الأشياء لا تلتزم بالنذور؛ فإنها لم تثبت عبادات، وإنما هي من القُربات التي إذا أخلص المرء فيها، وابتغى وجه الله، ارتجى ثواباً. ولسنا بعدُ في التزام التوجيه، وإنما [نحن] (3) في ضبط [المذهب] (4).
[وأما] (5) المتأخرون؛ فإنهم ذهبوا إلى أن القربات بجملتها تلتزم بالنذر التزام العبادات؛ فإن ما أُثبت قربةً بمثابة ما أثبت عبادة، واستثنى القاضي من هذا المسلك، وقال: كلُّ قربة ملتزمةٌ بالنذر، إذا كان لا يفضي الأمر إلى إبطال رخصة، وبيانه أن من نذر أن يُتم الصلاة، ويصوم في السفر في رمضان، ثم أراد أن يَقْصُر، كان له ذلك، وإذا أراد أن يُفطر، فله أن يفطر، وإذا نذر المريض الذي يجوّز له الشرع الصلاة قاعداً -مع القدرة على القيام- أن يقوم، ويتكلف المشقة، فلا يلزمه الوفاء
__________
(1) في الأصل: " أدنى " والمثبت من المحقق. والحمد لله فقد صدقتنا (ق).
(2) كذا. والمعنى أنه لا حاجة لاشتراط وجوب العبادة حتى تُعْمَد وتُقْصَد بالنذر، بل كل عبادةٍ مشروعة يصح أن تُلتزَم بالنذر.
(3) في الأصل و (ق): " نحرص ".
(4) في الأصل: " المذاهب ". والحمد لله فقد صدقتنا (ق) فيما قدرناه.
(5) في الأصل: " وإنما ".

(18/419)


به، وكذلك القول فيه إذا نذر أن يصوم مع المرض المبيح للفطر، وسبب ذلك أنا لو أَلزمنا النذر، لكان ذلك تعطيلاً للرخصة، ومصيراً إلى أن الواجب بالنذر يزيد على الواجب شرعاً، ومعلوم أن الصوم الذي هو ركن الإسلام يسوغ تركه بعذر المرض والسفر، فيبعد أن يزيد تأكد المنذور على ما هو ركن الإسلام.
ومما يجب تأمله أن العبادات التي تُلتزم أصولها بالنذر لو فرض التزام صفات مستحبة فيها -ورد الشرع بالاستحثاث عليها- بالنذر، فالوجه القطع بأنها تُلتزم، وهذا بمثابة إطالة القيام، والركوع، والسجود، وإكثار قراءة القرآن، وإنما رأينا القطعَ بذلك؛ من جهة أنا رأينا نصَّ الشافعي دالاً على التزام المشي في الحج بالنذر، إذا حكمنا بأن المشي أفضلُ من الركوب، فإذا كانت هذه الصفة تلتزم، فكل صفة مستحبة في العبادات المفروضة ينبغي أن تُلتزم بالنذر، فلا يجوز أن يختلف الأصحاب في هذا.
11839 - ومما نذكره في ذلك التعرضُ لالتزام ما هو من فرائض الكفايات. قال صاحب التلخيص: من نذر لله الجهاد في جهةٍ عيّنها، وجب عليه الوفاء بنذره، والجهاد من فروض الكفايات، ولم يخالفه الأصحاب في تعيُّن الجهاد عليه على موجَب نذره.
ولو نذر الرجل أن يصلي على ميت، فهذا فيه تردد، والأظهر أنها تتعين بالنذر قياساً على الجهاد.
والذي تحصل لنا في هذا الفن أن كل فرض من فروض الكفايات تمسّ الحاجة في تأديته إلى بذل مال ومعاناة مشقة، وقطع شُقة، فيلتزم بالنذر، كالجهاد وتجهيز الموتى، وما في معناه، وما لا يتعلق بتأديته بذلٌ -قال- فهو على تردد. والأوجه ما ذكرناه.
وإذا نذر الرجل أن يأمر بالمعروف، فهذا ملتحق بنذر الصلاة على الميت.
ثم ظاهر كلام صاحب التلخيص أن الجهة التي عيّنها للجهاد تتعيّن، ولا يقوم الجهاد في جهة أخرى مقامَ الجهاد في تلك الجهة.
وقد قال الشيخ أبو زيد: لا تتعين الجهة، بل عليه أن يجاهد، وليقع الجهاد في

(18/420)


أي جهة تفرض، ثم صرح بأن الجهة التي ينتهض لها لو كانت أقرب وأسهل، فلا بأس.
والذي إليه ميل الشيخ أبي علي أن الجهة لا تتعين، ولكن إذا عيّن جهة، فلتكن الجهة التي أمّها مجاهداً قريبةً من الجهة التي عينها في المؤنة، ومكابدِة المشقة، وتكون مسافاتُ الجهاد كمسافات المواقيت في النسك، وقد ذكرنا أن الميقات لعينه لا يُعنى، وإنما [المطلوب] (1) مسافة الميقات.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه ثلاثة أوجه: أحدها - أن تلك الجهة تتعين، وهذا مذهب صاحب التلخيص. والثاني - أنها لا تتعين. ويخرج الناذر عن عهدة النذر بجهادٍ وإن قرب وسهل. والوجه [الثالث] (2) - أن تلك الجهة لا تتعين، ولكن لا يخرج الناذر عن موجَب نذره [إلا] (3) بالجهاد فيها أو في مثلها.
وهذا منتهى ما أردنا أن نذكره نقلاً عن الأصحاب.
11840 - ونحن نذكر بعد ذلك ضبطاً وتقريباً يجمع مسالك الأصحاب، فنقول: الأعمال والأقوال ثلاثة أقسام: منها العبادات التي شرعت عبادات، وهي ملتزمة بالنذر وفاقاً. ومنها قربات لم يقع اعتناء الشرع بإثباتها على حقاًئق العبادات، كعيادة المريض وغيرها، وفيها خلاف الأولين والمتأخرين، والقسم الثالث - مباحات في وضع الشرع يتصوّر إيقاعها قربةً بالقصد والإخلاص، كالاكل على قصد التقوِّي على العبادة، والنوم على قصد طرد الغفوة حتى إذا أنشأ (4) في [جوف] (5) الليل، كان حاضر القلب
__________
(1) في الأصل: " المكروه " والمثبت اختيار من المحقق، وهو بعينه لفظ الغزالي في البسيط، حيث قال: إذا نذر الجهاد في جهة، فهل تتعين تلك الجهة؟ قطع صاحب التلخيص بتعينها، وقال الشيخ أبو زيد: لا تتعين، بل له أن يجاهد فيها أو في جهة توازيها في المسافة وحاجة المؤنة، كما ذكرناه في مواقيت الحج، فإنها لا تراد لعينها، والمطلوب مثل مسافتها (ر. البسيط: 7 ورقة: 83 ظهر). والحمد لله، فقد جاءت (ق) مؤيدة لما اخترناه.
(2) في الأصل: " الثاني ".
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) أنشأ: أي تهجد، أخذاً من قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6].
(5) في الأصل: " جوز ".

(18/421)


متيقظ النفس، فهذه الفنون لا تلتزم بالنذر بلا خلاف.
والصفاتُ المحبوبة في العبادات تُلتزم بالنذر، إذا التُزمت مع الموصوف، مثل أن يقول: لله عليّ أن أحج ماشياً -إذا جعلنا المشيَ أفضلَ- وكذلك لو نذر صلاةً، وذكر تطويلها بالقراءة و [مدّ] (1) ركوعها وسجودها.
فأما إذا التزم صفة في واجب شرعي كالمشي في حَجة الإسلام، أو تطويل الصلاة في المفروضة، ففي المسألة وجهان؛ لأن الصفة لا تستَقِلُّ بنفسها.
وفرائض الكفايات منقسمة كما ذكرناها، وما كان يذكره شيخي من أن تجديد الوضوء لا يلتزم بالنذر، [لا وجه] (2) له؛ فإنه عبادة مقصودة، فالوجه القطع بأنه يلتزم بالنذر إلحاقاً له بالعبادات المحضة.
ولو التزم بالنذر إقامةَ النوافل الراتبةِ، كركعتي الفجر والوتر وما أشبههما، فالظاهر عندنا أنها تلتزم بالنذر، كما يتعين فرض الكفاية بالنذر. ومن أصحابنا من لم يُلزمها؛ لأن الشارع أثبتها نوافلَ راتبةً، ولم يوجبها رخصةً، فإلزامها يخالف وضعَ الشرع فيها.
والجماعة تلتزم بالنذر؛ فإنها من صفات العبادة.
ولا يلتزم بالنذر انكفافٌ قط، حتى لو نذر ألا يفعل مكروهاً، لم يلزمه الوفاء بنذره.
11841 - هذا هو الإمكان في الضبط والتفصيل، ولم يبق إلا الرمز إلى توجيه طرق الأصحاب.
أما ما صار إليه المتأخرون، فوجهه بيّن، وما ذهب إليه المتقدمون من تخصيص المنذورات بالعبادات [فتوجيهه] (3) ضعيف، وَيرِدُ عليه التزامُ الجهاد؛ فإنه لم يشرع شرع الصلاة والصوم، ولا نعرف خلافاً في أنه يُلتزَم بالنذر، كما حكيناه عن صاحب
__________
(1) زيادة من (ق).
(2) في الأصل: " ولا ".
(3) في الأصل: " وتوجيهه ".

(18/422)


التلخيص، فإن منع مانعٌ ذلك، اطرد قياس اعتبار العبادات، وإلا، فلا جواب عن الجهاد. وقد يقول المتقدمون: عيادة المرضى لو كانت تلتزم بالنذر، فلا طريق في لزومها إلا التزام التقرب بها إلى الله، ثم يلزم من الحكم بذلك أن يجب على الناذر أن ينوي التقرب، [بالعيادة] (1)؛ إذ الأداء على حسب الالتزام، وفي هذا إلحاقها بالعبادات، ولا حاصل في هذا الكلام؛ فإن المتطوع بالعيادة إن أراد الثواب، قصد التقرب، فإذا التزم بالنذر، وجب ما كان متطوعاً به من الفعل والقصد.
ثم الذي أراه في مذهب المتأخرين أن من عاد مريضاً، ولم يتفق منه إنشاءُ قصدٍ - ولعله ما كان ذاكراً للنذر- ففي خروجه عن موجَب النذر نظر، والله أعلم.
وقد نجز ما أردنا ذكره فيما يلتزم بالنذر.
11842 - ثم مما نذكره في صدر الباب التقاسيم التي ذكرناها في مقدمة يمين الغَلق، فالنذر ينقسم قسمين: أحدهما - نذر التبرر، وقد سبق تفصيله، وهو مُلزِم إذا صادف ملتزَماً قولاً واحداً.
والقسم الثاني - النذر المطلق، وهو الذي لا يرتبط بشرط نعمة، أو دفع بليّة، وفيه قولان مشهوران: أحدهما - أنه لا يُلتزَم؛ فإنه تبرعٌ لا استناد له إلى واجب، وليس كالضمان؛ فإنه يستند إلى دين واجب، فبعُد الالتزام ابتداء، وليس كنذر التبرع؛ فإنه أثبت على صيغة الأعواض تشكّراً، فلم يبعُد وجوبه.
11843 - ثم نذكر بعد هذا أصلاً آخر: وهو بيان المقدار الملتزم بالنذر المطلق، ولسنا نلتزم الوفاء بتفصيل ذلك؛ فإن مسائل الباب [تفصّله] (2) ولكنا نمهد فيه قولاً كافياً، فإذا نذر الناذر، وأطلق الالتزامَ، وتسميةَ الملتزَم، فللشافعي قولان مأخوذان من معاني كلامه: أحدهما - أن المنذور المطلق يُنزَّل على أقل مراتب الواجب في قبيله، والقول الثاني - أن يُنزل على أقل ما يصح.
وهذا هو الأصح، فمن نزّله على أقل مراتب الواجبات الشرعية تعلّق بتنزيل
__________
(1) في الأصل: " فالعبادة ". وفي ق (بالفعل). والمثبت من تقدير المحقق.
(2) في الأصل: " تفصيله ".

