نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب عتق أمهات الأولاد
قال الشافعي: "وإذا وطىء أمته، فولدت ما يبين أنه من خلق الآدمي ... إلى آخره" (1).
12655 - معظم مسائل هذا الباب مكرر في الكتب من غير إحالة، ونحن لا نعيد مما جرى ذكره مستقصى شيئاً، ونقتصر على ما يليق بتمهيد القاعدة، ونذكر من المسائل ما لم يسبق ذكره، أو لم نستقصِ جوانبَه.
فإذا أولدَ الرجل جاريتَه، وانتسب الولدُ إليه، كما تمهد وجه انتساب أولاد الإماء إلى السادة، فالمذهب الذي يجب القطع به ثبوتُ حرمة العَتاقة استحقاقاً على وجه لا يفرض زوالُها، ثم حُكْمُ الاستيلاد على الجملة أنه يمتنع بيع المستولدة، وإذا مات مولاها، عتقت عتقاً مستحقاً، مقدماً على حقوق الغرماء، فضلاً عن الوصايا، وحقوق الورثة، وهذه الحرمة المتأكدة تنزل منزلة الاستهلاك الحكمي الذي لا يفرض له مستدرك.
ولو استولد المريض جاريته في مرض الموت، تأكدت الحرمة غيرَ محتسبة من الثلث، وكان (2 استيلاده كاستيلاد الصحيح المطلق، وهذا يحقق كون 2) الاستيلاد استهلاكاً حكمياً.
هذا هو الأصل، وبه الفتوى، واتفق عليه علماء الصحابة في زمن عمرَ وعثمانَ، ثم رأى عليُّ في زمانه بيعَ المستولدة، وقال: " اتفق رأي ورأي عمر على أن أمهات الأولاد لا يُبَعْن، وأنا الآن أرى أن يُبَعْن ". فقال عبيدةُ السلماني: "يا أمير المؤمنين:
__________
(1) ر. المختصر: 5/ 286.
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 5).

(19/497)


رأيك في الجماعة أحب إليّ من رأيك وحدك في الفرقة" (1).
واشتهر من نقل الأثبات إضافُة قولٍ إلى الشافعي في جواز بيع أمهات الأولاد، نص عليه في القديم، وهو في حكم المرجوع عنه، فلا عمل به، ولا فتوى عليه.
وسنذكر في خاتمة الباب اختلافاً في الأخبار والآثار، ونعلِّق بها سببَ اختلاف القول، وإنما لم نقدمها ليكون اختتام الكتاب بأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن رُمنا التفريع على القول القديم؛ فللأئمة طريقان: قال صاحب التقريب، والشيخ أبو علي، وطوائف من أئمة المذهب: من جوّز بيع أم الولد، قضى بأنها رقيقة، ولا حكم للاستيلاد فيها، ولكنها اشتملت على الولد، ثم نَفَضَتْه، وقالوا: إذا مات المولى، لم تعتِق، ولا يفيدها الولدُ استحقاقَ العَتاقة في الحياة، ولا حصولَها عند الممات، وليست كالمدبرة؛ فإن عتقها معلق بالموت، والشرع صحح ذلك التعليق.
[و] (2) قال شيخي والصيدلاني ومعظم حملة المذهب: المستولدة تعتِق بموت المولى، ولكن لا يمتنع بيعُها في حياة المولى.
ثم لعلّ هؤلاء يقولون: تحصيل العَتاقة من رأس المال، ولا يمتنع أن يكون كعتق المدبر، ولا ثَبَتَ عندنا في هذا الطرف من طريق النقل.
12656 - ومما نذكره في تمهيد القول في الاستيلاد أنا إذا منعنا بيعَ المستولدة، فلو قضى قاضٍ ببيعها، فقد ذكر الأئمة اختلافاً في أن قضاءه هل ينفذ، أم هو منقوض؟
وهذا التردد بناه الشيخ أبو علي على مسألة أصولية في الإجماع، وذلك أن العلماء اعتقدوا حصولَ إجماع الصحابة في مَنْع بيع المستولدة، ولكن كان خلافُ عليٍّ قبل
__________
(1) أثر علي رضي الله عنه رواه عبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في الكبرى، قال الحافظ عن إسناد عبد الرزاق: وهذا الإسناد معدود في أصح الأسانيد. (ر. مصنف عبد الرزاق: 7/ 291 ح 13224، البيهقي: 10/ 343، 348، التلخيص: 4/ 403)، وسيق كلام عبيدة السلماني على نحو آخر سيأتي قريباً.
(2) الواو زيادة من (ت 5).

(19/498)


انقراض العصر، وقد اختلف الأصوليون في أنا هل نشترط في تحقق الإجماع انقراض العصر؟ فمن لم يشترطه، نقَضَ القضاءَ بالبيع، وقدره حائداً عن مسلك القطع، ومن شَرَطَ في انعقاد الإجماع انقراضَ العصر رأى المسألةَ مظنونةً، والقضاء لا ينتقض في مظان الظنون.
ومما نستكمل به، ما ذكرناه في تأكد حرمة الاستيلاد على القول الصحيح أنه لو شهد على إقرار السيد بالاستيلاد شاهدان، وجرى القضاء بشهادتهما، ثم رجعا؛ قال الشيخ أبو علي: لا يغرمان شيئاً؛ فإنهما لم يُفسدا المالية، ولم يحققا العتق في الحال، وإنما امتنع البيع بشهادتهما، هكذا قال، وقطع بذلك قوله، ولست أدري ماذا يقول إذا مات المولى، وفات الملك بسبب الشهادة؟
والذي نراه أن الغرم يجب في هذه الحالة، ثم يغرم الشهود [للذين] (1) كانت الرقبة تصرف إليهم لولا الاستيلاد، إذا كانت تلك الجهة في الاستلحاق قائمة بعد الموت؛ إذ الشهادة على الاستيلاد لا تنحط عن الشهادة على تعليق العتق. ولو شهد شاهدان عليه (2)، ووجدت الصفة، وجرى القضاء بالشهادة، فعلى شهود التعليق الغرم، ثم لا يُغَرَّمون قبل وجود الصفة.
ولو فرق فارق بين التعليق وبين الاستيلاد، وقال: لا يمتنع بالتعليق المجرد قبل وجود الصفة شيء من التصرفات، ويمتنع بالاستيلاد البيعُ، والرهنُ، والتمكنُ من الاعتياض، وهذا إيقاع حيلولة بين المالك وبين التصرفات، فينبغي أن يتضمن التغريمَ، كما لو أبق العبد من يد الغاصب؛ فإن الغرم يجب، وإن كان لا يمتنع على المغصوب منه ضروب من التصرفات في الآبق كالعتق، وقد يتوصل بإعتاقه إلى إبراء ذمته عن الكفارة.
قلنا: لا اغترار بهذا، والمستولدة على حقيقة الملك، وامتناع البيع لا يتقوّم، والغاصب يغرم، لأنه في عهدة ضمان يده إلى عَوْد الملك إلى مستحقه.
__________
(1) في النسختين: " الذين ". والمثبت من تصرف المحقق.
(2) عليه: أي على التعليق.

(19/499)


12657 - وقد نجز ما أردنا ذكره في تأسيس الاستيلاد، ثم الكلام بعد هذا يقع في فصولٍ: منها - انتساب الولد، وقد مضى، ومنها - صفة الولد، فإن كان تَخَلَّقَ، حصل الاستيلاد بانفصاله، وإن لم يتخلق، فقد مضى القول فيه مستقصى، ونقلنا النصوص في انقضاء العدة، ولزوم الغُرّة، وحصول أمية الولد. وذكرنا اختلاف الطرق، فلا عود ولا إعادة.
ومنها - التفصيل في الجهات التي يحصل العلوق بها، فنقول: من نكح أمة، فعلقت منه في النكاح، فالولد رقيق، فلو ملك الأمَّ، لم تصر أمَّ ولدٍ عندنا، خلافاًً لأبي حنيفة (1)، وعماد المذهب أن أمية الولد تتبع حريةَ المولود، فإذا كان علوق المولود على الرق، فلا تتعلق به حرمة الاستيلاد.
ولو وطىء جاريةً بشبهة: حسبها مملوكته، فالولد حر، ولا شك أن الاستيلاد لا يثبت في الحال لمصادفته ملكَ الغير، فلو ملكها الواطىء، ففي حصول الاستيلاد عند ملكها قولان مشهوران للشافعي رضي الله عنه: أحدهما - أنها لا تصير (2) مستولدة لوقوع العلوق في ملك الغير، ولو كان هذا العلوق يثبت أمية الولد، لما بَعُد (3) أن يقتضيها على الفور إذا كان المولِّد (4) موسراً، وكنا ننقل الملك إليه، كصنيعنا في تسرية العتاقة على القول الأصح، إذا فرعنا على التعجيل، فإذا لم نفعل ذلك، فلا أثر للعلوق فيها في المآل، كما لا أثر له في الحال.
والقول الثاني - أن الحرمة تثبت إذا ملكها، لحرمة الحرية في الولد، وهذه العُلقة [تتشبّه] (5) باقتضاء البعضيةِ العتقَ عند حصول الملك، فالأب يعتِق على ابنه، والابن يعتِق على أبيه.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 377، المبسوط: 7/ 154، تبيين الحقائق: 3/ 104، الاختيار: 4/ 33.
(2) في ت 5: " أنها تصير ".
(3) ت 5: " أبعد ".
(4) في الأصل: " الولد ". والمثبت من (ت 5).
(5) في الأصل: (تُنشئيه) بهذا الرسم، والنقط، والضبط، بل بوضع الهمزة على الياء، ولم نر همزة غيرها في النسخة كلها. والمثبت من (ت 5).

(19/500)


12658 - وإذا أردنا ضبطَ المذهب، أثبتنا ثلاث رتب: إحداها - حصولُ العلوق في الملك، وهذا يستعقب حرمةَ الاستيلاد. والثانيةُ - حصول العلوق على الرق، وهذا لا يثبت الاستيلاد ولا يُفضي إليه، ولو اشترى ولده وأمّه، عَتَقَ الولد، والأم رقيقة، أجمع الأصحاب عليه.
وإن حصل العلوق على الحرية، ولم يصادف الإعلاقُ الملكَ، فهذه المرتبة الثالثة. وفيها القولان، وهذا لا يتم إلا بذكر صورة:
فإذا غُرّ الرجل بحرية أمةٍ، وعلقت منه على الغرور بولدٍ حر، فلو ملك الأم: فهذا موضع التردد، فلا يمتنع طرد القولين بحصول العلوق في الولد على الحرية، والأفقه عندنا القطع بأنه أمية الولد لا تثبت بحصول العلوق في النكاح، ومقتضاه لولا الظن، رق الولد، فالغرور مقصور على المولود في نكاح الغرور. فإذا وطىء جارية الغير، وحسبها جاريَته، فالظن شامل للأم والولد.
ومن أحاط بمسالك الكلام، استبان ضعفَ القول بحصول الاستيلاد في وطء الشبهة، فلا ينبغي أن يلحق به صورة الغرور.
12659 - ومما يتعلق بأصول الباب الكلامُ في أولاد المستولدة، فنقول: إذا أتت أم الولد بولدٍ من سفاح أو نكاح -إن صححناه- فولدها بمثابتها: لا يباع، ولا يرهن، ويَعتِق بموت السيد، كما تعتق الأم، ولو أُعتقت الأم، لم يعتِق الولد، فإن ولدها يعتق بما تعتِق به، ولا يعتِق بعتقها، فالمستولدة وولدها كمستولدتين وليس (1) هذا كحكمنا بعتق ولد المكاتب إذا عتق المكاتب؛ فإنه تبع المكاتب تبعية الأكساب.
ولو ماتت المستولدة، فقد فات العتق [فيها] (2)، وهو منتظر في ولدها، بناء على ما قدمناه من أن الولد يعتِق بما تعتِق الأم به.
وإذا فرّعنا على أن الموطوءة بالشبهة إذا ملكها الواطىء، صارت أمَّ ولد، فلو كانت أتت بأولاد على الرق قبل أن ملكها، ثم إن الواطىء اشتراها، واشترى
__________
(1) ت 5: " هذا لحكمنا " بدون (وليس).
(2) في الأصل: " منها ". والمثبت من (ت 5).

(19/501)


أولادها، وقلنا: إنها أم ولد، فلا خلاف أن أولادها، لا تثبت لهم حرمة الاستيلاد؛ فإن حرمة الاستيلاد تثبت بعد الملك، ولا تنعطف، والأولاد حصلوا على الرق المحقق، قبل ملك الأم.
فلو اشتراها، وهي حامل بولد رقيق، فهذا وضع النظر: يجوز أن يقال: تَعدِّي الحرمة إلى الولد يخرّج على القولين في تعدي حرمة التدبير إلى الولد.
وفي كلام الصيدلاني رمز إلى ذلك، ووجهه أن هذا ولد لم يحصل العلوق به بعد الاستيلاد، ويتجه عندنا القطع بتعدية حرمة الاستيلاد لوجهين: أحدهما - أن الحرمة تأكدت فيها تأكداً لا يرفع، والولد متصل، والتدبير عرضة الارتفاع. ثم قد ذكرنا -في التدبير (1) - ترتيب المذهب في الولد المتصل حالة التدبير، وفي الولد الذي يحصل العلوق به بعد التدبير. فهذا تمام البيان في ذلك.
12660 - ومما يتعلق بأصول الباب: التصرفُ في المستولدة، أما جنايتها والجناية عليها، فمما مضى مستقصىً؛ والوصية لها قدمناها في الوصايا، والقسامة (2).
ْوأما ما يملكه المولى؛ فلا يمتنع عليه الوطء والاستخدام والإجارة.
وفي التزويج ثلاثة أقوال: أصحها - جواز التزويج، فإنه يستحلها بالملك، وله مهرها إذا وطئت، فيزوجها قهراً تزويجَ الرقيقة، وهذا اختيار المزني، وهو القياس الحق.
والقول الثاني - أنها لا تزوّج إلا برضاها؛ فإنها مستحَقَّة العتاقة، والتزويج لو ثبت، للزم إذا عتَقَت، وهذا تصرلث عليها بعد العتاقة المستحقة؛ فعلى هذا: لو رضيت، صح النكاح؛ فإن الحق لا يعدوهما.
والقول الثالث - أن النكاح لا يصح -وإن رضيت- فإنه لا حق لها في استقلال الحرية قبل حصولها، فلا حكم لإذنها، ولا سبيل إلى إثبات النكاح قهراً عليها، وهي
__________
(1) عبارة ت 5: " وقد ذكرنا ترتيب المذهب في الولد المتصل في التدبير ".
(2) سقط من (ت 5): والقسامة.

(19/502)


إلى الحرية مصيرها، ولمصيرها إليها أثر بيّن؛ فلأجله امتنع بيعها بخلاف الذي عُلِّق عتقُها. هذا بيان الأقوال.
قال الشيخ أبو علي: إذا قلنا: لا يزوجها السيد، فهل يزوجها القاضي؟ فعلى وجهين. وهذا حائد بالمرة عن السَّنن؛ فإن القاضي لا مجال له في التصرف في الأملاك، ثم محل الوجهين فيه إذا رضي المولى، ورضيت المستولدة، فإذ ذاك ذهب ذاهبون إلى أن القاضي يزوج بالولاية العامة عند (1 رضاها، كما يزوّج المجنونة عند مسيس الحاجة، غير أنا قد لا نراعي ثمَّ رضا الإخوة، وها هنا لا بد من رعاية 1) رضاهما، أما السيد، فلأن له حق الوطء (2)، وأما المستولدة، فلو لم نَرعْ رضاها، لأجبرها مولاها، وهذا وإن نزلناه على ما ذكرناه، فلا أصل له، ولا مدخل للقاضي في مثل ذلك قطعاً.
ومما يُذكر في الباب: القولُ في أم ولد الكافر إذا أسلمت، فلا شك أنها تحرم ولا تعتق، بل يحال بينها وبين مولاها؛ وقد مضى ذلك على الاستقصاء في مواضع.
فصل
12661 - قد قدمنا في صدر الباب تباين المذاهب واختلافَ قول الشافعي رضي الله عنه في بيع أمهات الأولاد. وسببُ التردد اختلافُ الأخبار والآثار. ونحن نذكر منها ما فيها مَقنع من مسموعاتنا.
أخبرنا الشيخ أبو سعد (3) عبدُ الرحمن بنُ الحسن الحافظ رحمه الله، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عمر العدل الدارقطني قال: أخبرنا محمدُ بنُ إسماعيل الفارسي
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 5).
(2) عبارة الرافعي: " لأن المهر له " (الشرح الكبير: 13/ 588).
(3) في (ت 5): " أبو سعيد ". وأبو سعد، عبد الرحمن بن الحسن هو الإمام الحافظ الحجة، المشهور بابن عَلِيك النيسابوري، روى عن الدارقطني وأبي بكر بن شاذان وخَلْق، وحدّث عنه أبو القاسم القشيري وإمام الحرمين. توفي سنة 431 هـ (ر. سير أعلام النبلاء: 17/ 509.
ولضبط اللقب انظر: الإكمال: 6/ 262، وتبصير المنتبه: 3/ 966).

(19/503)


قال: أخبرنا أحمدُ بنُ محمدِ بنِ الحجاج ابنِ رِشْدِين، قال: أخبرنا يونسُ بنُ عبد الرحيم العسقلاني، قال: وسمعه مني أحمدُ بنُ حنبل - حدثني رِشْدِين بنُ سعيد المَهْري، قال: أخبرنا طلحة بن أبي سعيد، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن يعقوب ابن أبي الأشج، عن بشر بن سعيد، عن خوات بن جبير: " أن رجلاً أوصى إليه، وكان فيما ترك أمُّ ولد له وامرأةٌ حرة، فوقع بين المرأة وبين أم الولد بعضُ الشيء (1) فأرسلت إليها الحرة، لتباعَنَّ رقبتك يا لَكْعاء، فرفع ذلك خواتُ بنُ جبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا تباع، وأمر بها، فأعتقت " (2).
أخبرنا الشيخ أبو سعد قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا ابن مبشر، قال: أخبرنا أحمدُ بنُ سنان، قال: حدثنا يزيدُ بنُ هارون، قال أخبرنا شَرِيكُ عن الحسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولدت منه أمتُه، فهي حرة من بعد موته " (3).
أخبرنا الشيخ أبو سعد قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا عمرُ بنُ أحمدَ الجوهري، قال: أخبرنا إبراهيم بنُ الحسن الهمذاني قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل الجعفري، قال: أخبرنا عبد الله بنُ سلمة عن حسين بنِ عبد الله بنِ عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أم إبراهيم أعتقها ولدها " (4).
__________
(1) في (ت 5): الشَّر، والمثبت من نص الحديث، وهو ما في نسخة الأصل.
(2) حديث خوات بن جبير رواه الدارقطني، والبيهقي، وفي إسناده رِشْدِين بنُ سعد، نقل في التعليق المغني الاختلاف فيه (ر. الدارقطنىِ ومعه التعليق المغني: 4/ 133 ح 28، البيهقي: 10/ 345).
(3) حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولدت منه أمته ... " رواه أحمد وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي. وفيه الحسين بن عبد الله الهاشمي، قال عنه الحافظ: هو ضعيف جداً. وقال: والصحيح أنه من قول ابن عمر. (ر. أحمد: 1/ 317، ابن ماجه: العتق، باب أمهات الأولاد، ح 2515، الدارقطني: 4/ 130 ح 17، الحاكم: 2/ 19، البيهقي: 10/ 346، 347، التلخيص: 4/ 401 ح 2738، 2739، ضعيف ابن ماجه للألباني: ح 547).
(4) حديث " أم إبراهيم أعتقها ولدها " رواه ابن ماجه، والدارقطني، والبيهقي، وقد ضعفه =

(19/504)


أخبرنا الشيخ أبو سعد، قال: أخبرنا الدارقطني، قال: حدثنا أبو بكر النيسابوري، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن بشر، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابراً يقول: " كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي صلى الله عليه وسلم حيّ، لا يرى بذلك بأساً " (1).
وعن عطاء عن جابر قال: " بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، فلما كان عمر، نهانا، فأنتهينا (2) ".
أخبرنا الإمام ركن الإسلام والدي أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسين (3) القطان، قال: أخبرنا عبد الله ابن جعفر، قال أخبرنا يعقوب بن سفيان (4)، قال حدثني سعيد بن عفير قال حدثني عطاف بن خالد، عن عبد الأعلى ابن أبي فروة عن ابن شهاب -في قصة ذكرها- قال ابنُ شهاب: قلت لعبد الملك بنِ مروان: سمعت سعيدَ بن المسيب يذكر: "أن عمر بن الخطاب أمر
__________
= الحافظ بالحسين بن عبد الله (ر. ابن ماجه: العتق باب أمهات الأولاد، ح 2516، الدارقطني: 4/ 131 ح 22، البيهقي: 10/ 346، التلخيص: 4/ 401، 402 ح 2740، ضعيف ابن ماجه للألباني: ح 548).
(1) حديث أبي الزبير عن جابر " كنا نبيع سرارينا ... " رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي، وصححه الألباني (ر. أحمد: 3/ 321، النسائي في الكبرى: العتق، باب في أم الولد، ح 5039، 5040، ابن ماجه: العتق، باب أمهات الأولاد، ح 2517، الدارقطني 4/ 135 ح 37، البيهقي: 10/ 348، التلخيص: 4/ 402 ح 2742، إرواء الغليل: 6/ 189).
(2) حديث عطاء عن جابر " بعنا أمهات الأولاد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ... " رواه أبو داود، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وصححه الألباني (ر. أبو داود: العتق، باب في عتق أمهات الأولاد، ح 3954، ابن حبان: 4308، 4309، مستدرك الحاكم: 2/ 19، البيهقي: 10/ 347، التلخيص: 4/ 402 ح 2742، إرواء الغليل: 6/ 189 ح 1777).
(3) وكنيته أبو الحسين، فهو أبو الحسين محمد بن الحسين بن الفضل القطان ت 415 هـ (سير أعلام النبلاء: 17/ 332).
(4) إلى هنا انتهى الموجود من نسخة الأصل حيث ذهب من آخرها مقدار ورقة إلا قليلاً، والمثبت بدءاً من هنا من (ت 5) من منتصف لوحة 210 ش.

(19/505)


بأمهات الأولاد أن يقوّمن في أموال أبنائهن بقيمة عدل، ثم يعتقن، فمكث بذلك صدراً (1) من خلافته، ثم توفي رجل من قريش كان له ابن أم ولد، قد كان عمر يعجب بذلك الغلام، فمر ذلك الغلام على عمر في المسجد بعد وفاة أبيه بليال، فقال له عمر: ما فعلت يا بن أخي بأمك؟ قال: قد فعلت يا أمير المؤمنين خيراً حين خيّرني إخوتي بين أن يسترقّوا أمي أو يخرجوني من ميراثي من أبي، فكان ميراثي من أبي أهون عليّ من أن تُسترقّ أمي. قال عمر: أو لستُ إنما أمرت في ذلك بقيمة عدل؟ [ما أتراءى رأياً، أو آمر بشيء إلا قلتم فيه!! ثم قام فجلس على المنبر، فاجتمع إليه الناس، حتى إذا رضي جماعتَهم، قال: يأيها الناس، إني كنت أمرتُ في أمهات الأولاد بأمرٍ قد علمتموه، ثم قد حدث لي رأي غير ذلك] (2) فأيما امرىءٍ كانت عنده أم ولد فملكها بيمينه ما عاش، فإذا مات، فهي حرة لا سبيل عليها " (3).
وروى الحسن الزعفراني تلميذُ الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه، وقدس روحه، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا إسماعيل ابن أبي خالد، عن عامر، عن عبيدة السلماني، قال: قال علي رضي الله عنه: " استشارني عمر في بيع أمهات الأولاد، فرأيت أنا وهو أنها عتيقة، فقضى بها عمرُ حياتَه، وعثمانُ بعده، فلما وَليتُ أنا رأيت أن أرقهن ".
قال: فأخبرني محمد بن سيرين أنه سأل عبيدة عن ذلك، فقال: أيهما أحب إليك؟ قال: " رأي عمر وعلي أحب إليّ من رأي علي حين أدرك الاختلاف " (4).
__________
(1) رقم المخطوط هنا لنسخة (ت 5) حيث انقطعت نسخة الأصل.
(2) ما بين المعقفين زيادة من السنن الكبرى.
(3) حديث عمر في منع بيع أمهات الأولاد، رواه البيهقي بهذه السياقة بعينها، بهذه الألفاظ ذاتها، لم يخرم منها حرفاً واحداً. (ر. السنن الكبرى: 10/ 343).
(4) حديث علي ورجوعه عن منع بيع أمهات الأولاد، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، على نحو ما ساقه الإمام حرفاً بحرف، ورواه عبد الرزاق في مصنفه على نحو آخر: حيث جاء فيه: " قال عبيدة: فقلت له (أي لعلي رضي الله عنه): " فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة -أو قال في الفتنة- قال: فضحك علي " (ر. السنن الكبرى: 10/ 343، ومصنف عبد الرزاق: 7/ 291).
ورواه البيهقي على نحو ما ساقه عبد الرزاق أيضاً. (الكبرى: 10/ 348). وقد أشرنا =

(19/506)


12662 - الكلام على تأليف الروايات، وتلفيقها، وتنزيلها على مأخذ الشريعة وتطبيقها، فنقول: ليس في قضايا الأخبار منعُ بيع أمهات الأولاد، وقوله عليه السلام: " أعتقها ولدها "، مُزالُ الظاهر مؤولٌ، ومعناه استحقاق العَتاقة عند الممات. وهذا [لا يشهد] (1) بمنع البيع في الحياة، ولكن متضمن الأحاديث حصول الحرية عند حلول المنية مقدمة على الديون والمواريث والوصية.
وهذه القضية في المعاني الكلية تميز المستولدةَ عن المدبرة، والمعلَّقِ عتقُها بالصفات المرعية، وإذا تقدم العتقُ على الأسباب جُمَع، آذن ذلك بامتناع الانقطاع بالابتياع وغيره من مقتضيات الارتفاع. وأما حديث جابر فليس فيه صدور بيع أمهات الأولاد عن تقرير المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال ابن عمر رضي الله عنه: كنا نخابر أربعين سنة، ولا نرى بذلك بأساً، حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة، فتركناها. هذا هو الممكن.
وفي النفس بقايا من الإشكال لأجلها اختلف قولُ الشافعي رضي الله عنه، ثم أجاب في كتبه الجديدة في خمسةَ عشرَ موضعاً بمنع البيع، واعتمد إضرابَ علماء الأمصار عن المصير إلى مذهب من يجبز البيعَ، والقولُ في ذلك يتبلق بمسألة أصولية، وهي أن العلماء إذا اتفقوا بعد الاختلاف، فهل نقضي بانعقاد الإجماع؟ وتحقيقُ ذلك يطلب من مجموعاتنا في الأصول.
فإن قيل: هلا تلقيتم ذلك من اشتراط انقراض العصر في انعقاد الإجماع؟ قلنا: [لا يستدّ] (2) هذا مع قول جابر كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر.
تم الكتاب بحمد الله وتوفيقه.
__________
= إليه آنفاً، وقد صحح الألباني الحديث في الإرواء: 6/ 189، 190، ح 1778.
(1) في المخطوطة -وهي وحيدة- " لا يشع ".
(2) في نسخة (ت 5)، وهي الوحيدة في هذا الموضع: لا يستمر. والمثبت من تصرف المحقق.

(19/507)


الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. حسبنا الله ونعم الوكيل.
...
يقول محققه العبد الفقير إلى رحمة ربه، الراجي عفوه ورضوانه:
الحمد لله، له الحمد كله، والشكر كله، سبحانه جل جلاله، لا حول ولا قوة إلا به، أنعم علينا وحقق أملنا، وأمدنا بعونه وقوته، فانتهينا من قراءة هذا الكتاب الجليل وتحقيقه بعد عملٍ دائب استمر أكثر من عشرين عاماً، وكان الفراغ منه في وقت السحر، من الليلة الثالثة من ليالي العشر الأواخر من رمضان المعظم وهي الليلة التي صبحها الخميس الثالث والعشرين من شهر رمضان لسنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وذلك بمدينة الدوحة عاصمة دولة قطر حماها الله وكلَّ بلاد المسلمين، وطهرها وكل جزيرة العرب، وكل دار الإسلام من رجس الكافرين الخائنين، وكل الكائدين الماكرين، وأعاد المسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم، وردّ لهم مجدهم الغارب، وعزّهم الضائع، وجعل الصولة لهم على عدوهم، وطهر المسجد الأقصى من دنس الصهاينة، وأعاد الأرض المباركة حوله لأهلها طاهرة مطهرة، ظافرة منصورة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وهو نعم المولى ونعم النصير.

(19/508)


الكتاب من غير فهرس كنز مغلق، فاقرأ الفهرس قبل كل شيء
شيخ العربية
شيخنا العلامة محمود محمد شاكر (أبو فهر)

(20/5)


فلو كان الأمر بيدي، لمنعت تداول أي كتاب بدون أن تصنع له الفهارس العلمية المناسبة، صغر هذا الكتاب أو كبر، محققاً أو مؤلفاً، عدا القصص والمسرحيات.
عبد العظيم الديب

إن إصدار أي كتاب بدون فهارس تحليلية يعتبر جناية على الكتاب وعلى القارئ.
الدكتور عبد المجيد دياب
من كتاب: تحقيق التراث العربي، منهجه وتطوره

(20/7)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذه كلمات عن الفهرسة والفهارس، نقدمها بين يدي هذا المجلد، وهي كلمات ثلاث موجزة:
الأولى - عن نشأة الفهارس وعناية أمتنا بها.
الثانية - عن قيمة الفهارس العلمية وضرورتها.
الثالثة - عن عملنا في صناعة فهارس النهاية.