(18/423)


الواجب بالنذر منزلة الواجب بالشرع، فإنه بالواجبات أشبه. ومن سلك المسلك الثاني، اعتمد لفظ الناذر، واكتفى بأقل ما يصح في قبيل المنذور؛ فإن الزائد عليه لم يتحقق تناول اللفظ له؛ فإلزام الناذر ما لم يتناوله لفظه لا يتجه، فإذا نذر صلاة وأطلق، فيُلزمه القائلُ الأول ركعتين مع القيام، ويُلزمه القائلُ الثاني ركعة واحدة، ويصححها منه قاعداً مع القدرة على القيام؛ فإن الصلاة تصح على هذا الوجه.
وإذا نذر صوماً، كفاه صوم يوم، وهل يلزمه [تبييت] (1) النية؟ إن نزلناه على أقل مفروض في الباب، فالتبييت واجب، وإن اكتفينا بما يصح، فلو أنشأ النية نهاراً، فعلى هذا القول وجهان مبنيّان على أن المتطوع بالصوم إذا نوى نهاراً، فهو صائم من وقت نيته، أم هو صائم من أول النهار؟ وفيه اختلاف قدمناه في كتاب الصيام.
فإذا تجدد العهد بهذا، نظرنا في لفظ الناذر، فإن قال: لله عليّ صومٌ -والتفريع على تنزيل المنذور على أقل ما يصح- فإذا نوى نهاراً، صح -وإن جعلنا المتطوع صائماً من وقت النية- لأن الذي أتى به صوم.
وإن قال: لله عليّ صوم يوم -وحكمنا بأن المتطوع صائم من أول النهار- فيصح منه أن ينوي نهاراً (2)، وإن قلنا: المتطوع صائم من وقت النية، فلا يخرج الناذر عن موجب نذره، ما لم يبيّت النية، فإنه التزم صوم يوم، ولا يتحقق على هذا الوجه صوم يوم إلا بنية منبسطة على اليوم، والنية لا تنعطف، فالوجه تقديمها على قياس الصوم المفروض شرعاً.
ولو نذر صدقة، لم يخصصها بخمسة دراهم، ولا بنصف دينار، مصيراً إلى أن ذلك أقل الصدقات المفروضة، فإن الخلطاء قد يشتركون في نصاب واحد، فيجب على أحدهم أقل من الخمسة، فلا ضبط لمقدار الصدقة، وهي مُنَزَّلَة على أقل ما يتصدق به. ولم يختلف أصحابنا في أنه لا يتعين على ناذر الصدقة أن يتصدق بشيء
__________
(1) في الأصل: " تثبيت ".
(2) سيعرض الإمام هذه الصورة ثانيةً -بعد صفحات- ويقطع بأن النية نهاراً لا تكفي ولا يقع ما جاء به عن نذره صيام يوم.

(18/424)


من أجناس الأموال الزكاتية. وهذا يعضد القول الصحيح، وهو تنزيل المنذور على الأقل.
ولو نذر اعتكافاً، فلسنا نجد لهذا أصلاً في واجبات الشريعة، فلا وجه في هذا القسم إلا القطع باتباع اللفظ وتنزيله على أقل المراتب، وقد ذكرنا خلافاً في كتاب الاعتكاف في أن [الحصول] (1) في المسجد مع النية هل يكون اعتكافاً شرعياً من غير فرض مكث؟ وإذا نذر الاعتكاف وفرعنا على أن الحصول في المسجد اعتكاف، فهذا فيه تردد عندي؛ لأنا إن اتبعنا اللفظ [فالاعتكاف] (2) مشعر بالمكث، فيحتمل أن نوجب المكث تعلقاً باللفظ، ويحتمل أن نجعل الاعتكاف في لفظ الناذر لفظاً شرعياً كالصلاة والصوم.
ثم نكتفي فيه بما يصح في الشرع.
وهذا منتهى المراد في هذا الأصل. وإذا بان ما يلتزم بالنذر والمقدار الذي يلزم بالألفاظ المطلقة، فنعود بعد هذا إلى ترتيب مسائل الباب.
فصل
قال الشافعي رضي الله عنه: " ومن نذر أن يمشي إلى بيت الله لزمه إن قدر على المشي ... إلى آخره " (3).
11844 - إذا نذر أن يحج ماشياً، أو يمشي حاجاً، فالحج ملتزم بالنذر، وهل يلتزم المشي وفاء بالنذر؟ في المسألة قولان مبنيان على أن الحج ماشياً أفضل أم راكباً؟ وفيه قولان ذكرناهما في المناسك. فإن قلنا: لا فضيلة في المشي، لم يُلتَزَم بالنذر. وإن قلنا: المشي أفضل، فيجب المشي وفاءً بالنذر، وعلى هذا الأصل خرّجنا التزام صفات العبادات.
فإذا ألزمناه المشي، فلو ركب وحج، لم يخلُ: إما أن يكون معذوراً عاجزاً عن
__________
(1) في الأصل: " الدخول ". والمثبت من (ق).
(2) في الأصل: " بالاعتكاف ".
(3) ر. المختصر: 5/ 238.

(18/425)


المشي، أو غيرَ معذور، فإن لم يكن عذر، فهل يقع الحج الذي أتى به عن النذر، وهل تبرأ ذمة الناذر؟ فعلى قولين: أحدهما - لم يحسب ما جاء به عن النذر؛ لأنه التزم حجاً موصوفاًً بصفة، فإذا لم يأت بالحج على تلك الصفة، لم يكن ما جاء به وفاء بالنذر، واللزوم باقٍ في الذمة، والحج يقع تطوعاً، ولا يتصور على مذهب الشافعي تطوع يسبق الفرضَ في الحج إلا في هذه الصورة على هذا القول.
والقول الثاني - أن الحج يقع عن نذره، وهذا هو الذي ارتضاه معظم الأصحاب، ولكن الشافعي فرّع على القول الأول، وقال: لو مشى في بعض الطريق، وركب في البعض، قضى، ومشى فيما ركب، وركب فيما مشى، وسنذكر بيان هذا في موضعه إن شاء الله. وإنما كان غرضنا أن نبيّن تفريع الشافعي على هذا القول، هذا إذا لم يكن معذوراً.
فإن كان معذوراً في ترك المشي، فحج راكباً، وقع الحج موقع النذر بلا خلاف، وبهذا يقوى أحد القولين في وقوع حج القادر راكباً عن جهة النذر.
التفريع على القولين:
11845 - إن حكمنا بأن الحج لا يقع عن جهة النذر، فليس إلا القضاء. وإن حكمنا بأنه يقع عن جهة النذر، فهل يجب بسبب [ترك] (1) المشي فدية؟ حاصل ما ذكره الأصحاب ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا تجب الفدية، وليس على الناذر إلا الانتساب إلى المعصية في ترك واجب المشي؛ فإن الفدية إنما تجب بترك أبعاض النسك المرتبة فيه، وليس المشي من الأبعاض.
والوجه الثاني - أن الفدية تجب، وهو الأصح؛ لأن النذر ألحق المشي بالأبعاض لما وجب، ولم يكن ركناً، ولا معنى للبعض [المقابل] (2) بالفدية إلا هذا، ولو أوجبنا المشي، ثم أوقعنا الحج عن الناذر من غير فدية، لكان هذا إحباطاً للملتزَم بالنذر، فلا يتجه إلا القضاء والفدية.
__________
(1) في الأصل: " ذلك ". والمثبت من (ق).
(2) في الأصل: " القابل ".

(18/426)


والوجه الثالث - أنا نفصل بين المعذور وغيره، فلا نوجب على المعذور فدية؛ فإنه إنما يلتزم بالنذر على شرط الإمكان، وليس كالأبعاض المرتبة في النسك؛ فإن الشرع كما رتبها رتب أبدالها، وإن لم يكن معذوراً، لزمت الفدية، وقد روي أن أخت عقبة بن عامر نذرت لله تعالى أن تحج ماشية حافيةً غيرَ مختمرة، فجاء أخوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك. فقال عليه السلام: " مُرها، فلتركب، ولتختمر " (1)، ثم اختلفت الرواية، فروي أنه قال: " ولْتهدِ هدياً " (2)، وفي بعض الروايات الأمر بالركوب من غير تعرض للفدية، وحديثها محمول على العجز؛ فإن المرأة لا تستقل بالمشي في غالب الأمر، ولذلك قال رسول الله عليه السلام: " فلتركب ".
11846 - ومما نفرعه على قول وجوب المشي الكلامُ في أن الناذر متى يأخذ في المشي، ومتى يقطع المشي؟ فنقول: لو صرح بالتزام المشي من دُوَيْرَته إلى الفراغ من الحج، فهل يلزم المشيُ قبل الإحرام؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلتزم المشي؛ فإن هذا مشي في غير الحج، فلا يلتحق بصفات النسك، ومنهم من قال: يلزم الوفاء بالنذر في ذلك، والأجر على قدر النصب، وهذا له التفات على أن الأجير على الحج إذا مات في الطريق قبل الإحرام هل يستحق شيئاً من الأجرة؟ فإن قلنا: لا يلتزم الناذر المشيَ قبل الإحرام، فلا كلام. وإن قلنا: يلتزم المشي قبل الإحرام إذا صرح بالتزامه، فللأصحاب تصرف في لفظ الناذر. فلو قال: لله عليّ أن أحج ماشياً، أو قال: لله عليّ أن أمشي حاجاً -والتفريع على أن المشي قبل الإحرام يُلتَزَم لو وقع التصريح به- فما حكم هذين اللفظين؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: يأخذ في المشي من مخرجه من دُوَيْرَتِه؛ حملاً لكلامه على العادة؛ فإن
__________
(1) حديث " أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية حافية غير مختمرة ... " أخرجه أبو داود: الأيمان والنذور، باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، ح 3296، 3297، 3303، والبيهقي في الكبرى (10/ 80) والحديث في الصحيحين دون ذكر الاختمار والفدية (اللؤلؤ والمرجان: النذور، باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة، ح 1065).
(2) الأمر بالهدي ورد في إحدى روايات أبي داود (ح 3296).

(18/427)


من قال: حججت ماشياً يعني به المشي في جميع الطرق.
ومن أصحابنا من قال: يلزمه المشي من وقت الإحرام. إذا قال: أمشي حاجاً أو أحج ماشياً، فإن المشي حالةٌ وصفةٌ في الحج، ولا حج قبل الإحرام.
ومن أصحابنا من فرق بين أن يقول: أمشي حاجاً، وبين أن يقول: أحج ماشياً، فقال: إن قال: أمشي حاجاً، فيمشي من مخرجه إلى المنتهى الذي سنصفه؛ لأن هذا يقتضي أن يمشي في القصد إلى الحج، وإن قال: أحج ماشياً اقتضى هذا أن يكون ماشياً في حالة حجه. وهذا وجه ضعيف صادر عن الجهل بالعربية ومقتضى الألفاظ؛ فإنه لا فرق بين قول القائل: أمشي حاجاً وبين قوله: أحج ماشياً، واللفظان جميعاً يقتضيان اقتران الحج والمشي، فالوجه الاقتصار على الوجهين المقدمين: أحدهما - يتعلق باللفظ، والثاني - يتعلق بالمفهوم من هذا اللفظ في العرف الغالب.
هذا قولنا في ابتداء المشي.
فأما الكلام في انتهائه، فلأصحابنا فيه وجهان: أحدهما - أنه يستديم المشي إلى أن يتحلل [التحللين] (1)؛ فإنه في بقية الحج ما بقي من الإحرام عُلقة، وقد قال: أحج ماشياً. والوجه الثاني - أنه يترك المشي كما (2) تحلل [التحلل] (3) الأول؛ فإن اسم الحاج على الإطلاق يزول بأحد التحللين، وأيضاً تخف تكاليف النسك، ويدخل وقت الحَلْق والقَلْم، ولُبس المخيط.
وإن نذر أن يعتمر ماشياً، فيستديم المشي إلى إتمام التحلل؛ فإن العمرة ليس فيها تحللان.
11847 - ومما نُلحقه بالفصل أنه لو شرع في الحج، ففاته الحج، فلا بد وأن يلقى البيت [بطواف وسعي] (4)، ثم كما (5) فات الحج، انصرف عن جهة نذره، وعلى
__________
(1) في الأصل: " المتحللين ".
(2) كما: بمعنى عندما.
(3) في الأصل: " المتحلل ".
(4) زيادة من (ق).
(5) كما: بمعنى عندما.