(20/9)


-1 -
تاريخ الفهارس وعناية أمتنا بها
رأى الناس أول ما رأَوْا الفهارس العلمية في مطبوعات المستشرقين المحققة، حيث وجدوهم يُلحقون الكتب بألوانٍ وأفانين من الفهارس مرتبةً على حروف المعجم، فمن فهرس للأعلام، ومن فهرس للشعراء، ومن فهرس للقبائل، ومن فهرس للأسانيد، ومن فهرس للألفاظ التي فسّرها المؤلف ... إلى غير ذلك بحسب ما يليق بكل كتاب.
رأى الراؤون ذلك، فظن منهم كثيرون أن هذا أمرٌ عن بِدْع المستشرقين، أو (إبداعهم) -كما يحلو لهم التعبير بذلك- حتى وقع في وهم الكثيرين -وبعضهم من أهل العلم- أن صناعة الفهارس شيء لم يعرفه علماؤنا وأئمتنا.
وهذا خطأ كبير، ووهم غليظ، أوقعهم فيه خضوعهم وخنوعهم لكل ما يجيء من الغرب؛ فإن صروف الزمان التي أزرت بنا، وجعلتنا في ذيل الأمم، جعلت الكثيرين منا -للأسف- مقهورين مهزومين، عيونهم على الغرب البازغ دائماً، يَعْمَون عما كان من أُمتنا وأئمتنا في أيام ازدهار حضارتنا، أيام أن كان لنا القيادة والريادة للبشرية نحو ألف عام.
نعم، سبقت أمتنا إلى الترتيب المعجمي (الألفبائي) سبقاً بعيداً؛ "فإن أول معجم هجائي إنجليزي لم يظهر إلا في القرن السابع عشر، ولم يكن معجماً بالمعنى المعروف، إنما كان مجموعة كلمات صعبة دراسية، وأول معجم لطيني (1) (لاتيني) ظهر في أوربة كان في القرن الثالث عشر أو بعده" (2).
__________
(1) يرى شيخنا العلامة الشيخ أحمد شاكر أن هذا هو الرسم الصحيح لكلمة (لاتيني).
(2) عن مقدمة الشيخ أحمد شاكر لسنن الترمذي: 46.

(20/10)


سبقُ المسلمين إلى الفهارس وابتكارهم لها
تجلى سبقُ المسلمين إلى الفهارس واختراعهم لها في مجالات ثلاثة هي:
1 - معاجم اللغة.
2 - كتب الحديث.
3 - كتب الطبقات والرجال.
...
1 - ففي مجال اللغة:
رأينا إمام اللغة والعربية مخترعَ علم العروض، الخليل بنَ أحمد الفراهيدي في أواسط القرن الثاني الهجري يؤلف كتاب (العين) مرتباً على حروف المعجم، ولكنه رتب حروفَ المعجم ترتيباً عجيباً يليق بعبقريته؛ إذ رتب الحروفَ بحسب مخارجها من أقصى الحلق، وصنع معجمه الذي سُمي كتاب (العين) لأنه الحرف الذي بدأه به؛ فهو الحرف الذي يخرج من أقصى الحلق (1).
وتتابع العلماء بعد الخليل، فوضعوا كتب اللغة على حروف المعجم ولكن بترتيب (ألفباء)؛ إذ وجدوا أن ترتيب الحروف على ما صنع الخليل فيه عنت وإرهاق، لا يتقنه إلا من كان مثل الخليل ... وكلهم اعتبر أصل الكلمة، بعد نفي الزوائد عنها، ثم رتبوا:
فمنهم من رتب على أوئل الكلمات، فبدأ بما أوله همزة، ثم باء وهكذا، وذلك كصنيع ابن دُريد المتوفى 321هـ في كتابه (جمهرة اللغة)، والفارابي أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم المتوفى 350 هـ في كتابه، أو معجمه (ديوان الأدب).
والزمخشري، أبي القاسم، جار الله، محمود بن عمر المتوفى 538 هـ في معجمه الفذ الذي لم ينسج على منواله ناسج: (أساس البلاغة).
__________
(1) اقرأ قصة هذا الكتاب كاملة وما قيل في كيفية ابتكاره وبنائه في مقدمة الشيخ شاكر نفسها ص 47.

(20/11)


ويدخل في هذا الباب أيضاً صنيع أبي بكر محمد بن عُزير السجستاني المتوفى 330 هـ في كتابه (غريب القرآن).
وأيضاً ما صنعه الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد المتوفى 502هـ في كتابه (المفردات في غريب القرآن).
وأما من رتب معجمه على أواخر الكلمات فمشهورون منهم:
الجوهري، أبو نصر، إسماعيلُ بنُ حماد، المتوفى 398هـ في كتابه؛ (تاج اللغة وصحاح العربية) ويشتهر بـ (صحاح الجوهري).
ومثله ابن منظور، جمال الدين أبو الفضل محمدُ بنُ المكرَّم المتوفى 711هـ في معجمه الشهير (لسان العرب).
وكذلك الفيروزآبادي مجد الدين أبو الطاهر محمدُ بنُ يعقوب المتوفى 817هـ في معجمه المعروف (القاموس المحيط).
ومما يستحق أن يذكر هنا أن الفيروزآبادي سمى كتابه (القاموس المحيط)، فوقع في الأوهام أن القاموس هو المعجم، وصار كثيرون يعبرون عن المعاجم: بقولهم (القواميس) وهذا وهم غليظ، جاء من تسمية الفيروزآبادي لمعجمه بالقاموس، مع أنه يقول في مقدمته "وأسميته القاموس المحيط" لأنه البحر العظيم، وكلمة (القاموس) معناها البحر. فكأنه سمى معجمه: (البحر المحيط).
* ويمكن أن يلحق بهذه الأعمال في مجال اللغة معاجم البلدان والمواضع، مثل (معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع) للبكري، أبو عبيد، عبد الله بن عبد العزيز، المتوفى 487هـ.
ومثل (معجم البلدان) لياقوت الحموي، شهاب الدين أبو عبد الله، ياقوت بنُ عبد الله، الحموي الرومي. المتوفى 626هـ.

(20/12)


2 - في مجال الحديث:
مبكراً منذ القرن الأول، وقبل الإذن بتدوين الحديث (1) بدأ تدوين الأطراف، وقد جمع العلامة المحدّث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله - عشرةَ نصوص شافية كافية شاهدة بالسبق المبكر إلى تدوين الأطراف، نكتفي منها بشاهد واحد:
"جاء في سنن الدارمي: 1/ 99 في (باب من لم ير كتابة الحديث) قولُ الإمام الدارمي: أخبرنا إسماعيلُ بنُ أبان، حدثنا ابنُ إدريس، عن ابن عون، قال: رأيت حمادَ بنَ أبي سليمان الكوفي التابعي المتوفى سنة 120هـ شيخُ الإمام أبي حنيفة- يكتب عن إبراهيم (2) فقال له إبراهيم: ألم أنهك -يعني عن كتابة الحديث-؟! قال: إنما هي أطراف".
فهذا نص ناطق مبين يشهد بأن كتابة الأطراف بدأت في القرن الأول؛ فقد كتب حمادُ بنُ أبي سليمان أطرافاً عن إبراهيم النخَعي المتوفى سنة 96هـ على حين كان دأبهم النهي عن كتابة الحديث في تلك الحقبة.
وقد عقب العلامة أبو غدة على هذه النصوص قائلاً:
"فهذه عشرةُ نصوص -وغيرها كثير- تُفيد أقدمية كتابة الأطراف، التي هي نوع من الفهرسة، وتفيد شيوعَها وانتشارها في ذلك العهد القديم بينهم، وقد كانت في القرن الأول والثاني من الهجرة عملاً خاصاً جزئياً، يقوم به المحدّث لنفسه، ليستذكر به الأحاديث.
ثم غدا هذا العمل في القرن [الثالث] (3) الهجري وما بعده من القرون المتأخرة
__________
(1) كان شيوخ الحديث وحملته ينهَوْن تلاميذهم الذين يحضرون مجلس السماع عن اصطحاب أدوات الكتابة، ويحذورنهم من كتابة الحديث؛ لئلا ينصرفوا عن الحفظ والاعتماد على الذاكرة؛ حيث كانوا يَرَوْن الحفظَ أدقَّ وأضبطَ من الكتابة، ولكنهم مبكراً أذنوا بتدوين الأطراف، إلى أن أذنوا بتدوين الحديث في مطلع القرن الثاني أو قبله بقليل.
(2) هو إبرهيم النَّخَعي، الكوفي، التابعي المتوفى سنة 96هـ.
(3) في الأصل: "الرابع" وأظنه سبق قلم، كما هو ظاهر من السياق، وكما سترى في التأريخ والاستشهاد بعمل من توفي سنة 401هـ.

(20/13)


عِلماً قائماً بنفسه، وأُلفت فيه تآليف كثيرة (1) ".
ثم ساق الشيخ أمثلة ونماذج لهذه الأطراف التي نَضِجت وصارت علماً قائماً بنفسه فذكر منها -ناقلاً عن (الرسالة المستطرفة لبيان كتب السنة المشرّفة) -:
* (أطراف الصحيحين): لأبي مسعود، إبراهيم بن محمد بن عُبيد الدمشقي الحافظ المتوفى 401هـ، ولأبي محمد خَلف بن محمد بن علي بن حمدون الواسطي المتوفى 401هـ، ولأبي نُعيم الأصبهاني المتوفى سنة 430هـ، وللحافظ ابن حجر المتوفى 852هـ.
* (أطراف الكتب الخمسة)، وهي البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي - لأبي العباس، أحمد بن ثابت بن محمد الطَّرقي الأصبهاني الحافظ المتوفى بعد سنة 520هـ.
* (أطراف الكتب الستة)، وهي الخمسة المتقدمة، ومعها كتاب سنن ابن ماجة، لمحمد بن طاهر المقدسي المتوفى 742هـ، وقد اختصره الحافظ الذهبي المتوفى 748هـ.
* (أطراف الكتب الستة) أيضاً للحافظ بن حمزة الحسيني الدمشقي المتوفى 765هـ، وهو المسمّى: (الكشاف في معرفة الأطراف).
* وكتاب (الإشراف على معرفة الأطراف)، أي أطراف السنن الأربعة، لأبي القاسم بن عساكر المتوفى سنة 571هـ.
وكتاب (الإشراف على الأطراف) أيضاً، لسراج الدين، عمر بن علي، الأندلسي، ثم المصري القاهري، المعروف بابن الملقن -شيخ الحافظ بن حجر- المتوفى 804هـ.
* في (أطراف الكتب العشرة) للحافظ بن حجر، وهو المسمى إتحاف المهرة بأطراف
__________
(1) من تتمة رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة) استخرجها الشيخ من مقدمة شيخه الشيخ أحمد شاكر لتحقيق سنن الترمذي، وعلق عليها، وأتمها بنحوٍ من نصفها. انظر الصفحات من 87 - 90.

(20/14)


العشرة، وهي الموطأ، ومسند الشافعي، ومسند أحمد، ومسند الدارمي، وصحيح ابن خزيمة، ومنتقى ابن الجارود، وصحيح ابن حبان، ومستدرك الحاكم، ومستخرج أبي عوانة، وشرح معاني الآثار، وسنن الدارقطني.
وإنما زاد العدد واحداً، لأن صحيح ابن خزيمة لم يوجد منه إلا قدر رُبعه.
وذكر أمثلة كثيرة نشُير إليها مجرد إشارة؛ طلباً للإيجاز، منها:
أطراف مسند الإمام أحمد لابن حجر، وأطراف الأحاديث المختارة للضياء المقدسي، لابن حجر أيضاً، وأطراف الفردوس له أيضاً.
وأطراف المسانيد العشرة للكناني البوصيري، أحمد بن محمد الكناني المتوفى بالقاهرة سنة 840هـ.
وتحفة الأشراف بمعرفة الأطراف للمزي (مطبوعة متداولة)، ومثلها (ذخائر المواريث) لعبد الغني النابلسي الدمشقي المتوفى 1141هـ (1).
فهذه نماذج حية شاهدة ناطقة بسبق المسلمين إلى ابتكار الفهرسة، والترتيب على حروف المعجم.
بابةٌ أخرى في صنع فهارس الأحاديث:
يقول العلامة المحدث الشيخ أحمد شاكر، بعد أن ذكر طرفاً من جهود المسلمين في ابتكار فهارس الأطراف، قال:
"ولم يكتف العلماء بهذا أيضاً، فاخترع الحافظ جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ نوعاً آخر من الفهارس لكتب الحديث، رتب الأحاديث فيه على حروف المعجم، باعتبار أوائل اللفظ النبوي الكريم، وعمل في ذلك كتباً كثيرة أشهرها (الجامع الكبير) أو (جمع الجوامع) والجامع الصغير ....
ومنذ بضع عشرات السنين صنع محمد الشريف بن مصطفى النوقادي من علماء
__________
(1) السابق نفسه من 91 - 94، واقرأ أيضاً الرسالة المستطرفة: 167 وما بعدها.

(20/15)


الآستانة، كتابين هما (مفتاح صحيح البخاري)، و (مفتاح صحيح مسلم) فرغ من تأليفهما سنة 1312هـ ... " (1).
عمل ابن الأثير:
الإمام مجد الدين، أبو السعادات، المبارك بن محمد -أحد الكَمَلة الثلاثة أبناء الأثير- صاحب (النهاية في غريب الحديث) المتوفى 606هـ.
هذا الإمام الجليل ألف كتابه (جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم) الذي جمع فيه بين البخاري، ومسلم، والموطأ، وأبي داود، والترمذي، والنسائي.
وقد تفنن في ترتيبه، وأبدع في تبويبه.
اختراعه لفهرسة الألفاظ:
وجد ابن الأثير أن جملة كبيرة من الأحاديث لا يخلص معناها، لتدخل في باب معين تطلب منه، فاخترع لها فهرسة أخرى، وطريقة للدلالة عليها، وهي طريقة الفهرسة على الألفاظ، يستهدي الطالب للحديث بمعرفة اللفظ المشهور فيه، فيطلبه في حرفه ومادته.
كان ذلك قبل ثمانية قرون من عمل المستشرقين (للمعجم المفهرس لألفاظ الحديث).
وقد وفَّى أخونا وصديقنا وشيخنا الشيخ أبو غدة وصفَ عمل ابن الأثير، وشرحه، وذكر نماذج له، وبين قيمته في تتمته لرسالة (تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة) التي أشرنا إليها آنفاً" (2)، فارجع إليها تفد علماً غزيراً.
3 - كتب الرجال والطبقات:
وهذا جانب آخر تجلى فيه سبق المسلمين إلى ابتكار الفهرسة والترتيب على حروف
__________
(1) ر. مقدمة الشيخ شاكر لسنن الترمذي: 59، 60 بتصرف يسير.
(2) اقرأ الصفحات من 76 - 87 من الرسالة المذكورة.