(18/428)


الناذر حَجةٌ يأتي بها، وهل يجب على الحاج استدامةُ المشي في الحجة الفائتة إلى التحلل؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يجب؛ فإن مبنى الحج على أنه يدوم حكمُه فيما يُلتزم فيه، وإن فات أو فسد. والوجه الثاني -وهو الأقيس عندنا- أنه لا يجب استدامة المشي بعد الفوات؛ لأن المشي ليس بعضاً راتباً شرعاً من أبعاض الحج، وإنما لزم بسبب النذر، وقد انصرف الإحرام عن النذر، وليس الجاري فيه في إحرام منذور، ولو أفسد الحج، فالخلاف في استدامة الحج على نحو ما ذكرناه.
11848 - ومما يليق بإتمام المقصود أن من نذر المشي إذا ركب في البعض، ومشى في البعض، وفرّعنا على أنه يجب عليه حَجةٌ يُمَحِّض المشي فيها، فإذا اتفق الأمر على ما وصفنا، فظاهر النص أنه إذا قضى الحج، فله أن يركب حيث مشى، ويجب أن يمشي حيث ركب. وقد اختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: يجب تمحيض المشي، وهذا متجه؛ لأن الحج الأول لم يقع عن النذر؛ إذ لو وقع عنه، لم يجب إعادته، فهذا الحج الثاني هو المنذور، فليأت به على موجَب النذر. ويعسُر على هذا القائل تأويل النص.
ومن أصحابنا من قال بظاهر النص، وكأن هذا القائل يصير إلى أن الحج الأول وقع عن النذر، ولكن يجب استدراك ما ترك من المشي، ولا يتأتى ذلك إلا في الحج- فعلى هذا يستقيم أن يبعّض المشيَ والركوبَ على الترتيب الذي اقتضاه النص- وهذا بعيد- وقد ذكرنا في كتاب الصلاة ما يناظر هذا في إيجابنا إقامةَ الصلاة في الوقت مع إيجابنا قضاءها، وقد حققت قريباً من ذلك في الصلاة المؤدّاة والمقضيّة.
ولو قال: لله علي أن أحج راكباً- فإن قلنا: المشي أفضل من الركوب، فالركوب لا يلتزم وإن قضينا بأن الركوب أفضل من المشي، فالقول في التزام الركوب تفريعاً على هذا كالقول في التزام المشي، تفريعاً على أن المشي أفضل.

(18/429)


قال: " ومن نذر المشي إلى بيت الله ... إلى آخره " (1).
11849 - قد تقدم القول في نذر الحج إذا وقع التصريح به، وهذا الفصل [فيه] (2) إذا نذر إتيان مكة من غير تعرض للحج والعمرة، ونحن نرتب في ذلك قولاً على ما ينبغي.
فنجدد العهد أولاً بالقولين في أن من أتى مكة من غير نذر، وأراد دخولها، فهل يلزمه أن يدخلَها محرماً، أم له أن يدخلها من غير إحرام؟ وقد ذكرنا في ذلك قولين في كتاب الحج، ومما نحتاج إليه في هذا الفصل اختلاف القول في أن المطلَقَ في النذر هل يتقيد بواجب الشريعة أم لا؟ وقد مهدنا هذا على القرب.
ومما أرى تقديمَه -وهو مقصود في نفسه- تفصيل القول فيه إذا نذر أن يأتي مسجداً من المساجد سوى المسجد المحرم، قال العلماء: إذا أطلق النذرَ، [و] (3) عيّن مسجداً سوى المسجد المحرم؛ فإن كان المسجدُ الذي عيّنه غيرَ مسجد المدينة ومسجدِ القدس، فلا يلتزم بالنذر شيئاً أصلاً؛ فإنه ليس في قصد مسجد بعينه غيِر المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومشجد المدينة، ومسجد إيليا- قُربةٌ مقصودة، وما لا يكون عبادةً، ولا قربة مقصودةً، فهو غير ملتزَم بالنذر. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا ومسجد إيليا " (4) أراد المسجد الأقصى، وكان شيخي يفتي بالمنع عن شد الرحال إلى غير هذه المساجد، وربما كان يقول: يكره، وربما كان يقول: يحرم تعلّقاً بظاهر
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 23.
(2) في الأصل: " منه ".
(3) (الواو) زيادة اقتضاها إقامة العبارة والمعنيُّ بإطلاق النذر عدمُ تقييده بشيء آخر غير الإتيان.
(4) حديث " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد " متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وغيرهما. ر. اللؤلؤ والمرجان: الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد 2/ 287 ح882.

(18/430)


النهي. وقال الشيخ أبو علي: لا يحرم ولا يكره- ولكن أبان رسول الله صلى الله عليه وسلم أن القُربةَ المقصودةَ في قصد المساجد الثلاثة، وما عداها ليس في قصد أعيانها قربة، وهذا حسن لا يصح عندي غيره.
فأما إذا نذر إتيان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إتيان المسجد الأقصى، فهل يلتزم بالنذر الوفاءَ؟ فعلى قولين مشهورين: أحدهما - أنه لا يلتزم؛ إذ لا يتعلق بالمسجدين نسك، فصارا كسائر المساجد. والثاني - أن النذر يلزم الوفاء في المسجدين؛ لأنهما مخصوصان من بين المساجد بمزيّة، كما سنبيّن شرحَها في التفريع، إن شاء الله؛ فأشبها المسجد الحرام.
التفريع على القولين:
11850 - إن قلنا: لا يلتزم الناذر شيئاً، فلا كلام، وإن قلنا: يلتزم الوفاء بالنذر، فهل يلزمه أمر سوى إتيان [المسجد] (1)؟ فعلى وجهين: ذكرهما الشيخ أبو علي في الشرح: أحدهما - أنه يلتزم قربةً؛ فإن إتيان المسجد من غير قربة زائدة على الإتيان ليس قربة، ولا يستقل النذر ما لم يتعلق بالقربة.
والوجه الثاني - أنه لا يلتزم شيئاً سوى الإتيان؛ فإنه لم يذكر غير الإتيان، فلا معنى لإلزامه ما لم يذكره، ولم يلتزمه، ومبنى النذر على الاقتصار على المذكور.
التفريع:
11851 - إن حكمنا بأنه يجب ضم قربة من المسجد المأتيّ إلى إتيانه، فحاصل ما ذكره الأصحاب أوجه: أحدها - أنه تتعين الصلاة، فليصل الناذر في المسجد الذي أتاه صلاة صحيحة. ومن أصحابنا من قال: يعتكف فيه لحظة، ومنهم من قال: يتخير بين الصلاة والاعتكاف.
وذكر الشيخ أبو علي في الذي أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاء بالنذر أنه لو زار قبر النبي عليه السلام -وهو في خِطة المسجد- وقال: كفاه ذلك؛ فإنه أتى بقربة، وهذا الذي ذكره فيه نظر؛ فإن زيارة قبر الرسول عليه السلام ليست من
__________
(1) في الأصل: " المشي ". والمثبت من (ق).

(18/431)


خصائص المسجد، وليست قربة يعظم قدرها بالمسجد، ولكن اتفق كونها في المسجد.
توجيه الأوجه وتفريعها:
11852 - أما من عيّن الصلاة، فمتعلقه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة في مسجدي هذا تعدل ألفَ صلاة في غيره، وصلاة في مسجد إيلياء تعدل ألفَ صلاة في غيره، وصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره" (1) فإذا كان إلزام النذر بسبب تميز المسجدين -وإنما ميّزهما الشارع بالصلاة- فينبغي أن تكون القُربة المضمومةُ إلى الإتيان صلاةً.
ومَنْ عين الاعتكاف رآه آخصَّ القُرَب بالمسجد؛ فإن الصلاة تصح في غير المسجد، بل الأولى لمن يكون بالمدينة أن يتنفل في منزله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُرى متنفلاً في المسجد إلا في ثلاث ليالٍ [من رمضان] (2) فإنه صلى التراويح في المسجد، وكان سببُ ذلك اعتكافَه فيه.
ومن خيّر بينهما جمع بين متعلقي الوجهين.
11853 - فأما التفريع: فالذي أراه أن الصلاة إذا أوجبناها، فلا تتقيد في هذا المقام بواجب الشرع قولاً واحداً، بل تكفي ركعة؛ فإن الصلاة ليست مقصودة بالنذر في هذا الموضع، ولا يمتنع أن تجري الصلاة مجرى الصلاة المنذورة؛ من جهة أنها وجبت، فلا تنحط عن أقل درجات الواجب.
__________
(1) حديث " صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في مسجد إيلياء ... " قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: ما ذكره في فضيلة الصلاة في المساجد الثلاثة قد ساقه مساق حديث واحد، وهو هكذا بتمامه غير ثابت فيما نعلم. ا. هـ وقال الحافظ متعقباً: معناه في معجم الطبراني الكبير من حديث أبي الدرداء رفعه " الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة بمسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة " ورواه ابن عدي عن جابر، وإسناده ضعيف ا. هـ (ر. مشكل الوسيط لابن الصلاح- بهامش الوسيط: 7/ 278، التلخيص الحبير: 4/ 329 ح 2549).
(2) زيادة من (ق).

(18/432)


وأما إذا أقام الشيخ (1) الزيارة مقام الصلاة والاعتكافَ، فقياسه أنه لو تصدق في مسجد المدينة، أو صام يوماًً أنه يخرج عن موجَب نذره، ويجوز أن يقال: الزيارة تنفصل عما ذكرناه لكون المزور في رقعة المسجد، فهو مختص من هذا الوجه.
ومما نفرعه في نذر إتيان المسجدين أنا إذا قلنا: يكفي الإتيان المجرد، فليت شعري- ماذا يقول صاحب هذا الوجه إذا أتى باب المسجد وانصرف؟ فإن قال: يكفيه ذلك، فهذا بعيد؛ فإن إتيان المسجد والانصراف عنه على هذا الوجه ليس بقربة، ولا يبعد أن يُلحق بأصناف العبث، وإن قال هذا القائل: لا بد من دخول المسجد، فالدخول من غير قصد الاعتكاف ليس بقربة، وقد ورد النهي عن [إطراق] (2) المساجد من غير حاجة، وإن شرط ضمَّ الاعتكاف، فقد أبطل قاعدة مذهبه في الاقتصار على إتيان المسجد، وتبين بهذا الخبط فسادُ أصل الوجه- ولا يبقى إلا أن يقول صاحب هذا الوجه الضعيف: إتيان المسجد تقرب وتبرك، واستجلاب يُمن، وهذا نازل منزلة زيارة العلماء، وهذا بعيد. وإن تعلق بقصد الاعتكاف، فقد صرح بنقض مذهبه.
ومما فرّعه الشيخ في الشرح أن قال: إذا أَلْزمنا إتيان المسجدَيْن بالندر، فلو نذر إتيان أحدهما ماشياً، ففي التزامه وجهان، بناهما الشيخ على التزام المشي قبل الميقات، ووجه البناء أن كلا المشيين وإن لم يقع في عبادة؛ فإنه واقع في القصد إلى بقعة معظمة.
ولو نذر أن يصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو في مسجد إيلياء، فالذي قطع به المراوزة أن النذر مُلزِم قولاً واحداً؛ فإنه التزم قربة، وصرح بالتزامها، وضم إليها مزيّةً تُعظِّمُها، فكان ذلك كالتزام الجماعة في الصلاة المنذورة.
وذكر العراقيون ما ذكرناه، وطريقة أخرى - وهي إجراء القولين في هذه الصورة.
فهذا ما أردنا أن نذكره في سائر المساجد إذا نذر الناذر إتيانها.
__________
(1) المراد الشيخ أبو علي، وقد مضى قوله هذا آنفاً.
(2) في الأصل: " أطراف ".

(18/433)


11854 - ونحن بعد ذلك نذكر نذرَ إتيان الحرم. فنقول: إن حكمنا بأن إتيان الحرم من غير نذر يوجب نسكاً، وقلنا: المطلق في النذر يتقيد بواجب الشرع، فإذا نذر الناذر إتيانَ مكة أو إتيان الحرم، يلزمه أن يأتيَ الحرم ناسكاً بحج أو بعمرة، وإن قلنا: ليس على من يأتي مكةَ إحرام، أو قلنا: الملتزَم بالنذر لا يتقيد بواجب الشرع، فكيف حكم النذر في هاتين الصورتين؟
أما الصورة الأولى - وهي إذا وقع التفريع على أن من يأتي مكة لا إحرام عليه، فإذا نذر إتيان مكة، كان كما لو نذر إتيان مسجد المدينة، أو مسجد القدس، وقد مضى التفصيل فيه. ولكنا إن أوجبنا هاهنا الإتيان، وفرّعنا على ضم قُرْبة إلى الإتيان، فمن أصحابنا من قال: تلك القربة حج أو عمرة، فإنهما يختصان بالحرم، ومن أصحابنا من قال: تلك القربة الصلاة؛ تعلقاً بالحديث الذي رويناه، ومنهم من خيّر، ولا يتجه ذكر الاعتكاف على التعيين؛ لأنه لا يختص. وإن سلكنا مسلك الاختصاص، فالنسك أخص، ولو ذكر ذاكرٌ الطواف المجرد لم يبعد، والمخيِّر يخيِّر بين النسك، والاعتكاف، والطواف والصلاة.
ولو عين بقعة من بقاع الحرم لا يتعلق به نسك كدار الخيزران ودار أبي جهل ونحوهما، فهو كما لو نذر إتيانَ مكة أو إتيانَ الحرم.
ولو قال: لله علي أن آتي بيتَ الله تعالى، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلزمه شيء؛ لأن هذا الاسم لا يختص بالكعبة، وكل مسجد يشار إليه، فهو بيت الله.
ومن أصحابنا من قال: يُحمل مطلقُه على الكعبة؛ لجريان العرف بإطلاقه والمراد به الكعبة، والأصح الأول.
ولو نوى بذكر بيت الله الكعبةَ، نُزِّل لفظُه على نيته، وكلامنا في اللفظ المطلق.
11855 - ولو نذر إتيان عرفة، فالذي قطع به أئمتنا في الطرق أنه لا يلتزم بهذا شيئاً؛ فإن عرفة من الحل، وليس في إتيانها قُربة، وإنما الوقوف بها ركن من عبادة، فذِكْرُ مكان ذلك الركن لا يُلزم شيئاً.

(18/434)


وقال القاضي إن خطر له شهودُ عرفةَ يومَ عرفة، لزمه، كما لو نذر المشيَ إلى البيت الحرام، وإن لم يخطُِر له ذلك، لم يلزمه شيء. وقال في بعض أجوبته: يلزمه الحج إذا أطلق التزامَ إتيان عرفة، وجواباه مخالفان لما قاله الأصحاب.
والذي يجب تحصيله أنه إن أراد التزامَ الحج، وعبّر عنه بشهود عرفة، لزمه ما نواه. وإن قصد الإتيان فحسب، أو قصد الإتيان، ولم يخطر له الحج، ولكن نوى الإتيان يومَ عرفة، فلا يلتزم شيئاً على مذهب جماهير الأصحاب. وللقاضي جواباه كما ذكرناه. [ولو لم] (1) يُرد بذكر يوم عرفة التزامَ الحج، ولكن اعتقد الوقوفَ في ذلك اليوم قُربة، [فالأمر] (2) على خلاف ما [ذكره] (3)؛ فإن الوقوف ممّن ليس مُحْرِماً لا قربة فيه.
ثم اعتاد الفقهاء ذكر عبارات في إتيان الحرم، منها الإتيان، والمشي، والذهاب، وجميعها سواء.
وإذا نذر أن يضرب بثوبه حَطِيم الكعبة، فهو بمثابة نَذْر إتيانها.
11856 - ومما يلتحق بالفصل أنا إذا أَلْزمنا إتيانَ مسجد المدينة، ثم فرعنا على أنه لا بد من ضم الصلاة، لو صورنا فيه إذا قال: لله علي أن أصلي في مسجد المدينة، فلو أراد أن يصلي في مسجد آخر من مساجد الدنيا سوى المسجد الحرام ومسجد إيليا، لم يخرج عن نذره؛ للحديث المنقول عن الرسول عليه السلام في ذلك.
ولو التزم الصلاة في المسجد الحرام، فصلى في مسجد المدينة، لم يخرج عما عليه؛ للتفاوت البيّن المنقول فيه.
ولو قال: لله عليّ صلاة في مسجد المدينة، فصلى في مسجد إيلياء، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يخرج عما عليه؛ لاستوائهما في التعديل المروي عن المصطفى عليه السلام؛ فإنه قال: " صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة في غيره، وصلاة في
__________
(1) في الأصل: " ولم ".
(2) في الأصل: "والأمر".
(3) في الأصل: " ذكرناها. والمثبت من (ق).

(18/435)


مسجد إيليا تعدل ألف صلاة في غيره " ومن أصحابنا من لم يخرجه عن موجَب النذر؛ تعلُّقاً بالتعيين المذكور في النذر.
ولو قال: أصلي في مسجد المدينة، فصلى في المسجد الحرام، فالأصح أنه يخرج عن النذر، وفيه شيء؛ أَخْذاً من الالتزام.
ولو قال: أصلي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى ألفَ صلاة [في مسجد آخر] (1)، لم يخرج عما عليه؛ فإن التفصيل الآيل إلى الصفة لا يقابله العدد، ولو نذر ألفَ صلاة، لم يخرج عن نذره بصلاة في مسجد المدينة. وفي بعض الأخبار: " صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة في المسجد الحرام " (2). وكان شيخي يقول: هذه الزيادة لم يصححها الأثبات، فلا تعويل عليها. فلو نذر صلاة في الكعبة، فصلى في أرجاء المسجد الحرام أجزأه ذلك، هذا ما كان يقول، والعلم عند الله.
وهذا منتهى الكلام في نذر إتيان المساجد وما يتعلق به.
فقال: " ولو نذر أن يُهدي متاعاً، لم يجزئه ... إلى آخره " (3).
11857 - معظم المقاصد في نذر الهدي الضحايا، وقد مضى في كتاب الضحايا، والمقدارُ الذي نذكره هاهنا أنه إذا نذر أن يسوقَ شاةً أو بدنة، أو ما يذكره إلى حرم الله
__________
(1) زيادة أفدناها من (ق).
(2) حديث: " صلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة في غيره، وصلاة في الكعبة تعدل مائة ألف صلاة في المسجد " الحديث بغير هذه الزيادة التي قال فيها الإمام: " لم يصححها الأثبات " رواه ابن ماجه وأحمد من حديث جابر، والطبراني في الكبير من حديث أبي الدرداء.
أما الزيادة فلم تصح فعلاً كما قال الإمام، بل ليس لها أصل كما قال الحافظ في التلخيص (ر. ابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في فضل الصلاة في المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ح 1406، وصحيح ابن ماجه للألباني: 1/ 236، المسند: 3/ 397، التلخيص: 4/ 329 - 331 ح 2549).
(3) ر. المختصر: 5/ 239.

(18/436)


تعالى ويتقربَ به، فيجبُ الوفاء، ويلزمه تبليغُه مكة، ولا خلاف في التزام ذلك، وكل ما نذكره يؤكد التزام القربات، فإن الهدي في نفسه قُرْبة، وتبليغُه الحرمَ مزيّة، ثم إذا صرح كما ذكرناه، وبلَّغ يلزمه أن يذبح أو ينحر في الحرم، والأصح أنه يلزمه تفرقةُ اللحم ثَمَّ، فلو نقله من الحرم، وفرقه في موضعٍ آخر، لم يُجْزه.
ومن أصحابنا من يقول: إذا نحر أو ذبح في الحرم، فلا حجر عليه، ولا حرج لو نقل اللحم إلى موضع آخر؛ فإن الذبح قُربة، وهو لم يقيد نذره بتفرقة اللحم، والأصحُّ الأولُ؛ فإن الذبح إنما يتقيد بالحرم حتى يكون اللحم المفرقُ على أهله غضاً طرياً، وإلا فلا أَرَبَ في اتخاذ الحرم مذابح ومجازر.
وما ذكرناه فيه إذا ذكر لفظاً يُشعر بذكر قربة، كالضحية وما في معناها، فلو قال: لله علي أن أذبح بمكة [أو أنحر] (1) بمكة، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن هذا بمثابة نذر التضحية؛ لأن لفظ الذبح محفوف بالنذر من أحد جانبيه، والإضافة إلى مكة [من الجانب الآخر] (2)، وكل واحد منهما يشعر بالقربة، [فصار] (3) بمثابة ما لو ذكر لفظ التضحية.
وقال بعض أصحابنا: لا يلتزم بهذا اللفظ شيئاً؛ فإنه لم يذكر عن الملتزَم عبارةً مشعرة بالقُربة، وإنما تثبت القربة بما هو عبارة عنها.
فإن ألغينا اللفظ، فلا كلام، وإن أثبتناه، فهو بمثابة ما لو ذكر التضحية، أو غيرها مما يدل على القُربة، وقد مضى التفصيل فيه.
11858 - ولو قال: لله علي أن أضحي بشاة بنيسابور، وأفرق لحمها بها، فالنذر مُلزِم؛ فإن اللفظ صريح عن القربة، وهل يجب تفرقة اللحم بالبلدة التي عينها أم لا؟ فعلى قولين مأخوذين من تفرقة الصدقة ونقلِها، فإن لم نجوز نقل الصدقة، لم نجوز النقل عن البقعة المعينة؛ فإنا إن نظرنا إلى تنزيل المنذور على موجب الواجب في الشريعة، فالنقل ممتنع، وإن تمسكنا باللفظ، فاللفظ صريح في التخصيص.
__________
(1) في الأصل: " وأنحر ".
(2) زيادة من المحقق.
(3) في الأصل: " وصار ".