(20/16)


المعجم، وقد كان هذا مبكراً جداً، فأقدم كتاب معروف في رجال الحديث مرتب على الحروف صنعه الإمام البخاري المتوفى سنة 256هـ، وهو كتاب (الضعفاء الصغير) وهو مطبوع على الحجر طبعة قديمة (1).
وبعده (كتاب الضعفاء والمتروكين) للنسائي المتوفى 303هـ.
ثم ألف العلماء ما لا حصر له من الكتب في التراجم على اختلاف أنحائها ومراميها، مرتبة على حروف المعجم، وأول من عُني بذلك علماء الحديث، فقد صنعوا ما لم يصنعه أحد، ووصلوا إلى ما لم يصل إليه أحد.
وها هي كتب رجال الحديث وضعت على معنى الفهارس؛ فإنك تجدهم يذكرون الراوي المترجم، ويذكرون أين روايته من الكتب، أي تقع في أي كتاب، واخترعوا لذلك رموزاً تؤدي هذا بإيجاز عبقري، فمن وُضع أمام اسمه (ع) معناها أن له رواية في جميع الكتب الستة، ومن وضع أمام اسمه (4) معناه أن روايته في السنن الأربعة، وهكذا.
بل إنهم يذكرون موضع حديث الراوي من الكتاب الذي روى فيه إذا لم يكن للراوي إلا حديث أو حديثان، مما يدلك على أنهم يتشوّفون للفهرسة، ولكن قلة الأدوات والآلات والإمكانات لم تسمح بغير ذلك القدر، فلم تكن الطباعة معروفة بعدُ، وكان الكاغد باهظ الثمن، وكانوا يصنعون الأقلام والأحبار لأنفسهم (1).
ابن الأثير الثاني:
وفي هذا الباب أعني فهرسة الأعلام، وجدنا إبداعاً يستحق التنويه لواحدٍ آخر من الكَمَلة الثلاثة أبناء الأثير، وهو عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن محمد المتوفى 630 هـ؛ فقد ألف كتابه الشهير (أُسد الغابة في معرفة الصحابة) ورتبه على حروف المعجم، ولكن المعجب في العمل هو شرحه لمنهجه في الترتيب، فقد جاء في مقدمته قوله:
__________
(1) اقرأ تفصيلاً لهذا في مقدمة الشيخ شاكر لسنن الترمذي من ص 53 - 58.

(20/17)


"أما ترتيبه ووضعه (أي كتاب أسد الغابة) فإني جعلته على حروف (أ. ب.
ت. ث)، ولزمت في الاسم الحرفَ الأول والثاني والثالث، وكذلك أيضاً في اسم
الأب والجد، ومَن بعدهما، والقبائل أيضاً، مثاله:
إنني أقدم (أبان) على (إبراهيم)؛ لأن ما بعد الباء في (أبان) ألف، وما بعدها في (إبراهيم) راء، وأقدم إبراهيم بن الحارث على إبراهيم بن خلاد، لأن (الحارث) بحاء مهملة و (خلاد) بخاء معجمة، وأقدم (أبان العبدي) على (أبان المحاربي).
وكذلك أيضاً فعلت في التعبيد (يعني فيما بُدىء بعبد من الأسماء) فإني ألزم الحرف الأول بعد (عبد) وكذلك في الكنى، فإني ألزم الترتيب في الاسم الذي بعد (أبو)؛ فإني أقدم (أبا داود) على (أبي رافع). وكذلك في الولاء فإني أقدم (أسود مولى زيد) على (أسود مولى عمرو).
وإذا ذكر الصحابي ولم يُنسب إلى أبٍ بل نسب إلى قبيلة، فإني أجعل القبيلة بمنزلة الأب، مثاله: (زيد الأنصاري) أقدمه على (زيد القرشي)، ولزمت الحروف في جميع أسماء القبائل .... ".
ثم ذكر شيئاً من الخلاف بينه وبين من سبقه قائلاً:
"وقد رأيت جماعة من المحدِّثين إذا وضعوا كتاباً على الحروف يجعلون الاسم الذي أوله (لا) مثل (لاحِق) و (لاهز) في بابٍ مفرد عن حرف اللام، وجعلوه قبل (الياء)، فجعلته أنا من حرف اللام، في باب اللام مع الألف، فهو أصح وأجود ... إلخ " (1).
هذا المنهج الواضح المفصل الذي وضعه ابنُ الأثير في مقدمة كتابه، والتزمه بكل دقة شاهدٌ من الشواهد الكثيرة الناطقة بسبق المسلمين وابتكارهم في مجال الفهارس.
* وأبلغ من ذلك أيضاً أنهم عرفوا نظام الإحالات، تجد هذا عند النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) ففي باب الكنى والألقاب، يذكر بعضها قائلاً:
__________
(1) اقرأ منهجه كاملاً في مقدمة (أسد الغابة ص 5 - 8).

(20/18)


سبق فيمن اسمه كذا، وتجده أيضاً عند ابن حجر العسقلاني في (تهذيب التهذيب) في المجلد الخاص بالكنى.
وأكثرَ العلماءُ من تأليف كتب الرجال والأعلام المرتبة على حروف المعجم حتى بلغت حداً يفوق الحصر، ويكفي أن ترى بين يديك اثنين وثلاثين مجلداً (32 مجلداً) لمؤلِّفٍ واحد، هو ابن حجر العسقلاني هي: [الإصابة في تمييز الصحابة + تهذيب التهذيب + تقريب التهذيب + لسان الميزان + الدرر الكامنة + تعجيل المنفعة].
4 - في مجال القوائم البيبلوجرافية:
لم يقتصر ابتكار المسلمين وسبقهم إلى الفهرسة على مجال اللغة، والحديث، والتراجم والأعلام، بل كان ذلك في مجال الفهارس البيبلوجرافية، أو ما يسمى (بالضبط البيبلوجرافي) فها هو كتاب (الفهرست) لابن النديم المتوفى سنة 380هـ (على أرجح الأقوال).
فهذا الكتاب فهرسة علميةٌ دقيقة، وبتعبير عصرنا نشرةُ إحصاءٍ بيبلوجرافي للمؤلفات التي صدرت حتى زمان المؤلف.
ومن الطريف أنه سمى كتابه: (الفهرست).
أي أن المسلمين ابتكروا (الفهارس) بلفظها، ومعناها.
*- ويدخل في هذا الباب ما تواترت به الأخبار عن فهارس الخزانات الكبرى مثل دار الحكمة في بغداد، والقاهرة، ومكتبة قرطبة، تلك الفهارس التي كانت تبلغ عشرات المجلدات.
لماذا هذه المجالات دون غيرها:
ولسائل أن يسأل: هذه الجهود التي وضعتموها، وعرّفتم بها ألوانٌ من الفهارس المعجمة لا شك في ذلك، ولكن لماذا اقتصرت هذه الجهود على معاجم اللغة والرجال، وكتب الحديث؟ ولماذا لم نجد فهارس لكتب الفنون الأخرى؟
والجواب أن الابتكارات والاختراعات تكون دائماً بقدر الحاجة، بل هي دائماً بنت

(20/19)


الحاجة، فالحاجة أم الاختراع، كما يقولون!، وأنت ترى أن مفردات اللغة، وأسماء المواضع والبلدان، وكذلك أسماء الأعلام والرجال ليست مما يُحفظ -عادة- وتنشط الذاكرة إلى احتوائه، والاستمتاعِ بحفظه، ولذلك كانت الحاجة ماسة لتدوينه وترتيبه، لتيسيره وتقريبه.
أما متن الحديث، فإنه وإن كان من أعز وأحب ما يُحفظ وتنشط له الذاكرة، إلا أنه منذ نهاية القرن الأول، ومطلع القرن الثاني، اتسعت الرواية، وكثر الرواة، فاحتيج إلى تدوين الحديث وفهرسته لتيسير مراجعته، وتحرير الفرق بين رواية ورواية، فظاهروا الحفظ بالكتابة والفهرسة، بعد أن ظلوا يَنْهون عنها طول القرن الأول.
أما العلوم والفنون الأخرى، فلم ينشطوا لفهرستها اكتفاءً بالحفظ واحتواء الذاكرة عليها، فقد كانت صدورهم بحق أوعيةَ العلم، وكانت أخبارهم في ذلك عجباً من العجب.
ولولا أننا أدركنا من مشايخنا من يملك مثل هذه الحافظة اللاقطة، لقلنا: إن أخبارهم هذه -في الحفظ- مبالغات مدعاة لا يقبلها عقل.
لكنا أدركنا بعضاً من مشايخنا يملك مثل هذه الذاكرة الحافظة اللاقطة، منهم شيخنا الجليل، (الشيخ محمد أبو زهرة) فقد رأيناه يجلس لمناقشة الأطروحات الجامعية، وليس بيده ورقة، وليس أمامه نسخة من الأطروحة، ويأخذ في المناقشة فيحدد -من ذاكرته- للطالب الصفحة والسطر، والعبارة موضع المناقشة والمراجعة.
وأحياناً لا يهتدي الطالب -لارتباكه- إلى الموضع الذي أشار إليه الشيخ، فيرفع رأسه ناظراً للشيخ بما معناه أن الشيخ قد يكون وهم في تحديد الموضع، فيأتيه صوت الشيخ متصنعاً الحدة: يا بني دقق النظر وأعد القراءة، العبارة أمام عينيك في السطر رقم كذا!! ويعاود الطالب النظر، فيكون الأمر كما قال الشيخ!!!
لولا هذه النماذج التي أدركناها ورأيناها بأعيننا، لَرَدَدْنا أخبار أئمتنا الماضين، وقلنا: إن هذا من المستحيل عقلاً!! فكيف يستطيع إنسان أن يحيط بعشرات المجلدات، ويحفظها في ذاكرته؟ ويستعيدها، وكأنها بمرأى منه أمام عينيه.
نعود فنقول: من أجل هذا لم يحتاجوا إلى فهرسة فنٍّ غير الفنون التي أشرنا إليها.

(20/20)


اعتراف وإنصاف:
ونحب في ختام هذا الفصل أن نؤكد أننا لا نبخس المستشرقين حقهم، ولا ننكر جهدهم، فإذا كان المسلمون الأجداد قد سبقوا إلى الفهارس، فابتكروها، وصنعوا منها هذه الألوان والأفانين، على ضآلة إمكاناتهم، وقلة آلاتهم، وبساطة أدواتهم- إذا كان الأجداد قد فعلوا هذا، فإن الأحفاد قد قعدوا عن متابعة أجدادهم، والنسج على منوالهم، حتى سبقهم المستشرقون.
نعم، أخذ المستشرقون فكرة الفهارس عن المسلمين الأولين، فهم -لا شك- قد اطلعوا على ما وصفناه لك من هذه الآثار؛ فبَنَوا عليها، وزادوا فيها، وتفننوا في ألوانها وأصنافها، فهذا فهرس للأعلام، وذاك للمواضع والبلدان، وآخر للفرق والطوائف، و ... و ... وألحقوا ذلك بما ينشرون من كل كتاب.
وأعانهم على ذلك أمران:
الأول - ظهور المطبعة، ووفرة الآلات والأدوات.
والثاني - أنهم يعملون في ظل مؤسسات، تكفل لهم كل عون، وتقدم كل مساعدة، وهم يعملون كفريق متكامل متعاون، لا يشغلهم إلا العمل الفني وحده، أما تدبير المصادر والمراجع، وتصوير المخطوطات، وإعداد الأدوات، وشؤون الإدارة والطباعة والنشر فكل ذلك لهم مكفول، ووراءهم أجهزة تعمل بغاية الدقة، والتنظيم والتخطيط لتوفر لهم كل ما يساعد على إنجاز أعمالهم.
ويكفيك مثالاً على ذلك "أن المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي تعاقبت عليه جماعاتهم لمدة ثلاث وخمسين سنة" (1).
ولكن سبقهم هذا لم يدم طويلاً، فقد لحق بهم وبزَّهم أعلام المحققين: مثل أحمد زكي باشا شيخ العروبة، وأحمد تيمور باشا، وآخرون.
خلاصة القول: أننا نقول بقول الشيخ أحمد شاكر: إن للمسلمين فضل السبق
__________
(1) ر. رسالة تصحيح الكتب: 86.

(20/21)


والابتكار، وللمستشرقين فضل التفنن، والتأنق، والتنويع والاستكثار، أو بنص عبارة الشيخ شاكر: "الشرق دائماً ابتكار وإنشاء، والغرب دائماً تقليد وتنظيم" (1).
ولا نقول بقول العلامة الشيخ أبي غُدة: "ليس للمستشرقين إلا الاختلاس أو الاقتباس" (2).
ولأخينا العلامة المرحوم الدكتور محمود الطناحي، نظر جيد في عمل المستشرقين، وتقييم متوازن لجهودهم، في كتابه الفذ: (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي)، فاقرأه تفد خيراً كثيراً (3).
...
__________
(1) مقدمة الشيخ أحمد شاكر لسنن الترمذي: 46.
(2) رسالة: تصحيح الكتب 42 تعليق رقم 1 بهامشها.
(3) من ص206 إلى 283.