(18/437)


وإن جوزنا نقلَ الصدقة والنذرُ مخصوص لفظاً بأهل البلدة المعينة، ففي جواز النقل على هذا القول وجهان: أحدهما - أن النقل ممتنع، وإن جاز نقل الصدقة، تعلقاً باللفظ وموجبه، وليس في ألفاظ الشارع ما يخصص صدقة الرجل بأهل بقعة، والأخبار التي يتعلق بها من يمنع النقل عُرضةٌ للتأويل؛ إذ لو كانت نصوصاً، لوجب اتباعها، واللفظ القابلُ للتأويل إذا أوّله محقق، واعتضد في التأويل بالدليل، فيصير الظاهر مع ما ذكرناه كالمجمل، ولفظ الناذر في مسألتنا نص صريح غير قابل للتأويل.
والوجه الثاني - أن النقل جائز؛ فإن المنذور يتعلق بحقوق الله تعالى، وليس لمن يلتزم حقوق الله تعالى تحكم فيه، والذي يعضد ذلك أنه لا قربة في تخصيص أهل بلدة، وما يبعد عن مسالك القربات، فذكره لغو في النذور- ولم يختلف الأصحاب في أن ما يقيد بالحرم يتقيد به؛ فإنه محل الهدايا، ونهايات القُصود في التقرب بالهدايا أن تبلغ الحرم، كما قال تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]. فصار تبليغها وتفريقها على أهلها من الصفات التي تقتضي مزية في القربة.
فيخرج منه أن التقييد وإن كان نصّاً لغو.
ولو قال الرجل: لله علي أن أتصدق على زيد هذا، وكان فقيراً فتعيّنه يُخرَّجُ على تَعيُّن أهل البلدة.
ثم مهما (1) أبطلنا تقييده، فقد يخطر للفقيه أن النذر يبطل، ويعارضه أن الشرط يبطل، والقُربة تثبت، وهذا يظهر في النذور جدّاً، ويجوز أن يقال: لا يثبت النذر، لا لفساده بفساد شرط مقترن به، ولكن لأن ما التزمه لم يلزمه، وهو لم يلتزم إلا التصدق على زيد أو على أهل البلدة التي عينها، فإن قلنا: لا تتعين البلدة لتفرقة اللحم، فلا تتعين لإراقة الدم فيه، بخلاف الحرم؛ فإن الشرع جعله منحر الهدايا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بمنى: " هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر" (2).
__________
(1) مهما: بمعنى: (إذا).
(2) سبق هذا الحديث في الحدود.

(18/438)


وإن قلنا: تتعين البلدة لتفرقة اللحم إذا عينها -والمسألة مفروضة فيه إذا نص على تفرقة اللحم على أهل البلدة المعينة- فهل تتعين تلك البلدة لإراقة الدم بها؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تتعين. والثاني - أنه لو أراق الدم بالقرب، ونقل اللحم غضاً طرياً، جاز، والترتيب جرى على حدّ ما ذكرناه في الحرم؛ فإن الذبح يتعين إيقاعه في الحرم إذا خصصه كما تقدم تفصيله.
11859 - ولو قال: لله عليَّ أن أضحي بنيسابور، ولم يتعرض لتفرقة اللحم بها، وفرعنا على أنه لو قيد النذر بالتفرقة بتلك البلدة، لوجب الوفاء بموجب تقييده.
فإذا أضاف التضحية إلى تلك البلدة، فهل تتضمن إضافةُ التضحية تفرقةَ اللحم على التخصيص؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: يتضمن ذلك تخصيصَ أهل البلدة بالتفرقة، فعلى هذا هل تتعين البقعة للتضحية وإراقة الدم؟ فعلى ما ذكرنا من الوجهين، فإن قيل: كيف يثبت الضِّمن (1)، ولم يثبت اللفظ المصرِّح به؟ قلنا: لأن تفرقة اللحم على أهل بقعة مستندة إلى أصلٍ في الشريعة، والتضحية في غير الحرم لا أصل لها. ومن خصص التضحية، فلا محمل لتخصيصها إلا ابتغاء طراوة اللحم إذا فرقت. وإن صور مصور إخراجاً، ونقلاً على القرب، أجبنا عنه بقاعدة الحسم في أمثال ذلك.
وكل ذلك تفريع على أن التضحية تُشعر بتعيين تفرقة اللحم.
ومن أصحابنا من قال: لا تشعر إضافة التضحية بتخصيص تفرقة اللحم على أهل البقعة [لو] (2) فرعنا على أنه لو صرح بتخصيص البقعة باللحم، لم يتخصص، فتخصيص التضحية على هذا لا أثر له؛ إذ لا تعبد في البقعة، وليست متعيَّنة لتفرقة اللحم، وكل ذلك فيه إذا قال: أضحي بنيسابور.
11860 - فأما إذا قال: أذبح أو أنحر، ولم يذكر لفظة مشعرة بالقربة، فالذي صار إليه المعتبرون أنه لا يلزمه بهذا اللفظ شيء، وذكر العراقيون وجهاً أنه يلزمه ما يلزمه
__________
(1) الضِّمن: المراد به تفرقة اللحم على أهل البقعة، مع أنه لم يصرح به.
(2) في الأصل: " أو ".

(18/439)


لو ذكر التضحية، وهذا بعيد. ووجهه على بعده اتصال لفظ النذر به، وهو يقتضي القربة، فالمذكور بعده متقيد بلفظ النذر.
11861 - وإذا جمع الجامع هذا إلى ما ذكرناه من نذر الذبح والنحر في مكة من غير لفظ التضحية والهدي، ثبت عنده وجهان إذا فرضت المسألة في مكة: أحدهما - أنه لا يلزمه شيء. والثاني - يلزمه لعلتين: إحداهما - لفظ النذر، والأخرى - الإضافة إلى المكان المهيأ لهذا النوع، ثم إذا فرضت المسألة في تسمية بلدة أخرى مع لفظ الذبح، انتظم فيها وجهان مرتبان على الوجهين المذكورين في مكة، فإن قلنا: لا يلزم بالنذر وإن أضيف إلى مكة شيء، فلأن لا يلزم في غير مكة أولى، وإن قلنا: يلزم ثمَّ، ففي غير مكة وجهان. والفرق تعدد السبب الدّال على القربة في مسألة مكة واتحاد النذر في غيرها.
فصل
يجمع مسائل تتلقى من مقتضى ألفاظ الناذر في التضحية وما يليق بها
11862 - إذا قال: عليّ أن أضحي ببدَنة، فاسم البَدَنة في اللغة ينطلق على البعير، وجمعها البُدْن. قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36] هذا حكم اللسان. ثم أقام الشرع بقرة مَقام بَدَنةٍ، وكدلك أقام سبعة من الغنم مقام بدنة، وهذا واضح في قواعدَ معروفةٍ، وأقربها إلينا أن البدنة تُجزىء عن سبعة، وكذلك البقرة، والشاة الواحدة تجزىء عن واحد، ولا تقبل الشركة، فالسبع من الغنم تَعْدِل فيما ذكرناه بدنة، كل شاة في معادلة سُبعها.
فإذا نذر التضحية ببدنة، فهل له أن يقيم مقامها بقرة، أو سبعاً من الغنم؟ اختلف أئمة المذهب في ذلك، فأحسن ترتيب يجمع الغرض ويحويه أن نقول: إن لم يجد الناذر بدنة، فله العدول إلى بقرة، أو سبعٍ من الغنم، وإن وجد بدنة، ففي جواز العدول عنها إلى البقرة والسبع من الغنم قولان. وقد سبق ما يناظر ذلك في كتاب المناسك.
توجيه القولين: من لم يجوز العدول عن البدنة استمسك باللفظ، ومن جوّز

(18/440)


العدول تعلّق بموجب الشرع في إقامة [البقرة] (1) والسَّبع من الغنم مقامَ البدنةِ.
ومعظم الاختلاف في هذه المسائل يلتفت إلى أن النذر هل ينزل على موجب الشرع، أم يُتمسك فيه بمقتضى اللفظ؟
[هذه طريقة] (2) وأبعد بعض الأصحاب فقلبها، وقال: لا يعدل عن البدنة مع وجودها؛ فإن لم يجدها، ففي إجزاء البقرة والسبع من الغنم قولان، وهذا [غلوٌّ] (3) في التعلق باللفظ، وتشوف إلى منع إخراج الأبدال عما تعين بالنذر، كما يمتنع إخراج الأبدال عن الزكوات المتعينة بتنصيص الشارع، وهذا الذي نحن فيه اشترك فيه اتباع اللفظ، وموجَب الشرع، والالتفات على منع إخراج الأبدال.
ولو قال: لله عليّ أن أتصدق بعشرة دراهم، لم يُقبل منه صنف آخر في المال على قياس منع الأبدال في الزكوات.
ثم إذا جوزنا إخراجَ البقرة والسبعِ من الغنم، فلا يُرْعَى أن يكون المخرج على قيمة البدنة، كما لا ينظر إلى القيم في إخراج الجبرانات عند تفاوت الأسنان انخفاضاً وارتفاعاً. هذا هو المذهب.
وذكر صاحب التقريب أن من أصحابنا من اشترط أن تكون البقرةُ والسبع من الغنم على قيمة البدنة، وهذا ضعيف، لا أصل له. ثم فرع عليه فرعاً هو أضعف منه، فقال: إذا جوزنا إخراج البدل، وشرطنا رعاية التعديل في القيمة، فلو أخرج خمساً من الغنم تَعْدِل قيمتُها بدنةً، فهل يقبل؟ فعلى وجهين، وكذلك إن تُصوِّر هذا في شاة واحدة، والمصيرُ إلى أن الخمس أو الشاة الواحدة تجزىء عن بدنة بُعدٌ عظيمٌ عن القاعدة، ولولا عظم قدر الناقل -وهو صاحب التقريب- لما استجزت ذكر هذا، ويلزمه على المساق الذي ساقه أن يصير إلى إجزاء [المعيبة] (4) نظراً إلى القيمة، وهذا يجرّ أُموراً مضطربة، لا سبيل إلى احتمالها.
__________
(1) في الأصل: " البدنة " وهو سبق قلم واضح.
(2) زيادة من (ق).
(3) في الأصل: " تعلق ". والحمد لله فقد صدقتنا (ق).
(4) في الأصل: " المعينة ".

(18/441)


11863 - وكل ما ذكرناه فيه إذا ذكر البدنة في نذر التضحية، وسننعطف على هذا بذكر خلاف من [فنٍّ] (1) آخر:
[فلو] (2) قال: لله عليّ أن أضحي ببعير، أو بشاة، أو بقرة؛ فالذي قطع به القاضي ومعظم المحققين أن مطلق اللفظ محمول على البعير المجزىء وهو الثنيُّ السليم عن العيوب المانعة من الإجزاء، وكذلك القول في البقرة التي سماها، والشاة.
وذكر العراقيون هذا ووجهاً آخر، وهو أن اللفظ منزّل على الاسم، فلا يشترط السن ولا السلامة، نعم، لا يجزىء الحوار، والفصيل؛ لأنه لا يسمى بعيراً، ويجزىء الحِقّ، وابن اللبون، وابن مخاض، والمتبع في كل جنس الاسمُ؛ فلا يقبل العِجْلُ، والمذكور البقرة، كما لا تقبل السَّخلة والمذكور الشاة، وهذا مأخوذ من اتباع اللفظ، والمسلك الأوضح مأخوذ من موجب الشرع، وهو متأكد في هذا المقام بذكر التضحية، والتضحية لفظة شرعية مقتضاها أن تنزل على قواعدَ مرعيةٍ في الشريعة، ولو نذر صلاة، لم تقع منه بدَعْوة، نظراً إلى أصل الوضع في اللغة. وهذا التردد في ذكر البعير والبقرة والشاة.
فأما إذا ذكر البدنة، وعبّر بالتضحية أو الإهداء، فالمذهب اعتبار حدود الشريعة في السن والسلامة؛ فإن اسم البدنة مشهور مستفيض بالقرابين، ويندر استعماله في غيرها، فلما ازداد التقييد بَعُدَ الخلاف. وذكر العراقيون في ذكر البدنة خلافاً أيضاً في اعتبار السن والسلامة، وهذا بعيد.
والحاصل من مجموع ما ذكرناه ترتيبُ الخلاف في البعير والشاة على الخلاف في البدنة، أو جمعُ الكل وإجراءُ ثلاثةِ أوجه على ما لا يكاد يخفى.
ويخرج بعد ما ذكرناه وجهٌ أن الحيوان المجزىء لا يلزم ما لم يَنُصَّ على صفاته المرعية في النذر المطلق، ولو نواها، كان كما لو صرح بذكرها، ولو قال: لله علي
__________
(1) في الأصل: " في".
(2) في الأصل: " ولو ".