(20/22)


-2 -
قيمة الفهارس العلمية وضرورتها
إهمال الفهارس ومسخها:
ما كان من المناسب ولا اللائق أن نتكلم عن ضرورة الفهارس، وأن نبين قيمتها لولا ما رأيناه شائعاً من إهمال شأنها، وعدم الاهتمام بها في كثير من الكتب التي تصدر من المطابع الآن.
حتى فهرس المحتويات:
حتى هذا الفهرس الوحيد الذي لا ينكر أحد فائدته، ولا يماري مجنون ولا عاقل في قيمته، حتى هذا الفهرس أصابه الإهمال والمسخ، فأصبحت ترى كتباً تخرج من المطابع زاهية مذهبة، تحمل أسماء ذات ألقاب، ونجد فهرس المحتويات، قد أصابه المسخ والخسف، فاقتصر على الأبواب والفصول، فجاء لا يسمن ولا يغني من جوع، والكتاب مليء بالمسائل والقضايا، والخلافيات، والمُعْوِصات، التي تحتاج إلى ما يرشد إليها، ويدل على موضعها.
بل الأدهى من ذلك أن كُتباً تراثية صدرت من عشرات السنين، وبها فهرس مفصل للمحتويات، يكشف إلن حدٍّ بعيد عن مسائل الكتاب وفروعه، وييسّر التعامل معه والاستفادة منه، ثم صدرت منه طبعات خَلُوب تخطف الأبصار بتذهيبها وبريقها، ثم تجدها لم تحسن الاستفادة بفهرس الطبعة القديمة.
وأقرب مثالٍ لذلك كتاب (روضة الطالبين) للإمام النووي، فقد كنت أراجع فيه كثيراً من المسائل أثناء العمل في تحقيق (النهاية)، حيث تحوي الروضة أقوال إمام الحرمين في كل صفحاتها تقريباً، وقد تعذر التعامل مع الطبعة الجديدة، ولقيت العنت كله، بسبب قصور الفهرس، فعُدت إلى الطبعة القديمة، ومن عجبٍ أني وجدتها -مع

(20/23)


وفاء فهرسها- هي الأصح نصاً، والأقوم عبارة، والأبعد عن التصحيف والتحريف.
* والسر في إهمال الفهرس أن كثيراً من الناس للأسف يعدونه تكملة أو حلية، بل فضلة يمكن أن يستغنى عنها.
ومن أجل ذلك يتركونه لعمال المطبعة، يصنعونه كيفما اتفق، على حين أن صياغة الفهرس عمل علمي يقوم به المحقق أو المؤلف بعد قراءة الكتاب صفحة صفحة؛ ليحسن التعبير عن مضمونها، ويكشف عن مكنونها في ألفاظٍ قليلة، واضحة مبينة.
ثم ينسق ذلك في صورة تبين الأصل، وفروعه بمجرد النظر إليه؛ فصناعة الفهرس عمل علمي ليس بالهين، يقوم به المحقق أو المؤلف، أو من هو قادر على الفهم والتعبير، أعني فهمَ نص الكتاب، والتعبير عما فهم.
ومما لا أنساه أنني أنفقت وقتاً ثميناً وبذلت جهداً مضنياً في صناعة فهرس المحتويات لكتاب (الغياثي): وهو يقع في مجلد لطيف؛ قلت في مقدمته: "لقد أجهدني هذا الفهرسُ لياليَ وأياماً، حتى جاء صورة واضحة للكتاب، ييسِّر المعنى الذي يريده الباحث بالتحديد، وعسى أن يكون التوفيق حليفنا".
* ولو دققت النظر في فهرس (المجموع شرح المهذب) للنووي -الطبعة القديمة- لرأيت كيف عُني العلماء الذين أشرفوا على هذه الطبعة بصناعة هذا الفهرس، وكيف أحسنوا تفصيله، وأجادوا ترتيبه وتبويبه، فجاء معيناً للباحث، ودليلاً للطالب، يشهد لصانعه بأنه يعرف غايةً لما يصنع، ويعرف كيف يصل إليها.
كانت هذه الطبعة منذ أكثر من ثمانين عاماً، فماذا جرى؟ وما بال حالنا اليوم؟ قارن فهرس هذه الطبعة من المجموع بفهرس (فتح العزيز للرافعي) التي صدرت في أيامنا هذه!! ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو وحده المستعان على كل بليِّة.
الفهارس العلمية:
إذا كان هذا هو حال فهرس المحتويات، فما بال مجموعة الفهارس، التي عرفت باسم الفهارس العلمية، أو الفهارس الفنية؟
إن هذه الفهارس برغم أن جذورها وبذورها كانت عند أئمتنا منذ أكثر من ثمانمائة

(20/24)


عام، وأن الرعيل الأول من المحققين في العصر الحديث اهتم بها، وأخذ في صناعتها بصورة كاملة منذ 1914 م، وبرغم كل الدعوات والنداءات من أئمة الفن، فن التحقيق - نجد كثيراً من الناس لا يعرف لهذه الفهارس قيمتها، ولا يدرك فائدتها.
وتقديري أن هذا يرجع إلى قصورٍ في مناهج التعليم، التي تخلو من التدريب العملي على البحث، وتترك من يقدر له أن يكون من أهل البحث أن يشق طريقه في الصخر بأظافره، ويظل يضرب يمنة ويسرة بالمحاولة والخطأ، حتى يصل إن قدر له أن يصل.
* أذكر عندما خرج كتاب (البرهان في أصول الفقه) أن ضمَّنَا مجلس من أهل العلم، وكان الثناء على تحقيقه موضوعَ الحديث، إلا أن أحد كرام الحاضرين -وهو في منزلة شيوخي- سألني بصوتٍ عالٍ: ما معنى هذه الفهارس والصفحات الكثيرة في آخر الكتاب؟ ما قيمة أن أعرف أن القاضي الباقلاني تكرر في (البرهان) مائة مرة؟
ولمنزلة الشيخ ومكانته لم أشأ أن أردَّ، أو بالتحديد لم أستطع أن أجيبه، فأنا من جيل يعرف للشيوخ منزلتهم، ويقدرهم ويهابهم.
لم أستطع أن أنصِّب نفسي معلِّماً للشيخ الجليل، فأقول له: إن قيمة هذا الفهرس أنه يأخذ بيدك، ويضع أصبعك على كل ما نقله إمام الحرمين عن القاضي الباقلاني، وتعرف فيما وافقه وفيما خالفه.
ثم تجد بين يديك نصوص (القاضي) وهي مفقودة، لم تصل إلينا بعد.
ثم نعرف جذور الأفكار وأصولها، فما نقرؤه في كتاب فلانٍ وفلان، من المتأخرين، نعرف مصدره.
ثم قد نصحح شيئاً من الأوهام في النقل، فقد نجد فيما نقله إمام الحرمين في البرهان ما يخالف بعضَ ما هو منسوب للباقلاني في كتب المتأخرين.
لم أستطع أن أقول ذلك، وهو بعضٌ مما يقال عن قيمة الفهارس العلمية وفوائدها.
* وشيخنا هذا ليس وحده بل بعض أهل الفضل من المشتغلين بالتحقيق، ولهم فيه باع، قد يغفل أحياناً عن قيمة الفهارس، فقد عارض قولي أحدهم ذات يوم -مع أنه من

(20/25)


أهل الصناعة- قائلاً: إن النشر الإلكتروني الآن، أغنى عن الفهارس، فلم يعد لها كبير فائدة.
وهذا لا شك كلام لا ثبات له، فالباحث في الشبكة الإلكترونية ينطلق من شيء يعرفه، ويسأل عنه، ومعه مفتاح، أو كما يسمونه مدخل يدخل به، أو منه.
والفهرس من الوسائل التي تضع في يد الباحث هذه المداخل، وإلا فكيف يعرف الباحث أن مؤلف هذا الكتاب تميز بمعجم خاص من الألفاظ، وباستعمالات غير مألوفة من الأساليب؟ من أين يعرف الباحث في الشبكة الإلكترونية هذا، ما لم يبذل المحقق جهده في صناعة مثل هذه الفهارس، ويضعها بين يدي الباحث أولاً؟
* وإذا كان هذا رأيَ بعض الشيوخ وأهل الصناعة في الفهارس، فما بالك بغيرهم؟ الناشرون والفهارس:
يتضجر الناشرون من الفهارس أحياناً، يعرف ذلك من مارس التعامل معهم، وأشار إلى شيء من ذلك العلامة الشيخ أحمد شاكر (1)، وأخونا العلامة النابغة الدكتور محمود الطناحي -رحمه الله ونور ضريحه- فقد قال في مقدمة الجزء الخاص بالفهارس من الطبعة الثانية لطبقات السبكي: " ... وقد صدرت الطبعة الأولى وقرين كل جزءٍ فهارسه ... وقد صنعنا هذا الصنيع لأمرين: الأول - خشية أن يصيبنا الكلال والوهن، فلا نستطيع بعد ظهور الكتاب في أجزائه العشرة أن نتُم عملنا بإصدار فهارسه مجمعة.
الثاني- أن يُحجم الناشر وقتها عن إصدار جزء ضخم مكلِّفٍ للفهارس العامة خشية عدم رواجه " اهـ.
الناشرون معذورون:
الناشر مهما كان من أهل العلم، أو الذين يعرفون للعلم قيمته، فهو في النهاية تاجر محترف -وهذا ليس عيباً- والتجارة تعتمد على دورة رأس المال ومدى سرعتها، فأن يسجن الناشر رأس ماله في كتابٍ يطبعه، وينتظر مدة شهر أو شهرين، أو أكثر في انتظار
__________
(1) مقدمة سنن الترمذي: 44.

(20/26)


إعداد الفهارس الفنية وطباعتها، فهذا أمرٌ ضد طبيعة الأشياء في نظره (1)، وشيء لا يحتمله إلا أولو العزم الذين يستعدون للتضحية في سبيل العلم.
نداء ورجاء:
ومن هنا أنادي وأرجو الجهات والمؤسسات الرسميةَ التي تعمل في مجال الثقافة والعلم، وإحياء التراث أن تنظر في صيغةٍ ووسيلةٍ ما لدعم الناشرين، ولو كان ذلك بالإنفاق على طباعة الكتاب التراثي، في صورة قرض للناشر إلى أن تتم طباعة الكتاب، ويبدأ عرضه في الأسواق، أو بالوعد بشراء كمية مناسبة دفعة واحدة بسعرٍ مُجْزٍ تَرُدّ للناشر قدراً صالحاً من رأسماله فور ظهور الكتاب.
وأهل المال والإدارة، لا شك يعرفون من الوسائل أكثر وأفضل من هذا الذي نقول.
فإذا تم شيء من هذا، فهناك من الناشرين من هو من أهل العلم، وعندها سيرحب بالعمل على نشر الفهارس، ولن يتبرم بها.
قيمة الفهارس وفائدتها:
كتب العلم -أي فن كان من فنونه- كنزٌ مغلق، بعبارة شيوخنا، وهي (مكنز) من مكانز المعلومات بعبارة المختصين في أوعية المعلومات، والخبراء في المعلوماتية ونظم المعلومات، ومفتاح ذلك هو الفهارس.
فالفهارس العلمية بألوانها المختلفة هي التي تدلك على هذه الكنوز المخبوءة في تضاعيف هذه الكتب، "ذلك أن كتب التراث متداخلة الأسباب، متشابكة الأطراف وقلما تجد كتاباً منها مقتصراً على فنٍّ بعينه، دون الولوج إلى بعض الفنون الأخرى؛
__________
(1) لقد ظهر كتاب (الوسيط) للغزالي في طبعة جيدة محققة متقنة، أضاف المحققان إلى حواشيها أربعة مؤلفات مخطوطة بها تعليقات واستدراكات لأربعة من الأئمة الكبار: ابن الصلاح، والنووي، والحموي، وابن أبي الدم، فأعلى ذلك من شأن هذه الطبعة، وقد قال المحققان في المقدمة: إنهما صنعا فهارس فنية للكتاب، ولكنا لم نرها مع مجلدات الكتاب السبعة، نرجو ألا يكون هذا من تبرّم الناشر بالفهارس.

(20/27)


لدواعي الاستطراد والمناسبة، وهذا يؤدي إلى أن نجد الشيء في غير مظانه" (1).
فأنت تجد كتاباً مثل (معجم البلدان) لياقوت حوى كثيراً من الفنون، ففيه من التراجم، وأسماء الكتب، والأخبار، والوقائع، والأيام، والأشعار، والنوادر، والأساطير، وغير ذلك.
وانظر إلى كتابٍ مثل طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، ففيه من نوادر الفنون والعلوم ما قد لا يوجد في غيرها: من أصول الدين، وأصول الفقه، والفقه، والتفسير، والحديث وعلومه، والتاريخ والجغرافيا، وغيرها.
وقد شغل فهرس مسائل الفنون في كتاب الطبقات هذا قريباً من مائة صفحة، حصراً لعناوين المسائل فقط.
فهل كان الباحث بمستطيعٍ الوصول إليها لولا هذا الفهرس الذي صنعه المحققان، ثم إن جملة هذه المسائل من النوادر والأوابد غير المتداولة والمعروفة.
* ولا يسبقن إلى الوهم أن هذا أمر تختص به كتب الطبقات والمعاجم ونحوها، ولا يوجد في كتب الفن الواحد ككتب التفسير، وكتب النحو، والفقه، ففي كتب التفسير نحوٌ كثير، وفقه كثير، وشعر كثير، وفنون أخرى، مثل القراءات، واللغة، والمغازي، والأخبار، وفي كتب الفقه: نحوٌ، ولغة، وأصول، وقواعد، وضوابط، وكتبٌ ومؤلفات.
* بل لا أكون مبالغاً إذا قلت: إن الفهارس ليست ضرورية لكتب التراث وحدها، بل لكل كتابٍ يؤلف، صغر حجمه أو كبر، وإن كنتَ في شك من ذلك، فانظر في كتاب العلامة الطناحي (مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي) وتأمل فهارسه، لترى كيف تضيء لك مسائله، وتنثر لين يديك لآلئه ودررَه.
ومما يستحق أن يذكر هنا أني أفدت شخصياً من هذه الفهارس، حين كنت أدون
__________
(1) من كلام المرحوم العلامة الدكتور الطناحي، في مقدمته لفهارس الشعر واللغة لكتاب (غريب الحديث) لأبي عبيد، مقال في مجلة (البحث العلمي والتراث الإسلامي) -كلية الشريعة- جامعة أم القرى سنة 1401هـ ص 577.

(20/28)


بيانات أحد المراجع المطبوعة قديماً، والتي سطا عليها الساطون، وأخفوا بيانات النشرة التي صوروا عنها، فقرأت الخاتمة، ومنها عرفت الناشر وتاريخ النشر، ولكني لم أعرف المكان، ما دلني عليه إلا فهرس المطابع في هذا الكتاب.
وانظر في كتاب شيخنا العلامة عبد السلام هارون (تحقيق النصوص ونشرها) وهو رسالة لطيفة لا تزيد عن مائة صفحة، ولكنه ألحقها بفهارس علمية مبتكرة، فتأمل أي فوائد تفيدها".
* ولقد أشار المرحوم العلامة الطناحي إلى بعض فوائد الفهارس قائلاً:
"وأستطيع أن أوجز بعض الفوائد التي يجنيها الباحث من الفهارس فيما يلي:
أولاً - معرفة المدى الزمني الذي عاشته كتب التراث، وذلك يظهر من فهرسة الكتب المذكورة أسماؤها في داخل الكتاب.
وتأمل أسماء الكتب ودواوين الشعراء التي ذكرها البغدادي المتوفى 1093هـ في مقدمة (الخِزانة) وفي أثنائها، وكذلك الكتب التي أوردها المرتضي الرَّبيدي المتوفى سنة 1205هـ في (تاج العروس) (1).
وسيصحح هذا كثيراً من المعلومات والمقولات التي سادت وذاعت، كالقول بأن معظم كتب التراث قد ضاع أيام فتنة التتار في القرن السابع. وإذا كان هذا صحيحاً، فإنه صحيح أيضاً أن كثيراً من الكتب قد ضاعت بسبب غفلة المسلمين.
ثانياً - ضم النظير إلى نظيره، وبخاصة في الموسوعات، وسيؤدي هذا إلى اكتشاف بعض الأخطاء وتصحيحها.
ثالثاً - جمع آراء العلماء المنثورة في ثنايا الكتب، والتي لا يجمعها كتاب واحد، كأن نجمع آراء نحوي من النحاة من المطوّلات، (كالهمع) (والأشباه والنظائر) للسيوطي، و (خزانة الأدب) و (شرح شواهد الشافية) و (شرح شواهد المغني) للبغدادي.
__________
(1) ومثل هذا الكتب التي ذكرها النووي المتوفى 676هـ في (المجموع)، والتي ذكرها التقي السبكي المتوفى 756هـ في أول تكملته للمجموع، وفي أثنائه، والتي ذكرها السيوطي المتوفى 911هـ في كتبه، ومنها (المزهر) و (الإتقان). عبد العظيم.

(20/29)


رابعاً - جمع شعر الشعراء الذين ليس لهم دواوين، ونسبة الشعر المجهول النسبة، فإذا أضيف إلى ذلك ذكر بحر البيت، أمكن معرفة أكثر البحور دوراناً على ألسنة الشعراء.
خامساً - جمع نصوص بعض الكتب المفقودة، وهناك بعض الكتب المطولة، تنقل نصوصاً كثيرة من هذه المفقودات، ويحضرني الآن من هذه المطولات: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، وكثير من تصانيف السيوطي كالإتقان، والمزهر، والأشباه والنظائر النحوية، وكتب البغدادي السابقة، وتاج العروس للزبيدي.
سادساً - يفيد فهرس اللغة في حصر بعض الألفاظ التي لم ترد في المعاجم المتداولة، وقد جاء شيء من هذا في (مجالس ثعلب) ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس [راجع فهارسها] كذلك يفيد مثل هذا الفهرس اللغوي في نسبة الشعر الذي اختلفت قوافيه، أو لم تعرف قوافيه، حين يكون معك صدر البيت فقط، فإذا فهرست اللغة التي في البيت، اهتدي إليه في يسر وسهولة.
وأيضاً يفيد هذا الفهرس في توثيق كلام أئمة اللغة، وأذكر من تجاربي في هذا المجال: أني كنت ألتمس مرة كلاماً لأبي العباس ثعلب، فلم أجده في (مجالسه)، ولا في (فصيحه) ثم كان أن وجدته في شرحه لديوان زهير بن أبي سُلمى.
وما دلني على هذا إلا فهرس اللغة الذي صنعه مشايخ دار الكتب المصرية الفضلاء، رحمهم الله ورضي عنهم.
هذا ما يحضرني الآن، ولا شك أن هناك فوائد أخرى كثيرة للفهارس، تدرك بالحاجة والممارسة، والتتبّع" (1) اهـ.
وإذا كان هذا ما رآه العلامة الطناحي من موقعه في قلب علوم اللغة، فإننا نستطيع أن نضيف إليه في مجال الفقه ما يأتي:
سابعاً - جمع فقه السلف من الصحابة، والتابعين، والأئمة الذين لم تدون
__________
(1) من مقال في مجلة البحث العلمي والتراث الإسلامي -كلية الشريعة- جامعة أم القرى سنة 1401هـ ص: 579، 580.

(20/30)


مذاهبهم، والفقهاء الذين لم تعرف لهم كتب مدونة بأسمائهم.
وقد ظهرت مجموعات لفقه بعض الصحابة والتابعين مثل فقه عمر وفقه ابن عباس، وفقه ابن مسعود، وفقه عبد الله بن عمر، وفقه إبراهيم النخعي، ومن بعدهم مثل فقه الأوزاعي، ولكن يظل ذلك في حاجة إلى مراجعة، وتكميل، ولا يكون ذلك إلا بفهرسة كتب الفقه، وعرض ما في هذه الفهارس على ما في هذه المدونات.
ثامناً - جمع المسائل الخلافية، وتصنيفها وتبويبها، ووضعها في صعيد واحد بين يدي الباحثين. ثم مقارنتها بما هو مذكور في كتب الخلاف، فما هو بين أيدينا من هذه الكتب الخلافية لا يحوي كل هذه المسائل.
تاسعاً - يفيد فهرس المسائل الخلافية في أمرٍ آخر، رأيناه في كتابنا هذا، حيث يحكي عن المخالفين قولاً أو رأياً لا نجده في كتبهم المشهورة والموجودة بين أيدينا، بل قد نجد عكسَ الحكم المحكي عنهم. مما يفتح المجال أمام البحث لتفسير ذلك.
عاشراً - تفيد فهرسة كتب الفقه -للمتقدمين والمتأخرين- في معرفة فقه الأئمة الذين
نسمع بكتبهم، ولم نرها، كما تفيد تصحيح هذه النقول بمقارنتها بعضها ببعض.
حادي عشر - تفيد فهرسة الكتب الفقهية فهرسة تحليلية في معرفة التطوّر الفقهي، فكلما ارتقينا إلى القرون المتقدمة، ونشرنا نصوص أئمتها، وعرفنا مصادرهم، أمكننا أن نتتبع جذور المسائل والأحكام الفقهية، ونعلم مَنْ أخذ عمن، ونعرف الأقوال المهجورة، ونبحث عن أدلتها، ووجه ضعفها، ولماذا هُجرت؟
ثاني عشر - مما يفيده فهرس الكتب بالإضافة إلى ما ذكر، أنه يؤكد أو ينفي صحة نسبة كتابٍ ما إلى هذا الإمام أو ذاك. وبالنسبة لي لقد أكدت نسبة بعض مؤلفات إمام الحرمين من فهارس بعض الكتب التراثية، أذكر منها على سبيل المثال: أني أكدت أن لإمام الحرمين تفسيراً للقرآن الكريم بواسطة فهرس الكتب لكتاب (الإتقان) للسيوطي، فقد ذكره السيوطي، ونقل عنه.
ثالث عشر - وهو من البدائه، أعني به سهولة الدلالة على مضامين الكتاب وفوائده، وهذا أمر قد ينظر إليه ناظرٌ باستخفاف، ولكن: "لا يعرف الشوق إلا من يكابده"،

(20/31)


"ومن ذاق عرف" فلو كانت هناك فهارس لمجموع النووي، والروضة، والشرح الكبير للرافعي، لو كان هناك فهارس لهذه الكتب -التي كانت مراجع أصيلة لتحقيق هذا الكتاب- لخففت كثيراً من العناء الذي لقيناه أثناء البحث فيها عن النقول عن إمام الحرمين، وتدقيق الأعلام، وأسماء الكتب، بل وضبط المسائل.
ولقد خففت شيئاً من هذه المعاناة حين قمتُ بما يشبه الفهرس، إذ تتبعت الأعلام الواردة في هذه الكتب وميزتُها وأظهرت مكانها بلونٍ فاقع من ذلك (الماركر) الفسفوري وكذلك ميزت كل موضع ذكر فيه إمام الحرمين بلونٍ آخر، مما خفف بعض المعاناة، وساعد نوعاً ما في الوصول إلى المراد.
وانظر إلى ما كان من العلامة الطناحي حين كان يحقق (الغريبين) للهروي، واحتاج إلى مراجعة (غريب الحديث) لأبي عبيد، فما تيسّر له ذلك إلا بعد أن تجشم صنع (فهرسٍ للألفاظ والمواد اللغوية) لهذا الكتاب (1).
صناعة الفهارس في ميزان العمل العلمي:
يظن بعض من لم يتمرس بالبحث، ويتدرب على استخدام وسائله وأدواته، ومنها الفهارس العلمية- أن صناعة الفهارس هي مجرد جمع وترتيب، ولا تتصل بالعمل العلمي، ولا تمت إليه بسبب، ولكن من له أدنى تأمل يدرك أن هذا عمل علمي جاد، فصناعة الفهارس في حقيقة أمرها تحليلٌ للنص المفهرس، ولا يكون هذا التحليل إلا بعد فهمٍ عميق للنص -أي الكتاب- المراد فهرسته، فهمٍ يدرك مراميه، ويحيط بمغزاه، ويتذوّق لغته، ويفقه منهجه ... عندها يستطيع أن يصنع فهارسه.
ْ ويدلك على هذا ما يكون من التفنن في الفهارس وابتكار أنواعها، مما يشهد بفقه مضمون الكتاب المفهرس، وإحاطة المحقق به.
ويتحدث شيخنا العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة عن صناعة الفهارس، وأنها ضرب من التأليف، فيقول: "هذا العمل فيه بَذْلُ جهد كبير، وتحمل مشقاتٍ كثيرة؛ فقد صار نوعاً من أنواع التأليف، والإتقان فيه صعبٌ وعَسِر، ويحتاج إلى حَبْس النفس عليه
__________
(1) من معنى كلامه في المقال الذي أشرنا إليه في التعليق السابق.

(20/32)


مدة طويلة، ولذا يتردد طالب العلم بين الإقدام عليه، لتقريبه المطلوب بيسر وسهولة، والإحجام عنه لما يأكل من الذهن والزمن ... " (1).
أما أخونا العلامة الطناحي، فيقول:
"لو كان لي من الأمر شيء، في الدراسات العليا بالجامعات العربية، لجعلتُ موضوع الماجستير والدكتوراه فهرسة كتاب من كتب التراث، فهرسة تفصيلية كاشفة.
وسوف يكون هذا العمل مجدياً على الطالب، وعلى الدراسات العليا نفسها، بدلاً من الموضوعات التي تهرّأت واستُهلكت، وأصبحنا بها ندور حول أنفسنا.
فإذا فُهرست كتب كل فن من فنون التراث على هذا النحو الكاشف الجامع، أمكن لنا أن نقدم صورة حقيقية لفكرنا العربي الإسلامي، بدلاً من أن نُغرق في مدحه ببلاهة، أو نُسرف في ذمه بجهل." (2).
ثم في مقام آخر يغضب غضبة مُضرية على الذين يجهلون قيمة الفهارس؛ فيردّونها على صاحبها؛ ولا يقبلونها سنداً للترقية في السلك (الأكاديمي) الجامعي، فيقول: "وأمر عجيب، وهو ما سمعناه أخيراً، من أن لجان الترقيات، في بعض الجامعات العربية، وقد رفضت -ضمن ما قدم لها من أعمال- فهرسةً علميةً لفنٍّ من فنون التراث، من داخل كتاب كبير، من أمهات الكتب، بحجة أن الفهرسة عملٌ آليٌّ ميكانيكي، لا يمثل جهداً علمياً! ".
فيغضبه هذا التصرّف أشد الغضب، فيقول ثائراً:
"وأستطيع أن أردّ هذا القولَ وأمحقه، لولا الغم الذي أطبق على القلب من سماع هذا الكلام العجيب".
وقد مر بك في أثناء الحديث عن أعمال المستشرقين، أنهم قد عُنوا بفهرسة كتب التراث، عناية فائقة، وأن من ذلك فهرسَ أمالي أبي علي القالي، الذي صنعه
__________
(1) ر. الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبي غدة: 352.
(2) من مقالٍ له بمجلة (البحث العلمي والتراث الإسلامي) سبقت الإشارة إليه آنفاً (ص580).

(20/33)


المستشرقان الكبيران (بيفان) و (كرنكو)، فهل يجرؤ أحد على وصف عمل المستشرقين بأنه آلي ميكانيكي؟
ثم أفضى هذا العبث كلُّه، إلى أمر أشدَّ نُكراً، وهو: "أن التحقيق لا يكوِّن شخصية علمية".
هكذا يقولونه بدون تقييد، أو وصف، أو استثناء، ومعنى هذا بوضوح أن دارساً مسكيناً توفَّر على موضوع مستهلك، فأكثر فيه الثرثرة، وقَمَشَ له عِلماً من هنا، وسلخ له علماً من هناك، ثم انتهى به إلى نتائج هزيلة شائهة، يَفْضُل رجلاً مثل عبد السلام هارون، الذي قضى من عمره خمسين عاماً أخرج فيها كنوزاً، وأضاء صفحاتٍ مشرقةً من تراثنا العظيم!
اللهم إنا نستدفع بك البلايا، ونسألك أن تهوّن علينا المصائب والنوائب" (1) انتهى بنصه.
وهذا كلامٌ واضح مبين يدرك من لديه أدنى درجة من تذوق الأسلوب والبلاغة أيَّ مرارة يعانيها الطناحي، وأيَّ ألمٍ يمزقه، وأي غضب يفور بداخله على هؤلاء الذين ينكرون قيمة الفهارس، ويجهلون قيمة التحقيق، وكان قد قال قبلاً: "إن التحقيق عمل من الأعمال العلمية، جيده جيد، ورديئه رديء".
علماء أعلام صناعتهم الفهارس:
لو كانت صناعة الفهارس عملاً ميكانيكاً آلياً -كما يقول ذلك الذين لا يعرفون- لما شغل بها علماء أعلام أنفسهم، ولتركوها لأتباعهم، ولما نسبوها إلى أنفسهم، ولما تمدّحوا بها.
فمن هؤلاء الأعلام الذين ارتادوا هذا الطريق، ووطؤوه العلامة أحمد زكي باشا، شيخ العروبة (1284 - 1353هـ - 1867 - 1934م) وهو أول من عُني بهذا الفن حين حقق (كتاب الأصنام) لابن الكلبي، نشرته دار الكتب المصرية 1924م، وهو كتاب لم
__________
(1) ر. مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي 281، 282.

(20/34)


يصل إلى مائة وخمسين صفحة، ومع ذلك صنع له فهارس علمية مبتكرة، وأتبعه بكتاب (أنساب الخيل) في سنة 1931م، وهو في حجم الكتاب الأول، وصنع له فهارس علمية أيضاً.
ومن هؤلاء الأعلام العلامة أحمد باشا تيمور (1288 - 1348هـ - 1871 - 1930م) الذي صنع فهارس شافية كافية (لِِخزانة الأدب) للبغدادي، وقد سمى هذه الفهارس اسماً طريفاً ظريفاً هو: (مفتاح الخزانة) وتشمل هذه الفهارس اثني عشر فناً من فنون العلوم المبثوثة في الخِزانة.
وقد أضاف العلامة عبد العزيز الميمني إلى (مفتاح الخزانة) فهرساً آخر للكتب التي أوردها البغدادي في الخزانة، وسمى هذا الفهرس (إقليد الخزانة).
وتفنن العلماء في صنع الفهارس العلمية القائمة على فقه ما في الكتاب المحقق واستكناه أسراره.
فمن ذلك فهارس طبقات فحول الشعراء لابن سلام، وفهارس مسائل اللغة والنحو في تفسير أبي جعفر الطبري. من صنع شيخنا أبي فهر شيخ العربية محمود محمد شاكر برد الله مضجعه.
وفهارس كتاب (الحيوان)، وكتاب (البيان) وهما للجاحظ من صنع شيخنا عبد السلام هارون ويقول أخونا العلامة الطناحي عن فهارس كتاب (الحيوان): "وهي إلى الطراقة والابتكار ما هي".
وفهارس سمط اللآلي للعلامة عبد العزيز الميمني.
وفهارس شواهد سيبويه لعلامة الشام الشيخ محمد راتب النفاخ.
وفهارس كتاب سيبويه لفضيلة الشيخ العلامة محمد عبد الخالق عضيمة، "وهو فهرس جامع، دخل به الشيخ كل دروب سيبويه" على حد تعبير العلامة الطناحي.
وفهارس طبقات الشافعية الكبرى للسبكي التي صنعها العالمان الجليلان محمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلو، وهي فهارس جامعة نافعهَ، أجزل الله مثوبتهما على ما قدما وأجادا وأفادا.