(18/442)


هديٌ، فخروج هذا على أصل القولين ظاهرٌ بيّنٌ: من اعتبر اللفظ لم يوجب حيواناً مجزئاً في الضحايا؛ بل اكتفى بأقل المَنْح من أي جنس كان من أجناس الأموال، ومن اعتبر الشرعَ وحكمَه، أَلزم بمطلق هذا اللفظ شاةً؛ فإن أقلَّ اسم الهدي الشرعي يتناول شاةً على السن المعتبر والسلامةِ المشروطة.
التفريع:
11864 - إن ألزمنا الناذر ما يجزىء في الضحايا، فالذي ذهب إليه الأكثرون أنه يجب تبليغه الحرم؛ فإن الضحايا في البلاد لا تسمى هدياً، والهديُ المطلق هو الذي مَحِلُّه الحرم، قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95].
وفي كلام بعض الأصحاب على هذا القول ما يشير إلى أنه لا يجب تبليغُ المنذور الحرمَ ما لم يقع التصريحُ به؛ فإن دماء الحيوانات هي الواجبةُ شرعاً، ولا يجب تبليغُها الحرم، وهذا وهم؛ فإنا لا ننظر إلى الواجب شرعاً، وإنما ننظر إلى اللفظ الشائع في الشرع، والهدي ظاهر في ألفاظ الشرع في اقتضاء التبليغ إلى مكة.
وإن لم نُلزم بلفظ الهدي حيواناً، واكتفينا بأقل المَنْح أخذاً من الهدية، فقد قطع الأصحاب على ذلك بأنه لا يجب تبليغُه مكةَ، وكان شيخي في دروسه يقطع بأنه يجب تبليغه مكةَ، وهذا تناقض.
فأما إذا لم نعتبر جنس النَّعم في الهدي، فلأن لا نعتبر التبليغ -وهو تابع لجنس القرابين- أولى وأحرى، فلا [اعتداد] (1) بهذا إذاً.
11865 - ومما يليق بما نحن فيه أنه لو نذر أن يهدي ظبية، وصرح بتبليغها الحرم، وجب التبليغ، وهذا مما يجب العلمُ به على ثقة، فكل قُربة مالية التُزمت، وأضيفت إلى مكة، وجب تبليغها الحرمَ، ولا يختص ذلك بالقرابين.
ثم قال المحققون: إذا ذكر ظبية، لم يذبحها، ولكن تصدق بها حيّة؛ فإن الذبح يَنْقُصُها، وليس في ذبحها قُربة، وكذلك القول فيما عدا جنس النَّعم من الحيوانات.
وإذا قال: لله علي أن أهديَ بعيراً، وأوجبنا التبليغ، وجوزنا المعيب، فهل يكون كالظبية حتى لا يُنحر، بل يتصدق به حياً أم ينحر؟ فيه تردد للاصحاب: فمنهم من
__________
(1) في الأصل: "اعتدال".

(18/443)


راعى الجنس؛ ورأى الذبح. وهذا رديء؛ ومنهم من قال: إذا كان لا يجزىء في الضحايا لنقصان شيء أو اتصافٍ بعيب مانع من الإجزاء، فهو كالظبية.
ولو قال: لله علي أن أُهديَ هذا، وأشار إلى ثوب، أو غيره من صنوف المال، والتفريع على وجوب التبليغ- فإن كان ما ذكره شيئاً لا يُنقل، بيع، ونقلت قيمته إلى مكة، وتصدق بها، وإن كان ذلك الشيء منقولاً في نفسه، فإن عسر نقله، كحجر الرحا وما في معناه، فهو كالعقار، وإن كان ذلك الشيء مما ينقل مثله، فينقله ويتصدق به على أهل مكة.
ولو كان ثوباًً يتأتى ستر الكعبة به، فالستر من جملة القربات، وفي اعتياد الناس ذلك في العُصر الخالية، وعدم النكير من علماء الشريعة ما يوضح ذلك، وفي بعض ألفاظ الرسول عليه السلام ما يدل عليه، وكذلك تطييبُ الكعبة من هذه الجملة.
ولكن إن نوى من جَعَلَ الثوبَ هدياً ستْرَ البيت، نُزّل لفظه على نيته- وكذلك لو صرح بهذه الجهة، ولو نوى التصدق، فلا معدل عنه.
ولو أطلق اللفظ، فالذي قطع به المحققون وجوبُ حمله على الصدقة، ومَنعْ العدول عنها؛ فإن الصدقة هي المفهومة من ظاهر لفظ الإهداء، وهي أصل القربات في الباب، فلا عدول عنها من غير لفظ أو قصد.
وفي بعض التصانيف أن الثوبَ الصالحَ [للستر] (1) يحمل مطلق اللفظ فيه على الستر، وهذا كلام سخيف، لا أصل له، ولا اعتداد به.
ثم إذا كان عيّن ثوباًً أو غيره من صنوف الأموال، وبلّغه مكة، فأراد بيعه، وتفرقة ثمنه، فالذي ذكره الأئمة -وهو قياس المذهب- أن بيعه يمتنع، لتعلق لفظ الإهداء بعينه، وإمكانِ التصدق به، ومصيرِ ما عيّنه بمثابة ما يعيّنه الشارع في الزكوات، وهذا كتعيين الضحايا، أو كتعيين إهداء حيوان ليس من قبيل النَّعم، ولو كان يعسر التصدق بعينه، ولا يتأتى جَمْعُ المساكين وتسليم المعين إليهم، فهو بمثابة ما لو فرض مثل ذلك في الزكوات، فلا معدل عن المعين.
__________
(1) في الأصل: " التستر ".

(18/444)


وكل ما ذكرناه من الصرف إلى الستر عند اللفظ أو القصد، والصرف إلى الطِّيب، فهو يقوي مذهب المتأخرين في التزام القربات التي لم تشرع للعبادات، ولا جواب للمتقدمين عن هذه الفنون.
ولو فرض تقييد اللفظ بتطييب مسجد المدينة أو مسجد إيلياء، أو مكان الصخرة، أو غيرهما من المساجد، فالأمر متردد عندنا: لا يمتنع ألا يلزمَ ما أشرنا إليه، ويختص ما ذكرناه بالمسجد الحرام، والكعبة، والعلم عند الله.
11866 - وذكر الشيخ في شرح التلخيص كلاماًً ظاهره أن من نذر الصوم بمكة يلزمه الصوم بها، ولو صام بغيرها، لم يُجْزه، وقد قرن بين الصلاة والصوم في هذا المعنى، وقد نص الأصحاب في الطرق على مخالفته في ذلك؛ فإن الأخبار والآثار إنما وردت في الصلاة، فلا مزيد عليها، والستر والتطييب ملحق بها.
ولا خلاف أن التصدق إذا أضيف إليها، وجب الوفاء أخذاً من القرابين، فأما الصوم، فلم يَرِد فيه ثبتٌ، ثم من أوجب الوفاء بإقامة الصوم بمكة ترددوا في غيره من العبادات بعد استثناء ما استثنيناه، ولا يخفى أن الاعتكاف إذا أضيف إلى المسجد الحرام، تعين له؛ فإنا قد نعيّن بعض مساجد البلاد للاعتكاف إذا عيّنه الناذر. وقد نجز الغرض في هذا الفن.
فصل
قال: " ولو نذر عدَدَ صومٍ، صامه متفرقاً ومتتابعاً ... إلى آخره " (1).
11867 - لا خلاف أن الصيام يُلتزم بالنذر، ولو نذر صوم أيام، ولم يتعرض للتتابع، فهو بالخيار في الإتيان بها متتابعة أو متفرقة. وكذلك لو نذر صوماً إلى شهرٍ أو سنة، فإن شاء فرّق وإن شاء والى وتابع.
ومن مقاصد هذا الفصل أن من عيّن يوماً [لصومه] (2) المنذور، فالمذهب الأصح
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 239.
(2) في الأصل: " بصومه ".

(18/445)


أنه تتعين تلك الأوقات للصوم على حسب تعيينه، وقال بعض أصحابنا: تعيين الزمان في الصوم كتعيين المكان له، فإذا عيّن، لزمه الصومُ (1)، كما لو أطلق النذرَ من غير التعيين، وهذا الوجه -على بعده- منقاس، ذكره طوائفُ من أئمة المذهب، منهم الصيدلاني.
ومن آثار الخلاف أنه إذا عيّن أن يصوم يوم الخميس، فأراد أن يصومَ يوماً قبله، فوقوعه عن النذر خارج [على] (2) الخلاف، وإن انتهى إلى ذلك اليوم، [ولم يصمه] (3)، فيلزمه صوم يوم بعده بلا خلاف، ثم هو أداء أم قضاء؟ فعلى ما ذكرناه في الخلاف.
ولا خلاف أنا وإن عيّناه، فلو أوقع فيه قضاءً أو صومَ كفارة، صح، ولا يبلغ تعيينه مبلغاً ينافي صوماً غيرَه بخلاف تعيين أيام رمضان لصيامها، ولا يثبت في اليوم [المعين] (4) -تفريعاً على الأصح- خواصُّ صوم رمضان من الكفارة عند الإفطار بالوقاع، ووجوب الإمساك بعد الإفطار.
ولو نذر صوم أيامٍ وقيدها بالتفريق، ففي التزام التفريق بالنذر وجهان بناهما بعض الأصحاب على اختلاف القول في أن التفريق بين الأيام الثلاثة والأيام السبعة في صوم التمتع هل يُستَحق شرعاً، وفيه خلاف ذكرته، والأولى عندنا تقريب الوجهين -في وجوب التفريق- من تردد الأصحاب في أن الأوقات هل تتعين للصيام إذا عُيّنت له؟ فإن قلنا: إنها تتعين، فلا يبعد حمل استحقاق التفريق على هذا الأصل، كما لو قال: لله علي صوم الأثانين، فلا شك أنه يأتي بالصوم على صفة التفرق.
وهذا تكلف؛ فإن الذي يعيّن الأوقات [يجرد] (5) قصدَه إلى تعيينها، والذي يذكر
__________
(1) لزمه الصوم: أي لزمه الصوم فقط، ولم يلزمه زمان ولا مكان، كما لو أطلق لفظه.
(2) في الأصل: " عن ".
(3) في الأصل: " لم يصمه ".
(4) زيادة من (ق).
(5) في الأصل: " مجرد".