(20/35)


ماذا بعد:
كان المأمول بعد هذه الجهود الرائدة، وما تلاها من أعمالٍ علمية جادة، أن تنضج صناعة الفهارس، وتتضح مناهج التحقيق، وألا يخرج كتاب بغير فهارس، ولكن للأسف عم الفساد وطم، وكما قال شيخنا أبو غدة: "كُسر سياج العلم، فغدا كل متفرج على كتب الحديث محدثاً، وكل مشتم لشمَّةٍ من العلم عالماً محققاً، واندلقت الكتب الغُثاء من المطابع، واختلط الجيد بالرديء، والضار بالنافع. فإنا لله" اهـ (1).
وأخيراً نقول: مع كثرة هذا الغثاء الذي شكا منه الشيخ العلامة أبو غدة، ومع قولهم: إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، مع كل هذا ستظل الأعمال الجادة -وهي ليست بالقليلة- علامات على الطريق.
ولقد حاولت منذ سنوات أن أصنع شيئاً لوقف هذا البلاء، وكاتبت علماء كباراً، أصحابَ رأي وقرار، واقترحت عليهم الإعداد لمؤتمر علمي ينظر في قضية التراث، تراث الأمة، ويضع الضوابط للعمل في إحيائه، ويبحث في وسائلَ قانونية وإجرائية للضرب على أيدي العابثين بالتراث؛ فإن دار نشرٍ واحدة عبثت بمئات الكتب الأمهات، وأخرجتها تحت أسماء غِلْمة لا يعرفون كيف يقرؤون صفحة واحدة فيها. مكنت هؤلاء الغِلمة من العبث بالحواشي والتعليقات والفهارس التي أضنى محققون كبار، وعلماء أعلام أنفسهم في وضعها.
أقول: حاولت ذلك منذ سنوات، ولم يتم ما أردنا؛ فإلى أن يتم ذلك ندعو الناشرين الجادين أن يعلموا أن صناعة النشر علمٌ، وأن العلم عندنا دين وعبادة، فلينظروا ماذا ينشرون وكيف ينشرون.
تنبيه:
وهناك أمر لا بدّ من التنبيه إليه، وهو أن بعض أهل العلم قرأ كلمةً للشيخ أبي غدة على غير وجهها، وحملها على غير محملها، وذلك حين قال الشيخ "وقد ترددت كثيراً
__________
(1) من تعليقه على رسالة (تصحيح الكتب وصنع الفهارس ص 41).

(20/36)


في صنع فهارس هذا الكتاب (1)، نظراً لما يذهب من الوقت في تأليف فهارسه وضبطها وإتقانها ... ، فقد أخذ مني صُنع هذه الفهارس وضبطها ... ومقابلتها بالكتاب أكثر من ثلاثة أشهر -مع بعض أعمال صغرى خفيفة- فتمنيت لو كنت صرفت ذلك الزمن في خدمة كتابٍ آخر، ولكن ما كل الأماني تُرتضى! ".
فظن أن الشيخ قد ندم على إنفاق هذه المدة في صنع هذه الفهارس، وأن الأولى، أو الأصوب، كان إنفاق هذا الوقت في خدمة كتاب آخر، ولكن هذه قراءة غير صحيحة لعبارة الشيخ؛ فالشيخ يقول: "وما كل الأماني تُرتضى" أي هناك ما يتمناه المرء، وتنازعه إليه نفسه، ولكنه ليس مقبولاً، ولا مرضياً.
وربما ساعد على هذا الفهم الخاطىء تعليقُ الشيخ أبي غدة على عبارة العلامة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد؛ إذ قال: "وصدق الشيخ" أي صدقه في جوابه للأستاذ فؤاد سيد عندما سأله: لماذا لا تهتم بفهرسة ما تنشر يا مولانا؟ فأجاب: أمن أجل خمسةَ عشرَ مستشرقاً أُضيِّع وقتاً هو أولى بأن يُصرف إلى تحقيق كتاب جديد؟ "
فعلّق الشيخ أبو غدة قائلاً: "وقد صدق الشيخ؛ فإنها -أي الفهارس- تذهب
بالوقت الثمين، ولا يشعر به القارىء" انتهى
ولكن الشيخ أبا غدة -في الواقع- يُصدّق الشيخَ (محمد محيي الدين عبد الحميد) في "أن الفهارس تأكل الوقت الثمين، ولا يشعر به القارىء" ولكنه لم يوافقه على منهجه في ترك الفهرسة.
وقد قطع الشيخ أبو غدة هذا الوهمَ في فهم كلمته، بما كان من عمله حتى وفاته، فلم يخرج له كتاب من غير فهارس علمية شافية كافية، ليس الكتب التراثية فقط بل حتى كتبه المؤلفة مثل كتاب (تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي).
بل إن العلامة الطناحي الذي نقل عبارة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد عن الفهارس هو الذي قال عنه في كتابه نفسه:
"على أن الشيخ محيي الدين لم يهمل الفهارس بمرة، فقد صنع فهرساً جامعاً لألفاظ
__________
(1) يقصد كتاب (الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء)، لابن عبد البر.

(20/37)


كتاب (جواهر الألفاظ) لقدامة بن جعفر، وفَهْرسَ شواهد كل كتب النحو والبلاغة التي أخرجها، وشواهد (شرح الحماسة) للتبريزي منسوقة على حروف الهجاء.
كما أنه صنع فهارس جيدة لكتاب وفيات الأعيان، شملت: فهرس التراجم بإحالاتها، وفهرس الطبقات الزمنية: علماء كل قرن على حدة، وفهرس الطبقات العلمية: الخلفاء والوزراء، القضاة، وسائر علماء كل فنٍّ وعلم، وفهرس الألفاظ التي نص ابن خلكان على ضبطها، أو شرح معناها، وسماه (فهرس التقييدات). وهذا من أنفع الفهارس؛ لأن لابن خلكان كَلَفاً وعناية بضبط الأعلام والأنساب والبلدان، يذكره في آخر الترجمة" (1).
...
__________
(1) مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي الإسلامي: 73، 74.

(20/38)


-3 -
عملنا في فهارس النهاية
الفهارس -كما أثبتنا- عملٌ علمي، فمثلها مثل كل عمل جيدُه جيد، ورديئه رديء، فليست صناعة الفهرس مجرد جمعٍ آلي، ورص كلمات، ولكنه عمل وراءه فكرٌ، وخُطة، وله هدف محدّد وغاية، و"الإتقان فيه صعب وعَسِر" على حد ما قاله الشيخ أبو غدة فيما نقلناه عنه آنفاً.
وأعتقد أن الذي يعصم من الخلل في هذا الميدان أن يسأل صانع الفهرس نفسَه: لماذا هذا الفهرس؟ فإذا عرف الغاية التي يتغياها، استطاع أن يسلك الطريق التي توصله إلى تلك الغاية.
ولذلك تعجب إذا وجدت محققاً فاضلاً صنع فهرساً للأعلام في مائة وخمسين صفحة كاملة، رتبه على حروف المعجم، وقال عن منهجه في هذا الفهرس: إنه ضم إلى الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب "بعضَ التراجم طالما تذكر في كتب فقه الشافعية، ولو من المتأخرين من غير إشارة إلى ذلك".
وقال أيضاً: "وضعت ترجمة للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أول التراجم طلباً لليمن والبركة، واتباعاً لسلفنا الصالح".
وقال أيضاً: "فاتني بعض التراجم التي لم أقف على ذكرها" ولم يحددها لنا، ولم يذكر لنا كيف بحث عنها، وأين، لنتابع البحث إذا استطعنا.
إذاً هو قد جمع بين الأعلام الذين في كتابه، وزاد عليهم غيرَهم من المتقدمين على المؤلف والمتأخرين عنه.
ثم انظر كيف صنع هذا الفهرس!! لقد شغل الصفحات المائة والخمسين بترجمة هؤلاء الأعلام مرتبين على حروف المعجم. وانتهى الأمر.

(20/39)


لم ندرِ ما علاقة ذلك بالكتاب المحقق؟ فلم يذكر لنا في أي صفحة جاء هذا العلم؟ ولماذا جاء؟ وماذا أخذ عنه المؤلف؟ ومدى اعتماده لقوله أو مخالفته له؟ وفي أي الأبواب كثر اعتماده له وأخذه عنه.
كل ذلك مما يدلك عليه فهرس الأعلام.
لكن فهرسنا المطول هذا لا يدلنا على شيء من ذلك، فقط يعرّفنا بتراجم هؤلاء الأعلام، أعلام المذهب الذين ذكروا في الكتاب وغيرهم.
والترجمة للأعلام عمل علمي -لا شك- لكن أهذا موضعه؟ ولمن نقدمه؟ إن الباحث في كتابك أيها المحقق الفاضل، إما أن تسعفه بترجمة موجزة في حاشية الكتاب، لمن يحتاج إلى التعريف به من الأعلام، وإما أن تتركه وكتب الطبقات والتراجم، ومثل هذا الباحث لا يعجز عن الوصول إليها، وليس في حاجة إلى من يدله عليها.
إن هذا في حقيقته ليس فهرساً للأعلام، ولكنه غير ذلك، أو أكبر من ذلك، إنه كتاب لطيف بعنوان (من أعلام المذهب الشافعي، وبعضٌ من غيرهم).
وفهرس الكتب أيضاً:
والذي حدث في فهرس الأعلام حدث مثله في فهرس (الكتب) حيث صنع المحقق الفاضل فهرساً سماه (فهرس موارد المؤلف) وذكر تحته أسماء الكتب الواردة في نص المؤلف، وعرف بها تعريفاً جيداً. وانتهى الأمر.
لقد ضن علينا المحقق الكريم بذكر المواضع التي ورد فيها كل كتابٍ من هذه الكتب؛ لنعرف ماذا أخذ منه المؤلف، ولنراجع النصوص والنقول التي نقلها المؤلف عن هذه الكتب، ونصحح بعضها من بعض، ونقضي على ما في مثل هذه النقول من تصحيف وتحريف، ولو كانت المواضع التي ذُكر فيها (نهاية المطلب) محددة محصورة، لأعانتني كثيراً في تقويم نص النهاية، أو تقويم نقل المؤلف.

(20/40)


* وفي كتابٍ آخر (1) أجاد فيه المحقق أيّما إجادة، وصنع له فهارس مبتكرة، تشهد بفقهه للكتاب، وإدراكه روحه وسره، وبلغت الفهارس التي صنعها ستة وعشرين فهرساً، ومع كل تلك الإجادة، وذلك النجاح، إذا به يفاجئنا في أول فهرس الأعلام بقوله: "وقد أسقطنا منه أسماء المترجمين" سبحان الله!! لماذا تسقط أسماء المترجمين من فهرس الأعلام؟ إن فهرس الأعلام يدلنا على مدى دوران العَلَم في الكتاب، والمترجمون في كتاب الطبقات هم أعلام الأعلام، فلماذا نضن عليهم أن يذكروا في فهرس الأعلام؟ أليسوا هم الأولى بأن تعرف مواضع دورانهم في الكتاب، أساتذة وشيوخاً، أو تلامذة وناشئين، أو أصحاب كتب مؤثرين، أو متأثرين؟!!
وهناك من يصنع فهرس الأعلام على النمط السليم الصحيح، ولكنه يكتفي بذكر رقم الصفحة التي ترجم للعلم فيها فقط دون غيرها من كل الصفحات التي ورد فيها العلم، يفعل ذلك عن عمد قائلاً: "اكتفيت بذكر الصفحة التي ترجمت فيها للعلم لأدلك على موضع الترجمة" يا سبحان الله!! وكأن الباحث يعجزه أن يمد يده لأي كتاب من كتب الطبقات أو التراجم ليقرأ فيه ترجمة العلم الذي يحتاج إلى ترجمته.
هذه بعض ملاحظات، لم نرد بها -علم الله- ذكر المعايب، فلا يتتبع المعايب إلا معيب، ولكنا أردنا أن نبرهن على صدق المعيار الذي وضعناه للإجادة في عمل الفهارس، وهو: أن يسأل صانع الفهرس نفسه: لماذا هذا الفهرس.
عن فهارس النهاية:
طالت صحبتنا لهذا الكتاب، وطال انقطاعنا ل [، على نحو ما وصفناه في موضع
آخر من خطبة الكتاب، فأحطنا به -فيما نقدِّر- وعرفنا مسالكه ودروبه، وأدركنا
أسراره، ومراميه، وتفتحت لنا -بحمد الله- مغاليقه، ولانت لنا مُعْوِصاتُه، ولذا
وضحت أمام أعيننا أنواعُ فهارسه، فكان منها ما استطعنا إنجازه، ومنها ما ضاق عنه
الوقت، وقصر عنه الجهد، فلم نستطع القيام به، ولكننا أحببنا أن نعرف بها، عسى أن
يَنْهد لها باحث، أو يتخذ أحد الدراسين واحداً منها أطروحةً لدرجة علمية]
__________
(1) هو كتاب طبقات الشافعية للإسنوي، تحقيق الدكتور عبد الله الجبوري.

(20/41)


فمن هذه الفهارس:
1 - فهرس القواعد الأصولية.
2 - فهرس القواعد والضوابط الفقهية.
3 - فهرس المسائل التي أعلن إمامُ الحرمين خلافه للأصحاب فيها.
4 - فهرس المسائل التي تمنى الإمام أن لو كان المذهب فيها مثل المذاهب المخالفة.
5 - فهرس المسائل التي نقل فيها الإمام عن المذاهب المخالفة أقوالاً غير الموجود في مصادرهم المتاحة الآن.
6 - فهرس المسائل التي خالف فيها إمام الحرمين والده.
فهذه جملة من الفهارس أعجلنا الوقت، وقعد بنا الجهد -مع معوقات أخرى- عن الوفاء بها، وبعض هذه الفهارس قد تعد مسائله على أصابع اليد الواحدة، ولكن ليس بالكثرة تقاس قيمة الفهارس.
أذكر أنني صنعت فيما صنعت (للبرهان) ثلاثة فهارس، هي: فهرس للمسائل التي خالف فيها الإمامَ الشافعي، والثاني للمسائل التي خالف فيها الإمام أبا الحسن الأشعري، والثالث للمسائل التي خالف فيها أبا بكر الباقلاني، وجميع الفهارس الثلاثة قد لا يزيد عدد صفحاتها عن عدد أصابع اليد الواحدة.
ولكن هذه الفهارس الثلاثة بالذات وقعت عند العلماء موقعاً حسناً، وأثنَوْا على هذا العمل، وقدّروه بما لم أكن أتوقع بعضَه؛ وذلك أن الباحث وهو يقلب في البرهان عن قضية أصولية يكن مشغولاً بها غير ملتفتٍ إلى غيرها، فحتى لو وقع على مسألة مما خالف فيه إمام الحرمين الشافعي أو الأشعري أو الباقلاني لن يقف عندها، ولن يلتفت إليها، فهو ليس لها الآن.
أما أن يضعها المحقق في فهرس خاص أمام عينه، ويضع أصبعه عليها، فهذا يجعلها بمرأى منه دائماً، ويدفعه إلى بحثها والإحاطة بها، إن كانت تقع في اهتماماته.
* ومثل هذه الفهارس الثلاثة فهرس الوقائع والأيام الذي صنعته ضمن فهارس الغياثي، فلم أكن أريد أن أصنعه، وما كان لازماً للكتاب، فالكتاب ليس به من الوقائع

(20/42)


والأيام ما يحتاج إلى ضبط وفهرسة، ولكني صنعته من أجل وقعةٍ واحدة، هي موقعة (ملاذ كرد) تلك الموقعة التي لا تقل خطراً في تاريخ الإسلام عن موقعة اليرموك، وفتح القسطنطينية، ولكنها مغيَّبة تماماً عن مناهجنا الدراسية، فقلما تجد من يعرف عنها خبراً حتى من مدرسي التاريخ في مدارسنا المتوسطة والثانوية وأخشى أن أقول في جامعاتنا، من أجل هذه الموقعة، وإبرازها، والتعريف بها، صنعتُ هذا الفهرس الذي لا يتجاوز بضعة أسطر.
...
نعود إلى صنعنا لفهارس النهاية، وما كان من جهدٍ وصلنا فيه الليل بالنهار، فهذا العمل كما قال الشيخ أبو غدة رحمه الله، "فيه بذل جهد كبير، وتحمل مشقاتٍ كثيرة، يأكل الذهن والزمن في معاناة ضبط الأسماء، وتمييزها، وتصنيفها، وعدم تعددها، أو تداخلها سهواً أَو خطأ" (1).
وحقاً لقد أضنانا العمل في ضبط الأسماء وتمييزها، وعانينا من ذلك كثيراً، ذلك أن الإمام يذكر العلم مرة باسمه، ومرة بكنيته، ومرة بلقبه، والألقاب تتشابه، والكنى تتشابه، بل حتى الأسماء قد تتشابه.
ولقد حاولنا أن نصل -بالمتابعة والمقارنة- إلى اصطلاح الإمام في إيراده الأعلام، وحدّدنا ذلك وضبطناه بصورة قاطعة.
ولكن الإمام لا يفتأ يخالف هذا المصطلح الذي دققناه، ووصلنا إليه بعد لأْي وعناء، ومثال ذلك أنه إذا قال (الشيخ) مطلقاً، فمراده الشيخ أبو علي السنجي، ولكنه يخالف ذلك أحياناً، مثلما تجده في الجزء الخامس ص 310 حيث أطلق لفظ الشيخ مريداً به والده، وما عرفنا ذلك إلا من السياق.
وأحياناً كان يطلق (الشيخ) ويريد به القفال.
ومن هنا كان علينا أن نراجع مواضع الأعلام موضعاً موضعاً، وننظر في السياق على ما "يأكل ذلك من الجهد والزمن".
__________
(1) الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء - تحقيق الشيخ أبي غدة: 352.

(20/43)


ولقد عبرت عن هذا العناء الدكتورة بنت الشاطىء، حين صنعت فهرساً للأعلام لمقدمة ابن الصلاح، حيث قالت: "أعترف أنني لم أقدّر حدود جهدي وطاقتي حين استجبت لرغبة زميل كريم ... في فهرسة أعلام النص المحقق لمقدمة ابن الصلاح ... " (1).
فبهذا الأسلوب الأدبي تصور عناءها في صنع فهرس الأعلام، وأنه كان فوق حدود جهدها وطاقتها.
ومثل ذلك عانيناه في فهرس الكتب.
وإذا كان شيخنا العلامة أبو غدة قد سلخ نحو ثلاثة أشهر في فهرسة (الانتقاء) وهو في مجلد لطيف لا يزيد عن نصف مجلد من النهاية إلا قليلاً، فماذا نقول نحن أمام هذا الكتاب الكريم الذي يقع في عشرين مجلداً.
...
* ثم إننا قد ابتكرنا فهرساً جديداً -لم نره من قبل في أي كتابٍ- وهو فهرس الكلمات التي تحتمل أكثر من قراءة في المخطوط، فقد صورنا قدراً صالحاً من هذه الكلمات، وألحقناها بالمجلد الذي وردت فيه -وليس في مجلد الفهارس- لتكون تحت نظر القارىء، ولتُقرأ في سياقها.
وغرضنا من ذلك أمران:
أ- أن نشُرك الكرام القارئين معنا في تقويم النص، آملين أن يُلهم أحدُهم قراءة صحيحة لهذه الكلمات.
ب- أن نؤكد معنىً خطيراً، وهو حرمةُ النصوص التراثية، وعدم الجرأة على اقتحامها، وقراءتها، كيفما اتفق.
وننبه أن هذا الفهرس ليس في كل المجلدات، وإنما هو في المجلدات التي حققت عن نسخة وحيدة، أو اتفقت النسخ الموجودة على هذا الرسم غير المقروء تماماً بالنسبة لنا.
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح: 995.

(20/44)


وقد يبدو للبعض أن الكلمات المصورة في هذا الفهرس قليلة، ولا تستحق هذا العناء وهذا التنويه!! ولكننا نكرر أن إصلاح كلمة واحدة، وقراءتها قراءة صحيحة يستحق كل هذا الجهد وزيادة، وفي تراث أئمتنا أن منهم من كان يشد الرحال، ويقطع المسافات من أجل تصويب لفظة، أداء لأمانة الرواية، والنقل عن الأئمة.
* ومن الفهارس التي نظنها مبتكرة أيضاً:
فهرس المسائل الملقبات
فهذه المسائل مبثوثة في ثنايا أبواب الفقه، يصعب الوصول إليها عند إرادة الرجوع لها، مع أنها -في جملتها- تعتبر أصولاً، وقواعد يقايس عليها الفقهاء، ويضبطون بها الأحكام.
وقد اشتهرت المسائل الملقبات في علم الفرائض، أما الجديد في هذا الفهرس، فهو ذلك القدر الصالح من المسائل الملقبات في غير الفرائض، وحصرها، والدلالة إلى موضعها في أبواب الفقه وقضاياه.
* أما فهرس:
(المسائل الفقهية التي جاءت في أبوابٍ لا تكشف تراجمها عنها)
هذا الفهرس أقرب إلى محاولة التكشيف، لتيسير الدلالة على المسائل التي ترد في غير مظانها -وما أكثر ذلك في كتب الفقه بعامة، وكتب المتقدمين بصفة خاصة- ولا يحتاج إيضاح ذلك إلى كلام.
* لم نفهرس للطوائف والجماعات؛ لأنها إما متكررة بكثرة في كل صفحة تقريبا، فلا معنى لحصرها في الفهرس، وذلك مثل: (الأصحاب) و (الأئمة) و (المراوزة) و (العراقيون).
وإما لا يتعلق بها معنىً أو حكم يتصل بالفقه، والبعض الذي يتعلق به حكم فقهي مثل (أهل الذمة) و (المرتدين) يسهل الوصول إلى معرفة الحكم المراد لهم عن طريق فهرس المحتويات.

(20/45)


* وكذلك لم نفهرس الأماكن، فهي في جملتها لا يتعلق بها حكم فقهي، بل تذكر للتمثيل فقط، مثل: استأجر دابة من مَرْو إلى بَلْخ.
والقليل الذي يتعلق به حكم فقهي مثل حكم من يلوذ بالحرم هرباً من قصاصٍ أو حد يمكن الوصول إليه أيضاً عن طريق فهرس المحتويات.
* تكشيف نهاية المطلب:
كان وما زال أملنا أن يُصنع لهذا الكتاب كشافات تحليلية مرتبة ألفبائياً، تجمع ما تفرق من مسائله، وتوزَّع بين أبوابه وفصوله، فأنت تجد مسائل من الرهن تعالج في أبواب الصداق، وأبواب الوصية، ومسائل العتق والكتابة، والغصب وهكذا، ولا منجى من ذلك إلا بتكشيف كتب الفقه.
إن تكشيف هذا الكتاب -وغيره من أمهات كتب الفقه- سيفتح أمام الدراسات الفقهية والإسلامية بعامة فتحاً جديداً.
إن العقبات التي تحول بين علماء القانون، والاقتصاد، والاجتماع، والتربية، وعلماء البيئة وغيرهم -إن العقبات التي تحول بين هؤلاء والاستفادة من تراثنا الفقهي ترجع بالدرجة الأولى إلى عدم ترتيب المعلومات ترتيباً يسهل معه استرجاعها.
ومنذ ما يزيد على نصف قرن (في الخمسينات والستينات من القرن الماضي) تنبه علماء أجلاء إلى قضية تقريب التراث الفقهي للباحثين، عن طريق التكشيف والفهرسة، كان ذلك في (دمشق) الفيحاء عندما بدأت المحاولات لعمل موسوعة فقهية، وتكونت لجنة لذلك برئاسة المرحوم المجاهد الدكتور مصطفى السباعي، ثم في أيام الوحدة مع مصر برئاسة العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، ولم تستمر تلك الجهود للأسف، وكان مما أسفرت عنه تكشيف الفقه الظاهري، وصدر في مجلد باسم (معجم فقه ابن حزم الظاهري) وهو عمل علمي جليل، حبذا لو استمر النسج على منواله لكل كتب الفقه.
ثم انتقل الاهتمام بأمر الموسوعة إلى مصر (المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية)، ولكن الأمور سارت ببطء، فتصدّت للمهمة (دولة الكويت) فأحسنت وأجادت وسبقت، ويعنينا في هذا المقام ما قامت به لجنة الموسوعة من تكشيف لمجموعة من

(20/46)


الكتب التي تمثل المذاهب المختلفة، ففي الفقه الشافعي: شرح المنهاج بحاشيتي قليوبي وعميرة.
وفي الفقه الحنفي: حاشية ابن عابدين.
وفي الفقه المالكي: جواهر الإكليل شرح مختصر خليل.
وفي الفقه الحنبلي: المغني لابن قدامة.
وأضافت في الفقه الحنفي: فتح القدير للكمال بن الهمام.
وزادت في الفقه المالكي: حاشية الزرقاني.
كانت تأمل وزارة الأوقاف -وهي القائمة على الموسوعة وأعمال الفهرسة هذه- أن تفهرس نحو مائة كتاب بحيث يتكون من تلك الكشافات كشافٌ شامل لمصطلحات الفقه الإسلامي، ويصير هذا الكشاف متاحاً لمراكز البحث والدراسات في أنحاء العالم الإسلامي.
وقد تطور هذا المشروع، وبذلك فيه جهود لسنا للتعريف بها ووصفها هنا.
لا نحاول أمراً بدعاً:
كل ما أردناه من ذلك أن نقول: إن فهرسة كتب الفقه وتكشيفها أمرٌ متفق على ضرورته من عقلاء الأمة، وقادة الرأي فيها، وحملة الفقه والغيورين عليه، فلم يعد هناك مجال للمراء في ذلك
بل الذي نراه أن هناك تراخياً وتراجعاً في هذا المجال، فقد كان من المنتظر والطبيعي أن تثمر هذه الجهود الرائدة منذ نصف قرن توجهاً عاماً، وذوقاً عاماً، يقضي بعدم السماح بخروج كتاب وتداوله من غير أن تصنع له الفهارس والكشافات اللائقة به، وأن يرفض الناشرون ذلك، ويرونه شيئاً لا يليق بهم.
بل إنني أتمنى أن تزيد (كشافات نهاية المطلب) أمراً آخر، وهو أن تعالج من قبل مختصين في علوم: القانون، والاقتصاد، والاجتماع، والبيئة، وعلم النفس والتربية ... وغيرها، حتى تأتي كشافات كافية شافية تحقق الأمل الذي نرجوه في إتاحة الفقه الإسلامي وتيسير التعامل معه للعلماء في جميع فروع المعرفة.

(20/47)


إن الأمة تشهد الآن صحوة إسلامية واعدة، وعلماء الفقه أعجز من أن يقودوها وحدهم، بل ليس من الصواب أن يقودوها وحدهم، إن عالم القانوني المدني والجنائي والدستوري، وعالم الاقتصاد، وعالم البيئة وعالم التربية كل هؤلاء -وغيرهم- الآن يحاولون بَجدْع الأنف استمداد معارفهم من تراثنا الفقهي بدلاً من استمداده من مصادر الغرب، ونظرياته، ولكن يحول بينهم صعوبة، بل تعذر الوصول إلى ما يريدونه من كتبٍ هي في حدِّ ذاته صعبة المراس حتى على أصحابها الذين يعيشون في ظلها طوال أعمارهم.
ولا منجى من هذا الانفصام النكد بين الفقه الإسلامي وأصحاب العلوم الأخرى إلا بالفهرسة الواعية والتكشيف الكامل لأمهات كتب الفقه.
فإذا تم ذلك نكون قد جَسَرْنا الفجوة -التي صُنعت بنا أو لنا- بين علماء الأمة، فجعلت هؤلاء علماء (دين) لا يعرفون من علوم الدنيا شيئاً، وهؤلاء علماء يعرفون الدنيا ولا يعرفون من أمر الدين شيئاً.
إذا تم ما ندعو إليه يعود لنا الطبيب الفقيه كابن رشد، ونعود نرى ما نقرؤه في ترجمة أئمتنا حين يعددون العلوم التي أحاط بها المترجَم، ثم يقولون: وعلمه الذي عُرف به كذا، وتعود كل العلوم والمعارف إسلامية كما كانت.
ويتكرر ما رأيناه من براعة إمام الحرمين في الجبر والمقابلة، وما حكاه في النهاية عن الإمام أبي منصور البغدادي، والإمام عبد الرحيم أبي نصر القشيري.
وإلى الله الملجأ ومنه العون.
...
بقي أمر آخر لا بد من الإشارة إليه، وهو أننا بذلنا جهداً ووقتاً في تقسيم الكتاب كله إلى فقرات مرقمة على نية أن تبنى فهارسه على الأرقام، لا على الصفحات، لما لذلك من توفير للجهد عند إعادة الطبعات، ولما ييسّره للباحثين عند مراجعة بحثٍ ما مع اختلاف الطبعات، وهذا ما جرينا عليه في الكتب التي أخرجناها لإمام الحرمين: (البرهان) و (الغياثي) و (الدرة المضية).

(20/48)


كانت هذه نيتنا، وكان هذا أملنا، ولكن ردّنا عن ذلك هذا السطو العريان على الكتب المحققة، وكتُبنا من بينها، فقد سطا الساطون على (البرهان) و (الغياثي) وأفادوا من الفهرسة على الفقرات، فقدرنا أن ذلك يحرمهم شيئاً ما من الجهد المسروق، وليس لنا إلا أن نضرع إلى الله سبحانه أن يأخذهم بما يستحقون، وأن يجعلهم نكالاً ومثالاً، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.
***

(20/49)