(18/446)


التفريق ليس تعيين الأزمنة من باله وعزمه؛ ولذلك كان الأصح أن التفريق لا يُلتزَم، والأصح أن الأوقات تتعين إذا عيّنت.
11868 - ولو عيّن الناذر للصوم المنذور شهراً أو سنةً، وجرينا على الأصح في تعين الوقت، فالصوم يقع في الشهر تباعاً، لا لكون التتابع مستحَقاً في نفسه، ولكن تعيّن أيام الشهر يقتضي هذا المعنى لا محالة.
ولو أفطر الناذر يوماًَ من الشهر لم يَفْسُد عليه ما مضى، والقول في هذا كالقول في تعين أيام رمضان لصيامها.
ولو عين للصوم شهراً، وقضينا بتعيّنه، وضمّ إلى تعيينه ذكر التتابع، فقال: لله علي أن أصوم شهر شعبان من السنة الفلانية متتابعاً، فللأصحاب في ذكر التتابع وفي التعيين خلاف: فمنهم من يلغيه، ولا يُثبت حكمَه، ولا يُثبت إلا موجَبَ التعيين، ومنهم من يُثبت مقتضى التتابع قائلاً: لو أفطر في اليوم الأخير مثلاً، فسد عليه جميعُ ما تقدم، ولزمه القضاء على صفة التتابع، ولو التزم التتابع، ولزمه من غير تعيين، فقد ذكرنا ما يقطع التتابع، وما لا يقطعه، ومحلَّ الوفاق والخلاف في كتاب الظهار، والتتابع اللازم نذراً كالتتابع اللازم شرعاً.
11869 - ولو قال: لله عليّ أن أصوم سنة، لم يخل: إما أن يعينها، أو يطلقها، فإن عيّن، وفَّى، ولم يجب عليه أيام رمضان والعيدان، وأيام التشريق، وكفاه ما سوى هذه الأيام؛ فإن الشرع قد استثنى بعضَها للصوم، وبعضَها للفطر، وإذا طرأ على السنة المعيّنة عذرٌ يجوز الإفطار بسببه في أيام رمضان، كالمرض، والحيض، فله الإفطار. وفي لزوم القضاء خلاف، ذكره الإمام (1) وغيره.
ومن أصحابنا من أوجب القضاءَ قياساً على الصوم المفروض شرعاً، وتنزيلاً للمنذور على المشروع، ومنهم من لم يوجِب القضاء، [وجعل] (2) هذه الأيام مستثناةً بالرخصة كأيام رمضان، حيث استثناه الشرع لجهة أخرى.
__________
(1) الإمام: يعني به والده.
(2) في الأصل: " وجهل ".

(18/447)


ولو سافر الناذر، فله الإفطار، والظاهر وجوبُ القضاء، بخلاف الأعذار المنافية للصوم، كالحيض أو المسوِّغة للفطر عن حاجة حاقّة كالمرض.
ولو نذر صومَ سنة وأبهمها، ولم يعينها، صام اثني عشر شهراً بالأهلّة، فلو استفتح الصومَ من أول المحرم من سنةٍ، ثم تمادى إلى انقضاء السنة، وصام رمضان شرعاً، وأفطر في الأيام التي يُستحق الفطر فيها، فالذي قطع به الأصحاب أنه يلزمه أن يصوم في مقابلة شهر رمضان شهراً آخر، وفي مقام أيام الفطر أياماً؛ فإن تنكير السنة يقتضي إتمامَ الصيام. وذكر الصيدلاني أنه وإن نكّر السنةَ إذا استقبل سنة، وافتتح الصوم من المحرم إلى المحرم، كفاه ما أتى به.
وهذا زللٌ وهفوة من هفوات الكتّاب. والممكن في توجيهه أن من فعل هذا يقال صام سنة، وهذا تكلف بعيدٌ لا أصل له.
فصل
قال: " ولو قال: لله علي أن أحج عامي هذا ... إلى آخره " (1).
11870 - إذا نذر حَجّةً وعيّن لها عاماً، فالقول في تعيين [العام] (2) لها وفاءً بالنذر، كالقول في تعيين اليوم للصوم.
فإذا جرينا على المذهب الصحيح، ألزمناه إيقاع الحج في العام المعيّن وفاءً بالنذر؛ ولو حج قبل ذلك العام، لم يُعتَدَّ بما جاء به عن نذره، كما قررناه في الصوم، فلو صُدّ بعد الإحرام وتحلَّلَ أو امتنعَ عليه الإحرام لمكان [الصدّ] (3)، فالمنصوص عليه، وهو ظاهر المذهب أنه لا يلزمه قضاءُ الحج.
وخرّج ابنُ سريج قولاً آخر أنه يلزمه القضاء، كما لو عيّن يوماًً للصوم المنذور، ثم طرأ فيه عذر، وهذا التخريج مع النص يقربان من الخلاف الذي ذكرناه في الأعذار الطارئة في أثناء السَّنَةِ المعيَّنةِ.
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 239.
(2) في الأصل: "اليوم ".
(3) في الأصل: " الصيد ".

(18/448)


ولو امتنع عليه الحج للمرض، أو لعدم الاستطاعة، فقد خرّج أصحابُنا هذا على الخلاف أيضاً، وفرق فارقون بين الصد بالعدو وبين الامتناع بهذه الأسباب، وينتظم من الصد وغيرِه من الأعذار ثلاثُ طرق: أحدها - وجوب القضاء.
والثاني - نفي القضاء.
والثالث - الفصلُ بين الصد بالعدوّ، وبين غيره من المعاذير، والفارق أن للصدّ مزيدُ وقعٍ ليس لغيره، ولذلك اختص جواز التحلل به.
فصل
قال: " ولو قال: لله علي أن أصوم يوم يَقْدَم فلانٌ ... إلى آخره " (1).
11871 - نُقدِّم على مقصود الفصل تفصيلَ المذهب في تبعيض الصوم بالنذر، فإذا أصبح الرجل صائماًً متطوعاً، ونذر إتمامَ الصوم في بقية اليوم، لزمه الوفاء بالنذر وفاقاً، ولو أصبح ممسكاً، وما نوى ليلاً، فالتطوع بالصوم ممكن منه بأن ينوي قبل الزوال أو بعده، على الخلاف المشهور في ذلك، فلو نذر أن يصوم [هذا اليومَ] (2) على هذا الوجه، وقيد النذرَ، ولم يُطلق التزام صوم يوم، فهل يلزمه الوفاء؟ فعلى قولين مأخوذين من تنزيل المنذور على واجب الشرع؛ فإن نزلناه عليه، لم يصحَّ النذرُ كذلك، وإن نزلناه على ما يصح -وإن لم يكن فرضاً- صح هذا ولزم.
والذي أراه أن الأصحَّ اللزومُ؛ فإني صوّرت [النذرَ] (3) مقيَّداً، والقولان جاريان في لفظٍ مُطْلَقٍ على الصلاة التي تتردد بين الركعة والركعتين.
ولو قال: لله علي أن أصليَ ركعة واحدة، فقد قال الأصحاب: لا يلزمه غيرها، وقالوا: لو قال: علي صلاة أقيمها قاعداً، يلزمه القيام إذا قيدنا المنذور بواجب الشرع، وتكلفوا فرقاً، ولا فرق؛ فيجب تنزيلها على الخلاف، وكيف لا يكون
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 239.
(2) زيادة من المحقق على ضوء السياق، وأخذاً من عبارة الغزالي في البسيط.
(3) في الأصل: " النية ". والمثبت من الشرح الكبير، حيث نقل الرافعي عبارة الإمام بنصها (الشرح الكبير: 12/ 372) ثم جاءت به (ق).

(18/449)


كذلك- وقد ذكرنا الخلاف في نذر الصوم نهاراً، حيث يجوز التطوع بالصوم، وهذا بالإضافة إلى الصوم الواجب شرعاً بمثابة الركعة إلى أقلِّ واجبٍ في الصلاة، وانتظم الصوم والصلاة على قضية.
ولو قال: لله علي صومُ يومٍ، لم يكفه أن ينوي نهاراً لاسم اليوم-[وإن] (1) قلنا: المتطوع لو نوى نهاراً، انعطفت النية- فلا يقع الاكتفاء (2) بهذا، والمنذور يومٌ.
[ولعِلّةِ] (3) مَنْعنا نذرَ صومِ بعضِ يوم، فلو قال: لله علي صومُ بعضِ يوم، فللأصحاب وجهان: أحدهما - أن النذر يلغو؛ فإنه [التزم] (4) ما لا يمكن الوفاء به. ومنهم من قال: يلزم صوم يوم كامل بنية مُبَيَّنة.
ويُخرَّج على هذا أنه لو قال: لله علي أن أركع أو أسجد -والركوع الواحد لا يلتزم بالنذر- فهل يلزمه ما يلزم ناذر الصلاة؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه آنفاً.
وكان شيخي يقطع بأن السجدة الفردة لا تلتزم بالنذر -وإن كان التالي يسجد- فإن السجدة الفردة من غير سبب ليست قربة على الرأي الظاهر كما قررته في كتاب الصلاة.
فهذا ما أردنا تقديمه.
11872 - والآن نعود إلى مقصود الفصل: فإذا قال: لله علي أن أصوم يوم يَقْدَم (5)
__________
(1) في الأصل: " فإن ". والمثبت من تصرّف المحقق، رعاية للسياق.
(2) سبق أن عَرَضت هذه المسألة، وقال الإمام: يكفيه نية صوم هذا اليوم، ويقع عن نذره، مخالفاً ما قاله هنا.
وقد سجل الغزالي ذلك في البسيط، حين عرض لهذه المسألة، حيث قال: " ولو قال: لله علي صوم يومٍ، فنوى نهاراً -والتفريع على تنزيل النذر على الممكن، لا على الواجب، وقلنا: إن الناوي نهاراً صائم من أول اليوم- فالقياس أنه يكفيه، كما ذكرنا من قبل. وقد ذكر الأمام هاهنا القطع بأنه لا يكفيه، وذكر في الفصل السابق أنه يكفيه، وأحدهما غلط لا محالة، أو فيه وجهان. والذي أظنه أنه يكفيه، والآخر بعيد، لأنه التزم صوم، وهذا صوم يوم، وإن جرت النية نهاراً " (ر. البسيط: الجزء السادس/ورقة 85 وجه).
(3) في الأصل: " ولعل ".
(4) في الأصل: "التزام".
(5) يقدم: من باب تعب.

(18/450)


فلان، فإن قَدِم ليلاً، لم يلتزم شيئاً؛ لأنه قيد القدوم باليوم، وإن قدم نهاراً، فالوفاء بالنذر غيرُ ممكن في يوم القدوم مذهباًً واحداً.
فإن قيل: هلاّ خرّجتموه على جواز تبعيض اليوم في نذر الصوم؟ قلنا: ما قدمناه فيه إذا خصص النذر ببعض اليوم، وهذه المسألة التي نحن فيها مفروضة فيه إذا سمى اليوم، فقال: يومَ يقَدُم فلان، فيلزم بموجب اللفظ صوم جميع اليوم، فإذا تعذر الوفاء في هذا اليوم، فلا يجب الإمساك أصلاً، ولو كان أصبح صائماًً متطوعاً، فلا يلزم إتمام الصوم؛ فإن ما يأتي به لا يقع وفاء، فلا وجه لإلزامه.
وهل يجب قضاء يوم بسبب ما تعذر؟ في المسألة قولان مشهوران، ومأخذهما مما هو متفرِّع عليهما، وهو من باب التفاف الأصل بالفرع والفرع بالأصل- وذلك أنه إذا قدم نهاراً، فتقدير وقت الوجوب يعقب القدوم أم يستند إلى أول النهار؟ فيه قولان، وعليه يخرج الأصحاب الطلاق والعَتاق إذا عُلق بيوم القدوم.
فإذا قال مالك العبد: أنت حر يوم يقدَم فلان، ثم باعه بكرةً، وقدِم فلان ضَحْوةً، فإن قلنا بالتقدم، حكمنا ببطلان البيع ومصادفته حراً، وإن حكمنا بالاستعقاب، فالبيع على نفوذه، والصفة لم تصادف محلاً (1)، وفرض ذلك في الطلاق ظاهر.
ووجه بناء غرضنا من الصوم أننا إن أسندنا (2)، أوجبنا قضاء يوم؛ فإن يوم القدوم يوم تبيّنا استحقاق صومه بالنذر، وقد عسر أداؤه، فلزم قضاؤه. وإن لم نقل بالإسناد، فالقدوم يستعقب تقدير الوجوب، فكأن الناذر نذر إيقاع الصوم في بعض يوم، وذلك مستحيل لا يلتزم. هذا وجه البناء.
فإن قيل: ذكرتم خلافاً بأن من نذر صوم نصف يوم هل يلزمه صومُ يوم تكميلاً لما بعّضه، وتنزيلاً للفظ البعض على الكل. قلنا: ذاك فيه إذا أطلق التزام صوم نصف يوم، وصوم نصف يوم صحيح مع نصفٍ آخر، وكان التكميل على هذا التأويل. فأما
__________
(1) المراد بالصفة الصفة التي علق العتق عليها، وهي قدوم فلان، فحين وقعت الصفة لم تصادف محلّ العتق المعلق عليها، فلم يكن يملك الناذر عبداً يعتق.
(2) أسندنا: أي حكمنا بأن الوجوب يستند إلى أول نهار القدوم.

(18/451)


إذا نذر صومَ يوم مُوقَعاً في بعض يوم، فهذا مستحيل، والمستحيل لا يُلتزَم، وليس [يُكمّل] (1)، وقد قال الأصحاب لو قال: لله علي أن أحج في هذه السنة، وقد بقي يومٌ، وهو على مائة فرسخ، فالنذر باطل، وإذا بطل هذا لِعُسْر التوصل، فلأن يبطل ما لا يتصور أولى.
ولو قال: لله علي أن أصوم يوم يقدَم فلان، وجرينا على مذهب الإسناد، فنوى صوم يوم، وبيت النية بناء على وعد كان [يثق به] (2) في مقدَم ذلك الشخص، ثم صدق الموعد؛ ففي صحة الصوم عن النذر وجهان: أحدهما - المنع لتردد النية.
والثاني - الصحة للبناء على أصل مظنون، وقد ذكرنا لهذا نظيراً في صوم يوم الشك.
فصل
قال: " ولو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدَم فيه فلان أبداً ... إلى آخره " (3).
11873 - قال الأصحاب: غرض الفصل التزام صوم يوم معيّن من الأسبوع أبداً، فلا معنى للفرض في القدوم، فإذا قال: لله علي أن أصوم يوم الإثنين أبداً، لزمه الوفاء بنذره.
والتفريع على التعيين ووجوب الوفاء به، فإن صُوّر هذا في يوم القدوم، [ساغ] (4)، فيلزم صوم ذلك اليوم من كل أسبوع في المستقبل، وفي يوم قدومه التفصيلُ الذي ذكرناه.
ثم إن صادف اليومَ المعيَّنَ، عُذرٌ، ففي وجوب القضاء الخلافُ الذي ذكرته في اعتراض المعاذير في السنة المعيّنة.
__________
(1) في الأصل: " تكميل ".
(2) في الأصل: " بناء على وعدٍ كان منويه " وهو تصحيف واضح. والمثبت من مختصر العز بن عبد السلام.
(3) ر. المختصر: 5/ 240.
(4) في الأصل: " شاع ".

(18/452)


ولو صادف ذلك اليومَ يومُ حيضٍ، وما كان غلبت لها عادة في ذلك اليوم، ففيه الخلاف المقدم.
ولو كانت تحيض عشرةَ أيام، فالمذهب أن ما يتعطل في نوبة حيضها لا يُلتزم قضاؤه، وإن كان الصوم في يوم الحيض مقضياً في رمضان؛ لأنه إذا غلب على الظن فساد يومٍ في نوبة، فهي في مفتتح أمرها لا تكون ملتزمةً لصوم اليومِ في تلك النوبة، ولو قدرناها ملتزمةً، لكانت ناذرةً صوم يوم من الحيض، وإذا نذرت المرأة صوم أيام الحيض، لم يلزمها قضاء.
ومن أصحابنا من أوجب القضاء؛ لأن امتداد نوبة الحيض مظنون.
ولو صادف اليومُ المعينُ يومَ العيد، ففي القضاء وجهان، وليس كما لو نذر الناذر صوم سنة معينة، فلا قضاء في مقابلة العيدين، وأيامِ التشريق، وأيامِ رمضان؛ لأن هذه الأيام تقع في السنة المعينة لا محالة؛ فهي مستثناة شرعاً، وموافقة اليوم المعين يوم عيد ليس مما يقع قطعاً.
ومن لم يوجب القضاء قال: إذا وقع، فقد تبين أنه مما لا بد منه؛ فإن معلوم الله لا يتغير.
قال الأصحاب: الأثانين الواقعة في رمضان لا يقضيها؛ [فإنها تقع] (1) لا محالة إلا الخامسة منها، [فإنه] (2) يقِع في كل شهر كلُّ يومٍ أربعَ مرات قطعاً، والخامس على التردد، وما يقع على التردد يُخرَّج على الخلاف.
ولو نذر صوم الإثنين أبداً، ثم التزم بكفارة صوم شهرين متتابعين بعد النذر، فإذا أراد صوم الشهرين، جاز له ذلك، ووقع عما نوى، ويلزمه قضاء تلك الأيام الواقعة في الشهرين؛ فإنه أدخل على نفسه بعد النذر التزام الشهرين، ولم يكن هذا كالمعاذير التي تطرأ، ولو كان لزمه صوُم الشهرين من قبلُ، فنذر صوم الأثانين بعد ذلك، فالأصح أنه إذا صام الشهرين، لم يلزمه قضاءُ ما يقع في الشهرين من الأثانين
__________
(1) في الأصل: " فإنها لا تقع ".
(2) في الأصل: " فإنها ". والمثبت من (ق).

(18/453)


لا محالة، كما يقع منها في شهر رمضان، والجامع تقدم الوجوب على نذر صوم الأثانين.
وأبعد بعض أصحابنا فأوجب القضاء، وإن تقدم وجوب الشهرين بخلاف رمضان، وتشوف إلى الفرق بين ما يجب بإيجاب الله تعالى، وبين ما يجب بفعل الناذر. وهذا ليس بشيء.
فصل
11874 - إذا نذر صوم يوم العيد، لم يلزمه شيء، كما لو نذرت المرأة صوم أيام حيضها، فإن الصوم لا يلزمها.
ومعتمد المذهب أن يوم العيد لا يقبل الصوم كأيام الحيض، والخلاف مع أبي حنيفة (1) رضي الله عنه مشهور. وفي [نذر] (2) صوم يوم الشك خلاف، وكذلك في نذر الصلوات في الساعات المكروهة، وقد تقدم ذلك كلُّه مع زوائدَ ومزايا.
فرع:
11875 - من نذر صوم الدهر، لزمه الوفاء، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام الدهر، فلا صام " (3) محمول على صوم العيدين، وأيام التشريق وفاءً بالاستغراق، وهذا مُحَرَّمٌ.
ثم إذا أفطر الناذر في يومٍ من غير عذر، لم يُتصور منه قضاؤه؛ فإن سائر الأيام مستحقة للنذر أداءً، فالوجه أن يبتدر، ويتصدق بمُدٍّ؛ فإن الصوم المنذور يقابَل بالفدية التي يقابل بها صوم رمضان على المذهب الظاهر.
ولو أفطر يوماً بعذر، فلا قضاء، ولا فدية. كما لو أفطر في رمضان بعذر، ومات قبل التمكن من القضاء.
ولو أفطر يوماًً من غير عذر، ثم نوى قضاء ذلك اليوم، فهل يصح -وإن كان
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 325، رؤوس المسائل: 522 مسألة: 381.
(2) زيادة من (ق).
(3) حديث " من صام الدهر فلا صام " متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما (البخاري: الصيام، باب حق الأهل في الصوم، ح 1977، مسلم: الصيام، باب النهي عن صوم الدهر، ح 1159).

(18/454)


الواجب غيرَ ما فعل-؟ الوجه أن يصح ثم يلزمه بدلُ ما تركه من الأداء في ذلك اليوم، المُدُّ الذي ذكرناه.
ولو تمادى على هذا النسق، فلا يستفيد بهذا إلا تَرْكَ الواجب، والانتسابَ إلى المعصية، والتزامَ مُدٍّ في آخر الأمر.
وإذا قلنا: يصوم عن الميت وليّه، فإذا أفطر يوماً عمداً، فهل يصوم عنه وليه في حياته؛ من جهة تعذر القضاء منه؟ الظاهر عندنا جواز ذلك، وهذا فيه احتمال؛ من جهة أنه قد يطرأ عذر يجوز ترك الصوم له ويتصور تكلف القضاء عنه.
فرع:
11876 - إذا نذر فعلاً مباحاً، لم يلتزمه، مثل أن يقول: " نذرت أن أدخل الدار "، ولكن هل يَلْتزِم الكفارةَ؟ قال القاضي: يلتزمها، وتعلق بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نذر وسمّى فعليه ما سمى، ومن نذر ولم يسمّ، فعليه كفارة يمين " (1). وهذا (2) غير صحيح عندنا. بل قوله نذرت [أن أدخل] (3) كناية في اليمين، كما ذكرته في موضعه، فإلحاق هذا بالأيمان مطلقاً لا وجه له، والخبرُ فيه إجمالٌ. وهو مردد بين الغَلَقِ وبين النذر.
ولو نذر معصيةً مثل أن يقولَ في نذره: أشرب الخمر، أو تقول المرأة: أصوم أيام حيضي، فقد ذكر القاضي وجهين في ذلك، وقطع في المباحات بلزوم الكفارة، وهذا خبطٌ. والوجه تخريج ذلك على أن النذر هل يكون كناية في اليمين؟ ولا معنى لتخصيص المباحات عن المعاصي؛ فإن المباح لا يلتزم عينُه بالنذر.
ومما يجب التنبه له أنا إذا حملنا هذا على اليمين، فالكفارة تقف على الحِنث،
والقاضي ألزم الكفارة من غير حِنث؛ تمسكاً بالخبر، وقطع في المباح، وردّد الجواب في المحظور مَصيراً إلى أن لفظ النذر يناقض المعاصي، وقد رأيت لصاحب التقريب قولاً حكاه عن تخريج الربيع موافقاً لما ذكره القاضي، نقله وزيّفه.
__________
(1) حديث " من نذر وسمّى فعليه ما سمّى ... " رواه البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً، وذكر أنه روي أيضاً عن ابن عباس موقوفاً (السنن الكبرى: 10/ 72).
(2) " وهذا غير صحيح ": الإشارة إلى كلام القاضي، لا إلى الحديث.
(3) في الأصل: أن لا أدخل.

(18/455)


ويخرج على ذلك ما إذا نذر أن يذبح ولده، فإنه نَذْرُ معصية، ففي الكفارة الترتيب الذي ذكرناه. وأبو حنيفة (1) رضي الله عنه يوجب على ناذر ذبح الولد ذبحَ شاة.
فرع:
11877 - إذا قال: لله علي صوم، إن شاء الله- فقد قال القاضي: لا يلزمه بالنذر شيء. وهذا صحيح.
ولو قال: لله علي صوم إن شاء زيد، فشاء زيد، قال القاضي: لا يلزمه شيء؛ فإن الناذر يجب أن يجزم النذر لله تعالى، فإذا ردد، لم يكن متقرباً.
وهذا عندي خطأ؛ فإن تقديره إن شاء، فلله علي صوم، وهو بمثابة ما لو قال: إن قدم زيد، فلله علي كذا من صوم أو غيره.
...
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 316، رؤوس المسائل: 523 مسألة: 382، الغرة المنيفة: 186، الاختيار: 4/ 78.

(18/456)